فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

المجلد 1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و آله الطيبين الطاهرين، و بعد:

فان هذا الكتاب وضع لمن لا يعرف شيئا من فقه الامام الصادق عليه السّلام،و في الوقت نفسه يرغب في معرفته و الإلمام به،و لكنه لا يجد السبيل الى هذه المعرفة،لا لعدم المصادر،أو قلتها،و لا لأنّها تحوي من الدقائق و المصطلحات الأصولية و الفقهية ما يرتفع عن مستوي إدراكه-صحّ هذا بالقياس إلى كثير-بل للعبارة الغامضة،و الأسلوب المعقد،أو لعدم الترتيب و التبويب،و سوء الإخراج، أو للتطويل و الاطناب،و التبسّط في نقل الأقوال،و الاختلافات التي هي أبعد شيء عن تفكيره،و أسلوب ثقافته.إلى غير ذلك مما لم يألف و يعتد،و لا يجذب اليه القارئ«العصري»،و ان أحب و أراد (1)فحاولت جاهدا مستعينا باللّه وحده،أن أمهد و أيسر لهذا الراغب المريد طريق المعرفة و الإلمام،و اساعده على تتبّع فقه آل البيت الكرام عليهم السّلام فتوى و دليلا،بدون مشقة و عناء.و حرصت كل الحرص على أن يكون الأصل و مرجع الاستنباط النص عن الآل بالذات،لأنّه

ص:3


1- حتى الكثير ممن يحملون الكتب الفقهية،و يقتنونها و يتصدون لدراستها في النجف و غير النجف،و يزعمون أنّهم من أهلها،حتى الكثير من هؤلاء لا يعرفون منها إلاّ الاسم و الحجم، لأن فهمها وقف خاص على أرباب الملكات،و من يقرب منهم.

أقوم السبل إلى التعرف على أحكام اللّه سبحانه،و شريعة جدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشهادة حديث الثقلين،و الآية الكريمة 83 من سورة النساء وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ .

و إذا لم يسعفني النصّ الخاصّ من الكتاب،و آثار الآل لجأت إلى أصل أو قاعدة اعتمدها فقهاؤهم،حيث يردون كل أصل و قاعدة إلى القرآن الكريم، و الأئمة الأطهار.

و أعرضت عن ذكر الأسانيد المسلسلة المعنعنة،لأنّي قست ثبوت النصّ باعتماد الفقهاء عليه،و عملهم به،لا بالرواة و الرجال الثقات.ذلك أن اسم فقه الإمام الصادق،أو فقه آل البيت إنّما يصدق حقيقة على هذه المبادئ التي اهتموا بها،و نظروا إليها نظرة الجدّ فتوى و عملا،و تداولوها مئات السنين.و لا يصدق لا حقيقة،و لا مجازا على نصوص ميتة،و أن دونت في بطون الكتب،و رواها الصلحاء.أن النصوص ليست سوى حروف جامدة،لا حياة لها إلاّ بالتطبيق و العمل.أجل،لو افترض أن جيلا جديدا من الفقهاء عمل بالشاذ النادر الذي أهمله المشهور لصحت التسمية.

و أيضا لم أعرض-في الغالب-أقوال الفقهاء القدامى و الجدد،و أناقشها و أحاكمها على النهج المعروف بين المؤلفين الذين تعمقوا في الشريعة الإسلامية تعمقا ارتفع بها و بهم إلى أعلى القمم.لم أفعل ذلك على ما فيه من منافع و فوائد، خشية أن يقع القارئ في مأساة ذهنية،فيزهد في الكتاب،و في الفقه زهد العاجز،أو العابر.مع العلم بأن الهدف الأول لكتابي هذا هو أن يجذب إليه أكثر عدد ممكن من كل نوع،بخاصة الأجانب و الأباعد،و أن يساهم في انتشار هذا الفقه الثمين الأمين.

ص:4

و مهما شككت،فإني على يقين بأن فائدة الكتاب لا تقاس بما فيه من نظريات و جدال،و تكديس أقوال،بل بانتشاره و كثرة قرائه.ان الكتاب،أيّ كتاب،ان هو إلاّ قطعة من جماد،و حياته أن يتحرك،و ينتقل من يد إلى يد، و يدور ما فيه على الألسن،و ان تعيه القلوب و الآذان.و لا وسيلة اليوم لشيء من ذلك إلاّ التيسير و التوضيح.

دخلت مرّة كعادتي مكتبة العرفان ببيروت لصاحبها الحاج إبراهيم زين عاصي فرأيت فيها شابا طويلا أشقر،فقال له الحاج:هذا هو.فأقبل عليّ الشاب بشوق-و هو مستشرق ألماني-و قال لي فيما قال:ما كنا نعرف أن لدى الشيعة فقها،حتى قرأنا لك كتاب«الفقه على المذاهب الخمسة».قلت:ان ما كتبته ليس بشيء يذكر،بالقياس إلى فقه الشيعة.ان فقهاءنا قد استقصوا الشريعة الإسلامية بأصولها و فروعها،و أحاطوا بها و بكنوزها و إسرارها إحاطة دقيقة من شتى جهاتها،و تعمقوا بها تعمقا ارتفع بها فوق جميع الشرائع القديمة و الحديثة،و ان لهم من المؤلفات فيها ما لا يبلغه الإحصاء،و هي في متناول كل يد.

فقال:نحن نتعلم اللغة العربية،كلغة أجنبية عنا،فالأسلوب الحديث على سهولته لا نتفهمه إلاّ بصعوبة،فكيف بالقديم؟.و قد قرأنا ما كتبت ففهمناه،و منه عرفنا أن للشيعة فقها،كما لغيرهم من المذاهب (1).

فصممت منذ اللحظة التي سمعت فيها من هذا المستشرق ما سمعت ان أكتب دورة كاملة في فقه الإمام الصادق عليه السّلام،العبادات منه و المعاملات،و الأحوال

ص:5


1- و قد أوحى إلي قوله هذا ما ذكرته في باب«الخمس»من هذا الكتاب،و هو أن أفضل مورد يصرف فيه سهم الامام أن يعين به أستاذه قد يرون،لإلقاء الدروس و المحاضرات في فقه أهل البيت عليهم السّلام بالجامعات الزمنية الغربية و الشرقية.

الشخصية،و الجنايات على النهج الذي أشرت،و ان يخرج من المطبعة تباعا في أجزاء ربما بلغت الأربعة أو الخمسة.و قد وفق اللّه سبحانه للأول،و هذا هو.

و يليه الثاني ان شاء اللّه.

و قد بذلت جهدا غير قليل في مراجعة المصادر،و بحثها،و عرض ما فيها بأسلوب جلي يجعله قريب المنال قدر المستطاع.

و ربما يظن أن التأليف في الفقه سهل يسير،لأن مادته قائمة،و مصادره كثيرة،و متنوعة.

أجل،و قوى الطبيعة قائمة،و هي كثيرة أيضا.و لكن من الذي يكتشفها، و ينير السبيل إليها؟و إذا وجد العالم المتخصص بمعرفتها،فهل يستطيع أن يستخرجها،و يكفيها حسب الحاجات بدون آلة و أداة؟.و فقه آل البيت عليهم السّلام تماما كالطبيعة يزخر بالحياة و الهبات،و لكن من الذي يفهمه على وجهه،و يركّز المعاني على خطوطه العريضة الواضحة بطلاقة تجذب إليها القارئ،و تشبع شغفه و لهفته! و اللّه سبحانه المسؤول أن يجعل عملي هذا إسهاما في هذا السبيل،و هو المستعان،و له الحمد في الأولى و الآخرة،و الصلاة على محمّد و آله الأطهار.

ص:6

كتاب الطهارة

المياه

الماء المطلق:
اشارة

قال اللّه تعالى وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (1).

و عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:«كل ماء طاهر إلاّ ما علمت أنّه قذر».و عنه أيضا:«ان أمير المؤمنين عليه السّلام كان يقول عند النظر إلى الماء:الحمد للّه الذي جعل الماء طهورا،و لم يجعله نجسا».

كل ماء جادت به الطبيعة نازلا من السماء،أو نابعا من الأرض،أو ذائبا من الثلج،عذبا كان أو مالحا،على أصل خلقته يسميه الفقهاء ماء مطلقا،أي يصدق عليه لفظ«ماء»فقط دون أن تضيف إليه آية لفظة أخرى تبين المراد منه،بل مجرد اسم الماء كاف في الإخبار عن حقيقته.

و من الماء المطلق المياه المعدنية،كعيون الكبريت،و ما إليه.و منه أيضا ماء النهر المتغير أيام الفيضان بما يجرفه من تراب و عشب،و ماء البرك و الغدران

ص:7


1- الفرقان:48. [1]

المتغير بطول المكث،أو بما تولد فيه من سمك،أو طحلب،و هو خضرة تعلو وجه الماء،أو تغير الماء بما تحمله الريح من ورق الأشجار و غيره مما يتعذر أو يتعسر التحرز منه.

طاهر مطهر:

قال تعالى وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ (1).

و عن الإمام الصادق عليه السّلام:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الماء يطهّر،و لا يطهّر».الماء المطلق يزيل النجاسة المادية كالدم و البول،و يرفع النجاسة المعنوية،أي يجوز الوضوء به،و الغسل من الجنابة و الحيض،و يغسل به الميت،و هذا معنى قول الفقهاء الماء المطلق طاهر بنفسه،مطهر لغيره من الخبث،و الحدث،و الخبث هو النجاسة المادية،و الحدث النجاسة المعنوية (2).

و مما يفرق به بين الخبث و الحدث أن الماء القليل يتأثر،و تزول عنه الطهارة بمماسة الخبث كالدم و البول و الميتة،و يبقى عليه الطهارة بمماسة الإنسان المحدث بالحدث الأصغر،كالذي خرج منه الريح أو البول،أو كان محدثا بالحدث الأكبر،كالجنب و الحائض.

و أيضا التطهير من الخبث كغسل الثوب لا يحتاج إلى قصد التقرب إلى اللّه، أمّا التطهير من الحدث،كغسل الجنابة و الوضوء،فلا بد فيه من هذا القصد.

ص:8


1- الأنفال:9. [1]
2- و قيل:ان الطهارة من الخبث متوجهة إلى الأبدان دون القلوب،و لذا لم تحتج إلى نية القربة التي هي من صفات القلوب،أمّا الطهارة من الحدث فمتوجهة إلى الأبدان و القلوب،و من هنا افتقرت إلى نية القربة.
الماء المضاف:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الوضوء باللبن؟فقال:«لا إنّما هو الماء و الصعيد».

ما عدا الماء المطلق من المائعات،كالخل و العصير و الشاي و الشراب، و ماء الورد يسمى ماء مضافا عند الفقهاء.فالمضاف إمّا ماء أضيف إليه ما أخرجه عن أصل الخلقة،و امّا ما اعتصر من جسم كالبرتقال و الجزر.

طاهر غير مطهر:

لك أن تشرب الماء المضاف،و تستعمله بما شئت.و ليس لك أن تتوضأ به،أو تغتسل من الجنابة،أو تطهر به متنجسا،كالإناء و الثوب و البدن إذا أصابته النجاسة.و هذا معنى قول الفقهاء:«الماء المضاف طاهر بنفسه،غير مطهر لغيره خبثا و حدثا».

قال صاحب المدارك:و الدليل على ذلك قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا حيث أوجب التيمم عند فقد الماء المطلق،لأن الماء حقيقة فيه،و اللفظ انما يحمل على حقيقته،و لو كان الوضوء جائزا بغير الماء المطلق لم يجب التيمم عند فقده.

و هناك دليل آخر،و هو أن ما ثبتت نجاسته بالنص الشرعي،فلا نحكم بطهارته بزوال النجاسة عنه إلاّ بالنص.و قد ثبت شرعا أن الماء المطلق مطهر لغيره،و لم يثبت ذلك بالنسبة إلى الماء المضاف،فيجب-اذن-استمرار ما كان على ما كان،حتى بعد الغسل بالماء المضاف.

ص:9

بين المطلق و المضاف:
اشارة

إذا رأيت ماء،و لم تدر:هل هو مطلق يزيل الخبث،و يرفع الحدث،أو هو مضاف لا يزيل خبثا،و لا يرفع حدثا؟فما ذا تصنع؟و هل من سبيل يعين أحدهما بالذات؟

الجواب:

لا بد في مثل هذا الحال أن ترجع إلى نفسك،و تنظر:

فإن كنت على علم سابق بأن هذا الماء كان مطلقا على خلقته الأصلية ثم طرأ عليه التغير اليسير بشيء من الصابون،أو الحبر،أو العجين،أو غير ذلك مما يغير الماء تغييرا خفيفا،و بعد هذا التغير شككت:هل خرج الماء عن إطلاقه، و أصبح مضافا،أو بقي على ما كان من الإطلاق.إذا كان الأمر كذلك استمر حكم الإطلاق،و أبقيت ما كان على ما كان.ذلك أن الإنسان بفطرته إذا تأكد من وجود شيء أو عدمه فإنّه يبقى مستمرا في عمله على ما تأكد أولا،بانيا على علمه السابق،لا يعتني أبدا بالاحتمالات و الشكوك المضادة ليقينه و تأكيده،حتى يثبت خلافه بالعلم و اليقين.لأن اليقين لا يزيله إلاّ اليقين.و محال أن يزيله الشك،لأنّه واه و ضعيف.و لذا إذا سئل الإنسان:لما ذا تأخذ بيقينك السابق،مع أنّك تشك الآن؟أجاب بأنّه لم يثبت العكس.

و قد راعى الفقهاء هذا الأصل،و اعتبروه من أصول الشريعة،و فرعوا عليه أحكاما شتى في جميع أبواب الفقه،و أسموه:الاستصحاب.لأن الإنسان يبقى مصاحبا مع يقينه الأول،حتى يثبت اليقين المعاكس.قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا ينقض اليقين بالشك،و لكن ينقض باليقين».

و مثله تماما إذا تأكد بأنّ الماء كان مضافا،ثم طرأ عليه ما يوجب الشك بأنّه

ص:10

صار مطلقا،فيجب أن يبقى على ما كان عليه من اليقين السابق بأنّه باق على إضافته،عملا بالاستصحاب.و بكلمة أن الاستصحاب هو استفعال من الصحبة، و في الشرع استدامة إثبات ما كان ثابتا،أو نفي ما كان منفيا.

و إذا رأيت مائعا،و شككت في أنّه:هل هو ماء مطلق و طبيعي،أو مضاف تقاطر من جسم طري،بحيث كان الشك ابتداء،و دون علم سابق،لا بالإطلاق و لا بالإضافة.إذا كان الأمر كذلك لا تحكم بإطلاقه،و لا بإضافته،حيث لا دليل في النصوص الشرعية على أن الأصل في المياه الإطلاق،أو الإضافة.

الماء النابع و غير النابع:

عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:«لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري، و كره أن يبول في الماء الراكد».

الماء الجاري في اللغة ما يجري في الأرض،نابعا كان أو غير نابع،و الراكد هو الواقف المحصور في بئر أو بركة،أو غدير.

و قال صاحب المدارك:«المراد بالجاري النابع،لأن الجاري،لا عن مادة من أقسام الراكد اتفاقا».و معنى هذا أن للفقهاء اصطلاحا خاصا في معنى الماء الجاري و الراكد يخالف اللغة.فالجاري عندهم هو النابع،و ان لم يجر بالفعل، لأن فيه استعدادا لدوام الجريان.و الراكد هو غير النابع،و ان جرى بالفعل،إذ لا استعداد فيه لدوام الجريان.

الماء و ملاقاة النجاسة:

تواتر عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا الحديث:«خلق اللّه الماء طهورا لا

ص:11

ينجسه شيء إلاّ ما غيّر طعمه،أو لونه،أو رائحته».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام:«ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب و لا تتوضأ منه،و ان لم يتغير ريحه و طعمه فاشرب و توضأ».

و عن الإمام الرضا عليه السّلام:«ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ ان يتغير ريحه أو طعمه،فينزح،حتى يذهب الريح و يطيب الطعم،لأن له مادة».

إذا وقع في الماء نجاسة فلذلك حالات:

1-إن تقع النجاسة في ماء نابع و لا يتغير بسببها لونه،و لا طعمه،و لا ريحه،فيبقى الماء على طهارته،و ان كان قليلا،حيث دلّ قول الإمام:«لأنّ له مادة»على أن وجود النبع مانع من التنجيس بالملاقاة من غير فرق بين القليل و الكثير،ما دام لم يتغير بالنجاسة.

2-أن تقع النجاسة في الماء و يتغير طعمه أو لونه أو ريحه،فإنه ينجس بالاتفاق،و للرواية المتقدمة،من غير فرق بين الكثير و القليل،و لا بين النابع و غير النابع.

و اشترط الفقهاء أن يكون التغيير بنفس الملاقاة،فلو مات حيوان إلى جنب الماء،و تغير بواسطة الريح لا بالمماسة،يبقى الماء على طهارته.

و أيضا اشترطوا أن يكون التغيير بأوصاف النجس،لا بالمتنجس،فإذا وقع في الماء دبس متنجس،و صار الماء أحمر أو أصفر يبقى على الطهارة.

و أيضا اشترطوا أن يكون التغير ظاهرا للحس و العيان،فلو افترض ان كانت النجاسة من لون الماء،و لم يحصل التغير،و لكن لو خالفت لونه لتغير-لو فرض هذا-يبقى الماء على الطهارة،لأن العبرة بالتغيير الحسي،لا التقديري.

3-ان تقع النجاسة في ماء قليل غير نابع،فينجس و ان لم يتغير،للإجماع

ص:12

و الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام التي بلغت 300 على ما قيل.

أمّا إذا كان الماء غير النابع بقدر كرّ فحكمه حكم النابع لا ينجس إلاّ إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه،لما ثبت عن الإمام بالتواتر:«إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء».

الماء القليل بين النابع و غيره:
اشارة

قدمنا أن النجاسة إذا لاقت الماء غير النابع ينجس،و ان لم يتغير،و إذا لاقت النابع لا ينجس إلا إذا تغير،فإذا حصلت الملاقاة لقليل من الماء،و شككنا هل هو نابع كي لا ينجس بمجرد الملاقاة،أو غير نابع كي ينجس،فما ذا نصنع؟

الجواب:

ان موضوع النجاسة مركب من أمرين:أحدهما ملاقاة النجاسة للماء القليل،و ثانيهما ان يكون الماء غير نابع.و الأول،و هو ملاقاة النجاسة للقليل ثابت بالوجدان.و الثاني،و هو عدم النبع نثبته بالاستصحاب.لأننا نعلم يقينا أنّه قبل وجود هذا الماء لم يكن هنا نبع،و بعده نشك،فنستصحب (1)عدم وجوده، و متى تم الأمران:الملاقاة للقليل،و عدم النبع،تحققت النجاسة.

ماء المطر:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كل شيء يراه المطر فقد طهر».

ص:13


1- هذا الموضوع و نظائره من باب الموضوعات المركبة التي يثبت أحد جزأيها بالوجدان،و الآخر بالاستصحاب،و الفقهاء يسمون هذا الاستصحاب بالأزلي تارة،و بالعدم الأصلي أخرى،و لهم فيه كلام طويل،و معقد يعسر فهمه إلاّ على أهل الاختصاص.

و لذا اتفقوا على أن حكم الغيث حال نزوله من السماء حكم النابع لا ينجس بملاقاة النجاسة،سواء أو ردت عليه،أو ورد عليها.

ملاقاة النجاسة للماء المضاف:

سئل الإمام الباقر عليه السّلام عن فأرة وقعت في السمن فماتت؟قال:ألقها و ما يليها ان كان جامدا،و كل ما بقي.و إن كان السمن ذائبا فلا تأكل،و استصبح به، و الزيت مثل ذلك.

قال الفقهاء:إذا لاقت النجاسة الماء المضاف فإنه ينجس بمجرد الملاقاة بالغا ما بلغ.و استدلوا بهذه الرواية رغم أنّها وردت في الزيت و السمن الذائب، و انهما ليسا من المضاف في شيء.و لكنهم قالوا:ان الزيت و السمن الذائب يشاركان الماء المضاف في بعض أوصافه،و هو سريان النجاسة و وصولها إلى الذائب.و هذا السريان و الوصول هو علة الحكم بالنجاسة،و عليه كما تدل رواية السمن و الزيت على النجاسة بالملاقاة تدلّ أيضا على نجاسة المضاف،و ربما بطريق أولى،لأن الزيت و السمن أثقل و أشد.

و يظهر من قول السيد الحكيم في المستمسك الفرق بين المضاف الكثير، و المضاف القليل،و ان الأول لا ينجس بملاقاة النجاسة لعدم السراية،و الثاني ينجس بها لوجود السراية و الوصول.و فرّع على ذلك عدم تنجيس عيون النفط بملاقاتها للنجاسة.

و نحن لا نشك بأن النفط يختلف في حقيقته و أوصافه عن الماء المضاف كما هو في أذهان الفقهاء،و عليه يكون قول السيد في محله.

ص:14

تطهير المياه النجسة:
اشارة

قال الإمام عليه السّلام:«كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر».و قال:«ماء النهر يطهّر بعضه بعضا».

لتطهير الماء النجس حالات:

1-أن يكون الماء نابعا،و كان قد تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة.

و يكفي في طهارته زوال التغير فقط،قليلا كان أو كثيرا،زوال التغير تلقائيا أو بالواسطة،لأن وجود النبع كاف،بدليل قول الإمام:«لأن له مادة»في الرواية التي ذكرناها في فقرة«الماء و ملاقاة النجاسة».

2-أن يكون الماء قليلا،و غير نابع،فان لم يكن قد تغير بالنجاسة كفى في تطهيره نزول الغيث عليه،أو اتصاله بكر،أو بماء نابع،بحيث يصير الماء ان واحدا و ان كان متغيرا بالنجاسة فلا بد أولا من زوال التغير،ثم التطهير بما ذكر،أو إلقائه بماء كثير،بحيث يستهلك،و لا يستبين له أي أثر.

3-أن يكون الماء كثيرا،و غير نابع،و ليس من ريب أن هذا لا ينجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه،و لا يطهر إلاّ بزوال التغير،و نزول المطر،أو اتصاله بكر أو بنبع على شريطة أن يصير الماءان واحدا.

و لا يشترط الفقهاء أن يمتزج كل جزء من الماء المتنجس بكل جزء من الماء الطاهر،و لا مساواة سطحهما،بل يصح أن يكون المطهر أعلى،و المتنجس أسفل،دون العكس.

و كذا لا يشترطون زوال التغير أولا،ثم حصول الاتصال بعده،بل لو ذهب التغير و حصل الاتصال معا كفى في الطهارة.

ص:15

الشك و التردد:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«الماء كله طاهر،حتى تعلم أنّه قذر».

إذا رأيت ماء،و لم تكن على علم سابق بطهارته،و لا نجاسته فهو طاهر، لهذه الرواية الخاصة بالماء،و الرواية العامة التي تشمله مع غيره،و هي كل شيء طاهر،حتى تعلم نجاسته،و بالأولى إذا كنت على يقين سابق بالطهارة.

أمّا إذا كنت على يقين سابق بنجاسته،ثم شككت بطرو الطهارة فتستصحب النجاسة.

اشتباه الطاهر بالنجس:

سئل الإمام عليه السّلام:عن رجل،معه إناءان،وقع في أحدهما قذرة،لا يدري أيهما،و ليس يقدر على ماء غيرهما؟قال:يهريقهما،و يتيمّم».

إذا وجد إناءان،أحدهما طاهر،و الآخر نجس،و لم تستطع التمييز بينهما، وجب اجتنابهما معا،لأن امتثال الأمر بترك النجس،لا يتحقق إلاّ باجتناب الإناءين.و إذا لم يكن ماء آخر غيرهما تعين التيمم للصلاة.

المكاثرة:
اشارة

إذا كان الماء قليلا،و في الوقت نفسه كان متنجسا،ثم طرأ عليه ماء آخر، و بهذه المكاثرة صار المجموع كرا،فهل يصير الماء طاهرا،أو يكون نجسا؟

الجواب:

بل يكون نجسا،لأن قول الإمام:إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء،معناه أن الكر لا بد أن يتحقق أولا،ثم تعرض عليه النجاسة،إذ لا بد في الموضوع أن

ص:16

يتقدم على الحكم،هذا إلى أن الماء الثاني إن كان نجسا فضم النجس إلى مثله لا يجعل المجموع طاهرا،و إن كان طاهرا فإنه ينجس بالملاقاة.

الماء المستعمل بالوضوء و الغسل:

قال الإمام عليه السّلام:«كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا توضأ أخذ ما يسقط من وضوئه، فيتوضؤون به».

و قال أيضا عليه السّلام:«أمّا الماء الذي يتوضأ به الرجل،فيغسل به وجهه و يده، فلا بأس ان يأخذه غيره و يتوضأ به».

و أيضا سئل عن الجنب يغتسل بماء الحمام:هل يغتسل به غيره؟قال:لا بأس أن يغتسل من الجنب،و لقد اغتسلت فيه».

و نستفيد من هذا أن الماء لا يتنجس بمماسة بدن الجنب،بل و لا يسلب عنه صفة التطهير به،و لذا اتفق الفقهاء على أن الماء الذي يتوضأ به الإنسان،أو يغتسل غسلا مستحبا،كغسل الجمعة يجوز أن يطهر به الخبث،أي النجاسة المادية،و الحدث أيضا،أي يتوضأ أو يغتسل به ثانية.

أمّا الماء الذي اغتسل به غسلا واجبا كالجنابة فإنه مطهر للخبث بالاتفاق.

و للحدث على المشهور.

الكر:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء».

و مما قاله في تحديد الكر بالمساحة:«إذا كان ثلاثة أشبار و نصف في مثله ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض فذاك الكر من الماء».

ص:17

و عنه في تحديده بالوزن:«الكر الذي لا ينجسه شيء ألف و مأتا رطل».

و هناك روايات أخرى.

و للرواية الأولى منطوق،و هو ما خصص بالذكر،و مفهوم من هذا المخصص بالذكر،و هو أن الماء الذي دون الكر ينجسه الشيء النجس،و حكم المفهوم دائما مخالف لحكم المنطوق،و لكن من بعض الجهات لا من جميعها، أي لا يشترط أن يكون الحكم في المفهوم مخالفا للحكم في المنطوق من شتى أنحائه و جهاته،فإذا كان المنطوق عاما كما نحن فيه،لأن الفكرة في سياق تفيد العموم،فلا يجب أن يكون المفهوم عاما أيضا بحيث يكون معناه هنا إذا لم يبلغ الماء قدر كر نجسه كل شيء،لذا قيل:ان المفهوم لا عموم له.

و مما قدمنا يعلم أن المراد من عدم تنجيس الكر بالملاقاة هو إذا لم يتغير بالنجاسة،و ان ما دون الكر ينجس بها،و ان لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه.

بقيت مسألة تحديد الكر،و كم يبلغ؟و قد جاءت فيه روايتان عن الإمام أحدهما بالمساحة،و الأخرى بالوزن،كما رأيت،و الأفضل الاعتماد على المساحة،أي الأشبار،لأمور:

1-أن الرطل مجمل لا يعرف تحديده بالضبط في عهد الإمام.

2-ان المياه تختلف في الوزن خفة و ثقلا.

3-ان الوزن متعذر على أكثر الناس،بخاصة في حال البعد عن العمران، بخلاف المساحة،حيث يمكن تقديرها،و لو بالنظر على سبيل التقريب الذي تركن إليه النفس.

ص:18

الشك و التردد:

إذا رأيت ماء،و لم تدر:هل هو بمقدار كر،أو دونه نظرت:فإن كنت على علم سابق بأنه كان كرا،ثم شككت:هل طرأ عليه النقصان استصحبت بقاء الكرية،و رتبت عليها جميع الآثار من عدم نجاسة الماء بالملاقاة و طهارة المتنجس الذي غسل فيه.

و ان كنت على علم سابق بأنه كان دون الكر،ثم شككت:هل طرأت عليه الزيادة،استصحبت عدم الكرية،و رتبت عليه جميع الآثار من نجاسته بالملاقاة، و عدم طهارة المتنجس الذي غسل فيه.

و ان شككت ابتداء،و لم تكن على علم سابق لا بالكثرة،و لا بالقلة فلا تحكم بثبوت الكرية،و لا بنفيها (1)و إذا غسلت فيه-و الحال هذه-جسما متنجسا يبقى الماء على طهارته ما لم يتغير بالنجاسة،لأن المفروض أنّه مشكوك الكرية،و الشك فيها يستدعي الشك في الطهارة،و بديهة أن مجرد الشك كاف للحكم بها،كما أن الجسم المتنجس الذي غسل فيه يبقى على نجاسته عملا بالاستصحاب،و لا منافاة بين طهارة الماء،و بقاء النجاسة في الجسم الذي لاقاه، لتعدد الموضوع،فإن موضوع أصل الطهارة هو الماء،و موضوع استصحاب النجاسة هو الجسم الذي لاقاه.

ص:19


1- و قيل:هنالك أصل يثبت نجاسة هذا الماء المشكوك،و هو استصحاب العدم الأزلي للكرية، فيقال هكذا ان الماء غير الكر ينجس بملاقاة النجاسة،و هذا ماء بالوجدان،و قد لاقته النجاسة،و قبل وجوده لم تكن الكرية متحققة،و بعده نشك،فنستصحب عدمها،و يكون المورد من باب الموضوعات المركبة من جزءين يثبت أحدهما بالوجدان،و الآخر بالأصل. و قيل غير ذلك.

ص:20

أعيان النجاسات

اشارة

قال تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ .و قال إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.

تطلق النجاسة في اللغة على سوء السريرة،و قبح الأعمال،و عند الفقهاء هي القذارة المادية التي يجب إزالتها لأجل الصلاة أو الطواف الواجب،و هي أنواع:

البول:

1-سئل الإمام عليه السّلام عن الثوب أو الجسد يصيبه البول؟قال:«اغسله مرتين».

و هذا محل وفاق بين الفقهاء.

الغائط:
اشارة

2-سئل الإمام عليه السّلام عن الدقيق يصيب فيه خرء الفأر:هل يجوز أكله؟قال:

«إذا بقي منه شيء،فلا بأس،يؤخذ أعلاه».

و هذا محل وفاق أيضا على شريطة أن يكون البول و الغائط من انسان أو حيوان غير مأكول اللحم،و له دم سائل،و هو الدم الذي يجتمع في العروق،

ص:21

و يخرج عند قطعها بقوة و دفق.و قد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:«اغسل ثوبك من بول ما لا يؤكل لحمه.و لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه».

و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:«ان نجاسة البول و العذرة من الإنسان،و بعض صنوف الحيوانات،كالهرة و الكلب،و نحوهما كادت تكون ضرورية،كطهارة الماء،فلا ينبغي إطالة الكلام بذكر الأخبار الخاصة المتضافرة الدالة على نجاستهما».

الطيور:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كل شيء يطير لا بأس بخرئه و بوله».أي أن كل طائر،و ان كان غير مأكول اللحم فبوله و خرؤه طاهران.

و رب قائل:ان هذه الرواية الدالة على طهارة فضلات كل طائر،حتى و لو كان غير مأكول اللحم كالخفاش تتنافى مع الرواية المتقدمة الدالة على نجاسة فضلات غير مأكول اللحم،و لو كان طائرا كالخفاش،و مع هذا التعارض فبأي الروايتين نأخذ؟

الجواب:

نأخذ برواية الطهارة،دون رواية النجاسة،و نحكم بطهارة فضلات الطائر و لو كان غير مأكول،لأن رواية النجاسة منصرفة إلى الحيوان غير الطائر،و على هذا فلا تعارض،و مع افتراض عدم الانصراف،و تعارض الروايتين بالفعل، فنقدم رواية الطهارة،لأنها أقوى سندا،و مع افتراض التساوي و التكافؤ بالسند، فعلى القول بالتخيير بين المتعارضين نختار رواية الطهارة،و على القول بالتساقط بينهما نرجع إلى عموم كل شيء نظيف،حتى تعلم أنه قذر.

ص:22

الحيوان الجلاّل و الموطوء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا تأكلوا من لحوم الجلالات،و ان أصابك من عرقها فاغسله».و الحيوان الجلال هو الذي جل علفه العذرة.

و عنه أيضا:«أن أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن البهيمة التي تنكح؟فقال:

حرام لحمها و كذلك لبنها».

الحيوان الذي يؤكل لحمه شرعا،منه ما اعتاد الناس أكله،كالجمال و البقر و الجاموس و الغنم و الماعز،و منه ما لم يعتادوا أكله،مع العلم بأنه حلال كالخيل و الحمير و البغال،فقد ترك الناس في القديم أكلها،لأنها من أهم وسائل النقل، و خافوا أن يؤدي أكلها إلى إفنائها أو ندرتها،فتحدث الأزمة.

و أي حيوان جاز أكله شرعا من هذين القسمين إذا أكل العذرة،و اشتد لحمه منها حتى صار جلالا،يحرم أكله،إلى أن يترك أكلها،و يأكل علفا طيبا أمدا يبرأ فيه من الجلل و يذهب هذا الاسم عنه،لأن الأحكام تابعة للأسماء.و كذلك يحرم لحم الحيوان إذا وطأه إنسان،و متى حرم أكل الحيوان بسبب الجلل أو وطء الإنسان،ينجس بوله و خرؤه،و لا يحل شرب لبنه.

المني:
اشارة

3-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المني يصيب الثوب؟قال:«ان عرفت مكانه فاغسله،و ان خفي عليك مكانه فاغسله كله».

اتفق الفقهاء على نجاسة المني من كل ما له دم سائل،سواء أ كان مأكول اللحم أو غيره.أمّا ما لا دم سائل له فمنيه طاهر كدمه.

ص:23

المذي و الودي:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المذي يصيب الثوب؟قال:«لا بأس به».

المذي ماء أبيض لزج،يخرج عند الملاعبة،أو التفكر في الجماع،و قد لا يشعر الإنسان بخروجه،أما الودي فيخرج بعد البول،و كلاهما طاهر.

الدم:
اشارة

4-قال الإمام عليه السّلام:«ان أصاب ثوب الرجل الدم،فيصلي فيه،و هو لا يعلم ،فلا إعادة،و ان هو علم قبل أن يصلي فنسي و صلى فيه،فعليه الإعادة».

و سئل عن دم البراغيث؟قال:ليس به بأس.قال السائل:إنه يكثر و يتفاحش.قال:و ان كثر.

كل حيوان له نفس سائلة فدمه نجس،سواء أ كان مأكول اللحم،أو غير مأكول،قليلا كان الدم،أو كثيرا،و بهذا و بما تقدم يتبين معنا أن مأكول اللحم بوله و خرؤه طاهران،أما دمه فنجس بالاتفاق.

و للفقهاء هنا كلام طويل،عريض،و يتلخص:هل هناك أصل شرعي يدل على أن الدم من حيث هو محكوم بالنجاسة إلا ما أخرجه الدليل،كدم ما لا نفس سائلة له.و الدم المتخلف في الذبيحة،بحيث نرجع إلى هذا الأصل،و نحكم بنجاسة كل دم شككنا في طهارته و نجاسته،أو لا وجود لهذا الأصل من الأساس؟ ذهب أكثر الفقهاء إلى نفيه،و عدم وجوده،و قال البعض بوجوده مستدلا بقول الإمام عليه السّلام:«كل شيء يتوضأ به مما يشرب منه الطير إلا أن ترى في منقاره دما»حيث حكم بنجاسة الدم،مع الجهل بحقيقته.

و أجيب بأن هذا ليس بيانا لحكم الدم من حيث هو،و انما هو بيان لحكم ما

ص:24

لاقاه الدم الذي علمت نجاسته مسبقا.

في الذبيحة:

ذهب أكثر الفقهاء،و قيل كلهم،إلى أن الدم الذي يبقى في الذبيحة بعد خروج المقدار المتعارف،ذهبوا إلى أن هذا الدم طاهر،و استدلوا بنفي الحرج، و لم اطلع على نص خاص في ذلك.

الميتة:
اشارة

5-قال الإمام عليه السّلام عن البئر تقع فيها الميتة:ان كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا.

و سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة،و ما أشبه،يموت في البئر و الزيت و السمن؟قال:كل ما ليس له دم فلا بأس.و في رواية أخرى:«لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة».

اتفق الفقهاء على أن كل ميت له دم سائل فهو نجس،حيوانا كان،أو إنسانا قبل الغسل،و لجت الروح فيه،ثم خرجت منه،أو لم تلجه أصلا كالسقط.

و كلّ ما لا دم سائل له كالحية و الجراد و الذباب،فميتته طاهرة.و كذلك ما لا يخالطه الدم من اجزاء الميتة النجسة،كالشعر و القرن و الظفر و الريش و الصوف و العظم،فإنه طاهر إلاّ ما كان من نجس العين،كالكلب و الخنزير،فقد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:«لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة،ان الصوف ليس فيه روح»فان قوله:ليس فيه روح،تعليل و تبرير لطهارة كل ما لا تحله الحياة من اجزاء الميتة.

ص:25

أمّا العضو المقطوع من جسم حي،فللفقهاء فيه قولان:أحدهما الطهارة، للأصل،و الآخر النجاسة،للاحتياط.و بديهة أن الاحتياط ليس بدليل شرعي.

و لذا قال صاحب المدارك:ان غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت، و هو لا يصدق على الأجزاء قطعا.

الانفحة و فارة المسك:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الأنفحة تخرج من الجدي الميت؟قال:لا بأس.و عن اللبن يكون في ضرع الشاة،و قد ماتت؟قال:لا بأس.

و سئل ولده الكاظم عليه السّلام عن فارة المسك تكون مع المصلي،و هي في جيبه،أو ثيابه؟قال:لا بأس بذلك.

و الأنفحة معدة الجدي حال ارتضاعه،و تصير كرشا بعد أن يأكل العلف و النبات،و تصلح لعمل الجبن،و تسمى مجبنة عند العوام العراق،و مسوة في جبل عامل.أمّا فارة المسك فجلدة في الظبي،فيها دم طيب الرائحة.و لهاتين الروايتين و غيرهما قال الفقهاء بطهارة هذه الفارة،و طهارة الإنفحة،و ان استخرجتا من ميت،و بطهارة اللبن الموجود في ضرع حيوان ميت،رغم ملاصقته لأجزاء الميتة النجسة،على شريطة أن يكون الحيوان مأكول اللحم.

يد المسلم:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الخف يباع في السوق؟قال:اشتر و صلّ فيه، حتى تعلم أنّه ميتة بعينه.

و أيضا سئل عن الرجل يأتي السوق،فيشتري جبة فراء،لا يدري أ ذكي

ص:26

هي،أ يصلي فيها؟قال:نعم،ليس عليكم المسألة.ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم.ان الدين أوسع من ذلك.

و لذا أفتى الفقهاء بطهارة اللحوم و الجلود التي عليها يد مسلم،أو أخذت من سوق،الكل أو الجل فيه من المسلمين،و كذلك حكموا بطهارة ما وجد من اللحوم و الجلود مطروحا في أرض الإسلام و طرقهم،على شريطة أن يكون عليها أثر الاستعمال.

قال السيد الحكيم في الجزء الأول من المستمسك«مسألة نجاسة الميتة» قال:لك أن تأخذ الجلود من يد المسلم،حتى و لو علمت أنّه أخذها من غير المسلم،و هذه عبارته بالحرف:«و لو كانت يد المسلم مسبوقة بيد الكافر،كما في الجلود المجلوبة في هذه الأزمنة من بلاد الكفار فالظاهر كونها-أي يد المسلم- إمارة أيضا-أي على التذكية-قال كاشف الغطاء:و ما يؤتى به من بلاد الكفار كالبرتغال لا بأس به إذا أخذ من أيدي المسلمين.و قال صاحب الجواهر:يستفاد من النصوص طهارة ما يؤخذ من يد المسلم،و ان علم سبقها بيد الكافر».ثم قال السيد الحكيم:«و ما ذكره صاحب الجواهر من الاستفادة في محله».

القيح و القيء:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الدمل يكون بالرجل:فينفجر و هو في الصلاة؟ قال:يمسحه و يمسح يده بالحائط أو بالأرض،و لا يقطع الصلاة.

و سئل عن الرجل يتقيأ في ثوبه،أ يجوز أن يصلي فيه و لا يغسله؟قال عليه السّلام:

لا بأس به.

و بهذا أفتى الفقهاء كافة.

ص:27

الكلب و الخنزير:

6 و 7-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الكلب؟قال:رجس نجس لا يتوضأ بفضله،و أصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة،ثم بالماء.

و سئل ولده الإمام الكاظم عليه السّلام عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟قال :يغسل سبع مرات.

و بهذا أفتى الفقهاء،و لم يستثنوا من الحكم بالنجاسة ما لا تحله الحياة من أجزاء الكلب و الخنزير،كالشعر و العظم،و ما إليهما.

أجل،تختص النجاسة بالكلب و الخنزير البريين،دون البحريين، لانصراف الأدلة عنهما.

الخمر:

8-روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:إذا أصاب ثوبك خمر،أو نبيذ و مسكر،فاغسله ان عرفت موضعه،و ان لم تعرف موضعه فاغسله كله،و ان صليت فيه فأعد صلاتك.

المسكر،منه مائع بحسب الأصل،كالخمر و النبيذ،و منه جامد كالأفيون و الحشيش،و ذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة الخمر،و جميعهم إلى طهارة المسكر الجامد كالأفيون،و اختلفوا في نجاسة المسكر المائع-غير الخمر- كالنبيذ،فمن قائل بأنه نجس،لأن اللّه لم يحرم الخمر لاسمها،و لكن حرمها لعاقبتها-كما جاء في بعض أقوال الإمام-و ما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر،و من قائل بأنه طاهر:مع قوله بنجاسة الخمر،لاختلاف الاسم،و الأحكام تتبع الأسماء،لا الأسباب المستنبطة و العواقب،و من القائلين بالطهارة نظريا

ص:28

السيد الخوئي بالتنقيح،حيث لا دليل على النجاسة،و القاعدة تقتضي الطهارة، و مع ذلك حكم عمليا بالنجاسة من باب الاحتياط لمكان المشهور.

و يلاحظ بأن الاحتياط و الشهرة ليسا من الأدلة الشرعية،حتى عند السيد.

و رحم اللّه الشهيد الثاني،حيث قال:العمل بخلاف ما عليه المشهور مشكل، و الأخذ بقولهم من دون دليل أشكل.

العنب إذا غلا:

اتفق الفقهاء على أن العنب إذا غلا يحرم شرب عصيرة المغلي،حتى و لو لم يشتد،و انه يصير حلالا بذهاب ثلثيه.

و قال صاحب المدارك:«الحكم بنجاسة العصير المغلي من العنب مشهور عند المتأخرين،و لا نعلم مأخذه-أي لا دليل على النجاسة-و قد اعترف الشهيد الثاني في الذكرى و البيان بأنه لم يقف على دليل يدل على نجاسته،و بأن القائل بالنجاسة قليل من الفقهاء.و مال الشهيد الثاني إلى الطهارة،و قواها شيخنا المعاصر،و هو المعتمد تمسكا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض».

و نحن لا نشك في أنّ القائل بالنجاسة،ألحق هذا العصير بالخمر،و بديهة أن الإلحاق قياس،فتعينت الطهارة،لأنها الأصل في جميع الأشياء،حتى يثبت العكس.

الفقاع:

9-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الفقاع؟فقال:لا تشربه،فإنه خمر مجهول،و ان أصاب ثوبك،فاغسله.

ص:29

الفقاع شراب يتخذ من الشعير،قال صاحب المدارك:الحكم بنجاسته مشهور بين الأصحاب-أي الفقهاء-و به رواية ضعيفة السند جدا.

عرق الجنب من الحرام:

10-قال صاحب المدارك:اختلف الأصحاب في عرق الجنب من الحرام،فذهب جماعة إلى نجاسته،و عامة المتأخرين قالوا بالطهارة،و هو المعتمد للأصل.

و قال السيد الحكيم في المستمسك:«المنسوب إلى أكثر المتأخرين،بل المشهور بينهم الطهارة،بل عن الحلي دعوى الإجماع عليها،و ان من قال بالنجاسة في كتاب رجع عنها في كتاب آخر».

و بديهة أن كل ما شك في نجاسته فهو طاهر،حتى يحصل اليقين بالنجاسة،و لم يحصل لنا هذا اليقين،و لا ما أشبه.

أهل الكتاب:

11-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن مؤاكلة اليهود و النصارى؟قال:لا بأس إذا كان من طعامك.

و عن زكريا بن إبراهيم انه قال:كنت نصرانيا،فأسلمت،فقلت للإمام الصادق عليه السّلام:ان أهل بيتي على دين النصرانية،فأكون معهم في بيت واحد،و آكل من آنيتهم.فقال لي:أ يأكلون لحم الخنزير؟قلت:لا.قال:لا بأس.

و قيل للإمام الرضا عليه السّلام حفيد الإمام الصادق عليه السّلام:الجارية النصرانية تخدمك ،و أنت تعلم أنّها نصرانية لا تتوضأ و لا تغتسل من جنابة.قال:لا بأس تغسل يدها

ص:30

و هناك روايات أخرى.

أجمع الفقهاء على نجاسة من أنكر الخالق جل و علا،و ليس من شك أن الكلب و الخنزير أشرف و أكرم من هذا،و أن البول و العذرة أنقى منه و أطهر.

أمّا أهل الكتاب،و هم اليهود و النصارى،و من ألحق بهم كالمجوس، فللفقهاء قولان معروفان:أحدهما النجاسة،و عليها الأكثر،و الثاني الطهارة، و إليها ذهب بعض من تقدم،و جماعة ممن تأخر،منهم صاحب المدارك و السبزواري،و آخرون متسترون.

و أحدث القول بنجاسة أهل الكتاب مشكلة اجتماعية للشيعة،حيث أوجد هوة سحيقة عميقة بينهم و بين غيرهم،و أوقعهم في ضيق و شدة،بخاصة إذا سافروا إلى بلد مسيحي كالغرب،أو كان فيه مسيحيون كلبنان،و بوجه أخص في هذا العصر الذي أصبحت فيه الكرة الأرضية كالبيت الواحد،تسكنه الأسرة البشرية جمعاء.

و ليس من شك أنّ القول بالطهارة يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية السهلة السمحة،و ان القائل بها لا يحتاج إلى دليل،لأنّها وفق الأصل الشرعي و العقلي و العرفي و الطبيعي،أما القائل بالنجاسة فعليه الإثبات،و قد استدل بأمور:

الأول-الإجماع:

و جوابنا عنه أنّه لا إجماع في مورد الخلاف،و لو سلمنا وجوده مماشاة، و من باب المسايرة،فإن الإجماع انما يكون حجّة إذا كشف يقينا عن رأي المعصوم عليه السّلام،و نحن نعلم أو نحتمل أن المجمعين قد استندوا إلى بعض الأخبار،أو إلى الاحتياط.و بديهة أن العلم بالكشف عن رأي المعصوم لا يجتمع مع الاحتمال بأن المجمعين استندوا إلى الأخبار و الاحتياط،و متى انتفى العلم

ص:31

بهذا الكشف عن الإجماع يكون وجوده و عدمه سواء.

الدليل الثاني الذي استدل به المجمعون عن النجاسة-الاخبار،و هي صحيحة السند واضحة الدلالة.

و جوابنا عنها أنّه يوجد إلى جانبها أخبار مضادة أوضح دلالة،و أكثر عددا، و لا تقل عنها سندا.فالأخذ بأخبار النجاسة دون أخبار الطهارة تقديم للضعيف على الأقوى،و للأدنى على الأعلى.

و لو سلمنا بالتساوي و التكافؤ بين أخبار الطهارة،و أخبار النجاسة،رجعنا إلى أصل الطهارة،بناء على القول بسقوط المتعارضين معا،و اخترنا أخبار الطهارة،بناء على القول بالتخيير بينهما.

أمّا قول من قال:لا بد من الاحتياط،لذهاب المشهور إلى النجاسة.

فجوابنا هو الجواب المكرور من أن الاحتياط حسن،و الشهرة قد تدعم و تؤيد، و لكنهما ليسا من الأدلة الأربعة.

و عليه فلا دليل على النجاسة من نص و لا إجماع و لا عقل.

و ما زلت اذكر أن الأستاذ قال في الدرس ما نصه بالحرف:«ان أهل الكتاب طاهرون علميا-أي نظريا-نجسون عمليا».و اني أجبته بالحرف أيضا:«هذا اعتراف صريح بأن الحكم بالنجاسة عمل بلا علم».فضحك الأستاذ و رفاق الصف،و انتهى كل شيء.

و قد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا و التقليد،الأول كان في النجف الأشرف،و هو الشيخ محمد رضا آل يس،و الثاني في قم،و هو السيد صدر الدين الصدر،و الثالث في لبنان،و هو السيد محسن الأمين،و قد أفتوا جميعا بالطهارة،و أسروا بذلك إلى من يثقون به،و لم يعلنوا خوفا من المهوّشين،

ص:32

على ان يس كان أجرأ الجميع.و أنا على يقين بأن كثيرا من فقهاء اليوم و الأمس يقولون بالطهارة،و لكنهم يخشون أهل الجهل،و اللّه أحق أن يخشوه.

أجل،من قال بالطهارة ذهب إلى النجاسة العرضية،أي أن أهل الكتاب يطهرون إذا تطهروا بالماء،تماما كالمسلم إذا تنجس بعض أعضاءه،و استند القائل بالنجاسة العرضية إلى الرواية المتقدمة عن الامام الرضا عليه السّلام أن النصرانية تغسل يدها،و إلى صحيحة إسماعيل بن جابر التي جاء فيها:«ان في آنيتهم الخمر،و لحم الخنزير»و هذا تعليل صريح بأن السبب للاجتناب عن أهل الكتاب انما هو لمباشرتهم لما نعده نحن نجسا،كالكلب و الخنزير و الخمر،و ما إلى ذاك.

و بالإجمال،ان دين اللّه أوسع من ذلك،و ان الخوارج ضيّقوا على أنفسهم، فضيّق اللّه عليهم-كما قال الامام-و ان الإسلام كما هو دين الخير و العدل،فإنه دين اليسر و العقل.أما وجود بعض الأخبار في النجاسة فإن الأحاديث التي ترك علماء السنة و الشيعة العمل بها لا يبلغها الإحصاء.و قد أجمع السنة على طهارة أهل الكتاب،مع العلم بأنهم رووا عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال:قلت:«يا رسول اللّه إنا بأرض قوم أهل الكتاب أ فنأكل من آنيتهم؟قال:لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها،فاغسلوها و كلوا فيها».

فظاهر الحديث النجاسة حيث أمر بعدم الأكل في آنيتهم إلا لضرورة، و حتى مع وجود الضرورة أمرهم بغسلها،و مع ذلك حملوها على محمل آخر.

و قد يقال:ان نجاسة أهل الكتاب شيء،و نجاسة آنيتهم شيء آخر.

قلت:أجل،و لكن ربما يقال:ان نجاسة الآنية أشد،و لذا من قال بنجاسة أهل الكتاب من فقهاء الشيعة أفتى بطهارة آنيتهم .

ص:33

ص:34

مسائل متفرقة
منكر الضرورة:

ذهب أكثر العلماء إلى أن من أنكر حكما ثبت في الإسلام بالضرورة،دون أن يلتفت إلى أنّه ضروري فهو نجس،و قال السيد الخوئي في التنقيح،بل هو طاهر،لعدم الدليل على النجاسة.

و هو الحق ما دام ينطق بالشهادتين،و لم يتعمد تكذيب الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ولد الكافر:

قال أكثر الفقهاء:ولد الكافر نجس تبعا لأبويه.

و قال صاحب المدارك:بل هو طاهر،لان اسم الكافر لا يصدق عليه، فالقول بنجاسته لا يعتمد على دليل.

و هو حق،لأن الأحكام تتبع الأسماء.

المغالي:

من اعتقد بأن عبدا من عباد اللّه يخلق،أو يرزق،أو يقدر على ما يقدر اللّه

ص:35

عليه،فهو مغال مشرك نجس،لا يؤاكل،و لا يزوج،و لا يورث بالاتفاق.

الناصبي:

من نصب العداء لأهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أو لأحدهم فهو رجس نجس ،لأنّ عداء أهل الرسول عداء للرسول،و عداء الرسول عداء اللّه بالذات.

السؤر:

قال الفضل:سألت الامام الصادق عليه السّلام عن فضل الهرة و الشاة و البقرة و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع،و لم أترك شيئا إلاّ سألته عنه؟فقال:

لا بأس به،حتى انتهيت إلى الكلب.فقال:رجس نجس.

و السؤر هو ما يتبقى من الماء بعد الشرب،و حكم هذا الماء الباقي حكم صاحب السؤر بالذات،ان نجسا فنجس،و ان طاهرا فطاهر.

الشك و التردد:

و هنا مسائل تتعلق بالشك:

1-إذا شككنا في أن هذا السؤر هو سؤر حيوان طاهر،أو حيوان نجس، فهو طاهر للأصل.

2-إذا شككنا في أن هذا الإنسان مسلم،أو غير مسلم بناء على نجاسة غير المسلم،فهو طاهر،للأصل،و لكن لا نرتب عليه الآثار الأخرى التي لا بد فيها من ثبوت الإسلام.

3-إذا شككنا في هذا الأحمر هل هو دم أو لا فهو طاهر.

ص:36

4-إذا علمنا ان هذا دم،و شككنا في أنّه من حيوان له دم سائل،كي يكون نجسا،أو من غيره،كي يكون طاهرا،فهو طاهر للأصل.

5-إذا شككنا في أنّ هذا الحيوان جلال أو لا فهو طاهر للأصل.

و لا يجب البحث و السؤال عن شيء من ذلك،كما أنه لا يجب على المسؤول ان يجيب:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء نظيف،حتى تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،و ما لم تعلم فليس عليك.

و عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام أنّه قال:ما أبالي أبول أصابني،أو ماء إذا لم أعلم.

و من طريف ما يروى في هذا الباب ان رجلين كانا يسيران معا في الطريق، فسقط شيء عليهما من ميزاب،فقال أحدهما:يا صاحب الميزاب،ماؤك طاهر أو نجس؟فقال الآخر:يا صاحب الميزاب لا تخبرنا.

ص:37

ص:38

أحكام النجاسات

طرق ثبوت النجاسة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كل شيء لك حلال،حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك،و ذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته،و لعله سرقة.و المرأة تحتك،و هي أختك،أو رضيعتك،و الأشياء كلها على هذا،حتى يستبين لك غير هذا،أو تقوم به البينة».

ان إثبات الطهارة لا يحتاج إلى دليل ما دام مجرد الشك في النجاسة كافيا للحكم بالطهارة،و هذا من الموارد التي يتغلب فيها الضعيف على القوي.فلو احتملت 90 بالمئة بأن هذا نجس،و 10 بالمئة بأنه طاهر كانت الغلبة للعشرة على التسعين.

أمّا النجاسة فلا تثبت إلاّ بدليل،كالحس،و الاستصحاب،و البينة الشرعية، تماما كغيرها من الموضوعات التي أشار إليها الإمام بقوله:«و الأشياء كلها على هذا،حتى يستبين لك غير هذا،أو تقوم به البينة»أي يظهر لك ذلك بالحس،أو يشهد شاهدان.

خبر الواحد:

اتفق الفقهاء على أن خبر الثقة الواحد يؤخذ به في الأحكام،فإذا روي عن

ص:39

المعصوم أن هذا حلال،و ذاك حرام،كان حجّة معتبرة،و اتفقوا أيضا على أن الحقّ لا يثبت بقوله وحده في باب التقاضي و التخاصم.و اختلفوا:هل تثبت الموضوعات الخارجية بقوله في غير باب التخاصم أو لا،فلو قال:هذا نجس و لم يخاصمه أحد في ذلك هل يكون حجّة؟ ذهب أكثر العلماء إلى عدم الاعتماد على الخبر الواحد في الموضوعات، حتى مع عدم التخاصم.

و قال الشيخ الهمداني في المصباح:الأقوى الاعتماد عليه،و الأخذ به مستدلا ببناء العقلاء،و بأنه ثبت شرعا الاعتماد على أذان الثقة في دخول الوقت.

و الحق أن خبر الواحد ليس بشيء في الموضوعات إلا إذا كان سببا للاطمئنان و ركون النفس،و عليه يكون المعوّل على الاطمئنان.

صاحب اليد:
اشارة

إذا أخبر صاحب اليد كالزوجة و الخادم و ما إليهما بأن هذا نجس،هل يؤخذ بقوله؟

الجواب:

أجل،و الدليل سيرة الفقهاء،و بناء العقلاء.

النجس و المتنجس:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الجرح:كيف يصنع به صاحبه؟قال:يغسل ما حوله.

و سئل عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء،فمسح ذكره بحجر،و قد

ص:40

عرق ذكره و فخذه؟قال:يغسل ذكره و فخذه.

و سئل الإمام الكاظم عليه السّلام عن الرجل يمشي في العذرة،و هي يابسة، فتصيب ثوبه و رجليه:هل يصلح أن يدخل المسجد،فيصلي و لا يغسل ما أصابه؟ قال:ان كان يابسا فلا بأس.

و هناك روايات أخرى.

و النجس ما كانت نجاسته بالذات،بحيث لا يمكن زوالها بحال،مثل الكلب و الخنزير،و البول و الدم،لذا قيل:ما بالذات لا يتغير،أما المتنجس فطاهر بالذات،متنجس بالعرض،كاليد يصيبها الدم أو البول.

و اتفق الفقهاء ان الطاهر إذا سرت إليه النجاسة بمماسة للنجس يصير متنجسا.

و أيضا اتفقوا على تحريم أكل النجس و المتنجس و شربه تحريما نفسيا، و على وجوب تطهير الثوب و البدن من النجاسة لأجل الصلاة أو الطواف الواجب وجوبا غيريا.

ما يعفى عنه بالصلاة:

سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل تخرج منه القروح،فلا تزال تدمي،كيف يصلي؟ قال:يصلي،و ان كانت الدماء تسيل.

و قال:لا بأس بأن يصلي الرجل في ثوب فيه دم ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم.

لذا اتفق الفقهاء على أنه يعفى في الصلاة عن دم الجروح و الدمامل

ص:41

المنتشرة في الجسد،سواء أ كان الدم في الثوب أو البدن قليلا كان أو كثيرا،على شريطة بقاء الجرح و عدم برئه،و كذلك يعفى عن القيح المتنجس بالدم،و عما ينضح من البواسير.

و أيضا اتفقوا على العفو عن الدم الذي لا يزيد بمجموعه عن عقدة الإبهام العليا،و ان لم يكن في الجسم جروح و قروح،على شريطة أن لا يكون من دم الحيض،و لا الاستحاضة،و لا النفاس و لا من نجس العين كالكلب و الخنزير.

و الميتة،بل و لا من دم غير مأكول اللحم،و أيضا يشترط إذا كان هذا الدم في الثوب ان لا يقدر على غيره.

ما لا تتم به الصلاة:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل ما كان على الإنسان،أو معه مما لا تجوز-أي لا تتم-الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلي فيه،و ان كان فيه قذر،مثل القلنسوة و التكة و الكمرة و النعل،و ما أشبه ذلك.

و لذا اتفقوا على أن ما يحمله الإنسان مما لا يمكن ان يكون سائرا،و كان نجسا،تصح الصلاة فيه،على شريطة ان لا يكون من اجزاء الميتة،و لا من نجس العين كالكلب و الخنزير.

تطهير المساجد:

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:جنّبوا مساجدكم النجاسة.

اتفق الفقهاء على أن من رأى نجاسة في المسجد فعليه ان يزيلها وجوبا كفائيا.

ص:42

و أيضا تجب إزالة النجاسة عن المصحف و غلافه و ورقه،لأن بقاءها هتك لحرمات اللّه.

هل ينجس المتنجس؟
اشارة

سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يبول،و لا يكون عنده ماء،فيمسح ذكره بالحائط؟.

قال:«كل شيء يابس ذكي»أي لا ينجّس.

و سئل عن رجل يجد في إنائه فأرة،و قد توضأ من ذلك الماء مرارا،أو اغتسل أو غسل ثيابه،و قد كانت الفأرة متسلخة؟.فقال:«ان كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل،أو يتوضأ،أو يغسل ثيابه،ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه،و يغسل كل ما أصابه ذلك الماء،و يعيد الوضوء و الصلاة».

اتفق الفقهاء على أن النجس ينجس،و اختلفوا في المتنجس:هل ينجس أولا؟ و معنى الجملة الأولى،و هي النجس ينجس أنّه لو حصلت المماسة بين الطاهر كبدنك-مثلا-و بين نجس العين كالكلب،و كان على أحدهما رطوبة، و انتقلت هذه الرطوبة من الكلب إلى البدن تنجس البدن بالاتفاق.أمّا إذا حصلت المماسة بينهما،و كان كل منهما جافا،و لم تنتقل الرطوبة من النجس إلى الطاهر، فيبقى على طهارته بالاتفاق أيضا.

و معنى الجملة الثانية،و هي:هل ينجس المتنجس؟أنه لو افترض ان الجسم سرت إليه النجاسة من العين النجسة،و أصبح متنجسا قطعا،ثم أن هذا الجسم الذي صار متنجسا لو لاقى جسما آخر برطوبة فهل ينجس أيضا هذا

ص:43

الجسم الآخر،أو يبقى على طهارته؟و بكلمة إن الطاهر يتنجس إذا لاقى النجس مباشرة بلا ريب،و لكن هل يتنجس أيضا إذا لاقاه بالواسطة أو لا؟

و الفقهاء في ذلك على ثلاثة أنواع:
الأول:أفتى بأن المتنجس ينجّس

،و استدل فيما استدل بما نقلناه عن الامام:«يغسل كل ما أصابه ذلك الماء،و يعيد الوضوء و الصلاة».

الثاني:أفتى بالطهارة،و عدم التنجيس

،قال السيد الخوئي في الجزء الثاني من التنقيح:«ذهب الحلي و نظراؤه إلى عدم تنجيس المتنجسات،بل ظاهر كلامه أن عدم التنجيس كان من الأمور المسلمة في ذلك الزمان.أما العلماء المتقدمون فلم يتعرضوا لهذه المسألة إطلاقا،و لم يفت أحد منهم بتنجيس المتنجس،مع كثرة الابتلاء به في اليوم و الليلة،و معه كيف يدعى الإجماع على تنجيس المتنجسات؟».ثم قال السيد الخوئي:ان الآقا رضا الأصفهاني قال:

و الحكم بالتنجيس احداث الخلف و لم نجد قائله من السلف.

النوع الثالث:سكت عن هذه المسألة

،و لم يفت بها سلبا و لا إيجابا.

و نحن هنا نسكت عن الفتوى مع الساكتين،مع العلم أنّا نجتنب المتنجس، و نطهر ما لاقاه برطوبة بدافع العادة و التربية.

ص:44

طهارة البدن و الثوب لأجل الصلاة

من شروط الصلاة:

ذكرنا في فصل النجاسات الروايات الدالة على وجوب إزالة النجاسة، و قال صاحب المدارك:

«انما تجب إزالة النجاسة عن الثوب و البدن لأجل الصلاة و الطواف إذا كانا واجبين.و كانت النجاسة مما لا يعفى عنها،و لم يكن عنده غير الثوب النجس.

و يدل على اعتبار الطهارة في الثوب و الجسد لأجل الصلاة إجماع العلماء، و الاخبار المستفيضة المتضمنة للأمر بغسل الثوب و الجسد من النجاسات،إذ من المعلوم ان الغسل لا يجب لنفسه،و انما هو لأجل العبادة».

و نعلق على هذا بأن الصلاة كما أنها صلة بين اللّه و الإنسان فإنها في الوقت نفسه مقابلة إلهية سامية،و لا بد لهذه المقابلة من أهبه و استعداد و تمهيد بإخلاص النية،و أخذ الزينة بنظافة الجسم و الثوب،و المحافظة التامة على الموعد المحدد.

الصلاة بالنجاسة جاهلا:

سئل الإمام عن رجل يرى في ثوب أخيه دما،و هو يصلي؟قال:لا يؤذيه، حتى ينصرف.

ص:45

من رأى إنسانا يصلي،و على ثوبه أو بدنه نجاسة،فلا يجب عليه أن يعلمه بها و ينبهه إليها بالاتفاق،بل اتفقوا على أن للرائي أن يأثم جماعة بهذا المصلي إذا تأكد أنّه جاهل بالنجاسة،لا أنّه كان عالما،ثم ذهل و نسي.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان أصاب ثوب الرجل الدم،فصلى فيه و هو لا يعلم،فلا اعادة عليه،و ان هو علم قبل أن يصلي،فنسي و صلى فيه فعليه الإعادة.

من صلّى بالنجاسة عالما متعمدا بطلت صلاته بالاتفاق،و من صلّى بها جاهلا بالحكم عالما بالموضوع بطلت صلاته أيضا بالاتفاق،و مثاله أن يعلم بأن هذا دم،و يجهل بوجوب إزالته عن الثوب و البدن لأجل الصلاة.و من صلّى بالنجاسة عالما بالحكم جاهلا بالموضوع صحت صلاته بالاتفاق،و مثاله ان يعلم بوجوب ازالة الدم و نحوه عن البدن و الثوب من أجل الصلاة،و يجهل بأن على بدنه أو ثوبه نجاسة،فصلى بها،ثم علم.و من كان عالما بالحكم و الموضوع معا، ثم نسي و صلّى،فصلاته باطلة بالاتفاق،و مثاله أن يرى دما على ثوبه،و يعلم بحكمه و وجوب إزالته،ثم ذهل عنه،و صلّى.

و السر لهذا التفصيل ان الناسي أحد أفراد العالم،فلا يكون معذورا،و ان الجاهل بالموضوع معذور،و لا يجب عليه البحث و الفحص،أما الجاهل بالحكم فغير معذور،و يجب عليه البحث و التعلم الا أن يكون قاصرا لا أهلية و لا قابلية له للتعلم و التفهم،بحيث يكون عاجزا كالحيوانات (1).

ص:46


1- من غريب ما قرأته في هذا الباب ما جاء في كتاب الفروق للقرافي ج 4 الفرق 93 ما نصه بالحرف:«من أقدم مع الجهل فقد أثم خصوصا في الاعتقادات.و لو بذل جهده و استفرغ وسعه في رفع الجهل فإنه آثم كافر.و يخلد في النار على المشهور من المذاهب-أي مذاهب السنة-مع أنّه قد أوصل الاجتهاد حده،و صار الجهل له ضرورة لا يمكنه دفعه عن نفسه، و مع ذلك فلم يعذر،حتى صارت هذه الصورة فيما يعتقد أنّها من باب تكليف ما لا يطاق».
المضطر:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يجنب في الثوب،أو يصيبه بول،و ليس معه ثوب غيره؟قال:يصلي فيه إذا اضطر إليه.

و سئل ولده الإمام الكاظم عليه السّلام عن رجل عريان،و حضرت الصلاة، فأصاب ثوبا نصفه دم،أو كله دم،يصلي فيه،أو يصلي عريانا؟قال:ان وجد ماء غسله،و إن لم يجد ماء صلى فيه،و لم يصل عريانا.

إذا كان عند المصلي ثوب نجس لا يملك سواه،و لا يستطيع تطهيره،و لا نزعه من البرد،صلى فيه و صحت صلاته،و لا يجب عليه الإعادة لا قضاء و لا أداء إذا ارتفع العذر،كما هو ظاهر الرواية الأولى.

و إذا لم يستطع تطهيره،و لكنه يستطيع ان ينزعه،و يصلي عاريا،صلى بالنجس و صحت الصلاة،كما هو ظاهر الرواية الثانية،و على هذا صاحب عروة الوثقى،و السيد الحكيم،و السيد الخوئي.

اشتباه الطاهر بالنجس:

سئل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل معه ثوبان،فأصاب أحدهما بول،و لم ير أيهما هو،و حضرت الصلاة،و خاف فوتها،و ليس عنده ماء،كيف يصنع؟ قال:«يصلي فيهما جميعا».

أي يكرر الصلاة مرتين في كل واحد من الثوبين بالاتفاق،لأنه علم بوجوب الصلاة في الطهارة،و هو قادر على تأديتها بالاحتياط،فيجب أن يحتاط، لأن العلم بشغل الذمة يستدعي العلم بفراغها.

ص:47

هل يزيل النجاسة أو يتوضأ:
اشارة

إذا كان عنده من الماء بقدر ما يتوضأ به فقط،و كان على بدنه نجاسة،فهل يتوضأ و يصلي بالنجاسة،أو يزيل النجاسة،و يتيمم للصلاة؟

الجواب:

بل يزيل النجاسة،و يتيمم للصلاة،لأن للوضوء بدلا،و هو التيمم،و لا بدل لإزالة النجاسة.

ص:48

المطهرات

اشارة

المطهرات هي التي تطهر غيرها مع النجاسة،و هي على أنواع:

الماء:
اشارة

المطهر الأول الماء،و هو الأصل بضرورة الدين.

و يشترط للتطهير به زوال عين النجاسة أولا،و قبل كل شيء،و لا يضر بقاء لونها أو ريحها أو طعمها،حتى و لو قال العلم بأن بقاء شيء من هذه الأوصاف يدلّ على وجود ذرات من النجاسة،لأن المعول على العرف و تسامحه،لا على العلم و تجاربه.

و أيضا يشترط أن يكون الماء طاهرا لا متنجسا،لأن فاقد الشيء لا يعطيه، و ضمّ نجس إلى مثله لا يجعل المجموع طاهرا.و أيضا لا بد أن يكون الماء مطلقا لا مضافا،لأن المضاف،و ان كان طاهرا في نفسه،لكنه غير مطهر لغيره،كما أسلفنا.

التطهير من الكلب و الخنزير و الجرذ و البول:

سئل الإمام عليه السّلام عن خنزير يشرب من إناء؟قال:يغسل سبع مرات.

ص:49

و هذا متفق عليه بين الفقهاء.

و قال الإمام عليه السّلام:اغسل الإناء التي تصيب فيه الجرذ سبع مرات.

أيضا متفق عليه.

و قال عليه السّلام:الكلب رجس نجس لا يتوضأ بفضله،فاصبب ذلك الماء، و اغسله بالتراب أول مرة،ثم بالماء مرتين.

أيضا متفق عليه.

و سئل عن البول يصيب الجسد؟قال:صب عليه الماء مرتين.

أيضا متفق عليه.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن بول الصبي؟قال:تصب عليه الماء،فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلا،و الغلام و الجارية شرع سواء.

أيضا متفق عليه على شريطة أن لا يكون الرضيع قد أكل الطعام بعد،و ان يكون للمربية ثوب واحد.

تطهير الإناء و الثوب و البدن:

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:إذا أصاب ثوبك خمر،أو نبيذ فاغسله و سئل عن الإبريق و غيره يكون فيه خمر،أ يصلح أن يكون فيه ماء؟قال:

إذا غسل فلا بأس.

إذا تنجس الإناء بغير ولوغ الكلب و الخنزير،و موت الجرذ يطهر بمجرد ملاقاته للماء الكثير،أو بصب الماء عليه مرة واحدة.و كذلك الثوب و البدن إذا تنجسا بغير البول.و قلنا:مرة واحدة،لأن الإمام لم يقيد الغسل بالمرتين أو

ص:50

الثلاث.و جاء في بعض الروايات عن الإمام عليه السّلام:«اغسله ثلاث مرات».

و قال صاحب المدارك:«المعتمد الإجزاء بالمرة المزيلة للعين مطلقا،لأن الشارع أمر بغسل ما أصابته النجاسة،و الامتثال يتحقق بالمرة،أما إجماع الفقهاء على النجاسة فهو منتف بعد الغسلة الواحدة».

الغسالة:

الغسالة هي الماء المنفصل عن المحل المغسول،سواء انفصل بنفسه،أم بواسطة العصر،و حكمها النجاسة إذا كانت هي السبب في زوال العين النجسة، و إلا فطاهرة.

التخلي:

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:«إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة،و لا تستدبرها،و لكن شرقوا و غربوا».

و عن الإمام الباقر عليه السّلام والد الإمام الصادق عليه السّلام:يجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار،بذلك جرت السنة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،أما البول فلا بد من غسله.

و عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يستنجي الرجل بيمينه.

و عنه أيضا:«إذا اغتسل أحدكم في فضاء الأرض،فليحاذر على عورته، و لا يدخل أحدكم الحمام إلا بمئزر،و لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه،و من تأملها لعنه سبعون ألف ملك،و لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة».

يجب ستر العورة عن الناظر المحترم في حال التخلي و غيره،كما يحرم

ص:51

النظر إلى عورة الغير مماثلا كان أو غير مماثل،مسلما كان أو غير مسلم،حتى المرأة يحرم عليها أن تنظر عورة ابنتها المميزة.

و يجب أن يعظم القبلة،فلا يستقبلها و لا يستدبرها ببول أو غائط،و يكره أن يستنجي بيمينه تنزيها لها عن مباشرة الأقذار،لأنه يباشر بها الأكل و ما إليه.

الماء المستعمل في تطهير محل البول و الغائط يسمى بالاستنجاء،و هو طاهر على شريطة أن لا يتغير بالنجاسة،و لا تصل إليه نجاسة من الخارج،و ان لا تتعدى النجاسة المخرج تعديا فاحشا،و ان لا يخرج مع البول،أو الغائط دم،و ان لا يكون مع الماء اجزاء من الغائط.

و إذا مسح مخرج الغائط بأحجار ثلاثة طاهرة،كفاه هذا المسح عن الماء، و كذا تكفي الخرق و الورق و الخزف و الأعواد،و غيرها من الأجسام المزيلة للنجاسة،على شريطة أن لا تكون من المأكولات المحترمة.

أما موضع البول و مخرجه فلا يطهر إلا بالماء كما مر.

الأرض:

المطهر الثاني الأرض،فعن الحلبي أنّه قال:قلت للإمام الصادق عليه السّلام:ان طريقي إلى المسجد زقاق يبال فيه،فربما مررت فيه،و ليس عليّ حذاء،فيلصق برجلي من نداوته؟فقال:أ ليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟قلت:بلى.

قال:لا بأس،ان الأرض يطهر بعضها بعضا.

و لذا اتفق الفقهاء على أن الأرض تطهر باطن القدم،و النعل فقط بالمشي عليها،أو بالمسح بها،على شريطة أن تزول عين النجاسة.

ص:52

الشمس:

المطهر الثالث الشمس،قال الإمام الباقر والد الإمام الصادق عليهما السّلام:كل ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر.

و في رواية أخرى:إذا جففته الشمس،فصل عليه،فإنه طاهر.

و استنادا إلى هاتين الروايتين و غيرهما قال الفقهاء:ان الشمس تطهر الأبنية،و ما إليها من الأشياء الثابتة،كأبواب البيوت و أخشابها،و الأوتار و الأشجار،و ثمارها ما دامت على الشجر،و النبات،و ما عليه من خضار قبل اقتلاعه من الأرض،و كذلك الظروف المثبتة في الأرض،كالخوابي،و ألحقوا بها الحصر و السفن.

الانقلاب:

الرابع من المطهرات الانقلاب،كالخمر ينقلب خلا،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الخمر العتيقة تجعل خلا؟قال:لا بأس.إذا تحول اسم الخمر فلا بأس به.

الاستحالة:
اشارة

المطهر الخامس الاستحالة،كالعذرة تستحيل ترابا أو رمادا،فتطهر بالاتفاق،لتغير الموضوع.

جسد الحيوان:
اشارة

قال الفقهاء:إذا أصاب جسد الحيوان نجاسة،فإنه يطهر بمجرد زوالها

ص:53

عنه،بدون آية حاجة إلى الماء،أو غير الماء.

و قال السيد الحكيم في المستمسك:«و العمدة فيه السيرة القطعية على مباشرة الحيوانات المعلوم تلوثها بالنجاسة،مع العلم بعدم ورود المطهر عليها، و كأنه لوضوح الحكم لم يقع موردا للسؤال من المسلمين،و للبيان من المعصومين عليهم السّلام».

و معنى هذا الكلام ان الحيوان إذا أصاب الميتة أو العذرة،أو ما إليها من النجاسات،ثم زالت عنه بغير التطهير بالماء.فانّا نعلم علم اليقين ان الفقهاء و الناس أجمعين يباشرون هذا الحيوان بدون تحفظ،و ما ذاك إلاّ لأنّه طاهر عندهم بالبديهة،و من أجل أن الطهارة في عقيدتهم من الواضحات لم يسأل سائل الإمام عنها،كما أن الإمام لم يبنها للناس من تلقائه.

الدباغ:

جلد الميتة لا يطهر بالدباغ بالاتفاق.

هذا ملخص لأهم المطهرات،أو جلها،و قد ذكر السيد صاحب العروة الوثقى أشياء أخرى يمكن النقاش فيها،أو في عدها من المطهرات،مثل غيبة المسلم المطهرة لبدنه و ثوبه و أدواته،و ذهاب ثلثي العصير العنبي،و التبعية،و ما إلى ذاك.

ص:54

الوضوء

اشارة

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (1).

و قال الإمام الباقر والد الإمام الصادق عليهما السّلام:«لا صلاة إلاّ بطهور».و قال:

«الوضوء فريضة».

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:«افتتاح الصلاة الوضوء، و تحريمها التكبير،و تحليلها التسليم».

و قال الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام:«انما بدئ بالوضوء ليكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه،مطيعا له فيما امره،نقيا من الأدناس و النجاسة مع ما فيه من ذهاب الكسل و طرد النعاس،و تزكية الفؤاد،ثم قال:و انما جوزنا الصلاة على الميت بغير وضوء،لأنّه ليس فيها ركوع و سجود، و انما يجب الوضوء في الصلاة التي فيها ركوع و سجود».

ص:55


1- المائدة:6. [1]
أسباب الوضوء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يوجب الوضوء إلا من غائط،أو بول،أو ريح تسمع صوته،أو تشم ريحه.

و قال:قد تنام العين،و لا ينام القلب و الأذن،فإذا نامت العين و الأذن و القلب وجب الوضوء.

و في رواية ثالثة أنه قال:ينقض الوضوء الغائط و البول و الريح و المني و النوم حتى يذهب العقل.

و في رواية رابعة:«لا ينقض الوضوء إلاّ حدث و نوم».و ليس من شك ان الجنابة و الحيض و الاستحاضة و النفاس من الأحداث.

و بالإجمال ان هذه الروايات و غيرها تدل على أن الوضوء يجب من الغائط و البول و الريح و الجنابة و الحيض و الاستحاضة و النفاس و النوم الغالب على السمع و العقل،أمّا زوال العقل بالسكر و الجنون و الإغماء فيوجب الوضوء بالإجماع،لا بالنص.و بعد ان نقل صاحب الوسائل أحاديث نواقض الوضوء قال:

«و أحاديث حصر النواقض تدل على عدم نقض الوضوء بزوال العقل،و لكنه موافق للاحتياط».

و نواقض الوضوء هي نفس الأسباب الموجبة له،لأنّها تبطله و تفسده.

و مما قدمنا يتبين معنا أن خروج الدود و الحصى و الدم و المذي و الودي و القيء و القبلة و اللمس،كل ذلك،و ما إليه لا يوجب الوضوء،و لا يفسده.

و بديهة أن الوضوء لا يصح إلاّ مع الإسلام و البلوغ و العقل و عدم الضرر، و قيل:يصح من الصبي المميز بناء على صحة عبادته،و يأتي الكلام عنها.

ص:56

الشك و التردد:

من كان على يقين من وضوئه،ثم شك:هل صدر منه ما يوجب نقضه و فساده،أو لا؟يبقى على يقينه،و لا يجب أن يتوضأ ثانية،لقول الإمام عليه السّلام:«انه على يقين من وضوئه،و لا ينقض اليقين أبدا بالشك،بل ينقضه بيقين مثله».

غايات الوضوء:

ان العبادة التي من أجلها يتوضأ الإنسان تسمى غاية الوضوء،و هي ما يلي:

1-يجب الوضوء للصلاة واجبة كانت أو مستحبة،أي لا تصح الصلاة بدونه إجماعا،و نصا.و هو قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .إلخ،و قول الإمام:«لا صلاة إلاّ بطهور».

2-الطواف أيضا إجماعا و نصا،و هو حديث:«الطواف في البيت صلاة»، و روى علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم بن الإمام الصادق عليهما السّلام:«عن رجل طاف في البيت،ثم ذكر أنّه على غير وضوء؟فقال:يقطع طوافه،و لا يعتد به».

3-مس كتابة القرآن،فلقد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام:أنه قال لولده إسماعيل:«يا بني اقرأ المصحف.فقال:اني لست على وضوء.قال:لا تمس الكتابة،و مس الورقة و اقرأ».

و تجدر الإشارة هنا إلى أن مس كتابة القرآن ليس من غايات الوضوء حقيقة،بل تسامحا،ذلك ان هذا المس ليس واجبا و لا مستحبا.و إذا لم يكن كذلك،فبالأولى ان لا يكون الوضوء من أجله واجبا أو مستحبا،لأن الوسيلة لا تجب دون الغاية،و التابع لا يزيد على المتبوع،و على هذا يكون الوضوء لأجل المس غير مشروع البتة.

ص:57

اذن،المراد ان من كان على غير وضوء يحرم عليه أن يمس كتابة القرآن، و من كان متوضئا لغاية أخرى جاز له أن يمس الكتابة المقدّسة.

4-يجب الوضوء لإقامة الصلاة تماما كما يجب للصلاة نفسها إجماعا و نصا،و هو قول الإمام عليه السّلام:«لا بأس أن تؤذن،و أنت على غير طهور،و لا تقيم -أي للصلاة-إلاّ و أنت على وضوء».

و ذكرنا في أوّل هذا الفصل ما جاء على لسان الإمام الرضا عليه السّلام من أن صلاة الجنازة لا يجب الوضوء لها،إذ لا ركوع فيها،و لا سجود،فليست هي بصلاة حقيقة،بل دعاء للميت.

ص:58

استحباب الوضوء

جاء في كتاب وسائل الشيعة عن الشيخ المفيد ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:«يا أنس،أكثر من الطهور يزد اللّه في عمرك،و ان استطعت أن تكون في الليل و النهار على طهارة فافعل،فأنت تكون إذا متّ على طهارة شهيدا».

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«من أحدث و لم يتوضأ،فقد جفاني».

و عن الإمام الصادق عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قال اللّه تبارك و تعالى:«ان بيوتي في الأرض المساجد،تضيء لأهل السماء،كما تضيء النجوم لأهل الأرض،ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته،ألا طوبى لعبد توضأ في بيته،ثم زارني في بيتي».

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:الوضوء شطر الإيمان.

و تدل هذه الروايات،و ما إليها أن الوضوء كما يكون وسيلة إلى غيره،فإنّه أيضا غاية في نفسه،و راجح بطبيعته،و ان للإنسان أن يتوضأ لا لشيء إلاّ ليكون على طهارة في أي جزء من أجزاء الليل أو النهار.

و على هذا يكون الوضوء واجبا لغيره كالصلوات الخمس،و الطواف الواجب،و للنذر،و يكون مستحبا في نفسه،و لغيره كالصلوات المستحبة، و الطواف المستحب.و قال الفقهاء:يستحب أيضا للتهيّؤ للصلاة قبل دخول

ص:59

ص:60

شروط الوضوء و كيفيته
شروط الوضوء:

قال الإمام عليه السّلام:فرض اللّه تعالى الوضوء بالماء الطاهر.

و سئل عن رجل رعف،و هو يتوضأ،فتقطر قطرة في إنائه:هل يصلح الوضوء منه؟قال:لا.

و تقدم أنّه أمر بإراقة الإناءين اللذين وقعت النجاسة في أحدهما المردد، و وجوب التيمم.

يشترط في الماء الذي تتوضأ به أن يكون مطلقا و طاهرا،فإذا توضأت بأحدهما جهلا أو نسيانا بطل الوضوء.

و أيضا يشترط فيه ان يكون مباحا غير مغصوب،لأن التصرف بالمغصوب منهي عنه في الشريعة،و النهي في العبادة يدل على الفساد.و لكن إذا توضأ بالمغصوب جهلا أو نسيانا صح،و الفرق بين الغصب من جهة،و الإطلاق و النجاسة من جهة،هو الإجماع.

و أيضا يشترط أن تكون أعضاء الوضوء طاهرة،كي لا يتنجس الماء بمماسته للنجاسة.

و أيضا يشترط أن لا يكون الماء في آنية الذهب أو الفضة،و ان لا يكون

ص:61

مستعملا في رفع الخبث،و ان لا يمنعه الشرع من الوضوء،لضرر يلحقه من استعمال الماء،أو لوجوب صرفه فيما هو أهم على التفصيل الآتي في فصل التيمم.

و أيضا يشترط في صحة الوضوء أن يكون في الوقت فسحة تتسع له و للصلاة معا،بحيث إذا توضأ أمكنه أن يصلي الصلاة المطلوبة في وقتها المحدد، أما لو افترض ضيق الوقت،بحيث إذا توضأ وقعت الصلاة أو جزء منها خارج الوقت،و إذا تيمم وقعت الصلاة بكاملها داخل الوقت،وجب التيمم دون الوضوء،و ان توضأ،و الحال هذه،بطل.

و أيضا يشترط أن يباشر المتوضئ أفعال الوضوء بنفسه،و لا يستعين بأحد إلاّ عند العجز و الضرورة،لأن آية الوضوء و أحاديثه قد أمرت بغسل الوجه و اليدين،و مسح الرأس و الرجلين،و الأمر ظاهر بوجوب المباشرة،و ممارسة العمل بلا واسطة.

و أيضا يجب الترتيب بين أعضاء الوضوء،فيبدأ أولا بغسل الوجه،ثم اليد اليمنى،ثم اليد اليسرى،ثم بمسح الرأس،ثم الرجلين،فإذا أخل،و قدم المؤخر، أو أخر المقدم،جهلا أو نسيانا،أعاد الوضوء إلى أصله و وضعه الشرعي.

و أيضا تجب الفورية،بمعنى أن يباشر بالعضو اللاحق بعد الانتهاء من السابق فورا،و بلا فاصل.و هذه الفورية،هي المعبر عنها في لسان الفقهاء بالموالاة.و قالوا:يشترط فيها أن لا تجف الرطوبة عن أي عضو من أعضاء الوضوء قبل الانتهاء من المجموع،فلو جف الوجه قبل الشروع باليمنى،أو جفت اليمنى قبل الشروع باليسرى،أو جفت اليسرى قبل مسح الرأس،أو جف شيء من ذلك قبل المسح على القدمين،بطل الوضوء.

ص:62

و تجدر الإشارة إلى أن الجفاف المبطل للوضوء هو الجفاف الناشئ من الفصل الطويل بين عضو و عضو،فلو فرض أن الجفاف قد نشأ من الحرارة في بدن المتوضئ،أو من الهواء،و ما إليه لم يكن في ذلك بأس.

و في جميع هذه الشروط التي ذكرناها روايات عن أهل البيت عليهم السّلام معززة بإجماع الفقهاء.

كيفية الوضوء:
اشارة

قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقلنا:بلى.«فدعا بقعب فيه شيء من ماء،و وضعه بين يديه،ثم حسر عن ذراعيه،و غمس فيه كفه اليمنى،و قال:هكذا إذا كانت الكف طاهرة،ثم غرف ملأها ماء،فوضعها على جبهته،و قال: بسم اللّه ،و سدله على أطراف لحيته،ثم أمرّ يده على وجهه،و ظاهر جبينه مرّة واحدة،ثم غمس يده اليسرى،فغرف بها ملأها،و وضعه على مرفقه اليمنى،فأمرّ كفه على ساعده،حتى جرى على أطراف أصابعه،ثم غرف بيمينه ملأها،و وضعه على مرفقه اليسرى،فأمرّ كفه على ساعده،حتى جرى الماء على أطراف أصابعه،و مسح مقدم رأسه،و ظهر قدميه،ببلة يساره،و بقية بلة يمناه».

و قال:«ان اللّه وتر يحب الوتر،فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات:

واحدة للوجه،و اثنتان للذراعين،وضّح ببلة يمناك ناصيتك،و ما بقي من بلة يمناك ظهر قدمك اليمنى،و تمسح ببلة يسراك ظهر قدمك اليسرى».

للوضوء واجبات لا يتحقق،و لا يعتد به شرعا إلا بها،و مستحبات لا يجب فعلها،و لا ينكر على من تركها،و تهمنا الأولى قبل كل شيء،و هي ما يلي

ص:63

1-النية،و حقيقتها الدافع و الباعث على العمل ابتغاء مرضاة اللّه،و امتثال امره،و أي دافع آخر،و الدليل على وجوبها ان الوضوء عبادة،تماما كالصوم و الصلاة،و لا عبادة بلا نية إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1)و قوله فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2).و ليس من شك أن الوضوء من الدين،فوجب ان لا يصح و لا يقبل بدون نية الإخلاص.

و بما أن الباعث و الإخلاص من عمل القلب فقط فلا يجب التلفظ بالنية، و لا قصد الوجوب أو الاستحباب،و لا قصد رفع الحدث أو استباحة الدخول في الصلاة،لا يجب شيء من ذلك،و لا من غيره إلاّ وجه اللّه و كفى.

و لو توضأ انسان لوجه اللّه تعالى،و لكن في الوقت نفسه أعجبه أن يراه الناس محسنا للوضوء فعّالا للخير،صح الوضوء بالاتفاق،لأن مثل هذا يجتمع مع فعل الخير لوجه الخير،و لقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل يعمل الشيء من الخير،فيراه انسان،فيسره ذلك؟قال:«لا بأس.ما من أحد إلاّ و هو يحب أن يظهر له في الناس الخير،إذا لم يصنع ذلك لذلك».أي لم يفعل من أجل الناس فقط.و بكلمة أن عمله من أجل الناس،لا من أجل اللّه شيء،و سروره بأن يكون من أهل الخير عند اللّه و الناس شيء آخر.

و لو شك في أنّه نوى الوضوء،أو لا؟فان كان لم يزل يتوضأ استأنف من جديد،و ان كان قد انتهى منه مضى،و لم يلتفت.

2-غسل الوجه مرّة واحدة،أي إسالة الماء عليه وحده،من منابت شعر الرأس إلى اللحيين طولا،و ما دارت عليه الإبهام و الوسطى عرضا،أي من الأذن

ص:64


1- غافر:14. [1]
2- البينة:5. [2]

إلى الأذن.

و ذهب أكثر الفقهاء إلى وجوب الابتداء في غسل الوجه من أعلاه،فلو ابتدأ من الأسفل أو الوسط لم يصح،و هذا ما قالوه بالحرف:«يجب أن يغسل من أعلى الوجه الى الذقن،و إذا غسل منكوسا لم يجز».

و يلاحظ بأن الأمر بغسل الوجه مطلق،و لا نصّ على وجوب الابتداء بالأعلى،فيحصل الامتثال بالغسل كيف اتفق،أما ابتداء الامام بالأعلى فغاية ما يدل عليه الجواز و المشروعية،لا الحصر و التعيين.

و مهما يكن،فلا يجب غسل ما تحت اللحية،و لا ما طال من شعرها،أو من شعر الشارب و الحاجب،و غير بعيد أن يكون السر لعدم وجوب إيصال الماء إلى البشرة مع كثافة اللحية،هو أن البشرة،و الحال هذه،تصير من البواطن،لا من الظواهر،و ربما أومأ إلى هذا قول الإمام الباقر عليه السّلام:«كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه،و لا أن يبحثوا عنه،و لكن يجري عليه الماء».

3-غسل اليدين مرّة واحدة،مقدما اليمنى على اليسرى وجوبا،و حدّهما من أطراف الأصابع إلى المرفقين،و المرفق هو المفصل بين العضد و الساعد، و يدخل فيما يجب غسله،و تجدر الإشارة هنا إلى أن الشيعة أوجبوا ابتداء الغسل من المرفق،و أبطلوا النكس،أي الابتداء من أطراف الأصابع،أمّا السنة بمذاهبهم الأربعة،فقد أجازوا الغسل كيف اتفق،و لم يوجبوا البداية من المرفق،و لا من الأصابع.

و على هذا يرد على الشيعة بأن اللّه سبحانه قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ و ظاهر الآية الانتهاء إلى المرفق،لا الابتداء به،و لا أقل من جواز الأمرين،فمن أين-اذن-جاء التعيين؟

ص:65

و أجاب عن هذا من أجاب بأن«إلى»هنا ليست للانتهاء،لأنّها لا تدل عليه إلاّ إذا وجدت«من»الدالة على الابتداء في الطرف الآخر،كقولك:سرت من البيت إلى السوق،و المفروض عدم وجود«من»في الآية الكريمة،فلا بد أن تكون«إلى»بمعنى مع،أي اغسلوا المرافق مع أيديكم.

و نحن لا نشك أن هذا لعب بالألفاظ،و كلام لا محصل له.و الصحيح أن «إلى»باقيه على ظاهرها،و أنّها تدل على الانتهاء،و لو لم تكن«من»الطرف الآخر،و انها تحديد للعضو المغسول،و هو اليد،لا تحديد للغسل،و لو كانت لتحديد الغسل لوجب تعيين الابتداء من الأصابع،و لا قائل به،حتى السنة،فإنهم ذهبوا جميعا إلى التخيير بين البداية من المرفق،أو من أطراف الأصابع.

و هنا سؤال يفرض نفسه،و هو إذا كانت«إلى»في الآية تحديدا للمغسول لا للغسل،و ان الذي دلت عليه الآية هو وجوب غسل هذا العضو الخاص كيف اتفق،فعلى أي شيء استند الشيعة لوجوب الابتداء من المرفق؟و بكلمة أن الاشكال السابق يبقى قائما ما دامت الآية لا تدل على وجوب البداية من الأصابع، و لا من المرفق.

الجواب:

أجل،ان الآية أجنبية عن ذلك.و لكن الشيعة قد استندوا إلى دليل آخر لوجوب البداية من المرفق،و هو الإجماع،و روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

مرة واحدة:
اشارة

و أوجبنا في كل من غسل الوجه و اليدين مرّة واحدة لقول الإمام الصادق عليه السّلام:

«الوضوء واحدة فرض،و اثنتان لا يؤجر،و الثالثة بدعة»،أي أن من يأتي بالثالثة

ص:66

بقصد أنّها من الوضوء فقد شرّع و أبدع،و كل بدعة ضلالة،و كل ضلالة في النار، و من يأتي بها دون هذا القصد فلا اثم عليه،و لكن يبطل وضوءه،و لا يسوغ له أن يمسح ببلة الثالثة رأسه و قدميه.

4-مسح الرأس،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«مسح الرأس على مقدّمه».

و قال:«لا بأس بمسح الوضوء مقبلا و مدبرا»أي منكوسا و غير منكوس.

و قال:«ان نسيت مسح رأسك فامسح عليه و على رجليك من بلة وضوءك،فإن لم يكن بقي في يديك من نداوة وضوءك شيء،فخذ ما بقي في لحيتك،و امسح به رأسك،و رجليك،و ان لم يكن لك لحية فخذ من حاجبك و أشفار عينيك، و امسح به رأسك،و رجليك،فان لم يبق من بلة وضوءك شيء أعدت الوضوء».

و سئل عن الرجل يمسح رأسه بإصبعه أ يجزيه ذلك؟قال:نعم.

و لخّص الفقهاء هذه الروايات،و ما إليها بقولهم:يكفي من مسح الرأس ما يسمى به مسحا،و المندوب مقدار ثلاث أصابع عرضا،و يختص المسح بمقدم الرأس،و يجب أن يكون بنداوة الوضوء،لا بماء جديد،و لو جف ما على يديه، أخذ من لحيته و أشفار عينيه،فإن لم يبق أعاد،و يجوز المسح منكوسا.

5-مسح الرجلين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين،و هما قبتا القدم،أي العظمان الناتئان في وسطه،و الأفضل المسح إلى حد الساق المتصل بظهر القدم على النحو الشائع المعروف.

و الذي ثبت هنا بالنص و الإجماع هو ما ثبت في مسح الرأس من الاكتفاء بالأصابع إلى الكعبين،أو العكس.و بكلمة أن الشيعة يوجبون الابتداء من الأعلى في الغسل دون المسح،و الفرق أخبار أهل البيت عليهم السّلام و الأفضل البداية من الأعلى ،و مسح ظاهر قدم اليمنى بباطن اليد اليمنى،و ظاهر قدم اليسرى بباطن اليد

ص:67

اليسرى،و يجوز مسحهما معا و دفعة واحدة،و لا يجوز تقديم اليسرى على اليمنى.

بين الشيعة و السنة:

و هنا خلاف معروف بين الشيعة و السنة في تفسير الآية 6 من سورة المائدة:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .

و الخلاف حصل في الأرجل هل يجب غسلها،أو مسحها؟و قد وردت فيهما قراءتان:إحداهما النصب،و الأخرى الخفض.

قال السنة:يجب غسل الأرجل،لأنها معطوفة على الأيدي،على القراءتين.

أمّا على قراءة النصب فواضح،إذ الأيدي منصوبة لفظا و محلا،و أمّا على قراءة الجر فللجوار و الاتباع،أي أن الرؤوس مجرورة،و الأرجل مجاورة لها،فجرت لعلاقة المجاورة،تماما كقول العرب:«حجر ضب خرب»مع العلم بأن خرب يجب رفعه،لأنّه صفة للحجر،لا للضب،و لكنه خفض لمجاورته للضب.

و قال الشيعة:يجب مسح الأرجل،لأنها معطوفة على الرؤوس،أمّا على قراءة الجر فواضح،إذ الرؤوس مجرورة بالباء،و أمّا على قراءة النصب فمعطوفة على محل الرؤوس،لأن كل مجرور لفظا منصوب محلا.

ثم قال الشيعة:ان العطف على الأيدي لا يجوز لأمرين:

الأول:انّه خلاف البلاغة،لوجود الفاصل بين الأيدي و الأرجل،و هو قوله تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ و لو كانت الأرجل معطوفة على الأيدي لقال:

«و أيديكم إلى المرافق و أرجلكم إلى الكعبين»،و لم يفصل بين الأيدي و الأرجل بالمسح.

ص:68

الثاني:ان العطف على الأيدي يستدعي أن يكون لكل قراءة معنى مغاير للآخر،إذ يكون المعنى على قراءة النصب الغسل،و على قراءة الجر المسح.

و هذا بخلاف العطف على الرؤوس فان المعنى يكون واحدا على كلتا القراءتين، هذا،إلى أن الجر للجوار و الاتباع رديء لم يرد في كلام اللّه إطلاقا.

سنن الوضوء:

ذكر الفقهاء سننا للوضوء استنادا إلى روايات أهل البيت عليهم السّلام،منها التسمية و قراءة الدعاء المأثور،و السواك،و المضمضة ثلاثا،و الاستنشاق ثلاثا،و ان يبدأ الرجل بظاهر اليد في الغسل،و المرأة بالباطن،إلى غير ذلك مما جاء في كتب الفقه فليراجعها من أراد.

ص:69

ص:70

أحكام الوضوء
قاعدة الفراغ،و قاعدة التجاوز:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا شككت في شيء من الوضوء،و قد دخلت في غيره-أي في غير الوضوء-فشكك ليس بشيء إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه.

و سئل عن الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال:هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك.

و قال زرارة:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل شك في الأذان،و قد دخل في الإقامة؟ قال:يمضي.

قلت:شك في الأذان و الإقامة،و قد كبّر؟ قال:يمضي.

قلت:شك في التكبير،و قد قرأ؟ قال:يمضي.

قلت:شك في القراءة،و قد ركع؟ قال:يمضي.

ص:71

قلت:شك في الركوع،و قد سجد؟ قال:يمضي على صلاته،يا زرارة إذا خرجت من شيء،ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء.

ان في الفقه قواعد عامة استخرجها الفقهاء من النصوص الشرعية،أو من أصول الفقه اللفظية،أو من المقررات العقلية،و قد استنبطوا من النص المتقدم قاعدتين،أطلقوا على إحداهما قاعدة الفراغ،و على الثانية قاعدة التجاوز.

و كل من القاعدتين موردها الشك،و الفرق بينهما أن مورد قاعدة الفراغ الشك في صحة العمل بعد الفراغ منه،و الدخول في شيء آخر،كما لو شك الإنسان في صحة الوضوء بعد أن باشر بالصلاة،أو في صحة الصلاة بعد أن انتهى منها،و صرف النظر،أو في صحة الصيام بعد انتهاء رمضان،أو صحة الحج بعد الفراغ منه،أو عقد البيع أو الإجارة أو غيرها بعد إجرائه.و قاعدة الفراغ مسلمة عند الكل،معمول بها في جميع أبواب الفقه،و في أي عمل من الأعمال دون استثناء لوضوء أو غسل أو تيمم أو غير ذلك.

أمّا قاعدة التجاوز فيختص موردها بالشك في جزء من أجزاء العمل حين المباشرة،و قبل الانتهاء من مجموع العمل،كما لو شك في أنّه هل غسل ذراعيه، و هو ما زال قاعدا على وضوئه،أو شك في أنّه قرأ السورة أولا،و هو بعد في الصلاة و قبل أن يسلم.

و اتفق الفقهاء قولا واحدا على أن قاعدة التجاوز تجري في الصلاة عملا بخبر زرارة المتقدم«شك في التكبير و قد قرأ.إلخ».

و أيضا اتفقوا قولا واحدا على أنّها لا تجري في الوضوء عملا بما تقدم، و بقول الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:«إذا كنت قاعدا على وضوئك،فلم تدر اغسلت

ص:72

ذراعيك أم لا؟فأعد عليهما،و على جميع ما شككت فيه».

و اختلفوا في قاعدة التجاوز:هل تجري في الغسل و التيمم أو لا؟ و لهم في ذلك قولان:أحدهما أنّها لا تجري فيهما،تماما كالوضوء، و بكلمة أن قاعدة التجاوز لا تجري إطلاقا في الطهارات الثلاث:الوضوء،و الغسل، و التيمم.

القول الثاني أنّها تجري في الغسل و التيمم،و يختص عدم العمل بها بالوضوء فقط،و نحن على هذا القول،أخذا بعموم«كل شيء شك فيه مما جاوزه،و دخل في غيره فليمض عليه»الشامل للشك في جزء العمل،و لصحة العمل بمجموعه،خرج الوضوء بالنص،فيبقى غيره مشمولا للعموم.

الشك و التردد:
اشارة

إذا كان على يقين من الوضوء،و بعد أمد شك في أنّه هل أحدث أو لا؟بنى على بقاء الوضوء إجماعا و نصا،و هو قول الإمام عليه السّلام:«ليس لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا».

و إذا شك في أنّه هل توضأ أو لا؟بنى على بقاء الحدث و عدم الوضوء، لنفس الدليل.

و لو افترض أنه بعد أن شك في الوضوء،و لم يتوضأ،ذهل عن نفسه و صلى،كانت صلاته فاسدة،لأنّها من غير وضوء.

و إذا لم يشك أبدا قبل الصلاة لا في الوضوء،و لا في الحدث،ثم صلى، و بعد أن أدى الصلاة حصل له الشك في ان صلاته هذه هل كانت على وضوء،أو لا؟فصلاته صحيحة لقاعدة الفراغ،و لكن عليه أن يتوضأ للصلاة الثانية،لأن

ص:73

الأصل بقاء الحدث و عدم الوضوء.

و ربّ قائل:كيف أمكن الجمع بين الحكم بصحة الصلاة،و بين الحكم بعدم الوضوء،مع العلم بأنه لا صلاة إلا بطهور،و أن صحة الصلاة تستدعي وجود الوضوء،كما أن عدم الوضوء يستدعي فساد الصلاة؟ و جوابنا على هذا أن التنافي و التضاد انما يحصل إذا توارد الإيجاب و السلب على موضوع واحد،أمّا مع تعدد الموضوع فلا.و موضوع قاعدة الفراغ هنا هو الشك في صحة الصلاة،و موضوع أصل الاستصحاب هو الشك في صدور الوضوء،و إذا اختلف الموضوع ارتفع التنافي.

هذا،إلى أنّا لم نحكم بصحة الصلاة و عدم الوضوء في الواقع،بل بحسب الظاهر فقط،و التفكيك بين الأحكام الظاهرية،أو بين آثارها غير عزيز-كما قيل.

و إذا علم أنّه قد توضأ قطعا،و أنّه قد أحدث قطعا،و لكنه لم يدر:هل كان الوضوء متأخرا،كي يكون الآن على وضوء،أو كان الحدث متأخرا عن الوضوء، كي يكون محدثا،فما ذا يصنع؟

الجواب:

قال أكثر الفقهاء،و خصوصا المتقدمين منهم:انّه في حكم المحدث،و ان عليه أن يتوضأ إذا أراد الصلاة-كما نقل صاحب المدارك-لأن اللّه سبحانه قد أمر بالوضوء،و لا بد من امتثال امره،و إحراز الوضوء،إمّا بالوجدان،و امّا باستصحاب الوضوء السالم عن معارضة استصحاب الحدث،و هنا يقينان أحدهما بالوضوء و الثاني بالحدث،فاستصحاب كل معارض باستصحاب الآخر،فيتساقطان،و إذا لم يثبت الوضوء بالأصل،و لا بالوجدان،كما هو المفروض،يكون هذا الشاك بحكم المحدث.

ص:74

كثرة الشك:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يشك كثيرا في صلاته فقال فيما قال:«ان الشيطان خبيث معتاد لما عوّد،فليمض أحدكم في الوهم»أي لا يعتني بالوهم و الشك.و هو عام للشك في الصلاة و غيرها.و الأحاديث كثيرة عن النبي و أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم«ان كثرة الشك من الشيطان».هذا،إلى أن العناية بكثرة الشك مشقة و حرج،و لا حرج في الشريعة.

و من هنا جاءت القاعدة الفقهية المعروفة:«لا شك لكثير الشك».و عليها إذا شك من يكثر شكه في جزء من أفعال الوضوء،و هو يتوضأ يمضي،و لا يلتفت.

ص:75

ص:76

الجبائر
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل ينكسر ساعده،أو موضع من مواضع الوضوء،فلا يقدر أن يحله لحال الجبر،كيف يصنع؟قال:إذا أراد أن يتوضأ، فليضع إناء فيه ماء،و يضع موضع الجبر في الماء،حتى يصل الماء إلى جلده، و قد أجزأه ذلك من غير أن يحله.

و سئل عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه،أو نحو ذلك من موضع الوضوء،فيعصبها بالخرقة،و يتوضأ و يمسح عليها إذا توضأ،فقال:إذا كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة،و ان كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة،ثم يغسلها-أي القرحة.

و سأله هذا الراوي عن الجرح:كيف يصنع به في غسله؟فقال له:اغسل ما حوله.

الجبيرة في عرف الناس رباط يشد على العظم المكسور،و عند الفقهاء ما يوضع على العضو المريض مكسورا كان،أو غير مكسور.

و جواز المسح على الجبيرة و عدمه يرتبط بخوف الضرر و عدمه،فإذا لم يخف الضرر من نزعها،نزعها عن الجرح،و غسل العضو ان كان واجب الغسل، و مسحه ان كان واجب المسح.و إذا خاف الضرر من نزعها وجب المسح عليها،

ص:77

على شريطة ان لا يتجاوز الرباط موضع الداء إلاّ بقدر الاستمساك على العضو،ثم يغسل أو يمسح بقية الأجزاء.و يتفرع على ذلك ما يلي:

1-إذا كانت الجبيرة على جميع بدنه أو أكثره أو على أعضاء الوضوء بكاملها تعين التيمم،لقوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (1).و لأن أدلة المسح على الجبيرة منصرفة عن مثل هذا.و إذا كانت مستوعبة لعضو واحد فقط من أعضاء الغسل أو المسح،اكتفى بالمسح عليها،و لا يجب التيمم.

2-إذا كانت الجبيرة على العضو الذي يجب غسله،و أمكن وصول الماء إلى البشرة بتكرار الصب عليه،أو بغمس العضو في الماء،حتى يصل إلى البشرة دون أن يتضرر الجرح،و دون أن يتنجس الماء،إذا أمكن ذلك وجب،و إلاّ مسح على الجبيرة.

3-الجرح المكشوف إذا أضر به الماء يوضع عليه خرقة طاهرة،و يمسح عليها.

4-يجوز أن تكون الجبيرة من الحرير،و ما إليه مما لا تجوز الصلاة فيه، ما عدا المغصوب،على شريطة أن يكون ظاهرها طاهرا،ليجوز المسح عليه.

و استدل السيد الحكيم في المستمسك على ما جاء في هذه الفقرة بقوله:«هذا مما لا اشكال فيه،و إطلاق أدلة الجبيرة تقتضيه».

5-إذا كان العضو صحيحا،و عليه نجاسة لا يمكن إزالتها بحال،تعين التيمم،و لا يجري عليه حكم الجبيرة،لأنها تختص في العضو المريض.

و يجدر التنبيه إلى أن المراد بالعضو الصحيح المتنجس هنا هو العضو الذي

ص:78


1- النساء:43. [1]

يجب غسله أو مسحه،أما إذا كان في مكان آخر كساقه أو ظهره،و ما إليه،فيجب الوضوء،و لا يجوز التيمم.

6-إذا ارتفع عذر صاحب الجبيرة فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة،حتى مع بقاء الوقت وسعته،بخاصة إذا صلى،و لا أمل له في شفاء الجرح و برئه قبل أن يذهب وقت الصلاة.

7-إذا توضأ،و مسح على الجبيرة،ثم طاب الجرح،و ارتفع العذر،و لم ينتقض هذا الوضوء بحدث من الأحداث،فهل له أن يدخل في الصلاة بهذا الوضوء الاضطراري،أو لا؟ الجواب:

لا،و عليه أن يتوضأ ثانية وضوءا تاما،لأن الذي يرفع الحدث هو الوضوء التام الكامل،أمّا الوضوء الناقص لضرورة ملحة فإنه مجرد عذر يبيح الدخول في الصلاة،و بديهة أن الضرورة تقدر بقدرها،و الاعذار يختصر فيها على موردها، و المفروض ارتفاع العذر،فيرتفع معه أثره.

8-إذا اعتقد صاحب الجبيرة أن الماء مضر،و جرى على وفق اعتقاده، و مسح على الجبيرة،ثم تبين أنّه لا ضرر أبدا في الواقع من نزع الجبيرة عن الجرح و غسله أو مسحه،فهل يكون الوضوء صحيحا أو فاسدا؟ مسألة ثانية عكس الأولى،و هي إذا اعتقد عدم الضرر من نزع الجبيرة، و وضع الماء على الجرح،فجرى على وفق الاعتقاد،و نزع الجبيرة،و غسل أو مسح،ثم تبين وجود الضرر واقعا،فهل يكون الوضوء صحيحا أو فاسدا؟ الجواب:

ذهب قوم إلى فساد الوضوء،في المسألتين،لأن المعول على الواقع،لا

ص:79

على الاعتقاد،و المفروض ان الأول مسح الجبيرة،مع عدم تضرر الجرح من الماء،و الثاني أوصل الماء للجرح،مع تضرره به.

و قال قائل:بل المعول على الاعتقاد،لا على الواقع.

و نحن ضد هذا القائل،و الصناعة العلمية مع الذين ذهبوا إلى فساد الوضوء،لأن التكاليف الشرعية تتجه إلى الموضوعات الواقعية بما هي،و التقييد بالاعتقاد،أو بغيره يحتاج إلى دليل،و لا دليل هنا.

و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:«ان المسألة في غاية الإشكال، تحتاج إلى مزيد تتبع و تأمل،و الاحتياط لا ينبغي تركه».

الشك في الحاجب:
اشارة

إذا شككت:هل على عضو من أعضاء الغسل أو المسح حاجب يمنع من وصول الماء فما ذا تصنع؟

الجواب:

يجب أن تبالغ في الاجتهاد،حتى تعلم علم اليقين بوصول الماء إلى المحل الواجب،لأن العلم بشغل الذمة يستدعي العلم بفراغها،أو كما عبر الفقهاء:الاشتغال اليقيني يوجب الفراغ اليقيني،و هذه قاعدة عامة تطرد في جميع أبواب الفقه دون استثناء،و معناها أنك إذا علمت يقينا بأن هذا الشيء قد وجب عليك،و أنت مسؤول عنه،تولد من علمك هذا إلزام عقلي،و هو أن تعلم يقينا أيضا انك قد أديته كاملا،و تحررت من المسؤولية بالفعل-مثلا-إذا علمت انك مطلوب لزيد بدرهم،ثم احتملت أو ظننت أنك قد وفيت،فظنك هذا ليس بشيء،بل عليك أن تعلم يقينا أنك قد وفيت تماما،كما علمت أنك قد

ص:80

استدنت،لأن العلم لا يزيله إلا العلم.

أجل،لو احتملت،أو ظننت أنك استدنت منه فلا شيء عليك.

المسلوس و المبطون:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يقطر منه البول،و لا يقدر على حبسه؟ قال:إذا لم يقدر على حبسه فاللّه أولى بالعذر،يجعل خريطة،أي وعاء من جلد، أو من غيره يشده على الذكر.

و سئل عن رجل وجد غمزا في بطنه،أو أذى،أو عصرا من بول،و هو في الصلاة المكتوبة في الركعة الأولى،أو الثانية،أو الثالثة،أو الرابعة؟فقال:إذا أصابه شيء من ذلك،فلا بأس أن يخرج لحاجته تلك،فيتوضأ،ثم ينصرف إلى الصلاة التي كان يصلي،فيبني على صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجته، ما لم ينقض الصلاة بكلام.

و قال الإمام الباقر أبو جعفر الصادق عليهما السّلام:صاحب البطن الغالب يتوضأ،ثم يرجع في صلاته،فيتمم ما بقي.

الفقهاء:

المسلوس من به داء السلس،و هو الذي لا يستمسك معه البول.و المبطون من به داء البطن،و هو الذي لا يستمسك معه الغائط.

و إذا أمكن ان تمر بكل من المسلوس و المبطون فترة من الزمن تتسع للوضوء و الصلاة معا وجب أن لا يفوّت هذه الفترة،بل يغتنمها لأداء الوضوء و الصلاة على وجهها.

ص:81

و إذا لم يمكن ذلك،و كان لا بد ان يفاجئه الحدث في أثناء الصلاة،فإن أمكن أن يضع الماء على جنبه،و هو يصلي،حتى إذا داهمه الحدث من البول أو الغائط استطاع أن يترك الصلاة،و يتوضأ،و هو مستقبل القبلة بدون حرج و مشقة، و دون أن يتكلم أو يأتي بما ينافي الصلاة،ثم يرجع إلى صلاته،و يبني على ما سبق منها،و يكمل.

و إذا لم يستطع ذلك لمكان العسر و الحرج توضأ وضوءا واحدا لكل صلاة،و سمح عما يفاجئه في أثنائها من الحدث،لأن اللّه سبحانه أولى بالعذر كما قال الإمام عليه السّلام.و لا يجوز له أن يجمع بين صلاتين في وضوء واحد.

و تساءل:من أين أتى الفقهاء بهذا الحكم،و هو عدم جواز صلاتين بوضوء واحد،و على أي شيء استندوا مع العلم بأنه لا عين و لا أثر له في كلام أهل البيت عليهم السّلام؟

الجواب:

من المعلوم بالبديهة ان العفو الذي دلت عليه النصوص انما يشمل العفو عن الحدث في أثناء الصلاة،أمّا الحدث الكائن بين الصلاتين،فلا يشمله العفو.

ص:82

الغسل

الأغسال الواجبة
غسل الجنابة
اشارة

الأغسال في الشريعة الإسلامية،منها واجبة و منها مستحبة،و الواجبة على ستة أقسام:غسل الجنابة،و الحيض،و الاستحاضة،و النفاس،و الميت،و مسّ الميت بعد برده و قبل تطهيره.

الجنابة:

قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:غسل الجنابة واجب.و قال:من ترك شعرة متعمدا لم يغسلها من الجنابة فهو في النار.

و سئل:متى يجب الغسل على الرجل و المرأة؟قال:إذا أدخله وجب الغسل و المهر و الرجم.و عن حفيده الإمام الرضا عليه السّلام:إذا التقى الختانان وجب الغسل.

و سئل عن المفخذ:هل عليه غسل؟قال:نعم إذا أنزل.

و سئل عن المرأة ترى ما يرى الرجل؟قال:ان أنزلت فعليها الغسل،و ان

ص:83


1- المائدة:5. [1]

لم تنزل فليس عليها الغسل.

الفقهاء:

كل ذلك محل وفاق و إجماع،بل هو ضرورة دينية،حيث لم يختلف اثنان قديما و حديثا في أن الجنابة سبب للغسل،و انها تتحقق بأمرين:إدخال الحشفة، و إنزال المني المعلوم كيف اتفق،متدفقا أو متثاقلا،بشهوة أو بغيرها،في نوم أو في يقظة.و هنا صور كثيرا ما تقع:

صور:

منها:ان من رأى في المنام أنّه جامع،و حين استيقظ لم يجد أثرا،فلا غسل عليه،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يرى في المنام،حتى يجد الشهوة،و هو يرى أنّه قد احتلم،فإذا استيقظ لم ير في ثوبه الماء،و لا في جسده ؟قال:ليس عليه الغسل،ان عليا عليه السّلام كان يقول:انما الغسل من الماء الأكبر،فإذا رأى في منامه،و لم ير الماء فليس عليه غسل.

و منها:إذا خرج من الرجل منيّ،و اغتسل من الجنابة،و بعد الغسل رأى رطوبة لا يعلم هل هي مني أو لا؟فهل يجب عليه أن يعيد الغسل ثانية؟ الجواب:

إذا كان قد بال قبل أن يغتسل فلا شيء عليه،و إلاّ أعاد الغسل،هذا بالقياس إلى الرجل،أمّا المرأة فلا تعيد الغسل أبدا،سواء أ بالت قبل الغسل أو لا.

و الدليل ان سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول،فخرج منه شيء؟قال:يعيد الغسل.قال السائل:فالمرأة يخرج منها شيء

ص:84

بعد الغسل؟قال:لا تعيد.و حين استفسر السائل عن الفرق بينهما أجابه الإمام عليه السّلام بأن ما يخرج من المرأة انما هو من ماء الرجل.

و منها:إذا خرج من الرجل رطوبة دون أن يجامع،و لم يدر هل هي مني أم لا؟فما ذا عليه؟ الجواب:

إذا جمعت هذه الرطوبة الأوصاف الثلاثة:الشهوة و الدفع و الفتور،فعليه أن يغتسل،و إلاّ فلا.

و الدليل قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا جاءت الشهوة و دفع و فتر لخروجه، فعليه الغسل،و ان كان انما هو شيء لم يجد له فترة و لا شهوة فلا بأس.

و منها:إذا خرج المني من غير المكان المعتاد،وجب الغسل،لان ظاهر النص شامل له.

و منها:إذا رأى على ثوبه منيا،و شك هل هو منه أو من غيره؟فلا يجب الغسل استصحابا للطهارة.

و إذا اغتسل من الجنابة،و بعد ذلك بأمد رأى على ثوبه جنابة،و شك هل تجددت بعد الغسل،أو أنّها نفس الجنابة التي اغتسل منها،فلا يجب الغسل،لأنّ الأولى اغتسل منها قطعا و الثانية مشكوكة،فتنفى بالأصل،حتى يثبت العكس.

و منها:أن لباسا واحدا قد استعمله اثنان بالتناوب،ثم ظهر عليه المني هو من أحدهما قطعا،و لكن لا نعرفه بعينه،فهل يجب عليهما الغسل؟ الجواب:

لا،لأن لكل واحد أن يستصحب الطهارة في حقّ نفسه،ما دام لا يرتبط تكليف أحدهما الشرعي بتكليف الآخر،و لو حصل الارتباط بين التكليفين بنحو

ص:85

من الأنحاء ترتب عليه آثاره،و لذا أفتى الفقهاء بأنه لا يجوز لأحدهما أن يستأجر الآخر لكنس المسجد،لأنّه و الحال هذه،يكون واحدا من اثنين:امّا مباشرا لدخول المسجد،و امّا مسببا للدخول فيه،و كلّ من المباشرة و التسبيب محرم.

و أيضا لا يجوز أن يقتدي أحدهما في الصلاة بالآخر،للعلم بأن الجنب الإمام أو المأموم،و إذا ترددت الجنابة بين ثلاثة جاز أن يكون أحدهما إماما للاثنين،إذ من الجائز أن يكون الجنب هو المأموم الثالث،و حينئذ لا يحصل العلم لكل واحد بفساد صلاته.

غايات الغسل:

قال تعالى وَ اللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (1).و قال الإمام الصادق عليه السّلام:كانت المجوس لا تغتسل من الجنابة،و العرب تغتسل،و الأغسال من شرائع الحنفية.

و سئل عن الجنب يجنب،ثم يريد النوم؟قال:ان أحب أن يتوضأ فليفعل، و الغسل أحب إليّ.

تدلّ هذه النصوص،و ما إليها على أن الغسل راجح في نفسه،و ان للجنب أن يغتسل ابتغاء مرضاة اللّه متى شاء،و دون أن يقصد أيّة غاية من الغايات، و أيضا يكون الغسل مستحبا للغايات المستحبة،و واجبا لغاية واجبة،كالصلوات الخمس،و الطواف الواجب.

الصوم و الجنابة:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل احتلم أول الليل،أو أصاب من أهله،ثم

ص:86


1- التوبة:109. [1]

نام متعمدا في شهر رمضان،حتى أصبح؟قال:يتم صومه ثم يقضيه.

و أيضا سئل عن مثل ذلك؟فقال:يعتق رقبة،أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينا.

و أيضا سئل عن رجل يقضي شهر رمضان،فيجنب من أول الليل،و لا يغتسل،حتى يجيء آخر الليل،و هو يرى أن الفجر قد طلع؟قال:لا يصوم ذلك اليوم،و يصوم غيره.

و أيضا سئل عن رجل أجنب في شهر رمضان،فنسي أن يغتسل،حتى خرج شهر رمضان؟قال:عليه أن يقضي الصلاة و الصيام.

الفقهاء:

و استنادا إلى هذه النصوص اجمع الفقهاء على وجوب الغسل من الجنابة لصيام شهر رمضان،و قضائه،و ان من تعمد البقاء على الجنابة في الشهر المبارك فعليه القضاء و الكفارة،و إذا تعمد البقاء فلا يقبل منه،أمّا الناسي فلا شيء عليه سوى القضاء،و مثله الجاهل.

أمّا من صام استحبابا فله أن يتعمد البقاء على الجنابة،لأن رجلا قال للإمام الصادق عليه السّلام:أخبرني عن التطوع،و عن صوم هذه الثلاثة أيّام إذا أجنبت من أوّل الليل و اعلم أني أجنبت،فأنام متعمدا،حتى يطلع الفجر،أصوم،أو لا أصوم؟ قال له:صم.

ما يحرم على الجنب:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام:عن الجنب و الحائض،هل يقرءان من القرآن

ص:87

شيئا؟قال:نعم،ما شاء إلاّ السجدة (1)و يذكران اللّه على كل حال.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام:عن النفساء و الحائض و الجنب،هل يقرؤون القرآن؟قال:يقرؤون ما شاءوا.و في رواية ثانية يقرؤون سبع آيات،و ثالثة و سبعين آية (2).

و قال عليه السّلام:لا يمس الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّه.

و قال عليه السّلام:الجنب لا يجلس في المسجد،و لكن يمر فيه إلاّ المسجد الحرام و مسجد المدينة.

و قال عليه السّلام:الجنب و الحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه،و لكن لا يضعان في المسجد شيئا.

الفقهاء:

هذه النصوص متفق على العمل بمضمونها بين الفقهاء،فلقد أجمعوا على أن الجنب لا يجوز له مس خط المصحف إطلاقا،سواء أ كان فيه اسم اللّه،أم لم يكن،و لا اسم اللّه و صفاته،و ان لم تكن في المصحف،و لا أن يقرأ سور العزائم الأربعة،و يكره أن يقرأ غيرها من القرآن،و تشتد الكراهة إذا زاد على السبع من آي الذكر الحكيم،و لا أن يمكث في المسجد،أيّ مسجد،و له أن يمر فيه مستطرقا إلاّ المسجد الحرام و مسجد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فلا يجوز له المكث فيهما،و لا المرور.

ص:88


1- أراد الإمام عليه السّلام بالسجدة السور التي تحتوي على آية السجدة،و يجب السجود عند سماعها، و هي أربع سور:اقرأ باسم ربك،و النجم،و حم السجدة،و لقمان.
2- جمع بعض الفقهاء بين رواية السبع،و رواية السبعين بأن ما زاد على السبع مكروه،و تشتد الكراهة إذا بلغت القراءة سبعين آية.
تفريع على دخول المسجد:

و يتفرع على جواز الأخذ من المسجد دون الوضع فيه أن الجنب له ان يدخل المسجد،و يأخذ الماء منه ليغتسل به من الجنابة،و بما أن هذا يستدعي المكث فيه قليلا،فعليه أن يتيمم من أجل المكث،لا من أجل الدخول و المرور، و بعد أن يأخذ الماء من المسجد،و يخرج منه ينتقض التيمم،لوجدان الماء.

و تجدر الإشارة إلى أن هذا التيمم لا يبيح سوى المكث في المسجد بمقدار الضرورة،أمّا مس كتابة القرآن،و قراءة العزائم،و ما إليها فلا،تماما كالتيمم عند ضيق الوقت عن الغسل أو الوضوء،فإنه يبيح الدخول في الصلاة فقط.

صورة الغسل:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام:عن غسل الجنابة؟قال:تغسل كفيك،ثم تفرغ بيمينك على شمالك،فتغسل فرجك و مرافقك،ثم تمضمض و استنشق،ثم تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك،ليس قبله و لا بعده وضوء،و كل شيء مسته الماء فقد انقته،و لو أن رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك،و ان لم يدلك جسده.

و سئل عن الرجل يجنب هل يجزيه من غسل الجنابة أن يقوم في المطر، حتى يغسل رأسه و جسده،و هو يقدر على ما سوى ذلك؟ قال عليه السّلام:ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك.

الفقهاء:

بعد أن أوجب الفقهاء في غسل الجنابة ما أوجبوه في الوضوء من النية

ص:89

الخالصة من شوائب الرياء،و استدامتها إلى نهاية الغسل،و من إطلاق الماء و طهارته و إباحته،بعد أن أوجبوا ذلك قالوا:ان لغسل الجنابة صورتين:الترتيب و الارتماس.

الترتيب:

و الغسل الترتيبي أن تبدأ بغسل الرأس و الرقبة،ثم بالطرف الأيمن من البدن من الكتف إلى رؤوس الأصابع،ثم الطرف الأيسر كذلك.

و ذهب جماعة من كبار الفقهاء إلى عدم وجوب الترتيب،و جواز غسل البدن كيف اتفق،تماما كما قال السنة.قال صاحب المدارك بعد أن ذكر الروايات:

«و هذه الروايات-أي التي جاءت عن أهل البيت-هي كالصريحة في عدم وجوب الترتيب بين الجانبين-أي الأيمن و الأيسر-لورودها في مقام البيان المنافي للإجمال،و العمل بها متجه،إلاّ أن المصير إلى ما عليه أكثر الفقهاء أحوط».

و معنى هذا أن أقوال أهل البيت عليهم السّلام قد جاءت لتعليم و توضيح كل ما يجب في الغسل و لو وجب الترتيب لوجب ذكره،و لم يجز إهماله بحال،مع أنه لا عين له و لا أثر في أقوالهم،فدلّ على عدم وجوبه.

و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:«القول بعدم الترتيب بين الأيمن و الأيسر قوي جدا،لكن مخالفة المشهور مشكلة».

و نجيبه نحن بما هو مشهور أيضا من أن موافقة المشهور من غير دليل أشكل.و قال قائل:ان الامام الصادق عليه السّلام أمر في تغسيل الميت أن يبدأ الغاسل برأس الميت،ثم يضجعه على الأيسر و يغسل الأيمن،ثم يضجعه على الأيمن،

ص:90

و يغسل الأيسر،و يدل هذا أن جميع الأغسال كذلك.

و جوابنا على ذلك أن قياس الأحياء على الأموات تماما كقياس النبات على الجماد.ثم ان الذين أوجبوا الترتيب بين الأعضاء الثلاثة:الرأس مع الرقبة، و الجانب الأيمن،و الأيسر،قالوا:لا يجب الابتداء من كل عضو،كما هي الحال في الوضوء،بل يجوز الابتداء من أسفل الأيمن،و من أسفل الأيسر.

و أجمع الفقهاء على أن الموالاة و الفورية بين الأعضاء لا تجب،فلو غسل رأسه و بعد ساعات غسل جانبه الأيمن،و بعده بأمد غسل الأيسر صح،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عليا عليه السّلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة،و سائر جسده عند الصلاة.

الارتماس:

الصورة الثانية لغسل الجنابة الارتماس،و هو أن يرمس الجنب جسده بالماء الطاهر بحيث يستوعب جميع أجزائه دفعة واحدة،و كذلك إذا وقف في المطر،و نوى الارتماس،و الأولى-كما أراه-أن ينوي الترتيب،و يمر بيده على جسده.

مسائل:

1-إذا بال،أو خرج منه ريح،و هو يغتسل،و قبل أن ينتهي،فما ذا يصنع؟ الجواب:

يتم الغسل و يتوضأ للصلاة،لأن المفروض ان ما خرج منه لا يوجب الغسل بل الوضوء،و هنالك رواية عن الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام دلت

ص:91

على وجوب اعادة الغسل من أوله.و قال صاحب المدارك:اني لم أقف على سند.

هذه الرواية،فالواجب إتمام الغسل،و الوضوء بعده،و أقر السيد الحكيم فتوى صاحب المدارك،و ما قاله في شأن الرواية المزعومة.

2-كل غسل معه وضوء إلاّ غسل الجنابة إجماعا و نصا.

3-لا بد من طهارة جميع اجزاء البدن،امّا قبل الغسل،و امّا أن يباشر بتطهير العضو النجس أثناء الغسل،كأن يطهره أولا،ثم ينوي غسله من الجنابة، و ليس من شك ان التطهير أولا،و قبل المباشرة بالغسل أولى.

و إذا شك في وجود الحاجب الذي يمنع وصول الماء إلى البشرة وجب الاجتهاد،حتى يعلم بوصوله،لأن العلم بوجوب الغسل يستدعي العلم بالتأدية و الامتثال على الوجه المطلوب،كما تقدم في فصل الوضوء.

4-إذا شك في أنه غسل رأسه لأجل الجنابة أو لا؟فان كان قبل أن يباشر بالجانب الأيمن فعليه ان يغسل الرأس،لأنه شك قبل الدخول بالغير،و عليه فلا تجري قاعدة التجاوز التي أشرنا إليها في فصل الوضوء.

و ان شك بعد أن باشر بالجانب الأيمن فلا يلتفت،لأنّه قد دخل بالغير، فتجري القاعدة المذكورة.و كذلك الحكم إذا شك في الأيمن بالقياس إلى الأيسر، و ان شك بالأيسر فإن كان بعد أن بنى على إتيانه فلا يلتفت،و إلاّ فعليه أن يغسله.

5-إذا صلّى،و بعد الفراغ من الصلاة شك و تردد هل كان قد اغتسل للجنابة قبل أن يصلي،أو لا،فما ذا يصنع؟ الجواب:

ان صلاته صحيحة،و لا يجب عليه إعادتها،لأنّه شك في صحتها بعد فراغه منها،و على هذا تجري قاعدة الفراغ،و لكن يجب عليه الغسل للأعمال

ص:92

الآتية استصحابا لبقاء الجنابة.و لا منافاة هنا بين الأخذ بقاعدة الفراغ التي مؤداها صحة الصلاة،و بين الأخذ بالاستصحاب الذي يؤدي إلى بقاء الجنابة،لا منافاة لاختلاف الموضوع،فإن موضوع القاعدة صحة الصلاة،و موضوع الاستصحاب الجنابة و بديهة أن المنافاة ترتفع بتعدد الموضوع.

6-قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة و الجمعة و عرفة و النحر و الذبح و الزيارة،و إذا اجتمعت للّه عليك حقوق،أجزأك عنها غسل واحد.و كذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها و إحرامها و جمعتها و حيضها و عيدها.

و قول الإمام عليه السّلام-كما ترى-يشمل جميع الأغسال المجتمعة على المكلف في آن واحد،مهما كان نوعها واجبة بكاملها،أو مستحبة كذلك،أو واجبة و مستحبة،بينها غسل جنابة،أو لا.

أمّا قول من قال:الأقوى و الأحوط و الأظهر فهو أعرف بتكليفه.

ص:93

ص:94

الحيض و الاستحاضة و النفاس
اشارة

قال تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلاّ أن تكون المرأة من قريش.

و قال عليه السّلام في رواية أخرى:إذا أكمل لها تسع سنين أمكن حيضها.

و قال عليه السّلام:أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام،و أكثره عشرة أيّام.

و قال عليه السّلام:لا يكون القرء-أي الطهر من الحيض-في أقل من عشرة أيّام من حين تطهر إلى أن ترى الدم.

الفقهاء:

قسم الفقهاء ما تراه المرأة من الدم إلى ثلاثة أقسام:دم حيض،و دم استحاضة،و دم نفاس.

ص:95


1- البقرة:222. [1]

و الحيض هو الدم الخارج من الفرج من غير علة و لا نفاس،و قد كتبه اللّه على النساء حفظا للأنساب،و علما ببراءة الأرحام.

و هذا الدم يتحادر من أعماق الجسم إلى الرحم،فيجمعه طوال مدّة الطهر.

و لذا سمي الطهر قرءا من قولهم قرئت الماء في الحوض إذا جمعته فيه.

و دم النفاس هو الدم الخارج من الفرج عن الولادة،و حكمه حكم الحيض، كما يأتي.

و دم الاستحاضة هو غير دم الحيض و النفاس،و هو بدم العلة و الفساد أشبه.

الحيض:

ان وقت الحيض لا يبدأ قبل بلوغ الأنثى تسع سنين قمرية،فإذا رأت الدم قبل أن تبلغ هذه السن لا يكون دم الحيض،بل دم علة و فساد،و كذلك ما تراه المرأة القرشية بعد الستين،و غير القرشية بعد الخمسين لا يكون حيضا،بل دم علة و فساد.

و مع الشك و عدم العلم بأنّها قرشية،و لا غير قرشية يكون حكمها حكم غير القرشية،لأن الأصل عدم الانتساب إلى قريش.

و مع الشك في أنّها بلغت التاسعة فهي غير بالغة،و مع الشك في أنّها تجاوزت الخمسين،أو الستين فهي غير آيسة عملا بالاستصحاب.

و أقل الحيض ثلاثة أيام،فإذا كان ثلاثة إلاّ ساعة فليس بحيض،و أكثره عشرة أيّام،فما زاد بعد العشرة فليس بحيض.

و أقل الطهر الذي يفصل بين حيضتين،و يعتبر في عدة المطلقة،هو عشرة

ص:96

أيّام،أمّا أكثر الطهر فلا حد له.

و دم الحيض يكون في الغالب حارا عبيطا أسود،له دفع و حرارة كما قال الإمام الصادق عليه السّلام.

سؤال و جواب:

و تساءل:ان الفقهاء قالوا بأن حيض الأنثى علامة على بلوغها،و لا يجتمع هذا مع قولهم بأن الدم الذي تراه قبل التسع يكون حيضا؟

الجواب:

ان الفرق كبيرا جدا بين العلم بأن سنها دون التسع،و بين الجهل و عدم المعرفة بالسن،و الدم الذي تراه في الحال الأولى ليس بحيض،و الدم الذي تراه في الحال الثانية يكون حيضا و علامة على البلوغ،شريطة أن يكون جامعا لأوصاف الحيض،و هذا ما أراده الفقهاء.

قاعدة الإمكان:

ذكر الفقهاء في باب الحيض قاعدة أسموها قاعدة الإمكان،و هي«أن كل ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض».و معنى هذا أن الأصل في الدم الذي يخرج من فرج المرأة أن يكون حيضا،حتى نعلم بأنه ليس بحيض.و نعلم ذلك بأمور هي أن ترى الدم قبل أن تبلغ التاسعة،أو تراه بعد سن الستين ان كانت قرشية،أو بعد الخمسين ان لم تكنها،أو قبل أن تمضي عشرة أيام من الطهر،أو يتجاوز العشرة،فإن ما زاد عنها لا يمكن أن يكون حيضا،أو لا يستمر ثلاثة أيّام متوالية، أو يعلم بأنه دم جرح أو بكارة.

ص:97

فإذا لم يثبت شيء من ذلك أمكن أن يكون حيضا،و مجرد الإمكان كاف في ثبوت الحيض،أي لو كان الدم تجانس أو اختلف،كما قال العلامة في التذكرة،و صاحب الشرائع،بل قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:يكاد يلحق هذا بالبديهيات لملاحظة الأخبار المتضافرة المتكاثرة الآمرة بترتيب آثار الحيض برؤية الدم من دون اعتبار لسائر الاحتمالات.

أقسام الحائض:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الجارية البكر أول ما تحيض،فتقعد في الشهر يومين،و في الشهر ثلاثة أيام،يختلف عليها طمثها في الشهر عدة أيّام سواء؟ قال:فلها أن تجلس،و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم تجز العشرة، فإذا اتفق الشهران عدة أيّام سواء فتلك أيامها.

و في رواية أخرى أنّه قال:«ان انقطع الدم لوقته في الشهر الأول سواء، حتى توالى عليها حيضتان،أو ثلاث،فقد علم الآن أن ذلك قد صار لها وقتا معلوما،و خلقا معروفا،و تدع ما سواه».

و ينبغي الانتباه إلى قوله عليه السّلام:صار وقتا معلوما،و خلقا معروفا،فالحيضتان المتفقتان كما تتحقق بهما العادة،و متى تحققت العادة تعمل بها،و تدع ما سواها.

الفقهاء:

قسم الفقهاء الحائض إلى خمسة أقسام:

الأولى :أن تستقيم عادتها وقتا و عددا،كالتي ترى الدم مرتين أو أكثر في أوّل كل شهر خمسة أيّام دون زيادة أو نقصان،بحيث لا تراه مرة خمسة،و أخرى

ص:98

أربعة،و حينا ستة،و لا مرة في أول الشهر،و أخرى في آخره،و حينا في وسطه.

و هذه تترك الصلاة بمجرد رؤية الدم بالاتفاق،سواء أ كان بصفات الحيض أم لم يكن.

الثانية :أن تستقيم عادتها وقتا لا عددا،كالتي ترى الدم في أول كل شهر، لكن مرّة يستمر ثلاثة أيّام،و حينا أربعة أو أكثر،و تسمى مستقيمة الوقت، مضطربة العدد.

و هذه أيضا تترك الصلاة بمجرد رؤية الدم مطلقا كالأولى.

الثالثة :أن تستقيم عادتها عددا لا وقتا،كالتي ترى الدم كلّ مرّة خمسة أيام -مثلا-و لكن مرة ترى في أول الشهر،و أخرى في آخره،و حينا في وسطه، و تسمى مستقيمة العدد،مضطربة الوقت.

و هذه تترك الصلاة برؤية الدم على شريطة أن يكون بصفات الحيض، لقول الإمام عليه السّلام:«فإذا كان للدم حرارة،و دفع،و سواد،فلتدع الصلاة».و إذا لم يكن بصفات الحيض فعليها أن تترك ما تتركه الحائض من دخول المسجد،و ما إليه،و تفعل ما تفعله المستحاضة من الصوم و الصلاة.

الرابعة :أن لا تستقيم لها عادة أبدا لا وقتا و لا عددا،كالتي ترى الدم مرة أربعة أيّام في أوّل الشهر،و أخرى خمسة في آخره،و حينا ثلاثة في وسطه، و تسمى مضطربة الوقت و العدد،و حكمها حكم الثالثة،تترك الصلاة ان كان الدم بصفات الحيض،و إلاّ فعليها أن تحتاط.

الخامسة :أن ترى الدم لأول مرة،و تسمى مبتدأة،و حكمها كالثالثة و الرابعة تماما،لأن الثلاثة:المضطربة وقتا،و المضطربة وقتا و عددا،و المبتدأة يشملها و يعمّها قول الإمام عليه السّلام:«إذا كان للدم حرارة و دفع و سواد،فلتدع الصلاة».

ص:99

تجاوز العادة:

إذا كانت ذات عادة عددية،ثم صادف في إحدى الحيضات ان استمر الدم أكثر من عادتها المألوفة،فإن لم يتجاوز العشرة،كما لو كانت خمسة،و استمرت إلى السبعة،أو العشرة فقط،كان المجموع حيضا،و ان تجاوز العشرة،فالحيض أيام العادة فقط،و ما زاد عنها فاستحاضة بما في ذلك الأيام التي في ضمن العشرة -مثلا-إذا استمر أحد عشر يوما،و العادة خمسة فقط،فالحيض الخمسة الأولى، و الستة الأخيرة استحاضة.

الحيض و الدم:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الحبلى ترى الدم،أ تترك الصلاة؟قال:نعم.

ان الحبلى ربما قذفت بالدم.

و على ذلك أكثر الفقهاء،أي أن الحيض يجتمع مع الحمل.

هن مصدقات:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:العدة و الحيض للنساء إذا ادعت صدقت.و لا خلاف فيه بين الفقهاء.

ما يحرم على الحائض:

تشترك الحائض مع الجنب في جميع ما يحرم عليه،و تزيد بأن الصوم و الصلاة صحيحان من الجنب المعذور،و لا يصحان من الحائض بحال،و يصح طلاق المرأة اليائسة،و ان تكن في الجنابة،و لا يصح طلاق الحائض إلاّ في بعض

ص:100

الحالات التي نذكرها في باب الطلاق إن شاء اللّه،و يجوز وطء المرأة المجنبة، و لا يجوز وطء الحائض،لقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ و للرجل أن يستمتع بها دون القبل و الدبر،و يكره فيما بين السرة و الركبة.

و إذا عصى الرجل و غلبته الشهوة،و وطء زوجته،و هي في الحيض،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«عليه أن يتصدق بدينار أن كان الحيض بعد في أوله،و في وسطه بنصف دينار،و في آخره بربع دينار،فإن لم يكن عنده ما يتصدق به استغفر اللّه،و لا يعود،فان الاستغفار توبة و كفارة لكل من لم يجد السبيل إلى شيء من الكفارة».

غسل الحائض:

يجب على الحائض أن تغتسل بعد انتهاء الحيض،لأجل الصلاة و الصيام و الطواف،و ما إلى ذلك مما تقدم في غسل الجنابة.

أمّا صورة الغسل فهي كصورة غسل الجنابة ترتيبا و ارتماسا،لا يفترقان في شيء سوى أن غسل الجنابة لا وضوء معه،و لا بد في غسل الحائض من الوضوء لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«في كل غسل وضوء إلاّ الجنابة».

و قال جماعة من كبار الفقهاء:لا وضوء مع جميع الأغسال،حتى المستحبة منها،و مال إلى هذا السيد الحكيم في المستمسك،و هذه عبارته بالحرف الواحد:

«ان الشارع شرع طهارتين وضوءا و غسلا،يجزي كل منهما في كل موضع يشرع فيه من دون حاجة إلى ضم الآخر».و حمل قول الإمام عليه السّلام:«في كل غسل وضوء إلاّ الجنابة»،حمله على«مجرد ثبوت المشروعية»أي على جواز الوضوء،لا وجوبه.

ص:101

القضاء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الحائض تقضي الصوم،و لا تقضي الصلاة.

متفق عليه.

الاستحاضة:

دخلت امرأة على الإمام الصادق عليه السّلام،و سألته عن امرأة يستمر بها الدم فلا تدري،أحيض هو،أو غيره؟قال:ان دم الحيض حار عبيط أسود،له دفع و حرارة،و دم الاستحاضة أصفر بارد،فإذا كان للدم حرارة و دفع و سواد،فلتدع الصلاة،فخرجت المرأة،و هي تقول:و اللّه لو كان امرأة ما زاد على هذا.

و قال عليه السّلام:المستحاضة تنظر أيامها،فلا تصلي فيها،و لا يقربها بعلها،فإذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف (1)اغتسلت للظهر و العصر،تؤخر هذه، و تعجل هذه،و للمغرب و العشاء غسل،تؤخر هذه،و تعجل هذه،و تغتسل للصبح،و تحتشي،و تستقر-أي تلبس حفاظا-و لا تنحني و تضم فخذيها في المسجد،و لا يأتيها بعلها أيام قرئها،و ان كان الدم لا يثقب الكرسف،توضأت و دخلت المسجد،و لا يأتيها بعلها إلاّ بعد أيام حيضها.

و قال في بعض الروايات:دم الاستحاضة فاسد.

الفقهاء:

قدمنا ان الدم الذي تراه المرأة-غير دم الجروح و القرح و البكارة-لا بد أن

ص:102


1- الكرسف هو القطن.

يكون واحدا من ثلاثة:امّا دم حيض،و امّا دم نفاس،و امّا دم استحاضة،فإذا انتفى الاثنان تعين الثالث.و أعبر بتعبير آخر،قلنا فيما تقدم:ان قاعدة الإمكان تقضي على أن ما تراه المرأة من الدم محمول على أنّه دم حيض،حتى يعلم أنه ليس بحيض،فإذا علمنا أنه ليس بحيض،و لا دم ولادة،و لا دم بكارة و ما إليها، تعين قهرا أن يكون دم علة و فساد المعبّر عنه بدم الاستحاضة.و عليه فما تراه الأنثى زيادة على عشرة أيّام،و دون ثلاثة أيّام متوالية،و في حال الصغر قبل التاسعة،و بعد اليأس،لا يكون دم حيض،مع العلم بأنه ليس بدم نفاس أيضا، فيكون استحاضة لا محالة.و بهذا يكون لدينا قاعدة ثانية،و هي«كل ما لا يمكن أن يكون حيضا و لا نفاسا،و لا دم بكارة و جرح،فهو دم استحاضة».

و دم الاستحاضة يكون-في الغالب-اصفر باردا رقيقا،يخرج بفتور على العكس من صفات دم الحيض،و قد يكون الأصفر حيضا إذا جاء أيام الحيض، و قد يكون الأسود دم الاستحاضة إذا جاء بعد الحيض أو قبله،كما لو زاد على عشرة أيام،أو نقص عن الثلاثة.

أقسام المستحاضة:

قسم الفقهاء المستحاضة إلى ثلاثة أقسام:صغرى،و وسطى،و كبرى.

و بنوا هذا التقسيم على أن عليها أن تختبر نفسها،و ذلك بأن تحشو فرجها بقطنة، ثم تنظر:فان ظهر الدم على القطنة،و لم يغمسها فهي صغرى،و ان غمسها من غير أن يسيل فهي وسطى،و ان سال فهي كبرى.

و لا يجب الغسل على الصغرى،و لكن عليها أن تغير القطنة،و تتوضأ لكل صلاة،و لا تجمع بين صلاتين في وضوء واحد،و يجب على الوسطى ان تغير

ص:103

القطنة،و تغتسل غسلا واحدا قبل صلاة الغداة،و ان تتوضأ لكل صلاة،و لا يجمع بين صلاتين بوضوء واحد،و يجب على الكبرى ثلاثة أغسال:الأول قبل صلاة الغداة،و الثاني لصلاة الظهرين تجمع بينهما،و الثالث لصلاة العشاءين تجمع بينهما أيضا على أن تتوضأ لكل صلاة بعد أن تغير القطنة.

و كل من الوسطى و الكبرى محدثة بالحدث الأكبر تماما كالحائض،فان لم تفعل ما وصفناه من واجباتها،حرم عليها كل ما يحرم على الحائض من دخول المسجد،و مس كتابة القرآن،و قراءة العزائم،و عدم جواز الوطء،و فساد الصلاة، أمّا الصوم فإن أخلت بالغسل بطل،و عليها أن تعيد،و ان أخلت بالوضوء فقط صح،لأنّ الوضوء ليس شرطا في صحة الصوم.

و ان فعلت ما وصفناه صحّ منها الصوم و الصلاة و الطواف،و حل وطؤها، و جاز لها كل ما يجوز للطاهر.

أمّا الصغرى فهي بحكم من أحدث بالحدث الأصغر،كالبول و الريح،لأن المفروض أن حدثها يوجب الوضوء دون الغسل،و على هذا يصح منها الصوم، و يحل وطؤها،لأنّهما غير مشروطين بالوضوء،أمّا الصلاة فتصح مع الوضوء على أن لا تجمع بين صلاتين بوضوء واحد،كما قدمنا (1).

و غسل الاستحاضة،تماما كالغسل من الحيض و الجنابة.

ص:104


1- يظهر من قول الإمام عليه السّلام:إذا لم يثقب الدم الكرسف،يأتيها بعلها إلاّ أيام حيضها.و من قول الفقهاء المكرور في كتبهم:و يحل وطؤها إذا فعلت ما تفعله المستحاضة،و متى جازت الصلاة جاز الوطء،و متى امتنعت الصلاة امتنع الوطء،يظهر من ذلك كله أن الصغرى أيضا لا يحل وطؤها، حتى تغير القطنة،و تغسل فرجها،و تتوضأ،و لا ريب أن هذا أفضل و أحوط.
النفساء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:النفساء تكف عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها-أي حين الحيض-ثم تغتسل،و تعمل عمل المستحاضة.

و قال عليه السّلام:تقعد النفساء أيامها التي كانت تقعد في الحيض.

و سئل أبوه الباقر عليه السّلام عن النفساء؟قال:تقعد قدر حيضها.

و في معنى هذه الرواية كثير غيرها.

الفقهاء:

قالوا:إذا ولدت،و لم تر دما فلا نفاس،للإجماع،و البراءة مما لا دليل على ثبوته،و إذا رأته مع الولادة،حتى مع السقط و المضغة،فهو نفاس.

و اتفقوا على أنه لا حد لأقل النفاس،لأن الشرع لم يحدده صراحة، فيتحقق بالقطرة،و اختلفوا في أكثره،و المشهور أنه لا يزيد عن عشرة أيّام،تماما كالحيض،لقول الإمام عليه السّلام في روايات كثيرة:«تقعد قدر حيضها».

و إذا خرج الولد بعملية جراحية من غير المكان المعتاد،لا تكون نفساء، و لكن تنقضي به عدة الطلاق.

و حكم النفساء و الحائض واحد في كل ما ذكرناه من تحريم مس كتابة القرآن،و قراءة العزائم،و المكوث في المسجد،و الوطء،و عدم صحة الطلاق، و الصوم و الصلاة،و أنها تقضي الصوم دون الصلاة،إلى غير ذلك.

و الغسل من النفاس،تماما كالغسل من الحيض و الاستحاضة و الجنابة.

ص:105

ص:106

الميت و مسه
اشارة

إذا مات الميت توجه على الأحياء واجبات على سبيل الكفاية،إذا قام بها البعض،سقطت عن الكل،و إذا تركوا جميعا كانوا مسئولين و محاسبين.و هي ما يلي:

الاحتضار:

1-قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا مات لأحدكم ميت فسجوه اتجاه القبلة.

و في رواية ثانية:استقبل بباطن قدميه القبلة.

و هذا هو الاحتضار ان يلقى الميت على ظهره حين النزع،و باطن قدميه إلى القبلة،بحيث إذا جلس استقبل القبلة بوجهه و مقاديم بدنه،و على وجوب ذلك أكثر الفقهاء.

و يستحب تغميض عيني الميت،و شد لحييه،و مد ساقيه،و يديه إلى جنبيه،و تليين مفاصله،و تجريده من ثيابه،و وضعه على لوح أو سرير،و تغطيته بثوب.

و أهم المستحبات جميعا،التعجيل بتجهيزه،فان كرامة الميت تعجيله، و عدم تأخيره،جاء في الحديث:«لا ألفين رجلا منكم مات له ميت ليلا،فانتظر

ص:107

به الصبح،و لا رجلا مات له ميت نهارا،فانتظر به الليل،لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس،و لا غروبها،عجلوا بهم إلى مضاجعهم،رحمكم اللّه».

الغسل:

2-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن السقط إذا استوت خلقته،يجب له الغسل و اللحد و الكفن؟قال:نعم.كل ذلك يجب إذا استوى.

و قال عليه السّلام:يغسل الميت ثلاثة أغسال:مرة بالسدر،و مرة بالماء يطرح فيه الكافور،و مرّة أخرى بالقراح،ثم يكفن.

كل من قال:لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه،يجب تغسيله إذا مات،حتى الفاسق المتظاهر بالفسق،و حتى ابن الزنا و السقط إذا تم له أربعة أشهر.و اللقيط من دار الإسلام بحكم المسلم.أجل،لا يجوز تغسيل المغالي و الناصبي و الخارجي.

و يجب تغسيل المسلم ثلاث مرات:الأولى بالماء مع قليل من السدر، و الثانية بالماء مع قليل من الكافور،إلاّ أن يكون الميت محرما فلا يجعل الكافور في ماء غسله،و الثالثة بالماء الخالص دون أن يضاف إليه شيء،و ينبغي أن لا يكثر من السدر و الكافور خشية أن يصير الماء مضافا،فلا يحصل به التطهير.

و كما يجب الترتيب بين الأغسال الثلاثة،كذلك يجب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة،فيبدأ بالرأس مع الرقبة،و يثني بالجانب الأيمن،و يثلث بالأيسر،تماما كغسل الجنابة و الحيض و الاستحاضة و النفاس،بل غسل الميت أولى و آكد في الترتيب من سائر الأغسال،حيث ورد النص فيه،و لم يرد فيها، حتى أن بعض الفقهاء،أو الكثير منهم قاس جميع الأغسال على غسل الميت.

ص:108

فلقد ثبت عن الصادق عليه السّلام أنه قال في الميت:«اغسل رأسه بالرغوة و بالغ.ثم أضجعه على الجانب الأيمن،و صب الماء من نصف رأسه إلى قدميه.ثم أضجعه على الجانب الأيسر،و افعل به مثل ذلك».

و لا بد في تغسيل الميت من نية التقرب إلى اللّه،لأنّه من العبادات،و إطلاق الماء و طهارته و إباحته،و من إزالة النجاسة أولا عن بدن الميت،و من عدم وجود الحاجب المانع من وصول الماء إلى البشرة،و يكره التغسيل بالماء الساخن.

و الرجال يغسلهم الرجال،و النساء تغسلهن النساء،و لكل من الزوج و الزوجة أن يغسل الآخر،و المطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة.

و أيضا للرجل أن يغسل بنت ثلاث سنين،و للمرأة ابن ثلاث أعوام، و الأولى الاختصار على حال الضرورة.

و أيضا للمحارم بنسب أو رضاع أن يغسل بعضهم بعضا عند الضرورة، و عدم وجود المماثل،على أن يكون الغسل من وراء الثياب (1).

و إذا لم يوجد مماثل و لا ذو رحم يسقط الغسل،لما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام:«ان المرأة تموت في السفر،و ليس معها ذو رحم و لا نساء.قال:

تدفن كما هي في ثيابها،و ان الرجل يموت،و ليس معه إلاّ النساء.قال:يدفن كما هو في ثيابه».

و ذهب أكثر الفقهاء إلى أن المسلم إذا مات،و لا مماثل من المسلمين، و وجد مماثل من أهل الكتاب،يغتسل الكتابي أولا،ثم يباشر بتغسيل الميت المسلم،و استندوا في ذلك إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل مسلم،

ص:109


1- سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يخرج في السفر،و معه امرأته،يغسلها؟قال:نعم و أمته و أخته،يلقي على عورتها خرقة.

و ليس معه رجل مسلم،و لا امرأة مسلمة من ذوي قرابته،و معه رجل نصراني، و نساء مسلمات،ليس بينه و بينهن قرابة؟قال:يغتسل النصراني،ثم يغسله،فقد اضطر.و إذا ماتت المرأة المسلمة،و ليس معها مسلمة،و لا رجل مسلم من قرابتها،و معها نصرانية،تغتسل النصرانية،ثم تغسلها.

و حمل هؤلاء الفقهاء الرواية المتقدمة الآمرة بالدفن بلا غسل،حملوها على صورة عدم وجود المماثل إطلاقا،حتى من أهل الكتاب.

و تجدر الإشارة إلى أن رواية تغسيل الكتابي للمسلم تدل بصراحة على طهارة أهل الكتاب،و ان نجاستهم عرضية لا ذاتية.و بديهة أن الضرورة لا تجعل النجس طاهرا،و انما تسوغ الانتقال من حال إلى أخرى،فالواجب أولا المماثل المسلم مع وجوده،و مع عدمه فالمماثل الكتابي،تماما كما هي الحال بالقياس إلى أولياء الميت الذين يأتي الكلام عنهم.

الشهيد و المرجوم:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان الرجل الذي يقتل في سبيل اللّه،يدفن كما هو في ثيابه إلاّ أن يكون شهيدا،فإنه يغسل و يكفن و يصلّى عليه.

و قال المرجوم و المرجومة،يغسلان و يحنطان و يلبسان الكفن،ثم يرجمان،و يصلى عليهما،و المقتص منه بمنزلة ذلك.ثم يقاد و يصلّى عليه.

الفقهاء:

قالوا:كل من قتل دفاعا عن الإسلام فهو شهيد،و حكمه أن يدفن بثيابه، و دمائه بعد أن يصلى عليه،على شريطة أن تخرج روحه في المعركة أو خارجها،

ص:110

و الحرب قائمة لم تنته بعد،فإذا مات بعد انتهاء المعركة وجب تغسيله.

و من وجب قتله برجم أو قصاص يغتسل هو غسل الأموات،و يتحنط، و يلبس الكفن،ثم يرجم أو يقتل،ثم يصلى عليه،و يدفن.

الكفن:

3-قال الإمام الصادق عليه السّلام:يكفن الميت بثلاثة أثواب،و انما كفن رسول اللّه بثلاثة:ثوبين صحاريين،و ثوب حبرة.و الصحاربة نسبة إلى بلد باليمامة.

و قال أيضا:الميت يكفن في ثلاثة،سوى العمامة و الخرقة،يشد بها وركه، لكيلا يبدو منه شيء،و الخرقة و العمامة لا بد منهما،و ليستا من الكفن.

و قوله عليه السّلام:لا بد منهما،مع قوله:ليستا من الكفن،مبالغة في تأكيد استحباب العمامة و الخرقة.

الفقهاء:

قالوا:يجب تكفين الميت رجلا كان أو امرأة بثلاث قطع:الأولى المئزر يلفه من السرة إلى الركبة،و الأفضل من الصدر إلى القدم.الثانية القميص من المنكبين إلى نصف الساق،و الأفضل إلى القدم.الثالثة الإزار يغطي تمام البدن.

و تستحب العمامة للرجل تدار على رأسه،و يجعل طرفاها تحت حنكه، و أيضا يستحب أن يشد وسطه بخرقة،و لا يزاد على ذلك شيئا.

أمّا المرأة فتستحب لها المقنعة بدلا عن العمامة،و خرقة على وسطها، و ثانية للفخذين.

و يشترط في الكفن ما يشترط في الساتر الواجب حين الصلاة من كونه

ص:111

طاهرا و مباحا،لا حريرا و لا ذهبا،حتى للنساء،و لا من حيوان لا يؤكل لحمه، و ما إلى ذلك مما يأتي الكلام عنه في باب الصلاة ان شاء اللّه.

و حكم السقط كحكم الكبير إذا تم له أربعة أشهر في بطن أمه،و إلاّ يلف بخرقة و يدفن.

و كفن الزوجة على زوجها،و كفن غيرها يخرج من التركة مقدما على الدين و الميراث.

الحنوط:

4-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الحنوط؟قال:اجعله في مساجده.

الفقهاء:

جاء ذكر الحنوط في كتب الفقه بعد الغسل،و سرنا نحن على طريق الفقهاء،و كان الأولى أن يذكر بعد التغسيل لأنه أيسر و أسهل،و لكن جاء ذكر الحنوط في بعض الروايات عن الامام الصادق عليه السّلام بعد الكفن،فكانت القدوة.

و مهما يكن،فان التحنيط واجب كالغسل،و هو مسح الكافور على الأعضاء السبعة التي يسجد عليها المصلي،و هي:الجبهة،و الكفان،و الركبتان، و إبهاما الرجلين،و يجب تحنيط السقط إذا أتمّ الأشهر الأربعة.

و بعد ان نقل صاحب الجواهر اتفاق الفقهاء على وجوب التحنيط بعد الغسل،و نقل أيضا خلافهم في أنّه قبل الكفن أو بعده أو في أثنائه،بعد هذا قال ما نصه بالحرف:«و لعل الأقوى جواز الكل للأصل و إطلاق كثير من الأدلة،و ان كان الأولى تقديمه على الكفن».

ص:112

و تجدر الإشارة إلى أن المحرم في الحج لا يجوز تحنيطه،لأن تطييبه حرام، سواء أ كان بالكافور أو بغيره.

الصلاة:

5-قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كان رسول اللّه إذا صلى على ميت كبر و تشهد، و صلى على الأنبياء،و دعا،ثم كبر و دعا و استغفر للمؤمنين و المؤمنات،ثم كبر الرابعة،و دعا للميت،ثم كبر الخامسة و انصرف،فلما نهاه اللّه سبحانه عن الصلاة على المنافقين انصرف بعد الرابعة،و لم يدع للميت»،فقوله تعالى لنبيه الكريم:

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ (1)أي لا تدعو له.

و قال:كان رسول اللّه يكبر على قوم خمسا،و على قوم آخرين أربعا،فإذا كبر على رجل أربعا اتهم بالنفاق (2).

و قال:فرض اللّه الصلوات خمسا،و جعل للميت من كل صلاة تكبيرة.

و قال:صلّ على من مات من أهل القبلة،و حسابه على اللّه.

الفقهاء:

قالوا:تجب الصلاة على كل مسلم عادلا كان،أو فاسقا،حتى و لو كان قد قتل نفسه،و تجب على الشهيد الذي لا يجوز غسله و تكفينه،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا تدعوا أحدا من أمتي بلا صلاة».

و قال أكثر الفقهاء:لا تجب الصلاة على الطفل المتولد من مسلم إلاّ إذا أتم

ص:113


1- التوبة:84. [1]
2- ان السنة بمذاهبهم الأربعة يكبرون على الميت أربعا فقط.

سن السادسة،و فيه روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.و قال البعض:لا تجب الصلاة على أحد إلاّ من وجبت عليه الصلاة.

صورة الصلاة:

ان يوضع الميت مستلقيا على ظهره،و يقف المصلي وراء الجنازة غير بعيد عنها،مستقبل القبلة،و رأس الميت على يمينه،و ان لا يوجد حائل بينه و بين الميت،و ان يكون المصلي واقفا،إلاّ لعذر مشروع،ثم ينوي و يكبر خمسا بعدد الفرائض اليومية،و يأتي بعد التكبيرة الأولى بالشهادتين،و بعد الثانية بالصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و بعد الثالثة بالدعاء للمؤمنين و المؤمنات،و بعد الرابعة بالدعاء للميت،و ان كان الميت دون البلوغ،دعا لأبويه،ثم يكبر الخامسة و ينصرف.

و ليست الطهارة شرطا في هذه الصلاة،لأنها مجرد دعاء للميت بان يتغمده اللّه في رحمته،و الدعاء لا يشترط فيه الطهارة من الحدث و لا من الخبث،و لسنا نعرف صلاة لا ركوع فيها،و لا سجود.

و تجوز هذه الصلاة جماعة و فرادى،و لكن الامام لا يتحمل عن المأموم شيئا على الإطلاق.

و من المعلوم بضرورة الدين أن الصلاة تكون قبل الدفن،فان دفن قبل أن يصلى عليه،فلا يجوز نبش القبر لأجل الصلاة،بل يصلى عليه في قبره.

ص:114

الدفن:

6-قال اللّه تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَ أَمْواتاً (1)،و قال:

مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ (2)و قال الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام:إنما أمر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على فساد جسده،و قبح منظره،و تغير رائحته، و لا يتأذى الأحياء بريحه،و بما يدخل عليه من الفساد،و ليكون مستورا عن الأولياء،و الأعداء،فلا يشمت عدوه،و لا يحزن صديقه.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:حد القبر إلى الترقوة.و عنه رواية أخرى أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى أن يعمق القبر فوق ثلاثة أذرع.

و سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل يأكله السبع أو الطير، فتبقى عظامه بغير لحم،كيف يصنع به؟قال:يغسل و يكفن،و يصلّى عليه، و يدفن.

و في رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان الميت نصفين صلّي على النصف الذي فيه القلب.

الفقهاء:

قالوا:يجب دفن الميت في الأرض بصورة تمنع الحفرة عنه السباع، و رائحته عن الناس،و لا يجوز وضعه على وجه الأرض و البناء عليه،حتى و ان تحقق الأمران:الحفظ و منع الرائحة.و يستحب تعميق القبر قدر قامة أو إلى الترقوة،و ان يحفر فيه لحد يسجى عليه الميت.

ص:115


1- المرسلات:25-26. [1]
2- طه:55. [2]

و يجب دفن الأجزاء المبانة من الميت،حتى السن و الشعر و الظفر،أمّا القطعة المنفصلة من الحي،أو من الميت فان كانت لحما بدون عظم،تلف بخرقة و تدفن،و ان كانت عظما غير الصدر،تغسل و تلف و تدفن،و ان كانت صدرا،أو بعض الصدر المشتمل على القلب،تغسل و تكفن و يصلى عليها و تدفن.

و إذا مات في سفينة يوضع في خابية،و يوكأ رأسها و تطرح في الماء.و فيه رواية صحيحة عن الامام الصادق عليه السّلام.

و في رواية أخرى عنه عليه السّلام أن يوثق برجله حجر،و يرمى به في الماء.و لكن قال صاحب المدارك:انها ضعيفة السند.

و إذا مات في بئر،و تعذر إخراجه،يسد و يكون قبرا له.

و يجب ان يوضع الميت على جنبه الأيمن مستقبل القبلة،و رأسه الى المغرب،و رجليه الى المشرق.قال صاحب المدارك:الأصل في هذا الحكم التأسي بالنبي و الأئمة الأطهار عليهم السّلام.

و المرأة يلحدها زوجها،أو أحد محارمها،أو النساء،و ان لم يكن زوج و لا محرم و لا نساء،فالرجال الصالحون.

و لا يجوز دفن الميت في مكان مغصوب،و لا في الأوقاف غير المقابر و يحرم نبش القبر إلاّ مع العلم بصيرورة الميت ترابا،أو كان النبش لمصلحة الميت،كما لو كان القبر في مجرى السيل،أو دفن في مكان مغصوب،و أبى المالك بقاءه بحال،أو كفن بما لا يجوز التكفين به،أو دفن معه مال له قيمة، سواء أ كان لوارثه،أو لغيره.

ص:116

الأولياء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:يغسل الميت أولى الناس به.

و قال:يصلي على الجنازة أولى الناس بها،أو يأمر من يحب.

و قال:الزوج أحق بامرأته،حتى يضعها في قبرها.فقيل له:الزوج أحق من الأب و الولد؟.قال:نعم.

الفقهاء:

قالوا:لا بد ان يكون تغسيل الميت و الصلاة عليه بإذن الولي،فإذا غسّل أو كفّن دون الاستئذان منه،وقع العمل باطلا.

و تسأل:أي معنى لإذن الولي،مع العلم بان التكاليف الشرعية لا تناط بإرادة أحد؟

الجواب:

أجل،و لكن الولي هنا ليس شرطا لوجوب الغسل و الصلاة،بل لصحتهما و إيجادهما في الخارج على النحو المطلوب،تماما كالوضوء بالقياس إلى الصلاة التي تجب،و ان لم يكن المكلف متوضئا،و انما عليه أن يتوضأ حين الإطاعة و الامتثال.

و لأولياء الميت مراتب يتقدم بعضهم على بعض على الوصف التالي:

1-الزوج،يقدم حتى على الآباء و الأبناء.

2-الأب،يقدم على الأم و الأولاد.

3-الأم،تقدم مع عدم وجود الأب،على الأولاد و الذكور.

4-الذكور مقدمون على الإناث من طبقتهم و مرتبتهم،و كذا يقدم البالغ

ص:117

على غير البالغ.

5-البنات،يتقدمن على أولاد الأولاد و الأجداد و الأخوة.

6-أولاد الأولاد يقدمون على الجد.

7-الجد يقدم على الأخ.

8-الأخ يقدم على الأخت.

9-الأخت تقدم على أولاد الأخ.

10-الأعمام يتقدمون على الأخوال.

11-الأخوال يقدمون على الحاكم الشرعي.

12-الحاكم يقدم على عدول المسلمين.

و وجود الصبي و المجنون و الغائب بحكم العدم،و من انتسب إلى الميت بالأب و الأم معا أولى ممن انتسب إليه بأحدهما،و من انتسب إليه بالأب أولى ممن انتسب بالأم،و إذا كان أهل المرتبة الواحدة متعددين كالأولاد و الأخوة و الأعمام و الأخوال تكون الولاية مشتركة بين الجميع على السواء،لأن نسبة الدليل إلى الكل واحدة دون تفاوت،فما هو المعروف من استئذان الولد الأكبر فقط لا مستند له في الشريعة.

و إذا أوصى الميت إلى رجل بتجهيزه،لا يسقط إذن الولي،حيث لا مانع من الجمع،فيأذن الولي،و يجهز الموصى إليه،و به نجمع بين أمر الشرع،و ارادة الميت.

مس الميت:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام:هل يجب الغسل على من مس ميتا؟قال:أمّا

ص:118

بحرارة فلا بأس،إنما ذاك إذا برد.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:مس الميت بعد غسله،و القبلة ليس بها بأس.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا قطع من الرجل قطعة،فهي ميتة،فإذا مس انسان،فكل ما فيه عظم فقط وجب على من مسه الغسل،فان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه.

الفقهاء:

قالوا:من مس ميتا بعد أن يبرد جسده،و قبل أن يغسّل،فعليه أن يغتسل من مسّ الميت.

و إذا مسه بعد موته بلا فاصل،و قبل أن يبرد جسده،فلا شيء عليه، و كذلك إذا مسه بعد ان تم غسله الشرعي.

و لا فرق بين أن يكون الميت مسلما أو غير مسلم،كبيرا أو صغيرا،حتى السقط.و إذا مس قطعة مبانة من انسان حي أو ميت،و فيها عظم،وجب عليه الغسل من المس،و ان لم يكن فيها عظم،فلا شيء عليه.

و صورة الغسل من الميت تماما كصورة الغسل من الجنابة و الحيض و الاستحاضة و النفاس.

ص:119

ص:120

الأغسال المستحبة

الأغسال المستحبة كثيرة،و قد أنهاها بعض الفقهاء إلى مائة تسامحا منه في أدلة السنن،و المشهور بين الفقهاء 28 غسلا،كما قال صاحب الشرائع.

منها:غسل الجمعة،و وقته ما بين طلوع الفجر إلى زوال الشمس.قال الإمام الصادق عليه السّلام:الغسل يوم الجمعة على الرجال و النساء في الحضر،و على الرجال في السفر،و ليس على النساء في السفر.و قال:ليتزين أحدكم يوم الجمعة،يغتسل و يتطيب.

و منها:أول ليلة من رمضان المبارك،و ليلة النصف،و السابعة عشرة، و التاسعة عشرة،و احدى و عشرين،و الثالثة و عشرين،و ليلة الفطر،و يوم العيدين،و عرفة،و ليلة النصف من رجب،و اليوم السابع و العشرين منه،و ليلة النصف من شعبان،و يوم المباهلة و هو 24 من ذي الحجة.

و منها:غسل الإحرام،و زيارة الرسول و آله الاطهار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و غسل التوبة، و لدخول الكعبة،و غيره كثير.

و فيها جميعا روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و تقدم أنه إذا اجتمعت أغسال عديدة كفى عنها غسل واحد،أما صورة الغسل المستحب فهي تماما كصورة غسل الجنابة،مع اعتبار الشروط من طهارة الماء و إطلاقه و إباحته.

ص:121

و ذهب جماعة من فقهاء الشيعة إلى أن الغسل مستحب في نفسه دون أن يقصد المغتسل آية غاية من الغايات المنصوص عليها،لقوله تعالى وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (1).و قول الإمام عليه السّلام:ان استطعت ان تكون في الليل و النهار على الطهارة،فافعل.

ص:122


1- البقرة:222. [1]

التيمم

اشارة

قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (1).

و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:خلقت لي الأرض مسجدا و طهورا.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ،فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم و يصلّ.

و سئل عن رجل لا يكون معه ماء،و الماء عن يمين الطريق و يساره غلوتين،أو نحو ذلك؟قال:لا آمره أن يغرر بنفسه،فيعرض له لص أو سبع.

و أيضا سئل عن رجل يمر بالركية-أي البئر-و ليس معه دلو؟قال:ليس عليه أن يدخل الركية،لأن رب الماء هو رب الأرض،فليتيمم.و في رواية أخرى أن رب الماء هو ربّ الصعيد.ان اللّه جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا.

و أيضا سئل عن رجل تكون به القروح و الجراحات فيجنب؟قال:لا بأس بأن يتيمم و لا يغتسل.إلى غير ذلك كثير.

ص:123


1- النساء:43. [1]
الفقهاء:

قسموا الطهارة إلى قسمين:اختيارية،و اضطرارية،و الأولى الطهارة المائية،و الثانية الطهارة الترابية،و هذه بدل عن تلك تسوغها الأسباب الموجبة للتيمم عقلا أو شرعا،و هذه الأسباب ما يلي:

الأسباب الموجبة للتيمم
عدم الماء:
اشارة

1-عدم وجود الماء الكافي للوضوء أو الغسل في سفر أو حضر،إجماعا و نصا.

و تساءل:إذا لم يكن لديه ماء،لكنه يحتمل و لا يستبعد أن يصيب الماء إذا بحث عنه و سأل،فهل يجب عليه البحث و السؤال،بحيث إذا تيمم بدونه يبطل عمله؟

الجواب:

أجل،يجب-ان كان في الوقت سعة-لأن عدم الماء شرط في صحة التيمم،و بديهة أنّه لا بد من إحراز الشرط و العلم به،و لا يحصل هذا العلم إلاّ بعد البحث و الفحص الموجب لليأس،و بتعبير الفقهاء أن الشك في وجود الماء يستدعي الشك في مشروعية التيمم فلا يكون مجزءا في نظر العقل،هذا، بالإضافة إلى قول الإمام عليه السّلام:إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت.

و قالوا:يجب على المسافر أن يبحث عن الماء في البرية مقدار رمية سهم إذا كانت الأرض وعرة،و مقدار رمية سهمين إذا كانت سهلة،على أن يكون البحث إلى الجهات الأربعة يمينا و شمالا و أماما و وراء،مع عدم اليأس من عدم وجود الماء،و الأمان على النفس و المال،و استندوا لهذا الحكم برواية عن الامام

ص:124

الصادق عليه السّلام:«يطلب الماء في السفر ان كانت الحزونة-أي الأرض وعرة-فغلوة، و ان كانت سهولة فغلوتين».

و ليس من شك أن هذه الأحكام انما شرعت،حيث كان السفر على الأقدام و الجمال،أما اليوم،حيث السيارات و الطائرات،و لا سبع لا ضبع فلا موضوع لها من الأساس.

و لكن ينبغي أن نعلم أن قولهم-هنا-يجب البحث و الفحص انما هو تفريغ و تطبيق لقاعدة عامة من صميم الحياة،و هي أن كل ما يتوقف عليه وجود الواجب بعد وجوبه فهو واجب،و أنّه لا عذر أبدا للإنسان عند اللّه و العقل و الناس أن يعمل أمرا يعلم علم اليقين أن إهماله سيؤدي حتما إلى إهمال الواجب و تركه، و هذا الضابط لا يختص بباب دون باب من الفقه،و لا بجهة دون جهة من الحياة (1).

و من هذا الضابط يتبين معنا أن من كان لديه قليل من الماء يكفي لوضوئه أو غسله من الجنابة فقط تحتم عليه أن يحتفظ به لأجل الصلاة،و لا يجوز له التصرف فيه لغير ضرورة،و لو لم يدخل الوقت إذا علم أنّه لن يجد الماء عند الصلاة بعد دخول وقتها.

أمّا القول بأن حفظ الماء مقدمة و وسيلة من أجل الصلاة،و المفروض أنّها لا تجب قبل الوقت،و إذا لم تجب الغاية فكيف تجب الوسيلة؟و هل يزيد الفرع على الأصل،و التابع على المتبوع؟أمّا هذا القول فلعب بالألفاظ بعد العلم بأن

ص:125


1- و خرج جماعة من الفقهاء عن هذه القاعدة في صورة واحدة فقط،و هي أن للإنسان ان يجنب مختارا و بإرادته مع علمه بأنه لن يجد الماء إذا أجنب،و المسوغ لهذا الاستثناء وجود النص،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان أبا ذر قال:يا رسول اللّه هلكت جامعت أهلي على غير ماء.فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين.لأن قول أبي ذر:هلكت يشعر بأنه جامع،و هو آيس من وجود الماء.

وقت الصلاة آت لا محالة،و انّها لا تصح بالتيمم مع القدرة على الوضوء،و ان هذا قادر عليه في نظر العقل و العرف،و لذا وجب السفر إلى الحج،و إلى كثير غيره قبل مجيء زمانه،و وجب التعلم قبل أوان العمل،و الغسل لصوم رمضان قبل الفجر،إلى غير ذلك.

الضرر:
اشارة

2-ان يتضرر صحيا من استعمال الماء،و يكفي مجرد الظن بالضرر، سواء أحصل له تلقائيا،أم من قول الطبيب،و إذا قال له الطبيب:ان استعمال الماء مضر،و كان يعلم هو أنّه غير مضر،و ان الطبيب مخطئ في تشخيصه،فالمعول على علمه،لا على قول الطبيب.و ان كان لا يعلم بالضرر و لا بعدمه،فان حصل له العلم أو الظن أخذ بقول الطبيب،و بالأصح بعلمه أو ظنه الناشئ من قول الطبيب.و ان لم يحصل له شيء أبدا،و بقي على شكه و تردده،أخذ بقول الطبيب بناء على أن الخبر الواجب حجة في الموضوعات،و إلاّ فلا يجوز له الاعتماد عليه.

و لو افترض أنه لا يتضرر صحيا من استعمال الماء،و لكنه يتألم من شدة البرد،و تصيبه مشقة فوق المعتاد و المألوف حين الغسل أو الوضوء،بحيث إذا انتهى منه عاد إلى طبيعته،و دون أن ينكب بصحته،فهل تتعين في حقه الطهارة المائية،أو تجوز له الطهارة الترابية،أو هو مخير بينهما؟

الجواب:

انه مخير بين الطهارة المائية،و بين الطهارة الترابية،فإن شاء اغتسل أو توضأ،و ان شاء تيمم،و في الحالين تصح عبادته.أمّا لو استعمل الماء مع وجود

ص:126

الضرر الصحي فعبادته فاسدة.و الفرق أن الضرر منهي عنه لقوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ،و النهي في العبادة يدل على الفساد،أمّا تحمل الألم و المشقة و الحرج فغير منهي عنه إطلاقا،فإذا تطهر و صلى صحت طهارته و صلاته.و من هنا قيل:ان نفي الحرج في الشريعة من باب الرخصة،و نفي الضرر من باب العزيمة.

و تسأل:كما أن الطهارة مع الحرج و المشقة غير منهي عنها فهي أيضا غير مأمور بها،و مع عدم الأمر لا تكون صحيحة بحال،لأن صحتها تتوقف على الإتيان بها بداعي امتثال الأمر،و المفروض عدم الأمر،فتكون النتيجة ان الغسل و الوضوء مع الحرج و المشقة تماما كالغسل و الوضوء مع الضرر الصحي.

الجواب:

ان العبادة راجحة بذاتها،و محبوبة مرغوبة للشارع بطبيعتها،و يكفي للتقرب بها إليه عدم النهي عنها،لا وجود الأمر بها فعلا،و الشارع لم ينه عن التعبد له مع وجود الحرج و المشقة،بل رفع الأمر و الإلزام عن العبد في مثل هذه الحال من باب التسهيل و المنة و التفضل.فإذا اختار لنفسه المشقة و الحرج و ألزم نفسه به كان ذاك إليه،بل يعد مطيعا و منقادا.أمّا مع وجود الضرر فإنه ملزم و مرغم على الترك،و لا خيار له إطلاقا،لأن الضرر محرم في ذاته،و مكروه و مبغوض للشارع بطبيعته،سواء ألبس ثوب التعبد،أو التمرد.

قلة الماء:

3-من مسوغات التيمم ان يكون معه قليل من الماء يحتاجه حالا أو مآلا لغاية أهم من الوضوء و الغسل،كشربه أو شرب غيره كائنا من كان،و ما كان إذا

ص:127

اضطر إليه،ما دام لكبده الحريّ أجر،و في صرفه خير و نفع،و دفع للضرر و الفساد.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يكون معه الماء في السفر، و يخاف قلته؟قال:يتيمم بالصعيد،و يستبقي الماء،فإذا احتفظ بالماء خوفا من العطش،و تيمم صح تيممه و صلاته و إذا خالف و توضأ أو اغتسل فقد عصى قطعا،و لكن وضوءه و غسله صحيحان،لأن الأمر بالتيمم لا يستدعي النهي عن الوضوء أو الغسل،إذ المفروض أنّه لا يتضرر،و لا يتمرض من استعمال الماء، و انما يخاف العطش فقط.و الخوف من العطش شيء،و الضرر الصحي الحاصل من استعمال الماء شيء آخر،و عليه يكون الوضوء و الغسل مع الخوف من العطش تماما كالصلاة مع عدم إنقاذ الغريق فإنها تصح،و لكن يأثم المصلي و يعاقب على ترك الأهم.

ضيق الوقت:

4-ان يتسع الوقت للوضوء و الصلاة معا،بحيث إذا توضأ وقعت الصلاة بكاملها في وقتها المحدد.و لو افترض أنّه إذا توضأ وقعت الصلاة أو ركعة منها خارج الوقت،و إذا تيمم وقعت بتمامها داخل الوقت،لو افترض ذلك وجب التيمم،و إذا توضأ بطل عمله،و عليه ان يقضي الصلاة،لأن المحافظة على الوقت أهم في نظر الشرع من المحافظة على الطهارة المائية،و ليس من شك أن المهم يسقط بالأهم،و ان الموقت يذهب بذهاب وقته،و يتفرع على هذا ما يلي:

الأول:ان الوضوء لا يصح منه في هذه الصورة إذا أراد به هذه الصلاة بعينها،إذ المفروض ان هذه الصورة تجب مع التيمم لا مع الوضوء،أما إذا قصد غاية أخرى و لو الكون على الطهارة صح وضوءه لان الوضوء راجح بنفسه،و ان

ص:128

الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده،فيكون حال الوضوء تماما كحال الصلاة قبل زوال النجاسة عن المسجد.

الثاني:إذا اغتسل أو توضأ جاهلا بأن الوقت لا يتسع للطهارة و الصلاة معا، ثم تبين له الضيق و عدم السعة صح عمله ان قصد غاية أخرى غير هذه الصلاة، و بطل ان قصدها بالذات.

الثالث:ان التيمم لضيق الوقت عن استعمال الماء انما يخول الدخول بهذه الصلاة فقط،أمّا الصلوات الأخرى،و ما إليها من الغايات فلا،لأنه واجد للماء بالنسبة إليها.

ما يصح به التيمم:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل دخل الأجمة-أي الغابة-ليس فيها ماء، و فيها طين،ما ذا يصنع؟قال يتيمم فإنه-أي الطين-الصعيد.قال السائل:انّه راكب،و لا يمكنه النزول من خوف،و ليس هو على وضوء؟قال:ان خاف على نفسه من سبع أو غيره،و خاف فوات الوقت:فليتيمم،يضرب بيده على اللبد،أو البرذعة،و يتيمّم و يصلي.

و قال:إذا كنت في حال لا تقدر إلاّ على الطين فتيمم به،فان اللّه أولى بالعذر،إذا لم يكن معك ثوب جاف،أو لبد تقدر ان تنفضه،و يتيمّم به.

و قال:إذا كانت الأرض مبتلة ليس فيها تراب،و لا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم به.

ص:129

الفقهاء:
اشارة

قالوا:يجب التيمم بالصعيد،لقوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، و الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو رملا أو حجرا،على شريطة أن يكون مباحا غير مغصوب،و طاهرا غير نجس،و لا يجوز التيمم بشيء من المعادن،أو النبات،أو الرماد.

و قالوا:إذا عجز عن التيمم بما يصدق عليه وجه الأرض،فإن أمكن أن يجمع الغبار من الثياب و ما إليها فعل،و تيمم به،و إلاّ يتيمم بالغبار على الثوب،أو عرف الدابة،و نحوه،و ان تعذر كل ذلك تيمم بالطين،حيث لا يقدر إلاّ عليه.

و تسأل:إذا حبس،أو وجد في مكان لا ماء فيه،و لا ما يتيمّم به،حتى الطين،بحيث يصدق عليه أنه فاقد الطهورين،فما ذا يصنع؟هل يصلي بلا وضوء و لا تيمم،أو لا تجب عليه الصلاة،و إذا لم تجب عليه أداء فهل تجب عليه قضاء؟

الجواب:

ذهب أكثر الفقهاء إلى عدم وجود الصلاة أداء،و وجوبها قضاء،أمّا الدليل على عدم الأداء فهو الحديث المشهور:«لا صلاة إلا بطهور»و قد تعذرت،و أمّا وجوب الأداء فقد استدل عليه صاحب المدارك بقول الإمام:«متى ذكرت صلاة فاتتك فصلها» (1)،ثم قال صاحب المدارك:و ما قيل من ان سقوط الأداء يوجب سقوط القضاء فدعوى مجردة عن الدليل،مع انتقاضها بوجوب القضاء على الساهي و النائم،و وجوب قضاء الصوم على الحائض.

ص:130


1- و قد يقال:ان هذا يصدق على من فاتته صلاة واجبة،كان عليه أن يؤديها،و لا يشمل بحال من لم تجب عليه من الأساس كما نحن فيه،و عليه يكون الاستشهاد في غير محله.
صورة التيمم:
اشارة

جاء في الآية الكريمة 43 من سورة النساء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً .

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عمارا أصابته جنابة،فتمعك-أي تمرغ-كما تتمعك الدابة،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:تمعكت كما تتمعك الدابة؟فقال المستمعون:كيف التيمم؟فوضع الامام عليه السّلام يديه على الأرض،ثم رفعهما، فمسح وجهه و يديه فوق الكف قليلا.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن التيمم،فضرب بيديه على الأرض،ثم رفعهما فنفضهما،ثم مسح بهما جبينه و كفيه مرة واحدة.

الفقهاء:

قالوا:المراد من الوجه هنا بعضه،لا كله،لأن الباء في قوله تعالى:

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ تفيد التبعيض،تماما كقوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ بالنسبة إلى الوضوء،لأنها إذا لم تكن للتبعيض تكون زائدة،لأن امسحوا تتعدى بنفسها، و حددوا القدر الواجب من مسح الوجه ان يبدأ المتيمم من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى،و يدخل فيه الجبهة و الجبينان.

و قالوا:المراد باليدين الكفان فقط،فإن اللّه تبارك و تعالى أطلق الأيدي في التيمم،و لم يقيدها بالحد إلى المرفقين،كما فعل في الوضوء،و عليه يكون تيمم الامام و مسحه الكفين دون التعدي عنهما تفسيرا و بيانا للآية،و مقيدا لإطلاقها، و يؤيد ذلك أنك إذا قلت:هذي يدي،و فعلته بيدي لا يفهم من اليد إلا الكف فقط.

ص:131

و بالتالي،فإن صورة التيمم عندهم هكذا:ان تضرب على الأرض بباطن الكفين،و تمسح وجهك من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى،ثم تمسح تمام ظاهر الكف اليمنى بباطن الكف اليسرى،و تمام ظاهر اليسرى بباطن اليمنى.

و بعد ان اتفق الفقهاء على ذلك اختلفوا فيما بينهم:هل يجب في التيمم ضربة واحدة على الأرض سواء أ كان بدلا عن الوضوء،أم بدلا عن غسل الجنابة و الحيض و النفاس،و مس الميت،أو يجب التفصيل بين التيمم الذي هو بدل عن الوضوء فتجب له ضربة واحدة،و بينما هو بدل عن الغسل،فتجب ضربتان، إحداهما للوجه،و الأخرى لليدين؟ ذهب المشهور إلى التفصيل،و أنه تكفي الضربة الواحدة لما هو بدل عن الوضوء،و لا بد من الضربتين لما هو بدل عن الغسل،أي غسل.

و قال كثير من المحققين:لا تجب الضربتان بحال،بل تكفي ضربة واحدة لكل تيمم،سواء أ كان بدلا عن الوضوء،أم بدلا عن الغسل،و استدلوا بأن الإمام عليه السّلام حين تيمم ضرب ضربة واحدة،و قد أراد أن يبين حقيقة التيمم و ماهيته،و يعلّم الناس الصورة الواجبة لما هو بدل الوضوء،و بدل الغسل،و لو كان هنالك من فرق لفصل و لم يسكت،فترك التفصيل دليل على الشمول و العموم،بل أن تيممه عليه السّلام أظهر فيما هو بدل عن غسل الجنابة،حيث أتى به، بعد أن حكى قصة عمار الذي كان جنبا.

و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:ان الاكتفاء بالضربة الواحدة فيما هو بدل الغسل أظهر و أقوى،نظرا إلى الاخبار الكثيرة الحاكية للضربة الواحدة، بحيث لا يبعد دعوى تواترها،و قد جاءت بكاملها جوابا عن السؤال عن كيفية

ص:132

التيمم على الإطلاق،و بهذا يتبين أن بعض الروايات الدالة على الضربتين لا تصلح بحال لمعارضة الدالة على الواحدة،فيتعين امّا طرحها،و امّا حملها على الاستحباب،و حملها على الاستحباب أشبه بالقواعد و أحوط.

و هنالك رواية أخرى دلت على أن الواجب ضربات ثلاث:واحدة للوجه، و ثانية للكف اليمنى،و ثالثة،للكف اليسرى،و لكنها رواية شاذة،و العمل بها متروك.

شروط التيمم و أحكامه:

1-لا يصح التيمم إلاّ بالنية إجماعا،لأنه من العبادات،و يكفي بها قصد التقرب إلى اللّه سبحانه،و لا يجب أن ينوي استباحة الدخول في الصلاة الواجبة أو المستحبة،و لا رفع الحدث،و لا البدل عن الوضوء أو الصلاة.

2-يجب أن يباشر التيمم بنفسه،لأن الأمر ظاهر بذلك،فإذا قيل:افعل.

أي أفعل أنت دون سواك،هذا،إلى أن الأصل عدم جواز النيابة في العبادات.

أجل،له أن يستعين بالغير عند العجز و الضرورة.

3-تجب الفورية و الموالاة بحيث يمسح ظاهر الكف اليمنى بعد مسح الوجه،و ظاهر الكف اليسرى بعد اليمنى بلا فاصل،حتى و لو كان التيمم بدلا عن الغسل الذي يجوز فيه الفصل و التراخي،و الدليل هو الإجماع.

4-أن لا يوجد حائل مع الاختيار لا على باطن الكف الماسحة،و لا على الوجه و ظاهر الكفين،إذ مع وجود الحاجب و الحائل لا يتحقق معنى المسح الذي أمر اللّه به في قوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ،و إذا كانت جبيرة على بعض أعضاء التيمم كفى المسح بها،و عليها.

ص:133

5-يجب طهارة أعضاء التيمم،مع الاختيار.

6-أجمعوا على أن التيمم قبل دخول وقت الصلاة لا يصح،و أنّه واجب إذا ضاق،بحيث لا يتسع إلاّ للتيمم و الصلاة فقط،و اختلفوا فيما إذا دخل وقت الصلاة،و كان فيه سعة،بحيث إذا تيمم و صلى يبقى جزء منه:فهل له أن يبادر في مثل هذه الحال،أو لا؟أجل له ذلك،فلقد جاء عن الامام الصادق عليه السّلام في رجل تيمم و صلى،ثم أصاب الماء،و هو في الوقت،قال:قد مضت صلاته.و ليس من شك أن صحة الصلاة،و عدم وجوب إعادتها في الوقت،بخاصة مع وجود الماء، دليل واضح على جواز المبادرة إلى التيمم مع السعة،و عدم وجوب الانتظار إلى آخر الوقت،حتى لو احتمل زوال العذر و ارتفاعه،و لا يجب الصبر إلى اللحظة الأخيرة إلاّ مع العلم بزوال السبب الموجب للتيمم (1).

7-يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد صلوات عديدة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل يصلي بتيمم واحد صلاة الليل و النهار كلها؟قال:نعم.

و صرح الفقهاء بأن المتيمم يكون على الطهارة بعد التيمم،و يسوغ له أن يفعل جميع ما يفعله المتطهر من الصلاة و الطواف و قراءة العزائم و مس كتابة المصحف،و غير ذلك مما يستبيحه المتطهر بالماء،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

يكفيك الصعيد عشر سنين،و قول الإمام الصادق عليه السّلام:التراب أحد الطهورين، و هو بمنزلة الماء،و ما إلى ذاك مما يدل على الشمول و عموم المنزلة.

و لم يستثن الفقهاء من هذا التعميم إلاّ من تيمم لضيق الوقت عن الطهارة المائية،و تعين عليه التيمم لأداء هذه الفريضة الخاصة التي لم يتسع الوقت لها،

ص:134


1- لفاقد الماء ثلاث حالات:1-أن يعلم أنه يقدر على الماء آخر الوقت.2-أن يعلم أنّه لا يقدر عليه.3-أن يشك،و لا يجب الانتظار إلاّ في الحالة الأولى.

و للغسل أو الوضوء،و متى أداها يرتفع الموضوع من الأساس،و يكون تماما كمن فقد الماء،ثم وجده.

8-ان يتيمم لعدم الماء،ثم يجده،و لذلك حالات:

الأولى:ان يجده بعد ان تيمم،و قبل أن يدخل الصلاة،فيبطل تيممه بالبديهة،لا لارتفاع العذر فقط،بل لأن التيمم كان وسيلة لغاية لم يؤدها بعد.و لو افترض أنّه فقد الماء بعد التمكن منه،و قبل الصلاة،أعاد التيمم بالاتفاق.

الثانية:ان يجده بعد الفراغ من الصلاة،و لا تجب الإعادة،و ان اتسع الوقت،لقول الإمام عليه السّلام:مضت صلاته،بل لا تجب الإعادة إذا رأى الماء بعد أن يركع،فبالأولى بعد الفراغ.

الثالثة:ان يجده،و هو في أثناء الصلاة،و قد فصّل الفقهاء في هذه الحال بين أن يرى الماء قبل أن يركع،فيرجع عن الصلاة،و يتوضأ و يصلّي،و بين أن يراه بعد الركوع،فيمضي في صلاته،و لا شيء عليه،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل الذي لا يجد الماء،فيتيمم و يقوم في الصلاة،فجاء الغلام،و قال:هو ذا الماء.قال الإمام عليه السّلام:ان كان لم يركع فلينصرف،و ليتوضأ، و ان كان قد ركع فليمض في صلاته.

و تجدر الإشارة إلى أن هذا الحكم مختص بالصلاة فقط،و لا يشمل غيرها من العبادات التي يشترط فيها الطهارة المائية،فلو تيمم و طاف لعدم الماء،ثم وجده في الأثناء و لو في الشوط الأخير بطل الطواف،و وجبت الإعادة بالطهارة المائية،و كذلك إذا يتيمم الميت لعدم الماء،و صلي عليه،ثم وجد الماء قبل الدفن وجب تغسيله و تحنيطه و للصلاة عليه من جديد،و السر أن النص الذي دلّ على عدم الإعادة مختص بالصلاة فقط،و لا يجوز قياس غيرها عليها من

ص:135

العبادات،لأن القياس باطل بالاتفاق.

9-سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام:عن ثلاثة أنفار كانوا في سفر:أحدهم جنب،و الثاني ميت،و الثالث على غير وضوء،و حضرت الصلاة، و معهم من الماء ما يكفي أحدهم،من يأخذ الماء؟و كيف يصنعون؟قال:

يغتسل الجنب،و يدفن الميت بتيمم،و يتيمم الذي هو على غير وضوء.

و عمل المشهور بهذه الرواية،و أعرضوا عن الرواية الأخرى التي قدمت الميت لإرسالها و ضعف سندها،فلا تصلح لمعارضة النص الذي قدم الجنب- كما قال صاحب المدارك.

ص:136

كتاب الصلاة

الفرائض و نوافلها

معنى الصلاة:

أصل الصلاة في اللغة الدعاء،قال تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ (1)أي دعاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.و قال تعالى إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ (2)أي دعاءك سكن لهم،إلى غير ذلك من الآيات،و منه الصلاة على الميت أي الدعاء له.

و هي في الدين و الشريعة هذه الصلاة المعهودة التي يشترط فيها الطهور، و تتضمن أقوالا و أفعالا خاصة،و تفتتح بالتكبير،و تختتم بالتسليم،و هي التي ذكرها اللّه جل و عز في العديد من آيات كتابه،و أمر بالمحافظة عليها،و توعد على تركها،من ذلك قوله تباركت أسماؤه ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (3)أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (4)و قال

ص:137


1- التوبة:100. [1]
2- التوبة:104. [2]
3- المدثر:42-43. [3]
4- مريم:59. [4]

سبحانه أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ (1)قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (3).

جاحد الصلاة و تاركها:

و الصلاة من معالم الإسلام و أركانه الخمسة التي أشار إليها الحديث الشريف:«بني الإسلام على خمس:شهادة ان لا إله إلا اللّه،و إقام الصلاة،و إيتاء الزكاة،و صيام شهر رمضان،و حج البيت من استطاع إليه سبيلا».

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ما بين الكفر و الإيمان إلاّ ترك الصلاة.من تركها متعمدا فقد برئت منه ملة الإسلام.

و قال:ان الزاني و شارب الخمر تدعوه الشهوة،إمّا تارك الصلاة فلا يدعوه إلاّ الاستخفاف.

و اجمع الفقهاء كلمة واحدة على أن المسلم إذا جحد بعد إسلامه وجوب الصلاة فهو كافر مرتد يجب قتله،لأنه ابتدع دينا غير الإسلام،و إذا ترك الصلاة فسقا و تهاونا أدّبه الحاكم بما يراه من الشتم و الضرب أو السجن،فان ارتدع و إلاّ أدبه ثانية،فان تاب،و إلاّ شدد عليه،و ان استمر و لم يرتدع قتل في الرابعة.

الصلاة الواجبة:

الصلاة منها واجبة،و منها مستحبة،و الأولى هي الصلاة اليومية،و صلاة

ص:138


1- البقرة:43،و [1]النساء:77. [2]
2- المؤمنون:1 و 2. [3]
3- النساء:103. [4]

الآيات،و صلاة الطواف الواجب،و قضاء الولد الأكبر عن والديه ما فاتهما من الصلاة في مرض الموت.و اليومية خمس:الظهر أربع ركعات،و العصر مثلها، و المغرب ثلاث،و العشاء أربع،و الصبح ركعتان.و تنتصف الأربع في السفر، و تصير كل من الظهر و العصر و العشاء ركعتين،و يأتي التفصيل.و هذا ثابت بضرورة الدين،و ليس محلا للاجتهاد و التقليد،فلا داعي-اذن-لذكر النصوص.

نوافل الصلاة اليومية:

و الصلاة المستحبة ما عدا الصلاة الواجبة،و هي كثيرة،و نذكر منها هنا نوافل الصلاة اليومية،و هي أربع و ثلاثين ركعة:8 للظهر قبلها،و 8 للعصر قبلها كذلك،و 4 للمغرب بعدها،و 2 للعشاء كذلك،و لكنها من جلوس،و تعدان بركعة واحدة،و تسمى الوتيرة،و 8 صلاة الليل،و 2 الشفع،و ركعة الوتر واحدة، و 2 صلاة الفجر.و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام تجدها في كتاب الوسائل.و قال السيد الحكيم في المستمسك:«بهذا الترتيب استفاضت النصوص لو لم تكن قد تواترت».

و على هذا يكون مجموع عدد ركعات الفريضة و النافلة 51 ركعة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:الفريضة و النافلة 51 ركعة،منها ركعتان عن جلوس بعد العتمة-أي العشاء-تعدان بركعة،و هو قائم،الفريضة منها 17 ركعة، و النافلة 34.

و النوافل كلها تصلى ركعتين ركعتين بتشهد و تسليم،تماما كصلاة الصبح إلاّ الوتر،فإنها ركعة واحدة بتشهد و تسليم،و تسقط في السفر جميع النوافل إلاّ

ص:139

نافلة المغرب،لقول الإمام عليه السّلام:الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شيء إلاّ المغرب،فان بعدها أربع ركعات،لا تدعهن في حضر،و لا في سفر.

ص:140

حدود الأوقات

اشارة

قال اللّه تبارك و تعالى:في الآية 115 من سورة هود وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ .فالطرف الأول من النهار لصلاة الصبح،و الطرف الثاني منه لصلاة الظهر و العصر،و زلفا من الليل لصلاة المغرب و العشاء.

و في الآية 130 من سورة طه وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى .

و في الآية 78 من الأسراء أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً .و دلوك الشمس زوالها،و هو وقت صلاة الظهر و العصر،و غسق الليل ظلمته،و هي وقت صلاة المغرب و العشاء، و قرآن الفجر يعني صلاة الصبح يشهدها الناس،و في كلام أهل البيت عليهم السّلام ان غسق الليل نصفه.

و معلوم أن هذا مجمل لم يحدد الأوقات تحديدا واضحا،لا يقع اللبس فيه و الاشتباه،فلا بد من الرجوع إلى السنة الكريمة،لأنّها تفسير و بيان لما أجمل اللّه في كتابه.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من صلى في غير الوقت فلا صلاة له.

و قال عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من صلى الصلاة لغير وقتها رفعت له

ص:141

سوداء مظلمة،تقول:ضيعتني ضيعك اللّه،و أول ما يسأل العبد إذا وقف بين يدي اللّه تعالى عن الصلاة،فإن زكت صلاته زكا سائر عمله،و ان لم تزك صلاته لم يزك عمله.

و قال:لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على مواقيت الصلوات الخمس،فإذا ضيعهن اجترأ عليه،و أدخله في العظائم.

و قال:امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها.

و قال:إذا دخل وقت الصلاة فتحت أبواب السماء لصعود الأعمال،فما أحب أن يصعد عمل أوّل من عملي،و لا يكتب في الصحيفة أحد أوّل مني.

و قال حفيده الإمام الرضا عليه السّلام:إذا دخل الوقت عليك فصلّها،فإنك لا تدري ما يكون.إلى غير ذلك كثير.

وقت الظهرين:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر و العصر جميعا،إلاّ أن هذه قبل هذه،ثم أنت في وقت منهما جميعا،حتى تغيب الشمس.

و قال عليه السّلام:إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر،حتى يمضي مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات،فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر، حتى يبقى من الشمس مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات،فإذا بقي مقدار ذلك،فقد خرج وقت الظهر،و بقي وقت العصر،حتى تغيب الشمس.

و قال:لكل صلاة وقتان،و أول الوقت أفضلهما.

و قال:إذا كان ظلك مثلك فصل الظهر،و إذ كان ظلك مثليك فصل العصر.

ص:142

الفقهاء:

أجمعوا كلمة واحدة على أن لكل من الظهر و العصر وقتا مختصا بها،و آخر مشتركا مع أختها،فإذا زالت الشمس عن كبد السماء اختصت الظهر بمقدار أربع ركعات لا تشاركها فيه العصر،و إذا قربت الشمس من المغيب اختصت العصر من آخر الوقت بمقدار أربع ركعات لا تشاركها فيه الظهر،و ما بين هذين الوقتين المختصين مشترك بين الظهرين.

و أيضا أجمعوا على أن لكل صلاة وقتين:أحدهما أفضل من الآخر،و أن الأفضل هو التعجيل،و لكنهم اختلفوا في تحديد الوقت لكل من الظهر و العصر تبعا لاختلاف الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و المشهور في المذهب هو العمل بالرواية المتقدمة،و مؤداها أن وقت الفضيلة أولا فضيلة للظهر أن يصير ظل كل شيء مثله،و وقت الفضل للعصر أن يصير ظل كل شيء مثليه.

و يجدر التنبيه إلى أن الفقهاء ابتدأوا في كتبهم بصلاة الظهر،لأنّها أوّل صلاة فرضت في الإسلام،ثم فرضت بعدها العصر،ثم المغرب،ثم العشاء،ثم الصبح.

وقت العشاءين:
اشارة

قال الامام الصادق عليه السّلام:«وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق.

ذلك أن المشرق مطل على المغرب هكذا،و رفع يمينه فوق يساره،-ثم قال- فإذا غابت ههنا ذهبت الحمرة من ههنا» (1).

ص:143


1- يتحقق الغروب بمجرد مغيب الشمس،و لكن هذا المغيب لا يعرف بمواراة القرص عن العيان،بل بارتفاع الحمرة من المشرق،لأن المشرق مطل على الغرب،و عليه تكون الحمرة المشرقية انعكاسا لنور الشمس،و كلما أو غلت الشمس في المغيب كلما تقلص هذا الانعكاس. أمّا ما نسب إلى الشيعة من أنّهم يؤخرون المغرب حتى تشتبك النجوم فكذب و افتراء فقد قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ان أهل العراق يؤخرون المغرب،حتى تشتبك النجوم.قال:هذا من عمل عدو اللّه أبي الخطاب.

و قال:أوّل وقت المغرب ذهاب الحمرة،و آخر وقتها إلى غسق الليل،أي نصفه.

و قال:إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب،حتى يمضي مقدار ما يصلي المصلي ثلاث ركعات،فاذ ما مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب و العشاء الآخرة،حتى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلي المصلي أربع ركعات،و إذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب،و بقي وقت العشاء إلى انتصاف الليل.

و قال:ان نام رجل،أو نسي أن يصلي المغرب و العشاء الآخرة،فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصليهما كلتيهما،فليصلهما،و ان خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء،و ان استيقظ بعد الفجر،فليصل الصبح،ثم المغرب و العشاء.

الفقهاء:

قالوا:أوّل وقت المغرب غياب الشمس المعلوم بذهاب الحمرة المشرقية إلى أن يبقى لانتصاف الليل مقدار أربع ركعات،و وقت العشاء من حين الفراغ من المغرب إلى نصف الليل و تختص المغرب بمقدار ثلاث ركعات من أوّل الوقت، و العشاء بمقدار أربع من آخر الوقت،و ما بينهما مشترك،تماما كما تقدم في وقت الظهرين.

ص:144

و لكل من المغرب و العشاء وقتان:أحدهما للفضيلة،و الآخر للاجزاء، و يمتد وقت الفضيلة للمغرب من أوّل الوقت إلى ذهاب الحمرة المغربية،و وقت فضيلة العشاء من ذهاب هذه الحمرة إلى ثلث الليل.

و إذا نسي صلاة المغرب و العشاء،أو نام عنهما،حتى انتصف الليل أتى بهما بنية الأداء،لأن وقتهما مع الاضطرار يمتد إلى طلوع الفجر،و الأفضل أن يؤديهما بقصد التقرب إلى اللّه سبحانه دون نية الأداء،أو القضاء.

وقت الصبح:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لكل صلاة وقتان،و أوّل الوقتين فضلهما،و وقت الفجر من حين الفجر إلى أن يتخلل الصبح السماء.

الفقهاء:

قالوا أوّل صلاة الصبح هو الفجر الصادق،أما الفجر الكاذب المشبه بذنب السرحان فلا تحل فيه الصلاة،و لا يحرم الأكل على الصائم،و آخر وقتها طلوع الشمس،و أوّل الوقت أفضل من غيره.

أوقات النوافل اليومية:

أجمع الفقهاء على أن وقت نافلة الظهر يدخل بالزوال،و وقت نافلة العصر يدخل بالفراغ من صلاة الظهر،و اختلفوا في وقت الانتهاء،قال صاحب الجواهر

ص:145

«و القول بأن وقت نافلة الظهر يمتد إلى أن يصير الفيء مقدار قدمين،و نافلة العصر إلى أن يصير أربعة أقدام هو المشهور فتوى و رواية نقلا و تحصيلا،بل ان بعض العبارات تشعر بالإجماع للنصوص المستفيضة،بل لعلها متواترة.منها صحيح ابن مسكان عن زرارة عن الإمام الباقر عليه السّلام:لك أن تتنفل من زوال الشمس إلى أن يمضي الفيء ذراعا-أي مقدار قدمين-فإذا بلغ فيؤك ذراعا من الزوال بدأت بالفريضة،و تركت النافلة،و إذا بلغ فيؤك ذراعين بدأت بالفريضة،و تركت النافلة».

و وقت نافلة المغرب من حين الفراغ من الفريضة إلى ذهاب الحمرة المغربية،و وقت نافلة العشاء يمتد بامتداد وقت العشاء،و وقت نافلة الصبح من الفجر إلى طلوع الحمرة المشرقية،و وقت نافلة الليل من نصفه إلى طلوع الفجر، و كلما قربت من الفجر كان أفضل.قال صاحب الجواهر بلا خلاف معتد به.

و فسر أهل البيت عليهم السّلام قوله تعالى وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (1)،و قوله:

وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (2)فسّروه بصلاة الليل.

مسائل:
1-قدمنا أن صلاة الظهر تختص بمقدار أربع ركعات من أوّل الزوال

،و أن العصر تختص بمقدار ركعاتها من آخر الوقت،و معنى هذا أن العصر لا تصح في الوقت المختص بالظهر،و لا الظهر تصح في الوقت المختص بالعصر،أمّا الصلوات الأخرى كالقضاء فلا بأس بوقوعها في الوقت المختص بالظهر

ص:146


1- الذاريات:18. [1]
2- آل عمران:17. [2]

و العصر،و كذلك الحكم بالقياس إلى المغرب و العشاء.

2-إذا باشر بصلاة العصر معتقدا أنّه قد صلّى الظهر،ثم تبين له،و هو في

أثناء الصلاة أنّه لم يأت بالظهر

،عدل بنيته إلى الظهر،و ان لم يذكر،حتى فرغ، صحت عصرا،و أتى بعدها بالظهر،على شريطة أن لا تكون قد وقعت بتمامها في الوقت المختص بالظهر،و إلاّ فهي لغو.

3-لا يجوز العدول من صلاة سابقة إلى صلاة لا حقة

لأن الأصل عدم صحة العدول،و يجوز العكس،لقول الإمام عليه السّلام:ان نسيت الظهر،حتى صليت العصر،فذكرتها،و أنت في الصلاة،أو بعد فراغك منها،فانوها الأولى،ثم صلّ العصر،فإنما هي أربع مكان أربع.

4-إذا أخر صلاة الظهرين

،حتى بقي من الوقت ما يتسع لأربع ركعات فقط،صلّى العصر أداء،و الظهر بعدها قضاء،و إذا بقي من الوقت ما يتسع لخمس ركعات صلى الظهر أولا،ثم صلّى العصر ثانية لقول الإمام عليه السّلام:من أدرك من الوقت ركعة فقد أدرك الوقت كله.و عليه يأتي بالصلاتين معا بنية الأداء،و لو صلّى العصر أولا،و أتى بعدها بالظهر،لكانت الأولى أداء،و الثانية قضاء،و ليس من شك أن الأداء أهم من القضاء،و مقدم عليه،و الحكم كذلك إلى العشاءين.

5-من فاتته فرائض متعددة فعليه قضاءها على الترتيب الذي فاتته مقدما

السابق على اللاحق

،لقول الإمام عليه السّلام:«يقضي ما فاته كما فاته».

6-إذا صلى و قد رأى أن الوقت قد دخل
اشارة

،ثم تبين له العكس،فما ذا يصنع؟

الجواب:

إذا كانت الصلاة قد وقعت بتمامها خارج الوقت فهو لغو،و عليه الإعادة

ص:147

إجماعا و نصا،و هو قول الإمام عليه السّلام في رجل صلّى الغداة بليل،غره من ذلك القمر.قال:يعيد صلاته.و إذا وقع بعضها خارج الوقت،و بعضها داخل الوقت، و لو السلام فقط،كفى،و لا اعادة عليه شهرة و نصا،و هو قول الإمام عليه السّلام:إذا صليت،و أنت ترى أنك في الوقت و لم يكن قد دخل،و لكن دخل الوقت، و أنت ترى في الصلاة فقد أجزأت عنك.

ص:148

القبلة:

اشارة

قال تعالى في الآية 144 من سورة البقرة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .

و في الآية 149 من السورة المذكورة وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ .

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان للّه عزّ و جلّ حرمات ثلاثا ليس مثلهن شيء:

كتابه،و هو حكمة و نور،و بيته الذي جعله قبلة للناس لا يقبل من أحد توجها إلى غيره،و عترة نبيكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا صلاة إلاّ إلى القبلة.فقيل له:أين حد القبلة؟ قال:ما بين المشرق و المغرب قبلة كله.

الفقهاء:

قال صاحب المدارك:المراد بالكعبة محمل البناء من تخوم الأرض إلى عنان السماء،فلو زالت البنية و العياذ باللّه صلّى إلى جهتها،كما يصلي من هو أعلى موقفا،كجبل أبي قبيس،أو اخفض،كالمصلي في سرداب تحت الكعبة، و هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء،و يدل عليه ظاهر الآية الشريفة،و ما جاء عن الامام الصادق عليه السّلام من أن رجلا قال له:صليت العصر فوق أبي قبيس،فهل

ص:149

تجزي،و الكعبة تحتي؟قال:نعم،انها قبلة من موضعها إلى السماء.

و أجمعوا كلمة واحدة على أن الكعبة بالمعنى المذكور هي قبلة القريب الذي يتمكن من استقبالها.و يستطيع مشاهدة جدرانها،فإنّه-و الحال هذه- يستقبل أي جدار شاء.و كذلك من صلى وسط الكعبة و داخل البيت (1)،أما البعيد فيصلي إلى جهة الكعبة.

قال صاحب المدارك:ان فرض البعيد عن الكعبة أن يستقبل الجهة التي هي فيها،لقوله تعالى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ،و الشطر لغة الجهة و الجانب و الناحية،و لقول الإمام عليه السّلام:«ما بين المشرق و المغرب قبلة كله».ثم قال:اعلم أن للفقهاء اختلافا كثيرا في تعريف الجهة،و لا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل، و ليس لهم دليل نقلي يصلح للاعتماد،و لا عقلي يعول عليه،و المستفاد من الأدلة الشرعية هو الاكتفاء بالتوجه إلى ما يصدق عليه عرفا أنّه الجهة و الناحية،و الأخبار خالية عن التحديد مع شدة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات،أما الإحالة على علم الهيئة فمستبعد جدا،لأنه علم دقيق كثير المقدمات،و التكليف به لعامة الناس بعيد عن قوانين الشرع.و بالجملة فالتكليف بذلك مما علم انتفاؤه ضرورة.

طريق المعرفة إلى القبلة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم اين وجه القبلة»أي إذا جهل القبلة اجتهد و تحرى لمعرفتها،و أخذ مما أدى إليه اجتهاده مهما كان.

ص:150


1- يجوز للإنسان أن يصلي نافلة في جوف الكعبة بالإنفاق،و كذلك اتفقوا على أن له أن يصلي فريضة في حال الاضطرار،و اختلفوا في جواز الصلاة فريضة لمختار،فذهب أكثر الفقهاء إلى الجواز على كراهة،و قال البعض:بل تحرم و لا تجوز.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام في قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ :ان معناه نحوه ان كان مرئيا،و بالدلائل و الأعلام ان كان محجوبا،فلو علمت القبلة لوجب استقبالها و التولي و التوجه إليها،و إذا لم يكن الدليل عليها موجودا،حتى تستوي الجهات كلها،فله حينئذ أن يصلي باجتهاده،حيث أحب و اختار،حتى يكون على الدلائل المنصوبة و العلامات المثبوتة،فإن مال عن هذا التوجه،مع ما ذكرناه،حتى يجعل الشرق غربا،و الغرب شرقا،زال معنى اجتهاده،و فسد حال اعتقاده.

الفقهاء:
اشارة

قرروا في علم الأصول ما هو معلوم ببديهة العقل من أن المكلف إذا علم بأن شيئا ما مطلوب منه،و ملزم به فعليه أن يفحص و يبحث عنه،حتى يحصل له العلم به بالذات،و يؤديه كاملا على وجهه،و من ترك الفحص و البحث كان كمن ترك الواجب المعلوم،و ان عجز عن تحصيل العلم (1)أخذ بظنه،حيث لا طريق إلى العلم،و ان عجز عن تحصيل الظن قلد سواه،و ان لم يجد من هو أهل للتقليد،عمل بالاحتياط،مع الإمكان،و ان عجز عن الاحتياط،و إتيان جميع الأطراف،اختار الطرف الذي يتمكن منه،على شريطة أن لا يكون أضعف احتمالا من الطرف الآخر الذي تركه،مع قدرته عليه.

و على هذا،يجب على من أراد أن يصلي فريضة،أو نافلة (2)أو يعمل

ص:151


1- الظن الذي دل الدليل الشرعي على اعتباره يكون بمنزلة العلم،و لذا أسماه الفقهاء بالدليل العلمي،لأنه ينتهي إلى العلم،أي أن العلم قد أمر بالعمل بهذا الظن الخاص.
2- أجمع أهل الإسلام على أن القبلة شرط في صلاة الفريضة،و لذا سموا أهل القبلة،و اختلفوا في صلاة النافلة،و ذهب الأكثر إلى أنّها شرط أيضا حال الاختيار،و قال آخرون،و هم قليلون:ان القبلة ليست شرطا في النافلة إطلاقا.

عملا يشترط فيه الاستقبال،كالذبح و الصلاة على الميت و دفنه،يجب عليه أولا و قبل كل شيء أن يحصّل للعلم بها بأي طريق كان بالمعاينة،أو الشياع،أو بأنه قرينة من القرائن،بل لو حصل له العلم من رفيف الغراب وجب اتباعه،لأن العلم حجة بنفسه بصرف النظر عن أسبابه و بواعثه.

و إذا لم يحصل العلم بالقبلة عوّل على قبلة بلد المسلمين في مساجدهم و مقابرهم،فقد استمرت السيرة منذ القديم قولا و عملا على ذلك،و عليه تكون أمارة شرعية يجب اتباعها و العمل بها،و لا يجوز أن يجتهد و يأخذ بالظن المخالف لها،لأنه-و الحال هذه-اجتهاد في قبال النص،على شريطة أن لا يعلم بالخطإ و المخالفة للواقع،إذ لا عبرة بأمارة علم بمخالفتها للواقع،كما قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه.أجل،إذا كان لديه طريق للعلم و القطع بالقبلة جاز له حينئذ أن يدع قبلة البلد،و يسلك الطريق الذي يؤدي به إلى العلم و القطع.

و إذا تعذر عليه العلم،و لم يكن في بلد المسلمين اجتهد و تحرى ما استطاع بحثا عن القبلة،و عمل بالظن الحاصل من العلامات التي يراها،لقول الإمام:«يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة»مقدما العلامات المنصوصة في الشرع على غيرها كالجدي،و الظن القوي على الظن الضعيف.أمّا قول صاحب البيت فليس بشيء ما لم يحصل منه الاطمئنان و ركون النفس،لأنه مع عدم العلم يجب التحري،حتى في هذا الحال.

و تسأل:أ ليس هو صاحب يد،و قوله حجة بالنص و السيرة؟

الجواب:

انّه صاحب يد على بيته،و ما فيه من أدوات و أمتعة يتصرف فيها،و ليس

ص:152

بصاحب يد على القبلة،فإنّها فوق الأيدي و التصرفات.

و إذا عجز عن العلم و الظن بشتى طرقه وجب عليه تكرار كل صلاة إلى أربع جهات أو ثلاث أو اثنتين إذا انحصرت القبلة فيها أو فيهما امتثالا للأمر،و تحصيلا للواقع،و إذا لم يتسع الوقت لتكررها أربع مرات،أو عجز عن الأربع،كفاه ما يقدر عليه،و يتسع له الوقت،و لو مرة واحدة.قال صاحب الجواهر:هذا هو المشهور نقلا و تحصيلا بين القدماء و المتأخرين،شهرة عظيمة،بل في جملة من الكتب الإجماع عليه،ثم استشهد ببعض الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

مسائل:
1-من وجب عليه الاجتهاد و التحري عن القبلة

،فتركه عمدا،و بعد الصلاة تبين له الخطأ،فان كان الانحراف عنها يسيرا،صحت صلاته للرواية الآتية،و إلاّ بطلت لأنّه تماما كمن ترك الاستقبال عامدا متعمدا.

و ان ترك القبلة عن خطأ أو غفلة،ثم تبين له الخطأ نظر:فان كان ما زال في الصلاة،و لم ينته منها بعد،صح ما تقدم منها،و اعتدل لما تبقى،و ان كان قد فرغ منها،صحت بتمامها،هذا،إذا كان الانحراف يسيرا،لقول الإمام الصادق عليه السّلام في رجل يقوم في الصلاة،ثم ينظر بعد ما فرغ،فيرى أنه انحرف يمينا أو شمالا؟ قال:قد مضت صلاته،ما بين المشرق و المغرب قبله.و قوله أيضا في رجل صلى على غير القبلة،فيعلم،و هو في الصلاة،و قبل أن يفرغ منها؟قال:ان كان متوجها فيما بين المشرق و المغرب فليحول وجهه إلى القبلة ساعة يعلم،و ان كان متوجها إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة.

و إذا تبين له بعد الصلاة أن الانحراف كان كثيرا،لا يسيرا،و انه صلى إلى

ص:153

المشرق،أو المغرب،أو مستدبرا،و كان الوقت ما زال باقيا،بحيث تمكنه إعادة الصلاة،و لو بإدراك ركعة منه،وجبت الإعادة،و إذا تبين الخطأ بعد ذهاب الوقت، صحت الصلاة،و لا قضاء،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا صليت،و أنت على غير القبلة،و استبان لك أنك صليت،و أنت على غير القبلة،و أنت في الوقت،فأعد، و ان فاتك الوقت فلا تعد.

و هو شامل بإطلاقه للناسي و الجاهل و المخطئ،و للمستدبر و غيره، فالتفصيل-اذن-لا يبتني على أساس،و لا يخرج عن هذا الإطلاق إلاّ من ترك الاجتهاد و التحري مع الإمكان و القدرة عليه،لأنّه عامد،و الحال هذه.

2-يجب الاستقبال للصلاة اليومية

،و ركعات الاحتياط و الأجزاء المنسية و سجدتي السهو،و لكل صلاة واجبة بما في ذلك الصلاة على الميت،و عند احتضاره و دفنه،و تجب أيضا عند الذبح و النحر.

و قال صاحب المدارك:ان الاستقبال يسقط شرعا،مع العجز عنه، و الصلاة و غيرها في ذلك سواء،و الدليل إجماع العلماء،و الروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام.و قال بما يتلخص:«ان صلاة النافلة لا تجوز إلى غير القبلة في حال الاستقرار،لأنّها عبادة،و العبادة توفيقية،و لم ينقل فعل النافلة إلى غير القبلة مع الاستقرار،فيكون فعلها كذلك تشريعا محرما»أجل،ان الاستقرار ليس شرطا فيها،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن صلاة النافلة على البعير و الدابة؟ فقال:«نعم حيث كان متوجها».و لكن عدم شرط الاستقبال شيء،و شرط القبلة حال الاستقرار شيء آخر،و الفرق بينهما كالفرق بين قولك:اتجه إلى الجنوب، و أنت قاعد،و قولك:اتجه حيث شئت،و أنت واقف.

3-إذا اجتهد و تحرى،و حصل الظن و صلى

،جاز له أن يبني على ظنه

ص:154

لصلاة أخرى،و لا يجب التحري ثانية،إلاّ إذا احتمل تغيير اجتهاده إذا تحرى حيث يجب البحث و الفحص في مثل هذه الحال.

4-إذا شهد عدلان بالقبلة،فهل يعوّل على شهادتهما
اشارة

،أو عليه أن يجتهد و يتحرى و يأخذ باجتهاده؟

الجواب:

إذا حصل له الظن من شهادتهما،أخذ بظنه،و إلاّ فلا أثر لهما إطلاقا.

و تسأل:ان شهادة العدلين بينة شرعية،يجب العمل بها و الاعتماد عليها، سوى أحصل منها الظن،أم لم يحصل.

الجواب:

ان شهادة العدلين انما تكون بينة شرعية إذا أخبرت عن حس و عيان، كشهادتها بأن هذا ملك لزيد،أمّا إذا شهدت عن حدس و اجتهاد،كتشخيص القبلة أو الوقت،فينتفي عنها وصف البينة الشرعية،و تسقط عن الاعتبار.

و بهذا تتبين الحال لو عارض اجتهاده اجتهاد العارف،حيث يقدم الظن الأقوى،لأنه هو المدرك،و عليه المعول.

5-إذا تعارض اجتهاد اثنين في القبلة،لم يأتم أحدهما بالآخر

،و لكن يحل له أن يأكل من ذبيحته التي ذبحها إلى غير قبلة الآكل،لأن من ترك الاستقبال جهلا أو نسيانا تحل ذبيحته،و كذلك يجتزأ بصلاته على الميت،لأن العبرة بصحة الصلاة عند مصليها لا مطلقا.

ص:155

ص:156

لباس المصلي

الثوب الشفاف:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تصلّ فيما شفّ أو وصف.أي خفيف يحكي ما تحته.

و قيل له:الرجل يصلي في قميص واحد؟قال:إذا كان كثيفا فلا بأس به.

و إذا لم تجز الصلاة بغير الكثيف فبالأولى أن لا تجوز بدون ثوب إطلاقا.

جلد الميتة:

و سئل عن جلد الميتة أ يلبس في الصلاة إذا دبغ؟قال:لا،و لو دبغ سبعين مرة.

غير المأكول اللحم:

و قال:ان الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله،فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه،و كل شيء منه فاسد،لا تقبل تلك الصلاة،حتى يصلي في غيره مما أحل اللّه أكله.يا زرارة أحفظ هذا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه،و كل شيء منه جائز.إذا علمت أنه ذكي،و قد ذكاه الذبح،و ان كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله،و حرم

ص:157

عليك أكله،فالصلاة في كل شيء منه فاسد،ذكاه الذبح،أو لم يذكه.

الحرير:

و جاء في العديد من الروايات هذه الفقرات:«لا تحل الصلاة في حرير محض.لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلاّ في الحرب.للمرأة أن تلبس الحرير و الديباج إلاّ في الإحرام،و يجوز أن تتختم بالذهب و تصلي فيه».

الذهب:

و قال الامام الصادق عليه السّلام:لا يلبس الرجل الذهب،و لا يصلي فيه.

المرأة و الوجه و الكفان:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عمّ تظهر المرأة من زينتها؟فقال:الوجه و الكفان.

و أيضا قيل له:ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم تكن محرما؟قال:

الوجه و الكفان و القدمان.

و أيضا سئل عن المرأة تصلي متنقبة؟قال:إذا كشفت عن موضع السجود فلا بأس.

و جاء في الحديث أن سلمان الفارسي نظر إلى كف الزهراء عليه السّلام دامية،و ان جابر الأنصاري رأى وجهها أصفر تارة،و أحمر أخرى.

المغصوب:
اشارة

قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام لكميل:يا كميل،انظر،فيم تصلي،و على م

ص:158

تصلي:ان لم يكن من وجهه و حله فلا قبول.هذا إلى أن تحريم التصرف بالمغصوب ثابت بضرورة الدين.

إلى غير ذلك من روايات أهل البيت عليهم السّلام في لباس المصلي،و قد جمعها صاحب الوسائل فبلغت حوالي 200 صفحة في طبعه«الإسلامية و المحمدي بقم».

الفقهاء:

أجمعوا كلمة واحدة،السلف منهم و الخلف،على الفتوى بكل ما دلت عليه هذه الروايات،و استدلوا بها و بكثير غيرها على ما نلخصه فيما يلي:

يجب على الرجل أن يستر عورته في الصلاة إطلاقا،وجد ناظر محترم،أو لم يوجد،لأن سترها شرط في صحة الصلاة،فإذا تركه،مع القدرة عليه،بطلت صلاته،حتى و لو كان منفردا،و أيضا يجب عليه أن يسترها عن الناظر المحترم، و ان لم يكن في الصلاة.و عورة الرجل القبل،و هو القضيب و البيضتان،و الدبر، و هو الحلقة المعلومة،و يستحب مؤكدا أن يستر ما بين السرة و الركبة.

و يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها إلاّ الوجه و الكفين و ظهر القدمين، في الصلاة و غير الصلاة،مع وجود الناظر المحترم،و في الصلاة إطلاقا،حتى و لو كانت منفردة.و لها أن تفعل في الخلوة و في غير الصلاة ما تشاء،و مع زوجها ما أراد و تريد.و يحل للمرأة أن تنظر من المرأة ما يحل للرجل أن ينظر من الرجل، أي كل شيء ما عدا السوأتين،و يحل للذكر من محارم المرأة أن ينظر إلى ما تنظره المرأة من المرأة،أي كل شيء ما عدا السوأتين،على شريطة الأمن و الوثوق من عدم الوقوع في المحرم.و الأفضل أن لا ينظر الرجل من الرجال،و لا النساء

ص:159

و محارمهن من آية امرأة،حتى و لو كانت أما أو بنتا،أن لا ينظروا إلى ما بين السرة و الركبة.

و من المفيد أن نشير هنا إلى هذه القاعدة المتفق عليها عند جميع المذاهب الإسلامية،و هي:كل ما جاز مسه جاز النظر إليه،و كل ما حرم النظر إليه حرم مسه.و لم يدّع فقيه من فقهاء المذاهب وجود الملازمة بين جواز النظر و جواز المس،فان الرجل يحل له أن ينظر إلى وجه الأجنبية و كفيها،كما أن المرأة يحل لها ذلك من الأجنبي،و لكن المس لا يجوز إلاّ لضرورة،كعلاج مريض،و إنقاذ غريق.أجل،لقد تساهل الإسلام مع العجائز و المسنات،قال صاحب الجواهر:

«يجوز لهن أن يبرزن وجوههن،و بعض شعورهن و أذرعهن،و نحو ذلك مما يعتاد في العجائز المسنة،و يدل عليه أحاديث أهل البيت عليهم السّلام بشرط أن لا يكون ذلك على وجه التبرج،بل للخروج في حوائجهن،و مع ذلك فان التستر خير لهن».و هذا بعينه ما نطقت به الآية 60 من سورة النور وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ .

أوصاف الساتر:

و بعد هذا الاستطراد النافع إن شاء اللّه نعود إلى الساتر في الصلاة و أوصافه:

لا تجوز الصلاة في شيء من حيوان لا يؤكل لحمه،كالسبع و الضبع و ما إليهما، حتى و لو كان طاهرا،فإذا وقعت شعرة من قط على بدن إنسان أو ثوبه،فعليه أن يزيلها قبل الصلاة،مع العلم بأنّها طاهرة،بل حتى الحيوان البحري الذي لا يؤكل،لا تجوز الصلاة في شيء منه إطلاقا،و تجوز في الشمع و دم البق و القمل

ص:160

و البرغوث،و شعر الإنسان و لبنه و عرقه.

و أيضا لا تصح الصلاة في جلد الميتة،و ان كان لحيوان مأكول اللحم،سواء أ دبغ أم لا.و تجوز الصلاة في صوف و شعر و وبر و ريش الحيوان و الطير و الميت، مما يؤكل لحمه بالأصل.و قدمنا أن هذه الأشياء لا تجوز الصلاة فيها مما لا يؤكل لحمه،و ان كان مذكى،مع العلم بأن كلا منه و من صوف الميتة طاهر،و الفارق هو النص الصريح الذي لا يقبل التأويل،فقد ثبت عن الامام الصادق عليه السّلام انّه قال:«لا بأس بالصلاة مما كان من صوف الميتة،ان الصوف ليس فيه روح»و التعليل بعدم الروح يقتضي جواز الصلاة في كل ما لا روح فيه من اجزاء الميتة.و منذ قريب مر عليك قوله عليه السّلام:كل شيء من غير المأكول لا تجوز فيه الصلاة،ذكي أم لم يذكى.

أمّا ما ذكي من مأكول اللحم فتصح الصلاة بجلده و صوفه و شعره و وبره و ريشه (1).

و لا يجوز للرجال لبس الحرير الخالص المحض في الصلاة و غير الصلاة، و ان كان مما لا تتم به الصلاة كالقبعة و التكة،و يجوز لبسه إطلاقا إذا كان خليطا بغيره،حتى و لو كان الحرير أكثر،على شريطة أن لا يكون مستهلكا،بحيث يصدق عليه اسم الحرير بدون قيد،و يجوز لبس الحرير الخالص للرجل المحارب و المضطر،أمّا النساء فيجوز لهن في الصلاة و غير الصلاة صرفا

ص:161


1- ذكر الفقهاء في باب الساتر ثياب الخز،و أفتوا بجواز لبسها في الصلاة و غيرها تبعا لآل البيت عليهم السّلام،فقد جاء في الروايات عنهم:«إنّا معاشر آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نلبس الخز،و ان الحسين عليه السّلام أصيب و عليه جبة خز»و الخز الذي كان يلبسه الأئمة الأطهار،و افتى الفقهاء بجواز لبسه،كان يؤخذ من حيوان بحري ذي أربع،و هو من كلاب الماء كما جاء في الحديث، أمّا الخز المعروف الآن فحرام لبسه على الرجال في الصلاة و غيرها،لأنّه حرير محض.انظر مجمع البحرين.

و ممزوجا في حال الاختيار.أجل،للرجل أن يفترش الحرير،و يتدثر به، و يحمل قطعة منه كمحرمة أو محفظة،و الضابط أن لا يكون في نظر العرف لابسا للحرير.

و لا يجوز لبس الذهب للرجال إطلاقا و لا صرفا و لا ممزوجا في الصلاة و غير الصلاة،و بهذا يتبين الفرق بين الحرير و الذهب،حيث يجوز لبس الأول إذا كان خليطا،و لا يجوز الثاني بحال.أجل،يجوز حمل النقود و الساعة الذهبية، و تلبيس الأسنان به،أمّا النساء فقد أبيح لهن لبس الذهب و التزين به في الصلاة و غيرها،قال الإمام الصادق عليه السّلام:يجوز للمرأة أن تتختم بالذهب،و تصلي فيه، و حرم ذلك على الرجال.

و أيضا يشترط في الساتر أن يكون مباحا غير مغصوب،لأن التصرف في مال الغير بدون اذنه حرام،و لا يجوز التعبد و التقرب إلى اللّه سبحانه بما هو محرم و مكروه لديه،و ان صلى بالثوب ذهولا و نسيانا،صحت الصلاة،للحديث النبوي الشهير الذي جاء فيه«رفع عن أمتي النسيان»،و ان صلى فيه جاهلا بأنّه مغصوب، مع علمه بأن الغصب حرام قبلت الصلاة،و ان علم بأنّه مغصوب،و جهل بأن الغصب حرام نظر:فان كان الجهل عن قصور،جازت الصلاة،و ان كان عن تقصير فلا،و عليه الإعادة،لأن القصور عذر في نظر العقل،دون التقصير.

و إذا كان عالما بالموضوع و الحكم،كأن يعلم بأن هذا غصب،و ان الغصب حرام،و لكن اضطر إلى التصرف فيه،كالمسجون في مكان مغصوب،تقبل منه الصلاة،على شريطة أن لا تستدعي صلاته زيادة في التصرف عما سوغته الضرورة،كما هو الغالب.

و بعبارة أوفى و أجدى،أن الشرع لم ينه عن الصلاة في الثوب المغصوب

ص:162

بالذات،و انما نهى عن الغصب إطلاقا بشتى صوره و اشكاله،و العقل وحده استخرج من هذا النهي ان الغصب يفسد الصلاة،و يمنع من التقرب بها،و هذا الوصف و هو الغصب،و ان اتحد مع الصلاة،و صدق عليها إلاّ أنّه وصف عارض و خارج عن طبيعة الصلاة،لأنها راجحة بذاتها،و محبوبة بطبيعتها،و انما صار هذا الفرد منها غير مرغوب فيه،لأنه التقى مع الغصب المكروه لدى الشارع، فالكراهية-اذن-عرضية لا ذاتية.و بديهة أن مثل هذه الكراهية،المبغوضية لا تتحقق إلاّ مع العمد و القصد و الاختيار،فإذا لم يكن عمد و لا قصد و لا اختيار تنتفي الكراهية من الأساس،و متى زالت الكراهية،صحت الصلاة من الجاهل و الناسي و المضطر.

و هكذا يسقط كل شرط بسقوط التنجز و الامتثال للتكليف الذي انتزع منه الشرط،و اكرر المعنى بتعبير ثان،هو أن الفرق بعيد جدا بين أن يقول لك:لا تصل بالثوب المغصوب،و بين أن يقول لك:لا تلبس الثوب المغصوب،فإن النهي في الأول تعلق في الصلاة رأسا و أولا و بالذات،و النهي عن العبادة يدل على الفساد،و عليه فلا تصح الصلاة بالمغصوب،سواء ألبسه عمدا أو جهلا أو نسيانا أو اضطرارا،إلاّ أن يدل الدليل الخاص على الصحة.أمّا النهي في الثانية فقد تعلق أولا و بالذات باللبس،و ثانيا و بالعرض بالصلاة،و إذا لم يتنجز النهي الذاتي عن اللبس لجهل أو نسيان أو اضطرار،سقط النهي العرضي عن الصلاة قهرا،لأن الفرع لا يزيد عن الأصل.

أمّا وجوب طهارة الثوب و البدن لأجل الصلاة،فقد عقدنا لها فصلا مستقلا في باب الطهارة فراجع.

ص:163

مسائل:
1-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يخرج عريانا،فتدركه الصلاة؟

قال:يصلي عريانا قائما ان لم يره أحد،فإن رآه أحد صلى جالسا.

و عمل الفقهاء بذلك،و قالوا:يومئ في الحالين للركوع و السجود برأسه إن أمكن،و إلاّ فبالعينين.

2-إذا صلى بالميتة جهلا

،فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة،لأن طهارة الثوب و البدن في الصلاة شرط علمي لا واقعي،و إذا صلى بها نسيانا،أعاد في الوقت و خارجه،لأن نسيان النجاسة ليس عذرا،لمكان العلم بها أولا.أجل،إذا كانت مما لا نفس سائلة لها،صحت الصلاة،حتى مع النسيان،لأنّها ليست بنجسة.

3-قدمنا أن الصلاة لا تجوز في شيء ممّا لا يؤكل لحمه
اشارة

،فإذا شك في شيء أنّه من المأكول،أو من غيره،فهل تجوز الصلاة فيه؟

الجواب:

لا بد أولا أن نعرف:هل عدم كون الساتر من غير المأكول شرط في صحة الصلاة،أو أن غير المأكول مانع؟و على الأول لا تصح الصلاة في المشكوك،لان الشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط.و بكلمة،لا بد من إحراز الشرط.

و على الثاني تصح،لأن الأصل عدم المانع.و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:لا ينبغي التأمل في أن مفاد أخبار الباب بأسرها ليس إلاّ مانعية التلبس بغير المأكول حال الصلاة،لا شرطية عدمه.و قد يستدل له أيضا بحديث:«الناس في سعة ما لا يعلمون».

و مثله أو قريب منه ما جاء في المدارك،و هذا هو بالحرف:«يمكن أن

ص:164

يقال:ان الشرط ستر العورة،و النهي انما تعلق بالصلاة في غير المأكول،فلا يثبت إلاّ مع العلم بكون الساتر كذلك،و يؤيده ما ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام:«كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا،حتى تعلم الحرام بعينه».و عليه يكون الشك في المأكول و غيره شك في المانع لا في الشرط،فيجري الشاك أصل عدم المانع،و يصلي.

و على هذا الأساس نجري أصل عدم المانع من صحة الصلاة في المشكوك أنّه من الذهب،و في المشكوك أنّه من الحرير الصرف.

4-إذا انحصر الساتر بالحرير الصرف،أو المغصوب أو الميتة

،فإن كان مضطرا إلى لبسه للبرد أو المرض و ما إلى ذاك،صلى به،و صحت الصلاة،إذ لا مانع في هذه الحال من التقرب بالصلاة،لأن الضرورات تبيح المحظورات.

و إذا لم يضطر إلى لبس شيء منه،وجب تركه،و الصلاة عاريا،لأنه ممنوع عن لبسه شرعا،و الحال هذه.و الممتنع شرعا كالممتنع عقلا،و لو لا أن يدل النص على أن الساتر ليس بشرط في حال العجز عنه،و قيام الإجماع على ذلك، لكان القول بعدم وجوب الصلاة متجها،لأن العجز عن الشرط يستدعي العجز عن المشروط.

ص:165

ص:166

مكان المصلي

اشارة

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا.و في حديث آخر:جعلت لي الأرض مسجدا،و ترابها طهورا،أينما أدركتني الصلاة صليت.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:الأرض كلها مسجد إلاّ بئر غائط،أو مقبرة،أو حمام.و استثنى الإمام عليه السّلام هذه الثلاثة على سبيل الكراهة،لا التحريم.

الفقهاء:

قالوا:ان معنى المكان-هنا-هو ما يستقر عليه المصلي،و الفضاء الذي يشغله بدنه،و يعتبر فيه أمور:

1-أن يكون مباحا غير مغصوب،و ما ذكرناه في الساتر يجري هنا بلا تفاوت.

2-أن لا يكون نجسا نجاسة تتعدى إلى ثوبه أو بدنه،لأن الطهارة شرط في الصلاة كما تقدم،و معنى هذا أنّه يجوز للإنسان أن يصلي على ثوب أو مكان نجس،مع اليبوسة و عدم التعدي،إلاّ موضع الجبة،حيث يشترط السجود على الطاهر،كما يأتي.

3-أن يكون المكان ثابتا مستقرا،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يصلي

ص:167

الرجل شيئا من المفروض راكبا إلاّ من الضرورة.

حيث استفاد الفقهاء من هذه الرواية وجوب الاستقرار مطلقا،لأن المورد، و هو الركوب على الدابة،لا يخصص الوارد،و هو الاستقرار،و الغوا هذا الشرط في حال الاضطرار فقط.

4-هل يجوز لكل من الرجل و المرأة أن يصلي إلى جانب الآخر،أو تتقدم المرأة على الرجل في الصلاة،دون أن يكون بينهما حائل،أو بعد عشرة أذرع؟ الجواب:

في هذه المسألة قولان:أحدهما عدم الجواز،و انهما إذا صليا معا و شرعا في آن واحد،جنبا إلى جنب،أو تقدمت المرأة،بطلت صلاتهما،و ان سبق أحدهما صحت صلاته،و بطلت صلاة اللاحق،إلاّ إذا كان بينهما حائل،أو بعد عشرة أذرع بذراع اليد،و على هذا أكثر الفقهاء المتقدمين.

القول الثاني الجواز،و صحة الصلاة على كراهية،دون أن يوجد الحائل أو المسافة المذكورة،فإن كان أحدهما ارتفعت الكراهية،و على هذا أكثر الفقهاء المتأخرين (1)و منهم صاحب الجواهر الذي قال:«الجواز على كراهة أشبه بأصول المذهب،و إطلاق الأدلة،مضافا إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بأن تصلي المرأة بحذاء الرجل،و هو يصلي.و أيضا سئل عن امرأة صلت مع الرجال، و خلفها صفوف،و قدامها صفوف؟قال:مضت صلاتها،و لم تفسد على أحد، و لا يعيد.أمّا الروايات الأخرى الدالة على الحائل و الفاصل،فلا تصلح إلاّ للحمل على الكراهة».ثم ذكر هذه الروايات،و ناقشها بكلام طويل،و استشهد

ص:168


1- اعتمدنا على كتاب المدارك،و الجواهر [1]لنسبة عدم الجواز إلى أكثر السلف،و نسبة الجواز إلى أكثر الخلف.

منها و فيها على وجوب الحمل على الكراهية لا التحريم،و انهى كلامه الطويل بهذه الجملة:«فظهر لك من ذلك كله أنّه لا محيص عن القول بالكراهية».

و الكلمة الجامعة لشروط مكان المصلي هي:ان كل مكان يجوز له التصرف فيه،ثابت غير متزلزل،و خال من نجاسة متعدية،تصح فيه الصلاة،بما في ذلك بيع اليهود،و كنائس النصارى،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الصلاة في البيع و الكنائس؟فقال:صل فيها،قد رأيتها،و ما أنظفها.أما تقرأ القرآن:

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (1).

مسجد الجبهة:
اشارة

قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:أخبرني عما يجوز السجود عليه،و عما لا يجوز.فقال:السجود لا يجوز إلاّ على الأرض،أو ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل،أو لبس.فقال له:جعلت فداك،ما العلة في ذلك؟قال:لأن السجود خضوع للّه عزّ و جلّ،فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل،و يلبس،لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون،و الساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّ و جلّ،فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها.

و سئل عن الرجل يؤذيه حر الأرض،و هو في الصلاة،و لا يقدر على السجود،هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتانا؟قال:إذا كان مضطرا فليفعل.

و قال:السجود على طين قبر الحسين عليه السّلام ينوّر إلى الأرضين السبع،و من كانت معه سبحة من طين قبر الحسين عليه السّلام كتب مسبحا،و ان لم يسبح بها.

ص:169


1- الإسراء:84. [1]
الفقهاء:

قالوا-عملا بهذه الروايات-:يشترط في مسجد الجبهة،و هو المقدار الذي توضع عليه حال السجود،أن يكون من الأرض أو ما ينبت منها،على شريطة أن لا يكون مأكولا،و لا ملبوسا في العادة،فإذا استحال إلى شيء آخر، كالرماد و الجص،امتنع السجود عليه،و بالأولى الزجاج و البلور.

و أن لا يكون من المعادن كالعقيق و الفيروز و الذهب،و ما إلى ذلك،فان المعدن و ان خرج من الأرض،و خلق فيها،إلاّ أن ندرته و قيمته عند الناس تخرجه عن اسم الأرض.

و أن يكون طاهرا غير نجس،حتى و لو لم تتعد النجاسة إلى ثوبه،و بدنه و أن يكون مباحا غير مغصوب.

مسائل:
1-يجوز السجود على القرطاس

-أي الورق-حيث سئل الإمام عليه السّلام عن السجود على القراطيس و الكواغد؟فقال:يجوز.

و قال الشهيد الثاني في اللمعة:«يجوز السجود على القرطاس،للإجماع و النص الصحيح الدال عليه،و به خرج عن أصله المقتضي لعدم جواز السجود عليه،لأنه مركب من جزأين لا يصح السجود عليهما و هما النورة،و ما مازجها من القطن و الكتان و غيرهما».

2-هل يصح السجود على الخزف،أو لا؟

الجواب:

لم يرد نص بالخصوص في ذلك سلبا و لا إيجابا،و نقل صاحب مفتاح

ص:170

الكرامة عن كثير من الفقهاء الجواز،بل قال بعضهم:لا نعلم في ذلك خلافا.

و قال آخر:ان هذه المسألة تعم بها البلوى،و مع ذلك لم ينقل عن أحد ممن سلف القول بالمنع.

3-إذا سجد على شيء معتقدا جواز السجود عليه،ثم تبين العكس

، صحت الصلاة،لحديث:«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة:الطهور،و الوقت، و القبلة،و الركوع،و السجود».و يأتي الكلام عن هذا الحديث مفصلا ان شاء اللّه.

4-إذا فقد،و هو في أثناء الصلاة،ما يصح السجود عليه،فما يفعل؟

الجواب:

إذا كان في الوقت سعة،وجب عليه أن يقطعها،و يستأنف الصلاة من جديد،لأن المفروض انّه قادر على صلاة كاملة،فتكون غيرها فاسدة،مأمورا بالإعراض عنها و عدم الاعتداد بها،لأنها لم تشرع من الأساس.

و إذا كان الوقت ضيقا لا يتسع إلاّ للصلاة التي هو فيها،وجب الإتمام، و السجود على طرف ثوبه القطن أو الكتان،و إلاّ فعلى المعادن،لأنهما قريبان من الأرض و ما أنبتت مما يصح السجود عليه،و إلاّ سجد على كفه،و في ذلك رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام قال له رجل:أكون في السفر،فتحضرني الصلاة،و أخاف الرمضاء على وجهي،كيف أصنع؟.قال الإمام:تسجد على بعض ثوبك.قال الرجل:ليس عليّ ثوب يمكنني أن أسجد على طرفه،و لا في ذيله.قال له:

أسجد على كفك،فإنها أحد المساجد.

ص:171

ص:172

الأذان و الإقامة

حكمة الأذان:

الأذان في اللغة،الإعلام،و في الشريعة،أذكار مخصوصة تشير إلى دخول وقت الصلاة،و تعلن أهم شعار من شعائر الإسلام و المسلمين،و به يعرفون عن غيرهم،فأية طائفة تنسب نفسها إلى الإسلام،و لا تعلن من على المآذن نداء لا إله إلاّ اللّه،محمد رسول اللّه،فهي كاذبة في دعواها.

و عن جماعة من علماء المسلمين القدامى:أن الأذان على قلة ألفاظه يشتمل على مسائل العقيدة الإسلامية،لأنه بدأ باللّه أكبر،و هو يتضمن وجود اللّه و كماله،و ثنى بلا إله إلاّ اللّه،و هو إقرار بالتوحيد و نفي الشرك،ثم ثلّث بأن محمّدا رسول اللّه،و هو اعتراف له بالرسالة،ثم بحي على الصلاة،و هو دعوة إلى عامود الدين،ثم الدعوة إلى الهداية و الفلاح،ثم الحث على الأعمال الخيّرة،و أكد ذلك بالتكرار.

تشريع الأذان:

شرع الأذان في السنة الأولى من هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هو على قسمين:

أذان الإعلام بدخول الوقت،و أذان للصلاة اليومية المفروضة،و الأول لا يشترط

ص:173

فيه نية القربة و لا الطهارة أيضا،و لا بد في الثاني من نية القربة.و قد جرت السيرة،و استمر العمل على الإتيان به بعد الوضوء،و حين ارادة الشروع بالصلاة.

و جاء في سبب تشريعه طريقان:أحدهما للسنة،و هو أن عبد اللّه بن زيد رأى صورة الأذان في المنام،و نقلها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و أقرها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما رآها عبد اللّه في منامه(فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر العسقلاني:

ج 2،ص 218،طبعة 1959).

الطريق الثاني للشيعة،و هو أن اللّه أوحى الأذان و فصوله إلى نبيه بواسطة جبريل،تماما كما أوحى إليه بصورة الصلاة و غيرها من العبادات و الأحكام، و قالوا:أمّا أخذ الأذان من رؤيا عبد اللّه بن زيد فلا ريب في بطلانه،لأن الأمور الشرعية مستفادة من الوحي،بخاصة المهم منها،كالأذان.و قال الإمام الصادق عليه السّلام مستنكرا:ينزل الوحي على نبيكم،فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد اللّه بن زيد!!

صورة الأذان:

ثبت بالإجماع أن الإمام الصادق عليه السّلام كان يؤذن هكذا:

اللّه أكبر،اللّه أكبر،اللّه أكبر،اللّه أكبر.

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه،أشهد أن لا إله إلاّ اللّه.

أشهد أن محمّدا رسول اللّه،أشهد أن محمّدا رسول اللّه.

حي على الصلاة،حي على الصلاة.

حي على الفلاح،حي على الفلاح.

حي على خير العمل،حي على خير العمل.

ص:174

اللّه أكبر،اللّه أكبر.

لا إله إلاّ اللّه،لا إله إلاّ اللّه.

و اتفقوا جميعا على أن قول:«أشهد أن عليا ولي اللّه»ليس من فصول الأذان،و أجزائه،و ان من أتى به بنية أنّه من الأذان فقد أبدع في الدين،و أدخل فيه ما هو خارج عنه،و من أحب أن يطلع على أقوال كبار العلماء،و إنكارهم ذلك،فعليه بالجزء الرابع من مستمسك الحكيم«فصل الأذان و الإقامة»فإنه نقل منها طرفا غير يسير،و نكتفي نحن بما جاء في اللمعة الدمشقية و شرحها للشهيدين،و هذا هو بنصه الحرفي:

«لا يجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول في الأذان و الإقامة،كالشهادة بالولاية لعلي عليه السّلام،و ان محمدا و آله خير البرية،أو خير البشر،و ان كان الواقع كذلك،فما كل واقع حقا يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعا المحدودة من اللّه تعالى،فيكون إدخال ذلك بدعة و تشريعا،كما لو زاد في الصلاة ركعة،أو تشهدا،و نحو ذلك من العبادات،و بالجملة فذلك من أحكام الايمان،لا من فصول الأذان،قال الصدوق:ان ذلك من وضع المفوضة،و هم طائفة من الغلاة».

صورة الإقامة:

أجمعوا على أن صورة الإقامة هكذا:

اللّه أكبر،اللّه أكبر.

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه،أشهد أن لا إله إلاّ اللّه.

أشهد أن محمّدا رسول اللّه،أشهد أن محمّدا رسول اللّه.

حي على الصلاة،حي على الصلاة.

ص:175

حي على الفلاح،حي على الفلاح.

حي على خير العمل،حي على خير العمل.

قد قامت الصلاة،قد قامت الصلاة.

لا إله إلاّ اللّه (1).

و أجمعوا كلمة واحدة أن الأذان و الإقامة لا يجوزان و لا يشرعان إلاّ للفرائض اليومية الخمس،دون غيرها من الصلوات،واجبة كصلاة الآيات،أو مستحبة كأية صلاة يرجح فعلها و يجوز تركها،و انهما يستحبان مؤكدا بخاصة الإقامة،للمكتوبة اليومية،قضاء و أداء،للرجل و المرأة،و المنفرد و الجماعة،إلاّ للجماعة الثانية،ان لم تتفرق الاولى،و إلاّ للمنفرد إذا جاء،و صفوف الجماعة لم تنفض أيضا،فإنه يصلي بلا أذان و إقامة.

و لا يجوز الأذان إلاّ بعد دخول الوقت،سوى أذان الصبح،فقد رخص أهل البيت عليهم السّلام تقديمه على الوقت في رمضان و غير رمضان،و لكن يستحب إعادته عند الوقت.

و يصح الاعتماد في دخول الوقت على أذان المؤذن العارف،شيعيا كان أم سنيا،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن أذان السنة؟فقال:صل بأذانهم،فإنهم أشد شيء مواظبة على الوقت.و قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام:المؤذن مؤتمن،و الإمام مؤتمن.

ص:176


1- هذه الصورة للإقامة لم ترد بالنص الحرفي في كلمات أهل البيت عليهم السّلام كما هي الحال في الأذان، و [1]لكن الفقهاء استخرجوها من روايات شتى بخاصة رواية الجعفي.
شروط الأذان و الإقامة:

و يشترط فيهما نية التقرب إلى اللّه سبحانه،لأنّهما عبادة ما عدا أذان الإعلام و العقل و الإسلام،و الفورية و الموالاة بين الفصول و الأجزاء،و تقديم الأذان على الإقامة،و اللغة العربية،و دخول الوقت ما عدا أذان الفجر،أما الوضوء فهو شرط في الإقامة دون الأذان،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس أن يؤذن الرجل من غير وضوء،و لا يقيم إلاّ و هو على وضوء.

ص:177

ص:178

أفعال الصلاة

شرط الوجوب و الوجود:
اشارة

شروط التكاليف الشرعية نوعان:منها ما هو شرط للوجوب،بحيث لا يتجه التكليف بدونه من الأساس،كالعقل و البلوغ و القدرة،و منها ما هو شرط للوجود و الصحة،بحيث يكون التكليف موجودا،و لكن لا يوجد في الخارج صحيحا و على النحو المطلوب إلاّ به،كالطهارة بالقياس إلى الصلاة،و حفر القبر بالنسبة إلى الميت.

و تجب الصلاة بأربعة شروط،ترجع إلى أصل الوجوب،و توجه التكليف، و هي:العقل،و البلوغ،و دخول الوقت،و الخلو من الحيض و النفاس.و الدليل على أن هذه الأربعة قيد في الوجوب،لا في الوجود ضرورة الدين و المذهب، فضلا عن الإجماع،إذ لا قائل من فقهاء المذاهب،في السلف و الخلف،أن الصلاة تجب أو تجزئ قبل دخول وقتها،و ان الحائض و النفساء و المجنون و الصبي مسئولون عنها،بل الأخيران غير مسئولين عن شيء إطلاقا،لحديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم،و عن المجنون حتى يفيق.

أجل،ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين،و في رواية:إذا بلغوا ثماني سنين.و من هنا ذهب جماعة من

ص:179

الفقهاء إلى أن الصلاة،و ان لم تجب على الصبي،و لكنها تصح منه إذا كان مميزا، و معنى صحتها أن اللّه يقبلها،و يصرف ثوابها لأبويه.و المميز هو الذي يعرف الصلاة و الصيام،و يفرق بين عبادة اللّه سبحانه و غيرها.

أمّا شروط الوجود و الصحة للصلاة فهي:الإسلام،و الطهارة من الحدث و الخبث،و ستر العورة،و استقبال القبلة.و قدمنا الكلام مفصلا عن الطهارة و الستر و القبلة،أمّا الإسلام فهو شرط في جميع العبادات وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (1).

و تجدر الإشارة إلى أن من جملة الفروق بين شرط الوجوب و شرط الوجود أن الأول لا يجب تحصيله و البحث عنه،فلا يجب أن تسعى و تعمل للحصول على المال،كي يجب عليك الخمس و الزكاة و الحج،بعكس الثاني فإنه يجب البحث عنه و الحصول عليه،حيث لا يتم الواجب بعد وجوبه إلاّ به،و ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب بحكم العقل.

هذا مجمل القول في شروط الصلاة الوجوبية و الوجودية،أما حقيقتها و مادتها فإنها تتألف من أفعال واجبة و مستحبة،و الواجب منه ما هو ركن تبطل الصلاة بتركه أو زيادته عمدا و سهوا،و منه ما ليس بركن تبطل بدونه عمدا،لا سهوا،و فيما يلي البيان:

النية:
اشارة

1-قال تعالى وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2).و قال

ص:180


1- آل عمران:85. [1]
2- البينة:5. [2]

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان الأعمال بالنيات،و لكل امرئ ما نوى.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:يا عبد اللّه،إذا صليت صلاة فريضة،فصلّها لوقتها صلاة مودع يخاف أن لا يعود إليها.و اعلم أنك بين يدي من يراك،و لا تراه.

و قال:ليس من عبد يقبل بقلبه إلى اللّه في صلاته إلاّ أقبل اللّه إليه بوجهه.

و إذا دلت هذه الأقوال،و ما إليها على طلب الخشوع من المصلي بدلالة المطابقة،فإنّها تدلّ على طلب النية منه بالالتزام.

الفقهاء:

قالوا:ان النية-هنا-هي الباعث على الصلاة طاعة للّه،و امتثالا لأمره،أمّا الاختلاف بأنّها جزء من الصلاة،أو شرط لها،فلا طائل تحته،ما دامت واجبة على كل حال،بل ركنا من أركانها تبطل الصلاة بدونها عمدا و سهوا،و كذلك لا داعي إلى التطويل في الاستدلال على وجوبها بعد أن كان الفعل لا ينفك عن النية، حتى قال فاضل محقق:لو كلف اللّه بالصلاة أو غيرها من العبادات بلا نية،لكان تكليفا بما لا يطاق.

و بما أن النية من أفعال القلب،لم يجب التلفظ بها،قال صاحب المدارك:

«فيكون التلفظ بها عبثا،بل إدخالا في الدين ما ليس منه،و لا يبعد أن يكون الإتيان به-الضمير يرجع إلى التلفظ-على وجه العبادة،تشريعا محرما».

و يجب قصد التعيين إذا كان عليه أكثر من فريضة،بحيث إذا لم يعين حصل الاشتباه،كما لو كان عليه الظهر و العصر،فلا يجوز له أن ينوي إحداهما المرددة،أو مطلق الصلاة من حيث هي،و لا يجب قصد الأداء أو القضاء،و لا القصر أو التمام،و لا الوجوب أو الندب،لعدم الدليل على وجوب شيء من ذلك.

ص:181

و إذا نوى شيئا من ذلك،أو تلفظ بالنية،لا بقصد الوجوب الشرعي،فلا بأس.

و من الفضول القول:ان الرياء مبطل للصلاة،لأن الرياء ينفي النية المطلوبة في الصلاة من الأساس،بعد أن فسرناها بالإخلاص للّه وحده.

مسائل:

«منها»:يجب استمرار النية إلى آخر الصلاة،و لا يجوز له أن ينوي قطعها و رفع اليد عنها،و لو نوى القطع و رفع اليد،و أتى بشيء منها بلا نية،أو فعل ما ينافيها،بطلت.و ان عاد إلى النية قبل أن يأتي بشيء من الصلاة بدون نية،أو بما يتنافى معها،صحت.

و«منها»:يجوز للمصلي أن يعدل من صلاة متأخرة و لا حقة إلى صلاة سابقة و متقدمة في الرتبة،دون العكس،فإذا نوى العصر،و في الأثناء تبين له أنّه لم يصلّ الظهر،عدل إليها،و أتى بعدها بالعصر،أمّا إذا نوى الظهر،ثم تبين له أنّه قد صلاها،و أنّه مطلوب بالعصر فقط،فلا يجوز العدول منها إلى العصر.و كذا يجوز أن يعدل من الفريضة إلى النافلة،لإدراك الجماعة،كما لو نوى الظهر منفردا،ثم أقيمت الجماعة،فله أن يعدل بها إلى النافلة ما لم يكن قد دخل في ركوع الركعة الثالثة،و له أيضا أن يعدل من الجماعة إلى الانفراد اختيارا.

و«منها»:إذا شرع بالصلاة بنية ما وجب عليه منها،و لكنه تخيل أن الواجب المطلوب منه هو الظهر،ثم تبين له أنه العصر،أو تخيل أنّه العصر،فتبين أنّه الظهر صحت الصلاة،لأن المعول على الواقع،و مجرد التخيل و التصور لا أثر له، و يسمى هذا النوع اشتباه في التطبيق،كما لو دفعت إلى الفقراء من فاضل مؤنتك السنوية بنية ما وجب عليك،و لكن تخيلت أنّه من الزكاة،و هو في واقعة من

ص:182

الخمس كفى،و فرغت الذمة.

تكبيرة الإحرام:
اشارة

2-قال الإمام الصادق عليه السّلام:ادنى ما يجزي من التكبير تكبيرة الإحرام.

و قال:لكل شيء أنف،و أنف الصلاة التكبير.ان مفتاح الصلاة التكبير.

و عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:افتتاح الصلاة الوضوء،و تحريمها التكبير، و تحليلها التسليم.

و سئل عن رجل نسي أن يكبر؟قال:يعيد.

الفقهاء:

قالوا:تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة تبطل بتركها أو زيادتها سهوا، فضلا عن العمد،و صورتها أن يقول المصلي:«اللّه أكبر»و إذا أخل بحرف منها لم تنعقد الصلاة.و يستحب أن يكبر في بدء الصلاة سبع تكبيرات،ينوي بإحداها الإحرام للصلاة،و بالباقيات الذكر و الدعاء،و هو بالخيار ان شاء جعل تكبيرة الإحرام الأولى،أو الأخيرة،أو الوسطى.و لا يجوز أن يقصد بواحدة منها من غير تعيين الإحرام و افتتاح الصلاة.

و لا بد من الإتيان بها حال القيام،و لو تركها نسيانا،أو كبّر مرتين بنية الإحرام،بطلت الصلاة،كما تقدم.

و يستحب رفع اليدين بالتكبير إلى الأذنين،أو حيال الوجه،قال الامام

ص:183

الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (1):ان النحر هو رفع يديك حذاء وجهك.

القيام:
اشارة

3-قال تعالى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (2)فقد فسر القيام هنا بالقيام للصلاة.

و عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (3)أنّه قال:الصحيح يصلي قائما و قاعدا،و المريض يصلي جالسا، «وَ عَلى جُنُوبِهِمْ» الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلي جالسا.و عنه أيضا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:من لم يقم صلبه في الصلاة،فلا صلاة له.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:يصلي المريض قائما،فإن لم يقدر على ذلك صلى جالسا،فإن لم يقدر صلى مستلقيا،يكبر ثم يقرأ،فإذا أراد الركوع غمض عينيه،ثم سبح،فإذا سبح فتح عينيه،فيكون فتح عينيه رفع رأسه من الركوع،فإذا أراد ان يسجد غمض عينيه،ثم سبح،فإذا سبح فتح عينيه،فيكون فتح عينيه رفع رأسه من السجود،ثم يتشهد،و ينصرف.

الفقهاء:

أجمعوا على أن القيام واجب حال الإحرام و القراءة الواجبة،و ان بعضه

ص:184


1- الكوثر:2. [1]
2- البقرة:238. [2]
3- آل عمران:191. [3]

ركن تبطل الصلاة بتركه سهوا،و بعضه الآخر ليس بركن لا تبطل الصلاة بدونه إلاّ عمدا،و الركن منه هو الجزء المقارن لتكبيرة الإحرام،و الجزء المتصل بالركوع، بحيث يكون الركوع عن قيام،و ما عدا هذين الجزأين يجب لا على سبيل الركنية،فلو افترض أنّه كبر للإحرام،و هو قائم،ثم هوى إلى الركوع سهوا دون ان يقرأ الفاتحة أو السورة أو هما معا صحت صلاته،مع العلم بأنه ترك الوقوف الواجب حال القراءة.و السر أن المتروك ليس بجزء.أمّا إذا كبر للإحرام جالسا، أو ركع لا عن قيام،كما لو كان جالسا،و نهض إلى حد الركوع فقط،فقد بطلت الصلاة،حتى و لو كان ذلك نسيانا لا قصدا:و السر ركنية هذا الجزء الخاص من القيام.

و يكون القيام مستحبا حين القنوت،و تكبير الركوع،و بكلمة ان حكم الركوع وجوبا و استحبابا تابع لحكم ما يأتي به المصلي،و هو قائم.و اجمع الفقهاء على أن صلاة النافلة تجوز عن قعود،مع القدرة على القيام،و لكن القيام أفضل.

و يشترط في القيام،الانتصاب و الاستقرار،و عدم الاعتماد على شيء حال الوقوف إلاّ لضرورة،فيجوز له أن يعتمد على الحائط أو العصا ان عجز عن الاستقلال،و ان عجز حتى عن الاعتماد صلى منحنيا إن أمكن،و إلاّ فقاعدا،و إلاّ فمضطجعا على جانبه الأيمن مستقبلا القبلة بمقاديم بدنه،تماما كالموضوع في اللحد،و إلاّ فمستلقيا على قفاه و رأسه إلى الشمال،و باطن رجليه إلى القبلة، كالمحتضر.و كل حال من هذه الحالات مقدم على ما يليه،فالقيام مقدم على الجلوس،و الجلوس مقدم على الاضطجاع،و الاضطجاع مقدم على الاستلقاء.

و كل من المضطجع و المستلقي يومئ إلى السجود و الركوع،و من استطاع

ص:185

الوقوف،و تعذر عليه الركوع و السجود وقف و أومأ إليهما.

و ان دل هذا الاهتمام بالصلاة على شيء،فإنما يدل على أن الإنسان في جميع حالاته يجب أن يكون مع اللّه سبحانه ذاكرا له غير ناس لأمره و نهيه،كي لا يبطر و يطغى،و يتجرأ على المعاصي و الموبقات،و لو اكتفى اللّه من الناس بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه لدرس الدين،و صار القرآن و تعاليم الرسول نسيا منسيا،و بالرغم من تكرار الصلوات نرى ما نرى من هذه المنكرات،فكيف بدونها.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان الناس لو تركوا بغير تذكير،و لا تنبيه بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكانوا على ما كان عليه الأولون،فإنهم كانوا قد اتخذوا دينا،و وضعوا كتبا و دعوا أناسا إلى ما هم عليه،و قتلوهم،فدرس أمرهم،و ذهب حين ذهبوا،و أراد تعالى أن لا ينسيهم ذكر محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففرض عليهم الصلوات يذكرونه كل يوم خمس مرات ينادون باسمه،و يعبدونه-أي يعظمونه-بالصلاة و ذكر اللّه،لكيلا يغفلوا عنه،فينسونه و يدرس ذكره.

القراءة:
اشارة

4-قال الإمام عليه السّلام:من ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة،و من نسي القراءة فقد تمت صلاته.

و سئل عن رجل نسي أم القرآن؟قال:ان لم يركع فليعد أم القرآن.لأنّه لا قراءة حتى يبدأ بها في جهر أو إخفات.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا صلاة إلاّ أن يقرأ بفاتحة الكتاب،في جهر أو إخفات.أي لا تغني عنها آية سورة مع الانتباه.

ص:186

و سئل:ما يجزئ من الركعتين الأخيرتين؟قال:تقول:سبحان اللّه، و الحمد للّه،و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر،و تكبر و تركع.

و سأل أحدهم الإمام الصادق عليه السّلام:ما أصنع في الركعتين الأخيرتين؟قال:

ان شئت فاقرأ فاتحة الكتاب،و ان شئت فاذكر اللّه،فهو سواء،فقال السائل:فأي ذلك أفضل؟قال:هما و اللّه سواء،ان شئت سبحت،و ان شئت قرأت.

الفقهاء:

أجمعوا لهذه الروايات و غيرها كثير،و لفعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي قال:صلوا كما رأيتموني أصلي،و فعل آله الأطهار الأبرار،أجمع الفقهاء على وجوب القراءة في الصلاة،و لكنهم قالوا:انها ليست بركن،بل واجبة،و كفى،تبطل الصلاة بتركها عمدا لا سهوا،و ان الحمد تجب بالذات في صلاة الصبح، و الركعتين الأوليين من صلاة الظهرين و العشاءين،مع سورة كاملة يختارها من القرآن الكريم،و سورة الفيل،و لإيلاف تعدان بواحدة،و لا تجزي إحداهما عن الأخرى.و كذلك الحال في الضحى و أ لم نشرح،مع قراءة البسملة من أولهما و ما بينهما،لأنها جزء من السورة بالاتفاق،ما عدا سورة براءة.

و يجب تقديم الحمد على السورة،و لو قدم السورة عامدا،بطلت الصلاة، و ان قدمها سهوا،و تذكر قبل الركوع قرأ الحمد،و أعاد السورة،و سجد للسهو بعد الانتهاء من الصلاة.و له أن يترك السورة لمرض،كما لو صعب عليه قراءتها، أو داهمه أمر يستدعي الاستعجال،بحيث إذا لم يترك السورة وقع في الضرر.

و كذا يجوز تركها إذا ضاق الوقت عنها و عن الفاتحة معا،فإنه يقتصر،و الحال هذه،على الفاتحة فقط،و يجوز تركها في النافلة بشتى أقسامها،كما يجوز أن

ص:187

يقرأ فيها أكثر من سورة.

و يجب التبيين و الإفصاح في القراءة،و النطق بالحروف من مخارجها.

و على الرجل أن يجهر في الصبح،و الأوليين من الظهرين و العشاءين،و يخفت فيما عدا ذلك،و لا يعذر إذا ترك الجهر عمدا،و يعذر نسيانا و جهلا،و يستحب أن يجهر بالبسملة في الظهرين.و لا جهر على المرأة في شيء من الصلاة كافة، و لها أن تجهر فيما يجب على الرجل الجهر به،على شريطة ان لا يسمعها أجنبي.

و حد الجهر أن يسمع القريب،و حد الإخفات أن يسمع القارئ نفسه.

و يتخير المصلي في الركعة الثالثة من المغرب،و الأخيرتين من الظهرين و العشاء يتخير بين قراءة الحمد،و بين سبحان اللّه،و الحمد للّه،و لا إله إلا اللّه، و اللّه أكبر مرة واحدة،و يستحب ثلاثا.

الركوع:
اشارة

5-قال تعالى اِرْكَعُوا وَ اسْجُدُوا (1).و قال وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (2).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان اللّه فرض الركوع و السجود.

و قال:الصلاة ثلاثة أثلاث:ثلث طهور،و ثلث ركوع،و ثلث سجود.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا ركعت فصف في ركوعك بين قدميك،تجعل بينهما قدر شبر،و تمكن راحتيك من ركبتيك،و تضع يدك اليمنى قبل اليسرى، و بلّغ أطراف أصابعك عين الركبة،و فرج أصابعك إذا وضعتها على ركبتيك،فان

ص:188


1- الحج:77. [1]
2- المرسلات:48. [2]

وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك،و أحب إليّ ان تمكن كفيك من ركبتيك،فتجعل أصابعك في عين الركبة،و تفرج بينهما،و أقم صلبك،و مد عنقك،و ليكن نظرك إلى بين قدميك.

و حين علّم الإمام الصادق عليه السّلام أحد أصحابه الصلاة،ركع و ملأ كفيه من ركبتيه منفرجات،ورد ركبتيه إلى خلفه،ثم سوى ظهره،حتى لو صب عليه قطرة من ماء أو دهن لم تنزل لاستواء ظهره،و مدّ عنقه،و غمض عينيه،ثم سبح ثلاثا بترتيل،فقال:سبحان ربي العظيم و بحمده.

قال صاحب المدارك:و هذان الخبران أحسن ما وصل إلينا في هذا الباب.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:تقول في الركوع:سبحان ربي العظيم و بحمده.

و في السجود:سبحان ربي الأعلى،الفريضة في ذلك تسبيحة،و السنة ثلاث، و الفضل في السبع.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل نسي أن يركع؟قال:عليه الإعادة.

و قال:لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة:الطهور،و الوقت،و القبلة،و الركوع، و السجود.

الفقهاء:

قالوا:يجب الركوع في الصلاة،و انّه ركن منها تبطل بدونه أو زيادته سهوا كما تبطل عمدا.و ان يكون عن قيام.و حده ان تصل الراحتان إلى الركبتين، و يجب فيه الذكر،و هو سبحان ربي العظيم و بحمده،أو سبحان اللّه ثلاث مرات، و الطمأنينة بمقدار الذكر الواجب،و هي استقرار الأعضاء و سكونها،و أيضا يجب أن يرفع رأسه من الركوع و ينتصب واقفا مستقرا.و بكلمة إن للركوع في الصلاة

ص:189

حقيقة شرعية،و هي أن ينتقل إليه من القيام،ثم ينتقل منه إلى القيام،مع الاطمئنان فيه و في القيامين،فإذا انتقل إليه من الجلوس،أو هوي منه إلى الجلوس بطلب الصلاة،مع القدرة و الإمكان.

و يستحب ان يكبر قبل أن يهوي إلى الركوع،فإذا انتصب منه قال:سمع اللّه لمن حمده،ثم كبر،و هوى إلى السجود.

السجود:
اشارة

6-قال الإمام الصادق عليه السّلام:يسجد ابن آدم على سبعة أعظم:يديه، و رجليه،و ركبتيه،و جبهته.

و سئل عن السجود على المكان المرتفع؟قال:إذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن موضع بدنك قدر لبنة فلا بأس.

و سئل عن رجل في جبهته قرحة لا يستطيع أن يسجد؟قال:يسجد ما بين طرف شعره،فإن لم يقدر،سجد على حاجبه الأيمن،فإن لم يقدر،فعلى حاجبه الأيسر،فإن لم يقدر،فعلى ذقنه.قال السائل:فعلى ذقنه؟!قال الإمام عليه السّلام:نعم، أما تقرأ كتاب اللّه عزّ و جلّ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (1).

و سئل عن رجل نسي أن يسجد السجدة الثانية،حتى قام فذكر،و هو قائم؟ قال:فليسجد ما لم يركع،فإذا ركع فذكر بعد ركوعه،فليمض على صلاته،حتى يسلم،ثم يسجدها،فإنها قضاء.

و قال:ان شك في السجود بعد ما قام،فليمض،كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه.

و سئل عن رجل نهض من سجوده،فشك قبل أن يستوي قائما،فلم يدر

ص:190


1- الإسراء:107. [1]

أسجد أم لم يسجد؟قال:يسجد.

الفقهاء:

قالوا:تجب في كل ركعة سجدتان،و هما معا ركن،تبطل الصلاة بزيادتهما أو تركهما معا سهوا و عمدا،و لا تبطل بنقصان أو زيادة الواحدة فقط سهوا.

و الركن هو وضع الجبهة على الأرض،أما وضع باقي الأعضاء عليها، كالراحتين و الركبتين،و إبهامي الرجلين فواجب،و كفى،تماما كالذكر،و هو سبحان ربي الأعلى و بحمده،أو سبحان اللّه ثلاثا،و كالطمأنينة حال الذكر، و السجود على الأرض أو ما أنبتته مما لا يؤكل و لا يلبس،و مواساة موضع الجبهة للموقف،أو التفاوت يسيرا،و كالجلوس مطمئنا بين السجدتين،كل ذلك من واجبات السجود،و لا دخل له في الركنية.

و من كان في جبهته علة لا يستطيع السجود عليها،و لكنها لم تستغرق الجبهة بتمامها،احتال بكل وسيلة ليقع الجزء السليم من الجبهة على ما يصح السجود عليه،كأن يحفر حفرة صغيرة في الأرض،أو يتخذ آلة مجوفة من طين أو خشب،و يسجد عليها بشكل تقع العلة في الفراغ،و ان تعذر ذلك سجد على أحد حاجبيه،و ان تعذر أيضا سجد على ذقنه،و ان تعذر جميع ذلك أومأ إلى السجود.

و ان نسي سجدة واحدة،و تذكر بعد الفراغ من الصلاة،أو بعد الدخول في الركوع،أتى بها منفردة بعد الصلاة،و ان نسيها،و لكنه تذكر قبل أن يركع،أتى بها.و ان نسي السجدتين معا أتى بهما ما لم يركع،و ان كان قد ركع أو تذكر بعد الفراغ و الانتهاء من الصلاة بطلت،و عليه أن يستأنفها من جديد.

ص:191

هذا حكم النسيان،أما حكم الشك فيأتي بالسجدة أو السجدتين المشكوكتين قبل أن يكون قد دخل بالغير،و ان كان قد دخل صحت الصلاة،و لا يعتني بشكه،و يأتي التفصيل.

الأركان:

تبين مما قدمنا أن الأركان في الصلاة خمسة:النية،و تكبيرة الإحرام، و القيام حال هذه التكبيرة و الذي يركع عنه المصلي،و الركوع،و السجدتان من ركعة واحدة،و من المفيد أن ننقل ما جاء في كتاب مفتاح الكرامة بهذه المناسبة، قال صاحب هذا الكتاب عند كلامه عن وجوب القيام في الصلاة:«الأصل في أفعال الصلاة جميعا أن تكون ركنا،بمعنى أن تبطل الصلاة بزيادتها أو نقصانها، عمدا أو سهوا،لأن العبادة توقيفية و شغل الذمة يقيني،و يخرج من الأصل ما قام الدليل على خروجه و يبقى الباقي،و قد استقرأ الفقهاء أفعال الصلاة،فوجدوا فيها أفعالا كثيرة،قد دل الدليل على عدم البطلان بالسهو فيها زيادة و نقيصة،و وجدوا الباقي قد انحصر في الخمسة».

التشهد:
اشارة

7-قال الإمام الصادق عليه السّلام:يجزئ في التشهد ان تقول:أشهد ان لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،و ان محمد عبده و رسوله.

و قال:ان من تمام الصوم إعطاء الزكاة،كما أن الصلاة على النبي من تمام الصلاة.

ص:192

الفقهاء:

قالوا:يجب التشهد في كل ثنائية مرة،و في الثلاثية و الرباعية مرتين،و من أخل به عامدا،بطلت صلاته،و هذه صورته:«أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و اشهد ان محمدا رسول اللّه،اللهم صل على محمد و آل محمّد».

و قال صاحب المدارك:«المشهور بين الفقهاء انحصار الواجب من التشهد في هذا القول،و انه لا يجب ما زاد عنه،و لا يجزي ما دونه».

التسليم:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:تحريم الصلاة التكبير،و تحليلها التسليم.

و قال عليه السّلام:إذا قلت:السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين فهو الانصراف.

الفقهاء:

قالوا:ان التسليم حقيقة شرعية في اللفظ الموضوع لتحليل المصلي في الصلاة،بمعنى أنّه يحل به ما كان محرما بتكبيرة الإحرام.

و صيغة التسليم:«السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين،السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته»و أفتى الكثير من الفقهاء بأن الواجب أحد السلامين،فإن شاء أتى بهما معا،و ان شاء اكتفى بأحدهما.و قال البعض:إذا قدم السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته،فلا يجوز له أن يقول بعدها:السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين.أمّا السلام عليك أيها النبي و رحمة اللّه و بركاته فهو مستحب و تابع للتشهد لا للتسليم بالاتفاق.

و منهم من قال:ان التسليم ليس بواجب من الأساس،بل هو مستحب يجوز تركه،ورد صاحب الجواهر على هؤلاء بما جاء عن أهل البيت عليهم السّلام«و بفعل

ص:193

النبي و آله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأصحاب،و التابعين و تابعي التابعين،و كل من دخل في هذا الدين».

الترتيب و الموالاة:

جميع أجزاء الصلاة مرتبة ترتيبا شرعيا،فلكل جزء مكانه الخاص،لا يجوز تقديم المؤخر،و لا تأخير المقدم،فيبدأ بالتكبير،ثم القراءة،ثم الركوع، ثم السجود.إلخ.

و أيضا تجب الموالاة بين الأجزاء،بحيث يباشر باللاحق فور الانتهاء من السابق بلا فاصل يعتد به.

من مستحبات الصلاة:

1-يستحب التكبير عند الهوي إلى الركوع،و عند الهوي إلى السجود، و بعد رفع الرأس منه،و عند القنوت،و التكبير ثلاثا بعد الانتهاء من التسليم،و رفع اليدين في جميع التكبيرات إلى حذاء شحمة الأذنين.

2-القنوت،و يتأكد استحبابه في جميع الفرائض اليومية و نوافلها،و مكانه بعد القراءة في الركعة الثانية،و قبل الركوع.

3-أن ينظر المصلي،و هو قائم إلى مسجد الجبهة،و إلى ما بين رجليه، و هو راكع،و إلى طرف أنفه،و هو ساجد،و إلى حجره،و هو يتشهد و يسلم.

4-ان يضع يديه على فخذيه بحذاء ركبتيه مضمومة الأصابع،و هو قائم، و على عيني ركبتيه،و هو راكع،و بحذاء أذنيه،و هو متشهد،و على فخذيه،و هو جالس.

ص:194

الخلل في الصلاة

مبطلات الصلاة
اشارة

و هي:

1-الحدث المبطل للطهارة،سواء أوقع عمدا،أم سهوا،سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يكون في الصلاة،فيعلم أن ريحا قد خرجت،فلا يجد ريحها،و لا يسمع صوتها؟قال:يعيد الوضوء و الصلاة.

و سئل عن آخر يكون في صلاته،فيخرج منه حب القرع؟قال:ان كان ملطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء،و ان كان في الصلاة،قطعها،و أعاد الوضوء و الصلاة.

2-قالت المذاهب السنية الأربعة:ان التكفير أو التكتف،و هو وضع إحدى اليدين على الأخرى،قالت:هو مستحب،و تركه غير مبطل للصلاة.

و لفقهاء الشيعة ثلاثة أقوال:الأول:انّه حرام في الصلاة،و مبطل لها.

الثاني:انّه حرام غير مبطل.الثالث:انّه لا حرام و لا مبطل إلاّ إذا أتى به بقصد انّه مطلوب و محبوب في الشريعة،و ان فعله بغير هذا القصد فلا بأس.و من هؤلاء السيد الحكيم،فإنه قال في الجزء الرابع من المستمسك:«من ذلك تعرف ضعف القول بالبطلان،لعدم وفاء الأدلة بأكثر من تحريم التكتف بقصد أنّه جزء من الصلاة،أو بقصد أن الصلاة لا تصح بدونه،و إلاّ لم يكن وجه للبطلان.كما

ص:195

تعرف ضعف القول بأنّه حرام غير مبطل».و هذا صريح بأن من تكتف في الصلاة اختيارا دون أن يقصد أنّه مأمور به شرعا،فصلاته صحيحة،و لا اثم عليه أيضا.

و مهما يكن،فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّه حرام و مبطل للصلاة،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل صلى،و يده اليمنى على اليسرى؟فقال:ذلك التكفير،فلا تفعل.

3-تبطل الصلاة إذا التفت إلى الوراء،أو إلى اليمين،أو الشمال بجميع بدنه،أو بكامل وجهه بحيث يخرج عن حد الاستقبال،أمّا الالتفات يسيرا بالوجه دون البدن فلا بأس،ما دام الاستقبال باقيا،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد الصلاة.و قال أبوه الإمام الباقر عليه السّلام:ان استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة،فتفسد صلاتك،فان اللّه تعالى يقول لنبيه فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1).

و قال صاحب المدارك:«هذا كله مع العمد،أمّا لو وقع سهوا،فان كان يسيرا لا يبلغ حد اليمين و اليسار لم يضر،و ان بلغه،و أتى بشيء من الأفعال في تلك الحال،أعاد في الوقت،و إلاّ فلا اعادة».

و معنى هذا أن المصلي إذا مال قليلا،ثم اعتدل قبل أن يأتي بشيء منها، صحت صلاته إطلاقا،و ان أتى بفعل منها في هذه الحال فعليه أن يعيد ان اتسع الوقت،و إلاّ فلا يقضي،و ان خرج عن الاستقبال كلية،فسدت الصلاة،سواء أ كان عن عمد أو سهو،و عليه أن يعيد في الوقت أداء،و في خارجه قضاء.

4-أن يتعمد الكلام،و لو بحرفين لا معنى لهما،أو بحرف واحد،له معنى،أما الكلام عن سهو فلا يبطل،بل يستدعي السجود للسهو،كما يأتي.قال

ص:196


1- البقرة:15. [1]

الإمام الصادق عليه السّلام:تنتقض الصلاة بالكلام متعمدا،و ان تكلمت ناسيا فلا شيء عليك.

أجل،إذا سلم انسان على المصلي،فيجب عليه أن يرد التحية بالمثل دون زيادة حرف واحد،أو تقديم أو تأخير،على شريطة أن تكون تحية الإسلام،أمّا غيرها فلا يجب ردها،بل لا يجوز في أثناء الصلاة.قال محمد بن مسلم:دخلت على الإمام الصادق عليه السّلام،و هو في الصلاة،فقلت:السلام عليك.فقال:السلام عليك.قلت:كيف أصبحت؟فسكت.و بعد أن انتهى قلت له:أ يرد السلام في أثناء الصلاة؟قال:نعم،مثل ما قيل له.

5-القهقهة،اختيارا كانت أو قهرا،أما التبسم فلا يضر.قال الإمام الصادق عليه السّلام:امّا التبسم فلا يقطع الصلاة،و أمّا القهقهة فهي تقطع الصلاة.

6-البكاء المشتمل على الصوت إلاّ إذا كان خوفا من اللّه،فقد روي أن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن البكاء في الصلاة؟.فقال:ان بكى لذكر الجنة و النار فذاك أفضل الأعمال في الصلاة،و ان ذكر ميتا له،فصلاته فاسدة.و قيل:ان هذه الرواية ضعيفة منجبرة بعمل الفقهاء.

7-كل فعل لا تبقى معه صورة الصلاة،و الدليل الإجماع،و العقل أيضا، لأنه إذا ذهبت صورة الصلاة،ذهبت الصلاة من الأساس،و ما جاء عن النبي و أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أنهم فعلوه،أو رخصوا بفعله أثناء الصلاة،فهو من النوع القليل الذي لا تمحي معه الصورة،كقتل البرغوث و العقرب،و ما إلى ذاك.

8-الأكل و الشرب،فإنهما ماحيان لصورة الصلاة،و روح الصلاة، و الهدف من الصلاة،قال صاحب المدارك:«ادعي الإجماع على ذلك.

و استغرب بعض الفقهاء عدم البطلان بالأكل و الشرب أثناء الصلاة إلاّ مع

ص:197

الكثرة،كسائر الأفعال الخارجية عن الصلاة،و هو حسن».بل لا حسن فيه إطلاقا،لما ذكرنا،و الحسن هو قول من قال:ان إبطال الأكل و الشرب للصلاة في غنى عن الدليل.و كفى بترك الرسول و آله الأكل و الشرب في الصلاة،و بخشوعهم و انصرافهم عن كل ما يمت إلى الدنيا بسبب دليلا على عظمة الصلاة و جلالها.

9-ذهب أكثر الفقهاء إلى أن من تعمد قول آمين بعد قراءة الحمد،بطلت صلاته،لقول الامام الصادق عليه السّلام:إذا كنت خلف إمام،فقرأ الحمد و فرغ من قراءتها،فقل أنت:الحمد للّه رب العالمين،و لا تقل آمين (1).

10-الشك في صلاة الصبح،أي عدد ركعاتها،و في المغرب،و الأوليين من الظهرين و العشاءين،و يأتي التفصيل في فصل الشك.

الخلاصة:

ان كل من أخل بجزء من أجزاء الصلاة،أو بشرط من شروطها،أو بوصف من أوصافها،فسدت صلاته بموجب القواعد الكلية و الأصول العامة،إلاّ ما قام الدليل على أنّه غير مفسد،كالجهر مكان الإخفات،و التصرف بمال الغير جهلا أو نسيانا،و كنجاسة الثوب أو البدن أو مكان السجود جهلا،لا نسيانا.

ص:198


1- ان مجرد النهي عن قول آمين،و عن التكلم بحرفين أو أكثر،لا يكفي للحكم بفساد الصلاة، [1]لأنّه ليس نهيا عنها بالذات،كي تكون فاسدة،فلا بد-اذن-من البحث عن دليل آخر يستدعي الفساد،و قد مرّ الكلام مفصلا في الساتر المغصوب،فراجع،و مهما يكن فنحن قد أخذنا على أنفسنا التقيد و الالتزام بقول المشهور،مع توخي الاختصار.
السهو
الصلاة توقيفيّة:

للصلاة نظام و ترتيب خاص،و واجبات معدودة و محدودة لا ينبغي أن نزيد عليها،أو ننقص منها،و لكل واجب من واجباتها مكان مقرر لا ينبغي أن نحيد به عنه،فادنى خلل يقع عمدا أو جهلا أو نسيانا في شرط من شروطها،أو جزء من أجزائها،أو وصف من أوصافها،يستدعي فسادها و عدم قبولها بحكم العقل و المنطق،لأن الإخلال بالشرط إخلال بالمشروط،و الإخلال بالجزء إخلال بالموصوف،اللهم إلاّ إذا ثبت بالدليل أن الشارع الذي أوجب الصلاة بهذا الشكل الخاص يقبلها،و يرضى بها فاقدة لشرط أو جزء أو وصف في حال من الحالات، لأنّها منه و له،و المعول على مرضاته و إرادته،فإذا كنا على يقين منها حصل الامتثال و الانقياد.و بكلمة ليس لنا أن نحيد قيد شعرة فما دونها في كل ما يمت إلى الصلاة إلا بإذن من الشارع،و هذا معنى قول الفقهاء،العبادة توقيفية لا بد من ثبوت النص.

أين الدليل الخاص؟
اشارة

و تسأل:هذا حق لا ريب فيه،و لكن هل وجد دليل خاص من الشارع على

ص:199

أنّه رضي و اكتفى بالصلاة من الإخلال بشرط منها،أو جزء،أو وصف في حال من الحالات؟و على افتراض وجوده،فما هي هذه الحال التي يعذر معها المصلي؟و ما هو الشيء الذي يغتفر الإخلال به؟

الجواب:

ان الحالات على أنواع:

الأول:العمد

،فيتعمد الإنسان أن يزيد أو ينقص فعلا من أفعال الصلاة،أو يخل بالترتيب و النظام،فيقدم السورة على الفاتحة،و السجود على الركوع،أو يخل بوصف من أوصافها،فيجهر عمدا مكان الإخفات،أو يخفت مكان الجهر، أو يترك الطهارة أو الساتر،أو يتعمد الكلام و القهقهة،أو الفعل الكثير.و الحكم في ذلك كله و ما إليه،فساد الصلاة و بطلانها بالإجماع و النص و الضرورة.و أي عاقل يحتمل صحة الصلاة،مع الإخلال بشيء منها عن قصد و عمد!

الثاني:الجهل

،فيزيد بالصلاة ما يجب عليه تركه،أو يترك ما يجب عليه فعله جاهلا بوجوب ذلك عليه،و حكم الجاهل كحكم العامد تماما،قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:«بلا خلاف فيه على الظاهر،بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه من غير فرق بين أن يكون الجهل عن تقصير أو قصور».

لأن القصور انما يكون عذرا من حيث العقاب و المؤاخذة،أمّا من حيث الصحة و الفساد المعبر بالآثار الوضعية،فلا فرق فيها بين العالم و الجاهل،و لا بين القاصر و المقصر،فإذا اعتقد الجاهل المقصر أو القاصر أن الصلاة تجب على هذا النحو،و جرى على اعتقاده،لا يسقط عنه التكليف بالصلاة الصحيحة،و لم يخرج عن عهدته،لأنه لم يأت بالواقع،و لم يمتثل أمر الشارع،أجل،أن انقياده و إذعانه يدل على طيبته و حسن نيته،و لكن حسن النية شيء،و امتثال الواجب

ص:200

الواقعي شيء آخر.و هكذا الشأن في كل اعتقاد لا يتفق مع الواقع (1).إلاّ إذا دل الدليل على أنّه معذور في أمر من الأمور.و قد ثبت بالدليل أن الجاهل معذور في الجهر و الإخفات،و غصبية الماء الذي اغتسل أو توضأ به،و الثوب و المكان، و نجاستهما،و في حكم المسافر،و انه يجب عليه القصر دون التمام،و يأتي التفصيل.

الثالث:الشك

و يأتي الكلام عنه في الفصل التالي.

الرابع:السهو

،و الفرق بين الساهي و الشاك،ان الشاك متردد منذ البداية، لم يوقن بشيء إطلاقا،أمّا الساهي فيعلم و يتذكر جيدا أنّه قد فعل أو ترك أمرا عن ذهول،و يرادفه الناسي،و قد يطلق الشك على السهو،أو السهو على الشك تسامحا،و قد عقدنا هذا الفصل لحكم السهو و الساهي فقط.

السهو عن الأركان:

قدمنا أن أركان الصلاة خمسة:النية و تكبيرة الإحرام و القيام حال هذه التكبيرة،و ما كان منه قبل الركوع،و الركوع،و السجدتان.و معنى هذا أن ماهية الصلاة و حقيقتها من حيث هي هي،و بصرف النظر عن العلم و الجهل و التذكر و النسيان،تتقوم بهذه الخمسة.و من أخل بشيء منها سهوا،كمن أخل به عمدا، فمن ترك النية سهوا،و لم يتذكر،حتى كبّر،أو ترك التكبير،و لم يتذكر،حتى

ص:201


1- هذه الكلية لا تشمل المجتهد المخطئ إذا بحث و استفرغ الوسع،لأنه معذور بالنص و الإجماع، بل لنا أن نقول:ان التكاليف العامة لا تشمله فيما خالف اجتهاده،فإذا أدى اجتهاده إلى عدم وجوب السورة،و كان واجبة في الواقع،فلا تكون واجبة في حقه من حيث الطاعة و الامتثال.

قرأ،أو ترك الركوع،و لم يتذكر،حتى سجد،أو ترك السجود،و لم يتذكر،حتى ركع،بطلت صلاته،و وجبت عليه الإعادة.

أمّا ان الإخلال بالنية موجب للبطلان فلأنه لا صلاة شرعا و لا عرفا بدونها، و أمّا الإخلال بتكبيرة الإحرام فلأن الإمام عليه السّلام سئل عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة،حتى يكبر؟قال:يعيد الصلاة.و قال الإمام الصادق عليه السّلام بالنسبة إلى القيام :«ان من وجبت عليه الصلاة من قيام،فنسي،حتى افتتح الصلاة،و هو قاعد، فعليه أن يقطع صلاته،و يقوم،و يفتتح الصلاة،و هو قائم»و يدل على فساد الصلاة بترك الركوع و السجود الرواية الشهيرة:«لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة:

الطهور و الوقت و القبلة و الركوع و السجود»بالإضافة إلى كثير غيرها.

هذا حكم نقصان واحد من هذه الخمسة،أمّا الزيادة فهي غير متصورة في النية إطلاقا،و لكنها تتفاوت شدة و ضعفا،و أيضا لا يتصور زيادة القيام الركني، أو لا أثر لزيادته،لأنه بدون تكبيرة الإحرام و الركوع،لا يكون ركنا،و مع أحدهما يكون الأثر له،لا للقيام.و لذا قال صاحب الجواهر:لا يتصور زيادة القيام الركني بدون تكبيرة الإحرام،أو الركوع.

أمّا زيادة الركوع،أو السجدتين،فهي مبطلة بالإجماع،أمّا زيادة تكبيرة الإحرام فقال صاحب الجواهر:انّها تبطل الصلاة بلا خلاف أجده بين القدماء و المتأخرين.

و لكن تأمل بعض متأخري المتأخرين في ذلك،و اقتصر في البطلان على خصوص الترك و لو نسيانا دون الزيادة،و هو لا يخلو من وجه.

ص:202

السهو عن غير الأركان:

أمّا من أخل بشيء من واجبات الصلاة سهوا-غير الأركان-فله وجوه نذكرها تلخيصا من كتاب الجواهر:

1-لا يجب عليه التدارك،و لا سجدة السهو بعد الصلاة،و هو من نسي القراءة،حتى ركع،لقول الإمام عليه السّلام:«فمن ترك القراءة عمدا،أعاد الصلاة،و من نسي القراءة فقد تمت صلاته و لا شيء عليه.

و كذا من نسي الجهر مكان الإخفات،أو الإخفات مكان الجهر،للنص و الإجماع،حتى و لو تذكر قبل أن يركع،بل لا يتدارك،و يرجع لو تجاوز كلمة و دخل في أخرى،لأن الأدلة القائلة بأنه لا شيء عليه مطلقة غير مقيدة بشيء، و أيضا قال بهذا الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه.

و كذا ان نسي الحمد أو السورة،حتى ركع،أو نسي الذكر حال الركوع، لقول الإمام الصادق عليه السّلام في رجل نسي أم القرآن:«ان كان لم يركع فليعد أم القرآن»و قوله عليه السّلام:«ان عليا سئل عن رجل ركع،و لم يسبح؟قال:تمّت صلاته».

و كذا ان نسي الطمأنينة حال الركوع،حتى رفع رأسه،أو نسي رفع الرأس منه،أو الطمأنينة حال الرفع،حتى سجد بلا خلاف في ذلك،أو نسي الذكر حين السجود،أو الطمأنينة فيه،حتى رفع رأسه أو نسي وضع أحد المساجد السبعة.

ثم قال صاحب الجواهر:و العمدة في جميع ذلك واحد من أمرين:اما لأن التدارك يستدعي زيادة الركن،و امّا الإجماع.

2-يجب أن يتدارك ما نسي،و لا يجب عليه سجود السهو،و هو من نسي الحمد و قرأ السورة،ثم تذكر قبل أن يركع،للرواية المتقدمة:«ان كان لم يركع فليعد أم القرآن».و كذا ان نسي الركوع،ثم تذكر قبل أن يسجد،فعليه أن يقوم

ص:203

و يركع.و ان نسي السجدتين أو أحدهما،و تذكر قبل أن يركع،هوى و أتى بما نسي،ثم قام،و قرأ أو سبح حسب تكليفه الشرعي،بلا خلاف في ذلك، بالإضافة إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل نسي أن يسجد السجدة الثانية، حتى قام،فذكر،و هو قائم،أنّه لم يسجد؟قال:فليسجد ما لم يركع،فإذا ركع، و ذكر أنّه لم يسجد،فليمض على صلاته،حتى يسلم،فيسجدها قضاء.

3-يجب أن يتدارك ما نسي بعد الصلاة،و يسجد له سجدتي السهو،و هو من ترك سجدة واحدة،أو التشهد،أو الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و لم يتذكر،حتى ركع.و هذه الفتوى مشهورة«شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا».

4-يجب أن يسجد للسهو فقط بدون قضاء أو تدارك أي شيء،و ذلك إذا تكلم ساهيا،أو تشهد،أو سلم في غير موضع التشهد و التسليم،أو شك بين الأربع و الخمس،كما يأتي.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور بين الأصحاب-أي الفقهاء-قديما و حديثا،نقلا و تحصيلا.و في صحيح ابن الحجاج:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يتكلم ناسيا في الصلاة،يقول:

أقيموا صفوفكم؟فقال:يتم صلاته،ثم يسجد سجدتين،و غير ذلك».

و قيل:ان سجدتي السهو تجبان لكل زيادة و نقيصة،على شريطة أن لا تكون مبطلة للصلاة.و علق صاحب الجواهر على هذا القول بما نصه بالحرف:

«لم نعرف من هو قائله صريحا قبل المصنف (1)بل أطلق في الدروس عدم معرفة قائله و مأخذه».و مثله في كتاب مصباح الفقيه للشيخ الهمداني.و قال هذان

ص:204


1- هو جعفر بن الحسن المعروف بالمحقق الحلي توفي سنة 676 ه،و هو صاحب كتاب الشرائع الذي شرحه العلماء،و أعظم الشروح إطلاقا،بل أعظم كتب الفقه عند الشيعة كتاب الجواهر للشيخ محمد حسن النجفي المتوفى 1266 ه.

المحققان الجليلان:و الروايات التي احتج بها هذا القائل،الصحيح منها قاصر الدلالة،و الدال منها ضعيف السند.و عليه فالحكم بوجوب سجود السهو لكل زيادة و نقيصة لا يبنى على أساس.

صورة سجود السهو:

من كان عليه سجدتا السهو انتظر حتى يفرغ من الصلاة،و يسلم،و قبل أن يأتي بالمنافي،ينوي السجدتين قربة إلى اللّه تعالى،و يكبر استحبابا،ثم يسجد، و يقول: بسم اللّه و باللّه اللهم صلّ على محمد و آل محمد ،ثم يرفع رأسه،ثم يسجد،و يقرأ هذا الذكر ثانية،ثم يرفع رأسه،و يتشهد،و يسلم.قال الإمام الصادق عليه السّلام: «تقول في سجدتي السهو:بسم اللّه و باللّه،اللهم صلّ على محمد و آل محمد،أو السلام عليك أيّها النبي و رحمة اللّه و بركاته» .و قيل:يجزي كل ذكر.

الخلاصة:

و الخلاصة لقد تبين مما قدمنا أن الزيادة و النقصان عمدا في الصلاة يوجبان البطلان،و اعادة الصلاة،و ان الخلل عن سهو و نسيان منه ما لا يوجب البطلان و فساد الصلاة،كزيادة بعض الأركان الخمسة،أو نقصانها،و منه ما لا يوجب شيئا على الإطلاق،لا التدارك،و لا سجود السهو،كنسيان القراءة،و عدم التذكر و الانتباه إلاّ بعد الركوع،و منه ما يوجب التدارك فقط دون السجود،كالسهو عن الحمد،ثم التذكر قبل الركوع،و منه ما يوجب السجود للسهو دون التدارك،كمن تكلم ساهيا،و منه ما يوجبهما معا،كمن نسي التشهد أو الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص:205

مسائل:
1-إذا سها عن شيء من واجبات الصلاة،ثم تذكر قبل أن يدخل بالركن

، أتى به و بما بعده،كما لو نسي السجود أو التشهد،و بعد أن قام،و باشر بالقراءة تذكر قبل أن يركع،أتى بما سها عنه،و بما بعده من الواجبات حسب الترتيب الشرعي،و إذا تذكر بعد أن دخل بالركن،فلا يتدارك ما فات كائنا ما كان الفائت، لأن التدارك يستدعي زيادة الركن المبطلة للصلاة.

2-إذا نسي الركوع،ثم تذكر بعد أن سجد السجدة الاولى،و قبل أن يأتي

بالثانية

،بطلت الصلاة عند المشهور.

3-إذا تيقن أنّه ترك سجدتين،و لم يعلم:هل هما من ركعة واحدة

،حتى تبطل الصلاة،و تجب الإعادة،أو أن كل سجدة من ركعة،كي تصح،و يجب قضاء السجدتين فقط؟إذا كان كذلك،وجب الاحتياط،و لكن بإعادة الصلاة فقط،لأنّه يعلم إجمالا انّه مكلف،امّا بإعادة الصلاة،و امّا بقضاء سجدتين،فإذا أعاد الصلاة فرغت ذمته،و انحل العلم الإجمالي،لأنه على افتراض أن تكون السجدتان من ركعة،فواجبة إعادة الصلاة،و قد فعل،و على افتراض أن تكون كل سجدة من ركعة،فواجبة قضاء سجدتين،و قد أتى بهما في ضمن الصلاة.

اذن،قد علم بفراغ ذمته على كل حال.

4-إذا ركع،ثم هوى للسجود قبل أن ينتصب

،فان تذكر بعد أن سجد السجدتين معا،صحت الصلاة،و سجد السهو،و ان تذكر بعد السجدة الأولى، و قبل الثانية،فعن الشيخ الأنصاري أنّه لا يرجع إلى الانتصاب باتفاق العلماء.

و ليس من شك أن الأفضل إعادة الصلاة.

5-إذا ترك الوضوء،أو الغسل،أو التيمم سهوا

،بطلت الصلاة.

ص:206

6-إذا سجد على النجس

،أو على ما يؤكل و يلبس،أو على شيء من المعادن سهوا،صحت صلاته.

7-جاء في الجزء الثاني من كتاب مفتاح الكرامة ص 290:ان زيادة الركن

تغتفر في مواضع:

«منها»:إذا ركع المأموم قبل الامام ظانا أنّه قد ركع،ثم تبين له أنّه لم يركع، فينتصب المأموم،و يعود إلى متابعة الإمام،و يركع ثانية،و تصح الصلاة.

و«منها»:إذا شك المصلي في الركوع قبل أن يدخل في السجود،و أتى به، ثم تبين له أنّه قد ركع قبل أن يرفع رأسه،فإنه يهوي إلى السجود،و تصح الصلاة عند الشهيد الأول و جماعة.

و«منها»:إذا شك المصلي في عدد الركعات في العشاء أو الظهرين،فبنى على الأقل،و أتى بركعة الاحتياط،و بعد الانتهاء تبين أن صلاته كانت ناقصة،و ان الاحتياط مكمل لها،صحت صلاته،و اغتفر ما زاد من النية و تكبيرة الإحرام.

و«منها»:إذا صلى المسافر تماما في مكان القصر،جاهلا بالوجوب،أو ناسيا،و لم يذكر،حتى خرج الوقت،صحت الصلاة،و اغتفرت الزيادة،و يأتي التفصيل.

و«منها»:إذا باشر في صلاة الكسوف،ثم تبين له أن الوقت قد ضاق عن الفريضة اليومية التي لم يؤدها بعد،قطع ما بيده،و أتى بالفريضة،و بعد الانتهاء منها يبني في الكسوف على ما سبق.

ص:207

ص:208

الشك
اشارة

قدمنا أن الشاك هو الحائر المتردد الذي لم يوقن بشيء منذ البداية،و نتكلم الآن عن حكم الشك و ما يترتب عليه في الصلاة و هو على وجوه:منها الشك في أصل حدوث الصلاة،و صدورها.و منها الشك في شروطها و اجزائها غير الركعات.و منها الشك في عدد الركعات،و بيان حكم الجميع فيما يلي:

الشك في أصل الصلاة:
اشارة

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:متى استيقنت أو شككت في وقت فريضة انك لم تصلّها،أو في وقت فوتها انّك لم تصلّها،صليتها،و ان شككت بعد ما خرج الوقت،و قد دخل حائلا،فلا اعادة عليك من شيء،حتى تستيقن،فان استيقنتها فعليك أن تصليها في آية حالة كنت.

الفقهاء:

قالوا:من شك،و لم يدر:هل أدّى الفريضة أو لا؟ينظر:فان كان الوقت باقيا فعليه أن يصلي،تماما كما لو تيقن بأنّه لم يأت بها من الأساس،و ان كان ذلك في خارج الوقت فلا شيء،حتى يحصل اليقين بأنه لم يصل.

ص:209

الشك بعد الفراغ:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا شك الرجل بعد ما ينصرف من صلاته لا يعيد، و لا شيء عليه.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض و لا تعد.

و هذا محل وفاق بين الجميع.

الشك في شرط الصلاة:

إذا شك في شرط من شروط الصلاة،كالطهارة و الساتر،فإن كان الشك قبل الشروع بالصلاة،وجب عليه أن يحرزه،و يتثبت من وجوده،كما هو الشأن في كل شرط.

و ان كان ذلك في أثناء الصلاة،قطعها،و أوجد الشرط،لما تقدم، و لاستصحاب عدم وجود الشرط.و لا تجري قاعدة الفراغ بالقياس إلى الصلاة، لأنّه لم يفرغ منها،و لا بالقياس إلى الوضوء،أو غيره من الشروط،لأنه شاك في أصل حدوثه و صدوره.

و ان كان الشك بعد الفراغ من الصلاة فلا شيء عليه،لما تقدم في الفقرة السابقة.و لكن عليه أن يحرز بالقياس إلى غيرها من الصلاة.

الشك في أفعال الصلاة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا لم يدر أسجد واحدة،أو اثنتين،فليسجد الأخرى.

ص:210

و سئل عن رجل يشك،و هو قائم،لا يدري أ ركع أو لم يركع؟قال:يركع و يسجد.

هذا،إذا شك في الشيء قبل أن يتجاوزه إلى غيره.

و سئل عن رجل شك في الأذان،و قد دخل في الإقامة؟قال:يمضي.فقيل له:شك في الإقامة،و قد كبر؟قال:يمضي.و في التكبير،و قد قرأ؟قال:يمضي.

و في القراءة،و قد ركع؟قال:يمضي.و في الركوع،و قد سجد؟قال:يمضي.إلى أن قال الإمام عليه السّلام:إذا خرجت من شيء،ثم دخلت في غيره،فشكّك ليس بشيء.

هذا،إذا شك في الشيء بعد أن تجاوزه إلى غيره.

الفقهاء:

قالوا:ان الشك في فعل من أفعال الصلاة غير الركعات ينقسم إلى نوعين:

الأول:أن يشك في الشيء قبل أن ينتقل من محله إلى غيره،كما لو شك في النية قبل أن يكبر،أو في التكبير قبل أن يقرأ،أو في القراءة قبل أن يركع،أو في الركوع قبل أن يسجد،و ما إلى ذاك مما لم يتجاوز محل المشكوك،و أفتوا بوجوب الإتيان بالمشكوك،و الحال هذه،للأصل المعزز و المؤيد بروايات أهل البيت عليهم السّلام.

الثاني:أن يشك في الشيء بعد التجاوز و الانتقال من محله،و الدخول في غيره،كما لو شك في التكبير،و هو في القراءة،أو في القراءة،و هو في الركوع، أو في الركوع،و هو في السجود،و ما إلى ذاك مما تجاوز محله،و دخل بالغير.

و أفتى الفقهاء هنا بالمضي،و إلغاء الشك،و عدم الإتيان بالمشكوك فيه،مع اعترافهم بأن ذلك خلاف ما يستدعيه الأصل عملا بالدليل الوارد على الأصل،

ص:211

الثابت عن أهل البيت عليهم السّلام.

و تجدر الإشارة إلى أن المراد بالتجاوز عن محل المشكوك فيه،أن يدخل و يتلبس بفعل من أفعال الصلاة بالذات،لا بشيء أجنبي عنها،و ان يكون مكانه في الترتيب متأخرا عما شك فيه،أمّا الغير الذي دخل و تلبس بفعله،فالمراد به مطلق الغير قراءة كان،أو فعلا.فمن شك في القراءة كلا أو بعضا،و هو في البعض الآخر الذي يليه،أو شك في أي فعل،و قد تلبس في آخر،كما لو شك في الركوع،و قد هوى إلى السجود،أو في السجود،و قد قام،كل ذلك،و ما إليه يلغى فيه الشك،و يمضي المصلي في الإتمام.قال صاحب الجواهر:«كما هو خيرة الأكثر،بل عن البعض دعوى الإجماع عليه،و هو الحجة،مضافا إلى قول الإمام عليه السّلام:و ان شك في السجود بعد ما قام فليمض.و قوله عليه السّلام:قد ركع.جوابا لمن سأله عن رجل هوى إلى السجود،و لم يدر:أ ركع أم لم يركع».

الشك في عدد الركعات:
اشارة

يقع الشك في عدد الركعات على وجوه:منها المبطل،و منها غير المبطل.

و المبطل أقسام:

1-الشك في المغرب و الصبح و صلاة السفر،يوجب البطلان و فساد الصلاة إطلاقا،للإجماع و النص،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا شككت في المغرب فأعد،و إذا شككت في الفجر فأعد.و إذا لم تدر واحدة صليت أو اثنتين فأعد الصلاة من أولها،و الجمعة أيضا إذا سها فيها الامام فعليه أن يعيد الصلاة، لأنها ركعتان».

و كل نص خالف هذا النص فهو شاذ متروك،و قوله عليه السّلام:«لأنها ركعتان»

ص:212

نص على علة الحكم،فيكون بمنزلة قوله:كل شك في الصلاة الثنائية موجب لفساد الصلاة و بطلانها.

2-الشك بين الركعة،و الأكثر،فإنه مبطل للصلاة إجماعا و نصا،قال صاحب الجواهر:و النص على ذلك مستفيض ان لم يكن متواترا،و دالا على البطلان بأنواع الدلالات.و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا شككت فلم تدر:أفي ثلاث أنت أم في اثنتين،أم في واحدة،أم في أربع،فأعد،و لا تمض على الشك.

3-الشك بين الركعتين و ما زاد،قبل إكمال السجدتين،لأن الشك في هذه الحال يرجع إلى الشك في الركعتين بالذات،و عليه فلا يكون المصلي على يقين من إتمامها،فيتحتم البطلان.قال الإمام الصادق عليه السّلام:من شك في الأوليين أعاد، حتى يحفظ،و يكون على يقين،أي متأكدا من إتمام الركعتين.

4-إذا شك المصلي،و هو في الرباعية،بين الاثنتين و الخمس،تبطل صلاته،حتى و لو كان الشك بعد إتمام السجدتين و احرازهما،لأن الصلاة باطلة على كل حال،فان تكن في الواقع ركعتين،بطلت للنقصان،و ان تكن خمسا، بطلت لمكان الزيادة.هذا،إلى أن الشك الموجب لصحة الصلاة هو الذي يبنى معه على الأكثر من أحد طرفي الشك،على شريطة أن لا يتنافى البناء على الأكثر مع صحة الصلاة.و ليس من شك ان البناء على الخمس يستدعي البطلان لمكان الزيادة.

5-الشك في عدد ركعات صلاة الجمعة و العيدين و الكسوف و الخسوف و الزلازل،مبطل،لأنها ثنائية.

6-من لم يدر كم صلى،بطلت صلاته،لقول الإمام عليه السّلام:ان كنت لا تدري كم صليت،و لم يقع و همك على شيء،فأعد الصلاة.

ص:213

الشك الصحيح:

و هنالك حالات من الشك في عدد الركعات لا توجب البطلان،بل تصح الصلاة و تجزي،مع العلاج،على شريطة أن يكون الشك في الرباعية فقط،منها:

1-إذا شك بين الاثنتين و الثلاث بعد أن أحرز السجدتين و إكمالهما،فإنه يبني على الثلاث،و يأتي بالركعة الرابعة،و يتشهد و يسلم،و قبل أن يأتي بالمنافي،يحتاط بركعة من قيام أو ركعتين من جلوس،و الواحدة قائما أفضل من الاثنتين جالسا في هذه الحال.قال الإمام الصادق عليه السّلام لأحد أصحابه:ألا أعلمك ما إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء.إذا سهوت أي شككت،فابن على الأكثر،فإذا فرغت و سلمت،فقم فصل ما ظننت أنك نقصت،فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك شيء،و ان ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت.

و يتضح ما أراده الإمام بهذا المثال:رجل شك بين الثلاث و الأربع فبنى على الأربع،و بعد الانتهاء أتى بركعة الاحتياط،و حينئذ لا تخلو صلاته الأصلية، امّا أن تكون في الواقع ثلاثا،و امّا أن تكون أربعا.فإن كانت ثلاثا فقد أتمها بركعة الاحتياط،و ان كانت أربعا تقع ركعة الاحتياط نفلا،و تكون الحال أشبه بما لو كنت مديونا لإنسان بمبلغ لا تدري هل هو ثلاثة دراهم،أو أربعة؟فتعطيه أربعة، فإن كنت مطلوبا بها كاملة،فقد فرغت ذمتك قطعا،و كذلك ان كنت مطلوبا بثلاثة فقط،و يكون الدرهم الزائد إحسانا و تفضلا.

2-إذا شك بين الثلاث و الأربع في أي موضع كان،فإنه يبني على الثلاث، و يأتي بالرابعة،و يتشهد و يسلم،ثم يحتاط بركعة من قيام،أو ركعتين من جلوس،تماما كالصورة الأولى،سوى ان الأفضل هنا اختيار الركعتين من

ص:214

جلوس.فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل لا يدري أثلاثا صلى،أم أربعا، و وهمه في ذلك سواء؟فقال:إذا اعتدل الوهم في الثلاث و الأربع فهو بالخيار.ان شاء صلى ركعة،و هو قائم،و ان شاء صلى ركعتين،و أربع سجدات،و هو جالس.

3-إذا شك بين الاثنتين و الأربع بعد إكمال السجدتين،فإنه يبني على الأربع،و بعد الإتمام يحتاط بركعتين من قيام.قال الإمام عليه السّلام:إذا لم تدر اثنتين صليت أم أربع،و لم يذهب و همك إلى شيء،فتشهد و سلم،ثم صلّ ركعتين و أربع سجدات تقرأ فيهما بأم الكتاب،ثم تتشهد و تسلم،فان كنت انما صليت ركعتين،كانتا هاتان تمام الأربع،و ان كنت صليت أربعا،كانتا هاتان نافلة.

4-إذا شك بين الاثنين و الثلاث و الأربع بعد إتمام السجدتين،فإنه يبني على الأربع،و يتم صلاته،ثم يحتاط بركعتين من قيام،و ركعتين من جلوس، و الأفضل تقديم الركعتين من قيام،و تأخير الركعتين من جلوس.سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل صلى،فلم يدر اثنتين صلى،أم ثلاثا،أم أربعا؟قال:يقوم فيصلي ركعتين من قيام،و يسلم،ثم يصلي ركعتين من جلوس،و يسلم،فان كانت أربع ركعات كانت الركعتان نافلة،و إلاّ تمت الأربع.

5-إذا شك بين الأربع و الخمس نظر:فان حصل له الشك،و هو قائم، جلس،و بهذا يرجع شكه إلى الشك بين الثلاث و الأربع،فيبني على الأربع،و يتم الصلاة،و يأتي بركعتين من جلوس،أو ركعة من قيام.

و ان حصل له هذا الشك بعد أن سجد السجدتين،بنى على الأربع،و تشهد و سلّم،ثم سجد سجدتي السهو.

و إذا تبين له بعد الانتهاء ان صلاته كانت ناقصة،صحت و لا اعادة عليه.

و كذلك الحكم لو تبين النقصان،و هو في صلاة الاحتياط،لأن قول الإمام عليه السّلام:ان

ص:215

كانت ناقصة تممها الاحتياط،يشمل الحالين معا.

الشك في النافلة:

الشك في عدد ركعات النافلة لا يبطل،و المصلي بالخيار،ان شاء بنى على الأقل،و هو الأفضل،و ان شاء بنى على الأكثر،على شريطة أن لا يكون الأكثر مبطلا للصلاة.سئل الإمام عليه السّلام عن السهو في النافلة؟قال:ليس عليك شيء.

و قيل:للمصلي أن يقطع النافلة،ثم يستأنفها من جديد ان شاء.

كثير الشك:

كل من كثر شكه فعليه أن يمضي،و لا يعتني بشكه إطلاقا،سواء أ كان في عدد الركعات،أم في غيرها من الأفعال،أو في القراءة،و سواء أ كان الشك في أصل الحدوث و الصدور،أو في صحته.سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل الذي يشك كثيرا في صلاته،حتى لا يدري كم صلى،و لا ما بقي عليه؟قال:يعيد.قيل له:انّه يكثر عليه ذلك كلما أعاد شكه.قال:يمضي في شكه.لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة،فتطمعوه.فإن الشيطان خبيث معتاد لما عوّد،فليمض أحدكم في وهمه،و لا يكثرن نقض الصلاة،فإن فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك.انما يريد الخبيث أن يطاع،فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم.

صورة صلاة الاحتياط:

يجب في صلاة الاحتياط كل ما يجب في الصلاة المستقلة،من الطهارة و الستر و عدم الغصب و الاستقبال،و النية و تكبيرة الإحرام،و القراءة،و هي الحمد

ص:216

فقط دون السورة و دون القنوت،كما يجب فيها الركوع و السجود و التشهد و التسليم،و يجب فيها أيضا الإخفات،و لا يجوز الجهر.

و هذا دليل واضح على أنّها صلاة مستقلة،لا جزء من الصلاة،و الاكتفاء بها على تقدير نقص الصلاة،لا يستدعي أن تكون جزءا منها.قال صاحب الجواهر:

لا بد في صلاة الاحتياط من النية و تكبيرة الإحرام،و لا يكتفي بالنية الأولى و التكبيرة الأولى،لظهور النص و الفتاوى بأنها صلاة مستقلة عن الأولى واقعة بعد اختتامها بالتسليم مأمورا بها بأمر على حدة بتشهد و تسليم يختصان بها.و مثله في كتاب مصباح الفقيه للشيخ الهمداني.

مسائل:
1-إذا عرض له الشك،فلا يبني للوهلة الاولى على الأكثر

،و يتم،ثم يحتاط،بل الأولى و الأفضل أن يتأمل و يتروى قليلا عسى أن يزول الشك، و يحصل الاطمئنان.

2-إذا غلب على ظن المصلي،و ترجح في نظره أحد الطرفين

،عمل بظنه تماما،كما يعمل بالعلم،قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:هذا هو المشهور،و يدل عليه الحديث النبوي:«إذا شك أحدكم فليتحرّ».و قال صاحب العروة الوثقى:ان الظن بالركعات بحكم اليقين،سواء أ كان في الركعتين الأوليين، أم الأخيرتين.

3-إذا سلم،ثم صدر منه ما يبطل الصلاة كالكلام عمدا

،و ما إلى ذاك من المبطلات قبل أن يأتي بصلاة الاحتياط،فعليه أن يصلي صلاة الاحتياط على وجهها،ثم يعيد الصلاة من جديد،لأنه على يقين من التكليف بالصلاة

ص:217

ص:218

قضاء الصلاة

تمهيدات:
1-ليس من شك في أن القضاء تابع للأداء،و فرع عنه

،فإذا لم يجب الأصل،فبالأولى ما يتفرع عنه،و أوضح مثال لذلك الصبي و المجنون،فإنهما غير مكلفين بشيء إطلاقا،و مثلهما من أغمي عليه إغماء استوعب وقت الصلاة بكامله،فلقد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام:«انّه لا شيء عليه.و انه لا يقضي الصوم و لا الصلاة،و ان كلما غلب اللّه عليه،فاللّه أولى بالعذر» (1).

هذا هو مقتضى الأصل الذي يجب اتباعه،مع عدم وجود دليل على خلافه،فإذا ثبت الدليل على العكس،وجب إهمال الأصل،و اتباع الدليل.

و الأدلة الشرعية التي بين أيدينا منها ما جاء على وفق الأصل،أو لم تصرح بخلافه،و ذلك في الصبي و المجنون و فاقد الطهورين،حيث لا يجب على واحد منهم الأداء و لا القضاء،و كذلك الحائض و النفساء لا تجب الصلاة عليهما أداء و لا قضاء،و منها ما دل على وجوب القضاء دون الأداء،كقضاء الصوم على الحائض و النفساء.و منها ما دلّ على وجوب الأداء دون القضاء،كما هي الحال في الكافر

ص:219


1- قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:و [1]ما دل من الاخبار على قضاء [2]المغمى عليه،يحمل على الاستحباب،كما عن الصدوق و الشيخ و غيرهما،بل في الحدائق نسبته إلى المشهور.

الأصلي،أي الذي ولد من أبوين كافرين،فإنه مكلف بالفروع تماما،كما هو مكلف بالأصول عند الفقهاء،و مع ذلك لا يجب عليه قضاء ما فاته من الصلاة بعد إسلامه،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الإسلام يجبّ-أي يهدم-ما قبله».

2-يسقط التكليف بواحد من ثلاثة:الامتثال و الإتيان بالمكلف به على

وجهه،و بالعصيان

،و بارتفاع الموضوع-مثلا-إذا قال لك من وجبت طاعته عليك:أكرم زيدا بتاريخ كذا.فإن أكرمته بنفس التاريخ،يسقط التكليف بالامتثال،و ان تركت إكرامه حتى مضى الوقت المحدد،يسقط التكليف عنك أيضا،لأن المؤقت يزول بزوال وقته،و لكن تكون عاصيا مستحقا للعقاب.و إذا ارتفع الموضوع،كما لو مات زيد قبل الوقت يسقط التكليف عنك،و لا تسأل عن شيء،و قد دلّ الدليل على أن العاصي يجب عليه أن يقضي ما فات كما فات، و يأتي قريبا إن شاء اللّه.

3-ان التكاليف الشرعية تشمل و تعم العالم و الجاهل،و الناسي و الذاكر،

و النائم و المستيقظ

،و لا فرق إلاّ بالعقاب،فان كلا من العالم و الذاكر و المستيقظ، يعاقب،مع الترك،و لا عقاب على النائم و الجاهل القاصر و الناسي ما دام العذر و الوصف،فإذا تعلم الجاهل،و تذكر الناسي،و استيقظ النائم،وجب التدارك أداء داخل الوقت،و قضاء بعد فواته.

4-من كان أحد أبويه مسلما،و ترك الصلاة مرة واحدة مستحلا للترك

موقنا بعدم الوجوب

،فقد خرج عن الإسلام،و ارتد عن فطرة،و حل قتله،لأنّه أنكر ما علم ثبوته من الدين بالضرورة،إلاّ أن يدعي شبهة محتملة في حقه،كما لو كان قد خلق و نشأ في بلد لا عين فيه،و لا أثر للإسلام و المسلمين،لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

ص:220

و ان ولد من أبوين كافرين،و أسلم هو بعد البلوغ،ثم ارتد بتركه للصلاة مستحلا لها،كان مرتدا عن ملة،لا عن فطرة،و حكمه أن تعرض عليه التوبة،فإن امتنع و أصر،حل قتله إلاّ أن يدعي شبهة محتملة في حقه،كما لو كان قريب العهد بالإسلام.

أمّا من ترك الصلاة متهاونا،لا مستحلا،و مؤمنا بوجوبها،لا كافرا بها، عزّره الحاكم،فان عاد عزره ثانية،فان عاد عزره ثالثة،فان عاد حل قتله في الرابعة.

وجوب القضاء:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل صلى بغير طهور،أو نسي صلاة لم يصلها،أو نام عنها؟قال:يقضيها إذا ذكرها في آية ساعة ذكرها من ليل أو نهار، فإذا دخل وقت الصلاة،و لم يتم ما قد فاته،فليقض ما لم يتخوف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت،و هذه أحق بوقتها،فليصلها،فإذا قضاها،فليصل ما فاته مما قد مضى،و لا يتطوع بركعة،حتى يقضي الفريضة كلها.

و سئل عن رجل فاتته صلاة من صلاة السفر،فذكرها في الحضر؟قال:

يقضي ما فاته كما فاته.

الفقهاء:
اشارة

قالوا:من فاتته صلاة واجبة وجب عليه قضاؤها،سواء أ كان ذلك عن عمد أو نسيان،و النوم بحكم النسيان كما تقدم.

و من شرب ما يؤدي به إلى الجنون و زوال العقل،فعليه القضاء ان استيقظ،

ص:221

لأنه أوجد السبب بإرادته و اختياره،فيصدق عليه اسم الفوات،و لا يندرج في قول الإمام عليه السّلام:«كلما غلب اللّه عليه،فاللّه أولى بالعذر».

و من وجبت عليه صلاة الجمعة،فتركها حتى مضى الوقت،صلى الظهر أربعا،لقول الإمام عليه السّلام:من فاتته صلاة الجمعة فلم يدركها،فليصل أربعا.

و من لم يصل صلاة العيد،على تقديره وجوبها،فلا قضاء عليه،لقول الإمام عليه السّلام:من لم يصل يوم العيد مع الإمام في جماعة فلا صلاة له و لا قضاء عليه.

و من فاتته الفريضة في السفر،قضاها قصرا،حتى و لو كان حاضرا،و من فاتته الفريضة في الحضر،قضاها تماما،حتى و لو كان مسافرا،لقول الإمام عليه السّلام:

من فاتته صلاة فليصلها كما فاتته.اقض ما فات كما فات.يقضي في الحضر صلاة السفر،و في السفر صلاة الحضر.

و من كان مسافرا في أوّل وقت الصلاة،و حاضرا في آخر الوقت،بحيث إذا صلى في أوّل الوقت أداها قصرا،و إذا أداها في آخره كانت تماما،أو انعكس الأمر بحيث كان حاضرا في أول الوقت،و مسافرا في آخر الوقت،ثم فاتته الفريضة،فهل يقضي في الصورتين قصرا أو تماما؟

الجواب:

يجب على هذا أن ينظر ما ذا كان الواجب عليه لو صلاها أداء،فإن كان عليه ان يصلي قصرا في الوقت قضاها كذلك في خارجه،كما لو كان حاضرا في أوّل الوقت و مسافرا في آخره،و ان كان عليه ان يصلي تماما في الوقت،قضاها كذلك في خارجه،كما لو كان مسافرا في أوّل الوقت و حاضرا في آخره.قال الإمام الصادق عليه السّلام:من نسي أربع فليقض أربعا،مسافرا كان أو مقيما،و من نسي ركعتين،صلى ركعتين إذا ذكر،مسافرا كان أو مقيما.

ص:222

و اتفقوا كلمة واحدة على أن من فاتته فريضة فله أن يقضيها في وقت الصلاة الحاضرة،إن اتسع لهما معا،فيقضي أولا ما فات،ثم يؤدي ما عليه من الصلاة،و ان ضاق الوقت،و لم يتسع إلاّ للحاضرة فقط،تعين عليه أن يأتي بها، و يترك القضاء،لأن الحاضرة أحق بوقتها كما قال الإمام عليه السّلام.

و اختلفوا:هل يجب القضاء فورا،و في أوّل الوقت الذي يذكره فيه،أو يجوز التأخير،و لا تجب المبادرة،بحيث يسوغ لمن عليه صلوات فائتة أن يصلي الحاضرة في أوّل وقتها،و يتشاغل في غيرها من العبادات و الأفعال، و يؤجل القضاء إلى وقت آخر؟

الجواب:

لا يجب الفور في قضاء الفائتة،و يجوز التأخير،لأن الأمر لا يدل على الفور،و أصل البراءة ينفي وجوبه (1)،و على هذا المشهور قديما و حديثا.قال صاحب الجواهر:«كما هو المشهور بين المتأخرين،بل في كتاب الذخيرة أنّه مشهور بين المتقدمين أيضا،بل في كتاب المصابيح أن هذا القول مشهور في كل طبقة من طبقات فقهائنا المتقدمين منهم و المتأخرين-ثم قال صاحب الجواهر-:و يشهد لذلك التتبع لكلماتهم».ثم عدّ العشرات من أكابر الفقهاء.

و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:«الأقوى ما هو المشهور بين المتأخرين من القول بالمواسعة،و لعل هذا القول كان أشهر بين المتقدمين،و ان نسب إليهم في كلام غير واحد شهرة القول بالمضايقة،و على تقدير تحقيق

ص:223


1- لقد تقرر في علم الأصول أنّه كلما دار الأمر بين حمل اللفظ على معنى يحتاج إلى بيان زائد، و بين حمله إلى ما لا يحتاج إلى ذلك،تعين الأول،لأن الأصل عدم الزيادة،حتى يثبت العكس،و التعجيل أمر زائد على أصل الوجوب،و لا بيان فيه،فينفى بالأصل.

النسبة،فالشهرة المتأخرة أبلغ في إفادة الوثوق في مثل المقام كما لا يخفى وجهه».

و الوجه في أن شهرة المتأخرين أوثق،مع العلم بتقوى الجميع و إخلاصهم،أن المتأخر قد اطلع على قول المتقدم و دليله،و زاده في معرفة النظريات المتجددة،و الحركات الفكرية،هذا،إلى أن العلم لا يقف جامدا،بل هو حركة دائبة مستمرة،و العالم حقا من يفكر باستمرار،و يقلم و يطعم في أفكاره،و من هنا يكون اللاحق أوثق،لأنّه ان كان السابق على حقّ،فاللاحق يؤكد و يعزز،و ان كان على غير الحق،فاللاحق يقوّم و يصحح.

و قد تبين مما قدمنا أن وقت الفائتة موسع،و لا يضايق الحاضرة في شيء من وقتها إطلاقا،و هذا هو مراد الفقهاء من لفظة المواسعة عند إطلاقها.و مرادهم من لفظة المضايقة هو وجوب المسارعة و التعجيل بإتيان الفائتة،و تقديمها على الحاضرة،و مزاحمتها في زمانها المحدد لها،بحيث لا يجوز أن يؤدي فيه الحاضرة إلاّ إذا ضاق،و لم يبق منه إلاّ بمقدار فعلها فقط.و بكلمة أن الفائتة تأخذ من وقت الحاضرة كل ما تحتاج إليه أولا كان أو وسطا،و لا تبقى لها عند الاقتضاء إلاّ الوقت الأخير الذي لا يزيد عن فعلها لحظة.

هذا هو معنى القول بالمضايقة،و هو متروك كما قدمنا،حيث لا شيء يدل عليه،أمّا قول الإمام عليه السّلام:«يقضي الفائتة في آية ساعة ذكرها من ليل أو نهار»فإنما يدل على وجوب إتيانها،و عدم جواز تركها،لا على الفور و التعجيل،كيف و الحاضرة لا تجب المسارعة إليها في أول الوقت.أجل يستحب الفور و التعجيل في الأداء و القضاء بالاتفاق،و لو فرض وجود ما يدل على المسارعة،حمل على ذلك.

ص:224

الترتيب في القضاء:
اشارة

قيل للإمام الصادق عليه السّلام:يفوت الرجل الأولى و العصر و المغرب،و يذكر عند العشاء؟.قال:يبدأ بالوقت الذي هو فيه لا يأمن الموت،فيكون قد ترك الفريضة في وقت قد دخل،ثم يقضي ما فاته الأول فالأول.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا نسيت صلاة،أو صليتها بغير وضوء،و كان عليك قضاء صلوات،فابدأ بأولاهن.

الفقهاء:

أجمعوا على أن من فاتته صلوات عديدة،و علم الترتيب بينها،فعليه أن يقضي حسب الترتيب في الفوات،فيقدم السابقة على اللاحقة،فلو علم أنّه ترك الصلوات الخمس من يوم واحد ابتداء من الصبح،قدم الصبح على الظهر، و الظهر على العصر،و العصر على المغرب،و المغرب على العشاء.و لو علم أنّه قد ترك العصر من يوم الأحد في الأسبوع الفائت،و الظهر من يوم الاثنين، و العشاء من يوم الثلاثاء،و المغرب من الأربعاء،قدم في القضاء،العصر على الظهر،و العشاء على المغرب.قال صاحب الجواهر،بلا خلاف فيه.

و إذا جهل الترتيب بين الفوائت،وجب عليه التكرار،حتى يحصل له العلم به،فإذا فاته الظهر من يوم،و العصر من يوم آخر،و لم يعلم هل الفائت الأول هو الظهر أو العصر،صلى ظهرا و بعدها العصر،ثم صلى عصرا و بعدها الظهر.و لا يجب الترتيب،حتى و لو علم به في غير الصلوات الخمس،كصلاة الآيات و النوافل.

ص:225

الصلاة عن الميت:
اشارة

تقع الصلاة عن الميت على وجوه:

إهداء الثواب:

الأول:أن يصلي ركعتين تطوعا و استحبابا،و يهدي ثوابهما للميت،و ليس من شك أن هذا راجح شرعا،فلقد روي أن الإمام الصادق عليه السّلام كان يصلي عن ولده في كل ليلة ركعتين،و عن والده في كل يوم ركعتين.

و أيضا روي عنه عليه السّلام أنّه قال:ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين و ميتين،و يصلي عنهما،و يتصدق عنهما،و يحج عنهما،و يصوم عنهما،فيكون الذي صنع لهما،و له مثل ذلك،فيزيد اللّه ببره و صلاته خيرا كثيرا.

و عنه عليه السّلام أيضا:و قد سئل أ يصلي عن الميت؟قال:نعم،حتى أنّه ليكون في ضيق،فيوسع عليه ذلك الضيق،ثم يؤتى،فيقال له:خفف اللّه عنك ذلك الضيق لصلاة فلان أخيك عنك.

بل يجوز للإنسان أن يصلي و يحج و يتصدق تطوعا و استحبابا عن الأحياء فضلا عن الأموات،لما تقدم من قول الإمام عليه السّلام:ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين و ميتين.و قد سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام:أحج و أصلي و أتصدق عن الأحياء و الأموات من قرابتي و أصحابي؟قال:نعم،تصدق عنه،و صل عنه،و لك أجر لصلتك إياه.

القضاء عن الميت:
اشارة

الثاني:إذا كان على الميت صلاة واجبة،جاز لأي إنسان أن يقضيها عنه تبرعا،و له الأجر و الثواب،لإطلاق الروايات المتقدمة.

ص:226

و هل يجوز الاستئجار للصلاة عن الميت؟

الجواب:

أجل،يجوز،قال السيد الحكيم في المستمسك:«عليه مشهور المتأخرين شهرة كادت تكون إجماعا،بل حكى إجماع القدماء عليه الشهيد الأول في الذكرى،و شيخه في الإيضاح،و المحقق الثاني في جامع المقاصد».

و ليس من شك أن القواعد تساعد على ذلك،لأن النيابة عن الميت من الأمور الجائزة شرعا،و كلّ ما جاز فعله جاز الاستئجار عليه.

و يجب أن يكون الأجير أمينا و عارفا بأحكام الصلاة،و قادرا على الأفعال الواجبة كالقيام،و إذا عيّن المستأجر أن يعمل الأجير بموجب تكليف الميت،أو تكليف الأجير،أو بموجب نظر أحد من المجتهدين،تعين و تحتم على الأجير أن يوقع الصلاة على حسب ما استأجر عليها،و إلاّ عمل الأجير بمقتضى تكليفه الخاص،تماما كما لو و كله في البيع و ما إليه.

و يجوز أن تستأجر المرأة عن الرجل،و الرجل عن المرأة،و على الأجير، و كل من ينوب عن الميت في القضاء،أن يقصد النيابة عنه،تماما كالحج و الزيارة ،و لا يكفي مجرد إهداء الثواب للميت بدون قصد النيابة.

الولد الأكبر يقضي عن والديه:
اشارة

الثالث:قال الإمام عليه السّلام:يقضي الصوم و الصلاة عن الميت أولى الناس به، فقيل له:فان كان أولى الناس امرأة؟قال:لا،إلاّ الرجال.

و قال عليه السّلام:الصلاة الذي حصل وقتها قبل أن يموت الميت،يقضي عنه أولى الناس به.

ص:227

الفقهاء:

قال الشيخ و أكثر من تأخر عنه (1):ان الولد الأكبر يقضي عن أبويه ما فاتهما من الصلاة الواجبة.

ثم اختلف الفقهاء:هل يقضي الولد الأكبر جميع ما فات أبويه،سواء أ كان الفوات في مرض الموت،أم في غيره،أو أن عليه أن يقضي خصوص ما فاتهما في مرض؟ قال الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب فصل القضاء عن الميت:

«المحكي عن المشهور،الأول،و هو الأقوى،لأن النصوص تشمل بإطلاقها كل ما فات».

إذا كان له ولدان متساويين في السن،قسط القضاء عليهما،و إذا تبرع متبرع بالقضاء عن الميت،سقط عن الولي،و كذا إذا أوصى بالاستئجار عنه،و للولي أن يستأجر على أداء ما عليه من القضاء عن الميت.

مسائل:
1-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل نسي من الصلاة واحدة لا يدري أيتها

هي؟

قال:يصلي ثلاثا،و أربعا،و ركعتين،فان كانت الظهر،أو العصر،أو العشاء،فقد صلى أربعا،و إن كانت المغرب،أو الغداء،فقد صلى.

هذا محل وفاق عند الجميع.

2-إذا كانت الصلاة الفائتة اضطرارية
اشارة

،بحيث لو أتى بها في وقتها لأداها

ص:228


1- ان الشيعة يطلقون لفظ الشيخ بدون قيد على محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفى سنة 460 ه،و له كتابان من الكتب الأربعة الشهيرة،و هما كتاب الاستبصار و التهذيب.

متيمما،أو جالسا،أو مضطجعا،أو ماشيا،ثم زال العذر حين القضاء،فهل يقضيها اضطرارية كما فاتت،أو يقضيها تامة جامعة لجميع الشروط و الاجزاء؟

الجواب:

بل يجب أن يقضيها كاملة وافية،لأن الواجب الأول حين القضاء و الأداء هي الصلاة بهيئتها الأصلية من حيث هي،و إذا سوغت الضرورة التيمم أو الجلوس و ما إليه حين الأداء،فلا يستمر حكمها و أثرها إلى وقت القضاء،مع العلم بأنّه لا ضرورة فيه،فإن المريض الذي لا يقدر على الصلاة إلاّ مستلقيا، يجب عليه أن يقضيها واقفا لو فاتته حين المرض.قال صاحب الجواهر:«و على هذا غير واحد من الأصحاب،بل في مفتاح الكرامة (1)عن إرشاد الجعفرية ان وجوب رعاية الهيئة وقت الفعل لا وقت الفوات أمر إجماعي لا خلاف لأحد فيه، بل هو من الواضحات التي لا تحتاج إلى تأمل».

3-يلاحظ حال النائب،لا حال المنوب عنه فيما يعود إلى الجهر

و الإخفات

،لأنهما صفتان للمصلي،لا لطبيعة الصلاة و حقيقتها،و على هذا يجهر الرجل في الصبح و الأوليين من العشاءين،و ان ناب عن المرأة.و تخير المرأة، و ان نابت عن الرجل.

4-إذا ادعى المستأجر أن الأجير لم يؤد الصلاة عن الميت،و قال هذا:بل

أديتها

،فالقول قول الأجير،لأنه أمين،تماما كالوصي و الوكيل،و ليس على الأمين إلاّ اليمين.

ص:229


1- مفتاح الكرامة كتاب كبير جدا و جليل و هو للسيد محمد جواد العاملي،و [1]كان استاذا لصاحب الجواهر، [2]ذكرت هذا التعليق لأنقل ما وصف به صاحب الجواهر [3]أستاذه المذكور في كتاب الصلاة مسألة وجوب الترتيب بين الفوائت،قال ما نصه بالحرف:«و جاء هذا في رسالة المولى المتبحر السيد العماد أستاذي السيد محمد جواد»توفي صاحب الجواهر [4]سنة 1266 ه.

ص:230

صلاة الجماعة

فضل الجماعة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:أول جماعة كانت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلي و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام معه،إذ مر أبو طالب و جعفر معه،فقال:

يا بني صل جناح ابن عمك.فلما أحس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تقدّمهما،و انصرف أبو طالب مسرورا.

و قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ان الناس يقولون:ان الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس و عشرين صلاة.فقال:صدقوا.

و قال:من تركها رغبة عنها،و عن جماعة المؤمنين من غير علة،فلا صلاة له.أي لا صلاة كاملة له.

الفقهاء:

قال صاحب الجواهر:الجماعة مستحبة في الفرائض كلها كتابا و سنة، متواترة و إجماعا،بل ضرورة من الدين،يدخل منكرها في سبل الكافرين.

و أجمعوا على أن الجماعة لا تجوز إطلاقا في صلاة النوافل،قال الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام:لا يجوز أن يصلى تطوعا في جماعة،لأن ذلك بدعة،و كل بدعة ضلالة،و كل ضلالة في النار.

ص:231

و لا تجب الجماعة بحسب الأصل إلاّ في الجمعة و العيدين مع اجتماع الشروط.و يأتي الكلام في ذلك ان شاء اللّه،و تجب بالعارض،كالنذر و العهد و اليمين،و على من جهل القراءة إذا أمكنه أن يؤدي الفريضة خلف الامام.

شروط الجماعة:
اشارة

يشترط في انعقاد الجماعة أمور:

العدد:

1-العدد،و أقله اثنان:رجلان،أو امرأتان،أو بالتفريق.سئل الإمام الصادق عليه السّلام:الرجلان يكونان جماعة؟قال:نعم.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:

«الاثنان جماعة».هذا في غير الجمعة و العيدين،إذ لا بد فيهما من خمسة.

قصد الائتمام:

2-أن يقصد المأموم الائتمام بمن يصلي بصلاته.بديهة أن مجرد الصلاة وراءه أو إلى جانبه،بدون هذا القصد و نية الاقتداء،لا تتحقق الجماعة،كما لا تتحقق الصلاة بمجرد الركوع و السجود بدون قصد الصلاة و نيتها،و يشعر بذلك الحديث النبوي المشهور:«انما جعل الإمام إماما ليؤتم به».و قال صاحب الجواهر:بلا خلاف،إذ هو من أصول المذهب و قواعده.

الامام:

3-يشترط في إمام الجماعة أن يكون عاقلا بالبداهة،إذ لا صلاة و لا عبادة

ص:232

لمجنون،و ان يكون بالغا على المشهور،حتى و لو قلنا بصحة عبادة الصبي المميز،لأن لفظة إمام الجماعة تنصرف إلى المكلف البالغ،و ان يكون مواليا للأئمة الاثني عشر عليهم السّلام.قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:بلا خلاف فيه عندنا،بل لعله من ضروريات المذهب،فلقد روي عن الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام أنّه قال:لا يقتدى إلاّ بأهل الولاية.

و ان يكون عادلا،قال صاحب الجواهر:لا يجوز الائتمام بالفاسق إجماعا، محصلا و منقولا،مستفيضا و متواترا،كالنصوص،بل ربما حكي عن بعض السنة موافقتهم للشيعة في ذلك محتجا بإجماع أهل البيت عليهم السّلام.و مما روي عنهم عليهم السّلام:

«ان إمامك شفيعك إلى اللّه،فلا تجعل شفيعك سفيها و لا فاسقا.لا تصل إلاّ خلف من تثق بدينه.ثلاثة لا يصلى خلفهم:المجهول،و الغالي،و المجاهر بالفسق».إلى غير ذلك مما لا يبلغه الإحصاء.

و ان لا يصلي الامام جالسا،و المأموم واقفا،فلقد روي بطريق الشيعة و السنة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلى بأصحابه في مرضه جالسا،فلما فرغ قال:لا يؤمّن أحدكم بعدي جالسا.و لا بأس أن يكون القاعد إماما لمثله،و القائم إماما للقاعد.

و يجوز أن يكون الرجل إماما للرجال و النساء،أما المرأة فلها أن تؤم النساء دون الرجال.

و لا تجوز إمامة من لا يحسن القراءة لمن يحسنها،و تجوز لمثله،على أن يلتقيا و يتحدا في الشيء الذي لم يحسناه،كما لو جهل كل قراءة الحمد،أمّا إذا أحسنها أحدهما دون السورة،و أحسن الآخر السورة دون الحمد،فلا.

و لا يجوز لمن يصلي اليومية أن يقتدي بمن يصلي الآيات و العيد و على

ص:233

الجنازة،و لا العكس.

و يجوز لمن تيمم،أو لذي الجبيرة أن يكون إماما لمن توضأ،و للسليم، كما يجوز للمسافر أن يكون إماما للحاضر،و بالعكس،و من يقضي لمن يؤدي، و بالعكس.و من يجهر لمن يخفت،و من يصلي وجوبا لمن يعيد استحبابا،و من يصلي العصر لمن يصلي الظهر،كل ذلك مشهور بين الفقهاء،و فيه نصوص أيضا.

و لا بد للمأموم أن يعيّن الإمام في نفسه بالاسم،أو بالوصف،أو بالإشارة.

الحيلولة:

4-لا تجوز الحيلولة بين الإمام و المأموم بما يمنع المشاهدة،إلاّ إذا كان الإمام رجلا،و المأموم امرأة،على شريطة أن لا يمنعها الحائل من معرفة أحوال الإمام،لتتمكن من متابعته،و لا يضر تعدد الصفوف مهما كثرت،لأن كل صف يشاهد الصف الذي أمامه،حتى ينتهي إلى الصف الأول الذي يشاهد الإمام.

قال صاحب المدارك:هذا الحكم مجمع عليه بين الفقهاء،و المستند فيه قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان صلى قوم،و بينهم و بين الإمام ما لا يتخطى (1)فليس ذلك الإمام لهم بإمام،و أي صف كان أهله يصلون بصلاة إمام،و بينهم و بين الصف الذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطى،فليس تلك لهم بصلاة،و ان كان بينهم سترة أو جدار،فليس تلك لهم بصلاة،إلاّ من كان بحيال الباب.أمّا جواز الحائل بالقياس إلى المرأة،فتدل عليه رواية عمار،قال:سألت أبا عبد اللّه-أي الإمام الصادق عليه السّلام-عن الرجل يصلي بالقوم،و خلفه دار فيها نساء،هل يجوز لهن أن

ص:234


1- أي لا يستطيع الإنسان أن يخطو من فوقه،و إذا استطاع ذلك فلا بأس.و من هنا قال الفقهاء:لا بأس بالحائل الذي لا يمنع من المشاهدة حين الجلوس.

يصلين خلفه؟قال:نعم،إذا كان الإمام أسفل منهن.قلت:ان بينهن و بينه حائطا أو طريقا.قال:لا بأس.

العلو:

5-إذا تساوى موقف الإمام مع موقف المأموم،أو تفاوت تفاوتا يسيرا لا يعتد به،صحت الجماعة.و ان تفاوت كثيرا ينظر:فإن كان المأموم أعلى،صحت الجامعة إطلاقا،سواء أ كان العلو عموديا،كما لو صلى المأموم على بناء،و الإمام على الأرض،أو كان العلو انحداريا قريبا من التقوس.و ان كان مكان الإمام هو الأعلى،بطلت الجماعة ان كان العلو عموديا،و صحت ان كان انحداريا.

قال صاحب مصباح الفقيه:هذا هو المشهور،بل عن أكثر من واحد دعوى الإجماع عليه،و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان قام الإمام في موضع أرفع من موضعهم-أي موضع المأمومين-لم تجز صلاته.و ان قام الإمام أسفل من موضع من يصلي خلفه،فلا بأس.

تقدم الامام:

6-أن لا يتقدم المأموم على الإمام في الموقف،و لا بأس بالمساواة فيه، بحيث تتساوى الأعقاب،و ان لم تتساوى الرؤوس حين الركوع و السجود،كما لو كان الامام قصيرا،و المأموم طويلا.و إذا تقدم المأموم،بطلت الجماعة،لأن المتبادر من لفظ المأموم هو تأخره عن الإمام،و لا أقل من عدم تقدمه عليه.

و على الإجمال ان المأموم امّا أن يتقدم،و امّا أن يتأخر،و امّا أن يساوي الإمام في الموقف.و قد أجمع الفقهاء على بطلان الجماعة في الأول،و على

ص:235

صحتها في الثاني.و اختلفوا في الثالث،و المشهور على الصحة،لقول الإمام عليه السّلام:

الرجلان يؤم أحدهما صاحبه يقوم عن يمينه،فان كانوا أكثر من ذلك قاموا خلفه.

و روي عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام أنّه قال:إذا جاء الرجل،و لم يمكنه الدخول في الصف،قام حذاء الإمام.

التباعد:

7-لا يجوز التباعد بين الإمام و المأموم في الموقف بأكثر من المعتاد، بحيث لا يصدق معه اسم الجماعة و الاقتداء،بديهة أن الأحكام تتبع العناوين و الأسماء،و لا يضر تعدد الصفوف و كثرتها بالغة ما بلغت ما دام اسم الجماعة ينطبق عليها.قال صاحب الجواهر:بلا خلاف في ذلك أجده.

ص:236

أحكام الجماعة
لو وجد الامام راكعا:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أدركت الإمام و قد ركع،فكبرت و ركعت قبل أن يرفع رأسه،فقد أدركت الركعة،و ان رفع الإمام رأسه قبل أن تركع،فقد فاتتك الركعة.

الفقهاء:

عمل المشهور بهذه الرواية،و ما عداها فمتروك.و يستحب للإمام إذا أحس بداخل أن يطيل ركوعه،حتى يلحق به.

إذا كبر المأموم و ركع،ثم شك هل ركع هو قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع أو لا؟ينظر:فان كان الشك بعد ان انتهى هو من الركوع،يمضي و لا يعتني بشكه،لأنه شك بعد التجاوز،و ان حصل له هذا الشك،و هو بعد في الركوع، بطلت الصلاة و استأنفها من جديد.

و تسأل:لما ذا لا نجري استصحاب بقاء الإمام راكعا إلى حين ركوع المأموم،و نحكم بصحة الصلاة؟

ص:237

الجواب:

ان الاستصحاب إنما يكون حجّة متبعة إذا ترتب عليه ابتداء،و بلا واسطة أثر شرعي،كاستصحاب بقاء الطهارة الّذي يترتب عليه جواز الدخول بالصلاة شرعا،أمّا إذا ترتب عليه لازم عقلي لا أثر شرعي،فلا يكون الاستصحاب حجّة، كما هو الشأن فيما نحن فيه،فإن استصحاب بقاء ركوع الإمام يلزمه أن يكون ركوع المأموم مقارنا له،و بديهة ان المقارنة ليست من الآثار الشرعية،بل من اللوازم العقلية،و عليه فلا يكون الاستصحاب حجّة.

القراءة مع الإمام:
اشارة

سئل الإمام عليه السّلام عن الركعتين الأوليين بصمت-أي يخفت-فيهما الإمام:

أ يقرأ-أي المأموم-بالحمد؟قال:ان قرأت فلا بأس،و ان سكت فلا بأس.

و أيضا سئل:أ يقرأ الرجل في الأولى و العصر خلف الإمام،و هو لا يعلم أنّه يقرأ؟فقال:لا ينبغي له أن يقرأ،يكله إلى الإمام.

الفقهاء:

قالوا:ان الإمام لا يتحمل القراءة عن المأموم في الركعة الثالثة من المغرب، و الأخيرتين من العشاء و الظهرين.و ان المأموم مخير بين قراءة الفاتحة،أو التسبيحات،تماما كالمنفرد،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا تقرأ خلفه في الأوليين، و يجزيك التسبيح في الأخيرتين.

و أيضا قالوا:ان الإمام يتحمل القراءة عن المأموم في الركعتين الأوليين، و لكنهم اختلفوا هل تحرم القراءة،و لا تجوز إطلاقا في الصلاة الجهرية

ص:238

و الإخفاتية،أو تجوز كذلك بلا كراهة،أو على كراهة،أو لا بد من التفصيل بين الصلاة الجهرية و الإخفاتية.قال صاحب مفتاح الكرامة:اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافا شديدا،حتى أن الفقيه الواحد اختلف مع نفسه.و قال صاحب المدارك:«الأقوال في هذه المسألة منتشرة.و ليس للتعرض لها كثير فائدة».

و نكتفي نحن بذكر ما ذهب إليه صاحب الجواهر من جواز القراءة في الركعتين الأوليين على كراهة،جمعا بين الروايات الناهية و الروايات المجيزة، و الجامع بينها قول الإمام عليه السّلام:«ان قرأ فلا بأس،و ان سكت فلا بأس».و قوله:«لا ينبغي له أن يقرأ»لأن لفظ«لا ينبغي»يشعر بالكراهة (1).

و مهما يكن،فالأولى ترك القراءة ما دامت غير واجبة بالاتفاق.

المتابعة في الأفعال و الأقوال:
اشارة

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:انما جعل الإمام إماما ليؤتم به،فإذا ركع فاركعوا،و إذا سجد فاسجدوا.

ص:239


1- الجمع بين الأدلة المتضاربة ينحصر بأمرين:العرف و الشرع،و الجمع العرفي هو حمل العام على الخاص،و المطلق على المقيد،فإذا قال الإمام عليه السّلام:الماء ينجس بمماسته للنجاسة،ثم قال:الماء الكثير لا ينجس بذلك،قلنا:ان المراد بالتنجس من المماسة الماء القليل،و من عدم التنجس بها الماء الكثير،و العرف لا يأبى ذلك،بل يستحسنه،أمّا الجمع الشرعي هو أن يوجد دليل ثالث من الشرع يجمع بين الأدلة الشرعية المتنافية بظاهرها،كما لو ورد عن الشرع قوله:لا تقرأ خلف الإمام،و ورد قول آخر:تجوز القراءة خلف الإمام،و دليل ثالث يقول:لا تنبغي القراءة خلف الإمام،كان هذا الثالث هو الجامع بين الاثنين،و نقول:المراد جواز القراءة على كراهة.
الفقهاء:

أجمعوا على العمل بهذا الحديث الشريف.قال الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب فضل صلاة الجماعة:«يجب متابعة الإمام في الأفعال بالإجماع المستفيض،و الأصل في هذا الإجماع ما رواه السنة عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به».

و المراد بالمتابعة أن لا يسبق الإمام المأموم بشيء من أفعاله،بل يتأخر عنه يسيرا،و يجوز أن يقارنه ما دام قاصدا أن يربط فعله بفعل الإمام.

لو ركع قبل الإمام:

و إذا سبق المأموم الإمام إلى الركوع أو السجود،فلا يخلو امّا أن يفعل ذلك عمدا،و امّا سهوا،فان كان عن عمد بقي على حاله،حتى يلحقه الإمام و يتم الصلاة معه،و تقع صحيحة.و لكنه يكون آثما لمكان العمد و القصد،لأن المتابعة في الأفعال واجبة بنفسها وجوبا مستقلا،و ليست شرطا في صحة الجماعة،و لا في صحة الصلاة.و لا يجوز له أن يرجع و يركع أو يسجد ثانية مع الإمام،لأنه يستدعي الزيادة العمدية،و هي مبطلة بالإجماع،حتى في هذا الحال.

و ان سجد أو ركع سهوا قبل الإمام،عاد إلى الإمام و ركع أو سجد معه،لأن الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن الرجل يكون خلف إمام يأتم به، فركع قبل أن يركع الإمام،و هو يظن أن الإمام قد ركع،فلما رآه لم يرفع رأسه أعاد ركوعه مع الإمام،أ يفسد عليه صلاته،أم تجوز الركعة؟فقال:تتم صلاته بما صنع و لا تفسد.

و بما ان الأدلة الدالة على بطلان الصلاة بزيادة الركن سهوا مطلقة و شاملة

ص:240

لصلاة المنفرد و صلاة الجماعة،و هذه الرواية خاصة و مقيدة بصلاة الجماعة، فيجب تقييد الإطلاق و حمل تلك على هذه.و تكون النتيجة أن زيادة الركن سهوا مبطلة في المنفرد،دون الجماعة.

هذا هو حكم المتابعة في الأفعال،أمّا المتابعة في الأقوال فقد اتفق الفقهاء على وجوبها في تكبيرة الإحرام،و اختلفوا في غيرها من القراءات،فذهب الأكثرون إلى عدم وجوب المتابعة فيها،كما جاء في كتاب مفتاح الكرامة.

لو رفع رأسه قبل الإمام:
اشارة

الفرض السابق كان في ركوع أو سجود المأموم قبل الإمام،و الفرض هنا بالعكس،أي في رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام.

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل صلى مع إمام يأتم به،ثم رفع رأسه من السجود قبل أن يرفع الإمام رأسه من السجود؟قال:فليسجد.

و سئل حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام عن رجل يركع مع إمام يقتدي به،ثم يرفع رأسه قبل الإمام؟قال:يعيد ركوعه معه.

و الحكم هنا هو الحكم في الفرض السابق،فإنهما من واد واحد على حد تعبير صاحب مفتاح الكرامة،فإن رفع رأسه عمدا،وجب أن ينتظر الإمام،ثم يسري معه،فان عاد إلى الركوع أو السجود،و الحال هذه،بطلت صلاته لمكان الزيادة العمدية.

و ان رفعه سهوا،عاد إلى الركوع أو السجود مع الإمام،و اغتفرت هذه الزيادة في صلاة الجماعة،لهاتين الروايتين المقيدتين للأدلة الدالة على أن زيادة الركوع و السجود سهوا مبطلة،و يختص البطلان في صلاة المنفرد فقط.

ص:241

و تقول:ان الروايتين المذكورتين أوجبتا العودة إلى الركوع و السجود إطلاقا،و بدون تفصيل بين العمد و السهو،فعلى أي شيء استند الفقهاء حين فصلوا و فرقوا بينهما؟

الجواب:

أجل،ان لفظ الروايتين بما هو يشمل العامد و الناسي،و لكن لما كان الغالب أن المأموم لا يرفع رأسه من الركوع و السجود قبل الإمام إلاّ سهوا،فقد أجرى الفقهاء اللفظ مجرى الغالب،هذا،إلى أن قيام الإجماع على أن العامد لا يعود إلى الركوع و السجود يخصص الروايتين في السهو فقط.

الإمام النجس:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن قوم خرجوا من خراسان،أو بعض الجبال، و كان يؤمهم في الصلاة رجل،فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه يهودي؟قال:لا يعيدون.

و سئل أبوه الإمام الباقر عليه السّلام عن قوم صلى بهم إمامهم،و هو على غير طهر، أ تجوز صلاتهم أو يعيدونها؟قال:لا اعادة عليهم،تمت صلاتهم،و عليه هو الإعادة،و ليس عليه أن يعلمهم،هذا عنه موضوع.

الفقهاء:

اتفقوا على العمل بهاتين الروايتين،و قد ذكرنا في أوصاف الإمام ان الايمان و العدالة شرط في إمام الجماعة،و لا بد من التنبيه إلى أن هذا الشرط انما هو شرط علمي،لا واقعي،تماما كالنجاسة الخبيثة،فمن صلى بصلاة الفاسق

ص:242

عالما بفسقه،بطلت صلاته لمكان النهي عنها.و إذا صلى بصلاته واثقا من دينه و أمانته،ثم تبين العكس صحت صلاته.و لذا لا يجب على الإمام أن ينبه المأموم إذا تبين له أنّه كان قد صلى بغير طهارة،حتى و لو نبهه لا تجب الإعادة على المأموم،بل تجب على الإمام فقط.

لا مجتهد و لا مقلد:

لو أن معمما اعتقد بنفسه الاجتهاد،و هو في الواقع جاهل مركب،يكون عمله فاسدا،لأنه عمل بغير تقليد و لا اجتهاد،و على هذا،فمن صلى خلفه عالما بحاله،تبطل صلاته.اللهم إلاّ إذا كانت مطابقة للواقع و على وفقه،بحيث أتى الإمام بكل ما يحتمل وجوبه من الاجزاء و الشروط.

و لا فرق في ذلك بين الجاهل القاصر و المقصر،لأن الصحة و الفساد من الأحكام الوصفية التي لا فرق فيها بين الكبير و الصغير،و لا بين العاقل و المجنون إلاّ بالمؤاخذة و العقاب.

و بهذه المناسبة اذكر بعض ما جرى بيني و بين شيخ من الأحناف،و كنت أحاوره،فقد قلت له فيما قلت:

هل أنت مجتهد أو مقلد؟ قال:بل مقلد.

قلت:و لمن؟ قال:لأبي حنيفة.

قلت:ان أبا حنيفة لا يجيز التقليد،و على هذا فأنت غير مجتهد و لا مقلد.

فضحك،و كفى.

و لو علم هذا الشيخ بحالنا،لأجاب بأن هذا يرد على الكثيرين منكم ممن

ص:243

يدعون الاجتهاد،و هم ليسوا بأهل،لأن عملهم بلا اجتهاد و لا تقليد.

لو خاف فوات الركعة:
اشارة

إذا دخل المصلي موضعا تقام فيه الجماعة،فوجد الإمام راكعا،و خاف أن يفوته الركوع إذا لحق بالصف،فما ذا يصنع؟

الجواب:

ينوي و يكبر و يركع في موضعه،ثم يمشي في ركوعه،حتى يلحق بالصف.

فلقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يدخل المسجد،فيخاف أن يفوته الركوع؟قال:

يركع قبل أن يبلغ إلى القوم،و يمشي و هو راكع،حتى يبلغهم.

و الأفضل أن ينبه الإمام بقوله:«يا اللّه»و ما إلى ذلك،كي يطيل الإمام الركوع، اللهم إلاّ إذا كانت الصفوف كثيرة و تعذر التنبيه.

قطع الصلاة:
اشارة

قال الإمام عليه السّلام:ان كنت في صلاة نافلة،و أقيمت الصلاة،فاقطعها و صل الفريضة مع الإمام.

و سئل عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة،فبينما هو قائم يصلي أذن المؤذن و أقام الصلاة-أي الجماعة-؟قال:فليصل ركعتين،ثم يستأنف الصلاة مع الإمام،و لتكن الركعتان تطوعا.

الفقهاء:

قالوا:إذا شرع المأموم بالنافلة،فأحرم الإمام و أقيمت الجماعة،قطعها المأموم و استأنف مع الإمام الفريضة ان خشي الفوات،و ان كانت الصلاة التي

ص:244

شرع فيها فريضة،نقل نيته إلى النافلة،كل ذلك لأهمية الجماعة في نظر الشرعيّة.

و قال الفقهاء:لا يجوز العدول من نية الانفراد في الصلاة إلى نية الجماعة، و يجوز العكس،أي العدول من الجماعة إلى الانفراد.

لو سبقه الإمام:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا فاتك شيء مع الإمام،فاجعل أول صلاتك ما استقبلت منها-أي ما بقي منها-و لا تجعل أوّل صلاتك آخرها.

و قوله عليه السّلام:لا تجعل أوّل صلاتك آخرها،هو نهي عما عليه الحنفية و المالكية و الحنابلة الذين قالوا ان على المأموم في مثل هذه الحال أن يقدم المؤخر،و يؤخر المقدم،فيجعل ما يصليه مع الإمام الذي أدركه في الركعة الأخيرة آخر صلاته،و ما يصليه بعد الإمام أوّل صلاته.

و قال أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:إذا أدرك الرجل بعض الصلاة وفاته بعض خلف إمام،جعل أوّل ما أدرك أوّل صلاته،فإن أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء ركعتين و فاتته ركعتان،قرأ مما أدرك خلف الإمام في نفسه بأم الكتاب و سورة-لأن الإمام لا يتحمل القراءة عن المأموم في ركعتيه الأخيرتين-فان لم يدرك السورة تامة،أجزأته أم الكتاب،فإذا سلم الإمام،قام فصلى ركعتين لا يقرأ فيهما،لأن الصلاة انما يقرأ فيها في الأوليين في كل ركعة بأم الكتاب و سورة،و في الأخيرتين لا يقرأ فيهما،انما هو تسبيح و تهليل و دعاء،و ان أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام،فإذا سلم الإمام،قام فقرأ بأم الكتاب و سورة،ثم قعد فتشهد،ثم قام فصلى ركعتين ليس فيهما قراءة-أي لا يتعين عليه قراءة الفاتحة فيهما،بل هو مخير بينها و بين التسبيح،كما تدل على ذلك الروايات الأخر التي أشرنا إليها في القراءة.

ص:245

الفقهاء:

قالوا:إذا حضر المأموم الجماعة،و رأى أن الإمام قد سبقه بركعة أو أكثر، نوى و كبر و صلى مع الإمام ما يدركه،و جعله أول صلاته،و أتم ما بقي عليه حسب تكليفه الشرعي تماما كما لو كان منفردا من أول الصلاة.

و على هذا،فإن أدركه في الركعة الثانية،جعلها المأموم الركعة الأولى من صلاته،و لا يقرأ فيها شيئا،لأن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم في الأولى و الثانية،و المفروض أنّها ثانية الإمام.و يقرأ المأموم في ثالثة الإمام التي هي ثانية للمأموم،لأن الإمام لا يتحمل القراءة في الثالثة و الرابعة.و ان أدركه في الثالثة أو في الرابعة،قرأ المأموم فيهما،هذا إذا أدركه قبل أن يركع،أمّا إذا أدركه و هو راكع، كبر و ركع معه،و سقطت القراءة.

و إذا ضاق الوقت عن قراءة الحمد و السورة،بحيث لو قرأهما المأموم سبقه الإمام إلى الركوع،اكتفى بالحمد خاصة.و يجب أن يخفت المأموم خلف الإمام، حتى و لو كانت الصلاة جهرية،كالمغرب و العشاء،لقول الإمام عليه السّلام:قرأ مما أدرك خلف الإمام في نفسه بأم الكتاب.

الأولى بالإمامة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:يتقدم القوم أقرأهم للقرآن،فان كانوا في القراءة سواء،فأقدمهم هجرة-أي اسبقهم إلى الإيمان-فإن كانوا في الهجرة سواء،فأكبرهم سنا،فان كانوا في السن سواء،فليؤمهم أعلمهم بالسنة، و أفقههم في الدين،و لا يتقدمن أحدكم الرجل في منزله،و صاحب السلطان في سلطانه.

ص:246

و عنه عليه السّلام:ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى أن يؤم الرجل قوما إلاّ بإذنهم.

الفقهاء:

قالوا:إذا تعددت الأئمة،فإمام المسجد أولى من غيره في التقديم،و كذا صاحب المنزل و من يرتضيه المأمومون أولى ممن لا يرتضونه و ان كان أعلم، و الأقرأ يقدم على غير الأقرأ و ان كان أعلم.و الأسبق أيمانا على غيره،و الأسن، و الأصبح وجها،و كذا الهاشمي أولى إكراما لأجداده الكرام،و إلاّ فلا دليل عليه، كما قال صاحب المسالك و صاحب مصباح الفقيه.و نقل صاحب الجواهر عن كتاب الروض أن أكثر المتقدمين لم يذكروه إطلاقا.

يرجع الشاك إلى الحافظ:

إذا شك المأموم و حفظ الإمام،أو شك الإمام و حفظ المأموم،رجع الشاك منهما إلى الحافظ.قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:بلا خلاف في شيء منهما على الظاهر في الجملة،و يدل عليه قول الإمام عليه السّلام:ليس على الإمام سهو، و لا على من خلف الإمام سهو.

ص:247

ص:248

صلاة المسافر

قصر الصلاة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شيء إلاّ المغرب ثلاثا،أي تبقى على حالها.

و قال عليه السّلام:المتمم في السفر كالمقصر في الحضر.

الفقهاء:

قالوا:ان الصلاة الرباعية في السفر تصير ثنائية،فيصلي كلا من الظهر و العصر و العشاء ركعتين،أمّا المغرب فتبقى على حالها.و قالوا:ان قصر الصلاة في السفر عزيمة لا رخصة،و معنى الرخصة أن يترك الخيار للمسافر،ان شاء قصر،و ان شاء أتم،و معنى العزيمة أن يتعين القصر،و لا يصح منه التمام بحال.

و من الخير أن نذكر هنا ما دار بين زرارة و محمد بن مسلم،و بين أستاذهما و إمامهما الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:

قالا له:ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟و كم هي؟.

قال:ان اللّه عزّ و جلّ يقول وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ 1فصار التقصير في السفر واجبا،كوجوب التمام في الحضر.

ص:249

قال:ان اللّه عزّ و جلّ يقول وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (1)فصار التقصير في السفر واجبا،كوجوب التمام في الحضر.

قالا:و لكن اللّه قال:ليس عليكم جناح،و لم يقل:افعلوا،فكيف وجب ذلك؟-أي كيف صار عزيمة لا رخصة.

قال:أ ليس قد قال اللّه عزّ و جلّ في الصفا و المروة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (2)ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض،لأن اللّه قد ذكره في كتابه،و صنعه نبيه،و كذلك التقصير في السفر شيء ذكره في كتابه،و صنعه نبيه.

سقوط النافلة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شيء إلاّ المغرب،فان بعدها أربع ركعات،لا تدعهن في سفر و لا حضر،و ليس عليك قضاء صلاة النهار-أي نافلتها-و صل صلاة الليل و اقضها.

و سئل عن صلاة النافلة بالنهار في السفر؟فقال عليه السّلام:يا بني لو صلحت النافلة في السفر تمت الفريضة.

و قال عليه السّلام:كان أبي لا يدع ثلاث عشرة ركعة في الليل في سفر و لا حضر.

يريد بثلاث عشرة ركعة صلاة الليل مع صلاة الفجر.

ص:


1- النساء:101. [1]
2- البقرة:158. [2]
الفقهاء:

قالوا:تسقط في السفر نافلة الظهر و العصر،و لا تسقط نافلة المغرب و الفجر،و لا صلاة الليل،و اختلفوا:هل تسقط الوتيرة في السفر،و هي نافلة العشاء؟قال صاحب الجواهر:«المشهور كما حكاه غير واحد السقوط».و بعد أن ناقش القائلين بعدم سقوطها،و رد أدلتهم قال:«و بذلك كله ظهر لك ما في أدلة عدم السقوط،و ان الأولى خلافه»أي الأولى الثبوت،لا السقوط.

شروط القصر:
اشارة

لقصر الصلاة في السفر شروط،لا بد من وجودها،بحيث إذا انتفى أحدها انتفى القصر و وجب التمام،و هي:

المسافة:
اشارة

1-السفر،و ليس المراد من السفر هنا معناه العرفي،بحيث يكون المسافر عرفا هو نفس المسافر شرعا،كلا،و انما المراد منه معنى خاص يبينه و يحدده الشارع بالذات،و لذا من لم يقصد السفر مسافة خاصة،أو قصد المعصية من سفره،أو أقام عشرة أيّام في مكان خاص أثناء سفره،أو اتخذ السفر مهنة له،كل هؤلاء ليسوا في نظر الشارع مسافرين،كما يأتي،و اذن،للشارع حقيقة شرعية و اصطلاح خاص في معنى السفر.و من هنا يتبين الخلط و الجهل في قول من قال:

ان وجوب القصر و الإفطار في السفر كان يوم السفر قطعة من سقر كما عبر الأوائل، حيث لا وسيلة له إلاّ الاقدام و الدواب و الجمال،و أمّا اليوم،و بعد الطيارة و السيارة،فقد أصبح السفر نزهة ممتعة،و لم يبق من سبب موجب للقصر و الإفطار،لقد خلط هذا القائل بين الشرع و العرف«في باب العبادات»،و ذهل عن

ص:251

أن معنى السفر عند العرب و الناس شيء،و معناه عند الشرع المقدس،و في الصوم و الصلاة خاصة شيء آخر.

و مهما يكن،فان على من يتكلم في مسائل دينية و شرعية أن لا يعتمد على مجرد إدراكه و فهمه،لأن دين اللّه لا يصاب بالعقول،كما قال أهل البيت عليهم السّلام،بل عليه أن يرجع إلى مصادر الدين و الشريعة،و يستنطقها بمعرفة و روية،و قبل أن نرجع إلى هذه المصادر نمهد بما يلي:

لو افترض أن الشارع حدد السفر الموجب لقصر الصلاة و الإفطار بالمساحة و المكان،لا بالساعات و الزمان،و قال هكذا:إذا سافرت ثمانية فراسخ فقصر و أفطر.وجب،و الحال هذه،على من قطع و تجاوز هذه المسافة القصر و الإفطار،سواء استغرق قطعها ثانية،أم يوما و ليلة.

و لو افترض أنّه حدد السفر بالساعات و الزمان،لا بالمساحة و المكان، و قال هكذا:إذا سافرت يوما كاملا فقصر و أفطر.وجب على من استغرق سفره اليوم بكامله أن يقصر و يفطر،حتى و لو لم يقطع إلاّ فرسخا واحدا،و إذا لم يستغرق السفر اليوم من أوله إلى آخره،فلا يقصر و لا يفطر،و ان قطع ألف فرسخ.

و لو افترض أنّه حدد السفر بالزمان و المكان معا،و قال:على من قطع في اليوم الواحد ثمانية فراسخ أن يقصر و يفطر.وجب على من سافر يوما كاملا و قطع فيه هذه المسافة القصر و الإفطار،و إذا قطع ألف فرسخ،و لم يستغرق السفر تمام اليوم،أو استغرقه،و قطع ثمانية فراسخ إلاّ مترا،فلا يجوز القصر و لا الإفطار.

و لو افترض أنّه أوجب القصر و الإفطار بأحد الأمرين غير المعين،و قال:

إذا سافرت يوما كاملا،أو قطعت ثمانية فراسخ فقصر و أفطر.وجب القصر و الإفطار على من سافر اليوم بكامله،و ان لم يقطع الفراسخ الثمانية،و على من

ص:252

قطعها و ان لم يستغرق سفره اليوم،و لا يجوز القصر و الإفطار لمن قطع دون الثمانية في أقل من يوم.

و تسأل:و أي شيء اعتبر الشارع من هذه؟هل اعتبر الزمان فقط،أو المكان فقط،أو هما معا،أو أحدهما غير المعين؟

الجواب:

ان من تتبع أخبار أهل البيت عليهم السّلام و آثارهم وجد أن بعضها يحدد السفر بالمساحة و المكان،فقد روى الفضل بن شاذان أن الإمام الرضا عليه السّلام كتب إلى المأمون:«التقصير في ثمانية فراسخ و ما زاد،و إذا قصرت أفطرت».و روى محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال:«يجب التقصير في بريدين».و البريد أربع فراسخ (1).

و منها ما يدل على التحديد بالزمان،فقد روى ابن يقطين عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه قال:«يجب التقصير في مسيرة يوم».

و منها ما يدل على التحديد بأحدهما،فقد روى أبو بصير أنّه سأل الإمام الصادق عليه السّلام:في كم يقصر الرجل؟قال:«في بياض يوم،أو بريدين».

و الرواية الأولى التي اعتبرت التحديد بالمكان تلازم هذه الرواية،و لا تنفك بحال،لأن من قطع ثمانية فراسخ وجب عليه القصر بمنطوق الروايتين.

و لا بد من حمل هذه الروايات و ما جرى مجراها على معنى واحد،بحيث يكون هو الأصل و الأساس،و ما عداه محمول عليه و مؤول به،و هذا المعنى الاساسي لا يخلو من واحد من ثلاثة:امّا المكان فقط،أي ثمانية فراسخ،و امّا

ص:253


1- الفرسخ 5760 مترا،و عليه تكون الأربعة فراسخ 23 كيلو مترا،و أربعين مترا،و الثمانية 46 كيلو مترا،و ثمانين مترا-معجم اللغة للشيخ أحمد رضا.

الزمان فقط،و هو بياض يوم،و امّا أحدهما غير المعين،و لكن الأدلة تعين الفراسخ الثمانية،و ما عداها كاليوم مفسر بها،و هذه الأدلة هي:

أولا:ان اليوم لا ضابط له،لأنّه يختلف طولا و قصرا باختلاف الفصول، بخلاف الفراسخ فإنها على وتيرة واحدة،و اذن،لا بد من تفسير اليوم بالفراسخ دون العكس،و قد تنبه عبد الرحمن بن الحجاج إلى اختلاف الأيام و تفاوتها، و سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذلك،و فسر الإمام اليوم بالفراسخ.

قال عبد الرحمن:قلت للإمام عليه السّلام:كم أدنى ما يقصر فيه الصلاة؟قال:

جرت السنة ببياض يوم.قلت له:أن بياض يوم يختلف،يسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم،و يسير الآخر أربعة فراسخ،و خمسة فراسخ في يوم.قال:

ليس إلى ذلك ينظر،أما رأيت سير هذه الأثقال بين مكة و المدينة،ثم أومأ بيده أربعة و عشرين ميلا تكون ثمانية فراسخ.

و مثلها رواية سماعة،قال:سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟قال:

في مسيرة يوم،و ذلك بريدان،و هما ثمانية فراسخ.و بعد أن فسر الإمام اليوم بالفراسخ،فلا يبقى مجال لتحديد السفر بالزمان.

ثانيا:ان الإنسان قد يسير في اليوم ثمانية فراسخ،و قد يسير أكثر،و قد يسير أقل من ذلك،فمسير اليوم شامل للثمانية و غيرها،و لا بد من حمل المطلق على المقيد،هذا،إلى أن الروايات الدالة على المساحة و المكان أكثر بكثير مما دل على اليوم و الزمان.

ثالثا:إجماع الفقهاء على أن من سار ثمانية فراسخ وجب عليه القصر و الإفطار،و ان قطعها في أقل من يوم،قال صاحب الجواهر:«ان الإجماع بقسميه متحقق في قطع البريدين،و ان كان بعض اليوم».و قال صاحب مصباح الفقيه

ص:254

«فالعبرة ببلوغ هذا الحد،سواء أ قطعها في يوم،أم أقل،أم أكثر،و الحد الحقيقي بريدان،و هما ثمانية فراسخ».

و مما قدمنا تبين أن للشارع حقيقة شرعية،و اصطلاحا خاصا في معنى السفر و السير الموجب للقصر و الإفطار،و أنّه حدد هذا المعنى،و فسره في ثمانية فراسخ،و بديهة أنّه لا اجتهاد في قبال النص،بخاصة في العبادات،و لا وجه فيها للفلسفات،و التفسير بالأوقات،و التعليق على الاتعاب و المشقات.

التلفيق من الذهاب و الإياب:

قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ما أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟قال:بريد ذاهبا،و بريد جائيا.

و سئل عن التقصير؟قال:في أربعة فراسخ.

و سئل أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام عن ذلك؟فقال:بريد.فتعجب السائل،و قال:

بريد!فقال له الإمام عليه السّلام:أنّه ذهب بريدا،و رجع بريدا،فقد شغل يومه.

الفقهاء:

اتفقوا على عدم الفرق في الفراسخ الثمانية بين أن تكون امتدادية،بحيث يقطعها المسافر في ذهابه فقط،و بين أن تكون ملفقة من أربعة أو أكثر ذهابا، و أربعة أو دونها إيابا،بحيث يكون المجموع من الذهاب و الإياب ثمانية فراسخ، على أن لا ينقص الذهاب عن الأربعة،و على أن يعود المسافر إلى بيته في ضمن ال 24 ساعة التي سافر فيها.

و أيضا اتفقوا على أن هذا السفر لا يقصر و لا يفطر إذا نوى الإقامة عشرة

ص:255

أيّام في البلد الذي قصده،و لم يرد الرجوع فيما دون العشرة،و اتفقوا أيضا على أن من تردد ذاهبا و عائدا في أقل من أربعة فراسخ يوما كاملا،لم يجز له القصر و الإفطار،لأن قول الإمام عليه السّلام:بريد ذاهبا و بريد جائيا يدل بصراحة على أن يكون المجموع من ذهاب واحد و إياب واحد ثمانية فراسخ،لا من ذهابات و ايابات متعددة،و اختلفوا في مسألتين:

الأولى:إذا كان طريق الذهاب أقل في أربعة فراسخ،و طريق الإياب أكثر من أربعة،و لكن المجموع ثمانية،فهل يقصر و يفطر أو لا؟قال السيد كاظم صاحب العروة الوثقى:يقصر و يفطر على الأقوى.

الثانية:إذا لم يرجع ليومه،بل بقي أياما و لكنها دون العشرة.قال صاحب الجواهر:«يقصر و يفطر،لأن العبرة في المسافة قصدها لا قطعها في يوم واحد»، و يبقى على الصوم و التمام لو نوى اقامة عشرة أيّام،لأنه بذلك ينقطع سفره،كما يأتي:

قصد المسافة:
اشارة

2-قصد المسافة،سئل الإمام الصادق عليه السّلام عمن خرج من بغداد يلحق رجلا،حتى بلغ النهروان؟قال:لا يقصر و لا يفطر،لأنه خرج من منزله،و ليس مريدا للسفر ثمانية فراسخ،و انما خرج ليلحق صاحبه في بعض الطريق،فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه.

الفقهاء:

قالوا:الشرط الثاني من شروط القصر أن يقصد السير ثمانية فراسخ امتدادية أو ملفقة من أول الأمر،فمن خرج من بيته دون هذا القصد،كمن ذهب

ص:256

في طلب حاجة يرجع إلى مقره ساعة يجدها،فلا يقصر إلاّ إذا كان قد قطع ثمانية فراسخ،فإنه يقصر من حين شروعه بالرجوع،حيث تشمله،و الحال هذه،الأدلة الدالة على وجوب القصر.

و إذا قطع أقل من ثمانية فراسخ بدون قصدها،ثم تجدد له القصد بان يقطع فراسخ أخرى،و كان المجموع منها و من فراسخ العودة ثمانية فراسخ،قصر و أفطر،على شريطة أن يكون عازما على الرجوع حين تجدد القصد،و بكلمة أن الضابط للقصر هو أن يقصد السير ثمانية فراسخ من البدء،بحيث يجمعها بكاملها في قصد واحد،أما لو قصد أولا أربعة،ثم قصد خمسة،ثم قصد ستة،أو سبعة، فلا يقصر،مع العلم بأن المجموع ثمانية،أو أكثر.

و كما يجب قصد السفر يجب أيضا استمرار هذا القصد،فلو عدل،أو تردد،و هو في أثناء الطريق انتفى الشرط،و يكفي قصد كلي السفر من حيث هو بصرف النظر عن الافراد و المقاصيد،فلو قصد دمشق-مثلا-ثم عدل في الأثناء إلى القاهرة،فلا بأس ما دام أصل القصد متحققا،و بكلمة أن المراد من القصد و استمراره في قبال عدم القصد بالمرة.

و لا فرق في قصد المسافة الشرعية بين أن يكون بالأصالة،أو بالتتبع، كالزوجة تتبع الزوج،و الخادم يتبع المخدوم،و لا بين أن يحصل القصد بالإرادة و الاختيار،أو بالإكراه و الاضطرار،كالأسير ما دام على علم من قطع المسافة.

إقامة عشرة أيّام:
اشارة

3-الشرط الثالث أن لا يقطع سفره بنية الإقامة عشرة أيام،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا دخلت بلدا،و أنت تريد المقام عشرة أيّام،فأقم الصلاة حين تقدم،و ان أردت المقام دون العشرة،فقصر،و ان أقمت تقول:غدا أخرج،أو

ص:257

بعد غد،و لم تجمع على عشرة،فقصر ما بينك و بين شهر،فإذا تم الشهر فأتم الصلاة.

الفقهاء:

اتفقوا كلمة واحدة على العمل بهذه الرواية،و قالوا:إذا قصد المسافة الشرعية،و لكنه في الوقت نفسه قصد أن يقيم في أثنائها،و قبل تجاوزها عشرة أيّام في مكان خاص.انقطع سفره،و وجب عليه التمام،و كذا إذا تجاوزها، و لكنه بعد أن وصل إلى رأسها نوى الإقامة عشرا،فإنه يتم،و لا يعود إلى القصر إلاّ إذا أنشأ سفرا جديدا مع سائر الشروط،تماما كما يخرج من بيته.

و من تجاوز المسافة،و وصل إلى البلد الذي يريد،و لم ينو الإقامة عشرة أيّام و بقي فيه مترددا،فإنه يقصر و يفطر شهرا كاملا،و عليه بعد انتهاء الشهر أن يتم،حتى و لو لم يبق له إلاّ ساعة واحدة.

الوطن:

ليس للشارع حقيقة شرعية و اصطلاح خاص في معنى الوطن،فإذا جاء لفظه موضوعا في الأدلة الشرعية رجعنا في تفسيره و تحديده إلى العرف،تماما كغيره من الموضوعات التي أو كل الشارع إدراكها و تفهمها إلى الناس،و إذا أعطى الشارع حكم الوطن لمكان ما فليس معنى ذلك أن الشارع قد اعتبره وطنا شرعيا، أو أعطاه هذا الحكم لأنه وطن في الواقع،كلا،فان من نوى الإقامة عشرة أيام،أو تردد ثلاثين يوما،بحكم المواطن عند الشارع،مع العلم بانتفاء الوصف عنهما، بخاصة بعد أن عرفنا أن من طريقة الشارع أن يجمع في حكم واحد بين

ص:258

المتفرقات،و يفرق في أحكامه بين المجتمعات.

و كل من اقام في مكان بنية الاستيطان الدائم،يصبح ذاك المكان وطنا له عرفا و لغة و شرعا،سواء أ كان له ملك فيه أم لم يكن،و سواء امضى عليه ستة أشهر أم لم يمض،و قد يكون للمرء وطنان أو أكثر،كما لو نوى أن يصيف في بلد،و يشتي في آخر مدى حياته،أو كانت له زوجتان في بلدين،و يقيم عند كل منهما أسبوعا أو شهرا ما دام حيا.و من اعرض عن بلد بعد أن اتخذه وطنا،يصير أجنبيا عنه،حتى و لو كان له فيه ملك،بل كان له بكامله أرضا و حجرا و شجرا.

و اتفق الفقهاء على أن من شرط التقصير أن لا يقطع المسافر سفره بالوصول إلى هذا الوطن،و لا بنية الإقامة عشرة أيام،و لا بالبقاء مترددا في بلد ثلاثين يوما،و اختلفوا فيمن وصل إلى بلد لم يتخذه وطنا،و لكن كان له فيه ملك، هل ينقطع سفره أو لا؟قال صاحب مفتاح الكرامة:«المشهور بين المتأخرين الاكتفاء بمجرد الملك،و لو نخلة واحدة،بشرط الاستيطان ستة أشهر،و هو خيرة العلامة و المحقق و من تأخر عنهما.و في التذكرة:لو كان له في أثناء المسافة ملك قد استوطنه ستة أشهر،انقطع سفره بوصوله إليه،و وجب عليه التمام عند علمائنا،سواء عزم على الإقامة فيه،أو لا،و في الروض دعوى الإجماع على هذه العبارة دون تفاوت في المعنى».

و على هذا يكون الوصول إلى الوطن قاطعا للسفر،و في حكمه واحد من ثلاثة:نية الإقامة عشرة أيام،و التردد ثلاثين يوما،و الوصول إلى بلد له فيه ملك، على شريطة أن يكون قد استوطن فيه ستة أشهر متواصلة،و ان استوطن الستة دون أن يملك،أو ملك دون أن يستوطن،فلا ينقطع السفر.

و مرة ثانية نكرر و نؤكد أن الشارع ليس له حقيقة شرعية و لا اصطلاح خاص

ص:259

في معنى الوطن،و ان الوطن شيء،و إعطاء حكم الوطن لمكان ما شيء آخر.

اباحة السفر:
اشارة

4-قال الإمام الصادق عليه السّلام:من سافر قصر و أفطر،إلاّ أن يكون رجلا سفره إلى صيد،أو في معصية اللّه،أو رسولا لمن يعصي اللّه،أو في طلب شحناء،أو سعاية،أو ضرر على قوم مسلمين.

و سئل عن الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة،هل يقصر،أو يتم؟قال:ان خرج لقوته و قوت عياله فليفطر و ليقصر،و ان خرج لطلب الفضول فلا و لا كرامة.

الفقهاء:

من شروط القصر و الإفطار في السفر أن لا يكون الدافع و الباعث الأول عليه المعصية و فعلها،كمن سافر لغاية الاتجار بالخمر،أو لقتل بريء،أو لشهادة زور، أو لإثارة الفتن و القلاقل،و ما إلى ذاك.فان كانت الغاية الأولى من السفر فعل الحرام،وجب الصوم و التمام،و ان كانت الغاية و الدافع أمرا محللا،و لكن فعل الحرام في أثناء السفر كما يفعله،و هو في بلده و في بيته،يقصر و يفطر،و الضابط أن لا يكون السفر محرما بذاته،كالهارب من وجه العدالة،أو يكون لغاية محرمة، كمن سافر للسلب و النهب،أمّا لو حصل فعل الحرام حال السفر و في أثنائه فلا ينقطع السفر.

و لو سافر منذ البداية بقصد الحرام،و في أثناء الطريق تاب و أناب،أنشأ سفرا جديدا،و قصر و أفطر،إذا توافرت الشروط،على أن يكون ما قطعه بحكم العدم.و إذا سافر لغاية محللة،و في الطريق عدل بقصده إلى الحرام من السفر،

ص:260

أتم و صام،حتى و لو كان الذي قطعه بقصد الطاعة ثمانية فراسخ،أو أكثر.

الصيد:

الصيد على أنواع ثلاثة:فتارة يصطاد الإنسان لقوته و قوت عياله،و أخرى يصطاد للاتجار،و حينا يصطاد للهو.و الأول حلال بالاتفاق،و من سافر له يقصر و يفطر،و الثاني محل خلاف بين الفقهاء القدامى و الجدد،فأكثر الأوائل على التحريم،و لكنهم فرقوا بين الصيام و الصلاة في السفر من أجله،و قالوا:ان المسافر لصيد التجارة يفطر و لا يقصر،و أكثر الأواخر على أنّه حلال،و المسافر له أن يفطر و يقصر.

و نحن دائما مع الجدد من الفقهاء العارفين المخلصين،لما بيناه في فصل «قضاء الصلاة»هذا،إلى أن التفكيك بين الصيام و الصلاة لا نفهم له وجها بعد ما ثبت عن الإمام:«إذا قصرت أفطرت و إذا أفطرت قصرت».

الثالث،أي صيد اللهو محرم عند أكثر القدامى و الجدد،و لكن الشيخ الهمداني بعد أن نقل هذه الفتوى في فصل صلاة المسافر قال ما نصه بالحرف:

«و لكن حكي عن المقدس البغدادي أنّه أنكر حرمته-أي حرمة صيد اللهو-أشد الإنكار،و جعله كالتنزه بالمناظر البهجة،و المراكب الحسنة،و مجامع الأنس و نظائرها مما قضت السيرة القطعية بإباحتها».

ثم أطال الشيخ الهمداني الكلام حول فتوى المقدس البغدادي،و يظهر منه الميل إليها،و يتلخص قوله مع التصرف باللفظ و التعبير فقط من التوضيح، يتلخص بأن أقوال أهل البيت عليهم السّلام لا تدل على تحريم الصيد،و انما دلت على وجوب إتمام الصلاة في السفر من أجله،و بديهة ان الإتمام شيء،و التحريم

ص:261

شيء آخر،فالإتمام واجب على من كان السفر مهنة له،و على من نوى الإقامة عشرة،و على المتردد،مع العلم بأن امتهان السفر و نية الإقامة و التردد كل ذلك حلال.

ظهور الخطأ:

و تسأل:إذا اعتقد أن سفره محرم فأتم الصلاة،ثم تبين له الخطأ في اعتقاده،و ان السفر كان مباحا،فهل يجب عليه أن يعيد قصرا،و لو افترض أنّه لم يصل في سفره،فهل يقضي قصرا أو تماما؟

الجواب:

ان جميع الأحكام الشرعية تتعلق بموضوعاتها الواقعية،من حيث هي، بصرف النظر عن العلم بها،إلاّ إذا ثبت بالدليل على تقييد موضوعها بالعلم،و لا دليل هنا،و اذن،تكون العبرة بالواقع،و يجب عليه أن يصلي بعد انكشاف الخلاف قصرا،سواء أ كان قد صلى تماما،أم لم يكن قد صلى إطلاقا،و يكون معذورا ما دام الواقع لم ينكشف لديه.

امتهان السفر:
اشارة

5-الشرط أن لا يكون السفر عملا له،قال الإمام الصادق عليه السّلام:الاعراب لا يقصرون،ذلك أن منازلهم معهم.

و قال:خمسة يتمون في سفر كانوا أو حضر:الكري،و الاشتقان، و الراعي،و الملاح،لأنه عملهم (1).

ص:262


1- قيل ان الكري أجير المكاري الذي يتبع دوابه،و الاشتقان ساعي البريد.
الفقهاء:

قالوا:من لم يتخذ وطنا على الإطلاق لا يقصر،و لا يفطر في شهر رمضان، كالسائح مدى حياته،و الأعرابي يطلب الماء و الكلأ أين وجدهما.

و كذا لا يقصر و لا يفطر من اتخذ السفر عملا له،كسائق سيارة للايجار،ان امتد سفره المستمر ثمانية فراسخ،و بالأولى ان كان دون ذلك،و كالملاح،و قائد الطائرة،و من اتخذ التجارة في السفر حرفة و صنعة،بحيث تكون تجارته معه أينما ذهب،و لا حانوت خاص له،تماما كالاعرابي الذي بيته معه،كما عبر الإمام عليه السّلام.

و إذا أقام أحد هؤلاء في بلدة عشرة أيّام،انقطعت مهنته،و قصر في السفرة الأولى،و أتم في الثانية،و لا فرق بين أن يكون قد نوى الإقامة عشرا في بلدة منذ البداية،أو لم ينو،أمّا المكوث عشرة في غير بلدة،فلا يقطع المهنة إلاّ مع نية الإقامة منذ البداية.و هذا التفريق بين البلد و غيره ذكره كثيرون من الفقهاء،و ادعى بعضهم عليه الإجماع.و لكن كلمات أهل البيت عليهم السّلام لا اشارة فيها من قريب و لا من بعيد إلى ذلك،و لا إلى التردد ثلاثين.و انما ذكر أهل البيت عليهم السّلام نية الإقامة و التردد في قواطع السفر،فإلحاق عمل السفر بها قياس باطل.

و الحق ان إقامة العشرة قاطعة لعمل السفر في البلد و غير البلد،و مع النية و بدونها،لأن الرواية التي وصفها الشيخ الهمداني و غيره بأنها الأصل في الحكم، خالية عن ذكر النية إطلاقا،و هذا هو نص الرواية:«سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن حد المكاري الذي يصوم،و يتم؟قال:أي مكار أقام في منزله،أو في البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيّام،وجب عليه الصيام و التمام أبدا،و ان كان مقامه في منزله،أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام-أي عشرة و ما فوق-فعليه

ص:263

التقصير و الإفطار».

قال صاحب مصباح الفقيه:ان هذه الرواية،و ان كانت ضعيفة السند، و لكن الفقهاء عملوا بها،و هي أقوى و أصح سندا من جميع الروايات في هذا الباب،و اذن،فالتشكيك فيها لضعف السند في غير محله بعد البناء على أن عمل الفقهاء يجبر هذا الضعف.

صاحب الوظيفة و العمل:

هنا مسألة كثر الكلام حولها،و التساؤل عن حكمها،لكثرة حدوثها و ابتلاء الناس بها،و هي ان الإنسان-بعد تيسير المواصلات،و قربها-قد يستوطن هو و أهله و عائلته في بلد غير البلد الذي فيه وظيفته و عمله،و يذهب كل أسبوع مرة أو أكثر إلى عمله،ثم يعود إلى بيته في نفس اليوم،أو في اليوم التالي،و قد يبقى على ذلك سنوات،أو مدى حياته كلها،فما ذا يصنع:هل يقصر و يفطر،أو يتم و يصوم؟مع العلم بأن بين وطنه و بين وظيفته أو عمله ثمانية فراسخ،أو تزيد، و انه لا يقيم في بيته أو في مقر عمله عشرة أيام متواليات.

الجواب:

و يتوقف الجواب عن هذا التساؤل على معرفة ان البقاء على التمام و عدم الإفطار في شهر الصيام هل هما متعلقان باتخاذ السفر حرفة و مهنة،بحيث يكون عمله السفر بالذات،كما هو الشأن في المكاري و شبهه،بصرف النظر عن كثرة الأسفار و قلتها،أو أن التمام و الصيام يتعلقان بوصف أن لا يقيم الإنسان في بلده عشرة أيام متواليات أبدا،بحيث تكون العبرة بكثرة الأسفار،لا باتخاذ السفر حرفة و مهنة.و على الأول يقصر هذا و يفطر،لأن المفروض أنّه لم يتخذ السفر

ص:264

حرفة و مهنة و هي التي أنيط بها حكم الصيام و التمام،بل وظيفته شيء آخر غير السفر و ان كانت بذاتها تستدعي كثرة الأسفار إلاّ أن كثرة السفر شيء،و امتهانه شيء آخر،و على الثاني لا يقصر و لا يفطر،لأن المفروض أنّه كثير السفر،و ان حكم الصيام و التمام قد أنيط بالكثرة،لا بالحرفة و المهنة.

و الحق الذي عليه الكل،و الجل من الفقهاء،و الذي يستفاد من كلمات أهل البيت عليهم السّلام هو الأول.و ان الصيام و التمام منوطان بالحرفة و الامتهان،لا بكثرة الأسفار،و عدم الإقامة في البلد عشرة أيّام،و يدل عليه بصراحة و وضوح قول الامام عليه السّلام:«لأن السفر عملهم».و على هذا يقصر و يفطر صاحب الوظيفة و العمل كأي إنسان لم يمتهن السفر،و لم يكثر منه.

تواري الجدران و الأذان:
اشارة

6-الشرط السادس و الأخير ان المسافر لا يجوز له أن يفطر و يقصر بمجرد العزم على السفر،أو بمجرد خروجه من بيته أو بلده،بل لا بد أن يبتعد عن البلد مسافة لا يسمع معها الأذان على تقدير وجوده،و لا يرى الجدران،و كذلك المسافر إذا عاد يصير حاضرا بمجرد الوصول إلى الحد الذي يسمع معه الأذان، و يرى الجدران،و يجب عليه التمام و الصيام،و ان لم يدخل البلد،فضلا عن بيته و منزله.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:يقصر إذا توارى من البيوت.

و قال عليه السّلام:إذا كنت في الموضع الذي تسمع الأذان فأتم،و إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع الأذان فيه فقصر،و إذا قدمت من سفرك فمثل ذلك.

ص:265

الفقهاء:

بعد أن اتفقوا على العمل بهاتين الروايتين و ما في معناها،اختلفوا و أطالوا الكلام و الاختلاف في أن المراد هل هو خفاء الأذان و الجدران بحيث لا بد من اجتماعهما معا،أو يكفي خفاء أحدهما،و لو افترض أن أحدهما كان أبعد مدى من الآخر فما ذا نصنع؟هل نأخذ بالقريب أو البعيد،أو نحتاط.و على افتراض الأخذ بأحدهما هل نأخذ به مخيرين بدون الرجوع إلى المرجحات،أو لا بد من الترجيح،و على افتراض عدم وجود المرجح فما هو العمل؟و ذكروا هنا كلاما فيه علم و صناعة،كتقييد كل من المفهومين بمنطوق الآخر،و لكن لا فائدة كبيرة من ورائه.

و الذي نعتقده أن مراد الإمام الأول و الأخير ان الإنسان لا يصير مسافرا إلاّ إذا بعد قليلا عن البلد،بحيث يعدّ في نظر الناس أنّه ذهب و سافر،كما أن المسافر يصير حاضرا إذا دنا و قرب منه،و لذا يهنئونه بالعودة سالما متى أوشك على الدخول و الوصول،و ان لم يدخل بعد،و قد عبر الإمام عليه السّلام عن هذا المدى القريب بخفاء الأذان تارة،و الجدران أخرى على سبيل التقريب و التسامح الذي يغتفر فيه التفاوت اليسير،فهما-اذن-علامتان على هذا المدى،و ليسا من الأسباب الشرعية،و عليه يكتفي بإحداهما،و لا يشترط اجتماعهما معا،و لا داعي للاحتياط و التحفظ.

و إذا شك في بلوغه إلى حد الترخيص بقي على ما كان من التمام و الإمساك في الذهاب،و القصر و عدم الإمساك في الإياب،عملا بالاستصحاب.

ص:266

أحكام صلاة المسافر
التلازم بين القصر و الإفطار:

كل موضع يجب فيه قصر الصلاة حتما،يجب فيه الإفطار في شهر رمضان كذلك،و بالعكس (1)لقول الإمام:«إذا قصرت-أي وجوبا-أفطرت،و إذا أفطرت قصرت».و بكلمة:ان شروط قصر الصلاة و الإفطار واحدة.

و كما أن صوم رمضان لا يجوز في السفر كذلك قضاؤه أيضا،و يأتي التفصيل في باب الصوم ان شاء اللّه تعالى.

المواطن الأربعة:

يتخير المسافر بين القصر و التمام،و التمام أفضل من أربعة مواطن،و هي:

حرم اللّه عزّ و جلّ،و حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و مسجد الكوفة،حيث قتل أمير المؤمنين عليه السّلام:و الحائر الحسيني.قال الإمام الصادق عليه السّلام:من مخزون علم اللّه

ص:267


1- إلاّ في ثلاثة موارد:الأول في الأماكن الأربعة:حرم اللّه،و حرم الرسول،و مسجد الكوفة، و الحائر الحسيني حيث يتخير المسافر بين الصلاة قصرا،و تماما،و يتعين عليه الإفطار،الثاني: المسافر إذا خرج من بيته بعد الزوال يبقى على الصيام و يقصر،الثالث:المسافر يصل إلى بيته بعد الزوال،فإنه يتم،و يفطر.

الإتمام في أربعة مواطن:حرم اللّه،و حرم الرسول،و حرم أمير المؤمنين،و حرم الحسين بن علي.و في هذا المعنى روايات تجاوزت حد التواتر.

و غير بعيد أن تكون الحكمة في ذلك الإشارة إلى أن هذه المواطن المقدسة هي وطن الروح و القلب للإنسان،بخاصة المؤمن المخلص.

التمام في موضع القصر:

من أتم الصلاة عالما عامدا،مع توافر شروط القصر،بطلت صلاته،و عليه الأداء داخل الوقت،و القضاء في خارجه،لأن ما أتى به غير ما أمر به.

و من أتم جاهلا بالحكم الشرعي،و أن المسافر يجب عليه القصر صحت صلاته،و لا يعيد إطلاقا،لا في الوقت،و لا في خارجه،و على هذا كل الفقهاء،أو جلهم.و دليلهم أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل صام في السفر؟فقال:«ان كان بلغه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن ذلك فعليه القضاء،و ان لم يبلغه فلا شيء عليه».و في معنى هذه الرواية كثير غيرها،و هي و ان كانت مختصة بالصوم إلاّ أنّه لا قائل بالفصل بين الصوم و الصلاة،لما تقدم من قول الإمام:إذا أفطرت قصرت، و إذا قصرت أفطرت.

و تقول:كيف يعقل هذا،و يجتمع مع القول بأن الأحكام الشرعية تعم العالم و الجاهل على السواء،و أن من صلى صلاة لا يعرف أحكامها فهي باطلة، حتى و لو كان جاهلا عن قصور؟ الجواب:

ان الواجب الأول هو القصر في السفر،و لكن اكتشفنا من هذه الروايات الصحيحة أن الشارع قد أسقط هذا الواجب عن الجاهل إذا صلى تماما،تفضلا

ص:268

منه و كرما،و انّه أسقط أيضا وجوب قضاء الصوم كذلك على من صام في السفر جهلا،و لا محذور أبدا من المنة و التفضل،بل على العكس،و مثله إذا أخفت جهلا في مكان الجهر،أو جهر في مكان الإخفات،و بسقوط التكليف يسقط العقاب أيضا،و لا يلتفت إلى قول من قال من الفقهاء بأن هذا الجاهل معاقب و ان صح عمله،بخاصة ان الحديث عن العقاب لا يدخل باختصاص الفقهاء،و ان واجبهم منحصر بالكلام عن الحلال و الحرام،و الطاهر و النجس،و الصحيح و الفاسد فقط.

و من أتم الصلاة ناسيا،لا عامدا،و لا جاهلا فان تذكر قبل خروج وقت الصلاة،أعاد،و إلاّ فلا قضاء عليه،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل ينسى، فيصلي بالسفر أربع ركعات؟قال:إذا ذكر في ذلك اليوم-أي قبل خروج وقت الصلاة-فليعد،و ان كان الوقت قد مضى فلا.

السفر بعد الوقت:

إذا دخل الوقت،و هو حاضر،ثم سافر،و أخر الصلاة ليؤديها في سفره، فهل يأتي بها أربعا،معتبرا حال الوجوب،لأنّه لو أداها في أول الوقت لأتى بها تامة،أو يأتي بها ركعتين معتبرا حال فعلها و أدائها؟و إذا دخل الوقت،و هو مسافر،ثم صار حاضرا،فهل يأتي قصرا،أخذا بحال الوجوب،أو تماما،أخذا بحال الأداء؟ و اختلف الفقهاء على أقوال تبعا لاختلاف الروايات،فمن قائل بأن العبرة بحال الأداء،و من قائل بل بحال الوجوب،و قائل بالتخيير،و رابع مفصل بين من كان حاضرا فصار مسافرا،و بين من كان مسافرا فصار حاضرا.

ص:269

و الذي نختاره أن يلحظ المصلي الحال التي هو فيها عند الصلاة،بصرف النظر عما كان قبلها،فان كان مسافرا حين الصلاة،قصر،و ان كان حاضرا أتمّ، بديهة أن الأحكام تتبع الأسماء وجودا و عدما.

خروج ناوي الإقامة:

إذا نوى الإقامة عشرة أيّام في بلد ما،ثم خرج منه إلى ما دون أربعة فراسخ، و عاد إلى محل الإقامة،هل ينتقض العزم على الإقامة بذلك،و لا يصح التمام و الصيام،أو تبقى الإقامة على حالها،و يتم الصلاة،و يصوم؟ و قد تضاربت أقوال الفقهاء،و لم يأتوا بشيء تركن إليه النفس في هذه المسألة،إذ كل أدلتهم أو جلها استحسان.و خيرها جميعا ما ذكره صاحب العروة الوثقى من أنه إذا رجع في يومه و قبل المبيت يبقى على الإقامة،لأن العرف، و الحال هذه،لا يسلب عنه اسم المقيم،و بديهة أن الأحكام تتبع الأسماء،بل النائيني في حاشيته على العروة الوثقى قال:«بل و ان كان ناويا مبيت ليلة على الأظهر».

العدول عن الإقامة:

إذا نوى الإقامة عشرة أيام،و قبل أن يصلي صلاة تامة عدل عن نيته،فعليه أن يقصر و لا يتم،و إذا عدل بعد أن صلى صلاة تامة،يبقى على التمام.و يدل عليه أن أبا ولاد قال للإمام الصادق عليه السّلام:كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم عشرة أيام،فأتم الصلاة،ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها،فما ترى لي أتم،أم أقصر؟ فقال:«ان كنت دخلت المدينة و صليت بها صلاة فريضة واحدة بتمام،فليس لك

ص:270

أن تقصر،حتى تخرج عنها،و ان كنت دخلتها على نيتك المقام فلم تصلّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام،حتى بدا لك أن لا تقيم،فأنت في تلك الحال بالخيار، ان شئت فانو المقام عشرة أيّام و أتم،و ان لم تنو المقام،فقصر ما بينك و بين شهر،فإذا مضى لك شهر-أي مع التردد و عدم نية الإقامة عشرة-فأتم الصلاة».

ص:271

ص:272

صلاة الجمعة

الحث على صلاة الجمعة:

قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من ترك الجمعة ثلاثا من غير علة طبع اللّه على قلبه.

و قال زرارة:حثنا الإمام الصادق عليه السّلام على صلاة الجمعة،حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه،فقلت:نغدوا عليك؟فقال:لا،انما عنيت عندكم.

صورة صلاة الجمعة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:صلاة الجمعة مع الإمام ركعتان.انما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة،حتى ينزل الإمام.و قال يلبس الإمام البرد و العمامة،و يتوكأ على قوس أو عصا،و ليقعد قعدة بين الخطبتين، و يجهر بالقراءة الأولى منهما قبل الركوع.

ص:273


1- الجمعة:9. [1]

و سأله محمد بن مسلم عن صلاة الجمعة؟فقال:بأذان و إقامة،يخرج الإمام بعد الأذان،فيصعد المنبر،فيخطب،و لا يصلي الناس ما دام الإمام على المنبر،ثم يقعد الإمام على المنبر قدر ما تقرأ قل هو اللّه أحد،ثم يقوم،فيفتح خطبة،ثم ينزل،فيصلي بالناس،فيقرأ بهم في الركعة الأولى بالجمعة،و الثانية بالمنافقين.

الفقهاء:

قالوا:صلاة الجمعة ركعتان،و هي عوض الظهر،و يستحب فيهما الجهر، و ان يقرأ في الركعة الأولى بعد الحمد سورة الجمعة،و في الثانية سورة المنافقين.

و قيل:يستحب فيها قنوتان،قنوت في الركعة الأولى بعد القراءة،و قبل الركوع، و قنوت في الركعة الثانية بعد الركوع.قال صاحب المدارك:و مستند هذه الفتوى رواية ضعيفة،ثم نقل عن الشيخ الصدوق صاحب«من لا يحضره الفقيه»-أحد الكتب الأربعة المعروفة-،نقل عنه أنّه قال:«و الذي استعمله و افتى به،و مضى عليه مشايخي رحمهم اللّه هو أن القنوت في جميع الصلوات في الجمعة و غيرها هو في الركعة الثانية بعد القراءة،و قبل الركوع».

ثم قال صاحب المدارك:«و قال الشيخ المفيد و جمع من الأصحاب:في الجمعة قنوتا واحدا في الركعة الأولى،و هو المعتمد للأخبار الكثيرة الدالة عليه».

و نحن مع الصدوق الذي اكتفى باستحباب قنوت واحد بعد القراءة،قبل الركوع في الركعة الثانية،كما هو الشأن في جميع الصلوات،لأن هذا هو المعهود عندنا من طريقة الشارع،و لأنه قد ثبت في الصحيح عن معاوية بن عمار أن الإمام عليه السّلام قال:«ما أعرف قنوتا إلاّ قبل الركوع».و في مستمسك العروة للسيد

ص:274

الحكيم ج 4،ص 387،الطبعة الأولى نقلا عن كتاب السرائر:«القنوت الواحد هو الذي يقتضيه مذهبنا و إجماعنا».

الشروط:
اشارة

و تجب صلاة الجمعة بشروط:

الإمام المعصوم:

1-تجب صلاة الجمعة عينا مع وجود المعصوم،أو وجود من نصبه هو لهذه الصلاة خاصة،أو لها و لغيرها،و قال المقدس الأردبيلي في شرح الإرشاد:

لا دليل على هذا الشرط من طرق الشيعة إلاّ الإجماع،و اختلف الفقهاء:هل تجوز إقامتها في زمن غيبة الإمام عليه السّلام مثل هذا الزمان،أو لا؟قال جماعة:تجوز،و منهم الشيخ الطوسي.و قال آخرون:لا تجوز،و منهم الشريف المرتضى.

و الحق أن صلاة الجمعة تشرع في حال غيبة الإمام على سبيل التخيير بينها و بين الظهر،و المشهور على ذلك بشهادة العلامة الحلي في التذكرة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام في صلاة الجمعة:«و إذا اجتمع سبعة،و لم يخافوا،أمهم بعضهم»فإن الظاهر من قوله هذا،أن يؤمهم البعض غير المنصوب من قبل الإمام عليه السّلام،بخاصة أن أحدا لم ينقل عن الأئمة عليهم السّلام أنّهم كانوا ينصبون للناس إماما للجمعة بالخصوص،و قال الشيخ الهمداني في المصباح:«لا ينبغي الإشكال في ذلك، كما لا ينبغي الاستشكال في أن الجمعة متى جازت أجزأت عن الظهر».

و أطرف ما قرأت،و أنا أتتبع مصادر هذا الشرط و أقوال العلماء،ما ذكره الشيخ المعظم صاحب الجواهر،و هو يتكلم عن هذا الشرط،قال:ان بعض

ص:275

الشيوخ بالغ و شدد في وجوب صلاة الجمعة عينا في عصر الغيبة،حتى أنّه لا يحتاط في فعل الظهر معها،و لا مصدر لهذا التشدد و المبالغة إلاّ حبّ الرئاسة و السلطنة و الوظائف التي تجعل له في بلاد العجم،و هذا دأب أكثر الذاهبين إلى ذلك من أهل هذه النواحي،و قيل:ان بعضهم كان يبالغ في حرمتها حال قصور يده،و لما ظهرت له كلمة،بالغ في وجوبها.و لو لا خوف الملل لنقلنا أكثر كلماتهم في هذه الوسائل،و أوقفناك على ما فيها من الفضائح و الغرائب.

و لا أدري ما ذا كان يسجل صاحب الجواهر لو رأى قضاة الشرع اليوم، الذين أعرضوا عن كتاب اللّه،و سنة نبيه،و إجماع العلماء و العقل و الحياء، و اتخذوا من شهواتهم و أهوائهم مقياسا للدين و الشريعة،و استعاضوا عن مصادرها بالرشوات،و إغراء السيدات من ربات الحاجات،و بالشفاعات و الوساطات،و وجاهة الوجهاء و أبناء الدنيا.

الحمد للّه الذي نأى بي عن هذا المنصب،و شرفني بالكتاب و القلم،و اتجه بي إلى البحث و التنقيب عن آثار آل الرسول الأطهار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علمائهم الأبرار، كصاحب الجواهر،و من إليه.

العدد:

2-لا تنعقد صلاة الجماعة إلاّ بخمسة رجال،على الأقل،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا،فان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم».

و جاء في بعض الروايات سبعة،و في رواية ذكر السبعة و الخمسة معا،قال زرارة:قلت للإمام الصادق عليه السّلام:على من تجب الجمعة؟فقال:على سبعة نفر من

ص:276

المسلمين،و لا جمعة لأقل من خمسة،أحدهم الإمام.

و جمع كثير من الفقهاء بين رواية السبعة،و رواية الخمسة،بأن السبعة شرط للوجوب العيني بحضور الإمام المعصوم عليه السّلام،و الخمسة شرط للوجوب التخييري بينها و بين الظهر في زمن الغيبة،و استدلوا على هذا الجمع برواية زرارة المتقدّمة التي جمعت العددين،و بقول الإمام عليه السّلام في رواية أخرى:«إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام،فلهم أن يجمعوا»لأن الظاهر من لفظ«لهم»عدم الإلزام بالجمعة،و ذلك إذا لم يحضر الإمام،و نائبه الخاص.

الخطبتان:
اشارة

3-قال الإمام الصادق عليه السّلام:يخطب إمام الجمعة،و هو قائم،يحمد اللّه، و يثني عليه،ثم يوصي بتقوى اللّه،ثم يقرأ سورة من القرآن قصيرة،ثم يجلس، ثم يقوم،فيحمد اللّه،و يثني عليه،و يصلي على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على أئمة المسلمين عليهم السّلام،و يستغفر للمؤمنين و المؤمنات،فإذا فرغ من هذا،أقام المؤذن، فصلى بالناس ركعتين،يقرأ في الأولى بسورة الجمعة،و في الثانية بسورة المنافقين.

الفقهاء:

عدوا الخطبتين من الشروط،مع انهما بحكم الصلاة و كيفيتها،و لذا حمل الشيخ الهمداني عدهما من الشروط على المسامحة،و مهما يكن،فان وقت الخطبتين زوال الشمس لا قبله،و يجب تقديمهما على الصلاة،و اشتمال كل منهما على الحمد للّه سبحانه،و الصلاة على النبي و آله،و قراءة سورة خفيفة،أو

ص:277

آية تامة مفيدة،و يجب أن يخطب الإمام قائما مع القدرة،و ان يفصل بين الخطبتين بجلسة خفيفة.

و يستحب أن يكون بليغا محافظا على أوقات الفرائض،و أن يتعمم شتاء و صيفا،و ان يرتدي بردة يمنية.

الجماعة:

4-لا بد أن تكون جماعة،و لا تصح فرادى،بإجماع المسلمين كافة.

الوحدة:

5-قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال،فلا بأس أن يجمع هؤلاء و يجمع هؤلاء.

و قال الفقهاء استنادا إلى هذه الرواية و غيرها:إذا أقيمت جمعتان و كان بينهما فرسخ على الأقل صحتا معا-قدمنا أن الفرسخ حوالي ستة كيلو مترا على التقريب-و إذا كان بينهما أقل من فرسخ بطلتا معا،إلاّ إذا علمنا أن أحدهما سبقت الأولى،و لو بتكبيرة الإحرام.

الوقت:

6-تجب صلاة الجمعة في أول الزوال،حتى يصير ظل كل شيء مثله،و لا يجوز فعلها بعد هذا الوقت،بل تتعين الظهر.

ص:278

المكلف بصلاة الجمعة:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:انما فرض اللّه على الناس من الجمعة إلى الجمعة 35 صلاة،منها صلاة واحدة فرضها اللّه في جماعة،و هي الجمعة،و وضعها عن الصغير،و الكبير-أي الشيخ الهرم المتهدم-و المجنون،و المسافر،و العبد، و المرأة،و المريض،و الأعمى،و من كان على رأس فرسخين،أي من بعد مكانه عن صلاة الجمعة هذه المسافة.

و لا ذكر في روايات أهل البيت عليهم السّلام المعرج فيما لدي من المصادر،و لكن الفقهاء ذكروه،و اتفقوا كلمة على العمل بهذه الرواية،و على أن المريض و الأعرج و الأعمى و الهرم و المرأة و المسافر،و كل من لا تجب عليه صلاة الجمعة إذا حضر و صلاها صحت منه،و سقطت عنه الظهر،و لكن لا تنعقد به الجمعة،أي لا يكون مكملا للعدد المطلوب،بل لا بد أن يكون العدد متحققا بغير الأعرج و الأعمى و المرأة و العبد.

و تفوت الجمعة بفوات وقتها،و لا يقضيها من كانت قد وجبت عليه،لقول الإمام عليه السّلام:من لم يصل مع الإمام في جماعة فلا صلاة له،و لا قضاء عليه.

ص:279

ص:280

صلاة الفطر و الأضحى

اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:صلاة العيدين فريضة،و صلاة الكسوف فريضة.

و قال:لا صلاة في العيدين إلاّ مع الإمام،و ان صليت وحدك فلا بأس.و سئل عن الصلاة يوم الفطر و الأضحى؟فقال:ليس صلاة إلاّ مع الإمام.

الفقهاء:

أجمعوا على وجوب صلاة العيدين:الفطر،و الأضحى في حضور الإمام المعصوم،أو نائبه الخاص،و قال أكثرهم باستحبابها جماعة و فرادى في زمن الغيبة.

و الشروط المعتبرة فيها هي عين الشروط المعتبرة بصلاة الجمعة،سوى أن وقتها يبتدئ من طلوع الشمس إلى الزوال.و من فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه، واجبة كانت،أو مستحبة،تركها عمدا،أو نسيانا،لقول الإمام عليه السّلام:من لم يصل مع الإمام في جماعة فلا صلاة له،و لا قضاء عليه.و اتفقوا جميعا على أن المراد من ذلك غير اليومية،كالعيدين.و اذن،لا معارضة واقعا،و لا ظاهرا بين هذه الرواية،و الرواية القائلة:من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته،لأن التي أوجبت القضاء مختصة باليومية،و التي نفته مختصة بغير اليومية،و مع اختلاف

ص:281

الموضوع،تنتفي المعارضة و المعاندة.

صورتها:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ليس في صلاة العيدين أذان و لا إقامة،و لكن ينادى:الصلاة،ثلاث مرات.

و قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام في صلاة العيدين:يكبر واحدة يفتتح بها الصلاة،ثم يقرأ أم الكتاب،و سورة،ثم يكبر خمسا،يقنت بينهن،ثم يكبر واحدة،و يركع بها،ثم يقوم فيقرأ أم الكتاب،و سورة،يقرأ في الأولى سبح اسم ربك الأعلى،و في الثانية و الشمس و ضحاها،ثم يكبر أربعا، و يقنت بينهن،ثم يركع بالخامسة.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:الخطبة بعد الصلاة،و انما أحدث الخطبة قبل الصلاة عثمان لما أحدث أحداثه كان إذا فرغ من الصلاة قام الناس،فلما رأس ذلك قدم الخطبتين،و احتبس الناس للصلاة.و إذا خطب الإمام فليقعد بين الخطبتين قليلا.

الفقهاء:

قالوا:صلاة العيد لا أذان فيها و لا اقامة،بل ينادي المنادي:الصلاة، يكررها ثلاث مرات،و هي ركعتان،يقرأ في الركعة الأولى الحمد،و سورة من القرآن،و يستحب أن يختار سبح اسم ربك الأعلى،ثم يكبر،و يقنت بما شاء من الدعاء،و الأفضل الدعاء بالمأثور،و هو أن يقول:

«اللهم أهل الكبرياء و العظمة،و أهل الجود و الجبروت،و أهل العفو

ص:282

و الرحمة،و أهل التقوى و المغفرة،أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا،و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله ذخرا و شرفا و كرامة و مزيدا،أن تصلي على محمّد و آل محمد،و ان تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمّدا و آل محمد،و أن تخرجني من كل سوء أخرجت منه محمّدا و آل محمد صلواتك عليه و عليهم، اللهم إني أسألك خير ما سألك به عبادك الصالحون،و أعوذ بك مما استعاذ منه عبادك المخلصون».

ثم يكبر،و يكرر ذلك خمس مرات،أي يقنت خمس قنوتات متوالية، يفصل بين القنوت و القنوت بتكبيرة واحدة،ثم يكبر و يركع،و يسجد سجدتين، ثم يقوم،و يقرأ الحمد و سورة،و الأفضل سورة الشمس،ثم يكبر و يقنت عقب كل تكبيرة،يفعل ذلك و يكرره أربع مرات،ثم يكبر،و يركع،و يسجد سجدتين ،ثم يتشهد و يسلم،ثم يأتي بالخطبتين بعد الصلاة،بخلاف خطبتي الجمعة، فإنهما قبلها،لا بعدها،كما تقدم.

ص:283

ص:284

صلاة الآيات

اشارة

المراد بالآيات كسوف الشمس،و خسوف القمر،و الزلزال،و كل مخوف سماوي كالريح الهائلة،و الظلمة المفاجئة وسط النهار.و هذه الأربعة توجب الصلاة إطلاقا،في حضور المعصوم عليه السّلام،و غيابه،و لصلاتها صورة معينة، و أحكام خاصة.

دليل الوجوب:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:صلاة الكسوف فريضة.

و سئل عن الزلزلة ما هي؟قال:آية.فقال السائل:إذا كان ذلك فما أصنع؟ قال:صل صلاة الكسوف.

و قال الإمام أبو جعفر عليه السّلام:كل أخاويف السماء من ظلمة،أو ريح،أو فزع، فصل له صلاة الكسوف.

و قال الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام:لما قبض إبراهيم ابن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انكسفت الشمس،فقال الناس:انكسفت لفقد ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فصعد المنبر،فحمد اللّه،و أثنى عليه،ثم قال:أيّها الناس،ان الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره،مطيعان له،لا ينكسفان لموت أحد،و لا

ص:285

لحياته،فإذا انكسفتا،أو واحدة منهما فصلوا،ثم نزل و صلى بالناس صلاة الكسوف.

اتفق الجمع على العمل بهذه الروايات،و ما إليها.

الوقت:
اشارة

صلاة الكسوف و الخسوف مؤقتة،و تذهب بذهاب وقتها،و حدّه من أول الكسوف إلى نهايته و تمام انجلاء القرص،و عليه تجوز المبادرة إلى الصلاة بابتداء الكسوف،و تتضايق كلما أو شك الانجلاء على التمام.و الدليل على أن وقتها يبتدئ بابتداء الكسوف قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إذا رأيتم ذلك فصلوا».أمّا الدليل على استمرار الوقت إلى تمام الانجلاء فقول الإمام الصادق عليه السّلام:«ان صليت الكسوف إلى أن يذهب الكسوف عن الشمس و القمر، و تطول في صلاتك فإن ذلك أفضل،و ان أحببت أن تصلي فتفرغ من صلاتك قبل أن يذهب الكسوف فهو جائز».فقوله«إلى أن يذهب الكسوف»،معناه أن يتم الانجلاء.

و إذا احترق جزء يسير من القرص،بحيث لم يتسع الوقت لأقل ما يجب مع ما يتوقف عليه من الشروط،سقط التكليف من الأساس،لاستحالة امتثاله و العمل به.

و إذا اتسع الوقت للصلاة،و لم يصل،فهل يجب عليه القضاء،أو لا؟

الجواب:

ينظر:فإن كان قد احترق القرص بكامله،فعليه القضاء إطلاقا،سواء أعلم بذلك،و ترك متعمدا،أو لم يعلم إلاّ بعد حين.و إن لم يحترق القرص بتمامه

ص:286

يجب القضاء على من علم و ترك عمدا،أو نسيانا،و لا يجب على من لا يعلم، حتى يخرج الوقت.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا انكسف القمر،و لم تعلم به،حتى أصبحت، فإن كان احترق كله،فعليك القضاء،و ان لم يكن احترق كله،فلا قضاء عليك.

و بهذه الرواية المفصلة نجمع بين الروايات التي أثبتت القضاء إطلاقا، و الروايات التي نفته إطلاقا.

أمّا الزلزلة فليس لصلاتها في النصوص وقت محدد،و كل ما دلت عليه أن الصلاة تجب لها بمجرد الوجود،و عليه فأي وقت صلاها الإنسان يأتي بها بنية الأداء،لا بنية القضاء.

الصورة:
اشارة

قال الإمام الباقر،و ابنه الإمام الصادق عليهما السّلام:ان صلاة كسوف الشمس، و خسوف القمر،و الرجفة و الزلزلة عشر ركعات-أي ركوعات-و أربع سجدات،يركع خمسا،ثم يسجد في الخامسة،ثم يركع خمسا،ثم يسجد في الخامسة.و ان شئت قرأت سورة في كل ركعة،و ان شئت قرأت نصف سورة في كل ركعة،فإذا قرأت سورة،فاقرأ فاتحة الكتاب.و ان قرأت نصف سورة أجزأك أن لا تقرأ فاتحة الكتاب إلاّ في أول ركعة،حتى تستأنف أخرى،و لا تقل سمع اللّه لمن حمده في رفع رأسك من الركوع إلاّ في الركعة التي تسجد فيها.

الفقهاء:

أجمعوا على العمل بهذه الرواية،و قالوا في شرحها و شرح غيرها:إذا

ص:287

أردت أن تصلي صلاة الكسوف أو الخسوف أو الزلزلة نويت و كبرت للإحرام، ثم قرأت الحمد و سورة،ثم تركع،ثم ترفع رأسك،و تقرأ الحمد و سورة،ثم تركع،و هكذا،حتى تتم خمسا،فتسجد بعد الخامس سجدتين،ثم تقوم للركعة الثانية،فتقرأ الحمد و سورة،ثم تركع،و هكذا إلى العاشر تقنت قبل أن تركعه، و تسجد بعد الركوع العاشر سجدتين،ثم تتشهد و تسلم،و يستحب ان تقول:

سمع اللّه لمن حمده،و أنت تهوي إلى السجود.

و قالوا:يجوز تفريق سورة واحدة على الركعات الخمس الاولى،فتقرأ في القيام الأول من الركعة الأولى الفاتحة،ثم تقرأ بعدها آية من سورة،ثم تركع، و ترفع رأسك،و تقرأ الآية الثانية من تلك السورة و تركع،ثم ترفع رأسك و تقرأ الآية الثالثة،و هكذا إلى الخامس،على شريطة أن تتم السورة في الركعة الأولى التي تحتوي على خمس ركوعات،ثم يقوم إلى الركعة الثانية،و يصنع كما صنع في الأولى،و يكون قد قرأ في كل ركعة الحمد مرة،و السورة مرة،موزعة على الركوعات الخمسة.

و تجوز هذه الصلاة فرادى و جماعة،و لا يتحمل الإمام عن المأموم شيئا سوى القراءة،تماما كما هي الحال في اليومية.سئل الإمام عليه السّلام عن صلاة الكسوف،تصلى جماعة،أو فرادى؟قال:أي ذلك شئت.

مسائل:
1-إذا حصل الكسوف في وقت فريضة لم تؤدها
اشارة

،نظرت:فإن اتسع الوقت لهما معا فابدأ بأيهما شئت،و ان ضاق وقت الفريضة الحاضرة،قدمتها على صلاة الآية،لقول الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام:إذا وقع الكسوف،أو بعض

ص:288

هذه الآيات فصلها ما لم تتخوف ان يذهب وقت الفريضة،فإن تخوفت فابدأ بالفريضة.

و لو افترض انه مع ضيق الوقت خالف و صلى الكسوف تاركا الفريضة المضيقة،فهل تصح صلاته هذه،أو تبطل.

الجواب:

تصح،لأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده،أجل،يأثم لمكان العصيان.

2-يثبت الكسوف و الخسوف بالعلم و الوجدان،و بشهادة عدلين

و بقول ذوي الاختصاص

،على شريطة أن يحصل الاطمئنان و الوثوق بقولهم.

و قال قائل:لا يجوز الاعتماد على قولهم،لأنهم يخبرون عن الكسوف و الخسوف و تولد الهلال عن الحدس و التخمين،لا عن العيان و المشاهدة.

و نقول في جوابه:انهم يشاهدون و يعاينون السبب التام للكسوف و تولد الهلال،و بديهة ان العلم بالسبب التام علم بالسبب،و بالعكس، و عليه يكون قولهم عن حس،لا عن حدس.

3-لا تجب هذه الصلاة على الحائض و النفساء

،و بالأولى عدم القضاء لأنه فرع عن الأداء.

ص:289

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

كتاب الصوم

معنى الصوم:

الصوم في اللغة هو الإمساك و الكف و الترك،فمن أمسك عن شيء،و كف عنه فقد صام عنه،و منه الآية 26 من سورة مريم فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا .

و في الشرع هو الإمساك عن أشياء خاصة،نهى عنها الشرع،كالأكل و الشرب و الجماع في زمن مخصوص،يبتدئ بطلوع الفجر،و ينتهي بالغروب، على أن يكون الإمساك بنية التقرب الى اللّه و طاعته و امتثال أمره.

أقسام الصوم:

ينقسم الصوم الشرعي إلى أربعة أقسام:واجب،كصوم رمضان و قضائه، و محرم،كصوم العيدين،و مندوب،كصوم الأيام البيض من كل شهر و هي 13 و 14 و 15،و مكروه بمعنى قلة الثواب،كصوم ثلاثة أيّام بعد العيد،لأنّها أيام أكل و شرب،كما قال الامام عليه السّلام.

نية الصوم:

ان نية التقرب الى اللّه هي روح العبادة و قوامها،سواء أ كانت صوما و صلاة، أو حجا و زكاة،و قدمنا أن معنى النية الدافع و الباعث على العمل.و المهم هنا هو

ص:3

معرفة أول وقتها،و من آية لحظة يجب أن تبدأ،و بما أن الصوم يبدأ من أول الفجر،و ان النية شرط في صحته وجب قهرا أن تكون من أول الفجر أو متقدمة عليه،مستمرة إلى آخر النهار،حيث ينتهي الصوم،و قد اشتهر عن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل».هذا هو مقتضى القاعدة من غير فرق بين الصوم الواجب،و غير الواجب،و لا بين العامد و الناسي،و لكن الفقهاء خرجوا عن هذه القاعدة بعد أن ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام صحة الصوم في مواضع،مع تأخر النية فيها عن الفجر،و هذه المواضع هي:

1-إذا وصل المسافر الى حد الترخيص قبل الزوال،و لم يكن قد تناول المفطر،و لا من نيته أن يصوم،فله أن ينوي الصوم،و يصح منه،بل يتعين عليه، ان كان ذلك في شهر الصيام.سئل الإمام عليه السّلام عن رجل قدم من سفر في شهر رمضان،و لم يطعم شيئا قبل الزوال؟قال:يصوم.و في رواية أخرى عن أبي بصير عن الامام عليه السّلام:ان قدم قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم،و يعتد به.

و مثله تماما إذا شفي المريض من علته قبل الزوال،و لم يكن قد تناول المفطر.

2-إذا جهل ان غدا من رمضان،أو نسي كلية أنّه منه فإنه ينوي الصوم قبل الزوال،و يصح صومه،و لا شيء عليه.و استدلوا على ذلك بالإجماع،و بما روي من«ان أعرابيا جاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الشك،و شهد برؤية الهلال،فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منادي ينادي كل من لم يأكل فليصم،و من أكل فليمسك».و هذه الرواية على تقدير صحتها مختصة بالجاهل،و إلحاق الناسي به قياس.و المعتمد هو الإجماع.

3-له ان ينوي الصوم اختيارا قبل الزوال لقضاء شهر رمضان.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يكون عليه أيام من شهر رمضان،و يريد أن يقضيها،

ص:4

متى ينوي الصيام؟قال:هو بالخيار الى أن تزول الشمس،فإذا زالت فان كان نوى الصوم فليصم،و ان كان نوى الإفطار فليفطر،قال له السائل:فإن نوى الإفطار أ يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟قال:لا.

و في رواية أخرى انّه قال:«نعم،فليصمه،و يعتد به إذا لم يكن أحدث شيئا»أي شيئا يوجب الإفطار.و ربما تحمل هذه الرواية على الاضطرار.

و مثله أيضا من وجب عليه الصوم بنذر،أو يمين،أو كفارة،فإن له أن ينوي الصوم اختيارا قبل الزوال،على شريطة عدم تناوله المفطر.

4-لمن أراد أن يصوم تطوعا و استحبابا أن ينوي الصوم ما دام النهار، حتى و لو بعد الزوال،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الصائم المتطوع،تعرض له الحاجة؟قال:هو بالخيار ما بينه و بين العصر،و ان مكث،حتى العصر،ثم بدا له أن يصوم،و ان لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ان شاء.

و قال:كان أمير المؤمنين عليه السّلام يدخل على اهله،فيقول:عندكم شيء و الا صمت،فان كان عندهم شيء أتوه به،و الاصام.

و قد تبين معنا مما تقدم أن من عليه صيام شهر رمضان أن يأتي بالنية مقارنة للفجر أو قبله،و ان من أخرها عنه عامدا متعمدا بطل صومه،و انه يغتفر للمضطر،كالجاهل و الناسي أن ينوي قبل الزوال،و ان لمن وجب عليه الصوم في غير رمضان ان يؤخر النية مختارا الى ما قبل الزوال،على شريطة أن لا يكون الصوم الواجب مضيقا في وقته،و إلا فحكمه حكم رمضان تماما،و ان لمن أحب الصوم تطوعا أن ينوي ما دام النهار باقيا.و يتفرع على ذلك مسائل:

منها:تكفي نية واحدة لشهر رمضان بكامله،و لا تجب لكل يوم على حدة،بخاصة بعد ما فسرنا النية بالباعث و الداعي.

ص:5

و منها:لو ترك نية صوم رمضان عمدا،بحيث عزم منذ ليلته أن لا يصوم غدا،و لما أصبح على هذه النية تاب و أناب،و رجع إلى ربّه،و لم يكن قد تناول المفطر بعد فان صومه يفسد،و لا يجديه أن يحدث نية الصوم لا قبل الزوال و لا بعده بطريق أولى إجماعا محصلا،و لكن اختلف الفقهاء:هل تجب عليه الكفارة مع القضاء أو ان عليه القضاء،و كفى،و الصحيح أنّه يقضي و لا يكفر، لأصل البراءة من وجوب التكفير،و لأن الأدلة قد أناطت وجوب التكفير بالأكل و الشرب و الجماع،و ما إلى ذاك من المفطرات.

و منها:من صام يوم الشك بنية أنه من شعبان،و أراد من صومه مجرد التطوع و الاستحباب،أو القضاء عما في ذمته،ثم تبين انه من رمضان صح عن رمضان دون غيره،لأنه هو الواجب واقعا و قد تحققت نية التقرب،أما نية الاستحباب و القضاء فلغو زائد لا أثر له في أصل النية،و تمحضها للّه سبحانه،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل صام اليوم الذي يشك فيه،فكان من شهر رمضان،أ فيقضيه؟فقال للسائل:لا،هو يوم وفقت له.

و ان قصد الأمر المتعلق بهذا اليوم كائنا ما كان صح بلا ريب،لأن الأمر و المأمور به موجودان واقعا،و القصد تعلق بامتثال الأمر على ما هو عليه،و لا يضر الترديد في تصوره و خياله ما دام القصد متجها الى الأمر الواقعي بالذات.

و ان تردد في التعيين،و قصد الوجوب ان كان من رمضان،و الاستحباب ان كان من شعبان،قال أكثر الفقهاء المتأخرين:يبطل صومه،حيث يشترط في العبادة قصد التعيين،و قال السيد الحكيم في المستمسك:بل يصح،لأنه ان تبين أنّه من شعبان فقد نواه،و ان تبين من رمضان فكذلك،و الجزم بأحدهما خاصة لا دليل عليه،بل قام الدليل على عدمه،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن صوم

ص:6

الشك؟فقال:صمه،فإن يك من شعبان كان تطوعا،و ان يك من رمضان فيوم وفقت له.

و هو الحق،لأن المطلوب هو قصد التقرب الى اللّه سبحانه،و المفروض وجوده،و مجرد التردد لا يضر بأصل القصد ما دام المنوي واحدا لا غير،و قصد التعيين في العبادة انما يجب لو كان المطلوب متعددا في الواقع،كمن عليه أكثر من واجب،أو كمن أراد أن يأتي بعبادتين أحدهما مستحبة،كصلاة الفجر، و الأخرى واجبة،كصلاة الصبح.

وقت الصوم:

حدد اللّه سبحانه أوّل الصوم و آخره بقوله تعالى وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ (1)و لم يختلف في هذا التحديد اثنان من المسلمين،بل هو من ضرورات الدين،و لذا لم يتعرض أكثر الفقهاء لتحديده،و اكتفوا بقولهم:يحرم الصوم في الليل،و العيدين،و أيام التشريق لمن كان في منى،و هي الحادي عشر،و الثاني عشر،و الثالث عشر من ذي الحجة.

الشروط:

الشروط في الصوم منها ما هو شرط للوجوب و الوجود معا،كالعقل، و الخلو من الحيض و النفاس،و المرض و السفر.

ص:7


1- البقرة:187. [1]

فلا يصح الصوم و لا يجب من المجنون،حتى و لو عرض الجنون على الصائم ساعة من النهار،ثم زال،و لا من الحائض و النفساء،حتى و لو عرض الحيض أو النفاس قبل انتهاء النهار بلحظة،أو انقطعا بعد الفجر بلحظة،و لا من المريض الذي يضره الصوم،و لا من المسافر إلا إذا سافر لمعصية،أو كانت مهنته السفر،أو نوى الإقامة عشرة أيام،أو بعد أن تردد ثلاثين يوما في مكان واحد،أو صام ثلاثة أيام بدل هدي التمتع،حيث لا يجد الهدي،أو ثمانية عشر يوما بدل البدنة لمن أفاض من عرفات قبل الغروب عامدا،أو نذر الصوم في يوم خاص و لو في السفر،و هل للمسافر أن يصوم في سفره تطوعا و استحبابا؟نقل صاحب الجواهر الجواز على كراهية عند الأكثر جمعا بين ما دل من الروايات على المنع مطلقا،و بين ما أجازه استحبابا،و منعه فريضة.

و من الشروط ما هو شرط في الوجود فقط،أي في الصحة،لا الوجوب كالإسلام،فإن غير المسلم لا يصح منه الصوم،مع الاتفاق بأنه واجب عليه.

و منها ما هو شرط في الوجوب لا في الوجود،كصوم الصبي المميز،فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى صحة عبادته،مع أنّها غير واجبة عليه،و معنى صحتها أنّها ليست تمرينية،بل شرعية يترتب عليها الثواب،و يحسب لأبويه،و بديهة الصحة لا تتوقف على وجود الأمر،كي يقال:كيف تصح و هي غير مأمور بها؟إذ لا ملازمة بين الأحكام الوضعية و التكليفية.

النائم و المغمى عليه:

بقيت الإشارة إلى النائم و المغمى عليه،أما النائم فإن سبقت نية الصوم و استمر في نومه الى الليل صح،و لا قضاء عليه،قال صاحب الجواهر:بالإجماع

ص:8

و الروايات،و ان لم ينو الصوم إطلاقا،فإن انتبه قبل الزوال نوى و لا قضاء عليه.

و ان استمر نائما حتى زالت الشمس فعليه القضاء،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف و لا اشكال،لفساد الأداء بفوات النية التي هي شرط فيه.

اما المغمى عليه فقد ألحقه بعضهم بالنائم،و أوجب عليه القضاء،حتى و لو استغرق الإغماء أياما،و ذهب المشهور الى عدم القضاء،حتى و لو عرض الإغماء في جزء من اجزاء النهار،لأن الإغماء يزيل العقل،و زواله يسقط التكليف الواجب و المستحب،قال صاحب الجواهر:و هذا هو الأشبه بأصول المذهب و قواعده،حيث يصدق اسم الصائم على النائم،و لا يصدق على المجنون و المغمى عليه.

و هو الحق،لأن النائم لم يسلب العقل منه كلية،و لذا إذا أيقظته استيقظ عاقلا،بخلاف المغمى عليه،فان العقل مسلوب منه بالمرة،و إذا أيقظته لا يستيقظ و لا ينتبه،و من هنا صح تكليف النائم،غاية الأمر ان التكليف لم يصل الى مرتبة الفعلية،لمكان العذر ما دام غافلا،فإذا انتبه زال العذر،و وجب العمل، تماما كالجاهل فإنه مكلف بلا ريب،و يعذر ما دام الجهل،فإذا علم انتفى العذر، و وجب العمل.

ص:9

ص:10

المفطرات

اشارة

يجب أن يمسك الصائم عن الأشياء التالية:

1 و 2-الأكل و الشرب

،حتى و لو كانا غير معتادين،كابتلاع الحصى، و شرب الكاز.

3-الجماع

قبلا أو دبرا،فإنه يفسد صوم الفاعل و المفعول،و لا نطيل الكلام في الاستدلال على هذه الثلاثة،لأنها ثابتة و معلومة بضرورة الدين.

4-الاستمناء
اشارة

،سواء أ كان بيده أو بآلة،فإنه محرم بذاته،و مفسد للصوم، و من داعب امرأته فسبقه المني،فهل يفسد صومه؟

الجواب:

ان تعمد،أو كان من عادته أن يمني إذا داعب فسد الصوم،و عليه كفارة أيضا،و ان لم يقصد،و لا كان ذلك من عادته فلا شيء عليه،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يلصق بأهله في شهر رمضان؟فقال:ما لم يخف على نفسه فلا بأس.و سئل أبوه الإمام الباقر عليه السّلام عن ذلك؟فقال:اني أخاف عليه فليتنزّه من ذلك الا أن يثق أن لا يسبقه منيه.و على هاتين الروايتين تحمل الروايات الأخر التي أوجبت الكفارة مطلقا و بدون تفصيل.

و إذا نام،و حين استيقظ نهارا رأى نفسه محتلما صح صومه،و لا شيء عليه.

ص:11

5-قال جمع من الفقهاء:ان تعمد الكذب على اللّه و رسوله يفسد الصوم

، و يوجب الكفارة أيضا،و استدلوا بقول الامام الصادق عليه السّلام:«من كذب على اللّه و رسوله و هو صائم،نقض صومه و وضوءه إذا تعمد».

و الحق ان هذا التعمد حرام يجب الإمساك عنه،بل هو من أعظم الكبائر، و لكن وجوب الإمساك عن الكذب شيء،و انه من المفطرات شيء،و انه من المفطرات شيء آخر،أمّا قول الإمام عليه السّلام ان الكذب على اللّه و رسوله ينقض الصوم و الوضوء فهو تمام كقوله:«من اغتاب أخاه المسلم بطل صومه،و انتقض وضوءه»و قوله:«الغيبة تفطر الصائم و عليه القضاء»مع العلم أنّه لا قائل بأن الغيبة من المفطرات،و لا من نواقض الوضوء،و المراد من هذه الرواية و ما إليها،هو المبالغة و التشدد و الحث على ترك الكذب و الغيبة،و ان الذي يأتي بهما أو بأحدهما كمن صلى بدون وضوء،و أفطر في شهر رمضان،و ان المطلوب من الإمساك في شهر الطاعة و الغفران ليس مجرد الأكل و الشرب،بل الصوم عن جميع المحرمات،بخاصة الكذب على اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و ما أكثر استعمال ذلك في كتاب اللّه،و كلمات الرسول و آله،و العرب قديما و حديثا.

و قد ذهب الى عدم فساد الصوم بالكذب على اللّه و رسوله كثير من المحققين منهم صاحب الجواهر و صاحب مصباح الفقيه،و أكثر الفقهاء المتأخرين بشهادة صاحب الجواهر و صاحب الحدائق.

6-المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة،كما قال صاحب الجواهر ان غمس

الرأس في الماء مفسد للصوم

(1)

،سواء أ غمس وحده،أم مع البدن،و استدلوا بقول الامام الصادق عليه السّلام:لا يرمس الصائم و لا المحرم رأسه في الماء.و قالوا:ان

ص:12


1- أمّا غسل الرأس بصب الماء عليه من الإبريق و نحوه،فلا يفسد الصوم بالاتفاق.

المتبادر من هذا النهي هو الحكم الوضعي،أي فساد الصوم،لا مجرد الحكم التكليفي،و هو التحريم فقط،و لذا اتفق الجميع على ان النهي هو الحكم في العبادة يدل على الفساد.

و قال آخرون:ان هذا الارتماس و الغمس غير محرم،و لا مفسد للصوم، و انما هو مكروه،و حملوا الروايات الناهية عنه على ذلك،و ردّ عليهم صاحب الجواهر بأنه«لا محيص للفقيه عن القول بأن الارتماس مفسد للصوم بعد أن ثبت في الصحيح قول الامام عليه السّلام:لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب الطعام و الشراب و النساء و الارتماس في الماء».و هو حق.

7-إيصال الغبار الغليظ الى الفم

،مهما كان نوع الغبار،و لم أجد دليلا تركن إليه النفس يدل على أنّه مفسد للصوم،و لكن صاحب الجواهر قال:

«المشهور على ذلك،بل لم أجد فيه خلافا».و ألحقوا شرب التبغ بالغبار الغليظ، و ليس من شك بأن الترك أفضل و أكمل،بخاصة بعد ان ارتكز في الافهام ان من يشرب الدخان لا يعد صائما،نقول هذا،مع العلم بأن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من العرف،و لا من طريقة الناس إلاّ إذا أقرها المعصوم،و نحن نعلم علم اليقين أن التبغ لم يكن معروفا و لا مألوفا في عهده.

و لمن يعتمد على الاستحسان و الأدلة الخطابية أن يقول:ان شرب الدخان يتنافى مع الآداب،و لذا نتركه عند تلاوة القرآن الكريم،و في المساجد و المشاهد المشرفة،و في الصلاة،و في حضور الكبار،فبالأولى التأدب في شهر اللّه المعظم.

8-من المفطرات الحقنة

،و قد ورد في ذلك عن أهل البيت عليهم السّلام روايات:

إحداها تنفي البأس عن الاحتقان مطلقا،دون أن تفرق بين أن يكون بالجامد،أو بالمائع،و الثانية تقول:لا يجوز للصائم ان يحتقن،دون أن تفرق بينهما أيضا،

ص:13

و الثالثة تقول:لا بأس بالجامد أي أن الاحتقان بالمائع يفسد الصوم،و بالجامد لا يفسده،و حيث فصلت هذه الرواية و فرقت بين النوعين تكون-لا محالة- جامعة بين الروايتين المتعارضتين بظاهرهما،و قرينة شرعية على أن المراد من الرواية الأولى التي نفت البأس خصوص الاحتقان بالجامد،و من الثانية التي أثبتت البأس خصوص الاحتقان بالمائع،و بذلك ينتفي التعارض و التضاد.

9-تعمد القيء

،قال الامام الصادق عليه السّلام:من تقيأ متعمدا،و هو صائم فقد أفطر،و عليه الإعادة.و قال ولده الامام الكاظم عليه السّلام:ان كان تقيأ متعمدا فعليه قضاؤه،و ان لم يكن تعمد ذلك فليس عليه شيء.

البقاء على الجنابة:
اشارة

10-العاشر و الأخير مما يفسد الصوم أن يتعمد الصائم البقاء على الجنابة حتى مطلع الفجر،في غير ضرورة تدعوه الى ذلك،و المفروض ان الصوم واجب عليه،لا مندوب،هذا ما قاله المشهور شهرة عظيمة بشهادة صاحب الحدائق و الجواهر.و استدلوا بأن الامام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل أجنب في شهر رمضان بالليل،ثم ترك الغسل متعمدا،حتى أصبح؟قال:«يعتق رقبة،أو يصوم شهرين متتابعين،أو يطعم ستين مسكينا».و كل ما جاء عن أهل البيت عليهم السّلام غير هذه الرواية فإن كان في معناه فهو مؤيد و معزز،و ان كان مطلقا و شاملا للعامد و غيره وجب حمله و تقييده بهذه الرواية،و ان ابى الحمل عليها و التقييد بها فهو شاذ بشهادة ما نقله صاحب الحدائق عن المحقق في كتاب المعتبر.

ص:14

و يتفرع على ذلك مسائل:
1-لمن تعمد البقاء على الجنابة ان يصوم تطوعا و استحبابا

،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن التطوع و صوم الأيام الثلاثة 13 و 14 و 15 من الشهر الهلالي إذا أجنب الرجل في أول الليل و هو يعلم أنّه أجنب فينام متعمدا حتى يطلع الفجر،أ يصوم أو لا يصوم؟قال الامام عليه السّلام:يصوم.

2-من أصبح في شهر رمضان جنبا من غير عمد صح صومه و لا شيء

عليه

.سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أجنب في شهر رمضان في أوّل الليل،فنام حتى أصبح؟قال:«لا بأس يغتسل و يصلي و يصوم».

و ان صادف معه ذلك في قضاء شهر رمضان فلا يصح منه الصوم،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أصابته جنابة،فلم يغتسل،حتى طلع الفجر؟قال:

«لا يصوم هذا اليوم،و يصوم غدا».هذا إذا كان وقت القضاء موسعا،أمّا إذا كان مضيقا فحكمه حكم رمضان تماما.

و اتفق الجميع على أن الاحتلام في النهار لا يفسد الصوم إطلاقا،واجبا كان أو مندوبا،لقول الامام الصادق عليه السّلام:ثلاثة لا يفطرون الصائم:القيء-أي القهري- و الاحتلام،و الحجامة.

3-إذا نام دون أن ينوي الاغتسال فسد صومه

،و عليه القضاء،و بالأولى إذا نوى العدم.

4-من أجنب في ليل رمضان،ثم نام و من نيته أن يغتسل قبل الفجر

، و لكن استمر به النوم حتى أصبح،صح صومه،و لا قضاء عليه،و إذا انتبه،ثم نام ثانية على نيته حتى أصبح،فعليه أن يصوم ذلك اليوم و يعيد،و إذا انتبه و نام للمرة الثالثة حتى الصباح،فعليه القضاء و الكفارة،و الدليل على هذا التفصيل قول

ص:15

الامام عليه السّلام:إذا اصابتك جنابة في أوّل الليل فلا بأس أن تنام متعمدا و في نيتك أن تقوم و تغتسل قبل الفجر،فإن غلبك النوم حتى تصبح،فليس عليك شيء إلاّ أن تكون انتبهت في بعض الليل،ثم نمت و توانيت و لم تغتسل و كسلت،فعليك صوم ذلك و اعادة يوم آخر مكانه.و ان تعمدت النوم إلى أن تصبح فعليك قضاء ذلك اليوم و الكفارة،و هي صوم شهرين متتابعين،أو عتق رقبة،أو إطعام ستين مسكينا.

5-إذا لم يتمكن المجنب من الاغتسال لفقد الماء،أو لمرض

تعين عليه التيمم قبل الفجر،و إذا تركه عامدا بطل صومه،تماما كما هو الشأن بالقياس الى الغسل،لعموم التراب بمنزلة الماء،و جعل اللّه التراب طهورا،كما جعل الماء طهورا،و ما إلى ذاك.

6-إذا طهرت كل من الحائض من دم حيضها،و النفساء من دم نفاسها

ليلا

،في شهر رمضان،و تركت الغسل،حتى أصبحت من غير عذر فسد صومها، و وجب عليها القضاء،تماما كالجنب،و يدل عليه قول الامام عليه السّلام:«ان طهرت بليل من حيضها،ثم توانت و لم تغتسل في رمضان حتى أصبحت،فعليها قضاء ذلك اليوم».و يسري حكم الحائض الذي دلت عليه هذه الرواية إلى النفساء،إذ لا قائل بالفرق بينهما،و إذا تعذر عليهما الغسل تيممت،لأن التيمم بدل عنه.

و هل تلحق الحائض و النفساء بالجنب في حكم النوم من انهما إذا نامتا على نية الغسل و لم تنتبها حتى الصباح،فلا شيء عليهما،و ان انتبهتا ثم نامتا فعليهما القضاء فقط،و ان انتبهتا ثم نامتا للمرة الثالثة،فعليهما القضاء و الكفارة؟

ص:16

الجواب:

كلا،لأن النص في ذلك مختص بالجنب،و القياس باطل عندنا،أما قول صاحب الجواهر بأن حدث الحيض أشد من حدث الجنابة فإنما يتم لو نص الشارع على ذلك صراحة،بحيث يكون من العلل المنصوصة،و ليس لأحد كائنا من كان ان يستنبط علل الأحكام من عندياته.

أما المستحاضة فيتوقف صحة صومها على الإتيان بما يلزمها من الأغسال في الليل و النهار على النحو الذي ذكرناه في باب الطهارة عند الكلام عن المستحاضة و أقسامها و أحكامها،و على هذا،فإن أخلت بوظيفتها فعليها القضاء.

قال صاحب الحدائق:«و حيث كان هذا الحكم متفقا عليه بين الأصحاب،و هو الأوفق بالاحتياط فلا بأس بالمصير إليه».

ص:17

ص:18

المكروه و غير المكروه

اشارة

جميع الأشياء التي ذكرناها في الفصل السابق يجب أن يمسك الصائم عنها حتما،و هنالك أشياء أخرى أجاز الفقهاء أن يباشرها الصائم بلا كراهة،و أشياء يباشرها على كراهة.

الأشياء المكروهة:

1-يكره للصائم مداعبة النساء،بخاصة للشاب،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الصائم يقبل امرأته؟قال:أما الشيخ فلا بأس،و أما الشاب الشبق فلا،لأنه لا يؤمن.قال الفقهاء:المراد بهذا النهي الكراهة،لا التحريم.

2-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المرأة الصائمة تكتحل؟قال:«إذا لم يكن كحلا تجد له طعما في حلقها فلا بأس».و نفي البأس،و ان كان أعم من الكراهة، الا أن الفقهاء فهموا منه هنا نفي المؤاخذة مع رجحان ترك الاكتحال.

3-دخول الحمام،مع خوف الضعف.

4-إخراج الدم المضعف بحجامة،و ما إليها.

5-السعوط،مع عدم العلم بوصوله إلى الحلق،لقول الامام عليه السّلام يكره السعوط للصائم.

ص:19

6-شم الرياحين،بخاصة النرجس،لقول الامام عليه السّلام:الصائم لا يشم الرياحين،و في رواية ثانية نهى عن النرجس بالذات.

7-الحقنة بالجامد.

8-جلوس المرأة في الماء.

9-قلع الضرس.

10-السواك بالعود الرطب.

11-المضمضة.

12-الجدال و المراء،لقول الامام عليه السّلام:إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب،و غضوا أبصاركم،و لا تنازعوا،و لا تحاسدوا،و لا تغتابوا،و لا تماروا، و لا تكذبوا،و لا تخالفوا.إلخ.

الأشياء غير المكروهة:

سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يعطش في رمضان؟قال:لا بأس أن يمص الخاتم.

و سئل عن المرأة يكون لها الصبي،و هي صائمة،فتمضغ له الخبز، و تطعمه؟قال:لا بأس.

و سئل عن الدواء يصب في أذن الصائم؟قال:نعم،و له أن يذوق المرق، و يزق الفرخ.

و سئل عن الصائم يستنقع في الماء؟قال:نعم،و لكن لا يغمس رأسه.

و سئل عن القبلة في شهر رمضان للصائم،أ تفطر؟قال:لا.

ص:20

فساد الصوم و وجوب الكفارة

اشارة

إذا تناول الصائم شيئا من المفطرات،فقد يفعله عالما مختارا،ذاكرا لصومه،أو ساهيا عنه،أو مكرها عليه،أو جاهلا له،و ليس من شك ان العلم مع التذكر مفسد للصوم،و موجب للإثم و القضاء،أما التكفير فيأتي التفصيل.

السهو:

و لا شيء على من أكل،أو شرب،أو جامع،و ما إلى ذاك من المفطرات ذاهلا عن صومه،إجماعا و نصا،و منه قول الامام عليه السّلام:إذا نسي فأكل و شرب،ثم تذكر فلا يفطر،انما هو شيء رزقه اللّه،فليتم صومه.و في معناه كثير من الروايات.

الإكراه:

إذا تغلب عليه انسان،و ادخل في حلقه طعاما أو شرابا دون أن يباشر الصائم ذلك بنفسه،فلا شيء عليه بالإجماع،لأنه كالاداة المسيرة،و إذا توعده متوعد قوي إذا لم يأكل أو لم يشرب،و خاف الضرر،فأكل أو شرب دفعا للضرر عن نفسه فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى صحة صومه،بداهة أن وجوب الإمساك عن المفطرات لا يتناول مثل هذه الحال،بل منصرف الى حال الإرادة و الاختيار،إذ لا

ص:21

نهي مع الإكراه و الاضطرار،قال الامام الصادق عليه السّلام:أفطر يوما من شهر رمضان أحب اليّ من أن تضرب عنقي.

و قال صاحب العروة الوثقى:أن مباشرة الأكل للإكراه و الفرار من الضرر يبطل الصوم.و وافقه السيد الحكيم في المستمسك،و قال:«ان حديث الرفع لا يصلح لإثبات الصحة،لأنه ناف لا مثبت».و يريد بقوله هذا ان حديث رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه ينفي التحريم و البأس عن الأكل،و لكن نفي التحريم شيء و صحة الصوم شيء آخر،و اذن،فالحديث أجنبي عن التعرض لصحة الصوم، و ان دل على نفي الإثم و العقاب.

و نقول في جوابه:ان الذي يفهمه العرف من الأدلة الدالة على وجوب الإمساك عن المفطرات انما هو الإمساك عن اختيار و ارادة،أما المكروه المضطر فالأدلة منصرفة عنه،و يؤيد ذلك ما جاء في حق الناسي،و انه غير مسؤول.أمّا دعوى عدم هذا الفهم،و عدم هذا الانصراف الى غير المكره،فهي حجة لمدعيها فقط دون غيره تماما كدعوى الانصراف.و بتعبير أخصر و أوضح أن المكره غير مؤاخذ و لا معاقب بالاتفاق،و انه لا كفارة عليه أيضا بالاتفاق،لأن التكفير انما يكون عن الذنب،و لا ذنب،و اذن،لا يبقى لدينا سوى القضاء،و ليس من شك ان القضاء يحتاج إلى دليل،أمّا نفيه فلا حاجة به إلى الدليل،لأنه على وفق الأصل.

الجهل:

المشهور عند الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر أن الصائم إذا تناول شيئا من المفطرات جاهلا بأنه مفسد للصوم فعليه القضاء و الكفارة،لأن الأدلة القائلة بأن من أفطر يجب عليه القضاء و الكفارة تصدق على الجاهل المقصر و القاصر،تماما

ص:22

كما تصدق على العالم،لأن كلا منهما فعل عن عمد و قصد.

و ذهب جمع من الفقهاء،منهم السيد الحكيم في المستمسك الى ان الجاهل بقسميه لا شيء عليه إطلاقا خلافا للمشهور و لصاحب العروة،و استدلوا بأن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام سئلا عن رجل أتى أهله،و هو في شهر رمضان، أو و هو محرم،و كان يرى أن ذلك حلال له؟فقالا:ليس عليه شيء.و أيضا قال الامام الصادق عليه السّلام:أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه.

و إذا اختلفنا نحن مع السيد الحكيم في مسألة المكره،فإنّا معه على وفاق في مسألة الجاهل.

العطش الشديد:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يصيبه العطش،حتى يخاف على نفسه؟قال:يشرب ما يمسك رمقه،و لا يشرب حتى يرتوي.

و قال له بعض أصحابه:ان لنا فتيات و شبانا لا يقدرون على الصيام من شدة ما يصيبهم من العطش؟قال:فليشربوا بقدر ما تروى به نفوسهم.

و هذا متفق عليه،بالإضافة إلى أدلة نفي الضرر و الحرج.

الكفارة:

تارة يكون الصوم ندبا،و تارة واجبا،و الواجب هو صوم شهر رمضان، و قضاؤه،و صوم النذر،و صوم الاعتكاف،و صوم الكفارات،أي يكفر عن الإفطار أو غيره بالصوم،و لا شيء إطلاقا على الصائم ندبا،سواء أ تناول المفطر قبل الزوال،أو بعده،و يعرف حكم غيره مما يلي:

ص:23

كفارة رمضان:

يجب القضاء و التكفير مخيرا بين صيام شهرين متتابعين (1)أو عتق نسمة، أو إطعام ستين مسكينا.يجب القضاء و التكفير معا على من تعمد الإفطار في شهر رمضان بالأشياء التالية:

1 و 2 و 3-الأكل و الشرب و الجماع،إجماعا و نصا،بل بضرورة الدين.

و من أفطر في شهر رمضان على محرم،كمن شرب الخمر،أو زنا،أو لاط،أو أكل أو شرب من أموال الناس ظلما و عدوانا،من فعل شيئا من هذه، فعليه أن يكفر بالجمع بين الخصال الثلاث،أي يصوم شهرين متتابعين،و يعتق نسمة،و يطعم ستين مسكينا،فقد روي عن الامام الرضا حفيد الامام الصادق عليهما السّلام أن سائلا قال له:يا بن رسول اللّه قد روي عن آبائك فيمن جامع في شهر رمضان أو أفطر،أن فيه ثلاث كفارات،و أيضا روي عنهم كفارة واحدة، فأيهما نأخذ؟ قال الامام عليه السّلام:خذ بهما جميعا،ذلك متى جامع الرجل حراما،أو أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفارات:عتق رقبة،و صيام شهرين متتابعين،و إطعام ستين مسكينا،و قضاء ذلك اليوم،و ان نكح حلالا،أو أفطر حلالا فعليه كفارة واحدة،و ان كان ناسيا فلا شيء عليه.

هذا،إذا أفطر على الحرام في النهار،أما إذا تناوله أول ما تناول بعد الغروب فلا كفارة عليه.

ص:24


1- يكفي في تحقيق التتابع بين الشهرين ان يصوم شهرا كاملا،و يوما من الشهر الثاني،فإذا أفطر بعد الشهر و اليوم قضى ما بقي عليه،و إذا صام شهرا كاملا دون ان يتبعه و يوصله بيوم من الشهر الذي يليه،استأنف و أعاد من جديد،كأن لم يصم شيئا.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

4-من الأسباب الموجبة للقضاء و الكفارة في شهر رمضان الاستمناء،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان،حتى يمني؟ قال:عليه من الكفارة مثل ما على الذي يجامع،حيث فهم الفقهاء من هذا ان العابث كان قاصدا و مريدا للاستمناء.

5-تعمد البقاء على الجنابة حتى يصبح،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أجنب في شهر رمضان بالليل،ثم ترك الغسل متعمدا حتى أصبح؟قال:

يعتق رقبة،أو يصوم شهرين متتابعين،أو يطعم ستين مسكينا.

6-إذا نام على نية عدم الاغتسال من الجنابة حتى أصبح،أو نام ناويا الاغتسال،ثم انتبه،ثم نام للمرة الثالثة على التفصيل المتقدم في المفطرات.

7-لكل من الحامل في أشهرها الأخيرة،و المرضعة القليلة اللبن التي يضر الصوم بولدها أن تفطر،و تكفر بمد و عليها القضاء.قال الامام الباقر عليه السّلام:الحامل المقرب و المرضعة القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان،لأنّهما لا تطيقان،و عليهما أن تتصدق كل واحدة منهما عن كل يوم بمد،و عليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه.

8-إيصال الغبار الغليظ الى الحلق،قال صاحب الشرائع و الجواهر:انه موجب للقضاء و الكفارة،و قال آخرون:يوجب القضاء دون الكفارة.

و قال صاحب الشرائع و المدارك:ان الكذب على اللّه و رسوله،و الارتماس بالماء لا يوجب شيء منهما القضاء و لا الكفارة،و قال صاحب الشرائع:الحقنة بالمائع توجب القضاء فقط،و قال صاحب المدارك:لا توجب القضاء و لا الكفارة.

أمّا تعمد القيء فقال صاحب الجواهر:انه يوجب القضاء فقط عند المشهور.

ص:25

كفارة قضاء رمضان:

إذا أفطر الصائم لقضاء شهر رمضان ينظر:فإن كان قد أفطر قبل الزوال فلا شيء عليه،لأن الإفطار،و الحال هذه،غير محرم من الأساس إلا مع تضييق الوقت.و ان كان قد أفطر بعد الزوال فعليه أن يكفّر بإطعام عشرة مساكين،و مع العجز عن الإطعام صام ثلاثة أيام.فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان؟قال:ان اتى أهله قبل الزوال فلا شيء عليه الا يوما مكان يوم و ان كان أتى أهله بعد الزوال فإن عليه أن يتصدق على عشرة مساكين،فإن لم يقدر صام يوما مكان يوم،و صام ثلاثة أيام كفارة لما صنع،و هذه تسمى كفارة صغرى.

كفارة النذر المعين:

إذا نذر ان يصوم يوما معينا بالذات،لا مطلق يوم من الأيام،فأفطر،و لم يف بالنذر فعليه كفارة كبرى،و هي صيام شهرين متتابعين،أو عتق رقبة،أو إطعام ستين مسكينا.قال صاحب الجواهر:هذا هو المشهور،بل عن الانتصار الإجماع عليه،لقول الامام الصادق عليه السّلام في رجل جعل للّه عليه أن لا يركب محرما سماه فركبه:ان عليه أن يعتق رقبة،أو يصوم شهرين متتابعين،أو يطعم ستين مسكينا.

كفارة صوم الاعتكاف:

قال الفقهاء:من اعتكف متعبدا للّه سبحانه،و صام للاعتكاف،و جامع أيام الصوم،فعليه كفارة كبرى،حتى و لو كان الجماع ليلا،لا نهارا،لأن التكفير انما

ص:26

هو من أجل الاعتكاف،لا من أجل الصوم،و لا تجب الكفارة بغير الجماع إطلاقا،و استدلوا بأن الامام الصادق عليه السّلام سئل عن معتكف واقع أهله؟قال:هو بمنزلة من أفطر يوما من شهر رمضان.و يأتي الكلام عن الاعتكاف.

و اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن الكفارة لا تجب في غير هذه الأربعة، كصوم النذر غير المعين،أي في يوم من الأيام،و صوم الكفارات،و الصوم المستحب،و قال صاحب الجواهر:بل لا يبعد جواز الإفطار قبل الزوال و بعده في صوم هذه الأشياء غير الأربعة المتقدمة،حيث لا دليل يدل على إبطال العمل بوجه العموم.

تعدد الكفارة:
اشارة

إذا أتى بالمفطر الموجب للكفارة،أكثر من مرة،كما لو أكل و شرب و جامع،أو أكل مرات،و شرب و جامع كذلك،فهل تتعدد الكفارة بتعدد الموجب للإفطار،أو تكفي كفارة واحدة؟

الجواب:

إذا تناول المفطر في أكثر من يوم تعددت الكفارة بتعدد الأيام التي أفطر فيها بالاتفاق،و اختلفوا فيما إذا تكرر ذلك منه في يوم واحد،فقال جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الشرائع،و صاحب المدارك،و صاحب المستمسك:ان عليه كفارة واحدة بدون فرق بين أن يكون المفطر الذي تعدد من نوع واحد،كما لو أكل مرات عديدة،أو شرب كذلك،و بين أن يكون من أنواع عديدة،كما لو أكل،ثم جامع،و لا بين الوطء و غير الوطء.

و هو الحق،لأن الشارع قد أناط وجوب التكفير بتناول المفطر،و ليس من

ص:27

شك أن هذا التناول انما يصدق في نظر العرف على من أكل أو شرب للمرة الأولى،و لا يصدق عليه لو كرر ثانية،إذ لا معنى لافطار المفطر.أما تحريم الأكل ثانية عليه فلأن الإمساك واجب بذاته،لا لأنه وسيلة.و بكلمة ان الأكل الموجب للكفارة هو الأكل المفسد للصوم،لا مطلق الأكل المحرم،فالأكلة الثانية،و ان كانت محرمة،و لكنها غير مفسدة،بخلاف الأولى فإنها محرمة و مفسدة في وقت واحد،هذا بالإضافة إلى أصل البراءة من وجوب ما زاد على كفارة واحدة.

أفطر ثم سقط الصوم:
اشارة

إذا أفطر عامدا في شهر رمضان،ثم سافر،أو تبين ان الصوم غير واجب عليه،لمرض أصابه،أو جنون،أو إغماء،أو طرأ الحيض على المرأة في آخر النهار،فهل تجب الكفارة،و الحال هذه،أو لا؟

الجواب:

قال صاحب المدارك:ذهب أكثر الفقهاء الى وجوب الكفارة عليه،و انها لا تسقط عنه،و استدلوا بأنه أفسد صوما واجبا من رمضان،فاستقرت عليه الكفارة، كما لو لم يطرأ العذر من الأساس.

و الحق عندنا يستدعي التفصيل بين ان يتبين و ينكشف وجود العذر واقعا و حقيقة،كما لو عرض على الصائم المرض،أو الجنون،أو الإغماء،أو الحيض، و بين العذر الذي يريد أن يفتعله الصائم المفطر من تلقائه كالسفر،و على الأول فلا قضاء عليه و لا كفارة،حيث لا تكليف من الأساس،و على الثاني يلزمه القضاء و الكفارة،معاملة له بخلاف قصده.

ص:28

كفارة و ضرب:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أتى زوجته،و هو صائم،و هي صائمة؟ فقال:ان استكرهها فعليه كفارتان،و ان طاوعته فعليه كفارة،و عليها كفارة،و ان أكرهها فعليه ضرب خمسين سوطا،نصف الحد،و ان كانت طاوعته ضرب خمسة و عشرين سوطا،و ضربت خمسة و عشرين سوطا.

و في الحالين لا بد من اضافة الضرب و التعزير بالقياس اليه.و إذا أكرهت الزوجة زوجها فلا تتحمل عنه شيئا وقوفا على محل النص.

قتل المفطر المعاند و المتهاون:

من أنكر وجوب الصوم من الأساس فهو مرتد،و راد على اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجب قتله بالاتفاق،و من آمن بوجوبه،و لكن تركه تهاونا و استخفافا،عزر بما يراه الحاكم،و قيل بخمسة و عشرين سوطا،فان عاد عزر ثانية،فان عاد قتل،حيث ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن أهل الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد مرتين قتلوا في الثالثة.و قيل:يقتلون في الرابعة.

العجز عن الكفارة:
اشارة

إذا فعل الصائم ما يوجب التكفير،و عجز عن الكفارة،و لم يستطع ان يصوم شهرين،و لا ان يعتق رقبة،و لا ان يطعم ستين مسكينا فما ذا يصنع؟

الجواب:

إذا عجز عن ذلك كله كفاه صيام ثمانية عشر يوما متتابعة،و ان عجز عنها تصدق بما يطيق،و ان عجز عن الصدقة استغفر ربه،و في ذلك روايات عن أهل

ص:29

البيت عليهم السّلام عمل بها الفقهاء،منها قول الامام الصادق عليه السّلام:كل من عجز عن الكفارة التي تجب عليه في صوم،أو عتق،أو صدقة،أو يمين،أو نذر،أو قتل،أو غير ذلك مما يجب على صاحبه فيه الكفارة فالاستغفار له كفارة ما خلا يمين الظهار.

مصرف الكفارة:

من أراد أن يكفر بإطعام ستين مسكينا دعا هذا العدد من الفقراء الى بيته دفعة واحدة،أو بالتتابع،و أطعمهم حتى يشبعهم،و له أن يعطي كل نسمة مدا من القمح و ما إليه،على أن لا يزيد للنفر الواحد عن المد،و ان زاد عليه حسب له إطعام مسكين واحد،أجل،لمن كان يعول أكثر من واحد أعطاه من الأمداد بعدد ما يعول،و المد الشرعي أكثر من 800 غرام بقليل.

ص:30

الصوم و القضاء

اشارة

من تتبع آثار أهل البيت عليهم السّلام،و أقوال الفقهاء في الصوم،و توابعه يجد أن لتناول المفطر في رمضان حالات:منها ما لا يوجب قضاء و لا كفارة،كمن أكل ذاهلا عن صيامه،و منها ما يوجب القضاء و الكفارة معا كمن أكل عالما عامدا، و تقدم الكلام مفصلا في فصل«الكفارة»،و منها ما يوجب الكفارة دون القضاء، و منها ما يوجب القضاء دون الكفارة.و يتعرض هذا الفصل للأخيرين،و ما يتصل بهما،و يناسبهما.

كفارة بلا قضاء:

تجب الكفارة دون القضاء في الموارد التالية:

1-الشيخ و الشيخة الطاعنان في السن،إذا كان في الصوم مشقة زائدة عليهما،و انهيار في قواهما فلهما،و الحال هذه،أن يصوما،و يضاعف لهما الأجر،و لهما أن يفطرا و يكفّرا عن كل يوم بإطعام مسكين،و لا قضاء عليهما.قال الامام الباقر أبو الامام الصادق عليهما السّلام:الشيخ الكبير،و الذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان،و يتصدق كل منهما عن كل يوم بمد من طعام، و لا قضاء عليهما.و قيل،ان الآية 184 من سورة البقرة نزلت في ذلك،و هي قوله

ص:31

تعالى وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .و معنى من تطوع خيرا من زاد على إطعام المسكين.

2-من به داء العطاش،و هو داء لا يروى صاحبه من الماء،فإنه يفطر، و يكفّر بمد،و لا يقضي،تماما كالشيخ و الشيخة.و قيل:إذا شفي يقضي،لأن الأدلة الدالة على وجوب القضاء تشمله.و نجيب بأنّها إذا شملته بحسب الظاهر فإنها مقيدة بقول الامام عليه السّلام:«لا قضاء على الشيخ الكبير،و من به العطاش».

3-إذا تمرض في شهر رمضان،و استمر المرض في شهر رمضان لآخر فلا قضاء عليه،و لكن يكفّر بمد عن كل يوم،فقد سئل الإمام الباقر عليه السّلام عن الرجل يمرض فيدركه شهر رمضان،و يخرج عنه،و هو مريض،و لا يصح،حتى يدركه شهر رمضان آخر؟قال:يتصدق عن الأول،و يصوم الثاني.

4-إذا نسي غسل الجنابة أيام شهر رمضان كله أو بعضه،ثم تذكر فإن الذي يقتضيه الأصل ان يقضي الصلاة دون الصوم،لأن الطهارة من الحدث الأكبر شرط واقعي في الصلاة،و ليست شرطا في الصوم الا مع العلم بالحدث قبل طلوع الفجر،و لذا من نام،ثم أصبح جنبا صح صومه،حتى و لو تعمد ترك الغسل طوال النهار،و بهذا قال ابن إدريس و المحقق الحلي في الشرائع.و لكن أكثر الفقهاء ذهبوا الى وجوب قضاء الصوم و الصلاة،مع اعترافهم جميعا بأن الأوفق بأصول المذهب و قواعده هو قضاء الصلاة دون الصوم،و لكن وجب الخروج عن هذا الأصل،و الحكم بوجوبهما معا لوجود النص،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أجنب في شهر رمضان،فنسي أن يغتسل،حتى خرج رمضان؟قال:عليه أن يقضي الصلاة و الصيام.

ص:32

قضاء بلا كفارة:

يجب القضاء دون الكفارة بهذه الأشياء،و هي:

1-تقدم ان من أجنب في ليلة من رمضان،و نام على نية الغسل،ثم انتبه قبل الفجر،و نام للمرة الثانية،قدمنا ان هذا عليه القضاء دون الكفارة.

2-من نسي غسل الجنابة على المشهور،و ذكرناه قريبا في الفقرة السابقة رقم 4.

3-من أبطل صومه بنية الإفطار،و لم يتناول شيئا من المفطرات،و مثله المرائي بصيامه،و لو ساعة من نهار.

4-من أكل و شرب ليلة الصيام دون ان يبحث و ينظر هل طلع الفجر،ثم تبين تقدم الطلوع على الأكل و الشرب،قال صاحب الجواهر:لا أجد خلافا في أن عليه القضاء دون الكفارة،و يدل عليه أن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أكل و شرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان؟قال:ان كان قد قام،فنظر، فلم ير الفجر،فأكل ثم عاد فرأى الفجر فليتم صومه،و لا اعادة عليه،و ان قام فأكل و شرب،ثم نظر الى الفجر فرأى أنه قد طلع،فليتم صومه،و يقضي يوما آخر، لأنه بدأ بالأكل قبل النظر،فعليه القضاء.

و إذا ثبت القضاء بهذه الرواية،و ما إليها فإن الكفارة تنفى بالأصل،بخاصة أن تناول المفطر لم يكن عن عمد،و قصد.

و كذلك يجب القضاء دون الكفارة إذا أكل و شرب ليلا اعتمادا على قول مخبر ببقاء الليل.قال أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السّلام:قلت له:آمر الجارية أن تنظر:أطلع الفجر أم لا؟فتقول:لم يطلع بعد،فآكل،ثم انظر،فأجده قد كان طلع حين نظرت.فقال:«تتم يومك،و تقضيه،أما انك لو كنت أنت الذي نظرت،ما

ص:33

كان عليك قضاؤه».و هذه الرواية صريحة في أن السبب لسقوط القضاء هو أن يبحث الإنسان و ينظر بنفسه،و لا أثر للتعويل و الاعتماد على الغير.

و تسأل:لو قامت بينة شرعية مؤلفة من عدلين على بقاء الليل،فأكل و شرب معتمدا عليها،فهل يقضي إذا تبين الخلاف؟ الجواب:

أجل،انه يقضي لأن البينة انما هي سبيل لمعرفة الواقع،و قد انكشف العكس،كما هو الفرض،و مجرد اعتبارها،و انها حجة متبعة لا تستدعي سقوط القضاء،و انما تسوّغ الأكل و الشرب،و فائدتها العذر في تناول المفطر فقط،لا في سقوط القضاء.فشأنها في ذلك تماما كشأن الاستصحاب،و الدليل الشرعي قد أناط سقوط القضاء بمباشرة الصائم للبحث و النظر بنفسه،لا بتوسط غيره.

5-إذا أخبره مخبر بطلوع الفجر،و مع ذلك أكل و شرب ظانا بأنّه غير جاد فتبين أنه صادق بقوله،فينفي عنه وجوب الكفارة بالأصل،و يثبت عليه القضاء بالإجماع و النص،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل خرج في شهر رمضان،و أصحابه يتسحرون في بيت،فنظر إلى الفجر فناداهم،فكف بعضهم، و ظن بعضهم أنه يسخر،فأكل؟قال:يتم صومه،و يقضي.

6-من الصور التي يقضي فيها و لا يكفر أن يخبره مخبر بدخول الليل، فيأكل أو يشرب،أو ما إلى ذاك اعتمادا على خبره،ثم يتبين بقاء الليل و لا فرق في ذلك بين أن يكون المخبر واحدا،أو أكثر،و لا بين البينة الشرعية و غيرها بعد أن تبين الخلاف،بل لا فرق بين من يجوز له التقليد كالعمي،و بين من لا يجوز له ذلك،لأنه لا منافاة بين جواز الإفطار،و بين ثبوت القضاء،بل و لا بين ثبوت الكفارة أيضا،كما مر في مسألة الشيخ،و من استمر مرضه عاما كاملا.

ص:34

و تسأل،إذا لم يخبره أو يشهد أحد بدخول الليل،و انما تناول المفطر،لأنه هو بنفسه توهم و تخيل دخول الليل،فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ الجواب:

انه يقضي في حالة،و لا يقضي في حالة أخرى،و إليك البيان:

إذا لم يعلم الصائم ان في السماء غيما،و لا آية علة،ثم عرضت غمامة سوداء أوقعت الصائم في الخطأ و الاشتباه،و ظن معها أن الليل قد دخل،و بعد أن تناول المفطر انجلت الغمامة،و بانت الشمس،إذا كان الأمر كذلك وجب عليه القضاء.و الدليل على ذلك ان الامام الصادق عليه السّلام سئل عن قوم صاموا شهر رمضان،فغشيهم سحاب أسود عند غروب الشمس،فظن أنه ليل،فأفطروا،ثم انجلى السحاب،فإذا الشمس؟فقال:على الذي أفطر صيام ذلك اليوم،ان اللّه يقول أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فمن أكل قبل أن يدخل الليل فعليه قضاؤه،لأنه أكل متعمدا.

فقوله:«فغشيهم سحاب أسود فظن أن السحاب ليل»نص خاص في نفس الغرض الذي افترضناه.

و إذا علم الصائم أن في السماء علة من غيم و ما إليه،و ظن دخول الليل فلا قضاء عليه،و يدل على ذلك ان الامام الصادق عليه السّلام قد سئل عن رجل صام،ثم ظن أن الشمس قد غابت،و في السماء غيم،فأفطر،ثم أن السحاب انجلى،فإذا الشمس لم تغب؟قال:قد تم صومه،و لا يقضيه (1).

ص:35


1- اختلف الفقهاء في هذه المسألة و تعددت أقوالهم تبعا لتعدد الروايات و اختلافها،و الذي ذكرناه هو ما ذهب اليه صاحب الجواهر [1]فتوى و دليلا،و قسم الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه [2]هذا الصائم إلى أقسام:الأول أن يكون قد أقدم بعد أن بحث و تحرى،و حصل له العلم و الجزم،و هذا لا قضاء عليه،و لا كفارة.الثاني ان يقدم على الإفطار بمجرد توهم دخول الليل دون أن يعتمد على أمر معقول بحيث يعد في نظر العرف غير مبال و لا مكترث،و هذا عليه القضاء و الكفارة. الثالث أن يقدم لوجود أمارة موهمة بحيث يظن معها كل انسان بدخول الليل.و هذا عليه القضاء دون الكفارة.بل إذا تحرى هذا و كان في السماء علة فلا قضاء عليه و ان لم يحصل القطع و العلم،بل يكفي مجرد الظن في هذه الحال،و ما إليها.

7-إذا تمضمض للتبريد،لا للوضوء فسبقه الماء،و دخل في جوفه،فإنه يقضي و لا يكفّر،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل عبث بالماء يتمضمض به من العطش،فدخل في حلقه؟قال:عليه القضاء،و ان كان في وضوء فلا بأس.

8-أن يتعمد الصائم القيء،فإنه موجب للقضاء دون الكفارة،و إذا سبقه القيء قهرا فلا شيء عليه،لقول الامام الصادق عليه السّلام:إذا تقيأ الصائم فعليه قضاء ذلك اليوم،و ان ذرعه من غير أن يتقيأ فليتم صومه،أي إذا سبقه القيء قهرا عنه صح صومه،و لا شيء عليه.

9-تقدم في مطاوي الأبحاث السابقة أن الحائض و النفساء تقضيان الصوم دون الصلاة،و ان المستحاضة يجب عليها أن تؤديهما في الوقت المعين،و إذا أخلت بالأداء وجب القضاء عليها بالاتفاق.

المرض:

المرض المسوغ للإفطار هو أن يكون الإنسان مريضا بالفعل،و إذا صام في مرضه ازداد كما أو كيفا،بحيث تشتد آلامه،أو تزيد أيامه،أو يكون صحيحا، و لكن يخشى إذا هو صام أن يحدث له الصوم مرضا جديدا،أما مجرد الضعف الهزال فلا يسوّغ الإفطار ما دام متحملا،و الجسم سالما،و يدل على هذا الأدلة أربعة:الكتاب و السنة و الإجماع و العقل،قال تعالى:

ص:36

وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ (1).و من السنة:«كل شيء من المرض أضر به الصوم فهو يسعه ترك الصوم».و قال الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا خاف الصائم على عينيه من الرمد أفطر».و هو ظاهر في الخوف من حدوث المرض و تجدده.

و المعول في معرفة الضرر على علم الإنسان،أو ظنه ظنا معقولا ناشئا من التجارب التي يمر بها،أو من قول خبير،لقول الامام الصادق عليه السّلام،و قد سئل عن حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار:«هو مؤتمن عليه مفوض إليه، فإن وجد ضعفا فليفطر،و ان وجد قوة فليصمه كائنا المرض ما كان».هذا، بالإضافة الى أن الضرر المظنون يجب دفعه شرعا و عقلا.

و لو قال له الطبيب:يضرك الصوم،و علم الصائم بعدم الضرر،أو قال له:لا يضرك،و علم هو بالضرر،عوّل على علمه لا على قول الطبيب،حيث لا دليل على أن قول الطبيب حجة متبعة،حتى مع العلم أو الظن بخطئه.و انما يرجع إلى الطبيب إذا حصل الظن بالضرر من قوله،لا مطلقا،و عليه تكون العبرة بالظن الذي يجب دفعه عقلا و شرعا،لا بقول الطبيب.

و إذا صام المريض معتقدا عدم الضرر فبان العكس،فسد صومه و عليه القضاء،لقوله تعالى وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً .و قول الامام عليه السّلام:«فان صام في السفر، أو في حال المرض فعليه القضاء».فان الحكم في هذه الأدلة و ما إليها،قد تعلق بالمرض الواقعي،لا بعدم العلم بالمرض،اما ما ذهب اليه السيد الحكيم في المستمسك من صحة الصوم في مثل هذه الحال،لأن الصوم محبوب في الواقع، و انما سقط الأمر به،لأنه مزاحم بواجب أهم،و هو الأمر بحفظ النفس،فإذا صام المريض بداعي المحبوبية،صح صومه،أما هذا التعليل فهو نظرية مجردة لا

ص:37


1- النساء:42. [1]

تمت الى الواقع بسبب.

و مهما يكن،فإذا أفطر المريض أياما من رمضان،و استمر المرض الى رمضان ثان،كفّر عن كل يوم بإطعام مسكين،و لا قضاء عليه،كما تقدم،و إذا عوفي من مرضه قبل نهاية السنة،بحيث يستطيع القضاء قبل أن يدخل رمضان آخر،وجب عليه القضاء بلا كفارة.

السفر:

لقد اشتهر عن الرسول و آل بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ليس من البر الصيام في السفر».

و أيضا اشتهر عنهم عليهم السّلام:«إذا قصرت أفطرت».

و قد تكرر في كتب الفقهاء:«أن كل سفر يوجب قصر الصلاة فإنه يوجب الإفطار و بالعكس»و لم يستثنوا من هذه القاعدة إلاّ أربعة موارد:

1-من سافر بقصد الصيد للتجارة،فإنه يتم الصلاة،و يصوم.

2-من خرج من بيته مسافرا بعد الزوال،يبقى على الصيام،و يؤدي الصلاة قصرا،ان لم يكن قد صلاها قبل سفره.

3-من دخل الى بيته بعد الزوال،فإنه يتم الصلاة،ان لم يكن قد أداها في سفره،مع العلم بأنه مفطر.

4-من كان في حرم اللّه،أو حرم الرسول،أو مسجد الكوفة،أو الحائر الحسيني،فإنه مخير بين القصر و التمام،و يتعين عليه الإفطار،و تقدم التنبيه على ذلك.

و مهما يكن،فإن شروط القصر للصلاة هي شروط الإفطار في السفر،من نية قطع ثمانية فراسخ امتدادية،أو ملفقة،و ان يكون السفر سائغا لا محرما،و ان

ص:38

لا يتخذ السفر حرفة و مهنة،و لا يقيم عشرة أيام،و لا يتردد ثلاثين يوما،و إذا خرج المسافر من بيته قبل الزوال أفطر،و إذا خرج بعده بقي على صومه،و إذا عاد و دخل بيته قبل الزوال و لم يكن قد تناول المفطر،تعين عليه الصوم،و ان كان قد تناوله أفطر و قضى،و لكن يستحب له الإمساك ظاهرا،بحيث لا يتناول المفطر أمام الناس.

و قال صاحب الشرائع،و العروة الوثقى:إذا أفطر المسافر قبل أن يصل الى حد الترخيص وجب عليه القضاء و الكفارة،و نقول:و إذا تم هذا فإنما يتم في حق العالم بالتحريم،لأنه أفسد صوما واجبا في شهر رمضان،أما الجاهل فلا شيء عليه،تماما كمن تناول شيئا من المفطرات غير عالم بوجوب الإمساك عنها،و قد بينا ذلك مع الدليل في فصل«فساد الصوم و وجوب الكفارة»فقرة«الجهل».

فراجع.

و نقل السيد الحكيم عن المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ان للإنسان أن يسافر في شهر رمضان اختيارا،و لو كان السفر فرارا من الصوم،لأن الإمام الباقر أبا جعفر الصادق عليهما السّلام سئل عن الصائم يعرض له السفر في شهر رمضان،و هو مقيم،و قد مضى منه أيام؟فقال:لا بأس بأن يسافر و يفطر.

قضاء الولي عن الميت:

إذا وجب الصوم على انسان لقضاء رمضان،أو غيره،و مضى أمد تمكن فيه من إتيان ما وجب عليه،و لكنه أهمل و تهاون حتى مات،كان على وليه أن يقضي عنه ما فاته،سواء أ كان الفوات بسبب المرض أو السفر أو غيره،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده إلا ما نقل عن ابن أبي عقيل،و قد سئل الإمام

ص:39

الصادق عليه السّلام عن الرجل يموت،و عليه صلاة أو صيام؟قال:يقضي عنه أولى الناس بميراثه.قال السائل:فإن كان أولى الناس بميراثه امرأة؟قال الإمام عليه السّلام:لا، إلاّ الرجال.

و قد بينا من هو المراد بأولى الناس،بميراث الميت،و ما يتصل بهذه المسألة في باب الصلاة فصل«قضاء الصلاة»فقرة«الولد الأكبر يقضي عن والديه».فراجع إن شئت.

ص:40

ثبوت الهلال

اشارة

يثبت هلال رمضان و غيره بالطرق التالية:

الرؤية:

1-قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا رأيت الهلال فصم،و إذا رأيته فأفطر،أما حديث:«صوموا للرؤية،و أفطروا للرؤية»فقد تواتر و دار على كل لسان.

و أجمع الفقهاء على كلمة واحدة على أن من تفرد برؤية هلال رمضان وجب عليه الصوم،حتى و لو أفطر الناس جميعا،و إذا أفطر فعليه القضاء و الكفارة،و إذا تفرد برؤية هلال شوال حرم عليه الصوم،حتى و لو صام الناس جميعا،فإذا صام فعل محرما،الا ان يمسك لا بنية الصيام،بل بنية المجاراة،أو ما إليها.

الشياع:

2-ليس معنى الشياع الذي يثبت به الهلال ان تصوم طائفة،أو أهل قطر أو بلد،اعتمادا على حكم متطفل بان غدا من رمضان،أو يفطروا لحكمه بان غدا من شوال،كلا،فإن هذا إفطار بالرأي،لا بالرؤية،و بالوهم،لا بالعلم.ان معنى

ص:41

الشياع الذي يثبت به الهلال هو أن تكون رؤية الهلال عامة،لا خاصة،هو أن يراه العدد الكثير،و الجمّ الغفير،بحيث يمتنع بحسب العادة أن يتواطؤوا على الكذب،و من أجل هذا تطمئن النفس و تركن الى هذا الشياع،و من أجله أيضا لا يشترط الايمان فضلا عن العدالة في افراد الشياع.

و على هذا المعنى،أي شياع الرؤية،لا الرأي و لا شياع الإفطار أو الصيام يحمل قول الإمام عليه السّلام:«الفطر يوم يفطر الناس،و الأضحى يوم يضحي الناس، و الصوم يوم يصوم الناس»،يجب ان يحمل هذا القول،و ما في معناه من كلمات أهل البيت عليهم السّلام على رؤية الهلال العامة،أو على أي مسوغ شرعي،كما لو رأيت بين الناس الذين ضحوا،و أفطروا من تثق بدينه و معرفته و تحفّظه،تماما كما لو رأيت اماما مجهولا لديك يصلي خلفه الجمّ الغفير،و تعرف منهم من تثق به، فتقتدي بالإمام من أجل من تثق به،لا من أجل الجمع الكثير.

إكمال العدد:

3-من طرق ثبوت الهلال إكمال العدد،فأي شهر قمري ثبت أوّله،ينتهي حتما بمضي ثلاثين يوما،و يدخل الذي يليه،لأنه لا يزيد عن 30،و لا ينقص عن 29،فإذا ثبت أول شعبان كان اليوم الواحد و الثلاثون من رمضان قطعا،و إذا عرفنا أوّل رمضان فالواحد و الثلاثون من شوال،قال الإمام الصادق عليه السّلام:فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ليلة،ثم أفطروا.و قال:إذا خفي الشهر فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوما،و صوموا الواحد و الثلاثين.

ص:42

البينة الشرعية:

4-يثبت الهلال بشهادة رجلين عدلين،و لا أثر للواحد،و لا لشهادة النساء منفردات عن الرجال،أو منضمّات إليهم،و ان كثرن.قال الإمام الصادق عليه السّلام:صم لرؤية الهلال،و أفطر لرؤيته،و ان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه.و قال أيضا:لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلاّ شهادة رجلين عدلين.و ما عدا هذه الرواية مما يخالف معناها فشاذ متروك.

و على كل من يثق بعدالة الشاهدين أن يعمل بقولهما و لا يجوز له ان يخالف شهادتهما،حتى و لو ردها الحاكم.

حكم الحاكم الشرعي:
اشارة

5-إذا حكم الحاكم الشرعي بأن غدا من رمضان،أو من شوال،فلمن علم أنه قد استند في حكمه هذا الى ما لا يجوز الاستناد اليه شرعا يحرم عليه العمل به بالاتفاق،و لمن علم أنه قد استند الى ما يجوز الاعتماد عليه شرعا وجب العمل به بالاتفاق ايضا،و لكن لمكان العلم،لا لحكم الحاكم،و إذا لم يعلم خطأه و لا صوابه،فهل يجوز العمل به أو لا؟

الجواب:

قال صاحب الحدائق:ان الظاهر من أقوال الفقهاء وجوب العمل بحكم الحاكم الشرعي متى ثبت ذلك عنده و حكم به،ثم نقل عن عالم فاضل لم يذكر اسمه ان الحاكم الشرعي انما يرجع إليه في الدعاوي و الفصل في الخصومات، و في الفتوى بالأحكام الشرعية،أما حكمه بالموضوعات الخارجية،و ان هذا غصب،أو ان الوقت قد دخل،و ما إلى ذلك فلا دليل على وجوب اتباعه و العمل

ص:43

بأقواله،ثم قال صاحب الحدائق:و المسألة عندي موضع توقف و اشكال،لعدم الدليل الواضح على وجوب الأخذ بحكم الحاكم في الموضوعات.

و نحن نعتقد أن المعصوم وحده هو الذي يجب اتباعه في جميع أقواله و أفعاله،سواء أ كانت من الموضوعات،أم من غيرها،أما النائب و الوكيل فلا، بداهة أن النائب غير المنوب عنه،و الوكيل غير الأصيل،و ليس من الضرورة ان يكون النائب في شيء نائبا في كل شيء،و أيضا نعتقد أن من قال و ادعى ان للمجتهد العادل كل ما للمعصوم هو واحد من اثنين،لا ثالث لهما،اما ذاهل مغفل،و اما أنه يجر النار لقرصه،و يزعم لنفسه ما خص اللّه به صفوة الصفوة من خلقه،و هم النبي و أهل بيته عليهم السّلام.و أعوذ باللّه من هذه الدعوى و صاحبها.

أقوال الفلكيين:

6-إذا عطفنا حديث«صوموا للرؤية،و أفطروا للرؤية»المتفق عليه عند المسلمين جميعا،و أيضا عطفنا اتفاقهم ان المتعين هو صوم شهر رمضان الذي يختلف مع الشهرين الحافّين به شعبان و شوال نقصانا و تماما بين 29 و 30 يوما، إذا عطفنا هذين المبدأين على اختلاف المسلمين و تفاوتهم في صدق من يدعي رؤية الهلال،و ان بعضهم يثق بدعواه دون بعض،إذا عطفنا هذه بعضها على بعض،و جمعناها في جملة واحدة جاءت النتيجة الحتمية القهرية ان تصوم فئة، و تفطر اخرى،و قد يكون الصائم من طائفة و المفطر من طائفة ثانية،و قد يكونان من طائفة واحدة تبعا للوثوق و عدمه،كما حدث في العام الماضي 1964،حيث أفطر مرجع من مراجع النجف الأشرف هو و مقلدوه يوم الجمعة،و أفطر المرجع الآخر في النجف بالذات هو و مقلدوه يوم السبت،و كما حدث أيضا سنة 1939،

ص:44

حيث كان عيد الأضحى في مصر يوم الاثنين،و في السعودية يوم الثلاثاء،و في بومباي يوم الأربعاء،مع العلم بأن الجميع من السنة.و اذن،ليست المسألة مسألة اختلاف بين الطوائف و المذاهب،بل مسألة ثقة و عدم الثقة بمدعي الرؤية.

و غفلة عن هذه الحقيقة شاع،و تردد على ألسن كثيرين هذا التساؤل:لما ذا لا يتفادى المسلمون هذه الفوضى،و هذا الاختلاف-و ان لم يكن طائفيا- يتفادونه بالرجوع الى العلم،و أقوال الفلكيين الذين يولدون الهلال؟.و أيضا شاع الجواب عن هذا التساؤل بين الشيوخ أو بعضهم بأن الشرع الذي أمرنا بالصوم قد أمرنا أيضا أن نفطر للرؤية،و الذي يفهمه الناس من الرؤية،بخاصة في عهد الرسالة،هي البصرية لا الرؤية العلمية،و مقتضى ذلك أن لا نعتني بغيرها مهما كان،و يكون.

و عندي أن هذا السؤال لا يتجه من الأساس،و كذلك الجواب الذي بني عليه،لأن المبني على الفاسد فاسد مثله،و إليك البيان:

لقد اتفق المسلمون كافة على أن أحكام اللّه سبحانه يجب امتثالها و طاعتها بطريق العلم،و لا يجوز الركون الى الظن،ما وجدنا الى العلم سبيلا،لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا،أجل،نلجأ الى الظن المعتبر الذي نص الشرع عليه، كالظن الحاصل من البينة و ما إليها،نلجأ الى هذا الظن حيث لا طريق الى العلم إطلاقا،و إذا جاز الركون الى البينة المفيدة للظن فبالأولى أن يجوز العمل بالعلم، بل هو المتعين مع إمكانه.

و عليه،فمتى حصل العلم من أقوال الفلكيين وجب على كل من علم بصدقهم ان يعمل بأقوالهم،و لا يجوز له إطلاقا الأخذ بشهادة الشهود،و لا بحكم الحاكم،و لا بشيء يخالف علمه.

ص:45

و تقول:ان قول الشارع:«صوموا للرؤية،و أفطروا للرؤية»يدل على ان العلم الذي يجب اتباعه في ثبوت الهلال هو خصوص العلم الناشئ من الرؤية البصرية لا العلم من أي سبب حصل.

و نقول في الجواب:ان العلم حجة من أي سبب تولد،و ليس للشارع،و لا لغير الشارع أن يفرق بين أسبابه،لأن حجّية العلم ذاتية،و غير مكتسبة،و ليس لأحد أيا كان أن يلغيها،أو يتصرف بها بالتقليم و التعديل.أجل،للشارع أن يعتبر العلم جزءا من موضوعات أحكامه-كما تقرر في الأصول-و لكن الذي نحن فيه أجنبي عن ذلك،لأن الشارع انما اعتبر الرؤية كوسيلة للعلم بالهلال،لا كغاية في نفسها،كما هو الشأن في كل طريق مجهول لمعرفة الأحكام،و بكلمة أن اسم الطريق يدل عليه.

بقي شيء واحد،و هو أن أقوال الفلكيين،هل تفيد العلم القاطع لكل شبهة،تماما كما تفيد الرؤية البصرية،أو لا؟ و يعرف الجواب عن ذلك مما قدمنا من ان المسألة تختلف باختلاف الأشخاص،تماما كمسألة الثقة بمن يدعي الرؤية،و بقول الطبيب إذا أخبر بالضرر، أو عدمه،فمن حصل له العلم من أقوال الفلكيين وجب عليه اتباعهم،و لا يجوز له الأخذ بالبينة،و لا بحكم الحاكم،و لا بغيرهما مما يخالف علمه و يقينه،و الا فلا طريق إلاّ الطرق الشرعية الأخرى التي ذكرناها من البينة و ما إليها.و مهما يكن، فإن لنا و لغيرنا أن نقول:ان كلام الفلكيين حتى الآن مبني على التقريب،لا على التحقيق بدليل اختلافهم،و تضارب أقوالهم في تعيين الليلة التي يتولد فيها الهلال، و في ساعة ميلاده،و في مدة بقائه.و متى جاء الزمن الذي تتوافر فيه للعلماء أسباب المعرفة الدقيقة الكافية،بحيث تصبح كلمتهم واحدة في التوليد،و يتكرر

ص:46

صدقهم المرة تلو المرة،حتى تعد أقوالهم من القطعيات،تماما كأيام الأسبوع، فيمكن،و الحال هذه،الاعتماد عليهم و الرجوع إليهم في أمر الهلال و ثبوته، حيث يحصل العلم للجميع من أقوالهم لا لفرد دون فرد،أو فئة دون فئة.

ص:47

ص:48

الاعتكاف

معنى الاعتكاف

الاعتكاف و العكوف في كلام العرب هو الإقامة على الشيء بالمكان،يقال عكف،أو اعتكف فلان مكان كذا إذا أقام فيه،و لم يخرج منه،قال تعالى ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (1).و في الشرع الإقامة على شيء خاص،في مكان خاص،بشروط معينة،و يأتي بيانها جميعا.

استحباب الاعتكاف:

و الاعتكاف مشروع و مستحب بالكتاب و السنة و الإجماع،فمن الكتاب قوله عز و جل أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (2)و من السنة قول الإمام الصادق عليه السّلام:«اعتكف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شهر رمضان في العشرة الأولى،ثم اعتكف في الثانية في العشرة الوسطى،ثم اعتكف في الثالثة في العشرة الأخيرة،ثم لم يزل يعتكف في هذه الأخيرة.»الى غير ذلك من الروايات.

ص:49


1- الأنبياء:52. [1]
2- البقرة:125. [2]
الشروط:

1 و 2 و 3-الايمان،و العقل،و نية التقرب الى اللّه،لأن الاعتكاف عبادة، و لا تصح العبادة إلا بهذه الأوصاف.

4-الصوم،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا اعتكاف الا بصوم».و عليه فلا يصح الاعتكاف في العيدين،حيث يحرم الصوم فيهما،و لا من الحائض و النفساء،حيث يحرم الصوم عليهما،كما يحرم المكث في المساجد.

5-أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع،أي في مسجد البلد العام،لا مسجد الحي،أو الأسرة،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:يعتكف في المسجد الجامع، و أفضلها جميعا المساجد الأربعة،و هي مسجد حرم اللّه،و مسجد حرم الرسول، و مسجد الكوفة،و مسجد البصرة.

6-ان لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام بليلتين،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام».

7-استدامة اللبث في المسجد،بمعنى أن لا يخرج منه بغير سبب موجب، لقول الامام الصادق عليه السّلام:لا ينبغي ان يخرج معتكف من المسجد إلاّ لحاجة لا بد منها،ثم لا يجلس،حتى يرجع-أي لا يتأخر مهما أمكن-و لا يخرج لشيء إلاّ لجنازة،أو يعود مريضا،و لا يجلس،حتى يرجع.

مسائل:
1-ينقسم الاعتكاف الى واجب،و مندوب

،و الأول ما وجب بنذر،أو عهد،أو يمين.و الثاني ما يتبرع به الإنسان بدافع العبادة المقربة من اللّه سبحانه.

و الواجب إذا كان معينا في زمان خاص،كمن نذر أن يعتكف الأيام البيض من

ص:50

شعبان،فمتى باشر لا يجوز له العدول عنه،لا في اليوم الأول،و لا في الذي يليه.

اما المندوب فله ان يعدل عنه قبل انقضاء اليومين الأول و الثاني،فإذا مضيا وجب الثالث حتما.قال الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:من اعتكف ثلاثة أيام فهو في الرابع بالخيار،ان شاء زاد ثلاثة أيام أخر،و ان شاء خرج من المسجد،فإن أقام يومين بعد الثلاثة،فلا يخرج من المسجد حتى يتم ثلاثة أيام أخر.

2-لا يجب أن يكون الصوم خاصا بالاعتكاف

،بل يكفي مطلق الصوم، حتى و لو كان لغاية أخرى.قال صاحب الجواهر:ان شرط الصوم للاعتكاف كشرط الطهارة للصلاة،لا يعتبر فيه الوقوع له،بل يكفي في صحة الاعتكاف وقوعه معه،و ان لم يكن له،سواء أ كان الصوم واجبا،أم ندبا،و سواء أ كان الواجب لرمضان،أم لغيره،بلا خلاف فيه.

3-يحرم على المعتكف مباشرة النساء،و على المعتكفة مباشرة الرجال

، ليلا و نهارا،حتى اللمس و التقبيل بشهوة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا يأتي امرأته ليلا و لا نهارا،و هو معتكف»و إذا جامع امرأته ليلا،أو نهارا في غير شهر رمضان فعليه كفارة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن معتكف واقع اهله؟قال:عليه ما على الذي أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا،عتق رقبة،أو صيام شهرين متتابعين،أو إطعام ستين مسكينا.و أيضا سئل عن معتكف وطأ امرأته ليلا في شهر رمضان؟قال:عليه كفارة.قال السائل فإن وطأها نهارا؟قال:عليه كفارتان- واحدة للاعتكاف،و الثانية للإفطار في شهر رمضان.

و أيضا يحرم على المعتكف الاستمناء على ما قاله صاحب الشرائع.و قال صاحب الجواهر و المدارك:لم نقف فيه على نص بالخصوص.

و أيضا يحرم عليه البيع و الشراء،و شم الطيب،و الرياحين،و المماراة،

ص:51

لقول الإمام الصادق عليه السّلام:المعتكف لا يشم الطيب،و لا يتلذذ بالرياحين،و لا يماري،و لا يشتري،و لا يبيع.

و المراد بالمماراة،المجادلة و المنازعة في شيء من أشياء الدنيا،أو في مسألة دينية حبا بالغلبة و الظهور.و لا فرق في تحريم المذكورات،و ما إليها بين وقوعها ليلا و نهارا،لأن الاعتكاف واقع فيهما.و بما ان الصوم شرط في الاعتكاف،فكل ما يفسد الصوم يفسد الاعتكاف،بداهة ان المشروط عدم عند عدم شرطه،على تعبير الفقهاء و الأصوليين.

4-إذا فسد الاعتكاف بشيء مما ذكرنا،فهل يجب إعادته ثانية أو لا
اشارة

؟

الجواب:

ينظر:فان كان واجبا فلا بد من الإعادة بنية القضاء،ان كان وقته معينا،و قد مضى،و بنية الأداء ان لم يمض الوقت،لوجوب الطاعة و الامتثال في الأداء، و للأمر بقضاء ما فات في غيره،و إذا كان الاعتكاف مستحبا،و بطل قبل مضي اليومين فلا شيء عليه،لعدم الوجوب من الأساس،و الفرع لا يزيد على الأصل، و ان كان بعد مضيهما وجبت الإعادة،لمكان الوجوب،كما تقدم.

ص:52

كتاب الزكاة

معنى الزكاة:

معنى الزكاة في اللغة النمو،و منه قول العرب زكا الزرع،أي نما و طاب، و منه أيضا قوله تعالى أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ (1).

و في الشرع اسم للصدقة الواجبة من المال،لأن فاعلها،يزكو بفعلها عند اللّه سبحانه،و يصير من الطاهرين المطهرين،و تومئ الى هذا المعنى الآية الكريمة خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها (2).

الوجوب:

و الزكاة واجبة بضرورة الدين،تماما كالصلاة،و يخرج منكرها من الإسلام،و لذا قرنها اللّه سبحانه بالصلاة في أكثر من آية في كتابه،من ذلك قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ . فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ . فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ . وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ .

ص:53


1- الكهف:75. [1]
2- التوبة:104. [2]

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى إلى غير ذلك.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان اللّه عز و جل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم،و لو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم.انهم لم يؤتوا من قبل فريضة اللّه عزّ و جل،و لكن أوتوا من منع من منعهم حقهم،لا مما فرض اللّه لهم،و لو أن الناس أدوا حقوقهم كانوا عائشين بخير.

و هذه الرواية تدل بصراحة و وضوح على أن الفقر من الأرض لا من السماء،و من ظلم الناس بعضهم بعضا،لا من اللّه جل شأنه،و عظمت حكمته.

و قال أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:لا يسأل اللّه عز و جل عبدا عن صلاة بعد الفريضة،و لا عن صدقة بعد الزكاة،و لا عن صوم بعد شهر رمضان.

و الكلام في الزكاة يكون أولا فيمن تجب عليه،و ثانيا فيما تجب فيه من الأموال،و ثالثا إلى من تصرف من المستحقين.

من تجب عليه الزكاة:

يشترط فيمن تجب عليه الزكاة هذه الشروط:
1-البلوغ

،فلا تجب على غير البالغ،قال يونس بن يعقوب:أرسلت للإمام الصادق عليه السّلام أن لي إخوة صغارا،فمتى تجب على أموالهم الزكاة؟قال:إذا وجبت عليهم الصلاة،وجبت عليهم الزكاة.و قال:ليس في مال اليتيم زكاة، و ليس عليه صلاة،و ليس على جميع غلاته من نخل أو زرع أو غلة زكاة،و ان بلغ اليتيم فليس عليه لما مضى زكاة،و لا عليه لما يستقبل،حتى يدرك،فإذا أدرك كانت عليه زكاة واحدة،و كان عليه مثل ما على غيره من الناس.

ص:54

و قد عمل مشهور الفقهاء بهذه الرواية و ما إليها،و هي حجة على من قال بوجوب الزكاة في غير النقدين من أموال غير البالغين.أجل يستحب للولي أبا كان أو جدا أو حاكما شرعيا أن يزكي أموال الطفل.

2-العقل

،قال صاحب الجواهر:ذهب المشهور الى أن حكم المجنون حكم الطفل في جميع ما تقدم-يريد عدم وجوب الزكاة على الطفل-ثم قال:

و هذا مشكل،حيث لا دليل يعتد به على هذه التسوية الاّ مصادرات لا ينبغي للفقيه الركون إليها (1).

3-ان يكون المال ملكا تاما لصاحبه،متمكنا من التصرف فيه
اشارة

،فلا زكاة في المال الموهوب قبل ان يقبضه الموهوب له،و لا في الموصى له،و لا في الدّين،و لا المغصوب،و المرهون،و لا المحجور،و لا الغائب إلاّ بعد التسلط عليه،و إمكان التصرف فيه،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا صدقة على الدين و لا على المال الغائب عنك،حتى يقع في يدك.و سأله زرارة عن رجل،ماله غائب عنه،و لا يقدر على أخذه؟فقال:لا زكاة عليه،حتى يخرج،فإذا خرج زكاه لعام واحد.

و لا فرق في عدم تعلق الزكاة في الدّين بين أن يكون صاحبه قادرا على أخذه و تحصيله متى شاء،و بين أن لا يقدر على ذلك على ما هو المشهور بين الفقهاء المتأخرين بشهادة صاحب الحدائق.

ص:55


1- و لا يصح الاستدلال على نفي الزكاة في مال الطفل و المجنون بحديث:«رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم،و عن المجنون حتى يفيق»لأن هذا الحديث إنما ينفي المؤاخذة،و الحكم التكليفي دون الحكم الوضعي،و هو هنا ثبوت الزكاة في مال المجنون و الطفل،و تكون فائدة هذا الثبوت أن نعتبر ابتداء الحول الذي يأتي الكلام عنه من حين أن يبلغ المال النصاب،لا من حين البلوغ بالنسبة إلى الصبي،و لا من حين الإفاقة بالنسبة إلى المجنون.

و إذا استقرض انسان من آخر مالا بمقدار النصاب،كعشرين دينارا مثلا، فهل تجب زكاتها على المقرض،و هو صاحب المال،أو على المستقرض الذي استدانه؟

الجواب:

ينظر:فإن تصرف المستقرض بالمال قبل أن يحول عليه الحول فلا شيء عليه،و ان أبقاه عنده،و لم يتصرف فيه كلا أو بعضا،حتى مضى عليه الحول وجبت الزكاة على المستقرض،لأنه تحت تصرفه،و يستطيع الانتفاع به متى شاء،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل دفع إلى رجل مالا قرضا،فعلى من زكاته؟أعلى المقرض،أو المقترض؟قال:لا،بل زكاتها على المقترض،ان كانت موضوعة عنده حولا.

غير المسلم:

اتفق الفقهاء على أن غير المسلم مسؤول و مكلف بالفروع،كما هو مكلف بالأصول،و من أهمها الزكاة،قال تعالى وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ (1)و أيضا اتفقوا على أن العبادة بشتى أقسامها لا تصح منه،لأن نية القربة شرط في صحتها،و اللّه سبحانه لا يقبل الا ممن آمن به و بجميع كتبه و رسله،و لم يفرقوا بين كتاب و كتاب،و لا بين رسول و رسول.

و لا منافاة إطلاقا بين تكليفه بالعبادة،و بين عدم صحتها منه إلاّ بهذا الايمان،لأن الإيمان شرط في الوجود،لا في الوجوب،و مقدمة لإيجاد الواجب في الخارج،و بإمكانه أن يؤمن،و يصلي و يزكي،فإذا أصر على الكفر و الجحود

ص:56


1- فصلت:7. [1]

فقد عصى بإرادته و سوء اختياره،و صحّت مؤاخذته و معاقبته.

و أيضا اتفق الفقهاء كما قال صاحب مصباح الفقيه على أنّه إذا أسلم تسقط عنه الزكاة،كما تسقط عنه الصلاة،عملا بعموم حديث«الإسلام يجبّ ما قبله».

و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه و السيد الحكيم في المستمسك:«ان الزكاة تسقط عن الكافر بمجرد إسلامه،تماما كالصلاة،لتسالم الفقهاء على ذلك، و انه معلوم و مقطوع به من سيرة النبي و آله الكرام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فما عرف عنهم أنهم أوجبوا شيئا من هذه الحقوق على من دخل في الإسلام.

الأعيان التي تجب فيها الزكاة:

اشارة

قال الإمامان الباقر و الصادق عليهما السّلام:فرض اللّه الزكاة مع الصلاة في الأموال، و سنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تسعة أشياء،و عفا عما سواهن،و التسعة هي:الذهب، و الفضة،و الإبل،و البقر،و الغنم،و الحنطة،و الشعير،و التمر،و الزبيب،و عفا رسول اللّه عما سوى ذلك.

و قال الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:ليس في شيء مما أنبتت الأرض من الأرز و الذرة و الحمص و العدس،و سائر الحبوب و الفواكه شيء غير هذه الأربعة الأصناف،و ان كثر ثمنه إلاّ ان يصير ما لا يباع بذهب أو فضة تكنزه،ثم يحول عليه الحول.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الزكاة؟فقال:وضع رسول اللّه الزكاة على تسعة،و عفا عما سوى ذلك:الحنطة و الشعير،و التمر و الزبيب،و الذهب و الفضة،و الإبل و البقر و الغنم.فقال السائل:و الذرة؟فغضب الإمام و قال:كان و اللّه على عهد رسول اللّه السمسم و الذرة و الدخن و جميع ذلك.فقال السائل

ص:57

يقولون:لم يكن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير التسعة،فغضب و قال:كذبوا، فهل يكون العفو إلاّ عن شيء قد كان.لا و اللّه،لا أعرف شيئا عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن،و من شاء فليكفر.

الفقهاء:

قالوا:تجب الزكاة في نوع خاص من الأنعام و من الزرع،و من النقد، و يجمعها جميعا التسعة المذكورة في كلام الإمامين،و هي الإبل و البقر و الغنم من الانعام،و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب من الزرع،و الذهب و الفضة من النقد، و ما عداها تستحب فيه الزكاة،و لا تجب،و استدلوا بما ذكرنا من الروايات، و غيرها مما جاء في معناها.

أمّا غير هذه التسعة فتستحب فيها الزكاة،و لا تجب،و هي كل ما يكال و يوزن من الحبوب عدا الحنطة و الشعير،كالحمص و الأرز و العدس،و الثمار كالتفاح و المشمش،دون الخضار و البقول،و تستحب أيضا في مال التجارة،و في الإناث من الخيل دون المذكور،و دون البغال و الحمير،و في الأملاك العقارية التي تستثمر و تؤجر،كالبساتين و الحوانيت و البنايات المعدة للايجار،لأنّها تدخل في مال التجارة،كما قال صاحب الجواهر.

أمّا الدليل على استحباب الزكاة في هذه الأشياء فهو وجود روايات عن أهل البيت عليهم السّلام تدل بظاهر على وجوب الزكاة فيها،و لكن الفقهاء حملوها على الاستحباب،و قالوا:ان المراد ثبوت الزكاة فيها على سبيل الندب،لا على سبيل الوجوب،جمعا بينها و بين الروايات التي أكدت وجوب الزكاة في التسعة،و نفته عن غيرها.و قد تسالم الفقهاء،و اشتهر بينهم أنه إذا ورد دليلان أحدهما يثبت

ص:58

الوجوب و الإلزام،و الآخر ينفيه أن يحملوا المثبت على الوجوب،و بالأصح يبقوه على ظاهره،و يحملوا النافي على الاستحباب،حتى أصبح ذلك عندهم قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه كما قال صاحب الحدائق في أول المجلد الخامس باب الزكاة،و على هذا يكون الحمل أشبه بالجمع العرفي مثل حمل العام على الخاص،و المطلق على المقيد،لا بالجمع الشرعي الذي يحتاج إلى دليل ثالث يفصل و يفرق بين الموارد،فيخصص المثبت في مورد،و النافي في مورد آخر،و كذلك إذا ورد دليل يحرم هذا الشيء،و آخر ينفي التحريم عنه،فيبقى الدال على التحريم كما هو،و يحمل النافي على الكراهة.

و حيث يشترط شروط خاصة في كل من الأنعام الثلاثة،و المزروعات الأربعة و النقدين،بالإضافة إلى الشروط التي ذكرناها فيمن تجب عليه الزكاة كان لزاما أن نفرد لكل نوع فصلا مستقلا.

ص:59

ص:60

زكاة الأنعام
الإبل:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ليس فيما دون الخمس من الإبل شيء،فإذا كانت خمسا ففيها شاة إلى العشرة،فإذا كانت عشرا ففيها شاتان،فإذا بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث من الغنم،فإذا بلغت عشرين ففيها أربع من الغنم،فإذا بلغت خمسا و عشرين ففيها خمس من الغنم،فإذا زادت واحدة ففيها ابنة مخاض الى خمس و ثلاثين،فإذا لم يكن عنده ابنة مخاض فابن لبون ذكر،فإن زادت على خمس و ثلاثين بواحدة ففيها بنت لبون إلى خمس و أربعين،فإن زادت واحدة ففيها حقة،و انما سمّيت حقة،لأنها استحقت ان يركب ظهرها الى ستين،فإن زادت واحدة ففيها جذعة الى خمس و سبعين،فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون الى تسعين،فإن زادت واحدة فحقتان الى عشرين و مائة،فإن زادت على العشرين و المائة واحدة ففي كل خمسين حقة،و في كل أربعين بنت لبون.

الفقهاء:

قالوا:نصاب الإبل اثنا عشر و هي:

1-خمس،و فيها شاة،و ليس فيما نقص عنها شيء.

ص:61

2-فإذا بلغت العشرة ففيها شاتان،و ليس في الزائدة عليها شيء،حتى تبلغ خمس عشرة.

3-فإذا بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه،و ليس عليها شيء،حتى تبلغ العشرين.

4-فإذا بلغت العشرين ففيها أربع شياه.

5-ان تبلغ خمسا و عشرين،و فيها خمس شياه،و هذه الأنصبة الخمسة في كل واحد منها شاة،كما رأيت.

6-ان تبلغ ستا و عشرين،و فيها بنت مخاض،و هي من الإبل التي دخلت في السنة الثانية.

7-ان تبلغ ستا و ثلاثين،و فيها بنت لبون،و هي التي دخلت في السنة الثالثة.

8-ان تبلغ ستا و أربعين،و فيها حقة،و هي التي دخلت في الرابعة.

9-ان تبلغ احدى و ستين،و فيها جذعة،و هي التي دخلت في الخامسة.

10-ان تبلغ ستا و سبعين،و فيها بنتا لبون.

11-ان تبلغ احدى و تسعين،و فيها حقتان.

12-ان تبلغ مائة و احدى و عشرين،ففي كل خمسين حقة،و في كل أربعين بنت لبون،و معنى في كل 50 حقة،و في كل 40 بنت لبون أن المزكي يختار ما هو الأرجح للفقراء،فإن كانت الإبل 121 فقط عدّها بالأربعين،و دفع ثلاثة من بنات اللبون،و ان كانت 150 عدها بالخمسين و دفع ثلاثا من الحقق التي هي أكبر من بنات اللبون،و ان كان العدد بهما معا على حد سواء بالقياس الى الفقراء،كما لو بلغت 200 فهو مخير بين أن يكون بالأربعين،و يدفع خمسا من بنات اللبون،و بين أن يعد بالخمسين،و يدفع أربعا من الحقق،هذا،ان كان ثمن

ص:62

الخمس يعادل ثمن الأربع،و الا قدم الأرجح و الأصلح للفقير.

البقر:
اشارة

قال الإمامان الباقر و الصادق عليهما السّلام:البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع حولي-أي ما دخل في السنة الثانية-و ليس في أقل من ذلك شيء،و في أربعين بقرة مسنة- أي ما دخلت في الثالثة-و ليس فيما بين الثلاثين إلى الأربعين شيء،حتى تبلغ الأربعين،فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنة،و ليس فيها بين الأربعين إلى الستين شيء،فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان الى السبعين،فإذا بلغت السبعين ففيها تبيع و مسنة إلى الثمانين،فإذا بلغت ثمانين ففي كل أربعين مسنة إلى تسعين فإذا بلغت تسعين ففيها ثلاث تبايع حوليات،فإذا بلغت عشرين و مائة ففي كل أربعين مسنة.

الفقهاء:

هذه الرواية متفق على العمل بها،و هي أوضح من كلمات الفقهاء،و هذا مثال واحد منها:«للبقر نصابان:ثلاثون،و فيها تبيع أو تبيعة،و فيه مسنة،و هكذا دائما».

و من أحب زيادة في التوضيح قلنا:

يؤخذ من البقر من كل ثلاثين واحد دخل في السنة الثانية،و لا شيء فيما دونها،فلو افترض ان إنسانا يملك ثلاثين بقرة إلاّ ربعا،أو إلاّ قيراطا فلا شيء عليه،و لا عليها.و من كل أربعين واحد دخل في السنة الثالثة،و من الستين تبيعان،و من السبعين مسنة عن أربعين،و تبيع عن ثلاثين،و من الثمانين مسنتان، عن كل أربعين منها مسنة،و من التسعين ثلاثة تبيعات،عن كل ثلاثين تبيع،و من

ص:63

المائة مسنة عن أربعين،و تبيعان عن ستين،و من المائة و عشرة مسنتان عن ثمانين،و تبيع عن ثلاثين،و من المائة و العشرين يتخير المالك بين ثلاث مسنات أي عن كل أربعين مسنة،و بين أربع تبيعات،عن كل ثلاثين تبيع.و هكذا،و ليس بين الفريضتين شيء.

و الجاموس كالبقر،و حكمهما واحد،لأنهما من فصيلة واحدة،و قد سئل الإمام الباقر عليه السّلام عن الجواميس،هل فيها شيء؟قال:مثل ما في البقر.

الغنم:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:في كل أربعين شاة شاة،و ليس فيما دون الأربعين شيء،ثم ليس فيها شيء،حتى تبلغ عشرين و مائة،فإذا بلغت عشرين و مائة ففيها مثل ذلك شاة واحدة،فإذا زادت على مائة و عشرين ففيها شاتان،و ليس فيها أكثر من شاتين،حتى تبلغ مائتين،فإذا بلغت المائتين ففيها مثل ذلك،فإذا زادت على المائتين شاة واحدة ففيها ثلاث شياه،ثم ليس فيها شيء أكثر من ذلك،حتى تبلغ ثلاثمائة،فإذا بلغت ثلاثمائة شاة ففيها مثل ذلك ثلاث شياه،فإذا زادت واحدة ففيها أربع شياه،حتى تبلغ أربعمائة،فإذا تمت أربعمائة كان على كل مائة شاة، و سقط الأمر الأول-أي زيادة الشاة على المائة.

الفقهاء:

و هذه عبارتهم:للغنم خمسة نصب:

1-أربعون،و فيها شاة.

2-مائة و إحدى و عشرون،و فيها شاتان.

ص:64

3-مائتان و واحدة،و فيها ثلاث شياه.

4-ثلاثمائة و واحدة،و فيها أربع شياه.

5-أربعمائة فما زاد،ففي كل مائة شاة،و ليس ما بين النصابين شيء.

و حكم الماعز و الغنم واحد،لأنهما من فصيلة واحدة،سوى أن الجذع من الغنم،و هو الذي أكمل سنة و دخل في الثانية يعادل الثني من المعز و هو الذي أكمل سنتين،و دخل في الثالثة،فمن كان عنده خمس من الإبل،و أراد أن يدفع زكاتها كفاه الجذع من الغنم،أما من المعز فلا يكفيه إلاّ الثني.

و لا يتعين على المزكي أن يدفع الزكاة من النصاب الذي عنده بالذات،بل هو مخير بين أن يدفعه منه،أو يشتريه من الغير،و يحتسبه من الزكاة،أو يدفع ثمنه نقدا للفقراء على شريطة أن لا ينقص عن الحد الأوسط إلى الأدنى منه،و ان تطوع بالأعلى فخير.و استدل الفقهاء على هذا التخيير بأن رجلا سأل الإمام عليه السّلام:

هل يجوز أن اخرج عما يجب في الحرث من الحنطة و الشعير،و ما يجب على الذهب،أن اخرج عن كل ذلك دراهم قيمة ما يسوى،أو لا يجوز إلاّ أن اخرج من كل شيء ما فيه؟قال:أيما أخرجت تيسر.

و قال له آخر:اعطي عيال المسلمين من الزكاة،فاشتري لهم منها ثيابا و طعاما،و أرى أن ذلك خير لهم؟قال:لا بأس.

بقية الشروط في الانعام:
اشارة

و لا تجب الزكاة في هذه الانعام الثلاث بمجرد بلوغ النصاب،و إكمال العدد الذي ذكرناه،بل لا بد من شروط أخر،و هي ثلاثة بالإضافة إلى شرط النصاب:

الأول:السوم

،و هو أن تعيش كل واحدة من الأنعام التي تحسب من أفراد

ص:65

النصاب،أن تعيش على المرعى الطبيعي،لا على العلف،فإذا صدق عليها اسم المعلوفة لا تتعلق بها الزكاة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:ليس على ما يعلف شيء،إنما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها-أي مرعاها-عامها الذي يقتنيها فيه الرجل،فاما ما سوى ذلك،فليس فيه شيء.

الثاني:ان لا تكون من العوامل

،أي لا يعمل عليها،فلو استعملت للركوب أو الحرث أو الحمل تسقط عنها الزكاة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:«ليس على العوامل شيء»و ما خالف هذا من الروايات فشاذ متروك.

الثالث:أن يمضي عليها حول ابتداء من اليوم الذي تستغني به عن حليب

أمها بالمرعى

،و لا عبرة باليوم الذي تولد فيه على المشهور.

هذا ملخص الشروط في زكاة الانعام،و هي بلوغ النصاب،و الرعي،و عدم العمل،و الحول،و لا شيء غيرها،فإذا اختل واحد من هذه الشروط في فرد من أفراد النصاب أثناء الحول،بطل الحول و انتفت الزكاة،كما لو نقصت عن النصاب،أو استبدل المالك بعض أفرادها،أو استعمله للركوب،أو الحرث أو الحمل،أو علف في بعض الشهور أو الأسابيع،حتى انتفى عنه اسم السوم.

و إذا اشترك اثنان أو أكثر على قطيع يبلغ بمجموعه النصاب فلا زكاة إلاّ إذا بلغ سهم كل النصاب على حدة،حتى و لو كان المرعى و المشرب و المحلب و الفحل واحد بالإجماع،و إذا كان للإنسان إنعام متفرقة هنا و هناك يعتبر النصاب في مجموعها،و ان تباعدت و لم يبلغ كل منها النصاب على حدة،و بكلمة ان العبرة بوحدة المالك للنصاب،و ان تعدد محل النصاب،لا بوحدة النصاب،و ان تعدد المالك،و بهذا نجد تفسير قول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا يجمع بين المتفرق،و لا يفرق بين المجتمع».

ص:66

زكاة النقدين
الذهب:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:في كل عشرين دينارا من الذهب نصف دينار،و ان نقص فليس عليك شيء.

و قال الإمامان الباقر و الصادق عليهما السّلام:ليس فيما دون العشرين مثقالا من الذهب شيء،فإذا كملت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال،إلى أربعة و عشرين ففيها ثلاثة أخماس الدينار،إلى ثمانية و عشرين،فعلى هذا الحساب،كلما زاد أربعة.

الفقهاء:

قالوا:ان الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام تعبر تارة بالدينار،و تارة بالمثقال، و يكشف هذا عن أن الدينار كان يوزن مثقالا في عهدهم،و قال أكثر من واحد من فقهاء هذا العصر:ان الدينار يعادل نصف ليرة عثمانية ذهبا.

و مهما يكن،فإن للنقد الذهبي نصابين،الأول:عشرون دينارا،و فيه نصف دينار،أي على حساب اثنين و نصف بالمائة،و ليس فيما دون العشرين زكاة،حتى،و لو مضى عليه حول كامل.النصاب الثاني:أربعة و عشرين دينار،

ص:67

و معنى هذا انه ليس فيما دون الأربعة زكاة بعد العشرين،فإذا بلغت أربعة و عشرين أخرجت زكاتها على حساب اثنين و نصف بالمائة،و هي ثلاثة أخماس الدينار كما قال الإمام عليه السّلام،و إذا زادت عن ال 24 فليس في الزائد زكاة،حتى يبلغ المجموع 28،فإذا بلغ هذا أخرجت الزكاة على الحساب المذكور،و هكذا يعتبر الزائد أربعة أربعة ابدا.

الفضة:
اشارة

قال الإمام عليه السّلام:ليس في أقل من مائتي درهم شيء،و ليس في النيف-أي الزائد عن المائتين-شيء حتى يتم أربعون،فيكون فيه واحد.

الفقهاء:

قالوا:ان للنقد الفضي نصابين،الأول:مائتا درهم (1)،و فيها خمسة دراهم، أي على حساب اثنين و نصف بالمائة،و ليس فيما دون المائتين زكاة.النصاب الثاني:أربعون درهما،و معنى هذا انه ليس فيما دون الأربعين بعد المائتين شيء، فإذا بلغت الدراهم مائتين و أربعين أخرجت زكاتها على حساب اثنين و نصف بالمائة،و هكذا يعتبر الزائد أربعين أربعين أبدا،و يكون الإخراج على الحساب المذكور.

ص:68


1- قال السيد سابق في الجزء الثالث من«فقه السنة»:ان المأتي درهم تبلغ 1/2 555 قرشا مصريا، و قال محمد محمد إسماعيل:في«العبادات في الإسلام»:ان الدراهم ثلاثة جرامات و شيء.و نحن إذا اعطفنا قول الإمام عليه السّلام:في المأتي درهم خمسة دراهم على قوله:في العشرين دينارا نصف دينار جاءت النتيجة ان كل عشرة دراهم تساوي دينارا،هذا،إذا أخذ بعين الاعتبار ان العشرين دينارا هي النصاب الأول في الذهب،و المأتي درهم هي النصاب الأول في الفضة،و ان الجامع بينهما واحد،و هو التبر المسكوك الذي يؤدي إلى نتيجة واحدة،و يرمي إلى هدف واحد.
الشروط:
اشارة

و لا بد من اضافة شرطين آخرين الى بلوغ النصاب في زكاة النقدين:

أولهما أن يكونا عملة مسكوكة

،كما يدل عليه لفظ النقدين،فلا تجب في السبائك،و لا في الحلي و الخاتم،و ما زين به من سيف أو مصحف،و ما إليهما، فقد روي ان قائلا قال للإمام الصادق عليه السّلام:يجتمع عندي الكثير قيمته،فيبقى نحوا من سنة أ نزكيه؟قال:كل ما لم يحل عليه الحول فليس عليك فيه زكاة،و كل ما لم يكن ركازا فليس عليك فيه شيء.قال السائل:و ما الركاز؟قال الإمام عليه السّلام:هو الصامت المنقوش.إذا أردت ذلك فاسبكه،فإنه ليس في سبائك الذهب،و نقار الفضة زكاة.و الصامت من المال هو الذهب و الفضة.

ثانيهما ان يحول الحول على النقود الذهبية و الفضية

،لا ينقص منها شيء، و لا يتبدل منها شيء بشيء،و لا تغير إلى سبائك،و تتم السنة بدخول الشهر الثاني عشر،سئل الإمام عليه السّلام عن رجل كان عنده مائتا درهم إلاّ درهما،بقيت عنده أحد عشر شهرا،ثم أصاب درهما بعد ذلك في الشهر الثاني عشر،و كملت عنده مائتا درهم،أ عليه زكاة؟قال:لا،حتى يحول عليها الحول،و هي مائتا درهم.

مسائل:
1-إذا كان عنده نقود ذهبية،و أخرى فضية لا يبلغ كل واحد منها النصاب

بذاته

،و لكن إذا ضم بعضها إلى بعضهم بلغ المجموع قيمة النصاب،فلا يجبر بعضها ببعض،بل يعتبر كل على حدة.

2-العبرة بالنصاب الخالص من الغش،لا بمجرد اسم النقد الذهبي،أو

النقد الفضي

،فإذا كان عنده نقود ذهبية و فضية يبلغ كل منها النصاب أو يزيد،

ص:69

و لكنها ممزوجة بغير الذهب و الفضة،إذا كان كذلك قدرت خالصة من كل شائبة، فإن بلغ الصافي النصاب وجبت الزكاة،و إلاّ فلا.

3-إذا شك في أن ما يملكه من النقود:هل بلغ النصاب،حتى تجب

الزكاة،أو لا

،جرى أصل البراءة،و لا يجب البحث،لأنه من الشبهات الموضوعية،دون الحكمية،أجل،لو علم ببلوغ النصاب،و شك في المبلغ و المقدار،بحث و نقب إن أمكن،و إلاّ وجب الاحتياط،لأن العلم بشغل الذمة يستدعي العمل بتفريغها،حتى يحصل اليقين بالخروج عن عهدة التكليف.

4-قال فقهاء هذا العصر كلهم أو جلهم:أن الأموال إذا كانت من نوع

الورق،كما هي اليوم،فلا زكاة فيها

وقوفا عند حرفية النص الذي نطق بالنقدين الذهب و الفضة،و نحن على خلاف معهم،و نقول بالتعميم لكل ما يصدق عليه اسم المال و«العملة»و ان النقدين في كلام أهل البيت عليهم السّلام أخذا وسيلة،لا غاية، حيث كانا العملة الوحيدة في ذلك العهد،و ليس هذا من باب القياس المحرم، لأن القياس مأخوذ في مفهومه و حقيقته ان تكون العلة المستنبطة مظنونة لا معلومة،لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا،و نحن هنا نعلم علم اليقين ان علة الزكاة في النقدين موجودة بالذات في الورق،لا مظنونة،فتكون كالعلة المنصوصة أو أقوى،و اذن،هي من باب تنقيح المناط المعلوم،لا من باب القياس المظنون المجمع على تحريم العمل به.

ص:70

زكاة الغلات
اشارة

قدمنا ان الزكاة تجب في الحنطة و الشعير،و التمر و الزبيب،و تستحب في غيرها مما أنبتته الأرض،ما عدا الخضار و البقول،و لا بد لوجوب الزكاة في الأصناف الأربعة من وجود أمرين،بلوغ النصاب،و التملك.

النصاب:

قال الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:ما أنبتت الأرض من الحنطة و الشعير،و التمر و الزبيب ما بلغ خمسة أسوق،و الوسق ستون صاعا،فذلك ثلاثمائة صاع،ففيه العشر،و ما كان يسقى بالرشا و الدلاء و النواضح ففيه نصف العشر،و ما سقت السماء و السيح،أو كان بعلا ففيه العشر تماما،و ليس فيما دون الثلاثمائة صاع شيء،و ليس فيما أنبتت الأرض شيء إلاّ في هذه الأربعة أشياء.

و يبلغ النصاب الكامل بالكيلو جرام حوالي تسعمائة و عشرا على التقريب، و ما نقص عنها لا زكاة فيها،و ما بلغ النصاب فأكثر،ففيه الزكاة.

التملك:

قال الفقهاء:انما يجب على الإنسان ان يؤدي زكاة هذه الأربع إذا بلغت النصاب،و كانت في نفس الوقت أصولها مملوكة له قبل تعلق الزكاة بناتجها،كما

ص:71

لو كان هو الزارع و الغارس،أو انتقل اليه الزرع قبل انعقاد الحب،و الشجر قبل أن يحمل الثمر.أما من ابتاع،أو اتهب الزرع،أو الكرم بعد بدو الناتج،بحيث حصل ذلك في ملك غيره لا في ملكه،فلا تجب عليه الزكاة،تماما كما لا تجب على من اشترى عنبا،و جففه،حتى صار زبيبا بالاتفاق.

و ذهب مشهور الفقهاء الى ان الزكاة تتعلق بالغلات عند بدو الصلاح، و ذلك ان يشتد الحب في الحنطة و الشعير،و يحمر أو يصفر ثمر النخيل،و ينعقد زهر الكرم حصرما،هذا مع العلم بأنه لا يجب إخراج الزكاة إلاّ بعد اليباس و الجفاف و بلوغ النهاية.و الذي نراه ان الزكاة لا تتعلق بشيء من الغلات،حتى يسمى الحب حنطة و شعيرا،و الثمر تمرا و زبيبا،لأن هذه الأسماء قد وردت في أدلة الأحكام،و بديهة ان الأحكام الشرعية تدور مدار عناوين موضوعاتها وجودا و عدما.و مهما يكن فان النصاب انما يعتبر حال الجفاف،لا قبله،فلو افترض ان شيئا من هذه الأصناف يبلغ النصاب،و هو رطب،و لا يبلغه،و هو جاف فلا زكاة فيه بالاتفاق.

و تظهر الثمرة بين القولين فيما لو تصرف المالك بثمر الكرم قبل أن يصير زبيبا،و بثمر النخل قبل أن يصير تمرا،و بناتج الزرع قبل أن يأتي أو ان حصاده، فعلى القول المشهور يكون المالك ضامنا للفقراء المستحقين،و على القول الثاني لا ضمان عليه.

مقدار الزكاة:
اشارة

قال الإمام عليه السّلام:ما كان يعالج بالرشا و الدلاء و النضح (1)ففيه نصف العشر، و ما كان يسقى من غير علاج بنهر،أو عين،أو سماء،أو كان بعلا ففيه العشر كاملا.

ص:72


1- الرشاء الحبل،و الدلاء جمع دلو،و النضح الرش.
الفقهاء:

قالوا:ان المقدار الواجب من الزكاة يختلف باختلاف السقي،فما سقته الطبيعة،فيه عشر المحصول،و ما سقي بآلة،فيه نصف العشر،و ان سقي بآلة تارة،و بالسماء أخرى ينظر:فإن غلب الاستغناء عن الآلة فالعشر،و ان غلب استعمال الآلة فنصف العشر،و ان تساويا فثلاثة أرباع العشر،أي العشر في نصفه،و نصف العشر في النصف الآخر،و مع الشك في أيهما الغالب الآلة،أو الطبيعة،نختصر على القدر المتيقن،و هو الأقل،أي نصف العشر،لأنه الواجب على كل حال.

المؤن و حصة السلطان:

و إنما يجب إخراج الزكاة بعد تصفية الحب،و تجفيف الثمر،بحيث يضبط بالكيل،و الوزن،و بعد إخراج ما يأخذ السلطان منها،و بعد إخراج المؤن و التكاليف بكاملها،أي ان ما يأخذه السلطان،و ما يصرف على المحصول من النفقات لا يتحمله المالك وحده،و لا يدفع زكاته من ماله،و انما هو على مجموع الناتج و المحصول.

و لا يحتاج هذا الى البحث الطويل،و لا الى القال و القيل،و تسويد الصفحات،كما فعل أكثر من واحد،و انما الكلام:هل يعتبر النصاب بعد المؤن، و ما يأخذه السلطان،بحيث لو نقص الباقي بعدهما فلا زكاة فيه؟أو يعتبر النصاب قبلهما،فإذا بلغ المجموع النصاب وجبت الزكاة في الباقي،و ان قل عن النصاب، ما دام المجموع نصابا؟ قال صاحب الجواهر:المشهور بين الفقهاء انه لا بد من اعتبار النصاب بعد

ص:73

المؤنة،فإذا لم يكن الباقي نصابا فلا زكاة فيه،و ان كان المجموع بمقدار النصاب، و قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:و هو الأشبه،لأصالة براءة الذمة عن وجوب الزكاة فيما نقص بعد إخراج المؤنة عن النصاب.

هل الزكاة حق على الإنسان،أو شراكة في الأعيان:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان اللّه تبارك و تعالى شرك بين الفقراء و الأغنياء في الأموال،فليس لهم ان يصرفوا الى غير شركائهم.

و سئل أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام عن الزكاة تجب في مواضع لا يمكنني أن أؤديها؟قال الإمام عليه السّلام للسائل:اعزلها،فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن،و لها الربح،و ان توليت في حال ما عزلتها من غير ان تشغلها في تجارة فليس عليك شيء،فان لم تعزلها فاتجر بها في جملة مالك،و لها بقسطها من الربح،و لا وضيعة عليها.

الفقهاء:

اختلفوا في ان الفقير هل هو شريك للغني في العين و يملك فيها بمقدار حصته،تماما كما يملك الغني،أو ان الفقير صاحب حق في العين دون ان يملك شيئا منها،تماما كصاحب الرهن الذي تعلق حقه بالعين المرهونة دون أن يكون مالكا لها،و ان الغني مسؤول عن الزكاة تجاه الفقير كما ان صاحب العين مسؤول عن صاحب الرهن؟ قال صاحب الجواهر:ذهب المشهور نقلا و تحصيلا-اي نقل له قول المشهور،و تأكد هو منه و حصله بذاته-الى ان الزكاة تتعلق بالعين،و ان الفقير

ص:74

شريك للغني في العين،و يملك منها بمقدار حصته على النحو الذي يملكه الغني،و استدلوا فيما استدلوا بالروايتين السابقتين عن الإمامين عليهما السّلام.

و نحن مع الشيخ الهمداني صاحب مصباح الفقيه الذي نفى شراكة الفقراء مع الأغنياء في العين،و أثبت الحق في أموالهم،تماما كحق غرماء الميت المتعلق بتركته،نحن مع هذا الشيخ الجليل بعد ان أطلعنا و اقتنعنا بأدلته التي استدل بها على رأيه،و تتلخص هذه الأدلة بما يأتي:

أولا:لو كان الفقير شريكا حقيقيا للغني في العين لما جاز للغني ان يتصرف بها إلاّ بإذن الفقير،كما هو الشأن في كل شريكين،و ايضا لما جاز له أن يدفع الزكاة من غير العين إلاّ برضا الفقير،و ايضا يجب أن يكون النماء كاللبن و الصوف شراكة بين الاثنين،لأنه تابع للملك،و لا قائل بذلك،و من ادعى شيئا منه فهو محجوج بالنص و السيرة القطعية.

ثانيا:ان لسان الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام في الزكاة الواجبة، تماما كلسان الروايات الواردة عنهم في الزكاة المستحبة،مع العلم بأنه لا شراكة حقيقية في المستحب،و اذن،فالمقصود منها ان اللّه سبحانه قد جعل للفقراء حقا في أموال الأغنياء كحق غرماء الميت المتعلق بتركته،بحيث إذا امتنع الأغنياء عن أداء هذا الحق كان للحاكم الشرعي،أو للجابي الذي يعينه،أو لعدول المسلمين من باب الحسبة،أو للفقير نفسه،مع عدم هؤلاء جميعا،كان له ان يستوفي هذا الحق قهرا عن الأغنياء،و هذا شيء،و ان الفقير شريك للغني في الحقيقة، و الواقع شيء آخر.

ص:75

أموال التجارة:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل توضع عنده الأموال يتجر بها؟قال:إذا حال عليها الحول فليزكها.

و قال:كل مال عملت به فعليك فيه الزكاة ان حال عليه الحول.

الفقهاء:

قالوا:كل مال يعمل به بقصد الربح و الاتجار،فتستحب فيه الزكاة،سواء أ كان الاتجار بالحيوان،أم بالحبوب،أم بالمعادن،أم بالقماش،أم بالخضار و البقول،و ما إلى ذلك.

و لا تستحب الزكاة في التجارة إلاّ بشروط،فإذا انتفى أحدها فلا استحباب، و هي قصد الاتجار و الاكتساب،و ان تبلغ قيمة التجارة أحد نصابي النقدين،و ان يمضي على الاكتساب الحول،و ان يستمر قصد الاكتساب طوال الحول،و ان لا يبيع بأقل من رأس المال،و ان لا ينقص رأس المال قرش واحد طوال أيام الحول،و لو افترض انه نقص،ثم عاد إلى التمام،استأنف رأس السنة من هذا الحين.

و ايضا تستحب الزكاة في كل ما يكال و يوزن مما أنبتته الأرض،ما عدا الغلات الأربع،و في إناث الخيل،على شريطة ان تكون سائمة غير معلوفة،و ان استعملت للركوب و ما إليه.و أيضا تستحب الزكاة في ناتج العقار المعد للاستثمار،كالدكان و البستان و ما إليه،و تقدمت الإشارة إلى ذلك.

ص:76

المستحقون للزكاة

اشارة

قدمنا في أول باب الزكاة ان الكلام عنها يكون فيمن تجب عليه،و فيما تجب فيه من الأموال،و الى من تجب من المستحقين،و سبق الكلام عن الأولين، و نتكلم الآن عن الثالث.

المستحقون:
اشارة

قال اللّه تبارك و تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (1).

و قال الإمام عليه السّلام:الفقراء هم الذين لا يسألون،و عليهم مؤمنات من عيالهم، و الدليل على انهم هم الذين لا يسألون قول اللّه تعالى لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً (2).و المساكين هم أهل الزمانات،و قد دخل فيهم الرجال و النساء و الصبيان،و العاملون عليها هم السعاة و الجباة في أخذها

ص:77


1- التوبة:60. [1]
2- البقرة:273. [2]

و جمعها و حفظها،حتى يؤدوها الى من يقسمها،و اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هم الذين وحدوا اللّه،و خلعوا عبادة من دون اللّه،و لم تدخل في قلوبهم معرفة ان محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتألفهم و يعلمهم و يعرفهم،كيما يعرفوا،فجعل لهم نصيبا في الصدقات،لكي يعرفوا و يرغبوا، وَ فِي الرِّقابِ قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ، و في الظهار،و في الايمان،و في قتل الصيد في الحرم،و ليس عندهم ما يكفرون، و هم مؤمنون،فجعل اللّه لهم نصيبا في الصدقات،ليكفر بها عنهم،و الغارمون قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف،فيجب على الامام ان يقضي عنهم،و يكفهم من مال الصدقات، وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ قوم يخرجون في الجهاد و ليس عندهم ما يتقوون به،أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به،أو في جميع سبل الخير،فعلى الامام ان يعطيهم من مال الصدقات، حتى يقووا على الحج و الجهاد،و ابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه،فيقطع عليهم،و يذهب مالهم،فعلى الامام ان يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.

الفقهاء:

قالوا:ان المستحقين للزكاة ثمانية أصناف(1)الفقراء(2)المساكين (3)العاملون عليها(4)المؤلفة قلوبهم(5) فِي الرِّقابِ (6)الغارمون(7) فِي سَبِيلِ اللّهِ (8)ابن السبيل.

الفقراء و المساكين:
اشارة

1 و 2-قال جماعة:ان لفظ فقير،و لفظ مسكين إذا اجتمعا عبر كل منهما

ص:78

عن معنى،و إذا افترقا عبرا عن معنى واحد،و قالوا:ان الفرق عند الاجتماع هو ان الفقير لا يسأل،و المسكين يسأل،و مهما يكن،فلا جدوى من وراء الكلام في ذلك بعد العلم بأن كلا منهما يستحق الزكاة لحاجته إليها.

و الفقير،أو المسكين الذي يجوز ان يعطى من الزكاة شرعا هو الذي لا يملك مؤنة السنة له و لعياله،و الغني الشرعي من يملكها بالفعل،أو بالقوة،أي يكون له عمل يكفيه و يسد حاجته يوما فيوما.قال الإمام الصادق عليه السّلام:تحرم الزكاة على من عنده قوت سنة،و تجب الفطرة على من عنده قوت سنة.و سئل عمن عنده قوت يوم إله أن يقبل الزكاة؟قال:يأخذ،و عنده قوت شهر ما يكفيه لسنة من الزكاة،لأنها انما هي من سنة الى سنة.

إغناء الفقير:

و نقل صاحب الحدائق و الجواهر عن المشهور انه يجوز ان يعطى الفقير من الزكاة مبلغا يغنيه و يكفيه سنوات،لا سنة واحدة،على شريطة ان يعطى المبلغ دفعة واحدة،لا على دفعات،لانه بالدفعة يملك مؤنة السنة،و يصير غنيا في نظر الشرع،و يمتنع إعطاؤه ثانية،و استند القائلون بذلك الى روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

و لست أدري:هل تلك الروايات صحيحة،أو وضعها على لسان الثقات من وضعها ليجر النار الى قرصه،و يكنز أموال الزكاة على حساب غيره.و لكني أعلم علم اليقين ان التفرقة بين الدفعة و الدفعات محل النظر،لأنه إذا كانت العلة لعدم جواز الدفعات هي الزيادة عن مؤنة السنة،فهذه العلة بعينها موجودة في الدفعة الواحدة الزائدة عن المؤنة المذكورة،فالفرق اذن تحكم،و أيضا أعلم علم

ص:79

اليقين ان الهدف الأول و الأخير من الزكاة هو سد حاجات الفقير من المأكل و المشرب و الملبس و المسكن،و ان أهل البيت عليهم السّلام قالوا:لو وزعت الصدقات على وجهها لما وجد فقير،مع العلم أيضا بأن جعل الفقير غنيا يستدعي ان يزيد المثرون عددا،و الفقراء فقرا.و لأجل هذا و غير هذا نرى ان لا يعطى الفقير أكثر من مؤنة سنة،حتى و لو كان ابن المرجع الأكبر،أو المرجع بالذات.

مدعي الفقر:

كل من ادعى الفقر يصدق إذا لم يعلم كذبه،و يعطى من الزكاة حاجته،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف معتد به،و في المدارك هو المعروف من مذهب الأصحاب.

و ايضا المعروف من سيرة العلماء قديما و حديثا انهم يعطون الزكاة لمن يطلبها ما لم يعلم كذبه،اما الحديث المشهور:«على المدعي البينة،و على من أنكر اليمين»فلا يشمل ما نحن فيه،لاختصاصه في مورد الخصومات و المنازعات.

و لا يجب اعلام الفقير بالزكاة حين الدفع اليه و لا بعده،قال أبو بصير:قلت للإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام:الرجل من أصحابنا يستحي أن يأخذ الزكاة، فأعطه منها،و لا اسمي انها من الزكاة؟قال:أعطه و لا تسم،و لا تذل المؤمن.

و ذهب المشهور الى أن من يقدر على الاكتساب لا يعطى من الزكاة،لأنه بحكم الغني،و قد روى زرارة عن الإمام الباقر عليه السّلام انه قال:ان الصدقة لا تحل لمحترف،و لا لذي مرة سوي-أي سليم البدن،يتحمل الكد و التعب.

و إذا قال قائل بأن هذا يصدق عليه اسم الفقير قلنا في جوابه:انه غني في

ص:80

الواقع،ما دام قادرا أن يكفي نفسه،و أي فرق بينه و بين من يملك المال،و لم ينفق على نفسه شحا،حتى مات جوعا.

قال صاحب مصباح الفقيه،يرد على صاحب الجواهر،و نعم ما قال:ان المراد بالغني الذي لا تعطى له الزكاة هو الغني بالفعل و القادر على الاكتساب،و مع ذلك ترك تبعا لكثير من البطالين،و أهل السؤال و أشباههم ممن لهم قدرة و قوة على كثير من الصنائع و الحرف اللائقة بحالهم،و لكنهم تعودوا التعيش بأخذ الصدقات،و الصبر على الفقر و الفاقة،و تحمل ذل السؤال،و ترك الاكتساب،فإنه يصدق على أحدهم عرفا اسم الفقير،و لكنه هو في الواقع غني،أي قادر على ان يكفي نفسه فالقول بعدم إعطاء الزكاة لمثله كما نسب الى المشهور هو الأقوى، و ما في الجواهر من دعوى السيرة على دفعها لمثل هؤلاء الأشخاص محل نظر، بل منع.

العاملون:

3-العاملون على الزكاة،هم الجباة الذين يعينهم الإمام،أو نائبه للقيام بتحصيلها من أهلها،و حفظها،ثم تأديتها الى من يقسمها على المستحقين،و ما يأخذ الجباة من الزكاة يعتبر أجرا لهم على عملهم لا صدقة و لذا تعطى لهم،و ان كانوا من الأغنياء.

و يشترط في الجابي ان يكون بالغا عاقلا مؤمنا عادلا أو أمينا موثوقا على الأقل،لقول علي أمير المؤمنين عليه السّلام للجابي:«إذا قبضت مال للصدقة فلا توكل به إلاّ ناصحا شفيقا أمينا حافظا».و ان لا يكون هاشميا،لان زكاة غير الهاشمي محرمة على بني هاشم،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان أناسا من بني هاشم أتوا رسول

ص:81

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي،و قالوا:يكون لنا هذا السهم الذي جعله اللّه للعاملين عليها،فنحن اولى به،فقال:يا بني عبد المطلب ان الصدقة لا تحل لي و لا لكم،و لكن قد وعدت الشفاعة أي لا تحل لهم حتى و لو كانت بدل أتعابهم.

المؤلفة قلوبهم:

4-من أصناف المستحقين للزكاة اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ،و هم الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم و جمعها على الإسلام،لدفع شرهم،أو ليستعين بهم المسلمون في الدفاع عنهم و عن الإسلام،و يعطي هؤلاء من الزكاة،و ان كانوا أغنياء.

و اختلف فقهاؤنا فيما بينهم:هل يختص لفظ المؤلفة في باب الزكاة بمن لم يظهر الإسلام،أو يعم من أظهره على شك منه؟و الثابت ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد تألف المشركين،و منهم صفوان بن أمية،و تألف المنافقين و منهم أبو سفيان، و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و اذن،يكون اللفظ عاما للاثنين.

و في بعض المذاهب الإسلامية ان هذا السهم قد سقط،و لم يبق له من موضوع بعد ان انتشر الإسلام،و أعز اللّه دينه بقوة المسلمين و كثرتهم،و قال فقهاء الشيعة:انه باق ما دام على وجه الأرض غير مسلم،و مناوئ للإسلام،إذ محال ان يسقط المسبب،مع بقاء سببه،و يرتفع المعلول،مع وجود علته (1).

ص:82


1- اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أشبه بالدعايات التي تستعملها الدول لتبرير موقفها،و بث مبادئها،و قد تخصص لها وزارة بالذات.
فِي الرِّقابِ :

5-المراد بالرقاب العبيد،و جاءت«في»هنا للدلالة على ان الزكاة لا تعطى لهم،و انما تبذل في سبيل تحريرهم،و فكاك رقابهم،و هذا من الأبواب التي فتحها الإسلام لإلغاء الرق شيئا فشيئا.و لم يبق اليوم من موضوع لهذا الصنف الذي تصرف فيه الزكاة.

الغارمون:

6-و هم الذين تحملوا ديونا عجزوا عن وفائها،فتؤدى عنهم من الزكاة، على شريطة ان لا يكونوا قد صرفوها في الإثم و المعصية.

قال الإمام عليه السّلام:الغارمون من وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف،فيجب على الإمام ان يقضي عنهم،و يفكهم من مال الصدقات.

و الذي نراه ان الوفاء عن الغارمين يدخل في الفقرة التالية،و هي سبيل اللّه، و انما أفرد الغارم بالذكر للتنبيه على انه منه،أو لزيادة اختصاص،كقوله تعالى:

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى (1).

و إذا كان لإنسان دين على من عجز عن وفائه فلصاحب الدين ان يحتسبه من الزكاة،و بهذا يتحقق وفاء الدين و الزكاة معا،و تفرغ ذمة المديون من الدين، و ذمة صاحبه من الزكاة،فقد سأل رجل الامام عليه السّلام قائلا:لي دين على قوم قد طال حبسه عندهم،لا يقدرون على قضائه،و هم مستوجبون للزكاة،هل لي أن أدعه، فأحتسب به عليهم من الزكاة؟قال:نعم.

و لا فرق في جواز احتساب الدين من الزكاة بين ان يكون المديون حيا أو

ص:83


1- البقرة:238. [1]

ميتا،قال الإمام الصادق عليه السّلام:قرض المؤمن غنيمة،إن أيسر قضاك،و ان مات قبل ذلك احتسب به من الزكاة.

سبيل اللّه:

7-سبيل اللّه كل ما يرضي اللّه،و يتقرب به إليه كائنا ما كان،كشق طريق، أو بناء معهد،أو مصح،أو جر مياه،أو تشييد مسجد،و ما إلى ذلك مما ينفع الناس،مسلمين كانوا أو غير مسلمين.

قال الشيخ الهمداني في الجزء الثالث من مصباح الفقيه ص 101:«و سبيل اللّه لا ينحصر فيما يصرف إلى الشيعة».

و قال صاحب الجواهر في باب الزكاة،و هو يتكلم عن سبيل اللّه ما نصه بالحرف:«سبيل اللّه يشمل تعمير روضة،و مدرسة و مسجد،و وقف الكتب العلمية و الأدعية،و تزويج الأعزب،و تسبيل نحل أو شجرة أو ماء،و الإحجاج، و الإعانة على الزيارة،و التعزية و تكريم العلماء و الصلحاء،و تخليص المظلوم من الظالم،و شراء السلاح للدفاع عن المسلمين،و غير ذلك،و من هنا قال الأستاذ- هو الشيخ جعفر كاشف الغطاء الكبير-:«لا يعتبر في المدفوع إليه إسلام،و لا ايمان،و لا عدالة،و لا فقر،و لا غير ذلك»،أي لا يشترط الإسلام فيما إذا كان في إعطاء غير المسلم مصلحة عامة،كما أشرنا.

ابن السبيل:

8-ابن السبيل،قال الإمام عليه السّلام:ابن السبيل-المراد به-أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه-أي في غير معصية-فينقطع بهم،و يذهب

ص:84

مالهم،فعلى الإمام ان يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.

أوصاف المستحقين:
اشارة

قال الفقهاء:يجب ان تتوافر فيمن يعطى من الزكاة صفات:

منها:ان يكون من الشيعة الاثني عشرية

،لقول الإمام عليه السّلام:«لا تعط الصدقة و الزكاة إلاّ لأصحابك».

و لا أحسب ان أحد يخفى عليه السر لذلك،بعد ما جرى في العادة منذ القديم ان تخصص كل طائفة خيراتها بأبناء طائفتها،هذا،الى ان التشريعات الحديثة اليوم في الغرب و الشرق تنص على ان الأجنبي لا يرث من المواطن،و ان كان أقرب المقربين له نسبا و سببا إلاّ إذا نصف قوانين كل من دولة القريبين على ان الأجنبي يرث،فلو افترض ان رجلا مجنس بالجنسية الانكليزية،و له أملاك في انكلترا،و ولد مجنسا بالجنسية الفرنسية،فلا يحق للولد الفرنسي ان يرث أباه الانكليزي،أو من أملاكه الموجودة في انكلترا على الأصح إلاّ إذا نص القانون الفرنسي على ان للأجنبي ان يرث من الفرنسي.

و تنبغي الإشارة إلى أنه يستثني من هذا الشرط اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ،لان المفروض بهم الكفر،أو النفاق،و أيضا يستثني من تعطى له الزكاة بدافع المصلحة العامة،لا لسد خلته،و حاجته الخاصة.

و تنبغي الإشارة ايضا الى ان هذا الشرط خاص في الزكاة فقط،اما الصدقات المستحبة فلا،بل يجوز اعطاءها لكل محتاج جاحدا كان،أو مؤمنا، لأن لكل كبد حرى أجر،كما جاء في الحديث.

و منها:ان من الأوصاف التي لا بد منها فيمن يعطى الزكاة ان لا يكون

إعطاؤه إعانة على الإثم

ص:85

،كمن يصرفها في المعاصي و الموبقات،و هذا الشرط لا يحتاج الى دليل،لانه من القضايا التي تحمل أدلتها معها،هذا،بالإضافة الى ما قدمنا في ابن السبيل،و الغارمين من الدليل على ان السفر و الدين يجب ان لا يكونا في معصية،و تشدد بعض الفقهاء حيث اشترط العدالة فيمن يعطى الزكاة، و لكن في هذا سد لباب الزكاة بالحجر و الطين.

و منها:ان لا يكون ممن تجب نفقته على المالك

،كالآباء،و ان علوا، و الأبناء و ان نزلوا،و الزوجة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:خمسة لا يعطوا من الزكاة شيئا:الأب،و الام،و الولد،و الزوجة،و المملوك،لأنهم عياله و لازمون له.

اما سائر الأقارب كالأخ و العم و الخال فيجوز،بل يستحب،و هم أولى من الأباعد،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا صدقة،و ذو رحم محتاج.

و يجوز ان تدفع الزوجة زكاة أموالها إلى الزوج إذا كان محتاجا،لأنه غير واجب النفقة عليها،و قال بعض الفقهاء:لا يجوز للزوج ان ينفق على زوجته من هذه الزكاة التي أخذها منها بالذات،و لكن لا دليل على هذا القول سوى الاستحسان الذي لا يركن إليه في استنباط الأحكام.

و يجوز لكل من الوالد و الولد ان يفي دين الآخر،و يزوجه من الزكاة،لأن التزويج،و وفاء الدين لا يجبان على القريب،و الواجب انما الإسكان و الإطعام و الكسوة فقط،و يجوز لكل منهما ان يدفع الزكاة للآخر من سهم العاملين عليها، لأن هؤلاء يأخذون من الزكاة أجرة عملهم،و ان كانوا أغنياء.

و منها:ان لا يكون هاشميا

أي لا يجوز ان يعطى الهاشمي من زكاة غيره، و يجوز ان يعطى من زكاة مثله،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الصدقة التي حرمت على بني هاشم،ما هي؟.قال:هي الزكاة.فقال السائل:هل تحل صدقة

ص:86

بعضهم على بعض؟قال:نعم.

أجل،إذا اضطر الهاشمي إلى زكاة غيره،بحيث لا يجد الخمس،و لا زكاة مثله جاز ان يعطى،و ان يأخذ الزكاة من غيره بالاتفاق،و تجوز عليه أيضا الزكاة المستحبة إطلاقا،من مثله و من غيره،و مع الضرورة القاهرة،و بدونها،سئل الإمام الصادق عليه السّلام أ تحل الصدقة على بني هاشم؟فقال:الصدقة الواجبة لا تحل لنا،فأما غير ذلك فليس به بأس.

ص:87

ص:88

أحكام الزكاة

النية:

لا تصح الزكاة إلاّ بنية التقرب الى اللّه سبحانه،لأنها عبادة،فمن أداها لمجرد الجاه و الرياء فقد أبطلها،و لا بأس بإعلانها،بخاصة إذا كان القصد التشجيع عليها،و اقتداء الغير به،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لو ان رجلا حمل الزكاة فأعطاها علانية لم يكن عليه في ذلك عيب.و قال في رواية:الإعلان أفضل من الإسرار.و قال تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (1).

لا واسطة بين اللّه و الإنسان:

يمتاز الإسلام عن كثير من الأديان بأنه لم يجعل واسطة بين الخالق و المخلوق،فكل انسان يستطيع الاتصال باللّه عن طريق الإخلاص بنواياه و اعماله بدون توسط عالم من العلماء،و لا ولي من الأولياء،فكما ان اللّه سبحانه يقبل من العبد الصوم و الصلاة و الحج دون ان يقرها،و يرتضيها أحد من الناس،

ص:89


1- البقرة:271. [1]

كذلك يقبل منه الزكاة دون ان يدفعها الى الفقيه الجامع للشروط،و من أوجب ذلك وضعنا أمامه علامة استفهام.

قال صاحب الحدائق:«ذهب المشهور،و لا سيما المتأخرين إلى جواز تولي المالك،أو وكيله لتفريق الزكاة،للأخبار المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام في جملة من المواضع التي مرت،و ما يأتي منها،و الأخبار الدالة على الأمر بإيصال الزكاة إلى المستحقين،و الأخبار الدالة على نقل الزكاة من بلد الى بلد،مع عدم المستحق،و الاخبار الدالة على شراء العبيد منها،الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المتكررة».

ثم قال صاحب الحدائق:و يعضد ما قلناه ان رجلا جاء الى الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام و قال:رحمك اللّه،اقبض مني هذه الخمسمائة درهم،فضعها في مواضعها،فإنها زكاة مالي.قال الإمام عليه السّلام:بل خذها أنت،وضعها في جيرانك و الأيتام و المساكين،و في إخوتك من المسلمين.

كيفية توزيع الزكاة:
اشارة

قدمنا أن أصناف المستحقين للزكاة ثمانية:الفقراء و المساكين،و العاملون عليها،و المؤلفة قلوبهم،و الأرقاء،و الغارمون،و أبناء السبيل،و سبيل اللّه.و هنا سؤال يفرض نفسه:هل يجب على مالك الزكاة،أو وكيله ان يوزع الزكاة، و يبسطها على جميع الأصناف إن وجدوا،و إلاّ فعلى من يوجد منهم،بحيث لا يجوز ترك صنف مع وجوده،أو يجوز التخصيص،حتى مع إمكان البسط و التعميم؟

الجواب:

أجمع الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على عدم وجوب البسط و التعميم،

ص:90

و جواز ان يخصص صنفا دون صنف،و جماعة من صنف،بل واحدا من بعض الأصناف،و يدل على هذا قول الإمام الصادق عليه السّلام:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي،و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر،و لا يقسمها بينهم بالسوية،و انما يقسمها على قدر من يحضرها منهم.

و سئل عن رجل حلت عليه الزكاة،و مات أبوه،و عليه دين،أ يؤدي زكاته في دين أبيه؟قال:لم يكن أحد أحق بزكاته من دين أبيه،فإذا أداها في دين أبيه على هذه الحال-أي لم يكن لأبيه تركة-أجزأت عنه.

و قال في رواية أخرى:ان جعلتها فيهم جميعا،و ان جعلتها لواحد أجزأك.

أجل،يستحب ترجيح الأقارب،و أهل العلم و الصلاح،فقد قال الإمام الصادق عليه السّلام لمن سأله:كيف اعطي المستحقين:«أعطهم على الهجرة في الدين و الفقه و العقل».و في رواية يفضل من لا يسأل على من يسأل.

صاحب المال مصدق:

إذا قال صاحب المال:أخرجت زكاة أموالي،أو قال:لم تجب الزكاة في مالي إطلاقا قبل قوله بلا بينة،و لا يمين ما لم يعلم كذبه،و هذا من الموارد التي تقبل فيها دعوى المدعي بمجردها،و مصدر هذا الحكم ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام كان إذا بعث الجابي قال له:إذا أتيت رب المال فقل:تصدق رحمك اللّه مما أعطاك اللّه،فإن ولّى عنك فلا تراجعه.

و يصلح قول الإمام عليه السّلام دليلا على ما قدمنا من أنه لا واسطة بين اللّه و الإنسان،و انه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه وكيلا عن اللّه جل و علا،فيحاج في مثل ذلك عنه و يخاصم.

ص:91

نقل الزكاة:

قال الفقهاء:يجوز نقل الزكاة من بلد إلى آخر،مع عدم وجود المستحق فيه.

و ذكرنا هذا،مع العلم بأن المهتمين به قليلون جدا،أو لا وجود لهم إطلاقا،و لكن القصد أن ننبه إلى أن أهل زمان كانوا يشعرون بوجوب الزكاة، و يهتمون كثيرا بأدائها،و ان الفقير كان يأباها،حتى أن صاحب الزكاة كان يضطر إلى التنقل بها من بلد إلى بلد على عكس اليوم،حيث يقل العرض،و يكثر الطلب،مع العلم بأن المال بالأمس كان أعز و أندر منه اليوم،و هو اليوم أكثر و أوفر.

أقل ما يعطى الفقير:

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال:لا يعطى أحد من الزكاة أقل من خمسة دراهم-أي لا ينقص العطاء عن النصيب الأول في الفضة-و هو أقل ما فرض اللّه عز و جل من الزكاة في أموال المسلمين،فلا تعطوا أحدا من الزكاة أقل من خمسة دراهم.

و في رواية أخرى أنه سئل:هل يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة الدرهمين و الثلاثة؟فقال:ذلك جائز.

قال جماعة من الفقهاء:ان المراد من قوله«جائز»ان للمالك ان يدفع دون الخمسة،و يقبل الشرع منه ذلك،و ان المراد من قوله لا يعطى و لا يجوز أقل من خمسة أن العطاء دون هذا المبلغ مكروه،و بهذا الجمع يرتفع التنافي،و هو جمع عرفي يحمل قرينته معه،و لا يحتاج إلى قرينة من الخارج،تماما كالجمع بين الخاص و العام،و المطلق و المقيد.و قدمنا الإشارة إلى ذلك فيما سبق،و أعدناه للتذكير بهذه القاعدة.

ص:92

الاحتيال على اللّه و الناس:

قال السيد كاظم في العروة الوثقى:لا يجوز للفقير،و لا للحاكم الشرعي أخذ الزكاة من المالك،ثم الرد عليه،أو المصالحة معه بشيء يسير،أو قبول شيء منه بأكثر من قيمته،أو نحو ذلك،فإن كل هذه حيل في تفويت حق الفقراء، و كذا بالنسبة إلى الخمس و المظالم،و نحوهما.

و قال السيد الحكيم في المستمسك معلقا على هذا بما نصه بالحرف الواحد:«الظاهر أنه لا إشكال في الأخذ إذا كان الدفع غير مقيد بالرد،بل كان مطلقا،أو بداعي الرد،لأنه جار على القواعد الأولية».

و معنى هذا التعليق ان المالك إذا قال للفقير،و تلفظ صراحة بأني أعطيك هذا المبلغ من الزكاة بشرط ان ترده إليّ بعد ان أدفعه لك،و قبل الفقير،فلا يصح و لا تسقط الزكاة عن المالك،اما إذا لم يتلفظ المالك بالشرط،و انما دفع المال للفقير بنية أن يرجعه الفقير إليه،و يرده عليه ساعة قبضه،و أخذه الفقير بهذه النية، و هذا الباعث،ثم رده على المالك،بحيث لم يبق مع الفقير شيء من الزكاة،أو بقي منها بعض الشيء،أمّا إذا كان كذلك،فيصح و تسقط الزكاة.

و هنا تساؤلات كثيرة تتزاحم،و تتدافع،و كل منها يطلب الجواب قبل الآخر،و هي هل هذه النية من المالك تتفق مع نية القربة التي هي شرط في الزكاة، أو تتنافى معها؟و هل من فرق بحسب الواقع و النتيجة بين أخذ الشيء بنحو القيدية،و بين أخذه بنحو الداعي؟و لو افترض نقاشا وجود الفرق بينهما في الواقع،فهل يفهم هذا الفرق عامة الناس،أو الخاصة كالسيد الحكيم و من إليه، و على افتراض انه وقف على افهام الخاصة،فهل الأحكام الشرعية تنزل على الدقة العقلية،أو الافهام العرفية؟ثم إذا كانت الأحكام الشرعية تتبع المصالح

ص:93

و المفاسد الواقعية،كما هو مذهب الشيعة الإمامية،فكيف تغيرت الواقعة الواحدة من التحليل الى التحريم،أو بالعكس لا لشيء بل لمجرد تغيير هيئة اللفظ فقط لا غير،ثم لو جاز هذا فما معنى قول الرسول و آله الأطهار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لو أنفقت الحقوق على مستحقيها لما بقي فقير؟و هل معنى الجواز إلاّ ان يزداد الفقير بؤسا و عناء، و يزداد الغني مالا و ثراء؟ثم هل في الحيل حلال و حرام،و حق و باطل،و خطأ و صواب،أو ان كل الحيل حرام،لأن لفظها يدل عليها،و ان اللّه سبحانه ينظر الى الواقع و الأعمال،لا إلى الألفاظ و الاشكال.

ص:94

زكاة الفطر

وجوبها:

زكاة الفطر،و تسمى زكاة الأبدان،و زكاة الرقاب،و هي التي تجب بالفطر من رمضان،و وجوبها ثابت بضرورة الدين،تماما كوجوب الصلاة و زكاة الأموال.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان من تمام الصوم إعطاء زكاة الفطر،كما أن الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تمام الصلاة،لأنه من صام و لم يؤد الزكاة،فلا صوم له،إذا ترك متعمدا،و لا صلاة له إذا ترك الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،ان اللّه قد بدأ بها قبل الصلاة،حيث قال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى. وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (1).

على من تجب؟
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:تحرم الزكاة على من عنده قوت سنة،و تجب الفطرة على من عنده قوت السنة.و قال:لا زكاة على يتيم.

و سئل لمن تحل الفطرة؟قال:لمن لا يجد،و من حلت له لم تحل عليه، و من حلت عليه لم تحل له.

ص:95


1- الأعلى:14 و 15. [1]
الفقهاء:

اتفقوا على ان زكاة الفطر تجب على من غربت عليه الشمس ليلة العيد،أي شمس آخر يوم من رمضان،و هو بالغ عاقل غني غير مغمى عليه،فإذا انتفت احدى هذه الصفات فلا شيء عليه،كما لو غابت عليه هذه الشمس قبل أن يبلغ، أو و هو مجنون،أو مغمى عليه،أو لا يملك قوته و قوت عياله بالفعل أو بالقوة سنة كاملة.

عمن تجب:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:تجب الفطرة عن الصغير و الكبير،و الحر و العبد، عن كل انسان منهم صاع من حنطة،أو صاع من تمر،أو صاع من زبيب.

و سئل عن الرجل يكون عنده الضيف من إخوانه،فيحضر يوم الفطر، أ يؤدي عنه الفطرة؟قال:نعم الفطرة واجبة على كل من يعول من ذكر أو أنثى، صغير أو كبير،حر أو مملوك.

الفقهاء:

قالوا:يجب ان يدفع زكاة الفطر عن نفسه،و عن كل من يعول سواء أعاله وجوبا،أم استحبابا،حتى الضيف و المولود إذا وجدا قبل غروب آخر يوم من رمضان،و لو بلحظة واحدة.

و تسقط زكاة الفطر عن كل من كان في عيال غيره ليلة الفطر،و لو على سبيل الضيافة.

قدرها و جنسها:
اشارة

سئل الإمام عليه السّلام ممّ تخرج زكاة الفطر؟فقال:تخرج من كل شيء:التمر

ص:96

و الزبيب و غيره صاعا.

و قال:زكاة الفطر واجبة على كل رأس أربعة أمداد من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب،و هي صاع تام.

و قال:الفطرة على كل قوم مما يغذون عيالهم من لبن أو زبيب،أو غيره.

و قال ايضا:على كل من اقتات قوتا ان يؤدي من ذلك القوت.

و سئل عن الفطرة،يجوز ان يؤديها فضة بقيمة هذه الأشياء التي سماها؟ قال:نعم،ان ذلك أنفع له،يشتري ما يريد.

الفقهاء:

الواجب في صدقة الفطر صاع من الحنطة،أو الشعير،أو التمر،أو الزبيب، أو الأقط-هو لبن مجفف لم تنزع زبدته-أو الأرز،أو الذرة،أو غير ذلك مما يصدق عليه القوت.و قال الفقهاء:الأفضل أن تكون من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب،لأن هذه الأربعة ذكرت في النص أكثر من مرة،و غير بعيد انها كانت القوت الغالب في ذلك العهد،و عليه يكون الأفضل صرف الفطرة من كل ما يغلب في أي عصر من العصور،و يشعر به قول الإمام عليه السّلام:«من كل من اقتات قوتا».

و الصاع حوالي ثلاثة كيلو غرامات،و يجزي ان يدفع بدلا عنها نقدا بمقدار قيمتها السوقية،بل هو أفضل،لأنه أنفع،و يشتري الفقير به ما يريد،كما قال الإمام عليه السّلام.

وقتها:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الفطرة متى هي؟قال:قبل الصلاة يوم الفطر.

ص:97

و سئل عن المولود يولد ليلة الفطر؟قال:ليس عليه فطرة،و ليست الفطرة إلاّ على من أدرك الشهر.

الفقهاء:

قالوا:لزكاة الفطر وقتان:الأول وقت وجوبها و شغل الذمة بها،و الثاني وقت إخراجها و أدائها،و يتحقق الأول بمجرد دخول هلال شوال،فمن هلّ عليه هذا الهلال مستكملا لبقية الشروط فقد وجبت عليه،و أصبح مسؤولا عنها،أما وقت الإخراج فيمتد من أول وقت الوجوب إلى الزوال،و الأفضل أداؤها قبل صلاة العيد،و فيه العديد من الروايات.

و إذا لم يخرجها أو يعزلها على حدة قبل الزوال،أداها بعد الزوال من يوم العيد بقصد التقرب إلى اللّه سبحانه دون ان يقصد بها القضاء أو الأداء،لأن جماعة من كبار العلماء كالصدوق و المفيد و المحقق الحلي قالوا بسقوطها بعد الزوال، لأنها مؤقتة،و المؤقت يذهب بذهاب وقته،و يشعر بذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام:

ان أعطيت قبل ان تخرج الى العيد فهي فطرة،و ان كان بعد ان تخرج الى العيد فهي صدقة.

و لا يجوز تعجيلها قبل هلال شوال،لأنه أداء لما لا يجب بعد ان كان الوجوب مقيدا بالهلال،فتكون تماما كأداء الصلاة قبل وقتها،أجل،يجوز أن تعطى للفقير بعنوان القرض،ثم تحسب عليه من الزكاة بعد الوجوب.

مصرفها:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام لمن تحل الفطرة؟قال:لمن لا يجد شيئا.

ص:98

و قال:زكاة الفطر لأهلها إلاّ أن لا تجدهم،فان لم تجدهم فلمن لا ينصب- أي العداء لأهل البيت عليهم السّلام.

الفقهاء:

قالوا:ان مصرف زكاة الفطر هو بعينه مصرف الزكاة المالية،لروايات أهل البيت عليهم السّلام،و لأن صدقة الفطر من جملة الصدقات التي تشملها الآية الكريمة:

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ (1).و لم يستثنوا من الأصناف الثمانية إلاّ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها ،كما أنهم أجازوا ان تعطى زكاة الفطر للمستضعفين المسلمين من غير الشيعة الاثني عشرية،إذا لم يوجد أحد من هؤلاء.

مسائل:
1-لا يعطى الفقير أقل من صاع

-أي ثلاث كيلو غرامات-لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا تعط أحدا أقل من رأس.

2-تجب في هذه الزكاة نية التقرب إلى اللّه

،لأنها عبادة.

3-قال صاحب الجواهر:يستحب اختصاص ذوي القرابة

،لقول الإمام عليه السّلام:لا صدقة،و ذو رحم محتاج،ثم الجيران،لقوله:جيران الصدقة أحق بها.و ينبغي ترجيح أهل الفضل في الدين و العلم،لقوله:أعطهم على الهجرة في الدين و الفقه و العقل.ثم قال صاحب الجواهر:و المقصود من ذلك أن القرابة و الجوار و الدين و الفقه و العقل من المرجحات.

ص:99


1- التوبة:60. [1]

ص:100

كتاب الخمس

وجوبه:

قال اللّه تبارك و تعالى، وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (1).

و قال الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام في تفسير هذه الآية،ما كان للّه فهو لرسوله،و ما كان لرسوله فهو لنا،و اللّه لقد يسر اللّه على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم،جعلوا لربهم واحدا،و أكلوا أربعة أحلاء.

و قال أبوه الإمام الصادق عليه السّلام،ان اللّه لما حرم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس،فالصدقة علينا حرام،و الخمس لنا فريضة.

و يقع الكلام في جهات أربع،الأولى في الأموال التي يجب فيها الخمس، الثانية في نصاب الخمس،الثالثة في مصرف الخمس،الرابعة في الأنفال.

الأموال التي يجب فيها الخمس:

اشارة

الأموال التي يجب فيها الخمس سبعة،و هي،غنائم دار الحرب، و المعادن،و الكنوز،و الغوص،و المكاسب،و الأرض التي اشتراها الذمي من مسلم،و الحلال المختلط بالحرام،و الحصر بهذه السبعة استقرائي مستفاد من

ص:101


1- الأنفال:41. [1]

الأدلة الشرعية،و ليس حصرا عقليا مرددا بين السلب و الإيجاب.

غنائم دار الحرب:

1-ما يؤخذ من دار الحرب،سواء أحواه العسكر،أم لم يحوه،و سواء أ كان منقولا كالدواب،و الأثاث،و النقود،أم غير منقول،كالأراضي و الأشجار و البناء،قليلا كان أم غير قليل،على شريطة ان يصح تملكه للمسلمين،كغير الخمر و الخنزير،و ان يكون غير مغتصب من مسلم،أو ذمي أو معاهد،قال الإمام الباقر عليه السّلام:كل شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و ان محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فان لنا خمسه،و لا يحل لأحد ان يشتري من الخمس شيئا،حتى يصل إلينا حقنا.

و تنبغي الإشارة الى أن المراد بالحرب هنا التي يملك المسلمون غنائمها، و هي الحرب مع غير المسلمين من أجل الإسلام،بحيث يصدق عليها اسم الجهاد من أجل الدين،لا كل حرب بين المسلمين و غيرهم،حتى و لو كانت للدنيا لا للدين،و يدل على ذلك صراحة قول الإمام،«قوتل على شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و ان محمّدا رسول اللّه».و بكلمة،أن مال غير المسلم انما يحل للمسلم في صورة واحدة فقط،و هي ان يصدق على غير المسلم انه حرب على اللّه و رسوله، و يصدق على حرب المسلم انه انتصار للّه و رسوله،و من أجل هذا حل دم الأول، و استبيحت أمواله،فهو بنفسه و بسوء اختياره قد أهدر دمه و ماله،حيث كان بإمكانه أن يدع هذه الحرب،و يبقي لدمه و ماله احترامهما،و ليس هذا المعنى الذي ذكرنا مجرد تأويل و تبرير،بل هو المفهوم الواضح للآيات القرآنية، و الأحاديث النبوية،و أقوال المذاهب الإسلامية كافة من غير استثناء.

ص:102

المعادن:

2-المعادن،و هي كل ما خرج من الأرض مما خلق فيها،و ليس جزءا من كنهها و حقيقتها على أن يكون له قيمة و ثمن،كالذهب و الفضة،و الرصاص و الحديد و النحاس،و الياقوت و الفيروزج،و الملح و الكحل،و النفط و الكبريت، و ما إلى ذلك.و العبرة أن يصدق عليه اسم المعدن،و ما شك في صدق الاسم عليه فلا يلحق به.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن معادن الذهب و الفضة و الصفر و الحديد و الرصاص؟فقال:عليها الخمس جميعا.و عن الكنز و المعادن؟قال:

الخمس.و سئل أبوه الإمام الباقر عليه السّلام عن الملح و النفط و الكبريت؟قال:هذا و أشباهه فيه الخمس.

و انما يجب الخمس في المعدن إذا بلغت قيمته عشرين دينارا فما فوق، و ليس فيما دون العشرين شيء،و متى بلغها استثنى منه نفقات الإخراج و التصفية،و أخرج خمس ما بقي،و لو كان دينارا.قال الإمام عليه السّلام:ليس في المعدن شيء،حتى ما يكون في مثله الزكاة عشرين دينارا،و على هذه الرواية تحمل بقية الروايات التي أوجبت الخمس في المعادن دون ان تقيدها و تحددها ببلوغ العشرين دينارا.

و إذا استخرج المعدن على دفعات ضم بعضها الى بعض،و اعتبر النصاب في المجموع،و وجب فيه الخمس،حتى و لو اختلف الصنف كالذهب و الفضة، و النحاس و الحديد.

و إذا اشترك جماعة في الإخراج ينظر،فان بلغ نصيب كل واحد النصاب وجب فيه الخمس،و إلاّ فلا.

و إذا أخرج المعدن من ارض مملوكة فهو لصاحب الأرض،لأن ما في

ص:103

الأرض يتبعها،و حكمه حكمها،و ان أخرجه من أرض مباحة فهو لمخرجه، حيث تملكه بالحيازة،و عليه الخمس،ان بلغ النصاب.

الكنز:
اشارة

3-الكنز،و يسمى ركازا،من ركز إذا خفي،و منه قوله تعالى، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (1)أي صوتا خفيا،و المراد به هنا المال المدفون في الأرض نقدا كان أو جوهرا،عليه أثر الإسلام،أو الجاهلية،وجد في أرض أهل الحرب،أو السلم، فإن كل من وجد شيئا من ذلك فهو ملك له،و عليه خمسه إذا بلغ النصاب،و هو عشرون دينارا،و لا شيء فيما دون ذلك.سئل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام عن مقدار الكنز الذي يجب فيه الخمس؟فقال:ما تجب فيه الزكاة من ذلك بعينه ففيه الخمس،و ما لم يبلغ حد ما تجب فيه الزكاة فلا خمس فيه- أي ما قيمته عشرون دينارا،أو مائتا درهم.

و لو افترض ضعف هذه الرواية سندا فعمل المشهور بها يقويه و يجبره، هذا بالإضافة إلى ان الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه وصف رواية البزنطي بالصحة،و هي تلتقي مع الرواية التي ذكرناها،و هذا لفظ رواية البزنطي بالحرف:

«قال:سألته عما يجب فيه الخمس من الكنز؟فقال:ما يجب في مثله الزكاة ففيه الخمس».

من وجد كنزا في ملك غيره:

و من وجد كنزا في أرض غير مملوكة فهو لواجده،و لا شيء عليه سوى

ص:104


1- مريم:98. [1]

الخمس،سواء أ كان عليه أثر الإسلام،أم لم يكن،و سواء أ كان في أرض الحرب أو السلم،أو الإسلام،أو الكفر،و على هذا الإجماع بشهادة صاحب الجواهر و المدارك و الحدائق.

و من اشترى قطعة أرض من غيره،و وجد فيها كنزا عرضه على المالك الأول و سأله عنه ان احتمل أنّه له،و متى ادعاه المالك البائع وجب تسليمه له بلا بينة لمكان اليد السابقة،و ان لم يحتمل انه له و لا لغيره من أبناء هذا العصر تملكه الواجد،و دفع خمسه للمستحقين.

و إذا وجده في أرض مملوكة،فلا يجوز التصرف به،حتى يعرضه على صاحب الأرض،فإن ادعاه فهو أحق،و إلاّ فهو لواجده،هذا هو المنسوب إلى المشهور،أو إلى كثير من العلماء،و لكنه كما ترى يحتاج إلى توضيح،بل إلى تحديد أيضا.

و مهما يكن،فإن الذي ينظر إلى الواقع نظرة سليمة يرى أن هذا الذي نقلناه عن الفقهاء ليس عمليا.فأي انسان يرى كنزا في أرض غيره،فيعرفه به؟و من الذي ينكره إذا عرض عليه؟ثم كيف يدعيه،و هو مجهول له من قبل،و من بعد، و لو علم به لما تركه لحظة واحدة؟و هل يبيع الأرض مع علمه بأن فيها كنزا؟أمّا افتراض بعض الفقهاء من أنه علم،ثم ذهل و نسي فأبعد من بعيد،نقول هذا، و نحن نعلم علم اليقين ان عدم تنفيذ الأحكام الشرعية لا يستدعي نفيها،و عدم تشريعها،و لكن لمجرد التقريب فقط،و الذي ينبغي ان يقال:ان كل ما في الأرض فهو تابع لها،و يدخل في ملك مالكها في نظر العرف،و ان لم يكن جزءا منها، سواء أ كان شجرا،أو حجرا،أو معدنا،أو كنزا،و سواء أملك الأرض بالحيازة،أو الهبة،أو البيع.

ص:105

و عليه،فمن وجد كنزا في أرض غيره فلا يجوز له التعرض له بحال،حيث يحرم التصرف بملك الغير إلاّ بإذنه و رضاه،و إذا عصى و تعرض و تصرف بدون اذن المالك،و أخرج الكنز فعليه ان يسلمه لصاحب الأرض،حتى و لو لم يعلم به المالك،كما ان من انتقلت الأرض إليه بسبب من الأسباب الشرعية فقد انتقل إليه كل ما فيها من كنز و معدن و ما إليهما،و لا يجب عليه التعريف لا لصاحب الأرض الأول،و لا لغيره إطلاقا إلاّ إذا احتمل أنّه هو أو وارثه الذي أودعه و خبأه،و يدل على ما اخترناه،رواية محمد بن مسلم،فقد سأل الإمام عليه السّلام عن الورق-أي الدراهم-يوجد في دار؟فقال:ان كانت معمورة فهي لأهلها،و ان كانت خربة فأنت أحق بها.هذا،إذا أراد بقوله عليه السّلام معمورة،المملوكة كما هو الظاهر.و أيضا يستأنس لما قلناه بما جاء في باب اللقطة من ان من وجد في بيت غيره شيئا عرضه عليه،و عرفه به.

و إذا اشترى حيوانا،و لما ذبحه وجد في جوفه دراهم،أو جوهرة،و ما إليها وجب ان يعرفها البائع،فإن عرفها فهي له،و إلاّ فهي لمن وجدها بعد إخراج الخمس،و الدليل على هذا الحكم الخاص ان الإمام عليه السّلام سئل عن رجل اشترى جزورا،أو بقرة للأضاحي،فلما ذبحها وجد في جوفها صرة دراهم،أو دنانير،أو جوهرة،لمن يكون ذلك؟فقال:عرفها البائع،فإن لم يعرفها فالشيء لك،رزقك اللّه تعالى إياه.

و هذه الرواية أجنبية عن الكنز،لأن الكنز هو المدفون في جوف الأرض، لا في بطون الحيوانات.

و إذا اشترى سمكة،و وجد في جوفها شيئا اخرج خمسه كائنا ما كان، و تملك الباقي،و لا يجب تعريف البائع عند المشهور،و الفرق بين الدابة

ص:106

و السمكة وجود النص في الأولى دون الثانية،فيبقى أصل الإباحة في تملك ما في جوف السمكة على ما هو.

و تجدر الإشارة إلى أن ما يجده في جوف الدابة و السمكة لا يشترط فيه النصاب،لأنه ليس بكنز،أما ما يوجد في بطن الأرض فيشترط فيه النصاب،و هو عشرون دينارا،أو مائتا درهم،تماما كما هي الحال في المعادن.

الغوص:

4-الغوص،و هو ما يخرج من البحر-عن طريق الغوص-كالجواهر و اللؤلؤ و المرجان،و ما إليهما من المعادن،و النباتات التي لها قيمة دون الأسماك و الحيوانات،و يجب فيه الخمس إذا بلغت قيمته دينارا،أو أكثر،و لا شيء فيما دون ذلك.سئل الإمام عليه السّلام عما يخرج من البحر من اللؤلؤ و الياقوت،و الزبرجد، و معادن الذهب و الفضة؟فقال:ان بلغت قيمته دينارا ففيه الخمس.

و إذا غرق شيء في البحر،كالسفينة و ما إليها فهو لمن أخرجه،و لا خمس فيه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام:إذا غرقت السفينة،و ما فيها،فأصابه الناس،فما قذف به البحر على ساحله،فهو لأهله،و هم به أحق،و ما غاص عليه الناس و تركه صاحبه فهو لهم.

الزائد على مؤنة السنة:
اشارة

5-ما يفضل عن مؤنة السنة له و لعياله،مما يكتسبه من أرباح التجارة و الصناعة و الزراعة،أو أي عمل من الأعمال،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به،بل عن جماعة الإجماع عليه-ثم قال-:و هو الذي استقر عليه المذهب

ص:107

و العمل في زماننا هذا،بل و غيره،من الأزمنة السابقة التي يمكن دعوى اتصالها بزمان أهل العصمة عليهم السّلام».

و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها ان رجلا كتب للإمام الباقر عليه السّلام:أخبرني عن الخمس،أ هو على جميع ما يستفيده الرجل من قليل و كثير من جميع الضروب،و على الضياع؟و كيف ذلك؟فكتب بخطه:الخمس بعد المؤنة.

و سئل الإمام الكاظم عليه السّلام عن الخمس؟فقال:في ما أفاد الناس من قليل أو كثير.

و إذن،على من يفضل عن مؤنة سنته شيء فعليه خمسه،حتى و لو كان درهما،أو كيلوا من حب،و ما إليه.و أوّل السنة يجب إخراج الخمس فيما يزيد انما يختلف باختلاف الأشخاص،فالتجارة من حين الشروع بالتجارة،و الزارع من حين حصول الناتج،و الموظف منذ اليوم الذي يقبض اجاره.

و المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الحدائق و المدارك انه لا خمس في الميراث و المهر و الهبة،و ان زادت عن مؤنة السنة،و ألحق صاحب كاشف الغطاء و العروة الوثقى بهذه الثلاثة ما يؤخذ بالخمس أو الزكاة،للشك في صدق اسم الفائدة عليه.

أما نحن فنشك،حتى فيما ذهب إليه المشهور من نفي الخمس عن الثلاثة، إذ لا دليل عندهم إلاّ رواية ابن مهزيار،و هي قاصرة الدلالة عما يدعون (1)،فيبقى

ص:108


1- ارتاب في هذه الرواية أكثر من فقيه،و أوردوا عليها العديد من الإشكالات نقلها صاحب الحدائق،و جاء في شرح الإرشاد ما نصه بالحرف:«فيها أحكام كثيرة مخالفة للمذهب مع الاضطراب».

قول الإمام عليه السّلام:«الخمس في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير».و قوله عليه السّلام أيضا:«الخمس على جميع ما يستفيد الرجل من قليل أو كثير من جميع الضروب»يبقى هذا على إطلاقه،و يجب تعميمه لكل فائدة بدون استثناء.

تحديد المؤنة:
اشارة

ليس للمؤنة و النفقة المستثناة طوال السنة معنى خاص في الشريعة، و المرجع في تحديدها هو العرف،و المؤنة في نظر العرف تختلف باختلاف الأشخاص،و الضابط الجامع أن ما لا يعد إنفاقه سفها و تبذيرا فهو من المؤنة، و يدخل فيها المأكل و الملبس و المسكن و المركب و الأثاث و المشرب الحلال، و ما يحتاجه في أسفاره،و لخدمته و أضيافه،و للإهداء،و لدفع الشر عن نفسه،أو عن مؤمن،و لتزويج أولاده،أو تزويجه ثانية،مع عدم السفه،و ما إلى ذاك مما يتعسر حصره،قال صاحب الجواهر:«لا يمكن الإحاطة ببيان ذلك جميعه، خصوصا مع ملاحظة الأشخاص،و الأزمنة و الأمكنة،و غيرها،فالأولى إيكال معرفة النفقة إلى العرف،كإيكال معرفة العيال إليه،إذ ما من أحد إلاّ و عنده عيال، و له مؤنة».

و تسأل:هل يحتسب الدّين من المؤنة،بحيث يعد وفاؤه تماما كالمأكل و الملبس،أو لا؟

الجواب:

ان الفقهاء اتفقوا على ان الدين الكائن في سنة الربح،لأجل النفقة،أو التجارة فهو من المؤنة،و ان الدين الذي يحدث بعد مضي سنة الربح لا يزاحم الخمس في ربح السنة الماضية،لأن الدين الأول حصل في أثناء السنة فيحسب

ص:109

منها،و الدين الثاني حصل بعدها فيكون أجنبيا عنها،و اختلفوا في الدين السابق على سنة الربح،فمنهم من لا يحتسبه من نفقتها،و منهم من يراه منها في الصميم، و نحن مع هؤلاء،لأن السر الأول و الأخير في عد الشيء من المؤنة هو الحاجة إليه،و وفاء الدين بخاصة السابق من أحوج الحاجات.و قال صاحب الجواهر:«ان الدين السابق يكون من النفقة،حتى مع عدم الحاجة إليه عند استدانته،و لكن بعد ان اشتغلت الذمة به أصبح من الحاجة».

و إذا اشترى لحاجة السنة ما يبقى سنوات،كالسجاد،و المقاعد و الأسرة، و أدوات السفرة،و حلي النساء و السيارة،و ما إليها،فهل يجب تقويمها بعد انتهاء السنة،و دفع الخمس،أولا؟

الجواب:

لا خمس فيها ما دامت الحاجة إليها باقية،هذا،إلى انها قد خرجت عن أدلة وجوب الخمس قطعا في سنة الربح،فلا تدخل فيها ثانية و تكون مشمولة لها إلاّ بدليل،و لا دليل.

الذمي و شراء الأرض:

6-السادس من الأموال التي يجب فيها الخمس هي الأرض التي يشتريها الذمي من مسلم،أي ان على الذمي ان يخرج خمس ما اشتراه من المسلم،لقول الإمام عليه السّلام:أيما ذمي اشترى من مسلم أرضا فإن عليه الخمس.

و إذا علمت ان الذمي هو الكتابي الذي يدفع الجزية لبيت مال المسلمين علمت أنّه لا مصداق اليوم لهذا المبدأ،و ما إليه.

ص:110

اختلاط الحلال بالحرام:

7-المال الحرام إذا اختلط بالحلال،و لم يتميز،و لا عرف مقدار الحرام منه،و لا صاحبه و مستحقه،إذا كان الأمر كذلك اخرج خمس المجموع،و حل الباقي،قال العلامة الحلي في التذكرة:لأن منعه من التصرف ينافي مالية المالك- لأن الناس مسلطون على أموالهم-و يستدعي ضررا عظيما بترك الانتفاع بالمال وقت الحاجة،و تسويغ التصرف بالجميع اباحة للحرام-إذ المفروض ان بعضه ملك للغير-و كلاهما منفيان،و لا مخلص إلاّ إخراج الخمس،و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان رجلا أتى عليا أمير المؤمنين عليه السّلام،فقال:يا أمير المؤمنين اني أصبت مالا،لا أعرف حلاله من حرامه.فقال له:اخرج الخمس من ذلك المال، فإن اللّه تعالى قد رضي من المال الخمس.

و لو عرف مقدار الحرام وجب إخراجه،سواء أ كان أقل من الخمس أو أكثر،و لو عرف الحرام بعينه أخرجه بالذات،و إذا لم يعلم المبلغ على التحقيق، و لكنه علم أنه أكثر من الخمس يقينا،اخرج الخمس و ما يغلب على الظن في الزائد،و لو عرف صاحب المال،و جهل المبلغ صالحه عليه،أو أعطاه ما يغلب على ظنه،فإن رفض المالك مصالحته اخرج إليه الخمس فقط،لأن هذا القدر جعله اللّه مطهرا للمال.

النصاب:

قدمنا ان الكلام في الخمس يقع في أربع جهات،الأولى في بيان الأموال التي يجب فيها الخمس و ذكرناها كاملة،و الجهة الثانية في النصاب،و هو معتبر في المعدن،و الكنز و الغوص فقط،و نصاب كل من المعدن و الكنز عشرون

ص:111

دينارا،و يجب الخمس في الزائد عنها مطلقا،و لا خمس فيما دون العشرين.

و متى بلغ المعدن أو الكنز عشرين دينارا لم يؤخذ الخمس من المجموع، بل بعد وضع نفقات الإخراج و التصفية،لأن النفقات وسيلة إلى تناوله،و الحصول عليه.

و نصاب الغوص دينار واحد،و لا شيء فيما نقص عنه،و إذا كان النصاب في أكثر من دفعة واحدة،فإن أتى بالأولى،ثم أعرض عن الغوص،و أهمل،ثم بدا له أن يستأنف فلا يضم الأولى إلى الثانية،و إلاّ وجب الضم،و اعتبر النصاب في المجموع.

و لا يشترط النصاب في غنائم دار الحرب،و لا فيما يفضل عن مؤنة السنة، و لا في المال الحلال المختلط بالحرام،و لا في الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم.

و تنبغي الإشارة إلى ان البلوغ ليس شرطا فيمن يخرج الكنز و المعدن،و لا في الغائص،و لا بمن اختلط الحلال من ماله بالحرام،و لا بالذمي الذي اشترى أرضا من مسلم،و لا في أرباح المكاسب الفاضلة عن مؤنة السنة،فيجب على الولي أن يؤدي الخمس من ذلك كله،و علق السيد الحكيم في المستمسك على هذا بقوله:«لإطلاق النصوص و الفتاوى،و معاقد الإجماعات».

مصرف الخمس:

اشارة

الجهة الثالثة من الأربع التي يقع عنها الكلام في باب الخمس هي مصرفه.

قال الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية الكريمة وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ 1،قال:ان خمس اللّه للرسول،و خمس الرسول للإمام،و خمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام،و اليتامى-هم-يتامى الرسول،و المساكين منهم، و أبناء السبيل منهم،فلا يخرج منهم إلى غيرهم.إلى كثير مما هو بهذا المعنى.

ص:112

قال الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية الكريمة وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (1)،قال:ان خمس اللّه للرسول،و خمس الرسول للإمام،و خمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام،و اليتامى-هم-يتامى الرسول،و المساكين منهم، و أبناء السبيل منهم،فلا يخرج منهم إلى غيرهم.إلى كثير مما هو بهذا المعنى.

الفقهاء:

قالوا:ان الخمس يقسم على ستة أسهم،و هي التي نطقت بها الآية:سهم اللّه،و سهم الرسول،و سهم الإمام،لأنه هو المراد من ذي القربى بالإجماع،و سهم اليتامى،و سهم المساكين،و سهم ابن السبيل من أقارب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاصة الذين حرم اللّه عليهم الصدقة،دون غيرهم،و ما كان للّه فهو لرسوله،و ما كان للرسول فهو للإمام،و اذن،يكون للإمام من الخمس ثلاثة أسهم،و هي نصف الخمس،أما الأسهم الثلاثة الباقية فإنها تقسم على يتامى آل الرسول،و مساكينهم و أبناء سبيلهم،لا يشاركهم فيها غيرهم.

قال الإمام عليه السّلام:انما جعل اللّه هذا الخمس لهم دون مساكين الناس و أبناء سبيلهم عوضا لهم من صدقات الناس،تنزيها من اللّه لهم،لقرابتهم برسول اللّه.

و لا بأس بصدقات بعضهم على بعض،و هؤلاء الذين جعل اللّه لهم الخمس هم قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين ذكرهم اللّه،فقال وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (2)و هم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر منهم و الأنثى،ليس فيهم من بيوتات قريش، و لا من العرب أحد.و من كانت أمه من بني هاشم،و أبوه من سائر قريش فان الصدقات تحل له،و ليس له من الخمس شيء.

ص:


1- الأنفال:41. [1]
2- الشعراء:214. [2]

و يدخل في بني عبد المطلب كل من انتسب إليه بالأب،كأبناء علي أمير المؤمنين عليه السّلام،و أبناء عقيل،و أبناء الحارث،و أبي لهب،و العباسيين،و ينبغي أن يرجح من هو أشد اتصالا بالرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،كالفاطميين.

طرق ثبوت النسب:

و لا يثبت النسب إلاّ بالبينة الشرعية،أو حكم الحاكم،أو الشياع الموجب للاطمئنان.و قال قائل:يؤخذ بقول مدعي النسب بمجرد الدعوى،لأن الأصل هو الصحة في فعل المسلم و أقواله.و نقول في جوابه:ان هذا الأصل ينفي عنه تعمد الكذب،و استحقاق العقاب و المؤاخذة،و هذا شيء،و جواز دفع الخمس له، و فراغ ذمة الدافع شيء آخر.

سهم الإمام،و سهم السادة:

اشارة

قدمنا أن الأسهم الستة ترجع إلى سهمين،ثلاثة منها للإمام،و هي سهم اللّه و الرسول و ذي القربى،و ثلاثة إلى قرابة الرسول،و هي سهم اليتامى و الفقراء، و أبناء السبيل.و الذي تقتضيه القواعد،و أصول المذهب،و دلت عليه النصوص ان في زمن الحضور،و التمكن من الوصول إلى الإمام عليه السّلام يعطى له جميع الخمس بدون استثناء،و لا يجوز التصرف في شيء منه إلاّ بإذنه.أما كيف يصنع به الإمام،و انه يوزع القسم الثاني منه على الطوائف الثلاث مقتصدا في كل طائفة على قدر كفايتها،و ما زاد فهو له،و ان أعوزهم شيء أتمه من نصيبه،أما التعرض و الحديث عن هذا فلا جدوى منه،بخاصة في زماننا.

و أما في زمن الغيبة،و هو عصرنا الذي نحن فيه فالمشهور بين العلماء

ص:114

قديما و حديثا أن سهم القرابة،و هم اليتامى و المساكين و أبناء السبيل يعطى لهم ابتداء بدون توسط الحاكم الشرعي و الترخيص منه،على شريطة أن يكونوا من أهل الولاية الاثني عشرية،و ان يكون كل من اليتيم و المسكين من أهل الحاجة الذي لا يملك مؤنة سنته،و ان يكون ابن السبيل منقطعا في غير بلده،و فقيرا في غربته،و ان كان غنيا في بلده،و ان يكون سفره في غير معصية.و لا يجب البسط و توزيع القسم الثاني على الطوائف الثلاث:اليتامى و المساكين و أبناء السبيل،بل يجوز لك أن تعطي جميع ما عليك من الخمس لسيد واحد محتاج،على أن لا تزيد شيئا على ما يكفيه لمدة سنة،و لو كان العطاء في دفعة واحدة،و من أجاز ذلك في الزكاة منعه في الخمس.و قال صاحب الجواهر:لا أجد فيه خلافا،أما نحن فنمنعه فيهما معا،و ذكرنا الدليل في باب الزكاة.

و لا يجوز لمن عليه الخمس ان يعطي شيئا منه لمن تجب نفقته عليه،تماما كما هي الحال في الزكاة.

و نكرر أن هذا الذي قلناه عليه عمل المشهور قديما و حديثا،و تقتضيه الأدلة كتابا و سنة و إجماعا،حتى أصبح وجوب هذا النوع من الخمس من ضرورات الدين و الإسلام،و قيل:انه سقط في زمن الغيبة بعد وجوبه،و أبيح للشيعة أكله بعد تحريمه عليهم،و نقول:لقد ثبت وجوبه بالقطع و اليقين، و سقوطه مشكوك،و إطلاق الأدلة و شمولها لزمن الغيبة و الحضور محكم،أما الروايات التي استدل من استدل بها على السقوط ففيها أكثر من علة،و قد نقلها و تبسط في درسها و تمحيصها الشيخ الهمداني في الجزء الثالث من مصباح الفقيه،فليراجع.

أما سهم الإمام عليه السّلام،و هو نصف الخمس و حكمه في زمن الغيبة فقد

ص:115

تعددت فيه الأقوال،و تضاربت،و أنهاها صاحب الحدائق إلى أربعة عشر قولا، و المهم منها القول ببقاء سهم الإمام،و عدم سقوطه في زمن الغيبة،و وجوب صرفه في تأييد الدين و دعمه،و على العارفين بتعاليمه و مبادئه،و على الفقراء الصالحين المخلصين من أهل الولاية.و القول الثاني بقاؤه،و لكن يضاف إلى سهم السادة،و يعطى لليتامى و المساكين من قرابة الرسول.القول الثالث يسقط في الأرباح،و فاضل مؤنة السنة فقط،دون سائر الأصناف الستة الباقية.القول الرابع يسقط إطلاقا،و يباح للشيعة أكله،و لا يجب عليهم دفع شيء منه.

هذي هي أهم الأقوال،أما الأدلة فهي على أنواع ثلاثة:

الأول:ما دل على وجوب إخراج الخمس إطلاقا في زمن الغيبة و زمن الحضور بدون فرق بين سهم الإمام،و سهم السادة،و هي الآية الكريمة وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (1).و الروايات الكثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،و ذكرنا طرفا منها فيما تقدم،و منها قول الإمام عليه السّلام:الخمس في كل ما أفاد الناس من قليل،أو كثير.

الثاني:ما يدل على التشديد في إخراج الخمس،و عدم سقوطه إطلاقا في حضور الإمام و غيبته،كقوله عليه السّلام:«لا يحل لأحد ان يشتري من الخمس شيئا، حتى يصل إلينا حقنا».و قوله عليه السّلام:«أما الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام».و هذا النوع يعزز النوع الأول و يدعمه.

الثالث من الأدلة:ما يدل على التحليل و الإباحة،و سقوط الخمس مطلقا أيضا في الحضور و الغيبة،كقول الإمام عليه السّلام:«و كل من والى آبائي فهم في حل مما في أيديهم من حقنا فليبلغ الشاهد الغائب».و قوله:«الا و ان شيعتنا من ذلك -أي الخمس-و أبناءهم في حل».

ص:116


1- الأنفال:41. [1]

و لا يمكن الجمع بين النوع الثاني الذي أثبت الوجوب و عدم السقوط مطلقا في الحضور و الغياب،و بين النوع الثالث الذي نفاه و اباحه للشيعة مطلقا أيضا-لا يمكن الجمع بينهما بحمل الإثبات على زمن الحضور،و النفي على زمن الغياب،لأنه جمع اعتباطي صرف،لا دليل عليه من الشرع،و لا من العرف.

و أيضا لا يمكن الجمع بينهما بحمل الإثبات على الاستحباب،و حمل النفي على الوجوب،لأن مقتضى ذلك هو عدم وجوب الخمس من الأساس،حتى في زمن الحضور،و هذا تماما كنفي وجوب الصوم و الصلاة،و الحج و الزكاة.أما الوجوه الأخرى التي ذكرت،أو تذكر للجمع بين النوعين فليست بأفضل من هذين المحملين،و اذن،فالتعارض بين ما دل على عدم السقوط في زمن الغيبة،و بين ما دل على السقوط لا مفر منه (1)،و عليه فلا خلاص من أحد أمرين:امّا ان نلتزم ببقاء وجوب الخمس بما فيه سهم الإمام في زمن الحضور و الغياب معا،و امّا أن نلتزم بعدم وجوبه كذلك،و لا سبيل إلى قول ثالث.و من التزم بالثاني يخرج عن الإسلام،لأنه ينكر ما ثبت بضرورة الدين،فيتعين الأول حتما،و هو بقاء الوجوب و عدم السقوط في الغياب،تماما كالحضور بلا أدنى تفاوت.

و على هذا يصرف سهم الإمام في زمن الغيبة في السبيل الذي نعلم برضا الإمام به،كتأييد الدين،و ترويج الشريعة،و من أظهر مصاديق هذا الترويج في عصرنا الحاضر تعيين أساتذة قديرين،لإلقاء الدروس و المحاضرات في فقه آل البيت بالجامعات الزمنية الغربية منها و الشرقية.أمّا الإنفاق من سهم الإمام عليه السّلام

ص:117


1- و يمكن القول بأنّه لا تعارض أصلا بين الروايات المثبتة للخمس،و الروايات النافية،لاختلاف الموضوع،و تعدده،حيث نحمل الروايات المثبتة على ارادة الخمس في الأصناف السبعة و بقاءه في زمن الغيبة و الحضور،و الروايات النافية على الأنفال التي يأتي الكلام عنها في آخر الفصل، فلاحظ فقرة«الأنفال».

على المتطفلين و المرتزقة،و على الذين يتاجرون بالدين فإنه من أعظم المحرمات،و أكبر الكبائر و الموبقات،و في عقيدتي ان إلغاء سهم الإمام أفضل ألف مرة من أن يأخذه أحد هؤلاء،و من إليهم،لأنه تشجيع للجاهل على جهله، و للمغرور على غروره،و للضال على ضلاله.

و قد اطلعت،و أنا ابحث و انقب عن مصادر هذه المسألة و أقوال الفقهاء القدامى و الجدد،و آرائهم في سهم الإمام حال غيابه،اطلعت على كلمات لصاحب الجواهر،تدل على قداسته و عظمته في الإخلاص و التقوى،و بعد النظر،قال:«ان مثلنا ممن لم تزهد نفسه بالدنيا لا يمكنه الإحاطة بالمصالح و المفاسد،كما هي في نظر الإمام،فكيف يقطع برضاه،مع عدم خلوص النفس من الملكات الرديئة،كالصداقة و القرابة،و نحوهما من المصالح الدنيوية،فقد يفضل البعض لذلك،و يترك الباقي في شدة الجوع و الحيرة».

و سر العظمة في هذا الكلام أنّه جعل«خلوص النفس من الملكات الرديئة» هو السبيل الصحيح إلى معرفة المصالح و المفاسد كما هي في واقعها،و عند الإمام عليه السّلام،أمّا مجرد التحقيق و التدقيق و التفريع فما هو بشيء عند صاحب الجواهر،لأنه ليس بطريق و لا وسيلة إلى معرفة المصالح و المفاسد التي شرعت على أساسها الشرائع،و أنزلت لبيانها الأديان و أرسلت الرسل،و أداها عنهم الأئمة الأطهار،و العلماء الأبرار.

و تسأل:لو افترض ان من عليه الخمس يعلم مواقع الخير التي ترضي اللّه و الرسول من مصرف سهم الإمام،أو أنّه يستطيع أن يعلم ذلك من خبير به،و لكنه غير الحاكم الشرعي،فهل له أن يعمل بعلمه،و ينفق سهم الإمام فيما اعتقد أنه يرضي اللّه و الرسول دون أن يرجع إلى الحاكم الشرعي،أو لا بد من الرجوع إليه،

ص:118

بحيث إذا أنفق شيئا من سهم الإمام بدون الترخيص منه لم يفرغ ذمته،حتى و لو صادف الواقع؟

الجواب:

المشهور على وجوب الرجوع إلى الحاكم،و لكن هذا من المشهورات التي لا أصل لها،و لا دليل عليها من كتاب،أو سنة،أو عقل،بخاصة إذا صادف الإنفاق كله الواقعي،مع نية القربة المفروض تحققها،بل قام الدليل على ضد و عكس هذه الشهرة.ذلك أن الواجب هو الأداء و الوفاء بسهم الإمام،و اشتراط الرجوع إلى الحاكم قيد زائد،فينفى بالأصل.هذا،إلى أنّه لا واسطة في الإسلام بين اللّه و الإنسان،و ان اللّه جل و علا يتقبل من العبد عباداته و أعماله بدون شفيع،ما دام مخلصا في قصده،مؤديا لحقه،مطيعا لأوامره.

و حيث لا دليل على وجوب الرجوع إلى الحاكم في سهم الإمام و مصرفه، فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى ما قلناه،منهم الشيخ المفيد،و صاحب الحدائق، و السيد الحكيم،فقد جاء في المستمسك لهذا السيد ما ننقله بالنص و الحرف:

«و من ذلك يظهر أن الأحوط ان لم يكن الأقوى إحراز رضاه عليه السّلام-أي رضا الإمام-في جواز التصرف،فإذا أحرز رضاه بصرفه في جهة معينة جاز للمالك تولي ذلك بلا حاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي».

و قال صاحب الحدائق:لم نقف له-أي لوجوب الرجوع إلى الحاكم-على دليل،و غاية ما يستفاد من أخبار أهل البيت عليهم السّلام نيابة الحاكم في القضاء و المرافعات،و الأخذ بحكمه و فتواه،أما دفع الأموال إليه فلم أقف له على دليل لا عموما،و لا خصوصا».

و الأمر كما قال صاحب الحدائق:ان نيابة الفقيه عن الإمام انما هي في

ص:119

القضاء و الإفتاء،لا في قبض الأموال،و للفقيه أيضا الولاية في كل ما تدعو إليه الحاجة و الضرورة،كالولاية على الأوقاف التي لا ولي خاص لها،و على الأيتام الذين لا ولي خبري لهم،و ما إلى ذاك مما لا بد منه،و لكن هذا شيء،و عدم فراغ الذمة من دين الخمس بعامة،أو سهم الإمام بخاصة إلاّ بالرجوع إلى الحاكم شيء آخر.

أمّا من قال:ان الحاكم الشرعي اعرف بالمواضع التي يجب ان يصرف فيها سهم الإمام فنجيبه بأن هذا تسليم و اعتراف بأن العبرة بمعرفة المواضع و المواقع المطلوبة،لا بالرجوع إلى الحاكم.

الأنفال:

اشارة

الجهة الرابعة من مباحث الخمس الأنفال،جمع نفل،و له في اللغة معان شتى،منها الغنيمة،و الهبة،و الزيادة.يقال هذا نفل على ذاك،أي زيادة عليه،و في الشرع ما يختص بالإمام منتقلا إليه من الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال اللّه جل و علا يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ (1).

و قال الإمام عليه السّلام:الأنفال كل أرض خربة باد أهلها،و كل أرض لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب،و لكن صالحوا صلحا،و أعطوا بأيديهم على غير قتال،و له -أي للإمام-رؤوس الجبال،و بطون الأودية،و الآجام،و كل أرض ميتة لا رب لها، و له صوافي الملوك،ما كان في أيديهم من غير غصب،لأن الغصب كله مردود.

و قال:الأنفال للّه،و للرسول،فما كان للّه فهو للرسول،يضعه حيث يشاء،

ص:120


1- الأنفال:1. [1]

و ما كان للرسول فهو للإمام.

الفقهاء:

قالوا:الأنفال كلها للإمام منتقلة إليه من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،لأنه خليفته،و وارثه، و هي على أنواع:

1-الأرض التي تملك من غير المسلمين بدون قتال،سواء انجلى عنها أهلها و تركوها للمسلمين،أو مكنوهم منها طوعا مع بقائهم فيها.

2-الأرض الموات،سواء أملكت،ثم باد أهلها،أم لم تملك من الأساس، كالمفاوز و سواحل البحار.

3-رؤوس الجبال،و بطون الأودية،و الآجام-أي الإخراج.

4-كل ما اختص به سلطان الحرب،منقولا،أو غير منقول،على شريطة أن لا يكون مغتصبا من مسلم،أو معاهد.

5-ما يصطفيه لنفسه من غنائم الحرب قبل القسمة،فإذا اختار منها الفرس أو الثوب أو الجارية فهو له من الأنفال.

6-ميراث من لا ميراث له.

و الأنفال بشتى أقسامها و أنواعها تعطى للإمام،و لا يجوز التصرف بشيء منها إلاّ باذنه و رضاه في حال حضوره.أمّا في حال الغياب،كهذا العصر فقد أحلها للشيعة،و جعلها لهم،و لما يعود على الإسلام بالخير و الصالح العام.و يدل على ذلك قول الإمام عليه السّلام:«ما كان لنا فهو لشيعتنا».و قوله:«كل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون،و محلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا».

و قال الشهيد الثاني في آخر الخمس ما نصه بالحرف:«الأصح إباحة الأنفال

ص:121

حالة الغيبة».و يأتي في باب احياء الموات قول الإمام:«من أحيا أرضا ميتة فهي له».و قوله:«الأرض للّه،و لمن عمرها».و يأتي أيضا ان ميراث من لا وارث له يعود لبيت مال المسلمين.قال صاحب الحدائق في آخر باب الخمس:«و ظاهر جملة من متأخري المتأخرين القول بالتحليل مطلقا،و هو الظاهر من أخبار أهل البيت عليهم السّلام،و يدل عليه جملة من الروايات،كرواية يونس بن ظبيان،و معلى بن خنيس،و صحيحة أبي خالد الكابلي،و صحيحة عمر بن يزيد،و منها الأخبار الكثيرة الواردة في إحياء الموات،و ميراث من لا وارث له،و نحو ذلك».

و قال السيد الحكيم في المستمسك:«لا يبعد استمرار السيرة على التصرف فيما للإمام من الأرض بأقسامها المتقدمة،بل عموم الابتلاء بها من غير نكير،بل لو لا الحل لوقع أكثر الناس في الحرام».

و غير بعيد أن يكون المراد من الروايات الدالة بظاهرها على سقوط الخمس مطلقا هو سقوط الأنفال خاصة،دون الأصناف السبعة التي سبق الكلام عنها،و على هذا يرتفع التعارض و التضاد بين الروايات المثبتة للخمس إطلاقا في زمن الغياب و الحضور،و الروايات النافية له كذلك،فنحمل روايات النفي على تحليل الأنفال،و روايات الإثبات على وجوب الخمس و بقائه في الأصناف السبعة،و متى اختلف الموضوع و تعدد زال التعارض حتما.

ص:122

كتاب الحج

اشارة

(1)

للحج في اللغة معان،منها القصد،و التردد في المكان،و في الشريعة قصد بيت اللّه الحرام،لأداء المناسك المخصوصة عنده و يأتي بيانها مفصلا.

الوجوب:

اشارة

الحج ركن من أركان الإسلام،تماما كالصلاة و الصوم و الزكاة،و من أنكره فقد خرج عن الإسلام بالكتاب،و السنة،و الإجماع،و اذن،وجوب الحج ليس محلا للاجتهاد،أو التقليد،لأنه من البديهات،و مع ذلك نذكر طرفا من الآيات و الروايات التي حثت عليه و ألزمت به،نذكرها في حلقة الدرس حين يستدل بآية أو رواية على مثل ما نحن فيه من الوضوح.فمن الآيات:

وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (2).

ص:123


1- لا يفهم الحج على حقيقته بالدرس و المطالعة إلاّ بعد أداء فريضته،لأنه عملي لا نظري،و في القديم قال عالم كبير بعد أن حج:الآن فهمنا الحج،و لا نفهم مسائل الحيض،حتى نحيض،و في سنة 1383 ه،ألفت كتاب الحج على المذاهب الخمسة،ثم أديت الفريضة في السنة ذاتها،و ألفت كتابي هذا سنة 1384 ه،فجاء بعد دراستي الحج نظريا،و تطبيقه عمليا،و الحمد للّه وحده،و هو المسؤول أن يوفقني و إياك أيها القارئ للعلم و العمل.
2- الحج:26. [1]

وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1).

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (2).

وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (3).

و سأل رجل الإمام الصادق عليه السّلام عن قوله تعالى «وَ مَنْ كَفَرَ» مستفهما:من لم يحج منا فقد كفر؟قال له الإمام:لا،و لكن من قال:ليس هذا كهذا فقد كفر أي- من أنكر وجوب الحج من الأساس فهو كافر-و قال كثير من الفقهاء و المفسرين:

ان معنى الكفر من ترك،لأن الكفر في اللغة يأتي بمعنى الترك.

ثم قال السائل للإمام عليه السّلام:ما معنى قوله تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ ؟ قال الإمام عليه السّلام:يعني بتمامهما أداءهما،و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما.

ثم قال السائل:ما معنى الحج الأكبر في قوله تعالى وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ -أول سورة التوبة.

قال الإمام عليه السّلام:الحج الأكبر الوقوف بعرفة،و رمي الجمار،و الحج الأصغر.

الفور:
اشارة

ليس من شك أن الحج يجب في العمر مرة واحدة،و لكن هل يجب على

ص:124


1- الحج:27. [1]
2- البقرة:196. [2]
3- آل عمران:97. [3]

الفور،أو على التراخي؟بمعنى أنه إذا تحققت شروط الحج،و وجدت الاستطاعة،فهل على المستطيع ان يبادر الى الحج في نفس السنة التي استطاع فيها،و لا يجوز له أن يؤخر و يماطل إلى السنة القادمة،بحيث إذا أخر عصى و أثم، و وجب عليه أن يبادر إلى الأداء و الوفاء في السنة القادمة،فإذا أهمل إلى الثالثة عصى و أثم،و بادر أيضا إلى العمل في الرابعة،و هكذا،أو لا عصيان بالتأخير و التأجيل ما دام يظن البقاء و السلامة،بل هو مخير بين الأداء في السنة الأولى،و ما يليها،تماما كالصلاة يؤديها في أوّل الوقت و آخره؟

الجواب:

اجمع العلماء على أن حجة الإسلام تجب على الفور لا على التراخي، حتى أن كثيرا منهم قالوا:ان التأخير كبيرة موبقة و مهلكة،و ليس لنا،و لا لأحد غيرنا ان يناقش في انعقاد هذا الإجماع،و قيامه في كل عصر،و لكن مع اعترافنا به نقول:انه ليس بحجة يركن إليها،لأن المعروف من أصول المذهب أن الإجماع انما يكون دليلا يركن إليه إذا علم بأنه يكشف عن رأي المعصوم،فإذا علم أو احتمل أنه استند إلى آية أو رواية،أو أصل أو احتياط،سقط عن الدلالة و الاعتبار، بداهة ان العلم لا يناقض العلم،و الاحتمال لا يجتمع مع العلم بحال.

و نحن نعلم أن الفقهاء قد استدلوا و اعتمدوا لوجوب الفور بروايات لا تدل على وجوبه،و أظهر هذه الروايات قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا قدر الرجل على ما يحج به،ثم دفع ذلك،و ليس له شغل يعذر به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام».

و هذا القول من الإمام عليه السّلام أجنبي عن الفور،لأن المفهوم منه أن سوّف، حتى أدى به التسويف إلى ترك الحج كلية فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام،لا

ص:125

أن من أخر إلى السنة الثانية أو الثالثة،مع ظن السلامة.و تدل على ما قلناه لفظة «ترك»و لو أراد التراخي لقال«أخر أو تراخي»،و لا أقل من احتمال إرادة أحد المعنيين،الفور أو التراخي،و لا ترجيح لأحدهما،بعد البناء على أن الأمر لا يدل على الفور،و لا على التراخي،بل على مجرد وجود الفعل،و كفى.هذا،إلى أن أكثر الناس،حتى العلماء و قادة الدين يؤخرون الحج إلى الخامسة و السادسة،لا إلى الثانية فقط،و لا يرون أنفسهم،أو يراهم أحد أنهم تاركون لشريعة من شرائع الإسلام.

و مهما يكن،فإن المبادرة في السنة الأولى أفضل،و أحفظ للدين،لقوله تعالى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ (1)،و لأن التأخير عرضة للفوات،و حوادث الزمان.

الشروط:

اشارة

و يجب الحج بشروط:

1-العقل

،لأنه متى أخذ ما وهب سقط ما وجب،و لو أفاق المجنون مدة تتسع لأداء الحج بتمامه وجب عليه ان كان مستطيعا،و إذا لم يتسع وقت الإفاقة لجميع الأعمال سقط عنه الوجوب.

2-البلوغ

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لو أن غلاما ما حج عشر حجج،ثم احتلم كان عليه فريضة الإسلام».بداهة ان الإتيان بغير الواجب لا يسقط الواجب، حتى و لو كان مستحبا لذاته،فكيف به إذا كان لمجرد التمرين (2)!و مهما يكن،

ص:126


1- البقرة:148. [1]
2- يرى كثير من الفقهاء،أو الأكثر ان عبادة الصبي المميز صحيحة بمعنى أنه مأمور بها استحبابا حقيقيا،و انه مأجور عليها،أما نحن فنرى أنّها صحيحة لمجرد التمرين فقط،و ان الأجر و الثواب يعود لوليه الممرن،و يدل على ذلك أولا ما جاء في صوم الصبي من«أن فيه تمرينا،و منعا عن الفساد»كما قال الإمام عليه السّلام،و ثانيا ان التكليف لا يتجزأ،فإذا صح تكليفه استحبابا حقيقيا فينبغي أن يصح تكليفه على سبيل الوجوب و التحريم ايضا،و لا قائل بذلك.

فقد ذهب المشهور إلى أن حج الصبي المميز يتوقف على اذن الولي.

و يستحب للولي أن يحرم بالصبي غير المميز،و يطوف به و يرمي عنه، و يحلق رأسه،و ما إلى ذاك من أفعال الحج.قال الإمام الصادق عليه السّلام:انظروا من كان معكم من الصبيان،فقدموه الجحفة،أو إلى بطن مر،يصنع بهم ما يصنع بالمحرم،و يطاف بهم و يرمى عنهم،و من لا يجد الهدي منهم فليصم عنه وليه.

و نقل صاحب الجواهر عن المشهور ان الصبي المميز إذا باشر بالحج،ثم بلغ قبل الوقوف بالمشعر،و فعل باقي الأركان أجزأه ذلك حجة الإسلام،حيث ثبت عن أهل البيت«من أدرك المشعر فقد أدرك الحج».

3-الاستطاعة
اشارة

،و سنعقد لها فصلا مستقلا،أما الاختتان فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه شرط في وجود الحج و صحته،لا في أصل وجوبه،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن نصراني أسلم و حضر الحج،و لم يكن قد اختتن،أ يحج قبل أن يختتن؟قال:لا،و لكن يبدأ بالسنة.

و على افتراض اعتبار التطهير فإنه يعتبر مع التمكن منه،و إلاّ صح الحج و الطواف.

ص:127

ص:128

توضيح حول الاستطاعة
اشارة

أهم شروط الحج الاستطاعة،و لذا عقدنا لها فصلا خاصا،و غير المستطيع لا يجب عليه الحج لقوله تعالى وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (1)و ليس هذا بحاجة إلى البيان،و انما الذي ينبغي بيانه و تحديده هو معنى الاستطاعة،فهل المراد منها مجرد القدرة على الوصول إلى مكة المكرمة بأي سبيل،و لو بالمشي،أو الدين،أو بيع ما يحتاج إليه،و إلى عياله،أو بالتقتير عليه و عليهم،و ما إلى ذلك.أو ان المراد بالاستطاعة معنى شرعي خاص؟

الجواب:

روي عن أهل البيت عليهم السّلام ان المراد بالاستطاعة هنا الاستطاعة العقلية، و هي مجرد القدرة على الوصول إلى مكة،و روي عنهم أيضا انها الاستطاعة الشرعية المحددة بتحديد خاص،و قد أعرض الفقهاء عن تلك الروايات التي أوجبت الحج إطلاقا،و لو بالدين أو المشي على الأقدام،و عملوا بالروايات الثانية،و منها ان سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن معنى السبيل في قوله تعالى:

مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فقال الإمام عليه السّلام:من كان صحيحا في بدنه مخلى في سربه،له زاد و راحلة فهو يستطيع الحج.

ص:129


1- آل عمران:97. [1]

و سئل أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام نفس السؤال،فقال:الاستطاعة ان يكون له ما يحج به.

و فهم الفقهاء من هاتين الروايتين،و ما إليهما ان الراحلة تعبير عن اجرة السفر،و الانتقال إلى مكة،ثم العودة منها إلى بلده،و ان الزاد عبارة عما يحتاج إليه من مال للمأكل و المشرب،و أجرة السكن،و نفقات جواز السفر،و ما إلى ذلك من الأشياء اللائقة بحاله و وضعه،على أن يكون جميع ما يحتاج إليه زائدا عن ديونه و مؤنة عياله و أثاثه و كتبه و خادمه،و ما يضطر إليه من مصدر معاشه،كالأرض للفلاح و الأدوات لصاحب المهنة و الصنعة،و رأس المال للتاجر،بحيث يبقى بعد الحج على ما كان عليه قبل الحج،هذا مع الأمن على نفسه و ماله،و عرضه.

الحج قبل الاستطاعة:

لو ان شخصا لم يجب عليه الحج،لعجزه،و عدم استطاعته الشرعية،و مع ذلك تجشم و تكلف و حج حجا صحيحا كاملا،ثم استطاع،فهل تجب عليه الإعادة ثانية،أو تكفيه الأولى؟

الجواب:

المشهور بين الفقهاء أنّه لا بد من الإعادة بعد الاستطاعة الشرعية،لأن الأولى وقعت مستحبة،و المستحب لا يجزي عن الواجب،و هو حجة الإسلام التي لا بد من اتصافها بالوجوب.

و يلاحظ بأن كل حجة صحيحة كاملة فهي حجة إسلامية مستحبة كانت،أو واجبة،ما دامت الأركان واحدة و الاجزاء و الشروط واحدة في كل من الواجبة و المستحبة.هذا،إلى أنه لا مستند للمشهور سوى الاستحسان،أما النص فإنه

ص:130

يدل على الأجزاء و الكفاية،كالروايات الدالة على أن من يقدر على المشي يجب أن يحج ماشيا،نقول هذا مع العلم بأن حجة الإسلام إنما سميت بهذا الاسم للحديث المشهور«بني الإسلام على خمسة:الشهادتان و الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة»،ذلك أن المراد بالحج في الحديث الحج من حيث هو بصرف النظر عن الوجوب و الاستحباب.

البذل:

إذا وهب رجل آخر مالا يكفيه للحج،و لكن لم يشترط عليه أن يحج بالمال فلا يجب أن يقبل الهبة،لأن تحصيل الاستطاعة ليس بواجب على أحد، و بكلمة ان الحج يجب على الإنسان المستطيع،و لا يجب على الإنسان أن يحصل الاستطاعة.

و إذا بذل المال مشترطا عليه الحج به فيجب عليه القبول،و لا يجوز له الرفض،و يتحتم عليه الحج،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«من عرض عليه الحج، و لو على حمار أجذع مقطوع الذنب،فأبى فهو مستطيع».

و ليس من شك أن الاستطاعة لن تتحقق إلاّ إذا كانت النفقة ملائمة لوضع المبذول له و مكانته،و إلاّ فلا يلزم القبول و الإجابة،و الحمار الأجذع المقطوع الذنب قد يناسب و يلائم أكثر من واحد في ذلك العصر.

الحج و الخمس:

إذا كان عنده مبلغ من المال،و قد تعلق فيه الخمس،و كان بمجموعه كافيا لنفقات الحجّ فقط،و لا يزيد عنها شيئا،إذا أخرج الخمس تعذر عليه

ص:131

الذهاب إلى مكة و أداء الحج،إذا كان الأمر كذلك قدم الخمس و الزكاة،لأنهما دين،و لا استطاعة إلاّ بعد وفائه من أي نوع كان،و إذا حج،و لم يكترث بقي الخمس في ذمته،و بطل حجه إذا انحصر أداء الخمس على إخراجه من المال الذي حجّ به،إذ يكون،و الحال هذه،حاجا بمال الغير.

و إذا كان عليه حقوق مالية كالخمس و الزكاة،و عليه أيضا الحج،وجب أن يؤدي الخمس و الزكاة،و لا تجوز له المماطلة و التأخير بحال.و إذا تأخر عن الأداء فقد عصى اللّه،و استحق العقاب،سواء أ كان عازما على أداء الحج،أو لم يكن.

و إذا حج،و الحال هذه،يصح منه الحج،و لا يبطل إلاّ في صورة واحدة،و هي أن ينحصر أداء الخمس و الزكاة بنفس المال الذي حج به،بحيث يصدق عليه أنه حج بمال الغير،و قيل:إذا حج بهذا المال ناويا منذ البداية أن يؤدي الخمس من ماله الآخر،و أداه،أو أدى عنه،أمكن القول بصحة الحج.

و نقول في الجواب:ان الخمس متعلق بالعين،و عليه يكون التصرف في هذا المال تصرفا في مال الغير،و مهما كان الوجوب هاما فلا يستدعي تحليل هذا التصرف.و قد اتفق الجميع على أن المزاحمة إذا وقعت بين وجوب و حرمة قدمت الحرمة.

الزواج:

لو كان عنده من المال ما يكفيه للزواج فقط،أو الحج فقط،فأيهما يقدم؟ الجواب:

ليس من شك ان الزواج من حيث هو ضرورة من ضرورات الحياة،تماما كالملبس و المسكن،فمن احتاج إليه،أو كان من أمثاله يتزوجون،و يسأله الناس

ص:132

متى تتزوج؟قدم الزواج،حتى و لو لم يخف العنت و المرض،أو الوقوع في الزنا-كما قيده بعض الفقهاء-و ان لم يكن بحاجة إلى الزواج،لأن عنده زوجة كافية وافية،و لا يراه الناس مضطرا إلى المرأة قدم الحج.

بل،إذا احتاج أولاده إلى الزواج جاز له أن يصرف ما لديه من المال في تزويجهم و جهازهم،على شريطة ان ينفق المال في هذا السبيل قبل دخول وقت السفر للحج،أما بعده فلا،حيث يكون قد توجه إليه الخطاب و الأمر بالحج،كما ان الاستطاعة لا يجب تحصيلها،فلا يجب أيضا إبقاؤها و الاحتفاظ بها ما دام الحج لم يجب بعد،أما إذا وجدت و وجب الحج فيجب الاحتفاظ بها و بكل ما يتوقف عليه وجود الواجب.

الزوجة:

إذا استطاعت الزوجة وجب عليها أن تحج،سواء أذن لها الزوج،أم لم يأذن،تماما كما هي الحال بالقياس إلى الصوم و الصلاة و الزكاة،فلقد سئل الإمام عليه السّلام عن امرأة،و هي صرورة-أي لم تحج بعد-و لا يأذن لها زوجها بالحج؟قال:تحج،و ان لم يأذن لها،و قال الإمام عليه السّلام في رواية أخرى عنه:لا طاعة له عليها في حجة الإسلام.و كفى بقول علي أمير المؤمنين عليه السّلام:لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق شاهدا و دليلا.أجل،له أن يمنعها من الحج المندوب،لأن الإمام عليه السّلام سئل عن امرأة موسرة حجت حجة الإسلام،تقول لزوجها:حجني مرة أخرى،إله أن يمنعها؟قال:نعم.مضافا إلى العمومات الثابتة الناطقة بأنه لا يحق للزوجة أن تخرج من بيت الزوج إلاّ بإذنه.

و كل امرأة مأمونة لها أن تسافر إلى الحج و غير الحج دون أن يكون معها

ص:133

أحد من أقاربها و محارمها،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة تريد الحج، و ليس معها محرم،هل يصلح لها الحج؟قال:«نعم،إذا كانت مأمونة».و قال قائل:بل يجب أن يسافر معها محرم،فإن لم يوجد حرم عليها السفر،حتى إلى الحج الواجب.

و ربما كان لهذا القول وجه يوم كان السفر طويلا،و الطريق مخوفا،أما اليوم حيث الأمن و الأمان،و التيسير و التسهيل في المواصلات فلا وجه له.

الدّين:

الدين تارة يكون للإنسان،و أخرى يكون عليه،فإن كان عليه،و استغرق جميع ما يفضل عن حاجته و حاجة عياله،بحيث إذا أداه لا يزيد شيئا عن حاجته، قدم الدين على الحج،و ان لم يستغرقه بكامله،بحيث يستطيع وفاء الدين و الحج دون أن ينقصه شيء أو يضر بحاله،وجب عليه أن يفي بهما معا،لعدم التضاد و المعارضة.

و إذا كان الدين له،لا عليه،و كان في غنى عنه،غير محتاج إلى صرفه في مؤنته و مؤنة عياله،فهل يجب عليه الحج،و الحال هذه،أو لا؟

الجواب:

إذا كان الدين مؤجلا لم يأت زمن وفائه بعد فلا يجب الحج،لعدم الاستطاعة،و إذا كان حالا فقيل:يجب الحج،حتى و لو كان المديون مماطلا، و احتاج تحصيله إلى الخصومات و المرافعات،و قيل لا يجب،و الحق ان هذا الدين إذا أمكن الحصول عليه بسهولة،بحيث لا يحتاج إلاّ لمجرد المطالبة، وجب الحج،لأن صاحب الدين يعد مستطيعا بالفعل،و إذا احتاج التحصيل إلى

ص:134

العناء و الخصومات فلا يجب،حتى و لو أمكن الحصول على الدين و لكن بعد لأي،حيث لا يعد من المستطيعين بالفعل.بداهة أن الاستطاعة لا يجب تحصيلها،و انما يجب الحج بعد الاستطاعة و بكلمة،ان العبرة بوجود الاستطاعة بالفعل،لا بالقوة.و من هنا يعلم أنه لا يجب الاستدانة للحج،حتى و لو كان قادرا على الوفاء بعد عودته بيسر و سهولة.

الحج و نذر الزيارة يوم عرفة:

تدارس فقهاء عصرنا هذه المسألة،و كثر كلامهم حولها،و هي إذا نذر الإنسان ان يزور الحسين عليه السّلام في كل سنة يوم عرفة،أو في السنة القادمة بالذات، و لم يكن مستطيعا حين النذر،و بعده حدثت الاستطاعة،فهل يقدم الوفاء بالنذر، أو يقدم الحج؟ قال السيد صاحب العروة الوثقى،و شارحها السيد صاحب المستمسك:

يقدم الوفاء بالنذر،«لأن العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب»،أي أن الشرع أوجب على هذا الناذر الكون في كربلاء يوم عرفة،و هذا يستدعي أن الشرع قد منعه عن الكون في عرفة هذا اليوم،و عليه فلا يكون مستطيعا لأداء الحج،فيتعين الوفاء بالنذر،و إذا استطاع للحج،ثم أنشأ هذا النذر قدم الحج بلا ريب،لنفس السبب،و بكلمة ان السابق يرفع موضوع اللاحق.

الشك في الاستطاعة:

إذا شك في أنه مستطيع ماديا،أو لا؟فهل يجب عليه أن يجري حسابا على أمواله،ليتأكد من الحقيقة؟

ص:135

الجواب:

ان القواعد العامة لا تستدعي هذا الحساب،و لا توجبه،ذلك ان البحث و الفحص انما يجب إذا كان الشك في حكم الشيء لا في موضوعه،لأن قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تصدق إلاّ بعد البحث عن الحكم في مظانه،و اليأس من العثور عليه حيث يكون خفاء الحكم الشرعي و عدم وصوله إلى المكلف-على فرض وجوده-خارجا عن قدرة المكلف و إرادته،أما إذا لم يبحث و يسأل إطلاقا فيصح عقابه،و الحال هذه،لأن عدم وصول الحكم إليه ناشىء عن إهماله و تقصيره.

و هنا الحكم معلوم،و هو أن الاستطاعة شرط في وجوب الحج ما في ذلك ريب،و الشك انما حصل في الاستطاعة نفسها،لا في حكمها،و عليه فلا يجب البحث عنها.

ص:136

النيابة

صحة النيابة:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يحج عن آخر:ما له من الثواب؟قال:

للذي يحج عن رجل أجر و ثواب عشر حجج.

الفقهاء:

أجمعوا قولا واحدا لهذه الرواية و غيرها على ان الحج يقبل النيابة،و تقع صحيحة إذا توافرت الشروط في النائب و المنوب عنه.

و بالمناسبة نشير إلى ان الواجب،منه ما هو بدني محض كالصوم و الصلاة، و منه ما هو مالي محض كالخمس و الزكاة،و منه ما يجمع بين الوصفين كالحج، فهو مالي لأن الاستطاعة المالية شرط في الوجوب،و هو بدني لاشتماله على الأفعال،كالإحرام و الطواف و السعي و الرمي،و ما إلى ذاك.و كل هذه تقبل النيابة.

المنوب عنه:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عليا أمير المؤمنين أمر شيخا كبيرا لم يحج قط، و لم يطق الحج لكبره،أن يجهز رجلا يحج عنه.

ص:137

و سئل عن رجل يموت،و لم يحج حجة الإسلام،و لم يوص بها أ يقضى عنه؟قال:نعم.

الفقهاء:

أجمعوا على أن غير المسلم لا تصح العبادة منه و لا عنه،حجا كانت،أو غير حج،و أيضا أجمعوا على أن من استقر الحج في ذمته فعليه أن يؤديه و يباشره بنفسه،و لا يسقط عنه بفعل الغير ما دام قادرا على المباشرة،كما هي الحال في جميع العبادات،لأن الأمر بطبعه ينصرف إلى وجوب المباشرة.و أيضا أجمعوا على أن من وجب الحج عليه،ثم أهمل حتى مات،وجب أن يستناب عنه،ان ترك مالا يفي بذلك،سواء أوصى به،أو لم يوص.

النيابة عن الحي:
اشارة

أجمع الفقهاء على جواز الحج و الطواف عن الحي استحبابا،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يحج،فيجعل حجته و عمرته،أو بعض طوافه لبعض أهله، و هو عنه غائب ببلد آخر:هل ينقص ذلك من أجره؟قال:لا،هي له و لصاحبه، و له سوى ذلك بما وصل.

و روي أن الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام أنه أعطى بعض المؤمنين،و أمرهم أن يحجوا عنه.

و أيضا أجمع الفقهاء على أن من استطاع،و ثبت الحج في ذمته،و لكنه أهمل،و لم يبادر،ثم طرأ عليه العجز عن الأداء و المباشرة بنفسه،و يئس من زوال العذر و الشفاء،إذا كان الأمر كذلك وجب عليه أن يستأجر من يحج عنه،و إذا

ص:138

صادف زوال العذر،فعليه أن يحج و يؤدي بنفسه ثانية.

و تسأل:إذا لم يستقر عليه الحج،كما لو كان فقيرا،و بعد أن عجز صار غنيا،فهل يجب عليه أن يستأجر من يحج عنه؟

الجواب:

ذهب المشهور إلى وجوب الاستنابة عنه،للرواية المتقدمة:أن أمير المؤمنين عليه السّلام أمر شيخا أن يجهز من يحج عنه،و لما روي أيضا من أن امرأة قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان أبي أدركته فريضة الحج،و هو شيخ كبير لا يستطيع أن يلبث على دابته،فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:حجي عن أبيك.

الصبي و المجنون:
اشارة

هل تجوز النيابة عن الصبي المميز و المجنون؟

الجواب:

ان النائب يمتثل و يطيع،و ينوي التقرب بالأمر الذي توجه إلى الأصيل المنوب عنه بالذات،فإذا افترض عدم توجه الأمر إلى الأصيل ينتفي موضوع النيابة من الأساس،و كل من المجنون و الصبي المميز غير مكلف بشيء،لا وجوبا و لا استحبابا،بناء على أن عبادة المميز تمرينية لا شرعية،كما نختار.

أجل،إذا استقر الحج في ذمة البالغ العاقل،و أهمل،ثم طرأ عليه الجنون وجب الاستئجار عنه،تماما كما لو مات.

و الخلاصة ان المنوب عنه يشترط فيه الإسلام،و البلوغ و العقل إلاّ إذا عرض عليه الجنون بعد أن استقر الحج في ذمته،و أيضا يشترط فيه عدم الحياة إلاّ في الحج المندوب،و الواجب إذا عجز عن مباشرته بنفسه.

ص:139

النائب:

يشترط في النائب شروط:

1 و 2-البلوغ و العقل بالإجماع.

3-الإسلام و الايمان،أي ولاية آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون عليه صلاة أو صوم:هل يجوز أن يقضي عنه غير عارف؟-أي غير عارف بالولاية-قال:لا يقضيه إلاّ مسلم عارف.و تخصيص المورد،و هو الصوم و الصلاة لا يخصص الحكم فيهما بعد العلم بأن كلا من الصوم و الصلاة و الحج عبادة.

4-الوثوق بدين النائب و أمانته.ذكر هذا الشرط أكثر من فقيه،بل اشترط الكثيرون العدالة،و ليس من شك ان العدالة أو الثقة ليست شرطا لصحة عمل النائب و عبادته،و انما الغاية منها حصول الاطمئنان بأنه قد أدى ما استؤجر عليه، و على هذا تكون العدالة أو الثقة وسيلة لا غاية.

و قال السيد الحكيم في المستمسك:«هذا الشرط غير ظاهر،فإن أصالة الصحة جارية مع عدم الوثوق.نظير اخبار ذي اليد عما في يده،و نظير قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به.فإن الجميع من باب واحد».

و يلاحظ بأن اخبار ذي اليد،و من ملك«لشيء»،و جواز استئجار من لا نثق بدينه و أمانته شيء آخر،إذ المفروض في مسألتنا هذه:هل يجوز لنا أن نستأجر من لا نثق به و نجعله نحن صاحب يد،أو لا؟فالكلام-اذن-في جعله صاحب يد،لا في الأخذ بقول صاحب اليد.و الفرق بعيد جدا.و لذا قال السيد صاحب العروة ما نصه بالحرف:«و هذا الشرط انما يعتبر في جواز الاستنابة لا في صحة عمله».و عليه يكون تعليق السيد الحكيم بما نقلناه غير ظاهر.

ص:140

5-المعرفة بأفعال الحج و أحكامه،و لو بمعونة مرشد،و هذا الشرط عام لجميع المكلفين و يجب مقدمة للطاعة و امتثال الأحكام الشرعية بكاملها.

6-ان لا تكون ذمة النائب مشغولة بحج واجب عليه أداؤه على الفور،و في نفس عام الإجارة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل صرورة مات و لم يحج حجة الإسلام،و له مال؟قال:يحج عنه صرورة لا مال له.

المماثلة:

لا تشترط المماثلة بين النائب و المنوب عنه في الذكورة و الأنوثة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يحج عن المرأة،و المرأة تحج عن الرجل؟قال:لا بأس.

و بموجب إطلاق هذه الرواية يجوز أن يحج الصرورة عن الصرورة رجلا كان النائب أو امرأة،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة،لإطلاق دليل النيابة».و سبق أن معنى الصرورة هو الذي لم يكن قد حج من قبل.

الموت قبل الإتمام:
اشارة

سئل الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل خرج حاجا حجة الإسلام،فمات في الطريق؟ قال:ان مات في الحرم فقد أجزأت عن حجة الإسلام،و ان مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الإسلام.

ص:141

الفقهاء:
اشارة

قالوا:من استقر عليه الحج باستطاعة،أو نذر،أو نيابة،ثم مات قبل أن يتم الأفعال المطلوبة ينظر:فإن كان قد مات بعد الإحرام و دخول الحرم،أجزأه ذلك و لا يجب القضاء عنه،و ان مات قبل دخول الحرم فلا يجزيه و يجب القضاء عنه، حتى و لو مات بعد الإحرام.

و تسأل:ان الرواية عن الإمام مختصة فيمن حج عن نفسه،و لا تشمل النائب.

الجواب:

ان الفقهاء فهموا من هذه الرواية أن العبرة بنفس الحج بوصف الفعل من حيث هو لا بالحاج بوصف الفاعل.قال صاحب الجواهر:«من استؤجر،و مات في الطريق فإن أحرم و دخل الحرم فقد أجزأت الحجة عمن حج عنه بلا خلاف أجده فيه،بل الإجماع بقسميه.و الرواية و ان كان موردها الحج عن نفسه إلاّ أن الظاهر و لو بمعونة فهم الأصحاب كون ذلك كيفية خاصة في الحج نفسه،سواء أ كان الحج عن نفسه،أو عن غيره،و سواء أ كان واجبا بالنذر،أو بغيره».

الأجرة:

قال الفقهاء:إذا مات النائب بعد الإحرام و دخول الحرم،استحق تمام الأجرة،و إذا مات قبل ذلك أعطي من الأجرة بنسبة ما أتى به من عمل،كما تستدعيه قاعدة الإجارة من العمل الذي لم يقصد به التبرع.

ص:142

النيابة عن اثنين:

من أجر نفسه للحج عن شخص وجب عليه أن يباشر ذلك،و لا يجوز له أن يستنيب سواه إلاّ مع اذن المؤجر صراحة،لأن الإطلاق يستدعي المباشرة بالذات.و على هذا،فلا يجوز لأحد ان يؤجر نفسه للحج عن اثنين في سنة واحدة،فإذا فعل صحت الأولى،و بطلت الثانية،لعدم القدرة على العمل بها،و لو افترض اقتران عقدي الإجارة،كأن يؤجر هو نفسه لزيد،و يؤجره وكيله لعمرو في آن واحد،بطل العقدان معا.

الميقاتية و البلدية:

تنقسم الحجة إلى بلدية،و هي التي تكون من بلد الميت،و ميقاتية،و هي من الميقات،فإذا عيّن الموصي،أو المستأجر أحدهما تعينت،و إذا أطلق و لم يبين،فان كان هناك انصراف إلى أحدهما بسبب العرف أو قرينة أخرى،وجب العمل بها،و إلاّ تكون الحجة ميقاتية،لأن السفر من البلد ليس جزءا من الحج،و لا شرطا له،و انما هو مقدمة و وسيلة.و لذا لو سار المستطيع من بلده إلى أحد المواقيت لا بنية الحج،ثم عزم و أحرم من الميقات صح و كفى.

و على هذا،فمع عدم ما يدل على ارادة الحج من البلد يحج النائب عن المنوب عنه من أقرب ميقات إلى مكة عند المشهور بشهادة صاحب العروة الوثقى.

و لا بد من الإشارة إلى أن اجرة الميقاتية من أصل التركة،لأن بها يحصل الابتداء بمناسك الحج،و ما زاد عن الميقاتية فمن الثلث.

ص:143

العدول:
اشارة

سئل الإمام عليه السّلام عن رجل أعطى رجلا دراهم،يحج بها عنه حجة مفردة؟ قال:ليس له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج،لا يخالف صاحب الدراهم.

الفقهاء:
اشارة

يأتي أن الحج على أنواع ثلاثة:تمتع،و قران،و أفراد،فمن استؤجر على نوع منها تحتم عليه الإتيان به،و لا يجوز له العدول عنه إلى غيره،حتى و لو كان الغير أفضل و أكمل،بل نقل صاحب الجواهر عن المشهور أنّه إذا اشترط على النائب سلوك طريق معين لم يجز له العدول إلى غيره،ان كان هناك غرض في هذا الطريق الخاص،لعموم: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.

و تسأل:و أي أثر لسلوك الطريق إذا أدى النائب المناسك صحيحة و على وجهها؟

الجواب:

ان الكلام هنا في صحة الإجارة،لا في صحة الحج،و بديهة أحدهما غير الأخرى.

الوصية بالحج:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مات و أوصى أن يحج عنه؟قال:ان كان صرورة-أي لم يحج من قبل-فمن جميع المال،و ان كان تطوعا فمن الثلث.

ص:144

الفقهاء:

قالوا:من أوصى بمبلغ معين من المال للحج عنه نظر:فان كان الحج واجبا للاستطاعة أو النذر،و المال الذي عينه بمقدار اجرة المثل،أخرجت الوصية بكاملها من أصل التركة،و ان كان المبلغ أكثر من اجرة المثل،أخرج الزائد من الثلث،و ان كان الحج ندبا لا واجبا،فالجميع من الثلث.

ص:145

ص:146

العمرة

معناها:

العمرة في اللغة الزيارة بوجه العموم،و في الشرع زيارة بيت اللّه الحرام، لأداء مناسك خاصة،كالطواف و السعي و التقصير.

نوعان:

و العمرة على نوعين:مفردة مستقلة عن الحج،و متمتع بها إلى الحج،أي أن الحج يتألف منها،و من غيرها،و تعرف حقيقة هذه العمرة عند الكلام على حج التمتع.

و تفترق عمرة التمتع عن العمرة المفردة من جهات:

1-ان طواف النساء-يأتي معناه-واجب في العمرة المفردة،و لا يجب في عمرة التمتع.و قال البعض لا يشرع فيها إطلاقا.

2-ان وقت عمرة التمتع يبتدئ من أول شوال إلى اليوم التاسع من ذي الحجة،أما العمرة المفردة فوقتها طوال أيام السنة.

3-ان المعتمر بعمرة التمتع يحل بالتقصير فقط،أمّا المعتمر بعمرة مفردة فهو مخير بين التقصير و الحلق.و يأتي التوضيح.

ص:147

حكم المفردة:
اشارة

قال تعالى وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية:الحج و العمرة مفروضان.

و قيل له:فمن تمتع بالعمرة إلى الحج،أ يجزي عنه؟قال:نعم،أي أن عمرة التمتع تجزي عن العمرة المفردة على فرض وجوبها.

و قال أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج،لأن اللّه تعالى يقول وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ .و انما نزلت العمرة بالمدينة.

الفقهاء:
اشارة

ستعرف عمرة التمتع مفصلا عند الكلام على حج التمتع،و عقدنا هذا الفصل للعمرة المفردة،و بصفة أهم لحكمها،و ليس من شك أنّها راجحة في ذاتها،بل يستحب تكرارها مرات،و مرات،و لكن هل تجب وجوبا ذاتا مستقلا عن الحج،بحيث إذا استطاع الإنسان لها وحدها دون الحج،كما لو تمكن من السفر إلى البيت الحرام في شهر ربيع دون أشهر الحج،فيجب أن يسافر في ربيع، و يعتمر،أو لا تجب كذلك،و انما تجب تبعا للحج،فإذا استطاع الإنسان له أداهما معا،و ان لم يستطع للحج فلا يجب الحج و لا العمرة.

الجواب:

لا خلاف بين الفقهاء في وجوب العمرة بأصل الشرع،و ان على حاضري المسجد الحرام،و هم الذين لم يبعدوا عن مكة 12 ميلا (2)،ان يعتمروا عمرة

ص:148


1- البقرة:196. [1]
2- هذا رأي صاحب الجواهر،و قيل:هم الذين يبعدون عن مكة ثمانية و أربعين ميلا.و نسب هذا إلى المشهور،و لكن صاحب الجواهر قال:لم نتحقق صحة هذه النسبة.

مفردة،و انها تسقط عمن بعد هذه المساحة،أو أكثر إذا حج حجة التمتع.

أمّا وجوب العمرة على بعد 12 ميلا عن مكة ان استطاع لها وحدها فقال صاحب الجواهر:لم أجد للأصحاب في ذلك كلاما منقحا.و قال أيضا:يظهر التشويش في كلامهم.بل كرر لفظة التشويش ثلاث مرات،و هو يتكلم عن هذه المسألة بالذات.

ثم قال:«و يقوى في النظر سقوطها عن النائي الذي يجب عليه أن يتمتع بها الى الحج و لا عمرة مفردة عليه».أي أن العمرة المفردة لا تجب على من كانت وظيفته حج التمتع على تقدير استطاعته و وجوب الحج عليه.

و على رأيه هذا أكثر العلماء،و منهم صاحب الشرائع و السيد الحكيم و السيد الخوئي بل عليه سيرة الفقهاء منذ القديم،فلم نر فقيها واحدا قال:ان النائي عن المسجد الحرام إذا استطاع للعمرة المفردة وحدها قبل أشهر الحج،و لم يفعل فقد ترك واجبا،و انّه إذا مات قبل أدائها وجب الاستئجار عنه من تركته.

و عليه فالعمرة المفردة تجب على من حضر المسجد الحرام فقط،و هو من بعد عن أحد جوانبه الأربعة 12 ميلا.

العمرة لدخول مكة:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام:هل يدخل الحرم أحد إلاّ محرما؟قال:إلاّ مريض أو مبطون.

الفقهاء:

قالوا:لا يجوز لمن أراد دخول مكة أن يتجاوز الميقات،و لا دخول حرمها إلاّ محرما بنسك،حتى و لو كان قد حج و اعتمر مرات إلاّ إذا تكرر الدخول

ص:149

و الخروج في ضمن شهر،أي لو دخلها محرما،ثم خرج،ثم دخل ثانية قبل مضي ثلاثين يوما فلا يجب عليه الإحرام،و إلاّ وجب،فالإحرام بالقياس إلى من يدخل مكة تماما كالوضوء بالقياس إلى مس كتابة القرآن،و الغسل من الجنابة إلى دخول المسجد.

و يستثني من هذا الحكم العذر كالمريض الذي لا يمكنه الإحرام، و الحطاب و من إليه ممن تقتضي مهنته التردد و التكرار.

زمان العمرة:

تصح العمرة المفردة في جميع أيام السنة،و أفضلها ما وقع في رجب،قال الإمام الصادق عليه السّلام:يعتمر المعتمر في أي شهور السنة شاء،و أفضل العمرة عمرة رجب.

أفعال العمرة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا دخل المعتمر مكة من غير تمتع-أي من غير حجة التمتع-و طاف بالكعبة و صلى ركعتين عند مقام إبراهيم،و سعى بين الصفا و المروة فليلحق بأهله متى شاء.

و في رواية ثانية«و حلق و من شاء أن يقصر قصر».أي أخذ من شعره،أو قلّم ظفره.

الفقهاء:

قال صاحب الجواهر:«ان أفعال العمرة المفردة ثمانية:النية،و الإحرام من

ص:150

الميقات،و الطواف،و ركعتاه،و السعي،و التقصير أو الحلق،و طواف النساء و ركعتاه بلا خلاف أجده في شيء من ذلك فتوى و نصا إلاّ في وجوب طواف النساء.و الأصح ما هو المشهور من وجوبه».

و الخلاصة ان المعتمر بعمرة مفردة يحرم من الميقات،ثم يطوف سبعا بالبيت الحرام،و يصلي ركعتين.ثم يسعى سبعا بين الصفا و المروة،ثم يقصر أو يحلق،و يحل له كل شيء إلاّ النساء،و الصيد (1)ثم يطوف ثانية طواف النساء، و يصلي ركعتين،و يحل له كل شيء،حتى النساء.

و فيما يأتي نعقد لكل موضوع من هذه الموضوعات فصلا مستقلا، و نتحدث عنه مفصلا.

ص:151


1- يحرم الصيد في الحرم إطلاقا على الحاج و غيره محرما كان أو غير محرم،و يسمى هذا«صيد حرمي»أمّا الصيد الإحرامي فهو حرام في الحرم الشريف و خارجه،لان حرمته لأجل الإحرام، لا من أجل الحرم.

ص:152

أصناف الحج

ثلاثة أصناف:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الحج ثلاثة أصناف:حج مفرد،و قران،و تمتع بالعمرة إلى الحج،و بها أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و لا نأمر إلاّ بها.

و قال أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:الحاج على ثلاثة وجوه:رجل أفرد الحج و ساق الهدي،و رجل أفرد الحج و لم يسق الهدي،و رجل تمتع بالعمرة إلى الحج.

الفقهاء:

و استنادا إلى هاتين الروايتين و غيرهما،قسم الفقهاء الحج إلى تمتع، و افراد،و قران.

حج التمتع:
اشارة

يتألف حج التمتع من العمرة و الحج معا،و هذه صورته:

1 و 2-النية و الإحرام من أحد المواقيت التي يأتي بيانها.

3-الطواف حول البيت سبعا.

4-صلاة ركعتي الطواف.

ص:153

5-السعي بين الصفا و المروة سبعا.

6-التقصير،و هو أخذ شيء من الشعر أو الأظفار.

و متى أتى بذلك كله حل له كل شيء،حتى النساء،و هذه الأعمال بمجموعها هي العمرة التي يتمتع بها إلى الحج،و حج التمتع يتألف منها،و مما يلي:

1-ينشئ الحاج المتمتع إحراما آخر من مكة في وقت يمكنه فيه أن يدرك الوقوف بعرفات حين الزوال من اليوم التاسع من ذي الحجة،و الأفضل ان يحرم يوم التروية،و هو اليوم الثامن من ذي الحجة،و أن يكون الإحرام تحت ميزاب الكعبة.

2-الوقوف في عرفات من ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة إلى المغرب، و تبعد عرفات أربعة فراسخ عن مكة.

3-الوقوف في المزدلفة يوم العيد الأضحى من الفجر إلى طلوع الشمس.

4-رمي الجمار في منى.

5-النحر أو الذبح في منى يوم العيد.

6-الحلق أو أخذ شيء من الشعر أو الظفر في منى.

7-الرجوع إلى مكة،و طواف الحج.

8-صلاة ركعتي الطواف.

9-السعي بين الصفا و المروة.

10-طواف النساء.

11-صلاة ركعتي الطواف.

12-الرجوع إلى منى،و المبيت فيها ليلة الحادي عشر،و الثاني عشر.

ص:154

13-رمي الجمار الثلاث في اليومين المذكورين.

و بهذا يتبين معنى أن حج التمتع فيه احرامان،و سعيان،و ثلاثة أطوفة:

الأول للعمرة،و الثاني للحج،و الثالث للنساء.

التمتع للبعيد عن مكة:
اشارة

قال تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من حج فليتمتع،إنا لا نعدل بكتاب اللّه و سنة نبيه.و قال:ما نعلم حجا للّه غير المتعة،إنا إذا لقينا ربنا قلنا:عملنا بكتابك،و سنة نبيك،و قال القوم:عملنا برأينا،فليجعلنا اللّه و إياهم،حيث يشاء.أشار الإمام عليه السّلام بالقوم إلى السنة الذين قالوا:يجوز للبعيد عن مكة النسك و الحج بأي الأنواع الثلاثة،و هو مخالفة صريحة لنص القرآن الذي جعل التمتع بالحج فرضا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي أهل مكة و ضواحيها.

الفقهاء:

أجمعوا قولا واحدا على أن فرض من بعد عن مكة هو حج التمتع،و لا يجوز له الافراد و القران إلاّ لضرورة،قال صاحب الجواهر:«بإجماع علمائنا، و المتواتر من نصوصنا،بل لعله من ضرورات مذهبنا،نعم في تحديد البعد خلاف بيننا،فمن قائل:ان البعد عن مكة يحدد ب 12 ميلا،و قائل ب 48 ميلا».

ص:155


1- البقرة:196. [1]
الافراد و القران:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:المفرد للحج عليه طواف بالبيت،و ركعتان عند مقام إبراهيم،و سعي بين الصفا و المروة،و طواف الزيارة،و هو طواف النساء، و ليس عليه هدي،و لا أضحية.

و قال:انما نسك الذي يقرن مثل نسك المفرد ليس بأفضل منه إلاّ بسياق الهدي.

الفقهاء:

قالوا:حج الافراد ان يحرم من منزله،ان كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات،و من الميقات ان كان الميقات أقرب إلى مكة من منزله،ثم يمضي توا إلى عرفات،فيقف فيها،و منها إلى المشعر،فيقف فيه،ثم إلى منى،فيقضي مناسكه،و منها إلى مكة،فيطوف بالبيت،و يصلي ركعتين،ثم يسعى بين الصفا و المروة،ثم يطوف طواف النساء،و يصلي ركعتين.

قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك نصا و فتوى».

و عليه بعد هذا الحج أن يأتي بعمرة مفردة،و له أن يوقعها بعد الحج بلا فاصل،و أن يؤخرها إلى غير أشهر الحج.

أمّا حج القران فهو و حج الإفراد شيء واحد لا يفترقان إلاّ في أن القارن يسوق الهدي عند إحرامه،و يلزمه ان يهدي ما ساقه،أما حج الافراد فليس فيه هدي،كما قال الإمام عليه السّلام.

ص:156

الإفراد و القران لأهل مكة و ضواحيها:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:ليس لأهل مكة،و لا لأهل مر،و لا أهل سرف متعة،و ذلك لقول اللّه عز و جل ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (1).

و قال ولده الإمام موسى الكاظم عليهما السّلام:لا يصلح لأهل مكة أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج،لقول اللّه عز و جل ذلِكَ -أي التمتع- لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ .

و كتب حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام إلى المأمون:لا يجوز الحج إلاّ متمتعا- أي للبعيد عن مكة-و لا يجوز القران و الافراد الذي تستعمله العامة إلاّ لأهل مكة و حاضرها.

و المشهور على هذا بشهادة صاحب الجواهر.

مسائل:
1-يجوز لمن نوى حجة الافراد أن يعدل عنها اختيارا إلى التمتع بعد

دخوله إلى مكة

،بلا خلاف للنصوص المتظافرة،كما قال صاحب الجواهر،و لا يجوز ذلك للقارن،لأن حج القران تعين عليه بسياق الهدي.

2-إذا بعد المكي عن أهله،و لدى عودته صادف وقت الحج

،فعليه أن يحرم من الميقات،و له أن يحج بهذا الإحرام حج التمتع عند المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق.

ص:157


1- البقرة:196. [1]
3-إذا أقام الغريب البعيد في مكة سنتين يبقى فرضه التمتع

،و لا ينتقل إلى غيره،و عليه أن يحرم من الميقات إذا أراد حج الإسلام،و لا ينتقل فرضه إلى القران أو التمتع إلاّ إذا دخل في السنة الثالثة.

4-و من كان له منزل في مكة أو ضواحيها،و منزل آخر ناء عنها

ينظر:فإن كانت إقامته في أحدهما أكثر من الآخر لزمه حكم الأكثر الأغلب،و ان تساوت الإقامة بين المنزلين اختار أي الأنواع يشاء.

ص:158

المواقيت

معنى الميقات:

المواقيت جمع ميقات،و هو الوقت المضروب للموعد،و منه قوله تعالى:

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (1)يعني اليوم الذي يفصل فيه بين الحق و الباطل،و هو يوم القيامة.

و قد يستعمل الميقات للمكان الذي جعل له وقت معين،و منه قوله تعالى:

وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا (2)أي المكان الذي وقتناه له،و أمرناه بالمصير إليه.

و للحج مواقيت زمانية،و مكانية،و الأولى ما أشارت إليه الآية 197 من سورة البقرة اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ و هذه الأشهر هي شوال،و ذو القعدة،و ذو الحجة،و الثانية تبتدئ بالحدود التي لا يجوز للحاج ان يتعداها إلاّ محرما منها، أو مما يحاذيها،و هي مفصلة في الفقرة التالية:

المواقيت:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام من تمام الحج و العمرة أن تحرم من المواقيت التي

ص:159


1- الدخان:40. [1]
2- الأعراف:143. [2]

وقتها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تجاوزها إلاّ و أنت محرم،فإنه وقت لأهل العراق،و لم يكن يومئذ عراق-أي لم يكن فيه مسلم بعد-بطن عرق من قبل العراق،و وقت لأهل اليمن يلملم،و وقت لأهل الطائف قرن المنازل،و وقت لأهل المغرب الجحفة،و هي مهيعة،و وقت لأهل المدينة ذو الحليفة،و من كان منزله خلف هذه المواقيت مما يلي مكة فميقاته منزله،أي ان من كان منزله أقرب إلى مكة من هذه المواقيت أحرم من منزله.

الفقهاء:

قالوا:لا يجوز للحاج أن يحرم للحج قبل أشهره،و هي،كما قدمنا شوال، و ذو القعدة،إلى نهاية اليوم الثالث عشر من ذي الحجة،و أيضا لا يجوز له أن يتعدى المواقيت التي ذكرها الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلاّ محرما،و هي:

1-وادي العقيق،و يبعد عن مكة مائة كيلو متر على التقريب،و هو ميقات أهل العراق،و نجد،و كل من كان طريقه به إلى مكة.

2-يلملم،و يبعد عن مكة 94 كيلو مترا،و هو ميقات أهل اليمن،و من مر به.

3-قرن المنازل،و يبعد عن مكة 94 كيلو مترا،و هو ميقات أهل الطائف، و من مر به.

4-الجحفة،و يبعد عن مكة 187 كيلو مترا،و هي ميقات أهل مصر و الشام بما فيهم اللبنانيون و الأردنيون و الفلسطينيون،و لمن مر به.

5-ذو الحليفة،و هو مسجد الشجرة،و يبعد عن مكة 492 كيلو مترا،و هو ميقات أهل المدينة،و لمن مر به.

6-من كان من مكة،أو من مكان بين الميقات و بين مكة،فميقاته من منزله.

ص:160

المحاذاة:

من حج على طريق لا يفضي إلى أحد المواقيت المتقدمة فإنه يحرم إذا غلب على ظنه المحاذاة لأحدها،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:من أقام بالمدينة شهرا،و هو يريد الحج،ثم بدا له أن يخرج من غير طريق أهل المدينة التي يأخذونه فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال،فيكون حذاء الشجرة من البيداء.

و الذي ليس فيه شك ان اقامة ستة أشهر،و الشجرة،و ستة أميال،و ما إليها لا خصوصية لها،و لا فرق في المحاذاة بين أن يكون السفر في البر أو البحر،أما السفر في الجو فلا تحقق المحاذاة فيه إطلاقا،لأن معنى محاذاتك للشيء أن يكون على يمينك أو يسارك،لا تحتك أو فوقك.

الإحرام قبل الميقات:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الإحرام من المواقيت التي وقتها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينبغي لحاج و لا معتمر أن يحرم قبلها و لا بعدها.

و قال:من أحرم بالحج في غير أشهر الحاج فلا حج له،و من أحرم دون الميقات فلا إحرام له.و في بعض الروايات من أحرم قبل الميقات كان كمن صلى صلاة العصر ستا.

الفقهاء:

اتفقوا على أنّه لا يجوز الإحرام قبل الميقات إلاّ في صورتين:

1-أن يريد العمرة المفردة لرجب،و لكنه يخاف ان أخر الإحرام إلى الميقات أن ينتهي رجب،و يدخل شعبان،فيجوز له،و الحال هذه،أن يحرم قبل

ص:161

الميقات،و ينوي عمرة رجب ما بقي منه يوم أو بعض يوم،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يجيء معتمرا،ينوي عمرة رجب،فيدخل عليه هلال شعبان قبل أن يبلغ الميقات،أ يحرم قبله،و يجعلها لرجب،أو يؤخر و يجعلها لشعبان؟قال:

يحرم قبل الميقات،و تكون العمرة لرجب،و له فضله،و هو الذي نوى.

2-ان ينذر الإحرام قبل الميقات،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل جعل للّه شكرا ان يحرم من الكوفة؟فقال:فليحرم من الكوفة،و ليف للّه بما قال.

و بديهة أن تخصيص المورد لا يخص الوارد،أي لا خصوصية للكوفة بالذات.

الإحرام بعد الميقات:
اشارة

قدمنا أن كل من حجّ أو اعتمر على ميقات يلزمه الإحرام منه،سواء أ كان من أهله،أم من غير أهله،و لكنه مر به صدفة،أو لضرورة،فإذا تعداه دون أن يحرم عامدا قال صاحب الجواهر:«لم يصح إحرامه،حتى يعود إلى الميقات و يحرم منه،و لو افترض أن تعذر عليه الرجوع و الإحرام من الميقات بعد أن تركه عمدا لم يصح إحرامه وفاقا للمشهور،بل ربما يفهم من غير واحد عدم الخلاف فيه بيننا مؤاخذة له بسوء فعله».

و إذا كان قد ترك الإحرام من الميقات ناسيا أو جاهلا،و أمكن الرجوع إليه، و الإحرام منه وجب،و إلاّ فمن الميقات الذي أمامه إن أمكن،و إلاّ فالقدر الممكن من مكة أو خارجها مقدما الثاني على الأول،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل مر على الميقات الذي يحرم الناس منه،فنسي أو جهل،فلم يحرم،حتى أتى مكة، فخاف ان رجع إلى المواقيت ان يفوته الحج؟قال:يخرج من الحرم،و يحرم، و يجزيه ذلك.

ص:162

و سئل عن رجل نسي أن يحرم،حتى دخل الحرم؟قال:يخرج إلى ميقات أهل أرضه،فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه،فان استطاع ان يخرج من الحرم فليخرج.

و لو نسي الإحرام كلية،و لم يذكر،حتى أكمل مناسكه فهل يجزيه الحج، أو يجب عليه القضاء؟

الجواب:

قال صاحب الجواهر:«بل يجزيه على المشهور شهرة عظيمة،و هو مروي في مرسل جميل».

ص:163

ص:164

الإحرام

اشارة

للحج أفعال،منها واجبة،و منها مستحبة،و الواجبة اثنا عشر:الإحرام، و الوقوف بعرفات،و الوقوف بالمشعر،و النزول في منى،و رمي الجمار،و الذبح، و الحلق أو التقصير،و طواف الحج و ركعتاه،و طواف النساء و ركعتاه.و بعض هذه الواجبات ركن،و بعضها غير ركن،و يعرف ذلك من التفصيل الآتي،و نبدأ بالإحرام.

تعريف الإحرام:

اختلف الفقهاء في تعريف الإحرام،فقال قائل:انه مجرد النية فقط،و قال آخر:هو النية و التلبية،و ذهب ثالث إلى أنه النية و التلبية و لبس ثوبي الإحرام، و الذي ليس فيه شك أنه يتحقق بوجود هذه الثلاث،و انه ينتفي بانتفاء النية،لأن الأعمال بالنيات-كما جاء في الحديث-أما انتفاء الإحرام بانتفاء التلبية فقط،أو لبس الثوبين فقط،أو هما معا مع وجود النية،و توطين النفس على ترك المنهيات المعهودة،أما هذا فسنشير إليه في الفقرة الثانية (1)،ثم أن للإحرام مستحبات،

ص:165


1- قال السيد الخوئي في مناسك الحج:«معنى الإحرام ان يلبي بقصد أداء فريضة حج التمتع،و التلبية شروع في الإحرام،و بدونها لا يكون إحرام،كما أن التكبيرة شروع في الصلاة،و بدونها لا تكون صلاة».و على هذا ينتفي الإحرام بانتفاء التلبية أيضا تماما كالنية،و لا ينتفي بانتفاء لبس الثوبين،و في الجواهر [1]الإجماع على أن الإحرام لا يتحقق بدون التلبية.

و واجبات،مع العلم بأن حقيقته واحدة،سواء أ كان جزءا من العمرة المفردة،أو من الحج بشتى أنواعه.

مستحبات الإحرام:

يستحب لمن يريد الإحرام ان ينظف جسده،و يزيل الشعر عنه،و ان يقلم أظافره،و يأخذ من شاربه،و ان يغتسل،حتى و لو كانت امرأة في الحيض أو النفاس،لأن الغرض هو النظافة،و ان يوفر شعر رأسه من أول ذي القعدة إذا أراد حج التمتع،و إذا اغتسل،ثم أكل أو لبس ما لا يحل للمحرم أكله و لبسه،أعاد الغسل استحبابا،و في كل ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

و ايضا روي عنهم أنه يستحب أن يكون الإحرام بعد صلاة الظهر،أو آية فريضة غيرها،و ان لم يصادف ذلك استحب ان يصلي ست ركعات للإحرام يأتي بها ركعتين ركعتين كصلاة الصبح،أو يصلي أربعا،أو اثنتين على الأقل.

و أيضا يستحب للمحرم أن يشترط على ربه عند عقد الإحرام،كأن يقول:

«اللهم اني أريد ما أمرتني به،فإن منعني مانع من إتمامه،و حبسني عنه حابس، فاجعلني في حل».

واجبات الإحرام
اشارة

واجبات الإحرام ثلاثة:

1-النية
اشارة

،قال رجل للإمام عليه السّلام:اني أريد التمتع بالعمرة إلى الحج،كيف

ص:166

أقول؟قال:تقول:اللهم اني أريد أن أتمتع بالعمرة إلى الحج على كتابك،و سنة نبيك،و ان شئت أضمرت الذي تريد.

و سئل عن رجل يحج حجة التمتع،كيف يصنع؟قال:ينوي العمرة، و يحرم بالحج.

و سبق أكثر من مرة أنّه لا عبادة بلا نية القربة،و ان معناها الداعي و الباعث على العمل للّه وحده،و حيث ان الإحرام قد يكون لعمرة مفردة،و للعمرة التي هي جزء من حج التمتع،أو لحج التمتع،أو الافراد،أو القران فلا بد-اذن-من تعيين المأتي به،و ان الإحرام لهذه الغاية دون غيرها.أجل،لا تجب نية الوجه من الوجوب و الاستحباب،بل التقرب إلى اللّه،و كفى،كما لا يجب التلفظ بالنية، و هذا معنى قول الإمام عليه السّلام:«و ان شئت أضمرت».

و تسأل:تقدم ان النائي عن مكة فرضه التمتع،و ان التمتع يتألف من العمرة،و الحج،و ان لا بد لكل منهما من إحرام،و ان إحرام العمرة يكون من الميقات،و إحرام الحج من مكة،فهل يصح للمتمتع ان ينوي بإحرام واحد العمرة و الحج معا؟

الجواب:

حيث ان لكل من الحج و العمرة إحراما مستقلا،فإذا نوى بإحرام واحد الحج و العمرة للحج معا فقد نوى ما لم يشرع،و عليه يقع الإحرام باطلا،قال صاحب الجواهر:«ان الحج و العمرة لا يقعان بنية واحدة،و في إحرام واحد،بل عن الشيخ الإجماع على عدم جواز القران بينهما بإحرام واحد».

2-التلبيات الأربع

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:التلبية هي«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك،ان الحمد و النعمة لك و الملك،لا شريك لك».

ص:167

و قال:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبى بالأربع.

لا بد من الإشارة إلى ان التلبية لا بد منها في حج التمتع،و العمرة له، و العمرة المفردة،و حج الافراد،بحيث لا ينعقد الإحرام في واحد من هذه الأمور إلاّ بالتلبية إجماعا محصلا و منقولا بشهادة صاحب الجواهر،فإذا نوى الإحرام، و لبس ثوبيه،و لم يلب،ثم أتى بما نهي عنه المحرم فلا شيء عليه،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يقع على أهله بعد ما يعقد الإحرام،و لم يلب؟قال:ليس عليه شيء.

اما الإحرام لحج القران فيتخير القارن بين التلبية،و بين الإشعار أو التقليد، و الإشعار مختص بالإبل،و التقليد مشترك بينها و بين غيرها من أنواع الهدي، و معنى الإشعار أن يشق الجانب الأيمن من سنام الناقة،و معنى التقليد أن يجعل في عنق الهدي نعلا بالية،ليعرف بها أنه هدي.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،و فيه روايات مستفيضة،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:يوجب الإحرام ثلاثة أشياء:التلبية،و الاشعار،و التقليد،فإذا فعل شيئا من هذه الثلاث فقد أحرم».

و يبتدئ بالتلبية عند الإحرام،و يستحب الاستمرار بها إلى رمي جمرة العقبة،و يقطعها إذا شاهد بيوت مكة،و أيضا يستحب الجهر بها لغير المرأة إلاّ في مسجد الجماعات.

3-لبس ثوبي الإحرام للرجل يأتزر بأحدهما،و يرتدي بالآخر
اشارة

،قال الإمام عليه السّلام:إذا انتهيت إلى ميقات من هذه المواقيت،و أنت تريد الإحرام فاغتسل،و البس ثوبيك،و في رواية أخرى تفيض عليك الماء،و تلبس ثوبيك ان شاء اللّه.

اتفق الفقهاء على أن المحرم يجب عليه أن يلبس إزارا،و رداء،و الإزار هو

ص:168

ما يستتر به من سرته إلى ركبتيه-أي الوزرة-و الرداء هو ما يكون على الظهر و الصدر و الكتفين،و يجوز للمحرم ان يلبس أكثر من ثوبين على شريطة ان لا يكون مخيطا،كما يجوز له ان يبدل ثياب الإحرام،و لكن الأفضل أن يطوف بالثوبين اللذين أحرم بهما.

و اشترطوا في لباس المحرم كل ما اشترطوه في لباس المصلي من الطهارة، و عدم كونه حريرا للرجال،أو جلدا مما لا يؤكل لحمه،بل قال جماعة من الفقهاء:لا يجوز أن يكون من نوع الجلد إطلاقا.

و أيضا اتفقوا على أن المحرم لا يجوز له أن يلبس قميصا و لا سراويل،و لا ثوبا يزرره،و لا أن يغطي رأسه و وجهه،أما المرأة فتغطي رأسها،و تكشف وجهها إلاّ إذا خافت ان ينظر الرجال إليها بريبة،و ليس لها أن تلبس القفاز،أي الكفوف، و لها أن تلبس الحرير و الخفين.

و تسأل:هل لبس ثوبي الإحرام شرط لصحة الإحرام،بمعنى انه لو أحرم عاريا،أو لابسا مخيطا لم ينعقد الإحرام من الأساس،أو انه ينعقد،و لكن يأثم تارك الثوبين،و يستحق العقاب؟

الجواب:

ان الإحرام يتحقق بدون لبس الثوبين،و يدل على ذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام:«يوجب الإحرام ثلاثة أشياء:التلبية،و الاشعار،و التقليد،فإذا فعل شيئا من هذه الثلاثة فقد أحرم».فإن تحقق الإحرام بهذه الثلاثة ظاهر في أن لبس الثوبين ليس شرطا و لا جزءا من الإحرام،و الا وجب ذكره و بيانه.

ص:169

مكروهات الإحرام:

يكره للمحرم أمور،منها أن يحرم في غير الثياب البيض،و ان يكون ثوب الإحرام قذرا،و ان يروي الشعر،و ان يخضب بالحناء،و ان يشم الرياحين.

ص:170

تروك الإحرام
اشارة

يجب على المحرم ان يترك الأشياء التالية:

صيد البر:
اشارة

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ (1).

و قال أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً (2).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تستحلّن شيئا من الصيد،و أنت حرام،و لا أنت حلال في الحرم،و لا تدلن عليه محلا و لا محرما،فيصطاده،و لا تشر إليه، فيستحل من أجلك،فإن فيه فداء لمن تعمده.

الفقهاء:

اتفقوا على أن صيد البحر حلال للمحرم،و ان صيد البر حرام اصطيادا، و أكلا،و اشارة،و دلالة،و ذبحا.

ص:171


1- المائدة:95. [1]
2- المائدة:96. [2]

و إذا ذبح المحرم الصيد كان ميتة لا يحل أكله،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا ذبح المحرم الصيد لم يأكله المحل و المحرم،و هو كالميتة.

و يجوز للمحرم أن يقتل المؤذيات،كالحية و العقرب،و الفأرة و الذئب، و الكلب العقور،و كل ما يخاف منه على نفسه،و لا فدية عليه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:يقتل المحرم كلما خشيه على نفسه.قال:يقتل الأسود-أي الحيوانات و الطيور الكاسرة-و يقتل الأفعى و الفأرة و العقرب،و كل حية،و ان أرادك السبع فاقتله،و ان لم يردك فلا تقتله،و الكلب العقور إذا أرادك فاقتله.

كفارة الصيد:

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً (1).

قال صاحب مجمع البيان:المراد بالصيد صيد البر مأكولا كان أو غير مأكول عند أصحابنا،و المراد بالمماثلة في قوله تعالى مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ المماثلة في الخلقة،ففي النعامة بدنة،و في حمار الوحش و شبهه بقرة،و في الظبي و الأرنب شاة،و هو المروي عن أهل البيت عليهم السّلام،و معنى قوله يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ان ينظر عدلان عارفان من أهل دينكم و ملتكم،و يقارنا بين الصيد و بين أشبه الأشياء به من النعم فيحكما به،فيذبحه و يتصدق به،و معنى قوله:

هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ عند أصحابنا ان يذبح المحرم الحيوان الأهلي المماثل بمكة قبالة الكعبة ان كان محرما بالعمرة،و ان كان محرما للحج ذبحه بمنى.و معنى

ص:172


1- المائدة:95. [1]

قوله أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أن يقوّم المماثل بدراهم،و يشتري بها طعاما،ثم يتصدق به على المساكين،لكل مسكين مدّان،أو يصوم عن كل مدّين يوما،و هذا معنى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً و هو المروي عن أهل البيت عليهم السّلام.

و الخلاصة ان الفقهاء قالوا:من اصطاد شيئا فعليه ان يفدي بمثله من النعم الأهلية،و مع العجز يقوّمه و يشتري بالثمن طعاما،يتصدق به على المساكين، لكل واحد منهم مدّان،و لا يلزمه ما زاد على ستين مسكينا،و مع العجز يصوم عن كل مدّين يوما،و مع العجز يصوم ثمانية عشر يوما.

و قد أطال الفقهاء الكلام في الصيد و كفارته،و ابتدأوا من صيد النعامة التي تشبه الناقة إلى صيد الجرادة،و فرعوا فروعا،و افترضوا صورا شتى.و من أراد التفصيل و التطويل فليرجع إلى الجواهر و الحدائق (1).و قد اكتفينا نحن بهذه الإشارة،لعدم الجدوى من الإطناب،فإن من يذهب إلى الحرمين الشريفين يذهب ناسكا زاهدا،لا متنزها صائدا.

القمل:

قال بعض الفقهاء:لا يجوز للمحرم قتل هوام الجسد،كالقمل و القراد،و يجوز نقله،و قال آخر:يجوز قتل البق و البرغوث،ليدفعه عن نفسه.أما نحن فلا نشك أبدا في جواز ازالة كل مؤذ،و ان توقف ذلك على قتله جاز،جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السّلام و سأله عن محرم قتل زنبورا؟قال الإمام:ان كان خطأ فليس عليه شيء.قال السائل:بل متعمدا.قال الإمام:يطعم شيئا من طعام،قال السائل:انه

ص:173


1- و قد أطال صاحب الحدائق في كفارة الصيد و توابعها اطالة تستغرق مائة صفحة من صفحات هذا الكتاب.

أرادني.قال الإمام:ان أرادك فاقتله.

الزواج:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام المحرم لا يتزوج،و لا يزوج فان نكاحه باطل.

و قال:إذا تزوج المحرم،و هو يعلم أنه حرام لم تحل له أبدا.

و قال:المحرم لا ينكح،و لا ينكح،و لا يخطب و لا يشهد النكاح،و ان نكح فنكاحه باطل.

الفقهاء:

قالوا:لا يجوز للمحرم ان يعقد الزواج لنفسه،و لا لغيره،و لا أن يوكل فيه، و لو فعل شيئا من ذلك لم ينعقد الزواج،و كذا لا يجوز له أن يشهد عليه.و إذا أجرى العقد،و هو عالم بالتحريم حرمت عليه المرأة أبدا بمجرد العقد،حتى و لو لم يدخل،أما إذا كان جاهلا بالتحريم فلا تحرم عليه،حتى و لو دخل.و يجوز للمحرم أن يطلّق لقول الإمام عليه السّلام:المحرم يطلّق،و لا يتزوج.

الجماع و الاستمتاع:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل محرم وقع على أهله؟فقال:ان كان جاهلا فليس عليه شيء،و ان لم يكن جاهلا فان عليه أن يسوق بدنة،و يفرق بينهما،حتى يقضيا المناسك،و يرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا، و عليهما الحج من قابل.

و سئل عن الرجل يعبث بامرأته حتى يمني،و هو محرم من غير جماع،أو

ص:174

يفعل ذلك في شهر رمضان؟فقال:عليهما جميعا الكفارة مثل ما على الذي يجامع.

و قال:من قبل امرأته على غير شهوة،و هو محرم فعليه دم شاة،و من قبل امرأته على شهوة فأمنى فعليه جزور،و يستغفر ربه.

الفقهاء:

اتفقوا على أنه لا يجوز للمحرم أن يجامع زوجته،أو يستمتع بها بشتى أنواع الاستمتاع،و إذا جامع فسد حجه،و لكن عليه المضي في حجه و إتمامه،ثم القضاء في العام القادم،على أن يفرق بين الزوجين وجوبا في حج القضاء من المكان الذي أحدثا فيه ما أحدثا،قال العلامة في التذكرة:و معنى التفريق أن لا يخلوا بأنفسهما،و متى اجتمعا كان معهما ثالث محرم،لأن وجوده يمنع من الاقدام على المواقعة.

و إذا كانت المرأة مطاوعة فسد حجها،و عليها أن تكفّر ببدنة،و أن تقضي في العام القادم،و ان تكن مكرهة فلا شيء عليها،و على الزوج أن يكفر ببدنتين:

إحداهما عنه،و الثانية عنها،و ان كانت محلة،و هو محرم،فلا تسأل عن شيء، و لا تجب عليها الكفارة،و لا على الرجل بسببها.

و لو قبّل زوجته بشهوة كفّر بجزور،و بدون شهوة بشاة،و لو نظر إلى أجنبية فأمنى لم يفسد حجه،و عليه بدنة،ان كان موسرا،و بقرة ان كان متوسطا،و شاة ان كان معسرا.قال صاحب الحدائق:«هذا هو المشهور لرواية أبي بصير عن الإمام الصادق قال:قلت له:رجل محرم نظر إلى ساق امرأة،فأمنى.قال:ان كان موسرا فعليه بدنة،و ان كان وسطا فعليه بقرة،و ان كان فقيرا فعليه شاة.

ص:175

الطيب:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يمس المحرم شيئا من الطيب،و لا الريحان،و لا يتلذذ به.و من أكل زعفرانا متعمدا،أو طعاما فيه طيب فعليه دم،و ان كان ناسيا فلا شيء عليه،و يتوب إلى اللّه.

و قال أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:من نتف إبطه-أي المحرم-أو قلّم ظفره،أو حلق رأسه،أو لبس ثوبا لا ينبغي له لبسه،أو أكل طعاما لا ينبغي له أكله،و هو محرم،ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا فليس عليه شيء،و من فعله متعمدا فعليه دم شاة.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن خلوق الكعبة-نوع من الطيب-يصيب ثوب المحرم؟قال:لا بأس به.

الفقهاء:

اتفقوا على أن المحرم رجلا كان أو امرأة،يحرم عليه الطيب شما،و تطيبا، و أكلا،و ان المحرم إذا مات لا يجوز تغسيله،و لا تحنيطه بالكافور،و لا بغيره من أنواع الطيب،و إذا تطيب المحرم أو أكل الطيب ناسيا أو جاهلا فلا كفارة عليه، و كذا إذا اضطر إلى استعماله لمرض.و إذا استعمله عامدا فعليه شاة،سواء استعمله أكلا أو صبغا أو شما،و لا بأس بخلوق الكعبة،و أكل الفاكهة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن التفاح و الأترج؟قال:يمسك عن شمه،و يأكله.

الاكتحال:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس ان يكتحل،و هو محرم بما لم يكن فيه

ص:176

طيب يوجد ريحه،فأما للزينة فلا.

و قال عليه السّلام:لا يكتحل الرجل و المرأة المحرمان بالكحل الأسود إلاّ من علة.

الفقهاء:

أجمعوا بشهادة العلامة الحلي على أنه لا يجوز الاكتحال بالسواد،و لا بكحل فيه طيب،سواء أ كان المحرم رجلا أو امرأة،و يجوز فيما عدا ذلك.

الحناء:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الحناء للمحرم؟قال:ما هو بطيب،و ما به بأس.و قال صاحب اللمعة:المشهور أن الخضاب مكروه،و ليس بمحرم.

الأظافر و الشعر:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قلّم ظفرا من أظافره،و هو محرم؟قال:

عليه مد من طعام،حتى يبلغ عشر أظافر،فإن قلّم أصابع يديه كلها فعليه دم شاة.

قال السائل:فإن قلّم اظافر يديه و رجليه جميعا؟قال:إذا فعل ذلك في مجلس واحد فعليه دم شاة،و ان كان فعله متفرقا في مجلسين فعليه دمان.

و قال:من قلّم ظفره،أو حلق رأسه متعمدا فعليه دم شاة.

و قال:مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكعب بن عجرة الأنصاري،و القمل يتناثر من رأسه،فقال له:أ تؤذيك هوامك؟قال:نعم،فأنزل اللّه سبحانه فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ 1.فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحلق رأسه،و جعل عليه كفارة مخيرا بين صيام ثلاثة أيام،أو إطعام ستة مساكين،لكل مسكين مدّان-المد 800 غرام-أو ذبح شاة،و هو معنى النسك في الآية الكريمة.

ص:177

و قال:مر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكعب بن عجرة الأنصاري،و القمل يتناثر من رأسه،فقال له:أ تؤذيك هوامك؟قال:نعم،فأنزل اللّه سبحانه فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (1).فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحلق رأسه،و جعل عليه كفارة مخيرا بين صيام ثلاثة أيام،أو إطعام ستة مساكين،لكل مسكين مدّان-المد 800 غرام-أو ذبح شاة،و هو معنى النسك في الآية الكريمة.

الفقهاء:

قالوا ليس للمحرم أن يقص أظافره،و لا يزيل شعره من رأسه،و سائر بدنه بحلق أو نتف أو غيرهما،و ان فعل شيئا من ذلك جهلا أو نسيانا فلا شيء عليه، لقول الإمام الباقر عليه السّلام:«من حلق رأسه،أو نتف إبطه ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه».

و من أزال شعره متعمدا،و لو لأذى فيه فعليه كفارة،و هي شاة،أو إطعام ستة مساكين-و قيل عشرة-أو صيام ثلاثة أيام.

و في تقليم كل ظفر مد من طعام،و ان قلّم يديه و رجليه في مجلس فعليه شاة،و ان تعدد المجلس فشاتان.

الشجرة و الحشيش:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين إلاّ ما أنبته أنت،أو غرسته.

و سئل عن المحرم ينزع الحشيش من الحرم؟قال:لا.

ص:


1- البقرة:196. [1]
الفقهاء:

قالوا:لا يجوز للمحرم أن يقطع أو يقلع شجر الحرم و الحشيش مما أنبته اللّه دون توسط آدمي،حتى و لو كان شوكا إلاّ نوعا يسمى الإذخر،و يجوز قطع و قلع ما أنبته الآدمي،و لا شيء فيه،و لا كفارة في قلع الحشيش الذي أنبته اللّه، و لكن فاعله آثم و معاقب.

أما كفارة قلع الشجرة النابة بدون توسط آدمي ففي الكبيرة منها بقرة،و لو كان الفاعل غير محرم،و في الصغيرة شاة،و في أبعاضها قيمته،هذا هو المشهور بين المتأخرين بشهادة صاحب الحدائق.

النظر في المرآة:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تنظر في المرآة،و أنت محرم،فإنه من الزينة.

متفق عليه،و لا بأس بالنظر في الماء.

الحجامة:

اتفقوا على جواز الحجامة عند الحاجة و الضرورة،و اختلفوا مع عدمها، فمنهم من منع،لرواية عن الإمام عليه السّلام تقول:لا يحتجم المحرم إلاّ أن يخاف على نفسه،و منهم من منع،لرواية ثانية تقول:لا بأس ان يحتجم المحرم ما لم يحلق، أو يقطع الشعر.

و نختار نحن الجواز على كراهية جمعا بين الروايتين بحمل التي نفت البأس على مجرد الإباحة،و جواز الفعل،و حمل التي نهت عن الحجامة على الكراهية،دون التحريم،و هذا الجمع لا يحتاج إلى رواية ثالثة تدل على الكراهية

ص:179

صراحة،لأنه معروف و مألوف كثيرا في الاستعمال عند العرف و الشرع.و على افتراض التحريم،فلا كفارة عليه،بل الإثم،و كفى.

الاستظلال و تغطية الرأس:
اشارة

قال رجل للإمام عليه السّلام:أظلل،و أنا محرم؟قال:لا.قال الرجل:أظلل، و أكفّر.قال الإمام:لا.قال الرجل:فان مرضت؟قال الإمام:ظلل و كفر.

و سئل الإمام عليه السّلام عن المحرم،يظلل على نفسه؟فقال:أمن علة؟قيل:

يؤذيه حر الشمس،و هو محرم.فقال:هي علة،يظلل و يفدي.

و سئل الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام عن الرجل المحرم يريد أن ينام أ يغطي وجهه من الذباب؟قال:نعم،و لا يخمر رأسه.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يرتمس المحرم في الماء و لا الصائم.

و سئل عن المحرم يغطي رأسه ناسيا؟قال:يلقي القناع،و يلبي،و لا شيء عليه.

الفقهاء:

قالوا:لا يجوز للرجل المحرم أن يستظل حال السير،و يحرم عليه الركوب فيما يوجب ذلك،كالطائرة،و السيارة،ان كان لها سقف،أما إذا كان ماشيا فيجوز له أن يمر تحت الظل عابرا،و له ان يستظل بالسقف و الحائط و الشجرة و الخيمة حال الاستقرار،و عدم السير،أما المرأة فلها ان تستظل إطلاقا،و لو كانت سائرة.

و أيضا لا يجوز للمحرم ان يرتمس في الماء،بحيث يعلو فوق رأسه،و له أن يفيض عليه الماء،و إذا استظل أو غطى رأسه،أو ارتمس نسيانا فلا شيء.

و إذا اضطر الى الظل جاز له،و عليه أن يفدي دم شاة،فقد سئل الإمام عليه السّلام

ص:180

عن فداء الظل؟فقال:شاة.

الضرس:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المحرم يؤذيه ضرسه،أ يقلعه؟قال:نعم.

المخيط و الخف:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تلبس ثوبا له أزرار،و أنت محرم إلاّ ان تنكسه، و لا ثوبا تدرعه،و لا سراويل إلاّ أن لا يكون إزارا،و لا خفين إلاّ أن لا يكون نعل.

الفقهاء:

قال صاحب الحدائق:«لا شيء من الروايات يدل على تحريم لبس المخيط،و لا تعرض له بالكلية،و انما دلت على النهي عن أثواب مخصوصة، و بذلك اعترف الشهيد الأول في الدروس،حيث قال:لم أقف إلى الآن على رواية بتحريم عين المخيط،و انما نهي عن القميص و القباء و السراويل،و يعضده ما عن شيخ المفيد في المقنعة من أنه لم يذكر إلاّ المنع عن أشياء معينة،و لم يتعرض لذكر المخيط».

و الذي ليس فيه شك أن الإجماع قائم و متحقق على أن الرجل المحرم ممنوع من لبس المخيط و المحيط أيضا،كالعمامة و الطربوش و القلنسوة،و ان المرأة يجوز لها ذلك إلاّ القفاز و ثوبا مسه طيب،قال صاحب الجواهر:«لبس المخيط حرام على المحرم،فلو لبسه عالما عامدا مختارا كان عليه دم شاة،و لو اضطر إلى لبسه يتقي به الحر أو البرد جاز،و عليه دم شاة بلا خلاف أجده،بل

ص:181

الإجماع على ذلك بقسميه-أي المحصل و المنقول-و هو الحجة».

و رغم احتمالنا بأن سبب الإجماع هو الاحتياط،أو فهم المجمعين من القميص و القباء و السراويل مطلق المخيط،على الرغم من ذلك فنحن لا نجرأ هنا على مخالفة الإجماع،و السيرة المستمرة منذ أقدم العصور.و على هذا إذا لبس الرجل المحرم المخيط ضحى بشاة،حتى و لو كان ذلك لضرورة و اتقاء للحر أو البرد،و إذا لبسه ناسيا أو جاهلا فلا شيء.

و لا يجوز للمحرم أن يلبس الخفين إلاّ إذا لم يجد نعلا،فيلبسهما بعد أن يقطع أسفل الكعبين (1).

الخاتم:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المحرم،أ يلبس الخاتم؟قال:لا يلبسه للزينة.

قال الفقهاء:يحرم على المحرم لبس الخاتم مع قصد الزينة،و ان قصد به السنة النبوية فلا بأس،كما أنه لا يجوز للمرأة لبس الحلي للزينة.

السلاح:

قال صاحب الحدائق:«ذهب المشهور إلى تحريم لبس السلاح للمحرم إلاّ لضرورة،و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان المحرم إذا خاف العدو فلبس السلاح فلا كفارة عليه.و دلالة هذه الرواية و غيرها على التحريم،و ان كان

ص:182


1- النعل له أسفل،و ليس له كعب و جوانب،و لا ما يستر ظهر القدم،و الخف حذاء تام في كعبة و جوانبه،و يسمى كندرة أو صباط،و ما إلى ذلك.

بالمفهوم إلاّ أنه مفهوم الشرط،و هو حجة عند محققي الأصول».

و الكلام عن حمل السلاح دفاعا عن النفس،تماما كالكلام عن الاحتشاش لعلف الناقة مما لا مجال للحديث عنهما في هذا العصر،عصر السرعة و الأمان.

الفسوق و الجدال:
اشارة

قال تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه،و ذكر اللّه كثيرا، و قلة الكلام إلاّ بخير،فإن من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلاّ من خير،كما قال تعالى فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ (2)،و الرفث الجماع،و الفسوق الكذب و السباب،و الجدال قول الرجل:

لا و اللّه،و بلى و اللّه.

الفقهاء:

اتفقوا على تحريم الجدال في الحج،و ان المحرمات و المعاصي تتأكد في حق المحرم أكثر من سواه.و ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق و الجواهر إلى أن المحرم إذا كذب مرة فعليه شاة،و مرتين فبقرة،و ثلاثا فبدنة،و إذا حلف صادقا فلا شيء عليه إلاّ إذا تكرر الحلف ثلاث مرات فعليه شاة.

و قد تتبعت روايات أهل البيت عليهم السّلام في الوسائل و غيرها فلم أجد هذا

ص:183


1- البقرة:197. [1]
2- البقرة:197. [2]

التفصيل في رواية واحدة،و ان أمكن استخراجه من العديد من الروايات،حيث جاء في بعضها:«الذي يجادل،و هو صادق،عليه شاة،و الكاذب عليه بقرة».و في رواية ثانية:«إذا حلف ثلاث ايمان متتابعات صادقا فقد جادل،و عليه دم شاة، و إذا حلف بيمين واحدة كاذبا فقد جادل،و عليه دم».و في الثالثة:«إذا جادل مرتين فعلى المصيب دم يهريقه شاة،و على المخطئ بقرة».

و مهما يكن،فان طريقتنا في هذا الكتاب ان نعرض رأي المشهور،مع الإشارة إلى دليله،و قد نقلنا ما ذهب إليه المشهور عن صاحب الجواهر و الحدائق و أشرنا إلى الآية الكريمة،و بعض الروايات.

مسائل:
1-قال صاحب الجواهر:إذا اجتمعت أسباب الكفارة،و اختلفت في

حقيقتها،كالصيد،و اللبس

،و تقليم الأظافر،و الطيب،وجب تعدد الكفارة بتعدد السبب بلا خلاف و لا إشكال،لقاعدة تعدد المسببات بتعدد أسبابها،سواء أفعل ذلك في وقت واحد،أو في أكثر،و سواء أ كان قد كفّر عن الأول،أم لم يكفّر، لوجود المقتضي،و انتفاء المسقط.

2-إذا تكرر السبب الواحد،دون ان تختلف حقيقته

،كما لو وطأ،أو اصطاد،أو تطيب أكثر من مرة لم يتداخل،و وجب لكل مرة كفارة.قال صاحب الجواهر:هذا هو المشهور بين الفقهاء قديما و حديثا،بل عن المرتضى و ابن زهرة الإجماع عليه.

3-كل محرم لبس أو أكل عالما عامدا ما لا يحل له أكله أو لبسه

،و لم يكن له مقدر شرعي بخصوصه كأكل النعامة كان عليه دم شاة.قال صاحب الجواهر:لا

ص:184

أجد في ذلك خلافا،لقول الإمام الباقر عليه السّلام:من نتف إبطه،أو قلّم ظفره،أو حلق رأسه،أو لبس ثوبا لا ينبغي له لبسه،أو أكل طعاما لا ينبغي له أكله،و هو محرم، ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا فليس عليه شيء،و من فعله متعمدا فعليه دم شاة.

4-قال صاحب الجواهر:تسقط الكفارة عن الناسي و الجاهل و المجنون

إلاّ في الصيد

فإن الكفارة لازمة على كل حال،و لو كان سهوا،أو جهلا على المشهور،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه.

و قوله:ليس عليك فداء ما أتيته بجهالة إلاّ الصيد،فإن عليك فيه الفداء بجهل كان، أو بعمد.

5-يجوز للمحرم أن يلبس الهميان-الكمر-يشده على وسطه

،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المحرم يشد الهميان في وسطه؟قال:لا بأس.أو ليس هي نفقتك،و عليها بعد اللّه عز و جل اعتمادك؟

حدود الحرمين:

لا فرق في تحريم الصيد،و قطع الشجر بين حرم مكة،و حرم المدينة، و لكل من الحرمين الشريفين حدود،و حد الحرم المكي من جهة الشمال مكان يدعى«التنعيم»و بينه و بين مكة 6 كيلو مترات،و من جهة الجنوب«اضاه»و بينه و بين مكة 12 كيلو مترا،و من جهة الشرق«الجعرانة»و بينها و بين مكة 16 كيلو مترا،و من جهة الغرب«الشميسى»و بينه و بين مكة 15 كيلو مترا.

و قد نصبت على هذه الحدود أعلام،و هي أحجار مرتفعة قدر متر.

أما حد الحرم النبوي الشريف فقدره 12 ميلا،يمتد من عير إلى ثور،و عير جبل عند الميقات،و ثور جبل عند أحد.

ص:185

ص:186

الطواف

الطواف واحد في جميع المناسك:

ان المناسك التي تؤدي عند بيت الحرام هي أعمال منظمة مرتبة،و على الناسك أن يأتي بها على وجهها و أصولها المقررة في كتاب اللّه،و سنة نبيه،و سبق ان من هذه المناسك ما يسمى عمرة مفردة،و منها حج تمتع،و منها حج افراد، و منها حج قران-انظر فصل أصناف الحج-و رغم اختلاف الأسماء فإن الأعمال واحدة،و قد تختلف يسيرا بزيادة جزء أو شرط،كالأضحية فإنها واجبة في القران و التمتع دون الإفراد،أو تختلف في تقديم فعل على فعل،كالعمرة،حيث يجب تقديمها في التمتع،و تأخيرها في غيره.فالعمرة المفردة و الحج بأنواعه الثلاثة يشتركان جميعا في وجوب الإحرام و الطواف و ركعتيه،و السعي و الحلق أو التقصير،و حقيقتها واحدة في الجميع بلا تفاوت،و يفترق الحج بأنواعه في أنه يجب به الوقوف بعرفات،و بالمشعر،و النزول بمنى و الرمي و الذبح،و لا يجب شيء من ذلك في العمرة المفردة.

و قد عقدنا لكل واحد من هذه الأفعال فصلا مستقلا،و الناسك مهما كانت وظيفته يستطيع الاستفادة منها،معتمرا كان،أو مفردا،أو قارنا،لأن المفروض ان حقيقتها واحدة في الجميع،سواء أ كانت جزءا من العمرة،أو الحج بشتى أنواعه.

ص:187

و الإحرام هو العمل الأول الذي يجب ان يبتدئ به الناسك،مهما كانت وظيفته، أما العمل الثاني الذي يلي الإحرام فيختلف باختلاف قصد الناسك،فان كان قد أحرم للعمرة ثنى بالطواف،سواء أ كان مريدا لعمرة مفردة،أو لعمرة التمتع،و ان أراد بإحرامه الحج فقط ثنى بالوقوف في عرفات،و نحن نعقد لكل فعل فصلا مستقلا على ترتيب من يريد أن يؤدي حج التمتع الذي هو وظيفة النائي عن مكة، و العمل الثاني لهذا الحاج هو الطواف،و لذا عقدنا له هذا الفصل بعد الإحرام مباشرة.

عدد الأطوفة:

على من يحج حج التمتع ثلاثة أطوفة:الأول للعمرة،و هو ركن منها، و الثاني للحج،ركن منه،و الثالث للنساء،و هو جزء واجب،و ليس بركن،أما المفرد و القارن فعلى كل منهما طوافان،واحد للحج،و آخر طواف النساء.قال الإمام الصادق عليه السّلام:المتمتع عليه ثلاثة أطواف بالبيت.و المفرد للحج عليه طواف بالبيت،و طواف النساء،و ليس عليه هدي،و لا أضحية.و تقدم ان القارن كالمفرد تماما إلاّ في وجوب الهدي.

الطواف راجح بذاته:

قال تعالى في الآية 26 من سورة الحج وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ،و الآية 29 وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ .

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:يستحب ان يطوف ثلاثمائة و ستين أسبوعا-أي مرة،كل مرة سبعة أشواط-على عدد أيام السنة،فإن لم تستطع فثلاثمائة و ستين

ص:188

شوطا،فإن لم تستطع فما قدرت عليه من الطواف.

و لهذه الرواية،و كثير غيرها أجمع الفقهاء على استحباب الطواف بالبيت و رجحانه بذاته مستقلا عن أي نسك.

عند دخول مكة المكرمة:
اشارة

قال ابان:كنت مع الإمام الصادق عليه السّلام،فلما انتهى إلى الحرم نزل، و اغتسل،و أخذ نعليه بيديه،ثم دخل الحرم حافيا.و قال الإمام عليه السّلام:إذا دخلت الحرم فخذ من الإذخر فامضغه-الإذخر نبات يطيب الفم-و قال:من دخل مكة بسكينة غفر له ذنبه.فقيل له:و ما السكينة؟قال:يدخلها غير متكبر و لا متجبر.

و قال:الدخول من باب بني شيبة سنة.

الفقهاء:

قالوا:يستحب لمن دخل مكة ان يغتسل،و ان يدخل المسجد من باب شيبة،و ان يرفع يديه عند رؤية البيت،و يكبر و يهلل،و يدعو بالمأثور،و ان يمضغ الإذخر،و إلاّ نظف فمه،و اجتهد في زوال رائحته.

شروط الطواف:
اشارة

و للطواف شروط:

1-النية

،لأن الدوران حول بيت اللّه الحرام،دون قصد الطواف المأمور به

ص:189

شرعا،تماما كالمشي على الطريق (1).

2-الطهارة من الحدث الأكبر و الأصغر للطواف الواجب
اشارة

،دون المستحب و تقدم في باب الطهارة ان الحدث الأكبر هو ما يوجب الغسل،و الأصغر هو الذي يوجب الوضوء.و الدليل على هذا الشرط بعد الإجماع قول الإمام الصادق عليه السّلام:

لا بأس ان يقضي المناسك كلها على غير وضوء إلاّ الطواف،فإن فيه صلاة، و الوضوء أفضل،أي ان الطواف مع الوضوء أفضل منه بدون وضوء.

و سئل عن رجل طاف تطوعا-أي استحبابا-و صلى ركعتين،و هو على غير وضوء؟قال:يعيد الركعتين،و لا يعيد الطواف.و قال:لا بأس بأن يطوف الرجل النافلة على غير وضوء،ثم يتوضأ،و يصلي.

و من أجل هاتين الروايتين و غيرهما قال جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الجواهر:ان الطهارة من الحدث شرط للطواف الواجب دون المستحب.

و تسأل:هل يستباح الطواف بالتيمم مع تعذر الماء؟

الجواب:

أجل،قال صاحب المدارك:ان المعروف من مذهب الأصحاب-أي الفقهاء-استباحة الطواف بالطهارة الترابية،كما يستباح بالمائية،و يدل عليه عموم قول الإمام عليه السّلام:جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا.و قوله:

التراب بمنزلة الماء.

ص:190


1- النية شرط لوجود المأمور به شرعا في الخارج،و عدها بعضهم من اجزاء المأمور به،و هو اشتباه و خطأ،لأنها إذا كانت جزءا منه يلزم ان تكون متقدمة على الأمر تقدم الموضوع على الحكم،مع العلم بأنها متأخرة عن الأمر:لأن معناها هو الإتيان بالفعل بداعي الأمر،و على هذا لو كانت جزءا لزم الدور.
3-الطهارة من الخبث

أي طهارة الثوب و البدن من النجاسة،سواء أ كان الطواف واجبا،أو ندبا،ذهب أكثر الفقهاء إلى ذلك بشهادة صاحب الجواهر، و يدل عليه الحديث النبوي المشهور:«الطواف بالبيت صلاة»،و جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أن رجلا رأى الدم في ثوبه،و هو يطوف.قال:ينظر إلى الموضع الذي رأى فيه الدم،فيعرفه،ثم يخرج،فيغسله،ثم يعود،فيتم طوافه.

4-ستر العورة في الطواف الواجب و المستحب

،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:

ان عليا عليه السّلام قال بأمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يطوف بالبيت عريان،و لا عريانة، و لا مشرك.

5-الختان للذكر

،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده فيه،بل عن الحلبي ان إجماع آل محمد عليهم السّلام عليه،بالإضافة إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:

الأغلف لا يطوف بالبيت،و لا بأس ان تطوف المرأة.

6-ان يكون الثوب غير مغصوب،و لا من حيوان لا يؤكل لحمه،و لا من

الحرير،و لا من الذهب

،تماما كالساتر في الصلاة عند كثير من الفقهاء،بل تشدد بعضهم في أمر الطواف أكثر من الصلاة،حيث قال بالعفو عن الدم-غير الدماء الثلاثة-إذا كان بمقدار الدرهم في الصلاة،و عدم العفو عنه في الطواف،و بعدم جواز لبس الحرير و الذهب للنساء فيه.

صورة الطواف:

للطواف واجبات غير الشروط المتقدمة،و عبر عنها ان شئت بالأجزاء، و هي:

1-الابتداء بالحجر الأسود،و الاختتام به،أي منه و إليه،قال الإمام

ص:191

الصادق عليه السّلام:الطواف من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود،و قال صاحب الجواهر:«و لا بأس بإدخال جزء من باب المقدمة مع استصحاب النية محتسبا الابتداء من المحاذاة للحجر الأسود،و لا يلزم من ذلك الزيادة،لأنه تماما كإدخال جزء من الرأس في غسل الوجه للوضوء».

و المراد بالمحاذاة هنا هي المحاذاة العرفية،لا الدقة العقلية،لأن الأحكام منزلة على افهام العرف،و مبتنية على اليسر.و قال من قال:يجب جعل أول جزء من الحجر محاذيا لأول جزء من مقاديم البدن،بحيث يمر عليه بجميع بدنه دون زيادة أو نقصان خطوة واحدة أو بعضها.

و قد سخر من هذا القول صاحب الحدائق و الجواهر،قال الأول ما نصه بالحرف:«لا دليل«للذين اعتبروا هذه الدقة»سوى ما يدعونه من الاحتياط، و الاحتياط انما يكون مع اختلاف الأدلة،لا مجرد القول من غير دليل،بل ظهور الدليل على خلافه.بل هو إلى الوسوسة أقرب».

أما صاحب الجواهر فقد أطنب في الاستنكار و الاستهجان،و مما قاله:«ان هذا شك في شك.لا دليل عليه،بل الدليل على خلافه.و لا يخفى حصول المشقة،و شدة الحرج و الضيق،بخاصة في هذه الأزمنة التي يكثر فيها زحام الحجاج.و ان اعتباره مثار للوسواس،كما أنه من المستهجنات القبيحة التي تشبه أحوال المجانين.و قد روي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طاف على راحلته،و يتعذر هذا التدقيق و تحققه على الراكب».

2-ان يجعل البيت على يساره حال الطواف،لا على يمينه غير مستقبل أو مستدبر،و لو في خطوة واحدة.قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده،بل الإجماع عليه مضافا إلى التأسي.و يشير بلفظ التأسي إلى ما روي من أن

ص:192

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طاف كذلك،و قال:خذوا عني مناسككم.

3-أن يدخل في الطواف حجر إسماعيل-هو مدفن إسماعيل و امه و بعض الأنبياء-فإذا لم يطف حول الحجر،بحيث جعل البيت الحرام على يساره،و الحجر على يمينه أعاد الشوط.قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده فيه،بل الإجماع عليه،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:من اختصر في الحجر الطواف- أي من تركه في طوافه-فليعد طوافه من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.

4-ان يكون خارج البيت،و خارج حجر إسماعيل بتمام بدنه،فمن طاف في داخل البيت،أو في حجر إسماعيل،أو حائطه بطل طوافه،لأن اللّه سبحانه قال وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1)،أي حوله لا فيه،تقول مررت بزيد،و لا تقول مررت في زيد.

5-ان يتم سبعة أشواط بلا زيادة أو نقصان،قال صاحب الجواهر«بلا خلاف أجده فيه،بل الإجماع عليه مضافا إلى النصوص المستفيضة،بل المتواترة».

6-ان يكون الطواف بين البيت،و مقام إبراهيم عليه السّلام،و هو مقام معروف.

قال صاحب الحدائق:هذا هو الأشهر الأظهر بين علمائنا الأعلام.

7-جاء في كتاب منهاج الناسكين للسيد الحكيم ص 61 الطبعة الرابعة «ان الموالاة بين الأشواط شرط للطواف الواجب على الأحوط،و ليست شرطا في النافلة».

و لم أجد ذكرا للموالاة فيما لدي من كتب الفقه،أما كتب الحديث فقد وجدت في الوسائل روايات عن أهل البيت عليهم السّلام تدل صراحة على عدم وجوب

ص:193


1- الحج:29. [1]

الموالاة في الطواف الواجب،منها عن صفوان الجمال قال:قلت للإمام الصادق عليه السّلام:الرجل يأتي أخاه،و هو في الطواف؟قال:يخرج معه في حاجته، ثم يرجع،و يبني على طوافه.و منها أن ابان بن تغلب كان يطوف مع الإمام الصادق عليه السّلام فعرض له رجل في حاجة.فقال له الإمام عليه السّلام:اذهب إليه.قال ابان:

اقطع الطواف؟قال:نعم.قال ابان:و ان كان طواف الفريضة؟قال الإمام عليه السّلام:

نعم.و عنه أنه أمر رجلا كان يطوف ان يقطع طوافه،و يذهب معه،فقال الرجل:

و ان كنت في المفروض؟قال الإمام عليه السّلام:نعم،و ان كنت في المفروض.فإن من مشى مع أخيه المسلم في حاجته كتب اللّه له ألف ألف حسنة،و محا عنه ألف ألف سيئة،و رفع له ألف ألف درجة (1).

و بالمناسبة أذكرك أيها القارئ بمن يحافظ على الصوم و الصلاة، و يتجاهل حقوق البلاد و العباد.

ركعتا الطواف:
اشارة

قال تعالى وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (2).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا ينبغي ان تصلي ركعتي طواف الفريضة إلاّ عند مقام إبراهيم عليه السّلام،أما التطوع فحيث شئت من المسجد.

و سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل يطوف بعد الفجر، فيصلي الركعتين خارج المسجد؟قال:يصلي بمكة لا يخرج منها إلاّ أن ينسى،

ص:194


1- و لكن المعروف من فعل الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و الأئمة الأطهار عليهم السّلام و الفقهاء الاعلام [1]هو التتابع و الموالاة.و ليس من شك أن بها تفرغ الذمة،و يحصل العلم و الجزم بالطاعة و الامتثال.
2- البقرة:125. [2]

فيصلي إذا رجع في المسجد آية ساعة أحب ركعتي ذلك الطواف.

و قال أبوه الإمام الصادق عليهما السّلام:إذا فرغت من طوافك فأت مقام إبراهيم عليه السّلام فصل ركعتين،و اجعله أمامك،و اقرأ في الأولى منهما سورة التوحيد،قل هو اللّه أحد،و في الثانية قل يا أيها الكافرون،ثم تشهد و احمد اللّه تعالى،و أثن عليه،و صلّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و اسأله أن يتقبل منك.

الفقهاء:

قالوا:متى انتهى من طوافه يصلي ركعتين للطواف خلف مقام إبراهيم المعروف،و ان كان زحام،و لم يمكن فحيال المقام،و إلاّ فحيث أمكن من المسجد،و لو نسيهما وجب عليه الرجوع و الإتيان بهما،فان تعذر الرجوع قضاهما حيث كان،هذا،إذا كان الطواف واجبا،و ان يك مستحبا صلاهما،حيث شاء.

مستحبات الطواف:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا دنوت من الحجر الأسود فارفع يديك،و احمد اللّه،ثم استلم الحجر و قبله،فإن لم تستطع فاستلمه بيدك،فإن لم تستطع فأشر إليه بيدك.

قال الفقهاء:يستحب الوقوف عند الحجر،و حمد اللّه و الثناء عليه، و الصلاة على النبي و آله،و رفع اليدين بالدعاء،و ان يكون في طوافه على سكينة و وقار،مقتصدا في مشيه،و ان يلزم المستجار في الشوط السابع،و يبسط يديه على الحائط،و يلصق به بطنه.

ص:195

مكروهات الطواف:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تطوفن بالبيت و عليك برطلة.و قال:لا تطوف المرأة بالبيت و هي متنقبة،قال صاحب الوسائل:هذا اما مكروه،و اما مخصوص بالمحرمة.

و قال الفقهاء:يكره الكلام بغير ذكر اللّه،و الضحك و التمطي و التثاؤب، و فرقعة الأصابع،و مدافعة الأخبثين البول و الغائط كما يكره الأكل و الشرب،و كل ما يكره في الصلاة.

زيادة الأشواط في الطواف:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:من طاف بالبيت ثمانية أشواط المفروض-أي الواجب-يعيد،حتى يستتمه.

و سئل عن رجل طاف،و هو متطوع ثمانية أشواط،و هو ناس؟قال:فليتم طوافين،ثم يصلي أربع ركعات،فأما الفريضة فليعد،حتى يتم سبعة أشواط.

و في رواية أخرى أنه سئل عن رجل نسي،فطاف ثمانية أشواط؟قال:ان ذكر قبل أن يبلغ الركن فليقطعه،و ان لم يذكر حتى بلغه،فليتم أربعة عشر شوطا، و ليصل أربع ركعات.

الفقهاء:

قالوا:إذا زاد في الطواف عن عمد عاملا كان أو جاهلا-الجاهل عامد قطعا-ينظر:فإن كان الطواف واجبا فقد عصى و أثم،و بطل طوافه،و عليه الإعادة، و ان كان الطواف مستحبا لم يبطل،و لكن تكون الزيادة مكروهة،قال صاحب

ص:196

الحدائق:«المعروف من مذهب الأصحاب أنه تحرم الزيادة على السبعة في الواجب،و تكره في المندوب».

و إذا زاد في الطواف عن سهو لا عن عمد فإن تذكر قبل نهاية الشوط الزائد قطعه،و انصرف،و إلاّ أكمل الطواف الثاني سبعا،و نوى به الاستحباب،و صلى ركعتين للطواف الأول،ثم سعى بين الصفا و المرة،و بعد انتهاء السعي صلى ركعتين للطواف الثاني المستحب.فقد روي أن عليا عليه السّلام طاف طواف الفريضة ثمان،فترك سبعا-أي احتسب السبعة الأول للطواف الواجب-و أضاف إلى الشوط الزائد ستا،ثم صلى ركعتين خلف المقام،ثم خرج إلى الصفا و المروة، فلما فرغ من السعي رجع فصلى الركعتين اللتين ترك في المقام،أي صلاهما للطواف الثاني المستحب.

و تجدر الإشارة إلى أن أكثر الفقهاء-كما قال صاحب الجواهر-لا يجيزون القران بين طوافين واجبين،بحيث يأتي بهما دون أن يفصل بينهما،أي فاصل، و يجيزون ذلك في الطواف المستحب.

ترك بعض الأشواط:

من نقص من طوافه شوطا،أو أكثر،دون أن يأتي بالمنافي،أو يحصل الفاصل الطويل-بناء على وجوب الموالاة-أتم الطواف سبعا،و امتثل و أطاع، سواء أ كان النقص عن عمد،أو سهو،أو كان الطواف واجبا،أو مستحبا.

و ان كان قد أتى بالمنافي،أو الفصل الطويل بطل الطواف ان كان النقصان عن عمد،و دون مسوغ شرعي.و ان كان عن سهو،أو مسوغ شرعي ينظر:فان تذكر قبل أن يأتي بأربعة أشواط استأنف،و أعاد الطواف من جديد،و ان كان قد

ص:197

أكمل الأربعة رجع و أتمها سبعا،و لو تذكر بعد أن عاد إلى أهله استناب من يؤديها عنه.

هذا هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الحدائق و الجواهر،و الدليل عليه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن امرأة طافت بالبيت أربعة أشواط،و هي معتمرة،ثم طمثت؟قال:«تتم طوافها،فليس عليها غيره،و متعتها تامة و لها أن تطوف بين الصفا و المروة،و ذلك لأنها زادت على النصف».و خصوص المورد، و هو المرأة الحائض لا يضر في عموم التعليل الشامل لما نحن فيه،و نعني بالتعليل قول الإمام عليه السّلام:«لأنها زادت على النصف».

الحائض و المستحاضة:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا حاضت المرأة،و هي في الطواف بالبيت، فجاوزت النصف علّمت ذلك الموضع،فإذا طهرت رجعت،و أتمت بقية طوافها من الموضع الذي علمت،و ان هي قطعت طوافها في أقل من النصف،فعليها أن تستأنف الطواف من أوله.

و سئل عن امرأة متمتعة-أي حجت حج التمتع-قدمت مكة،فرأت الدم؟قال:تطوف بين الصفا و المروة،ثم تجلس في بيتها،فان طهرت طافت بالبيت،و ان لم تطهر فإذا كان يوم التروية أفاضت عليها الماء،و أهلت-أي أحرمت-بالحج من بيتها،و خرجت إلى منى،و قضت المناسك كلها،فإذا قدمت مكة طافت بالبيت طوافين،ثم سعت بين الصفا و المروة،فإذا فعلت ذلك فقد حل لها كل شيء ما خلا فراش زوجها.

ص:198

الفقهاء:

قالوا:إذا حاضت المرأة أثناء الطواف،فان حدث ذلك بعد أربعة أشواط قطعت الطواف،و سعت،فإذا فرغت من السعي أتمت الطواف بعد طهرها،و لا يجب عليها إعادة السعي،و ان حدث قبل إتمام الأربعة انتظرت عرفات،فان طهرت و تمكنت من جميع الأفعال قبل يوم التروية فعلت،و بقيت على حج التمتع،و ان لم تطهر قبل الموقف بعرفات انقلب حجها إلى الافراد،فتطهر، و تحرم يوم التروية من بيتها،و تمضي إلى عرفات،ثم المشعر،ثم منى،و بعد إتمام المناسك بكاملها تأتي بعمرة مفردة.

أما المستحاضة فإن فعلت الأعمال التي تجب عليها للصلاة حسب التفصيل الذي تقدم في الجزء الأول«فصل المستحاضة»جاز لها كل ما يجوز للطاهر،و إلاّ فلا،حيث سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المستحاضة،أ يطأها زوجها؟و هل تطوف بالبيت؟قال:تصلي كل صلاتين بغسل واحد،و كل شيء استحلت به الصلاة فليأتها زوجها،و لتطف بالبيت.

ترك الطواف:
اشارة

سئل الإمام عليه السّلام عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة؟قال:

ان كان على وجه جهالة في الحج أعاد،و عليه بدنة.

و سئل عن رجل نسي طواف الفريضة حتى قدم بلاده،و واقع النساء،كيف يصنع؟قال:يبعث بهدي،ان كان تركه في حج يبعث به في حج،و ان كان تركه في عمرة يبعث به في عمرة و يوكل من يطوف عنه.

ص:199

الفقهاء:

قالوا:من ترك الطواف من الأساس عن عمد بطل نسكه،سواء أ كان عمرة، أم حجا،و سواء أ كان عالما،أو جاهلا-لأن الجاهل عامد-و عليه ان يكفر ببدنة.

و ان تركه عن سهو،و لم يذكر،حتى وصل إلى بلاده وجب عليه أن يعود، و يؤدي ما فاته بنفسه،و ان تعذرت عليه العودة،و كلّ من يقوم عنه بذلك.

الشك و التردد:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا خرجت من شيء،ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء.

و سئل عن رجل طاف الفريضة،فلم يدر ستا طاف،أو سبعا؟قال:فليعد طوافه.قال السائل:ففاته-اي شك بعد الفراغ-قال:ما أدري عليه شيئا.

و أيضا سئل عن رجل طاف بالبيت طواف الفريضة،فلم يدر سبعا طاف، أو ثمان؟قال:أما السبع فقد استيقن،و انما وقع وهمه-أي شك-على الثامن، فليصل ركعتين.

و أيضا سئل عن رجل شك في طوافه،فلم يدر ستا طاف أو سبعا؟فقال:

ان كان في فريضة أعاد كل ما شك فيه،و ان كان في نافلة بنى على الأقل.

الفقهاء:

قالوا:إذا انتهى من الطواف،ثم شك:هل أوقعه صحيحا على وجهه المطلوب شرعا،و بدون زيادة أو نقصان،أو أنه أخل و زاد أو نقص،إذا كان ذلك هكذا فلا أثر لشكه،فيمضي،و لا شيء عليه،لأنه شك في العمل بعد الفراغ

ص:200

و الانتهاء منه.

و إذا حصل الشك في الأثناء،و قبل الفراغ،فان كان قد أحرز الأشواط السبعة،كما لو شك بين السبعة و الثمانية،بنى على الصحة،و مضى،لأن السبعة المطلوبة قد أتى بها يقينا،و الزائد مشكوك،و الأصل عدمه.

و إذا لم يحرز السبعة كما لو شك بين الستة و السبعة،أو الخمسة و الستة يبطل الطواف من الأساس،و عليه الإعادة،و الأفضل ان يتم،ثم يستأنف،هذا،إذا كان الطواف واجبا،أما إذا كان مستحبا فإنه يبني على الأقل.

معنى الركن في الحج و العمرة:

الركن في الحج و العمرة هو الذي يبطل الحج أو العمرة بتركه عمدا،لا سهوا.قال صاحب الحدائق:قد صرح الأصحاب بأن الطواف ركن،من تركه عامدا بطل حجه،و من تركه ناسيا قضاه،و لو بعد المناسك،و مرادهم بالركن ما يبطل الحج بتركه عمدا،لا سهوا.

و الأركان في الحج عند الفقهاء هي النية،و الإحرام،و الوقوف بعرفات، و الوقوف بالمشعر،و طواف الزيارة-و يسمى طواف الحج-و السعي بين الصفا و المروة.

إما فرائض الحج التي ليست بأركان فهي التلبية،و ركعات الطواف و طواف النساء و ركعتاه.

و الأركان في العمرة هي النية و الإحرام،و طواف الزيارة.إما فرائض العمرة التي ليست بركن فهي التلبية،و ركعتا الطواف،و طواف النساء،و ركعتاه.

ص:201

ص:202

السعي

مرتبة السعي:

قدمنا ان فصول هذا الكتاب تأتي في الترتيب و التبويب حسب ترتيب الأعمال المطلوبة من النائي عن مكة الذي وظيفته حج التمتع.و ان العمل الأول لكل ناسك مهما كانت وظيفته هو الإحرام،و ان العمل الثاني للمعتمر بعمرة مفردة،أو لحج التمتع هو الطواف،ثم ركعتاه.أما السعي بين الصفا و المروة فمحله بعد الطواف و ركعتيه في العمرة و الحج بشتى أنواعه،فهو تبع للطواف، و متأخر عنه،و لا يجوز تقديمه عليه،و من سعى قبل أن يطوف فعليه أن يرجع، فيطوف،ثم يسعى.أما الموالاة،و الانتقال من الطواف و ركعتيه إلى السعي مباشرة،و بلا فاصل فهو أفضل بدون ريب،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين فرغ من طوافه و ركعتيه قال:ابدأوا بما بدأ اللّه به إتيان الصفا،و من هنا ذهب كثير من العلماء إلى عدم جواز التأخير إلى اليوم الثاني اختيارا.

و مهما يكن،فإن حقيقة السعي واحدة في العمرة و الحج بأنواعه الثلاثة، كما أنّه ركن منهما يبطلان بتركه عمدا،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل ترك السعي متعمدا؟قال:لا حج له.

ص:203

المستحبات:

و للسعي مستحبات:

منها:الطهارة من الحدث و الخبث،فقد اتفق الفقهاء على أنّها مستحبة في السعي لا واجبة،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس أن تقضي المناسك كلها على غير وضوء إلاّ الطواف،فان فيه صلاة،و الوضوء أفضل على كل حال.و سئل الإمام عليه السّلام عن رجل يسعى بين الصفا و المروة ثلاثة أشواط،أو أربعة،ثم يبول، أ يتم سعيه بغير وضوء؟قال:لا بأس،و لو أتم نسكه بوضوء لكان أحب إليّ.

و منها:استلام الحجر،و الشرب من ماء زمزم،و الصب على الجسد منه، و الخروج إلى الصفا من الباب المقابل للحجر على سكينة و وقار،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا فرغت من الركعتين-أي ركعتي الطواف-فأت الحجر الأسود، فقبله و استلمه و أشر إليه،و اشرب من ماء زمزم قبل أن تخرج إلى الصفا و المروة.

و صب منه على رأسك و ظهرك و بطنك،و قل:اللهم اجعله علما نافعا و رزقا واسعا.إلى آخر الدعاء المأثور.و قال:ثم اخرج إلى الصفا من الباب الذي خرج منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو الباب الذي يقابل الحجر الأسود،و عليك السكينة و الوقار.

و منها:الصعود على الصفا،حتى ترى البيت،و استقبال الركن الذي فيه الحجر،و الدعاء المأثور،و التكبير و التهليل و التحميد و التسبيح مائة مائة، و الوقوف بقدر قراءة سورة البقرة.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

صور السعي:

و الواجب في السعي أربعة

ص:204

1-النية،و الأمر فيها أوضح من أن يبين،لأن السعي بين الصفا و المروة بلا نية التقرب للّه سبحانه،و امتثال أمره تماما كالمشي على الطريق.

2 و 3-الابتداء بالصفا،و الاختتام بالمروة إجماعا،و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:تبتدئ بالصفا،و تختم بالمروة.

4-السعي سبعة أشواط،على أن يحسب ذهابه شوطا،و عوده شوطا آخر،إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:طف بين الصفا و المروة سبعة أشواط،تبتدئ بالصفا،و تختم بالمروة.

و يتحصل من هذه العملية أن تكون أربعة أشواط من السبعة ذهابا من الصفا إلى المروة،و ثلاثة منها إيابا من المروة إلى الصفا.و عليه يكون الختام بالسابع في المروة.

و يجوز السعي ماشيا و راكبا،و المشي أفضل،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن السعي راكبا؟قال:لا بأس،و المشي أفضل.و قيل له:الرجل يسعى على الدابة؟قال:نعم،و على الجمل.و تواتر عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه طاف و سعى على راحلته.

و تستحب الهرولة في السعي ما بين المنارتين المعلمتين الآن باللون الأخضر،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ثم انحدر ماشيا،و عليك السكينة و الوقار، حتى تأتي المنارة،و هي طرف المسعى،فاسع ملء فروجك.و الهرولة ضرب من المشي يشبه مشي البعير حين يريد الإسراع.و إذا كان الساعي راكبا حرك دابته.

و لا تستحب الهرولة للنساء،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا أذان و لا هرولة على النساء بين الصفا و المروة،و في رواية أخرى«ليس على النساء سعي بين الصفا و المروة»و المراد بالسعي هنا الهرولة.

ص:205

مسائل:
1-من ترك السعي عامدا بطل حجه و عمرته

،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده فيه،بل الإجماع عليه،و النصوص مستفيضة،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:من ترك السعي متعمدا فعليه الحج من قابل.مضافا إلى قاعدة عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه.

و من ترك السعي ناسيا لم يبطل حجه،و لا عمرته،و وجب عليه أن يأتي به بنفسه،حتى و لو خرج ذو الحجة،فإن تعذرت المباشرة،أو تعسرت استناب من يؤديه عنه،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده في شيء من ذلك،و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:في رجل نسي السعي بين الصفا و المروة:عليه أن يعيد، و في رواية أخرى:يطاف عنه.و هذه الرواية صريحة بأن السعي يقبل النيابة عند تعذر المباشرة جمعا بينها و بين الأولى التي قالت:يعيد،أي يعيد السعي مع الإمكان،و يستنيب مع عدمه.

2-من زاد على السبعة عالما عامدا،بطل سعيه،و عليه الاستئناف

،لأنه لم يأت بما أمر،و لقول الإمام عليه السّلام:الطواف المفروض إذا زدت عليه مثل الصلاة إذا زدت عليها،فعليك الإعادة،و كذلك السعي.

و من زاد عن سهو فهو مخير بين إلغاء الزائد،و الاعتداد بالسبعة فقط،و بين أن يكمل الزائد سبعا،و يكون لديه سعيان:الأول واجب و الثاني مستحب،و يدل على ذلك أن الإمام سئل عن رجل سعى بين الصفا و المروة ثمانية أشواط؟قال:

ان كان خطأ طرح واحد،و اعتد بسبعة.و روي عنه أيضا:إذا استيقن انه سعى ثمانية أضاف إليها ستا.و إذا عطفنا احدى الروايتين على الأخرى نتج ما قاله الفقهاء من التخيير المذكور.

ص:206

3-إذا شك في عدد الأشواط،أو في صحتها بعد الانتهاء و الفراغ من

السعي

بنى على الصحة،و لا شيء عليه،لأنه شك بعد الفراغ.

و إذا شك في عدد الأشواط قبل إكمالها قال صاحب الجواهر:لا خلاف و لا إشكال في البطلان لتردده بين محذوري الزيادة و النقصان،و كل منهما مبطل، هذا،إلى أن العلم بتوجه التكليف يقينا يستدعي العلم بامتثاله،و الخروج عن عهدته يقينا.

و إذا شك أنّه:هل ابتدأ من الصفا،حتى يكون السعي صحيحا،أو من غيره،حتى يكون فاسدا،ينظر:فان كان شاكا في العدد ايضا بطل السعي.و ان كان ضابطا للعدد،و شك في الابتداء فقط،و انه من الصفا،أو المروة فإن كان الشوط الذي في يده مزدوجا كما لو كان ثانيا،أو رابعا،أو سادسا و كان على الصفا،أو متجها إليه صح السعي،لأنه يعلم،و الحال هذه،أن الابتداء كان من الصفا،و مثله في الصحة إذا كان الشوط مفردا كما لو كان ثالثا،أو خامسا،و كان على المروة،أو متجها إليها،و لو انعكس الأمر،بحيث كان الشوط مفردا،و هو على الصفا،أو مزدوجا،و هو على المروة،بطل السعي،و وجب الاستئناف.

4-لا تجب الموالاة بين الأشواط

،فيجوز له الجلوس للاستراحة قبل التمام،كما تجوز له الصلاة الواجبة،و قضاء حاجة له،أو لغيره ثم البناء على ما سبق،وفاقا للمشهور بشهادة صاحب الجواهر.

ص:207

ص:208

التقصير و الحلق

اشارة

من واجبات العمرة المفردة و الحج التقصير،أو الحلق،و لكنه ليس بركن، و قد يجب على الناسك مرة واحدة،و قد يجب عليه مرتين،كما أن محله قد يكون بعد السعي،و قد يكون بعد الذبح في منى،و أيضا قد يتعين عليه التقصير فقط،و قد يكون مخيرا بينه و بين الحلق،و يأتي هذا الاختلاف حسب وظيفة الناسك و صفته،حيث يكون معتمرا بعمرة مفردة تارة،و متمتعا أخرى،و قارنا أو مفردا حينا،و التفصيل فيما يلي:

العمرة المفردة:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:المعتمر عمرة مفردة إذا فرغ من طواف الفريضة، و صلاة الركعتين خلف المقام،و السعي بين الصفا و المروة حلق أو قصر.و ليس على النساء حلق،و عليهن التقصير.

و استنادا إلى هذه الرواية و غيرها اتفق الفقهاء على أن المعتمر بعمرة مفردة مخير بين الحلق،و التقصير،و لا يتعين عليه أحدهما،على شريطة أن يأتي به بعد السعي،لا قبله.

ص:209

حج التمتع:

قدمنا ان حج التمتع مركب من العمرة،و الحج،و لذا تحتم على المتمتع واجبان:الأول تعيين التقصير بعد السعي بين الصفا و المروة،الثاني التخيير بين التقصير و الحلق بعد الذبح بمنى،و الحلق أفضل.و يدل على الأول،أي تعيين التقصير بعد السعي قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا فرغت من سعيك،و أنت متمتع، فقصر من شعرك.و قلم من اظافرك.و قوله:ليس في المتعة إلاّ التقصير.

أما الواجب الثاني،و هو التخيير بين التقصير و الحلق بعد الذبح فقال صاحب الحدائق:هو المشهور بين الأصحاب.و قال صاحب الجواهر:لا أجد فيه خلافا إلاّ في الصرورة،و الذي تلبد شعره،أو عقصه،أي شدة و فتله،و يدل عليه قول الصادق عليه السّلام:ينبغي للصرورة أن يحلق،و ان كان قد حج فان شاء قصر،و ان شاء حلق،و إذا تلبد شعره،أو عقصه فان عليه الحلق و ليس عليه التقصير.

و فهم أكثر الفقهاء هذه الرواية،و ما إليها على أن الصرورة،و من تلبد شعره يتأكد الحلق في حقهما،و لا يتعين،و ذهب البعض إلى أن الحلق متعين عليهما.

و مهما يكن،فان الحلق بالنسبة للصرورة و الملبد موجب للعلم و الجزم بفراغ الذمة و امتثال التكليف،سواء أ كان المطلوب هو التعيين أو التخيير.أما التقصير فلا يوجب هذا الحزم و القطع،لاحتمال أن يكون المطلوب هو الحلق بالذات على سبيل التعيين.و من أجل هذا نميل إلى تعيين الحلق على الصرورة و الملبد، و الى التخيير بالقياس إلى غيرهما.بل جاء في الرواية الصحيحة أن الامام الصادق عليه السّلام قال:يجب الحلق على ثلاثة:رجل لبد،و رجل حج بداية،و لم يحج قبلها،و رجل عقص شعره.

و حكم القارن و المفرد حكم المتمتّع في التخيير بين الحلق و التقصير بعد الذبح بمنى.

ص:210

مسائل:
1-ليس على المرأة التقصير إطلاقا

،سواء أ كانت معتمرة،أو متمتعة،أو قارنة،أو مفردة.لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس على النساء أذان و لا حلق،و انما يقصرن من شعورهن.

2-قدمنا ان المعتمر لحج التمتع يتعين عليه التقصير بعد السعي

،فإذا حلق مكان التقصير وجب ان يكفر بشاة على ما هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الحدائق و الجواهر.

3-ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن المتمتع إذا ترك

التقصير عامدا

،و أحرم بالحج بعد السعي تبطل عمرته و وجب عليه أن يحج حجة الافراد،أي يأتي بأعمال الحج،ثم يعتمر بعدها بعمرة مفردة.

4-من اعتمر بعمرة مفردة يحل له كل شيء إذا حلق،أو قصر إلاّ النساء

، فإنها تحرم عليه،حتى يطوف ثانية طواف النساء.

و من اعتمر لحج التمتع يحل له كل شيء،حتى النساء بعد التقصير،ما عدا الصيد الحرمي.سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن متمتع وقع على امرأته قبل أن يقصر؟قال:عليه دم شاة،ان كان عالما،و ان كان جاهلا فلا شيء عليه.و سئل عن امرأة واقعها زوجها بعد أن سعت و قرضت أظافرها بأسنانها:هل عليها شيء؟قال:لا.

و من قصر أو حلق بعد الذبح بمنى يحل له كل شيء إلاّ الطيب و النساء فإنهما لا يحلان إلاّ بعد العود إلى مكة و طواف النساء.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا ذبح الرجل و حلق،فقد أحل من كل شيء أحرم منه إلاّ النساء و الطيب.

5-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل نسي أن يقصر من شعر رأسه و يحلقه،حتى ارتحل من منى

،

ص:211

و يحلقه،حتى ارتحل من منى؟قال:يرجع إلى منى،حتى يلقي شعره بها.

و في رواية ثانية أجاب عن هذا السؤال بقوله:يحلق في الطريق،أو أين كان.و في ثالثة أنّه قال:و ليحمل الشعر إذا حلق بمكة إلى منى.

و إذا عطفنا هذه الروايات بعضها على بعض مجموعة في كلام واحد جاءت النتيجة ان الواجب ان يحلق أو يقصر في منى،فإذا رحل منها قبل الحلق أو التقصير رجع إلى منى،و حلق أو قصر فيها،سواء أ كان عالما،أو جاهلا، أو ناسيا،و إذا تعذر،أو تعسر الرجوع عليه حلق أو قصر حيث كان،و أرسل شعره إلى منى،يدفن في أرضها.

و بما ذكرناه في الفصول السابقة من الإحرام،و الطواف،و ركعتيه،و السعي، و الحلق أو التقصير تعرف الأعمال المطلوبة من المعتمر بعمرة مفردة،و المعتمر لحج التمتع،فان هذه الأعمال واجبة على الاثنين،و الفرق ان الأول يجب عليه طوافان،الثاني منهما طواف النساء،و يتخير بين الحلق و التقصير،و تصح العمرة منه في أي وقت،أما الثاني،أي المعتمر لحج التمتع،فيجب عليه طواف واحد، و يتعين عليه التقصير،و لا تصح منه إلاّ في أشهر الحج،أي من أول شوال إلى اليوم التاسع من ذي الحجة.

عمر و متعة الحج:

و بهذه المناسبة نشير إلى متعة الحج التي جاءت الرواية ان عمر قال:

«متعتان كانتا على عهد رسول اللّه،و انا محرمهما،و معاقب عليهما».فالمتعة الأولى هي متعة النساء،أي الزواج المنقطع،و الثانية هي متعة الحج.و لكي يتضح المراد منها علينا أن نعرف أن فقهاء السنّة أجازوا أن يجمع الناسك في إحرام

ص:212

واحد،و بنيّة واحدة بين الحج و العمرة،كما هي الحال في حج القران،و ان الشيعة قد منعوا من ذلك منعا باتا،و أوجبوا لكل نسك إحراما مستقلا،و أشرنا إلى ذلك في فصل سابق بعنوان«أنواع الحج».

و بعد أن عرفت هذا نتساءل إذا كان الناسك مريدا للحج و العمرة معا، و أحرم لهما معا بإحرام واحد من الميقات،ثم دخل مكة،فهل له-قبل أن يباشر بأعمال الحج-ان يفسخ و يعدل عن نية الحج الذي كان قد قرنه بالعمرة، و يصرف قصده إلى العمرة فقط،حتى إذا أداها عقب بالحج،و عندها ينقلب حجه من القران إلى التمتع،لأن معنى حج التمتع ان يعتمر أولا،ثم يحج،كما سبقت الإشارة؟.هذا،مع العلم بأنه إذا جاز له ذلك ساغ له أن يأتي بعد الانتهاء من أعمال العمرة،بكل ما كان محرما عليه حتى النساء،ثم يعقد إحراما جديدا لحج التمتع و يرجع التحريم،و في الفترة التي وقعت بين العمرة و الحج يحل له ما كان محرما عليه،و هذي هي بالذات متعة الحج،التي حرمها عمر،أي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجاز فسخ الحج و الرجوع إلى العمرة و بذلك يستطيع الحاج ان يحل و يتمتع بما حرم عليه بهذه الفترة،و حرم عمر ذلك،و أوجب البقاء على ما كان، و عليه فلا يحل للحاج شيء مما حرم عليه إلاّ بعد طواف الزيارة الذي أشرنا إليه.

و قد اختلف السنة فيما بينهم،فمنهم من حرم متعة الحج بقول عمر،و منهم أباحها.

و هذه المتعة لا تعني الشيعة في كثير و لا قليل لأنهم لا يجيزون الجمع بين الحج و العمرة في إحرام واحد،و لا بنيّة واحدة.(تفسير الرازي الآية 186 من سورة البقرة،و المغني ج 3،و فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 4).

ص:213

ص:214

الوقوف في عرفات

تمهيد:

ذكرنا في فصل العمرة،و في مطاوي الفصول السابقة وظيفة المعتمر مفردا، و المعتمر متمتعا،ثم أشرنا إليها ملخصا في آخر الفصل السابق-التقصير أو الحلق-و نشير في هذا التمهيد إلى أن كلا منهما لا يطلب منه الوقوف في عرفات، و لا في المزدلفة،و لا في منى و أعمالها،لأنها من وظيفة الحاج بشتى أنواعه.

و البيان في هذا الفصل،و ما يليه:

العمل الثاني في الحج:

ان الحاج،كل حاج،متمتعا كان،أو قارنا،أو مفردا يجب أن يبتدئ بالإحرام من مكة،و يثني بالوقوف في عرفات،و لهذا الوقوف مستحبات، و واجبات.

المستحبات:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان يوم التروية-أي اليوم الثامن من ذي الحجة-فاغتسل،ثم البس ثوبيك-أي ثوبي الإحرام-و ادخل المسجد حافيا،

ص:215

و عليك السكينة و الوقار،ثم صل ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السّلام،أو في الحجر،ثم اقعد،حتى تزول الشمس،فصلّ المكتوبة،ثم قل في دبر صلاتك كما قلت حين أحرمت من الشجرة،و أحرم بالحج،و عليك السكينة و الوقار.

و سئل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل يكون شيخا كبيرا، أو مريضا يخاف ضغاط الناس،و زحامهم يحرم بالحج،و يخرج إلى منى قبل يوم التروية؟قال:نعم.فقال السائل:يخرج الرجل الصحيح يلتمس مكانا؟قال:لا.

قال السائل:يعجل بيوم؟قال:نعم.قال السائل:بيومين؟قال:نعم.قال:بثلاثة؟ قال:نعم.قال:أكثر من ذلك؟قال الإمام عليه السّلام:لا.

الفقهاء:

قالوا:يستحب للحاج ان يغتسل في مكة يوم التروية،و يلبس ثوبي الإحرام،و يتجه إلى المسجد حافيا،عليه السكينة و الوقار،و يصلي عند المقام،أو في غيره من اجزاء المسجد الحرام صلاة الظهر،أو العصر،أو هما،أو صلاة نافلة،و أقلها ركعتان،ثم يعقد إحرامه قائلا:اني أريد الحج على كتابك و سنة نبيك،و يجوز لذوي الأعذار،كالمريض و الشيخ الكبير،و غيرهما ممن يخاف الزحام ان يعجل قبل يوم التروية بيوم،أو يومين،أو ثلاثة.

و أيضا يستحب الدعاء بالمأثور و التلبية عند كل صعود و هبوط،حتى يصل إلى عرفات،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا غدوت إلى عرفات فقل و أنت متوجه إليها:«اللهم إليك صمدت،و إياك اعتمدت،و وجهك أردت،فأسألك أن تبارك لي في رحلتي،و ان تقضي لي حاجتي،و تجعلني ممن تباهي به اليوم من هو أفضل مني،ثم تلبي،و أنت غاد إلى عرفات».

ص:216

ما ذا يجب في عرفات:
اشارة

لو سأل سائل:ما هي الأعمال الواجبة في عرفات؟ لجاء الجواب:لا شيء بالإجماع،سوى مجرد الوجود و الكون فيها مع نية القربة بأية صورة تكون قياما أو قعودا،أو مشيا،أو ركوبا،و المسمى من هذا الكون و الوجود-أي ما يصدق عليه اسم الوجود-هو الركن،بحيث من ترك الكون إطلاقا عن عمد بطل حجه،و من تركه عن سهو و نسيان تداركه ما دام وقته الاختياري،أو الاضطراري باقيا.و لو فاته التدارك صح بالإجماع بشهادة صاحب الجواهر.

و تسأل:إذا كان الواجب مجرد الكون في عرفات كيف اتفق،فلما ذا سمي ذلك وقوفا؟

الجواب:

ان للكون في عرفات حالات،و أفضلها شرعا الوقوف،فسمي الكلي باسم أفضل افراده،و أكملها.

وقت الوقوف في عرفات:

للوقوف الواجب بعرفات وقتان:اختياري،و هو من زوال اليوم التاسع من ذي الحجة إلى المغرب،و يجب الكون في عرفات كل هذه المدة،و الركن منها ما يتحقق به مسمى الوقوف،كما قدمنا.و يدل على هذا الوقت بالإضافة إلى الإجماع،قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا زالت الشمس يوم عرفة،أي التاسع من ذي الحجة،فاغتسل و صلّ الظهر و العصر بأذان واحد و إقامتين.و سئل متى تفيض- أي تخرج-من عرفات؟قال:إذا ذهبت الحمرة من ههنا،و أشار بيده إلى المشرق.

ص:217

و الوقت الثاني اضطراري،و يمتد إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل أدرك الناس بجمع-أي بالمزدلفة-و خشي ان مضى إلى عرفات ان يفيض الناس من جمع قبل أن يدركها؟قال:ان ظن أنه يدرك الناس بجمع قبل طلوع الشمس فليأت عرفات، و ان ظن أنه لا يدرك جمعا-قبل طلوع الشمس-فليقف بجمع،ثم يفيض مع الناس،فقد تم حجه.

و المعنى المتحصل من هذه الرواية أن من اضطر إلى ترك الوقوف بعرفات من الزوال إلى الغروب ينظر في امره:فإن علم أنه إذا ذهب إلى عرفات،و وقف بها قليلا يمكنه الرجوع إلى المزدلفة قبل طلوع الشمس،لأن المفروض ان يكون فيها في هذا الوقت كما يأتي في الفصل التالي،إذا كان كذلك وجب عليه الذهاب إلى عرفات،ثم العودة إلى المزدلفة،و إذا تأكد إن ذهابه إلى عرفات يفوت عليه الوقوف في المزدلفة قبل طلوع الشمس ترك عرفات،و اكتفى بالمزدلفة.

حدود عرفات:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:حد عرفات من بطن عرنة و ثوية و نمرة إلى ذي المجاز-أسماء أماكن-و قال:ان أصحاب الأراك الذين ينزلون تحت الأراك لا حج لهم.

و سئل ولده الإمام الكاظم عليهما السّلام عن الوقوف بعرفات فوق الجبل أحب إليك،أم على الأرض؟قال:على الأرض.

و عرفات بحدودها المذكورة كلها موقف،ففي أي مكان وقف منها أجزأ، و كفى بالاتفاق.قال الإمام الصادق عليه السّلام:وقف رسول اللّه بعرفات،فازدحم الناس

ص:218

عليه،و بادروا إلى خفاف ناقته،يقفون إلى جانبها،فنحى الناقة عنهم ففعلوا مثل ذلك،فقال:أيها الناس ليس الموقف هو خفاف ناقتي فقط،و لكن هذا،مشيرا إلى عرفات،موقف،و لو لم يكن إلاّ خفاف ناقتي لم يسع الناس.

مسألتان:
1-الطهارة من الحدث و الخبث ليست شرطا للوقوف بعرفات

،و لكنها تستحب،كما يستحب استقبال القبلة،و الإكثار من الدعاء و الاستغفار مع الخشوع و الخضوع،و حضور القلب.

2-سئل الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل أفاض من عرفات

قبل أن تغيب الشمس

؟قال:عليه بدنة ينحرها يوم النحر-أي يوم العيد-فان لم يقدر صام ثمانية عشر يوما بمكة،أو في الطريق،أو في أهله.

و استنادا إلى ذلك قال الفقهاء:إذا خرج من عرفات قبل الزوال عامدا فعليه ان يعود إليها،فإن عاد فلا شيء عليه،و إلاّ كفّر ببدنة ينحرها يوم العاشر من ذي الحجة،فإن عجز صام 18 يوما بالتوالي،و ان خرج منها عن سهو لا عن عمد، و لم يتذكر،حتى فات الوقت فلا شيء عليه،على شريطة أن يدرك الوقوف بالمزدلفة في وقته،و ان تذكر قبل فوات الوقت،و تمكن من الرجوع فعليه أن يرجع،و ان أهمل،و الحال هذه،كفر ببدنة.

و تجدر الإشارة إلى أنه إذا خرج عن جهل فلا شيء عليه،سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس؟قال:ان كان جاهلا فلا شيء عليه،و ان كان متعمدا-أي عالما-فعليه بدنة.

ص:219

ص:220

الوقوف في المزدلفة

أسماء المكان:

و الموقف الثاني بعد عرفات هو المزدلفة،سمي بذلك،لأنه محل الزلفى و التقرب إلى اللّه،أو لأن الحجاج يزدلفون من عرفات إليه،و أيضا يسمى المشعر الحرام،حيث فيه تقع العبادة،و وصف بالحرام لحرمته،أو لأنه من الحرم،و أيضا يسمى جمعا بالفتح و سكون الميم،لأن الناس يجتمعون فيه و يزدلفون إلى اللّه بالطاعة،و هو أقرب الموقفين إلى مكة.

حدود المزدلفة:

سئل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام عن حدود المزدلفة؟قال:ما بين المأزمين إلى وادي محسر.

و المزدلفة كلها موقف،تماما كعرفات،ففي أي جزء وقف منها أجزأ و كفى.

واجبات الوقوف و مستحباته:
اشارة

قال تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 1.

ص:221

قال تعالى فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:الوقوف بعرفات سنة،و بالمشعر فريضة،و ما سوى ذلك من المناسك سنة-ما ثبت وجوبه بكتاب اللّه يسمى فريضة،و ما ثبت في سنة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمى سنة- (2).

و قال:إذا غربت الشمس فأفض مع الناس،و عليك السكينة و الوقار.

و أصبح بعد ما تصلي الفجر على طهر،وقف إن شئت قريبا من الجبل،و ان شئت حيث شئت.و قال:يستحب للصرورة أن يقف على المشعر الحرام،و يطأه برجله-و المشعر الحرام جبل هناك يسمى قزح.

و قال:صل المغرب و العشاء بأذان واحد و إقامتين،و لا تصل بينهما شيئا، هكذا فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قال:خذ حصى الجمار من جمع-أي المشعر الحرام-و ان أخذتها من رحلك بمنى أجزأك.و تكون مثل الأنملة،و لا تأخذها سوداء،و لا بيضاء،و لا حمراء.

الفقهاء:

أجمعوا على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام،و انه الموقف الثاني بعد عرفات،و أعظم و أفضل من الوقوف فيها،و لذا قالوا:من فاته الوقوف بعرفات، و أدرك الوقوف بالمشعر قبل طلوع الشمس تم حجه.

و الواجب من الوقوف بالمشعر هو مجرد الكون و الوجود مع نية القربة على

ص:


1- البقرة:198. [1]
2- تستعمل كلمة السنة بالمستحب تارة،و بما وجب بدليل من السنة النبوية أخرى،و هذا الاستعمال كثير جدا في كلام الفقهاء،و يعرف أحد المعنيين بالسياق،أو بقرينة من خارج.

آية صورة يكون من القعود أو المشي أو الركوب،تماما كما هي الحال في عرفات.و لا يجب المبيت ليلة النحر في المشعر و لكنه أفضل.

و يستحب الكون على الطهارة عند الصباح،و التهليل و التكبير،و الدعاء بالمأثور و غير المأثور،و للصرورة أن يصعد على جبل هناك يسمى قزحا،و أيضا يستحب التقاط حصى الجمار من المشعر،و الاحتفاظ بها إلى منى الرمي-كما يأتي-و عددها سبعون،و ان تكون بلون الكحل،و بقدر رأس الأنملة.أما كونها أبكارا لم يرم بها من قبل فيأتي الكلام.و أجمع الشيعة و السنة على استحباب الجمع بين صلاة المغرب و العشاء في المشعر،قال ابن قدامي في المغني نقلا عن ابن المنذر:«أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن السنة أن يجمع الحاج بين المغرب و العشاء،و الأصل في ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمع بينهما».

و استدل الشيعة بفعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على جواز الجمع بين الظهرين و العشاءين مطلقا في كل مكان و زمان،حيث قال:صلوا كما رأيتموني أصلي، و الجمع مرة،أو في مكان خاص يستدعي جوازه في كل مكان و كل مرة،إلاّ أن يرد نص على التخصيص و عدم الشمول،و لا نص بالاتفاق،فيكون الجمع جائزا إطلاقا في كل زمان و مكان.

وقت الوقوف بالمشعر:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل وقف مع الناس بجمع،ثم أفاض قبل ان يفيضوا؟قال:ان كان جاهلا فلا شيء عليه،و ان كان قد أفاض قبل طلوع الفجر فعليه دم شاة.

و قال:رخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للنساء و الصبيان ان يفيضوا بليل.و آية

ص:223

امرأة،أو أي رجل خائف أفاض من المشعر الحرام ليلا فلا بأس.

الفقهاء:

قالوا:للوقوف بالمشعر وقتان أولهما لغير النساء و الصبيان،ممن لا عذر له في التأخير،و قد اسموه الوقت الاختياري،و هو ما بين الطلوعين من يوم العيد، أي طلوع الفجر،و طلوع الشمس،على أن يستوعب الوقوف هذه الفترة بكاملها، و من أفاض من المشعر الحرام عالما عامدا قبل طلوع الفجر بعد أن كان فيه ليلا، و لو قليلا لم يبطل حجه،ان كان قد وقف بعرفات،و لكن عليه دم شاة،و ان تركه جهلا فلا شيء عليه،كما هو صريح الرواية عن الإمام عليه السّلام.

و ثاني الوقتين للنساء و الصبيان،و لمن له عذر يمنعه من الوقوف بين الطلوعين،و يمتد من طلوع الفجر إلى زوال الشمس من يوم العيد.و الركن من كلا الوقوفين هو ادنى ما يصدق عليه اسم الوقوف،مع العلم بوجوب الوقوف في جميع الوقت المحدد،فمن ترك الوقوف كلية بدون عذر في الوقت الاختياري و الاضطراري،و لم يكن قد وقف ليلا بطل حجه،و لو تركه لعذر مشروع لم يبطل،على شريطة ان يكون قد وقف بعرفات،و من فاته الوقوف بعرفات و بالمشعر،و لم يقف فيهما إطلاقا،لا في الوقت الاختياري و لا الاضطراري،بطل حجه،حتى و لو ترك لعذر مشروع،و عليه أن يحج في العام المقبل وجوبا ان كان الحج الذي فاته واجبا،و استحبابا ان كان الفائت كذلك.

مسائل:
1-تبين لك في هذا الفصل ان للوقوف بالمشعر وقتين:

اختياريا،و هو من

ص:224

طلوع فجر اليوم العاشر من ذي الحجة إلى طلوع شمسه،و اضطراريّا يمتد من طلوع هذا الفجر إلى الزوال.

و قدمنا في فصل عرفات ان للوقوف فيها وقتين ايضا:اختياريا،و هو من زوال اليوم التاسع إلى غروب شمسه،و اضطراريا يمتد من الزوال إلى فجر اليوم العاشر.

إذا تمهد هذا،فمن أدرك الوقتين الاختياريين للوقوف بعرفات و المشعر، أو اختياريي أحدهما،و اضطراريي الآخر،أو اضطرارييهما معا،أو اختياريي أحدهما فقط صح حجه عند المشهور،و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام، و من أدرك اضطراري عرفات فقط فلا حج له بالإجماع،و عليه ان يأتي بعمرة مفردة و يحج في قابل لقول الإمام عليه السّلام:من لم يدرك المشعر فقد فاته الحج و ليجعلها عمرة مفردة،و عليه الحج من قابل،أمّا من أدرك اضطراري المشعر فقد ذهب جماعة إلى صحة الحج و الاجتزاء به.و قال أكثر الفقهاء،و منهم صاحب الجواهر:يبطل حجه و لا يكفيه،و قد جاء في كل من القولين روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و لكن الدالة على البطلان أكثر و أصرح من الدالة على الصحة،بل قال الشيخ المفيد ان هذه نادرة،و تلك متواترة.فلا ريب ان الرجحان بجانبها من وجوه لا من وجه واحد،كما قال صاحب الجواهر.

2-سبق ان الواجب في الوقوف بالمشعر و عرفات هو مجرد الكون
اشارة

و الوجود

فقط،كيف اتفق،فلو افترض ان شخصا وجد هناك،و لكنه نام طوال المدة المحددة،فهل يصح وقوفه،و الحال هذه؟

الجواب:

ان المطلوب هو الوجود من حيث انه عبادة،و ليس من شك أن العبادة

ص:225

تفتقر إلى نية القربة،فإذا وصل إلى الموقف متنبها،و نوى،ثم نام،أو عرض له الجنون،أو الإغماء صح وقوفه،أما إذا دخله نائما،و خرج منه كذلك فلا يكون هذا وقوفا.

3-كل من بطل حجه لسبب من الأسباب المبطلة فعليه أن ينتقل بنيته من

الحج إلى العمرة المفردة

،و يأتي بأفعالها،ثم يقضي الحج على الصفة التي وجبت عليه من التمتع،أو القران،أو الافراد.قال صاحب الجواهر:للإجماع،و الروايات المستفيضة،منها قول الإمام عليه السّلام:أيما حاج سائق للهدي،أو مفرد،أو متمتع بالعمرة للحج قدم،و قد فاته الحج فليجعلها عمرة مفردة،و عليه الحج من قابل.

و سئل الإمام عليه السّلام عن رجل جاء حاجا ففاته الحج،و لم يكن قد طاف؟ قال:يقيم مع الناس حراما-أي محرما-أيام التشريق،و لا عمرة فيها،فإذا انقضت طاف بالبيت،و سعى بين الصفا و المروة،و أحل،و عليه الحج من قابل، و يحرم من حيث أحرم الناس.

ص:226

منى و أعمالها

تمهيد:

قدمنا ان الحاج ينتقل من عرفات إلى المشعر الحرام،و ان عليه ان يمكث فيه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مختارا.فإذا طلعت الشمس من يوم العيد انتقل من المشعر إلى منى،و بينهما واد يسمى وادي محسر،و ليس للحاج ان يتجاوزه إلاّ بعد طلوع الشمس،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يجوز-أي لا يتجاوز-وادي محسر،حتى تطلع الشمس.

و لمنى مناسك شتى،تستمر من يوم النحر،و هو يوم العيد إلى صبيحة اليوم الثالث عشر،أو مساء اليوم الثاني عشر،و في منى تنتهي واجبات الحج، و تسمى الأيام الثلاثة،و هي 11 و 12 و 13 من ذي الحجة أيام التشريق.و يجب في منى يوم العيد ثلاثة مناسك:1-رمي جمرة العقبة 2-الذبح 3-الحلق أو التقصير،و فيما يلي البيان:

جمرة العقبة:

يصل الحاج إلى منى صباح يوم العيد،و أول عمل يؤديه فيها هو رمي جمرة العقبة،و عليه أن يراعي فيها الأمور التالية

ص:227

1-يبتدئ وقتها من طلوع الشمس إلى غروبها من اليوم العاشر لذي الحجة،و لا يجوز الرمي قبل طلوع الشمس إلاّ لعذر مشروع،قال الإمام الصادق عليه السّلام:رمي الجمار من ارتفاع النهار إلى غروب الشمس.و في رواية ثانية:

ما بين طلوع الشمس إلى غروبها.

2-نية التقرب إلى اللّه سبحانه،لأن هذا الرمي عبادة،تماما كالصوم و الصلاة،و لا تصح العبادة إلاّ بنية الإخلاص للّه،و امتثال امره تعالى.

3-ان يكون الرمي بسبع حصوات إجماعا،و نصا،و منه ان الامام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل أخذ احدى و عشرين حصاة،فرمى بها-أي ثلاث مرات-فزاد واحدة،و لم يدر-أي الثلاث نقصت واحدة-؟قال:يرجع،فليرم كل واحدة بحصاة.

4-ان يرمي الحصاة رميا و قذفا،فلا يكفي مجرد الوضع و الطرح،لقول الإمام:ارمها من قبل وجهها،و الوضع و الطرح لا يدخل في مفهوم الرمي،فلا يكون مجزيا.

5-أن يرميها متفرقة متلاحقة الواحدة بعد الأخرى،و لا يكفي رميها دفعة واحدة،لأن الرمي عبادة،و العبادة تتوقف على النص و لا نص في التفريق، و المعروف من عمل الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي قال:خذوا عني مناسككم، و عمل الأئمة الأطهار عليهم السّلام،و الفقهاء جميعا هو التفريق في الرمي،فيتعين.

6-مباشرة الرمي بنفسه،و لا تجزي الاستنابة إلاّ مع الضرورة،لأن الأمر يقتضي المباشرة.

7-ان يكون الرمي بالحجر،فلا يكفي الملح و الحديد و النحاس و الخشب و الخزف،و ما إلى ذاك،لقول الإمام عليه السّلام:لا ترم الجمار إلاّ بالحصى.

ص:228

8-قال البعض:يجب أن تكون أبكارا لم يرم بها من قبل،لقول الإمام عليه السّلام:لا تأخذ من موضعين:من خارج الحرم،و من حصى الجمار-أي التي قد رمي بها.

مستحبات الرمي:

لا تشترط الطهارة في الرمي،و لكنها أفضل،قال الإمام عليه السّلام:و يستحب ان ترمى الجمار على طهر.

و يستحب البعد عن الجمرة التي ترمى بعشر خطوات،أو خمس عشرة خطوة،قال الإمام عليه السّلام:و ليكن بينك و بين جمرة العقبة مقدار عشرة أذرع،أو خمسة عشر ذراعا.

و يستحب أن تكون الحصاة بقدر رأس الأنملة،و بلون الكحل لا سودا،و لا بيضا،و لا حمرا،و ان يكون الرامي ماشيا لا راكبا،و على سكينة و وقار،و ان يضع الحصاة بيده اليسرى،و يرمي باليمنى،و ان يهلل و يكبر،و يدعو بالمأثور و غير المأثور.

الشك:

إذا شك:هل أصاب الهدف،أو لا؟بنى على عدم الإصابة،لأن الأصل العدم،و إذا شك في العدد بنى على الأقل،لأنه القدر المتيقن،و الأصل عدم الزيادة.

و بالتالي،فان جمرة العقبة أول عمل يؤديه الحاج في منى يوم العيد، و الثاني فيها هو الهدي،أي الذبح،و الثالث الحلق و التقصير،ثم يمضي في نفس

ص:229

اليوم إلى مكة،لأجل الطواف،و السعي و لا رمي في اليوم العاشر إلاّ جمرة العقبة، و إلى الكلام عن ذلك كله في الفقرات التالية:

الهدي:

العمل الثاني الذي يجب في منى هو الهدي،و يقع الكلام أولا في تقسيمه إلى مستحب،و واجب.ثانيا فيمن يجب عليه الهدي.ثالثا في صفات الهدي.

رابعا في وقت الذبح أو النحر.خامسا في حكم اللحم.سادسا في البدل عنه لمن لم يجد الهدي،و لا ثمنه.

استحباب الأضحية:

الأضحية مستحبة بذاتها بصرف النظر عن الحج،و اعماله،فقد جاء في تفسير قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (1)ان اللّه أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنحر بعد صلاة العيد.و في الحديث:ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يضحي بكبشين.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:كان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام يضحي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل عيد بكبش،يذبحه،و يقول:اللهم هذا عن نبيك،و يذبح كبشا آخر عن نفسه.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال:لو علم الناس ما في الأضحية لاستدانوا، وضحوا،أنه يغفر لصاحب الأضحية عند أول قطرة تقطر من دمها.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:هي واجبة على كل مسلم إلاّ من لم يجد.

و التعبير بالوجوب إشارة إلى تأكيد الاستحباب،و الاهتمام بالأضحية،قال صاحب الحدائق:انها مستحبة استحبابا مؤكدا بإجماع علمائنا،و نقل عن ابن

ص:230


1- الكوثر:2. [1]

الجنيد القول بوجوبها.و من تتبع آثار أهل البيت عليهم السّلام و أقوالهم يرى أنهم يستعملون لفظ الوجوب كثيرا في تأكيد الاستحباب و المبالغة في رجحانه، و يستعملون لفظ الحرمة في تأكيد الكراهية،و المبالغة فيها.

و أيام الأضحية المستحبة أربعة لمن كان في منى:و هي يوم العيد،و الأيام الثلاثة التي تليه،أي أيام التشريق.و لمن كان في غير منى فأيامها ثلاثة:يوم العيد، و الحادي عشر،و الثاني عشر.و أفضل ساعات الأضحية من يوم الأضحى أن تكون بعد طلوع الشمس،و مضي ما يتسع لصلاة العيد و الخطبتين.

و يستحب تقسيم الأضحية أثلاثا:يأكل المضحي و أهل بيته ثلثا،و يهدي على أخوانه و جيرانه ثلثا،و يتصدق على المحتاجين بالثلث الباقي،قال الإمام الصادق عليه السّلام:كان الإمام زين العابدين و ولده الإمام الباقر عليهما السّلام يتصدقان بالثلث على الجيران،و الثلث على من يسأل و يطلب،و يمسكان الثلث لأهل البيت.

وجوب الأضحية:

إن الدماء الواجبة بنص القرآن الكريم أربعة:

1-تجب على من حج متمتعا،قال تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (1).

2-قدمنا في فصل«تروك الإحرام»أن المحرم إذا حلق رأسه لضرورة فعليه كفّارة مخيرا بين صيام ثلاثة أيام،و إطعام ستة مساكين،أو التضحية بشاة، قال تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ

ص:231


1- البقرة:196. [1]

(1).3-و قدمنا أيضا ان المحرم إذا اصطاد فعليه كفارة مثل ما قتل من النعم،قال تعالى وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ (2).

4-هدي الحصار،قال جل و عز فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ (3).

و نتكلم في هذا الفصل عن الهدي الواجب على الحاج يوم العيد بمنى،أما غيره فقد سبق الكلام عنه في مطاوي الفصول السابقة حسب المناسبات و المقتضيات.

من وجب عليه الهدي في منى:

لا يجب الهدي على من اعتمر بعمرة مفردة،بل لا يجب عليه الذهاب إلى منى إطلاقا،كما تقدم.

و لا يجب الهدي على الحاج المفرد،و لا على القارن إلاّ إذا ساق القارن معه الهدي من الإحرام.

إما الحاج المتمتع فيجب عليه الهدي قطعا،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده فيه،بل الإجماع عليه بعد الكتاب فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (4)و الروايات المستفيضة،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام في خبر سعيد الأعرج:من تمتع في أشهر الحج،ثم أقام بمكة،حتى يحضر الحج فعليه شاة،و ان تمتع في

ص:232


1- البقرة:196. [1]
2- المائدة:95. [2]
3- البقرة:196. [3]
4- البقرة:196. [4]

غير أشهر الحج،ثم جاور بمكة حتى يحضر الحج،فليس عليه دم،انما هي حجة مفردة (1).

فقول الإمام عليه السّلام:«ثم جاور بمكة حتى يحضر الحج فليس عليه دم»ظاهر في نفي وجوب الهدي عن المفرد و القارن،لأن هذا المجاور فرضه الافراد أو القران،لا التمتع كما تقدم.

و سبق أن المكي فرضه الافراد أو القران،فإذا حج متمتعا وجب عليه الهدي كغيره،قال صاحب الجواهر:«على المشهور شهرة عظيمة».أما سبب هذه الشهرة فهو إطلاق الأدلة الدالة على وجوب الهدي في حج التمتع.

صفات الهدي:

يشترط في الهدي الواجب بمنى أمور:

1-ان يكون من الأنعام الثلاثة:الإبل،و البقر،و الغنم،قال تعالى:

وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (2)و قال الإمام الصادق عليه السّلام:على المتمتع الهدي.فقيل له:و ما الهدي؟قال:أفضله بدنة،و أوسطه بقرة،و أخسه شاة.

2-لا يجزي من الإبل إلاّ الثني،و هو الذي له خمس سنوات و دخل السادسة،و الثنية من البقر و المعز،و هو ما له سنة و دخل في الثانية،و من الغنم الجذع و هو الذي مضى عليه ستة أشهر.قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده

ص:233


1- هذه الرواية موجودة في الجواهر و [1]الحدائق،و فيهما«تجاوز مكة»،و بعد مراجعة الوسائل [2]تبين أن الصحيح«جاور بمكة»،و لا يستقيم المعنى إلاّ بذلك،و عليه يكون الخطأ من الناسخ.
2- الحج:28. [3]

فيه،مضافا إلى صحيح العيص عن الصادق عليه السّلام أن عليا أمير المؤمنين كان يقول:

يجزي الثني من الإبل،و الثنية من البقر و المعز،و الجذعة من الضأن.

3-ان يكون تام الخلقة،فلا تجزي العوراء،و لا العرجاء البيّن عرجها،و لا المريضة البين مرضها،و لا الكبيرة التي لا تنضج،و لا مكسورة القرن،و لا مقطوعة الاذن،و لا الجماء التي لا قرن لها،و لا الصماء التي لا اذن لها،أو لها أذن صغيرة، و لا الخصي و لا الهزيل الذي ليس على كليتيه شحم.

و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام نذكر منها ما رواه علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم في رجل اشترى أضحية عوراء،فلم يعلم إلاّ بعد شرائها، هل تجزي عنه؟قال:نعم.إلاّ أن يكون هديا واجبا،فإنه لا يجوز أن يكون ناقصا.و ما رواه الإمام الباقر عليه السّلام عن جده الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:

لا تضحي بالعرجاء،و لا العجفاء،و لا الخرقاء،و لا الجذاء،و لا العضباء و العجفاء الهزيلة،و الخرقاء لا اذن لها،أو مخروقة الاذن،و الجذاء مقطوعتها،و العضباء مكسورة القرن.

و أفضل الهدي من الإبل و البقر الإناث،و من الضأن الذكران،قال الإمام الصادق عليه السّلام:أفضل البدن ذوات الأرحام من الإبل و البقر،و قد تجزي الذكور، و من الغنم الفحولة،و يستحب أن يتولى الحاج الذبح بنفسه،و ان لم يفعل،وضع يده فوق يد الذابح،كما يستحب عند الذبح الدعاء بالمأثور.

وقت الهدي و مكانه:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قدم بهديه مكة في العشر؟قال:ان كان هديا واجبا فلا يجزيه إلاّ بمنى،و ان كان ليس بواجب فلينحره بمكة ان شاء.

ص:234

و قال:لا تخرجن شيئا من لحم الهدي.

و سئل عن الأضحى بمنى؟فقال:أربعة أيام،و في سائر البلدان ثلاثة أيام.

الفقهاء:

قالوا:مكان الذبح،و النحر منى بالاتفاق،و قال الشيخ الأردبيلي في شرح الإرشاد ما نصه بالحرف:«أما زمان الذبح فظاهر الأصحاب أنّه لمن كان بمنى يوم النحر-أي العيد-و ثلاثة أيام بعده،و زمان الأضحية في غير منى يوم النحر، و يومان بعده».ثم ذكر الرواية المتقدمة.

و الذي لا شك فيه أن نية القربة واجبة في الذبح،لأنه عبادة،بل التنبيه على ذلك من نافلة القول.

لحم الهدي:
اشارة

ليس من شك أنه يستحب أن يتصدق صاحب الهدي بثلثه،و يهدي الثلث الآخر،و يأكل من الثلث الباقي،لوجود الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و لكن هل يجب على صاحبه أن يأكل منه؟

الجواب:

قال بعض الفقهاء:يجب الأكل،و قال آخرون:لا يجب،و منهم صاحب الجواهر،و هو الحق،أما قوله تعالى فَكُلُوا مِنْها (1)فقد جاء لرفع توهم التحريم و الحظر،حيث كان أهل الجاهلية لا يأكلون من نسائهم معتقدين أن

ص:235


1- الحج:28. [1]

ذلك محرم عليهم،فأراد اللّه سبحانه أن ينبه إلى خطأهم،و عليه يكون الأمر لمجرد الإباحة فقط.و قال صاحب الجواهر:و يجوز أن يكون الأمر ندبا لما في الأكل منه من مواساة الفقراء،و استعمال التواضع.

بدل الهدي:
اشارة

قال تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (1).

و قال الإمام عليه السّلام:ان المتمتع إذا وجد الهدي،و لم يجد الثمن صام ثلاثة أيام في الحج،يوما قبل التروية-اي السابع من ذي الحجة-و يوم التروية -الثامن-،-و يوم عرفات-التاسع-،و سبعة إذا رجع إلى أهله،تلك عشرة كاملة لجزاء الهدي.

الفقهاء:

قالوا:إذا لم يجد الحاج الهدي،و لا ثمنه انتقل إلى البدل عنه،و هو صوم عشرة أيام:ثلاثة منها متتابعات في أيام الحج،و سبعة إذا رجع إلى أهله.

و إذا علم الحاج،و تأكد أنه سوف لا يجد الهدي،و لا ثمنه في حينه صام يوم السابع و الثامن و التاسع من ذي الحجة،و لا يشترط فيها نية الإقامة،و إذا لم يعلم صام بعد أيام التشريق،أي بعد اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.و إذا مضت أيام الحج،و لم يصم الثلاثة،تعين عليه أن يستنيب من يذبح عنه بمنى في قابل.

ص:236


1- البقرة:196. [1]

و إذا وجد ثمن الهدي و لم يجد الهدي يعطي الثمن لمن يثق به،و يوكله بالذبح في غيابه في شهر ذي الحجة من سنته التي حج فيها،فان لم يجد طوال الشهر المذكور ففي العام المقبل.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل عن ظاهر كتاب الغنية الإجماع عليه،بل قد يشهد له التتبع،لانحصار المخالف بابن إدريس».

حرق الهدي و طمره:

من عادة الحجاج-اليوم-ان يدفعوا نقودا لمن يتقبل الهدي ظاهرا،ثم يدفنه أو يطمره أو يتركه للهواء و الشمس،بالنظر لعدم وجود الآكلين و المستهلكين.

و لم أر أحدا فيما قرأت تعرض لجواز ذلك،أو منعه رغم الحاجة الماسة إلى معرفة حكمه و دليله،و في سنة 1949 استفتى الحجاج المصريون جامع الأزهر في ذلك،و طلبوا الاذن بدفع ثمن الهدي إلى المحتاجين،فنشر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر كلمة في العدد الرابع من المجلد الأول من رسالة الإسلام التي تصدرها دار التقريب بالقاهرة أوجب فيها الذبح على كل حال.

و رددت عليه بمقال مطول نشر القسم الأول منه في عدد كانون الثاني، و القسم الثاني في عدد نيسان من سنة 1950 من المجلة المذكورة،و حين أعادت دار العلم للملايين ببيروت نشر كتابي«الإسلام مع الحياة»أدرجته فيه بعنوان:هل تعبدنا الشرع بالهدي في حال يترك فيها للفساد؟و كان قد انتهى بي القول إلى أن الهدي انما يجب،حيث يوجد الآكل،أو يمكن الانتفاع به بتجفيف اللحم،أو تعليبه،أما إذا انحصر أمره بالإتلاف،كالحرق و الطمر فلا يجوز،و من أراد

ص:237

التفصيل و معرفة الدليل فليرجع إلى كتاب«الإسلام مع الحياة»الطبعة الثانية صفحة 195.

و الآن،و انا اكتب هذا الفصل،و ابحث و انقب عن مصادره اطلعت على حديث في كتاب«وسائل الشيعة»يؤيد ما قلت،و قد ذكر صاحب الكتاب في الأضحية بعنوان«تأكيد استحباب الأضحية»،و هو أن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام روى عن آبائه عن جدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:«انما جعل هذا الأضحى لتشبع مساكينكم من اللحم فأطعموهم».

و أعطف هذا الحديث الشريف على آخر استندت إليه هنالك،و هو ان كان خاصا في الأضحية المستحبة إلاّ أنه يلقي ضوءا على الأضحية الواجبة بمنى.

الحلق أو التقصير:

تبين مما قدمنا في هذا الفصل أن العمل الأول الواجب على الحاج بمنى في اليوم العاشر من ذي الحجة هو رمي جمرة العقبة،و ان الثاني هو الهدي،أما الثالث فهو الحلق أو التقصير مخيرا بينهما،و الحلق أفضل بخاصة للصرورة،و من لبد شعره،أو عقص،بل يرجح الوجوب.و تكلمنا عن ذلك مفصلا في فصل«الحلق أو التقصير»فراجع.

و يجب الترتيب بين هذه الأعمال الثلاثة بمنى،فيرمي أولا،و يهدي بعد الرمي،و يحلق بعد الهدي،قال تعالى وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (1).و في رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام إذا رميت الجمرة فاشتر هديك.

و في ثانية إذا ذبحت أضحيتك فاحلق رأسك.و إذا عطفنا هذه على تلك نتج

ص:238


1- البقرة:196. [1]

الترتيب الذي ذكرناه.

و إذا عكس الترتيب،فحلق قبل ان يهدي،أو اهدى قبل أن يرمي عالما عامدا صح،و لا يجب ان يعيد،و لكنه يأثم،و يستحق اللوم و العقاب.قال صاحب الجواهر:«هذا مما لا خلاف فيه،بل في المدارك ان الأصحاب قاطعون به».

و في أقوال أهل البيت عليهم السّلام الأمر بإمرار الموسى على الرأس إذا قدم الحلق على الذبح.

إلى مكة للطواف و السعي ثانية:

إذا انهى الحاج المناسك الثلاثة يوم العيد،أي الرمي و الذبح و الحلق،مضى إلى مكة في نفس اليوم ان كان متمتعا،و له أن يتأخر عنه،ان كان قارنا،أو مفردا.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يبيت المتمتع في منى يوم النحر،حتى يزور البيت.

أما القارن و المفرد فموسع عليهما.

و في رواية عنه:أنّه يجوز التأخير عن يوم العيد للمتمتع على كراهة،و هي:

«زر البيت يوم النحر،فان شغلت فلا يضرك ان تزور البيت من الغد،و لا تؤخر أن تزوره من يومك،فإنه يكره للمتمتع أن يؤخر،و موسع على المفرد».

و من هنا ذهب جماعة،منهم صاحب الجواهر إلى جواز التأخير للمتمتّع على كراهة.و هو غير بعيد،لوجود روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام تدل على جواز التأخير.و مهما يكن،فإن وظيفة الحاج،أي حاج متمتعا كان أو قارنا أو مفردا واحدة في البيت الحرام،لا تختلف المناسك فيه إطلاقا،و هي أن يمضي من منى إلى البيت الحرام،فيطوف به سبعا،ثم يصلي ركعتي الطواف،و يسمى هذا الطواف بطواف الزيارة و طواف الحج،ثم يسعى بين الصفا و المروة سبعا،ثم

ص:239

يطوف ثانية طواف النساء،و يصلي ركعتي الطواف،رجلا كان الحاج أو امرأة.

و بطواف النساء يحل للرجل كل شيء حتى النساء،و للمرأة حتى زوجها.و ذكرنا ما يتعلق بذلك في فصل«الطواف».و فصل«السعي»فراجع.

اشارة:

و تجدر الإشارة هنا إلى أن المشهور بشهادة صاحب الحدائق قسموا الموارد التي يحل فيها للمحرم ما كان قد حرم عليه،قسموها إلى ثلاثة أقسام:

الأول:بعد الحلق الذي هو ثالث المناسك بمنى،حيث يحل الحاج المتمتع من كل شيء إلاّ الطيب و النساء،و يحل للمفرد و القارن الطيب و لا تحل له النساء.

الثاني:بعد طواف الزيارة بالبيت،و ركعتيه و السعي حيث يحل الطيب ايضا،و لا تحل النساء.

الثالث:بعد طواف النساء،و ركعتيه،حيث يتحلل بعده من كل شيء،و لا يبقى بعده شيء من حكم الإحرام،حتى النساء.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا ذبح الرجل و حلق،فقد أحل من كل شيء أحرم منه إلاّ النساء و الطيب،فإذا زار البيت و طاف و سعى بين الصفا و المروة،فقد أحل من كل شيء أحرم منه إلاّ النساء،فإذا طاف طواف النساء فقد أحل من كل شيء أحرم منه إلاّ الصيد-اي الصيد الحرمي،لا الإحرامي-،إذ المفروض انه قد تحلل من الإحرام إطلاقا.

ص:240

فائدة:

و من فوائد هذا الفصل،و ما تقدمه من فصول،التوضيح بأن على المتمتع إحرامين:أحدهما من الميقات،لعمرة التمتع،و الثاني من مكة للحج،و سعيين:

أحدهما لعمرة التمتع،و الآخر للحج،و ثلاثة اطوفة:أحدها لعمرة التمتع،و الثاني للحج،و الثالث طواف النساء.

و ان على المفرد و القارن إحراما واحدا للحج،و سعيا واحدا له،و طوافين:

أحدهما للحج،و الثاني طواف النساء.

و ان على المعتمر عمرة مفردة إحراما واحدا،و سعيا واحدا،و طوافين:

أحدهما للعمرة،و الآخر طواف النساء.

و على المتمتع هدي،و لا هدي على المعتمر بعمرة مفردة،و لا على المفرد،و لا على القارن إلاّ إذا ساق معه الهدي من الإحرام.راجع فصل«أصناف الحج».

ص:241

ص:242

في منى

المبيت في منى:
اشارة

قال تعالى وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تبت ليالي التشريق-الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر من ذي الحجة-إلاّ بمنى،فان بت في غيرها فعليك دم،فان خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ و أنت في منى إلاّ أن يكون شغلك نسك، أو قد خرجت من مكة،و ان خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تصبح في غيرها.و سئل عن رجل زار عشيا-أي زار البيت الحرام-فلم يزل في طوافه و دعائه،و في السعي بين الصفا و المروة،حتى يطلع الفجر؟قال:ليس عليه شيء كان في طاعة اللّه.

و قال:من تعجل في يومين فلا ينفر-أي من منى-حتى تزول الشمس، فإن أدركه المساء بات،و لم ينفر.

و سئل عن الرجل ينفر في النفر الأول-أي اليوم الثاني عشر-؟قال:له ان

ص:243


1- البقرة:203. [1]

ينفر ما بينه و بين ان تسفر الشمس،فان هو لم ينفر،حتى يكون عند غروبها فلا ينفر،و ليبت بمنى،حتى إذا أصبح،و طلعت الشمس فلينفر متى شاء.أي أن للحاج أن يخرج من منى في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة بعد زوال الشمس و قبل غروبها،و إذا بقي في منى إلى المغيب وجب عليه المبيت في منى ليلة الثالث عشر،و لا ينفر منها،إلاّ بعد طلوع الشمس.

و قال في رواية ثانية،من اتى النساء و الصيد في إحرامه لم يكن له أن ينفر في النفر الأول.و إذا عطفنا هذه الرواية على الرواية المتقدمة كانت النتيجة ان من غربت عليه الشمس،و هو في منى يوم 12،و من لم يلق النساء و الصيد في إحرامه،وجب عليه حتما أن يبيت بمنى ليلة الثالث عشر من ذي الحجة.

الفقهاء:

لا خلاف بينهم في أن الحاج إذا قضى مناسكه بمكة يوم العيد من طواف الحج،و السعي،و طواف النساء،لا خلاف في أنّه تجب عليه،و الحال هذه،العودة يوم العيد بالذات إلى منى،و المبيت فيها بنية التقرب إلى اللّه ليلة الحادي عشر و الثاني عشر من ذي الحجة،و لا يجب عليه المبيت بمنى ليلة الثالث عشر،على شريطة أن يخرج من منى في اليوم الثاني عشر بعد الزوال،و قبل المغيب،و ان يكون قد اتقى،و هو محرم،الصيد و النساء.و في هذا تجد تفسير قوله تعالى:

فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى (1)أي اتقى الصيد و النساء في إحرامه.و إذا كان قد أتى النساء و الصيد،أو غابت الشمس من اليوم الثاني عشر و هو في منى،وجب عليه المبيت فيها حتما ليلة الثالث عشر،

ص:244


1- البقرة:203. [1]

و رمي الجمار الثلاث في صبيحته.

و قالوا:إذا بات في غير منى ينظر:فان كان بمكة مشتغلا بالعبادة،حتى الصباح،جاز و لا شيء عليه،و ان بات فيها غير متعبد،أو في غيرها،و ان تعبد فعليه عن كل ليلة شاة،حتى و لو كان ناسيا،أو جاهلا.فان بات الليالي الثلاث في غيرها فعليه ثلاث شياه،و الواجب في ليالي منى هو المبيت بنية القربة،و يستحب التهجد و العبادة.و تستحب الصلاة بمسجد الخيف،و في سفح كل جبل بمنى يسمّى خيفا.

أيام التشريق:

أيام التشريق هي الحادي عشر،و الثاني عشر،و الثالث عشر من ذي الحجة،و قيل:ان سبب تسميتها بذلك،انهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، أي يقددونها،و يبرزونها للشمس.

الجمار أيام التشريق:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الحج الأكبر الوقوف بعرفات،و رمي الجمار- يريد رميها بمنى.

و قال:ارم في كل يوم عند زوال الشمس،و قل كما قلت حين رميت جمرة العقبة،فابدأ بالجمرة الأولى عن يسارها في بطن المسيل،و قل كما قلت يوم النحر،ثم قم عن يسار الطريق،فاستقبل القبلة،و احمد اللّه،و أثن عليه،و صلّ على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،ثم افعل ذلك عند الثانية،و اصنع كما صنعت بالأولى،و تقف و تدعو اللّه كما دعوت،ثم امض إلى الثالثة،و عليك السكينة و الوقار،فارم،و لا

ص:245

تقف عندها.

و سئل عن الرجل يرمي الجمار منكوسة-أي بغير الترتيب الشرعي.

قال:يعيدها على الوسطى،و جمرة العقبة.

و قال:رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها.و رخص للعبد و الخائف و الراعي بالرمي ليلا.

الفقهاء:

أوجبوا على كل حاج،متمتعا كان أو قارنا،أن يرمي في كل من اليوم الحادي عشر،و اليوم الثاني عشر ثلاث جمرات،كل جمرة بسبع حصيات،و إذا بات ليلة الثالث عشر بمنى وجب عليه ان يرمي في يومه ثلاث جمرات ايضا، و صورة الرمي واحدة في جميع الجمرات،و تقدم بيانها مفصلا في فصل«منى و أعمالها».

و أوجبوا ان يكون الرمي على الترتيب الشرعي،بحيث يبدأ بالجمرة الاولى،ثم الوسطى،ثم جمرة العقبة،و إذا خالف الترتيب عن عمد أو سهو أو جهل أعاد على الوسطى و جمرة العقبة-لا بد من مرشد يدله على هذه الجمرات الثلاث.

أما وقت الرمي مختارا فهو ما بين طلوع الشمس إلى غروبها،و يجوز للمضطر كالخائف و المريض و الراعي أن يرمي ليلا.و عقّب صاحب الجواهر على كل ما ذكرناه بكلمته المكرورة،و هي:«بلا خلاف أجده فيه».

و إذا نسي رمي جمرة أو بعضها،أعاد من الغد ما دامت أيام التشريق،و ان نسي الجمار بكاملها،حتى خرج من منى وجب عليه الرجوع إليها،و الرمي،ان كانت أيام التشريق باقية،و إلاّ قضى الرمي في السنة القادمة بنفسه،أو استناب

ص:246

عنه،و لا كفارة عليه.

و من المفيد ان ننقل ما ذكره العلامة الحلي في كتاب التذكرة:«يرمي في كل يوم احدى و عشرين حصاة،على ثلاث دفعات،كل واحدة منها سبع حصيات، يبتدئ بالأولى،و هي أبعد الجمرات من مكة،و تلي مسجد الخيف،و يستحب ان يرميها حذفا-أي يضع الحصاة على باطن الإبهام،و يدفعها بظاهر السبابة- عن يسار الجمرة من بطن المسيل بسبع حصيات،و يكبر عند كل حصاة، و يدعو،ثم يتقدم إلى الجمرة الثانية،و تسمى الوسطى،و يقف عن يسار الطريق، و يستقبل القبلة،و يحمد اللّه،و يثني عليه،و يصلي على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم يتقدم قليلا،و يدعو،ثم يرمي الجمرة،و يصنع كما صنع عند الأولى،و يقف و يدعو أيضا بعد الحصاة الأخيرة،ثم يمضي إلى الجمرة الثالثة،و تسمى بجمرة العقبة، و يرميها كالسابقة،و لا يقف بعدها،و بها يختم الرمي،فمجموع ما يرميه في الأيام الثلاثة بمنى 63 حصاة-هذا،ان بات بمنى ليلة الثالث عشر-كل يوم 21، تضاف إلى السبع التي رماها يوم العيد،فتتم على السبعين».

و بعد أن ذكر هذا العلامة قال:لا نعلم فيه خلافا.

الوداع:

و متى انهى الحاج عملية الجمار بمنى جاز له أن يقفل منها عائدا إلى وطنه دون أن يهبط إلى مكة المكرمة.و لكن الأفضل الأكمل أن يعود إلى بيت اللّه الحرام،و يطوف طواف الوداع،كما جرت عليه عادة الحجاج كافة منذ القديم.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أردت أن تخرج من مكة،و تأتي أهلك،فودع البيت و طف به سبعا.

و الحمد للّه رب العالمين و الصلاة على النبي و آله الأكرمين.

ص:247

ص:248

زيارة الرسول و آله الأطهار

تستحب زيارة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استحبابا مؤكدا،بخاصة في حق الحاج،قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من أتى مكة حاجا،و لم يزرني في المدينة جفوته يوم القيامة،و من أتاني زائرا وجبت له شفاعتي،و من وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة.

و ثبت عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:من زار قبري بعد موتي كمن هاجر إليّ في حياتي.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان زيارة قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و زيارة قبور الشهداء،و زيارة قبر الحسين عليه السّلام تعدل حجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قال:من زار جدي أمير المؤمنين عارفا بحقه كتب اللّه له بكل خطوة حجة مقبولة،و عمرة مبرورة.

و يستحب إتيان المساجد كلها في المدينة،مثل مسجد قبا،و مشربة أم إبراهيم،و مسجد الأحزاب،و مسجد القبلتين،و مسجد أمير المؤمنين عليه السّلام، و مساجد أحد،و قبور الشهداء،بخاصة قبر حمزة عليه السّلام.

أما زيارة قبور أئمة البقيع عليهم أفضل الصلوات الذين ظلموا أحياء و أمواتا فهي من أفضل الطاعات،و أبر الصلات،بخاصة في هذا العصر،و أئمة

ص:249

البقيع هم:الإمام الحسن،و الإمام زين العابدين،و الإمام الباقر،و الإمام الصادق عليهم أفضل الصلاة و السلام.

أمّا زيارة فاطمة أم الحسنين فهي تماما كزيارة أبيها،لأنها بضعة منه،و قد تعددت الأقوال في مكان قبرها الشريف،و الأقرب الأصوب انها دفنت في بيتها المجاور لمسجد أبيها،و حين زاد الأمويون في المسجد صار القبر من جملته، و إلى هذا ذهب ابن بابويه.و انما قلنا أقرب و أصوب للحديث المشهور عن أبيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:بين قبري و منبري روضة من رياض الجنة.و اللّه وحده العالم، و هو ولي التوفيق.

ص:250

الجهاد و الأمر بالمعروف

الجهاد

من آيات الجهاد:

حث القرآن على الجهاد في العديد من الآيات:

منها إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1).

و منها لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (2).

و منها:

ص:251


1- التوبة:112. [1]
2- النساء:94. [2]

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ (1).

إلى كثير من الآيات.

من أحاديث الجهاد:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلا و فقرا في معيشته، و محقا في دينه.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام:الجهاد عز للإسلام.

و قال:الجهاد باب من أبواب الجنة،فتحه اللّه لخاصة أوليائه.و هو لباس التقوى،و درع اللّه الحصينة،و جنته الوثيقة،فمن تركه ألبسه اللّه ثوب الذل، و شمله البلاء،و ديث بالصّغار،و القماة-أي الذل-و ضرب على قلبه بالأسداد، و أديل الحق منه بتضييع الجهاد،و سيم الخسف،و منع النّصف.

وجوب الجهاد:

يجب الجهاد بإجماع المسلمين،و ضرورة الدين،تماما كالصوم و الصلاة، و الحج و الزكاة،و قد دأب الشيعة منذ القديم أن يلقنوا أولادهم و أطفالهم أصول الدين و فروعه مرددين عليهم،حتى يحفظوا عن ظهر قلب:أصول الدين خمسة:

التوحيد،و العدل،و النبوة،و الإمامة،و المعاد في يوم القيامة.و فروع الدين خمسة:الصوم و الصلاة و الحج و الزكاة،و الجهاد في سبيل اللّه.و الجهاد نوعان:

أحدهما للدعوة إلى الإسلام،و ثانيهما للدفاع عنه و عن المسلمين،و التفصيل في الفقرة التالية.

ص:252


1- الأنفال:61. [1]
الشروط:

لوجوب الجهاد من أجل الدعوة إلى الإسلام و انتشاره شروط:

1 و 2-البلوغ و العقل،لأنهما من الشروط العامة للتكليف.

3-الذكورية بالإجماع،و لأن الجهاد يحتاج إلى بطولة و رجولة،لا إلى غنج و دلال و صبغ الخدود و الشفاه،و إلى حمل السلاح،لا إلى لبس الأساور و الاقراط، و إلى المبيت في الخنادق،لا إلى النوم في الأسرة و المخادع،و رغم هذا كله لو أحوج الأمر إليهنّ وجب،كما قال العلامة في التذكرة.

4-السلامة من الضرر،قال تعالى في الآية 61 من النور لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ .و الآية 91 و 92 التوبة لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ .

5-وجود النفقة له،و لعياله مدة غيابه عنهم،و يدل على هذا الشرط قوله تعالى في الآية السابقة وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ . وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ .

اذن الإمام أو نائبه:
اشارة

هل يشترط لوجوب الجهاد اذن الإمام عليه السّلام،أو نائبه الخاص الذي نص عليه و اسماه بالذات،نقول هذا العلم بأنه مجرد فرض في عصرنا،أو نائبه العام، و هو الذي جمع بين وصفي العدالة و الاجتهاد المطلق؟

ص:253

الجواب:
اشارة

قسم الفقهاء الجهاد إلى نوعين:

الأول:جهاد الغزو في سبيل اللّه و انتشار الإسلام،و إعلاء كلمته في بلاد اللّه

و عباده

.و هذا النوع من الجهاد لا بد فيه من اذن الإمام،قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام:لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم،و لا ينفذ في الفيء أمر اللّه عزّ و جل.و قال حفيده الإمام الصادق عليهما السّلام لعبد الملك بن عمرو:لم لا تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك-أي تجاهد مع الحاكم-؟قال عبد الملك:انتظر أمركم،و الاقتداء بكم.قال الإمام:اي و اللّه،لو كان خيرا ما سبقونا إليه.قال عبد الملك:ان الزيدية يقولون:ليس بيننا و بين جعفر خلاف إلاّ أنّه لا يرى الجهاد.قال الإمام:أنا لا أرى الجهاد!!بلى،و اللّه اني أراه، و لكني أكره أن ادع علمي إلى جهلهم.

و تجدر الإشارة إلى أن هذا الجهاد هو الذي يجب وجوبا كفائيا لا عينيا، و هو الذي يشترط فيه الشروط الخمسة السابقة،بالإضافة إلى إذن الإمام،أو نائبه.

و أيضا تجدر الإشارة إلى أن كل من أعان جائرا فقد عصى اللّه سبحانه، و استحق العقاب،و ضمن كل ما يتلفه،و يجني عليه،حتى في حال حربه مع الجائر باسم الدعوة إلى الإسلام،بعد أن بينّا أن الحرب و جهاد الغزو لا بد فيه من اذن الإمام،أو نائبه،أجل،إذا كان التطوع في جيش الجائر دفاعا عن الإسلام، و قوة له جاز،بل يجب بدون ريب.

النوع الثاني:جهاد الدفاع عن الإسلام،و بلاد المسلمين،و الدفاع عن

النفس و المال و العرض

،بل الدفاع عن الحق إطلاقا،سواء أ كان له،أم لغيره،على شريطة أن يكون القصد خالصا لوجه اللّه و الحق.

ص:254

و هذا الدفاع لا يشترط فيه اذن الامام،و لا نائبه الخاص،أو العام،و لا شيء من الشروط السابقة.و يجب عينا،لا كفاية-بالنسبة إلى الدفاع عن الإسلام و بلاد المسلمين-على كل من كان في دفاعه ادنى نفع لصد العدوان عن الإسلام و أهله، دون فرق بين الرجل و المرأة،و لا بين الأعرج و الصحيح،و لا بين الأعمى و البصير،و لا بين المريض و السليم،قال صاحب الجواهر:«إذا داهم المسلمين عدو من الكفار يخشى منه على بيضة الإسلام-مأخوذة من الخوذة التي يضعها المحارب على رأسه يتقي بها الضربات-أو يريد الكافر الاستيلاء على بلاد المسلمين،و أسرهم و سبيهم،و أخذ أموالهم،إذا كان كذلك وجب الدفاع على الحر و العبد،و الذكر و الأنثى،و السليم و المريض،و الأعمى و الأعرج،و غيرهم ان احتيج إليهم،و لا يتوقف الوجوب على حضور الإمام،و لا اذنه،و لا يختص بالمعتدى عليهم و المقصودين بالخصوص،بل يجب النهوض على كل من علم بالحال،و ان لم يكن الاعتداء موجها إليه،هذا،إذا لم يعلم بأن من يراد الاعتداء عليهم قادرين على صد العدو،و مقاومته،و يتأكد الوجوب على الأقرب من مكان الهجوم فالأقرب».

و يدل على أن الجهاد في سبيل الدعوة إلى الإسلام لا بد فيه من اذن الامام، دون الدفاع عن النفس و المال،يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:الجهاد واجب مع امام عادل،و من قتل دون ماله فهو شهيد،أي و ان لم يأذن له الإمام،أو نائبه إذنا خاصا.

الزمان و المكان:

يجوز القتال في زمان دون زمان،و في مكان دون مكان،أما المكان الذي لا

ص:255

يجوز القتال فيه فهو المسجد الحرام إلاّ إذا ابتدأ المعتدي بالقتال،قال تعالى وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (1).و المكان الذي يجوز القتال فيه ابتداء للدعوة إلى الإسلام هو ما عدا المسجد الحرام.

أما الزمان الذي لا يجوز القتال فيه الأشهر الحرم،و عددها أربعة:ذو القعدة،و ذو الحجة،و المحرم،و رجب إلاّ إذا ابتدأ المعتدي فيها بالقتال،فيجوز الدفاع حينئذ،قال تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (2).

و في الآية 193 البقرة اَلشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي ان الذي يستحل قتالكم في الشهر الحرام استحلوا أنتم أيضا قتاله في هذا الشهر قصاصا له على اعتدائه.و يجوز القتال في غير هذه الأشهر.

إذن الأبوين:
اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فقال له:اني راغب في الجهاد نشيط،فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:فجاهد في سبيل اللّه.قال الرجل:

ان لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي،و يكرهان خروجي.قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أقم مع والديك،و الذي نفسي بيده لأنسك بهما يوما و ليلة خير من جهاد سنة.

ص:256


1- البقرة:190. [1]
2- التوبة:6. [2]
الفقهاء:

قالوا:للوالدين أن يمنعا ولدهما من جهاد الغزو،على شريطة أن لا يأمره الإمام أو نائبه بذلك،أو يحتاج المسلمون إليه شخصيا لكفاءته العسكرية،بحيث لا يستطيعون المقاومة بدونه،إذ يجب الجهاد عليه في هذه الحال عينا،دون أن يتوقف على إذن أحد إطلاقا،تماما كالصلاة و الصيام،سواء أرضي الأبوين،أم غضبا،إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

المرابطة:
اشارة

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1).

قال الإمام الصادق عليه السّلام:الرباط ثلاثة أيام،و أكثره أربعون يوما،فإذا كان ذلك فهو جهاد.

و سئل حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام عن الرجل يرابط،فجاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط،كيف يصنع؟قال:يقاتل عن بيضة الإسلام،لا عن هؤلاء،أي لا عن الحاكم الجائر.

الفقهاء:

قالوا:معنى المرابطة الإقامة على الحدود،و هي على نوعين:تارة تكون لمجرد الاستطلاع و التعرف على نوايا العدو،و أنه هل يريد الهجوم و العدوان،أو

ص:257


1- آل عمران:200. [1]

لا؟و اخرى يعلم أن العدو ينوي العدوان قطعا،و يعبأ قواه للهجوم،و المرابطة الأولى مستحبة استحبابا مؤكدا.و يرابط الإنسان من ثلاثة أيام إلى أربعين،ثم يعود إلى أهله،و يحل مكانه غيره،و الثانية واجبة،لأنها تدخل في جهاد الدفاع عن الإسلام و المسلمين.

وجوب الهجرة:

قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (1).

و استنادا إلى هذه الآية الكريمة أفتى الفقهاء بتحريم المقام على المستضعف في بلد الكفر الذي لا يستطيع فيه من أداء الفرائض و شعائر الإسلام، و أوجبوا عليه الهجرة و الرحيل منه إلى بلد مسلم يؤدي فيه ما أوجبه اللّه عليه إلاّ إذا عجز،و لم يتمكن من الهجرة.و من المؤلم المؤسف أن الكثير من شبابنا «المسلم»اليوم قد عكس الآية إلى نقيضها،فيهاجر من بلده المسلم إلى اميركا و اوروبا،لا لشيء إلاّ للفسق و الفجور،و الزنا و الخمور.

من يجب جهاده:
اشارة

قدمنا ان الجهاد تارة يكون للدعوة إلى الإسلام،و اخرى للدفاع عن الإسلام و المسلمين،و عن النفس و المال،و كل حق أينما كان و يكون،و فيما يلي ثلاثة أمثلة:اثنان منها للنوع الأول من الجهاد،و واحد للنوع الثاني،و ذكرناها هنا

ص:258


1- النساء:97. [1]

تبعا لما جاء في كتب الفقه.

1-جهاد المشركين من الملحدين و عبدة الأصنام

،قال تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1).

و يجب قتالهم من أجل الدين،و ترك الإلحاد و الشرك،لا من أجل الغلبة، و استعبادهم و الاستيلاء على بلادهم،و لا يجوز قتالهم بأمرين:الأول ان يكون للمسلمين القدرة على مقاومتهم و ارغامهم،قال الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام:لقد ترك رسول اللّه جهاد المشركين بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة،و بالمدينة تسعة عشر شهرا،ذلك لقلة أعوانه عليهم.الأمر الثاني أن يدعى هؤلاء المشركون إلى الإسلام،فإن أظهروا قبوله و لو باللسان،وجب الكف عنهم و إلاّ وجب قتالهم،و لا تقبل منهم الجزية بحال،قال الإمام الصادق عليه السّلام:بعث رسول اللّه عليا أمير المؤمنين عليه السّلام إلى اليمن،و قال له:يا علي لا تقاتل أحدا حتى تدعوه إلى الإسلام،و أيم اللّه،لأن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس،و غربت،و لك ولاؤه يا علي.

2-قتال أهل الكتاب

،و هم اليهود و النصارى و المجوس (2)،و هؤلاء يخيرون بين قبول الإسلام،و دفع الجزية مع الالتزام بشرائط أهل الذمة،فإن أسلموا،أو بذلوا الجزية حرم قتالهم،و ان رفضوا الأمرين معا قوتلوا.قال اللّه تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (3).

ص:259


1- التوبة:5. [1]
2- جاء في بعض الأحاديث ان المجوس كان لهم نبي فقتلوه،و كتاب فأحرقوه.
3- التوبة:30. [2]
3-قتال الفئة الباغية من المسلمين على العادلة منهم

،فإذا اقتتلت طائفتان مسلمتان فعلى الوجوه و العقلاء ان يصلحوا ذات البين بالعدل،فان رجعت الفئة الباغية إلى طاعة اللّه،و ترك القتال كان خيرا،و ان أبت إلاّ القتال ظالمة للأخرى، و معتدية عليها،وجب قتال الظالم،و مناصرة المظلوم.قال تعالى وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (1).

و قد وضعت هذه الآية الكريمة الأساس الصحيح للفصل بين الفئتين أو الدولتين المتقاتلتين.و ذلك أن تعمل فئة ثالثة غير منحازة لجمع الشمل و حقن الدماء بالمفاوضات السليمة بين الطرفين،و إنهاء النزاع بالحق و العدل،فإذا أصرت إحداهما على البغي و العدوان وجب ردعها بقوة السلاح.

و لم تصل الأمم المتحدة بعد إلى هذا رغم أنّها في عصر الحضارة و التقدم، و ما زال المفكرون المنصفون يطالبون أن تكون لهذه الأمم قوة مانعة رادعة عن الظلم و العدوان،و لكنها،حتى الآن مجرد حلم و أمنية.و نحن الآن في سنة 1965 ،و الحرب تقوم،و لا تقعد في فيتنام الشمالية،و قد كتبت هذه الكلمات بعد أن قرأت في الصحف أن 200 طائرة أمريكية تواصل غاراتها العدوانية على فيتنام ليل نهار،و تدمر المنشآت و المقدرات،و تقتل النساء و الأطفال بمرأى و مسمع الأمم المتحدة دون أن تحرك ساكنا،حتى كأن شيء لم يكن.

و سنعقد فصلا خاصا لقتال أهل البغي و قطاع الطريق.

ص:260


1- الحجرات:9 و 10. [1]
الاستعانة بأهل الذمة و الشرك:

قال العلامة الحلي في التذكرة:«تجوز الاستعانة بأهل الذمة و الشرك،على شريطة أن يكون في المسلمين قلة و حاجة الى الاستعانة بالكتابي،أو المشرك، و أن يأمن المسلمون شر من يستعينون به من غيرهم،و يركنون إلى أمانته و عدم غدرة،فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه على حرب هوازن،و استعان بيهود بني قينقاع،و خصهم بشيء من المال،و إذا لم يكن الكتابي أو المشرك مأمونا،أو كان المسلمون في غنى عنه فلا يجوز الاستعانة به إطلاقا،قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (1).و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا أستعين بالمشركين على المشركين،أي مع فقد الشرطين، و لأنهم من المغضوب عليهم فلا تحصل النصرة بهم».

و يؤيد ما قاله العلامة الحديث المعروف:ان اللّه ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم.

الحربي و الذمي:

و ليس معنى الحربي في اصطلاح الفقهاء من أعلن الحرب على المسلمين، فكل من لا كتاب له،و لا شبهة كتاب من أصناف الكفار فهو حربي عندهم،و هذا لا تقبل منه الجزية بالاتفاق.أما من له كتاب،كاليهودي و النصراني،أو شبهة كتاب،كالمجوسي فهو على قسمين:ذمي،و هو الذي يقبل شروط الذمة،و يلتزم بها،و غير ذمي و هو الذي يمتنع عن قبول هذه الشروط،و حكمه حكم الحربي بإجماع الفقهاء.

ص:261


1- الكهف:51. [1]

و الذمي يدخل في ذمة المسلمين و عهدتهم،و عليهم أن لا يتعرضوا له بسوء،بل،و يدفعوا عنه الاعتداء،ما و في بشروط الذمة،و هي أن يدفع الجزية، و يتقاضى في المرافعات عند المسلمين،و يقبل أحكامهم،و يترك التعرض للمسلمات بالنكاح،و لا يبشر،و يبث الدعوة ضد الإسلام،و لا ينكح المحارم، و يتظاهر بارتكاب المنكرات،كأكل الخنزير،و الربا،و شرب الخمر،و لا يأوي إليه أعداء الإسلام،و يتجسس على المسلمين،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا،و لا لحم الخنزير،و لا ينكحوا الأخوات و بنات الأخ و بنات الأخت،فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمة اللّه،و ذمة رسوله.

ص:262

صورة القتال
الاستعداد:
اشارة

قال تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ (1).و في الآية 4 من سورة الصف إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ .

و قال الإمام عليه السّلام:خير الرفاق أربعة،و خير السرايا أربعمائة،و خير العساكر أربعة آلاف،و لن تغلب عشرة آلاف من قلة.أراد بكثرة القوة.

و قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:اركبوا و ارموا،و ان ترموا أحب إليّ من أن تركبوا.

الفقهاء:

قالوا:يجب في الحرب أولا،و قبل كل شيء الاستعداد لها بقيادة مؤمن غير مستهتر،و شجاع غير متهور،فإذا رأى العدو أكثر عدة و عددا تربص،حتى تمكنه الفرصة من المبادرة،و ان يصف المقاتلون أنفسهم في الميدان صفا ثابتين

ص:263


1- الأنفال:61. [1]

كالبنيان.و ان لا يبدأوا بالقتال إلاّ بعد الدعوة إلى الإسلام،و امتناع العدو عن قبوله- كما تقدم-و ان يكون الداعي إليه الإمام،أو من يختاره لذلك.

الفرار:
اشارة

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ (1).

و في الآية 66 من السورة المذكورة اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ .

و قال الإمام الرضا عليه السّلام:حرم اللّه الفرار من الزحف لما فيه من وهن في الدين.و من الجرأة على المسلمين،و من السبي و القتال،و إبطال دين اللّه،و غير ذلك من الفساد.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من فر من رجلين في القتال فقد فر و من فر من ثلاثة فلم يفر.

الفقهاء:

قالوا:إذا التقى الصفان وجب الثبات،و حرم الفرار إلاّ إذا زاد العدو على عدد المسلمين بأكثر من مرتين،أو انحرف المقاتل إلى فئة من جماعته تحتاج إلى

ص:264


1- الأنفال:16. [1]

النجدة،أو لإصلاح سلاحه،أو ليستدبر الشمس،و ما إلى ذلك مما تستدعيه الضرورة،و هذا بالحقيقة ليس من الفرار في شيء ما دام الانصراف لغاية مشروعة.

عدل الإسلام و سماحته:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان يلقى السم في بلاد المشركين.و عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب،و عن الأعمى و الشيخ الفاني.و ما بيت عدوا قط في ليل.

و قال:مر أمير المؤمنين عليه السّلام بشيخ مكفوف يسأل الناس،فقال:من هذا؟ قالوا:نصراني.قال:استعملتموه،حتى إذا كبر و عجز منعتموه!!أنفقوا عليه من بيت المال.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلا شدقيه، حتى يدخل النار.

و قال:لا يقتل الرسل،و لا الرهن.

و قال:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا بعث سرية دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه، و أجلس أصحابه بين يديه،ثم قال: سيروابسم اللّه،و في سبيل اللّه،و على ملة رسول اللّه،لا تغدروا،و لا تغلوا،و لا تمثلوا،و لا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها،و لا تقتلوا شيخا فانيا،و لا صبيا و لا امرأة.

و لا شيء في هذه الأقوال يحتاج إلى الشرح و التوضيح،و قد أفتى بها الفقهاء،و أجمعوا كلمة واحدة على صحتها و وجوب العمل بها.و لو قارنا بينها و بين ما عليه الدول الكبرى من تسميم الجو بتفجير القنابل،و إلقائها على الولدان و النساء و العجز و تدميرها العمران و مصادر الحياة،لعرفنا إنسانية الإسلام و عدله

ص:265

و رحمته،و تمدنه و حضارته،و وقاحة الغرب و صفاقته،و جهله و توحشه، و افراطه بالشر و الخبث،و التسلط و الاغتصاب،و ما إلى ذاك مما يعجز القلم عن تصوير قبحه و بشاعته.

الإسراء:
اشارة

قال تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (1).

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي و لم يكن معك محمل فأرسله،و لا تقتله.

و جاءوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بأسير يوم صفين فبايعه،فقال أمير المؤمنين:لا أقتلك اني أخاف اللّه رب العالمين،و خلى سبيله،و أعطاه سلبه الذي جاء به.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إطعام الأسير حق على من أسره،و ان كان يراد من الغد قتله،فإنه ينبغي أن يطعم و يسقى،و يرفق به كافرا كان أو غيره.

و سئل عن قوله تعالى وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (2)قال:هو الأسير.و قال:طعام الأسير و الإحسان إليه حق واجب.

الفقهاء:

قالوا:الأسارى الإناث و الولدان لا يجوز قتلهم بحال،لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى

ص:266


1- محمّد:4. [1]
2- الإنسان:8. [2]

عن قتلهم،أما الرجال فينظر:فإذا أسروا بعد أن وضعت اَلْحَرْبُ أَوْزارَها فلا يجوز قتلهم،و يتخير الإمام أو نائبه بين إطلاق سبيلهم بدون عوض،و بين ان يفدوا أنفسهم بمال.و إذا أسروا،و الحرب قائمة،فإن أسلموا حرم قتلهم،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أمرت أن أ قاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوا عصمت دماؤهم.و قال الإمام عليه السّلام:الأسير إذا أسلم حقن دمه.و ان أبى الأسرى عن الإسلام،و لم يقبلوه فقد ذهب المشهور إلى وجوب قتلهم.

و الذي نراه هو العمل بما تستدعيه المصلحة،فان لم يؤمن غائلة الأسير إذا أطلق قتل و مع الأمن منه و من غائلته و نكايته في المسلمين جاز إطلاقه على أن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام منّ على ابن العاص،و ابن ارطاة،و ابن الحكم،مع عدم الأمن من غائلتهم و غدرهم،و الثابت قطعا أنه منّ على الأولين،و الحرب قائمة.

و مهما يكن،فإن الأسير يجب أن يطعم،و يسقى،و يداوي،و يرفق به، و يحسن إليه حتى مع عناده و إصراره على عدم قبول الإسلام.

ص:267

ص:268

الغنائم
الغنيمة و الفيء و الأنفال:

وردت هذه الألفاظ الثلاثة في القرآن الكريم،قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (1).

و في الآية الأولى من هذه السورة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ .

و في الآية 7 من سورة الحشر ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ .

و ينبغي التنبه إلى هذه الآية و الآية الأولى قد ساوتا في الحكم بين الفيء و الغنيمة،و جعلتهما للّه و الرسول و القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و الغنيمة هي الفائدة المكتسبة من أي سبيل كان،من التجارة و الصناعة و الزراعة،و من الحرب و القتال.و الغنيمة المقصودة في هذا الفصل هي ما أخذت

ص:269


1- الأنفال:41. [1]

بالحرب و الغلبة،و إيجاف الخيل و الركاب.

و معنى الفيء في اللغة الرجوع،و في اصطلاح الفقهاء ما أخذ من الكفار من غير قتال،قال تعالى وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ (1)أي لم تسيروا إليها على الخيل و لا الإبل،و عليه،يكون الفيء مختصا بما أخذ من دون قتال،و الغنيمة تعمّ ما يؤخذ بالحرب و القتال.

و الأنفال جمع نفل،و هو في اللغة الزيادة،و منه قوله تعالى وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً (2)و في اصطلاح الفقهاء ما أخذ من الكفار بغير حرب، و هو للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعد للإمام،و قد تكلمنا عن سهم الإمام في باب الخمس،و المقصود هنا في البحث الغنائم التي يحصل عليها المجاهدون بالحرب و الغلبة.

تقسيم الغنائم:
اشارة

سئل الإمام الصادق عليه السّلام:السرية يبعثها الإمام،فيصيبون غنائم كيف تقسم؟قال:ان قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم،أخرج منها الخمس للّه و للرسول،و قسم بينهم أربعة أخماس،و ان لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام،يجعله حيث أحب.

و قال:انما تصرف السهام على ما حوى العسكر،أي من كان مع العسكر يسهم له،و ان لم يقاتل،حتى الطفل إذا ولد مع العسكر أسهم له،فقد روى الإمام الصادق عليه السّلام عن أبيه عن جده أن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قال:إذا ولد المولود في

ص:270


1- الحشر:6. [1]
2- الأنبياء:72. [2]

أرض أسهم له.و إذا كان مع الرجل أفراس في الغزو لم يسهم إلاّ لفرسين منها.

و أنّه ساوى في القسمة بين الناس.

و سئل عن رجل كان معه فرس،و لكن لم يقاتل عليه،بل قاتل و هو في السفينة؟قال:للفرسان سهمان،و للراجل سهم.و المراد بالفارس هنا الراكب في السفينة.

الفقهاء:

قسموا غنيمة الحرب إلى ثلاثة أقسام:

1-ما ينقل،كالنقود و الحيوانات و الأمتعة،و الذي يصلح تملكه من هذا النوع يخرج الإمام أو نائبه منه أولا و قبل كل ما يخص به من أسدى خدمة للإسلام و المسلمين،ثم يخرج الخمس له خاصة،و الأربعة أخماس الباقية يقسمها بالسوية بين المقاتلين،و من حضر،حتى و لو لم يقاتل،بل حتى الطفل إذا ولد بعد الحيازة،و قبل القسمة.و يعطى الراجل سهما واحدا،و الفارس سهمين، واحدا له،و الثاني لفرسه،و من كان معه فرسان،أو أكثر أخذ ثلاثة أسهم،و لا يسهم للإبل و البغال و الحمير.و لمن قاتل في سفينة سهمان،لأنها بحكم الفرس.

2-الأسرى من النساء و الأطفال،و حكمها حكم القسم السابق،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف و لا اشكال نصا و فتوى.

3-الأرض،و قد اجمع الفقهاء كلمة واحدة على أن كل أرض فتحت عنوة فهي لجميع المسلمين المجاهدين و غير المجاهدين،من وجد،و من سيوجد، و تقدم التفصيل في باب الخمس فراجع.

ص:271

ص:272

أهل البغي
وجوب القتال:
اشارة

قال تعالى في الآية 10 من سورة الحجرات وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي .

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام:القتال قتالان:قتال الفئة الباغية حتى تفيء،و قتال الفئة الكافرة حتى تسلم.

و قال عن الخوارج:ان خرجوا على إمام عادل،أو جماعة فقاتلوهم،و ان خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم.لا يقاتلهم بعدي إلاّ من هو أولى بالحق منهم.

الفقهاء:

معنى البغي في اللغة الظلم و الاعتداء،و في الشرع الخروج بالسيف على إمام عادل،و اجمع الفقهاء على أن قتال أهل البغي إذا ندب إليه الإمام أو نائبه يجب كفاية على الكل،و يسقط بفعل البعض،و إذا استنهض الإمام شخصا بعينه تعين،و الفرار من حربهم،تماما كالفرار من حرب المشركين،و أول فئة بغت في الإسلام هم أهل الشام بقيادة معاوية،للحديث المتواتر عند جميع الفرق

ص:273

الإسلامية:«يا عمار تقتلك الفئة الباغية».و قتل جيش معاوية عمارا بصفين،و هو مع إمام المتقين علي،و من أجل هذا الحديث كان عمار لا يسلك واديا إلاّ سلكه جماعة من أصحاب الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الأسير و الجريح:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عما إذا هزم أهل العدل أهل البغي؟قال:ليس لأهل العدل ان يتبعوا مدبرا،و لا يقتلوا،و لا يجهزوا على جريح،هذا،إذا لم يبق من أهل البغي أحد،و لم يكن لهم فئة يرجعون إليها،فإن كانت لهم فئة يرجعون إليها فإن أسيرهم يقتل،و مدبرهم يتبع،و جريحهم يجهز عليه.

و سئل الإمام الرضا عليه السّلام:لما ذا جدك أمير المؤمنين عليه السّلام قتل أهل صفين مقبلين و مدبرين و أجهز على جريحهم،أما أهل الجمل فترك مدبرهم و جريحهم،بل قال:من ألقى سلاحه فهو آمن،و من دخل داره فهو آمن؟ قال الإمام عليه السّلام:ان أهل الجمل قتل إمامهم-أي طلحة و الزبير-و لم يكن لهم فئة يرجعون إليها،و انما رجع الذين كانوا يحاربون إلى منازلهم غير محاربين، و لا مخالفين،و رضوا أن يكف الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عنهم،و ليس كذلك أهل صفين فقد كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة،و إمام-اي معاوية-يجمع لهم السلاح و الدروع و السيوف،و يسدي لهم العطاء،و يهيئ لهم الانزال،و يعود مريضهم،و يجبر كسيرهم،و يداوي جريحهم،و يحمل راجلهم،و يكسو حاسرهم،و يردهم فيرجعون إلى الحرب و القتال،و من أجل هذا لم يساو أمير المؤمنين عليه السّلام بين الفريقين في الحكم.

و هذا محل وفاق عند الفقهاء كافة.

ص:274

الغنائم:

لا يجوز سبي نساء و أطفال الفريقين من أهل البغي،و لا تملك أموالهم التي لم يحوها العسكر منقولة كانت أو غير منقولة،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده في شيء من ذلك.و قال الناس يوم الجمل لأمير المؤمنين عليه السّلام:أقسم بيننا، فقال:أيكم يأخذ أم المؤمنين-أي عائشة-في سهمه.

أما الأشياء المنقولة التي حواها العسكر،كالسلاح و الدواب فللفقهاء قولان:أحدهما أنه غنيمة تقسم على المقاتلة،و ثانيهما أنه لأربابه.و الذي يساعد عليه الاعتبار التفصيل بين الفئة التي ترجع إلى رئيس كأهل الشام،فتكون غنيمة، و لذا جاز قتل أسيرهم،و الإجهاز على جريحهم،و بين الفئة التي لا ترجع إلى رئيس يجمعها كأهل البصرة،فتكون لأربابها،بخاصة إذا أظهروا الطاعة و الاستسلام.و روي أن أمير المؤمنين عليه السّلام رد على أهل البصرة أموالهم،و أنه اكتفى من المدعين بيمينه في هذا المورد الخاص.

ص:275

ص:276

الأمر بالمعروف

وجوب الأمر بالمعروف:
اشارة

قال العلامة الحلي في التذكرة:«المعروف قسمان:واجب،و ندب،و الأمر بالواجب واجب،و بالندب ندب،أما المنكر فكله حرام فالنهي عنه واجب،و لا خلاف في ذلك».

و من الآيات القرآنية في هذا الباب قوله تعالى وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (1).

و قوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (2).

و قوله اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (3).

و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر،و تعاونوا على البر،فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات،و سلط

ص:277


1- آل عمران:104. [1]
2- آل عمران:110. [2]
3- الحج:41. [3]

بعضهم على بعض،و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السماء.

و قال أهل بيته الأطهار بلسان الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام:«يكون في آخر الزمان قوم مراءون يتعرون،و ينكسون حدباء سفهاء،لا يوجبون أمرا بمعروف،و لا نهيا عن منكر إلاّ إذا أمنوا الضرر،يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير،يتبعون زلات العلماء،و فساد عملهم،يقبلون على الصلاة و الصيام، و ما لا يكلفهم في نفس،و لا مال،و لو أضرّت الصلاة بأموالهم و أبنائهم لرفضوها، كما رفضوا أتم الفرائض و أشرفها.ان الأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر فريضة عظيمة،بها تقام الفرائض،هنالك يتم غضب اللّه عليهم،فيعمّهم بعقابه،فيهلك الأبرار في دار الفجار،و الصغار في دار الكبار.ان الأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء،و منهاج الصالحين،و فريضة عظيمة،بها تؤمن المذاهب، و تحل المكاسب،و ترد المظالم،و تعمر الأرض،و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر،فأنكروا بقلوبكم،و الفظوا بألسنتكم،و صكوا جباهكم،و لا تخافوا في اللّه لومة لائم».

فمن اتعظ و رجع إلى الحق فلا سبيل عليه،انما السبيل على الذين يظلمون الناس،و يبغون في الأرض بغير الحق،أولئك لهم عذاب أليم،فجاهدوهم بأبدانكم،و أبغضوهم بقلوبكم،غير طالبين سلطانا،و لا مالا،و لا مريدين بالظلم ظفرا.لقد أوصى اللّه سبحانه إلى شعيب النبي اني لمعذب من قومك مائة و أربعين ألفا من شرارهم،و ستين ألفا من خيارهم،فقال شعيب:يا رب هؤلاء الأشرار،فما بال الأخيار؟فأوحى اللّه إليه:داهنوا أهل المعاصي،و لم يغضبوا لغضبي.

ص:278

الفقهاء:

اهتموا اهتماما بالغا بالأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر،و عقدوا له بابا خاصا في كتبهم،و استدلوا على وجوبه بالنص القطعي كتابا و سنة،و بإجماع المسلمين،و ضرورة الدين،تماما كالصوم و الصلاة،بل قال جماعة من فقهاء الإمامية:ان وجوبه ثابت بالعقل،لا بالسمع،و ان النص الثابت في الكتاب يرشد إلى حكم العقل،و يؤكده،بحيث نحكم بالوجوب،حتى و لو لم يرد نص به من الشارع.أجل،اختلفوا:في أنه يجب عينا،أو كفاية،يسقط عن الجميع بفعل البعض،و الحق الثاني،لقوله تعالى وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ (1)، «من»للتبعيض،لأن الغاية منه وجود المعروف،و دفع المنكر،أو إلقاء الحجة، و متى حصلت الغاية ارتفع المغيا،تماما كالصلاة على الميت،و دفنه.

الشروط:

و يشترط لوجوب الأمر بالمعروف أربعة شروط:

1-العلم بالمعروف و المنكر،لأن الجاهل بحاجة إلى من يرشده،و على أمير المؤمنين أفضل الصلوات،حيث قال:لا تقل ما لا تعلم،بل لا تقل كل ما تعلم،فان اللّه فرض على جوارحك فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة.

2-ان يحتمل التأثير،فلو علم و جزم بعدم الجدوى من الأمر و النهي لم يجب،و هذا الشرط تدعمه الفطرة و البديهة،و لكن اسيء استعماله،و تذرع به الكسالى و المرتزقة.

و مهما يكن،و على آية حال فان على المرء ان يبين الحلال و الحرام لأهله

ص:279


1- آل عمران:101. [1]

و ولده،سواء احتمل التأثير،أم لم يحتمل.قال الإمام الصادق عليه السّلام:لما نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ (1).جلس رجل من المسلمين يبكي،و يقول:عجزت عن نفسي،فكيف أكلف بأهلي؟قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك،و تنهاهم عما تنهى عنه نفسك.قال:كيف آتيهم؟قال الرسول:

تأمرهم بما أمر به اللّه،و تنهاهم عما نهى عنه اللّه،فإن أطاعوك فقد وقيتهم،و ان عصوك كنت قد قضيت ما عليك.

3-ان لا تظهر القرائن و الدلائل أن«الفاعل التارك»غير مصر،و لا مستمر، فلو علم منه الإقلاع و الندم سقط الوجوب،لأن الأمر هنا للتوبيخ و التقريع،و ليس على سبيل الحقيقة،بل يحرم الأمر و النهي-هنا-إذا كان فيه أذى لمؤمن.

4-ان لا يستدعي الأمر و النهي ضررا على الآمر الناهي،أو غيره،و إلاّ سقط التكليف،لقاعدة«لا ضرر و لا ضرار».

و تجدر الإشارة إلى ان هذا الشرط يختص في مخالفة فروع الدين فقط،أما مع الخوف على الدين و أصوله فيجب الجهاد،و بذل النفس و المال،لأن الوجوب هنا متعلق بنفس الضرر،أو بالفعل الذي يتولد منه الضرر،لا بالفعل الذي لا يستدعي شيئا من الحرج و الضرر.

مراتب الأمر بالمعروف:

للأمر بالمعروف مراتب و درجات،عند الفقهاء،تختلف باختلاف الظروف و المقامات،و هي:

ص:280


1- التحريم:6. [1]

1-الوعظ و الإرشاد باللسان،على ان يتدرج الواعظ من الهين اللين إلى ما فوقه بمرتبة،و منها إلى الحد الذي يراه من التقريع،قال تعالى مخاطبا موسى و هارون عليهما السّلام اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (1).

2-دفع المنكر باليد إذا لم يجد القول و الوعظ،و أحسب ان هذا الشرط مختص بالأهل و الولد قبل أن يصيروا رجالا،أو قدر عليهم بعد البلوغ،أما بالنسبة إلى الأجانب فمحل نظر.و مهما يكن،فقد ذكره الفقهاء من جملة الشروط، و ذكرناه نحن تبعا لهم،و قيده بعضهم بإذن الإمام.

3-الإنكار بالقلب،و هو أضعف الايمان،و يجب إطلاقا،لأنه لا يستدعي الضرر.و قد وردت روايات كثر في ذلك عن أهل البيت عليهم السّلام.

منها:قول الإمام الصادق عليه السّلام:حسب المؤمن غيرة إذا رأى منكرا ان يعلم اللّه من قلبه إنكارا.

و منها:قول حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام:لو أن رجلا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه شريك القاتل.

و منها:من رضي أمرا فقد دخل فيه،و من سخطه فقد خرج منه.

و منها:قول أمير المؤمنين عليه السّلام:أمرنا رسول اللّه أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة.

و اللّه سبحانه المسؤول أن يمن علينا بعداوة الأشرار،و صداقة الأبرار بالنبي و آله الاطهار،عليه و عليهم أفضل الصلوات،و ازكى التحيات.

ص:281


1- طه:43 و 44. [1]

المجلد 3

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

اشارة

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على سيد الكونين محمّد و آله الطيبين الطاهرين.

و بعد:

فان الجزء الأول و الثاني من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق عليه السّلام يحتويان على العبادات بكاملها:الطهارة،و الصلاة،و الصوم،و الزكاة،و الخمس،و الحج، و الجهاد،و الأمر بالمعروف،و قد استقصيت فيهما جميع الفروع و المسائل التي تتصل بهذه الأبواب،و عرضتها باختصار و وضوح مع الدليل عليها من أقوال الإمام الصادق عليه السّلام،و إجماع فقهاء المذهب.

و يبحث هذا الجزء بوجه عام في العقد و محله،و في المتعاقدين و شروطهما،و في القواعد العامة التي هي أصل العمل و التطبيق للعقود و المعاملات الخاصة.

و يبحث بوجه خاص في البيع بشتى اقسامه و فروعه،و ما يتصل به من بحوث،كالفضالة و الخيارات و الربا،و ما إلى ذلك.

ص:3

و يعز و كل مسألة إلى مصدرها من أقوال الإمام الصادق عليه السّلام،و إجماع فقهاء المذهب الجعفري،و ما تسالموا عليه من الأصول و المبادئ.

و بالتالي،فان القصد من هذا الكتاب ان تحتوي اجزاؤه على فقه الإمام الصادق عليه السّلام من ألفه إلى يائه،و ان يكون جديدا على التأليف فيه من حيث الترتيب و التنسيق،و الوضوح و التيسير على الراغبين في معرفته.

و قلت في مقدمة الجزء الأول:«ربما بلغت الأجزاء أربعة أو خمسة».

و أقول الآن في مقدمة الجزء الثالث:«ربما بلغت ستة أو سبعة».و لا أدري:هل سأقول في مقدمة الرابع و الخامس:«ربما سبعة أو ثمانية».اللّه أعلم.و الذي أعلمه أني كلما توغلت في هذا البحر كلما تكشف لي أنّه أعمق و أعظم من أن يقاس بالمساحات،و يقدر بالصفحات و المجلدات،و ان تقديري لم يكن إلاّ مجرد لمحات و تخيلات.على أن هذا ليس بالشيء المهم،و كل امنيتي أن يوفقني اللّه سبحانه في المضي،حتى النهاية.

كتاب المكاسب:

لم أجد لهذا الجزء مصدرا في كل ما ألفه فقهاء المذهب الجعفري قديما و حديثا أغنى علما،و أغزر مادة من كتاب المتاجر المعروف بالمكاسب للشيخ مرتضى الأنصاري(ت 1281 ه)،فلقد اتاحت له طاقته التي لا تحد،و زمانه المتأخر عن كبار المتشرعة أن يحيط بآرائهم،و يحاكمها،و يقيسها في اعدل المقاييس و أدقها،و ان يضيف إليها الكثير مما لم يسبق إليه،ثم يخرجها في كتاب الرسائل في الأصول،و كتاب المكاسب في الفقه الذي لا يعرف تاريخ هذا العلم له مثيلا في موضوعه استقصاء للقواعد الرئيسية،و إحاطة بآراء الأقطاب،مع

ص:4

التحقيق و التدقيق.

هذا هو السر الذي حمل المراجع و الاساتذة الكبار في جامعة النجف الأشرف ان يقرروا تدريسه منذ أن برز للوجود،و به تنتهي سلسلة الكتب المقررة للتدريس ليكون الطالب على مؤهلات كافية لتفهّم ما فيه من النظريات الرئيسية في مباني الأحكام،و القواعد التي هي الركيزة الأولى للاجتهاد و الاستنباط.

فلا بدع إذا اهتم العلماء بكتاب المكاسب،و أكثروا من شرحه و التعليق عليه،و وضعوا حوله العديد من المجلدات،و من هذه حاشية السيد كاظم الخراساني صاحب كفاية الأصول المقررة للتدريس،و حاشية للميرزا حسين النائيني المعروفة بتقريرات الخوانساري تلميذ المؤلف الذي كتب الحاشية بقلمه،و تعليق للسيد محسن الحكيم صاحب المستمسك،و حاشية للشيخ محمد حسين الأصفهاني.و كل هؤلاء من المراجع الكبار في زمانهم.و قد رجعت إلى هذه الشروح و التعليقات،و استعنت بها على تفهم مطالب الشيخ الأنصاري التي قال عنها أحد الأقطاب:ان مهمتنا أن نبذل الجهد لنفهم أقوال هذا العظيم.

و قد بذلت كل ما لدي من جهود لإدراك أقواله و مراميها،ثم تلخيص الكثير منها و تهذيبه و تنقيحه،ليسهل على الراغب تفهمه و تناوله.و ان جهودي أيام الدراسة،و استمراري في المراجعة و التذاكر و التأليف عشرات السنين،كل ذلك مهد السبيل للتعرف على مقاصد الشيخ،و سلط الاضواء على ما في مكاسبه من اسرار.و لو لا تلك الجهود لكنت في رجوعي إلى هذا الكتاب كمن ضل في التيه لا يدري أين شاطئ السلام.

على أني-برغم جهدي السابق و اللاحق-لا ادعي المعرفة بآراء هذا الشيخ

ص:5

معرفة حقيقية،و انما الذي عرضته و نسبته إليه صورة مطابقة لمعرفتي بها و تصوري لها،لا لمعرفتها بالذات كما هي في حقيقتها و واقعها.

بيت القصيد:

فمكاسب الشيخ الأنصاري هي بيت القصيد من مصادر هذا الكتاب ما عدا فصل ضابط التعبير عن القصد،و المرابحة و توابعها،و السلم،و الصرف،و الربا، و بيع الثمار،و الإقالة،لأن الشيخ ترك التعرض لهذه،فاعتمدت فيها على كتاب الجواهر،و الحدائق،و المسالك،و مفتاح الكرامة و غيرها بخاصة الكتاب الأول، لمكانته العلمية،و ثقة الفقهاء كافة به و بصاحبه،و من يتابعني في هذه الصفحات يجد أني أسند أكثر المسائل إلى مصادرها.

الحديث و الرواية:

الحديث في عرف المتشرعة خاص بقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و لذا لم أعبر به عن أقوال الإمام الصادق عليه السّلام،و غيره من أئمة أهل البيت الأطهار عليهم السّلام، و أطلقت عليها لفظ الرواية،لأن الأئمة في عقيدتنا رواة عن جدهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و ليسوا بأصحاب رأي.و يطلق الفقهاء في الغالب لفظ الخبر على قول الإمام للعلة نفسها.أجل،ان الفرق عندنا بين أئمة الآل حين يروون عن جدهم،و بين غيرهم،ان الكذب و الخطأ في الرواية يجوزان على غيرهم،و لا يجوزان عليهم، و هذا معنى عصمة الإمام عند الشيعة الإمامية (1).

ص:6


1- شرحت في كتاب«الشيعة و التشيع»معنى العصمة و علوم الإمام،و كل ما يتعلق بعقيدة الشيعة مع الإشارة إلى دولهم في التاريخ و عددهم الآن،و بلدانهم و إلى الفرق بينهم و بين سائر الطوائف الإسلامية إلى غير ذلك.

بقي شيء:

كثيرا ما أقول:قال صاحب الجواهر،أو غيره من المؤلفين،دون أن أشير إلى رقم الصفحة،و تاريخ الطبع،و السر أن الكتاب الذي أنقل عنه كذلك لا أرقام لصفحاته،و لا تاريخ لطبعه،على الرغم من أنه طبع أكثر من مرة.بل أن بعض الكتب على ضخامتها،و عظمتها لا تحمل اسم الكتاب،و لا اسم المؤلف،منها كتاب المستند للنراقي في بعض طبعاته،و كتاب شرح الإرشاد للأردبيلي أيضا في بعض طبعاته.أما السبب-حسبما أظن-فهو أن المؤلف حين كتب لم يذكر اسمه و لا اسم الكتاب في الأول و الآخر،و لم يكن في حسبانه أن يطبع كتابه، و ينتشر،و جاء بعده الناسخ فنسخ كما رأى طبق الأصل،و طبع صاحب المطبعة على وفق النسخ،دون أن يتنبه هذا و لا ذاك.

و مهما يكن،فان ترتيب أبواب الفقه معروفة عند أهله،و مسائل كل باب مندرجة فيه،فإذا أراد القارئ الخبير الرجوع إلى الكتاب الذي نقلت عنه فلا يقف إهمال الأرقام دون ما أراد إذا صبر و ثابر.

و اللّه سبحانه المسؤول أن يجعل هذا المجهود وسيلة لمرضاته،و هو حسبي و نعم الوكيل،و صلى اللّه على محمّد و آله الاطهار.

ص:7

ص:8

البيع

(في العقد)

أقسام الفقه:

ينقسم الفقه إلى أربعة أقسام:عبادات،و عقود،و إيقاعات-أي موجبات- و أحكام،و تسمى سياسات،و العبادة هي التي يعتبر فيها قصد التقرب الى اللّه تعالى،لأنها طاعة خالصة له،و لا يتحقق هذا الوصف إلاّ بنية التقرب إليه،و طلب ثوابه و رضاه،فكل ما يشترط في صحته هذه النية فهو عبادة،كالصوم و الصلاة، و الحج و الزكاة،و كل ما يصح بدونها فليس من العبادة في شيء،و على هذا تخرج عن العبادة مباحث المياه و التراب التي أدرجها الفقهاء في باب الطهارة،و الأذان و الإقامة التي ذكروها في مقدمات الصلاة،و باب الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي ألحقوه بالعبادات.تخرج هذه المباحث عن العبادة،لأن النية ليست شرطا في صحتها،و انما هي شرط في استحقاق الثواب عليها،تماما كالكف عن المحرمات.و بديهة ان صحة العمل شيء،و الثواب عليه شيء آخر.

أمّا العقود فهي التي تحتاج إلى طرفين،موجب و قابل،كالبيع و الإجارة و الزواج،و الإيقاعات إنشاء و إيجاب من طرف واحد،كالطلاق و العتق.

ص:9

و الأحكام تشمل الصيد و الذباحة،و الأطعمة و الأشربة،و الأخذ بالشفعة،و الجهاد و الأمر بالمعروف،و الحدود و القصاص و الديات،و الإرث و الغصب،و القضاء و الشهادة،و الإقرار،و ما إلى ذلك.

العهد و الوعد و العقد:

للعهد في اللغة معان،منها الأمر و الوصية،قال تعالى أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي أمرناكم و أوصيناكم،و منها التحالف و الميثاق الذي يعطيه الإنسان على نفسه،قال تعالى وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً و منها المعرفة،كقولك:عهدتك صادقا،أي عرفتك،إلى غير ذلك.

و العهد في اصطلاح الفقهاء ان يلتزم بفعل غير محرم،و لا مكروه،أو بترك فعل غير واجب و لا مستحب،و لا ينعقد إلاّ بالصيغة اللفظية مقترنة باسم الجلالة، كقولك:عاهدت اللّه،أو عليّ عهد اللّه،و يجب الوفاء بهذا العهد،و من عاهد،ثم خالف يأثم،و عليه أن يكفّر،و يأتي التفصيل في بابه ان شاء اللّه.

أما الوعد فمعناه ظاهر،و هو واحد شرعا و لغة،و يستحب الوفاء به شرعا، و يجب أخلاقيا،قال الإمام الرضا عليه السّلام:«إنّا أهل البيت نرى ما وعدنا دينا علينا، كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».أجل،إذا كان الفعل الموعود به واجبا وجب الوفاء من أجله،لا من أجل الوعد،و عليه يحمل قول الإمام الصادق عليه السّلام:«ثلاثة لا عذر لأحد فيها:أداء الأمانة إلى البرّ و الفاجر،و الوفاء بالوعد،و بر الوالدين برّين كانا أو فاجرين».و قوله:«المؤمن إذا وعد وفى،و إذا حدث صدق،و إذا ائتمن لم يخن».

قال صاحب الجواهر:«و الفقهاء لم يقولوا بوجوب الوفاء بالوعد على ما يظهر».

ص:10

و العقد في اللغة الربط الذي هو ضد الحل،و عند أكثر الفقهاء مجموع الإيجاب و القبول،و ارتباطهما على وجه يتحقق بإنشائهما معنى له آثاره الخارجية،كتمليك العين بعوض في البيع،و بلا عوض في الهبة،و كتمليك المنفعة بعوض في الإجارة،و بلا عوض في العارية:و على هذا يكون العقد اسما لإنشاء ما قصده الموجب و القابل،لا نفس المعنى المقصود لهما،و المسبب عن إنشائهما،و بكلمة ان العقد اسم للسبب الذي أنشأ التمليك و التملك،لا المسبّب الذي هو التمليك و التملك.

القول و الفعل:

يتم العقد بالقول بالاتفاق،و هل يتم بالفعل أو لا؟.

لعلماء الفقه الجعفري قولان:الأول ان العقد لا يكون بدون اللفظ،و هو المشهور،قال صاحب الجواهر عند تعريف العقد في أول الفصل الثاني من كتاب المتاجر:«لا يكفي في حصول العقد التقابض،و غيره من الأفعال بدون لفظ».

و قال الشيخ الأنصاري في المكاسب عند كلامه عن ألفاظ عقد البيع:«يعتبر اللفظ في جميع العقود على المشهور شهرة عظيمة».

القول الثاني ان كل ما يدل على التراضي فهو عقد عرفا و شرعا،سواء أ كان قولا،أم فعلا،لقوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ .

و نسب هذا القول كما في بلغة الفقيه إلى المفيد،و الأردبيلي،و الكاشاني و السبزواري.بل قد استدل عليه الأردبيلي في شرح الإرشاد بأربعة عشر دليلا.

و قال صاحب العروة الوثقى في حاشيته على المكاسب ص 82 طبعة 1324 ه:ان عناوين العقود تصدق على المنشأ بالفعل،كما تصدق على المنشأ

ص:11

بالقول».

و نحن مع هؤلاء،و دليلنا أولا:أنه ليس للشارع حقيقة و اصطلاح خاص في العقد،لأنه موجود قبل التشريع و المشرع،و لم يزد شيئا،و انما أقرّه و أمضاه بعد أن قلم و طعم بما يتفق مع مبدأ العدالة-مثلا-نهى عن بيع المجهول للغرر، و نهى عما فيه شائبة الربا،لأنه من الكبائر،و ما إلى ذلك مما ثبت النهي عنه،أمّا المسكوت عنه فهو جائز عرفا و شرعا،إذ لا يليق بالشارع أن يهمل و لا يبين ما لا يريده،و لا يرضى عنه.

و بكلمة أن ما للشارع فيه حقيقة شرعية كالعبادات لا بد فيه من النص الشرعي،و يعبر عنه بالأمور التوقيفية،أي تتوقف على نص الشارع،و ما لا حقيقة فيه للشارع كالعقود يكفي عدم النهي عنه شرعا،سواء أ كان موجودا في زمن الشارع،أو لم يكن.

أما قول الفقهاء:هذا العقد شرعي،و ذاك غير شرعي فإنهم لا يريدون أن الشارع قد اخترع الأول و أوجده دون الثاني،بل مرادهم أنه جامع للشروط،و أن الأحكام الشرعية تترتب عليه بكاملها دون الثاني.

ثانيا:ان السبب المسوغ لجعل نوع من اللفظ عقدا انما هو الدلالة الواضحة على الإنشاء و الربط المؤكد بين اثنين،و العلم بالرضا الذي يصدق عليه «إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» .فإذا وجدت هذه الدلالة في فعل من الأفعال،نرتب آثار العقد حتى يرد النهي من الشرع.

و على هذا نكتفي بالكتابة و بالإشارة من الأخرس،و غير الأخرس،على شريطة أن نكون على يقين من صدق اسم العقد عرفا على ذلك،و مع عدم العلم بهذا الصدق يكون الفعل لغوا.و كذلك إذا علمنا بصدق الاسم،مع النهي عنه

ص:12

شرعا.

أما قول الإمام الصادق عليه السّلام:انما يحرم الكلام،و يحلل الكلام فالمراد به أن النية وحدها لا تكفي ما لم يدل عليها دليل ظاهر من قول (1)،أو فعل،و إذا وجد الدليل الفعلي كفى،و ربما كان أقوى في الدلالة من القول،كوطء الرجل مطلقته الرجعية في أثناء العدة،فإنه يدل على الرجوع عن الطلاق،و كبيع الوصي الشيء الموصي به الدال على عدوله عن الوصية،و بكلمة:ان اللفظ وسيلة لا غاية،و غير مقصود لذاته إلاّ في الزواج و الطلاق،و يأتي التفصيل عند الكلام عند المعاطاة.

العقد الجديد:

قبل كل شيء ينبغي التفرقة بين أمرين:الأول اختلف الفقهاء في أن العقود المسماة التي كانت معروفة بمعناها و طبيعتها في زمن الشارع،كالبيع و الإجارة:

هل يجب إنشاؤها بصيغة مخصوصة،و بنفس اللفظ الذي كان معروفا في ذلك العهد،بحيث لا يسوغ إنشاؤها بغيره إطلاقا،فنوجد البيع بصيغة بعت،و الإجارة بلفظ أجرت،أو يجوز الإنشاء بكل ما دلّ على المعنى،حتى و لو كان غير مألوف و لا معروف؟.و قد ذهب إلى كل فريق،و يأتي التفصيل.

الثاني:ان العقود الجديدة غير المسماة من قبل،و التي تختلف عن العقود المسماة بمعناها و طبيعتها،و لا ينطبق عليها أي اسم من أسمائها،كاتفاق المؤلف مع الناشر أن يطبع كتابه،و ينشره و يوزعه لقاء شيء معين للمؤلف،أو نسبة مئوية من السعر المحدد،أو من الأرباح،.هذه العقود:هل هي صحيحة،تماما

ص:13


1- و إلى هذا يومئ قول الإمام علي عليه السّلام:الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به،فإذا تكلمت به صرت في وثاقه.

كالعقود المسماة أم لا؟.و هذا النوع هو المقصود من هذه الفقرة.

و أيضا ينبغي التنبيه إلى أنّه إذا نفّذ العقد كل من الطرفين،و التزم به بملء إرادته و اختياره كان لهما ذلك بالاتفاق،و ليس لأحد أن يعترض،ما دام العقد لا يحلل حراما،و لا يحرم حلالا،و انما الكلام فيما إذا فسخ أحدهما و عدل،و امتنع عن التنفيذ،فهل للطرف الآخر أن يلزمه به أو لا؟.

و الذي تقتضيه أصول الفقه الجعفري و قواعده أن مثل هذا العقد صحيح و لازم إذا توافرت فيه جميع الشروط المعتبرة و لم يتناف مع مبدأ من مبادئ الشرع المقدس،للآية 28 من سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ .و أيضا هو لازم يجب الوفاء به لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

قال الميرزا النائيني في تقريرات الخوانساري ص 104 طبعة 1358 ه:ان أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا تختص بالعقود المتعارفة،و المتعاملات المتداولة،بل تشمل كل عقد، لأن الظاهر هو اللام في العقود أنّها للعموم و الشمول،لا لخصوص العقود المعهودة.

هذا،إلى أن المعاملات لا تحتاج في صحتها و لزومها إلى النص،بل يكفي عدم ثبوت النهي عنها،و بكلمة:ان المعاملات و المعاوضات التي تستدعيها الحياة الاجتماعية لا تدخل في عد و لا حصر،و هي تتسع و تزداد كلما تقدمت الحياة و تطورت،و كل معاملة عرفية قديمة كانت أو حديثة،فيجب تنفيذها على حسب ما قصد المتعاملان،ما دامت لا تتنافى و شيئا مع مبادئ الشريعة الغراء.

ص:14

النظرية العامة:
اشارة

في الفقه قواعد عامة تجري في جميع أبوابه،و لا تختص بباب دون باب.

كالاستصحاب،و أصل الصحة في عمل الغير،و قاعدة عدم الدليل دليل العدم عند المجتهد الباحث،و هذه تشمل عدم الوجوب،و عدم التحريم،و تدخل في باب العمومات و المطلقات،و بها يثبت عدم اشتراط المشكوك في شرطيته،و غير ذلك من القواعد التي تعم العبادات و المعاملات و الإيقاعات و الأحكام.

و أيضا في الفقه قواعد خاصة،كقاعدة الولد للفراش التي تختص بالأنساب ،و قاعدة الإمكان في الحيض،و هي كل دم أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، و قاعدة الحدود تدرأ بالشبهات،و غير هذه.

و يتجه هذا السؤال:هل هناك قاعدة فقهية تختص بالعقد من حيث هو،و لا تشمل سواه،فتكون خاصة من حيث ان موضوعها العقد فقط،و عامة من حيث انها تشمل جميع العقود بدون استثناء؟.

الجواب:

أجل،أن علماء الفقه الجعفري اتفقوا قولا واحدا على أن الأصل في العقد اللزوم،و بيان ذلك أن العقد إذا جرى برضا الطرفين،و بقي كل منهما على التزامه فلا حاجة إلى الأصل أو النص،و كذلك إذا فسخاه و تقايلا بالاتفاق،أمّا إذا فسخ أحدهما،و عدل دون الآخر فان للذي لم يفسخ أن يطالب الطرف الثاني بالتنفيذ، و للحاكم أن يلزمه به إذا رفعت الدعوى إليه.و الدليل على ذلك الإجماع و النص، و هو الآية الأولى من سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .و قد جاءت هذه الآية على وفق العرف و إجماع الفقهاء،و الأصل أيضا،و ذكر الشيخ الأنصاري في أول الخيارات لهذا الأصل أربعة معان،منها أن العقد كان نافذا قبل

ص:15

أن يفسخه أحد الطرفين،و بعد فسخه و عدوله نشك:هل بقي العقد نافذا أو لا؟ فنجري الاستصحاب و نبقي ما كان على ما كان،لأن اليقين لا ينقض بالشك.

و تجدر الإشارة إلى أنّه ليس المراد من «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مجرد الحكم التكليفي،و هو الوجوب فقط،بحيث إذا خالف يكون عاصيا مستحقا للعقاب، كما هي الحال لو أجرى عقدا حين النداء لصلاة الجمعة،فإنه يعصي و يأثم، و لكن العقد يكون صحيحا،ليس هذا هو المراد،بل المراد من وجوب الوفاء الالتزام بجميع ما قصده المتعاقدان من العقد،و العمل بكل ما يستدعيه من الآثار.

و بكلمة:ان الآية تدل على الحكم التكليفي،و الحكم التكليفي يستدعي الحكم الوضعي،و يأتي التوضيح بصورة أوفى في أول خيار المجلس فقرة«لزوم البيع» فانظرها.

أقسام العقد:

ينقسم العقد إلى أقسام وفقا للخصائص و الاعتبارات،فهو بالنظر إلى اللزوم و عدمه ينقسم إلى لازم،كالبيع و الإجارة و الزواج،و غير لازم،كالهبة و الوديعة و الوكالة،و تسمى هذه عقود إذنية،لأنها تتقوم بالاذن وجودا و عدما.ثم ان العقد الجائز منه ما هو جائز من الطرفين،كعقد العارية،حيث يجوز لكل من المعير و المستعير العدول و هدم العقد متى شاء،و منه ما هو جائز من طرف، و لازم من طرف،كالرهن فإنه جائز من قبل المرتهن،لازم من قبل الراهن.

و أيضا ينقسم العقد-بالنظر إلى الصراحة و عدمها-إلى عقد صريح كالإجارة و الرهن،و عقد ضمني كالأمانة المستلزمة للعقدين المذكورين،لان العين أمانة في يد كل من المستأجر و المرتهن لا يضمن شيئا منها إلاّ بالتعدي،أو

ص:16

التفريط.

و أيضا ينقسم العقد إلى ما يقتضي التعليق بطبعه و وضعه،كعقد السبق و الرماية،و هو أن يتفق اثنان على أن من يصيب الهدف له كذا،أو من يسبق فله كذا،فان هذا لا يتحقق بدون تعليق،و إلى ما لا يستدعي ذلك كعقد الزواج و البيع، و ما إليه.

و أيضا ينقسم إلى عقد نافذ إذا صدر من الأصل و الوكيل،و إلى عقد موقوف على الإجازة إذا صدر من الفضولي،هذه أمثلة من أقسام العقد،و هناك اعتبارات أخرى يمكن تقسيم العقد على أساسها،و كل العقود تقبل الفسخ لسبب مشروع، حتى الزواج،و أيضا تقبل التقايل إلاّ الزواج.

أما تقسيم العقد إلى صحيح و فاسد (1)فيتوقف على أن العقد موضوع للصحيح و الفاسد،إذ لو كان للصحيح فقط لم يصح التقسيم بداهة أن الشيء لا ينقسم إلى نفسه،و إلى غيره.و الحق أن العقد موضوع لما يشتمل الصحيح و الفاسد بدليل صحة تقسيمه إليهما،و معنى صحة العقد ترتب الأثر عليه،و معنى الفساد عدم ترتّب الأثر،و القاسم المشترك بينهما،و الجامع لهما هو مطلق الإيجاب و القبول الصالحين لترتب الأثر عليهما،سواء أ ترتب فعلا،كما لو استجمعا شروط الصحة،أم لم يترتب لفقدان بعض الشروط.

و ينبغي التنبيه إلى أن شمول العقد بذاته للصحيح و الفاسد لا يتنافى مع

ص:17


1- يفرق الحنفية بين العقد الفاسد و العقد الباطل،فالباطل عندهم لا ينعقد إطلاقا،كعقد المجنون، و الفاسد ينعقد و لكنه يستوجب الفسخ،كالعقد على الشيء المجهول،و لم يفرق علماء الفقه الجعفري بين البطلان و الفساد،لان العقد في الحالين لا ينعقد من الأساس،و يتفق معهم معظم المذاهب الإسلامية الأخرى.

حمل العقود في الخطابات الشرعية على خصوص الصحيح،كقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و ما إليه،لأن الدلالة على الصحة هنا جاءت من القرينة و سياق الكلام، و كذلك إذا حلف يمينا بأن لا يجري عقدا خاصا،فإنه يحمل على الصحيح،لا لأن العقد موضوع له بالخصوص،بل لأن الذهن يتجه إلى أن الحالف انما قصد العقد الصحيح دون الفاسد،و بالإيجاز ان وضع العقد للأعم من الصحيح و الفاسد شيء،و استعماله في الفرد الصحيح شيء آخر.

و قال صاحب مفتاح الكرامة في كتاب المتاجر:«ان البيع لغة و عرفا يعم الصحيح و الفاسد،و هو كذلك شرعا،لأصالة عدم النقل،و صحة التقسيم إليهما في الشرع،و الاتفاق على اتحاد معنى البيع،و انتفاء الحقيقة الشرعية فيه».

و يريد بقوله:«و الاتفاق على اتحاد معنى البيع»أن معنى البيع واحد شرعا و عرفا،و لو كان موضوعا في الشريعة للصحيح فقط،و في العرف للأعم من الصحيح و الفاسد لكان للشارع حقيقة خاصة فيه،و المفروض خلاف ذلك.

معنى البيع:

و مرادنا بالبيع هنا المعنى الذي دلت عليه صيغة البيع،لا نفس الصيغة،أي ان المقصود هو المسبب لا السبب،و ليس في الشريعة نص على تحديد معنى البيع،و لا للفقهاء عرف خاص فيه،بل ان الشارع أقرّ،و امضى ما عليه العرف، اذن،فتعريف الفقهاء له تعريف للمعنى العرفي،و قد تعددت فيه أقوالهم، و أشهرها أنّه مبادلة مال بمال.

و الشأن في التعريف هين يسير،بخاصة في الفقه و اللغة،لأنه ليس تحديدا للماهية بالجنس و الفصل،و لا تعريفا بالمساوي للمعرف من جميع الجهات،

ص:18

و انما هو تعريف لفظي،أريد به الإشارة إلى المعنى و تقريبه إلى الأذهان.

و مهما يكن،فان البيع الوارد في الخطابات الشرعية منزل على أفهام العرف،فمتى انطبق اسم البيع عرفا على نحو من النقل و التمليك و التبديل وجب أن نرتب عليه جميع الآثار الشرعية،حتى يثبت العكس و إذا شككنا:هل اعتبر الشارع أمرا زائدا على ما هو المعروف فالأصل العدم إلى أن يقوم عليه الدليل الشرعي،لأنه لو أراد خلاف ما عليه العرف لبين،و أرشد إليه،و حيث لم يبين فلم يرد الخلاف.

أقسام البيع:

ينقسم البيع إلى أقسام،منها بيع الفضولي،و هو أن يتولى الإيجاب أو القبول غير الأصيل و الوكيل،و بيع النسيئة،و هو أن يكون المثمن معجلا،و الثمن مؤجلا،و السلم بعكسه حيث يعجل الثمن و يؤجل المثمن،و بيع الصرف و هو خاص بالذهب و الفضة،و بيع المرابحة و المواضعة و التولية،و الأول مع ربح معين،و الثاني مع خسارة معينة،و الثالث برأس المال،و يأتي الكلام عن جميع أقسام البيع مفصلا.

ص:19

ص:20

المعاطاة

الأقوال:
اشارة

اتفق فقهاء المذهب الجعفري على أن مجرد التراضي بدون التعبير عنه بقول أو فعل لا يتم به البيع،و لا غيره من العقود،أي ان السبب الموجب لترتيب الآثار هو إنشاء التراضي و التعبير عنه،لا نفس التراضي من حيث هو (1).

قال السيد صاحب العروة الوثقى في حاشية المكاسب ص 64 طبعة 1324 ه:«يعتبر في حقيقة البيع أن يكون بإيجاب خارجي من لفظ،أو إشارة،أو كتابة،أو تعاط من الطرفين،أو أحدهما،فلو أنشأ التمليك في قلبه،و قبل المشتري لا يكون بيعا حقيقيا.بل الظاهر أن الأمر كذلك في جميع العقود و الإيقاعات».و على هذا يحمل قول الإمام الصادق عليه السّلام انما يحلل الكلام،و يحرم الكلام.

و أيضا اتفقوا على أن الصيغة اللفظية الكاشفة عن التراضي يتم بها البيع و غيره من المعاملات،بل هي أفضل الطرق و أكملها للكشف و التعبير.

ص:21


1- قد يكون مجرد الرضا سببا للإباحة،كتصرف الإنسان في بعض أموال قريبه و صديقه بما جرت عليه العادة،و الفقهاء يعبرون عن مثله باذن الفحوى.و نقل عن الشيخ الطوسي الكبير أن النذر و العهد ينعقدان بمجرد النية.و التفصيل يرجأ إلى محله إن شاء اللّه.

و اختلفوا في ان البيع:هل يتحقق إذا عبر عنه بالفعل الكاشف،لا بالقول المؤلف من الإيجاب و القبول،و مثال ذلك أن يحصل السوم بين اثنين،و بعد الاتفاق على الثمن دفعه المشتري لصاحب السلعة،فقبضه راضيا،و أعطاه السلعة بدون تلفظ بإيجاب و قبول،و الفقهاء يسمون هذا النوع بيع المعاطاة،لأنها مبادلة بالأخذ و الإعطاء من الطرفين بقصد التمليك و التملك،مع استجماع هذه المبادلة لكل ما يشترط في البيع ما عدا التلفظ بالإيجاب و القبول.هذا إذا صدق على كل من الطرفين أنّه آخذ و معط في آن واحد،أما الإعطاء أو الأخذ من جانب واحد، كقبض الثمن دون المثمن،و العكس فيأتي الكلام عنه.

ثم ان بيع المعاطاة من صغريات المسألة التي تكلمنا عنها في الفصل السابق فقرة«العقد و الفعل»حيث كان الكلام هناك عن مطلق العقد و المعاملات بيعا كانت أو غيرها،و هنا عن البيع فقط.و على آية حال،فان علماء الفقه الجعفري اختلفوا في المعاطاة على أقوال،أنهاها الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب إلى ستة،و عمدتها أربعة كما قال الميرزا النائيني في تقريرات الخوانساري:

القول الأول:انها تفيد الملك اللازم

،و إليه ذهب المفيد و شيخ الطائفة، و جماعة آخرون.

القول الثاني:انها تفيد الملك الجائز

،و به قال الشيخ علي الكركي المعروف بالمحقق الثاني،و كثيرون ممن تأخروا عنه،و بلغوا المراتب العليا من العلم و الشهرة،كالسيد«أبو الحسن الأصفهاني»و الميرزا حسين النائيني،و السيد محمد بحر العلوم،و غيرهم حتى قيل:انّه المشهور بين المتأخرين.قال السيد الأصفهاني في وسيلة النجاة الكبرى:«الأقوى ان المعاطاة تفيد الملك،و لكنها

ص:22

جائزة من الطرفين،و لا تلزم إلاّ بتلف أحد العوضين،أو التصرف المغيّر للعين، و الناقل لها،أو موت أحد المتعاقدين».

و قال السيد بحر العلوم في البلغة:«القول بإفادة المعاطاة الملك المتزلزل دون الإباحة المجردة هو الأقوى».

و قال النائيني في تقريرات الخوانساري ص 49:«الأقوى أن يقال:ان التعاطي بقصد التمليك يفيد الملك الجائز،لأن هذا هو مقتضى القواعد الشرعية، و الأدلة المأثورة».

القول الثالث:ان المعاطاة تفيد الإباحة المطلقة الشاملة لجميع التصرفات

، حتى التصرف المتوقف على الملك،كالبيع،و العتق،و وطء الجارية،حيث لا بيع،و لا عتق،و لا وطء إلاّ في الملك.و قد نسب هذا القول إلى المشهور عند الفقهاء المتقدمين.

القول الرابع:انّها تفيد إباحة نوع خاص من التصرف

،و هو الذي لا يتوقف على الملك،فإذا اشترى عبدا أو جارية بالمعاطاة،جاز استخدامهما،و لا يجوز له بيعهما،و لا وطء الجارية.

و اتّفق القائلون بالملك الجائز و الإباحة على أنّه مع تلف الثمن و المثمن تصبح المعاطاة لازمة،تماما كالبيع المنشأ بالصيغة.قال صاحب مفتاح الكرامة في كتاب المتاجر ص 157:«و لا خلاف عندهم-أي عند الفقهاء-في أنّه لو تلفت العين من الجانبين صار البيع لازما،و انما الكلام في تلف أحدهما».و قال صاحب الجواهر:«لا ريب و لا خلاف في أن المعاطاة تنتهي إلى اللزوم،و ان التلف الحقيقي أو الشرعي للعوضين معا باعث على اللزوم».

و قد ذكرت هذه الأقوال الأربعة في المعاطاة مفصلة مع أدلتها في أكثر كتب

ص:23

الفقه الجعفري،كالحدائق،و الجواهر،و بلغة الفقيه،و المكاسب،و تقريرات الخوانساري،و مفتاح الكرامة،و غيرها،و بالرغم من هذا كله نسب العلامة السنهوري إلى المذهب الجعفري القول بعدم جواز المعاطاة،و نقل كلمات متقطعة اقتطفها من صفحة 151 و 154 و 163 و من ج 4 مفتاح الكرامة،مع أن الأقوال التي نقلناها موجودة في هذه الصفحات بالذات،و فيما بينها من صفحات،فقد ذكرها صاحب المفتاح صراحة مع أدلتها،كما ذكر هو و صاحب الجواهر أن القائلين بالإباحة قالوا بأن المعاطاة تنتهي إلى اللزوم قهرا بتلف العوضين،كما أشرنا.و بهذا يتبين أن قول العلامة السنهوري:«المذهب الجعفري لا يجيز المعاطاة»يبعد أقصى البعد عن التعبير العلمي الأمين الذي يجب فيه مراعاة الدقة و الحذر في كل لفظة من ألفاظه بخاصة في مقام النقل.و قد يوجه قول الدكتور بأنه لما رأى أن أكثر المتقدمين من فقهاء هذا المذهب يقولون بأن المعاطاة تفيد الإباحة نسب إليهم القول بعدم الجواز من الأساس و لكن هذا التوجيه-كما ترى-لا يتفق و أسلوب أهل التحقيق و التدقيق،بخاصة الكبار منهم،كالسنهوري.و العصمة للّه.

أصح الأقوال:

و أصح الأقوال الأربعة القول بأن المعاطاة تفيد الملك اللازم،و قد ذهب إليه من القدماء المفيد شيخ الطائفة(ت 413 ه)و من المتأخرين السيد صاحب العروة الوثقى(1337 ه)و استدل هذا السيد في حاشية المكاسب بأربعة أدلة، ننقلها فيما يلي بشيء من التصرف في الشكل و الصورة مع الاحتفاظ بالمحتوى و المضمون

ص:24

1-ان المعروف من سيرة أهل الدين و الدنيا خلفا عن سلف منذ عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى زمننا انهم يعاملون المأخوذ بالمعاطاة معاملة المأخوذ بالصيغة اللفظية بدون ادنى تفاوت،و ان النبي و الأصحاب،و الأئمة و العلماء،و الناس كافة يتصرفون بالهدايا و العطايا تصرف الملاك بأملاكهم دون إجراء الصيغة،مع العلم بأنّه لا فرق بينها و بين البيع.

2-ان فقهاء المذهب الجعفري قد أجمعوا على أن المأخوذ بالمعاطاة تجوز فيه جميع التصرفات،و ليس من شك ان القول بجواز التصرفات بكاملها لا يجتمع مع القول بعدم الملك إلاّ ببعض التوجيهات الباطلة التي لا ينبغي ان تصدر من فقيه.

3-ان مسألة المعاطاة ترجع في الحقيقة إلى الشك في أن الصيغة اللفظية:

هل هي شرط في انعقاد البيع أو لا؟.و لا دليل على هذا الشرط،و عدم الدليل في مثل هذه المسألة دليل على العدم،لأنه لو كان لوجب على الشارع البيان،مع أنّه لم يصل إلينا لا من طريق السنة و لا من طريق الشيعة،مع توافر الدواعي و البواعث على النقل،بخاصة في هذه المسألة،و ما إليها.

4-ان المأخوذ بالمعاطاة يصدق عليه اسم البيع عرفا و لغة،و لم تثبت الحقيقة الشرعية للبيع،و إذا صدق اسم البيع على المعاطاة شملها جميع ما دل على الصحة من الآيات و الروايات،مثل قوله تعالى أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ .و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ .و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .و مثل قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:المؤمنون عند شروطهم.و الناس مسلطون على أموالهم.و غير ذلك من الأدلة على صحة البيع،بل و لزومه أيضا.

و ملخص هذا الدليل الرابع الذي وصفه السيد بأنّه العمدة و الأصل في هذا

ص:25

الباب،ملخصه أنّا نعلم علم اليقين بأن الشارع قد أمضى البيع العرفي،و نعلم أيضا أن للبيع العرفي فردين:بيع بالصيغة اللفظية،و آخر بالمعاطاة،و ان الفرد الأول مراد للشارع قطعا،لأنه محل وفاق،أما الفرد الثاني فنشك:هل هو مراد له أو لا؟لمكان الاختلاف فيه بين الفقهاء،و لكن قول الشارع:أحل اللّه البيع،و ما إليه الظاهر بكلا الفردين على السواء يثبت أن البيع بالمعاطاة مراد له تماما كالبيع بالصيغة،و لو أراد البيع بالصيغة فقط لم يتكلم بما هو ظاهر بالفردين معا،لأنه، و الحال هذه،قد أراد شيئا خاصا،و تكلم بما هو أعم منه،و هذا عين الإغراء بالجهل الذي يتنزه عنه الحكماء.

هذا،إلى أن المعاطاة في هذا العصر قد انتشرت و عمت أكثر نواحي الحياة،فيها يشتري الناس ما يحتاجون من مأكل و ملبس و أثاث،لا يفرقون في ذلك بين الحقير و الخطير،و بها ينزلون في الفنادق،و يشتركون بالماء و الكهرباء و الهاتف،و يركبون الطائرات و السيارات،و ما إلى ذلك مما يتعاطون به على سبيل اللزوم،و عدم جواز الرجوع،حتى قبل التلف و التصرف الناقل،و كل ما تبانى عليه العرف فهو صحيح،و نافذ،بخاصة إذا عمت به البلوى إلاّ أن يرد فيه نهي خاص،أو يحلل حراما،أو يحرم حلالا،و لا آية أو رواية تشعر من قريب أو بعيد بالنهي عن المعاطاة،أو عن إحداث معاملة جديدة،بل ان مثل هذه المعاملة يتفق كل الاتفاق مع مبادئ الشريعة السهلة السمحة.

و ما دامت الأدلة تدل على أن المعاطاة تفيد الملك اللازم يتحتم أن تترتب جميع آثار الملك على العين المأخوذ بالتعاطي من جواز البيع و الهبة و العتق، و الانتقال إلى الوارث،و عليه فلا يبقى موضوع للثمرات التي فرعها الفقهاء على الفرق بين القول بإفادة المعاطاة للإباحة،و بين القول بإفادتها للملك.

ص:26

تنبيهات
اشارة

و بعد ان ذكر الفقهاء الأقوال في المعاطاة،و أدلتها،و ما قيل حولها،و ما يمكن أن يقال،و ما يتفرع على ذلك مما يكشف عن شدة مراسهم في الجدال و النقاش،و تمرن افكارهم،حتى أصبح لهم طبيعة ثانية،بعد هذا كله ذكروا تنبيهات ضمنوها فوائد تتصل بالموضوع،و نلخصها فيما يلي:

الإعطاء من جانب واحد:
اشارة

ليس من شك في أن المعاطاة تصدق بأوضح معانيها على الأخذ و الإعطاء من الجانبين،بحيث يكون كل منهما آخذا و معطيا في آن واحد.و هل تصدق المعاطاة على الإعطاء من جانب واحد فقط،كما لو كان المثمن حالا،و الثمن مؤجلا،أو بالعكس،ثم لو افترض ان هذا النوع لا يصدق عليه اسم المعاطاة لأنه فعل من جانب واحد،و هي مفاعلة من جانبين،فهل نعطيه حكم المعاطاة الحقيقية،و نرتب عليه جميع أحكامها،بحيث يكون خارجا عنها موضوعا، و داخلا فيها حكما؟.

الجواب:

ان هذا النوع من المعاملة لا يدخل في المعاطاة موضوعا،و لا يصدق عليه اسمها و عنوانها حقيقة و واقعا،لأن المعاطاة مفاعلة من الجانبين،و ليست فعلا من جانب،و لكن لفظ المعاطاة و تحديد معناها لا يهم الفقهاء،لأنّهم يهتمون بخصوص الألفاظ التي جاءت على لسان الشارع،و المفروض ان المعاطاة لم ترد في آية و لا رواية،و انما الذي جاء في دليل الشرع هو لفظ البيع،و تكلم الفقهاء عن المعاطاة،لأن اسم البيع يصدق عليها،لذا أعطاها البعض اسم البيع و حكمه، لعموم الدليل،و البعض الآخر اسم البيع دون حكمه مدعيا تخصيص الدليل،

ص:27

فالعبرة اذن،بالدليل عند الجميع،لا باسم المعاطاة.و الدليل الشرعي لم يفرق في الحكم بين الإعطاء من جانب،أو من جانبين بعد صدق اسم البيع على الاثنين.

اذن،فحكم الإعطاء من جانب هو حكم الإعطاء من الجانبين،و ان لم يصدق عليه اسم المعاطاة حقيقة،و ان شئت قلت:انّه خارج عن المعاطاة موضوعا، داخل فيها حكما.

و بهذا نجد تفسير قول الشيخ الأنصاري في المكاسب:«لا ريب أنّه لا يصدق على الإعطاء من جانب واحد معنى المعاطاة،و لكن هذا لا يمنع من اجراء حكمها عليه بناء على عموم الحكم لكل بيع فعلي،فيكون اقباض أحد العوضين تمليكا،أو مبيحا بعوض،و أخذ الآخر تملكا أو اباحة».

و علق السيد اليزدي في حاشيته ص 47 على ما قاله الأنصاري حول هذه المسألة،علق بقوله:«لا حاجة إلى هذا التطويل بعد أن كان المناط هو شمول الدليل الشرعي،لا صدق عنوان المعاطاة،و من المعلوم عدم الفرق في شمول الدليل لما يكون من طرفين،أو من طرف واحد».

و قال صاحب الجواهر:«لا يخفى عليك أن لفظ المعاطاة لم يرد في النص، حتى يكون الحكم تابعا له،و حينئذ فلا يشترط قبض العوضين،بل يكفي قبض أحدهما،كما نص عليه الشهيد الكركي».

و هذه الأقوال،و كثير غيرها للفقهاء صريحة في أن حكم الإعطاء من جانب كحكمه من الجانبين،على الرغم من اختلافهم في أن المعاطاة تفيد الملك،أو الإباحة.

الشروط:

هل يجب ان تتوافر في المعاطاة جميع الشروط المعتبرة في العقد،ما عدا

ص:28

الإيجاب و القبول اللفظيين،بحيث يشترط في معاطاة البيع ما يشترط في عقده، و في معاطاة الإجارة ما يشترط في عقدها،و هكذا كل معاملة تقع فيها المعاطاة، فإذا فقد شرط تفسد المعاطاة،و لا تصح،أو لا يجب اجتماع الشروط بكاملها، بل يكفي التراضي.و تظهر الثمرة فيما لو كان العوضان،أو أحدهما غير معلوم في البيع،مثل أن يقول المشتري للخباز:أعطني بهذه الليرة خبزا،و هو لا يعلم بكم الرغيف،أو يقول له:بعني ما عندك من الخبز بما في جيبي من الدراهم،أو يشتري بثمن إلى أجل غير مسمى،فإذا قلنا بأن المعاطاة لا بد فيها من توافر الشروط كاملة تكون هذه المعاملة فاسدة،حيث اتفق الفقهاء على أن العلم شرط في العوضين بالبيع،و ان قلنا بالعدم،لأن المعاطاة معاملة مستقلة برأسها عن البيع،و سائر العقود أمكن القول بصحة هذه المعاملة.

قال صاحب مفتاح الكرامة:في المسألة قولان.ثم اختار بأن المعاطاة لا يشترط فيها ما يشترط في العقد،و استشهد بأقوال جماعة من الفقهاء.

أما نحن فبعد أن اخترنا،و قلنا:ان المعاطاة فرد من البيع،و أعطيناها جميع أحكامه تحتم أن نعطيها جميع شروطه،و كذلك الشأن في سائر العقود،بدون فرق بين العلم بالعوضين و غيره،لأن الدليل الذي دل على اعتبار الشرط لم يفرق بين وقوع المعاملة بالصيغة اللفظية،أو بالفعل،و على هذا تكون المعاطاة باطلة إذا لم تتوافر فيها جميع الشروط التي لا بد منها في العقد.

المقايضة:

من باع سلعة بنقد،فصاحب السلعة هو البائع،و دافع النقد هو المشتري، و كذلك إذا باع سلعة بثمن معين،ثم أخذ من المشتري بدلا عنه سلعة بمقدار

ص:29

الثمن.و إذا بادل سلعة بسلعة،لا بقصد الثمن و المثمن،بل بقصد المعاوضة و المقايضة،فهل تصح هذه المعاملة،أو لا؟و على افتراض صحتها،فهل تقع بيعا،أو صلحا،أو معاملة مستقلة برأسها؟.و على افتراض صحتها بيعا،فأيهما البائع؟.و أيهما المشتري؟.أو أن كلا منهما بائع من جهة،و مشتر من جهة.

و قد تعددت في ذلك الاحتمالات و الأقوال،و مال الشيخ الأنصاري إلى صحة هذه المعاملة بيعا،و ان البائع من اعطى سلعته أولا،لأنه بهذا الإعطاء يكون موجبا،و آخذها يكون مشتريا،لأنه بهذا الأخذ يصير قابلا.و قال السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب:تقع صلحا،لأن فيها معنى المسالمة.و قال الشيخ النائيني:هي باطلة من الأساس،لأن المتبادلين قصدا البيع دون سواه،و لا يمكن أن تتصف هذه المعاملة بالبيع بحال،لعدم معرفة البائع و تمييزه من المشتري، كما أنه لا يمكن أن يكون كل من الطرفين بائعا من جهة،و مشتريا من جهة،لأنه متى حصل الإيجاب و القبول مرة واحدة،لا يبقى لهما محل ثانية،إذ هو تحصيل للحاصل،و أما عدم الاتصاف بغير البيع من المعاملات فلان غير البيع لم يقصد إطلاقا،فالقول بوقوعه مع عدم القصد معناه أن ما يقصد لم يقع،و ما وقع لم يقصد،و لا ملتزم بذلك.

هذا ملخص الأقوال في هذه المسألة.و الحق انها صحيحة و لازمة إذا صدرت من ذوي الأهلية،و كان العوضان قابلين للتمليك و التملك،و معلومين عند الطرفين،أما التسمية فإنها وسيلة لا غاية،فليسمها من شاء بما شاء بيعا أو صلحا أو تقايضا،أو نحو ذلك،ما دامت لا تحلل حراما،و لا تحرم حلالا.

ص:30

المعاطاة في غير البيع:

يجب ان لا ننسى ان السبب الموجب لصحة المعاطاة في البيع ليس المعاطاة بذاتها،و بما هي،و انما السبب هو صدق اسم البيع و عنوانه على المعاطاة فيه،و شمول أدلته لها،و عمل العقلاء بها،و المضي عليها،اذن،فكل معاطاة يصدق عليها اسم عقد من العقود،كالإجازة و الهبة،أو اسم إيقاع من الإيقاعات،كل هذه تصح،و تكون فردا للعقد أو الإيقاع الذي صدق عليها، و تشمله أدلته،حتى يثبت العكس،تماما كما هي الحال في البيع،و إذا لم يصدق عليها اسم عقد أو إيقاع تكون المعاطاة باطلة،لأنّا نشك في صحتها،و الأصل عدم ترتب الأثر.هذا هو الضابط المبدأ العام الذي اتخذه الفقهاء،أو أكثرهم لصحة المعاطاة في غير البيع.و لنا مسلك آخر نشير إليه قريبا.

و على أساس هذا الضابط قالوا:ان المعاطاة تجري في الإجارة و الهبة و القرض العارية و الوديعة و المزارعة و المساقاة،لصدق اسم الإجارة على المعاطاة في الإجارة،و القرض على المعاطاة،في القرض،و الهبة على المعاطاة فيها إلخ،فتشملها أدلة هذه العناوين،كما أن سيرة العقلاء مستمرة على ذلك منذ القديم،أما الزواج فلا تجري فيه المعاطاة،لعدم صدق اسم الزواج على المعاطاة فيه من الأساس،أو لأنه لا أثر لهذا الصدق على تقرير وجوده،لمكان الإجماع، و نص الكتاب و السنة،بل و ضرورة الدين،و مثله الوصية و الإيصاء و الطلاق و الظهار و اللعان و الإيلاء و العتق و الضمان و الكفالة،لأن هذه تتقوم بالقول و الصيغة اللفظية،و لا توجد بدونها تماما كالزواج.

أما الوقف فتصح المعاطاة فيه إذا كان على جهة عامة،كالمساجد و المقابر و المصحات،و لا تصح إذا كان على جهة خاصة،كالوقف على الذرية،و ما إليها.

ص:31

و اختلفوا في الرهن،فبعضهم اشترط الصيغة،و اكتفى آخرون بالمعاطاة فيه.

و باقي الكلام على كل في بابه إن شاء اللّه.

و هذا التفصيل-كما ترى-يرتكز على مبدأ حصر العقود بالمسماة فقط، أما على مبدأنا نحن من أن جميع المعاملات ما حدث و ما سيحدث جائزة ما لم تحلل حراما،أو تحرم حلالا-أما على هذا المبدإ فإن المعاطاة تجوز في كل شيء،و ان لم يصدق عليها عقد أو إيقاع معهود و معروف،على شريطة أن يتحقق التراضي،و أهلية العاقدين و العوضين،و ان لا تتنافى المعاملة مع شيء من مبادئ الشريعة الغراء.

ص:32

شروط العقد

اشارة

أشرنا فيما سبق إلى أن البيع هو«مبادلة مال بمال».و لا بد لهذه المبادلة من قول أو فعل يدل عليها،و هو العقد،و من طرفين يجريان المبادلة،و يقومان بها، و هما المتعاقدان،و من محل تقع عليه المبادلة،و هما العوضان المعقود عليهما، و نتكلم عن كل واحد من هذه العناوين الثلاثة بفصل مستقل،كما فعل الشيخ الأنصاري في المكاسب و غيره من الفقهاء.

ركنا العقد:

للعقد ركنان،هما الإيجاب و القبول،و لهما صور:

1-ان يكون كل منهما فعلا.

2-ان يكونا قولا.

3-ان يكون أحدهما قولا،و الآخر فعلا،مثل أن يقول زيد لعمرو بعتك هذا بعشرة،فيدفع عمرو العشرة،و يأخذ المبيع دون أن يتلفظ بشيء،و بديهة ان هذا بمنزلة قوله قبلت،بل أدل و أوضح.

4-أن يكونا بالكتابة و الإشارة.

و تقدم الكلام عن الصورة الاولى في الفصل السابق بعنوان المعاطاة،و أما

ص:33

إذا أراد المتعاقدان أن ينشئا الإيجاب و القبول باللفظ،لا بالإعطاء و الأخذ،فهل يجب عليهما الإنشاء بألفاظ خاصة،أو يجوز لهما أن ينشئا العقد،بكل ما دل على التراضي،و عده الناس عقدا؟.

نسب الأول إلى المشهور،و فرع على ذلك كثير من الفقهاء بحوثا استغرقت العديد من الصفحات،منها التحقيق و التدقيق في أن العقد هل يتم و ينعقد بالمجازات و الكنايات؟.و أيضا هل ينعقد بالجملة الفعلية فقط،أو بها و بالاسمية؟.و على الأول هل يجب أن يكون الفعل بصيغة الماضي؟.و ايضا هل يجب تقديم الإيجاب على القبول،و الموالاة بينهما،إلى غير ذلك من التطويل الذي لا طائل تحته،كما قال السيد كاظم اليزدي.و على آية حال،فسنعرض الصفوة من أقوالهم في ذلك،معرضين عن الحشو و الزوائد ما أمكن.

الحقيقة و المجاز:

نسب الشيخ الأنصاري إلى كثير من العلماء القول بوقوع العقد بالمجازات و الكنايات،و نقل كلماتهم الدالة على جواز البيع بلفظ ملكت،و عاوضت، و أسلمت إليك،و نقلته إلى ملكك،و نحو ذلك،ثم أتبعها بقوله:«و مع هذه الكلمات كيف يجوز أن يسند إلى العلماء أو أكثرهم وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له،و لا يجوز بالألفاظ المجازية».

و قال السيد اليزدي تعليقا على ذلك:«هل يجب أن يكون اللفظ المذكور في الصيغة دالا على المعنى بالحقيقة لا بالمجاز؟.و التحقيق جواز الاكتفاء بكل ما له ظهور عرفي بحيث يصدق عليه العقد و العهد،للعمومات العامة و الخاصة» و يريد بالعمومات العامة قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .و قوله وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً و بالعمومات الخاصة قوله أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ و حديث «البيع بالخيار».

ص:34

و قال السيد اليزدي تعليقا على ذلك:«هل يجب أن يكون اللفظ المذكور في الصيغة دالا على المعنى بالحقيقة لا بالمجاز؟.و التحقيق جواز الاكتفاء بكل ما له ظهور عرفي بحيث يصدق عليه العقد و العهد،للعمومات العامة و الخاصة» و يريد بالعمومات العامة قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .و قوله وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً و بالعمومات الخاصة قوله أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ و حديث «البيع بالخيار».

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يشتري المتاع،فيبدو له أن يرده هل ينبغي له ذلك؟.

قال:لا،إلاّ أن تطيب نفس صاحبه.و ترك التفصيل بين طرق البيع و ألفاظه في هذه النصوص و غيرها يدل على التعميم و الشمول لكل لفظ و استعمال، حقيقة كان أو مجازا.و بالإيجاز ان الكلام يحمل على المعنى الظاهر منه بصرف النظر عن سبب الظهور.

العربية:
اشارة

هل يتوقف انعقاد العقد باللغة العربية،أو أنّه ينعقد بها و بغيرها؟.

قال الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب:«الأقوى صحة العقد بغير العربي».و قال السيد اليزدي و الشيخ النائيني:كل ما يصدق عليه عنوان العقد يصح إنشاؤه به،سواء أ كان عربيا،أو أعجميا،فصيحا،أو ملحونا،و لو انحصرت العقود باللغة العربية فقط للزم العسر و الحرج،و انسد باب المعاش، و لوجب على كل مسلم-غير عربي-ان يتعلم صيغ العقود بالعربية،تماما كما يتعلم الحمد و السورة من أجل الصلاة،مع العلم بأن ذلك لم يرد في خبر و لا أثر.

صيغة الماضي:

قال كثيرون:يجب أن يكون لفظ العقد بصيغة الماضي،كبعت و قبلت،و لا يكفي أبيع و أقبل،لأن المضارع يحتمل الحال و الاستقبال،أمّا الأمر فهو بطلب

ص:

المفاوضة و المساومة أشبه،و كل ذلك،و ما إليه يتنافى مع الجزم الذي لا بد منه في العقد،أما الماضي فمتمحض للحال،و صريح في التحقق و الثبوت فيتعين.

و قال آخرون:ان الصيغة وسيلة للتعبير عن الرضا و الإرادة،و ليست غاية في نفسها،فكل ما دل على إنشاء العقد بذاته،أو بمعونة قرينة لفظية يتم،و ينعقد به العقد،سواء أ كان بالجملة الاسمية،أو بالفعلية بصيغة الماضي أو المضارع.

و قال الشيخ الأنصاري معلقا على هذا القول:«لا يخلو من قوة لو فرض صراحة المضارع في الإنشاء على وجه لا يحتاج إلى قرينة المقام» (1).

و قال:«ثم اعلم أن في صحة تقديم القبول بلفظ الأمر،كبعني،اختلافا كثيرا بين الفقهاء».

و الحق جواز ذلك إذا قصد به إنشاء العقد،دون الطلب و الاستدعاء،فلقد روى سهل الساعدي ان امرأة أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالت له:اني وهبتك نفسي، و قامت قياما طويلا،فقام رجلا،و قال:زوجنيها يا رسول اللّه ان لم يكن لك بها حاجة.فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:هل عندك من شيء تصدقها إياه؟.فقال:ما عندي إلاّ إزاري هذه.فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان أعطيتها إزارك بقيت بلا إزار،التمس و لو خاتما من حديد.قال:لا شيء لدي.قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:هل معك شيء من القرآن؟قال:نعم.قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلمها إياه.

و إذا تم عقد الزواج بصيغة الأمر،و هو قول الرجل زوجنيها فبالأولى غيره

ص:36


1- تنقسم القرينة إلى لفظية،كقولك:رأيت قمرا يمشي،فلفظة يمشي تدل على أنك أردت امرأة حسناء،و إلى قرينة حالية،كقول الأدنى للأعلى:أعطني،فإن حال الأدنى تدل على أنه أراد من الأمر،و هو أعطني الرجاء،لا الوجوب،و الشيخ الأنصاري أراد من قوله هذا ان التعبير عن الرضا يجب أن يكون بقرينة المقال،لا بقرينة الحال.

من العقود.

تقديم الإيجاب:
اشارة

ذهب المشهور إلى أن الإيجاب يجب أن يتقدم على القبول إطلاقا.و قال آخرون:بل يجوز تأخيره،و تقديم القبول عليه،لأنه في حقيقته إنشاء الرضا بالإيجاب،فإن تحقق ذلك صح،تقدم أو تأخر.و فصّل الشيخ الأنصاري بين أن يقع القبول بلفظ قبلت و رضيت و نحوه فلا يصح،لأنه غير متعارف من العقد، و بين أن يقع القبول بلفظ اشتريت و ابتعت،و ما إليه فيصح،لأنه يدل على إنشاء المعاوضة،و الرضا بتمليك الثمن بدلا عن المثمن.

اذن،فالكبرى محل وفاق،و هي أن السبب الأول هو ظهور اللفظ،لا مجرد تقديم الإيجاب،و اختلاف الفقهاء،انما وقع في الصغرى،أي في التطبيق و معرفة الفرد و المصداق،و على ذلك فكل ما صدق عليه اسم العقد فهو صحيح.

و يدل على جواز تقديم الإيجاب رواية سهل في زواج المرأة،مع العلم بأن الاحتياط في الزواج أشد و اولى منه في سائر العقود.

و تقول:إنما أجاز الفقهاء تقديم القبول في الزواج،لحديث خاص، فيجب الاختصار عليه،و إلحاق البيع و غيره بالزواج قياس.

الجواب:

إنّا نعلم علم اليقين بأن صحة التقديم في الزواج لم تكن لميزة خاصة به، بل لأن القبول حال تقديمه على الإيجاب معبر عن الرضا،تماما كما لو كان متأخرا،و العبرة بالتعبير و الوضوح،لا بالتقديم و التأخير،و بأسلوب ثان ان الزواج فرد و مورد للقاعدة الكلية التي استفدناها من طريقة العرف،هذا،إلى أن كثيرا من القواعد العامة تستخرج من بعض مواردها و إفرادها،و قد تكرر قول الفقهاء

ص:37

«الأصل في هذه القاعدة هذا المورد»حتى اشتهر بينهم ان خصوصية المورد لا توجب تخصص الوارد،و أوضح مثال على ذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام:

«اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه»حيث عمم الفقهاء وجوب الغسل من مماسة البول للثوب و الإناء و البدن و غيره،و كذلك قاعدة،«من أتلف مال غيره فهو له ضامن»فإنها مأخوذة من قول الإمام عليه السّلام:من أضر بطريق المسلمين فهو له ضامن.

الموالاة:

اتفقوا بشهادة السيد اليزدي ان العقود الجائزة،كالعارية و الوديعة و الوكالة لا تشترط فيها الموالاة بين الإيجاب و القبول،و ان الفاصل الطويل بينهما لا يمنع من الصحة،و اختلفوا في العقود اللازمة،كالبيع،و ما إليه،فذهب البعض إلى أن الموالاة شرط.و قال آخرون:انها ليست بشرط،و ان الواجب ان تبقى ارادة الموجب قائمة إلى حين القبول،فالعبرة ببقاء الإيجاب،و عدم رجوع الموجب عنه قبل القبول،أما الفاصل فوجوده و عدمه سواء،قال السيد الحكيم في نهج الفقاهة ص 105 طبعة 1371 ه:

«الظاهر الاكتفاء في تحقق العهد النفساني في نفس الموجب-أي الرضا و الإرادة-فإذا كان باقيا إلى زمن القبول كفى ذلك عند العرف،حتى مع الفصل الطويل،فإذا قال الموجب:بعتك الفرس بدرهم،فلم يقبل المشتري،فوعظه و نصحه و بيّن له الفوائد،حتى اقتنع و قبل صدق العقد،و ان كان مع الفصل بكلام أجنبي،كما أنه إذا لم يبادر المشتري إلى القبول،حتى اعرض الموجب عن الإيجاب،و بعد الاعراض قبل الموجب له لم يتحقق العقد،و هذا هو السر في

ص:38

عدم صدق العقد مع الفصل المفرط كسنة،أو أكثر».

و بهذا يتبين ان بقاء المجلس،أو انفضاضه ليس له أدنى تأثير بالنسبة إلى الإيجاب و القبول في الفقه الجعفري،و انما تأثيره بالقياس إلى ثبوت الخيار للمتبايعين بعد تمام الإيجاب و القبول،و انعقاد العقد،و بكلمة ان العبرة باتحاد شطري العقد،بحيث لا ينعدم أحدهما عند وجود الآخر،و هذا لا يرتبط باتحاد المجلس،إذ يمكن التفاهم و التخاطب،و عدم التراخي بينهما مع تعدد المجلس، كما يمكن ذلك مع اتحاده.

التعليق:

ليس من شك ان الإنشاء يتحقق منجزا و معلقا،و ان كل انسان يستطيع ان يتلفظ بالعقد مع القيد و بدونه،فيقول بعتك هذا،أو بعتك ان رضي زيد.

و لا يختلف في ذلك اثنان،و انما اختلف الفقهاء ان نفس المعنى المنشأ بالعقد:

هل يصح أن يكون معلقا على وجود غيره،بحيث يكون حصوله محتملا، لا متيقنا على كل حال،بل على تقدير دون تقدير؟.و بتعبير ثان ان للعقد وجودا حسيا،و هو إنشاء المتكلم له،و وجودا اعتباريا،و هو اعتبار الشارع له بترتب الآثار عليه،و العقد يوجد منجزا بكلا المعنيين و معلقا بالمعنى الأول إجماعا،أما وجوده معلقا بالمعنى الثاني فمحل النزاع و الاختلاف.

و ذهب المشهور إلى أن التعليق باطل،حيث يشترط ان يكون المتعاقدان على يقين من ترتب الأثر على العقد و التعليق مناف للجزم و اليقين.

و قال جماعة من الفقهاء:بل يصح التعليق إطلاقا،سواء أ كان الشرط المعلق عليه معلوم الحدوث عند العقد،كبعتك هذا،ان كان ملكي،أو معلوم

ص:39

الحدوث في المستقبل،كبعتك إياه ان جاء رأس الشهر،أو مشكوك الحدوث، كبعتك ان قدم زيد من سفره،و إلى هذا ذهب السيد اليزدي،و الشيخ النائيني، و السيد الحكيم.

قال الأول في حاشيته على مكاسب الأنصاري:لا يشترط الجزم بترتب الأثر على العقد حين إنشائه،و إلاّ بطل البيع بلا تعليق إذا لم يكن البائع أو المشتري على يقين من توافر الشروط الشرعية-ثم قال-و على افتراض وجود الإجماع على عدم صحة التعليق فإنه ليس بحجة في هذه المسألة،و ذلك أن الإجماع يعتمد عليه،و يؤخذ به إذا علمنا بأنه كاشف عن رأي المعصوم،و بدون هذا العلم يسقط عن الحجة و الاعتبار،و نحن نعلم أو نحتمل على الأقل ان المجمعين قد تخيلوا وجوب الجزم،و هو تخيل لا يقوم على أساس،كما بينا.

و قال الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري:«ان صحة تعليق المنشأ لا تخفى عليه أحد،بل وقوعه في الأحكام الشرعية لا يبلغه الإحصاء،فإن أغلب الأحكام الشرعية،بل جميعها إلاّ ما شذ قضايا حقيقية (1)و أحكام مشروطة على تقدير وجود موضوعاتها،و وقوعه بالجملة في العقود و الإيقاعات،كالوصية و التدبير،و النذر و العهد و اليمين مما لا اشكال فيه».

و قال السيد الحكيم في نهج الفقاهة:«لا دليل على اعتبار الجزم بأي معنى

ص:40


1- للقضية أقسام،منها القضية الطبيعية،و هي ما يكون الحكم فيها على الطبيعة من حيث هي،مثل الإنسان نوع،و القضية الحقيقية ما يكون الحكم فيها على الطبيعة من حيث إفرادها،مثل الإنسان ضاحك،فتشمل كل فرد من الإنسان ما كان منه،و ما يكون،و قضية خارجية،و هي ما حكم فيها ابتداء على الافراد الموجودة في الخارج بالفعل مثل غرق من في المركب،و قتل من في المعركة، و الأحكام الشرعية كلها من نوع القضية الحقيقية،فإن قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ خطاب لمن وجد،و من سيوجد من المكلفين دون استثناء.

فرض.و ان الرضا بشيء لا يتوقف على إمكان حصوله فضلا عن الجزم بوقوعه، فكما أن المنشأ يتعلق به الرضا كذلك المنشأ المعلق».

و هذه بديهة لا تقبل الجدال،فكلنا يرغب في وقوع أشياء لم تقع،مع الجزم بعدم وقوعها،و إذا لم يكن الجزم بترتب الأثر شرطا لانعقاد العقد جاز أن ينعقد معلقا على احتمال ترتب الأثر في المستقبل.

التوافق بين الإيجاب و القبول:

لا يتم العقد إلاّ بتوارد الإيجاب و القبول على شيء واحد،لأن اختلاف القبول و مغايرته للإيجاب يعتبر رفضا له،قال الشيخ الأنصاري:«لو اختلف الإيجاب و القبول في المضمون،فأوجب البائع البيع على وجه،و قبل المشتري على وجه آخر لم ينعقد،لأن الرضا يجب أن يتعلق بنفس الإيجاب.و مثال عدم التوافق أن يقول البائع:بعتك هذا بمئة،فيقول المشتري:اشتريت بعشرة،أو يقول:اشتريت نصفه بخمسين،و نحو ذلك».

فقد الأهلية قبل تمام العقد:
اشارة

كما يعتبر الإيجاب إلى حين القبول،و توافقهما على شيء واحد كذلك يشترط ان يبقى كل من المتعاقدين على صفات الأهلية إلى تمام العقد،فإذا خرج أحدهما عن الأهلية قبل الإيجاب لم ينعقد،قال الشيخ الأنصاري:«من جملة الشروط في العقد ان يقع كل من إيجابه و قبوله في حال يجوز لكل واحد من المتعاقدين الإنشاء،فلو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير أهل للقبول،أو خرج البائع حال القبول عن أهلية الإيجاب لم ينعقد».

ص:41

أما السيد كاظم اليزدي فقد فرق بين فقد القابل للاهلية عند انعقاد العقد في الصورة الأولى،و انعقاده في الصورة الثانية،فإذا قال زيد لعمرو:بعتك هذا، و كان عمرو نائما عند الإيجاب،ثم استيقظ،و بعد أن أعلموه بالإيجاب قال:

قبلت لم يصح،أما إذا نام زيد بعد ان أوجب البيع،و قبل عمرو نام زيد صح و تم العقد.

فوائد:

جاء في مطاوي كلمات الأنصاري فوائد،و هو يتكلم عن بقاء أهلية كل من الموجب و القابل إلى أن يتم العقد.

من هذه الفوائد،إذا أوصى شخص آخر،ثم مات قبل أن يقبل الموصى له تمت الوصية،لأنها ليست من العقود،كي يكون القبول ركنا لها،و انما هو شرط لتنفيذ الوصية فقط لا لصحتها،قال الشيخ محمد حسين الأصفهاني في حاشيته على المكاسب:الوصية ليست عقدا،و لا إيقاعا،و انما هي برزخ بين الاثنين.

و منها:إذا صدر الإيجاب من الموجب فللطرف الثاني،و هو الموجب له أن يقبل الإيجاب أو يرفضه،و كذلك للموجب أن يرجع عن إيجابه طالما لم يقترن بعد بالقبول،و متى تم العقد فليس لأحد الفسخ و العدول إلاّ برضا الآخر.

و منها:إذا أنشأ شخص الإيجاب مكرها،و قبل الآخر لا يتم العقد بالبداهة، و لكن إذا رضي و طابت نفسه بعد الإكراه صح العقد بالإجماع،و يأتي التفصيل إن شاء اللّه عند الكلام في شروط المتعاقدين.

الإشارة و الكتابة:

ص:42

ذهب المشهور إلى أن صيغة العقد لا يصح إنشاؤها بالإشارة و الكتابة إلاّ مع العجز عن النطق،و خالف النراقي في ذلك،قال في كتاب المستند:«تكفي الإشارة المفهمة،و كذا الكتابة،سواء تيسر التكلم أو تعذر خلافا للمشهور».

و الذي ليس فيه شك أن العرف يرى انعقاد العقد بالكتابة و الإشارة،و قد رأينا الناس،و منهم الفقهاء يرتبون الآثار عليهما كما يرتبونها على الأقوال بلا تفاوت،و إذا تم العقد بهما في نظر العرف شملها قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، و ما إليه من العموم.

الخلاصة:

و الخلاصة ان الشارع قد نص على أحكام البيع و الإجازة و الهبة،و ما إلى ذلك،و لم ينص على تحديد معانيها،فيتعين الرجوع في معرفتها الى العرف العام،فكل ما صدق عليه اسم من هذه الأسماء التي نص الشارع على أحكامها وجب ترتيب الآثار عليه،حتى يثبت العكس بدون فرق بين أن يكون فعلا أو قولا أو إشارة أو كتابة،و لا بين إجراء الصيغة بالعربية أو غيرها،و لا بين الجملة الاسمية أو الفعلية،و لا بين تأخر القبول و تقدمه،و لا بين الموالاة و عدمها،و لا بين التنجيز و التعليق،أجل لا بد من توارد الإيجاب و القبول على شيء واحد، و أيضا يجب أن يكون القابل على تمام الأهلية عند إيجاب الموجب،و لا يجب العكس،أي استمرار أهلية الموجب إلى حين القبول،بل يكفي وجودها حين الإيجاب فقط.

و من الخير أن نختم هذا الفصل بما جاء في كتاب الحدائق مجلد 5 ص 66 و 194 طبعة 1317 ه«من الفقهاء من أوجب ان يكون لفظ الإيجاب و القبول

ص:43

بصيغة الماضي،و منهم من أوجب قصد الإنشاء،و منهم من أوجب تقديم الإيجاب على القبول،و منهم من أوجب فورية القبول،مع عدم الضرر بفصل النفس و السعال،و منهم من أوجب العربية مع عدم المشقة،إلى غير ذلك و لا دليل على شيء مما زعموا بأن الشارع عين كيفية خاصة،بل المفهوم من كلمات أهل البيت عليهم السّلام ان كل ما دلّ على التراضي من الألفاظ فهو كاف في الصحة.

و على هذا جملة من محققي متأخري المتأخرين،و به جزم المحقق الأردبيلي، و المحقق الكاشاني،و الفاضل الخراساني،و الشيخ عبد اللّه بن صالح البحراني، و العلامة الشيخ سليمان،و هو الظاهر عندي من اخبار العترة الأطهار.أما القول المشهور بين الفقهاء فهو ليس بدليل شرعي في هذا الباب،و لا في غيره من الأبواب».

ص:44

خاتمة في المقبوض بالعقد الفاسد
اشارة

اعتاد فقهاء المذاهب ان يتعرضوا لحكم المقبوض بالعقد الفاسد بعد ان ينتهوا من الكلام عن صيغة العقد،و كان الأولى ان يأتي متأخرا في الترتيب عن شروط المتعاقدين،و المحل المعقود عليه،لأن الفساد قد يكون من جهة الصيغة نفسها،و قد يكون لفوات الأهلية في المتعاقدين،أو المحل.و لكن قد أخذنا على أنفسنا أن نرتب فصول هذا الكتاب و بحوثه على منهج الفقهاء،بخاصة كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري،لاهتمام العلماء به تدريسا و شرحا و تعليقا،و مهما يكن،فان الفقهاء تكلموا عن حكم المقبوض بالعقد الفاسد بعنوان«قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».و يتكفل هذا الفصل بيان معنى،القاعدة، و عكسها،و الدليل عليها،و المهم من أحكامها.

معناها:

العقد الصحيح هو الذي استجمع كل الشروط المعتبرة فيه،كتوارد الإيجاب و القبول على معنى واحد،و بلوغ المتعاقد و رشده،و أهلية العوضين للتمليك و التملك،و متى توافرت الشروط بشتى أنواعها تم العقد،و ترتبت عليه الأحكام و النتائج التي قررها الشارع لانعقاده،فإذا تبايع اثنان بالعقد الصحيح،

ص:45

و تقابضا الثمن و المثمن،فلكل منهما أن يتصرف في المقبوض كيف شاء،و تنفذ فيه تصرفاته دون استثناء،و إذا تلف في يده فعليه وحده النقص و الخسارة،حيث تنتقل إليه ملكية المقبوض،كسائر أملاكه.

و إذا عرفنا العقد الصحيح فقد عرفنا العقد الفاسد،و أنّه الذي لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة،و لا يترتب عليه أي أثر من الآثار الشرعية (1)فإذا تبايعا و تقابضا بالعقد الفاسد بقي المقبوض على ملك مالكه الأول،و لا ينفذ شيء من تصرفات الثاني فيه إطلاقا،كما لو لم يكن هنالك عقد من الأساس.

و بتعبير ثان ان المشتري إذا قبض المبيع بعقد صحيح-مثلا-ثم تلف في يده بآفة سماوية،أو غيرها يكون هو الضامن له،أي يذهب من ماله،و لا يحق له الرجوع بشيء على البائع،لأنه انتقل منه إلى ملك المشتري،و كذلك إذا تلف في يده،و كان قد اشتراه بعقد فاسد،فإنه يكون ضامنا له،و يذهب من ماله هو لا من مال البائع مع التلف،سواء أتلف بسبب منه،أو من غيره،لما سنذكره من الأدلة على الضمان في فقرة:«الدليل»و حيث ان العين مضمونة عليه،و قد تعذر ردها بالذات لمكان التلف وجب رد بدلها و عوضها من المثل أو القيمة،حتى مع عدم التعدي و التفريط،تماما كالغاصب إلاّ في الإثم و المؤاخذة،و كذا يجب على البائع أن يرد الثمن المسمى للمشتري،ان كان قائما،أو بدله ان كان قد تلف،و هذا هو المعنى المراد من قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

و تقول:ما ذا تصنع بالاذن المقارن للعقد الفاسد؟فان مقتضاه عدم ضمان القابض إلاّ مع التعدي و التفريط.

ص:46


1- ان ثبوت المهر و النسب و العدة،مع الزواج الفاسد ليس من آثار عقد هذا الزواج،بل من آثار الواقعة المادية،و هي الوطء بشبهة،لأن النكاح الشرعي يشمل الشبهة و الزواج الصحيح.

و لنا أن نجيب أن الاذن و الرضا لم يحصلا على كل تقدير،بل بناء على صحة العقد،فإذا فسد الأساس كان الفرع مثله.

و لم يفرق الشيخ الأنصاري في وجوب الضمان بين أن يكون كل من القابض و الدافع عالمين بالفساد،أو جاهلين،أو جهل أحدهما دون الآخر، لعموم النص و الفتوى.و مراده بالنص احترام مال المسلم،كما يأتي،و بالفتوى قول الفقهاء بالضمان بدون تفصيل و تقييد.

عكس القاعدة:

و مما ذكرناه في بيان معنى ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده يتضح معنى العكس،و هو ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده،و لذا قال السيد اليزدي:

«و قد علم من بيان معنى الأصل معنى العكس،فلا حاجة إلى التكرار».و مع ذلك نقول بإيجاز:ان كل عقد صحيح لا يوجب ضمانا فان الفرد الفاسد منه لا يوجبه أيضا،كالهبة،فكما أن العين الموهوبة بهبة صحيحة لا يضمن الموهوب له شيئا للواهب فكذلك أيضا لا يضمن له شيئا إذا قبضها بهبة فاسدة.و ذلك أن الواهب قد سلط الموهوب له على ماله مجانا،فيكون،و الحال هذه،غير مسؤول عن شيء على تقدير الصحة،فلا يكون مسؤولا أيضا على تقدير الفساد.

و بديهة أن هذا يتم إذا كان الواهب أهلا للتصرف،و مالكا للعين الموهوبة، لأن البحث انما هو في المعاملة التي لها فردان:أحدهما صحيح،و الآخر فاسد، أما التي ليس لها إلاّ فرد فاسد فقط،كهبة القاصر،أو غير المالك فهي أجنبية عن البحث،و الضمان فيها مؤكد بالاتفاق.

ص:47

الدليل:

و استدل الفقهاء على قاعدة«ما يضمن»بأدلة:

أولا:بقاء كل من العوضين على ملك صاحبه الأول،إذ المفروض أن سبب التمليك و التملك و هو العقد،فاسد،فيكون المسبب مثله.

ثانيا:الإجماع بشهادة صاحب مفتاح الكرامة،و الجواهر،و بلغة الفقيه، و غيرهم،قال الأول:طفحت بذلك عبارات الفقهاء.و قال الثاني:بلا خلاف أجده،بل الإجماع على ذلك بقسميه.و قال الثالث:الإجماع على القاعدة مستفيض.

ثالثا:الحديث النبوي المشهور:«على اليد ما أخذت،حتى تؤدي».و هو عام لكل يد يصدق عليها أنّها قد أخذت،سواء أ كان ما أخذت عينا أو منفعة.

رابعا:قول الإمام الصادق عليه السّلام:احترام مال المسلم كاحترام دمه.و قوله:لا يحل مال امرئ إلاّ عن طيب نفس.و قوله:لا يذهب حق أحد باطلا.

خامسا:قاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضامن،التي استنبطها الفقهاء من قول الإمام الصادق عليه السّلام:من أضر بطريق المسلمين فهو له ضامن.

المنافع:
اشارة

إذا كان للعين المقبوضة بالعقد الفاسد منافع استوفاها القابض فعليه ضمانها عند المشهور،تماما كالعين،لأنها تبع لها،و تشملها جميع الأدلة المتقدمة في ضمان العين.

و تقول:ان ضمان المنفعة لا يجتمع مع ضمان العين،لحديث:«الخراج بالضمان»أي ان استحقاق الخراج-و هو المنفعة-يكون في مقابل تحمل الخسارة.

ص:48

الجواب:

أولا:ان الحديث ضعيف للجهل بحال الراوي.

ثانيا:انّه خاص فيما إذا كان الضمان بسبب مشروع،و يدل على ذلك مورد الحديث،و هو أن شخصا اشترى عبدا من آخر،و بعد أن استخدمه وجد فيه عيبا قديما،فخاصم البائع إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فقضى برده على البائع،فقال:يا رسول اللّه قد اشتغل غلامي.قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الخراج بالضمان»أي لو هلك العبد في يد المشتري تحمل تبعة هلاكه،هذا،إلى أن الأخذ بعموم الحديث يستدعي أن تكون منافع المغصوب للغاصب،لأنه ضامن للعين المغصوبة فيكون خراجها له، و لا قائل بذلك.

المثلي و القيمي:
اشارة

لقد أطال الشيخ الأنصاري الكلام في المثلي و القيمي،مع العلم بأن هذين اللفظين لم يردا في آية أو رواية.

و تسأل:ان الفقيه لا يهتم إلاّ بالأحكام الشرعية و موضوعاتها،و إذا لم يكن للفظ المثل و القيمة عين و لا أثر في كلام الشارع فلما ذا اهتم الفقهاء بهما، و بتفسيرهما هذا الاهتمام.

الجواب:

أجل،و لكن ورد في كلام الشارع لفظ الضمان و الأداء و الوفاء،و معنى ضمان الشيء و وفائه هو الخروج عن المسؤولية بإرجاعه،بالذات،ان كان قائما، أو إرجاع بدله،ان كان تالفا،و البدل في نظر العرف هو المثل أو القيمة،فهما و ان لم يردا في كلام الشارع إلاّ أنهما يتصلان وثيقا بما جاء في كلامه.

ص:49

و معنى المثلي أن تتساوى أفراده في الصفات،و الآثار،و الثمن،بحيث إذا اختلط فردان منه،أو أكثر لا يمكن التمييز بينهما،كالحبوب و النقود من صنف واحد،و نسخ الكتاب من طبعة واحدة،و الأقلام و اذرع القماش من معدن واحد، و معمل واحد.أما القيمي فبالعكس،فلا تتساوى أفراده في الصفات و الآثار و الثمن-في الغالب-كالحيوانات و الدور و الأشجار.

و للسيد كاظم اليزدي في حاشيته على المكاسب تعليقا على المثلي و القيمي عظيم الفائدة،حيث نبه إلى أن المثلي قد يصير قيميا،و القيمي مثليا، و ننقله بالحرف لوضوحه،قال:«المثلي ما له مماثل في الأوصاف و الخصوصيات،و القيمي ليس كذلك،و هما يختلفان بحسب الأزمان و البلدان و الكيفيات،فان الثوب،و ان كان معدودا من القيمي إلاّ أنّه في مثل هذا الزمان يوجد الكثير من أصنافه التي تأتي من بلاد الإفرنج فيكون مثليا،و هكذا الكتاب المطبوع،و ما عده العلماء مثليا أو قيميا انما هو بالنسبة إلى الموجود في بلادهم و زمانهم.و من ذلك يظهر ان لا اعتبار بإجماعهم على كون الشيء الفلاني مثليا أو قيميا،لأنهم لم يستندوا في أقوالهم إلى دليل شرعي،فلو كان الموجود في زماننا على خلاف ما ذكروه لا تجب متابعتهم».

و تجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى أن القول بتبدل الأحكام بتبدل الأزمان انما يصح بالقياس إلى الموضوعات التي علق الشارع أحكامه بها،و ترك أمر تحديدها إلى العرف،كما هي الحال في المثلي و القيمي،و لا تمس الأحكام الشرعية،و مبادءها الاساسية من حيث هي لا من قريب و لا من بعيد،و عقدنا فصلا خاصا لهذا الموضوع في كتابنا«أصول الإثبات في الفقه الجعفري».

ص:50

شروط المتعاقدين

الأهلية:

تكلم فقهاء المذهب عن الأهلية،و أطالوا،حتى شغل كلامهم عنها حيزا كبيرا في كتب الفقه،و لكنهم،يا للاسف،لم يفردوها بفصل مستقل يدرجون فيه جميع مسائلها و أحكامها،كما فعل الحقوقيون الجدد،و انما تكلموا عنها حسب المناسبات في باب العبادات،و المعاملات،و الأحكام،و الجنايات،فتعرضوا في العبادات لصحة صوم الصبي و صلاته و حجه،و وجوب الزكاة في أمواله، و نيابته عن غيره،و في باب المعاملات لتصرفاته،و ما يتبعها،و في باب الأحكام لطهارته و نجاسته،و شهادته و لقطته،و حيازته للمباحات،و الولاية عليه و على أمواله،و الوصية له،و الوقف عليه،و ما يتحمله من نفقة الأقارب،و في باب الجنايات لتأديبه،و ضمان ما يتلفه،و ما إلى ذاك مما يحتاج إحصاؤه إلى بذل الجهد،و سعة الوقت.

و قسم الحقوقيون الجدد،و بعض الفقهاء القدامى الأهلية إلى أهلية الوجوب،و أهلية الأداء،و أرادوا بالأولى صلاحية الإنسان للتمتع بالحقوق التي جعلها الشارع له،و عليه دون حق استعمالها،و التصرف فيها،و أرادوا بالثانية صلاحيته لاستعمال ما له من حق،و نفاذ تصرفه فيه.

ص:51

و نوجز نحن الكلام عن الأهلية،كما أرادها الفقهاء من أقوالهم العديدة المتفرقة في شتى أبواب الفقه،و قد رأيناها تختلف عندهم باختلاف المراحل و الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته منذ تكوينه جنينا تاما في بطن امه،ثم انفصاله حيا،حتى يصبح مميزا،ثم عاقلا بالغا.و كذا تختلف أهلية العاقل البالغ باختلاف أحواله من الرشد و السفه،و الصحة و المرض،و العلم و العدالة،و القرابة و غيرها،و فيما يلي نشير إلى هذه الحالات كلها أو جلها:

1-الجنين،فإنه أهل لما يوصى له به،و يوقف عليه،كما يجب ان يحجز له من تركة أبيه أكبر نصيب،على أن لا ينفذ شيء من ذلك إلاّ بعد انفصاله حيا.

و هذا الحق يثبت لابن آدم بما هو حي،و لو كان جنينا في بطن أمه.

2-و بمجرد انفصاله حيا،و قبل أن يبلغ دون التمييز يصير أهلا لتحمل الديون،و منها ديون مورثة،على القول بانتقالها من ذمة الميت إلى ذمة الورثة، لا إلى أعيان التركة.

و يضمن الصبي و المجنون ما يحدثان من إتلاف أو عيب في مال الغير، و على الولي السداد من مالهما ان وجد،و إلاّ انتظر صاحب الحق قدرة القاصر على الوفاء.

و أيضا يملك الصبي ما يشترى و يوهب له،و تصح الشركة معه،و الصلح عنه،و البيع و الشراء و الزواج له،و ما إلى ذلك من العقود التي يجريها الولي لحسابه على الأصول الشرعية.و هذا الحق يثبت للإنسان بما هو حي غير أجنبي.

أما أقوال غير المميز و أفعاله فهباء،لا أثر لها إطلاقا،حتى و لو تمحضت لمنفعته (1).

ص:52


1- جاء في وسيلة النجاة للسيد أبو الحسن الأصفهاني ان المجنون و الصبي إذا التقطا ما دون الدرهم ملكاه،سواء أ قصدا التملك،أو قصده وليهما،و لم أر فقيها رتب أثرا شرعيا على قصد المجنون و الصبي غير المميز في اللقطة،و لا في غيرها،بل قال صاحب الجواهر،لا حكم لالتقاط الصبي، و ان كان مميزا مراهقا.

3-إذا دخل دور التمييز يصبح أهلا للصدقة عند المشهور،و صحة الوصية في الخير،و حيازة المباحات،و استحقاق الكون في الأمكنة العامة إذا سبق إليها،و امتلاك اللقطة إذا كانت دون الدرهم،كما أنّه يصير أهلا للتأديب على السرقة و اللواط،و ما إليه.

4-إذا بلغ عاقلا راشدا استقل في جميع تصرفاته المالية،و غير المالية، و إذا بلغ سفيها منع عن التصرف المالي إلاّ بإذن الولي.

5-من كان سليما من مرض الموت حقّ له أن يتصرف في جميع أمواله، و إلاّ منع من التصرف عما يزيد على الثلث.

6-العادل أهل للشهادة المثبتة للحق،و امامة الجماعة،و ولاية الحسبة.

7-المجتهد أهل للإفتاء و القضاء،و الولاية على الأيتام و المجانين و الغائبين.و الأب أهل للولاية على أولاده الصغار.

و المتحصل من كل ذلك أن أهلية كل شيء بحسبه،و لم اهتد إلى تعريف لها غير هذه الايماءة،إذ يستحيل فهمها مجردة عن مواردها،أما تقسيمها إلى أهلية الوجوب،و أهلية الأداء فتقسيم ناقص،لا يشمل جميع الموارد إلاّ بضرب من التكليف و التعسف،فان أهلية العادل للشهادة-مثلا-لا تثبت حقا له،و لا عليه،كي تدخل في أهلية الوجوب،كما أن الأدلاء بالشهادة ليست من آثار العدالة في شيء،كي تدخل في أهلية الأداء،و انما هي أثر من آثار العلم بالحق، و لذا جاز لكل عالم به أن يشهد عادلا كان،أو غير عادل.هذا مجمل القول في الأهلية،كما هي عند الفقهاء،و قد مهدنا به للكلام عن شروط المتعاقدين.

ص:53

ص:54

البلوغ
اشارة

للبيع أركان ثلاثة:العقد،و المتعاقدان،و المحل المعقود عليه.و تقدم الكلام عن العقد و شروطه،أما شروط المتعاقدين فهي العقل،و البلوغ،و القصد، و الاختبار،و السلطة على المعقود عليه،و عدم التحجير،لسفه،أو فلس،أو مرض موت،و ننتقل إلى التفصيل بعد هذا الإجمال.

المجنون:

يدل على اشتراط العقل العقل نفسه،و النقل،و الإجماع على أن بيع المجنون و شراءه باطل،و ان اذن له الولي،لعدم شعوره و الاعتبار لا بقصده،بل و لا ببلوغه،و يلحق به السكران،و المغمى عليه،و الغضبان الذي استولى الغضب على عقله،لتساوي الجميع في عدم الشعور و القصد.قال صاحب المستند:لا يصح البيع حال الغضب المستولي على العقل.

و لا فرق بين المجنون المطبق:و بين من يعتوره الجنون أدوارا إذا صادف الجنون حين العقد،و ان وقع حال الإفاقة صح بالإجماع.

ص:55

الصغير:

قال تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ (1).

و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي،حتى يحتلم، و عن المجنون،حتى يفيق،و عن النائم،حتى يستيقظ.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:يدفع للغلام ما له إذا بلغ و انس منه الرشد،و لم يكن سفيها و لا ضعيفا.

و سئل أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:متى يؤخذ الغلام بالحدود التامة؟.قال:إذا احتلم،أو بلغ خمس عشرة سنة،أو يحتلم،أو أنبت و أشعر قبل ذلك أقيمت عليه الحدود،و أخذ بها.قال السائل:فالجارية متى تجب عليها الحدود؟.قال:ان الجارية ليست مثل الغلام،انها متى تزوجت و دخل بها،و لها تسع سنين ذهب عنها اليتم،و دفع إليها مالها،و جاز أمرها في البيع و الشراء،و أقيمت عليها الحدود،و أخذ لها بها،و لا يجوز أمر الغلام في البيع و الشراء،و لا يخرج من اليتم،حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم،أو يشعر قبل ذلك،اي ينبت الشعر في وجهه.

اتفق الفقهاء على أن غير المميز لا تصح تصرفاته إطلاقا،و اختلفوا في تصرفات المميز على التفصيل التالي:

إسلامه:

إذا كان المميز قد تولد من أبوين غير مسلمين فحكمه حكمهما،فإذا أسلم

ص:56


1- النساء:6. [1]

قبل البلوغ يحكم بصحة إسلامه عند جماعة من الفقهاء،منهم الشيخ الطوسي- كما نقل عنه-و السيد اليزدي،و الشيخ النائيني،لأن السبب الموجب للصحة هو الإدراك،فإذا أدرك المراهق أن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صادق في دعوته أصبح مسلما.و قال كثيرون منهم صاحب الجواهر:لا يصح إسلامه،لرفع القلم عنه.

و الذي ليس فيه شك ان الإسلام حسن بذاته،و إذا لم يكن حسنه ملزما و واجبا بالقياس إلى الصبي المميز فلا أقل من الرجحان و الاستحباب،بخاصة على مبدأ من قال:ان كل واجب في حق البالغ فهو مستحب في حق الصبي.

عبادته:

ذهب المشهور إلى أن عبادة الصبي من الصوم و الصلاة و الحج شرعية لا تمرينية،و على هذا الشيخ الأنصاري،و السيد اليزدي،و الشيخ محمد حسين الأصفهاني،قال هذا الشيخ في حاشيته على المكاسب:«ان أدلة التكليف غير الملزمة لا مانع من شمولها للصبي».

و قول المشهور غير بعيد عن الأصول و القواعد،لأن العبادة حسنة بذاتها، و محبوبة للّه سبحانه بطبيعتها،و المميز يدرك ذلك،و يمكنه أن يتقرب بها إلى خالقه جل و عز،أمّا حديث رفع القلم فالمراد به رفع المؤاخذة التي تستدعي رفع الإلزام و الوجوب حتما،كما أن رفع الوجوب يستدعي رفع المؤاخذة كذلك.

و بكلمة أن معنى رفع القلم عن المجنون و الصبي و النائم أنهم غير مكلفين بما يستدعي تركه المؤاخذة و العقاب.و بديهة أن المستحبات لا مؤاخذة و لا عقاب على تركها،فالحديث-اذن-غير متعرض للمستحبات نفيا و لا إثباتا،و على هذا فلا يصح الاستدلال به على نفي التكاليف المستحبة،أو إثباتها.فتبقى الأدلة

ص:57

المثبتة للأحكام المستحبة على عمومها أو شمولها لكل مدرك مميز بالغا كان،أو غير بالغ.

وصيته و صدقته:

المشهور بين الفقهاء ان الصبي المميز إذا بلغ عشرا جازت وصيته و صدقته في وجوه المعروف،و فيه روايات كثيرة و صحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته.إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له فيما أعتق،أو تصدق،أو أوصى على المعروف.

قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور نقلا و تحصيلا،بل نسبه بعضهم إلى الفقهاء مشعرا بدعوى الإجماع».

و ألحق بعض الفقهاء وقف الصبي بوصيته في وجه البر استنادا إلى رواية تقول:ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن صدقة الغلام؟.فقال:نعم إذا وضعها في موضع الصدقة.

و المشهور بين الفقهاء عدم جواز الوقف منه،لأن الصدقة شيء،و الوقف شيء آخر،و لذا خصص لكل منهما باب مستقل في الفقه.

طلاقه:

نسب إلى ابن الجنيد القول بصحة طلاق الصبي إذا بلغ عشرا استنادا إلى رواية متروكة،لمخالفتها للعمومات،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا يجوز طلاق الغلام،حتى يحتلم».

و قال صاحب الجواهر:ان الرواية الدالة على صحة طلاق البالغ عشرا

ص:58

محمولة«على بعض الأمزجة في بعض البلدان الحارة التي ينبت فيها الشعر،أو يحصل الاحتلام مبكرا».

و قال الشيخ أسد اللّه التستري في كتاب المقاييس:لم أقف على رواية عن أهل البيت عليهم السّلام في غير الصدقة و الوصية سالمة من القدح في السند أو الدلالة.

تغريمه:

اتفقوا على أن الصبي و المجنون يغرمان في أموالهما ما يحدثانه في مال الغير من تلف أو عيب،لأن الضمان يستند إلى نفس الحادثة بصرف النظر عن القصد و الإرادة و العقل،و لذا اشتهر على السنة الطلاب و التلاميذ ان الأحكام الوضعية لا تختص بالبالغين و لا العاقلين،و منه تتضح عدم الملازمة بين الأحكام الوضعية و الأحكام التكليفية (1).

تأديبه:

أجمعوا على أن الصبي المميز يؤدب على ما يرتكبه من الكبائر،قال الإمام الصادق عليه السّلام:جيء برجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قد لاط بغلام،و شهد عليه الشهود،فأمر به،فضرب بالسيف،حتى قتل،و ضرب الغلام دون الحد،و قال له،:لو كنت مدركا-أي بالغا-لقتلتك لإمكانك إياه من نفسك.

ص:59


1- الأحكام التكليفية فيها نحو من البعث و الحث على الفعل كالوجوب و الزجر و الردع عنه كالتحريم،و ليس من شك أن هذا يحتاج إلى العقل و القصد و الاختيار،و إلى نية للقربة أحيانا،كما هي الحال في العبادة،أمّا الأحكام الوضعية فلا تتضمن شيئا من ذلك،و انما تتجه إلى صحة العمل و فساده،أو الضمان و ما إلى ذلك.

و قال صاحب الجواهر:و لو لاط الصبي و المجنون بمثلهما أدبا معا.

تملكه بالحيازة:

يملك المميز ما يحوزه من المباحات،كالمياه و الأعشاب و الحطب،و ما إليه،و كذا يملك ما يلتقطه إذا كان دون الدرهم،على قول،و له الحق فيما يحييه من أرض الموات،و الأولية فيما يسبق إليه من الأمكنة العامة،كالمساجد و الساحات و الأندية.

عقده:

المشهور بين فقهاء المذهب أن عقد المميز-غير البالغ-باطل،حتى و لو اذن الولي،سواء أوقعه أصالة عن نفسه،أو نيابة عن غيره،و سواء أ كان في الأشياء الحقيرة،أم الخطيرة إلاّ ما استثني من الصدقة و الوصية في الخير.لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:رفع القلم عن الصبي،حتى يحتلم.و قول الإمام الصادق عليه السّلام:عمد الصبي و خطأه واحد.و معنى هذا أن ما يفعله الصبي متعمدا تماما كالذي يفعله الكبير مخطئا،و عقد الكبير عن الخطأ لا أثر له فكذلك عقد الصبي عن عمد.قال الشيخ الأنصاري في المكاسب:«إذ جمعنا الأدلة بعضها إلى بعض فمقتضاها عدم الاعتبار مما يصدر عن الصبي-أي المميز و غيره-من الأفعال التي يعتبر فيها القصد،كإنشاء العقود أصالة و وكالة،و القبض و الإقباض، و كل التزام على نفسه من ضمان أو إقرار أو نذر أو إيجاز».

و خالف المشهور جماعة من الفقهاء،و قالوا بجواز معاملة الصبي المميز و صحتها مع اذن الولي،و من هؤلاء فخر المحققين ابن العلامة الحلي،و السيد

ص:60

كاظم اليزدي،و الشيخ الأردبيلي،و السيد الحكيم،قال هذا السيد في نهج الفقاهة:ص 183 طبعة 1371 ه:

«لا ينبغي التأمل في ثبوت سيرة العقلاء على ذلك في جميع الأعصار،و لم يثبت الردع عنها و الظاهر ان سيرة المتشرعة (1)كذلك،فلا ينبغي التأمل في حجيتها.اذن لا يبعد القول بصحة عقد الصبي إذا كان بإذن الولي،كما اختاره جماعة،منهم المحقق الأردبيلي،و قبله فخر المحققين في الإيضاح».

و قال آخرون:تجوز معاملة المميز في الأشياء الحقيرة فقط،كشراء باقة البقل،و البيضة،و الرغيف،و ما إلى ذاك،و لا تصح في غيرها.

و الحق الذي نؤمن به أن الصبي الفطن المأمون يملك جميع التصرفات التي تعود عليه بالنفع و الصلاح،لأن البلوغ وسيلة لا غاية،و لذا لو بلغ غير راشد يحجر عليه،فالعبرة-اذن-بالرشد،لا بالبلوغ،و نقول لمن لا يؤمن إلاّ«بالقيل و القال»:لم نتفرد نحن بذلك،فقد جاء في كتاب المقاييس للتستري ج:2 ص 4 طبعة 1322 ه ما نصه بالحرف:«بيع من بلغ عشرا و شراؤه حكي فيه قول بالجواز،و عزاه بعضهم إلى الشيخ-أي الطوسي شيخ الطائفة-و ذكره العلامة في التذكرة وجه لأصحابنا.و قال في التحرير:و في رواية صحة بيع الصبي إذا بلغ عشر سنين رشيدا،و ذكر الصيمري نحو ذلك».

و جاء في مفتاح الكرامة كتاب المتاجر ص 170:«و نسب إلى الشيخ تارة، و بعض الأصحاب أخرى جواز بيعه إذا بلغ عشرا عاقلا.و الموجود في كتاب

ص:61


1- الفرق بين سيرة العقلاء،و بين سيرة المتشرعة أن الأولى عبارة عن استمرار عمل العقلاء على شيء بما هم عقلاء،بصرف النظر عن الدين و التدين،حتى ان الملحدين يدخلون فيها،و هي المعبر عنها بالعرف،أما الثانية فهي استمرار الفقهاء المسلمين على العمل بما هم فقهاء ملتزمون بأحكام الشريعة.

المبسوط روي أنّه إذا بلغ عشر سنين و كان رشيدا كان جائز التصرف».

و هذه الرواية تخصص الروايات الأخر،و يكون معناها مجتمعة أن أمر الصبي لا يجوز في الشراء و البيع،حتى يبلغ 15 سنة (1)أو يحتلم،أو يشعر،أو يبلغ العشر راشدا.

و يؤيد ذلك قول المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد:«إذا جاز عتق الصبي و وصيته بالمعروف،و غيرها كما هو ظاهر الكثير من الروايات فلا يبعد جواز بيعه و شرائه،و سائر معاملاته إذا كان بصيرا رشيدا مميزا،يعرف نفعه و ضره في المال،و طريق الحفظ و التصرف،كما نجده في كثير من الصبيان،فإنه قد يوجد بينهم من هو أعظم في هذه الأمور من آبائهم،فلا مانع أن يوقع الصغير العقد خصوصا مع اذن الولي،و حضوره بعد تعيين الثمن».

فقوله خصوصا اذن الولي صريح في أن معاملة الصبي جائزة بدون اذن الولي،و لكنها تتأكد معه.و كلنا يعلم مكانة الأردبيلي الدينية و العلمية،حتى اشتهر بالمقدس،و وصف بالمحقق عند الجميع(ت سنة 993 ه).

إجازة الصبي و المجنون:

إذا صدرت صيغة العقد من الصبي الذي لا تصح تصرفاته،ثم أجاز بعد أن يبلغ،أو أجاز المجنون بعد أن يفيق،أو النائم بعد أن يستيقظ،أو السكران بعد زوال أثر السكر،و المغمى عليه بعد ذهاب الإغماء،كل هؤلاء لا أثر لاجازتهم،إذ لا يعتد بعقودهم،و لا بشيء من تصرفاتهم من الأساس،و إذا لم يوجد العقد فلا يبقى للإجازة من موضوع تتعلق به،و ترد عليه.

ص:62


1- و في بعض الروايات ثلاث عشرة سنة،و هي تعزز ما قلناه.

و بكلمة ان العقل و البلوغ شرطان في أصل العقد و وجوده،لا أنّ العقد موجود بالفعل،و لكن الجنون و الصغر مانعان من نفاذه،حتى إذا زالا أثر العقد أثره.

ص:63

ص:64

القصد و الاختيار
العبرة بالقصد:

اتفقوا قولا واحدا على أن الألفاظ و الأفعال بما هي لا اثر لها إطلاقا في المعاملات و الإيقاعات و الإقرارات و الشهادات و غيرها،و انما تكون حجة يترتب عليها الأثر الشرعي من حيث تعبيرها عن القصد،فهو الأصل و الأساس، قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إنما الأعمال بالنيات.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا طلاق إلاّ لمن أراد الطلاق.إلى غير ذلك من أحاديث الرسول،و روايات أهل البيت عن جدهم.فإذا علمنا بطريق من الطرق عدم قصد المعنى من اللفظ يكون وجوده و عدمه سواء.

و تكرر ذلك في كتب الفقه،بخاصة المعاملات،قال السيد اليزدي في حاشية المكاسب:«لو علم من المتكلم عدم القصد إلى اللفظ،أو مدلوله،أو عدم قصد الإنشاء بطل».

و قال الشيخ التستري في المقاييس:«ان العقد غير المقصود ليس عقدا في الحقيقة،لأن تأثير الصيغة ليس تعبدا محضا،كما هي الحال في أذكار الصلاة، و انما تسمى الصيغة عقدا بضميمة المقصود منها إيجابا و قبولا».و قال الشيخ الأصفهاني في حاشيته على المكاسب:«لا صيغة بلا قصد»إلى غير ذلك من

ص:65

العبارات التي لا يبلغها الإحصاء،و كلها تدل على أن العقد يستمد وجوده من القصد،لا من شكل العقد،و وجوده كيف اتفق،و إلاّ لم يجز الطعن فيه بعدم القصد،أو الإكراه،و قد اشتهر أن العقود تتبع القصود.

و تقول:إذا كان القصد من مقومات العقد،فلما ذا ذكره الفقهاء مع شروط المتعاقدين،لا مع شروط العقد؟.

و الجواب،أجل هو من مقدمات العقد،و انما ذكره الفقهاء مع شروط المتعاقدين،لشدة ارتباطه بهما،و عدم انفصاله عنهما،تماما كالعقل و البلوغ.

القصد بلا إكراه:

معنى القصد بلا إكراه الذي يترتب عليه الأثر الشرعي أن يريد المتعاقدان إنشاء العقد طلبا لآثاره،و الأخذ بها،دون ضغط و إكراه من أحد-مثلا-إذا قال:

بعتك داري بكذا،و كان قاصدا الإنشاء،و ما يترتب عليه من انتقال الدار من ملكه إلى ملك القابل بلا إكراه كان الإيجاب صحيحا،و إذا علمنا أنّه تلفظ به من غير قصد،أو كان قاصدا للإنشاء،و لكنه غير قاصد لآثاره،أو قصدها،و لكن هذا القصد نشأ و تسبب عن الإكراه بطل العقد،و يتفرع على ذلك الكثير من الفروع و الثمرات،نشير فيما يلي إلى طرف منها.

النائم و اخوته:

لا أثر للإيجاب أو القبول إذا صدر من الناسي،أو النائم،أو المغمى عليه، أو السكران،أو من استولى الغضب على عقله،لعدم القصد من الأساس،و كذلك إذا قصد الاخبار أو الاستفهام،دون الإنشاء،أما قصد الإنشاء من الهازل فلا يعتد

ص:66

به ما دام لم يتجه اتجاها جديا لآثار العقد،و الأخذ بها،و مثله تماما العقد الصوري الذي بني على التواطؤ.

الإكراه:

إذا قصد الإنشاء طلبا لآثاره،و العمل عليها،و لكن تولد هذا القصد من الضغط و الإكراه،فلا أثر،لقصده هذا بالإجماع،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:رفع عن أمتي الخطأ و النسيان،و ما استكرهوا عليه،و قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يقع الطلاق بإكراه،و لا سكر،و لا على غضب.

و تقول:كيف يجتمع الإكراه و القصد،مع العلم بأن الإكراه هو عدم القصد، أو مستلزم له؟.

و نجيب بأن الظالم القوي لو هددك و توعدك إذا امتنعت عن بيع دارك تولد في نفسك خوف الضرر و من هذا الخوف تتولد الرغبة في البيع دفعا لما هو أكثر ضررا،و أعظم خطرا،فاجتمع،و الحال هذه،قصد البيع مع السبب الباعث عليه، و هو الإكراه،قال السيد اليزدي:«ان المكره مريد للفعل في الخارج.و الحامل له على الفعل ليس إلاّ عقله الحاكم بوجوب دفع المفاسد،و ارتكاب ما هو أقل ضررا».و قال الشيخ الأنصاري:«ان المكره يختار الفعل لاستقلال العقل بوجوب اختياره دفعا للضرر،أو ترجيحا لأقل الضررين».

هذا،و ليس من الضروري أن يقصد المكره(بالفتح)البيع،و ينوي انتقال العين من ملكه،بل قد يتلفظ بالإيجاب غير قاصد لمدلوله فيقع باطلا لعدم القصد،لا للإكراه،و لكن لو افترض أنّه قصد و نوى البيع و التمليك يكون قصده هدرا لا أثر له،ما دام ناشئا عن الإكراه،و بكلمة ان الإكراه يتعلق بالمقدور،

ص:67

و القصد غير مقدور،فلا إكراه عليه بالذات،و انما الإكراه على نفس الفعل،و مع ذلك لو حدث الفعل المكره عليه عن قصد لا يترتب عليه أثر إذا كان القصد موافقا لغرض الظالم المكره.

إسلام الخائف:
اشارة

و تسأل:لقد ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال:أمرت أن أ قاتل الناس،حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه،و قبل إسلام من نطق بالشهادتين خوفا من السيف،و عامله معاملة المسلمين،و على هذا ينبغي ان تصح المعاملة مع الإكراه،بل أن صحتها أولى،لأن الإسلام أصل،و المعاملات فرع.

الجواب:

ان آثار الإسلام،كحقن الدماء و الأموال،و المناكحة و التوارث انما تترتب على الشكل فقط،و هو مجرد النطق بالشهادة،لا على الإسلام واقعا،فالمطلوب هو التسليم بأي دافع كان،و من تتبع تاريخ الإسلام و نبيه الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجد أن هذا الباب أوسع بكثير من باب العقود و الإيقاعات،و الغاية من ذلك الرغبة في انتشار كلمة لا إله إلاّ اللّه،محمّد رسول اللّه،و إعلانها في كل قطر و جيل.

المضطر:
اشارة

إذا اضطر إنسان إلى بيع داره-مثلا-مع حاجته إليها،و لكن دعت الضرورة إلى حاجة أشد،كوفاء الدين،أو الإنفاق على العيال،أو التطبيب،إلى غير ذلك مما تستدعيه الظروف الخاصة،إذا كان الأمر كذلك يتم البيع و يصح.

و تقول:ان المضطر تماما كالمكره كلاهما أوقع البيع دافعا للضرر الأشد،

ص:68

فكيف صح بيع المضطر،دون المكره؟.

الجواب:

أولا:أجل،ان كلا من المضطر و المكره لم يقصد البيع إلاّ دفعا لأشد الضررين،و لكن الفرق أن المضطر قد ألجأته ظروفه الخاصة إلى البيع،دون أن تتوسط ارادة الظالم في هذا الاضطرار،أمّا المكره فإنه في سعة من ظروفه،و ربما في غنى عن بيع داره،و انما ألجأه إليه ضغط الظالم و إكراهه عليه،لذا صح في الأول دون الثاني،و بكلمة ان الذي يفسد البيع هو الإكراه،لا مجرد الكراهية.

ثانيا:ان أحكام الشريعة الإسلامية ترتكز على التوسعة،و عدم الحرج و الضيق،و لو قلنا بفساد بيع المضطر الذي ألجأته ظروفه إليه للزم بقاؤه فيما هو أشد ضيقا و حرجا،و يتنافى هذا مع مقاصد الشريعة السمحة،فبيع المضطر أشبه بمن اختار قطع عضو من أعضائه لحفظ حياته،كما قال السيد اليزدي.

و هذا بعكس من أكرهه الظالم على البيع،حيث يلزم من القول بصحة بيعه تبرير الظلم،و إقرار الظالم على ظلمه.و بالاختصار ان مصلحة كل من المضطر و المكره،و الاحتفاظ بحريته و كرامته يستدعي صحة معاملة المضطر دون المكره.

ثالثا:ان العرف يفرقون بين المضطر و المكره،و يرون صحة بيع الأول دون الثاني،و تجدر الإشارة إلى أن المضطر و المكره يشتركان معا في رفع الحكم التكليفي كالوجوب و الحرمة،فمن اضطر إلى أكل لحم الميتة-مثلا-لا يؤاخذ بشيء،تماما كمن أكره عليه،ذلك أن السبب لرفع التكليف و المؤاخذة هو دفع الضرر المتحقق في المكره و المضطر.و يفترقان في الحكم الوضعي،كالصحة و الفساد،حيث نحكم بصحة معاملة المضطر دون المكره،و السر أن الإكراه يرفع

ص:69

التكليف و الوضع معا،لا التكليف فقط،كما هي الحال في الاضطرار.

معنى الإكراه:

1-لم يحدد الشارع معنى الإكراه،فيتعين الرجوع إلى العرف،و يتحقق عندهم بخوف الضرر على النفس و المال و العرض،و قال بعض الفقهاء:يختلف الخوف باختلاف الأشخاص،و مكانتهم الاجتماعية-ما عدا الخوف على النفس- فقد يكون التهديد بالشتم ضررا بالنسبة إلى شخص،و ليس بشيء بالنسبة إلى آخر.و الاولى أن يحدد الإكراه بما يستند إليه الفعل،بحيث لولاه لم يحصل، سواء أ كان الخائف عظيما،أم حقيرا،هدد بالشتم،أم بالضرب.

الإكراه بحق:

استثنى الفقهاء من الإكراه ما كان بحق،كإكراه الحاكم المحتكر على بيع الطعام أيام المجاعة،و بيع مال لوفاء الدين،أو نفقة عيال،أو بيع الحيوان إذا امتنع أو عجز صاحبه عن نفقته،أو طلاق الزوجة لسبب مبرر،إلى غير ذلك من الإكراه الذي أمر اللّه به.

اجازة المكره:

قال الشيخ الأنصاري:«المشهور بين المتأخرين ان المكره لو رضي بعد ذلك بما فعله صح العقد،بل نقل الاتفاق عليه،لأنه عقد حقيقي،فيؤثر أثره».

ذلك ان المانع من صحة العقد الإكراه و عدم الرضا،فإذا ارتفع الإكراه، و وجد الرضا بالعقد كان شأنه شأن العقود الصحيحة التي يجب الوفاء بها،أما

ص:70

اقتران العقد بعدم الإكراه فلا دليل عليه،فيكفي-اذن-مطلق الرضا تقدم أو تأخر.

و بكلمة ان العقد موجود،و لكنه اقترن بوجود المانع من نفاذه،فإذا ارتفع المانع،و هو الإكراه أثر العقد أثره.

و لا يعتد برضا الهازل و الساهي و النائم و من إليه،لعدم الاتجاه إلى آثار العقد حين التلفظ به،بل ان النائم و السكران و المغمى عليه مسلوبو العبارة.و إذا رضي المكره بعد العقد،فهل يكون رضاه كاشفا عن ترتب آثار العقد من حين إنشائه،أو ناقلا الملكية حين الرضا به؟.و على الأول يكون النماء المتخلل بين العقد و الرضا للقابل،و على الثاني يكون للموجب.

و قال الشيخ الأنصاري:«الأقوى بحسب الأدلة النقلية هو الكشف،لا النقل، كما سيجيء في مسألة الفضولي».و يأتي الكلام عنه في الفصل التالي.

الإكراه على المال:

إذا طلب الظالم من شخص مبلغا من المال،و هو لا يملك شيئا منه فاضطر إلى بيع داره،ليدفع الظلم بثمنه عن نفسه،فهل يقع البيع صحيحا أو يبطل؟.

و لا بد في الجواب من التفصيل،فإذا كان قصد الظالم متجها منذ البداية إلى حمل المظلوم على بيع داره،و جاء طلب المال وسيلة لهذه الغاية،لعلم الظالم بأن المظلوم يعجز عن الدفع إلاّ بالبيع،إذا كان الأمر كذلك بطل البيع،لأن الإكراه متجه إلى البيع أولا و بالذات،و إذا لم يقصد الظالم إلاّ أخذ المال من أي سبيل اتفق،قال الفقهاء:يصح البيع،لأن الإكراه قد تعلق بدفع المال،لا بالبيع،قال الشيخ الأنصاري:«من اكره على دفع مال،و توقف على بيع بعض أمواله فالبيع الواقع منه صحيح،و ان كان لدفع الضرر المتوعد به إلاّ أنّه ليس مكرها».

ص:71

و الحق أن البيع يصح إذا استطاع المظلوم ان يدفع المال بغير البيع و لو بالدين،و مع ذلك اختار البيع،و يبطل إذا انحصر الدفع بالبيع فقط،بخاصة إذا باع على الظالم نفسه،لأن الفعل يستند و الحال هذه،إلى الإكراه،بحيث لولاه لم يقع.

تعيين المالك:

تعرض فقهاء المذهب الجعفري-أثناء كلامهم عن القصد-لمسألتين هامتين:

1-ان كلا من المثمّن و الثمن تارة يكون محسوسا و موجودا في الخارج، كالدار و البستان،و ما إليهما،فيقول البائع:بعتك هذه الدار بهذا البستان،و أخرى لا يكون له وجود خارجي،بل كليا في الذمة،كبعتك طنا من الحنطة بألف ليرة، فإن مثل هذا يصح،حتى و لو لم يملك البائع حبة واحدة من الحنطة و المشتري ليرة حين البيع.

فان كان العوضان من الموجودات الخارجية فلا يعتبر قصد من يملكهما على سبيل التعيين،بل يكفي قصد العوضين الموجودين بالفعل المرئيين للعيان، و قصدهما بالذات،هو قصد إجمالي لمن له الملك.و بتعبير ثان ان الغرض من البيع،و سائر المعوضات المالية هو مبادلة مال بمال،و هذه المبادلة تستدعي معرفة المالين،لا معرفة المالكين لهما،قال الشيخ الأنصاري:«مقتضي المعاوضة و المبادلة دخول كل من العوضين في ملك الآخر.و على هذا فقصد العوض و تعيينه يغني عن قصد المالك و تعيينه».و متى تم الإيجاب و القبول على العوضين الخارجيين ينظر:فان كان المتعاقد أصيلا أو مأذونا لزمت المعاملة دون أن تتوقف على شيء،و ان كان فضوليا توقف نفاذها على الإجازة.

ص:72

و ان كان العوضان في الذمة لا في الخارج فلا بد من تعيين صاحبها،إذ لا يعقل مطالبة شخص غير معين،و لأن الذمة من حيث هي لا تصلح موضوعا للمعاوضة إلاّ مع التعيين و التشخيص،لأن الذمة أمر اعتباري لا توجد إلاّ بوجود صاحبها،و إذا لم يكن لها وجود مستقل فكيف يتعلق بها الشيء الموجود؟.قال السيد الحكيم في نهج الفقاهة:«إذا لم يكن العوضان خارجيين اعتبر القصد إلى من له العقد،لأن الذميات لا يصح أن تكون موضوعا للمعاوضات إلاّ بإضافتها إلى ذمة معينة».

شخصية المتعاقد:

2-هل لشخصية المتعاقد تأثير في لزوم العقد-مثلا-إذا أوقع معاملة مع شخص معتقدا أنّه زيد،فتبين أنه عمرو،فهل يحق للمشتبه أن يفسخ؟ قال الفقهاء:يختلف الحكم في ذلك باختلاف الرغبات،فان كان الغرض من العقد هو نفس المعقود عليه،و تبديل كل من العوضين بالآخر بغض الطرف عن شخصية المتعاقد،و عن كونه أصيلا،أو وكيلا،أو فضوليا،فان كان الأمر كذلك تلزم المعاملة،و ليس لأحد المتعاقدين الرجوع و الفسخ إلاّ مع شرط التعيين،و ان كان الغرض من العقد نفس المتعاقد لا المعقود عليه،كعقد الزواج و الهبة و الوصية و الوقف و الوكالة فتجب معرفة كل من المتعاقدين للآخر،بحيث إذا انكشف الخلاف يثبت للطرف الآخر حق الفسخ.

قال السيد اليزدي في حاشية المكاسب:«يجب تعيين كل من الطرف، و علم الآخر به إذا كان ركنا في المعاملة،بحيث تختلف الرغبات نوعا باختلافه، كما في الزواج،فان الزوجين فيه بمنزلة العوضين،تختلف الأغراض

ص:73

باختلافهما،و كذا في الوقف بالنسبة إلى الموقوف عليه،فان الغرض متعلق بالموقوف عليه،أما الواقع فلا،و كذا في الهبة،فإن الواهب يختلف غرضه في هبة ماله بالنسبة إلى الأشخاص،و كذا في الوكالة،و أمثالها.بخلاف البيع،فان الركن فيه هو العوضان،و لا يتعلق الغرض غالبا بالمالك.فتعيينه غير لازم، و تخلفه مع عدم اشتراطه لا يوجب البطلان و لا الخيار».

و بالإجمال ان المعنى المراد من أقوال الفقهاء على طولها في هذه المسألة تتلخص في هذه الجملة،و هي أن الشخص المخاطب بالإيجاب ان كان قد اعتبر وسيلة،لا غاية فليس للموجب ان يختار الفسخ،ان استبان خلاف القصد،كما هي الحال في البيع،و غيره من العقود التي لا يقصد منها إلاّ مجرد المعاوضة، و بالأولى العقد الذي يراد به مجرد وقوع الفعل من أي كان،كجعل جائزة معينة ممن يفقد شيئا لمن يأتي به،و كتنفيل الإمام عليه السّلام بقوله:من قتل فلانا فله كذا،و من أحيا أرضا ميتة فهي له.فان الملتزم له مجهول من الأساس،و مع ذلك أجمع الفقهاء على صحة الالتزام.

و ان كان الشخص المخاطب قد اعتبر غاية،لا وسيلة يثبت له حق الفسخ إذا تبين أنّه غير المقصود،كما هو الشأن في الزواج و الوقف و الوصية و الهبة و الوكالة.

مخاطبة الوكيل:

إذا علم الموجب ان القابل وكيل،فهل يصح أن يوجه إليه الخطاب،و يقول له:زوّجتك،و بعتك،أو يجب أن يقول:زوّجت موكلك،و بعت موكلك؟.

قال أكثر الفقهاء:لا بد من التفصيل بين العقد الذي اعتبر فيه المتعاقد

ص:74

وسيلة لا غاية،كالبيع و الإجارة،و بين العقد الذي اعتبر فيه المتعاقد ركنا و غاية، لا وسيلة كالزواج،و في الأول يصح أن يخاطب الوكيل بخطاب الأصيل دون الثاني،و يقول للوكيل:بعتك أو بعت موكلك،و لا يقول له:زوّجتك،بل يجب أن يقول:زوّجت موكلك.

و قال السيد اليزدي في حاشية المكاسب:«التحقيق الجواز في الكل مع نصب القرينة،لعدم المانع من مثل هذا الاستعمال».

و هو الحق،لأن العبرة بظهور القصد،و معرفة المراد من اللفظ،لا باللفظ من حيث هو،و عليه يصح أن يقول للوكيل:زوّجتك إذا علم يقينا أن المقصود و المراد هو الموكل لا الوكيل،فلقد قرر علماء اللغة أن النسبة تصح لأدنى ملابسة، كهذا مكانك،و من هنا طريقك،يريدون المكان اللائق بالمخاطب،و الطريق المؤدي إلى بيته،أو بلده.

الوكيل و حكم العقد:
اشارة

للعقد أحكام و آثار خاصة تترتب عليه،سنذكرها إن شاء اللّه بعد الانتهاء من شروط المتعاقدين،و شروط المعقود عليه،و من هذه الأحكام حق البائع بمطالبة المشتري بالثمن،و حق المشتري بمطالبة البائع بالمثمن،و رجوع كل على الآخر عند ظهور العيب في العوض الذي انتقل إليه.

و موضوع الكلام في هذه الفقرة أن المتعاقد إذا باع،أو اشترى لغيره لا لنفسه،كما لو كان وكيلا،فهل للطرف الآخر الذي باشر معه العقد أن يطالب الوكيل بالعمل على أحكام العقد و آثاره،أو يطالب الموكل،أو له الرجوع على أيهما شاء؟.مثلا-أجرى زيد معاملة بيع داره مع عمرو،و لكن عمرا اشتراها

ص:75

لموكله خالد،لا لنفسه،فهل المسؤول عن الثمن عمرو،أو خالد،أو هما معا؟.

و لو انعكس الأمر،و افترضنا ان زيدا باشر بيع الدار بالوكالة عن غيره،و عمرا اشترى لنفسه،ثم ظهر عيب في الدار،فهل يرجع عمرو على الوكيل،أو على موكله؟.

الجواب:

اتفق الفقهاء جميعا على أن الوكيل إذا لم يفوض إليه أمر البيع و الشراء، و انما كان وكيلا في مجرد إجراء الصيغة،و المعاملة الشكلية فقط،إذا كانت كذلك فلا يجوز الرجوع على الوكيل بشيء،إذ يكون و الحال هذه،أشبه بالأجنبي،أو بالآلة لوقوع الصيغة و إجرائها.

و اختلفوا فيما إذا كان وكيلا في المعاملة نفسها،لا في إجراء صيغتها فحسب،و أصح الأقوال ما ذهب إليه الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري، و هو أن الطرف الآخر إذا علم ان الذي أجرى معه المعاملة وكيل لا أصيل كان الموكل وحده هو المسؤول،دون الوكيل،و ان كان جاهلا بأنه باشر المعاملة معه وكالة لا أصالة تخير بين الرجوع على الموكل،لأن العقد له في الواقع،و بين الرجوع على الوكيل،لأنه أنشأ الالتزام و باشره مع الوكيل،قال الشيخ النائيني:«لو علم كونه وكيلا فالملتزم هو الموكل بلا شبهة،لأن الخطاب،و ان كان متوجها إلى الوكيل إلاّ أنّه لم يتوجه إليه بما هو هو،بل بما هو نائب عن موكله،أي أن العلم بالوكالة يجعل الالتزامات العقدية على الموكل،و اما إذا جهل الوكالة فالملزم هو الوكيل،لأن الجهل بها يجعل الالتزامات الصريحة و الضمينة مع الوكيل،بل لعله لو كان عالما بالوكالة لما أوقع المعاملة مع الموكل،لأن الناس في السهولة و الصعوبة،و العسر و اليسر،و المماشاة و المماطلة مختلفون».

ص:76

ضابط التعبير عن القصد
الضابط:

اعتاد الفقهاء ان يذكروا في آخر البيع فصلا بعنوان«ما يندرج في المبيع» تعرضوا فيه لدلالة لفظ الأشياء التي كانت-في الغالب-تباع و تشتري في زمانهم أكثر من غيرها من الثوابت،كالدار و الأرض و البستان،و ما إليه،و حددوا الضابط الذي يجب الرجوع إليه عند الشك في قصد المتعاقدين،و ما يندرج في لفظ المبيع،و ما يخرج منه.و هذا البحث من البحوث الهامة،لأنه يتعلق بتفسير العقد،و الإرادة المشتركة بين المتعاقدين،لذا آثرنا ان يكون العنوان«ضابط التعبير عن القصد»لا ما يندرج أو يدخل في المبيع،كما فعل الفقهاء،و أيضا آثرنا ذكر هذا الفصل هنا،لا في آخر البيع،كما فعلوا،لأنه أنسب في الترتيب و التبويب.هذا إلى أن وضعه في آخر البيع أوقع الكثير في الاشتباه،و ظنوا أن المسألة مجرد تفسير للفظ الأرض و البستان،حتى كأن ألفاظ العقد منفصل بعضها عن بعض لا اتصال بينها و لا تكامل.

و مهما يكن،فان الفقهاء قالوا في علم الأصول:ان كل لفظ جاء في كلام الشارع يحمل على ما علم إرادته منه،سواء أ كان المعنى شرعيا أو عرفيا حقيقيا أو مجازيا،و ان لم يعلم ما أراد فيحمل اللفظ على الحقيقة الشرعية ان كانت،و إلاّ

ص:77

فعلى ما هو المعروف في زمانه،و ان جهل فعلى المعنى المرتكز في أذهان أهل هذا الزمان،فان لم يكن فعلى المعنى اللغوي،فإن تعدد و لم يترجح معنى على معنى كان اللفظ مجملا،و بالتالي،تكون الواقعة في حكم ما لا نص عليه من الشارع.

و طبق بعض الفقهاء هذا الضابط على ألفاظ المتعاقدين،و قال:يحمل لفظهما على المعنى الشرعي،ثم العرفي،ثم اللغوي.و هذا اشتباه بين ألفاظ الشارع،و ألفاظ غيره،و بعيد عما نحن فيه كل البعد،و لذا علق عليه صاحب الجواهر بقوله:«و هذا من غرائب الكلام،لأن العقد يتبع القصد،فان علم قصد المتعاقدين عمل به،و إلاّ حمل اللفظ على ما يفهمه العرف العام،حتى و لو خالف الحقيقة الشرعية.نعم،قد يقال بتقديم المعنى الشرعي على العرفي في دخول ثمرة النخل قبل التأبير (1)في ملك المشتري،و لكن هذا غير محل البحث».لأن البحث فيما يندرج في المبيع من حيث هو بصرف النظر عما ورد من النص في واقعة خاصة،لا يتعدى إلى غيرها.

و خير ما قرأته في هذه المسألة ما قاله صاحب مفتاح الكرامة في مجلد المتاجر ص 669،و هذا نصه:

«و تنقيح المسألة ان يقال:ان المدار انما هو على عرف المتابعين،لأنّ البائع ما باع إلاّ ما هو مقصود له،و المشتري كذلك،و ليس المقصود بإطلاقهما اللفظ إلاّ ما استقر عليه عرفهما،و استمر عليه اصطلاحهما.فلو صرف ذلك إلى عرف الشارع،أو العرف العام،أو اللغة،على تقدير أن شيئا من ذلك مخالف لعرفهما لكان البيع باطلا،للجهل بالمبيع حال العقد،نعم،إذا عرفا اصطلاح

ص:78


1- حتى في التأبير لا يتقدم المعنى الشرعي على العرفي،كما أوضحناه في آخر هذا الفصل.

الشارع مثلا،و أوقعا العقد عليه كان هو المرجع،لا لأنه متقدم على اصطلاح المتعاقدين،بل لأنه مراد لهما،تماما كما لو أوقعا العقد على اصطلاح قوم آخرين،و كذلك إذا أوقعاه على اصطلاح العرف إذا كان مخالفا لعرف بلدهما، و كذلك الحال في اللغة».

«فالضابط الذي لا غبار عليه هو الرجوع إلى عرف المتبايعين ان علم،و إلاّ فإلى العرف العام،و إلاّ فإلى اللغة».و نذكر فيما يلي طرفا من ألفاظ المبيع التي تعرض لها الفقهاء،كأمثلة على هذا الضابط.

الأرض:

إذا كان في الأرض بناء،أو شجر،أو زرع،و باع الأرض مالكها،بحيث كان المعقود عليه لفظ الأرض المعلومة بين الطرفين،و لم يذكرا شيئا مما فيها،فهل يدخل في المبيع البناء و الشجر و الزرع؟.و على افتراض عدم الدخول،فهل للمشتري الخيار بين الفسخ أو الإمضاء مجانا؟.

قال الفقهاء:لا يدخل شيء من ذلك في لفظ الأرض إلاّ مع القرينة الصريحة،كما لو قال:بعتك هذه الأرض بما فيها،أو بما دار عليه حائطها ان كان لها حائط.أجل،تدخل فيها الصخور الثابتة،و الأحجار المخلوقة بطبيعتها.

و لا خيار للمشتري مع العلم،و يثبت له الخيار بين الفسخ،أو الإمضاء مجانا ان كان جاهلا بوجود شيء من ذلك.و يبقى الزرع للبائع إلى أوانه، و الشجرة،حتى نهايتها أو قلعها،و لا يستحق المشتري أجرة على ذلك،لأن الإبقاء من مقتضيات العقد،و قال صاحب الجواهر:«و ليس لصاحب الشجرة غرس غيرها مكانها إذا سقطت».و إذا تجدد لها فهي لصاحب الشجرة،لأنها نماء

ص:79

ملكه.أجل،لا يجب على مشتري الأرض بقاؤها في ملكه،بل يجوز له قلعها، لأن العقد اقتضى بقاء الشجرة الأم فقط.

الدار:

يدخل في لفظ الدار البناء الأعلى و الأسفل،و ما قام عليه من الأرض مع العرصة و البئر و الطريق و السلم و الرفوف و الأبواب و المفاتيح،و كل مثبت فيها.

البستان:

يدخل في لفظ البستان الشجر و الأرض،و الجدار المحيط به،و الماء و الطريق و كل ما يتصل بالبستان،و لا يتم الانتفاع إلاّ به،و اختلف الفقهاء في البناء المعد للسكن الموجود في البستان،فمن قائل بالدخول،و آخر بالعدم.و الحق الرجوع فيه إلى العادة التي تختلف بحسب البلدان،فان لم تكن فلا يدخل،لأن البستان غير الدور و البيوت.

و إذا كانت الثمرة موجودة على الشجر حين البيع فهي للبائع إلاّ مع الشرط، و ان تجددت بعد العقد فهي للمشتري إطلاقا إلاّ في النخل،حيث قال الفقهاء:من باع نخلا قد أبره (1)فثمره للبائع،و ان لم يوجد حين البيع إلاّ مع الشرط،و ان باعه قبل التأبير فللمشتري،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان ثمرة النخل للذي أبرها إلاّ أن يشترط المبتاع.

و لو انتقل النخل بغير البيع كالهبة كانت الثمرة لمن انتقلت إليه العين،حتى

ص:80


1- تأبير النخل تلقيحه بما هو معروف عند أهله،و لا يحمل النخل إلاّ بعد التلقيح.

بعد التأبير اقتصارا لما خالف الأصل على موضع النص.قال صاحب الجواهر:

«لا أجد فيه خلافا».

و الحق ان العادة وحدها هي المحكّمة في كل ذلك،حتى في دخول الدار في البستان،و حتى تأبير النخل المنصوص عليه،لأن النص هنا يحمل على أن العادة كانت قائمة على ذلك في عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.و ليس هذا اجتهادا منا في قبال النص،بل هو اجتهاد في استخراج المعنى من النص،تماما كالاجتهاد في المراد من يد اللّه قوة اللّه سبحانه،لا هذه اليد المادية المحسوسة.

ص:81

ص:82

في بيع الفضولي
بيع الفضولي
اشارة

يشترط في البائع أن يكون عاقلا بالغا رشيدا،و قاصدا بلا إكراه،و مالكا، أو وليا،أو وصيا،أو وكيلا،و تقدم الكلام عن شرط البلوغ و العقل و القصد بلا إكراه،و يأتي الكلام عن الرشد و الولاية في باب الحجر،و عن الوصي في باب الوصية (1)و عن الوكيل في باب الوكالة،و خصصنا هذا الفصل للكلام عن الفضولي،و ما يتعلق به،و قد فرع عليه الفقهاء فروعا شتى،و أطالوا في التفريع و التفصيل،و لو حاول فقيه أن يجري عملية الإحصاء لمسائله المتراكمة،كما جاءت في مكاسب الشيخ الأنصاري،و حواشيها و التعليقات عليها لبلغت العشرات،و يتلخص أكثرها بخاصة المهم منها في الفقرات التالية:

معنى الفضولي:

الفضولي مأخوذ من الفضول،و لفظه جمع لفضل،كفلوس جمع لفلس، و لكنه استعمل استعمال المفرد،ثم نسب إليه على اعتباره مفردا،لا جمعا.

ص:83


1- تكلمنا عن الوصاية و الولاية و السفه عند فقهاء الإمامية في كتاب الفصول الشرعية،و كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة،و لم نشر إلى الدليل،و سنتعرض لها مع الدليل في الأجزاء الآتية من هذا الكتاب ان شاء اللّه.

و الفضولي في اللغة هو الذي يتعرض لما لا يعنيه،و هذا المعنى أساس للمعنى الذي اصطلح عليه الفقهاء،حيث أرادوا به«الكامل الذي يتصرف تصرفا غير مالك له».و المراد بالكامل أن يكون الفضولي عاقلا بالغا،لأن كلا من المجنون و الصبي لا تجوز تصرفاته عن نفسه،فبالأولى عن غيره،قال الشيخ الأنصاري:

«الفضولي أن يكون العاقد أهلا للعقد،من حيث انّه بالغ عاقل،و ان يكون المبيع قابلا للبيع،و لا يفقد العقد شيئا إلاّ خلوه عن مقارنة اذن المالك».و مثال ذلك أن يبيع العاقل البالغ ملك غيره دون اذنه،أو إذن وليه،أو وكيله،أو وصيه،أو يبيع مال نفسه الذي لا يملك التصرف فيه لرهن،أو تحجير عليه لسفه،أو فلس،فإذا باع الراهن العين التي رهنها توقف النفاذ على الإجازة من المرتهن،و كذا السفيه لا تنفذ تصرفاته المالية إلاّ بإذن الولي،و مثله المفلس الذي حجزت أمواله لحساب الغرماء،و المريض مرض الموت،إذا تبرع بأكثر من الثلث.

نية الفضالة:

لا يشترط في الفضولي ان تنصرف نيته إلى العمل لمصلحة الغير،بل إذا اتجهت إلى العمل لمصلحته،ثم تبين أن عمله لمصلحة غيره يكون فضوليا، فالعبرة في الفضولي أن لا يملك التصرف الذي قام به،مهما كان الدافع،و سيتّضح ذلك من الأمثلة الآتية.قال صاحب الجواهر:«لا يعتبر في الفضولي قصد الفضولية قطعا،فمن باع شيئا بعنوان أنّه ماله،فبان أنّه مال غيره كان فضوليا».

الراهن الواقعي:

إذا تصرف إنسان في مال الغير،دون اذن سابق،و لكن صادف تصرفه هوى

ص:84

في نفس المالك،فهل يجب على المالك،و الحال هذي،أن يجيز المعاملة التي طابت لها نفسه،بحيث يعد مسؤولا أمام اللّه سبحانه ان امتنع عن الإجازة،أو ان الخيار له ان شاء أجاز،و ان شاء رفض؟.و بالإيجاز:هل الرضا الباطني تماما كالاذن الصريح؟.

قال الشيخ الأنصاري:«الذي يقوى في النفس لو لا الخروج عن ظاهر الفقهاء-أي أن الفقهاء لا يعتدون بهذا الرضا-عدم التوقف على الإجازة اللاحقة، بل يكفي الرضا المقرون بالعقد،سواء انكشف الرضا بعد العقد،أم لم ينكشف أصلا،فيجب على المالك فيما بينه و بين اللّه إمضاء ما رضي به،و ترتب الآثار عليه،لعموم وجوب الوفاء بالعقود،و قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،و قول الإمام عليه السّلام:لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس».

و الحق مع الفقهاء الذين لم يكتفوا بمجرد الرضا دون التعبير عنه،قال الشيخ النائيني:«لا بد من الإنشاء باللفظ أو الفعل،فلا الكراهية الباطنية رد،و لا الرضا الباطني إجازة،بل كل منهما يحتاج إلى كاشف».أمّا قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و قوله عز من قائل إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،و قول الإمام عليه السّلام:

إلاّ عن طيب نفس:فإنه خطاب موجه إلى من له التصرف،و لا يمت إلى الفضولي بسبب قريب أو بعيد.

محل الفضالة:

كل ما تصح فيه الوكالة تصح فيه الفضالة،و لذا اتفق الفقهاء على أنّها تجري في جميع العقود،حتى الزواج و الوقف،بناء على أن نية القربة ليست شرطا في صحته،كما هو الحق.و أيضا تجري في الإيقاعات ما عدا العتق و الطلاق،حيث

ص:85

ادعى كثير من الفقهاء وجود الإجماع على عدم جواز الفضالة فيهما،و أنكر الشيخ محمد حسين الأصفهاني وجود الإجماع،و أجاز الفضالة في العتق و الطلاق، و استدل بأن كل الفقهاء أو جلهم قالوا بصحة عتق الراهن للعبد المرهون متوقعا فكه،أو اجازة المرتهن،و إذا جازت الفضالة في العتق جازت في غيره بطريق أولى.

و الحق أن البحث فيما تصح فيه الفضالة،و ما لا تصح يتفرع عن البحث الآتي و هو أن الفضالة:هل هي على مقتضى القاعدة،أو على خلافها،فان كانت على القواعد تحتم القول بأنها تصح في جميع العقود و الإيقاعات إلاّ ما خرج بالدليل،و ان كانت على غير القاعدة تحتم القول بعدم صحتها إلاّ ما خرج بالدليل، و يأتي الكلام عن ذلك مفصلا.

العين و الذمة:

كما تجري الفضالة على العين الخارجية،مثل بعتك دار زيد،أو اشتريت دارك لزيد تجري أيضا على ما في الذمة مثمنا كان مثل بعتك طنا من الحنطة في ذمة زيد بدارك هذي،أو ثمنا مثل اشتريت دارك لزيد بألف ليرة في ذمته.فإذا أجاز زيد البيع له في المثال الأول يثبت في ذمته طن الحنطة للمشتري،كما انه إذا أجاز شراء الدار له يثبت في ذمته ألف ليرة للبائع،و إذا رد و رفض بطل البيع و الشراء من الأساس،و لا يحق للطرف الثاني مطالبة الفضولي بشيء،لأن عقد الفضولي لا أثر له إطلاقا مع عدم الإجازة.

الجهل بالفضالة:

إذا وقع العقد بين اثنين،و كان أحدهما فضوليا،و لكن الطرف الآخر كان

ص:86

يجهل الفضالة،حيث لا قرينة تدل عليها،كما لو قال المشتري:اشتريت هذه الدار بألف،و هو يقصد الشراء لزيد،و لكنه لم يصرح به،فإن أجاز زيد تم البيع بلا ريب،و ان رفض فهل يبطل البيع من الأساس،بحيث لا يحق للبائع أن يطالب المتعاقد بشيء،أو أن له الحق أن يلزمه بتسليم الثمن و استلام المثمن؟.

نقل العلامة في التذكرة أن فقهاء المذهب أوجبوا الأخذ بظاهر العقد،و ان المسؤول هو المشتري الذي أجرى العقد،مع البائع،و ايضا نسب الشيخ الأنصاري هذا القول إلى جماعة من المحققين،و هو الحق،لأن قصد الشراء للغير لا أثر له إذا لم يعبر عنه بقول أو فعل،بل يلغى قصد الغير،و يقع العقد للمتعاقد بالذات،لأن أثر العقد ينحصر بالمتعاقدين،و لا ينصرف إلى غيرهما إلاّ مع القرينة.

و تقول:على هذا يلزم أن يوجد العقد بلا قصد،لأن من قصد له الشراء لم يرض به،و من باشر العقد لم يقصد الشراء لنفسه،مع العلم بأن العقود تتبع القصود؟.

و نقول في الجواب:ان ظاهر العقد يدل على أن المتعاقد قصد الشراء لنفسه،و هو مأخوذ بهذا الظاهر،حتى يثبت العكس،أما قوله:اني قصدت الشراء لزيد فلا يلتفت إليه ما دام لم يعلم به أحد غيره،فهو أشبه بمن أقر بحقه لغيره،ثم ادعى عدم قصد الإقرار،و بكلمة ان جميع الدوافع النفسية التي لا يعلم بها إلاّ صاحبها لا أثر لها إطلاقا في جميع المعاملات.

من له المثمن فعليه الثمن:

قدمنا أن أثر العقد لا يتناول غير المتعاقدين إلاّ مع القرينة،و هنا سؤال،

ص:87

و هو:هل يؤخذ بالقرينة إذا دلت على أن المثمن لشخص،و الثمن على شخص آخر،كما لو قال:اشتريت هذا لزيد بدرهم في ذمتي،أو قال:اشتريت هذا لنفسي بدرهم في ذمة زيد؟.

قال الشيخ الأنصاري:«المسألة تحتاج إلى تأمل».و علق السيد اليزدي على ذلك بقوله:«و الإنصاف ان البطلان في الصورتين مقطوع به.من حيث كونهما من الجمع بين المتنافيين».و معنى قوله هذا أن طبيعة العقد تستدعي أن يكون الثمن على من له المثمن،فإذا جعل المثمن لشخص،و الثمن على غيره حصل التهافت و التناقض في كلام واحد،و أصبح لغوا لا أثر له.

النهي عن البيع:

إذا نهى صاحب المال عن بيع ماله،و مع ذلك لم يعبأ الفضولي بالنهي، و اجرى البيع،فهل يقع صحيحا،بحيث إذا رضي المالك و أجاز نفذ العقد،و أثر أثره،أو يقع العقد باطلا،و الإجازة لغوا،لأنها بلا موضوع؟.

ذهب المشهور بشهادة الشيخ الأنصاري إلى أن النهي لا أثر له،و ان العقد صحيح ينفذ بالإجازة،لأن الدليل الذي دل على صحة معاملة الفضولي لم يفرق بين سبق النهي و عدمه،و مهما يكن،فإن النهي شيء عارض يذهب أثره بمجرد حصول الرضا و الإجازة.

بيع الغاصب:

إذا افترض ان الغاصب باع العين التي اغتصبها قاصدا النيابة عن مالكها كان،و الحال هذه فضوليا يصح بيعه،و ينفذ بالإجازة،و هل يكون ايضا فضوليا

ص:88

إذا لم يقصد المالك إطلاقا،بل قصد نفسه بالذات،حتى كأنه هو المالك الحقيقي؟.

ذهب المشهور إلى أن بيع الغاصب من أقسام بيع الفضولي،فإذا أجازه المالك انتقلت العين المغصوبة إلى المشتري،و ثمنها إلى المجيز.و قال البعض:

كلا،ان عقد الغاصب باطل من الأساس،و لا تجدي الإجازة شيئا،لانتفاء موضوعها،و استدل هذا البعض بأدلة:

منها:قول الإمام عليه السّلام:لا تبع ما ليس عندك،و قوله عليه السّلام:لا بيع إلاّ في ملك.

و أجاب المشهور القائلون بالصحة ان هذا ينفي وقوع البيع لغير مالك العين،و لا ينفي وقوعه لمالك العين إذا رضي و أجاز،كما هو الغرض.

و منها:ان الغاصب أنشأ البيع قاصدا به نفسه،دون المالك،و بديهة أن المالك إذا أجاز فإنما يجيز البيع لنفسه،لا للغاصب،و على هذا يكون الذي اجازه المالك-و هو البيع لنفسه-غير مقصود،و المقصود-و هو البيع للغاصب-لم تتعلق به الإجازة.

و أجاب عنه القائلون بالصحة ان حقيقة البيع هي مبادلة مال بمال،كائنا من كان صاحب المال،فمتى تحقق قصد المبادلة تم العقد،سواء أقصد المالك الحقيقي،أو قصد غيره،أو لم يقصد أحد على الإطلاق،لأن هذا القصد ليس من حقيقة البيع،و لا من شروطه في شيء،و على هذا فلا أثر لقصد الغاصب تملك العين المغصوبة،و لا لتنزيل نفسه منزلة المالك،و انما الأثر لقصد المعاوضة و المبادلة بين المالين،و الإجازة تتعلق بهذا القصد،لا بما اراده الغاصب،و هدف إليه من المبادلة،و هذا معنى قول السيد اليزدي:«ان حقيقة البيع ليس إلاّ مبادلة مال بمال من غير نظر إلى أنه لنفسه أو لغيره،و هذا المعنى موجود في بيع

ص:89

الغاصب،و قصد انه لنفسه خارج عن حقيقة البيع».

و ليس من شك أن الغاصب إذا سلط غيره بالبيع،أو بغيره على العين التي اغتصبها فان لمالكها تمام الحق أن يدعها في يد من أخذها من الغاصب بأية وسيلة أراد،و لكن الغاصب في الحقيقة لا يقصد البيع لنفسه،و لا لغيره،و لا يهمه شيء إلاّ الحصول على المال بكل سبيل،كما هو شأن اللصوص إلاّ أن الفقهاء افترضوا بالغاصب أنّه يقصد البيع لنفسه،ثم أخذوا بالتأويل و التفريع على شيء لا وجود له،و مهما يكن،فان الكثير من مسائل الفقه افتراضية.

عقد الفضولي وفق القاعدة:

سبق أن عرّفنا الفضولي،و أشرنا إلى بعض ما خفي من أفراده و مصاديقه، و نذكر الآن ما ذهب إليه المشهور من صحة معاملته،و منها يتبين الضعف في قول من قال بعدم صحتها.

و قبل أن نستعرض النصوص الخاصة بالفضولي ينبغي أن نحقق:هل القاعدة تستدعي صحة الفضالة بما هي بحيث يكون تصرف الفضولي صحيحا في كل شيء،و يترتب الأثر عليه بمجرد الإجازة،سواء أ كان بيعا،أو هبة،أو زواجا،أو طلاقا،و ما إلى ذاك إلاّ ما خرج بالدليل،أو أن القاعدة تقتضي بطلان الفضالة،بحيث لا تجدي الإجازة نفعا إلاّ ما خرج بالدليل.و بتقريب ثان:هل يمكن أن يصدر عقد إنشائي صحيح ممن لا يملك حق التصرف،بحيث لا يحتاج العمل بموجبه إلاّ إلى الإجازة،أو أن هذا العقد لا يمكن صدوره إلاّ من المالك،أو المأذون،كالولي و الوصي و الوكيل؟.

و على الأول،و هو إمكان إنشاء العقد من غير مالك التصرف يجب أن

ص:90

نحكم بصحة المعاملات التي يجريها الفضولي بشتى أنواعها إلاّ إذا ثبت بآية أو رواية،أو إجماع بطلان معاملته في مورد خاص،كالعتق و الطلاق،أما إذا كان العقد الإنشائي مختص بمالك التصرف فقط فيجب الحكم ببطلان معاملة الفضولي إطلاقا إلاّ إذا ثبت بالدليل صحتها في مورد خاص،كالبيع.

و الحق ما ذهب إليه المشهور من أن عقد الفضولي على وفق القاعدة،لأن العاقد عاقل بالغ،و المحل قابل للتمليك و التملك،أما خلو العقد عن اذن المالك فلا يوجب نفي اسم العقد و البيع عنه،أجل،ان الرضا شرط لنفاذ العقد لا لإنشائه.

جاء في المجلد الخامس من كتاب الحدائق:«احتج الفقهاء لصحة الفضولي بأنه بيع صدر من أهله في محله فكان صحيحا،أما أنه من أهله فلصدوره من بالغ عاقل مختار،و من جمع هذه الصفات كان أهلا للإيقاعات،و أما صدوره في محله فلانه وقع على عين يصح تملكها،و ينتفع بها،و تقبل النقل من البائع إلى آخر، و أما الصحة فلثبوت المقتضي السالم عن المعارضة،أما كون الشيء غير مملوك للعاقد فلا يمنع من صحة العقد،فان المالك لو أذن قبل البيع لصح،فكذلك بعده،لعدم الفرق بينهما».

و قال صاحب الجواهر:«المنسوب إلى علمائنا أن عقد الفضولي صحيح، لاندراجه بعد الرضا بالبيع مثلا،و العقد،و التجارة عن تراض،فيشمله ما دل على الصحة و اللزوم من الكتاب و السنة و الإجماع ضرورة عدم توقف صدق أسمائها- أي أسماء البيع و العقد و التجارة-على صدور اللفظ من غير الفضولي.و لا شيء في الأدلة ما يدل على اعتبار سبق الرضا،أو مقارنته».

و إذا كان عقد الفضولي على وفق القواعد الكلية و الأدلة العامة فلا يحتاج القائل بصحته إلى دليل خاص،و مع ذلك استدل المشهور بأدلة نذكر منها رواية

ص:91

عروة البارقي لاشتهارها،و استدلال الفقهاء بها منذ عهد الشيخ الطوسي (ت 460 ه)إلى اليوم.

روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى عروة البارقي دينارا،ليشتري شاة،فاشترى به شاتين،ثم باع في الطريق إحداهما بدينار،و لما أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره قال له:

بارك اللّه تعالى لك في صفقة يمينك.

و وجه الاستدلال أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذن لعروة بشراء شاة،و لم يأذن له ببيع ما يشتريه،فيكون بيعه الشاه،و الحال هذه،فضوليا،أما شراء الشاتين بالدينار فليس من الفضالة في شيء،لأن الرضا بشراء شاة واحدة بدينار يدل بالفحوى و طريق أولى على الرضا بشراء شاتين به،و عليه يكون العقد مقترنا بالرضا، و يختص محل الشاهد في الرواية ببيع الشاة بدينار،فإنه من أوضح أفراد الفضولي،و تبريك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للصفة اجازة صريحة،تكشف عن الرضا و الموافقة.

شروط المجيز:

المراد من المجيز في كلمات الفقهاء مالك التصرف الذي وقع العمل نيابة عنه،سواء أ كان مالكا حقيقيا،أو وليا،أو وصيا،أو وكيلا،أو حاكما،أو عدول المسلمين الذين هم أولياء الحسبة،و ليس من شك و لا اختلاف في أن المجيز يجب أن تتوافر فيه حين الإجازة جميع الشروط المعتبرة لابرام العقد و البلوغ و الرشد،و الصحة في التصرفات التي يشترط فيها الخلو من مرض الموت،و هذه الحقيقة لا تحتاج إلى دليل،و لا يعقل أن تكون محلا للاختلاف،لأنها تحمل قياسها معها.

ص:92

و اختلف الفقهاء:هل يجب أيضا أن يكون المجيز أهلا لابرام العقد حين إنشائه و صدوره من الفضولي،تماما كما يجب أن يكون حين الإجازة،أو يكفي أن يكون تام الأهلية حين الإجازة فقط،أما حين إنشاء العقد فلا يشترط ذلك.

و تظهر النتيجة فيما إذا باع الفضولي مال المجنون،أو الصغير،أو السفيه،أو مات المالك قبل أن يجيز البيع أو يرفضه.فعلى الأول يقع عقد الفضولي لغوا إذا كان المجيز على وصف من هذه الأوصاف حين إنشاء العقد،و لا تجدي إجازة الصبي شيئا بعد بلوغه،و المجنون بعد إفاقته،و السفيه بعد رشده،و الوارث بعد موت مورثه،و على الثاني يصح العقد و الإجازة بعد زوال المانع،و تترتب على العقد جميع آثاره الشرعية.

و للفقهاء في ذلك قولان أقواهما الاكتفاء بتوافر الشروط حين الإجازة، سواء توافرت أيضا حين إنشاء العقد،أو لم تتوافر،لأن الدليل الذي دل على صحة عقد الفضولي مطلق و غير مقيد بوجود مجيز كامل الأهلية،هذا،إلى أن العبرة في ترتيب الآثار بالإجازة،و سبق أن المجيز لا بد أن يكون أهلا للإبرام و الالتزام في حين الإجازة.و على هذا إذا وقع العقد فضالة عن المجنون و الصغير يصح و يتوقف النفاذ على اجازة الولي،أو إجازتهما بعد العقل و البلوغ،قال الشيخ الأصفهاني في حاشية المكاسب:ان العقد صدر من العاقل و البالغ،و لكن صادف صدوره حال صغر المالك،أو جنونه،و هذه المصادفة لا تمنع العقد بما هو عقد عن الصحة ما دام صادرا عن عاقل بالغ،ثم ذكر الفقهاء

هنا مسائل

،منها:

بيع الراهن:

1-ان يبيع الراهن العين التي رهنها،ثم يفك الرهن من المرتهن،و قد

ص:93

أفتوا بصحة البيع،و نفاذه بلا اجازة،لأن الإجازة انما تعتبر إذا كان المانع من النفاذ عدم التعبير عن الرضا و طيب النفس،و المفروض أن الراهن عبّر عن رضاه بإنشاء العقد،فينحصر المانع-اذن-بوجود الرهن،و تعلق حق المرتهن بالعين المرهونة،فإذا فك الرهن زال المانع،و نفذ العقد،و بالإيجاز أن تصرفات الراهن في العين المرهونة تكون صحيحة و نافذة إذا أعقبها فك الرهن،بحيث لم يبق للمرتهن آية سلطة على العين.

بيع السفيه:

2-ان يبيع السفيه بعض ما يملك بلا اذن الولي،ثم يزول السفه،و يرتفع الحجر،و قد أفتوا بصحة البيع،و لكن مع الإجازة من نفس المالك الذي أجرى العقد بعد أن صار رشيدا،و الفرق بين عقد الراهن الذي لا يحتاج إلى اجازة، و بين عقد السفيه الذي يحتاج إليها أن المانع من الأخذ بعقد السفيه هو عدم الإجازة،إذ لا يعتد برضاه إطلاقا،بل ينفذ العقد،حتى و لو كان له كارها،بخلاف عقد الراهن فان المانع من الأخذ به وجود الرهن،أما رضاه لا بد منه،و له كل الأثر في نفاذ العقد،و ترتب أحكامه عليه.

من باع شيئا ثم ملكه:

3-ان يبيع مال الغير،ثم يملكه بإرث أو شراء،فيصح البيع،و لكن يتوقف على أجازته بعد تملكه للعين المبيعة،أما الصحة فلأن الدليل الذي دل على صحة عقد الفضولي غير مقيد باتحاد المالك و لا بتعدده،و اما الاحتياج إلى الإجازة فلان البائع لم يكن أهلا لابرام العقد حين إنشائه.

ص:94

الاعتقاد و الواقع:

4-ان يبيع العين معتقدا أنّه لا يملك التصرف بها،فيتبين العكس،كالولي يبيع مال الطفل أو المجنون أو السفيه،و هو جاهل بالولاية،أو الوكيل يبيع العين عن الموكل ناسيا الوكالة،أو الابن يبيع مال أبيه بظن أنه حي،فتبين أنه ميت، و يصح البيع،و يلزم في الجميع دون الاحتياج إلى الإجازة،لأن صحة العقد و لزومه لا بد فيه من أمرين:القصد إلى معناه،و الرضا به من المالك،و الأول شرط للصحة،و الثاني للزوم،و كلاهما متحقق في الجميع،هذا،إلى أن الاعتقاد بعدم الملك أو الولاية أو الوكالة لا يغير الواقع عن واقعه،و لا يخرج الأدلة المطلقة عن إطلاقها،فسلطنة المالك و الولي و الوكيل تبقى على ما هي،و تنطبق عليها أدلة السلطنة،حتى مع الذهول عنها،أو اعتقاد عدمها،و تقدم أن قصد من له البيع أو الشراء أجنبي عن حقيقة العقد.

المجاز:

سبق أن المجيز-و هو مالك التصرف-لا يشترط أن يكون تام الأهلية حين إنشاء العقد،و صدوره من الفضولي،و انما يشترط أن يكون أهلا لابرام العقد حين الإجازة فقط،و الآن نتكلم عن محل الإجازة،و هو العقد الذي تعلقت به.

و بديهة أن الإجازة ليست جزءا من العقد،و لا شرطا لإنشائه،و انما هي شرط لتأثيره،و بلفظ آخر أن الشروط على نوعين،منها شرط لصحة العقد،و منها شرط للزوم العقد،و العمل بمستلزماته،و الإجازة شرط للّزوم لا للصحة.

و الشروط التي يجب توافرها في عقد الفضولي الذي تتعلق به الإجازة، و الذي عبرنا عنه بالمجاز هي نفس الشروط التي يجب توافرها في صحة عقد

ص:95

الأصيل من تطابق الإيجاب و القبول على شيء واحد،و صراحتها في التعبير عن الإرادة،و من أهلية المتعاقد بالعقل و البلوغ و الرشد،و من قابلية العوضين للتمليك،و علم المتعاقدين بهما،و ما إلى ذلك ما عدا رضا المالك.أجل،هناك شروط لا تتصل بإنشاء العقد بما هو عقد،بل تأتي في مرتبة متأخرة عنه،و ذلك مثل القدرة الفعلية على تسليم المبيع،فإنها ليست شرطا في إنشاء العقد،و لا في صحة الإجازة،فلو باع زيد-مثلا-طنا من الحنطة في ذمة زيد،على أن يكون القبض بعد ثلاثة أشهر يصح البيع،و ينفذ إذا أجاز زيد،حتى مع العجز عن التسليم عند الإجازة،حيث يكتفى بوجود القدرة حين القبض،أي ان الشرط إمكان التسليم في حينه.

ص:96

الإجازة و أحكامها
معناها:

بعد أن تكلمنا عن المجيز و المجاز نتكلم الآن عن الإجازة،و هي التعبير عن الرضا بعقد الفضولي و إمضائه بقول أو كتابة أو فعل،فلا يعتد بالرضا الواقعي ما لم يعبر عنه،قال صاحب الجواهر:«أما الإجازة ممن هي له فلا يكفي فيها السكوت مع العلم فضلا عن الجهل،بل و لا مع حضور العقد عند علمائنا،و أكثر أهل العلم،أما الاكتفاء من البكر بالسكوت في الزواج فللقرينة»أي ان سكوت البكر يعد اجازة منها للعقد،عند العرف،لأن الحياء يمنعها من النطق.

و بديهة أن القول أوضح أساليب التعبير عن القصد و أفضلها،و الكتابة أسلوب من أساليبه المتبعة عرفا،و كذلك الفعل،كقبض المالك الثمن و التصرف فيه،و نحو ذلك.

الإجازة و السلطة:

قال الشيخ الأنصاري:«الإجازة من آثار سلطنة المالك على ماله.فقولنا:له أن يجيز مثل قولنا له أن يبيع،كلاهما راجع إلى أن له أن يتصرف،و لو مات المالك لم يورث الإجازة،و انما يورث المال الذي عقد عليه الفضولي،فله أن

ص:97

يجيز بناء على جواز مغايرة المجيز و المالك حين العقد».

و قال السيد اليزدي معلقا على ذلك:«يعني أن جواز الإجازة ليس من الحقوق-حتى تورث-بل هو من الأحكام الشرعية،فلا يتعلق به الإرث،لأن الحكم لا يورث-ثم قال-ان معنى كل من الحق و الحكم معلوم،و لكن تشخيص افرادهما و تمييز مواردهما في غاية الاشكال،و لذا حكي عن بعض الفقهاء أن ذلك يميزه النبيه بذوقه،و ليس له معيار كلي».

شروط تأثير الإجازة:

إذا تحققت الإجازة بشروطها المطلوبة أخذ العقد آثاره،تماما كما لو صدر عن الأصيل،و هذه الشروط،منها متفق عليه بين الفقهاء،و منها مختلف فيه، و فيما يلي التفصيل:

1-اتفقت كلمة فقهاء المذهب على أن الإجازة لا تصح إلاّ ممن هو أهل

لابرام العقد

.و تقدمت الإشارة إلى ذلك.

2-اتفقوا ايضا على انه يعتبر في تأثير الإجازة علم المجيز بركني العقد

مفصلا،تماما كما يشترط علم المتعاقدين بهما،و بكلمة:ان حكم الإجازة هو حكم البيع ابتداء.

3-اتفقوا على أن الإجازة يجب أن تكون موافقة للعقد المجاز في المثمن

و الثمن

،لأنهما ركنا العقد،فإذا باع الفضولي دار زيد فلا معنى لإجازة بيع البستان،و إذا باع بألف فلا معنى لإجازة البيع بألفين،أما إذا باع الفضولي دار زيد و بستانه معا بألفين فأجاز زيد بيع الدار فقط بألف قال الشيخ الأنصاري:«الأقوى الجواز،و للمشتري خيار تبعيض الصفقة-يأتي الكلام عن هذا الخيار في بابه ان

ص:98

شاء اللّه-و مثله أيضا إذا باع لزيد و عمرو،فأجاز بيع أحدهما دون الآخر».

و لو باع الفضولي بشرط،فأجاز المالك البيع مجردا عن الشرط ينظر فان كان الشرط قيدا للمبيع و من صفاته،كما لو باعه ثوبا بشرط أن يكون من صنع الوطن،و أجاز المالك البيع دون هذا الشرط.ان كان كذلك سقطت الإجازة،لأن المبيع شيء،و تعلقت الإجازة بشيء آخر.و خيار التبعيض هنا غير ممكن، لوحدة الموضوع،و ان لم يكن الشرط قيدا للمبيع،بل كان خارجا عنه،كما لو باع الفضولي هذا الثوب بشرط أن يخيطه المالك،فأجاز المالك البيع دون الخياطة.ان كان كذلك صح البيع و الإجازة،و قسط الثمن بالنسبة،و ثبت للمشتري خيار التبعيض،لتعدد الموضوع،و يعبر الفقهاء عن هذا النوع بأنه التزام في ضمن التزام،كما يعبرون عنه أيضا بتعدد المطلوب.

4-اختلفوا:هل يشترط في تأثير الإجازة أن لا يسبقها الرد من المالك،

بحيث إذا رد،ثم أجاز تقع الإجازة لغوا؟.

ذهب الشيخ الأنصاري إلى وجوب هذا الشرط،لأن الرد في نظره إبطال للعقد،و الباطل لا يقبل الإجازة،و ادعى صاحب«بلغة الفقيه»الإجماع على ذلك.

و قال جماعة من الفقهاء،منهم السيد اليزدي،و الشيخ الأصفهاني في حاشيتيهما على المكاسب،و السيد الحكيم في نهج الفقاهة،قالوا:ان الرد من المالك لا يبطل عقد الفضولي،و لا يمنع من الإجازة و تأثيرها،و ذلك ان الذي يبطل العقد هو عدول الموجب عن إيجابه قبل قبول القابل،أما القابل فله أن يرد، ثم يقبل بعد الرد،ما دام الإيجاب قائما،و إذا صح هذا بالقياس إلى القابل صح بالنسبة إلى المجيز بطريق أولى.

و استدلوا بما رواه محمد بن قيس عن الإمام الباقر عليه السّلام أن أمير المؤمنين

ص:99

عليا عليه السّلام قضى في وليدة باعها ابن سيدها،و أبوه غائب،فاستولدها الذي اشتراها، فولدت منه،و لما جاء سيدها الأول خاصم الثاني إلى أمير المؤمنين،و قال:

وليدتي باعها ابني بغير اذني،فقال الإمام عليه السّلام:الحكم أن يأخذ الأول وليدته و ابنها ،فناشده الثاني،فقال له الإمام عليه السّلام:خذ ابنه الذي باعك الوليدة،حتى ينفذ البيع لك،فلما رآه أبوه قال:أرسل ابني.قال:لا و اللّه لا أرسل ابنك،حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك أجاز البيع.

و قد اعترف الشيخ الأنصاري بصحة هذه الرواية،و ظهورها بصحة الإجازة بعد البيع،و لكنه قال:«ان هذا الظاهر مطروح،أو مؤول».و لم أر وجها للطرح أو التأويل إلاّ قيام الإجماع على أن الإجازة لا أثر لها ما بعد الرد،و هو غير قائم،و لا موجود،و على افتراض وجوده فليس بحجة،لأن الإجماع عند الإمامية انما يكون حجة متبعة إذا كشف يقينا عن رأي المعصوم،و معنى هذا أنّه إذا احتملنا أن المجمعين استندوا إلى آية أو رواية،أو قاعدة يسقط إجماعهم عن الاعتبار.

بداهة أن العلم بالكشف عن رأي المعصوم لا يجتمع مع احتمال العكس،و نحن نظن أو نحتمل-ان لم نعلم-أن المجمعين استندوا في حكمهم بعدم صحة الإجازة إلى الظن بأن عقد الفضولي يبطل مع الرد،و بكلمة:ان مجرد الشك في أن الإجماع يكشف عن رأي المعصوم يسقطه من الأساس،و يجعل وجوده و عدمه سواء،و من هنا لم يبق للإجماع عند الشيعة الإمامية من مورد،اللهم إلاّ إذا بلغ الحكم المجمع عليه من البداهة حد الضرورة الدينية،كوجوب الصوم و الصلاة،و معها لا حاجة إليه،و لا إلى غيره من الأدلة،لأن الدليل تفتقر إليه النظريات لا البديهيات.

5-هل يجب على من له حق الإجازة ان يجيز أو يرد فورا

،و لا يجوز له

ص:100

التأخير إذا علم بعقد الفضولي؟.ثم إذا ماطل،و لم يجز أو يرد،حتى تضرر الأصيل الذي أجرى العقد مع الفضولي فما هو الحكم؟.

الجواب:

لا دليل على وجوب الفور و سرعة المبادرة إلى الإجازة أو الرد،بل الدليل الموجود يدل على العكس،فان الظاهر من رواية محمد بن قيس المتقدمة أن الإجازة جاءت بعد الخصومة و المرافعة،بل لا دليل على وجوب الإجازة أو الرد من الأساس،لأن عقد الفضولي لا يوجب حقا للأصيل على المالك،و لا يلزمه بشيء-نريد بالأصيل الطرف الذي أجرى العقد مع الفضولي-بل له العدول عن العقد قبل أن يجيز المالك،كما قال السيد اليزدي،و الشيخ الأصفهاني،و على افتراض لزوم العقد على الأصيل،كما يظهر من عبارة الشيخ الأنصاري،فإن له حق الخيار في الفسخ دفعا للضرر.

القبض و اجازة العقد:

ليس من شك أن اجازة العقد شيء،و الاذن بقبض الثمن أو المثمن شيء آخر،فإذا باع الفضولي مال الغير،و أجاز المالك،فان هذه الإجازة لا تستدعي الاذن للفضولي بقبض الثمن،بل يحتاج القبض إلى إذن مستقل عن الإجازة.و لو دفع المشتري الثمن للفضولي تبقى ذمته مشغولة به،و يكون هو مسؤولا عنه أمام المالك.و كذا لو اشترى الفضولي لغيره،و أجاز من له الشراء،فإنه لا يجوز للبائع أن يسلم المبيع للفضولي إلاّ بإذن المجيز،و بالإجمال ان اجازة العقد لا تدل على الاذن بالقبض من قريب و لا بعيد.

ص:101

هل الإجازة كاشفة أو ناقلة؟

سبق أن محل الإجازة هو العقد،و ان العقد معها تتبعه جميع آثاره و مستلزماته بإجماع القائلين بصحة عقد الفضولي،و اختلفوا في زمن هذه الآثار و مبدأ حدوثها و إسنادها إلى العقد:هل تترتب عليه،و تسند إليه من حين إنشائه و صدوره من الفضولي،بحيث تكون الإجازة اللاحقة تماما كالوكالة السابقة، و تسمى الإجازة في هذه الحال كاشفة،لأنها تكشف عن ملك سابق الثبوت و التحقق،أو أن الإجازة ناقلة للملك من حينها لا من حين العقد،تماما كما لو جرى العقد في ظرفها؟.

ذهب المشهور إلى أن الإجازة كاشفة لا ناقلة،و قال جماعة منهم السيد اليزدي:بل هي ناقلة لا كاشفة.

و لا بأس بالإشارة إلى معاني الكشف،كما جاءت في كتاب المكاسب و حواشيه.المعنى الأول:أن الإجازة تكشف عن أن العقد المجاز كان سببا تاما لترتب الآثار عليه.الثاني:الكشف التقديري،أي أن الإجازة تكشف أن المالك لو علم بعقد الفضولي لرضي به«فلو»هذه مقارنة للعقد منذ وجوده.الثالث:

الكشف الانقلابي،على حد تعبيرهم،و فسروه بأن الإجازة تكشف عن أن العقد تحول و صار مؤثرا من الأول.الرابع:الكشف الحكمي أو التنزيلي بمعنى أن الإجازة تكشف عن وجود الملك حين العقد حكما أو تنزيلا لا حقيقة و واقعا، فالملك الحقيقي يحدث عند الإجازة،و لكن آثاره تحدث عند العقد بالنظر إلى وجوده آنذاك حكما.الخامس:ان تكون الإجازة شرطا متأخرا يؤثر فيما قبله،أما نوع هذا التأثير فهو الالتزام بآثار العقد منذ صدوره.و قال السيد اليزدي:«و هذا ظاهر المشهور،و اختاره في الجواهر صريحا».

ص:102

أمّا الدليل على الكشف فهو أن اجازة العقد ليس معناها اجازة اللفظ مجردا عن آثاره،و إلاّ لم يجب الوفاء بالعقد،لأن ما لا أثر له لا وفاء له،و عقد الفضولي له آثاره،و لكن لا يجب الوفاء بها لعدم الرضا،فإذا رضي المالك و أجاز تصبح لازمة له من حين صدوره،فيكون الرضا شرطا متأخرا،و تأخره لا يضر إطلاقا،لأن امتناع تأخر الشرط عن المشروط،و العلة عن المعلول.انما هو في الأشياء الطبيعية،و العلل الحقيقية،أما في الاعتبارات الشرعية و العرفية فلا مانع من ذلك.

و بتعبير آخر:«ان معنى الإجازة هو الرضا بمضمون العقد،و ليس مضمونه إلاّ إنشاء نقل العوضين من حينه».

الثمرة بين الكشف و النقل:

ذكر الفقهاء ثمرات للفرق بين النقل،و بين الكشف بالمعنى الذي ذهب إليه المشهور،منها:

1-أن النماء المنفصل لكل من المثمن و الثمن،و الحاصل بين العقد و الإجازة يكون للمنتقل إليه دون المنتقل عنه،على القول بالكشف،و بالعكس على القول بالنقل.أجل،هناك آثار تترتب على نوع خاص من الملك،كما لو كان المشتري قد نذر أنّه إذا ملك هذه العين يفعل كذا،فان النذر ينصرف إلى غير ما ملكه بالعقد الفضولي قبل الإجازة،و كذا النظر إلى المرأة المعقود عليها فضالة فإنه أثر لغير العقد الفضولي،حتى و لو حصل العلم بأن الإجازة ستقع حتما.

2-على القول بالكشف يجوز للطرف الأصيل الذي انتقلت إليه العين أن يتصرف بها إذا علم بأن الإجازة ستقع حتما،و ان كان على شك منها فيمنع من التصرف بها،لأن الأصل عدم وقوع الإجازة،أما على القول بالنقل فلا يجوز له

ص:103

التصرف بالعين إطلاقا،حتى مع العلم بأن المالك سيجيز.

3-على الكشف لا يجوز للأصيل الذي أجرى العقد مع الفضولي أن يفسخ العقد،و يعدل عنه قبل الإجازة،و على النقل يجوز له ذلك.

4-لو عقد الفضولي زواج امرأة على رجل حرمت على هذا الرجل أخت المعقود عليها على القول بالكشف،لثبوت المصاهرة من طرفه،و لا تحرم على القول بالنقل،و يكون عقد الرجل على الأخت عدولا عن عقده الذي أجراه مع الفضولي.

5-لو مات الأصيل الذي أجرى العقد مع الفضولي قبل الإجازة تنتقل العين التي جرى عليها العقد إلى الورثة بإجازة المالك،على القول بالكشف، و يبطل العقد على القول بالنقل،و لا يبقى للإجازة من موضوع.

6-إذا تعلقت الزكاة بالعين في الزمن المتخلل بين العقد و الإجازة فيجب إخراجها على من انتقلت إليه،على القول بالكشف،و على من انتقلت منه،على التنقل.

7-إذا حدث عيب بالعين في الفترة بين العقد و الإجازة فلا يثبت خيار الرد بالعيب لمن انتقلت إليه،ان قلنا بالكشف،لأن العيب حدث في ملكه، و يثبت له الخيار،ان قلنا بالنقل،لأنه حدث في ملك من انتقلت عنه.

8-تحسب الأيام الثلاثة في خيار الحيوان من حين العقد،على الكشف، و من حين الإجازة على النقل.

9-إذا كانت عين شراكة بين زيد و عمرو،و باع الفضولي سهم زيد،ثم باع عمرو سهمه لآخر،ثم أجاز زيد بيع الفضولي تكون الشفعة حقا لمن اشترى من الفضولي،على الكشف،و لزيد على النقل.

10-إذا اشترى الأصيل عينا من الفضولي،ثم باعها قبل الإجازة من آخر يصح هذا البيع على الكشف،لأنه،و الحال هذه،بيع في ملك،و لا يصح على النقل،لأنه بيع في غير الملك.

ص:104

الرد و أحكامه
معنى الرد:

الرد هو التعبير عن عدم الرضا بعقد الفضولي،على عكس الإجازة تماما، و ليس السكوت و التردد بشيء هنا و هناك.و بديهة أن الراد يعتبر فيه ما يعتبر في المجيز،لأن كل من له الإجازة له الرد،و بالعكس،كما يعتبر أن يكون العقد قابلا للتأثير،و إلاّ كان أشبه بالمولود ميتا.

و يتحقق الرد بكل ما دل عليه من قول أو كتابة أو فعل،و قد أطال الشيخ الأنصاري الكلام في الفعل و التصرف الحادث بعد عقد الفضولي،و قبل الإجازة، و قسمه إلى تصرف مناف لتأثير العقد،بحيث لا يبقى معه موضوع للإجازة و لا للرد،و تصرف غير مناف للتأثير،بل يمكن معه الإجازة و الرد،و فيما يلي التلخيص و العرض:

التصرف المنافي:

إذا باع الفضولي شاة لغيره-مثلا-فذبحها المالك و أكلها،أو تلفت بآفة سماوية قبل الإجازة،إذا كان كذلك،ذهب العقد بذهاب موضوعه،لأن الإجازة و الرد انما يردان على شيء موجود،أما المعدوم فلا يعقل رده و لا أجازته،سواء

ص:105

أ قلنا بالكشف أو النقل،و مثله تماما من حيث الحكم لو نقلها المالك عن ملكه ببيع أو هبة عند الشيخ الأنصاري،و الشيخ النائيني،و السيد الحكيم،لأن المالك، و الحال هذه،يصير أجنبيا عن العين المباعة،و لا تنتقل الإجازة من المالك إلى من اشترى من الفضولي،لأن هذا التصرف يبطل العقد بطلانا مطلقا،فلا يبقى محل للإجازة أو الرد.قال الشيخ الأنصاري:«و كذا يحصل الرد بكل فعل مخرج له عن ملكه بالنقل أو الإتلاف،و شبههما (1)كالعتق و البيع و الهبة و التزويج،و نحو ذلك، و الوجه أن تصرّفه بعد فرض صحته مفوت لمحل الإجازة لغرض خروجه عن ملكه».

التصرف غير المزيل للملك:

إذا تصرف المالك قبل الإجازة تصرفا غير مزيل للملك،كما لو رهن،أو أجر،أو عرض للبيع العين التي باعها الفضولي،فهل يكون هذا التصرف منافيا للعقد،و مبطلا له،بحيث لا تصح معه الإجازة،و لا يكون للرد من معنى،لأنه من باب رد المردود،و إبطال الباطل؟.

الجواب:

ان المعيار الكلي لمحل الإجازة و الرد هو أن كل مورد يصح فيه البيع يكون محلا للإجازة و الرد،و كل مورد لا يصح البيع فيه لا يكون محلا لهما.و العين المرهونة لا يصح بيعها،لأن المبيع يجب أن يكون ملكا طلقا،كما يأتي في شروط المبيع،و عليه يكون الرهن مبطلا لعقد الفضولي،تماما كالبيع.

ص:106


1- شبه النقل و الإتلاف هو التزويج،كما لو زوج الفضولي امرأة من رجل،فزوجت هي نفسها من آخر.

أمّا لو أجر المالك العين فإن الإجازة لا تبطل عقد الفضولي،بل يبقى محلا للإجازة و الرد،لأن الإيجار لا يخرج العين عن ملك صاحبها،كما هو شأن البيع، و لا يجعل الملك مقيدا،كما هي الحال في الرهن.فإذا أجر المالك العين،ثم أجاز عقد الفضولي صحت الإجازة،و تم البيع،و للمشتري الحق في أن يمضي الإيجار لحسابه،أو يفسخه،لأن إجازة العقد قد كشفت أن الإجارة وقعت في ملكه فضالة عنه.

أما إذا عرض المالك العين للبيع قبل الإجازة أو الرد بالقول الصريح فينظر:

فان كان المالك عالما بعقد الفضولي و متنبها له حين العرض كان ذلك ردا للعقد، و إلا فلا اثر للعرض إطلاقا،لأنه بلا التفات لا يعبر عن الرد.

المالك و المشتري:

الفضولي معلوم،و هو الذي يتدخل في شؤون الغير تطفلا،و المراد منه هنا من باع مال غيره بلا اذن،و المشتري هو الطرف الذي اشترى العين منه،و المالك هو صاحبها،فإذا رد المالك العقد أصبح وجوده كعدمه،و بطلت جميع التصرفات المتفرعة عنه،فان كان المشتري قبض المبيع بعقد الفضولي وجب عليه إعادته بجميع فوائده و منافعه،و ان لم يفعل فللمالك انتزاعه منه،و تغريمه جميع ما استوفاه من المنافع،لأن المفروض بقاء العين على ملك مالكها الأول.

و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اشترى جارية من السوق،فأولدها،ثم يجيء مستحق الجارية-أي صاحبها-فقال الإمام عليه السّلام:يأخذ الجارية المستحق، و يدفع إليه المبتاع-أي المشتري-قيمة الولد،و يرجع على من باعه بثمن الجارية،و قيمة الولد التي أخذت منه.

ص:107

المشتري و الفضولي:

إذا رجع المالك على المشتري،و استرد العين منه،ان كانت قائمة أو عوضها ان كانت هالكة،فهل للمشتري الحق في الرجوع على الفضولي بما دفعه له من الثمن؟.و على افتراض أن له ذلك،فهل يرجع إليه أيضا بما دفع و أنفق زيادة عن الثمن؟.

المطالبة بالثمن فقط:

أما السؤال الأول،و هو:«هل يرجع المشتري على الفضولي بالثمن فقط» فالجواب عنه يستدعي التفصيل على الوجه التالي:

1-أن يكون المشتري جاهلا بأن البائع فضولي،و الحكم فيه أن للمشتري الحق في أن يسترد الثمن الذي دفعه للبائع،ان كانت عينه قائمة،و ان يأخذ عوضها من المثل أو القيمة،ان كانت هالكة،لأن بطلان العقد يستدعي بقاء كل من الثمن و المثمن على ملك صاحبه،و قد وضع الفضولي يده على الثمن، فتشمله قاعدة:على اليد ما أخذت،حتى تؤدي.

2-أن يشتري من الفضولي،و هو عالم بحقيقته،و قد ذهب المشهور إلى أن المشتري في هذه الحال لا يحق له الرجوع على الفضولي بشيء،سواء أ كان الثمن باقيا،أم هالكا،لأن المشتري هو الذي أضاع حقه،و أسقط احترام ماله بدفعه دون مقابل،لعلمه أن العين التي تسلمها من الفضولي هي ملك لغيره، فيكون،و الحال هذه،كمن سلم ماله للمجنون،و هو عالم بجنونه،و لا تتأتى هنا قاعدة«على اليد ما أخذت،حتى تؤدي»،لأن الفضولي تسلم الثمن و أخذه بإذن المشتري،فتكون يده غير ضامنة.

ص:108

و الحق أن للمشتري الرجوع بالثمن على البائع الفضولي،ان كانت عينه باقية،و بعوضها،ان كانت تالفة،حتى و لو كان عالما بحقيقة البائع،إذ المفروض أن العقد قد بطل برد المالك،و معنى بطلانه أن كلا من العوضين قد بقي بعد العقد على ملك صاحبه،تماما كما كان قبل العقد،و من هنا جاز للمالك الرجوع على المشتري،فينبغي أيضا أن يجوز للمشتري الرجوع على الفضولي.و بكلمة:انّه بعد أن بطل العقد جاز لكل من المالك و المشتري أن يطالب من استولى على ماله.هذا،إلى أنّه لو قلنا:ان المشتري لا يجوز له الرجوع على البائع،مع علمه بحقيقته لتحتم علينا أن نقول أيضا:ان الثمن الذي قبضه الفضولي من المشتري أصبح ملكا حلالا له،يتصرف به كيف يشاء.و لا أحسب أن فقيها واحدا يقول بذلك،مع العلم بأن الفضولي إذا سلم العين التي باعها للمشتري دون اذن المالك يصبح غاصبا.

أما القول بأن المشتري أقدم على إتلاف ماله بلا عوض فلا يبتني على أساس،بل دفعه للبائع بقصد المعاوضة،تماما كما هي الحال في البيع الصحيح، فكأنّ المشتري قد اشترط على البائع شرطا ضمنيا بأن يرجع عليه بالثمن إذا أخذ العين صاحبها،قال السيد اليزدي:«المفروض أن المشتري إنما يدفع الثمن عوضا عن هذا المال،لا عن رفع يد البائع عنه،فليس من قصد المشتري الاستفادة،بل المعاملة الحقيقية،و كذلك البائع،فلا يكون هتكا لحرمة ماله عرفا، و تسلط البائع عليه مجانا.و يتفق السيد الحكيم في نهج الفقاهة مع السيد اليزدي، و استدلا بقاعدة من وضع يده على مال غيره بعقد باطل فعليه الضمان.أما الشيخ الأنصاري فبعد التردد و الاحتمالات على عادته قال:«مستند المشهور في مسألتنا لا يخلو من غموض.و صرح بعضهم بضمان المرتشي مع تلف الرشوة التي هي

ص:109

من قبيل الثمن فيما نحن فيه»أي إذا كان المرتشي مسؤولا عن الرشوة التي أكلها، مع العلم بأن الراشي قد دفع الرشوة لغير المستحق فكذلك يكون البائع مسؤولا عن الثمن،و ان دفعه لغير المستحق.

و صفوة القول ان المعيار في رجوع المشتري بالثمن على البائع هو وضع يده عليه بعقد باطل.

المطالبة بأكثر من الثمن:

أمّا السؤال الثاني.و هو:«هل للمشتري الرجوع على البائع بما زاد عن الثمن»فينبغي-للتوضيح-إبرازه بهذه الصورة:

تقدم ان المشتري يرجع على البائع بالثمن الذي دفعه له،سواء أ كان جاهلا بحقيقته أو عالما،خلافا للمشهور الذين حصروا جواز الرجوع بصورة الجهل فقط.و هذا واضح إذا كان المال الذي دفعه المشتري للمالك بمقدار الثمن المسمى بعقد بيع الفضولي،أما إذا دفع المشتري للمالك أكثر مما كان قد أعطاه للفضولي ثمنا للمبيع فهل يرجع المشتري أيضا على البائع الفضولي بالزيادة بعد أن يسترد الثمن منه؟.و قد

فصل الشيخ الأنصاري في الجواب على الوجه التالي:
1-أن تكون الزيادة ناشئة من زيادة قيمة العين على الثمن المسمى

الذي دفعه للبائع،و صورته أن يشتري زيد فرس عمرو من الفضولي بعشرة دراهم،ثم تهلك الفرس في يد المشتري،و لا يجيز المالك هذا البيع،فللمالك أن يرجع على المشتري بقيمة الفرس،لا بالمسمى،فإذا افترض ان قيمتها عشرون درهما فعلى المشتري أن يدفعها كاملة للمالك،و لكن هل للمشتري أن يرجع بالعشرين على البائع-بعد أن يأخذ منه الثمن الذي كان قد دفعه له-أو يرجع عليه بما زاد

ص:110

على مقدار الثمن؟.

و الجواب:

لا يحق للمشتري أن يرجع بالعشرين كاملة على البائع،و انما يرجع عليه بما زاد على الثمن المسمى،أما ما يقابل الثمن،و هو العشرة فلا يرجع بها على البائع،لأن المشتري أقدم على دفعها حتى على تقدير هلاك الفرس،تماما كما لو اشتراها من المالك نفسه،فالتغرير-اذن-لم يتحقق بالنسبة إلى العشرة المقابلة للثمن،أما الزائد عنه فلم يقدم عليه،فيكون البائع،و الحال هذه،هو الغار الضار، و عليه أن يتحمل مسؤولية الضرر و التغرير.

و زيادة في التوضيح نشير إلى أن كلام الشيخ الأنصاري لا يتناول العشرة التي دفعها المشتري للبائع ثمنا للفرس،و إلاّ لزم أن يدفع المشتري الثمن مرتين:

مرة للبائع،و الأخرى للمشتري.ان الثمن المسمى يرجع إلى المشتري بلا بحث،و انما ذكرنا«لفظ المسمى»لبيان أن ما يقابله لا يرجع به المشتري على البائع،بل يرجع بما يزيد عن المقابل للثمن،و تكون النتيجة أن المشتري إذا دفع عشرين بدلا عن الفرس يخسر عشرة فقط،و هي التي لم يغرره بها البائع، و يخسر البائع عشرة،لأنه غرر بالمشتري بها زيادة عن الثمن.

2-ان يدفع المشتري للمالك عوض المنافع

التي استوفاها من العين التي اشتراها من البائع،قال الشيخ الأنصاري،و جماعة من الكبار:ان للمشتري أن يرجع على البائع بما دفعه للمالك،لقاعدة المغرور يرجع على من غره.

3-أن ينفق المشتري على العين التي تسلمها من البائع

،كعلف الفرس، و قد أجمعت كلمة الفقهاء على أن له الرجوع بها على البائع،لقاعدة الغرر أيضا.

ص:111

تداول الأيدي:

هذه المسألة تتصل اتصالا وثيقا بمبحث الغاصب و الفضولي،و يسميها الفقهاء مسألة تعاقب الأيدي،و صورتها أن ينقل الغاصب العين المغصوبة منه إلى غيره،أو يسلم الفضولي المبيع إلى المشتري بلا اذن المالك،فيصبح بهذا التصرف غاصبا،ثم يبيع المشتري العين إلى مشتر ثان.و الفقهاء تكلموا في مطالبة المالك أصحاب الأيدي المتداولة على ماله،ثم في رجوع أصحاب الأيدي بعضهم على بعض بعد رجوع المالك عليهم كلا أو بعضا.ثم قد تكون العين قائمة عند مطالبة المالك،و قد تكون هالكة.و قبل كل شيء نود التذكير بهاتين القاعدتين اللتين تسالم عليهما الفقهاء،و هما:قاعدة المغرور يرجع على من غره،و قاعدة ان كل من استولى على مال غيره فعليه أن يرده ما دام قائما،أو يرد بدله من المثل أو القيمة ان هلك إلاّ أن تكون يده امانة على المال،و هلك دون تعد أو تفريط.

المالك و أصحاب الأيدي:

إذا تداولت العين المغصوبة أيد عديدة،و كانت ما تزال قائمة فالمالك بالخيار،ان شاء رجع على من هي في يده،و متى تسلمها ارتفعت المسؤولية عن الجميع،و ان شاء تركها مع ذي اليد-ان طالبه المالك،أن يلاحق بدوره من هي في يده،و ينتزعها منه،و لو بإقامة الدعوى عليه،لأنه صاحب علاقة،أي ان المسؤولية التي تحملها هذا الغاصب الذي انتقلت العين المغصوبة من يده تخوله أن يتتبع العين أينما كانت ليردها إلى ملكها.

و تسأل:ان حق المالك يتعلق بالعين لا بالذمة،ما دامت العين قائمة،فإذا

ص:112

هلكت تعلق حقه بالذمة لا بالعين،و بديهة ان إعطاء الحق للمالك بالرجوع على من وجدت العين في يده يستدعي أن حقه متعلق بالعين لا بالذمة،و ان أعطاه الحق له بالرجوع على غير من هي في يده من الغاصبين يستدعي أن تكون العين تالفة،و ان حقه متعلق بالذمة لا بالعين،و هذا هو التنافي بعينه.بالإضافة إلى أنه جمع بين العوض و المعوض عنه.

و الجواب:

فرق بين الضمان في العهدة،و الضمان في الذمة،فإن ضمان العهدة يتعلق -في الغالب-بالأعيان كضمان العارية العادية،و ضمان المبيع إذا ظهر مستحقا للغير،بحيث يرجع المضمون له على الضامن بالعوض إذا هلكت العين المضمونة،أو امتنع الاستيلاء عليها لسبب من الأسباب،أما ضمان الذمة فيتعلق بالأموال التي تستقر في الذمم،و الضمان الذي لا يجتمع مع تعلق حق المالك بالعين هو ضمان الذمة،أما ضمان العهدة فهو معه على وفاق.

و كل من استولى على ملك الغير استيلاء يمكنه من التحكم فيه،و لو آنا ما فقد دخل في عهدته،و أصبح مسؤولا عنه،و عليه إرجاعه أينما كان،ما دام قائما، فإن هلك فعليه عوضه،حتى و لو كان قد خرج من يده إلى غير يده.أجل،إذا تداولته أيد عديدة كان أصحاب الأيدي بأجمعهم مسؤولين،و لكن على سبيل البدلية و الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل.

2-إذا تلفت العين في يد أحدهم تخير المالك في الرجوع بالعوض كاملا على من شاء منهم،و ان شاء وزعه على الجميع بالتساوي أو التفاوت،لأن الرجوع على أحدهم بالكل يقتضي الرجوع عليه بالبعض بطريق أولى،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال،بل يمكن تحصيل الإجماع عليه،لأن

ص:113

كلا منهم غاصب مخاطب برد العين،أو البدل،لقول الإمام عليه السّلام:كل مغصوب مردود،و حديث:على اليد ما أخذت،حتى تؤدي.و لا فرق في تعاقب الأيدي بين الضمان بعقد فاسد،أو غيره».

أصحاب الأيدي بعضهم مع بعض:

تكلمنا في الفقرة السابقة عن حكم المالك مع أصحاب الأيدي،و في هذه الفقرة نتكلم عن حكم أصحاب الأيدي بعضهم مع بعض،و لنفترض أن العين تداولتها ثلاث أيد،كما لو كانت في يد زيد،ثم انتقلت منه إلى عمرو،و منه إلى خالد،و هلكت في يده.و على هذا الافتراض،اما أن يكون واحد من هؤلاء مغرورا من غيره،و اما أن لا يكون بينهم مغرور،بل كانوا كلهم غاصبين،فان كان بينهم مغرور،و رجع المالك عليه كان له تمام الحق في أن يرجع هو بدوره على من غرّه بالاتفاق،فلو أن عمرا اشترى العين من زيد على أنّها ملك له،و رجع الملك إلى عمرو،كان لعمرو أن يرجع إلى زيد،لأن المغرور يرجع على من غرّه بالإجماع.و كذا إذا رجع المالك على خالد،و كان خالد مغرورا بعمرو،فيحق له، و الحال هذه،أن يرجع على عمرو.

اذن،في حال وجود التغرير يمكن أن يرجع الثالث على الثاني،و الثاني على الثالث،لأن الغار هو الذي انتقلت العين منه،فيكون سابقا،و المغرور هو الذي انتقلت العين إليه،فيكون لاحقا،و هذا معنى قول الفقهاء:«اللاحق يرجع على السابق إذا كان السابق غارا له».

أما إذا لم يكن بين أصحاب الأيدي مغرور،بل كانوا جميعا غاصبين فيكون الأمر بالعكس تماما،أي ان السابق يرجع على اللاحق،و لا يرجع اللاحق على

ص:114

السابق.فإذا رجع المالك على زيد-و هو الأول السابق على عمرو-و دفع زيد للمالك بدل العين يحق لزيد،و الحال هذه،أن يرجع على عمرو-و هو الثاني اللاحق لزيد-و يطالبه بما دفع للمالك قائلا له:لقد تسلمت العين من يدي فأرجعها،أو أرجع بدلها.يحق ذلك لزيد،لأنه لما دفع للمالك حقه قام مقامه، و أخذ صفته.و إذا رجع المالك على الثاني،و هو عمرو يحق لعمرو أن يطالب خالدا،تماما كما جاز لزيد أن يطالب عمرا،و لا يجوز لعمرو أن يطالب زيدا، لأن زيدا لم يأخذ العين من عمرو،بل على العكس،فان عمرا أخذ من زيد، و زيد أخذ من المالك.و كذا لو رجع المالك على الثالث،أي على خالد في المثال المتقدم،فلا يحق لخالد أن يطالب عمرا،لأن خالدا تسلم من عمرو،و لم يتسلم عمرو من خالد-ينبغي الانتباه أنّه لا مغرور هنا-و بكلمة:ان نسبة الأول إلى الثاني،و نسبة الثاني إلى الثالث،تماما كنسبة المالك إلى الأول،فإن الأول اغتصب من المالك،و الثاني اغتصب من الأول،و الثالث اغتصب من الثاني،لأن الغاصب من الغاصب غاصب،و النتيجة الحتمية لذلك أن الضمان يستقر في النهاية على من تلفت العين في يده.

الخلاصة:

و الخلاصة إذا كان في أصحاب الأيدي المتعاقبة مغرور فلا يستقر الضمان عليه بحال،و ان رجع عليه المالك رجع هو بدوره على من غرّه،و إذا لم يكن فيهم مغرور يستقر الضمان على من تلفت العين في يده،بحيث إذا رجع المالك عليه لم يبق من شيء،و إذا رجع على من تقدم عليه جاز للمتقدم أن يرجع على المتأخر،حتى تنتهي السلسلة إلى الأخير الذي تلفت العين في يده.و ليس من

ص:115

شك أن تلف العين تحت اليد سبب لضمان صاحبها البدل من المثل أو القيمة (1)فإن استوفى المالك حقه ممن تلفت العين في يده لم يرجع بعض أصحاب الأيدي على بعض،لعدم الموجب،و ان استوفى حقه من غير الذي تلفت العين في يده قام هذا الغير مقام المالك في المطالبة بالبدل،لأن المفروض ان ضمان البدل قد استقر على من تلفت العين في يده،و لا بد لهذا البدل من صاحب،و لا يعقل أن يكون صاحبه مالك العين،لأنه قد استوفى حقه،و الحق لا يتعدد،فلم يبق لهذا البدل من صاحب إلاّ من استوفى المالك حقه منه.و بكلمة موجزة و جامعة مانعة:ان الضمان يستقر على من تلفت العين في يده إلاّ إذا كان مغرورا، و إلى هذا المعنى تومي،العبارة الشائعة في كتب الفقه،و هي:«يرجع كل سابق على كل لاحق،و لا يرجع السابق على اللاحق إطلاقا».

القيمة:

سبق أن العين إذا تلفت كان للمالك الحق بالتعويض من المثل أو القيمة، فلو افترض أن العين كانت قيمية،فهل للمالك المطالبة بقيمتها السوقية حين الغصب،أو حين التلف،أو أعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف؟.

أقوال،أصحها القيمة حين التلف،لأن حق المالك يتعلق بالعين ما دامت قائمة،فان هلكت تعلق بالبدل حين هلاكها.اذن،تتعين القيمة من هذا الحين.

و قد تكلمنا عن ذلك في كتاب«أصول الإثبات»فصل اليد و الضمان،و سنتعرض له مفصلا إن شاء اللّه مع منافع المغصوب،و مؤنة رده في الاجزاء الآتية باب الغصب.

ص:116


1- أسباب الضمان ثلاثة:مباشرة الإتلاف،كمن كسر إناء غيره بنفسه،و التسبيب،كمن حفر حفره في الطريق العام،فسقط فيها أحد المارة،و منه التغرير،و اليد كمن استولى على مال الغير فتلف بآفة سماوية أو بغيرها.

شروط العوضين

اشارة

سبق أن البيع يتم بالصيغة المعبرة عن القصد مع تراضي المتعاقدين اللذين هما طرفا الالتزام،و بالعوضين،و هما محل العقد،و فيهما يظهر أثره.و تقدم الكلام عن الصيغة و شروطها،و المتعاقدين،و ما يعتبر فيهما.و ننتقل الآن إلى شروط العوضين،أي الثمن و المثمن،و هي،كما جاءت في كتاب المكاسب أربعة شروط:

1-المالية مع جواز الانتفاع بما وقع ثمنا أو مثمنا.

2-السلطة على العين مع إطلاقها،و عدم حبسها،و عبّر كثيرون عن هذا الشرط بالملكية المطلقة.

3-القدرة على تسليمها.

4-العلم بها صنفا و كما و وصفا.

المالية و المنفعة المباحة:

الشرط الأول أن يكون كل من العوضين مالا ذا قيمة يجري فيه البذل و المنع عند العرف،و يجوز الانتفاع به في نظر الشرع،و يتفرع على هذا الشرط ما يلي:

1-ان البيع يقع على الأعيان دون المنافع،و ان جاز أن تكون محلا للإجازة و الهبة و الصلح،قال:صاحب الحدائق:«المشهور بين الفقهاء أنّه يشترط

ص:117

في كل من العوضين أن يكون عينا،فلا يصح بيع المنافع».و يصح بيع بعض الحقوق،كحيازة الأرض،و التحجير على المفلس.

أمّا العين التي لا يجري فيها البذل و المنع،كحبة الحنطة،و حفنة التراب فلا تعد مالا،و بالتالي لا يصح أن تكون ثمنا أو مثمنا في البيع،لأن البيع مبادلة مال بمال.و لا يستلزم ذلك جواز أخذ حبة الحنطة و الحبتين مع ملك الغير،لأن عدم المالية شيء،و الملك شيء آخر،و النسبة بينهما عموم من وجه يجتمعان معا في مثل الدار،فإنها مال و ملك،و يفترق المال في المعادن تحت الأرض،فإنها مال لا ملك،و يفترق الملك في حبة الحنطة فإنها ملك لا مال.

و تسأل:كيف تقول:ان البيع يقع على الأعيان،مع العلم بأن كلا من الثمن و المثمن يجوز أن يكون في الذمة بالاتفاق؟.

و نجيب بأن مرادنا من الأعيان هنا في قبال المنافع،و ان البيع يجب أن يتجه إلى العين دون المنفعة،سواء أ كان العوضان خارجيين،أو ذميين.

2-ذكر الشيخ الأنصاري في أول المكاسب بعنوان«الاكتساب المحرم» صفحات طوالا عدد فيها الأعيان التي يحرم التكسب بها،و أطنب في ذكر الأقوال و أدلتها،و الرد عليها،نذكر منها هذه المقتطفات:

«تحرم المعاوضة على بول ما لا يؤكل لحمه بلا خلاف،لحرمته و نجاسته، و عدم الانتفاع به منفعة محللة مقصودة.و الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة التي ينتفع بها منفعة محللة.و أيضا تحرم المعاوضة على الدم النجس بلا خلاف.أمّا الدم الطاهر فالأقوى الجواز إذا كانت له منفعة محللة.و تحرم المعاوضة على الميتة منفردة،و منظمة مع المذكى،و تحرم أيضا على أجزائها التي تحلها الحياة من ذي نفس سائلة على المعروف من مذهب الفقهاء.و أيضا تحرم المعاوضة

ص:118

على كلب الهراش،و تجوز على كلب الماشية و الصيد و الزرع و الحائط-أي البستان-فعن الامام الصادق عليه السّلام ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:ثمن الخمر،و مهر البغي،و ثمن الكلب الذي لا يصطاد سحت،و لا بأس بثمن الهرة-و ليس من شك أن كلب السيدات و الآنسات لا يصطاد بالمعنى المعروف للصيد فيكون ثمنه سحتا،تماما كمهر البغي.و تجوز المعاوضة على الدهن المتنجس على المعروف من مذهب الفقهاء،مع وجوب إعلام المشتري-ان كان مسلما لا يستحل الميتة-حيث يمكن الانتفاع به في غير الأكل،كصناعة الصابون و ما إليه.

و تحرم على ما لا يقصد منه إلاّ الحرام،كالأصنام إجماعا و نصا.أمّا بيع العنب ممن يعلم المشتري أنّه يعمله خمرا فينظر:فان باعه بقصد أن يصنع خمرا فلا يجوز بلا خلاف،و ان باعه بغير هذا القصد فأكثر الفقهاء على الجواز للروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل،له كرم،يبيع العنب ممن يجعله خمرا،أو مسكرا؟.قال:انما باعه حلالا في الزمان الذي يحل شربه و أكله،فلا بأس ببيعه.و يحرم بيع السلاح من أعداء الدين إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:إذا كانت الحرب فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعين به علينا فهو مشرك.و تحرم المعاوضة على الخمر و الخنزير، و آلات اللهو و القمار.أما التماثيل المجسمة فإن كانت لغير ذوات الأرواح، كالشمس و القمر و الأشجار جاز عملها و بيعها و اقتناؤها،و ان كانت لذوات الأرواح،كالإنسان و الحيوان و الطيور حرم عملها،و حلّ اقتناؤها بالإجماع، و اختلفوا في بيعها،فمن قائل بالمنع،و قائل بالجواز.أمّا التصوير الشائع غير المجسم فيجوز عمله إطلاقا لذوي الأرواح،و غير ذوي الأرواح و كذا يجوز بيعه و اقتناؤه».

ص:119

و من تتبع كلمات أهل البيت عليهم السّلام،و أقوال الفقهاء و أدلتهم،و أنعم فيها الفكر لا بد له أن ينتهي إلى الجزم و اليقين بأن السبب الموجب لتحريم المعاوضة على الأعيان النجسة و المتنجسة هو أخذ العوض على المنفعة المحرمة،لأن أكل العروض عنها أكل للمال بالباطل،و يصدق عليه قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إذا حرم اللّه شيئا حرم ثمنه».أما إذا استعمل في الجهة المحللة فلا يكون حراما،و لا أكلا للمال بالباطل،فكلب الهراش يحرم بيعه بالنص،حيث لا منفعة منه،و يجوز بيع كلب الصيد و الماشية و الزرع و البستان،لمكان الانتفاع به.و كذا جلد الميتة يجوز بيعه،ليجعل قرابا،أو سرجا،أو غربالا،بل يجوز بيع الميتة بالذات لو افترض صلاحها لجهة مباحة،و يدل على ذلك أن الامام عليه السّلام سئل عن بيع الميتة؟ فقال:«لا ينتفع بها»و معنى هذا أنه لو أمكن الانتفاع بها لساغ بيعها.

و يجوز بيع العذرة للتسميد،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس ببيع العذرة، حيث يحمل على استعمالها في جهة محللة.و يحمل قوله عليه السّلام:«ثمن العذرة سحت»على استعمالها في الجهة المحرمة.

و لو أن إنسانا أراد أن يبيع من دمه دون أن يتضرر،يبيعه لمريض يحتاج إليه يصح البيع،و يحل الثمن،كما تصح هبة الدم بلا عوض.

و من الشواهد على ما قلنا ان جماعة سألوا الإمام عليه السّلام عن جلود الميتة يعملون منها غلافات للسيوف؟.فأجابهم اجعلوا ثوبا للصلاة.و سئل عن رجل يعمل الحمائل من شعر الخنزير؟.قال:فليغسل يده.و سئل عن العجين النجس،و الحيوان الذكي يختلط بالميتة؟.قال:يباع ممن يستحله.و إذا كان ثمن الميتة و العجين النجس حلالا فيحل ثمن غيرهما من أعيان النجاسات و المتنجسات،حيث لا خصوصية للمورد المسؤول عنه،على شريطة أن يقصد

ص:120

استعمالها في المباحات لا في المحرمات.

و مما قاله الشيخ الأنصاري في ذلك:«إذا قام الدليل على جواز الانتفاع منفعة مقصودة بشيء من النجاسات فلا مانع من صحة بيعه،لأن ما دل على المنع من بيع النجس من النصوص و الإجماع ظاهر في كون المانع حرمة الانتفاع».

و قال السيد اليزدي في حاشية المكاسب:«ان المناط أن تكون المنفعة المحللة مقومة لماليته،بحيث لو أغمض عن المنفعة المحرمة يعد مالا،و ان كانت المنفعة نادرة،لأن المتيقن من أدلة المنع انما هو بيعها بلحاظ الوجه المحرم،بل لو فرض أن للنجس منفعة نادرة غير مقومة لماليته،و قصد من البيع تلك المنفعة النادرة كفى في الصحة.فهو نظير ما لو باع مالا محللا بقصد منفعة نادرة لا يعد الشيء مالا بلحاظها،فإنه لا ينبغي الإشكال في صحته».

و هذا معناه أن جميع الأعيان النجسة يجوز بيعها لمجرد وجود منفعة محللة،حتى و لو كانت هذه المنفعة نادرة،و كانت المنفعة المحرمة هي الغالبة، و بديهة أن كل شيء من المحرمات لا يخلو من المنفعة النادرة.

و أصرح في الدلالة على ذلك قول الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري،حيث صرح ببيع الخمر للغاية نفسها،قال تحت عنوان«في المكاسب المحرمة»:لا يستفاد من أخبار أهل البيت عليهم السّلام مجرد التعبد بحرمة النجاسات و المحرمات.فإذا فرض أن جلد الميتة لا يتوقف استيفاء المنافع المهمة على طهارته فلا بأس ببيعه.و كذا الخمر و النبيذ و نحو ذلك فان المقصود أنّه إذا فرض هناك منفعة مهمة عقلانية،و لم يتوقف استيفاؤها على الطهارة، كالاستقاء بجلد الميتة للزرع جاز البيع،و على هذا فبيع العذرة في البلاد التي تنتفع بها لا بأس به،و هكذا نفس الميتة و الخمر».

ص:121

السلطة على العين:
اشارة

الشرط الثاني أن يكون للبائع سلطة مطلقة تامة على المثمن،و للمشتري سلطة مثلها على الثمن،و أي عاقل يجعل البحار و الأنهار ثمنا أو مثمنا.و كذا الأسماك و الطيور و الوحوش،و ما إليها من المباحات قبل حيازتها و الاستيلاء عليها.

و بإطلاق العين تخرج المحبوسة بالوقف و الرهن،فان حبس العين بأحدهما يمنع كلا من الموقوف عليه و الراهن من التصرف في العين تصرفا ناقلا،قال الشيخ الأنصاري:«ذكر الفاضلان-هما العلامة و المحقق الحلّيان- و جميع من تأخر عنهما في شروط العوضين بعد الملكية كون العين طلقا، و فرعوا على ذلك عدم جواز بيع الوقف إلاّ ما استثني،و لا الرهن إلاّ بإذن المرتهن».

الشراء بالمال المغصوب:
اشارة

و الحقيقة ان هذا الشرط تفرضه البديهة،فالتبسط فيه تبسط بالواضحات.

أجل،هنا مسألة تتصل بهذا الشرط تجدر الإشارة إليها،و هي أن من اغتصب مال الغير،و اشترى به شيئا،فهل يملك المبيع،و يحل له،غاية الأمر أن المشتري يكون آثما،و ضامنا للمال المغصوب،و إلاّ فالبيع صحيح أو أن البيع يقع باطلا من رأس،و يحرم على المشتري التصرف في المبيع،أو أن الشراء يقع فضالة عن صاحب المال،و يصير لازما بالإجازة؟.

الجواب:

إن وقع الشراء على عين المغصوب بالذات،كما لو قال الغاصب:اشتريت

ص:122

كذا بهذا المال،فإن أجاز صح البيع للغاصب،و إلاّ بطل البيع من الأساس.

و على هذا المعنى تحمل هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام،فلقد سئل عن رجل اشترى ضيعة أو خادما بمال أخذه من قطع الطريق،أو السرقة:هل يحل له ما يدخل عليه من ثمر الضيعة و الخادم؟.فأجاب الإمام عليه السّلام:لا خير في شيء أصله الحرام،و لا يحل له استعماله.

و ان وقع الشراء على أن يكون الثمن كليا في الذمة،لا على العين المغصوبة،و عند الوفاء سدد المشتري من مال الغير،ان كان كذلك صح البيع، و حل المبيع،و على المشتري الإثم و الضمان.و على هذا المعنى يحمل قول الإمام عليه السّلام:لو أن رجلا سرق الف درهم،فاشترى بها جارية،و أصدقها المهر كان الفرج له حلالا،و عليه تبعة المال-أي ضمانه.

القدرة على التسليم:
اشارة

الشرط الثالث ان يكون البائع قادرا على تسليم المثمن للمشتري، و المشتري قادرا على تسليم الثمن للبائع.و جاء في كتاب«المكاسب»خمسة أدلة على هذا الشرط:الأول:أن البيع مع عدم الوثوق بوقوع مضمونه و مؤداه يكون بيعا غرريا،و قد نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع الغرر،و النهي هنا يستدعي الفساد بالإجماع.الثاني:الحديث المشهور عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا تبع ما ليس عندك».إذا فسرناه بما لا تقدر على تسليمه،و قريبا يأتي الكلام حول هذا الحديث.الثالث:أن العقد بطبعه يستدعي وجوب تسليم كل من العوضين إلى صاحبه،فيجب أن يكون التسليم مقدورا،و إلاّ كان تكليفا بالمحال.الرابع:أن الغرض من البيع انتفاع البائع بالثمن،و المشتري بالمثمن،و لا يتم ذلك إلاّ

ص:123

بالتسليم،فإذا تعذر التسليم تعذر البيع.الخامس:أن بذل الثمن لقاء شيء غير مقدور سفه،و أكل للمال الباطل.

و سواء أ كان كل دليل من هذه الأدلة بمفرده صحيحا أو أنّها بمجموعها تستدعي الركون و الاطمئنان فإن الذي ليس فيه شك أن الفقهاء قد أجمعوا على هذا الشرط،و ان العرف يرى المعاملة،مع العجز عن التسليم و التسليم لغوا لا أثر لها،تماما كبيع السمك في الماء،و الطير في الهواء.

و تتفرع على هذا الشرط
اشارة

مسائل هامة نعرض طرفا منها فيما يلي:

القدرة عن الاستحقاق:

تعتبر القدرة على التسليم و التسليم حين نفاذ العقد و الاستحقاق، و لا تجدي القدرة شيئا عند العقد،مع العجز عن التسليم حين الاستحقاق،كما لا يضر العجز حين العقد،مع القدرة حين الاستحقاق،و على هذا يجوز بيع الدقيق في الحنطة،و الزيت و الزيتون،و التبن في الزرع قبل حصاده،و اللحم في الشاة قبل ذبحها،لأنه موجود مآلا،و ان لم يوجد حالا،فلا يكون الاقدام عليه غررا، و لا سفها،و لا تكليفا بالمحال.

قدرة المشتري فقط:

إذا عجز البائع عن التسليم،و قدر المشتري عليه،فهل يصح البيع؟.و مثال ذلك أن يغصب دارك من هو أقوى منك،فتبيعها أنت ممن هو أقوى من الغاصب القادر على تخليصها منه.

ص:124

الجواب:

أجل،يصح،لأن الهدف من اشتراط القدرة هو وصول المبيع إلى من انتقل إليه،و قد تحقق،قال الشيخ الأنصاري نقلا عن كتاب الإيضاح:«و هذا مما انفردت به الإمامية،و هو المتجه».و استدل عليه بأنه لا غرر فيه و لا سفه.

لا تبع ما ليس عندك:

سبق في فصل الفضولي أن من باع مال الغير يقع فضالة عنه،فإن أجاز صاحب المال نفذ البيع و إلاّ بطل من الأساس،و نشير-هنا-إلى أن الفقهاء قد اتفقوا على أن من يبيع مال الغير بيعا باتا،ثم يمضي إلى صاحب المال،فيشتريه منه،و يسلمه إلى المشتري،اتفقوا جميعا على عدم صحة البيع،لأن الناس مسلطون على أموالهم،لا على أموال غيرهم،و الحديث«لا بيع إلاّ ما يملك»فإنه يدل على نفي البيع قبل تملك العين،و أيضا الحديث«لا تبع ما ليس عندك»الدال صراحة على المنع عن بيع ما لا سلطان للبائع عليه،سواء أ كان غير مملوك لأحد، كالسمك في الماء،أو كان ملكا لغير البائع،أو كان ملكا للبائع،مع عجزه عن السيطرة عليه،كالجمل الشارد،و العبد الآبق.

أجل،يجوز للسمسار أن يتفق مع زيد-مثلا-على أن يشتري السمسار مال الغير لنفسه،ثم يبيعه لزيد بثمن معين،و لكن هذا الاتفاق لا يلزم زيدا بالبيع، بل يبقى على إرادته،ان شاء أخذ،و ان شاء ترك.قال عبد الرحمن بن الحجاج:

قلت للإمام الصادق عليه السّلام:يجيء الرجل،فيطلب المتاع،فاشتريه،ثم أبيعه منه؟.

فقال:أ ليس ان شاء ترك،و ان شاء أخذ؟.قلت:بلى.قال:لا بأس به.

و كذا يجوز أن يبيع شيئا في الذمة،كطن من حنطة،و ليس عنده شيء منه،

ص:125

ثم يشتريه،و يسلمه للمشتري،لأن القدرة عند التسليم كافية لصحة البيع،فلقد سئل الإمام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل،و ليس عنده؟.فقال:لا بأس به.

فان المراد بهذه الرواية التي نفت البأس البيع في الذمة،و بالرواية السابقة التي أثبتت البأس بيع العين الخارجية المملوكة للغير.

الضميمة لا تصحح البيع:

إذا باع شيئين معا،و في صفقة واحدة،أحدهما يمكن تسليمه،و الآخر يتعذر،كما لو باع بعيرا شاردا مع الثوب بعشرة،فهل يصح البيع؟.

كلا،لأن ضم مقدور إلى غير مقدور لا يجعل المجموع مقدورا،و لا يخرج ما لا يستطاع إلى ما يستطاع.

و تقول:لقد ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن العبد الآبق يجوز بيعه مع الضميمة.

و الجواب:

أجل،و لكن هذا البيع يخالف الأصول و القواعد،فيقتصر فيه على مورد الرواية فقط،و هو بيع العبد الآبق،على أنّه لا مكان اليوم للعبيد و الإماء.

و بالتالي،فان كل ما لا يصح بيع منفردا لا يصح بيعه منظما إلى ما يصح بيعه (1).

معنى الغرر:

سبق أن البيع مع عدم القدرة على التسليم باطل لمكان الغرر،و يأتي أيضا

ص:126


1- هذه الجملة،أو هذا الضابط العام جاء بالحرف في كتاب مفتاح الكرامة الجزء السادس [1]متاجر ص 287.

في الشرط الرابع أن البيع مع الجهل بالعوضين كذلك،و هذا يستدعي الإشارة إلى معنى الغرر،و قد جاء عن أمير المؤمنين عليه السّلام:«أن الغرر عمل لا يؤمن معه الضرر» قال صاحب الجواهر:و هذا المعنى جامع لجميع ما قاله أهل اللغة و الفقه،و عليه فأية معاملة ينطبق عليها أنّها عمل لا يؤمن معه من الضرر تكون باطلة،لمكان الغرر.

و فسر الشيخ الأنصاري الغرر بالمخاطرة التي قد تفضي إلى التنازع و المشاجرة بسبب المعاملات،و يرجع هذا التفسير إلى ما نقلناه عن الإمام عليه السّلام، و اختاره صاحب الجواهر من أنه«عمل لا يؤمن معه من الضرر».ثم أنه ليس من الضروري أن يكون الغرر مساوقا للجهل،بل قد يوجد الجهل،حيث لا غرر، فان كثيرا من العقلاء يقدمون على شراء أشياء يجهلون حقيقتها،و لا يعدون الاقدام عليها ضررا و خطرا،بل قد يرون الإحجام عنها سفها أو أشبه بالسفه.قال الشيخ الأنصاري:ان العقلاء يقدمون على الضرر القليل رجاء النفع الكثير، و يشترون الشيء المجهول بثمن لا يتضررون به،كالمردد بين النحاس و الذهب.

فان ذلك مرغوب فيه عند العقلاء،بل يوبخون من عدل عنه،و لا يقبلون منه الاعتذار بأنه مخاطرة».اذن،فالغرر لا يلازم الجهل ابدا و دائما،بل قد و قد.

العلم بالعوضين:
اشارة

الشرط الرابع أن يكون كل من العوضين معينا عند المتعاقدين تعيينا ينتفي عنه الغرر،و لا يصدق عليه الاقدام على المخاطرة،فلا يصح بيع المجهول الذي فيه غرر،كبعتك ثوبا،و بالمجهول،كاشتريت هذا بثوب،بل لا بد من العلم مسبقا بالقدر و الصنف و الوصف.و أيضا لا يصح جعل الثمن بحكم أحد

ص:127

المتعاقدين،و لا بحكم ثالث،أما طريق المعرفة إلى كل من الثمن و المثمن فيختلف باختلافه كنها و حقيقة،جاء في كتاب الجواهر أوّل باب التجارة:«معرفة كل شيء بحسبه،و ما جرت فيه العادة بتقدير مخصوص فالعلم يتبع حصول ذلك التقدير،و بيعه،بدونه تخرص و تخمين،و ليس من العلم في شيء».فبعض الأشياء يكون سبيل العلم إليه المشاهدة،و بعضها الوصف،و بعضها الكيل،أو الوزن،أو العد،أو المساحة،و بعضها لا طريق إلى معرفته إلاّ الشم أو الذوق،أو الكسر،و الآن ننتقل إلى الكلام عن هذه الطرق.

المشاهدة:

ليس من شك أن المشاهدة العادية-أي الرؤية البصرية-لا تكون طريقا لمعرفة كل شيء،بل لبعض الأشياء،كالأثاث،و الملابس،و الكتب، و القرطاسية،و ما إلى ذاك مما تكفي فيه رؤية العين عند العقلاء،و لا يضر الجهل ببعض الصفات التي يتسامح بها العرف،و لا يعد في نظرهم غررا و لا ضررا،قال الشيخ الأنصاري:«المعيار في الاكتفاء بالمشاهدة هو رفع الغرر الشخصي».

و تجدر الإشارة إلى أن قول الفقهاء انما يكون حجة متبعة إذا أجمعوا على حكم شرعي،كالإجماع على أن بيع الغرر باطل،أما التطبيقات الخارجية، و تشخيص الموضوعات.أما ان هذا البيع فيه غرر،أو لا غرر فيه،فيرجع إلى نظر الشخص صاحب العلاقة،لا إلى نظر الفقهاء و المجتهدين،مهّدنا بهذه الإشارة لنبين أنه لا وزن للإجماع الذي نقله صاحب التذكرة و غيره على أن المشاهدة تكفي في بيع الثوب و الأرض،لأنه إجماع على تشخيص الموضوع و المصداق،لا على حكم شرعي كلي،كي يكون حجة.فلو افترض أن مشاهدة

ص:128

هذه القطعة الخاصة من الأرض لا ينتفي معها الغرر لا يصح البيع،و بالاختصار ان المشاهدة ليست بقاعدة كلية لصحة البيع،و ان قام عليها الإجماع،لأن سر الصحة هو عدم الغرر،فمتى تحقق بأية وسيلة صح البيع،و إلاّ فهو باطل.

الوصف:

ان معرفة الشيء بنوعه،أو صنفه فقط لا يرفع الغرر،فلا يصح أن يشتري فرسا،أو ثوبا في الذمة دون أن يذكر الوصف الذي تختلف بسببه القيمة و الرغبات،و كذا لا يصح أن تشتري فرس زيد الموجود في غير مجلس العقد دون أن تراه.و يصح أن تشتريه،و هو غائب عنك اعتمادا على وصف صاحبه بصفات تتفاوت معها الرغبات،كالسن و الهزال و السمن،و أنه أصيل أو برذون، و ما إلى ذاك مما ينتفي معه الغرر،فإذا وجدت المبيع على الوصف حين القبض لزم البيع و إلاّ فلك حق الخيار في الفسخ،لتخلف الوصف،أو الشرط الضمني- و يأتي التفصيل في فصل الخيارات.

و إذا كنت قد شاهدت الفرس قبل البيع،ثم غبت عنه أمدا لا تظن التغير فيه،لاقتضاء العادة بقاءه على صفاته في هذا الأمد،و اشتريته اعتمادا على ذلك، فإن رأيته عند القبض على ما كان لزم البيع،و ان رأيته خلاف ما عهدت،و أنّه قد تغير بما لا يتسامح به عادة فلك حق الخيار في الفسخ دفعا للضرر.و كذلك الحال بالقياس إلى البائع فإن هذا الخيار يثبت له ان كان قد باع ملكه الغائب اعتمادا على ما وصف له،أو على مشاهدة سابقة،ثم تبين أن المبيع قد زاد زيادة تستدعي ارتفاع الثمن ارتفاعا لا يتسامح به.

ص:129

الاختلاف في التغير:

إذا وقع البيع اعتمادا على المشاهدة السابقة،و بعد البيع اختلف المتبايعان في حدود التغير،فقال المشتري:قد تغيرت العين عما كنت رأيتها،فلي حق الخيار في الفسخ،و قال البائع:كلا ما زالت كما كانت عند المشاهدة،فمن هو المدعي الذي عليه عبء الإثبات؟و من هو المنكر الذي عليه اليمين فقط؟و مثال ذلك أن يشاهد زيد فرس عمرو،و بعد أمد يشتريه منه بثمن معين على تلك الصفات التي رآه عليها،و لدى التسليم و التسلّم قال المشتري اشتريته سمينا، و هو الآن هزيل،و قال البائع:بل اشتريته هزيلا،كما هو الآن.

و ليس من شك أن تمييز المدعي من المنكر من أدق المسائل و أهمها على الرغم من أن الضابط و المعيار لكل منهما معلوم لا ريب فيه،و هو موافقة قول المنكر للأصل،و مخالفة قول المدعي له،و لكن الدقة في التطبيق،و تشخيص الموارد و الافراد،و مهما يكن،فان في ذلك قولين:

و أصحهما ما ذهب إليه المشهور من أن البائع هو المدعي،و المشتري هو المنكر،فيقبل قوله بيمينه،و ذلك أن النزاع في أن هذا التعاقد جائز،أو لازم يرجع في حقيقته إلى أن التعاقد وقع على هذا الفرس بوصفه هزيلا،حتى يلزم العقد،أو بوصفه سمينا،حتى يكون جائزا،فإذا أجرينا أصل عدم العقد على الهزيل كان العقد جائزا بحكم البديهة،لأن جواز العقد يستند ابتداء،و بلا واسطة إلى عدم العقد على الهزيل،و على هذا يكون قول المشتري موافقا للأصل،فيقبل مع يمينه إذا لم يكن للبائع بينة تثبت دعواه.

و تقول:ان الأصل عدم العقد على الفرس السمين أيضا،فيثبت ان العقد لازم،لا جائز،و يكون قول البائع موافقا للأصل،فيقبل بيمينه.

ص:130

و نجيب بان لزوم العقد اثر لوقوعه على الهزيل،و ليس أثرا لعدم وقوعه على السمين،حتى يكون هذا الأصيل مجديا،بخلاف جواز العقد،فإنه أثر شرعي لعدم وقوعه على الهزيل،أي على الفرس الموجود بالفعل،و بديهة أن نفي السمين بالأصل يثبت وجود الهزيل بالملازمة العقلية،لا بالملازمة الشرعية، أي ان نفي الضد بالأصل،لا بالوجدان،و لا بالبينة يلزمه وجود الضد الآخر بحكم العقل،لا بحكم الشرع الذي يعتمد لإثبات موضوعات أحكامه و تشريعاته على المشاهدات و البينات،لا على حكم العقل بالتوافق،أو التناقض بين الطبيعيات و الخارجيات.

و بتعبير ثان لو افترض أن العقد في الواقع قد جرى على الفرس الهزيل لكان لازما يجب الوفاء به،و هذا معناه أنّه لو لم يقع على الهزيل يكون جائزا بذاته،و بغض النظر عن وقوعه على السمين.و عليه فإذا أردنا أن نثبت جواز العقد فلا نحتاج إطلاقا أن نثبت وقوعه على السمين،بل يكفي أن نثبت عدم وقوعه على الهزيل.مع العلم بأن عدم التعاقد على الهزيل يلزمه عقلا ثبوت التعاقد على السمين،غير أنّا لسنا بحاجة إلى ذلك،ما دام عدم التعاقد على الهزيل بذاته كاف واف لجواز العقد بدون آية واسطة.

و لو افترض أن العقد جرى على السمين يكون العقد-في مسألتنا-جائزا، و لكن عدم وقوعه على السمين لا يثبت لزوم العقد،لأن لزومه أثر لوقوعه على الهزيل،و وقوعه على الهزيل لا يثبت بأصل عدم وقوعه على السمين إلاّ إذا أدخلنا في حسابنا أن عدم الضد ملتزم لوجود الضد الآخر،و لا يمكن بحال أن ندخل ذلك في الحساب بصفتنا فقهاء متشرعين،لأن هذه الملازمة من شؤون العقل،لا من شؤون الشرع.

ص:131

هذا أقصى ما لدي من التوضيح لما اراده الشيخ الأنصاري بقوله:«يرجع النزاع إلى وقوع العقد على ما ينطبق على الشيء الموجود،حتى يلزم الوفاء و عدمه،و الأصل عدمه،و دعوى معارضته بعدم وقوع العقد على العين غير المقيدة بأصالة عدم وقوع العقد على المقيدة،و هو غير جائز،كما حقق في الأصول» (1).

المكيل و الموزون و المعدود:

سبق البيان أن كلا من الثمن و المثمن لا بد أن يكون معلوما للمتعاقدين، و ان طريق العلم به قد يكون المشاهدة،أو الوصف،أو الوزن،أو الكيل،أو العد، أو المساحة.و قد أطال الفقهاء في المكيل و الموزون،و سودوا الصفحات الطوال العراض،و أنّه هل المراد منهما ما كان مكيلا و موزونا في زمان الشارع فقط،أو أن لكل بلد عاداته و تقاليده في ذلك،سواء اتفقت مع زمن الشرع أو اختلفت؟.

و تكلموا و أطالوا أيضا في أن المكيل هل يجوز بيعه وزنا،و الموزون كيلا، و المعدود بأحدهما،أو المشاهدة؟و تكلموا فيما تفتقر معرفته إلى الاختبار بالذوق أو الشم،الى غير ذلك.

و بديهة ان الوزن و الكيل و العد،كل هذه و ما إليها وسائل لمعرفة الكم،لا

ص:132


1- إذا بقي شيء من الغموض بعد التوضيح و البيان فلأن المطلب غامض و دقيق في نفسه،و هو من صغريات المسألة المعروفة«بالأصل المثبت»عند علماء الجامعة النجفية،و قد أمضيت أشهرا في دراستها عند الاساتذة،و اعتقد أنها من المسألة المعروفة«بالشبهة المصداقية»و مسألة«قاعدة اليقين»من جملة ما انفردت به جامعة النجف الأشرف،و قد كتبت عن هذه الثلاثة مقالا مطولا بعنوان-أصول الفقه بين القديم و الجديد-في مجلة رسالة الإسلام المصرية لدار التقريب عدد رمضان 1369 ه.

غاية في نفسها،كما أن المشاهدة و الوصف،و اختبار اللون و الطعم و الرائحة وسيلة لمعرفة الكيف،فالعبرة برفع الغرر،فكل ما لا غرر فيه فهو صحيح،و كل ما فيه غرر لا يتسامح به عرفا فهو باطل،و يؤيده تعليل الفقهاء للبيع الباطل بأنّه غرر،و للبيع الصحيح بعدم الغرر،قال الشيخ الأنصاري في المكاسب ما نصه بالحرف:«لو فرض اندفاع الغرر بغير التقدير كفى،كما إذا كان للمتبايعين حدس قوي بالمقدار يندر تخلفه عن الواقع،و كما إذا كان المبيع قليلا لم يتعارف وضع الميزان لمثله،كما لو دفع فلسا،و أراد به دهنا،فان الميزان لا يوضع لمثله، فيجوز بما تراضيا عليه من التخمين».

فالمهم-اذن-هو رفع الغرر،حتى و لو كان عن طريق الحدس و التخمين، أمّا الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام في هذا الباب فإنها لم ترد لتأسيس أصل شرعي في أن هذا النوع يباع كيلا،و ذاك يباع عدا،و بان الذوق و الشم في أشياء دون أشياء،فإن جميع روايات هذا الباب قد جاءت لبيان أصل واحد لا غير،و هو أن بيع الغرر محظور،و ان ما لا غرر فيه لا بأس به،سواء ارتفع الغرر بالمشاهدة، أو الوزن أو الكيل،أو الوصف،بل حتى بالحدس و التخمين-كما قال الشيخ الأنصاري-و لا أدل على ذلك من قول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا يحل للرجل أن يبيع بصاع غير صاع أهل المصر»فإنه إرشاد إلى رفع الغرر،لأن صاع أهل المصر معروف،و صاع غيرهم مجهول،و لو عرف صاع الغير لصح البيع به،و أي فقيه يمنع من البيع بغير صاع أهل المصر إذا علم المتبايعان بمقداره،و تراضيا عليه؟.

و بالاختصار ان المحظور هو بيع الغرر،فإذا ارتفع بوسيلة من الوسائل فلا حظر.

ص:133

البيض و البطيخ و الجوز:

إذا تعذرت معرفة العين على حقيقتها إلاّ بالكسر،كالبيض و البطيخ و الجوز،فهل يجوز جعلها ثمنا مع الجهالة،و تكون مستثناة من قاعدة«كل بيع غرري فهو غير جائز»؟.

اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر و المكاسب على أن الجهالة تغتفر في ذلك،و يصح معها البيع،قال صاحب الجواهر:«لا إشكال في تحقيق الجهالة في هذا البيع،و لكن للسيرة المستمرة في الأعصار و الأمصار على بيعه قلنا بجوازه و استثنائه من دليل الجهالة و الغرر»و قال صاحب المكاسب:«يجوز ابتياع ما يفسده الاختبار من دون اختبار إجماعا».

و الوجه في ذلك عند كثير من الفقهاء هو بناء العرف على أن الأشياء توجد سليمة بطبعها في الأعم الأغلب و الفرد الفاسد نادر،و النادر لا يقاس عليه، و المتعاقدان يجريان البيع على هذا البناء.و سواء اعتمد المتعاقدان على ظن السلامة أو غيره،فان الناس منذ القديم قد تبانوا على التسامح في هذه الجهالة، حيث لا طريق إلى رفعها-عندهم-و حيث لا تقوم المصلحة إلاّ كذلك،و اللّه سبحانه لا يكلف الناس بما يشق عليهم.

و لكن صحة هذا البيع مع الجهالة لا تنفي الخيار لمن انتقلت إليه العين إذا تبين فسادها،بل يثبت له خيار الأرش،دون الرد،أمّا ثبوت الأرش،فلأن به يتدارك الضرر،و أمّا عدم الرد فلأن التصرف بالكسر يمنع من إرجاع العين إلى صاحبها،أجل لو عرف العيب قبل الكسر بطريق من الطرق جاز الرد،لأن العين، و الحال هذه،ترجع إلى صاحبها كما تسلمها منه المشتري.و المراد بالأرش هو أن يدفع صاحب العين لمن انتقلت إليه التفاوت ما بين قيمتها صحيحة،

ص:134

و قيمتها فاسدة.

و إذا اشترط المشتري على البائع الرجوع عليه بالثمن لو تبين الفساد، و رضي البائع بالشرط جاز،كما أن البائع لو تبرأ من العيب،و قبل المشتري صح، لأن شراء المعيب جائز،و الإقدام عليه مع العلم به يسقط الخيار،و لكن جماعة من الفقهاء المحققين،و منهم صاحب الجواهر و المكاسب قالوا:إنما تجدي براءة البائع من العيب و الفساد إذا كان لمكسور العين قيمة،و لو زهيدة،أما إذا لم يكن لها قيمة من رأس،و كان مآلها إلى القمامة،كالبيضة الفاسدة بعد كسرها،أما هذه فلا تجدي البراءة منها نفعا،بل يقع البيع باطلا،و يحق للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن كاملا،قال صاحب المكاسب:«و لو لم يكن للمكسور قيمة لخروجه بالكسر عن التمول بطل البيع وفاقا لجماعة من كبار الفقهاء،كشيخ الطائفة الطوسي،و المحقق الحلي،و العلامة و غيرهم».و قال صاحب الجواهر:

«ان البراءة من العيب تفيد إذا كان للمكسور قيمة،و إلاّ فله الرجوع بالثمن،و ان تبرأ البائع من العيب،لبطلان البيع المقتضي لرجوع الثمن إلى مالكه،و إلاّ كان أكلا للمال بالباطل،و للثمن بلا مقابل».

و تقول:انما يتحقق أكل المال بالباطل إذا كان بلا رضى من صاحبه، و المفروض أن المشتري أقدم باختياره و ملء إرادته على شرط البراءة من العيب، و رضي بالبدل على تقدير الفساد.

و نجيب أن للإنسان أن يهب أمواله لمن يشاء،و لكن هذا شيء،و بيع ما لا قيمة له شيء آخر،و سبق أن من شروط العوضين أن يكون كل منهما ذا قيمة، و ان ما لا قيمة له لا يجوز بيعه،و مفروض مسألتنا أن المبيع لا قيمة له،فلا يصح بيعه،حتى مع التراضي و الاختيار.

ص:135

الحمل و الصوف و الظرف:

اجمع الفقهاء على أن الحمل منفردا لا يصح جعله ثمنا و لا مثمنا،لمكان الغرر،و يجوز بيعه مع أمه،و على الأصح بيع أمه الحامل.

أمّا بيع الصوف و الشعر على ظهور الأنعام فإن المشهور بين الفقهاء عدم الجواز.

و قال جماعة من كبار المحققين،منهم المفيد و العلامة و الشهيد الثاني و ابن إدريس و المحقق،قالوا:يصح بيع الصوف و الشعر قبل جزه،و ان جهل الوزن، تماما كما يجوز بيع الثمرة على الشجرة،و مما قاله الشهيد:لكن ينبغي الجز في الحال،أو شرط البقاء إلى مدة معلومة.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المكاسب إلى أنه يجوز بيع الزيت،و السمن مع ظرفه كل رطل بثمن معلوم،على أن يطرح للظرف رطل أو أكثر،حسبما يتفق عليه الطرفان،و تغتفر هنا الزيادة و النقيصة في الظروف،قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:جعلت فداك نطرح من طرف السمن و الزيت لكل ظرف كذا رطلا،فربما زاد،و ربما نقص؟.قال:«إذا كان عن رضى منكم فلا بأس».و يعرف هذا عند الفقهاء ببيع الإندار،أي الاسقاط،و المراد به قدر معين للظرف.

و أيضا أجاز المشهور أن يباع المظروف و الظرف معا عن كل رطل ثمن معلوم،كما هو المعروف و المألوف اليوم من بيع الفواكه و الخضار بصناديقها،أو بعض السلع المائعة و الجافة بغلافها،قال صاحب الجواهر:«و العلم بالجملة كاف عن معرفة الأبعاض-أي الأجزاء-و ان لم يكن المنضم-يريد الظرف-من الموزونات».

ص:136

و الذي يستفاد من هذه الأقوال،و مثلها كثير للفقهاء،ان كل ما جرى عليه العرف من طرق المعرفة بالعوضين،و تسامح الناس بالجهل به جائز غير محظور، حتى و لو بيع لوحدة جزافا مع إمكان العلم بمقداره تفصيلا من غير كسر و لا خراب،كبيع الصوف على ظهور الغنم،و لا شيء أدل و أصدق على هذه الحقيقة من قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا كان ذلك عن رضى منكم فلا بأس».

شروط الانعقاد و شروط اللزوم:

يتحصل مما قدمنا أن الصيغة لا بد أن تكون واضحة الدلالة،و ان يتوافق الإيجاب و القبول على محل واحد،و ان المتعاقدين يعتبر فيهما العقل و البلوغ، و القصد مع الاختيار،و الخلو من السفه و مرض الموت لو تصرف المريض فيما زاد عن الثلث،و ان العوضين يشترط فيهما المالية و الملك المطلق،و القدرة عليهما،و العلم بهما.

و نشير الآن إلى أن الاختيار و الرشد و الصحة في المتعاقد ليست شروطا لانعقاد العقد،و أصل وجوده،و انما هي شروط للزوم العقد و نفاذه،فان المكره يتم منه العقد،و لكنه لا يصير لازما إلاّ إذا رضي بعد الإكراه.و كذا السفيه يصح منه العقد،و لا يلزم إلاّ بإجازة الولي.و مثله عقد المريض مرض الموت فان نفاذه يتوقف على اجازة الورثة لو تصرف فيما زاد عن الثلث.و أيضا الملك المطلق في الثمن و المثمن شرط للزوم العقد،لانعقاده-في بعض الحالات-فالفضولي يصح منه العقد،و لا يلزم إلاّ بإجازة المالك.و كذا الراهن يصح عقده و ينفذ بإجازة المرتهن،أمّا بيع الوقف،مع عدم المسوغ فإنه باطل من الأساس.

و ما عدا الإرادة و الرشد و الصحة و الملك المطلق من الشروط فهو شرط

ص:137

لانعقاد العقد،سواء أ كان من شروط الصيغة،أو المتعاقدين،أو العوضين،فإذا انتفى واحد منها بطل العقد من الأساس،و تخلفت عنه جميع الأحكام.و إذا تمت الشروط بكاملها كان عقد البيع لازما إلاّ إذا اقترن بأحد الخيارات التي سنتكلم عنها في الفصل التالي.

النهي عن المعاملات:

اشتهر على الألسن ان النهي عن العبادات يدل على الفساد،دون المعاملات،و الحق أن النهي يدل بالمطابقة على التحريم فقط،و لا يدل بنفسه على الفساد،لا في العبادات،و لا في المعاملات،فإذا قال لك الشارع:لا تزل النجاسة بالماء المغصوب،و لا تذبح شاة الغير،و لا تقطع رأس الذبيحة حين الذبح،ثم خالفت،فغسلت النجاسة بالمغصوب،و ذبحت شاة الغير،و قطعت رأس الذبيحة عند الذبح،فان الثوب يطهر،و لحم الشاة لا يحرم،و ان كنت آثما بالعصيان،و تعرضت لغضب اللّه و عقابه،و إذا لم يدل النهي على الفساد من غير قرينة في مورد واحد فلا يدل عليه في كل مورد بلا قرينة،عبادة كان أو غيرها.

أجل،ان تحريم الشيء،أي شيء يستدعي أن يكون مكروها و مرغوبا عنه،و لا يصح عقلا التعبد للّه سبحانه بما يكره و يبغض،لأنه جل و عز لا يطاع من حيث يعصى و عليه فلا تكن العبادة المنهي عنها مقبولة لديه تعالى،و لا معنى لفساد العبادة إلاّ هذا.و منه يتضح ان دلالة النهي على فساد العبادة جاءت بتوسط العقل،و حكمه بأن المبغوض لا يمكن التقرب به إلى اللّه،أمّا النهي عن المعاملة فلا يدل على الفساد لا بنفسه و لا بالواسطة،و لعل هذا مراد من قال:ان النهي عن العبادات يدل على الفساد،دون المعاملات.

ص:138

غير أن الشارع كثيرا ما ينهى عن المعاملة إرشادا إلى أنّها غير مشروعة من الأساس،كبيع الحصاة (1)أو إلى أنّها تفقد شرطا من الشروط،كبيع المجنون، و الصبي غير المميز،أو إلى أن العين ليست أهلا للتمليك و التملك،كالخمر و الخنزير،و ما إلى ذاك مما لا يترتب عليه الأثر،لعدم استيفاء الشروط و توافرها.

و بتعبير ثان ان الشارع قد ينهى عن المعاملة الفاسدة التي نشأ فسادها من أمر آخر غير النهي،و لذا اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن المعاملة التي تتوافر فيها جميع الشروط تؤثر أثرها،و لا يتخلف عنها حكم من أحكامها،حتى و لو نهى عنها الشارع لسبب خارجي،كالنهي عن البيع حين النداء لصلاة الجمعة،أجل،يكون المباشر عاصيا مستحقّا للوم و العقاب،لمخالفة النهي.

و بالاختصار ان صيغة النهي من حيث هي لا تدل إلاّ على التحريم و القبح و معصية من خالف،و لم يمتثل،و هذا شيء،و سلب التأثير عن الفعل أو القول شيء آخر،و لكن لما كان تحريم الشيء يمنع من التقرب به إلى اللّه سبحانه بطلت العبادة المنهي عنها لذلك،لا لأن النهي عنها دل على بطلانها بالذات،أما المعاملة فليس الغرض منها التقرب إلى اللّه،و لذا تبقى سببا للتأثير و الإفادة حين النهي، كما كانت قبله.

النجش:

النجش لغة الزيادة،و المراد به هنا أن يتواطأ صاحب السلعة مع آخر على أن يزيد أمام الناس،و يدفع ثمنا كثيرا يوهم الناظر أنّه يريد الشراء،ليرغب

ص:139


1- و هو أن يقول المشتري:أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي فهي لي،كما كان يفعل أهل الجاهلية.

و يزيد،و اتفق الفقهاء على تحريم ذلك،و قال صاحب الجواهر:انّها غش و خديعة و تدليس،و إغراء بالجهل،و إضرار،و جاء في الحديث لعن الناخش و المنخوش،أي الكذوب و المفتعل.

و قال الفقهاء:لو اشترى الناظر صح البيع،لأن النهي تعلق بأمر خارج عن حقيقة المعاملة،و لكن له الخيار مع الغبن،و قال ابن الجنيد:المعاملة باطلة من رأس.

ص:140

الاحتكار

تحريمه عقلا و شرعا:

اتفق المسلمون كافة على تحريم الاحتكار،كفكرة للنص،و«القبح العقلي المستفاد من ترتب الضرر على المسلمين،و كون الحرص مذموما عقلا، و منافاته للمروءة،و رقة القلب المأمور بهما»كما قال صاحب الجواهر.

لقد فرّع شيخ الطائفة في عصره مبادئ دينية،و أحكاما شرعية،على المروءة و رقة القلب كتحريم الاحتكار،و توفي هذا الشيخ العظيم سنة 1266 ه، حيث لا قنبلة ذرية و لا هيدروجينية،و لا أسلحة جهنمية.و وددت لو يعيش في هذا العصر ليرى«المروءة و رقّة القلب»عند الغرب المستعمر.

و بغض النظر عن المروءة و رقة القلب فان لدينا أكثر من قاعدة شرعية توجب تحريم الاحتكار،منها:«لا ضرر و لا ضرار،و دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة،بخاصة إذا كانت المفسدة عامة،و المصلحة فردية،و الأهم مقدّم على المهم،ان كان هناك مهم،و وجوب الاحتفاظ بالنفس المحترمة،قال صاحب المسالك المعروف بالشهيد الثاني،باب الأطعمة و الأشربة:«ان كان المضطر إلى الطعام قادرا على المحتكر قاتله،فان قتل المضطر كان مظلوما،و ان قتل صاحب الطعام فدمه هدر».و منها كل ما كان سببا تاما للحرام فهو حرام،و قد أثبتت

ص:141

التجارب و الأيام ان الاحتكار سبب تام للاستعمار و الحروب،و استعباد الشعوب، و إزهاق الأرواح بالملايين،و إشاعة الرعب و الخوف في النفوس (1)و اختلال الأمن و النظام،و للكذب و التزوير،و الافتراء على الأبرياء،و إيقاظ الفتن،و بث النعرات الطائفية،و التفرقة العنصرية،و لسيطرة السفلة و الخونة،و تحكمهم بالبلاد و العباد،و لتحريف الشرعية،و إدخال البدع في الدين،و إظهار الإسلام و المسلمين بأقبح الصور عن طريق المستأجرين و الانتهازيين الذين اندسوا بين المعمّمين.و ايضا الاحتكار سبب لانفاق المقدرات و الأقوات على آلات الخراب و الدمار،و حرمان المعوزين من أشياء الحياة و أسبابها،إلى غير ذلك كثير مما شاهدنا و قاسينا من عناية و ويلاته.

أمّا النصوص الشرعية فقد تجاوزت حد التواتر من طريق السنة و الشيعة، منها ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه نهى عن أن يحتكر الطعام.و أن من احتكر لم يمت حتى يضربه اللّه بالجذام،أو الإفلاس.و ان في جهنم واد خاص بالمحتكرين،و مدمني الخمر،و القوادين.و منها قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان جالب الطعام مرزوق،و المحتكر ملعون.و في هذا الحديث دلالة واضحة على أن من يستورد ما تحتاجه الناس،للتيسير عليهم فهو الغني عند اللّه حقا،و أمّا المحتكر فهو الخسيس اللئيم.

و منها قول الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

أيما رجل اشترى طعاما،فحبسه أربعين صباحا،يريد الغلاء،ثم باعه،و تصدق

ص:142


1- قرأت اليوم في جريدة الاخبار المصرية تاريخ:1965/6/9 ان رصيد المخزون النووي يكفي لتدمير كوكبنا،و ان المخصص من هذا المخزون لكل انسان على وجه الأرض أكثر من 80 طنا من المواد المتفجرة.مع العلم بأن ثلثي البشرية الآن فريسة الجوع و المرض و التخلف.

بثمنه لم يكن كفارة لما صنع.و بهذا يتضح أن حكم المحتكرين الذين يغطون سوءاتهم بالبذل على الجهات العامة،ان حكم هؤلاء عند اللّه،تماما كحكم مربية الأيتام.و جاء في نهج البلاغة ان الإمام قال في عهده للأشتر:فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به في غير إسراف.إلى غير ذلك مما لا يبلغه الإحصاء.

كل ما تحتاجه الناس:

هل يحرم احتكار جميع ما تحتاجه الناس من مأكل و ملبس و مشرب و أدوات،أو يختص التحريم بالطعام فقط،أو بنوع خاص منه،كالحنطة و الشعير و التمر و الزبيب-كما قيل-؟ و الذي يظهر من صاحب الجواهر في كتاب التجارة:ان الفقهاء متفقون على تحريم احتكار كل شيء يضطر إليه الناس،مهما كان نوعه،دون استثناء، و انهم اختلفوا فيما لم تبلغ الحاجة إليه حد الاضطرار،و هذه عبارته بالحرف:

«الاحتكار محرم في كل جنس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة،و يضطرون إليه،و لا مندوحة لهم عنه من مأكول،أو مشروب،أو ملبوس أو غيره،من غير تقييد بزمان دون زمان،و لا أعيان دون أعيان،و لا انتقال بعقد،و لا تحديد بحد بعد فرض حصول الاضطرار،بل الظاهر تسعيره حينئذ بما يكون مقدورا للطالبين-يريد المستهلكين-إذا تجاوز المحتكر الحد في الثمن،بل لا يبعد حرمة قصد الإضرار بحصول الغلاء،و لو مع عدم حاجة الناس،و وفور الأشياء، بل قد يقال بالتحريم بمجرد قصد الغلاء،و حبه و ان لم يقصد الإضرار-انتبه لقوله بمجرد قصد الغلاء و حبه الذي يقتضي أن كل من لديه شيء،و أحب ارتفاع ثمنه فقد ارتكب محرما.ثم قال صاحب الجواهر-و انما الكلام،أي الاختلاف بين

ص:143

الفقهاء،في حبس الطعام انتظارا به غلو السعر من أجناس التجارة،مع حاجة الناس،و عدم وصولهم إلى حد الاضطرار».

و معنى هذا أنّه متى بلغت الحاجة حد الاضطرار إلى الشيء حرم احتكاره، مهما كان نوع ذلك الشيء،أمّا إذا لم تبلغ الحاجة حد الإضرار فقد اختلف الفقهاء في أنّه هل يحرم احتكار كل شيء تحتاجه الناس،أو أن المحرم هو احتكار الطعام فقط،أو نوع خاص منه كالحنطة و الشعير و التمر و الزبيب،كما قيل بأن هذه يحرم احتكارها إطلاقا،حتى مع عدم الاضطرار إليها،أمّا غيرها فيحرم احتكاره مع الاضطرار.

و الحق أن الاحتكار حرام من حيث هو،كمبدأ عام،و قاعدة كلية،تماما كالربا،لا لشيء إلاّ لمجرد حاجة الناس إلى الشيء المحتكر،سواء أ بلغت الحاجة حد الضرورة،أم لم تبلغ هذا الحد،أما ذكر الحنطة و الشعير،و التمر و الزبيب، و الزيت في بعض روايات أهل البيت عليهم السّلام فإنه منزل على الغالب،و شدة الحاجة إلى هذه في ذلك العصر،و لا يصلح ذكرها ابدا لتقييد القاعدة العامة التي ثبتت بالأدلة القطعية المشار إلى طرف منها آنفا.بل ان بعض الروايات صريحة في ذلك،فقد روى الحلبي عن الامام الصادق عليه السّلام أنّه قال:ان كان في المصر طعام غيره فلا بأس.و في رواية صحيحة أخرى أنّه قال:انّه كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس.و معنى هذا أنّه إذا تضايق الناس ففي الاحتكار بأس.و جاء في كتاب المكاسب أن الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة،و القاضي و صاحب الوسيلة،و صاحب الدروس قالوا:إن الأظهر أن تحريم الاحتكار،مع حاجة الناس،أي أن علة التحريم هي حاجة الناس من حيث هي،ثم قال صاحب المكاسب معلقا على ذلك:«فهو جيد».

ص:144

و نقول نحن للفقهاء الذين خصصوا تحريم الاحتكار بالحنطة و الشعير، و التمر و الزبيب،نقول لهم:يلزمكم على هذا أن احتكار النفط و الكهرباء غير محرم،مع العلم بأن الحياة اليوم تستحيل بدونهما.و أيضا يلزمكم أن يكون احتكار السلاح و منعه عمن يريد الدفاع عن نفسه حلال لا بأس به.ثم أي ضرر اليوم في احتكار التمر و الزبيب؟.و اعتقد ان المستعمر لو اطلع على هذه الفتوى لركع و سجد،و كتبها بأحرف من نور،و اشاعها و أذاعها في كل قطر،ما دامت تحرم عليه احتكار التمر و الزبيب،و تبيح له احتكار الحديد و الفولاذ،و الذهب الأسود و الأصفر.و بالتالي،فان الجمود على حرفية النص في مثل هذه الموارد هو طعن في الدين،و شريعة سيد المرسلين.

الإجبار و التسعير:

اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن للحاكم و نائبه و عدول المسلمين،مع تعذر الوصول إلى الحاكم،ان يجبر المحتكر على عرض سلعته في الأسواق.

و يشهد له ما جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أن الطعام نفذ في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأتاه المسلمون،و قالوا:يا رسول اللّه قد نفذ الطعام،و لم يبق منه إلاّ شيء عند فلان،فمره يبع الناس،فصعد المنبر،و حمد اللّه،و أثنى عليه،ثم قال:يا فلان ان المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفذ إلاّ شيئا عندك،فأخرجه و بعه.

أما تسعير السلعة بما يراه الحاكم فقد نقل الشيخ الأنصاري في المكاسب عن كتاب المقنعة أن للحاكم أن يسعر بما يراه من المصلحة،و أيضا نقل صاحب كتاب المكاسب عن العلامة و ولده فخر المحققين و الشهيد ان الحاكم يسعر على المحتكر،إن أجحف في الثمن،لنفي الضرر.و قال صاحب الجواهر ما نصه

ص:145

بالحرف:«نعم،لا يبعد رد المحتكر مع الإجحاف في الثمن،كما عن ابن حمزة، و الفاضل،و الشهيد الثاني،و غيرهم،لنفي الضرر،لأنه لو لا ذلك لانتفت فائدة الإجبار،إذ يجوز أن يطلب المحتكر ما لا يقدر الناس على بذله،و يضر بحالهم، و الغرض رفع الضرر».

و نحن لا نشك أن ولاية الحاكم العادل على حماية المصالح العامة، و رعايتها تشمل التسعير بما فيه مصلحة الجميع البائع و المستهلك،تماما كما تشمل إجبار المحتكر على العرض،و القول بأنّها تشمل الولاية على الإجبار دون التسعير تحكم،ما دام الهدف واحدا،و هو دفع المفسدة،و قد يستأنس لذلك بهذا الحديث:«مجاري الأمور و الأحكام بأيدي العلماء».

و نختم هذا الفصل بما جاء في كتاب الوسائل من أنّه في إحدى السنين انقطع الطعام عن المدينة المنورة،و كان الناس يشترون طعامهم يوما بيوم،فقال الصادق عليه السّلام لبعض خدمه:كم عندنا من الطعام؟.قال:ما يكفينا أشهرا.قال:

أخرجه،و بعه.فقال الخادم:ليس في المدينة طعام.قال الإمام عليه السّلام:بعه.فلما باعه قال له:اشتر مع الناس يوما بيوم.و أيضا جاء في الوسائل أن أهل المدينة أصابهم قحط،حتى ان الرجل الموسر كان يخلط الحنطة بالشعير،و يأكله،و كان عند الإمام الصادق عليه السّلام طعام جيد،فقال لخادمه:اشتر لنا شعيرا،فاخلط بهذا الطعام،و بع القمح،فإنّا نكره أن نأكل جيدا،و يأكل الناس رديئا.اللّه اعلم حيث يجعل رسالته،و صلى اللّه على النبي و آله الأبرار الأطهار.

ص:146

الخيارات

أقسام الخيار
خيار المجلس
معنى الخيار:

معنى الخيار في اللغة،إذا قلت لآخر:لك الخيار فان معناه اختر لنفسك ما تحب،و هذا المعنى هو الأصل لقول الفقهاء:ان الخيار ملك إمضاء العقد، و فسخه بالقول أو بالفعل.و الحكمة من الخيار افساح المجال للمتعاقد ليتروى و يتدبر مدة الخيار،و يفعل ما يراه خيرا له،و من الخيار ما يثبت باشتراط المتعاقدين،كخيار الشرط،و منها ما يثبت بحكم الشارع،كخيار الحيوان و العيب.

و الخيارات كثيرة و متنوعة،و قد أنهاها بعض الفقهاء إلى أربعة عشر خيارا، و قال الشيخ الأنصاري:«و المجتمع في كل كتاب سبعة،و نحن نقتفي أثر المقتصر على السبعة،لأن ما عداها لا يستحق عنوانا مستقلا،إذ ليس له أحكام مغايرة لسائر أنواع الخيار».

و كذلك نحن نقتفي اثر هذا الشيخ الجليل،و السبعة التي ذكرها هي:خيار المجلس،و الحيوان،و الشرط،و الغبن،و التأخير،و الرؤية،و العيب.

ص:147

لزوم البيع لو لا الخيار:

من تتبع الأدلة الشرعية،و أقوال الفقهاء يتضح له أن العقد على أنواع ثلاثة:

الأول:لا يقبل الخيار و الإقالة بحال،كعقد الزواج.

الثاني:جائز من غير خيار،و لو اشترط فيه اللزوم لكان الشرط لغوا، كالعارية.

الثالث:بين الاثنين يقبل الجواز و اللزوم معا،و لكن الأصل فيه اللزوم، و لا يخرج عن هذا الأصل إلى الجواز إلاّ بدليل،كعقد البيع.

و ذكر الشيخ الأنصاري للزوم أربعة معان،منها«أن وضع البيع و بناءه شرعا و عرفا على اللزوم،و صيرورة المالك كالأجنبي».و قال السيد اليزدي معلقا على ذلك:«الإنصاف أن هذا الوجه أحسن الوجوه و أتمها،و محصله أن بناء البيع على اللزوم،فإذا ورد دليل الإمضاء كفى».

و المراد بدليل الإمضاء الذي أشار إليه السيد قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ حيث دل على وجوب الوفاء بجميع العقود،و منها عقد البيع و هذا الوجوب،و ان كان حكما تكليفيا فإنه يستدعي الحكم الوضعي،و هو فساد الفسخ من أحد المتعاقدين دون رضا الآخر.

و قال قائل:ان آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا تدل على اللزوم،و انما هي توجب العمل بما يقتضيه العقد ان لازما فلازم،و ان جائزا فجائز،تماما كما إذا قيل:أطع الأحكام الشرعية،أي يجب أن تعمل بما تستدعيه الأحكام وجوبا أو استحبابا.

الجواب:

ان الذي يدل عليه عقد البيع-مثلا-هو انتقال المثمن إلى المشتري، و الثمن إلى البائع لا غير،أمّا ان هذا الانتقال قد حصل على نحو اللزوم،أو على

ص:148

نحو الجواز فأجنبي عن دلالة العقد و اقتضائه،و انما يتعين أحدهما،و يستفاد من دليل خارج عن العقد،و اعني بالدليل الخارج عن العقد تباني العرف،و إقرار الشرع لهذا التباني،و الذي لا شك فيه أن العرف قد تبانى على أن أحكام عقد البيع لازمة له،و أحكام عقد العارية-مثلا-جائزة،و أيضا ليس من شك أن الشارع قد أمضى هذا التباني،و إذا كان العقد لا يقتضي جوازا و لا لزوما فلا يبقى موضوع للقول بأن أَوْفُوا بِالْعُقُودِ معناه اعملوا بما يقتضيه العقد من اللزوم و الجواز،بل معناه التزم و ف بمدلول العقد،و فرق كبير بين قولنا:اللزوم بنفسه منشأ بالعقد، و بين قولنا:التزم بالمعنى المنشأ بالعقد.

اتحاد المجلس:

يطلق اتحاد المجلس على معنيين:أحدهما أن يكون الإيجاب و القبول في مجلس واحد،بحيث لا يكون الموجب في مكان،و القابل في مكان آخر.الثاني:

أن المجلس الذي تم فيه التعاقد بين المتعاقدين لم ينفض بعد بمفارقة أحدهما للآخر،و هذا المعنى هو المقصود بالبحث هنا،أما المعنى الأول فلا شأن لفقهاء المذهب الجعفري به إلاّ من حيث اتصال القبول بالإيجاب،و وجوب الموالاة بينهما باعتبارهما شطري العقد تحفظا من عدم وجود أحدهما عند وجود الآخر، و هذا يدخل في شروط العقد التي سبق الكلام عنها،و لا علاقة له بالخيارات.

و ليس المراد باتحاد المجلس حصول الإيجاب و القبول في مكان واحد فقط،و ان كان هذا هو الغالب،بل المراد به ما يعم ذلك،و هو بقاء كل من الموجب و القابل في نفس المكان الذي جرى فيه العقد،فلو افترض أن كلا منهما في مكان،و تفاهما تفاهما تاما بالهاتف أو بغيره كان اتحاد المجلس هنا بقاء كل

ص:149

في مكانه،فان تركه إلى غيره حصل التعدد،و لم يبق للخيار من موضوع.

و إذا أكرها،أو أحدهما على التفريق يبقى الخيار،لأنهما فرّقا،و لم يفترقا، أجل،إذا طال أمد الفرقة الجبرية،بحيث يعلم أنهما لا يمكثان عادة في مجلس العقد أكثر من الأمد المنصرم يبطل الاتحاد بعد هذا الأمد التقديري.

الدليل:

الأصل لهذا الخيار المشهور:«البيعان بالخيار ما لم يفترقا».قال الشهيد الثاني في المسالك:«هذا الحديث أوضح دلالة من عبارة الفقهاء».

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:أيما رجل اشترى من رجل بيعا فهما بالخيار،ما لم يفترقا،فان افترقا فقد وجب البيع.

و قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك متحقق،و النصوص مستفيضة أو متواترة» (1).

الوكيل:

لا ريب أن خيار المجلس يثبت للأصيل و الولي،و هل يثبت للوكيل أيضا؟.

الجواب:

لا بد قبل الحكم من النظر إلى محل الوكالة،فإن كان قد جرى التفاوض، و تم الاتفاق مبدئيا بين البائع و المشتري على كل شيء،و لم تبق إلاّ الشكليات فقط من إجراء الصيغة،و ما إليه،فوكل كل منهما،أو أحدهما من أن يقوم بهذه

ص:150


1- النص المتواتر هو الذي ترويه جماعة يمتنع اتفاقهم على الكذب عادة،أمّا النص المستفيض فهو الذي تكثر رواته،و لا يبلغ حد التواتر،بل يبقى من أقسام الخبر الواحد.

الشكليات،ان كان كذلك فلا يثبت الخيار للوكيل،إذ لا يصدق عليه أنّه بائع و مشتر،بل هو آلة أو شبيه بها.

و ان كان محل الوكالة التصرفات الأساسية،كالتفاوض،و تحديد الثمن و تعيين الشروط،و ما إلى هذا مما تختلف فيه الرغبات،ان كان كذلك يثبت الخيار للوكيل،لأنه،و الحال هذه،تماما كالأصيل،و يصدق عليه حقيقة حديث «البيعان».و بالإيجاز أن المعيار الأساسي لمن يثبت له هذا الخيار أن يكون مصداقا لهذا الحديث،أصيلا كان،أو وكيلا.

بقية العقود:

قال الشيخ الأنصاري:«لا يثبت خيار المجلس في شيء من العقود سوى البيع عند علمائنا،كما في كتاب التذكرة».

أمّا العقود الجائزة فلا معنى لخيار المجلس فيها،و لا لغيره،ما دام لكل من المتعاقدين عدم الالتزام بحكم العقد،فالخيار-اذن-لا يزيدها شيئا عن أصلها، و بكلمة ان محل الخيار هو العقد الذي من شأنه اللزوم لو لا الخيار.

و أمّا العقود اللازمة-غير البيع-فلأن خيار المجلس خلاف الأصل،و قد خرجنا عن هذا الأصل لوجود الدليل،و حديث«البيعان»يقتصر على البيع،لأنه المتيقن،أجل،أنّه يعم جميع أقسام البيع من الصرف و السلم،و المرابحة و التولية و المواضعة،و النسيئة،و يأتي الكلام عن كل هذه العناوين في محلها.

موجبات السقوط:

و يسقط هذا الخيار بالموجبات التالية

ص:151

1-افتراق أحد المتبايعين عن صاحبه،و لو بخطوة واحدة،بحيث ينتفي معها اتحاد المجلس.بداهة أن الأحكام تتبع الأسماء،و الأسماء تتبع معانيها المعروفة بين الناس،و قد روي عن الإمام الباقر أبي جعفر الصادق عليهما السّلام انه قال:

بايعت رجلا،فلما بعته قمت،و مشيت خطى،ثم رجعت إلى المجلس،ليجب البيع حيث افترقنا.

2-اشتراط سقوطه في ضمن العقد نحو أن يقول البائع للمشتري:بعتك على أن لا يكون لك خيار المجلس،أو يقوله المشتري للبائع،أو ما يجري مجرى هذا القول،مما يدل على الاشتراط بصراحة و وضوح،و حينئذ يسقط هذا الخيار،لأنه من الحقوق التي تسقط بالإسقاط،و الإجماع على ذلك،و النص، و هو حديث:«المؤمنون عند شروطهم».

و قال قائل:ان هذا الشرط باطل،لأنه يتنافى مع طبيعة العقد المقتضية للخيار،و مع السنة الموجبة له،و هي حديث«البيعان».و معلوم أن كل شرط خالف طبيعة العقد،أو كتاب اللّه،و سنة نبيه فهو لغو.

و نجيب بأن اشتراط سقوط هذا الخيار لا يتنافى مع طبيعة العقد،كما أنه على وفق السنة،و ذلك أن العقد من حيث هو لا يستدعي خيار المجلس،و لا غيره من الخيارات،لأن الخيار حكم شرعي يستخرج من الأدلة الشرعية،و قد استخرجنا خيار المجلس من حديث«البيعان»و إذا عطفنا عليه حديث«المؤمنون عند شروطهم»و جمعناهما في كلام واحد كان المعنى هكذا:«البيعان بالخيار إلاّ إذا تراضيا على عدم الخيار»تماما كما لو قال الشارع:صم،ثم قال:لا ضرر و لا إضرار،فإن معنى الجملتين معا يجب عليك الصوم حيث لا يضر بك،و بهذا نجد تفسير قول الفقهاء:أدلة الشروط حاكمة و مقدمة على أدلة الأحكام.

ص:152

و بتعبير غامض إلاّ عند أهل الفن أن هذا الشرط يتنافى مع العقد المطلق، لا مع مطلق العقد (1).

و اتفقوا قولا واحدا بشهادة صاحب الجواهر و المكاسب على أن المتبايعين إذا أنشأ العقد مطلقا من غير قيد،و بعد انعقاده و تمامه تراضيا على إسقاط خيار المجلس،صح،و سقط الخيار،لأنه حق لهما،و لكل ذي حق إسقاط حقه،و لو أسقطه أحدهما دون الآخر سقط حق من أسقط،و بقي حق من لم يسقط،لعدم ارتباط أحد الحقين بالآخر.

و اختلف الفقهاء فيما إذا أسقط كل منهما أو أحدهما حقه في هذا الخيار عند المفاوضة،و قبل إنشاء العقد ثم أنشأه مجردا عن الشرط.

فذهب المشهور بشهادة الشيخ الأنصاري إلى أن هذا الاتفاق لا يجب العمل به«لأنه وعد بالتزام،و التزام تبرعي لا يجب الوفاء به».

و ذهب جماعة،منهم الشيخ الطوسي،و القاضي-على ما نقل عنهما- و السيد اليزدي إلى وجوب الوفاء،تماما كما لو كان في ضمن العقد،قال هذا السيد في حاشيته على المكاسب:«أمّا كونه وعدا فممنوع،لأن المتعاقدين لم يقصدا الوعد،كما هو الفرض،و انما قصدا إنشاء سقوط هذا الخيار،و أمّا كونه إلزاما تبرعيا فممنوع كذلك،و نحن نقول:يجب الوفاء،لعموم المؤمنون عند شروطهم».

ص:153


1- مطلق العقد هو القاسم المشترك الشامل لجميع أنواع العقود و أقسامها،و منها العقد المجرد عن كل قيد-العقد المطلق-و منها العقد المقيد،فالمقيد قسيم للمطلق،و كل منهما قسم و فرد لمطلق العقد، و من هنا صح أن نقول:العقد المقيد لا يتنافى مع مطلق المقيد،لأنه من اقسامه و افراده،و يتنافى مع العقد المطلق،لأنه قسيم له.

و هو الحق،لأن العبرة بإنشاء القصد،أي قصد عدم الخيار هنا،و قد عبرا عن ذلك بصراحة،أمّا أن يكون هذا التعبير مقارنا للعقد فليس بشرط،بل يؤثر أثره مع التقديم،كما يؤثر مع التأخير و المقارنة،و يأتي مزيد من التوضيح عند الكلام عن الشروط و أحكامها،و بناء العقد عليها.

3-إذا تصرف البائع بالثمن،أو المشتري بالمثمن تصرفا يدل في نظر العرف على الرضا فلا يحق للمتصرف أن يفسخ،و ان لم يفترقا،لأن معنى الخيار ان يختار إمضاء العقد،أو فسخه-كما قدمنا-و لا فرق بين أن يختار ذلك بالقول، أو يختاره بالفعل،قال الإمام الصادق عليه السّلام:خيار الحيوان ثلاثة أيام للمشتري، اشترط ذلك،أو لم يشترط،فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثا قبل ثلاثة أيام فذلك رضا منه.

فقوله:«فذلك رضا منه»دليل عام،و قاعدة كلية ان كل تصرف يدل على الرضا بالعقد فهو مسقط للخيار،سواء أ كان خيار الحيوان،أو المجلس أو غيرهما،و للحديث عن التصرف بقية،تأتي في أثناء الكلام عن سائر الخيارات.

ص:154

خيار الحيوان
الحيوان:

المراد بالحيوان كل ما يصدق عليه هذا الاسم عند العرف،فيعم الحيوانات التي تمشي على أربع،و الطيور بشتى أنواعها،و لا تشمل السمك،و ما إليه، لانصراف لفظ الحيوان عنه،و لأن المقصود من شرائه هو لحمه،لا اقتناؤه، و أيضا لا يشمل الحيوان الكلي،بل يختص بالحيوان المعين في الخارج،فمن اشترى حيوانا في ذمة غيره بأوصاف معينة لا يدخل في هذا الخيار.

الدليل:

اتفقوا كلمة واحدة على أن خيار الحيوان ثلاثة أيام،و لا خيار بعدها، و ذهب المشهور بشهادة صاحب المقاييس إلى أن زمن الخيار يبتدئ من حين العقد،لا من افتراق المتبايعين،و على هذا يجتمع في بيع الحيوان سببان:

أحدهما خيار الحيوان،و الثاني خيار المجلس،و لا محذور فيه.

و إذا مات الحيوان أثناء مدة الخيار فمن مال البائع،حتى و لو كان في يد المشتري،لقاعدة«تلف المبيع في مدة الخيار من مال من لا خيار له».

أمّا الأصل لهذا الخيار فروايات كثر من أهل البيت عليهم السّلام

ص:155

منها:في الحيوان كله شرط ثلاثة أيام للمشتري،و هو فيها بالخيار، اشترط،أو لم يشترط.

و منها:صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام.

و منها:أن رجلا سأل الإمام عليه السّلام عمن يشتري الدابة،فتموت،أو يحدث فيها حدث.على من ضمان ذلك؟قال:على البائع،حتى تنقضي ثلاثة أيام.

و منها:المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان.

و منها:أن رجلا سأله عمن اشترى جارية لمن الخيار،للمشتري،أو للبائع،أو لهما؟.قال:الخيار لمن اشترى،ثلاثة أيام نظرة،فإذا مضت فقد وجب البيع.قال السائل:أ رأيت ان قبلها المشتري،أو لامس،أو نظر فيها إلى ما يحرم على غيره؟.قال الإمام عليه السّلام:إذا قبل أو لامس فقد انقضى الشرط و لزمه.

صاحب الخيار:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المكاسب إلى أن هذا الخيار يختص بالمشتري فقط،و إذا كان كل من الثمن و المثمن حيوانا فالمشتري هو القابل،و البائع هو الموجب.و قال الشيخ الأنصاري:«لا محيص عن قول المشتري»أي عن اختصاص خيار الحيوان بالمشتري دون البائع،لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و لأن الأصل عدم تأثير فسخ البائع،و لأن الروايات التي ذكرت المشتري من الروايات التي يوهم ظاهرها ثبوت الخيار للبائع أيضا.

و الحق أن الخيار يثبت لمن انتقل إليه الحيوان مثمنا كان أو ثمنا،لأن المعاملات لا تعبد فيها،و مصلحتها ظاهرة-في الغالب-و هي هنا اختيار الحيوان،و التعرف على عيوبه مدة الخيار،فإن أكثر عيوب الحيوانات تخفى،و لا

ص:156

تظهر إلاّ بعد التجربة،و قول الإمام الصادق عليه السّلام المتقدم:«ثلاثة أيام نظرة»يومئ إلى ذلك،بل ان قوله:«صاحب الحيوان بالخيار»ظاهر في الشمول للبائع و المشتري،أما تخصيص المشتري بالذكر في كثير من الروايات فمنزل على الغالب،لأن الغالب أن يكون الحيوان مثمنا لا ثمنا.

و بالتالي،فان الجمود على حرفية النص يجب في العبادات،سواء أعرفنا المصلحة منها،أم لم نعرف،أما في المعاملات فينبغي التوفيق القريب بين النص و المصلحة المعلومة.

موجبات السقوط:

يسقط هذا الخيار بالموجبات التالية:

1-اشتراط سقوطه في العقد،لعموم:«المؤمنون عند شروطهم».

2-إذا أسقط كل منهما أو أحدهما هذا الخيار بعد العقد،لأنه حق لصاحبه،فمتى أسقطه سقط.

3-التصرف الدال على الرضا بالعقد و إمضائه،حسبما تقدم في خيار المجلس،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اشترى من آخر دابة،فأحدث فيها حدثا من أخذ الحافر،أو نقلها،أو ركبها فراسخ،فهل له أن يردها في الثلاثة أيام التي فيها الخيار بعد الحدث الذي يحدث فيها،أو الركوب الذي ركبها؟.قال الإمام:إذا أحدث فيها حدثا فقد وجب الشراء.و تقدم معنا أنّه قال:«إذا لمس الجارية أو نظر فقد انقضى الشرط».«و ذلك رضا منه».و كل ما خالف هذا النص فهو شاذ متروك.

ص:157

مسائل:
1-إذا استوفى المشتري نماء الحيوان مدة الخيار،ثم فسخ

،فعليه أن يرجع معه بدل ما استوفاه من النماء،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اشترى شاة،فأمسكها ثلاثة أيام،ثم ردها؟قال:ان كان في تلك الثلاثة أيام يشرب لبنها رد معها ثلاثة أمداد،و ان لم يكن لها لبن فليس عليه شيء.

2-ان خيار الحيوان يجري في البيع فقط،دون غيره

،فلو كان الحيوان محلا لعقد المصالحة،أو بدلا عن الإجازة فلا خيار له،لأن الخيار على خلاف القاعدة،فيختصر فيه على مورد النص،و هو البيع فقط.

3-إذا باع ثوبا و حيوانا بثمن واحد يثبت الخيار بخصوص الحيوان

،و إذا فسخ المشتري كان للبائع حق الخيار في الفسخ،لتبعيض الصفقة.

4-يثبت هذا الخيار في بيع الحيوان كله أو بعضه

،كالنصف و الثلث،أو الأقل أو الأكثر،لأن الروايات مطلقة تشمل الكل و البعض.

و هذا المقدار كاف واف في الحديث عن الحيوانات و أحكامها في عصرنا، عصر الآلة و الصناعة،حيث لم تبق من حاجة إليها الآن كما كانت في السابق، و عهد الفقهاء القدامى يوم كانت الحيوانات هي الوسيلة إلى المواصلات،و حرث الأرض،و الطحن و الحصاد،و ما إليه.

ص:158

خيار الشرط
معناه:

معنى خيار الشرط ان يشترط أحد المتعاقدين،أو كلاهما الخيار في فسخ العقد أو إمضائه أمدا معينا،و بتعبير الشيخ الأنصاري أن يثبت الخيار بسبب اشتراطه في العقد،و من هنا كان التعبير بشرط الخيار اولى من التعبير بخيار الشرط.

و مبدأ هذا الخيار من حين العقد،لا حين افتراق المتبايعين،و يجوز تأخيره عن العقد،و لو بأيام.فلو قال أحدهما لصاحبه بعد البيع و لزومه:جعلتك بالخيار مدة كذا،و قال صاحبه:قبلت أو ما في معنى ذلك يصح و يصير العقد جائزا بعد أن كان لازما أجل،لا بد من تحديد مدة الخيار تحديدا يرفع الغرر، و يبعد الاشتباه المفضي إلى التنازع و التشاجر.

و أطلق الفقهاء القول بأنه لا تحديد لمدة الخيار قلة و لا كثرة،فيجوز جعلها سنة و ساعة،و المهم هو الضبط و التعيين،فلو جعلها مدة العمر،أو إلى قدوم المسافر فلا يصح،و يبطل البيع من الأساس.

و هذا بالقياس إلى القلة صحيح،أمّا بالقياس إلى الكثرة فينبغي تحديدها بما تتحمله طبيعة المبيعات،و لا يعد في نظر العرف لغوا،و عبثا،فالمدة التي

ص:159

ينبغي أن تحدد في شراء الفاكهة و البيض و الخضار غير المدة التي تحدد في شراء الأرض و الدار بالبداهة.

الدليل:

و أصل هذا الخيار إجماع الفقهاء،و النص،قال الشيخ الأنصاري:«لا خلاف في صحة هذا الشرط،و لا في أنّه لا يتقدر بحد عندنا،و نقل الإجماع عليه مستفيض».و قال صاحب الجواهر:«خيار الشرط ثابت بالضرورة بين علماء المذهب،و بالكتاب و السنة عموما و خصوصا».

و من النصوص العامة الشاملة لجميع موارد الشرط قول الإمام الصادق عليه السّلام:

«من اشترط شرطا مخالفا لكتاب اللّه عزّ و جل فلا يجوز على الذي اشترط عليه، و المسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب اللّه».

و موارده موافقة كتاب اللّه عدم مخالفته،سواء أوافق،أو لم يخالف، و القرينة على ارادة هذا المعنى قوله عليه السّلام في صدر الرواية:«من اشترط شرطا مخالفا فلا يجوز».و هذا معناه ان من اشترط شرطا غير مخالف يجوز.

و قال:المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطا حرم حلالا،أو حلل حراما.

أمّا النصوص الخاصة فكثيرة،منها أن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل احتاج إلى بيع داره،فمشى إلى أخيه،و قال له:أبيعك داري هذه،على أن تشترط لي إذا جئتك بثمنها إلى سنة تردها عليّ؟قال الإمام عليه السّلام:لا بأس بهذا،ان جاء بثمنها ردها عليه.قال السائل:فإن كان فيها غلة كثيرة،فلمن تكون الغلة؟ قال:للمشتري،ألا ترى لو احترقت كانت من ماله؟.

و بالتالي،فان من تتبع مصادر الشريعة يؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأن كل ما

ص:160

يوافق اهداف الإنسان و أغراضه،و لا يتعارض مع مبادئ الشريعة و مقاصدها فهو جائز عقدا كان أو شرطا،أو غيرهما.و هذي قاعدة شرعية عامة تصلح معيارا كليا لمعرفة الأحكام الشرعية،و حل المعضلات في ضوئها.

صاحب الخيار:

صاحب الخيار هو من اشترط هذا الخيار بائعا كان أو مشتريا،أو أجنبيا عن العقد،لأن المؤمنون عند شروطهم تعم الجميع.و خير ما قرأته في هذا الباب من أقوال العلماء ما جاء في كتاب مفتاح الكرامة:«ان الخيار شرّع للإرفاق بالطرفين، فكل ما تراضيا به جاز».

و إذا جعل الخيار لاثنين أجنبيين فأجاز أحدهما،و فسخ الآخر،قال الشيخ الأنصاري،و صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة:يقدم الفاسخ،لأن المجيز،أي مجيز كان،بعد أن اختار اللزوم فقد أسقط حقه في الخيار،حتى كأن العقد وقع مجردا عن الشرط،فيبقى حق الطرف الآخر،و قد فسخ،فيؤخذ بقوله،لأنه بلا معارض في الحقيقة،و هذا ما اراده صاحب الجواهر بقوله:«لعدم معارضة اختيار أحدهما اللزوم».

و اولى من هذا التكليف و التعقيد أن نقول:حيث أراد أحدهما الإمضاء، و أراد الآخر الفسخ فقد تعذر العمل بالإرادتين معا،و بديهة أنّه إذا استحال تنفيذ العقد و العمل بموجبه ينفسخ حتما،و على هذا يكون انحلال العقد من باب الانفساخ،لا من باب الفسخ.

و مهما يكن،فعلى الأجنبي الذي جعل الإمضاء و الفسخ بيده أن يراعي مصلحة من انتخبه لذلك،فان تبين عدم المصلحة فيما اختار كان لغوا لا تأثير له،

ص:161

قال الشيخ الأنصاري:«ذكر غير واحد أن الأجنبي يراعي مصلحة الجاعل».و قال صاحب الجواهر:«الظاهر وجوب اعتماد المصلحة،لأنه أمين».

الفسخ برد الثمن:

اتفقوا على أن البائع إذا اشترط لنفسه ارتجاع الثمن في مدة معينة،و قبل المشتري صح البيع و الشرط،و يسمى هذا النوع عند الفقهاء ببيع الخيار تارة، و بيع الشرط أخرى.

و الأصل في جوازه و صحته الإجماع و النص،و منه عموم«المؤمنون عند شروطهم»و الرواية المتقدمة في فقرة«الدليل»التي تضمنت السؤال عمن باع داره،و اشترط ارتجاعها،إن رد الثمن إلى سنة،و في رواية أخرى أن رجلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذلك؟فقال:أرى أن المبيع لك،ان لم يرد المال،و ان جاء به للوقت فرد عليه.

و إذا رد الثمن في المدة المعينة فهل ينفسخ البيع تلقائيا،أو أن رد الثمن بمجرده لا يوجب انفساخ العقد،بل لا بد أن يتعقبه الفسخ من البائع،بحيث إذا لم يفسخ بعد رد الثمن يكون البيع لازما بانقضاء المدة،و يكون الثمن امانة في يد المشتري؟.

ذهب المشهور إلى الثاني و أنّه لا بد من الفسخ مع رد الثمن،و لا تأثير لأحدهما دون الآخر،لأن المبيع انتقل إلى المشتري بسبب شرعي،و هو البيع، فلا ينتقل عنه إلاّ بسبب شرعي،و هو هنا الفسخ،و الرد من حيث هو ليس بفسخ، بل مقدمة للفسخ.

و الحق أن إرجاع الثمن بقصد الفسخ إنشاء فعلي للفسخ،و إلاّ فبأي شيء

ص:162

نفسر رد الثمن ضمن المدة؟و أي فقيه إذا قال له:ان زيدا باع داره من عمرو، و قال له عند البيع:إذا أرجعت المال كاملا إلى سنة كان هذا فسخا مني للبيع،حتى و لو لم اتلفظ بالفسخ،أي فقيه يزعم بأن هذا ليس بفسخ،و لا معنى لشرط الخيار الذي نتحدث عنه إلاّ ذلك.

شرط الخيار في غير البيع:

هل يصح شرط الخيار في غير البيع من العقود و الإيقاعات؟

الجواب:

أمّا الإيقاعات،كالطلاق و العتق و الإبراء فقد أجمعوا-إلاّ من شذ-على عدم صحة الشرط فيها و الشيخ الأنصاري يتفق في النتيجة مع الفقهاء،و يقول بعدم صحة الشرط في الإيقاعات،و لكنه يخالفهم في المقدمات،و الطريق المؤدية إلى هذه النتيجة.و يتلخص دليل الفقهاء بأن الشرط لا بد له من اثنين:أحدهما من له الشرط،و الثاني من عليه الشرط،أما الإيقاعات فلا يحتاج إلى طرفين،بل يتم بشخص واحد فقط،فالايقاعات-اذن-بطبعها لا تقبل الشرط.

و يتلخص دليل الشيخ الأنصاري بأن الشرط و الفسخ ممكنان بذاتهما الإيقاعات،تماما كما هو الشأن في العقود،فإن للإنسان أن يقطع العهود على نفسه،و ان يفسخ ما كان صدر منه عقدا كان أو إيقاعا،و لكن العبرة بالدليل الشرعي على جواز ذلك.و معلوم أن حق الخيار في الفسخ على خلاف الأصل في العقود و الإيقاعات،و لا يثبت إلاّ بدليل،و قد ثبت في الشريعة جواز الفسخ في العقد،كالإقالة،و خيار المجلس و الحيوان،و لم يثبت في الإيقاع،و عليه يكون القول بجواز الفسخ قولا بلا دليل،و هذه عبارة الأنصاري،«ان مشروعية

ص:163

الفسخ لا بد لها من دليل،و قد وجد في العقود من جهة مشروعية الإقالة،و ثبوت خيار المجلس و الحيوان و غيرهما،بخلاف الإيقاعات،فإنه لم يعهد من الشرع تجويز نقض أثرها بعد وقوعها،حتى يصح اشتراط ذلك فيها».

ثم قسم الأنصاري العقود من حيث قبولها للخيار،و عدم قبولها له عند الفقهاء إلى ثلاثة أقسام:

الأول:لا يقبل الخيار بالاتفاق،و هو عقد الزواج،فإنه لا ينتهي إلاّ بالموت أو الطلاق،و لا ينحل إلاّ بالفسخ بسبب العيوب المنصوص عليها شرعا.

الثاني:يقبل الخيار بالاتفاق،كالإجارة،و المزارعة،و المساقاة،و الكفالة، و البيع ما عدا الصرف،فان فيه خلافا.

الثالث:اختلف فيه الفقهاء،و منه الوقف،فقد ذهب المشهور إلى عدم قبول الخيار،و قال أكثر من واحد من المحققين:انه يقبله،و يأتي الدليل في باب الوقف،و تكلمنا عنه مفصلا في كتاب«الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة».و مما اختلف فيه الصلح،قال أكثر الفقهاء:انه يقبل الخيار،و قال بعضهم:لا يقبله فيما يفيد الإبراء،و منه ضمان الدين الثابت في ذمة المدين للدائن،و منه بيع الصرف،فان كثيرا من الفقهاء قالوا:انّه لا يقبل الخيار،حيث يشترط فيه القبض،و لا يجتمع شرط القبض مع شرط الخيار،لأنه بالقبض و افتراق المتبايعين تنقطع الصلة و العلاقة بينهما كلية،و الخيار معناه بقاء الصلة.

و هو التناقض بعينه.

ثم أعطى الأنصاري معيارا كليا لما يقبل الخيار من العقود،و ما لا يقبلها، فقال:ان كل عقد يقبل التقايل فهو يقبل الخيار،و كل عقد لا يقبل التقايل فهو لا يقبل الخيار.

ص:164

هذا ملخص الكلام عن العقود اللازمة،و حكمها مع شرط الخيار،أمّا العقود الجائزة فقد سبقت الإشارة إلى أنّه لا معنى للخيار فيها ما دام الخيار قائما دون شرط،فان عقد الوكالة و العارية و الوديعة يفسخ و ينحل بإرادة أحد الطرفين منفردا،دون حاجة إلى اتفاق حين العقد أو بعده،أجل،ربما صح شرط الخيار في العقد الذي هو جائز من طرف،و لازم من طرف،فيشترط الخيار لنفسه من كان العقد لازما بالقياس إليه،كعقد الرهن،فإنه جائز بالنظر إلى المرتهن،لازم بالنظر إلى الراهن،فإن اشترط هذا الخيار لنفسه يصير العقد جائزا من الطرفين.

مسائل:
1-إذا انقضت المدة المعينة للخيار،و لم يرد البائع الثمن

يبطل الخيار، و يصير المبيع ملكا للمشتري.

2-ليس للمشتري إتلاف المبيع

،و لا أن يتصرف فيه تصرفا يمنع من استرجاعه إلى البائع،بل يجب عليه الاحتفاظ،به،و الإبقاء،ليفي بالتزامه من إرجاع المبيع للبائع عند رد الثمن.

3-إذا هلك المبيع في يد المشتري مدة الخيار يذهب من مال البائع

،لأن التلف بعد القبض،في مدة الخيار يكون من مال من لا خيار له.و لا يسقط الخيار بتلف العين المبيعة،فإذا رد البائع الثمن،و الحال هذه،فعلى المشتري أن يرد بدل العين الهالكة من المثل أو القيمة.

4-إذا رد البائع بعض الثمن فلا يحق له الفسخ

،و إذا كان قد اشترط أن يفسخ في كل جزء من العين برد ما يقابلها من الثمن جاز،كما يجوز أن يشترط الفسخ في جميع العين برد مقدار معين من الثمن،و ما تبقى منه يكون دينا في ذمة

ص:165

البائع بعد الفسخ،و الدليل على ذلك:«المؤمنون عند شروطهم».

5-إذا جعل المشتري لنفسه الخيار مشترطا رد الثمن إليه إذا رد الثمن في

مدة معينة جاز

،تماما كما يجوز ذلك للبائع،لاتحاد المدارك و المسوغ،و هو عموم:«المؤمنون عند شروطهم».

و إذا هلك المبيع في يد المشتري أثناء المدة ذهب من مال البائع لقاعدة، «التلف مدة الخيار من مال من لا خيار له».قال صاحب مفتاح الكرامة،«ان كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري،و ان كان للمشتري فالتلف من البائع،و لا أجد في ذلك خلافا،بل إطلاق إجماع».و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يشتري الدابة،و يشترط إلى يوم أو يومين،فتموت الدابة،على من ضمان ذلك؟قال:

«على البائع».مع العلم بأن البائع في هذه الحال لا خيار له.

و إذا كان للعين المبيعة بهذا الخيار نماء،فهل يكون النماء للمشتري،لأن العين انتقلت الى ملكه بالشراء،أو هو للبائع بالنظر إلى أن العين لو تلفت تذهب من ماله؟

و الجواب:

إذا استوفى المشتري النماء ثم فسخ،رد العين دون بدل النماء،و لا منافاة بين أن يكون النماء لشخص،و ضمان العين على غيره،كما هو الشأن في المغصوب فان نماءه لمالكه،و ضمانه على غاصبه (1)و باقي التفصيل في أحكام الخيارات فقرة«المبيع يملك بالعقد»و التي بعدها.

ص:166


1- الغرض من التمثيل بالغاصب هو مجرد الإشارة إلى عدم التلازم بين ملك نماء العين و ضمانها من حيث الفكرة و المبدأ،مع العلم بأن الغاصب أجنبي عما نحن فيه،لأنه يضمن بسبب اليد،لا بسبب العقد.
6-يصح أن يكون الخيار لكل من البائع و المشتري في عقد واحد

،كان يشترط البائع ارتجاع المثمن له إذا رد الثمن في مدة الخيار،و في الوقت نفسه يشترط المشتري ارتجاع الثمن إذا رد المثمن في المدة المعينة.و إذا هلك الثمن أو المثمن أو كلاهما مع هذا الشرط يكون هلاك المثمن من مال المشتري،لأنه انتقل إليه بالبيع،و هلاك الثمن من مال البائع،لسبب نفسه،و يأتي التحقيق في فصل أحكام الخيارات إن شاء اللّه.

7-يسقط هذا الخيار إذا تنازل عنه من هو له،بائعا كان،أو مشتريا

،لأنه حق يسقط بالإسقاط.

8-تصرف البائع بالثمن لا يسقط خياره في رد الثمن

،كما أن تصرف المشتري بالمثمن تصرفا غير متلف و لا ناقل لا يسقط خياره في رد الثمن،لأن هذا الخيار شرّع لانتفاع البائع بالثمن،و المشتري بالمثمن،فلو سقط الخيار بالتصرف سقطت الفائدة من وضعه»كما قال صاحب الجواهر،و هذا واضح بالبداهة،و انما ذكرناه تبعا للشيخ الأنصاري،و غيره من الفقهاء.

ص:167

ص:168

الشروط
خيار الاشتراط:

ذكر الشهيد الأول في اللمعة الدمشقية مع الخيارات خيار الشرط،و خيار الاشتراط،و أراد بالأول أن يكون الخيار بعينه هو الشرط،كما لو قال:اشتريت، أو بعت على أن يكون لي الخيار في فسخ البيع و إمضائه مدة كذا،و أراد بالثاني، أي خيار الاشتراط أن يشترط المشتري،أو البائع أمرا معينا غير الخيار،و لكن تخلفه يؤدي إلى ثبوت الخيار،كما لو اشترط البائع على المشتري أن يفعل كذا، أو اشترط المشتري على البائع أن يكون المبيع متصفا بكذا،فإذا تخلف ثبت للمشروط له حق الخيار في فسخ العقد.

أما الشيخ الأنصاري و غيره كثير من الفقهاء فقد تكلموا في باب الخيارات عن الأول فقط،أي خيار الشرط،ثم عقدوا فصلا مستقلا للكلام عن الشروط التي ابتنى عليها العقد بوجه عام،يشمل خيار الاشتراط الذي أراده الشهيد.و من الفقهاء من تكلم عن خيار الاشتراط ضمن خيار الشرط،حيث أراد بالشرط الشيء الذي اشترط في العقد خيارا كان،أو غيره.

و قد اتبعنا نحن طريقة الشيخ الأنصاري،لأن أكثر ما في كتابنا هذا،أو الكثير منه تلخيص و عرض لكتابة المعروف بالمكاسب،أجل،ان الشيخ ذكر هذا

ص:169

الفصل بعد خيار العيب الذي ختم الكلام به عن الخيارات و ذكرناه نحن بعد خيارات الشرط مباشرة لمكان المناسبة.

أقسام الشروط:

تنقسم الشروط بالنظر إلى الصراحة و عدمها إلى شروط ضمنية يقتضيها العقد مثل التسليم،و تعجيل الثمن،و سلامة المبيع من العيب،و رد العوض عند فساد العقد،و خيار المجلس و الحيوان،مع ملاحظة الدليل الشرعي عليهما.

و إلى شروط صريحة،و هي التي ذكرت صراحة في متن العقد،أو قبله،مع ابتنائه عليها.و يعرف الشرط الصريح من هذا الفصل،و الذي قبله.أمّا الشرط الضمني فيعرف في الكثير من فصول هذا الكتاب،بخاصة الخيارات،و بصورة أخص خيار الغبن و العيب.

و أيضا تنقسم الشروط بالنظر إلى الصحة و الفساد،إلى شروط صحيحة، و فاسدة،و لكل منها أحكامه الخاصة التي نتعرض لها في هذا الفصل.

الشرط الصحيح:

ذكر الشيخ الأنصاري ثمانية شروط لصحة الشرط،و لكنها في الحقيقة ترجع إلى سبعة،و هي على وجه العموم و الإجمال:

1-أن يكون الشرط مقدورا.

2-أن يكون سائغا شرعا.

3-أن يكون معقولا.

4-أن لا يتنافى مع مقتضى العقد.

ص:170

5-أن لا يكون مجهولا.

6-أن لا يكون محالا أو مستلزما للمحال.

7-أن يذكر في متن العقد كما قيل،و البيان على وجه فيما يلي:

القدرة:

1-كل شرط تعلق بصفة يمكن أن يكون المعقود عليه متصفا بها بالفعل فهو شرط صحيح،فان وجد الوصف لزم العقد،و ان تخلف ثبت الخيار بين الرد و الإمساك مجانا،و مثال ذلك أن يشتري فرسا بشرط أن يكون أصيلا،و الثوب صوفا،و الدابة حاملا.

و تقول:ان هذا الوصف غير مقدور للمتعاقد،فكيف يصح جعله شرطا، مع العلم بأن الشرط يجب أن يكون مقدورا؟.

و نجيب بأن هذا الوصف ليس فعلا من أفعال المتعاقد،و انما هو وصف للمعقود عليه،و ما من شك أن المتعاقد يملك العين التي وقعت محلا للعقد، فيملك أيضا أوصافها بالتبع،تماما كما يملك منافعها،و بكلمة إن المتعاقد قد تعهد بتسليم العين الموصوفة بكذا،و لم يتعهد بخلق الصفة و إيجادها في العين، و الفرق بين التعهدين واضح.

و كل شرط تعلق بفعل غير مقدور فهو باطل،لأن الوفاء بالمحال محال، و مثال ذلك أن يشتري دابة،و يشترط أن تحمل في المستقبل،أو بستانا على أن يحمل عشرة أطنان في العام المقبل،أو زرعا بشرط أن يسلم من الأمراض و العاهات،قال صاحب الجواهر:«لا يجوز اشتراط ما لا يدخل في المقدور، كبيع الزرع على أن يجعله اللّه سنبلا».و قال الشيخ النائيني في تقريرات

ص:171

الخوانساري:«لا بد أن يكون الوصف حاليا،بحيث يقدر المتعاقد على تسليمه تبعا للعين،فان لم يكن حاليا،مثل الأوصاف التي يمكن أن تتحقق،و ان لا تتحقق ككون الزرع سنبلا فلا يجوز اشتراطه».

عدم العبث:

2-أن لا يكون للشرط غرض يعتد به العقلاء،فلو كان عبثا،كما إذا اشترط أن يأخذ من ماء البحر ثم يرده إليه،يكون الشرط باطلا،و لكنه لا يوجب بطلان العقد.

غير مخالف للكتاب:

3-ان لا يكون الشرط مخالفا لكتاب اللّه،و سنة نبيه،فإذا باع الخشب بشرط أن يجعله صنما،و العنب على أن يجعله خمرا كان الشرط فاسدا،و يدل عليه قول علي أمير المؤمنين عليه السّلام:من شرط لامرأته شرطا فليف به،ان المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطا حلل حراما،أو حرم حلالا.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من اشترط شرطا سوى كتاب اللّه فلا يجوز له، و لا عليه.

و قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهم السّلام عن رجل تزوج امرأة، و اشترطت عليه أن في يدها الجماع و الطلاق؟.قال:خالفت السنة،و وليت حقا ليست له أهلا،ثم قضى الإمام أن عليه الصداق،و في يده الجماع و الطلاق (1).

ص:172


1- إذا اشترطت المرأة [1]أن لا يستمتع بها الزوج إطلاقا،و بشتى أنواع الاستمتاع يبطل الشرط بالاتفاق،أمّا إذا اشترطت عليه أن يترك نوعا من الاستمتاع كالجماع فقط فقد ذهب المشهور إلى الجواز،لأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل سأل امرأة أن تزوجه نفسها،فقالت:أزوجك نفسي على أن تلمس مني ما شئت من نظر و التماس،و تنال مني ما ينال الرجل من أهله إلاّ أنك لا تدخل فرجك في فرجي،فإني أخاف الفضيحة؟فقال الإمام عليه السّلام ليس له منها إلاّ ما اشترطت.

و سئل عن رجل اشترط لامرأته أن لا يتزوج عليها؟.قال:إن شاء تزوج و تسرى.

بقي إن نعرف ما هو المعيار الجلي للحلال و الحرام،حتى نميز به الشرط المخالف لهما عن غيره.و قد أطال الفقهاء الكلام في ذلك،بخاصة الشيخ الأنصاري فإنه ذكر أوجها كثيرة،ثم تنظر فيها على عادته.و الحق أن كل ما يحرم على الإنسان أن يفعله فلا يجوز له اشتراطه،كالزنا و السرقة،و توريث الأجنبي و حرمان الوارث،و كل ما يجب فعله فلا يجوز اشتراط تركه،كالصوم و الصلاة و بر الوالدين،و كل ما يباح فعله و تركه في أصل الشرع من غير توسط العقد،أو أي شيء آخر يجوز أن يشترط فعله و تركه إلاّ أن يثبت العكس،فإن للإنسان أن يتزوج و ان يترك الزواج،و ان يطلق و ان يترك الطلاق،و لكن لما دل الدليل الشرعي التعبدي على أن اشتراط ترك الزواج أو إطلاق لا يجب الوفاء به قلنا ببطلانه،و لو لا هذا الدليل لقلنا بصحته.

هذا هو المعيار الصحيح الذي نرجع إليه عند الشك و التردد.و تجدر الإشارة إلى أن فساد هذا الشرط لا يستدعي فساد العقد إلاّ إذا رجع إلى أحد العوضين،كبيع الخشب بشرط جعله صنما،و العنب خمرا،أمّا إذا لم يرجع إلى أحدهما فيفسد الشرط دون العقد،كما لو قال:بعتك الكتاب على أن تشرب الخمر.

ص:173

خلاف مقتضى العقد:

4-كل أثر يترتب على العقد من حيث هو لا يجوز اشتراط عدمه في العقد،كما لو باع بشرط أن لا يتصرف بالمبيع،و هذا معنى قول الفقهاء:يعتبر في الشرط أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد.

و استدل الشيخ الأنصاري على فساد هذا الشرط بدليلين:الأول لزوم التناقض،لأن العقد يثبت الأثر،و الشرط ينفيه،و هذا هو التناقض بالذات،و معه يستحيل الوفاء بالعقد،و كل عقد يستحيل الوفاء به فهو باطل.الدليل الثاني ان الكتاب و السنة قد أثبتا أثر العقد،فاشتراط عدمه مخالف لهما،و هذا الدليل عن الأول،و لكن بتعبير آخر.

و مهما يكن،فان هذا الشرط من صغريات الكلية البديهية،و هي كل شرط يجب الوفاء به إلاّ إذا علم فساده و عدم جوازه بالعقل أو النقل.أما المعيار لدلالة العقل على الفساد فهو أن يتنافى الشرط مع طبيعة العقد،أو يستلزم المحال،كما تأتي الإشارة قريبا.و أمّا معيار دلالة الشرع فتابع لثبوتها بالمقاييس المقررة.

و قد اختلف الفقهاء في بعض الشروط،و انها مخالفة للعقل أو النقل،أو غير مخالفة.

منها:إذا باع شيئا بشرط أن لا يبيعه و لا يهبه،فذهب المشهور بشهادة الشيخ الأنصاري إلى عدم الجواز،لمنافاة الشرط لمقتضي العقد (1).

منها:اشتراط ضمان العارية،مع عدم التفريط،و ذهب المشهور إلى

ص:174


1- سئل الإمام عليه السّلام عن رجل يشتري الجارية،و يشترط لأهلها أن لا يبيع و لا يهب و لا يورث؟. قال:يفي لهم إلاّ الميراث.و هذه الرواية من الشاذ المتروك،فقد نقل الشيخ الأنصاري عن صاحب كاشف الرموز أنّه لم يجد عاملا بها.

الصحة،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان.

و منها:اشتراط ضمان العين المستأجرة،مع عدم التفريط،و قد ذهب المشهور إلى عدم صحة الشرط،بزعم أنّه مناف لمقتضى العقد،و الحق عدم الفرق بين المستعير و المستأجر،فان كلا منهما أمين على ما فيه يده،فان جاز تضمين أحدهما بالشرط جاز تضمين الآخر،و العكس بالعكس.أمّا ما ذكره الشيخ النائيني من الفرق بينهما بأن يد المستأجر على العين يد استحقاق،و يد الاستحقاق تقتضي عدم الضمان،فتضمينها و لو مع الشرط خلاف الأصل،أمّا يد المستعير فإنها يد اباحة و تحليل،و لا تقتضي عدم الضمان،فتضمينها لا يخالف الأصل.أمّا هذا الفرق فمجرد استحسان،و من تأمل لا يجد فرقا بين المستعير و المستأجر،و لا مانعا من اشتراط الضمان بينهما فيشملهما عموم«المؤمنون عند شروطهم»و قد تأكد هذا العموم بديل خاص في المستعير،فان ثبت النهي عن اشتراط ضمان المستأجر فهو الدليل على عدم الجواز،و إلاّ صح الشرط،و وجب الوفاء به.

و منها:ان يشترط الزوج لزوجته أن لا يخرجها من بلدها،و ذهب المشهور إلى صحة الشرط،و قال البعض:لا يصح،لأنه ينافي العقد الذي يقتضي أن يكون الرجل مسلطا على المرأة استمتاعا و إسكانا.

و قال السيد اليزدي يرد هذا الفقيه:ان هذا التعليل عليل،لأن الشرط المذكور لا يتنافى مع بقاء الرجل قواما على المرأة،هذا،إلى ثبوت النص الخاص على الجواز.

و أي شرط ثبت أنّه مناف لمقتضى العقد فهو فاسد و مفسد بالاتفاق.

ص:175

غير مجهول:

5-أن لا يكون الشرط مجهولا جهالة توجب الغرر،كاشتراط تأجيل الثمن،أو تسليم المثمن أمدا غير معلوم،و قد تقدم الكلام في ذلك في فصل شروط العوضين،فقرة«العلم بالعوضين».

و كل شرط مجهول فهو فاسد،و لكن لا يكون مفسدا للعقد إلاّ إذا رجعت الجهالة إلى أحد العوضين.

غير محال:

6-ان لا يكون الشرط مستلزما للمحال،و مثلوا له بأن يبيع زيد الكتاب من عمرو بشرط أن يبيعه عمرو من زيد،أمّا وجه المحال فواضح،لأن هذا معناه أن زيدا لا يملّك الكتاب لعمرو،حتى يملّك عمرو الكتاب لزيد،و عمرو لا يملكه لزيد،حتى يملكه إياه زيد،و بتعبير أخصر و أوضح أن مؤدى هذا الشرط تماما كقول القائل:لا أعطيك هذا،حتى أنت تعطيني إياه.

و يجوز أن يشترط البيع،أو الهبة لشخص آخر،لأنه لا يستلزم أي محذور.

و فساد هذا الشرط أي المحال موجب لفساد العقد،و هدمه من الأساس.

تقدم الشرط:

7-اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الرياض و الشيخ النائيني على أن أي شرط لم يكن التزاما في ضمن التزام،و لم يتعقبه التزام،و انما يشترطه الإنسان على نفسه ابتداء دون أن يكون هناك طرف مقابل،اتّفقوا على أن مثل هذا الشرط لا

ص:176

يجب الوفاء به إلاّ مع العهد و النذر و اليمين (1)،و أيضا اتفقوا على أن الشرط المذكور صراحة في متن العقد يجب الوفاء به،تماما كما يجب الوفاء بالعقد، و اختلفوا في الشرط الذي يذكر قبل العقد،و يتواطأ عليه المتعاقدان،دون التصريح به ثانية في متن العقد،و قد ذهب المشهور بشهادة الشيخ الأنصاري إلى عدم وجوب الوفاء به.

و الحق وفاقا لجماعة،منهم صاحب الجواهر،و السيد اليزدي أن كل شرط أنيط به العقد يجب الوفاء به،و ان تخلفه يوجب الخيار،سواء أ كان مقترنا بالعقد، أو ذكر أولا،ثم بني عليه العقد،لأن هذا العقد،و ان جاء لفظه مطلقا،دون شرط إلاّ أنّه ينصرف بشهادة الحال إلى ما تبانى عليه المتعاقدان،و لأن العرف لا يفرق بين الشرط المتقدم و المقارن ما دام العقد منوطا به،و لأن التراضي مقيد بالشرط، فإن أوجبنا العقد دون الشرط فقد أوجبنا التجارة من غير تراض،و أكل المال بالباطل.قال صاحب الجواهر في كتاب المتاجر عند كلامه عن الشرط الفاسد:«لا أثر للشرط المذكور بعد العقد،و لا الذي قبله إذا لم يكن بناء العقد عليه و إلاّ فإن الصحة فيه قوية جدا».

حكم الشرط الصحيح:

إذا تمت هذه الشروط صح الشرط،و وجب الوفاء به،و حرم على من التزم به،و اشترطه على نفسه أن يخالف،و ان خالف و امتنع عن الوفاء من غير

ص:177


1- العهد أن يقول الإنسان:عهد علي للّه أن أفعل كذا،و النذر أن يقول:نذر علي للّه أن أفعل كذا، و اليمين هو القسم باللّه جل و عز،فالتعهد في هذه العناوين وقع للّه و مع اللّه سبحانه فلا يكون من نوع الالتزام الابتدائي،و يأتي الكلام عن كل واحد في بابه ان شاء اللّه.

عذر فان للحاكم أن يجبره عليه،لأنه ولي الممتنع،تماما كما يلزمه بالعقد،لأن الشرط كالجزء من أحد العوضين على حد تعبير الفقهاء.و إذا تخلف الشرط لعذر أو غير عذر كان للطرف الآخر،و هو المشروط له أن يختار فسخ العقد،أو إمضاءه مجانا،و لا يحق له الإمضاء مع المطالبة بالأرش،لأن الأرش على خلاف الأصل،و لا يجوز القول به في مورد إلاّ بدليل خاص،و لا دليل على الأرش إلاّ في خيار العيب،و يأتي البيان ان شاء اللّه تعالى.

و يثبت خيار الشرط في جميع العقود،لا في عقد البيع فقط،سواء أ كان الشرط من الأفعال،أو من صفات المعقود عليه،لأن الفائدة من ذكره ثبوت الخيار عند تخلفه،و إلاّ كان ذكره لغوا.أجل،للزوج خصائص و مميزات يختلف بها عن سائر العقود،منها أن الشرط إذا كان من نوع الأفعال فتخلفه لا يوجب الخيار في الزواج،و يوجبه في سائر العقود،و إذا كان الشرط من صفات المعقود عليه فتخلفه يستدعي الخيار في الزواج و غيره،فإذا اشترطت الزوجة على الزوج أن يبني لها قصرا،أو يسكنها في المدن،لا في الأرياف،و لم يفعل فليس لها خيار الفسخ،و ان اشترطت أن يكون تاجرا،لا مزارعا،أو من قبيلة معينة،ثم تبين العكس فلها خيار الفسخ.فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،و قال:أنا من بني فلان،و لا يكون كذلك؟.قال الإمام عليه السّلام:يفسخ النكاح.

و كذا إذا اشترط هو أن تلبس نوعا خاصا من الثياب،و لم تفعل فلا خيار له في الفسخ،أمّا إذا اشترط أن تكون بكرا فله الخيار،ان تبين العكس.

قال صاحب الجواهر في باب الزواج آخر فصل التدليس:«يمكن دعوى الإجماع هنا على أن شرطية الصفات توجب الخيار إذا بان الخلاف،حتى مع اشتراط الناقص فبان الكمال-كما لو اشترط ان تكون ثيبا فبانت بكرا-لاختلاف

ص:178

الأغراض،و لانحصار فائدة الشرط بذلك،نعم لو كان الشرط من الأفعال أمكن القول بعدم الخيار للفرق بين النكاح و البيع».و مثله تماما في حاشية السيد كاظم اليزدي على مكاسب الشيخ الأنصاري:ص 316 طبعة 1324 ه.

و تجدر الإشارة إلى أن الخيار المتولد من تخلف الشرط يقبل الاسقاط كغيره من الخيارات،لأنه حق،و لكل ذي حق أن يتنازل عنه،كما أن هذا الخيار مؤقت بزمن يتمكن فيه من الفسخ،فإذا تخلف الشرط و كان عالما بأن له الخيار،و تمكن من الفسخ،و لم يبادر إليه بطل الخيار،لأنه شرّع لرفع الضرر،و يرتفع الضرر بالفور،و سرعة المبادرة،فيقتصر عليها،و التفصيل في فقرة«الخيار مضيق لا موسع».من فصل خيار العيب.

حكم الشرط الفاسد:

إذا لم تتوافر الشروط المتقدمة لصحة الشرط يكون فاسدا لا يجب الوفاء به بالاتفاق،و لكن هل يفسد العقد لفساد الشرط؟.و بكلمة:هل الشرط الفاسد يكون مفسدا للعقد أيضا،أو ان فساده لا يستدعي فساد العقد؟.

قال جماعة كثر من كبار الفقهاء المتقدمين و المتأخرين:ان فساد الشرط يوجب فساد العقد،كقاعدة كلية،لا نخرج عنها إلاّ بدليل تعبدي خاص (1).

و الحق بعكس ما قالوه تماما،و ان الشرط الفاسد من حيث هو لا يستدعي

ص:179


1- يظهر من أقوال الشيخ الأنصاري أن الفقهاء اتفقوا قولا واحدا على أن الشرط الذي يكون منافيا لمقتضى العقد و المستلزم للمحال،و للجهل بأحد العوضين،أو كان من قبيل بيع الخشب بشرط أن يجعله صنما،كل هذه الشروط يفسد معها العقد و انما اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك من الشروط.

فساد العقد،و ان الحكم بفساد العقد مع فساد الشرط لا يكون إلاّ بدليل خاص،إذ لا تلازم عقلا و لا عرفا و لا شرعا بين الفسادين بما هما،بل لقد ثبت في الشريعة في العديد من الموارد أن فساد الشرط لا يستدعي فساد العقد،و من ذلك الروايات الواردة في باب الزواج،و قد ذكرنا بعضها في فقرة«غير مخالف للكتاب»من هذا الفصل.و منها ما جاء في غير الزواج أيضا فقد روى الحلبي عن الإمام عليه السّلام أن عائشة اشترت بريدة،و هي مملوكة،فأعتقتها،و كان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أن لهم الولاء،و لكن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قضى بأن الولاء لمن أعتق،أي لعائشة،و معنى هذا أن البيع صحيح و الشرط فاسد.و قد اعترف الشيخ الأنصاري بصحة هذه الرواية سندا،و ظهورها في عدم الإفساد متنا،و قال ما نصه بالحرف الواحد:«الإنصاف ان الرواية في غاية الظهور».و لكنه مع ذلك قال:«الإنصاف ان المسألة في غاية الاشكال.و وجه الاشكال-على ما يظهر من عبارته-هو قول جماعة من الكبار بأن الفاسد مفسد أيضا.

أمّا نحن فننكر ذلك كقاعدة عامة،و نقول بأن الفاسد قد يفسد و قد لا يفسد.

انّه يفسد إذا كان منافيا لمقتضى العقد،أو مستلزما للمحال،أو لجهالة أحد العوضين،و قد لا يفسد إذا لم يوجب شيئا من ذلك،و نعرض التفصيل كما يلي:

1-يكون الشرط فاسدا و مفسدا إذا كان منافيا لمقتضى العقد،كاشتراط عدم التملك في عقد البيع،أو عدم التصرف إطلاقا في البيع،أو عدم الاستمتاع بالزوجة بشتى ألوان الاستمتاع.

2-أيضا يكون فاسدا و مفسدا إذا كان مستلزما للمحال،كاشتراط بيع المبيع من البائع،و بيّنا وجه المحال و سببه في فقرة«غير محال»من هذا الفصل.

3-أيضا يكون مفسدا إذا كان الشرط مجهولا،على أن تستدعي جهالة

ص:180

الشرط الجهل بأحد العوضين،كما لو قال:اشتريت منك الفرس بشرط أن يكون له العديد من الصفات الحسنة.و لم يبين ما أراد بالصفات الحسنة،أمّا إذا كانت جهالة الشرط لا تستدعي الجهل بأحد العوضين فيفسد الشرط دون العقد،كما لو قال:اشتريت هذا الفرس على أن تفعل شيئا،فالفرس معلوم بالعيان،و العقد عليه لا يوجب غررا،فيقع صحيحا،أمّا جهالة الشرط فتفسده وحده،ما دامت لم تسر إلى المعقود عليه.

4-أمّا إذا كان الشرط مخالفا لكتاب اللّه،و سنة نبيه فينظر:فان تعلقت المخالفة في المعقود عليه نفسه،كبيع الخشب بشرط جعله صنما،و العنب خمرا فسد العقد بالاتفاق،و فيه روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و ان اقتصرت المخالفة على الشرط،كبعتك هذا بشرط أن تشرب الخمر،أو تترك الصلاة فسد الشرط فقط دون العقد.

5-و إذا كان الشرط غير مقدور ينظر:فان رجع العجز إلى المعقود عليه نفسه،كبيع الزرع بشرط أن يجعله سنبلا،و الدابة بشرط أن يجعلها تحمل في المستقبل فسد الشرط و العقد.أمّا إذا تعلق العجز بالشرط وحده،كما لو باعه الدار بشرط أن يخيط له الثوب بساعة،أو يجعله من الأعلام المبرزين فسد الشرط دون العقد.

6-أن لا يكون للشرط آية منفعة لأحد،و لا غرض مقصود للعقلاء،كالبيع بشرط أن يأخذ من ماء البحر،ثم يرده إليه،فإذا اشترط هذا،و ما إليه من اللغو و العبث سقط الشرط و بقي العقد على الصحة بالاتفاق.

و تقدم هذا التفصيل استطرادا في تعداد الشروط لصحة الشرط،و جمعنا الشتات في هذه الفقرة زيادة في التوضيح،لأن الكثير من متفقهي العصر يذهلون

ص:181

عن هذا التفصيل الذي تحتمه الأصول و القواعد،فيستخرجون القاعدة العامة من مورد،أو موردين،دون أن يستقرأوا و يتتبعوا جميع الموارد،فترى أحدهم إذا وقف على شرط يتنافى مع مقتضى العقد قال:ان فساد الشرط يوجب فساد العقد إطلاقا،و يعارضه آخر قائلا:بل ان فساده لا يقتضي الفساد إطلاقا،يعارض لا لشيء إلاّ لأنه اطلع على شرط لا يقتضي ذلك.

لذا نكرر للمرة الثالثة أن الشرط المنافي لمقتضى العقد،و المستلزم للمحال فاسد و مفسد،و ان الشرط الذي لا فائدة منه فاسد غير مفسد،و ان الجهالة و العجز و المخالفة للمبادئ الشرعية ان رجع شيء منها إلى المعقود عليه بالذات فسد الشرط و أفسد العقد،و ان اقتصرت الجهالة و العجز و المخالفة على الشرط فقط سقط الشرط دون العقد،و ما عدا ذلك من الشروط التي توافرت فيها جميع عناصر الصحة فهي غير فاسدة و لا مفسدة،فإن تحقق الشرط لزم العقد،و ان تخلف ثبت الخيار بين الفسخ و الإمضاء مجانا.

الخيار و الشرط الفاسد:

تبين مما قدمنا أن الشرط الصحيح يجب الوفاء به،و ان تخلفه موجب للخيار،و ان الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به.و بقي شيء،و هو أن الشرط الفاسد الذي لا يوجب فساد العقد:هل يوجب الخيار،كما يوجبه تخلف الشرط الصحيح،أو أن تخلف الشرط الفاسد لا يوجب شيئا على الإطلاق،بل وجوده و عدمه سواء؟.

و ليس للجواب عن هذا التساؤل عين و لا أثر في أقوال الفقهاء،قبل الأنصاري و لا في كلمات أهل البيت عليهم السّلام كما قال الخوانساري في تقريرات الشيخ

ص:182

النائيني،أمّا الشيخ الأنصاري فقال:«الأقوى في المقام عدم الخيار».

و الذي تفرضه الأصول و القواعد أن تخلف الشرط الفاسد،مع صحة العقد يوجب الخيار،تماما كتخلف الشرط الصحيح،سواء أ كان المشروط له عالما بفساد الشرط قبل أن يقدم على العقد،أو جاهلا،و ذلك ان خيار تخلف الشرط ثابت كقاعدة عامة تشمل جميع افراد التخلف و موارده بصرف النظر عن الصحة و الفساد،بحيث لا نحتاج إلى الدليل التعبدي الخاص إذا أردنا أن نثبت الخيار لفرد من افراد التخلف،و إلاّ احتجنا إلى الدليل لكل فرد و كل مورد تخلف فيه الشرط الصحيح،و المفروض غير ذلك.هذا،إلى أن القول بعدم الخيار في صورة فساد الشرط مع صحة العقد يستدعي القول بصحة العقد من غير رضا،لأن الرضا بالعقد قد أنيط بالشرط،و ان كان فاسدا،فان انتفى الشرط انتفى الرضا بالعقد،و لا سبيل لدفع هذا المحذور إلاّ الخيار،فبه وحده يستدرك فوات الشرط صحيحا كان أو فاسدا.

تنبيه:

اتفق الفقهاء على أن الشرط الفاسد مهما كان نوعه لا يفسد عقد الزواج الدائم،و ان أفسد غيره من العقود إلاّ شرطا واحدا فقط،و هو ما كان مناقضا لمقتضى العقد،كاشتراط أن لا يستمتع الزوج بالزوجة إطلاقا،أو شرط الخيار في الفسخ،لأن عقد الزواج يأبى شرط الخيار بطبيعته،و استدلوا على ذلك:

أولا:ان عقد الزواج الدائم ليس من عقود المعاوضات،حتى يبطل بفوات شيء من العوض،بل هو اسمى من ذلك،و لذا قيل:ان فيه شائبة العبادة.

ثانيا:الروايات الكثيرة من أهل البيت الدالة على أن كثيرا من الشروط

ص:183

الفاسدة لا توجب فساد العقد،منها اشتراط عدم الطلاق،و عدم الزواج على الزوجة،و تقدمت الإشارة إلى ذلك.

و منها أن الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام سئل عن رجل تزوج امرأة إلى أجل مسمى،فان جاء بصداقها في الأجل فهي امرأته،و ان لم يأت بصداقها فليس له عليها سبيل؟فقال:ان في يده بضع امرأته،و حبط الشرط.

و منها أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن امرأة تهب نفسها للرجل ينكحها بغير مهر؟فقال:انما هذا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أما لغيره فلا.

مسائل:
1-إذا وقع البيع بين اثنين،و اشترطا شرطا مفسدا للعقد،و قبض

المشتري المثمن،و البائع الثمن

فعلى كل منهما ضمان ما في يده،لأن ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

2-إذا اختلف المتعاقدان في أصل الشرط و وقوعه

،فقال أحدهما:جرى العقد مع الشرط،و قال الآخر،بل مجردا عن كل شرط،فالقول قول المنكر بيمينه،سواء أ كان الشرط المختلف فيه من نوع الصحيح،أو الفاسد،لأن الأصل عدم الشرط.

3-قال السيد كاظم اليزدي في حاشية المكاسب:ربما يتوهم أن الشرط

الفاسد في العقود الإذنية،كالوكالة و المضاربة و الإعارة،و نحوها يوجب فساد

العقد

،حتى و لو لم يكن نقل ذلك في غيرها من العقود اللازمة،و وجه التوهم ان الاذن منوط بالشرط الفاسد،فإذا انتفى الشرط انتفى معه الاذن.و بديهة أن قوام هذه العقود بالاذن،كما هو المفروض.

ص:184

و دفع هذا التوهم بما يتلخص أنّه لا بد من النظر في الشرط،فان رجع إلى المعقود عليه فسد العقد من غير ريب،و مثاله أن يقول:وكلتك في أن تؤجر داري لبيع الخمر،و أعيرك انائي على أن تشرب فيه الخمر،أمّا إذا لم يرجع إلى المعقود عليه،كما لو قال:وكلتك في إيجار الدار على ان تشرب الخمر فسد الشرط دون العقد.

ص:185

ص:186

خيار الغبن
معنى الغبن:

الغبن-بفتح الغين،و سكون الباء و فتحها-معناه في اللغة الخديعة،أمّا الفقهاء فيريدون به الشراء بأكثر من قيمة السوق،أو البيع بأقل منها حين العقد، و التعامل بما لا يتسامح به عادة مع جهل المشتري بالزيادة و البائع بالنقصان، بحيث لو علم المتعاقد القيمة على حقيقتها لما أقدم على التعاقد،و رضي به.

و بقولنا«الشراء»يدخل المشتري إذا اشترى بأكثر من القيمة،و«البيع» يدخل البائع إذا باع بأقل منها.

و بقولنا«حين العقد»تخرج الزيادة و النقيصة المتجددة بعد العقد.

و بقولنا«بما لا يتسامح به عادة»يخرج البيع و الشراء،مع التفاوت اليسير الذي يعد غبنا،لأن المعاملة لا تنفك-في الغالب-عن هذا التفاوت،و لا حد لهذا اليسير في الشرع،فيتعين رده إلى العرف.

و بقولنا«مع الجهل»يخرج من باع بالأقل،و من اشترى بالأكثر،مع علمهما بذلك،إذ قد يقدم الإنسان على الشراء بأكثر من قيمة السوق لنفع يعود عليه بالخصوص،كمن يشتري عقارا مجاورا لعقاره،و يضمه إليه،لترتفع قيمته أضعافا،و كذا البائع قد يقدم على البيع بالأقل،ليستغل الثمن فيما هو أنفع و أعود.

ص:187

ركنا الغبن:

استخلص من هذا التعريف،و كل تعريف ذكره الفقهاء للغبن أنّه يتقوم بأمرين:

الأول:جهل المغبون بالقيمة حين العقد

،فمن أقدم على الزيادة أو النقيصة،مع العلم بها فلا خيار له،لعدم الضرر،و لأن لكل إنسان أن يتصرف في ماله كيف شاء ما دام عاقلا راشدا،لحديث«الناس مسلطون على أموالهم»و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شيء من الروح،يضعه حيث يشاء».

الأمر الثاني:عدم التسامح عادة بما زاد أو نقص

،لأن التغابن اليسير الذي يتسامح العرف بمثله لا يخرج الشيء عن قيمته السوقية،لأن القيمة الحقيقية تصعب معرفتها على الكثير من الناس.

الدليل:

قال صاحب الحدائق:104/5 طبعة 1317 ه:«لم يذكر هذا الخيار كثير من المتقدمين،و القول به انما ثبت عن الشيخ و اتباعه»،يريد الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة(ت 460).ثم قال صاحب الحدائق:«و المشهور بين المتأخرين ثبوت هذا الخيار».أمّا صاحب الجواهر فقال في كتاب المتاجر، «خيار المغبون ثابت بلا خلاف».و قال صاحب المكاسب،«هذا الخيار هو المعروف بين الفقهاء،و نسبه في كتاب التذكرة إلى علمائنا».

و مهما يكن،فان خيار الغبن أصبح من ضرورات مذهب الإمامية،بحيث يعدون القول بنفيه بدعة في الشريعة،و تتلخص الأدلة التي جاءت في كتب الفقه

ص:188

الجعفري،مع ملاحظة الشيخ الأنصاري عليها،و غيره تتلخص بما يلي:

الدليل الأول:قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ

.و بديهة أن المغبون لو علم بالتفاوت الفاحش لم يرض بالتعامل،فأكل ماله-اذن-يكون أكلا للمال بالباطل.

و يلاحظ بأن هذا لو تم لكان دليلا على بطلان البيع من الرأس،لا على صحة البيع،مع ثبوت الخيار للمغبون.

الدليل الثاني:أن الغبن ضرر،و لا ضرر و لا ضرار في الإسلام

.

و يلاحظ بأن هذا لا يثبت الخيار،حيث يمكن تدارك الضرر بطريق آخر، و هو أن يرجع البائع الزيادة للمشتري،ان كان المغبون هو المشتري،و ان يرجع المشتري بمقدار النقيصة إلى البائع،ان كان المغبون هو البائع.

الدليل الثالث:قول الإمام الصادق عليه السّلام:غبن المؤمن حرام

،و في رواية أخرى:لا تغبن المسترسل،و المسترسل هو الذي يثق بك،و يطمئن إليك.

و يلاحظ بأن هذا دليل على تحريم الخيانة،لا على ثبوت الخيار للمغبون، هذا،إلى أن كلا من البائع و المشتري قد يكونان جاهلين بالقيمة،فلا يبقى للتحريم من موضوع.

الدليل الرابع:ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن من تلقى الركبان

-و هم الذين كانوا يجلبون الطعام من بلد إلى بلد-و اشترى منهم بأقل من قيمة السوق،مع جهلهم بذلك فصاحب السلعة بالخيار.

و يلاحظ بأن هذه الرواية مجهولة السند،بل لم تدون في كتب الحديث المعروفة إطلاقا،لا بسند ضعيف،و لا بسند صحيح (1).

ص:189


1- المعروف بين الفقهاء أن ضعف السند ينجبر و يقوى بعمل المشهور،و لاحظت من طرف خفي و بعيد،و أنا أبحث و انقب أن القائلين بذلك يشترطون أن يكون الضعيف مدونا في أحد الكتب الأربعة:الكافي و الاستبصار و التهذيب و من لا يحضره الفقيه،و انه إذا لم يوجد في أحدها فليس لعمل المشهور أي تأثير في جبر الضعيف و تقويته.
الدليل الخامس:قول الإمام الصادق عليه السّلام غبن المسترسل سحت

.

و يلاحظ بأن معنى هذا أن من أخذ مال غيره بالغش و الخديعة فقد أكل حراما،و استحق العقاب،ان لم يرجعه إلى صاحبه و يسترضيه،اذن،فلا دلالة فيه على الخيار من قريب أو بعيد.

الدليل السادس:أن المغبون إنما أقدم باعتقاد أن قيمة المبيع تساوي ما دفع

أو قبض من المال

،و معنى هذا في واقعة أنّه قد اشترط على الطرف الآخر الذي أجرى معه المعاملة شرطا ضمنيا أن البيع أو الشراء يبتني على أساس القيمة السوقية،فإذا تبين العكس فله خيار تخلف الشرط،و ما من شك أن الشرط الضمني يؤثر أثر الشرط الصريح.

و يلاحظ بأن هذا يرجع إلى خيار الشرط،غاية الأمر يكون الشرط على قسمين:أحدهما صريح،و الآخر ضمني،و على هذا يكون خيار الغبن قسما من خيار الشرط،و ليس قسما له،و في قبالة.

و بعد ان ذكر الشيخ الأنصاري الأدلة،و ما لاحظه عليها قال:«فالعمدة في المسألة-أي في خيار الغبن الإجماع المحكيّ المعضّد بالشهرة المحققة».و قال السيد اليزدي معلقا على ذلك:«و كيف كان،فيكفي في إثبات هذا الخيار مجموع ما ذكره من الإجماع المحكي،و خبر تلقي الركبان،و قاعدة لا ضرر،و خبر السحت-أي الدليل الرابع المتقدم-و خبر غبن المسترسل»و هو الدليل الثالث.

و ان شككنا في شيء فلسنا نشك في ثبوت هذا الخيار،لما ذكره هذا

ص:190

السيد،و لأنه يتفق كل الاتفاق مع مقاصد الشريعة السمحة الغراء،و مبدأ العدالة، و لذا أقرته الشرائع الوضعية.

لا أرش:

إذا تبين الغبن تخير المغبون بائعا كان أو مشتريا بين رد ما غبن فيه أو إمساكه،و ليس له أن يطالب الغابن بالأرش،أعني التفاوت بين قيمة السوق و الثمن المسمى.كما أن الغابن إذا بذل التفاوت إلى المغبون لا يجب عليه القبول و الإمساك،بل يبقى على خياره،لأنه بعد أن ثبت بالدليل لا يسقط إلاّ برضاه و إرادته.

الخيار و الجهل بالغبن:

قال الشيخ الأنصاري:«هل ظهور الغبن شرط شرعي لحدوث الخيار،أو كاشف عقلي عن ثبوته حين العقد».

اي أن حق المغبون في فسخ العقد:هل هو ثابت من حين العقد و في زمن الجهل بالغبن،و العلم به انما يكشف عن وجوده في السابق،أو أن هذا الحق لا وجود له إطلاقا حين العقد،و انما يوجد من حين العلم بالغبن،بحيث يكون هذا العلم شرطا شرعيا لوجوده؟.

و تظهر الثمرة بين الوجهين فيما لو هلكت العين في زمن الجهل بالغبن، فإنها على الوجه الأول تهلك من مال الغابن،لأن المفروض أن المغبون في هذي الحال له الخيار،و الغابن لا خيار له،و قد ذهب كثير من الفقهاء على أن«التلف يكون من مال من لا خيار له».و على الوجه الثاني تهلك العين من مال المغبون،

ص:191

إذ لا خيار له في حال جهله بالغبن،فتنطبق عليه قاعدة«التلف من مال من لا خيار له».

و ليس من شك أن الخيار حق و ليس بحكم،و ان الآثار تترتب على الحق الواقعي من حيث هو بغض النظر عن العلم به.أجل،ان العلم به كاشف عن وجوده،و ليس شرطا له،كما أن استعمال الحق يتوقف على العلم به أيضا، و لكن استعمال الحق شيء،و ثبوته واقعا شيء آخر.و على هذا يكون الخيار ثابتا للمغبون من حين العقد،و ان كان جاهلا بالغبن،و بالتالي يكون تلف المبيع من مال الغابن الذي لا خيار له.

الخيار مضيق لا موسع:

هل الخيار في فسخ العقد ثابت للمغبون على سبيل الفور،بمعنى أن المغبون إذا اختار الفسخ فعليه أن يبادر إليه بمجرد علمه بالغبن،و اطلاعه عليه، بحيث إذا تأخر في غير عذر (1)يسقط حقه في الخيار.و يصبح العقد لازما،أو أن هذا الحق ثابت على سبيل التراخي،لا على الفور،بحيث يجوز للمغبون أن يؤخر الفسخ إلى الوقت الذي يشاء،و لا تجب المبادرة إليه حين الاطلاع على الغبن؟.

للفقهاء قولان:الأول التراخي،لأن الخيار ثابت قطعا،و بالاتفاق حين الاطلاع على الغبن،و في الزمن التالي نشك هل ارتفع الخيار،أو هو باق كما كان،

ص:192


1- و العذر هنا هو الجهل بالخيار،و قيل:لا أثر للجهل لأن الخيار من الأحكام الوضعية التي لا فرق فيها بين العلم و الجهل،و جوابه أن الحكم الوضعي يثبت حال الجهل إذا يكن ثبوته موجبا للضرر، و ما من شك أن لزوم العقد مع الجهل بالخيار ضرر ظاهر،مع العلم بأن هذا الخيار انما شرع لنفي الضرر.

فنستصحب بقاءه.

القول الثاني:الفور و وجوب المبادرة إلى الفسخ حين الاطلاع على الغبن، و إذا أخره بلا عذر يسقط الخيار،و أكثر الفقهاء على هذا،لأن التراخي يستدعي الضرر بمن تردّ عليه العين،و لأن الوفاء واجب في كل حين،و قد دل الدليل على عدم وجوب الوفاء به حين الاطلاع،فيقتصر على هذا الحين فقط وقوفا عند موضع اليقين،و يبقى الزمن المتأخر داخلا و مشمولا لعموم وجوب الوفاء بالعقد.

و للشيخ الأنصاري-هنا-و المعلقين على أقواله كلام طويل و غامض.و من جملة أقوالهم ان العموم على نوعين:الأول عموم أعيان،كأكرم العلماء،أي كل فرد منهم.و الثاني عموم أزمان،كأكرم زيدا في آن،فإنه يشمل آنات عديدة، و عبّر الفقهاء عن هذا بالعموم الزماني،و عن الأول بالعموم الأفرادي،و قد يجتمع العمومان في صيغة واحدة،مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،فإنه عموم أفرادي،بالنظر إلى أنّه يعم كل فرد من افراد العقود،كالبيع و الإجارة و المزارعة،و ما إليها من العقود اللازمة،و هو أيضا عموم أزمان بالنظر إلى أن كل عقد يجب الوفاء به في كل آن و زمان.

و معلوم أن ظهور العام هو المناط لدخول المشكوك في حكم العام،سواء أ كان عموم أعيان،أم عموم أزمان.فإذا شككنا أن عقد المزارعة-مثلا-خارج عن عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ -نتمسك بظهور لفظ العقود لإدخاله.و كذلك إذا شككنا في أن هذا العقد يجب الوفاء به في هذا الزمان الخاص،أولا نتمسك بعموم أوفوا لإدخال الزمان المشكوك في حكم العام،أمّا انطباقه على ما نحن فيه فظاهر،لأن أوفوا معناه-كما أشرنا-أوفوا بكل عقد في كل آن،و منه عقد البيع،و لكن لما دل الدليل على أن الآن الأول الذي علم فيه بالغبن لا يجب الوفاء به أخرجناه عن العموم،أمّا الآن الثاني الذي يليه فإنّا نشك:هل خرج عن العموم،و صار حكمه

ص:193

حكم الآن الذي قبله من عدم وجوب الوفاء،أو هو باق تحت العموم،و يجب الوفاء به،و ليس من شك أن العموم ظاهر فيه،فنتمسك بهذا الظهور لإعطاء حكم العام لهذا الآن المشكوك.

أمّا استصحاب الخيار من الزمن الأول إلى الزمن الثاني فلا يصلح لمقاومة العموم،لأنه حاكم و مقدم على الاستصحاب،و هذا الكلام بطوله شرح لهذه الجملة:«خيار الغبن فوري،لأدلة لزوم كل بيع في كل زمان،خرج الوقت المعلوم بالدليل،فيبقى الباقي،و الاستصحاب لا يقاوم العموم»،شرح لهذه الجملة التي قالها الفقهاء فيما قالوه في هذه المسألة.

بقية العقود:

هل يثبت خيار الغبن في كل معاوضة مالية،أو هو مختص بالبيع فقط؟ لقد أثبت الفقهاء خيار الغبن في الإجارة و المزارعة و المساقاة،و ما إليها من المعاوضات المالية لأن الغبن منفي في الشريعة الإسلامية من حيث هو، و الأحكام تتبع الأسماء،و الأسماء تبع لمعانيها العرفية.أجل،استثنوا المعاملة التي يقصد بها التساوي و المعادلة بين العوضين،بل قصد بها شيء آخر، كالاحتراز من التخاصم و التشاجر،و ذلك مثل الصلح على إسقاط الدعوى قبل ثبوتها،أو على إبراء ما في الذمة بالغا ما بلغ،و هذا بديهي لا يحتاج إلى إثبات.

و قد ذكر الشيخ الأنصاري قاعدة عامة،نقل القول بها عن بعض الفقهاء،و هي:

«ان كل عقد بني على التسامح بالتفاوت لا يصدق عليه اسم الغبن،و كل عقد بني على المعاوضة المتعادلة،و عدم التسامح بالتفاوت يصدق اسم الغبن عليه»و أيد ذلك السيد اليزدي في حاشيته،و الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري.

ص:194

موجبات السقوط:

يسقط هذا الخيار بالأمور التالية:

1-اشتراط سقوطه في متن العقد،لأن الخيار حق،و لكل ذي حق أن يسقط حقه،و تقدمت الإشارة إلى ذلك أكثر من مرة.

و تقول:لقد سبق في شروط العوضين أن الجهل بأوصاف المبيع موجب للغرر،و ان الغرر مبطل للتعامل من الأساس بحكم الشرع،حتى و لو اتفق المتعاملان على الالتزام به،و لم يقل فقيه بصحة العقد الغرري،و ثبوت الخيار للمغرور.و بديهة أن الجهل بقيمة السوق يستدعي الغرر،فينبغي بطلان المعاملة من رأس مع الغبن،و لا وجه للقول بصحتها مع ثبوت الخيار للمغبون.

و نجيب بأن الغرر المبطل للبيع هو الذي ينشأ في الغالب من الجهل بالأوصاف الذاتية للعين،كالسمن و الهزال في الحيوان،و السعة و الضيق في الدار، بحيث يكون الجهل بالوصف جهلا بالعين نفسها،أمّا الجهل بالقيمة السوقية فلا يستدعي الجهل بالذات المبيعة،و لذا صح البيع مع الجهل بالقيمة،و لم يصح مع الجهل بأوصاف العين الذاتية.و لو تم ما تقول للزم بطلان البيع مع الجهل بالقيمة، حتى و لو صادف التساوي و عدم الغبن،تماما كما يبطل البيع،مع الجهل بأوصاف العين،حتى و لو تبين أنّها ملائمة لغرض المشتري.و بكلمة:ان الجهل بأوصاف العين شيء،و الجهل بقيمتها شيء آخر،فإن الأول يبطل المعاملة من رأس،حتى كأنها لم تكن،و الثاني لا يبطلها،بل يوجب الخيار فقط.

2-أن يسقط المغبون حقه بالخيار بعد العقد،سواء أ كان ذلك قبل الاطلاع على الغبن أو بعده،و سواء أسقطه بعوض أو بغير عوض،لأن الرضا مسقط للخيار،أجل،استثنى الفقهاء ما لو أسقط الخيار باعتقاد أنه غير مغبون،

ص:195

فتبين العكس،أو باعتقاد أن التفاوت عشرة-مثلا-فتبين أنه مائة،و اثبت ذلك بطريق من طرق الإثبات.

3-إذا تصرف المغبون في العين التي غبن فيها تصرفا ناقلا و ملزما،كالبيع و الوقف فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب المكاسب إلى أن المغبون يسقط حقه في خيار الفسخ مشتريا كان أو بائعا.

أمّا إذا تصرف المغبون فيما غبن فيه تصرفا غير ناقل،كالدار يسكنها، و الدابة يركبها،و الشاة يحلبها فينظر:فان كان هذا التصرف قبل الاطلاع على الغبن فإنه لا يسقط الخيار بالإجماع،و ان كان بعد الاطلاع عليه سقط الخيار،لأن التصرف مع العلم بالغبن إنشاء فعلي لإجازة البيع و الرضا به،و قد سبق بيان ذلك مفصلا في مسقطات خيار الحيوان.و نقل الشيخ الأنصاري الإجماع على هذه القاعدة،و هي:«أن تصرف ذي الخيار فيما انتقل إليه اجازة،و فيما انتقل عنه فسخ»،و مثال الفقرة الأولى أن يشتري عينا يكون له الخيار في ردها،فإذا تصرف فيها مدة الخيار كان تصرفه إسقاطا لخياره،و اجازة للشراء،و مثال الفقرة الثانية أن يبيع عينا،و يجعل الخيار لنفسه في إرجاعها أمدا معلوما،فإذا تصرف فيها في هذا الأمد كان تصرفه فسخا للبيع،و رد العين إلى ملكه.

و تسأل:لقد بينت أن التصرف الناقل على وجه اللزوم مسقط للخيار،سواء أحصل ذلك قبل الاطلاع على الغبن أو بعده،و لم تبين حكم التصرف الذي يغير العين،كطحن الحنطة،و لا حكم التصرف الناقل على وجه الجواز دون اللزوم، كالبيع بالخيار و الوصية و الهبة قبل لزومها،فما هو الحكم في ذلك؟.

و الجواب:أن المغبون إذا نقل العين عن ملكه نقلا جائزا قبل اطلاعه على الغبن لا يسقط حقه في الخيار،لأن له،و الحال هذي،أن يعدل عن المعاملة

ص:196

الجائزة،و يرد العين إلى مالكها الأول.

و ان تصرف بالعين تصرفا موجبا للنقصان،كالدار يهدم بعضها سقط حقه في الخيار،لأن النقصان عدم أو بمنزلته.

و ان كان التصرف موجبا للزيادة يسيرا،كالحنطة يطحنها،و الثوب يصبغه فلا يسقط الخيار،و له المطالبة بأجرة عمله.

و ان كانت الزيادة كثيرة و يعتد بها،كإصلاح البستان و تحسينه فقال البعض انّه يرد العين و يصير المغبون شريكا بنسبة زيادة القيمة.و لا أرى وجها لهذه الشراكة،و الأولى جواز الرد،مع المطالبة بأجرة العمل.

و أيضا تسأل:هذا حكم المغبون إذا تصرف هو فيما غبن فيه فما الحكم إذا تصرف الغابن في العين الذي انتقلت إليه ثمنا و بدلا عن المبيع هل يبقى للمغبون الحق في الفسخ،أو لا؟.و إليك المثال:باع زيد داره بعقار عمرو،و بعد أن تسلم زيد العقار نقله عنه نقلا لازما،ثم تبين لعمرو أنه مغبون،و ان عقاره أغلى و اثمن.

و اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن تصرف المغابن بالغبن التي انتقلت إليه من المغبون لا تسقط خيار المذكور بحال،إذ لا صلة بين تصرف الغابن،و بين خيار المغبون،و انما الصلة بين تصرف المغبون،و بين حقه في الخيار.

و اختلفوا فيما إذا كان الغابن قد نقل العين عن ملكه نقلا لازما،ثم فسخ المغبون،فهل للمغبون ان يسترجع العين،و ينتزعها ممن انتقلت إليه من الغابن، أو يرجع على الغابن بالبدل،و لا سلطة له على العين إلاّ إذا وجدها باقية على ملك الغابن،و يأتي التحقيق في فصل أحكام الخيار إن شاء اللّه.

ص:197

ص:198

خيار التأخير
الشروط:

من باع شيئا،و لم يسلمه إلى المشتري،و لم يقبض منه الثمن كاملا،و لم يشترط المشتري تأجيل الثمن،فليس للبائع أن يعدل،و يفسخ البيع بحجة أنّه لم يقبض الثمن إلاّ بعد مضي ثلاثة أيام،فإن جاء به المشتري في هذه المدة فهو أحق بالبيع،و ان مضت الثلاثة،و لم يأت بالثمن تخير البائع بين فسخ العقد،و بين إمضائه،فإن أمضاه يكون الثمن دينا في ذمة المشتري.

و إذا طالب البائع بالثمن،و لم يدفع المشتري فلا يسقط حق البائع في الفسخ،لأن مجرد المطالبة لا تدل على الرضا بالبيع على كل حال،حتى مع قبض الثمن،و بهذا يتبين أن الشروط التي لا بد من توافرها لهذا الخيار أربعة:

الأول:ان يقع البيع على الشيء المعين الموجود في الخارج

،فلو باع شيئا في الذمة و لم يقبض الثمن فلا خيار،إذ المفروض عدم وجود المبيع في الخارج حين العقد،و عليه فلا يتأتى القول بأن تأخير الثمن مع منع البائع عن التصرف في المثمن يستدعي الإضرار به و انه لو تلف لذهب من ماله،و من هنا قال الشيخ الأنصاري:و من تأمل في أدلة هذا الخيار،و فتاوى الفقهاء يشرف على القطع باختصاصه بغير الكلي.

ص:199

الثاني:أن لا يستلم المشتري المبيع برضا البائع

،فإن استلمه برضاه فلا خيار،بل يكون الثمن دينا في ذمة المشتري،حكمه حكم سائر الديون.و إذا أخذ المشتري المبيع دون اذن الحاكم،و دون أن يدفع الثمن جاز للبائع انتزاعه منه،و إذا بذل المشتري الثمن،و امتنع البائع من قبضه سقط خياره،لأن هذا الخيار شرّع للارتفاق بالبائع،و دفع الضرر عنه الناشئ من تأخير الثمن،و مع بذله يرتفع الضرر.

الثالث:أن لا يقبض الثمن كاملا

،أمّا قبض البعض فإنه كالقبض على حد تعبير الفقهاء،لأن الضرر لا يرتفع إلاّ بدفع الجميع،و كذا لو قبض جميع الثمن، فتبين أنّه مستحق للغير كلا،أو بعضا،إذ لا عبرة بالقبض الفاسد.

الرابع:ان لا يشترط المشتري تأخير الثمن

،فان اشترطه فلا خيار للبائع مراعاة للشرط،و كذا إذا اشترط البائع تأجيل تسليم المبيع،حيث لا يجب، و الحال هذي،على المشتري المبادرة إلى دفع الثمن إلاّ مع الشرط.

و تبتدئ الأيام الثلاثة من حين العقد،لا من حين افتراق المتبايعين، و يبتدئ زمن الخيار من انتهاء الثلاثة.

و لا مانع أن يجتمع هذا الخيار مع غيره من الخيارات،كخيار المجلس و الحيوان،و الغبن.و ايضا كما لو باع بأقل من قيمة السوق،و لم يقبض الثمن، و لم يتبين له الغبن إلاّ بعد مضي ثلاثة أيام،فله،و الحال هذه،ان يفسخ بسبب الغبن،كما له أن يفسخ بسبب تأخير الثمن.

مضيق لا موسع:

ذهب المشهور إلى وجوب المبادرة فورا إلى هذا الخيار عند انتهاء الأيام

ص:200

الثلاثة،تماما كما هي الحال في خيار الغبن،فلو مضت الثلاثة،و تأخر البائع عن الفسخ في غير عذر يكون البيع لازما،و لا يحق له الفسخ اقتصارا فيما خالف أدلة اللزوم على موضع اليقين،أعني أقل أمد يندفع به الضرر،و سبق البيان مفصلا و مطولا في خيار الغبن فقرة«الخيار مضيق لا موسع».

الدليل:

استدل الفقهاء على ثبوت هذا الخيار بدليلين:

الأول:أن الصبر طويلا يستدعي الضرر،و لا ضر و لا ضرار في الإسلام، بل هو أشد من ضرر الغبن،لأن البائع ممنوع من التصرف في المبيع بعد أن نقله عن ملك الغير،و لأنه لو هلك يذهب من مال البائع.

الثاني:قول الإمام الصادق عليه السّلام:من اشترى بيعا،فمضت ثلاثة أيام فلا بيع له.

و أيضا سئل عن الرجل يشتري من الرجل المتاع،ثم يدعه عنده،فيقول:

أجيئك بثمنه؟فقال الإمام عليه السّلام:ان جاء ما بينه و بين ثلاثة أيام،و إلاّ فلا بيع له.

و تقول:ان الظاهر من قول الإمام عليه السّلام:«فلا بيع له»هو نفي البيع،و بطلانه من رأس،لا صحة البيع مع ثبوت الخيار للبائع،و عليه فلا مستند للقول بهذا الخيار.

و نجيب بأن قوله:«لا بيع له»ظاهر في نفي البيع للمشتري فقط،لا نفي البيع من رأس،لأن الضمير في«له»يعود إلى المشتري،هذا،إلى أن الغرض الأول من هذا البيع هو الإرفاق بالبائع،و عدم تضرره بالتأخير،و ليس من شك ان الإرفاق و عدم الضرر يتحقق بجعل إمضاء البيع و فسخه في يد البائع،بل ان بطلان

ص:201

البيع يتنافى مع الإرفاق،إذ من الجائز ان تكون مصلحة البائع في الإمضاء،و لو مع تأجيل الثمن،و لهذا و غيره فهم الفقهاء من النفي في قول الإمام عليه السّلام نفي اللزوم،لا نفي الصحة.

و قد اتضح من الدليل و الشروط أن هذا الخيار مختص بالبيع فقط،دون سائر العقود.

موجبات السقوط:

يسقط هذا الخيار بأمور:

1-أجمع الفقهاء ان هذا الخيار يسقط بإسقاط البائع له بعد مضي الأيام

الثلاثة

،و اختلفوا إذا أسقطه بعد العقد،و قبل مضي الثلاثة،فمنهم من قال:لا يصح،لأنه إسقاط لما لم يجب،إذ المفروض ان الخيار يثبت بعد الثلاثة لا قبلها، و منهم من قال:بل يصح،و هو الحق،لأن السبب لثبوت هذا الخيار بعد الثلاثة هو العقد الموجود بالفعل،فلا يكون إسقاطا لما لم يجب،بل لما وجب بوجود سببه.

2-ان يشترط المشتري على البائع إسقاط هذا الخيار في متن العقد

.

و لا مانع من ذلك ما دام ممكنا عقلا،غير منهي عنه شرعا،و أي مانع أن ينشئ الإنسان-الآن-سقوط حقه الذي سيوجد حتما بعد ثلاثة أيّام أو أقل أو أكثر،مع العلم بأن السبب متحقق و موجود بالفعل،و سبق في فصل«شروط العقد»أنّه لا دليل على بطلان مثل هذا التعليق.

3-إذا قبض البائع الثمن من المشتري بعد الثلاثة سقط خياره

،لأن الأخذ منه إمضاء فعلي للبيع،تماما كما لو قال شخص آخر:اشتريت منك هذا المتاع

ص:202

بكذا،و أعطاه الثمن،فأخذه منه صاحب المتاع.

أمّا قول من قال:انما يكون الأخذ إمضاء للبيع إذا حصل منه العلم أو الظن بالرضا،و إلاّ فلا أثر للأخذ-أمّا هذا القول فأجاب عنه الشيخ الأنصاري بقوله:

الأقوى عدم اعتبار الظن الشخصي في دلالة التصرفات على الرضا،كما هو الشأن في سقوط خيار الحيوان و غيره بالتصرف،و سبق ذلك مفصلا.

ما يسرع إليه الفساد:

التحديد بالأيام الثلاثة انما هو للمبيع الذي لا يسرع إليه الفساد،كالعقار و الثوب و الحيوان،أمّا الذي يسرع إليه الفساد،كالخضار و الفواكه،و اللبن و اللحم،و ما إليه فيثبت الخيار فيه للبائع في الزمان الذي يكون التأخير عنه ضررا عليه،لأن الغرض من هذا الخيار هو تلافي الضرر.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يشتري الشيء الذي يفسد من يومه،و يتركه،حتى يأتي بالثمن؟قال:

ان جاء فيما بينه و بين الليل،و إلاّ فلا بيع له.

و الانتظار إلى الليل،أو يوما كاملا ليس بشرط في كل ما يسرع إليه الفساد، و ان كان ظاهر الرواية ذلك،لأن من الأشياء ما يسرع إليه الفساد في نصف يوم،أو دونه،فينبغي-اذن-تحديد الانتظار بالوقت الذي يخشى فيه الفساد،بحيث إذا تأخر عنه فسد المبيع،و تضرر البائع،فينتظر ساعة فقط فيما لا ينبغي الانتظار فيه أكثر من ذلك،و ساعتين إذا اقتضى الأمر الصبر ساعتين،و هكذا.أمّا النص الذي دل بظاهره على الانتظار إلى الليل فمنزل على ما يفسده،أو ينقص من ثمنه المبيت و البقاء إلى اليوم التالي،كالخضار و الفواكه و اللحم،لأن هذه و ما إليها مما يفسده المبيت هي السلعة الغالبة فيحمل النص عليها.

ص:203

هذا ما قاله الفقهاء أيام زمان،و قد كان ملائما لظروفهم و عاداتهم،و علينا نحن اليوم أن نفتي بما يتفق مع أهل هذا العصر،و عاداتهم إذا لم تحلل حراما، و لم تحرم حلالا.

تلف المبيع:

إذا تم البيع،و لم يدفع المشتري الثمن،و لا قبض المبيع،ثم هلك في يد البائع،فهل يهلك من مال المشتري،أو من مال البائع؟ لقد اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر و المسالك ان المبيع إذا تلف بعد الأيام الثلاثة ذهب من مال البائع،و اختلفوا إذا هلك في أثنائها،و قبل مضيها، فذهب المشهور إلى أنّه من مال البائع أيضا،و قيل:بل من مال المشتري.

و قبل أن نذكر الدليل على الحق الذي ذهب إليه المشهور نمهد بالإشارة إلى قواعد ثلاث:

القاعدة الأولى:«كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه».و أصل هذه القاعدة حديث نبوي مشهور.

القاعدة الثانية:و أصلها حديث نبوي مشهور أيضا،و هي:«الخراج بالضمان»أي أن من له ثمرة الشيء و نتيجته فعليه ضمانه و خسارته،فاستحقاق الثمرة في مقابل تحمل الخسارة.

القاعدة الثالثة:«تلف المبيع بعد قبضه من مال من لا خيار له».و أصل هذه القاعدة الإجماع على ما قيل.

و إذا قارنا بين القاعدة الثالثة،و بين القاعدة الأولى ظهر لأول وهلة وجود التنافي بين القاعدتين إذا أردنا تطبيقهما على ما نحن فيه،لأن الأولى تستدعي أن

ص:204

يكون تلف المبيع بعد الثلاثة من مال البائع،لا من مال المشتري،سواء أ كان هناك خيار لأحدهما،أو لهما،أو لا خيار من الأساس،و القاعدة الثالثة تستدعي أن يكون التلف بعد الثلاثة من مال المشتري،لا من مال البائع،لأنها تقول:ان تلف المبيع فهو من مال من لا خيار له،سواء أ كان بائعا أو مشتريا،و معلوم أن الذي لا خيار له في مسألتنا هو المشتري،أمّا البائع فله الخيار،و عليه ينبغي أن يكون التلف من مال المشتري،لا من مال البائع.

و لكن بالنظر و الرؤية يرتفع هذا التنافي،و ذلك أن القاعدة الأولى مختصة بغير المقبوض،و الثالثة مختصة بالمقبوض،فأين المنافاة؟هذا،إلى أن الثالثة لا تشمل جميع افراد الخيار،بل هي مختصة بخيار المجلس و الشرط و الحيوان، عند الشيخ الأنصاري،و يأتي الكلام و التحقيق في فصل أحكام الخيار.

و إذا قارنا بين القاعدة الاولى،و هي كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه،و القاعدة الثانية،و هي الخراج بالضمان-بدا لأول وهلة التنافي بين القاعدتين،لأن الثانية تقول:من كانت له ثمرة الشيء فعليه ضمانه،سواء أ كان مقبوضا في يده أو لم يكن مقبوضا،و على هذا يكون تلف المبيع قبل قبض المشتري من ماله،لا من مال البائع،لأن خراجه للمشتري،لا للبائع،و الأولى تقول:ان تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع،لا من مال المشتري،حتى و لو كان الخراج له،و هذا هو التنافي بعينه.

و لكن لما كانت الأولى مختصة بالتلف قبل القبض،و الثانية تعم التلف قبل القبض و بعده،و الخاص مقدم على العام ترتفع المنافاة،و لا يبقى لها من أثر، و تكون نتيجة الجمع بين القاعدتين،و عطف أحدهما على الأخرى هكذا:

الخراج بالضمان إلاّ إذا تلف المبيع الذي خراجه للمشتري،و هو ما زال في يد

ص:205

البائع فإنه يتلف و الحال هذي،من مال البائع،لا من مال المشتري.

فتحصل مما قدمنا أن المبيع إذا تلف في الأيام الثلاثة،أو بعدها يكون التلف من مال البائع،للقاعدة السالمة عن كل معاوض،و الدالة بنحو الشمول و العموم على أن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه سواء أ كان هناك خيار، أو لم يكن،و سواء أتلف المبيع في زمن الخيار،أو قبله أو بعده،و سواء أ كان الخيار للبائع أو للمشتري.

و مما يدل على أن التلف من مال البائع قبل القبض ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل اشترى من آخر متاعا،و أوجبه له،غير أنّه ترك المتاع عنده،و لم يقبضه،و قال:آتيك غدا إن شاء اللّه تعالى،فسرق المتاع،من مال من يكون؟قال الإمام:من مال الذي هو في بيته،حتى يقبض المتاع، و يخرجه من بيته.

ص:206

خيار الرؤية
العين الغائية:

سبق في فصل شروط العوضين أنّه لا بد من معرفة الثمن و المثمن،و ان الطريق إلى معرفتهما قد تكون المشاهدة الحالية،و قد تكون المشاهدة السابقة، و قد يكون الوصف.

و خيار الرؤية يتصل اتصالا وثيقا بهذا الشرط،لأن محله الشيء الخارجي الذي يشتريه المتعاقد،أو بيعه على الوصف دون الرؤية،و لدى التسليم و التسلم ينظر و يقارن بين الوصف و الموصوف،فان حصل التطابق لزم البيع،و لا خيار، و ان كان المعقود عليه دون الوصف ثبت الخيار للمشتري،و ان زاد عن الوصف كان الخيار للبائع،كمن باع ماله الغائب على ما وصف له،أو باع ماله الحاضر بمال غائب،و بهذا يتضح أن خيار الرؤية يشمل البائع و المشتري.

و تسأل:لما ذا سمي هذا الخيار بخيار الرؤية،مع العلم بأن الرؤية لم تحصل قبل التعاقد،كما هو المفروض،فكان الأليق أن يسمى خيار تخلف الوصف.

الجواب:لما كان المفروض أن رؤية المبيع بعد التعاقد على غير الوصف هي السبب لهذا الخيار سمي باسمها،و جاءت التسمية في محلها.

ص:207

التجارة و هذا الخيار:

و خيار الرؤية أكثر اتصالا من سائر الخيارات بالتجارة بخاصته الواسعة منها،حيث يضع التجار الكبار نماذج للاثواب المشدودة في رزماتها،و للفاكهة في صناديقها،و السكر و الحبوب في أكياسها،و السمن و الزيت،و سائر الدهون في ظروفها،ثم يقع البيع و الشراء قياسا على صفة النماذج المعروضة،لأن فتح الجميع،و مشاهدة أجزائها بكاملها صعب عسير،و ربما أضر بصاحب السلعة.

و البيع على هذا الوجه صحيح،و للمشتري الفسخ إذا تخلف الوصف عن صفة المثال و الأنموذج.

شرطان:

يعتبر في هذا الخيار شرطان:

1-أن يكون محل العقد عينا موجودة في الخارج بالفعل

،بحيث يمكن رؤيتها و الإشارة إليها حين العقد،و لكنها غائبة عن محلها،كأن يقول البائع للمشتري:بعتك داري الموجودة في بلد كذا،و التي صفتها كذا،فيكون المبيع هذا الدار بالذات،أمّا الصفات فمن توابع المبيع و عوارضه،و بتخلفها عنه يوجد سبب الخيار،أمّا لو باعه كليا موصوفا في الذمة فلا يكون محلا لهذا الخيار:

أولا:لتعذر رؤيته و الإشارة إليه.

ثانيا:للفرق بين وصف المبيع الموجود في الخارج،و بين وصف المبيع الموجود في الذمة،فإن الوصف الأول من عوارض المبيع،لا من مقوماته، و الوصف الثاني من مقوماته،لا من عوارضه.و تظهر نتيجة الفرق بينهما حين الوفاء بالعقد،حيث يصح البيع مع الخيار في المبيع الموجود خارجا،و يلزم

ص:208

البائع-في المبيع بالذمة-بإبدال العين بما يحقق الوفاء بالعقد.

2-ان يذكر العين المبيعة بلفظ يدل بوضوح و صراحة على جنسها

و صفاتها

التي تختلف فيها الرغبات،بحيث يقوم الوصف مقام الرؤية و المشاهدة،و ترتفع به الجهالة الموجبة للغرر،و إذا انتفى الوصف الرافع لهذه الجهالة بطل البيع من أساسه،لمكان الغرر،كما تقدم في فصل شروط العوضين.

ثم ان المعيار لتطابق الوصف مع المبيع الموجب لسقوط الخيار،و عدم هذا التطابق الموجب لثبوت الخيار،ان المعيار هو فهم العرف،و لا ضابط سواه.

الرؤية السابقة:

إذا شاهد المشتري عينا في زمن سابق على العقد،أو شاهد البائع العين التي يملكها،ثم غاب عنها أمدا،فباع المالك،أو اشترى المشتري اعتمادا على الرؤية السابقة،إذا كان كذلك يبطل البيع و الشراء ان اقتضت العادة تغير المبيع في الأمد المتخلل بين الرؤية و العقد،و لا يصح إلاّ بذكر الصفات من جديد،بحيث يكون من صغريات خيار الرؤية،و ان اقتضت العادة بقاء الصفات صح البيع و الشراء،فإن انكشف البقاء على ما كان،و عدم التغير لزم العقد،و لا خيار،و إلاّ تخير البائع ان زادت الصفات في مالية المبيع،و تخير المشتري ان نقصت،قال صاحب الحدائق في المجلد الخامس فصل خيار الرؤية:

«لو اشترى برؤية قديمة تخير أيضا-أي كما يتخير عند تخلف الوصف- لو ظهر بخلاف ما رآه،و كذا من طرف البائع إلاّ أن هذا ليس من افراد هذا الخيار الذي هو محل البحث،لأنه مقصور على ما لم ير،حيث اشترط فيه الوصف عوضا عن الرؤية،و لا يشترط وصف ما سبقت رؤيته،و انما يباع و يشترى

ص:209

بالرؤية السابقة،غاية الأمر أنّه إذا ظهر خلاف ذلك،لطول المدة،أو عروض عارض،أو نحو ذلك تخير بائعا كان أو مشتريا».

لا أرش:

ذهب المشهور بشهادة الشيخ الأنصاري إلى أن الخيار-هنا-انما هو بين الرد و الإمساك مجانا،كما هو الشأن في خيار الغبن،فلا يحق للمشتري أن يمسك المبيع مع المطالبة بالأرش-أي عوض الصفة الفائتة-بل امّا أن يرد،و امّا أن يمسك بالثمن المسمى،و ليس للبائع-ان زادت الصفة-أن يبذل العين،مع المطالبة بعوض الصفة الزائدة،بل امّا أن يفسخ البيع،و امّا أن يسلم المبيع بالثمن المسمى.و رد الشيخ الأنصاري على من قال بالتخيير بين الرد و الإمساك بالأرش، رد بقوله:«لا دليل على الأرش».

الدليل:

من الخطأ التدليل على هذا الخيار بالغرر،لأن الغرر ما دخل عقدا إلاّ نقضه من أساسه بيعا كان أو غير بيع،و من هنا يصح أن نقول:الغرر مبطل للعقد، و الضرر موجب للخيار مع صحة العقد،و الأدلة على هذا الخيار ثلاثة:

الأول:أن الإلزام بالتعاقد،مع تخلف الوصف ضرر

،و لا ضرر و لا ضرار في الإسلام.

و قد يلاحظ بأن الضرر يرتفع بأخذ الأرش،و لكن الأرش لا دليل عليه كما قال الشيخ الأنصاري،فيتلافى الضرر بالفسخ و جواز الرد.

الثاني:أن الصفات التي ابتنى عليها العقد بمثابة الشرط

الذي أخذ في

ص:210

ضمن العقد،و ما من شك أن تخلف الشرط موجب للخيار.

أمّا قول من قال بأن لا عبرة بالشرط إذا لم يذكر في متن العقد فجوابه ان الغاية الأولى من ذكر الشرط في متن العقد هو التعبير عن التراضي،و ارادة المتعاقدين،و بديهة أن التعبير السابق الذي ابتنى عليه العقد،تماما كالتعبير في متن العقد عند أهل العرف،دون ادنى تفاوت.

الثالث:أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل اشترى ضيعة كان يدخلها،

و يخرج منها

،و لما نقد المال،و صار إلى الضيعة،و قلّبها رجع و استقال صاحبه، فلم يقله؟قال الإمام عليه السّلام:لو أنّه قلّب منها،و نظر إلى 99 قطعة،ثم بقي منها قطعة لكان له في ذلك الخيار.

و الرواية هذه،و ان كان موردها المشتري غير انّها على اليقين أن سبب الخيار هو تخلف الوصف عن الموصوف،فيعم المشتري و البائع.

الخيار مضيق لا موسع:

يثبت هذا الخيار على الفور عند المشهور،أي أنّه موقت بزمن الرؤية،فإذا انكشف للمتعاقد الخلاف عند الرؤية،و تمكن من الفسخ،و لم يفسخ بطل خياره،تماما كما هو الشأن في خيار الغبن،و التأخير،و الدليل هو الدليل.

سائر العقود:

لا يختص هذا الخيار بالبيع،بل يثبت في كل عقد يقبل الفسخ و التقايل، على شريطة أن يقع على عين خارجية يمكن الإشارة إليها،و لكنها غائبة و موصوفة بما يرفع الجهالة و الالتباس،كما تقدم،فلا يثبت خيار الرؤية في

ص:211

الزواج،لأنه لا يقبل الفسخ،و لا في الصلح على ما في الذمة،و يثبت في الإجارة، و الصلح على عين خارجية.

و خلاصة الدليل على ثبوت هذا الخيار في غير البيع أن السبب الموجب له في البيع متحقق بذاته في غير البيع،و أعني به تخلف الوصف الذي هو بمثابة الشرط في متن العقد.

المطابقة للبعض:

إذا اشترى على الوصف عددا معينا من أكياس الحنطة و السكر،أو صناديق الفاكهة،و ما إلى ذلك،و لدى التسليم و التسلّم رأي بعضها على الوصف،و بعضها على غيره،إذا كان الأمر كذلك تخير بين إمضاء البيع في الجميع،و بين الفسخ في الجميع،و ليس له الاقتصار على الإمضاء في المطابق،و الفسخ في المخالف،لأن الصفقة واحدة و تبعيضها ضرر على البائع.

موجبات السقوط:

يسقط هذا الخيار بأمور:

1-إذا رأى المشتري العين التي اشتراها

،أو رأى البائع العين التي باعها كذلك،و رضي بالتعاقد و إمضائه،مع تخلف الوصف عن الموصوف،إذا كان كذلك سقط حقه في الخيار،و ليس له بعد الرضا العدول و الفسخ.

2-إذا تصرف بالعين تصرفا دالا على الرضا

،بحيث يعد التصرف إمضاء فعليا في نظر العرف يسقط الخيار دون فرق بين أن يكون التصرف بعد الرؤية،أو قبلها،كما لو باع المشتري،أو وقف العين التي اشتراها على الوصف قبل أن

ص:212

يراها.

3-يسقط بإسقاطه بعد العقد،و قبل الرؤية

،لأن الخيار حق ثابت بالعقد، و من حينه،لا بالرؤية و من حينها،و لكل ذي حق أن يسقط حقه،أجل،أن الرؤية كاشفة عن وجود الخيار،و ليست سببا،و لا شرطا لثبوته،و سبق البيان في خيار الغبن.

4-هل يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في متن العقد؟

قيل:إذا اشترط ذلك في متن العقد فسد الشرط،و أفسد العقد،و اختاره الشيخ الأنصاري.

و قيل:بل يصح الشرط و العقد معا،و هو الحق،لعموم:«المؤمنون عند شروطهم»،إذ لا مانع من هذا الشرط،لأن سبب الخيار هو العقد،و العقد موجود، فلا يكون إسقاطا لما لم يجب،بل لما وجب بوجوب سببه.

أمّا استدلال الشيخ الأنصاري على الفساد و الإفساد بأن تخلف الوصف موجب لثبوت الخيار،و اشتراط سقوط الخيار معناه عدم ثبوت الخيار،و هو عين التنافي و التناقض فيرده أولا بأنّه لو تم لما صح الاسقاط إطلاقا،حتى بعد الرؤية.

ثانيا أن تخلف الوصف انما يوجب الخيار إذا تجرد العقد عن اشتراط سقوطه،أمّا معه فلا يكون موجبا له،فأين التنافي و التناقض؟.

ص:213

ص:214

خيار العيب
أصل السلامة:

كل فقيه تعرض لخيار العيب قال:إطلاق العقد يقتضي سلامة العين،لأن الأصل في المبيع من الأعيان أن يكون سالما من العيوب.و ما من عاقل يقدم على بذل ماله في مقام التعاقد المجرد عن القيد إلاّ بهذا القصد،قال الشيخ الأنصاري:

«إنما يترك الناس اشتراط السلامة في متن العقد اعتمادا على هذا الأصل».و قال غيره:إذا افترض أن شخصا اشترط السلامة في متن العقد فان شرطه هذا يكون توضيحا للمعنى الذي اقتضاه العقد،لا تأسيا لمعنى جديد.

اذن،اقتضاء العقد للسلامة ضابط كلي يصح الاعتماد عليه لإثبات أن الاتفاق بين المتعاقدين وقع على السليم دون المعيب إذا شككنا في ذلك، و لا بينة.

معنى العيب:

الغبن،و تخلف الوصف عن الموصوف،و التدليس،و العيب الموجب للخيار،كل أولاء،و ما إليها لا ترد معرفتها إلى الشارع،لأنها ليست من الحقائق الشرعية في شيء،و انما هي موضوعات خارجية يرجع في تحديد معانيها و المفهوم منها إلى العرف،و إذا تعرض لها الشارع أحيانا فإنما يتعرض لها إرشادا إلى ما عليه العرف،و إذا بحثنا نحن عنها في كلماته فإنما نبحث عنها طلبا لهذا

ص:215

الإرشاد،و هذه الهداية،لأنه أكمل أهل العرف و أعلمهم.أمّا الرجوع إلى أقوال الفقهاء،فإنه لا يجدي نفعا في معرفة معاني الأسماء،بل قد يحدث الرجوع إليهم ردة فهم،و يوقع في التشويش و الاضطراب،لأنهم أقل الناس معرفة للناس، و أذواقهم و عادتهم.فعلى الفقهاء أنفسهم أن يرجعوا في فهم معاني الأسماء إلى العرف،و لا يرجع أحد إليهم في ذلك،فإنهم منذ عهد الطفولة إلى عهد الشيخوخة غارقين إلى الآذان في الكتب و حل الطلاسم،و حفظ المتون و الشروح،و النظريات و الإشكالات،فمن التعليلات النحوية إلى القياسات المنطقية،إلى الاحتمالات الأصولية،و لا يصل أحدهم إلى الفقه-في الغالب-إلاّ و قد استحال ذهنه و عقله إلى كتلة من التوجيهات و التأويلات،و التشكيك و التردد و إلاّ في قوله يحتمل و يحتمل«و إذا طرأ الاحتمال بطل الاستدلال».و هذا هو السر في توقفهم و عدم جزمهم في أكثر الفتاوي،أو الكثير منها،و تكرار لفظ الأحوط و الأولى،حتى في الرسائل و أجوبة المسائل.

فالمعيار الوحيد-اذن-للعيب الموجب للخيار هو أن يرى العرف أن إلزام المتملك بالعين المعيبة قهرا عنه يستدعي إلحاق الضرر به ضررا لا يتسامح بمثله عادة.أمّا رواية الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام عن آبائه عن جده الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:كل ما كان في أصل الخلقة،فزاد أو نقص فهو عيب،أمّا هذا الحديث الشريف،و ما إليه فهو إرشاد إلى المعنى العرفي في ذاك العهد، و ليس تحديدا للمعنى الشرعي الثابت إلى يوم القيامة.هذا،إلى أن الحديث خاص في الطبيعيات،و لا يشمل الأشياء الصناعية التي هي محل البلوى أكثر من غيرها،بخاصة في هذا العصر.

و بالتالي،فان العيب الذي يختلف باختلاف الأعيان لا ضابط له إلاّ فهم

ص:216

العرف الذي يختلف ايضا باختلاف الأزمان و البلدان،و إثبات غير هذا الضابط دونه أكثر من محال.

شرطان:

يشترط لثبوت هذا الخيار شرطان

الأول أن يكون العيب موجودا في

العين قبل قبضها

،سواء أحدث قبل العقد،أو قبل القبض و بعد العقد،لأن حكم العيب الحادث قبل القبض تماما كحكم الحادث قبل العقد،فإذا حدث العيب عند المتملك،و بعد أن قبض العين فلا خيار.

الثاني:أن لا يقدم على التعاقد

،و هو على علم بالعيب،فإذا أقدم مع علمه هذا فلا خيار.

و متى توافر هذان الشرطان تخير المتملك بين رد العين،و بين إمساكها بالأرش،و خيار العيب هو الوحيد من بين الخيارات التي يثبت فيه الأرش.

الدليل:

ان أدلة الخيارات واحدة،أو متشابهة،لأن المناط فيها،أو في أكثرها واحد،و من هنا استدلوا على هذا الخيار بالأدلة على غيره،و هي:

1-ان الإلزام بالمبيع المعيب ضرر

،و لا ضرر و لا ضرار في الإسلام.

2-ان العقد يقتضي السلامة

،لأنه عقد معاوضة،و المعاوضة مبناها على المساواة عادة،و على هذا تكون سلامة المبيع شرطا ضمنيا في العقد،بحيث لو اشترط الصحة في متن العقد لما أفاد هذا الشرط سوى التأكيد و التوضيح،كما تقدم،و بديهة أن الشرط الضمني يجب الوفاء به،تماما كما يجب الوفاء بالشرط

ص:217

الصريح.

جاء في مفتاح الكرامة:«قال جماعة:ان اشتراط الصحة مجرد تأكيد،لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة،لأن الأصل في المبيع من الأعيان السلامة من العيوب،فإذا أقدم المشتري على بذل ماله في مقابل فإنما بنى إقدامه على غالب ظنه المستند إلى أصل السلامة،فإذا وجد عيب سابق على العقد وجب أن يتمكن من التدارك،و ذلك بثبوت الخيار».

3-النص

،و منه قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .

و قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس.

و من غشنا ليس منا.و لا يحل لمسلم أن يبيع سلعة من السلع،و هو يعلم أن فيها عيبا قل،أو كثر،حتى يبين ذلك لمبتاعه،و يقفه عليه وقفا يكون علمه به كعلمه، فان لم يفعل ذلك،و كتمه العيب،و غشه لم يزل في مقت اللّه،و لعنة ملائكته.

و سبقت الإشارة إلى أن مثل هذه النصوص لا تدل على ثبوت الخيار،و ان أقصى ما تدل عليه أن الغش محرم،تماما كالكذب و الغيبة و الرياء،أجل،لقد جاء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه أجاز للمشتري أن يرد عبدا من عيب وجده فيه،و أيضا أجاز لمن اشترى شاة مصراة أن يردها مع صاع من تمر.و معنى تصرية الشاة أن يترك الحليب في ضرعها أمدا،حتى يكثر،فيرغب الجاهل بحالها في الشراء بزيادة.

و روي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:ان خرج في السلعة عيب،و علم المشتري، فالخيار إليه،ان شاء رد،و ان شاء أخذ،و رد بالقيمة أرش المعيب.

قال صاحب الحدائق:هذه الرواية هي المستند في ذلك لكلام المتقدمين، و تبعهم جملة من المتأخرين.

ص:218

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يشتري الثوب،أو المتاع،فيجد فيه عيبا؟قال:ان كان الثوب قائما بعينه رده على صاحبه،و أخذ الثمن،و ان كان الثوب قد قطع،أو خيط،أو صبغ رجع بنقصان العيب.

4-الإجماع

.و ما رأيت فقيها تردد في ثبوت هذا الإجماع،حتى الشيخ الأنصاري المعروف بالتشديد،و كثرة التحفظ قال:«ظهور العيب في المبيع يوجب تسلط المشتري على الرد،و أخذ الأرش بلا خلاف».و قال صاحب الجواهر:«الخيار بين فسخ العقد،و أخذ الأرش عليه الإجماع المحصل و المحكي المستفيض صريحا و ظاهرا،و هو الحجة».

و إذا عطفنا الإجماع على النص السابق،حصل لنا الاطمئنان الكافي الوافي بثبوت خيار العيب بين الرد،و الإمساك بالأرش.

حكم الأرش:

معنى الأرش في اللغة الدية،و هذا المعنى هو الأصل لقول الفقهاء:الأرش هو المال المأخوذ عوضا عن نقص مضمون ماديا،فمن اشترى شيئا،فوجده غير تام،و أخذ عوض النقص الفائت فهذا العوض يسمى أرشا.

و قد اتفق الفقهاء-كما قلنا-أن من اشترى شيئا،و وجد فيه عيبا فهو مخير بين رده إلى البائع و استرجاع الثمن،و بين إمساكه و المطالبة بالأرش،و اختلفوا فيما بينهم:هل الأرش على وفق الأصل بحيث يصح القول به،حتى و لو لم يكن إجماع،أو هو على خلاف الأصل،و انما خرجنا عن الأصل لمكان الإجماع الحاكم على الأصول و القواعد؟ و قد حاول بعض الفقهاء ان يجعل الأرش على وفق الأصل بهذا التقريب

ص:219

ان الوصف الفائت بمنزلة الجزء من المبيع،و الجزء الفائت له عوض يقابله، فكذلك الوصف إذا فات.

و يلاحظ أولا:أن الجزء شيء،و الوصف شيء آخر،و بتعبير الشيخ الأنصاري«ان تنزيل الوصف منزلة الجزء لا دليل عليه عرفا و لا شرعا».

ثانيا:ان هذا لو تم لثبت الأرش في كل وصف تخلف عن المبيع،حتى في خيار الرؤية،و لا قائل بذلك.

و الحق أن الأرش على خلاف الأصل إذا أمكن رد العين،و لو لا الإجماع لما صح القول به،و ذلك أن البائع لم يرض بانتقال العين عن ملكه إلاّ بالثمن المسمى،فإلزامه قهرا عنه بما دون الثمن الذي رضي به ضرر و تحكم،كما أن إلزام المشتري قهرا عنه بالمعيب ضرر و تحكم.و ليس من شك أن ضرر المشتري يرتفع برد المبيع،و إرجاع كل شيء إلى أصله،كما هو الشأن في سائر الخيارات التي أثبتوها بقاعدة لا ضرر،و حكموا فيها بجواز الرد،لا بأخذ الأرش.

هذا،إلى أن جعل خيار الأرش للمشتري ليس بأولى من جعله للبائع، بحيث إذا أراد المشتري الرد بالعيب ألزمه البائع بالإمساك مع التعويض عليه، و كما يرتفع الضرر عن المشتري إذا خيرناه بين الرد و بين الإمساك بالأرش يرتفع أيضا إذا خيرنا البائع بين أن يرد الثمن و يسترجع المثمن،و بين أن يدفع عوض العيب و النقص.

و الناس،كل الناس،يرون البائع منصفا أو محقا إذا قال للمشتري:لا أرد عليك قرشا واحدا من الثمن،بل ادع لك الخيار بين أن تقبل المبيع على عيوبه و علاته دون تعويض،و بين أن ترده،و تأخذ ما دفعته كاملا غير منقوص.

أجل،إذا تعذر رد المبيع إلى البائع جازت المطالبة بالأرش،إذ لا وسيلة

ص:220

لرفع الضرر إلاّ به،و مثال ذلك أن يشتري الطعام فيأكله،أو الثوب فيخيطه،ثم يعلم بالعيب،فهنا يمتنع الرد فيتلافى الضرر بالأرش،و من هنا قال الشيخ الطوسي و السيد اليزدي بالخيار بين الرد و الإمساك مجانا مع إمكان الرد،كسائر الخيارات،و إذا تعذر الرد جازت المطالبة بالأرش.

و لهذا القول وجه وجيه لو لا الإجماع على أخذ الأرش مع التمكن من الرد، و به خرجنا عن الأصل.

حساب الأرش:

إذا اختار المشتري إمساك المعيب بالأرش،فيحسب الأرش هكذا:يقوم المبيع صحيحا،ثم يقوم معيبا،و ينظر إلى النسبة بين القيمتين،و يدفع البائع للمشتري عوضا عن الوصف الفائت مبلغا يعادل النسبة بين قيمة الصحيح، و قيمة المعيب،مع صرف النظر عن القيمة السوقية للوصف الفائت،فإذا كانت قيمة المبيع صحيحا مائة،و قيمته معيبا ثمانين تكون نسبة التفاوت الخمس، فيرجع المشتري بخمس الثمن المسمى،فإن كان هذا الثمن مساويا للقيمة السوقية رجع عليه بعشرين،و ان كان أقل كما لو اشترى المبيع بخمسين رجع عليه بعشرة،و ان كان أكثر كما لو اشترى بمئة و خمسين رجع بثلاثين،فليس المعيار لتقدير الأرش القيمة الحقيقية للوصف الفائت بالغة ما بلغت،و انما المعيار هو النسبة إلى الثمن المسمى،لأن كلا من المتعاقدين أقدم على التعاقد بالثمن المسمى،و التزم به،لا بالقيمة السوقية،و معنى هذا أن البائع قد تعهد للمشتري تعهدا ضمنيا بأنه إذا تخلف وصف الصحة عوّض قيمة الفائت التي تتفق مع الثمن المسمى،لا مع القيمة السوقية،لأن هذه قد تحيط بالثمن

ص:221

المسمى،أو تزيد عليه،كما إذا اشترى بعشرة،و كان قيمة الفائت تساوي عشرين،فلو أجزنا للمشتري أن يرجع بالعشرين للزم أن يجمع بين العوض و المعوض مع زيادة عشرة.

اختلاف الخبراء:

إذا اختلف الخبراء في تقويم المبيع،فقومه أحدهم بعشرة صحيحا، و ثمانية معيبا،و قومه الآخر صحيحا باثني عشر دينارا،و معيبا بعشرة أخذنا النصف من كل من القيمتين للصحيح،و النصف من القيمتين للمعيب،فتكون القيمة الصحيحة أحد عشر،و المعيبة عشرة،و ان كان المقومون ثلاثة أخذنا الثلث،أو أربعة الربع،و هكذا.قال الشيخ الأنصاري«هذا هو الأقوى،و عليه معظم الفقهاء»لأن العمل بقول خبير دون خبير ترجيح بلا مرجح،و العمل بالكل متعذر،و طرح الجميع لا يحل المشكلة،فتعين العمل بالبعض من كل قول.

تبعيض الصفقة:

اتفق الفقهاء كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة على أن من اشترى شيئين صفقة واحدة،و بثمن واحد،ثم وجد أحدهما صحيحا،و الآخر معيبا تخير المشتري بين أن يردهما معا،أو يمسكهما معا، و يطالب بالأرش بدلا عن الوصف الفائت في العين،و ليس له أن يمسك الصحيح،و يرد المعيب.

و لو تبين أن أحد الشيئين مملوك لغير البائع تخير المشتري أيضا بين فسخ البيع،و استرجاع الثمن،و بين أن يمسك الشيء الذي يملكه البائع بقسطه من

ص:222

الثمن،و يسمى هذا بخيار تبعيض الصفقة،و بتفريق الصفقة،و كذا لو كان المبيع شيئا واحدا،و ظهر بعضه لغير البائع،فإن المشتري بالخيار بين الفسخ من الأساس،و بين إمساك حصة البائع.

الخيار للمشتري و البائع:

يثبت هذا الخيار للبائع إذا ظهر العيب في الثمن،تماما كما يثبت للمشتري،فمن باع بقرته بفرس غيره،و بعد أن قبضها وجد فيها عيبا تخير بين رد الفرس،و بين إمساكه بالأرش،قال الشيخ الأنصاري:«لا فرق في الخيار بين الثمن و المثمن،و الظاهر أنّه مما لا خلاف فيه،و ان كان مورد الروايات-أي التي جاءت عن أهل البيت عليهم السّلام-ظهوره في المبيع،لأن الغالب كون الثمن نقدا غالبا، و المثمن متاعا،فيكثر فيه العيب بخلاف النقد».

بقية العقود:

هل تختص المطالبة بالأرش بالبائع و المشتري فقط مع وجود العيب، بحيث لا يثبت الأرش إطلاقا في غير البيع من العقود،أو أنّه يثبت،و تجوز المطالبة به لكل من تملك عينا بعوض،و ثبت أنّها كانت معيبة قبل القبض،سواء أ كانت مهرا في عقد الزواج،أو عوضا في عقد الصلح،أو عقد الإجارة؟ و ليس من شك أن الأصل يقتضي عدم جواز المطالبة بالأرش،و عدم إلزام المملك به في جميع العقود من غير استثناء،و لو خرجنا عن هذا الأصل و قلنا بالأرش في عقد البيع لمكان الدليل،فينبغي عدم التعدي عنه اقتصارا على موضع اليقين،أجل،ان جواز الرد مع ظهور العيب ينبغي ثبوته في كل عقد دون استثناء،

ص:223

لقاعدة لا ضرر،و تخلف الشرط الضمني الذي هو بمثابة الشرط الصريح.هذا ما تستدعيه الأصول و القواعد،و لكن صاحب الجواهر قال:«ان المؤجر لو وجد عيبا في الأجرة فهو خير بين الرد،و الإمساك بالأرش بلا خلاف».و قال أيضا:«ان المرأة لو وجدت عيبا سابقا في المهر كان لها الرد بالعيب،و الرجوع إلى القيمة، و لها أيضا الإمساك بالأرش بلا خلاف».و على هذا يكون الأرش ثابتا في غير البيع.

مضيق أو موسع؟

نقل صاحب المسالك،و صاحب الحدائق،و صاحب مفتاح الكرامة إجماع الفقهاء على أن خيار العيب يثبت للمتملك على سبيل التراخي،لا على الفور، فمن علم بالعيب،و علم أيضا أن له الحق في الخيار،و مع ذلك لم يبادر إلى الفسخ،أو الإمساك بالأرش فورا فلا يسقط خياره،بل يبقى مهما طال الأمد.

و تسأل:لما ذا قال الفقهاء:خيار الغبن و التأخير و الرؤية على الفور لا على التراخي،و خيار العيب على التراخي،لا على الفور،مع العلم بأن المناط واحد في الجميع،و هو الذي بيناه هناك من أدلة لزوم العقد تستدعي الاقتصار على أقل ما يرتفع به الضرر،و يرتفع الضرر بالفور،فيجب الاقتصار عليه.

و الجواب:لست أرى وجها للفرق إلاّ النص الخاص بخيار العيب،و هو ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن رجلا اشترى عبدا،و بقي عنده ما شاء اللّه،ثم رده من عيب وجده فيه.

و قول الإمام الصادق عليه السّلام المتقدم في فقره«الدليل»من هذا الفصل:«ان كان الثوب قائما بعينه رده على صاحبه»حيث دل على ثبوت الخيار ما دامت العين

ص:224

قائمة،سواء أطال زمن قيامها،أو قصر،و سواء أعلم بالعيب،و حقه بالخيار،أو لم يعلم.

و من لا يرى العلم بهذا الحديث،و هذه الرواية يلزمه القول بالفور في خيار العيب،تماما كخيار الغبن و الرؤية و التأخير،و الغريب أن الشيخ الأنصاري قال في المكاسب:«ان القول بالفور لا يخلو من قوة»،و مع ذلك لم يشر من قريب أو بعيد إلى الحديث و الرواية.

و مهما يكن،فنحن مع القائلين بالتراخي في هذا الخيار،على شريطة أن لا يمتد التراخي إلى أمد يتضرر المملك من التأخير إذا اختار المتملك رد العين، أمّا إذا اختار إمساكها مع الأرش فله أن يتأخر ما شاء،حيث لا ضرر على المملك في ذلك.و دليلنا على التراخي هو عمل الفقهاء بالحديث و الرواية،و قد ذكرنا في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب أنّا نقيس ثبوت النص باعتماد الفقهاء عليه، و عملهم به،لا بصدق الرواة،و الرجال الثقات.

التنازع في وجوب العيب:

إذا تم البيع،و استلم المشتري العين،و تصرف بها تصرفا مغيرا،أو تلفت في يده،بحيث يتعذر ملاحظتها،و التعرف على أنّها صحيحة أو معيبة،ثم اختلف البائع و المشتري في وجود العيب في المبيع،فقال المشتري:كان فيه عيب قديم،و عليك الأرش و التعويض.و قال البائع:كلا،لقد كان سليما من كل عيب،فمن هو المدعي؟و من هو المنكر؟ و لا بد من النظر و التفضيل:فان علمنا بالبينة أو بالإقرار أو بالعيان أن المبيع كان معيبا عند البائع،و ادعى زواله قبل القبض فنستصحب بقاء العيب،و يكون

ص:225

المدعي هو البائع،يكلف بالبينة على ذهاب العيب قبل القبض،و يكون المنكر هو المشتري تلزمه اليمين.

و ان علمنا أن المبيع كان سليما من العيوب،فنستصحب بقاء السلامة، و على المشتري البينة على حدوث العيب قبل القبض،فان عجز عنها حلف البائع،و ردت دعوى المشتري.

و كذا يكون البائع منكرا،و المشتري مدعيا ان كانت الحال السابقة مجهولة،لأن الأصل سلامة المبيع،حتى يثبت العكس،و هذا الأصل يثبت الموضوع في الخارج من حيث ترتبت الآثار الشرعية،تماما كما يثبت بالإقرار و البينة و العيان،و لو صرفنا النظر عن هذا الأصل الموضوعي لكان الأصل الحكمي كافيا وافيا لاعتبار المشتري مدعيا،و أعني بالأصل الحكمي-هنا-هو الذي ينفي الخيار،و يثبت براءة ذمة البائع من الأرش،إذ الأصل عدم الخيار،و براءة الذمة.

التنازع في تقدم العيب:

إذا كان العيب موجودا بالفعل،و ظاهرا للعيان،و قال المشتري:حدث هذا العيب عند البائع.و قال البائع:بل حدث عند المشتري،فمن المدعي؟و من المنكر؟ و لا بد أن ينظر:فان شهدت الحال شهادة تفيد القطع و الجزم بان العيب قديم،و لا يمكن أن يحدث عند المشتري،كمن اشترى دارا،ثم تبين أنّها قائمة على غير أساسها المعتاد،ان كان كذلك ترد دعوى البائع،و يحكم للمشتري بحق الخيار من غير يمين.

و ان شهدت الحال شهادة قطعية بأن العيب حادث و ابن يومه،و لا يمكن

ص:226

بحال أن يكون حادثا قبل القبض،كالجرح في الدابة الذي لا يزال طريا،ان كان كذلك يرد قول المشتري من غير أن يحلف البائع،لأن اليمين انما نحتاج إليها مع عدم العلم بالواقع،و الواقع هنا معلوم فلا داعي لليمين.

و ان كان من العيوب التي يمكن حدوثها عند البائع،و عند المشتري،أي قبل القبض،و بعده فالقول قول البائع مع يمينه إذا لم يكن للمشتري بينة،لأن الأصل سلامة العين من العيوب،حتى يثبت العكس،و لم يثبت العيب قبل القبض،فيكون الأصل مع البائع،و ضد المشتري.

و بالإيجاز ان كل من قبض عينا فعليه ضمانها،و ضمان عيوبها إلاّ أن يثبت بالإقرار،أو بالبينة،أو بالعيان أن العيب حدث قبل القبض.

التنازع في البراءة من العيب:

إذا اتفقا على أن العيب كان موجودا قبل القبض،و لكن ادعى البائع البراءة من العيب،و أنكر المشتري ذلك فالقول قول المشتري بيمينه إذا لم يكن للبائع بينة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف يعرف».

و تقول:لما ذا لا تجري هنا أصل عدم الخيار،و براءة ذمة البائع،كما أجريته في حال الجهل و الشك بوجود العيب،و نتيجة العمل بهذا الأصل و إجرائه يكون القول قول البائع،لا قول المشتري.

و الجواب:المفروض أنّا نعلم بأن العيب كان قبل القبض،و يقتضي هذا العلم أن يكون الخيار للمشتري،حتى يثبت العكس،أي حتى يقيم البائع البينة على ثبوت دعواه،و بديهة أن العلم بوجود العيب قبل القبض ينفي موضوع أصل براءة الذمة،و أصل عدم الخيار،لأن الأصول،كل الأصول،إنما تجري في

ص:227

المجهول،لا في المعلوم.

موجبات السقوط:

يسقط هذا الخيار بأمور:

1-لا خيار إطلاقا لمن علم بالعيب قبل التعاقد

،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف،لأنه اقدام معه رضا».

2-أيضا لا خيار في الرد،و لا في الأرش إذا حدث العيب بعد العقد

،ثم زال كلية قبل القبض،أو حدث بعد القبض،لأنه حدث في ملك المتملك إلاّ إذا كان المبيع حيوانا،و حدث العيب في الأيام الثلاثة.

و إذا حدث عيب بعد القبض،ثم تبين أن في العين عيبا سابقا على القبض ثبت الأرش دون الرد،لأن العيب الحادث عند المتملك يمنع من رد العين الى المملك،فينحصر تلافي الضرر بالأرش.

3-يسقط خيار العيب بكلا شقيه الرد و الأرش بإسقاطه بعد العقد

، و باشتراط سقوطه في متن العقد،و منه البراءة من جميع العيوب،و يجوز أن يشترط سقوط الرد فقط،دون الأرش.

4-إذا تصرف تصرفا دالا على الرضا،و الالتزام بالعقد يسقط الرد فقط،

دون الأرش

،سواء أ كان التصرف قبل العلم بالعيب،أو بعده،و تدل عليه الرواية المتقدمة في فقرة«الدليل»حيث جاء فيها:«ان كان الثوب قائما بعينه رده على صاحبه،و أخذ الثمن،و ان كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب».فإن الإمام قد ترك التفصيل بين حال العلم بالعيب،و بين حال الجهل، و ما من شك أن ترك التفصيل دليل على العموم و الشمول.

ص:228

و قال الإمام الباقر أبو جعفر الصادق عليهما السّلام:«أيما رجل اشترى شيئا،و به عيب و عوار،و لم يتبرأ إليه،و لم ينبه،و أحدث فيه حدثا بعد ما قبضه،و علم بذلك العوار،و بذلك العيب فإنه يمضي عليه العيب،و يرد عليه بقدر ما ينقص».

أي يأخذ الأرش،و لا يرد المبيع.و قول الإمام عليه السّلام«أحدث حدثا،و علم بالعوار و العيب»ظاهر في أن التصرف كان قبل العلم بالعيب،و مع ذلك سقط خيار الرد، و بالأولى أن يسقط الرد إذا كان التصرف بعد العلم بالعيب.

و من التصرفات المانعة من الرد،دون الأرش وقف العين،و تأجيرها، و هبتها،و بيعها،حتى و لو كان مع الخيار،لأن ذلك كله من التصرفات الدالة على الرضا بالبيع،و لكن الرضا به لا يدل على إسقاط الأرش،لأن الرضا بالبيع أعم من الرضا به مع الأرش،و الرضا به من غير أرش،و بديهة أن العام لا يثبت به الخاص.

و لو رجعت العين إلى من كان قد تملكها،ثم أخرجها عن ملكه لا يجوز له أن يردها بالعيب استصحابا للحال السابقة،قال الشيخ الأنصاري:«لو عاد الملك إلى المشتري لم يجز رده للأصل»يريد بالأصل الاستصحاب،و تقريره أن المشتري سقط خياره بالرد قطعا بعد أن خرجت العين عن ملكه،و لما عادت إليه نشك:هل له خيار الرد أو لا؟فنبقي ما كان على ما كان.

5-التلف

،و لو بآفة سماوية يمنع من الرد،لفوات موضوعه،و لكن حق المطالبة بالأرش باق كما كان،لعدم المانع منه.

تنبيه:

ذكر محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول في كتاب اللمعة الدمشقية،

ص:229

أربعة عشر قسما للخيار،و هي خيار المجلس،و الحيوان،و الشرط،و التأخير، و ما يفسد ليومه،و الرؤية،و الغبن،و العيب،و التدليس،و الاشتراط،و الشركة، و تعذر التسليم،و تبعيض الصفقة،و التفليس.

و من هذه الخيارات ما يتداخل بعضها في بعض،و منها ما يدخل في باب آخر من أبواب الفقه،فما يفسد ليومه ذكرناه في خيار التأخير،لأنه قسم منه، و خيار الاشتراط،أن تخلف الشرط ذكرناه في فصل الشروط،أمّا خيار التدليس فيدخل في خيار العيب،و خيار تبعيض الصفقة خصصنا له فقرة في خيار العيب، و منه خيار الشركة،و هو إذا اشترى شيئا،و ظهر بعضه مستحقا للغير،أمّا التسليم فان استحال كما لو هلك المبيع قبل قبضه بطل البيع من رأس،و يأتي البيان عنه في فصل القبض،و ان لم يهلك المبيع قبل القبض،و لكن تعذر التسليم كالجمل الشارد الذي يظن عودته،و إمكان قبضه في المستقبل يدخل في خيار تخلف الشرط الضمني،لأن إطلاق العقد يقتضي تسليم كل من المثمن و الثمن،أو يدخل في خيار العيب،و أمّا خيار التفليس،و هو إذا وجد غريم المفلس متاعه قائما بعينه عند التحجير يتخير صاحبه بين أخذه،مقدما على الغرماء،و بين الضرب معهم بثمنه،أمّا هذا فيأتي الكلام عنه في باب التحجير على المفلس.

ص:230

أحكام الخيار
لا يسقط الخيار بالموت:

أجمع الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب المكاسب على أن الخيار بشتى اقسامه و أنواعه ينتقل بعد موت صاحبه الى ورثته،لأنه حق،و الحق يقبل النقل من ملك إلى ملك.

و خيار الشرط ينتهي بانتهاء أمده،سواء أعلم به الوارث،أو لم يعلم،أمّا الجهل بالغبن،أو بأنه موجب للخيار فلا يسقط حق الوارث بالفسخ،أجل،يثبت له على الفور،فإذا علم،و مضى أمد يتمكن فيه من الفسخ،و لم يبادر سقط الخيار،تماما كما هي الحال بالقياس إلى المورث نفسه،أمّا إذا مات أحد المتعاقدين في المجلس بعد انعقاد العقد،و كان لم يسقط خياره عند التعاقد،أمّا هذا الخيار فمن قائل بأنه يبقى إلى أن ينقل الجثمان،أو ينتقل الطرف الثاني من المجلس،و من قائل بأنه يستمر إلى وصول الخبر إلى الوارث،و قال ثالث:بل يبقى إلى الأبد،و هذا القائل هو صاحب الجواهر،و هذه عبارته بالحرف:

«الأقرب ثبوته للوارث مطلقا».أمّا نحن فلا نعقل توريث هذا الخيار بحال.

ثم إذا كان للوارث الخيار،أي خيار،أكثر من واحد،و اختار أحدهما الفسخ،و الأخر الإمساك قدم الفاسخ،لأن من اختار الإمساك قد أسقط حقه في

ص:231

الخيار في حقيقة الأمر و الواقع،فينحصر الحق في الآخر،هذا،إلى أن رد بعض المبيع دون بعضه ضرر على البائع.

و إذا جعل أحد المتعاقدين الخيار لأجنبي،و مات هذا الأجنبي فلا ينقل الخيار إلى ورثته،و لا يعود إلى من اختاره لذلك،لأن الخيار منذ البداية تعلق بالأجنبي خاصة،فلا يتعداه إلى غيره.

أمّا من فصّل بين أن يكون الأجنبي محلا للخيار على سبيل الظرفية،فينتقل الخيار إلى الورثة،و بين أن يكون الخيار وصفا له على سبيل القيد،فلا ينتقل إلى الورثة،أمّا هذا التفصيل فهو بعيد عن أفهام العرف التي يناط بها معرفة موضوعات الأحكام و تشخيصها.

ثم ان إرث الخيار لا يرتبط بإرث المال الذي تعلق به الخيار،بل قد يكون الخيار للوارث،و المال لغيره،و مثال ذلك أن يكون على زيد ديون تستغرق جميع ما يملك،بحيث إذا توفي تسلط الدائنون على تركته بكاملها،و لا يبقى منها للورثة شيء،و كان قد اشترى قبل وفاته عقارا،و جعل الخيار لنفسه أمدا معينا، و صادف موته في زمن الخيار،فينتقل حق الخيار إلى ورثته،مع العلم بأنهم إذا امضوا البيع تسلط الدائنون على العين،و منعوا الورثة من التصرف بها.

المبيع يملك بالعقد:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و الشيخ الأنصاري إلى أن المبيع يملكه المشتري في زمن الخيار بمجرد انعقاد العقد،و ان وجود الخيار،أي خيار،لا يمنع من التملك و انتقال المعقود عليه إلى المشتري،لأن العقد متى تم بالإيجاب و القبول أثر أثره،و ترتبت عليه جميع أحكامه،و منها انتقال المثمن إلى

ص:232

المشتري،و الثمن إلى البائع،و إلاّ كان وجوده كعدمه،قال صاحب الجواهر:

«المقتضي للملك موجود،و المانع مفقود»يريد بالمقتضي ان اسم البيع ينطبق على العقد بالخيار،و يريد بعدم المانع أن الخيار لا يمنع من تأثير العقد،و ترتب أحكامه عليه.و قال الشيخ الأنصاري:«الأقوى ما هو المشهور،لعموم أحل اللّه البيع،و تجارة عن تراض».و ما من شك أن المعاملة مع الخيار هي بيع و تجارة عن تراض،و عليه ينتقل المبيع إلى من اشترى بالخيار،و يتصرف فيه تصرف المالك في أملاكه.

و أيضا يدل على ذلك ما نقلناه عن الإمام عليه السّلام في فصل خيار الشرط فقرة «الدليل»من أن من باع و اشترط لنفسه إن رد الثمن فنماء المبيع للمشتري، و ضمانه عليه.و يثبت النماء للمشتري،حتى و لو كان الخيار له،لا للبائع،فإذا فسخ رد العين،و استرد الثمن،و لا يرجع البائع عليه بالنماء.

و تسأل:لقد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أن المبيع إذا تلف في الزمن الذي يكون فيه الخيار للمشتري فهو من مال البائع،قال عبد الرحمن بن عبد اللّه سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اشترى أمة بشرط يوم أو يومين،فماتت عنده على من يكون الضمان؟.فقال:ليس على الذي اشترى ضمان،حتى يمضي شرط.

و ايضا قال الإمام عليه السّلام:ان حدث في الحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع،و ما إلى ذلك مما يتفق و القاعدة المعروفة،و هي:«التلف بعد القبض في زمن الخيار ممن لا خيار له».و إذا كان التلف من مال البائع،فيجب أن تكون المنفعة له،لا للمشتري،لأن الخراج بالضمان،أجل،إذا كان الخيار للبائع تكون المنفعة للمشتري على وفق القاعدة.

و نجيب بأنه لا منافاة،من حيث المبدأ،بين أن تكون المنفعة تابعة لملك

ص:233

العين،و بين أن يكون ضمان تلفها على غير مالكها،فان المغصوب نماؤه لمالكه،و ضمانه على غاصبه.و من اشترى عينا،و اشترط الخيار لنفسه يملكها بانعقاد العقد،و يملك منفعتها تبعا لملكه لها،و مع ذلك يكون ضمان تلفها على بائعها لوجود الدليل الذي سنعرضه في الفقرة التالية،أمّا حديث«الخراج بالضمان»فلا يطرد في كل مورد،بل يختص العمل به فيما إذا كان التلف بعد القبض مع عدم الخيار للمشتري،أما إذا اشترى و قبض و الخيار له لا للبائع فإن الخراج يكون له،و الضمان على البائع للدليل الآتي.و بكلمة ان فقهاء الإماميّة لا يعملون بحديث الخراج بالضمان إلاّ في موارد خاصة.

المنع من التصرف:

إذا كان الخيار لأحد المتعاقدين دون الآخر،فهل يجوز لمن ليس له الخيار أن يتصرف في العين تصرفا يمنع من ردها على صاحب الخيار-مثلا-اشترى زيد كتابا من عمرو،و اشترط صاحب الكتاب أن يسترجعه إذا أرجع الثمن في ثلاثة أيّام،فهل لزيد الذي اشترى الكتاب أن يتلفه،أو ينقله إلى من يشاء قبل مضي الأيام الثلاثة.

و للفقهاء في ذلك أقوال،أصحها ما نعته الشيخ الأنصاري بقوله:«لا يخلو من قوة»و هو أن الخيار إذا ثبت بالشرط الصريح المتفق عليه بين المتعاقدين كالمثال المذكور فلا يجوز لمن لا خيار له أن يتصرف تصرفا يمنع من استرداد العين،لأن الغاية من هذا الشرط في نظر العرف هي سلامة العين،و بقاؤها على ما هي،ليتمكن صاحب الخيار من استرجاعها.

و إذا لم يثبت الخيار بشرط صريح من المتعاقدين،كخيار المجلس

ص:234

و الحيوان،و الغبن و الرؤية،و ما إلى ذلك مما ثبت بجعل من الشارع فيجوز لغير ذي الخيار أن يتصرف ما شاء،حتى و لو كان التصرف مانعا من رد العين،فان فسخ صاحب الخيار الذي له الحق في استرجاع العين،و وجدها هالكة،أو منتقلة عن ملك الطرف الآخر طالبه بالبدل من المثل أو القيمة.

و الدليل على جواز هذا التصرف ما أشرنا إليه من أن التمليك و التملك يتحقق بانعقاد العقد،فيشمله حديث:«الناس مسلطون على أموالهم».

ضمان البيع:

يرتكز في كل فهم ان المال إذا كان في يد صاحبه،يتصرف فيه دون مانع، ثم هلك يكون هلاكه و خسارته عليه وحده،سواء تملكه بالشراء،أو بغيره، و سواء اشتراه بالخيار،أو من غير خيار،و إذا غصب المال ظالم و استولى عليه كانت الخسارة على الظالم جزاء وفاقا لظلمة و تعديه،أمّا المالك فلا خسارة عليه بعد أن حال الغاصب بينه و بين ما يملك،و كذا الأمين،فإنه يضمن ما في يده من مال الغير إذا قصر و فرط جزاء لتقصيره.فهلاك المال-اذن-لا يكون على صاحبه إلاّ إذا كان في يده،لا في يد غاصبة و لا مفرطة.

و قد استثنى الفقهاء من ذلك موردين:الأول فيما إذا هلك المبيع بآفة سماوية قبل أن يقبضه المشتري و يتسلمه،المورد الثاني فيما إذا هلك المبيع في يد المشتري في زمن خياره لا خيار البائع،هذا،مع العلم بأن المشتري هو المالك في الحالين،أمّا السبب الموجب لاستثناء المورد الأول فحديث:«كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه»و يأتي الكلام عنه في الفصل التالي،و أمّا السبب لاستثناء المورد الثاني فهو قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان حدث في الحيوان حدث

ص:235

قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع،و قوله:ان كان بين المتبايعين شرط أياما معدودة فهلك المبيع في يد المشتري فهو من مال البائع،إلى غير ذلك مما ثبت عن الإمام،و دل بصراحة على أن هلاك المبيع في يد المشتري أثناء خياره يكون من مال البائع،على شريطة أن يكون المبيع حيوانا،أو غيره بشرط الخيار للمشتري.

و على الرغم من أن مورد هذا الروايات لا يتعدى خيار الحيوان و الشرط فقد استخرج منها كثير من الفقهاء قاعدة أجروها في جميع الخيارات،و هذه القاعدة هي:«أن التلف بعد القبض في زمن الخيار يكون من مال من لا خيار له» (1).

فان كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري،و ان كان للمشتري فالتلف من البائع، و بديهة أن المشتري هو المالك في الحالين،لأنه يملك المبيع بمجرد انعقاد العقد،كما تقدم،و على هذا يكون الحكم على وفق الأصل ان كان الخيار للبائع، و على خلاف الأصل ان كان للمشتري.

و من أجل هذا قال صاحب الجواهر:ان هذا الحكم،و هو التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له،مختص بخيار الحيوان و الشرط فقط،دون غيرهما اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين الذي دل عليه النص،أمّا الشيخ الأنصاري فقد عطف على هذين الخيارين خيار المجلس،على شريطة أن يسقط البائع خياره،و يبقى خيار المشتري،لأن هذا الحكم لا يثبت فيما إذا كان الخيار لكل من المتبايعين بالإجماع،مضافا إلى أن لفظ«من مال من لا خيار له»لا ينطبق

ص:236


1- قال السيد اليزدي:«قد اشتهرت هذه القاعدة في ألسنة متأخري المتأخرين»يريد الفقهاء الذين لا يبعد زمانهم كثيرا عن زمانه:و توفي هذا السيد سنة 1337 ه و قال صاحب الجواهر:«لم أجدها في كتب المتقدمين،و لا في كلام الأساطين من المتأخرين».

على التعاقد الذي يكون الخيار فيه للمتعاقدين،و لا على ما لا خيار فيه لأحدهما، و يختص بالتعاقد الذي يكون فيه الخيار لأحدهما دون الآخر.

هل يسقط الخيار بهلاك العين؟

اتفقوا على أن صاحب الخيار يسقط خياره،و يصير العقد لازما إذا أتلف العين بنفسه في مدة خياره،و ان أتلفها المتعاقد الثاني الذي لا خيار له،و أمضى صاحب الخيار البيع رجع على من أتلف بالمثل أو القيمة،و كذلك إذا أتلفها أجنبي.و سبقت الإشارة إلى ذلك في الكلام على الخيارات،و أيضا اتفقوا على أن من باع أو اشترى بالخيار،أي خيار،ثم تلفت العين بآفة سماوية قبل قبضها يسقط الخيار،و يعود كل من الثمن و المثمن إلى مالكه الأول،كأن لم يكن شيء، و قال جماعة من كبار الفقهاء،منهم العلامة الحلي،و صاحب الجواهر،و صاحب المكاسب،قالوا في توجيه ذلك:ان العقد ينفسخ تلقائيا قبل تلف المعقود عليه آنا ما،و يكون التلف كاشفا عن هذا الانفساخ.و لا مصدر لهذا التوجيه و التعليل إلاّ الاستحسان.و نحن،و ان كنا نقول:لا تعبد في المعاملات غير أنّا نتخذ من المصلحة معيارا لآراء الفقهاء في كل معاملة و تعاقد،و نرفض الفروض و الاحتمالات،و ان انسجمت بظاهرها مع المنطق ما دامت لا تمت إلى المصلحة و العمل الملموس بسبب (1).

و على آية حال،فان الغرض أن نعرف:هل تلف العين بآفة سماوية بعد

ص:237


1- و ان كان لا بد من التوجيه فالأولى أن يقال:ان البائع حين اجرى عقد البيع فقد التزم بتسليم المبيع بجميع مقوماته و صفاته للمشتري،إذ لا تخلص الملكية له إلاّ بذلك،و يؤيد هذا التوجيه قول الفقهاء:ان إطلاق العقد يقتضي تسليم المثمن و الثمن،فلا بد-اذن-ان يكون تلف المبيع قبل القبض على البائع.و قد نتعرض لذلك في الفصل الآتي.

قبضها،و في زمن الخيار يسقط معه الخيار،و يعود كل من العوضين إلى مالكه، تماما كما هي حال التلف قبل القبض،أو أن التلف بالآفة لا يسقط الخيار،و يحق لصاحبه بعد هلاك العين أن يطالب بمثلها ان كانت مثلية،و بقيمتها ان كانت قيمية؟.

و ليس من شك أن بقاء الخيار لا يرتبط ببقاء العين،لأن معنى الخيار هو الحق في فسخ العقد،أو إمضائه،و لا يسقط هذا الحق بهلاك العين المالية،ما دام لها بدل من المثل أو القيمة.فإن اشترى زيد من عمرو متاعا-مثلا-و اشترط الخيار لنفسه،و قبض المتاع،ثم هلك في زمن الخيار،فان فسخ زيد رجع على عمرو بالثمن،و انتهى كل شيء،و ان امضى البيع رجع عليه ببدل المتاع التالف من المثل أو القيمة،و ان كان الخيار لعمرو،أي للبائع،فإن أمضى البيع فلا شيء له،و ان فسخ رد الثمن،و طالب بمثل المتاع أو قيمته،تماما كما لو أمضى المشتري.

و لكن بعض الخيارات لا يعقل فيها الفسخ مع هلاك العين،كخيار العيب، فان الغرض من تشريعه هو رد العين المعيبة إلى صاحبها،كما هي،حتى لا يتضرر الذي انتقلت إليه بإمساكها و بقائها عنده،و بديهة أنّه مع التلف لا يمكن الرد و الإمساك،فلا يبقى-اذن-موضوع للخيار بين الرد أو الإمساك،قال الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري:«النزاع في سقوط خيار العيب،أو بقائه لغو، لأن إعمال الخيار يتوقف على بقاء العين بحالها،فلو تغيرت عما وقع عليه العقد، و لم تكن العين قائمة بعينها سقط الخيار فضلا عما لو تلفت».و إذا سقط خيار العيب لعدم تعقله و إمكانه تعين الرجوع على صاحب العين المعيبة بالأرش، و أخذ العوض منه عما فات من صحة الصفات.

ص:238

و ألحق الشيخ الأنصاري خيار الشرط بخيار العيب،و قال بسقوط الخيار فيه مع التلف،لأن الغاية منه استرجاع المعقود عليه بعينه و شخصه،و المفروض هلاكه،قال هذا الشيخ الجليل:«يمكن القول بعدم بقاء الخيار المشروط بردّ الثمن في البيع الخياري إذا تلف المبيع عند المشتري،لأن الثابت من اشتراط المتعاقدين هو التمكن من استرداد المبيع بالفسخ عند رد الثمن».و ليس من شك أن استرداد المبيع بالذات متعذر،فينتفي موضوع الخيار،ثم اعترف الشيخ الأنصاري بأن إلحاق خيار الشرط بخيار العيب مخالف للمشهور،و أنّه لم يجد أحد التزم بذلك،أو تعرض له.

أمّا بقية الخيارات،كخيار المجلس و الحيوان و الرؤية و الغبن فليس الغرض منها رد المعقود عليه بالذات،و انما الغرض الأول هو ماليته،و كفى، و معلوم أن للمالية فردين:أحدهما شخصية العين،و الآخر بدلها من المثل أو القيمة،فإذا انتفى الفرد الأول بقي الثاني،و على هذا يكون الخيار بعد التلف باقيا كما كان قبله في غير خيار العيب عند المشهور،و غير خيار الشرط ايضا عند الشيخ الأنصاري.فإن فسخ المشتري الذي له الخيار رجع بالثمن و كفى،و ان أمضى رجع ببدل المبيع من المثل أو القيمة،و ان كان الخيار للبائع و امضى اكتفى بأخذ الثمن،و ان فسخ ارجع الثمن،و طالب ببدل التالف.

ص:239

ص:240

النقد و النسيئة

النسيئة:

من معاني النسيئة التأخير،و منه أنسا اللّه أجلك،أي أخره،و منه قوله تعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فإنه إشارة إلى ما كان يفعله العرب من تأخير بعض الأشهر الحرم إلى غيرها من الشهور،و الأشهر الحرم أربعة:ذو القعدة،و ذو الحجة،و المحرم،و رجب.و معنى أنسا البيع أخر ثمنه.

و سبق في فصل شرط العوضين أن الثمن و المثمن ركنان لعقد البيع،و ان أحدهما إذا كان مجهولا بطل العقد،و نتكلم في هذا الفصل عن الثمن باعتبار التعجيل و التأخير،و ان التأجيل مع عدم ضبطه يستدعي الجهل و الغرر.

الأقسام:

قسم كثير من الفقهاء البيع باعتبار تأجيل كل من المثمن و الثمن و تعجيله إلى أربعة أقسام:

الأول:أن يكون كل منهما معجلا.و يصح بالاتفاق.

الثاني:أن يكون كل منهما مؤجلا،كبيع الدين بالدين،و يسمى أيضا بيع الكالي بالكالي،و معناه لغة المراقبة،و المناسبة هنا أن كلا من الغريمين يرتقب

ص:241

صاحبه من أجل دينه،و هذا القسم باطل إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:

لا يبيع الدين نسيئا،و اما نقدا فليبعه بما شاء.

الثالث:أن يكون المثمن حالا،و الثمن مؤجلا،و هو بيع النسيئة الذي نحن بصدده،و لا ريب في صحته.

الرابع:أن يكون المثمن مؤجلا و الثمن حالا،و هو بيع السلف،و هو جائز بالاتفاق،و يأتي الكلام عنه.

إطلاق العقد:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اشترى جارية بثمن مسمى،ثم افترقا؟.

قال:وجب البيع،و الثمن إذا لم يكونا شرطا فهو نقد.

و قد جاء هذا على وفق العرف،و عليه يكون قول الإمام عليه السّلام إرشادا لما عليه الناس،لا تأسيسا لشيء جديد،و لم يختلف اثنان من الفقهاء في أن العقد إذا تجرد من قيد التأجيل جاز للبائع أن يطالب المشتري بالثمن إذا بذل له المثمن، و للمشتري أن يطالب بالمثمن إذا بذل له الثمن.

و إذا قال:بعتك بشرط أن تعجل الثمن،و لم يعين أمدا خاصا كان قيد التعجيل تأكيدا و توضيحا لإطلاق العقد عند المشهور،فإذا عجل المشتري الثمن فذاك،و إلاّ انتظر البائع ثلاثة أيام فيما لا يسرع إليه الفساد،و بعدها يتخير بين الفسخ،و الإمضاء،كما سبق في خيار التأخير.

التأجيل:

قال صاحب مفتاح الكرامة ص 427 من مجلد المتاجر:«قد تدعو الحاجة

ص:242

إلى الانتفاع بالمبيع معجلا،و استغناء مالكه عنه،و حاجته إلى الثمن مؤجلا، فوجب أن يكون-الثمن مؤجلا-مشروعا تحصيلا لهذه المصلحة الخالية من المبطلات،و لا نعلم فيه خلافا،و عليه دلت الروايات».

و يشترط في الأجل:

1-أن ينص عليه صراحة،لأنه على خلاف ما يقتضيه إطلاق العقد.

2-ان يذكر التأجيل في متن العقد،أو قبله،على شريطة أن يتفق عليه المتعاقدان،ثم ينشئا العقد على أساسه،و لا أثر لذكر الأجل بعد انعقاد العقد و تمامه،لأن وقوع العقد مجردا عن قيد التأجيل يستدعي تعجيل الثمن،فذكر الأجل بعده يكون وعدا بتأجيل المعجل،و لا يجب الوفاء بالوعد عند الفقهاء، قال صاحب الجواهر في آخر باب البيع،و هو يتكلم عن الدين،قال:«لو أجل الحال بعد العقد لم يتأجل.و لكن يستحب الوفاء به،لأنه وعد.و لا فرق عندنا- أي عند فقهاء الإمامية-في عدم لزوم تأجيل الحال بين أن يكون مهرا أو ثمن مبيع أو غيره».و نقلنا عنه مثل ذلك في فصل الشروط،فقرة«تقدم الشرط».

3-أن يضبط الأجل بما لا يقبل الزيادة و النقصان،كاسبوع أو شهر،أو سنة،و إذا كان مجهولا كأيام،أو حتى ينزل المطر بطل الشرط و العقد،لأن للأجل قسطا من الثمن في نظر العرف،فالجهل به جهل بالثمن يستدعي الغرر في البيع.

و يجوز التنجيم،و هو أن يقسط الثمن أجزاء معلومة على أوقات معينة، فيبيع بعشرة-مثلا-على أن يدفع 5 أول تموز من هذه السنة،و 13 أول آب، و الباقي أول أيار،و إذا تأخر المشتري عن دفع قسط في وقته فلا تحل بقية الاقساط (1)و إذا اشترط البائع ذلك على المشتري،كما هو المعروف اليوم،بطل

ص:243


1- ذهب المشهور إلى أن شرط التأجيل في الدين لا يجب الوفاء به،و عليه فلا موضوع للتنجيم من الأساس،و تكلمنا عن ذلك مفصلا في الجزء الرابع فصل الدين،فقرة«العقد»و اخترنا وجوب الوفاء بشرط التأجيل.

البيع من رأس،لأن الثمن،و الحال هذه،يصير مجهولا،و لا يعلم:هل هو قسط واحد،أو أقساط،و الجهل و الترديد يستدعي الغرر المبطل للبيع،تماما كالثمن المردد بين المؤجل بكذا أو المعجل بكذا،و يأتي البيان عنه في الفقرة التالية.

و لا تحديد لطول الأجل و قصره،فيجوز إلى الساعة،و إلى عشرين سنة، و لا يجوز إلى دقيقة،أو ألف سنة،لأنه أشبه بالسفه و اللغو في نظر العرف،و لأن الدين يصير حالا بموت المدين.

و تسأل:لقد روي عن الإمام عليه السّلام أن رجلا قال له:اني أبيع أهل الجبل بتأخير سنة؟.قال:بعهم.قال الرجل:إلى سنتين؟.قال:بعهم.قال:ثلاث سنين؟قال الإمام عليه السّلام:لا يكون لك شيء أكثر من ثلاث سنين.و هذا صريح بأن الأجل في الثمن لا يمتد أكثر من سنين ثلاث.

و أجاب الفقهاء عن هذه الرواية،و نظائرها بأن الغرض منها الإرشاد و النصيحة خشية أن يضيع المال بطول الأمد،و ليس المراد بها التحريم و فساد المعاملة.

و هذا الحمل غير بعيد،لأن الظاهر من قوله عليه السّلام:«لا يكون لك»أن المال يذهب و يضيع بالتأجيل الطويل.

و قال الشيخ الأنصاري و غيره من الفقهاء:إذا كان الوقت معينا في الواقع، و مجهولا لدى المتعاقدين يبطل العقد،و مثال ذلك أن يؤجله إلى عيد المولد النبوي الشريف من هذه السنة،مع جهل الاثنين بضبطه و معرفته على التعيين.

و الحق أنّه يصح ما دام ذلك معلوما لدى الناس،و يمكن معرفته بسهولة،

ص:244

فهو أشبه بمن يشتري على عيار البلد،و نقده،أو على ما اشترى فلان،لأن المعيار للبطلان،و عدم الجواز هو وجود الغرر،و لا غرر في شيء من ذلك في نظر العرف.

ثمنان لمبيع واحد:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن من باع بثمن حالا،و بأكثر مؤجلا بطل البيع،و مثاله أن يقول:بعتك هذا بعشرة نقدا،و بعشرين إلى أجل معين،و كذا لو فاوت بين أجلين،فقال:بعتك بعشرة إلى شهر،و بعشرين إلى شهرين،لأن الترديد بين صفقتين:أحدهما نقد،و الأخرى دين يستدعي الغرر و الإبهام،بل هو الإبهام بالذات،تماما كما لو قال:بعتك هذا الكتاب،أو ذاك.

البيع قبل أجل انتهاء الدين:

اتفقوا كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة على أن من ابتاع شيئا بثمن مؤجل،و قبضه من البائع جاز له أن يبيعه قبل حلول الأجل من بائعه الأول و غيره بجنس الثمن و بغيره مساويا،أو زائدا،أو ناقصا،حالا أو مؤجلا،على شريطة أن لا يكون البائع الأول قد اشترط في نفس العقد على المشتري أن يبيعه إياه،لأنه يستلزم المحال،و قد بيّنا وجه الاستحالة في فصل الشروط فقرة«غير محال»و ان قول من قال:أبيعك هذا بشرط أن تبيعني إياه تماما كقوله:أعطيك هذا بشرط أن تعطيني إياه.

و يدل على ذلك أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يبيع المتاع نسيئة، فيشتريه من صاحبه الذي باعه منه؟.قال:نعم لا بأس.

ص:245

و سئل ولده الإمام الكاظم عليهما السّلام عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم،ثم اشتراه بخمسة دراهم،أ يحل؟.قال:إذا لم يشترط،و رضيا فلا بأس.

و من طريف ما قرأت،و أنا أتتبع مصادر هذه المسألة ان صاحب الحدائق بعد أن نقل هذه الرواية،و ثانية في مضمونها،قال:ان هاتين الروايتين تدلان على فساد شرط البائع على المشتري أن يبيعه الشيء الذي باعه له،و لا حاجة إلى التعليل بأن هذا الشرط يلزم منه المحال،ثم قال صاحب الحدائق:و السبب في هذه التعليلات ان الفقهاء الذين ذكروها قاصرو النظر عن تتبع الروايات و اخبار أهل البيت عليهم السّلام.

فرد عليه صاحب مفتاح الكرامة بقوله:ان صاحب الكفاية ذكر الروايتين، فما ذكرته غير لائق.

بيع المثمن قبل قبضه:

سبق أن من اشترى بثمن مؤجل،و تسلم المبيع فله أن يبيعه ممن شاء، و كيف شاء،و نتكلم الآن عمن ابتاع شيئا،و لم يقبضه،فهل له أن يبيعه قبل قبضه،أو لا؟.

و ما من شك أن الأصل يقضي بأن للمشتري حق التصرف في المبيع،حتى و لو لم يتسلمه من البائع،لأنه ينتقل إلى ملكه بمجرد انعقاد العقد،سواء في ذلك المكيل و الموزون و غيرهما،و سواء أ كان البيع بربح،أو بخسارة،أو تولية،أي كما اشتراه.و لكن جماعة من الفقهاء منهم الشيخ الأنصاري قالوا:يجوز ذلك في غير المكيل و الموزون من الطعام،أمّا فيهما فلا يجوز إلاّ أن يبيعها تولية،تماما كما اشترى من غير ربح و لا خسران،و على هذا فما عليه تجار هذا العصر من بيع

ص:246

الحبوب و الدقيق و السكر و القهوة و الشاي قبل قبضها باطل و أكل للمال بالحرام إلاّ إذا باعوا كما اشتروا من غير زيادة و نقيصة.و استدل هؤلاء المانعون بقول الإمام عليه السّلام:إذا اشتريت متاعا،فيه كيل،أو وزن فلا تبعه،حتى تقبضه إلاّ تولية، فان لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه.

و ذهب المشهور من متأخري الفقهاء،و الشيخ المفيد و صاحب الشرائع من المتقدمين (1)إلى جواز البيع و صحته إطلاقا مكيلا كان أو موزونا،و أجابوا عن الرواية بأن المراد منها الكراهة،دون التحريم و بطلان البيع،جمعا بينها و بين ما دل على الجواز.فقد روى جميل بن دراج عن الإمام عليه السّلام في الرجل يشتري الطعام،ثم يبيعه قبل أن يقبضه؟.قال:لا بأس.و يدل على هذا الجمع رواية ثالثة لأبي بصير،قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اشترى طعاما،ثم باعه قبل أن يكيله؟.قال:لا يعجبني أن يبيع كيلا أو وزنا قبل أن يكيله أو يزنه إلاّ أن يوليه،فلا بأس.

فإن لفظ لا يعجبني ظاهر في الكراهة،و كل مكروه جائز.

ص:247


1- جرت عادت المؤلفين أن يقسموا الفقهاء إلى متقدمين و متأخرين بحسب العصر و الزمن، و يريدون بالمتقدمين من تقدم على عصر العلامة الحلي المتوفى سنة 726 ه،أمّا المتأخرون فيبدأون بالعلامة.

ص:248

القبض

معناه:

ذكر الشيخ الأنصاري ثمانية أقوال في معنى القبض،و بعضها تعمق في البديهات،و البعض منها تعقيد للواضحات.و لكن الفقهاء كلهم،أو جلهم على وفاق أن ليس للشارع اصطلاح خاص في معنى القبض،و إذا جاء في كلامه ما يشعر بالتحديد فهو إرشاد إلى المعنى العرفي الذي يرجع في حقيقته إلى تنفيذ العقد،و في الكثير من كتب فقه الإمامية،و القوانين الوضعية تعاريف صحيحة صريحة بهذا المعنى،فقد جاء في كتاب مفتاح الكرامة مجلد المتاجر ص 696:

«القبض في حقيقته التخلية،و التخلية هي رفع يد البائع عن المبيع،و الاذن للمشتري بالقبض،مع عدم المانع،بحيث يسهل عليه قبضه بسرعة عرفا».و في كتاب البيع للسنهوري المجلد الأول ص 588 طبعة 1960:«أن يوضع المبيع تحت تصرف المشتري،بحيث يتمكن من حيازته و الانتفاع به دون مانع».و هذا عين ما جاء في مفتاح الكرامة.

و قال الشيخ الأنصاري:«قبض كل شيء بحسبه»أي أن القبض يختلف بحسب طبيعة المقبوض،فإذا كان المبيع أرضا تركها البائع للمشتري يفعل بها ما يشاء،و إذا كان دارا أخلاها من أمتعته،و سلمه مفاتيحها،على شريطة أن لا يكون

ص:249

مانع يمنعه من التصرف بالعين المقبوضة حين القبض،و ان كان المبيع منقولا كالحيوان و الثوب و الطعام يتحقق القبض برفع يد البائع عن المبيع،و استيلاء المشتري عليه،أمّا العد في المعدود،و الكيل في المكيل،و الوزن في الموزون فإنها وسيلة لتعيين المبيع و معرفته،و ليست من معنى القبض و التسليم في شيء.

ثم ان كان المبيع في حيازة المشتري قبل البيع فان دفع الثمن للبائع فلا حاجة لإذنه بالقبض،سواء أ حازه بإذن البائع من قبل،أو من غير إذنه،لأن البيع مع قبض الثمن اذن بقبض المبيع،و مع عدم دفع الثمن لا بد من الاذن بالقبض، و يحق للبائع انتزاع المبيع منه إذا لم يأذن.

الامتناع عن التسليم و التسلم:

إذا اشترط البائع تأخير التسليم إلى أمد معين فلا يحق للمشتري أن يطالبه بالمبيع قبل مضي الأوان،و كذا إذا اشترط المشتري تأجيل الثمن،و إذا لم يؤقت التسليم بأمد معين وجب على البائع أن يبادر إلى تسليم المبيع إذا كان المشتري قد دفع الثمن أو باذلا له،و يتم التسليم بالتخلية في غير المنقول،و في المنقول برفع يد البائع عنه،و استيلاء المشتري عليه،سواء أنقله من مكانه أو لم ينقله،و متى تم ذلك خرج المبيع من عهدة البائع،و صار في عهدة المشتري،و كذا حال البائع بالنسبة إلى الثمن.

و تقول:لقد روي أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل اشترى متاعا من آخر،و تركه عنده فسرق المتاع من مال من يكون؟.قال الإمام عليه السّلام من مال صاحب المتاع،حتى يقبض المبتاع،و يخرجه من بيته،أي من بيت البائع،و هذه الرواية صريحة بأنه لا بد من النقل في المنقول،و ان مجرد الاستيلاء غير كاف.

ص:250

و قد أجاب الشيخ الأنصاري عن ذلك بقوله:«ان الإخراج من البيت كناية عن الإخراج من سلطة البائع،و رفع يده عن المبيع،و لا ينبغي خفاء ذلك على المتأمل في الاستعمال العرفي».

و إذا تشاحا،فحبس البائع المثمن،حتى يقبض الثمن،و حبس المشتري الثمن،حتى يقبض المثمن،إذا كان كذلك أو دعا الثمن عند أمين يثقان به،أو يثق به الحاكم الشرعي،فإن تسلم المثمن دفع الأمين الثمن إلى البائع،و ان امتنع البائع عن التسليم،مع بذل المشتري للثمن أجبره الحاكم،و مع تعذر التنفيذ بالقوة يرد الثمن إلى المشتري،و يتخير بين الفسخ و الإمضاء،و ان حبس المشتري الثمن، و بذل البائع المثمن نفذ الحاكم على المشتري بالقوة،و مع تعذر التنفيذ كان البائع بالخيار،ان شاء فسخ،و ان شاء انتظر مترقبا الفرص.

و إذا قبض المشتري المبيع قبل أن يدفع الثمن،فان كان بإذن البائع صح القبض،و إلاّ فللبائع انتزاعه منه،لأن له تمام الحق في حبس المبيع في قبالة حبس الثمن صح القبض،حتى و لو كان قهرا عن البائع،و كذلك الحال بالقياس إلى البائع،له أن يستولي على الثمن من غير رضا المشتري ان كان قد سلم المثمن،و إلاّ فلا بد من رضا المشتري.و بالإيجاز أن من نفذ الالتزام يجوز له أن ينفذه على الطرف الآخر دون رضاه،و من لم ينفذ الالتزام عن نفسه فبالأولى أن لا ينفذه على غيره قال الشيخ الأنصاري:«ان صحة القبض تكون بأحد أمرين:امّا أن يسلم ما في يده لصاحبه،فله حينئذ أن يأخذ ما في يد صاحبه،و لو من غير اذنه،و امّا أن يأذن صاحبه بالقبض،سواء أسلّم هو،أو لا».

ثم ان للقبض أحكاما كثيرة تترتب عليه نعرض طرفا منها فيما يلي ملخصا عن كتاب المكاسب،و كتاب الجواهر،مع إبداء الملاحظات،ان كان لها من موجب.

ص:251

الهلاك قبل القبض و بعده:

تقدم أكثر من مرة،بخاصة في الفصل السابق أنّه قد ثبت بالنص و الإجماع أن المبيع إذا تلف،أو حدث فيه حدث قبل قبضه فهو من مال البائع،غير أن الفصل السابق خاص بأحكام الخيار،و تلف المبيع في زمن الخيار،و في هذا الفصل نتكلم عن القبض و أحكامه بوجه عام،و أظهر مسائله النتائج المترتبة على هلاك المعقود عليه قبل القبض و بعده.

أمّا الهلاك بعد القبض فإنه من مال المشتري،سواء أ كان الهلاك بقوة قاهرة أو بغيرها،لا باعتباره مالكا فحسب،بل لأنه المالك المسيطر على العين،إلاّ إذا كانت حيوانا،أو غيره بشرط الخيار للمشتري،و تلفت في يده قبل انتهاء أمد الخيار،إذ يكون التلف،و الحال هذه،من مال البائع الذي لا خيار له،كما تقدم في الفصل السابق فقرة«ضمان البيع».

أمّا إذا كان الهلاك قبل القبض و التسليم لسبب لا بد للمشتري فيه فهو من مال البائع،لحديث:«كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه».و ليس السر في ذلك ما قاله الفقهاء القدامى و الجدد:العقد ينفسخ قبل الهلاك آنا ما،و انما السر- على ما نحسب-ان البائع قد تعهد،أثناء العقد أن يسلم المبيع للمشتري بجميع مقوماته و صفاته،تماما كما كان حين العقد،و بهذا يكون المبيع في عهدة البائع، حتى يسلمه إلى المشتري،و عليه يمكن القول:ان تلف المبيع قبل القبض كان الحكم على وفق الأصل،يعمل به،حتى و لو لم يرد فيه نص.

على أن التوجيه الذي ذكرناه يلتقي مع توجيه الفقهاء،لأن الالتزام بتسليم المبيع يصبح مستحيل التنفيذ بعد التلف،و متى استحال تنفيذ العقد انفسخ قهرا، و لكن لا قبل التلف آنا ما،كما قال الفقهاء،و لا حين التلف بل يكشف التلف عن

ص:252

بطلان العقد من الأساس،لعدم القدرة على التسليم،و قد ذكرنا في فصل شروط العوضين فقرة«القدرة عند الاستحقاق»أن القدرة عند العقد مع العجز عن التسليم حين الاستحقاق لا تجدي شيئا في صحة العقد.

ضمان المعاوضة،و ضمان اليد:

قسم الفقهاء الضمان إلى قسمين:ضمان معاوضة،و ضمان يد،و يريدون بضمان اليد الضمان بالمثل و القيمة،فالغاصب و المستام (1)و المستعير المفرط، كل هؤلاء ضمانهم ضمان يد،أي أن العين إذا تلفت في يد أحدهم فعليه بدلها الواقعي من المثل أو القيمة.

أمّا ضمان المعاوضة فيريدون به أن العوضين اللذين كانا محلا للتعاقد إذا تلف أحدهما عند مالكه الأول،و قبل أن يسلمه للمتعاقد الثاني يكون ضامنا له، و لكن بعوضه المسمى،لا ببدله الواقعي من المثل أو القيمة-مثلا-إذا اشترى زيد كتابا من عمرو بقلم،فبمجرد انعقاد العقد ينتقل الكتاب إلى زيد،و القلم إلى عمرو،فلو افترض أن الكتاب تلف بعد العقد،و قبل تسليمه لزيد يكون ضمانه على عمرو،و لكن لا بمثله أو قيمته،بل بالقلم الذي وقع عوضا عن الكتاب، و كذلك إذا تلف القلم قبل أن يستلمه عمرو،و معنى هذا بحسب النتيجة أن وجود العقد و عدمه سواء.

ص:253


1- المستام هو الذي يأخذ الشيء المعروض للبيع بقصد الاختبار،ليشتريه:فإذا تلف في يده ضمنه لصاحبه بالمثل أو القيمة،حتى مع عدم التفريط،لقاعدة على اليد ما أخذت حتى تؤدي،أمّا اذن البائع له بالقبض فهو مشروط ضمنا بأن التلف على القابض إطلاقا،و يأتي الكلام عنه في باب الغصب ان شاء اللّه،و أشرنا إليه في كتاب أصول الإثبات في الفقه الجعفري فصل اليد و الضمان، فقرة«المقبوض بالسوم».

و بهذا يتضح أن ضمان البائع للمبيع التالف قبل قبضه انما هو ضمان معاوضة،لا ضمان يد،و انه ليس للمشتري أن يرجع على البائع،و يطالبه بعوض المبيع من المثل أو القيمة،كما أنه لا يعقل أن يسقط الضمان عنه،لأنه إسقاط للساقط،أو إيجاب لما لم يجب على حد تعبير الفقهاء.

الهلاك الجزئي:

إذا نقصت قيمة المبيع السوقية قبل قبضه،كما إذا اشتراه بعشرة،و كانت هذه قيمته حين التعاقد،و قبل القبض هبطت بما لا يتسامح به عرفا،بحيث لو كان الهبوط قبل العقد لما تم البيع بالثمن المسمى،إذا كان كذلك يبقى الالتزام على ما كان،و لا يحق للمشتري أن يفسخ،و لا أن ينقص من الثمن،كما أن البائع لا يحق له أن يفسخ أو يزيد على الثمن ان ارجحت القيمة قبل القبض.

و إذا تلف بعض المبيع ينظر:فان كان التالف يمكن بيعه منفردا،كما لو اشترى قطيعا من الغنم فتلف بعضه انفسخ العقد بالنسبة إلى التالف،مع ما يقابله من الثمن،لانه مبيع تلف قبل قبضه،و يثبت الخيار للمشتري بين فسخ العقد، لتبعيض الصفقة،و بين إمضاء البيع بالقياس إلى الباقي بحصته من الثمن،قال الشيخ الأنصاري:«لا اشكال و لا خلاف في ذلك».

و ان كان الهالك وصفا للمبيع،بحيث لا يمكن بيعه منفردا،كعين الدابة، و لون الثوب تخير المشتري بين الفسخ،أو الإمضاء مع المطالبة بالأرش على ما هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب المسالك.و بعد ان أبدى الشيخ الأنصاري ملاحظاته على القائلين بالأرش قال:«و مع ذلك فقول المشهور لا يخلو من قوة».

ص:254

نماء المبيع التالف:

إذا تجدد للمبيع نماء بعد العقد،و قبل التلف،فهل يكون للمشتري،أو للبائع؟.

قال صاحب الجواهر:«لا خلاف بناء على حصول الملك بمجرد العقد في أنّه إذا حصل نماء للمبيع كان ذلك للمشتري،لأنه من التوابع لملكه،فان تلف الأصل قبل قبضه سقط الثمن عن المشتري،و له النماء،لأن التحقيق أن العقد ينفسخ من حين التلف،لا من أصله».

و تكرر مضمون هذه العبارة في كتب الفقه،و منها المكاسب و المسالك و مفتاح الكرامة.

و الحق أن النماء للبائع،لا للمشتري،لما سبق من أن القدرة على التسليم شرط لصحة العقد،و المفروض عدمها،فيكون العقد باطلا من أصله،و الغريب أن جميع الفقهاء،و منهم صاحب الجواهر و المكاسب و المسالك ذكروا أن القدرة على التسليم شرط لصحة العقد،و لكنهم ذهلوا هنا عما قالوه هناك،و لم يتذكروا إلاّ تبعية النماء للملك.و العصمة للّه (1).

هلاك الثمن قبل قبضه:

إذا كان كل من العوضين من غير النقود،كما لو تبادلا عينا بعين شخصية على سبيل المقايضة،أو وقعت العين مهرا أو عوضا عن خلع،أو منفعة،أو على

ص:255


1- ذاكرت أخا فاضلا بهذا فقال مدافعا عن الفقهاء:ان مرادهم من شرط القدرة على التسليم القدرة حين العقد و بعده بأمد يمكن فيه التسليم،و الفرض هنا أنّه مضى من الوقت أكثر من ذلك، و جوابنا أنّهم أطلقوا القول بأن القدرة تعتبر عند التسليم،و لم يفصلوا بين الوقت القصير و الطويل.

صلح عما في الذمة،و ما إلى ذلك،ثم تلفت قبل قبضها فحكمها حكم تلف المبيع قبل قبضه تذهب من مال مالكها الأول،قال الشيخ الأنصاري:«تلف الثمن المعين قبل القبض،كتلف المبيع المعين في جميع ما ذكر-ثم قال-،و هل تلحق العوضات في غير البيع بالبيع في هذا الحكم؟.نعم ذكر الفقهاء في الإجارة و المهر و عوض الخلع ضمان العين لو تلفت قبل القبض.و يظهر من كتاب التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات،على وجه يظهر أنّه من المسلمات».

مكان التسليم:

إذا لم يشترط تأجيل الثمن أو المثمن وجب التسليم في الوقت الذي يتم فيه العقد،و إذا لم يعين مكان التسليم،و كان المعقود عليه من الأعيان المنقولة فمكان التسليم هو مكان العقد،فإذا وجد فيه فذاك،و إلاّ فعلى مالكه الأول نقله إليه مثمنا كان أو ثمنا،و إذا كان المكيل و الموزون مثمنا فاجرة الكيل و الوزن على البائع،و ان كان ثمنا فعلى المشتري،و المعيار أن كل ما يعود إلى المثمن فنفقته على البائع،و كل ما يعود إلى الثمن فعلى المشتري.

أمّا أجرة السمسار فعلى من يأمره،فإن أمره المشتري فأجرته عليه،لا على البائع،و كذلك البائع.

التنازع:
1-إذا كان المبيع مما يكال أو يوزن أو يعد

،أو ما أشبه كصفحات الكتاب،و ما إلى ذلك مما يقبل النقصان،و بعد أن قبضه المشتري رجع على البائع،و قال:وجدته ناقصا،و أنكر البائع ذلك،فان كان قد حضر المشتري الكيل

ص:256

و الوزن،و رأى المبيع و تسلمه بنفسه من البائع فالقول قول البائع إذا لم يكن للمشتري بينة،لأنه لما شاهد و قبض بنفسه كان ذلك منه بمنزلة الاعتراف بوصول حقه إليه كاملا،فإذا ادعى النقصان بعد ذلك كان أشبه بمن أنكر بعد أن أقر.

و إذا لم يحضر المشتري الكيل و الوزن،و لم يقبض بنفسه،كما لو أرسل البائع المبيع مع أحد المستخدمين عنده فالقول قول المشتري بيمينه إذا لم يكن للبائع بينة،لأن الأصل عدم وصول حقه إليه،و هذا التفصيل هو المشهور بين الفقهاء،و عن كتاب الرياض أنهم مجمعون عليه.

2-اختلفا في قدر الثمن

،فقال المشتري:بعتني بثمانية،و قال البائع:

بعشرة،فإن كان المبيع قائما فالقول قول البائع بيمينه،إذا لم يكن للمشتري بينة، و ان كان المبيع هالكا فالقول قول المشتري مع عدم البينة للبائع،قال صاحب الجواهر:هذا هو المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة،و الدليل أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يبيع الشيء،فيقول المشتري هو بكذا بأقل مما يقول البائع؟.قال الإمام:القول قول البائع،مع يمينه إذا كان الشيء قائما بعينه.

و لو لا عمل الفقهاء بهذه الرواية و اعتمادهم عليها لكان القول قول المشتري إطلاقا،لأن الأصل عدم الزيادة في الحالين.

3-إذا قال المشتري للبائع:اشتريت منك ثوبين بدرهم،و قال البائع:بل

ثوبا واحدا بدرهم

،فالقول قول البائع،لأن أحد الثوبين متفق على أنّه محل البيع و الثاني مختلف فيه،و الأصل بقاؤه على ملك مالكه الأول،حتى يثبت العكس، و هكذا كل اختلاف وقع على الأقل أو الأكثر يؤخذ بقول من يقول بالأقل إلاّ ما خرج بالدليل،لأنه موضع اليقين من اتفاقهما،و الزائد مشكوك،فلا يثبت إلاّ بالبينة.

ص:257

و إذا اختلفا في تعيين المبيع،فقال البائع:بعتك هذا الثوب،و قال المشتري:بل ذاك الثوب كانا متداعيين،أي أن كل منهما مدع و منكر في آن واحد،يدعي ما ينفيه خصمه،و ينكر ما يثبته،فان لم تكن بينة تفصل بين الطرفين حلف كل على نفي ما يدعيه الآخر،لا على إثبات ما يدعيه هو،لأن المدعي يكلف بالبينة،لا باليمين،و متى تحالفا سقطت دعوى كل منهما على الآخر،تماما كما تسقط إذا دعي ابتداء على شخص أنّه باعه،أو اشترى منه فأنكر المدعى عليه،و حلف،فتسقط الدعوى،و إذا سقطت دعوى الاثنين ينفسخ العقد حتما،لاستحالة تنفيذه.

و كذا إذا اتفقا أن البيع كان بالنقد الأجنبي،لا بنقد البلد،و اختلفا في تعيينه، فقال البائع:بعتك بالجنيه،و قال المشتري:بالدولار،فإنهما يتحالفان،و يبطل البيع من رأس،أمّا إذا قال أحدهما:كان البيع بنقد البلد،و قال الآخر:بالنقد الأجنبي فالقول قول الأول.

ص:258

المرابحة و توابعها

اشارة

ينقسم البيع بالنظر إلى الإخبار بالثمن و عدمه إلى أربعة أقسام،و هي:

المساومة:

1-المساومة،و هي أن يساوم المشتري البائع على السلعة بما يتفقان عليه من الثمن من غير تعرض لذكر الثمن الذي اشترى به البائع،سواء أعلمه المشتري،أو لم يعلمه.

و عن أهل البيت عليهم السّلام أن بيع المساومة أفضل من غيره،قال الإمام الصادق عليه السّلام:أكره أن أبيع عشرة بأحد عشر،و نحو ذلك من البيع،و لكن أبيع كذا و كذا مساومة.

و نهى عن الربح الكثير،من ذلك قوله:ربح المؤمن على المؤمن ربا إلاّ أن يشتري بأكثر من مائة درهم،فاربح عليه قوت يومك،أو يشتريه للتجارة،فاربح عليه،و ارفق به.

قال الفقهاء:المراد بالربا-هنا-تأكيد الكراهة و شدتها.و في هذه الرواية إشارة إلى كراهية الربح الكثير،و ان الأفضل أن لا يزيد عن قوت اليوم الواحد،إذا كانت الصفقة مما يعتد بها،و إلاّ فإن الأفضل أن يكون الربح دون قوت اليوم،

ص:259

بخاصة إذا كان الشراء لسد الحاجة،لا للربح.

و من الخير أن نذكر بهذه المناسبة ما جاء في كتاب وسائل الشيعة ج 1 باب «كراهة البيع بربح الدينار دينارا».فان فيه درسا و عظة.

دعا الإمام الصادق عليه السّلام مولى له،اسمه مصارف،و أعطاه ألف دينار،و قال له:تجهز،حتى تخرج إلى مصر،فإن عيالي قد كثروا،فاشترى مصارف بالمال بضاعة،و خرج بها مع التجار إلى مصر،فلما قربوا منها و إذا بقافلة خارجة من مصر،فسألوهم عن المتاع الذي معهم:ما حاله في المدينة؟فقالوا:ليس بمصر منه شيء،فتحالفوا،و تعاقدوا على أن لا يبيعوا إلى بربح الدينار دينارا،و هكذا كان،و لما رجع مصارف إلى المدينة دخل على الإمام،و معه كيسان،في كل واحد ألف دينار،و قال:هذا رأس المال،و هذا الربح.فقال الإمام:انّه ربح كثير.

ما ذا صنعتم؟فحدثه كيف تحالفوا.فقال الإمام:سبحانه اللّه.تحلفون على قوم مسلمون أن لا تبيعوهم إلاّ بربح الدينار دينارا.ثم أخذ كيسا واحدا،و قال:هذا رأس المال،و لا حاجة لي بهذا الربح.ثم قال:يا مصارف،مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال.

التولية:

2-التولية،و هي أن يخبر البائع المشتري برأس المال،ثم يتفقان على البيع مع جميع النفقات و المؤن التي أنفقها عليه من غير زيادة أو نقيصة.

و إذا ظهر كذب البائع فلا يبطل البيع،لأنه عقد على شيء معلوم بثمن معلوم مع التراضي،أمّا الكذب بالثمن فيتلافى و يستدرك بالخيار،تماما كاشتراء المعيب،مع الجهل بالعيب.و الخيار-هنا-بين الفسخ أو الإمضاء بالثمن

ص:260

المسمى،و ليس للمشتري أن يمسك المبيع،و يحط من الثمن الزيادة التي كذب بها البائع،لأن البيع وقع على الثمن الذي أخبره به البائع،و هو المذكور صراحة في صلب العقد دون الثمن الواقعي،فأمّا أن يرضى بالمسمى،و أمّا أن يرد، و لا شيء على البائع سوى الإثم.و لو قال البائع للمشتري:لا تفسخ،و أحط عنك الزيادة سقط الخيار،لارتفاع سببه.

الوضيعة:

3-الوضيعة،و هي أن يخبر البائع المشتري برأس المال،ثم يتفقان على البيع بحط مقدار معين من الثمن الذي اشترى به البائع،و إذا تبين كذبه بالإقرار أو بالبينة فللمشتري الخيار على الوجه المتقدم في التولية.

المرابحة:

4-المرابحة عكس الوضيعة،أي البيع برأس المال مع ربح معين،و إذا تبين كذب البائع فللمشتري الخيار،كما تقدم.

و لا بد في الأقسام الثلاثة الأخيرة من علم المشتري برأس المال،و المؤن، و بجميع ما طرأ على المبيع من زيادة أو نقيصة،فقد جاء في مفتاح الكرامة:

«لا يكفي تجدد العلم بعد العقد،و ان اقتضاه الحساب المنضبط».و سبق في فصل النقد و النسيئة،فقرة«التأجيل»أن التعيين الواقعي الذي يمكن الاطلاع عليه بسهولة كاف لصحة التعاقد،و ان جهل المتعاقدان بالشيء المعين واقعا،على شريطة أن ينشئا العقد على أساسه.

و إذا كان البائع قد اشترى السلعة إلى أجل فعليه أن يخبر المشتري بذلك،

ص:261

فان كتمه و أخفى عنه و كان قد باع بمثل ما اشترى،مع ربح معلوم يكون للمشتري مثل ما كان للبائع من الأجل،قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:إنما نشتري المتاع بنظرة،فيجيء الرجل،فيقول:بكم تقوّم عليك؟فأقول بكذا و كذا،فأبيعه بربح؟ قال الإمام عليه السّلام:إذا بعته مرابحة كان له من النظرة مثل ما لك.

و الأقسام الأربعة كلها صحيحة و جائزة شرعا،أمّا بيع المزايدة،و هي أن ينادي الرجل على السلعة طلبا للزيادة فيها،ثم يستقر البيع على من لم يزد عليه، أمّا هذا النوع من البيع فيدخل في بيع المساومة،و ليس قسما مستقلا برأسه.

إذا أكذب البائع نفسه:

إذا أخبر البائع برأس المال،و تم البيع على أساسه،ثم ادعى أنّه كان أكثر مما أخبره به،و أنّه كان مشتبها في إخباره،إذا كان كذلك ردت دعواه بمجرد سماعها من غير بينة و لا يمين،حتى و لو كان معروفا بالصدق،لأنه إنكار بعد إقرار،و لو استمع منه لا نسد باب العمل بالإقرار،أجل،إذا ادعى أن المشتري يعلم بالواقع كما هو،و انه قد غلط و اشتبه فتسمع دعواه،و يحلف المشتري على نفي علمه بمقدار رأس المال.

ص:262

السلم

معناه:

السلم بفتح السين و اللام،و مثله السلف و في بعض كتب اللغة أن السلم و السلف واحد وزنا و معنى،و السلم نوع من أنواع البيع الذي هو مبادلة مال بمال، لأن المال الذي يقع محلا للمبادلة تارة يكون عينا خارجية حاضرة،فتباع بالمشاهدة،و أخرى غائبة،فيجوز بيعها بالوصف،و ثالثا يكون في الذمة،و منه بيع السلم بالشروط الآتية،و يجوز أن يكون المبيع في الذمة حيوانا،و طعاما، و فاكهة،و غيرها من العروض،و عرفه الفقهاء بأنّه ابتياع مال غير موجود بالفعل، و لكنه ممكن الوجود بثمن مقبوض حالا على أن يسلم البائع للمشتري المبيع في أجل معلوم،أمّا وجه التسمية بالسلم و السلف فلأن المشتري يسلم البائع، و يسلفه مبلغا معينا من المال مقابل أن يسلمه المعقود عليه في موعد يتفقان عليه.

شرعية السلم:

و هذا النوع من البيع جائز شرعا بالرغم من أن المبيع معدوم حين البيع، و الدليل على شرعية النص،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بالسلم في المبتاع إذا وصفت الطول و العرض،و في الحيوان إذا وصفت أسنانها.

ص:263

و سئل عن الرجل يسلف في الغنم الثنيان و الجذعان،و غير ذلك إلى أجل مسمى؟قال:لا بأس به.

و قال لا بأس بالسلم في الفاكهة.

و سئل عن السلف في الحرير و المتاع؟قال:نعم،إذا كان إلى أجل معلوم.

و قال:قال علي أمير المؤمنين:لا بأس بالسلم كيلا معلوما إلى أجل معلوم، و لا تسلم إلى دياس،و إلى حصاد،أي إدراك الغلة،لأن وقتها يتقدم و يتأخر،إلى غير ذلك من الروايات.

الشروط:
اشارة

يشترط في بيع السلم أمور :

1-ذكر الجنس و الوصف بلفظ يدل عليهما صراحة

،بحيث يمكن أن يرجع إليه المتعاقدان عند الاختلاف،و المراد بالجنس-هنا-حقيقة المبيع من الحنطة أو الشعير،أو الغنم أو الثياب،و ما إليها،أمّا الوصف فهو كل ما يختلف الثمن من أجله اختلافا لا يتسامح عرفا بمثله،و الدليل على هذا الشرط الاحتراز من الغرر المبطل،و قول الإمام عليه السّلام:«لا بأس إذا وصفت الطول و العرض».

و قال الفقهاء:يصح السلم في الفواكه،و الخضار،و البيض،و الجوز، و اللوز،و الألبان،و الاسمان،و الأطياب،و الملابس،و الأشربة،و الأدوية، لإمكان ضبطها بالوصف الذي تتفاوت فيه الرغبات.

و قالوا:لا يصح السلم في الجواهر و اللآلئ،لتعذر ضبط أوصافها التي يتفاوت الثمن بها تفاوتا فاحشا،و كذا لا يجوز في العقارات و الأرضين،و لا في الخبز و الجلود،لعين السبب.

ص:264

و قالوا:لو اشترط الفرد الأجود لم يصح لتعذره،إذ ما من جيد إلاّ و يمكن أن يكون غيره أجود منه.و قال جماعة منهم:و كذا لا يصح اشتراط الأردى،لعين السبب.

و بديهة أن أقوال الفقهاء في مثل هذه البحوث و المسائل ليست بحجة، لأنّها ليست من اختصاصهم في شيء،ما دامت في تشخيص الموضوعات الخارجية،لا في معرفة الأحكام الشرعية.ان وظيفة الفقيه أن يبين الحكم الشرعي الكلي،مثل الغرر مبطل للبيع،أمّا بيان موضوعات الأحكام،و ان هذا غرر،أو ليس بغرر فليس من شأنه،و لا أدل على ذلك من قول الفقهاء:هذا يصح،لإمكان ضبطه بالوصف،و ذاك لا يصح،لعدم إمكان الضبط،فالمعول- اذن-على إمكان الضبط،و ليس من شك أن المرجع فيه هو العرف،قال صاحب الجواهر في مجلد المتاجر،مبحث السلم:«لقد أكثر الفقهاء من الأمثلة للجائز و الممتنع في السلم،كما أكثروا في بيان الأوصاف للموصوفات،مع أنّه أطلق في النصوص أنّه لا بأس بالسلم في المبتاع إذا وصف الطول و العرض،و لا بأس به في الحيوان إذا وصفت الأسنان اتكالا على العرف،فكان الاولى بالفقهاء أن يتركوا ذلك إلى العرف-و قال-ان العامي ربما يكون أعرف من الفقيه في ذلك».

و مهما يكن،فالمهم أن نعرف أن كل ما يمكن ضبطه بأوصافه المطلوبة يصح فيه السلم،و ما عدا ذلك يبطل،لأن ما لا يضبطه الوصف غرر،و كل غرر باطل،أمّا تمييز الفرد الذي يضبطه الوصف عن غيره من الافراد التي لا تضبط بالوصف فالمرجع فيه العرف،كما قال صاحب الجواهر.

2-أن يقبض الثمن في مجلس العقد

،فإذا افترقا من غير أن يحصل القبض بطل السلم،و لا دليل على هذا الشرط سوى الإجماع على ما قيل.

ص:265

و إذا قبض بعض الثمن قبل التفريق صح في المقبوض فقط،لوجود المقتضى،و هو العقد و القبض،و بطل في الباقي للافتراق قبل القبض،و يثبت للبائع خيار تبعيض الصفقة،إذا لم يكن هو السبب في عدم القبض،كما لو بذل المشتري الثمن،و امتنع البائع عن أخذ البعض دون البعض،أمّا المشتري فلا خيار له،لأن الامتناع منه إذا لم يدفع الكل.

و لو كان للمشتري دين في ذمة البائع فهل يجوز جعله ثمنا للمسلم فيه،أي للمبيع المؤجل؟.

ذهب المشهور إلى عدم الجواز،لأنه بيع دين بدين،و قد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يباع الدين بالدين.

3-أن يكون المسلم فيه معلوم الكمية كيلا فيما يكال،و وزنا فيما يوزن،

و عدّا فيما يعد

،أو ما يقوم مقام ذلك مما تنتفي معه الجهالة و الغرر.و كما يجب تعيين المبيع يجب تعيين الثمن أيضا.

4-أن يكون الأجل معلوما،للاحتراز من الغرر

،و للإجماع،و لقول الإمام عليه السّلام:«إذا كان إلى أجل معلوم».

و لا حد لطول الأجل و قصره،ما لم يعد سفها،كدقيقة في جانب القلة، و كألف سنة في جانب الكثرة،و تقدم البيان عنه في فصل النقد و النسيئة فقرة «التأجيل».

5-أن يكون المسلم فيه موجودا في الغالب عادة عند حلول أجل

التسليم

،فإذا ندر وجوده كفاكهة الشتاء يؤجل تسليمها إلى الصيف،و فاكهة الصيف إلى الشتاء يبطل السلم.

و الغرض من هذا الشرط عند المشترطين له هو قدرة البائع على تسليم

ص:266

المبيع عند الاستحقاق،و سبق في فصل شروط العوضين أن القدرة شرط لصحة البيع من حيث هو سلما كان أو غيره،و على هذا لو قدر البائع على التسليم في الوقت المعين صح السلم،حتى و لو لم يكن إلاّ الفرد المسلم فيه،فلا جدوى- اذن-من ذكر هذا الشرط هنا،و لذا قال صاحب الجواهر:«إذا أريد من هذا الشرط أمر زائد على ما في البيع فلا أجد دليلا عليه».

موضع التسليم:

لا يشترط ذكر موضع التسليم في العقد،و لكن إن ذكراه تعين العمل به، و إلاّ وجب التسليم في موضع العقد،و سبق البيان في ذلك فصل القبض فقرة «مكان التسليم».

تعذر التسليم:

إذا حل الأجل،و تعذر تسليم البيع،لقوة قاهرة،كما لو تلف الزرع أو هلكت الماشية فلا يبطل العقد،و لا يجب على البائع أن يدفع عوض المبيع من المثل أو القيمة على ما هو المشهور بين الفقهاء،لأن محل العقد الذمة،و ليست العين الخارجية،و المتعذر أجل التسليم،و الذي يوجبه الحكم أن يتخير المشتري بين الفسخ و استرجاع الثمن،و بين الصبر إلى أمد ممكن فيه وجود المبيع،و يدل عليه الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل أسلف في شيء تسلف فيه الناس من الثمار،فذهب زمانها،و لم يستوف سلفه؟قال فليأخذ رأس ماله،أو لينتظر.

ص:267

ص:268

الصرف

اشارة

يدخل الصرف في فصل الربا،و لكن الكثير من الفقهاء تكلموا عنه في فصل مستقل بالنظر لأهميته في عهدهم،حيث كانت النقود ذهبا و فضة،و آثرنا نحن ذكره على حدة تمشيا مع الأكثرية،و أوجزنا القول فيه،لأن دراسته اليوم لا تتعدى النظريات المجردة،و ليس لها من النفع ما كان لها بالأمس.

و قد عرف الفقهاء الصرف ببيع الأثمان بمثلها،مع شرط التقابض في المجلس،فان لم يحصل التقابض إطلاقا،أو حصل مع تعدد المجلس بطل الصرف،على المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا،على حد تعبير صاحب الجواهر.و التقابض في المجلس في الصرف شرط زائد على سائر الأعيان الربوبية التي يأتي البيان فيها في الفصل التالي.

و يريد الفقهاء بالأثمان خصوص الذهب و الفضة دون الأوراق النقدية.

و يلاحظ بأنهم قالوا في سبب الاختصاص بالذهب و الفضة انهما يقعان ثمنا عن الأشياء،و معلوم أن أوراق النقد تقع أيضا ثمنا عن الأشياء،فينبغي تعميم الحكم إليها.بل ان تعبيرهم بلفظ الأثمان يشمل كل نقد مهما كان نوعه،ما دام من شأنه أن يكون ثمنا لا مثمنا.و لكن الجمود على حرفية النص يستدعي الوقوف عند الذهب و الفضة،و عدم التجاوز إلى غيرهما.

ص:269

النص:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:نهى رسول اللّه عن بيع الذهب بالذهب زيادة إلاّ وزنا بوزن.

و قال:الذهب بالذهب،و الفضة بالفضة،و الفضل بينهما هو الربا المنكر.

و سئل عن الرصاص؟فقال:الرصاص باطل،ي لا يصح به الصرف.

و سئل عن الرجل يبتاع الذهب بالفضة مثلين بمثل؟قال:لا بأس به يدا بيد.إلى غير ذلك من الروايات.

التفاضل:

لا يجوز بيع الذهب بالذهب،و الفضة بالفضة إلاّ مثلا بلا زيادة و لا نقصان، و يستوي في ذلك بيع المسكوك،و غير المسكوك،و الصحيح و المكسور، و الجيد و الرديء،ما دام كل منهما من جنس واحد،قال صاحب الجواهر:«جيد الجوهر و رديئه واحد بلا خلاف و لا اشكال،لصدق اتحاد الجنس فيه».

و إذا كان الذهب مغشوشا فيه مادة ثانية غير الذهب فلا يباع بالذهب،بل يباع بالفضة،أو بغيرها إلاّ أن يعلم مقدار الصافي من الذهب فيباع بمثله،مع إسقاط مقدار الغش،و كذا الحكم بالنسبة إلى الفضة.و يجوز بيع الذهب بالفضة، مع التفاضل لاختلاف الجنس.

مسائل:
1-إذا اشترى شيئا بنوع خاص من النقد تعين

،و لا يجبر المشتري على أخذ غيره،و ان كان ساواه في القيمة أو زاد عنه،كما أن المشتري لا يجوز له دفع

ص:270

غيره،و ان كان أفضل إلاّ برضا البائع.

2-إذا اشترى دراهم معينة بدراهم كذلك،ثم تبين أن جميع ما صار إليه

من غير جنس الدراهم بطل العقد

-مثلا-إذا كان مع شخص قطعة نقد فضية معينة من ذوات العشرة دراهم،و مع آخر قطعتان معينتان،كل منهما من ذوات الخمسة،و اتفقا على صرف الواحدة،بالقطعتين،و بعد أن تم التقابض تبين أن الواحدة من الرصاص،و القطعتين من الفضة،أو بالعكس بطل العقد،لأنه وقع على عين شخصية بقصد أنّها فضة،و حيث تخلف القصد بطل العقد،تماما كما لو اشترى هذا الثوب بالذات بقصد أنّه صوف،فتبين أنّه قطن،و إذا بطل العقد فلا سبيل للقول بجواز المطالبة بالإبدال أو الأرش.

أجل،إذا كانت القطعتان من الفضة،لا من الرصاص،و من جنس القطعة ذات العشرة،و لكن تبين أن فيهما عيبا كان لصاحب القطعة غير المعيبة حق الخيار في الرد أو الإمساك من غير أرش،لأن أخذ الأرش مستلزم للزيادة في الوزن،فيكون ربا،و قد بينا أن التفاضل غير جائز في بيع الذهب بالذهب،و في بيع الفضة بالفضة،و ان المساواة فيهما لا بد منهما،حتى بين الجيد و الرديء.

3-إذا اشترى دارهم بدراهم مثلها في الذمة،لا بدراهم خارجية معينة

، و لدى التقابض تبين أن جميع ما صار إليه من غير جنس الدراهم لا يبطل الصرف كما هي الحال لو وقع العقد على عين خارجية-مثلا-إذا قال له أعطيك قطعة من ذوات العشرة بقطعتين من ذوات الخمسة،من غير أن يقول:هذي بهاتين،بل جرى العقد على ما في الذمة،و بعد القبض تبين أن القطعتين من الرصاص يجوز للآخر،و الحال هذي،أن يطالبه بالإبدال،لعدم تحقق قبض الشيء المعقود عليه،تماما كما لو اشترى ثوبا من الصوف في الذمة،و أعطاه البائع ثوبا من قطن،

ص:271

فان العقد لا يبطل بذلك،بل للمشتري أن يطالب بالإبدال.

و إذا تبين أن القطعتين من جنس الفضة،و لكن فيهما عيبا كان الطرف الثاني مخيرا بين الرد و الإمساك من غير أرش،لما قدمنا من أن الأرش يستدعي الزيادة في الوزن،و الزيادة ربا محرم و مبطل.

ص:272

الربا

التحريم:

يحرم الربا بنص الكتاب و السنة،و إجماع المسلمين كافة من يوم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اليوم،بل لا يحتاج التحريم إلى دليل،لأن الدليل انما يستدل به على النظريات الاجتهادية،و المسائل الظنية،أمّا الواضحات البديهية فيستوي في معرفتها العالم و الجاهل،و المجتهد و المقلد،فلا حاجة بها-أذن-إلى دليل.و من هنا حكم الفقهاء بكفر من أنكر تحريم الربا،لأنه ينكر ما ثبت بضرورة الدين، تماما كما ينكر وجوب الصوم و الصلاة،و الحج و الزكاة،قيل للإمام الصادق عليه السّلام:

ان فلانا يأكل الربا،و يسميه اللبأ؟قال:لأن أمكنني اللّه منه لأضربن عنقه.

و كما يحرم أخذ الربا كذلك يحرم إعطاؤه،فعن علي أمير المؤمنين عليه السّلام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم«لعن الربا و آكله و بايعه و مشتريه و كاتبه و الشاهد عليه»و لا فرق في التحريم بين الدافع و القابض،حتى و لو كان لضرورة ملحة،لأن الشارع لعن الجميع،و هددهم بقوله «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ» و لم يستثن أحدا.

و تقول:لقد تسالم الفقهاء على أن الضروريات تبيح المحذورات.و انه سبحانه إذا قال يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ فقال أيضا إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 1.و تحريم الربا تماما كتحريم الميتة،فإن حلت الميتة من أجل الضرورة فيجب أن يحل الربا للغاية نفسها.

ص:273

و تقول:لقد تسالم الفقهاء على أن الضروريات تبيح المحذورات.و انه سبحانه إذا قال يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ فقال أيضا إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).و تحريم الربا تماما كتحريم الميتة،فإن حلت الميتة من أجل الضرورة فيجب أن يحل الربا للغاية نفسها.

و نجيب أولا:ان الضرورة المسوغة غير موجودة هنا إطلاقا،لا بالقياس إلى القابض،و لا بالقياس إلى الدافع،أمّا القابض فلأن المفروض أن لديه من المال ما يقيم به الأود،و لو يوما واحدا،و الآية الكريمة أحلت الميتة و الدم و لحم الخنزير لمن أشرف على الهلاك من الجوع،لا لمن يرابي لتربو أمواله،و أمّا الدافع فلأن الضرورة إذا سوغت له أخذ المال فإنها لا تسوغ له دفع الزيادة التي اشترطت عليه،و إذا أخذت قهرا عنه فلا تحل للآخذ،بل تكون أكلا للمال بالباطل.

ثانيا:لا تلازم بين تحليل الميتة للمضطر،و بين تحليل أموال الغير.أجل، قال الفقهاء:إذا انحصر حفظ الحياة بأكل مال الغير جاز أن يأكل منه بمقدار ما يرفع الضرر،على شريطة أن يضمن الآكل بدل المال من المثل و القيمة،و يسدد عند الإمكان،و بديهة أن هذا شيء،و تحليل الربا شيء آخر.و بكلمة ان الاضطرار ليس سببا من أسباب الملك،و لا لصحة المعاملة،بل يرتفع التحريم و العقاب فقط،و لا تلازم بين الحكم التكليفي و هو التحليل،و بين الحكم الوضعي،أي الفساد،فقد تكون المعاملة محرمة،و غير فاسدة،كالبيع وقت النداء،و قد تكون فاسدة،و غير محرمة،كبيع الصغير و السفيه.

و بهذا يتضح أن الربا لا يحل أكله بشتى صوره و إشكاله،أمّا الاضطرار و خوف الهلاك فإنه يرفع الإثم فقط،و لا يكون سببا للتمليك و صحة المعاملة.

ص:


1- البقرة:173. [1]
فساد المعاملة الربوية:
اشارة

هل فساد الربا موجب لفساد المعاملة من الأساس،أو يختص الفساد بالزيادة فقط،أمّا المعاملة فصحيحة،و بكلمة:هل الربا فاسد و مفسد للعقد،أو فاسد غير مفسد-مثلا-إذا أقرضه عشرة دراهم بشرط أن يردها اثني عشر،أو باعه مدا من الحنطة بواحد و نصف فالزيادة محرمة و فاسدة بلا ريب،و لكن هل تفسد المعاملة أيضا؟.فلا يصح للمستقرض أن يتصرف برأس المال،و هو ال 10 دراهم،و لا للمشتري بمد الحنطة،أو أن المعاملة تكون صحيحة و يجوز للمستقرض أن يتصرف بالمال،و للمشتري بالمبيع؟

و الجواب:ان كل ما فيه شائبة الربا فهو فاسد و مفسد

،حتى و لو قلنا:ان الشرط الفاسد-غير الربا-لا يفسد،لأن الأدلة التي دلت على تحريم الربا صريحة بأن كل معاملة تتصل بالربا من قريب أو بعيد فهي باطلة،تماما كبيع الحصاة.(مر تفسيره في فصل شروط العوضين فقرة النهي عن المعاملة).

و على هذا،فمن اشترى جنسا بجنس مع الزيادة،أو اقترض كذلك يجب أن يرد المال الذي اقترض،و المبيع الذي قبض،و يحرم عليه التصرف فيه،مع العلم بالربا و فساد المعاملة،و ان أبقاه في يده جرى عليه حكم المقبوض بالعقد الفاسد.

و تقول:إذا باع شاة و خنزيرا في صفقة واحدة يصح البيع بالنسبة إلى الشاة بما يقابلها من الثمن،و يفسد بالنسبة إلى الخنزير كذلك بإجماع الفقهاء،فليكن الحال هنا كذلك،تبطل الزيادة،و تكون المعاملة صحيحة بالقياس إلى رأس المال؟ و نجيب بان بيع الشاة مع ما يقابلها من الثمن مقصود منذ البداية،و لو مع الخنزير،أمّا البيع و الدين من غير زيادة فغير مقصود إطلاقا فإذا قلنا بصحة

ص:275

المعاملة في رأس المال يلزم أن يكون الذي وقع لم يقصد،و الذي قصد لم يقع.

الزيادة المقبوضة:

أوضحنا في الفقرة السابقة أن العين بيد المستقرض في ربا القرض،و بيد المشتري في ربا البيع هي بحكم المقبوض بالعقد بالفاسد،و نتكلم الآن عن حكم الزيادة التي قبضها المقرض من المستقرض،و البائع من المشتري:هل يجب عليه أن يردها على مالكها ان كانت قائمة،و ان يرد بدلها من المثل أو القيمة ان كانت تالفة،أو لا يجب عليه شيء من ذلك؟ و حيث ان الزيادة التي قبضها المرابي باقية على ملك مالكها الأول،لفسد المعاملة من رأس،و هي في يده بحكم المقبوض بالعقد الفاسد فيجب عليه ردها،سواء أعلم بأن الربا محرم أو لم يعلم،و سواء أ كانت الزيادة ربا القرض،أو ربا البيع،لقوله تعالى وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ الذي يعم الجاهل و العالم ،أجل إذا كان قد قبض الربا جاهلا به أو بتحريمه يرتفع عنه الإثم و العقاب،أما الضمان و وجوب الرد فلا،لأن الحكم الوضعي يثبت مع الجهل كما يثبت مع العلم،قال صاحب الجواهر:«المعروف بين المتأخرين أن الجاهل بالربا كالعالم به في وجوب الرد من غير فرق بين تلف العين أو بقائها،لإطلاق ما دل على تحريم الربا،لعدم انتقاله عن المالك،و العذر في الحكم التكليفي لا ينافي الفساد الذي هو الحكم الوضعي».

و قال جماعة من الفقهاء:يجب رد الربا إذا كان القابض قد قبضه عن علم به و بحكمه،أمّا الجاهل فلا يجب عليه شيء،لقوله تعالى فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ .و المراد بمجيء الموعظة العلم بعد الجهل.

ص:276

و أجاب صاحب الجواهر بأن المراد بالآية الكريمة العفو عما سلف في حال الجاهلية،و قبل نزول الآية،كما هو الشأن في قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ كما أن الآية تشمل المرابي الذي قد أسلم الآن،فان كان قد قبض الربا قبل إسلامه فلا يجب عليه رده بعد الإسلام،و ان لم يكن قد قبضه فلا يحل له أخذه،قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من أسلم على شيء فهو له.

و تقول:لقد روى الرواة عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل أربا بجهالة،ثم أراد أن يتركه؟فقال:أمّا ما مضى فله،و ليتركه فيما يستقبل.

و أجاب صاحب الجواهر عن هذه الرواية،و ما إليها بأن مراد الإمام عليه السّلام أن الجاهل معذور في أكل الربا من حيث العقاب و الإثم،لا من حيث الضمان، و وجوب الرد،ثم قال:«ان التفصيل بين الجاهل و العالم يلزم منه أمور عظيمة من تحليل مال الغير،و ان صاحب المال لا يجوز له أخذه،و غير ذلك مما يصعب الالتزام به».

و نحن مع صاحب الجواهر،من عدم الفرق بين الجاهل و العالم،لأنه المشهور بين الفقهاء المتأخرين،و يتفق مع الأصول و القواعد القاضية بان من أتلف مال غيره فهو له ضامن،و كيف يمكن الجمع بين بقاء الربا على ملك مالكه الأول،و بين جواز أكله للجاهل،و ضمانه له؟ ثم ان المرابي ان وجد من قبض منه الربا رده إليه بالذات،و ان وجده ميتا رده إلى الورثة،فان لم يعلم له وارثا تصدق به عنه.

ص:277

معنى الربا:

الربا معناه الزيادة و الإضافة،يقال:ربا الشيء يربو إذا زاد،و منه قوله تعالى وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ .و ما من شك أن الزيادة من حيث هي ليست حراما،و إلاّ انسد باب الربح و التجارة،اذن،لا بد من نص شرعي يبين و يفسر ما أجمل اللّه في كتابه من ذكر الربا،و بتعبير ثان ان للشارع حقيقة شرعية،و اصطلاحا خاصا في معنى الربا،و قد دلت الأحاديث النبوية،و الروايات عن أهل بيت الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن الربا يثبت في موردين:

الأول في القرض مطلقا،من غير شرط سوى شرط الزيادة و المنفعة من ورائه، الثاني في غيره من المعاملات.

ربا القرض:

ربا القرض أن يقرض الإنسان شيئا،أي شيء كان،و يشترط على المستقرض المنفعة من وراء القرض،سواء أ كانت المنفعة من جنس المال،كمن أقرض عشرة دراهم بشرط أن يردها أحد عشر،أو من غير جنسه،كما لو اشترط أن يعمل المستقرض له عملا أو يعيره شيئا،قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«كل قرض حر نفعا فهو حرام».و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل اعطى رجلا مائة درهم على أن يزيده خمسة دراهم،أو أقل،أو أكثر؟فقال الإمام عليه السّلام:هذا هو الربا المحض.

و لو تبرع المستقرض بالزيادة من تلقائه،و من غير شرط كان له ذلك،فقد سئل الإمام عنه؟فقال:لا بأس ما لم يشترط.الربا يأتي من قبل الشرط،و انما تفسده الشروط.ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقترض بكرا،فرده بازلا رباعيا،ان خير الناس أحسنهم قضاء.

ص:278

و لأجل هذا النص،و كثير غيره اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن الربا يثبت في الدين بشرط الزيادة و المنفعة إطلاقا،سواء أ كانت العين من نوع المكيل أو الموزون أو المعدود أو المذروع،و سواء أ كانت المنفعة من نوع المال،أو من غيره.و بكلمة إن ربا القرض لا فرق فيه بين عين و عين،و لا بين منفعة و منفعة، فإذا قال الفقيه:هذا الشيء من الأعيان الربوبية،دون ذاك،أو قال:يحرم التفاضل بين مكيلين أو موزونين،و لا يحرم بين معدودين و مذروعين فإنما يريد تحديد ربا غير القرض،لان ربا القرض حده الزيادة فقط،آية زيادة تكون على آية عين من الأعيان.

ربا غير الدين:
اشارة

اتفق الفقهاء على أن الربا يثبت أيضا في البيع بالشرطين الآتيين،و اختلفوا في غير البيع،و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و السيد اليزدي في الملحقات إلى أن الربا يثبت في الصلح،و في كل معاوضة يمكن التفاضل فيها بين العوضين،و استدلوا على ذلك بالأدلة الدالة على تحريم الربا بوجه عام الشامل لكل زيادة،و أيضا استدلوا بنصوص خاصة دلت على اشتراط المماثلة، و عدم الزيادة،مع اتحاد الجنس،منها قول الإمام عليه السّلام:الفضة مثلا بمثل،و ليس فيها زيادة و لا نقصان،و المستزيد في النار،و هو شامل للبيع و غير البيع،و منها أن الإمام سئل عن الرجل يدفع إلى الطحان الطعام،فيقاطعه على أن يعطي صاحبه لكل عشرة أرطال اثني عشر رطلا دقيقا؟قال:لا.و المقاطعة غير البيع،فدل على أن الربا يثبت في غير البيع من المعاوضات،تماما كما يثبت بالبيع.و يشترط لثبوته في غير الدين شرطان:الأول أن يكون العوضان من جنس واحد،الثاني أن

ص:279

يكونا مما يكال أو يوزن.و فيما يلي البيان:

اتحاد الجنس:

1-هذا هو الشرط الأول،و ضابطه أن يصدق على كل من العوضين اسم الحقيقة النوعية التي توجد فيهما بجميع مقوماتها،كبيع الحنطة بالحنطة،أو بيع الحنطة بالدقيق،لأن الثاني متفرع عن الأول،أو بيع النشا بالدقيق،لأن الاثنين متفرعان عن أصل واحد،و هو الحنطة،و الدليل على هذا الشرط قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم»و قول الإمام الصادق عليه السّلام:

«كل شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثيلين بمثل إذا كانا من جنس واحد».

و بهذا الشرط يخرج العوضان اللذان يصدق عليهما اسم واحد،و لكن حقيقة كل منهما غير حقيقة الآخر،كالأرز بالزيت،حيث يصدق عليهما معا اسم الطعام،فالمعيار انما هو الاتحاد في الحقيقة النوعية،لا مجرد الاتحاد و الاشتراك بالاسم.

و اجمع الفقهاء إلاّ من شذ على أن الحنطة و الشعير جنس واحد،لا يجوز التفاضل بينهما،لقول الإمام عليه السّلام:«الحنطة و الشعير رأسا برأس،لا يزداد واحد منهما على الآخر.ان أصل الشعير من الحنطة».و أيضا أجمعوا على أن الغنم و المعز جنس واحد.

و نتيجة هذا الشرط أن غير المتجانسين،كالتمر و الحنطة فيجوز بيع أحدهما بالآخر،مع التساوي و التفاوت نقدا و نسيئة على المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة.

ص:280

الكيل و الوزن:

2-الشرط الثاني أن يكون العوضان مما يكال أو يوزن،فلا ربا فيما يباع عدا كالبيض،و لا مشاهدة كالثوب و الحيوان،فيجوز بيع بيضة ببيضتين،و ثوب بثوبين نقدا و نسيئة على المشهور بشهادة صاحب ملحقات العروة الوثقى،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن.و قال:لا بأس الثوب بثوبين،و البيضة ببيضتين،و الفرس بفرسين،ثم قال:كل شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد،فإذا كان لا يكال و لا يوزن فليس به بأس اثنان بواحد.

و قال الفقهاء في تحديد المكيل و الموزون:ان ما علم أنّه كان مكيلا أو موزونا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحرم التفاضل بينهما،حتى لو ترك الناس الكيل و الوزن فيه،و كل ما علم أنّه كان غير مكيل أو موزون في عهده جاز فيه التفاضل، حتى و لو صار مكيلا أو موزونا عند الناس بعده،و ان جهل الحال ينظر:فان اتفقت البلدان بكاملها على كيله أو وزنه فهو من الأعيان الربوية،و ان اختلفت بحيث يكون الشيء الواحد موزونا في بلد،و معدودا في بلد فلكل بلد حكم نفسه على ما هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،لأن الموضوعات يحكّم فيها عرف الناس و عاداتهم.

و تقول:لقد قرر العلماء ان الألفاظ تحمل على العرف العام،حتى و لو كان المخاطب بها من أهل العرف الخاص،لأن العرف الخاص متعدد و متفاوت فيتعذر ضبطه،و عليه فلا يجوز أن يكون لكل بلد حكم نفسه.

و الجواب:ان الاختلاف هنا في المصاديق و الافراد،أمّا المفهوم الكلي المراد من اللفظ فواحد عند الجميع،فان معنى المكيل هو الذي يكال بوعاء

ص:281

مقدر،و الموزون ما يوزن بعيار كذلك،و هذا لا تبدل فيه في كل عصر و مصر، و الاختلاف انما هو بالإفراد كما قلنا،و بديهة أن الأحكام الشرعية بالكليات التي يمكن ضبطها و تحديدها،لا بالجزئيات التي تختلف بحسب البلدان و الزمان.

فتحصل مما قدمنا أن الأعيان الربوبية هي كل ما كان من نوع المكيل و الموزون حبا كان،أو معدنا،أو دهنا،أو طيبا،أو فاكهة،أو نباتا،أو غير ذلك، فان كان العوضان من غير المكيل و الموزون جاز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا و متساويا،حتى و لو كانا من جنس واحد كثوب بثوبين نقدا و نسيئة،أمّا في القرض فلا تجوز الزيادة إطلاقا.

و ان كان أحدهما يكال أو يوزن دون الآخر جاز البيع إطلاقا مهما كان التفاوت نقدا،و نسيئة،كبيع الثوب بالحنطة.

و ان كان كل منهما يكال أو يوزن إلاّ أن أحدهما من غير جنس الآخر، كالأرز و السكر جاز البيع متساويا و متفاضلا نقدا،و نسيئة.

و ان كانا من جنس واحد فلا يجوز التفاضل بينهما لا نقدا و لا نسيئة، كالسكر بالسكر،و الأرز بالأرز،و يجوز بالتساوي نقدا،لا نسيئة بالإجماع،لأن للزمان قسطا من الثمن،كما قال أكثر من واحد.

لا ربا بين الوالد و الولد:

المشهور بين الفقهاء أنه لا ربا بين الوالد و ولده،و لا بين الزوج و زوجته، فيجوز لكل منهما أن يأخذ الفضل و الزيادة من الآخر.و أيضا لا ربا بين المسلم و بين الحربي،على أن يأخذ المسلم الفضل دون العكس،أي أن المسلم يأخذ الربا من الحربي،و لا يعطيه،فقد روي عن الإمام أبي جعفر الصادق عليه السّلام أنه قال

ص:282

ليس بين الرجل و ولده،و لا بينه و بين عبده،و لا بينه و بين أهله-أي زوجته-ربا.

و قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ليس بيننا و بين أهل حربنا ربا،نأخذ منهم ألف درهم بدرهم،و لا نعطيهم (1).

و المشهور أيضا بين الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر أنّه لا يجوز أخذ الربا من الذمي،و ان حكمه في ذلك حكم المسلم،أمّا ما جاء عن أهل البيت عليهم السّلام من أخذ الربا منه فشاذ متروك.و قال صاحب مفتاح الكرامة في مجلد المتاجر ص 332 ما نصه بالحرف:«ان أهل الكتاب في زماننا حربيون،لكنهم لا يغتالون، لشبهة الأمان،فلا إشكال في جواز أخذ الربا منهم».

و قال جماعة من الفقهاء:ان الحكم بعدم الربا بين الأب و الابن لا يتعدى الى الأم جمودا على حرفية النص،و اقتصارا لما خالف الأصل على موضع اليقين،كما أن الأب-هنا-لا يشمل الأب الرضاعي،للعلة نفسها.

و نحن على علم اليقين بأن نفي الربا بين الأب و الابن لا علة له إلاّ الأبوة، و هي بين الابن و الام أقوى منها بين الأب و ابنه،و بديهة أن العلم بعلة الحكم تماما كالعلة المنصوصة و أقوى،و عليه يتعدى الحكم إلى الأم.أجل،الأب الرضاعي غير الأب النسبي.

ص:283


1- عمل أبو حنيفة بهذا الحديث،فأباح للمسلم أن يأخذ الربا من الحربي،فتح القدير:300/5.

ص:284

بيع الثمار و الخضار و الزرع

بيع الثمار:
اشارة

هل يجوز بيع ثمار الشجر وحدها دون الأصل؟.فيه تفصيل:

1-أن يبيع الثمر قبل أن يظهر،و يبرز إلى الوجود

،و لا ريب في بطلان هذا البيع إطلاقا،مع الضميمة و دونها سنة واحدة،أو أكثر،لأن التعاقد على المعدوم لا يصح،حتى و لو وجد فيما بعد،و ما خالف ذلك من النص فهو شاذ متروك عند الفقهاء.

و يظهر من صاحب الجواهر أن بيع المعدوم باطل،من حيث هو بصرف النظر عن الغرر و الجهالة،قال ما نصه بالحرف:«يبطل للإجماع،و للانعدام فضلا عن الغرر و الجهالة».ثم قال بعد أسطر:«لا يجوز البيع لقاعدتي المعدوم و الغرر».

و يلاحظ بأن سبب البطلان هو الغرر،لا العدم،إذ لا مانع من بيع المعدوم- لو لا الغرر-إذا كان التسليم ممكنا عند الاستحقاق.و مهما يكن،فإن العبرة بالنتيجة لا بالمقدمات،و هي واحدة على كلا التقديرين،أعني عدم جواز بيع الثمر قبل وجوده.

2-بيع الثمار عند بروزها في مرحلتها الأولى،و قبل بدو صلاحها

،و قد ذهب المشهور إلى البطلان للجهالة و الغرر،و لقول الإمام عليه السّلام:«لا تباع الثمرة،

ص:285

حتى يبدو صلاحها».

و قيل:يجوز بيعها مع الضميمة عاما واحدا.و قال ثالث:يجوز البيع منفردة بشرط السلامة.

3-بيعها بعد بدو صلاحها،و قبل نضوجها

،و قد أجمع الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على جواز بيعها عاما واحدا،أو أكثر منفردة و منضمة،فقد جاء الحديث عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا تبتاعوا الثمرة،حتى يبدو صلاحها.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن النخل و الثمر يبتاعهما الرجل قبل أن تثمر؟.قال:لا،حتى تثمر،و تأمن ثمرتها من الآفة،فإذا أثمرت فابتعها أربعة أعوام مع ذلك العام،أو أكثر أو أقل.و قال:إذا كانت فاكهة في موضع واحد فأطعم بعضها فقد حل بيع الفاكهة كلها،و إذا كان نوعا واحدا-أي لم يطعم بعضها-فلا يحل بيعه،حتى يطعم،فان كان أنواعا متفرقة فلا يباع منها شيء،حتى يطعم كل منها وحده،ثم تباع تلك الأنواع.

و يجوز بيع الثمر مع أصولها قبل بدو الصلاح و بعده.و المراد ببدو الصلاح أن تبلغ الثمرة مبلغا يؤمن عليها من الآفة،كثمر النخل يصفر أو يحمر،و الحب ينعقد،و ما إلى ذاك مما يعرفه أهل الخبرة و الاختصاص.

بيع الخضار:

يجوز بيع أصول الخضار و البقول مطلقا،كأصل الباذنجان و الطماطم و الخيار و الباقلاء-أي الفول-يجوز بيعها بالذات قبل ان يظهر ثمرها،لأنها من الأعيان التي لها مالية في نظر العرف،فتكون،و الحال هذه،لها قابلية التملك و التمليك،أمّا بيع ثمرها من غير أصولها،كبيع لقطة منها،أو أكثر فلا يجوز إلاّ

ص:286

بعد الظهور و الانعقاد،فإذا ظهر جاز البيع لقطة أو لقطتين أو ثلاثا إجماعا بشهادة صاحب الجواهر،حيث لا جهالة و لا غرر بعد الظهور و الانعقاد.و سئل الإمام عليه السّلام عن ورق الشجر:هل يصلح شراؤه ثلاث خرطات،أو أربعا؟.قال:إذا رأيت الورق في شجرة فاشتر منه ما شئت من خرطات.

و قال الفقهاء:ان ظهور اللقطة الاولى بمنزلة الضميمة إلى الثانية،و من هنا صح البيع،و الذي نراه أن سبب الصحة ليس انضمام الموجود إلى المعدوم،بل لأن ما ظهر من الاولى يدل على ما لم سيظهر من الثانية-في الغالب-و المرجع في معرفة اللقطة إلى العرف،فما دل على صلاحيته للقطع يقطع،و ما دل على عدمه لصغره فلا يقطع.

و استثنى الفقهاء من ذلك الخضار المستورة في الأرض،كالبطاطس و الثوم و الجزر،و قالوا:لا يجوز بيعها،و لا الصلح عليها،و لا يحكّم العرف فيها،و ان كانت موجودة،لأنها غير مرئية و لا موصوفة،فيبطل بيعها للجهالة و الغرر.

و يلاحظ بأن التعليل بالجهالة و الغرر معناه أن الاستتار في الأرض من حيث هو لا يوجب البطلان،و انما الموجب هو نفس الجهالة،و هذا اعتراف صريح بأن الجهالة إذا ارتفعت صح البيع،و ان كان المبيع مستورا،و ما من شك أن التعرف على الخضار المستورة في الأرض غير محال،فإذا أمكنت معرفتها بطريق من الطرق صح بيعها.

بيع الزرع:

لا يجوز بيع ناتج الزرع قبل انعقاده،بحيث يكون الزرع للبائع،و ناتجه للمشتري،لأن الناتج،و الحال هذه،معدوم،و بيعه يستلزم الغرر،كما تقدم،

ص:287

أجل،يجوز بيع الزرع نفسه مطلقا،سواء انعقد الحب،أو لم ينعقد،لأنه من الأعيان المملوكة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بأن تشتري زرعا أخضر،ثم تتركه،حتى تحصده إن شئت،أو تعلفه قبل أن يسنبل،و هو حشيش.

المزابنة و المحاقلة:

المراد بالمزابنة-هنا-أن تبيع ثمر النخل،و هو على أصله بمقدار معلوم من التمر،أمّا المحاقلة فهي بيع السنبل بمقدار معين من حبه.

و أجمع الفقهاء على عدم جواز بيع ثمار النخل بتمر منها،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع المزابنة و المحاقلة،و لأنه يستلزم اتحاد الثمن و المثمن،و اختلفوا في بيعها بتمر من غيرها،و المشهور المنع و عدم الجواز،لأنه لا يؤمن أن يؤدي إلى الربا،إذ المفروض أن بيع الجنس بجنسه،مع التفاضل ربا محرم إذا كان من المكيل أو الموزون،كما تقدم في الفصل السابق.

أمّا الفواكه الأخر غير التمر إذا كانت موزونة فحكمها عند المشهور حكم التمر،لا يجوز بيعها بمقدار منها،و لا من غيرها إذا كان من جنسها،كبيع العنب بالعنب،و التفاح بالتفاح،و يجوز بغير جنسها.

و اتفقوا على أن بيع السنبل بحب منه لا يجوز،و اختلفوا في بيعه بحب من غيره،و لكنه من جنسه،كبيع سنبل الحنطة بحنطة أخرى،و ذهب المشهور إلى عدم الجواز.

و يصح بيع الزرع قبل أن يصير سنبلا،يصح بيعه بحب من جنس ما يؤول إليه،أو من جنس آخر،لأنه حشيش غير مطعوم،و لا مكيل و لا موزون،فلا يتحقق الربا.

ص:288

و خير الوسائل لمن أراد أن يبيع الثمرة على أصلها بمقدار من جنسها،أو يبيع السنبل كذلك،خير الوسائل أن يبيعها بثمن معين نقدا،ثم يشتري من المبتاع مقدارا معينا من الثمرة،أو الحب بالثمن الذي باعه فيه،و يعين وقت التسليم،فيدخل في باب السلم.

العرية:

العرية هي النخلة الواحدة يملكها الرجل في دار رجل آخر،أو أرضه،و قد استثنى الفقهاء من عدم جواز بيع ثمر النخل بالتمر،استثنوا العرية،و قالوا:يجوز أن يشتري ثمرها بمقدار معين من التمر يدفعه حالا،و لا يجوز تأجيله،و لا يشترط القبض في المجلس،بل التعجيل بآية صورة تكون،كما جاء في الحدائق و الجواهر،قال الإمام الصادق عليه السّلام:رخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تشتري العرايا بخرصها تمرا (1).

و هذا الحكم يختص بالنخلة الواحدة فقط،و لا يتعدى إلى النخلتين فأكثر، و لا إلى شجرة من غير النخل،اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع اليقين من حرفية النص.

مسائل:
1-إذا اشترى الثمرة على الشجرة

،أو اشترى الزرع،و لم يحدد المتعاقدان وقتا للقطف أو الحصاد حين التعاقد وجب أن يبقى كل شيء إلى أوانه،فلا يتعجل البائع على المشتري،و لا يؤجل هذا عن الأوان،و المرجع في

ص:289


1- من معاني الخرص التقدير،يقال خرص النخلة إذا قدر ما عليها من الثمر.

ذلك العرف وحده.

2-يجوز للبائع أن يستثني ثمرة شجرة بعينها أو أكثر

إجماعا و نصا،و منه أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل يبيع الثمر،و يستثني كيلا،أو ثمرا؟قال:لا بأس به.

3-إذا قبض المشتري الثمرة

،أي أن البائع خلى بينه و بينها،ثم تلفت كان التلف من مال المشتري لا من مال البائع،قال صاحب الجواهر:«هذا هو الأشبه بالأصول و القواعد،لخروجه عن الضمان بالقبض،فلا انفساخ و لا فسخ».

و إذا كان الهلاك قبل القبض فهو من مال البيع،لقاعدة:«كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه».

و إذا هلك البعض دون البعض انفسخ العقد بالنسبة إلى الهالك بحصته من الثمن،و صح بالنسبة إلى الباقي السليم بحصته من الثمن أيضا،و للمشتري حق الخيار في الفسخ،لتبعيض الصفقة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه عندنا».

و إذا أتلف الثمار و الزرع أجنبي قبل القبض فالمشتري بالخيار بين الفسخ، و بين مطالبة المتلف بالبدل من المثل أو القيمة.

4-يجوز أن يبيع ما اشتراه من الثمار و الخضار و الزرع قبل القبض و بعده

بزيادة أو نقيصة

،لأنه مالك،و سئل الإمام عليه السّلام عن رجل اشترى الثمرة،ثم باعها قبل القبض؟.قال:لا بأس به.إذا وجد ربحا فليبع.

5-إذا مر الإنسان صدفة و من غير قصد بشجرة الفاكهة،أو الخضار

جاز له أن يأكل منها قدر حاجته،على شريطة ان لا يحمل منها شيئا،و ان لا يعلم أو يظن بعدم رضا المالك.قال صاحب الجواهر:«هذا ما رواه أصحابنا،و أجمعوا عليه، لأن الأخبار بذلك متواترة،و الإجماع منعقد،و لا عبرة بخبر أو قول شاذ متروك.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا بأس بالرجل يمر بالثمرة،و يأكل منها،و لا يفسد، و لا يحمل شيئا فقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يبنى الحيطان في المدينة،لمكان المارة».

ص:290

الإقالة

معناها:

المراد بالإقالة-هنا-اتفاق المتعاقدين على نقض العقد و فسخه بعد إبرامه، و ترد الإقالة كل شيء إلى ما كان قبل العقد،و يتضح بهذا انها ليست بيعا،و ان لا أثر رجعي لها إلاّ باتفاق المتعاقدين،كما أنّها لا تختص بالبيع،بل تشمل جميع العقود،ما عدا الزواج و الوقف،و تصح قبل القبض و بعده،و بكل ما يدل عليها من قول أو فعل.

و أيضا تصح في جميع المعقود عليه،و في بعضه دون بعض،قال صاحب الجواهر:«لإطلاق الأدلة معتضدا بعدم الخلاف».

النص:

جاء في الحديث الشريف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارته،حتى ضمن له اقالة النادم،و انظار المعسر،و أخذ الحق وافيا و غير واف.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:أيما رجل أقال مسلما في بيع أقال اللّه عثرته يوم القيامة.إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

ص:291

الشرط:

يشترط في الإقالة أن تكون بنفس الثمن المسمى،دون زيادة أو نقصان، و إلاّ بطلت إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل اشترى ثوبا، و لم يشترط على صاحبه شيئا،فكرهه،ثم رده على صاحبه،فأبى أن يقبله إلاّ بوضيعة؟.قال:«لا يصلح أن يأخذ بوضيعة،فإن جهل فأخذه و باعه بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول».أي يرد الثوب،لأنه باق على ملك المشتري.و مثل هذا كثيرا ما يقع،و لكن قل من ينتبه إليه.

و لا يشترط في الإقالة اتحاد المجلس،و لا بقاء العين قائمة حين الإقالة، فإن كانت موجودة أخذها صاحبها،و إلاّ أخذ البدل من المثل و القيمة،و هذا الحكم يقتضيه الفسخ بطبعه،حيث يعود كل شيء إلى ما كان،و على صاحب اليد أن يرد مال الغير ما دام قائما،فإن هلك فعليه أن يرد البدل.

و لو اختلف المتقايلان في مقدار الثمن فالقول قول البائع بيمينه،لأن الثمن كالدين في ذمته،أو أمانة في يده،فيقبل قوله في قدره،لأصل عدم الزيادة.و لو اختلفا في قيمة التالف أخذ بقول من ينكر الزيادة.

ص:292

المجلد 4

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

القرض و الدين

اشارة

ص:3

ص:4

بين القرض و الدين:

يشترك الدّين مع القرض في أن كلا منهما يتوقف الانتفاع به على استهلاكه،و أنّه حق ثابت في الذمة،و يفترق القرض عن الدين في أن العين المقترضة تسدد بمثلها في الجنس و الصفات،فإذا استقرضت نقدا ثبت في ذمتك للمقرض نقد مثله،و كذلك إذا استقرضت طعاما أو شرابا،و ما إليه،و على هذا ينحصر القرض في المثليات دون القيميات.

أمّا الدين فيثبت في الذمة بسبب من الأسباب الموجبة له،كالقرض و البيع و الإيجار و الزواج و الخلع و الجنابة و النفقة و الحوالة،و ما إلى ذاك،و على هذا يكون الدين أعم من القرض،و يقضي بمثله ان كان مثليا،و بقيمته ان كان قيميا.

و الدائن هو صاحب الدين،و المدين و المديون بمعنى واحد،و الغريم يشمل الدائن و المدين،و لا يتعين إلاّ بالقرينة.

كراهية الدين:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يستقرض الإنسان على ظهره إلاّ و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة و اللقمتين،و التمرة و التمرتين إلاّ أن يكون له ولي يقضي دينه من بعده.

و حمل الفقهاء هذه الرواية على كراهية الدين إلاّ مع الحاجة،أو يكون له مال يرجع إليه عند الوفاء و السداد،أو ولي يفي عنه.و إذا لم يكن شيء من ذلك فالأفضل أن يتقبل الصدقة،بل يتصدى لها،و لا يتعرض للدين خوفا على حقوق

ص:5

الناس من الضياع.

و قال بعض الفقهاء:يحرم الاقتراض،مع العجز عن الوفاء.و رد صاحب الجواهر هذا القول بأنه مخالف لظاهر النصوص،و فتاوى الفقهاء الذين أجازوا الدين،حتى و لو لم يكن للمستقرض مقابل،و قدرة على الوفاء.

نية القضاء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:من استدان دينا،فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق.و من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من اللّه حافظان يعينانه على أداء أمانته،فإن قصرت نيته عن الأداء قصرت عنه المعونة بقدر ما قصر من نيته.

و بهذا أفتى الفقهاء،و قالوا:لما كان الوفاء واجبا كان العزم عليه كذلك.

ثواب الدائن:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لأن أقرض قرضا أحب إليّ من أن أتصدق بمثله.

و قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من أقرض مؤمنا ينتظر به ميسرة كان ماله زكاة، و كان هو في صلاة الملائكة،حتى يؤدى إليه.

و قال:مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة،و القرض بثمانية عشر، و انما صار القرض أفضل من الصدقة لأن المستقرض لا يستقرض إلاّ من حاجة، و قد تطلب الصدقة من غير حاجة إليها.

و أضاف الشهيد الثاني إلى هذا ان درهم القرض يعود إلى صاحبه فيقرضه ثانية،فيتنفع به الناس،و درهم الصدقة لا يعود،فينقطع النفع.

ص:6

كتابة الدين:

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من ذهب حقّه على غير بينة لم يؤجر.

و قال:لا تستجاب دعوة لرجل كان له مال فأدانه من غير بينة،ان اللّه سبحانه يقول له:أ لم آمرك بالشهادة؟ و حمل الفقهاء الآية و الرواية على استحباب الكتابة دون الوجوب،بل ان كثيرا منهم لم يتعرضوا لحكم الكتابة إطلاقا في باب الدين.

العقد:

الدين من العقود التي تحتاج إلى الإيجاب من الدائن،و القبول من المدين، و يتحقق كل منهما بكل ما دل عليه من قول أو فعل (2)قال صاحب الجواهر:

«الظاهر دخول المعاطاة فيه،بل هو أولى من البيع،و السيرة فيه أتم».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و صاحب مفتاح الكرامة إلى أن الملك يتحقق بالعقد و قبض العين،و لا يتوقف على التصرف،و قال البعض:لا يتحقق إلاّ مع التصرف.

و يرد هذا القول بأن التصرف شرط زائد،و الأصل يقتضي عدمه،و بأن

ص:7


1- البقرة:282. [1]
2- للعقد معنيان:خاص،و هو الإيجاب و القبول باللفظ،و عام،و هو كل ما دل على توافق الإرادتين على شيء واحد،سواء أ كانت الدلالة باللفظ أو بالفعل،و نحن-في الغالب-نطلق العقد في هذا الكتاب بالمعنى العام لا بالمعنى الخاص.

الملك هو المسوغ للتصرف فكيف يكون سببا له؟.قال صاحب الجواهر:

«لو لا الإجماع لاتجه القول بحصول الملك بمجرد العقد من غير حاجة إلى القبض،كما هو الشأن في غيره من العقود.و لكن مفهوم الدين لا يتحقق من غير القبض».

و تسأل:هل الدين من العقود الجائزة،بحيث يجوز للدائن أن يرجع بالعين،و ينتزعها من يد المدين بعد أن يقبضها،و قبل أن يتصرف بها؟.

و يستدعي الجواب عن هذا التساؤل التفصيل على الوجه التالي:

1-أن يرجع الدائن بعد العقد،و قبل القبض،و ما من شك أن له العدول و الرجوع،لأن تمليك العين في الدين لا يتحقق إلاّ بعد القبض،و لا يجوز للمدين أن يقبض العين إلاّ بإذن الدائن فعقد الدين في هذه الصورة جائز.

2-أن يحاول الدائن الرجوع بعد العقد و القبض،و قبل التصرف،و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الدائن لا يحق له ذلك،لأن المدين قد ملك العين بالقبض،و وجب عليه مثلها في ذمته،و الأصل عدم خروجها عن ملكه،و عليه يكون العقد لازما من جانب الدائن،و جائزا من جانب المدين،حيث يجوز له إرجاع العين لصاحبها قبل أن يتصرف بها، و ليس له أن يأبى و يمتنع عن قبولها.

3-أن يطالب الدائن ببدل العين بعد أن يتصرف بها المدين،و لم يكن قد أخذ التأجيل شرطا في العقد،و بديهة أن للدائن تمام الحق بالمطالبة بالبدل في هذه الصورة متى شاء و أراد،ما دام حقه ثابتا في ذمة المدين،كما أن للمدين دفع البدل متى شاء،و تكون النتيجة ان العقد جائز من الجانبين بالقياس إلى بدل العين،و عدم وجوب الإمهال و الانتظار في دفعه،أو

ص:8

المطالبة به.

4-أن يكون التأجيل إلى أمد شرطا في العقد،و بعد أن يتصرف المدين يطالبه الدائن بالبدل،و قد ذهب المشهور إلى أن شرط الأجل غير لازم،و ان للدائن أن يطالب المدين قبل حلول الأجل،لأن هذا الشرط عند المشهور مجرد وعد لا يجب الوفاء به،و لأن الدائن محسن،و ما على المحسنين من سبيل.

قال صاحب الجواهر:«لا أجد خلافا في ذلك قبل الكاشاني».أجل،إذا اشترط التأجيل ضمن عقد لازم وجب الانتظار،كما لو باعه شيئا على أن يقرضه إلى أمد،فيصبح التأجيل لازما تبعا للزوم العقد،تماما كما لو باع الدار،و اشترط أن يسكنها سنة،فتكون السكنى،و الحال هذي،حقا كالثمن.

و قال جماعة،منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة:بل يلزم الشرط،و يجب الانتظار إلى حلول الأجل،حتى و لو لم يشترط التأجيل في عقد لازم.

و نحن مع هؤلاء،لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و الدين عقد،فيجب الوفاء به،و بجميع متعلقاته،و يستأنس له بقوله تعالى إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فإن فيه إشارة إلى أن للأجل أثره.و لو جازت المطالبة قبل حلول الأجل لكان ذكر الأجل و عدمه سواء،و هو خلاف المعهود من طريقة العرف.

هذا،إلى أن المدين إنما أقدم على الاستدانة بشرط التأجيل و الانتظار،و لو أجزنا مضايقته قبل الأمد المضروب لألزمناه بما لم يلزم به نفسه.و ليس من شك أن هذا إساءة،لا إحسان.

و يأتي في الفقرة التالية ما يدل على أن للدائن أن يترك جزءا من دينه ليعجله المدين قبل الأجل،و لو كان الانتظار غير لازم لكان الدائن في غنى عن

ص:9

ذلك.

نعم،لو اجله بعد انعقاد العقد و تمامه لم يلزم التأجيل،سواء أ كان الدين الثابت قرضا أو مهرا أو ثمن مبيع،أو غيره،لأنه شرط ابتدائي لا يجب الوفاء به، و لأن المدين أقدم على أن يطالب بالحق متى شاء صاحبه.

و قد تلخص أن عقد الدين ليس لازما بقول مطلق،و لا جائزا كذلك،بل يكون جائزا من جانب الدائن و المدين قبل القبض،و من جانب المدين دون الدائن بعد القبض و قبل التصرف و جائز من الجانبين بعد التصرف بالنسبة إلى الأجل المضروب،حيث لا يجب الالتزام به عند المشهور،و يجب عندنا بالقياس إلى الدائن.

تعجيل الدين بإسقاط بعضه:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون له دين على آخر،فيقول له قبل أن يحل الأجل:عجل النصف من حقي على أن أضع عنك النصف،أ يحل ذلك؟ قال:نعم.

و سئل أيضا عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى،فيأتيه غريمه، و يقول له:انقدني كذا و كذا،و أضع عنك بقيته؟قال:لا أرى بأسا،انّه لم يزد على رأس المال.

و في هذا إشعار بأنّه إذا اشترط الانتظار لزم الوفاء بالشرط،و إلاّ كان الدائن في غنى عن الحط من دينه.

و لا يجوز تأجيل المعجل بشرط الزيادة،لأنه ربا محرم.

و إذا رضي المدين أن يعجل ما عليه من الدين المؤجل قبل الأوان فله أن

ص:10

يعدل-مثلا-إذا اشترى بنسيئة،أو تزوج بمؤجل،ثم رضي المشتري أو الزوج أن يعجل المؤجل،و يسقط الأجل فله بعد الرضا بإسقاط الأجل أن يعدل،و يرجع إلى الأجل،و ليس لصاحب الدين أن يطالبه قبل الأمد المضروب،محتجا برضاه.لأن مجرد الرضا ليس عقدا لازما،و لا تابعا لعقد لازم،و إنما هو وعد و كفى.

الشروط:

يشترط في الدين بالإضافة إلى العقد و القبض أمور (1):

1-أن يكون كل من الدائن و المدين أهلا للتصرف بالبلوغ و العقل.

2-أن يكون الدائن مالكا،أو مأذونا،كما هو الشأن في جميع التصرفات.

3-أن تكون العين قابلة للتمليك و التملك،و معلومة بالجنس و الوصف،تماما كالمبيع،لأن الجهل بالعين يتعذر معه الوفاء،و يسبب النزاع.

شرط المنفعة:

سبق في الجزء الثالث فصل الربا،فقرة«فساد المعاملة الربوية».

و فقرة«ربا القرض»أن الدين مع شرط النفع ربا محرم،و مفسد للمعاملة، لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«كل قرض يجر منفعة فهو حرام».

و سبق أيضا ان الزيادة و المنفعة،تبرعا و من غير شرط،تجوز،لأن خير

ص:11


1- الشروط بالمعنى الخاص لا تشمل الأركان،كالإيجاب و القبول،لأن الركن داخل في نفس الماهية،و الشرط خارج عنها،و الشرط بالمعنى العام يشمل الأركان،و نحن نطلق الشروط في أبحاث الكتاب و نريد بها المعنى العام.

الناس أحسنهم قضاء،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام.

و قال صاحب الجواهر:«الأقوى حرمة القرض بشرط البيع محاباة-أي بأقل من القيمة-أو الإيجار،أو غير ذلك من العقود فضلا عن الهبة و نحوها،لأنه يجر النفع المحرم فتوى و نصا».

المماطلة مع القدرة:

تحرم المماطلة بالوفاء،مع القدرة،كما تحرم مضايقة المدين،مع الإعسار،قال تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ .و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لي الواجد يحل عرضه و عقوبته.و اللي المماطلة.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما لا يحل لغريمك أن يمطلك،و هو موسر كذلك لا يحل لك أن تعسره إذا علمت أنّه معسر.

و إذا لم تجز المطالبة مع العسر فبالأولى عدم جواز الحبس،و من المشهور:

المفلسون لا يحبسون.قال الإمام الصادق عليه السّلام:انّ عليا عليه السّلام كان يحبس في الدين، فإذا تبين له إفلاس الرجل و حاجته خلى سبيله،حتى يستفيد مالا،و استعدت امرأة على زوجها عنده،لأنه لم ينفق عليها،و كان معسرا،فأبى أن يحبسه،و قال:

ان مع العسر يسرا.

صورة الوفاء:

كل ما تساوت أجزاؤه و صفاته يرد مثله عند الوفاء،كالحنطة و الشعير لأن الثابت في الذمة المثل،لا القيمة،و لا فرق في ذلك بين أن تبقى قيمته على ما كانت حين القرض،أو تزيد،أو تنقص.أجل،إذا تعذر وجود مثله عند الوفاء

ص:12

وجبت قيمته السوقية في هذا الحين،لا عند القرض،لأن الذمة تبقى مشغولة بالمثل إلى حين الوفاء،و عنده تنتقل إلى القيمة.

و كل ما تفاوت أجزاؤه و صفاته كالحيوان تثبت قيمته السوقية يوم القرض، أي اليوم الذي تسلم فيه المقترض العين.

السعي في قضاء الدين:

ذهب المشهور إلى أن على المدين أن يسعى في قضاء ديونه،تماما كما يجب عليه أن يسعى من أجل قوته،و قوت ما يعيل،لأن كل ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.

وفاء بعض الدين:

إذا أراد المدين أن يسدد بعض الدين،فهل للدائن أن يمتنع،و يقول:لا أقبل إلاّ الجميع دفعة واحدة؟.

الجواب:ليس له ذلك،بل يأخذ الميسور،و يطالب بالباقي،حتى و لو كان قد أعطى المال للمدين دفعة واحدة،لأنه ليس من باب تعدد الصفقة،بل الجزء هنا تماما كالكل في أن كلا منهما حق يجب أخذه،و لا يرتبط وجود أحدهما بالآخر.

وفاء الدين من الدية:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قتل،و عليه دين،و لم يترك مالا،فأخذ أهله الدية من قاتله،أ عليهم ان يقضوا دينه؟قال:نعم.

ص:13

و جميع الفقهاء أفتوا بعدم الفرق بين الدية و سائر أعيان التركة،من حيث تعلق الدين بها،سواء أ كان القتل خطأ أو عمدا.

و قال جماعة:إذا قتل المدين عمدا فليس لأوليائه القود من القاتل إلاّ بعد أن يضمنوا المال لأربابه،و في ذلك رواية عن أهل البيت عليهم السّلام.

الوفاء من بيت المال:

اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن من استدان في غير معصية،و عجز عن الوفاء تسدد ديونه من بيت المال،قال الإمام عليه السّلام:من طلب هذا الرزق من حله، ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه،فان غلب عليه فليستدن على اللّه،و على رسوله ما يقوت به عياله.

و قد نص القرآن الكريم على ذلك في الآية 60 من سورة التوبة إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

و الغارمون قوم وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه.

مستثنيات الدين:

يجب على المدين أن يبيع جميع ما يملك في وفاء ديونه،و يستثني له دار السكنى،و قوت يوم و ليلة له و لعياله،و ثيابه و ثيابهم،و كتب العلم ان كان من أهله،و ان لم يفعل حجر عليه الحاكم الشرعي،و باع أملاكه بالشروط المذكورة في باب الحجر.

و يدل على استثناء البيت قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يخرج الرجل من

ص:14

مسقط رأسه بالدين.

و قال صاحب الحدائق:لم أقف على نص في استثناء ما عدا البيت،و لكنه المشهور،و لعل المستند فيه الضرورة و الحاجة.

مجهول المالك:

إذا استدان من شخص،ثم غاب الدائن بحث عنه المدين ما استطاع،فان لم يعرف له عينا،و لا أثرا،و لا وكيلا،و لا وليا،و لا وارثا تصدق بالدين عن صاحبه،كما هو الحكم في مجهول المالك،لأن المورد من أفراده و مصاديقه.

و بهذه المناسبة نشير إلى الفرق بين اللقطة،و مجهول المالك،و رد المظالم.

اللقطة هي المال الضائع الذي لا يد لأحد عليه،أما حكمها فان كانت قيمتها دون الدرهم فان للملتقط أن يتملكها دون تعريف،و ان كانت قيمتها درهما فما فوق عرّفها سنة كاملة،فان لم يظفر بصاحبها تخير بين أن يتصدق بها على أن يضمنها إذا ظهر المالك،و بين إبقائها في يده أمانة،و بين أن يتملكها بشرط الضمان أيضا،و ان تلتقط من غير الحرم،و يأتي التفصيل في باب اللقطة ان شاء اللّه.

أمّا مجهول المالك فهو كل ما استقر في ذمتك من مال الغير،أو كان عينا خارجية استوليت عليها،و لا تعرف صاحب المال الذي استقر في ذمتك،و لا صاحب العين التي في يدك،على شريطة أن لا تكون قد التقطتها،و من مجهول المالك ما يؤخذ من الغاصب و السلطان الظالم،لأنهما قد أخذا من صاحب اليد.

و لا فرق في المالك المجهول بين من عرفته أولا،ثم جهلته،و بين من جهلته من

ص:15

أول الأمر،كما لو كنت في مكان مع شخص تجهل هويته،ثم ذهب،و ترك بعض أمتعته نسيانا.

أمّا المظالم فقال صاحب مفتاح الكرامة في الجزء:17/5:ان مجهول المالك،و رد المظالم شيء واحد على ما هو المشهور.

و قال صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة:لا يشترط تسليم مجهول المالك إلى الحاكم الشرعي،بل يتصدق به عن صاحبه بعد اليأس من معرفته، و على هذا فتوى الفقهاء،و النصوص عن أهل البيت عليهم السّلام و منها أن الإمام عليه السّلام سئل عمن وجد متاع شخص معه،و لم يعرف صاحبه؟قال:إذا كان كذلك فبعه و تصدق به.و هذا النص الصريح يدل على ان مجهول المالك لا يشترط فيه اذن الحاكم،و لا العدالة في المعطي،و لا المعطى (1).

قسمة الدين:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن قسمة الدين لا تصح.

و مثال ذلك أن يكون لاثنين دين في ذمة زيد و عمرو،فيتراضيان على أن يكون ما في ذمة زيد لأحدهما،و ما في ذمة عمرو للآخر،و قد منع الفقهاء من ذلك، و قالوا:الحاصل من الدين لهما،و الهالك عليهما،و استدلوا بأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجلين بينهما مال،منه دين،و منه عين،فاقتسما العين و الدين،فحصل

ص:16


1- بقيت مسألة هامة،و هي ما إذا عرف صاحب المال بعد التصدق عنه،و طالب به المتصدق،فهل يضمن،و يجب عليه أن يدفع له العوض من المثل و القيمة؟و القاعدة تقتضي عدم الضمان لأن التصدق كان باذن من الشرع،و سنتكلم عن ذلك و عن أعراض الإنسان عن ماله في باب اللقطة إن شاء اللّه.

الذي لأحدهما دون الآخر،أ يرد على صاحبه؟ قال:نعم.

سقوط النقد:

إذا كان الدين من نوع النقد الذي له قيمة بنفسه،كالذهب و الفضة،ثم أسقطته الدولة،و أبطلت التعامل به،إذا كان كذلك وجب دفع المثل،و ان كان النقد من نوع الورق الذي لا قيمة له إلاّ باعتبار الدولة وجب على المدين الوفاء بالنقد الجاري،و تقدر القيمة يوم سقوط النقد،لأن المدين يبقى مطلوبا بالنقد الأول،و مسؤولا عنه إلى حين إسقاطه،و في هذا الحين تتحول المسؤولية من النقد القديم إلى النقد الجديد.

الموت ينقض الأجل:

اتفقوا على أن الدين المؤجل يصير حالا بموت المدين،لأن الميت لا ذمة له،و الوارث غير مسؤول،لأن الإنسان لا يؤاخذ بموت غيره،فيتعين تعلق الدين بأعيان التركة منذ وفاة المدين،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان على رجل دين إلى أجل،و مات حل الأجل.

و إذا مات الدائن ينتقل المال الذي اشتغلت به ذمة المدين إلى الورثة، و يبقى الأجل على ما كان عملا بالاستصحاب.

التنجيم:

التنجيم أن يوزع الدين على أقساط تستوفي في أوقات معينة،و هو صحيح

ص:17

و جائزا شرعا،و لكن إذا اشترط الدائن على المدين أنّه إذا تأخر عن أداء قسط في حينه تحل بقية الأقساط فلا يجب العمل بهذا الشرط.و سبق الكلام عن ذلك في الجزء الثالث فصل النقد و النسيئة فقرة التأجيل.

و الكلام عن التنجيم إنما يتم بناء على ما اخترناه من أن شرط التأجيل في الدين يجب الوفاء به،أمّا على قول المشهور من عدم وجوب الوفاء فلا موضوع للكلام عنه.

مرور الزمن:

صرح أكثر الفقهاء بأن الحق لا يسقط بترك المطالبة به،مهما طال الزمن، لأنه متى ثبت بسبب شرعي لا يسقط إلاّ بمسقط شرعي،و مرور الزمن ليس من الأسباب المسقطة في الشريعة.

و نقل صاحب الحدائق في المجلد الخامس آخر باب الدين عن الشيخ الصدوق:«ان من ترك دارا أو عقارا أو أرضا في يد غيره فلم يتكلم و لم يطالب، و لم يخاصم في ذلك عشر سنين فلا حق له و يدل عليه ما روي عن الإمام عليه السلام ان الأرض للّه جعلها وقفا على عباده،فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية بغير سبب أو علة أخرجت من يده،و دفعت الى غيره،و من ترك مطالبة حق له عشر سنين فلا حق له.و هذا صريح في أن ترك المطالبة بالحق عشر سنين يسقط من الأساس».و به يظهر أن قول الصدوق قريب مما عليه الشرائع الوضعية-ثم قال صاحب الحدائق-و بالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال.

و وجه الاشكال ان الرواية شاذة،لم يعمل بها غير الصدوق(ت 381 ه) و قد طعن جماعة بسندها.و غرضنا من الإشارة إلى الرواية و قول الصدوق التنبيه

ص:18

إلى أن في الشريعة الإسلامية أثرا و جذورا لمرور الزمن الذي أقرته و أخذت به الشرائع الوضعية.

المقاصة:

إذا اقترض منك شخص شيئا،و اقترضت أنت منه ما يتحد مع ما اقترض جنسا و وصفا كان ما أخذته منه وفاء لتمام حقك ان ساواه في الكم،و ان نقص سقط منه بمقدار ما أخذت،و ان زاد كنت مسؤولا عن الزيادة.و ليس هذا من المقاصة في شيء،لأن كلا القرضين كان بإرادة الطرفين،و يسمى تهاترا إن اتفقا بالجنس و الوصف و الكم.

و ان اقترضت منه من غير جنس ما اقترض منك،كما لو أخذ نقدا، و أخذت طعاما،ثم امتنع عن وفائك،و ارضائك جاز لك أن تحتسب ما في ذمتك له من الطعام عوضا عما لك في ذمته من النقد،على أن تعتبر سعر الطعام يوم المعاوضة و المبادلة،لا يوم القبض.أجل،إذا أعطاك الطعام بداعي الوفاء اعتبرت السعر يوم القبض،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل له دين على آخر،و لما حل الأجل أعطاه طعاما أو قطنا دون أن يذكرا السعر،و بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع سعر ما أعطاه أو نقص،فأي سعر يحسب؟قال يحسب السعر وقت الدفع.

و إذا جحدك المدين،أو ماطل جاز لك أن تأخذ من ماله بكل سبيل مقدار حقك،دون تعد،لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1).

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده،ثم

ص:19


1- البقرة:194. [1]

يظفر من ماله بقدر الذي جحد،أ يأخذه،و ان لم يعلم الجاحد بذلك؟قال:نعم.

و الفقهاء يسمون هذا مقاصة،و سنعقد لها فصلا مستقلا ان شاء اللّه في آخر باب القضاء.و لا يجب على من يقتص حقه من الممتنع أن يستأذن الحاكم الشرعي،لعدم الدليل على وجوب الاذن،و لإطلاق الأدلة التي رخصت بالمقاصة.

و تسأل:هل يجوز للفقير المحتاج أن يختلس من مال مانع الزكاة،لأنه من المستحقين لها؟ الجواب:كلا،لأن الزكاة تثبت في أموال الأغنياء للفقراء بوجه عام،لا لإنسان بالخصوص،حتى تجوز المقاصة،و بكلمة الدين ملك خاص،و الزكاة ملك عام،و الفرق بينهما واضح.

ص:20

الرهن

اشارة

ص:21

ص:22

معنى الرهن:

للرهن معان في اللغة،منها الحبس،قال تعالى كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ .و قال كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ .و هو الأصل لقول الفقهاء:ان الرهن وثيقة لدين المرتهن.

جواز الارتهان:

و الارتهان جائز كتابا و سنة و إجماعا،قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام لمن سأله عن الرهن:استوثق من مالك ما استطعت.

و يصح الارتهان في السفر و الحضر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه بيننا.و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رهن درعه عند يهودي،و هو حاضر بالمدينة».

و للرهن أركان،و هي الصيغة،و المرهون،أي محل الرهن،و الحق الثابت على الراهن،و الرّاهن،و المرتهن،و لهذه العناوين أحكام،و فيما يلي التفصيل:

ص:23


1- البقرة:283. [1]

العقد:

الرهن يحتاج إلى عقد،و يعتبر في عقده ما يعتبر في غيره من الإيجاب من الراهن و القبول من المرتهن قولا أو فعلا،و تكفي الإشارة المفهمة،مع العجز عن النطق،أما الكتابة فلا يبعد كفايتها مع القصد،حتى و لو كان الكاتب قادرا على التلفظ،قال صاحب الحدائق في أول باب الرهن ما نصه بالحرف:«مال بعض المحققين إلى الاكتفاء بالإشارة و الكتابة المفهمين،مع القدرة على اللفظ،لأن الغرض فهم ذلك،فحيثما وجد كفى».

القبض:

هل عقد الرهن لا يتم إلاّ بالقبض،بحيث يكون القبض شرطا لانعقاده و صحته،و مع عدمه فلا عقد من الأساس،تماما كما هو الشأن في الصدقة،و الهبة و العارية،و القرض،أو أن العقد ليس شرطا في صحة عقد الرهن،و لا لزومه، تماما كما هي الحال في عقد البيع،أو هو شرط في لزوم العقد من جانب الراهن، لا في صحته و انعقاده؟ و للفقهاء في ذلك أقوال ثلاثة (1)و أصحها أن القبض ليس بشرط إطلاقا، لا في صحة الرهن و لا في لزومه،لأن عقد الرهن كغيره من العقود يتم بالإيجاب و القبول،و متى انعقد كان لازما بحكم قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و حديث «المؤمنون عند شروطهم»و لا يتوقف لزومه على القبض و لا على غير القبض،

ص:24


1- قال صاحب الجواهر: [1]لقد ظن أكثر الفقهاء ان في هذه المسألة قولين إلاّ أن من تتبعها يرى أنّها ثلاثة أقوال:الأول:عدم دخل القبض في الصحة و اللزوم.الثاني:توقف الصحة عليه.الثالث: توقف اللزوم عليه دون الصحة.

لعدم الدليل على شيء من ذلك.

أمّا آية وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ أمّا هذه الآية فلا تدل من قريب أو بعيد على وجوب القبض،لأنها تعرضت لحكم الدين في السفر،لا لحكم الرهن،و ما يشترط فيه،و إنما ذكرت الرهان على سبيل الإرشاد،مع عدم وجود الكاتب.و بديهة أن هذا شيء،و ان القبض شرط في الرهن شيء آخر.

و أمّا ما روي أن الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام قال:«لا رهن إلاّ مقبوض»فقد أجيب عن هذه الرواية بضعف السند،و بأنّها للإرشاد تماما كالآية الكريمة،و لذا اعرض عنها جماعة من كبار الفقهاء القدامى و الجدد،منهم الشيخ المفيد،و الشهيد الأول،و العلامة الحلي،و المحقق صاحب الشرائع.

و تسأل:ان الرهن وثيقة للدين،كما سبق في تعريفه،و كيف يستوثق الراهن من ماله،مع عدم القبض؟و بكلمة،آية فائدة من الرهن ما دام قبض المرهون ليس شرطا فيه؟.

و نجيب بأن الغاية من الرهن حبس الشيء المرهون،و منع الراهن من التصرف فيه بالبيع و نحوه،ليتمكن المرتهن من استيفاء حقه من المرهون عند الاقتضاء،و ليس من شك أن هذه الغاية تتحقق من غير قبض،و ان كان تحققها آكد و أوثق.و بالاختصار ان الراهن محجر عليه بالنسبة إلى المرهون كالمفلس، فكما لا يشترط القبض في صحة التحجير على المفلس كذلك لا يشترط في الرهن.

و على ما اخترناه من أن القبض ليس شرطا في صحة الرهن،و لا في لزومه من جانب الراهن فلا يبقى موضوع للفروع التي بناها الفقهاء على وجوب

ص:25

القبض،لأن سقوط الأصل يستدعي سقوط الفرع.و من الفروع التي بنوها على لزوم القبض عدم صحة قبض المرهون من غير اذن الراهن،و عدم وجوب استمرار القبض،و غياب المرهون عن مجلس الرهن،و ما إلى ذاك مما يبتني على شرطية القبض.

الرهن مطلق غير مقيد:

الدين يصح أن يكون مطلقا،و أن يكون مؤقتا،أما الرهن فلا يصح فيه التوقيت بحال،و من هنا اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على أن شرط الأجل في الرهن فاسد،و مفسد للعقد،سواء أ كان الدين مؤقتا،أو غير مؤقت، لأن الغاية من الرهن الاستيثاق للدين،و التوقيت يتنافى مع الاستيثاق،إذ قد لا يتيسر الوفاء في الأمد المضروب،فينتهي الرهن،و يبقى الدين من غير وثيقة، و هو خلاف القصد،فيتعين بقاء الرهن و استمراره إلى أداء الدين،أو إبراء الراهن منه،أو إسقاط الراهن حقه في الرهانة.

الرهن المشروط بغير الأجل:

قد يقع الرهن مجردا عن كل شرط،و قد يكون مشروطا،و الشرط في الرهن منه صحيح،كاشتراط أن يكون المرهون في يد الراهن،أو في يد أمين، و اشتراط المرتهن أن يبيع المرهون،و يستوفي دينه منه (1)و من الشرط ما يكون

ص:26


1- عبر أكثر الفقهاء هنا بقولهم:ان يشترط المرتهن لنفسه الوكالة في بيع المرهون،و أشكل عليهم من أشكل بأن الوكالة لا تتحقق بمجرد جعلها شرطا في العقد،فيرجع اشتراطها،اذن،إلى اشتراط أن يقيم الراهن المرتهن وكيلا،و قد يفعل الراهن ذلك،و قد لا يفعل،و إذا لم ينصبه وكيلا يكون للمرتهن الحق في فسخ الرهن لتخلف الشرط،و عليه فلا يتحقق الغرض المطلوب،إلى غير ذلك من طول الكلام و عرضه لذا عدلنا من شرط الوكالة في البيع إلى شرط الحق في البيع، و يسمى هذا بشرط النتيجة،أي أنّه لم يشترط الوكالة بالذات،و لكن اشترط النتيجة المترتبة عليها.

فاسدا غير مفسد للرهن،كاشتراط أن لا يباع المرهون إلاّ بالثمن الذي يريده الراهن،و ان زاد عن القيمة السوقية أضعافا،و منه ما يكون فاسدا و مفسدا،كما إذا اشترط المرتهن أن يكون المرهون مبيعا له ان لم يؤد الراهن الحق،قال صاحب الجواهر:اتفق الفقهاء قولا واحدا على فساد الشرط و الرهن،لأن الأصل عدم انتقال العين عن ملك صاحبها،و لأن الشيء الواحد لا يكون مرهونا و مبيعا في آن واحد،و لأن البيع لا يوجد إلاّ بوجود سببه و هو الصيغة،مع سائر الشروط.

هذا بالقياس إلى فساد الشرط،أمّا فساد الرهن فلأنه قد حدد بعدم الأداء، و سبق أن لا يحدد بشيء،و انما ينحل حكما بالأداء أو الإبراء من الحق.أمّا كيف يستوفي المرتهن حقه من المرهون فيأتي البيان في فقرة«تعذر الوفاء من غير المرهون».

المرهون:

ذهب المشهور إلى أن المرهون يجب أن يكون عينا يصح تملكها و بيعها، و يمكن تسليمها،و ان تكون معلومة غير مجهولة،تماما كالمبيع.

فلا يصح على ما قالوه رهن ما في الذمة من الدين،لأنه أمر كلي لا وجود له في الخارج،فلا يمكن قبضه.و هذا يتم بناء على أن القبض شرط في الرهن،أمّا على ما اخترناه من عدم شرطية القبض فلا مانع أن تستدين،و ترهن ما لك في

ص:27

ذمة الغير إذا كان حالا غير مؤجل،و يحبس هذا الدين لحساب الراهن،تماما كما هو الشأن في المفلس.

و لا يصح رهن المنافع إطلاقا،سواء أ قلنا بأن القبض شرط،أو لم نقل،لأن المنفعة تحصل بالتدريج شيئا فشيئا،و لا يمكن الاستيلاء عليها إلاّ باستهلاكها، و عليه فلا يتحقق المقصود من الرهن،أي استيفاء الدين من المرهون عند تعذر الوفاء من الراهن.

و أيضا لا يصح رهن ما لا يمكن إقباضه،كالطير في السماء،و السمك في الماء.

و أجمعوا على صحة رهن حصة شائعة مثل أن يرهن نصف داره،أو أرضه،أو يرهن سهمه في عقار شراكة بينه و بين آخر،سواء أرهنه من شريكه،أو من غيره،و سواء أ كان المرهون مما يقبل القسمة،أو لا يقبلها.

و أيضا أجمعوا على أن للإنسان أن يستعير مال الغير،و يرهنه على الدين بإذنه،على شريطة أن يبين له جنس الدين و مقداره و أجله،فإن خالف المستعير فللمالك فسخ الرهن،و استرجاع المرهون.

الحق:

المراد بالحق هنا ما يؤخذ المرهون من أجله.و لا شك في جواز أخذ الرهن على الدين الثابت في الذمة معجلا كان أو مؤجلا،قرضا كان،أو ثمن مبيع، أو عوض إيجار،أو مهرا،سابقا كان الدين على الرهن،أو مقارنا له،كما لو قال:

بعتك هذا بعشرة على أن ترهنني كذا،و لا يصح أن يرهن أولا،ثم يستدين،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بيننا.لأن الرهن وثيقة للمال،و لا يعقل

ص:28

الاستيثاق قبل حصول المال».

و من أجل هذا ذهب المشهور إلى عدم صحة الرهن على مال الجعالة قبل تمام العمل-مثلا-إذا قال:من عمل كذا أعطيته كذا فلا يصح أن يرهن على ما يستحقه العامل بعد العمل،إذ المفروض أنّه لم يثبت له في الذمة قبل العمل.

و تسأل:هل يصح الرهن على العين كما يصح على الدين؟فإذا وضعت امانة عند إنسان أو استأجر منك سيارة-مثلا-أو أخذها بقصد التجربة ليشتريها، و هو المعبر عنه عند الفقهاء بالسوم،و ما إلى ذاك،فهل يصح أن يرهن عندك شيئا يستوثق به على مالك إذا تعدى أو فرط المستأجر أو المجرب أو المستعير أو المتأمن.

اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق على أن الوديعة و العارية غير المضمونة لا يصح الرهن من أجلها،و اختلفوا في غيرهما،فمن قائل بصحة الرهن،و قائل بعدم الصحة،و قال صاحب الجواهر بالصحة،ما عدا الرهن من أجل الوديعة و العارية غير المضمونة،لأن أدلة الرهن عامة تشمل العين و الدين خرج منها الوديعة و العارية المذكورة بالإجماع،فيبقى غيرهما مدلولا لعموم الرهن،و تترتب عليه جميع أحكامه،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يشتري الحيوان أو الطعام سلما-بيع السلم ما يكون الثمن معجلا، و المثمن مؤجلا-و يؤخذ الرهن على ما دفع من مال؟فقال الإمام:نعم،استوثق من مالك ما استطعت.

زيادة الدين:

يجوز أن يستدين الراهن من المرتهن ثانية،و يجعل مجموع الدين الأول

ص:29

و الثاني على المرهون الأول،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بيننا.كما لو رهن المبلغ من أول الأمر،و لا حاجة إلى إبطال الرهانة الأولى،ثم التجديد».

ما يسرع إليه الفساد:

إذا كان المرهون من النوع الذي يسرع الفساد إليه راجع المرتهن الراهن في أمره إذا خشي هلاكه،فإن تعذر الرجوع إليه رجع إلى الحاكم الشرعي،فإن تعذر تولى المرتهن عملية البيع بنفسه،مع الحرص التام على حق الراهن،و يأتي البيان بوجه أشمل.

شروط الراهن و المرتهن:

يشترط في كل من الراهن و المرتهن أن يكون أهلا للتصرفات المالية، فرهن المجنون و الصبي غير المميز لغو،و كذلك رهن المكره و السكران،و رهن المحجر لسفه،أو فلس يتوقف على اجازة من له الإجازة،و يجوز للولي و الوصي أن يرهنا مال من لهما عليه حق الرعاية إذا دعت المصلحة،و أيضا يجوز لهما إقراض ماله و الرهانة عليه،مع المصلحة،و مثل له بعض الفقهاء أن يكون للقاصر حنطة و شبهها،و يخشى من تلفها،و لا راغب فيها إلاّ قرضا،أو الشراء نسيئة، فيبيعها الولي أو يقرضها مع الرهن،و دونه إذا كان الغريم أمينا.

تصرف الراهن و المرتهن:

و يشترك الراهن و المرتهن في أن كلا منهما ممنوع من التصرف في المرهون إلاّ بإذن الآخر،أما منع المرتهن فواضح،لأن المرهون ليس ملكا له،

ص:30

و أما منع الراهن فلأن الغاية من الرهن الاستيثاق للدين،و لا يتم ذلك إلاّ برفع سلطة الراهن عن المرهون،و منعه من بيعه و إيجاره،و غيره من التصرفات التي تتنافى مع الاستيثاق.

و إذا أذن المرتهن للراهن ببيع المرهون بطل الرهن من الأساس،و لا يكون الثمن رهنا كالمثمن،بل يحتاج ذلك إلى رهن جديد،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف و لا إشكال.

المرتهن أولى من سائر الغرماء:

إذا كان على الراهن ديون تستغرق أمواله أو تزيد،و حجر الحاكم عليه، فالمرتهن أحق في المرهون من باقي الغرماء على المشهور بين الفقهاء،فإن زاد ثمن المرهون عن الدين وزع الزائد على الغرماء،و ان نقص ضرب الراهن معهم فيما بقي له من الدين،و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام ان سبيل المرتهن سبيل غيره من أصحاب الدين،و لا يستأثر دونهم بالمرهون.و لكن المشهور أعرضوا و أهملوا هذه الرواية،و ما كان في مضمونها،لضعف السند،أو تأويل المتن.

تلف المرهون:

المرهون أمانة في يد المرتهن لا يضمنه إلاّ مع التعدي أو التفريط.

و ان تلف المرهون بسبب المرتهن فعليه ضمانه،و يكون الحكم ما قاله الإمام الصادق عليه السّلام:«ان كان ثمن الرهن أكثر من مال المرتهن فعليه أن يؤدي الفضل-أي الزيادة-إلى الراهن،و ان كان أقل فعلى الراهن أن يؤدي الفضل إلى المرتهن،و ان كان سواء فليس عليه شيء».

ص:31

و ان هلك المرهون بآفة قاهرة بطل الرهن،لارتفاع موضوعه،و يطالب المرتهن الراهن بدينه،و لا يسقط بهلاك الرهن.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا ضاع الرهن فهو من مال الراهن،و يرتجع المرتهن بماله عليه.و سئل عن الرجل يرهن الغلام،فتصيبه الآفة على من يكون؟قال الإمام عليه السّلام:على مولاه،أ رأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟قال السائل:في عنق العبد.ثم قال الإمام عليه السّلام:أ رأيت لو كان ثمنه مائة،فصار مأتين،لمن يكون؟قال السائل:لمولاه.قال الإمام عليه السّلام:

و كذلك يكون عليه ماله.

و إذا أتلفه أجنبي أخذ منه البدل،و يكون رهنا كالأصل،لأن البدل حكمه حكم المبدل منه،و الذي يخاصم الجاني،و يرفع عليه الدعوى هو الراهن،و ليس له أن يعفو عن الجاني إلاّ بعد إرضاء المرتهن،و ان امتنع الراهن عن مخاصمة الجاني فللمرتهن أن يخاصمه،لتعلق حقه بالمجني عليه.

منافع المرهون:

اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن المرهون إذا كان له منافع فهي للراهن، سواء أ كانت حين الرهن،أو تجددت بعده،منفصلة كانت عن المرهون،أو متصلة به،لأن العين ملك له،فتتبعها المنفعة،و اختلفوا:هل تدخل المنافع في الرهن،بحيث تكون مرهونة أيضا كالأصل،أو لا تدخل،أو يفصل بين أنواع المنافع؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق،و صاحب الجواهر إلى الفرق بين المنافع التي تكون موجودة حين عقد الرهن فتخرج إلاّ مع شرط الدخول،و بين المنافع المتجددة بعد العقد فتدخل إلاّ مع شرط الخروج.

ص:32

و ذهب جماعة من كبار الفقهاء،منهم صاحب الجواهر إلى عدم دخول المنافع في الرهن إطلاقا،المتجدد منها،و غير المتجدد إلاّ مع الشرط،قال صاحب الجواهر:«لعدم الدليل الشرعي على الدخول،و لأن الأصل تسلط المالك على ملكه».

و الذي نراه أن هذه المسألة ليست من الأحكام الشرعية في شيء،كي يرجع في أمرها إلى الشارع،أو المتشرعة-أي الفقهاء-لأنها تتعلق في معنى اللفظ،و ما يفهم منه،و المحكم في ذلك العرف دون سواه.

تعذر الوفاء من غير المرهون:

اشارة

سبق أن كلا من الراهن و المرتهن ممنوع من التصرف في المرهون إلاّ بإذن الآخر،و الكلام الآن في حكم ما إذا تعذر وفاء الدين إلاّ من المرهون و فيه تفصيل على الوجه التالي:

1-إذا مات الراهن قبل الوفاء

،و خاف المرتهن على ماله من الضياع لجحود الورثة جاز،في هذي الحال أن يستوفي حقه مما في يده من الرهن دون مراجعة الورثة،فقد سئل الإمام عن رجل مات،و له ورثة،فجاء رجل، و ادعى عليه مالا،و ان عنده رهنا؟قال:ان كان له على الميت مال،و لا بينة له فليأخذ ماله مما في يده،و يرد الباقي على الورثة،و متى أقر بما عنده أخذ به،و طولب بالبينة على دعواه.

و معنى هذا أن للمرتهن أن يكتم أمر الرهن عن الورثة،و لا يقر لهم به،كي لا يؤخذ بظاهر إقراره،و ان له أن يستوفي حقه بنفسه ان خاف عليه الضياع،حتى و لو لم يكن وصيا من الراهن على بيع المرهون،أو على وفاء ديونه.

ص:33

قال صاحب الجواهر:أخذ الفقهاء بهذه الرواية و عملوا بها.

2-يجوز للمرتهن أن يشترط في عقد الرهن بيع المرهون،و استيفاء حقه منه

، و يجوز له مع هذا الشرط أن يبيعه متى شاء ان لم يكن الدين مؤجلا،و ان كان مؤجلا باعه بعد حلول الأجل،و لا يجب عليه أن يراجع الراهن،و لا الحاكم في أمر البيع.

3-إذا لم يشترط المرتهن بيع الرهن في العقد،و امتنع الراهن من الوفاء

لعجز، أو غير عجز رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي،لأنّه ولي الممتنع،و لأنه نصب لفصل الخصومات،و قطع المنازعات،و الحاكم بدوره يلزم الراهن بالبيع مستعملا معه السبل التي يراها من التهديد و التعزير،فإن امتنع الراهن تولى الحاكم أو وكيله بيع الرهن و وفاء الدين.

و ان تعذر وجود الحاكم،أو وجد،و لم يقدر على شيء جاز للمرتهن بعد اليأس أن يبيع المرهون بقيمته،و يستوفي حقه منه،كما يجوز لكل دائن الاستيفاء من مال المدين إذا تمنع عن أداء الحق.

و تسأل:ألا يتنافى هذا مع ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام حيث سئل عن رجل رهن شيئا عند آخر،ثم انطلق فلا يقدر عليه،أ يباع الرهن؟قال:لا حتى يجيء صاحبه؟ و أجاب صاحب الجواهر عن هذه الرواية،و ما في معناها بأنّها تحمل على كراهية البيع،لا على تحريمه،أو على عدم تضرر المرتهن بالصبر و الانتظار إلى حضور الراهن،تحمل على ذلك ان أمكن هذا الحمل،و إلاّ وجب طرح الرواية من رأس،لإعراض الفقهاء أو أكثرهم عنها.

ص:34

وفاء بعض الدين:

قال صاحب مفتاح الكرامة في الجزء الخامس ص 201:«لو أدى الراهن بعض الدين بقي المرهون بكامله رهنا بالدين الباقي،لأن الرهن وقع على كل جزء من الحق بالنظر إلى أن الأغلب تعلق الأغراض باستيفاء الدين عن آخره من الرهن».

و هذه مصادرة و مجرد استحسان من صاحب مفتاح الكرامة.و الذي نراه أن المرتهن ان كان قد اشترط بقاء الرهن إلى آخر جزء من الدين بقي الرهن بحاله،و لا ينفك منه شيء،و ان لم يشترط ذلك،و دفع الراهن بقصد الوفاء، و قبض المرتهن بقصد الاستيفاء انفك من الرهن بقدر ما أدى من الدين عملا بظاهر الحال،و تبعية الرهن للدين في نظر العرف.

و تقدم في فصل الدين فقرة«وفاء بعض الدين»ان الدائن لا يجوز له أن يمتنع عن تسلم بعض حقه،و يفرض على المدين التسديد دفعة واحدة.

نفقة المرهون:

إذا كان المرهون حيوانا،أو غيره مما يحتاج إلى نفقة،الحفظ و الحراسة فالنفقة و جميع التكاليف على الراهن،لأن منافعه له،و الغرم بالغنم،فإذا استوفى المرتهن شيئا من منافع المرهون فعليه اجرة المثل.

و قال جماعة من الفقهاء:إذا أنفق المرتهن على المرهون فله المنفعة بدلا عن الإنفاق،و استدلوا بالحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الظهر يركب إذا كان مرهونا،و على الذي يركبه نفقته،و الدر يحلب إذا كان مرهونا، و على الذي يشرب نفقته».

ص:35

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يأخذ الدابة و البعير رهنا،إله أن يركبه؟قال:ان كان يعلفه فله أن يركبه،و ان كان يعلفه صاحبه فليس له أن يركبه.

و أجاب صاحب الجواهر بأن الحديث و الرواية محمولان على اتفاق الراهن و المرتهن على ذلك،و ان لم يمكن الحمل على الاتفاق،أو غيره من معاني التأويل فيتجه طرحهما،لأن الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرف إلاّ باتفاقهما معا.

و غير بعيد أن تكون العادة قائمة على ذلك عند ورود النص،فيحمل على الإرشاد إلى العادة المتبعة في ذلك العهد،و هي تباني أهل العرف أن ينفق المرتهن و ينتفع لقاء الإنفاق،فإذا تغيرت العادة فالمحكم الأصل الشرعي القاضي بأن المنفعة للمالك،و النفقة عليه:و ان المرتهن ممنوع من التصرف في المرهون إلاّ بإذن الراهن.

التنازع:

1-إذا كانت العين في يد الدائن فقال:هي رهن عندي على الدين.

و قال مالكها:بل هي وديعة عندك

،فمن هو المدعي؟.و من المنكر؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن المالك منكر،و الدائن مدع،لأن الأصل عدم الارتهان،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين اختلفا في مال أنّه قرض أو وديعة،فقال الامام عليه السّلام:القول قول صاحب المال بيمينه.

2-إذا مات المرتهن انتقل حق الرهانة إلى ورثته

،و إذا قال الراهن:لست أمينا من الورثة على المرهون كان له ذلك،فان اتفقا على وضعه عند أمين فذاك، و إلا وضع أمانة عند الحاكم الشرعي،أو من يختاره.

ص:36

3-إذا اتفقا على الرهن،و اختلفا في مقدار الدين

فالقول قول الراهن،لأن الأصل عدم الزيادة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا اختلفا في الرهن،فقال أحدهما:رهن بألف،و قال الآخر بمئة فعلى صاحب الألف البينة،فان لم تكن له بينة فعلى صاحب المائة اليمين.

4-تقدم أكثر من مرّة أن الراهن لا يجوز له التصرف في المرهون إلاّ بإذن

المرتهن

،فإذا باع الراهن العين المرهونة مدعيا ان المرتهن اذن له بالبيع، و أنكر ذلك المرتهن فالقول قوله مع يمينه،لأن الأصل عدم الاذن،حتى يثبت العكس.

و إذا أذن المرتهن بالبيع،و بعد أن باع الراهن قال المرتهن:رجعت عن الاذن قبل البيع،و أنكر الراهن الرجوع فالقول قول الراهن،لأن الأصل عدم الرجوع،حتى يثبت العكس.

و إذا اتفقا على الاذن و الرجوع عنه،و اختلفا في تقديم البيع على الرجوع، فقال المرتهن:رجعت عن الاذن قبل أن تبيع،فالبيع فاسد.و قال الراهن:بل رجعت بعد البيع فالبيع صحيح،فمن المنكر؟و من المدعي؟ و الذي تستدعيه القواعد أن ينظر:فإن كان تاريخ البيع معلوما،و تاريخ الرجوع مجهولا،كما إذا علمنا أن البيع وقع يوم الجمعة-مثلا-و لم نعلم:هل حصل الرجوع يوم الخميس أو يوم السبت فنستصحب عدم الرجوع إلى يوم السبت،لأنه مجهول التاريخ (1)و نثبت بذلك أن البيع كان مقارنا لعدم الرجوع،

ص:37


1- نستصحب مجهول التاريخ إلى زمن العلم بحدوثه بصرف النظر عن تأخره عن الحادث الآخر الذي علم بتاريخ حدوثه فرارا من الأصل المثبت،و نرتب الآثار على وجود معلوم التاريخ إذا كانت هذه الآثار مترتبة على وجود الحادث المعلوم تاريخه مقارنا لعدم وجود الآخر المسمى هو و نظائره بالموضوعات المركبة من جزءين أحدهما محرز بالوجدان،و الآخر بالاستصحاب،و قد فصلنا ذلك في الجزء الثالث،و على آية حال فان الاستصحاب يجري في مجهول التاريخ إذا علمنا بعدم مقارنة حدوثه لوجود الحادث الآخر،لأن احتمال التقارن كاف في إجراء أصل عدم ترتب الأثر على العقد.و التفصيل في كتب أصول الفقه العقلية ككتاب رسائل الشيخ الأنصاري، و كتاب الجزء الثاني من كفاية الأصول [1]للشيخ الخراساني،و الجزء الثاني من تقرير المرزا النائيني للسيد الخوئي،أو الشيخ محمد علي الخراساني،و هذا البحث المعروف بمجهولي التاريخ من أهم مباحث الأصول و أدقها و أعظمها فائدة،و لم يفهمه من الطلاب إلاّ واحد من مائة فيما اعتقد.و كنت أظن أنّه من مستحدثات العلماء الجدد و اكتشافاتهم،حتى رأيت صاحب الجواهر ينقله عن محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول في آخر باب الرهن المسألة السادسة من المقصد الثالث في النزاع،فأكبرت هذا العظيم،و كدت أقول مع القائلين،و أنا أقرأ له:ما ترك الأوائل للأواخر شيئا. توفي الشهيد الأول سنة 786 ه.

و نحكم بصحة البيع،حتى يثبت العكس،و عليه يكون القول قول الراهن.

و ان كان تاريخ الرجوع معلوما،و تاريخ البيع مجهولا،كأن نعلم أن الرجوع وقع يوم الجمعة،و لم نعلم:هل حصل البيع قبله أو بعده،فنستصحب تأخر البيع عن الرجوع،لأنه مجهول التاريخ،و نثبت بذلك أن الرجوع وقع مقارنا لعدم البيع،و نحكم بفساد البيع،حتى يثبت العكس،و عليه يكون القول قول المرتهن.

و ان لم نعلم بتاريخ البيع،و لا بتاريخ الرجوع،فيكونان من باب مجهولي التاريخ،و يعارض استصحاب عدم حدوث أحدهما عند حدوث الآخر بمثله، و يتكافأ الأصلان،و يتساقطان،و يبقى ما كان على ما كان،و بالتالي،يكون القول قول المرتهن.

و هذا ما تقتضيه القواعد المقررة في علم الأصول،و لكن المشهور بشهادة صاحب الجواهر اعرض عنه،و ذهب إلى أن القول قول المرتهن إطلاقا من غير تفصيل استصحابا لبقاء الرهن،حتى يثبت العكس.

5-إذا اتفقا على وقوع الرهن،و اختلفا في تعيين المرهون

فالقول قول الراهن،

ص:38

مثال ذلك أن يقول الراهن:رهنتك الدار،لا البستان،و يقول المرتهن:بل البستان،لا الدار،فننفي رهانة الدار باعتراف المرتهن،و يكون مدعيا لرهانة البستان فعليه البينة،و مع عدمها يحلف الراهن.

6-إذا كان عليه دينان لشخص واحد،و كان أحد الدينين برهن،و الآخر من

غير رهن

،ثم سدّد أحد الدينين دون الآخر،و اختلف هو و الدائن،فقال المدين:وفيت الدين الذي عليه الرهانة.و قال الدائن:بل الدين الآخر الذي لا رهانة عليه،إذا كان كذلك فالقول قول المدين،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأن الدافع أبصر بنيته التي لا تعلم إلاّ من قبله».

ص:39

ص:40

الضمان

اشارة

ص:41

ص:42

الضمان و الحوالة و الكفالة:

إذا كان لشخص دين في ذمة آخر،و تعهدت أنت للدائن بالوفاء عن المدين دون أن تكون مطلوبا له بشيء كان هذا التعهد ضمانا منك للدين،و أنت ضامن،و الدائن مضمون له،و المدين مضمون عنه.

و إذا كنت مطلوبا للمدين بالمبلغ الذي تعهدت به عنه سمي تعهدك هذا ضمانا،و حوالة أيضا.

و إذا لم تتعهد بمال للدائن،و انما تعهدت بأن تحضر له غريمه،و هو المدين،و تسلمه له عند الطلب كان هذا التعهد ضمانا بالنفس،و كفالة أيضا.

و بهذا يتضح أن للضمان عند الفقهاء معنيين:ضمان بالمعنى الأخص، و هو الالتزام و التعهد بالمال ممن ليس عليه شيء،و ضمان بالمعنى الأعم الذي يشمل الضمان بالمعنى الأخص،و يشمل الحوالة التي هي تعهد بالمال ممن عليه مال للمضمون عنه،و يشمل الكفالة التي هي تعهد بالنفس.و قد أفرد الفقهاء لكل من الضمان بالمعنى الأخص،و الحوالة و الكفالة بابا مستقلا،و بدأوا بالضمان،ثم الحوالة،ثم الكفالة،و نحن نمضي على طريقتهم.

شرعية الضمان:

الضمان مشروع بالإجماع،و الكتاب،و السنة،قال تعالى وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ 1و الزعيم هو الضامن.

ص:43

الضمان مشروع بالإجماع،و الكتاب،و السنة،قال تعالى وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (1)و الزعيم هو الضامن.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مات،و عليه دين،فيضمنه ضامن للغرماء؟قال:إذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمته.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من ضمن لأخيه حاجة لم ينظر اللّه عزّ و جلّ في حاجته حتى يقضيها.

كراهية الضمان و الكفالة:

يكره التعرض و التصدي للضمان و الكفالة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:مالك و للكفالات.أما علمت أنّها أهلكت القرون الأولى!.

و قال:إياكم و الحقوق و اصبروا على النوائب.

و قال:مكتوب في التوراة الكفالة ندامة غرامة.

و ليس من شك أن قوله هذا من باب الإرشاد و النصيحة،لا من باب تأسيس حكم في الشريعة،فهو أشبه بقول من قال:«إياك و حروف الشوك»أي الشركة و الوكالة و الكفالة.فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمة قد يتكلمون بوصفهم من أفراد الناس، كما يتكلمون بصفتهم الشرعية و بيان أحكام الشريعة.

العقد:

للضمان أركان،و هي العقد،و الضامن،و المضمون،و المضمون له، و المضمون عنه،و الحق المضمون.و تتألف صيغة الضمان من الإيجاب من

ص:


1- يوسف:72. [1]

الضامن،و القبول من المضمون له،و يكفي فيهما كل ما دل عليهما (1).

و لا يشترط رضا المضمون عنه،لأن وفاء الدين عن الغير لا يعتبر فيه نية رضا المدين.أجل،رجوع الضامن على المدين بما أداه عنه للدائن يعتبر فيه اذن المدين،كما يأتي.

و قال جماعة من الفقهاء:يشترط في الصيغة التنجيز،و عدم التعليق على شيء،فإذا قال:أنا ضامن إذا لم يف المدين لم يصح،و استدلوا على بطلان الضمان المعلق بأن الضمان لا بد فيه من الرضا،و لا رضا إلاّ مع الجزم،و لا جزم، مع التعليق.

و هذا مجرد استحسان،حيث لا نص على شيء من ذلك،بل هو اعتراف بأن الرضا إذا وجد مع التعليق صح الضمان.و عليه فإذا رأى أهل العرف ان عقد الضمان الدال على الرضا يوجد مع التعليق فإنه يصح و يجب الوفاء به،لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«المؤمنون عند شروطهم».

و أهل العرف لا يرون أي منافاة بين عقد الضمان و بين التعليق،و يوجبون على من قال للدائن:ان لم يعطك المدين فأنا أعطيك-أن يفي بتعهده،و لو افترض أن مثل هذا لا يصح ضمانا فإنه يصح بطريق آخر،و لو باعتباره عقدا جديدا من العقود غير المسماة التي تكلمنا عنها في الجزء الثالث،و أثبتنا العمل بها تماما كالعقود المسماة،لأنها من مصاديق الأدلة العامة للعقود.

و عقد الضمان لازم من الجانبين:الموجب و القابل،حتى و لو كان الضمان تبرعا،و من غير اذن المضمون عنه،فلا يجوز للضامن أن يقول:عدلت عن

ص:45


1- قال الشيخ النائيني في تعليقه على العروة الوثقى أول باب الضمان:ان الطريق إلى التعهد ينحصر بالقول فقط،و إيجاده بالفعل مجرد فرض لا واقع له إطلاقا.

الضمان،و لا للمضمون له أن يقول للضامن بعد أن قبل و رضي بضمانه:لقد عدلت عن الرضا بضمانك،و سأرجع على المضمون،لا يجوز له ذلك إلاّ إذا تبين إعسار الضامن عند الضمان،فان له،و الحال هذه،الفسخ.أجل،له إسقاط الدين من الأساس،و عندها يرتفع الضمان،لارتفاع موضوعه و محله.

الضامن:

يشترط في الضامن :

1-أن يكون أهلا للتصرفات المالية،فلا يصح ضمان المجنون،و الصبي، و المكره،و السكران،أمّا السفيه فيجوز ضمانه بإجازة الولي،أما ضمان المفلس فجائز إطلاقا،لأنه كاقتراضه يصح،و ان لم يأذن الغرماء.

2-قالوا:ان الضمان بالمعنى الأخص،و هو المبحوث عنه في هذا الفصل يشترط فيه أن لا تكون ذمة الضامن مشغولة بدين للمضمون عنه،و إلاّ يكون التعهد حوالة لا ضمانا بمعناه الخاص.

3-ذهب المشهور إلى أن الضامن يشترط فيه الملاءة،أي القدرة على الوفاء، أو علم المضمون بإعسار الضامن حين الضمان،و هذا شرط في اللزوم، لا في الصحة،فلو قبل المضمون له ثم تبين إعسار الضامن ثبت للمضمون له الحق في فسخ الضمان،و الرجوع على المضمون عنه،لأن لزوم العقد، مع إعسار الضامن يستدعي تضرر المضمون له،فيتدارك الضرر بثبوت الخيار بين الصبر على الضامن،و فسخ العقد،و إذا علم بالإعسار،و رضي به حين العقد فليس له أن يعدل،لأنه أقدم على علم و اختيار،تماما كمن اشترى معيبا مع علمه بالعيب.و إذا عرض العسر بعد الضمان فلا خيار.

ص:46

و إذا ضمن الدين أكثر من واحد،فان ضمنه كلّ بعقد مستقل صح السابق و بطل اللاحق،و ان ضمنه الجميع بعقد واحد يسقط الدين حسب عددهم على السواء.

المضمون له:

يشترط في المضمون له ما يشترط في الضامن من أهليته للتصرفات المالية،و أيضا يشترط رضاه بالضمان،لأنه أحد المتعاقدين،و قبوله جزء من الصيغة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا رضي الغرماء برئت ذمة الميت.

و تسأل لقد جيء للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بميت ليصلي عليه،فقال:هل عليه دين؟ قالوا:نعم،ديناران.قال:هل ترك لهما وفاء؟قالوا:لا.فتأخر.فقيل له:لم لا تصلي عليه؟قال:ما تنفعه صلاتي إلاّ ان قام أحدكم فضمنه.فقام الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام،و قيل أبو قتادة فضمن الدينارين،و صلّى عليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقد دل الحديث على أن رضا المضمون له ليس بشرط،حيث صلّى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل أن يرضى الغرماء.

و أجاب جماعة من الفقهاء بأن هذا الحديث قضية في واقعة خاصة لا يتعدى إلى غيرها،و أصح الأجوبة ما قاله صاحب الجواهر من أن رضا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاف واف،لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

و لا بد من تمييز المضمون له عن غيره بما يصح معه القصد،و لا يشترط معرفته بحقيقته و هويته،فإذا رأيت دائنا يطالب مدينا،و قلت للدائن-على غير علم سابق به-:دعه،و أنا ضامن لما في ذمته صح.

و لا يجوز ضمان الدين الذي للسفيه إلاّ بإذن وليه،أما المفلس فديونه

ص:47

محجوزة لحساب الغرماء،فيجوز ضمانها لهم،و لا يجوز ضمانها له.

المضمون عنه:

لا يشترط في المضمون عنه العقل و لا البلوغ و لا الرشد و لا رضاه في الضمان التبرعي،بل و لا حياته،فيصح الضمان عن المجنون و الصبي و السفيه و المفلس و المجهول،لأن الضمان تماما كقضاء الدين لا يعتبر فيه رضا المدين، و لأنّ العقد يتحقق بالإيجاب من الضامن،و الرضا من المضمون له،فتشمله أدلة الوفاء بالعقود.

أجل،لا بد من تمييز المضمون عنه بما يصح معه القصد،و لو بجهة من الجهات،أما إذا كان مجهولا و مرددا بين اثنين أو أكثر فلا يصح،مثل أن يكون لشخص دين على اثنين،فتقول:ضمنت ما في ذمة أحد هذين.

الحق المضمون:

قالوا:يشترط في الحق المضمون أن يكون ثابتا في الذمة،فلا يصح أن تقول لشخص:أعط فلانا على حسابي،و عليّ ضمان ما تعطيه،لأنّه لم يثبت في الذمة شيء يتعلق به الضمان،و قد أجمع الفقهاء على ذلك قولا واحدا.

و لكن العقلاء و أهل العرف يرون مثل هذا القائل مسؤولا و ملزما بتعهده، فما هو طريق الجمع بين بناء العقلاء على صحة هذا التعهد،و إجماع العلماء على فساد الضمان؟ الجواب:ليس من الضروري إذا لم يصح ضمانا مثل قوله:أعط فلانا،و أنا أعطيك عنه أن لا يصح إطلاقا.لأن الصحة لا تنحصر بالضمان،و لا بالعقود

ص:48

المسماة،فالمهم أن يصدق على التعهد اسم العقد حقيقة عند أهل العرف، و التعهد المذكور يصدق عليه اسم العقد كما هو المفروض،فيشمله إلاّ أن تكون تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.

و يجوز ضمان ما ثبت في الذمة ثبوتا جائزا،لا لازما،كالمهر قبل الدخول، و ثمن المبيع في زمن الخيار،لأن تمام المهر لا يستقر إلاّ بالدخول،كما أن ثمن المبيع لا يستقر إلاّ بعد مضي زمن الخيار،مع عدم الفسخ.

و قال الفقهاء:يجوز أن تضمن النفقة السابقة للزوجة،و لا يجوز ضمان النفقة المستقبلة،لأنها غير ثابتة بالفعل،كما أنّها عرضة لعدم الثبوت في المستقبل بالنشوز أو الطلاق أو الموت.

و الذي نراه هو صحة ضمان النفقة المستقبلة،لا لوجود المقتضي فقط، و هو الزوجية،بل لأن هذا التعهد يصدق عليه اسم العقد في نظر العرف،فيشمله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ تماما كما هو الشأن في تعهد من قال:أعط فلانا و أنا أعطيك عنه،أما ان الزوجة عرضة للنشوز و الطلاق و موت الزوج فجوابه ان وجوب الوفاء بكل عقد على حسب مقتضاه،فيجب أن ينفق المتعهد على الزوجة ما دام سبب الإنفاق قائما.

و قال الشيخ أحمد كاشف الغطاء في«وسيلة النجاة»باب الضمان:القول بصحة نفقة الزوجة للمستقبل ليس ببعيد ان لم يكن إجماع.و قال السيد كاظم اليزدي في العروة الوثقى باب الضمان مسألة 38:«لا مانع من ضمان ما لم يجب بعد ثبوت المقتضي،و لا دليل على عدم صحته من نص أو إجماع،و ان اشتهر في الألسن،بل في جملة من الموارد حكموا بصحته.و قال في المسألة 35:لا يبعد صحة ضمان النفقة المستقبلة للزوجة لكفاية وجود المقتضي و هو الزوجية.

ص:49

و لا يشترط في صحة الضمان علم الضامن بمقدار الدين و جنسه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لما حضر محمد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم،فقال لهم:لقد عرفتم قرابتي و منزلتي منكم،و عليّ دين أحب أن تقضوه عني،فقال علي بن الحسين عليه السّلام:عليّ دينك كله.

فقد ضمن الإمام عليه السّلام ديون ابن أسامة دون أن يعلم مقدارها،أجل،لا بد من المعرفة بالجنس و المقدار عند الوفاء،لتوقفه عليه.

و لا يلزم الضمان إلاّ بوفاء ما ثبت من الدين بالبينة،أو ما علم به هو بطريق من الطرق،على أن يكون ثابتا وقت الضمان،لا ما يتجدد بعده كما قال الفقهاء، و لا ما يقر به المدين بعد الضمان،لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر وحده،و لا تتعداه إلى غيره.

و إذا كان الضمان مطلقا غير مقيد بوقت من الأوقات يكون تابعا للدين لأنه فرع عنه فيؤجل الوفاء من الضامن ان كان الدين المضمون مؤجلا،و يعجل ان كان معجلا.

و يجوز ضمان الدين الحال بمؤجل،و المؤجل بمعجل،أو بزيادة الأجل، و بكلمة ان كل ما يتفق عليه الضامن و المضمون له فيما يعود إلى التأجيل و التعجيل فهو صحيح و جائز،لأن الأجل حق لمن هو له فيجوز تأخيره،و تقديمه برضا الطرف الآخر،و يجوز له إسقاطه إطلاقا،و في جميع الحالات لا يجوز للضامن أن يرجع على المضمون عنه إلاّ بأمرين:الأول أن يحل أجل الدين، لا أجل الضمان،الثاني أن يؤدي الضامن الدين للمضمون له،فإذا لم يؤده فلا يرجع على المضمون عنه،حتى و لو حل أجل الدين،و إذا لم يحل الأجل فلا يرجع عليه،حتى و لو أدى الدين.

ص:50

و يجوز لكل من الضامن و المضمون اشتراط الخيار مدّة معينة،لعموم أدلة وجوب الوفاء بالشرط.

ضمان الأعيان:

اشارة

قد اتضح مما سبق أن الدين الثابت في الذمة يجوز ضمانه إجماعا و نصا، أما ضمان الأعيان الخارجية فهو على التفصيل التالي:

1-أن تكون العين تحت يد لا يضمن صاحبها إلاّ بالتعدي أو التفريط

، كالوديعة،و المرهون،و مال المضاربة،و العارية من غير الذهب و الفضة، و تسمى هذه الأعيان غير مضمونة،لأن من هي في يده لا يضمن على كل حال.و قد أجمع الفقهاء على عدم صحة ضمانها ما دامت أعيانها قائمة، لأن سبب الضمان لم يتحقق،فيكون ضمانها،و الحال هذي،ضمانا لمال غير مضمون.

2-أن تكون العين في يد يضمن صاحبها على كل حال

،فرّط أو لم يفرط، تعدى أو لم يتعد،كالمغصوب،و المقبوض بالسوم،و بالعقد الفاسد، و عارية الذهب و الفضة،و تسمى هذه أعيانا مضمونة،لأن من هي في يده ضامن على جميع التقادير.و قد اختلف الفقهاء في ضمانها،فذهب جماعة إلى أنّه يجوز لأجنبي أن يتعهد لصاحب العين عمن هي في يده، يتعهد بإرجاعها له،مع بقائها بالذات،و إرجاع بدلها مع التلف،لأن سبب الضمان متحقق،فلا يكون الضمان ضمانا لما لم يجب،و لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الزعيم غارم»فإنه شامل لكل شيء تعهد به،سواء أ كان الشيء دينا أو عينا،و للأدلة العامة،مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.

ص:51

و قال آخرون،و منهم صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق:لا يجوز ضمانها،لأن معنى الضمان عند الفقهاء الجعفريين هو انتقال الحق من ذمة إلى ذمة،و هذا شيء،و الالتزام برد العين الخارجية شيء آخر،و بكلمة ان الضمان المبحوث هنا من شؤون الذمم،لا من شؤون الأعيان الخارجية،هذا إلى أن الغاصب و من إليه مكلف شرعا برد العين،و الأحكام الشرعية لا تقبل الضمان الذي هو بمعنى الانتقال من شخص إلى شخص،أجل،يجوز الضمان لو كان معناه ضم ذمة إلى ذمة،حيث يبقى إلزام الغاصب و تكليفه بالرد على ما هو عليه، و لا ينتقل منه إلى سواه،و لكن الفقهاء الجعفريين لا يقولون بذلك،كما تقدم.

3-ان يقع بيع بين اثنين،فيتعهد ثالث بدرك الثمن للمشتري عن البائع

إذا خرج المبيع مستحقا للغير،أو ظهر فساد البيع لفقد شرط من شروطه إذا كان المشتري قد دفع الثمن للبائع،أو يتعهد الثالث للبائع عن المشتري إذا خرج الثمن المعين مستحقا للغير،و يسمى هذا ضمان العهدة،و ضمان الدرك.

و قد أجازه الفقهاء،و استدلوا على جوازه و صحته بسيرة المسلمين قديما و حديثا،و بالحاجة الماسة إليه،إذ لو لا الجواز لوقع الناس في العسر و الحرج.

ضمان درك البناء و الغرس:

إذا اشترى شخص من آخر قطعة أرض-مثلا-و بنى المشتري فيها دارا،أو غرسها بستانا،ثم ظهرت مستحقة للغير،و أزال المالك البناء و الغرس كان درك ذلك على البائع باتفاق الفقهاء جميعا إذا كان المشتري جاهلا بذلك،لأن البائع، و الحال هذي،قد غرر بالمشتري،و المغرور يرجع على من غره.و هل يجوز

ص:52

لثالث أن يضمن للمشتري درك ما يحدث في القطعة إذا خرجت مستحقة للغير.

ذهب المشهور بشهادة صاحب العروة الوثقى إلى عدم صحة هذا الضمان، لأن المشتري لا يستحق شيئا على البائع قبل ازالة البناء و الغرس،حتى يصح الضمان.فيكون-اذن-ضمانا لما لم يجب.

و سبق أكثر من مرّة أن كل ما يصدق عليه اسم العقد عند أهل العرف يصح و يجب الوفاء به،و ان وجوب الوفاء بكل عقد على حسب مقتضاه،و عليه يصح مثل هذا الضمان،و يجب الوفاء به عند ازالة البناء و الغرس،و بهذا أفتى الشهيد الأول و الثاني و صاحب العروة الوثقى.

أمّا ضمان البائع للمشتري درك الثمن،أو درك البناء و الغرس إذا خرج المبيع مستحقا للغير فوجوده و عدمه سواء لأنه ضامن بنفس العقد،بل لو تبرأ من الضمان لم يبرأ.

لا سبيل للمضمون له،على المضمون عنه:

اتفقوا كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق،و غيرهما على أن شروط الضمان متى تحققت بكاملها انتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن،و لا يجوز للمضمون له أن يطالب المضمون عنه بشيء،لأن الضمان عند الفقهاء الجعفريين انتقال المال من ذمة إلى ذمة،لا ضم ذمة إلى ذمة، المعروف بالتكافل و التضامن،لأن المال الواحد لا تشتغل به ذمتان في آن واحد، و لا ذمة واحدة على سبيل الترديد و عدم التعيين،و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا رضي الغرماء برئت ذمة الميت»فإنه صريح في براءة ذمة المضمون عنه بعد الضمان.

ص:53

رجوع الضامن على المضمون عنه:

يرجع الضامن على المضمون عنه بما اداه للمضمون له إذا كان قد ضمن بإذن المضمون عنه،و إلاّ فلا يحق له الرجوع عليه،لأنه متبرع قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك».

و إذا أبرأ المضمون له الضامن من الدين بريء هو و المضمون عنه،و لا يحق للضامن الرجوع على المضمون عنه،لأن استحقاق الرجوع عليه انما يكون مع الأداء عنه و الضمان بإذنه،فإن ضمن بغير اذنه،أو لم يؤد إطلاقا فلا حق له عليه.

و إذا أبرأ المضمون له ذمة المضمون عنه فلا تبرأ ذمة الضامن،لأن المفروض ان المضمون عنه أجنبي عن المضمون له بعد الضمان،فلا يؤثر إبراؤه شيئا إلاّ أن يفهم منه أنّه أراد الإبراء من أصل الدين الذي كان على المضمون عنه، و عليه تبرأ ذمة الضامن من غير شك.

و اتفقوا كلمة واحدة على أن الضامن لا يجوز له الرجوع على المضمون عنه و المطالبة بشيء إلاّ بعد أن يؤدّي الى المضمون له،لأن ذمة المضمون عنه لا تشتغل بشيء إلاّ بعد الأداء،على أن يكون الضمان بإذن من المضمون عنه.

و أيضا اتفقوا على أنّه لا يرجع عليه إلاّ بمقدار ما أداه للمضمون له،على شريطة أن لا يزيد على أصل الدين،و إذا أبرأ المضمون له الضامن من الدين فلا يرجع هذا على المضمون عنه بشيء،و إذا أبرأه من البعض،و أخذ منه البعض رجع عليه بما أدى فقط،و مما استدلوا به على ذلك أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل ضمن عن آخر ضمانا،ثم صالح عليه؟قال:ليس للضامن إلاّ الذي صالح عليه، و إذا دفع الضامن للمضمون له عروضا رجع الضامن على المضمون عنه بقيمة العروض ان كانت بمقدار الدين،أو أقل،و ان زادت عنه رجع بالحق الذي

ص:54

ثبت في ذمته للمضمون له.

ترامي الضمناء:

يصح أن يضمن ثان عن الضامن الأول،و يضمن عن الثاني ثالث،و هكذا، لأنه عقد تام الشروط فيجب الوفاء به،و يرجع الثالث بما اداه على الثاني،و الثاني يرجع على الأول،و الأول على المضمون له الأصيل،و الشروط في الجميع هي الشروط.

مسائل:

1-يجوز للضامن أن يضمن الدين بأقل منه برضا المضمون له

،و لا يرجع الضامن على المضمون عنه مع اذنه في الضمان إلاّ بما أداه،كما سبق.

و أيضا يجوز أن يضمن الدين بأكثر منه،لأن المفروض ان الزيادة لم تقع شرطا في الدين الذي استدانه المضمون عنه،كي تكون من الربا،و لأن للمدين أن يرد الدين بأكثر منه تبرعا من تلقائه،و من هنا لا يجوز للضامن أن يرجع على المضمون عنه إلاّ بأصل الدين،حتى و لو دفع للمضمون له أضعافا.

2-إذا كان اثنان في سفينة،و لأحدهما فيها أمتعة،و قال الآخر لصاحب الأمتعة

الق امتعتك بالبحر،و عليّ ضمانها

،فهل يصح هذا الضمان،بحيث إذا ألقى الأمتعة بالبحر،وجب على الضامن أن يدفع بدلها؟ قال الفقهاء:إذا قال له ذلك للخوف على السفينة من الغرق لمكان الثقل صح الضمان بالإجماع دفعا للضرر،أما مع عدم الخوف فلا يصح الضمان لأنه

ص:55

سفه،و قد أجمع الفقهاء على عدم صحة الضمان لو قال له:مزق ثوبك،أو اجرح نفسك و علي الضمان.و يأتي البيان الأوفى في باب الديات ان شاء اللّه.

3-سبق أن المضمون له لا سبيل له على المضمون عنه

،و لكن إذا دفع هذا له الحق بريء هو و الضامن.قال صاحب الجواهر:«بلا اشكال و لا خلاف».

4-إذا كان الدين الذي ضمنه الضامن مؤجلا إلى أمد معين،و مات الضامن قبل

مضي الأجل

،فإن الدين الذي عليه يصبح معجلا بموته،و يستوفى من تركته،و قدمنا ذلك في باب الدين،و لكن لا يحق لورثة الضامن الرجوع على المضمون عنه إلاّ بعد مضي أجل الدين،لأن الحلول على الضامن بموته لا يستدعي الحلول على المضمون عنه،و كذا لو سقط الضامن من الأجل،و أدى الدين قبل مضيه،فإنه لا يرجع على المضمون عنه إلاّ بعد انقضاء الأجل.

5-إذا ضمن من غير اذن المضمون عنه

،و لكن بعد أن تم الضمان قال المضمون عنه للضامن:ادّعني،فهل يرجع الضامن بما أداه،لمكان الإذن بالأداء؟ الجواب:كلا،لأن سبب الرجوع هو الاذن بالضمان لا الاذن بالأداء،إذ الضمان ينقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن،و عليه يكون المضمون عنه بريئا من الدين،و يكون قوله:ادعني كقول أي بريء لمن عليه ديون للناس:أدّ ما عليك من ديون.

التنازع:

1-إذا اختلف الضامن و المضمون له في مقدار الدين المضمون

،أو في مقدار

ص:56

ما ضمن منه،أو في اشتراط تعجيل المؤجل فالقول قول الضامن،لأن الأصل عدم الزيادة.

و إذا اختلفا في وفاء الحق،أو الإبراء منه كلا أو بعضا،أو في تأجيل الحال فالقول قول المضمون له،لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.

2-إذا اختلف الضامن و المضمون عنه في الاذن

،فقال الضامن:أذنت لي بالضمان عنك،و قال المضمون عنه:كلا،لم آذن فالقول قوله،و على الضامن البينة،و إذا قال الضامن:قد وفيت الدين عنك للمضمون له، و أنكر المضمون عنه الوفاء سئل المضمون له،فان صدق الضامن ألزم المضمون عنه بالأداء،لأن إقرار المضمون له بوصول حقه إليه حجة عليه، و ان أنكر المضمون له الوفاء فعلى الضامن البينة.

3-إذا أنكر الضامن الضمان من الأساس،و أقام المضمون له البينة على

ضمانه

،و استوفى الحق منه كاملا فلا يجوز للضامن ان يطالب المضمون عنه بشيء،لأن إنكاره لأصل الضمان يشكل اعترافا منه بأن المضمون عنه لم يأذن له بالضمان،و سبق أنّه مع عدم الاذن لا يحق له الرجوع عليه.

4-إذا كان عليك دين لشخص،و أذنت لأحد معارفك أن يفي ما عليك من

الدين

من غير أن يكون قد ضمنه للدائن،و بعد أمد قال:قد وفيت عنك تلبية لرغبتك،فإذا أنكرت قوله كان عليك الإثبات بأن الدين باق على ما هو،و عليه اليمين مع العلم بأنه مدع،و أنت المنكر،لأنه أمين بعد الاذن له بالوفاء،و ليس على الأمين إلاّ اليمين.هذا إذا لم يعترف الدائن بالوفاء، و مع اعترافه به لا يبقى موضوع للنزاع و الاختلاف.

ص:57

ص:58

الحوالة

اشارة

ص:59

ص:60

المحيل و المحال و المحال عليه:

إذا كنت مدينا لزيد بمال،و كان عمرو مدينا لك بمال،و أحلت زيدا على عمرو،و رضي زيد بهذا التحويل كنت أنت محيلا،و زيد محالا،و عمرو محالا عليه،و المال محالا به-أذن-الحوالة هي تحويل المال من ذمة مشغولة بدين إلى ذمة أخرى.

مهدنا بهذه الإشارة لتوضيح ما نتعرض إليه فيما يلي.

شرعية الحوالة:

الحوالة مشروعة إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يحيل الرجل بدراهم،أ يرجع عليه؟قال:لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك.

الرضا:

اتفق الفقهاء على أنّه لا بد في الحوالة من رضا المحيل و المحال،أما رضا المحيل فلأن من عليه الدين لا يجبر على وفائه من جهة دون جهة من أمواله،و أما رضا المحال فلأن دينه ثابت في ذمة معينة فلا يتحول إلى غيرها إلاّ برضاه،أما المحال عليه فقد اتفقوا على اعتبار رضاه إذا كان غير مدين للمحيل إطلاقا أو

ص:61

مدينا له بغير جنس المال المحال به،كما لو كان مدينا بحنطة فيحال عليه بنقد، لأن الاستيفاء في هذه الحال،مع عدم الرضا استيفاء للحق من غير من هو عليه.

و اختلفوا في رضا المحال عليه المدين للمحيل بمثل المال المحال به، فذهب المشهور إلى اعتباره أيضا،لأنه لا دليل على صحة الحوالة دون رضاه، و الأصل بقاء ما كان على ما كان من اشتغال ذمة المحيل بدين المحال،و اشتغال ذمة المحال عليه بدين المحيل بعد التحويل من غير رضاه.

و قال أكثر من واحد،لا يعتبر رضا المحال عليه،ما دام مطلوبا للمحيل بمثل ما أحال عليه،لأن الناس مسلطون على أموالهم،سواء أ كانت في الخارج، أو في الذمة،فكما يجوز لصاحب الحق أن يقول لمن هو عليه:أعطه من الحق الذي عليك،و ان يصالح عليه من شاء بما شاء رضي من عليه الحق أو لم يرض كذلك تجوز الحوالة عليه شاء،أو أبى.

و بناء على القول المشهور من اعتبار رضا المحال عليه إطلاقا بريئا كان،أو مدينا بالمثل أو بغيره،بناء على ذلك لا بد من رضا الثلاثة:المحيل،و المحال، و المحال عليه بشتى أقسامه على أن يتم عقد الحوالة بالإيجاب من المحيل، و القبول من المحال فقط،أما رضا المحال عليه فهو شرط لصحة العقد،لا جزء منه،و يصح منه متقدما على العقد،و متأخرا عنه،و مقارنا له.و قيل:ان عقد الحوالة مركب من الإيجاب من المحيل،و من قبولين:أحدهما من المحال، و الآخر من المحال عليه.

و مهما يكن،فإن العلامة الحلي في القواعد قد عرف الحوالة بأنّها عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى أخرى،و عرفها كثيرون غيره بأنّها تحويل المال من ذمة إلى ذمة مشغولة بمثله،و يبتني التعريف الأول على أن الحوالة نتحقق مع

ص:62

براءة ذمة المحال عليه،و يبتني التعريف الثاني على ان الحوالة لا تتحقق إلاّ مع اشتغال ذمة المحال عليه،هذا،مع العلم بأن الجميع على وفاق في أن التعهد من البريء يقع صحيحا،و لكنه يسمى ضمانا و حوالة عند أهل التعريف الأول، و يسمى ضمانا فقط و لا يسمى حوالة عند أهل التعريف الثاني،فالاختلاف-اذن -في الشكل و التسمية،لا في الجوهر.

و هذا ملخص أقوال الفقهاء،أما الناس العاديون فإنهم يفهمون من معنى الحوالة أن المدين يحيل الدائن في وفاء دينه على غيره،و لا يلتفتون إطلاقا إلى أن المحال عليه مطلوب للمحيل،أو غير مطلوب.

الشروط:

1-ان يرضى المحيل،و المحال،و المحال عليه

،حسبما تقدم،أجل،إذا تبرع متبرع عن المحيل بوفاء دينه فلا يشترط رضاه،كائنا من كان المتبرع،لأن وفاء الدين و ضمانه لا يشترط فيه رضا المدين.

2-ذهب المشهور إلى أن الحوالة لا بد أن تكون منجزة غير مغلقة على شيء

تماما

كما هي الحال في الضمان،فإذا قال المحال للمحيل:قبلت التحويل على فلان بشرط إذا لم يدفع لي رجعت عليك بطل الشرط و التحويل، و بقي كل شيء على ما كان.

و يلاحظ بأن هذا ان لم يصح تحويلا فإنه يصح باسم آخر،و المهم أن يصدق على هذا التعهد و أمثاله اسم العقد عند أهل العرف،و متى صدقت التسمية وجب الوفاء،و سبق البيان في فصل الضمان فقرة«الصيغة».

3-أن يكون كل من المحيل و المحال،و المحال عليه أهلا للتصرفات المالية

.

ص:63

أجل،يجوز التحويل من المفلس على البريء من ديونه،لأنه نظير الاقتراض منه الذي يصح باتفاق الفقهاء.

4-أن يكون المال المحال به ثابتا في ذمة المحيل للمحال

،سواء أ كان ثبوته مستقرا،كالقرض و ثمن المبيع اللازم،أو غير مستقر،كمهر الزوجة قبل الدخول و ثمن المبيع في زمن الخيار،فالمهم ان يكون ثابتا في الذمة بأي نحو من أنحاء الثبوت،أمّا إذا لم يكن ثابتا في الذمّة أصلا فيكون وكالة بلفظ التحويل،إذ لا يشترط في الوكالة لفظ خاص،فإذا قال لك قائل غير مدين لك بشيء قال:قد أحلتك بالدين الذي لي على فلان فاقبضه منه كان هذا وكالة بلفظ الحوالة،فإذا قبضت المال يبقى في يدك أمانة لصاحبه.

و لا فرق في الحق المحال به بين أن يكون عينا كالدراهم و الحبوب،أو منفعة كمن استأجر آخر ليوصله بالسيارة إلى بلد معلوم،أو عملا كمن استأجره ليبني له حائطا دون أن يشترط عليه المباشرة بنفسه،فإن الحوالة تصح في ذلك كله.

و تسأل:إذا قال انسان لآخر:أقرضني و خذ عوضه من زيد فرضي المخاطب بالإقراض و الأخذ من زيد،كما رضي زيد بالوفاء،فهل يصح مثل هذا؟و في حال الصحة فمن أي باب يكون،مع العلم بأنه ليس ضمانا بالمعنى الأخص،و لا حوالة،لأن المفروض أن ذمة القائل لم تشتغل بعد بالقرض.

و أجاب السيد صاحب العروة الوثقى:«بأن هذا صحيح من باب الحوالة، لصدق اسمها عليه».

و الأولى في الجواب هو ما سبق مرات من أنّه ليس من الضروري إذا لم يصح حوالة،و لا ضمانا بالمعنى الأخص ان لا يصح إطلاقا،و لو باعتبار آخر،

ص:64

و هو أن يكون هذا تعهدا مستقلا بنفسه،كسائر العقود غير المسماة التي يحكم بصحتها و وجوب الوفاء بها لمجرد صدق اسم العقد عليها في نظر أهل العرف.

و لو اشترط المحال عليه تأجيل الوفاء،و رضي المحال صح،و ان كان الدين حالا.و لو اشترط المحال التعجيل و رضي المحال عليه صح أيضا،و ان كان الدين عليه مؤجلا،عملا بحديث«المؤمنون عند شروطهم».

5-ذهب المشهور إلى أنّه يشترط علم الثلاثة بجنس و مقدار المحال به

بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة إلى أنّه يشترط علم الثلاثة بجنس و مقدار المحال به،لأن الجهل يستدعي الغرر، و يتعذر معه الوفاء،و الأخذ و العطاء.

6-أن يكون المحال عليه قادرا على الوفاء وقت الحوالة

،أو علم المحال بإعسار المحال عليه و رضي بالتحويل،أمّا إذا جهل الإعسار عند التحويل،ثم علم فله حق الفسخ و الرجوع على المحيل.

و إذا كان عند التحويل مليا،ثم تجدد الإعسار فلا فسخ.فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يحيل الرجل على الصيرفي،ثم يتغير حال الصيرفي، أ يرجع على صاحبه إذا أحيل عليه و رضي؟ قال الإمام عليه السّلام:لا.

و المفهوم من تغير حال الصيرفي إفلاسه بعد أن كان مليا عند التحويل.

لزوم الحوالة و براءة ذمة المحيل:

متى تمت الشروط صحت الحوالة،و لزمت بحق الثلاثة،و لا يجوز لواحد منهم العدول عنها،و تبرأ ذمة المحيل من دين المحال،و تشتغل ذمة المحال عليه،و لا يحق للمحال أن يطالب المحيل بشيء،حتى و ان لم يستوف من

ص:65

المحال عليه،لأن معنى الحوالة هو تحويل الدين من ذمة إلى ذمة،كما يدل عليه لفظ الحوالة،و لو بقيت ذمة المحيل مشغولة بالدين لما كان للفظ الحوالة و ما يتفرع عنها أي معنى تدل عليه.هذا،إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام قد سئل عن الرجل يحيل الرجل بالمال،أ يرجع عليه؟قال:لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس،أي أفلس قبل التحويل.

و قال بعض الفقهاء:لا تبرأ ذمة المحيل،حتى يقول له المحال:قد أبرأت ذمتك من الدين استنادا إلى رواية أهملها الفقهاء.

و إذا كانت ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما أداه عنه برئت ذمته من دينه،و إذا كانت مشغولة بغير المثل يتحاسبان.

و يجوز لكل واحد من الثلاثة ان يشترط الخيار في فسخ الحوالة،لعموم أدلة وجوب الوفاء بالشرط.

ترامي الحوالات:

اتفقوا على أن الحوالات يجوز تراميها:و هي أن يتحد المحال،و المال و المحال به،و يتعدد المحال عليه،مثال ذلك أن يكون لك دين على زيد، فيحيلك زيد على عمرو،ثم يحيلك عمرو على خالد،و خالد على إبراهيم، فجميع هذه الحوالات صحيحة،مع الشروط المتقدمة.

التحويل من المشتري و البائع:

إذا بعت متاعا لزيد،و أحالك زيد بالثمن على ثالث،و رضي الجميع بالحوالة،أو أحلت أنت ثالثا على زيد بقبض الثمن منه،ثم رد زيد المبيع عليك

ص:66

بسبب مشروع،فهل تبطل الحوالة؟ و الجواب يستدعي التفصيل بين أن يكون الرد لبطلان البيع من الأساس، كما لو تبين ان المبيع وقف،و بين أن يكون الرد بفسخ البيع لأحد الخيارات،فان كان الرد لبطلان البيع بطلت الحوالة إطلاقا،سواء أ كان المشتري هو الذي أحال البائع على ثالث،أو أن البائع هو الذي أحال الثالث على المشتري،أمّا بطلان الحوالة إذا كان المشتري هو المحيل فواضح،لأن الحوالة انما تصح إذا كان المحيل مدينا للمحال،و قد تبين من بطلان البيع ان المشتري غير مطلوب بشيء للبائع،و أمّا بطلان الحوالة إذا كان البائع هو المحيل،و المشتري هو المحال عليه فلأن التحويل على المشتري انما كان من حيث اشتغال ذمته بالثمن،و قد تبين العكس،فتبطل الحوالة،حتى على القول بجواز الحوالة على البريء،و بكلمة ان التحويل لم يكن على المشتري،حتى و لو كان بريئا،بل كان التحويل على اشتغال ذمته بالثمن التي تبين أنّها غير مشغولة به.

و إن كان الرد بسبب فسخ البيع لا بطلانه صحت الحوالة،لوقوعها في حال اشتغال ذمة المشتري بالثمن،لأن الفسخ لا يبطل البيع من أساسه،بل من حين الفسخ،و المفروض أن التحويل كان قبل الفسخ،و حين صحة البيع،فيكون صحيحا تماما كما لو اشترى البائع بثمن المبيع ثوبا،ثم رد المشتري المبيع بالخيار،فلا يبطل شراء الثوب،و لا يكون ملكا للمشتري،بل يرجع المشتري على البائع بالثمن،ما دام باقيا،و ببدله مع التلف.

و بالإيجاز ان تحويل المشتري للبائع على ثالث،و تحويل البائع للثالث على المشتري يبطل مع بطلان البيع،و يصح مع فسخه،و في حال البطلان يبقى الثمن على ملك المشتري يطالب به أينما كان،و في حال الصحة يرجع المشتري

ص:67

بعد رد المبيع على البائع،حتى و لو كان المشتري قد أحال البائع على ثالث،و لم يكن قد قبض البائع بعد من الثالث،لأن التحويل الصحيح تماما كالاستيفاء (1).

التنازع:

إذا أدى المحال عليه المال المحال به،ثم رجع على المحيل،و طالبه بما أداه عنه،فقال المحيل:ان الذي أديته كان دينا لي في ذمتك،و أنكر المحال ذلك،و قال:كلا،ليس لك علي شيء فالقول قول المحال عليه،و على المحيل البينة،لأن الأصل براءة ذمته،حتى يثبت العكس.أجل،من اشترط لصحة الحوالة أن تكون ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل يكون القول قول المحيل، حيث يكون الشك،و الحال هذي،في صحة الحوالة،و أصل الصحة مع المحيل فيكون القول قوله،لا قول المحال عليه الذي يدعي فساد الحوالة،و لكن قد عرفت ان المشهور على خلاف ذلك.

و تسأل:ان المحال عليه يدعي شغل ذمة المحيل،و المحيل ينكر ذلك، و بديهة أن الأصل براءة الذمة،حتى يثبت العكس،و على هذا يكون المحيل منكرا،و المحال عليه مدعيا،حتى و لو لم نشترط لصحة الحوالة شغل ذمة المحال عليه.

و نجيب بأن الشك في شغل ذمة المحيل مسبب و ناشىء عن الشك في

ص:68


1- و فصل جماعة من الفقهاء من جهات أخرى غير الجهة التي ذكرناها،و أطالوا الكلام،و الذي ذكرناه عليه كثيرون من أقطاب الفقه،بخاصة المراجع في هذا القرن،منهم السيد اليزدي و الشيخ النائيني في العروة الوثقى،و السيد أبو الحسن في وسيلة النجاة،و السيد الحكيم في الجزء الثاني من منهاج الصالحين. [1]

شغل ذمة المحال عليه،فإذا أجرينا أصل براءة ذمة المحال عليه ينتفي الشك في براءة ذمة المحيل،و نعلم يقينا بشغل ذمته،لأن الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي،كما تقرر في علم الأصول.

2-إذا كان لشخص عليك دين،و قلت له:وكلتك بقبض ما لي من دين على فلان،و بعد ان قبضه منه قال لك:أحلتني بديني الذي لي عليك،و أردت من لفظ الوكالة الحوالة.و قلت أنت:كلا،اني وكلت،و ما أردت من اللفظ إلاّ مدلوله و معناه الحقيقي،فإذا لم يكن هناك قرينة تعين أحد المعنيين كان القول قولك عملا بظاهر اللفظ.

و إذا قلت له:أحلتك،ثم ادعيت أنّك أردت الوكالة،لا الحوالة انعكس الأمر،و كان القول قوله لنفس السبب.

و إذا لم يجر بينكما لفظ الوكالة،و لا لفظ الحوالة،و انما جرى لفظ آخر،ثم وقع الاختلاف في أنّه وكالة أو حوالة فالقول قول من ينكر الحوالة،و على مدعيها الإثبات،لأن معنى الحوالة-كما سبق-نقل المال من ذمة إلى ذمة،و الأصل عدم النقل،و بقاء المال المقبوض على ملك مالكه،و بقاء الدين في ذمة المدين،حتى يثبت العكس.

ص:69

ص:70

الكفالة

اشارة

ص:71

ص:72

معناها:

الكفالة عند الفقهاء تعهد من الكفيل للمكفول له بإحضار غريمه متى طلبه من الكفيل،كي يستوثق من حضوره،و لا يغيب عند طلبه،قال صاحب الجواهر:

«ان المتيقن من مورد الكفالة التعهد بإحضار النفس المستحق عليها الإحضار بسبب حق،و لو لدعوى المكفول له عليها،نعم لا تصح في الحدود لقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله:«لا كفالة في حد».فالكفالة-اذن-تتعلق بثلاثة أشخاص:كفيل، و مكفول له،و مكفول.

الشروط:

اشارة

يشترط في الكفالة:

1-العقد

،و هو من مقومات الكفالة لا من شروطها (1)و يتحقق بالإيجاب من الكفيل،و القبول من المكفول له،و من هنا أجمع الفقهاء على اعتبار رضاهما،و اختلفوا في رضا المكفول،فذهب المشهور إلى عدم اعتباره، و احتجوا بأن الكفيل كالوكيل،و المكفول كالشيء الموكل عليه،فكما لا

ص:73


1- الفرق بين الركن و الشرط ان ركن الشيء داخل فيه،و جزء منه،و الشرط خارج عنه، و ذكرناهما معا في فقرة واحدة لأن النتيجة واحدة من كل منهما،حيث يلزم من عدمه العدم، و لا يلزم من وجوده الوجود،و هكذا نفعل في بقية الأبواب،للسبب نفسه.

يعتبر رضا الموكل عليه في الوكالة كذلك لا يعتبر رضا المكفول.هذا التعليل قد جاء في كتاب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة.

و لست أعرف قياسا أو هي من هذا القياس.و الأولى أن يقال:ان من عليه حق للغير فهو ملزم به،و مسؤول عنه،رضى أو لم يرض،و من لا حق عليه للغير لا يصح إلزامه إلاّ برضاه،و بديهة أن الكفيل لا حق عليه قبل الكفالة،و المكفول له هو صاحب الحق،فلا يلزمان إلاّ بما ألزما به أنفسهما،أما المكفول فهو امّا مدين، و امّا مدعى عليه،و المدين مسؤول أمام دائنه،و ملزم بأداء حقه،و المدعى عليه مسؤول أمام المدعي،و ملزم بالحضور في مجلس الحكم،شاء،أو أبى،و من أجل هذا اعتبر رضاهما دون رضاه.

2-ان يكون الكفيل عاقلا بالغا قادرا على إحضار المكفول

،فلا تجوز كفالة الضعيف القوي،لعجزه عن إحضاره،و لا لولي المجنون و الصبي أن يكفل أحدا نيابة عنهما.و يجوز أن يقبل الكفالة لهما،فإذا كان لأحدهما حق على من يخشى تغيبه،و كفله آخر فإن للولي أن يقبل الكفالة لمن له الولاية عليه،إذا توافرت الشروط في الكفيل.

3-أن يكون المكفول معينا

،فلا يصح كفلت أحد هذين،أو كفلت هذا،أو ذاك،لأن الغرض من الكفالة إحضار المكفول بعينه،و يتعذر ذلك مع الجهل به.

4-قال جماعة من الفقهاء:يشترط التنجيز في الكفالة

،فلو قال:أنا كفيل بإحضاره،ان لم يحضر فلا يصح،لأن الكفالة لا بد فيها من الجزم، و لا جزم،مع التعليق.

و تقدم أكثر من مرة أن عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يهدم هذا الشرط إذا صدق اسم

ص:74

العقد عند أهل العرف.

5-ان يكون المكفول مطلوبا بحق من حقوق الناس

من مال،أو عقوبة قصاص،أو الحضور إلى مجلس الحكم للتخاصم في آية دعوى مسموعة.فلا تصح الكفالة في حقوق اللّه سبحانه،لأن المرغوب فيه التساهل فيها،و انّها تدرأ لأدنى شبهة،قال صاحب مفتاح الكرامة في المجلد الخامس ص 430 طبعة أولى:«فإن كانت حقوق اللّه سبحانه، كحد الزنا و السرقة و الشرب لم تصح الكفالة عند علمائنا أجمع،لأن الكفالة للتوثيق،و حقوق اللّه مبنية على الاسقاط،و ينبغي السعي في دفعها- أي عدم إيقاعها-ما أمكن،كما عرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما عزّ بالرجوع و الإنكار».

و لا يشترط العلم بمقدار المال المطلوب به المكفول،لأن الكفالة تعلقت بإحضاره،لا بالحق الذي في ذمته.

و متى تمت الشروط كانت الكفالة لازمة لا يجوز للكفيل،و لا المكفول له الفسخ و العدول،و يجوز لهما التقايل،و اشتراط الحق في الفسخ أمدا معينا، لعموم أدلة وجوب الوفاء بالشرط.

التعجيل و التأجيل:

اتفقوا على أن الكفالة تصح مؤجلة،و اختلفوا في صحتها معجلة، و المشهور على الصحة،و عدم اشتراط التأجيل،لأن أدلة الكفالة عامة تشمل الحالين،تماما كما هو الشأن في الدين،و يشترط رضا المكفول إذا كان الحق مؤجلا،و الكفالة حالة.

ص:75

و إذا أطلقت الكفالة،و لم تقيد بأجل تكون حالة،و إذا قيدت به يجب أن تكون معينا تعيينا لا يختلف زيادة و لا نقيصة،كما هي الحال في كل قيد.

و إذا كانت حالة وجب على الكفيل إحضار الغريم عند طلب المكفول له، و إذا كانت مؤجلة فليس له أن يطالبه به إلاّ بعد مضي الأجل.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن الكفيل إذا أحضر الغريم قبل الأجل فلا يجب على المكفول أن يتسلمه منه،لأن التسليم غير واجب فالتسلم كذلك،بخاصة إذا كان للمكفول له مانع من تسلمه.

مكان التسليم:

إذا عينا مكانا للتسليم تعين،و لا يبرأ الكفيل لو سلمه في غيره عملا بالشرط،و ان أطلقا الكفالة،و لم يعينا مكانا ينظر:فان انصرف الإطلاق إلى مكان معين كبلد العقد فهو،و ان لم ينصرف إلى بلد خاص،و لا قرينة تدل على التعيين،بحيث يكون مبهما فالقواعد تستدعي بطلان الحوالة،للجهل و الغرر.

انقياد المكفول:

يجب على المكفول ان يحضر مع الكفيل إذا طلبه منه المكفول له في حينه،سواء أ كانت الكفالة بإذن المكفول،أو من غير إذنه،أما الأول فواضح،و أمّا الثاني فلأن الكفيل بمنزلة الأصيل،و من عليه الحق يجب عليه الحضور متى طلبه صاحب الحق،حتى و لو لم يكن مكفولا.

ص:76

تسليم المكفول:

إذا أحضر الكفيل الغريم في الوقت و المكان،و خلى بينه و بين المكفول له يبرأ الكفيل من حق الكفالة،سواء أقبله المكفول له،أو لم يقبله،استوفى حقه منه،أو لم يستوف،لأن الكفالة تعلقت بإحضار الغريم،و قد أحضره،و قام بالتزامه،فلم يبق عليه من سبيل.

و ان امتنع الكفيل عن تسلمه في الوقت و المكان رفع المكفول له الأمر إلى الحاكم.و قال جماعة:ان على الحاكم أن يحبسه،حتى يحضر الغريم،أو يؤدي عنه،و استدلوا بما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام جيء له برجل قد كفل رجلا،فقال:احبسوه،حتى يأتي بصاحبه.

و الحق ان الحاكم لا يجوز له حبس الكفيل فورا،و قبل النظر في أمره،بل يجب عليه قبل كل شيء التثبت و البحث عن حاله،فان كان قادرا على إحضاره، أو الوفاء عنه،و مع ذلك امتنع تمردا و عنادا جاز له حبسه،لأن الكفالة تقتضي إحضار الغريم،أو الأداء عنه مع القدرة،فإن امتنع صدق عليه الحديث الشريف:

«لي الواجد تحل عقوبته».

و ان كان الكفيل عاجزا عن إحضار الغريم،لهرب،و لغيبة منقطعة فلا يجوز أن يطلبه الحاكم و لا غير الحاكم من الكفيل،لأنه تكليف بغير المقدور،و إذا لم يجز التكليف بالإحضار فلا يجوز الحبس من أجله،و متى ثبت عجز الكفيل عن إحضار الغريم:فان كان الحق المطلوب من الغريم مالا،أو يمكن التعويض عنه بمال،و ثبت هذا الحق بالبينة،و كان الكفيل قادرا على الوفاء أمره الحاكم به، فان امتنع جاز حبسه،لأن الكفيل وثيقة على الحق،كالرهن فإذا تعذر الاستيفاء ممن عليه الحق استوفي من الوثيقة،مع الإمكان.

ص:77

أمّا إذا كان الكفيل عاجزا عن الوفاء،أو كان الحق الذي على الغريم لا يمكن التعويض عنه بالمال،كدعوى النسب،و ما إليها فلا يجوز حبسه إطلاقا، بل يجب الصبر و الانتظار إلى حين القدرة.أجل،يجب على الكفيل ان يسعى و يبذل الجهد لإحضار الغريم،و إذا كان غائبا في مكان معلوم،و طلب الكفيل الإمهال بمقدار ما يذهب إليه،و يعود أجيب إلى طلبه بالاتفاق.

و تسأل:لقد ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن أمير المؤمنين عليه السّلام كان يحبس الكفيل دون أن يبحث عن حاله،فما هو المصدر لهذا التفصيل؟ و الجواب:ان التفصيل الذي ذكرناه يحتمه العقل و أصول المذهب،أمّا فعل أمير المؤمنين عليه السّلام فإنه محمول على أن الكفيل كان قادرا على إحضار الغريم، و مع ذلك امتنع عنه،و الشاهد على هذا الحمل قبح الظلم،و التكليف بغير المقدور.

رجوع الكفيل على المكفول:

اتفق الفقهاء على أن الكفيل إذا أدى عن الغريم دون أن يأذن له بكفالته و لا الأداء عنه لا يرجع عليه بشيء مما أداه،لأنه متبرع،و إذا أدى عنه بإذنه رجع عليه، و طالبه بما أداه،حتى و لو لم يكن قد أذن له بالكفالة.

و اختلفوا فيما إذا اذن له بالكفالة دون الأداء،فمن قائل بأن الإذن بالكفالة كاف لجواز الرجوع عليه،لأن الإذن بها أذن بالأداء.و من قائل بعدم جواز الرجوع،لأن الكفالة تتعلق بالإحضار،و الأداء متعلق بالمال،و لا ملازمة بين الاثنين.

و الحق ان الاذن بالكفالة لا تأثير له،و ان الكفيل لا يرجع على الغريم بما

ص:78

أداه عنه إلاّ لأحد أمرين:الأول أن يأذن له بالأداء عنه،و في هذه الحالة يرجع عليه،حتى و لو لم يكن قد أذن بالكفالة،الثاني ان يتعذر على الكفيل إحضار الغريم،و ان يريد الحاكم حبس الكفيل إذا لم يؤد عن مكفوله،فيؤدي الحق عنه، ليدفع الضرر عن نفسه،فيرجع عليه أيضا،و ان لم يأذن له بالكفالة،لأنه لا يعد متبرعا.

أما إذا كان قادرا على إحضاره،و مع ذلك لم يحضره،و أدى عنه دون أن يراجعه و يأذن له بالأداء فإنه-و الحال هذي-لا يرجع عليه،حتى و لو كان قد اذن له بالكفالة،لأنه متبرع.

إطلاق الغريم:

إذا كان غريمك في يدك،و قبل أن تستوفي حقك منه جاء آخر،و خلصه منك ضمن إحضاره أو الأداء عنه.و ليست هذه المسألة من الكفالة في شيء، و لكن الفقهاء ذكروها هنا لأن حكمها حكم الكفالة.

و استدلوا على ذلك بأن المطلق سبب لتفويت الحق،و بأن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قتل رجلا عمدا،فرفع إلى الوالي،و سلمه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه،فوثب عليهم قوم،فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ فقال الإمام عليه السّلام:يحبس الذين خلصوا القاتل،حتى يأتوا به.قال السائل:فان مات القاتل،و هم في السجن؟قال الإمام عليه السّلام:عليهم الدية يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول.

ص:79

ترامي الكفالات:

يجوز ترامي الكفالات،كما هو الشأن في الضمان و الحوالة،لأن المعيار في صحة الحوالة هو ثبوت الحق على المكفول،و لو كان هذا الحق الكفالة نفسها،و مثال ذلك أن يكفل رجل المدين،ثم يكفل الكفيل ثان،و الكفيل الثاني يكفله ثالث،و هكذا،و إذا أحضر الثالث مكفوله الثاني بريء الثالث وحده،و كان الثاني مسؤولا عن إحضار مكفوله،و إذا أحضر الكفيل الأول الأصيل الذي تعلق الحق به للمكفول له بريء الجميع،لأنهم فروع عنه.

تسليم أحد الكفيلين:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أنه إذا تكفل اثنان رجلا،ثم سلمه أحدهما للمكفول له بريء الثاني أيضا من حق الكفالة،لأن الغرض هو التسليم،و قد حصل،بل لو سلم المكفول نفسه من تلقائه،أو سلمه أجنبي بريء الكفيل،لأن الكفالة ليست بأعظم من الدين،حيث تبرأ ذمة المدين منه،إذا تبرع بالوفاء متبرع.

موت الكفيل و المكفول:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن المكفول إذا مات بريء الكفيل من الكفالة،لارتفاع موضوعها،و أيضا تبطل بموت الكفيل،و لا شيء على ورثته.

أمّا موت المكفول له فلا يبطلها،بل ينتقل الحق إلى ورثته،و لهم مطالبة الكفيل بإحضار الغريم،و إذا نقل المكفول له الحق الذي له على المكفول،نقله

ص:80

إلى غيره ببيع أو صلح أو حوالة بطلت الكفالة،لأن النقل بالإرث غير النقل بالمعاوضة،لأن الإرث يقتضي نقل جميع ما كان للموروث من حق إلى الوارث، أما المعاوضة فتقتصر على ما وقع عليه العقد،و عقد الكفالة كان بين الكفيل و المكفول له،فإذا نقل المكفول له حقه عنه إلى غيره ذهب ركن من أركان العقد، فيبطل لارتفاع موضوعه.

التنازع:

إذا اعترف كل من الكفيل و المكفول له بالكفالة،ثم قال الكفيل للمكفول له:وقعت الكفالة فاسدة،لأنه لا حق لك على المكفول.و قال المكفول له:بل هي صحيحة كان القول قوله بيمينه،لأن الأصل صحة العقد،حتى يثبت العكس.

و إذا حلف المكفول له على صحة الكفالة،و أثبت دينه على المكفول عند الحاكم ألزم به الكفيل،و لا يرجع بما اداه على المكفول،لاعترافه ببراءة ذمته.

و إذا اعترف الكفيل بصحة الكفالة،و لكنه قال للمكفول له:لقد أدى الغريم ما لك عليه من حق،أو قال أبرأته منه و أنكر المكفول ذلك فالقول قول المكفول له أيضا،لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان،و إذا حلف المكفول له اليمين على عدم الأداء و الإبراء سقطت دعوى الكفيل.و إذا رد المكفول له اليمين على الكفيل،و حلف الكفيل سقطت الكفالة فقط،و بقي الحق بين المكفول له و المكفول قائما،لأن الإنسان لا يبرأ بيمين غيره.

و لو ان المكفول جاء بعد انتهاء الدعوى بين الكفيل و المكفول له،و قال للمكفول له:أديتك ما علي،أو قال:أبرأتني منه،فعلى المكفول له أن يحلف أيضا للمكفول على عدم الإبراء و الأداء،و لا يكتفى بيمينه الاولى للكفيل،لأن

ص:81

الهدف من الدعوى الأولى بين الكفيل و المكفول له هو ثبوت الكفالة،و الإبراء و الأداء انما ذكر وسيلة لإبطال الكفالة،و ليسا موضوعا و لا غاية للدعوى،أما الهدف من الدعوى الثانية بين المكفول له و المكفول فهو الإبراء أو الأداء بالذات بصرف النظر عن الكفالة،و بهذا يتضح أنّه لا تلازم بين الدعوتين.

و إذا رد المكفول له اليمين على المكفول،و حلف هذا سقط الحق عنه و عن الكفيل أيضا،لأن الكفالة فرع من ثبوت الحق على المكفول.و بكلمة ان سقوط الحق عن المكفول يستدعي قهرا سقوط الكفالة،أما سقوط الكفالة فلا يستدعي سقوط الحق عن المكفول.

ص:82

الصلح

اشارة

ص:83

ص:84

تعريفه:

عرّف كثير من الفقهاء الصلح بأنه عقد شرع لقطع التنازع بين المتخاصمين بتراضيهما.

و المفهوم من هذا التعريف ان الصلح لا بد فيه من قيام نزاع بين المصطلحين،و انّه لا يصح إذا وقع دون سبق التخاصم و التجاذب،مع أن الفقهاء أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة،و غيرهم على جواز الصلح و صحته ابتداء دفعا لتخاصم محتمل،قال صاحب الجواهر في أول باب الصلح:«يصح في رفع منازعة متوقعة محتملة،و ان لم تكن سابقة.

فاشتراط السبق في مفهومه غفلة واضحة».و تدل على ذلك الآية الكريمة من سورة النساء وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ .

و غير بعيد أن يكون هذا التعريف مبنيا على الغالب،فإن أكثر ما يكون الصلح بعد الخصومة و المنازعة.و قال أكثر من فقيه:ان الحكمة من تشريع الصلح هي قطع التخاصم،و الذين عرفوا الصلح بذلك نظروا إلى هذه الجهة، و المعروف ان القواعد الحكمية لا يجب اطرادها في جميع الأفراد،كما هو الشأن في العدة،فإن الحكمة من تشريعها استبراء الرحم،و مع ذلك تجب على الزوجة المطلقة التي انقطع عنها الزوج أمدا يعلم فيه باستبراء رحمها،و كما هو الشأن في

ص:85

الجنة فإن اللّه سبحانه خلقها للمتقين،و مع ذلك يدخل فيها غيرهم.

و مهما يكن،فان تعريف الفقهاء للعقد،أي عقد،ليس حدا للحقيقة و بيانها،و انما هو رسم يقصد به تمييز العقد عن غيره بجهة من الجهات،أو بضرب المثل من أوضح أفراده و مصاديقه.

و يتقوم الصلح بالصيغة،و المصطلحين،و العوض الذي اصطلحا عليه، و الشيء المصالح عنه،و هو الذي اختلفا فيه،أو خيف حدوث الاختلاف من أجله.

شرعية الصلح:

ذكر الفقهاء أدلة كثيرة على شرعية الصلح،منها قوله تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ .و قوله وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما (1).و قوله:

اُدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (2).

و قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا أحل حراما،أو حرم حلالا.

و قول الإمام الصادق عليه السّلام:لأن أصلح بين الاثنين أحب إليّ من أن أتصدق بدينارين.و قال للقائم على غلته:إذا رأيت منازعة بين اثنين فافتدها من مالي.

و الحق ان شرعية الصلح لا تحتاج إلى دليل،لأنها من ضرورات الدين التي يستدل بها،و لا يستدل لها،و متى احتاج الخير و الصلاح إلى الدليل على شريعتهما و رجحانهما؟.

ص:86


1- الحجرات:9. [1]
2- البقرة:28. [2]

الصلح قائم بنفسه:

يرى بعض أئمة المذاهب ان عقد الصلح غير قائم بنفسه،و انما هو فرع من غيره،و يعتبر بالشيء الذي يقع عليه،فيكون بيعا إذا وقع على مبادلة مال بمال، و هبة إذا تضمن ملك العين بلا عوض،و اجارة إذا وقع على منفعة بعوض، و عارية إذا كانت المنفعة من غير عوض،و إبراء إذا كان على إسقاط دين.

و المشهور بين الفقهاء الجعفريين أن الصلح عقد قائم بنفسه،و منفرد في حكمه،و غير تابع لغيره،لأن الأصل في كل عقد الاستقلال و عدم التبعية،حتى و لو أفاد في بعض الحالات فائدة عقد آخر،فان هذا الالتقاء لا يستدعي ان يكون فرعا عما التقى معه بجهة من الجهات.ان للصلح خصائص كثيرة،يلتقي في بعضها مع بعض العقود،و يفترق عنها جميعا في أنّه صالح لنقل الأعيان و المنافع، و إبراء الذمة،و قطع المنازعات،و أنّه يجوز مع العلم و الجهل،و الإقرار و الإنكار، كما يأتي البيان.و من خصائصه في التشريعات الوضعية أن التوكيل العام لا يشمله،فإذا وكل شخص آخر وكالة عامة فلا يجوز للوكيل أن يوقع الصلح نيابة عن موكله إلاّ بنص خاص.

الشروط:

اشارة

يشترط في الصلح:

1-العقد

و هو من مقوماته و ينعقد بتوافق الإيجاب و القبول،و يصح بكل ما يدل على التراضي،و لا يعتبر فيه لفظ خاص،كما يصح كل من الإيجاب و القبول من كل من المصطلحين.فيصح ان يقول المدعي:صالحتك على ما أدعية عليك بكذا،و يقول المدعى عليه:قبلت.و يصح أن يقول

ص:87

المدعى عليه:صالحتك بكذا على ما تدعيه عليّ،و يقول المدعي:قبلت.

و الأفضل ان يكون الموجب هو المدعي،و القابل هو المدعى عليه.

2-أن يكون كل من المصطلحين أهلا للتصرف في الحق

الذي يقع عليه الصلح من العقل و البلوغ و الرشد.

3-ان يكون محل الصلح

،و هو المصالح عنه و عليه موجودا،و مشروعا لا يحلل حراما،و لا يحرم حلالا.

الجهل بالمصالح عنه:

لا يشترط العلم بما تنازعا فيه،و اصطلحا عنه دينا كان أو عينا،أمكن العلم به،أو تعذر،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين كان لكل منهما طعام عند صاحبه،و لا يدري كم هو،فقال كل منهما للآخر:لك ما عندك،و لي ما عندي، قال الإمام عليه السّلام:لا بأس إذا تراضيا،و طابت أنفسهما.

و تسأل:ان الجهل يستلزم الغرر،و الغرر مبطل للمعاملة،و عليه ينبغي بطلان الصلح مع الجهل بالمصالح عنه.

و أجاب صاحب الجواهر عن هذا التساؤل بأن دليل الجواز مع الجهل هو الإجماع،و قول الإمام عليه السّلام:«لا بأس إذا تراضيا بذلك و طابت به أنفسهما»الذي يشمل حالة الجهل مع إمكان العلم و عدمه،و عليه تكون أدلة النهي عن الغرر مختصة بغير الصلح على فرض وجود هذه الأدلة.

و هذا الجواب قريب إلى مقاصد الشريعة،لأن الصلح مبني على التساهل و التسامح،و تنازل المحق عن بعض ما يستحق.فكما لا يشترط في الإسقاط و الإبراء أن يكون الحق معلوما فكذلك الأمر في الصلح.هذا،إلى أن الصلح لو لم

ص:88

يجز مع الجهل بالمتنازع فيه لامتنعت أكثر فوائده.

الإقرار و الإنكار:

يصح الصلح مع الإقرار و الإنكار،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى العمومات»أي عموم أدلة الصلح،كالآية الكريمة:«و الصلح خير».و حديث:«الصلح جائز»و ما إلى ذاك،و فرع الفقهاء على ذلك أن المدعى عليه إذا قال للمدعي:صالحني لم يكن هذا إقرارا منه،لأن الصلح يجتمع مع الإنكار.و ان المدعي إذا أقر بالحق المدعى به يجوز الصلح عليه بقيمته،و بأقل منها و أكثر و بالمساوي،ما دام التراضي متحققا من الطرفين.

و قد فهمت الصلح بين اثنين على شيء خشية التنازع المحتمل،و لم أفهم للصلح وجها مع الإقرار بالحق،لأن المقر ان أداه كاملا يكون هذا وفاء منه،و ان زاد عليه تكون الزيادة هبة،و ان تنازل المقر له عن حقه كلا أو بعضا كان هذا إبراء.و مهما يكن،فالأمر سهل،و النتيجة واحدة،و هي الصحة و الجواز عند الجميع،و لا اختلاف إلاّ بالتسمية.

و إذا وقع الصلح بعد الإنكار فإن كان المدعي مبطلا في دعواه،و عالما بكذبه فيها،و ان المدعى عليه انما صالحه اتقاء للخصومة،و افتداء للدعوى الكاذبة،ان كان كذلك،يصح الصلح ظاهرا.و يبطل واقعا،أي يحرم على المدعي الكاذب أخذ المال الذي وقع الصلح عليه،لأنه أكل للمال بالباطل،مع العلم بأن كل من المصطلحين ملزم قضاء بعقد الصلح.أجل،لو استندت الدعوى إلى شبهة،أو قرينة يخرج المدعي بها عن الكذب يصح الصلح ظاهرا و واقعا،مثال ذلك أن يرى انسان بخط مورثه ان له مالا على فلان،فيقيم الوارث

ص:89

الدعوى عليه بناء على ذلك،و تتجه اليمين على المدعى عليه،فإذا صالح هذا الوارث على إسقاط الدعوى بمال فيأخذه حلالا،لأن للمدعي عليه سبيلا للتخلص من الصلح و دفع المال بحلف اليمين،و مع ذلك اختار الصلح عن رضا و طيب نفس.

و ان كان المدعي محقا في دعواه،و أنكرها المدعى عليه،كي يرضى المحق ببعض حقه،و رضي هذا بالبعض خوفا من فوات الكل،أو دفعا للخصومة و الشقاق يصح الصلح ظاهرا،و يبطل واقعا،و يحرم على المدعى عليه أكل ما تبقى من الحق،لأنه أكل للمال بالباطل،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان للرجل على الرجل دين،فماطله،حتى مات،ثم صالح ورثته على شيء فالذي أخذه الورثة لهم،و ما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة،فان لم يصالحه على شيء حتى مات،و لم يقض عنه فهو كله للميت يأخذه به.

و سئل حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام عن رجل أودع عنده يهودي أو نصراني أربعة آلاف درهم فهلك،أ يجوز للرجل أن يصالح ورثته،و لا يعلمهم كم كان؟ فقال الإمام عليه السّلام:لا يجوز،حتى يخبرهم.

و قال صاحب الجواهر:«لو أن شخصا غصب عينا من آخر،ثم صالحه عليها بمال،تبقى العين على ملك صاحبها،و لا يستثني منها مقدار ما دفع إليه من عوضها،لفساد المعاوضة من الأساس إلاّ إذا رضي المدعي باطنا،و تنازل عن طيب نفس».

و بالإيجاز ان الصلح يصح ظاهرا،و يقطع النزاع،و لا يجوز لأحد الطرفين مطالبة الآخر بشيء،و لكنه لا يغير الواقع عما هو عليه،فعلى من يعلم بشغل ذمته للمصالح الآخر ان يدفع له الحق كاملا،كما أن من أخذ بالصلح شيئا لا حق له فيه

ص:90

يجب عليه إرجاعه إلى صاحبه،فالمعيار لصحة الصلح واقعا هو وصول الحق إلى أهله،لا مجرد صيغة الصلح.

الخيار:

اتفقوا على أن عقد الصلح لازم من الجانبين،لا يجوز لأحدهما العدول عنه إلاّ برضا الطرف الآخر.و أيضا اتفقوا على أن خيار المجلس لا يثبت في الصلح،لأن حديث:«البيعان بالخيار ما لم يفترقا»مختص بالبيع،و اختلفوا فيما عداه من الخيارات.

و بعد ان نقل صاحب مفتاح الكرامة أقوال الفقهاء قال:«ان وقع الصلح على معاوضة دخله خيار الشرط،و ان وقع على إسقاط الدعوى قبل ثبوتها لم يثبت فيه خيار الشرط،لأنّه شرع لقطع المنازعة.و يثبت في الصلح خيار الرؤية و العيب، و خيار التأخير،و ما يفسد ليومه لمكان الضرر.فكان المدار على الضرر.و حيث يجوز الفسخ للعيب فلا أرش».

و قال صاحب الجواهر:«كل خيار يثبت في البيع فإنه يثبت في الصلح إذا كان دليله قاعدة نفي الضرر،أو غيرها مما يصلح لتناول الصلح كخيار الغبن، و تخلف الوصف،و عدم الوفاء بالشرط،و اشتراط الخيار،و نحو ذلك بخلاف ما اختص دليله بالبيع،كخيار المجلس و الحيوان.و لو ظهر في العين عيب يجبر بالفسخ».

و المتحصل من العبارتين ان خيار المجلس و الحيوان لا يثبتان في الصلح، لاختصاص دليلهما في البيع،و يثبت فيه خيار الغبن،و تخلف الوصف، و الشرط،و خيار اشتراط الخيار،و خيار العيب دفعا للضرر الذي تقدم أدلته،

ص:91

و تحكم على جميع الأدلة،حتى أدلة الصلح و لزومه،و لكن الذي انتقلت إليه العين المعيبة بالصلح مع جهله بالعيب يخير بين الفسخ،أو الإمضاء بلا أرش،لأن الضرر الناشئ من العيب يرتفع بجواز الفسخ فقط من غير حاجة إلى الأرش.أمّا ثبوت الأرش في البيع فلدليل خاص،و قد سبق بيانه في الجزء الثالث فصل خيار العيب.

و ليس لنا آية ملاحظة على شيء من ذلك،لأنه وفق الأصول و القواعد إلاّ ما جاء في عبارة مفتاح الكرامة،و هو«أن وقع الصلح على معاوضة دخله خيار الشرط،و ان وقع على إسقاط الدعوى قبل ثبوتها لم يثبت فيه خيار».

حيث لا نرى فرقا في خيار الشرط بين وقوع الصلح على معاوضة و بين وقوعه على إسقاط الدعوى،و أي مانع من أن يقول له:صالحتك بألف على ما أدعية عليك مما لمورثي في ذمتك على شريطة أن لا يتبين أنّه أكثر من ذلك.بل لو لم يشترط ذلك،ثم تبين الغبن الفاحش يثبت له الخيار،لمكان الضرر.

الإقرار لأحد الشريكين:

إذا كانت عين في يد شخص،و ادعاها اثنان بسبب موجب للشركة بينهما، كما لو قالا:هي إرث من أبينا فصدق صاحب اليد أحدهما بمقدار حقّه دون الآخر،إذا كان كذلك يكون المقدار الذي اعترف به لأحدهما شركة بين الاثنين، و لا يختص بالمقر له وحده،لاتحاد السبب،و هو الشركة التي تنطبق على الكل و البعض.

فإذا أجرى الصلح بين من هي في يده،و بين المقر له على النصف،و أخذ هذا العوض فإن أجاز الصلح شريكه الثاني شاركه بالعوض،و ان لم يجز صح

ص:92

الصلح في الربع خاصة،و بطل في الربع الذي هو حصة الشريك،لأن الصلح على مال الغير لا يجوز إلاّ بإذنه.

الصلح القهري:

ذكر الفقهاء في باب الصلح مسائل من تزاحم الحقوق المتنازع فيها،و لا يمكن الجمع بينها كاملة،و لا يحسم التنازع إلاّ بتنازل أحد الطرفين عن تمام حقه،أو تنازل كل منهما عن جزء منه،و مع ذلك قد أصر المتنازعان على عدم التنازل عن شيء،و عندئذ يتولى الحاكم عملية القسمة بينهما قهرا بالعدل و الإنصاف جمعا بين الحقين،حتى كأن المتخاصمين قد اصطلحا على ذلك مختارين،و الفقهاء يسمون هذه القسمة الجبرية بالصلح القهري،و نعرض فيما يلي طرفا من مسائلها،كما جاءت في كتاب الجواهر و الحدائق و مفتاح الكرامة.

مسألة الدرهمين:

اثنان معهما درهمان،فقال أحدهما لصاحبه:هما لي،و ليس لك فيهما شيء.و قال الآخر:هما بيني و بينك،لك درهم،و لي درهم،و لم يصطلحا على شيء و رفعا الأمر إلى الحاكم،فعلى الحاكم أن يعطي درهما و نصف الدرهم لمدعيهما معا،و نصف درهم لمن يدعي أحدهما استنادا إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن ذلك؟فأجاب:أمّا الذي قال:هما بيني و بينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شيء،و أنّه لصاحبه،و يقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين.

و وجه العدل و الإنصاف في هذه القسمة أنّه لا سبيل إلى غيرها،إذ لو أعطينا

ص:93

كلا منهما درهما لعملنا بقول من يدعي المناصفة،و أهملنا قول مدعيهما معا،و لو لم نعط مدعي المناصفة شيئا لعملنا بقول مدعيهما دون قول الآخر،و كلاهما ترجيح بلا مرجح.فلم يبق إلاّ أن يختص مدعيهما معا بدرهم،لاعتراف صاحبه بأنّه لا حقّ له فيه،و انما التنازع بينهما في درهم واحد،و كل منهما يدعيه لنفسه دون الآخر،فيقسم بينهما بالسوية،و تكون النتيجة أن يأخذ مدعي الدرهمين درهما و نصفا،و مدعي المناصفة نصف درهم.

و تجدر الإشارة إلى ان الحاكم انما يجري هذه القسمة مع عدم البينة لأحد المتنازعين،و بعد أن يحلف مدعي الدرهمين ان صاحبه لا يستحق فيهما شيء، و يحلف أيضا مدعي المناصفة أن الآخر لا يستحق جميع الدرهمين.أما إذا وجدت البينة لأحدهما دون الآخر فيتعين العمل بها،و إذا حلف أحدهما،و نكل الآخر أخذ بقوله.و تجري القسمة التي ذكرناها إذا أقام كل منهما بينة،و لا رجحان لأحدهما عن الأخرى،أو حلفا معا،أو نكلا معا.

و لا يختص هذا الحكم في الدرهمين فقط،بل يجري كذلك في كل عين ادعى أحد المتخاصمين أنّها له وحده،و ادعى الآخر أنّها مناصفة،مع إثبات يد الاثنين على العين.

و مثل ذلك ما إذا استودع رجل آخر درهمين،ثم استودعه ثان درهما واحدا،فوضعه مع الدرهمين،و صادف ان تلف درهم من الثلاثة من غير تفريط، أو تعد من المستودع،فيعطى درهم و نصف الدرهم لصاحب الدرهمين،و نصف درهم لصاحب الدرهم،فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قضى في مثل هذه المسألة لصاحب الدينارين بدينار و نصف،و لصاحب الدينار نصف دينار،و بينا الوجه في ذلك مفصلا في كتاب أصول الإثبات فصل علم الحاكم فقرة«القضاء

ص:94

على خلاف العلم».

مثال آخر:إذا كان لشخص ثوب قيمته عشرون درهما،و لآخر ثوب قيمته ثلاثون،ثم اشتبه الثوبان،و لم يعرف أحدهما من الثاني،و لم يصطلح صاحبا الثوبين على شيء،إذا كان كذلك يباع الثوبان و يأخذ صاحب الثوب الأغلى من الثمن ثلاثة أخماس،و صاحب الثوب الآخر خمسين،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يبضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب،و أخر عشرين درهما في ثوب،فبعث بالثوبين إليهما،و لكن لم يعرف هذا ثوبه،و ذاك ثوبه؟ قال الإمام عليه السّلام:يباع الثوبان،و يعطى الأول ثلاثة أخماس الثمن،و الآخر خمسي الثمن.قال السائل:ان صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين:اختر أيهما شئت.

قال الإمام:قد أنصفه.

الروشن:

الروشن ما يخرج من وجه الحائط،و يشبه الرف،و يسمى في لبنان «بلكونا».و يجوز لصاحب الدار أن يخرج روشنا و ميزابا،و ما إليه فوق الطريق العامة النافذة التي يخرج منها إلى غيرها،و لا يحق لأحد معارضته جارا كان أو غير جار على شريطة أن لا يضر بأحد من المارة لأن هواء الطريق ليس ملكا لمعين، و الكل فيه سواء،و ليس للجار أن يحتج بأن صاحب الدار يشرف عليه من الروشن،لأن الاشراف غير محرم،و انما المحرم هو التطلع،و لو مع عدم الاشراف.أجل،للجار أن يخرج روشنا فوق روشن جاره،أو تحته إذا لم يؤد إلى ظلمة الطريق،أو الإضرار بالمارة.و إذا سقط الروشن فللجار أن يسبق صاحبه،و يضع روشنا مكانه،و ليس للأول منعه،لأنه لم يملك الهواء،و انما

ص:95

كانت له الأولية،بالسبق،فإذا زال الروشن زالت الأولية تماما،كالسبق إلى الأمكنة العامة.

و قال جماعة من الفقهاء:إذا كانت الطريق مقطوعة،أي لا يخرج المار منها إلى غيرها فلا يجوز لأحد إخراج الروشن فيها،و ما إليه إلاّ بإذن سكان هذه الطريق جميعا،و إذا لم يأذنوا،أو أذن البعض دون البعض فلا يجوز أن يخرج شيئا فوق الطريق لأنها ملك الجميع.

أغصان الشجرة و عروقها:

رجل غرس شجرة في أرضه،فامتدت عروقها أو أغصانها إلى ملك الجار، فعلى صاحب الشجرة تفريغ ملك الغير من ماله بكل سبيل،و ان امتنع صاحب الشجرة فللجار أن يتولى ذلك بنفسه على أن يعطف الأغصان إن أمكن،و إلاّ قطعها،و لا يتوقف ذلك على اذن الحاكم الشرعي،لأن سبيل هذا الحكم سبيل دابة دخلت في دار الغير أو زرعه فان له إخراجها دون مراجعة الحاكم.و ليس لصاحب الشجرة أن يحتج،و يقول:هذا تصرف في مالي بلا إذن مني،و لا يجوز التصرف في مال الغير إلاّ بإذنه،ليس له ذلك،لأن هذه القاعدة لا تتأتى في دفع الظلم و الضرر.

و لو افترض أن الأغصان أتلفت شيئا فلا ضمان على صاحبها إلاّ إذا كان هناك تفريط منه،كما لو امتنع هو و منع ملك الأرض من إزالتها،و في حكم الشجرة الجدار المائل إلى ملك الغير.

ص:96

عمارة المشترك:

حائط أو بيت أو عين ماء،و ما إليها شركة بين اثنين أو أكثر،و أصاب الشيء المشترك خلل،و أراد بعض الشركاء عمارته و إصلاحه،و امتنع الآخر،فهل يجبر الممتنع،أو لا؟ للفقهاء في ذلك أقوال،و الذي نراه أن ينظر:فان كان الشيء المشترك قابلا للقسمة كان للشريك طلب الافراز و انتهاء الشركة بالقسمة،و ان لم يكن قابلا للقسمة رفع الشريك الأمر إلى الحاكم باعتباره ولي الممتنع،و الحاكم ينظر بدوره في الأمر فان رأى أن طالب التعمير و الإصلاح يتضرر من تركه أمر شريكه الآخر بالاذن له،فان امتنع اذن له الحاكم لحديث لا ضرر و لا ضرار،و ان لم يتضرر من ترك التعمير وجب عليه الصبر و الانتظار،لأنه مال مشترك،فيمتنع التصرف فيه من غير اذن الشريك،كما هو الشأن في جميع المشتركات إلاّ مع وجود المسوغ، و هو الضرر،و المفروض عدمه.

التنازع على السقف:

دار مؤلفة من طابقين:أرضي لشخص،و علوي لآخر،فتداعيا سقف الأرضي الذي هو أرض للعلوي،فمن يكن المدعي؟و من يكون المنكر؟ قال جماعة من الفقهاء:انّه للعلوي.و قال آخرون:بل يقرع بينهما.و قال صاحب الجواهر:الأقوى الاشتراك بينهما.فان كان لأحدهما بينة دون الآخر فهو له،و إلاّ فإن حلفا معا،أو نكلا معا قسم بينهما،و ان حلف أحدهما،و نكل الآخر فهو للحالف.

ص:97

انتقال الدعوى بالصلح:

نقل صاحب مفتاح الكرامة عن جملة من الفقهاء أنّه إذا ادعى رجل على آخر بدين أو عين،فان لصاحب الدعوى أن يصالح عنها أجنبيا ثالثا ليس طرفا في الدعوى كلية،و تكون النتيجة لهذا الصلح أن يقوم الأجنبي مقام المدعي، و يقول للمدعى عليه:ان الحق الذي عليك لفلان صار مستحقا لي بالصلح،و له أن يقيم البينة على ثبوت هذا الحق،و يطلب اليمين من المدعى عليه إن أنكر، و لا فرق في ذلك بين اعتراف المدعى عليه بالحق قبل الصلح أو عدم اعترافه،و لا بين أن يكون الأجنبي المصالح عالما ثبوت الحق في ذمة المدعى عليه،أو لا.

ص:98

الشركة

اشارة

ص:99

ص:100

معناها:

للشركة معنيان:لغوي،و شرعي،و الأول اجتماع حقوق الملاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع فيه و قد يكون سببها اضطراريا كالإرث،أو اختلاط مالين من غير قصد اختلاطا لا يمكن الفصل معه بينهما،و قد يكون السبب اختياريا كما إذا اشترك اثنان في شراء عين،أو قبلاها من الغير بالهبة أو الوصية، أو نصبا معا شبكة أو فخا لهما للاصطياد.

و تسمى هذه الشركة شركة الملك،و شركة الشيوع،و لا شأن بها للفقيه بما هو فقيه،لأن وظيفته هي البحث عن الحكم التكليفي كالوجوب و الحرمة،أو الحكم الوضعي كالصحة و الفساد،و الشركة بمعنى الملك و الشيوع ليست من الحكم التكليفي و لا الوضعي في شيء،لأن الحقوق ان اجتمعت في الشيء تحققت الشركة،و ان لم تجتمع لم تتحقق.أجل،ان شأن الفقيه أن يبين الأحكام المترتبة على شركة الملك من أن ناتج المال المشترك هو للجميع،و ان أحد الشريكين لا يتصرف إلاّ بإذن الآخر،و ان له أن يطالب بالقسمة،و لا يجب عليه الصبر على الشركة،أما بيان معنى المال المشترك و تحديده فليس من اختصاصه كفقيه.

أمّا المعنى الثاني،أي الشرعي الذي يبحث عنه الفقيه فهو عقد بين اثنين أو أكثر أنشِئ ليكون كل من المالين أو الأموال إشاعة بين جميع الشركاء،و الأغلب أن يكون الغرض من شركة العقد هو التجارة.و هذه الشركة هي التي يبحث عنها الفقيه.

ص:101

أقسام الشركة:

اشارة

للشركة أقسام أربعة :

1-شركة العنان،و هي شركة في الأموال

،فيأتي كل من الشريكين بماله، و يمزجه بمال الآخر،و يعملان فيه معا على أن يكون الربح لكل على قدر ماله و الخسارة عليه كذلك،و هذه الشركة جائزة بالإجماع،بل قيل:لا يجوز غيرها.

2-شركة الأبدان

،و هي أن يتفق اثنان أو أكثر على أن يعمل كل واحد بأجر،ثم يقتسمون الأجور بين الجميع حسبما يتفقون عليه،و لا فرق بين أن يكون عمل الجميع من جنس واحد كمحاميين،أو من أكثر من جنس،كمحام و طبيب.و قد اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة على بطلان هذه الشركة،لأن الأصل عدم الشركة،و مجرد التراضي غير كاف ما لم يرد النص على جوازه،كما قال صاحب الجواهر.

و الذي نراه أن أي اتفاق بين اثنين أو أكثر فهو صحيح تترتب عليه جميع أحكامه و آثاره إذا كان المحل أهلا للالتزام به شرعا،أي لا يحرم حالا،أو يحلل حراما.

3-شركة المفاوضة

،و هي أن يلتزم كل منهما للآخر بأن الذي يحصل له من غنم يكون شركة بين الاثنين،و لا يستثني من ذلك إلاّ قوته و ثياب بدنه،و ان ما يلزمه من غرم يكون عليهما معا،و هذه الشركة باطلة أيضا بالإجماع، لأن لكل نفس ما كسبت،و عليها ما اكتسبت.

ص:102

4-شركة الوجوه

،قال صاحب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة:ان لها أكثر من معنى،و أشهر معانيها أن يجتمع اثنان ممن ليس لهما رأس مال،و يتفقا على أن ما يشتريه أحدهما نسيئة يكون بينهما،ثم يبيعاه، و يؤديا ما على كل،و الزائد بينهما شراكة،و هذه الشركة باطلة ان قصد كلّ الشراء لنفسه،و النتيجة أن يكون الربح له،و الخسارة عليه وحده،أما إذا وكّل كل منهما الآخر بالشراء فإنها تدخل في شركة العنان.و قد جاء في مفتاح الكرامة 392/7:«مما انفردت به الإمامية أن الشركة لا تصح إلاّ في الأموال»و هي شركة العنان،و على هذا فما نذكره من الشروط و الأحكام مختص بالشركة في الأعيان الناشئة عن عقد الشركة بالذات.

الشروط:

1-الصيغة

،و هي من المقومات،و تتحقق بقول كل من الاثنين:اشتركنا في كذا،أو قول أحدهما:شاركتك في كذا،و قبول الآخر،و ما إلى ذلك مما يدل على الشركة بوضوح.

2-ان يكون كل من الشريكين أو الشركاء أهلا للتوكيل و التوكل

،لأنّه لا يتصرف إلاّ بإذن من صاحبه،فيكون وكيلا عنه و موكلا له.

3-أن يكون محل الشركة مالا من الشريكين

،و موجودا بالفعل،و أهلا للالتزام به شرعا،فلا يصح أن يحدثا شركة على مال في الذمة،و لا في الخمر و الخنزير.

4-أن يمتزج المالان مزجا لا يمكن الفصل بينهما

،قال صاحب مفتاح الكرامة:«ان كلمة الفقهاء متفقة على أن المزج شرط في الصحة،فإذا لم

ص:103

يخلطاه لم تصح الشركة».و قال صاحب الجواهر:«التحقيق أن يقال بعد الإجماع على كون الشركة عقدا:ان قول اشتركنا لإنشاء تحقق الشركة، و صيرورة كل من المالين بين الشريكين على الإشاعة إلاّ أنّه يشترط في صحة ذلك تحقق المزج.و متى حصل مزج بقصد إنشاء الشركة من دون قول تحققت،و كانت كالمعاطاة،أما المزج القهري المجرد عن إرادة إنشاء الشركة فلا يترتب عليه ملك كل منهما الحصة المشاعة في نفس الأمر، و انما يفيد الاشتباه في كل أجزاء المال».

و المعنى المتحصل من هذه العبارة أن الشركة الشرعية التي يتكلم الفقيه عنها تتحقق بمزج المالين مع قصد الشركة و ارادتها،سواء أقال الشريكان «اشتركنا»أو لم يقولا،فان قالا كانت الشركة بالعقد،و إلاّ فهي شركة بالمعاطاة، و النتيجة واحدة،أمّا مزج المالين من غير قصد الشركة فلا تتحقق به الشركة الشرعية،لعدم قصدها و ارادتها،و لا الشركة بمعنى الشيوع،لأن كل جزء من المال المختلط امّا أن يكون لهذا،و امّا أن يكون لذاك،لا ان كل جزء هو ملك مشاع بين الاثنين.اذن الشركة شرعا لا توجد بالقصد وحده،و لا بالمزج وحده، بل بهما معا،كما أن المزج لا يحقق الشركة بمعنى الشيوع في نفس الأمر و الواقع، و انما يصير مجموع المالين شركة بين المالكين لعدم إمكان الفصل بين المالين بعد الخلط و الامتزاج.

و إذا باع إنسان حصة شائعة من ماله بحصة من مال الآخر كذلك،أو باعه إياها بثمن،و اشترى بالثمن حصة من الثاني تتحقق الشركة في المالين حتما،و ان لم يتحقق المزج و يتحد المالان،و لكن هذه الشركة ليست محلا للبحث هنا، لأنها تستند إلى غير عقد الشركة.

ص:104

أحكام الشركة:

اشارة

متى توافر في الشركة جميع ما يعتبر فيها صحت،و ترتب عليها الأحكام التالية:

1-الشركة جائزة من الجانبين

،فللشريك أن يرجع عنها،و يطالب بالقسمة متى شاء،لأن الناس مسلطون على أموالهم بشتى أنواع السلطة،و منها إفراز ملكه عن ملك الغير.و لو اشترط التأجيل و تحديد الشركة إلى أمد معين لم يلزم ذلك،و له العدول عنه،لأنه شرط في عقد جائز،و الشرط يتبع المشروط في الحكم.

2-إذا اشترطا أن يكون العمل لأحدهما دون الآخر

،أو أن يعمل كل منهما دون مراجعة الآخر صح،و لكن الشرط غير لازم،فيجوز الرجوع عنه متى شاء الشريك،و ان لم يشترطا ذلك فلا يجوز لأحدهما التصرف في مال الشركة إلاّ بإذن الثاني،لحرمة التصرف في مال الغير،و مجرد الاشتراك لا يدل على اباحة التصرف في مال الشريك.

3-إذا أطلقا عقد الشركة،و لم يبينا مقدار الأسهم

يقسط الربح على أصحاب الأموال بنسبة أموالهم،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يشارك في السلعة؟قال:ان ربح فله،و ان وضع-أي خسر-فعليه.

و قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف في ذلك،سواء أ تساوى الشريكان في العمل،أو تفاوتا فيه،بل الإجماع على ذلك و السنة مستفيضة أو متواترة،مضافا إلى اقتضاء أصول المذهب و قواعده في المشاع ذلك،بل هو مقتضى الأصول العقلية أيضا».

ص:105

و اختلف الفقهاء فيما إذا اشترط أحد الشريكين الزيادة له في الربح مع تساوي المالين،أو اشترط التساوي في الربح و الخسران مع تفاوت المالين،دون أن يكون لمن اشترط الزيادة آية ميزة من نشاط أو أثر في زيادة الأرباح.

فذهب جماعة إلى صحة الشركة و الشرط،و آخرون إلى بطلانهما معا، و ثالث إلى بطلان الشرط فقط،و اختار صاحب الجواهر القول الأول،أي صحة الشركة و الشرط،لأنه شرط عن تراض،و لا يحلل حراما،أو يحرم حلالا،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل شارك رجلا في جارية له،و قال:ان ربحنا فيها فلك النصف،و ان كانت وضيعة-أي خسارة-فليس عليك شيء؟فقال الإمام عليه السّلام:لا أرى بهذا بأسا إذا طابت نفس صاحب الجارية.

انتهاء الشركة:

فرق بين انتهاء الشركة،و بين انتهاء الاذن للشريك بالتصرف في المال المشترك،فإن الشركة لا تنتهي إلاّ بالقسمة،أو تلف المال،و لا أثر لقول الشركاء، انهينا الشركة ما لم يحصل الافراز.أجل،تنتهي بذلك شركة العقد،لأنه من العقود الجائرة،أمّا شركة الملك و الشيوع فلا.و ينتهي الاذن بالتصرف بانتهاء الشركة،أو بجنون المأذون له،أو موته،أو التحجير عليه لسفه،أو فلس،و تنتقل الشركة إلى الوارث بموت الشريك،و ينوب عنه الولي مع الجنون أو السفه.

ص:106

مسائل:

1-شخص يملك سيارة،فاتفق مع سائق على أن ينقل بها الركاب بالأجرة

، و ما يرزقه اللّه سبحانه يكون بينهما بالسوية أو التفاوت،فهل تصح هذه الشركة،و على تقدير بطلانها فلمن يكون الناتج؟ اتفق الفقهاء،كما جاء في مفتاح الكرامة،على أنّها باطلة،لأنّها انما تصح بالمال من الشريكين،لا من أحدهما فقط،و ليس هذا الاتفاق مضاربة،لأن موضوعها النقود،لا العروض،كما يأتي،و لا إجارة أو جعالة لمكان الجهل بالأجرة.و على هذا،فإذا كان السائق قد أجر السيارة فالأجرة بكاملها لصاحب السيارة،لأنها ناتج ملكه،و عليه أن يدفع للسائق اجرة المثل،لأنه غير متبرع بعمله.

و الحق ان هذا الاتفاق صحيح و جائز،و ليس من الضروري أن ينطبق عليه أحد العقود المسماة،كالشركة،أو الإجارة،أو الجعالة،بل يكفي مجرد التراضي، مع عدم المانع من الشرع أو العقل،أما الجهل بأجرة السائق فغير مانع من الصحة ما دامت معينة في الواقع،و ينتهي الشريكان إلى العلم بها مقدارا و جنسا بعد العمل.

2-من حاز شيئا من المباحات

،كالصيد و الحطب و الحشيش و المياه،و ما إليها بقصد أنّها له و لغيره،فهل يصير هذا الغير شريكا للأول فيما حازه أولا؟ الجواب:إذا كان الأول وكيلا،أو مستأجرا للثاني تحققت الشركة بينهما، و إلاّ كان الجميع لمن حاز،و لا شيء لمن نواه و قصده،قال صاحب الجواهر ما ملخصه:ان السبب لملك المباحات هو الحيازة مع قصدها بصرف النظر عن نية التملك له أو لغيره،فمن حاز شيئا منها بقصد الحيازة فهو له سواء أقصد الملك

ص:107

لنفسه،أو لغيره،أو لم يقصد الملك،أو قصد عدمه،فالمعيار لتملك المباحات، و اختصاصها بالحائز دون غيره هو أن يقصد حيازتها،و كفى.

3-إذا استوفى أحد الشريكين دينا ممن اشترى من مال الشركة نسيئة

شاركه الآخر فيما استوفاه،كما هو الشأن في كل دين مشترك،لأن كل جزء منه مشاع بين الاثنين،و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام تقدم بعضها في فصل الدين.

4-إذا اتفق ثلاثة على أن يشتركوا في معمل للنجارة-مثلا-

على أن يقدم أحدهم المحل و الثاني الأدوات اللازمة،و الثالث العمل بطلت الشركة عند جماعة من الفقهاء ذكره صاحب مفتاح الكرامة (1).

و الحق الصحة و الجواز،لمكان التراضي،و عدم المانع من الشرع و العقل، كما تقدم في المسألة الأولى.

التنازع:

1-إذا كان مال الشركة في يد أحد الشركاء،و ادعى التلف

فالقول قوله بيمينه، لأنّه أمين،و ليس على الأمين إلاّ اليمين،و لا فرق في ذلك بين أن يدعي سببا ظاهرا للتلف،كالحرق و الغرق،أو سببا خفيا،كالسرقة.

و إذا تحقق التلف و اتفقا عليه،و لكن ادعى الطرف الثاني على من المال في يده أنّه فرّط أو اعتدى،و أنكر هذا التعدي و التفريط فالقول قوله بيمينه أيضا، لنفس السبب.

ص:108


1- المثال الذي ذكره صاحب مفتاح الكرامة في:ج 7 باب الشركة هو اتفاق أربعة:يقدم الأول المحل،و الثاني رحى الطحن،و الثالث البغل،و الرابع العمل.
2-إذا اشترى أحد الشريكين شيئا،و قال:اشتريته لنفسي،و قال شريكه،بل

اشتريته لحساب الشركة

،و انما ادعيته لنفسك بعد أن ظهر فيه الربح فالقول قول المشتري بيمينه،و لو قال المشتري:اشتريته لحساب الشركة،و قال شريكه:بل اشتريته لنفسك،و انما ادعيت أنّه للشركة بعد أن ظهر الخسران فالقول قول المشتري أيضا،لأنه أبصر بنيته،قال صاحب الجواهر:«بلا اشكال و لا خلاف».

ص:109

ص:110

القسمة

اشارة

ص:111

ص:112

معناها:

القسمة تمييز أحد النصيبين عن الآخر،و هي قائمة بنفسها،و ليست بيعا و لا صلحا،لأنها لا تفتقر إلى الصيغة،و يجب أن يكون كل نصيب بقدر الآخر، دون زيادة،أو نقصان،و قد يجبر الشريك على القسمة في بعض الحالات، و ليس في البيع شيء من ذلك،قال صاحب الجواهر:«ليست القسمة بيعا،و لا صلحا،و لا غيرهما،سواء أ كان فيها رد،أو لم يكن بلا خلاف،و لا إشكال ضرورة عدم قصد شيء زائد على مفهومها في صحتها.و حينئذ فلا شفعة فيها، و لا خيار مجلس.و لا غير ذلك».

قسمة الإجبار و التراضي:

إذا طلب أحد الشريكين القسمة،و امتنع الآخر ينظر:فان لم تستدع القسمة ضررا على الممتنع،و لا ردا على أحدهما،بحيث تمكن قسمة الشيء المشترك، و تعديل السهام من غير ضم شيء آخر مع بعضها،إذا كان الأمر كذلك يجبر الممتنع على القسمة بالإجماع،إذ يجب إعطاء كل ذي حق حقه متى طلبه،و لا يجوز منعه عنه،و تسمى هذه قسمة إجبار.

و إذا كانت القسمة غير ممكنة،كالاشتراك في جوهرة،أو قطعة سلاح،و ما إليها،بحيث إذا قسمت تلفت،أو كانت القسمة ممكنة،و لكن الشريك لا ينتفع

ص:113

بنصيبه منفردا،كما كان ينتفع به مع الشركة كالغرفة الصغيرة إذا قسمت أصاب كل منهما موضعا ضيقا لا ينتفع به لجهة السكن و لا لغيره،أو أمكنت القسمة و الانتفاع،و لكن لا يمكن تعديل السهام إلاّ بالرد،و ضم مال زائد على المال المشترك،كما لو كان بينهما غرفتان،قيمة إحداهما مائة،و قيمة الأخرى مأتان، فلا بد أن يضم إلى الأولى خمسون يدفعها من يأخذ الثانية لمن يأخذ الأولى،إذا كان كذلك فلا يجبر الشريك على القسمة و القبول،لقاعدة لا ضرر و لا ضرار، و للنهي عن السرف و التبذير،و لأن الضميمة لا تملك إلاّ بالتراضي،و لذا سميت هذه القسمة بقسمة التراضي.

و قال جماعة من الفقهاء:لا تجوز قسمة المال المشترك مع تضرر الشركاء، حتى و لو اتفقوا عليها،لأنه سفه و تضييع للمال،و رد عليهم صاحب الجواهر«بأن هذا مناف لقاعدة تسلط الناس على أموالهم،و ان المالك لا يمنع من التصرف في ملكه،و ان استلزم ذلك نقصا فاحشا في ماله،و الإثم لا يتنافى مع صحة القسمة شرعا».و عليه تصح القسمة مع التراضي،حتى و لو تضرر الشركاء،و لو افترض ان المتضرر من القسمة أحد الشريكين دون الآخر،و طلبها المتضرر أجيب إلى طلبه،و اجبر عليها غير المتضرر،و لو طلبها غير المتضرر من المتضرر فلا يجاب إلى طلبه.و قسمة الإجبار يتولاها الحاكم الشرعي أو من يوكله،و مع تعذرهما فعدول المسلمين،كما هو الشأن في جميع الأمور الحسبية.

قسمة المهاياة:

إذا كان بينهما بستان،أو دار،أو أرض،و اتفقا على أن يكون بعض العين المشتركة في يد أحدهما،و البعض الباقي في يد الآخر،يستثمر كل منهما ما في

ص:114

يده أمدا معينا،أو إلى أن تتم القسمة النهائية،أو اتفقا على أن يستثمر أحدهما العين بكاملها سنة،ثم يستثمرها الآخر سنة صح الاتفاق في الحالين،و تسمى هذه القسمة بالمهاياة،أي الموافقة،و تتلخص بقسمة المنفعة بحسب الزمان،أو بحسب اجزاء العين المشتركة،و يسميها الفلاحون قسمة زراعية.

و إذا طلبها أحد الشريكين،و امتنع الآخر فلا يجبر الممتنع،لأنها بمنزلة المعاوضة التي يعتبر فيها التراضي.

لزوم القسمة:
اشارة

تلزم القسمة،و لا يجوز العدول عنها في الحالات التالية :

1-ان يقتسم الشركاء فيما بينهم من غير قاسم،و لا قرعة

،فمتى رضي كل بقسم معين ألزم به و لا يجوز له العدول بعد الرضا (1).

2-ان يحصل الفرز،و القرعة بالاتفاق بين الجميع

،و لا يعتبر الرضا بعد القرعة،بل يكفي الرضا المقارن لها،قال صاحب الجواهر:«الظاهر عدم اعتبار الرضا بعد القرعة،مع فرض سبق الرضا بها،ضرورة ظهور أدلتها في اقتضاء التمييز و التعيين،فمع حصوله بها لا دليل على العودة».أي أن المستفاد من أدلة القرعة أنّها وسيلة لتعيين الحق و تمييزه عن غيره،فمتى

ص:115


1- جاء في كتاب اللمعة آخر باب القضاء ما نصه بالحرف:«إذا اتفقا على اختصاص كل واحد بسهم لزم من غير قرعة،لصدق القسمة مع التراضي الموجبة لتمييز الحق،و لا فرق بين قسمة الرد و غيرها»و المراد بقسمة الرد أن يدفع أحد الشريكين للآخر عوضا زائدا عن سهمه،كي يتحقق التعادل.

جرت تعين الحق،و إذا تعين انتهت الشركة،و لا تعود إلاّ بدليل،و لا دليل على العودة.

3-أن يختار الشركاء قاسما يميز الحصص

،و يجري القرعة برضا الجميع.

4-ان يرفعوا الأمر إلى الحاكم،و يعين قاسما

،فيجب العمل بقوله بمجرد خروج القرعة،و لا يشترط رضا الشركاء بالقسمة لا قبل القرعة و لا بعدها، و بما أن العمل بقول قاسم الحاكم ملزم للجميع شاءوا أو أبوا وجب أن يكون من أهل الخبرة و العدالة،كما هو الشأن في كل من تجب أطاعته،و لا تشترط العدالة،بل و لا الإسلام في القاسم الذي يختاره الشركاء من تلقائهم.

فتحصل ان القسمة تكون لازمة بعد أن يرضى كل بقسم معين،و ان لم تجر القرعة،و بعد القرعة التي اتفقوا على إجرائها،و بعد القرعة التي يجريها قاسم الحاكم،و ان لم يتفق عليها الشركاء.

الغلط:

لو ظهر الغلط بطلت القسمة،و إذا ادعى الغلط أحدهما،و أنكر الآخر فعلى المنكر اليمين على نفي العلم بالغلط،ان ادعى عليه شريكه العلم به،و إلاّ لم يسمع قوله إلاّ مع البينة.فإن حلف تمت القسمة،و ان نكل بطلت بناء على جواز القضاء بمجرد النكول.

و إذا ظهر لهما بعد القسمة شريك ثالث على سبيل المشاع لم يكن في حسبانهما بطلت القسمة،لأنها لم تقع برضا جميع الشركاء.

و إذا اقتسما عقارين،و أخذ كل منهما عقارا،ثم ظهر أن أحد العقارين كله

ص:116

أو بعضه مستحق لشخص آخر بطلت القسمة،و كذا لو ظهر فيه عيب إلاّ إذا تراضيا على تداركه بالأرش.و إذا بنى في نصيبه دارا،أو غرس فيه شجرا،ثم ظهر مستحقا للغير،و أزال المالك البناء و الغرس فلا يرجع صاحبهما على شريكه، لأن القسمة ليست بيعا،و الشريك لم يغرر به،كي يقال:المغرور يرجع على من غره.

تنبيه:

بقيت مسائل ذكرها الفقهاء في باب القسمة،منها أن الشيء المقسوم تارة تكون أجزاؤه متساوية،و أخرى متفاوتة،و منها قسمة الدار المؤلفة من طابقين أو أكثر،و قسمة البئر و الحمام إلى غير ذلك مما هو من اختصاص المهندسين، لا المتشرعين.ان وظيفة الفقيه أن يبين أن الشريك إذا طلب القسمة فهل على شريكه أن يستجيب،أو لا؟و إذا امتنع فهل للحاكم أن يجبره،أو لا؟و ان القسمة هل هي لازمة أو جائزة؟و ان القاسم هل تعتبر فيه العدالة؟إلى غير ذلك من بيان الأحكام التكليفية و الوضعية،أمّا موضوعات الأحكام فيرجع فيها إلى أهل الخبرة و الاختصاص.لذلك و خوفا من فوات الأهم تركنا التعرض لها،و من أحب الاطلاع عليها فليرجع إلى المجلد السادس من الجواهر،و العاشر من مفتاح الكرامة،باب القضاء.

ص:117

ص:118

كتاب الشفعة

اشارة

ص:119

ص:120

في الشفعة

معناها:

الشفعة في الاصطلاح الشرعي هي استحقاق أحد الشريكين حصة شريكه بسبب انتقالها بالبيع،على أن يتملكها من المشتري،رضي أو لم يرض.مثال ذلك أن يشترك اثنان في عقار،فيبيع أحدهما حصته المشاعة لثالث،فللشريك الثاني أن يتملك الحصة المبيعة من المشتري جبرا عنه بما لزمه من الثمن.

و يخرج بقولنا«أحد الشريكين»ما لو باع بعد أن حصلت القسمة،و تفرد كل شريك بحصته،حيث لا شركة حين البيع،و كذا يخرج ما لو كانت الشركة بين أكثر من اثنين،و بقولنا«انتقالها بالبيع»يخرج ما لو انتقلت بالهبة أو الصداق أو الصلح،و يأتي البيان.

و يسمى الشريك الذي يطالب بالشفعة شفيعا،و المشتري الذي اشترى من الشريك الآخر مشفوعا منه،و العقار المبيع مشفوعا به.

شرعية الشفعة:

الشفعة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الدور و المساكن.

ص:121

المحل:

و هو المشفوع به،أي الشيء الذي تثبت فيه الشفعة،و اتفقوا على أن الشفعة تثبت بالعقارات التي تقبل القسمة،كالأراضي و الدور و البساتين.

و اختلفوا فيما عدا ذلك،فذهب جمع من الفقهاء إلى ثبوتها في كل مبيع منقولا كان أو غير منقول،قابلا للقسمة،أو غير قابل لها،و استدلوا على ذلك بروايات عن أهل البيت عليهم السّلام أعرض عنها و أهملها المشهور،و خصصوا الشفعة بالثوابت التي تقبل القسمة،و نفوها عن المنقولات،و الثوابت التي لا تقبلها،أو لا ينتفع بها بعد القسمة.

و استدلوا على ذلك بدليلين:الأول قول الإمام الصادق عليه السّلام:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا شفعة في سفينة،و لا نهر،و لا طريق،و لا رحى،و لا حمام».و في رواية ثانية أنّه قال:ليس في الحيوان شفعة.و في ثالثة أن الشفعة لا تكون إلاّ في الأرضين و الدور.قال صاحب الجواهر:«المشهور بين المتأخرين العمل بهذه الروايات،بل اطباقهم على ذلك».

الدليل الثاني:أن الشفعة على خلاف الأصل،لأن من تملك شيئا بالبيع لا ينتزع منه إلاّ برضاه،و القاعدة هي وجوب الاقتصار على موضع اليقين فيما خالف الأصل،و موضوع اليقين من الشفعة هو الثوابت التي لا تقبل القسمة،قال صاحب مفتاح الكرامة:«على هذا استمرت طريقة الناس في معاملاتهم،فإنهم ينكرون ثبوت الشفعة في الثوب و القدر و الإبريق و الفرس و البعير و الحنطة و الشعير و التمر و الملح و الزبيب،فلو ان أحدا اليوم ادعى الشفعة في أمثال ذلك لبادروه بالنكير،أخذوا ذلك يدا عن يد،و هذا يدل على طريقة مستقيمة،و سيرة مستمرة».

ص:122

أمّا الشجرة و الأبنية فإن بيعا تبعا للأرض ثبتت فيهما الشفعة بالإجماع،و ان أفرادا بالبيع دون الأرض فلا شفعة فيهما إلاّ عند من أثبت الشفعة في كل شيء.

الاشتراك في المرافق:

اتفقوا على أن الجار لا شفعة له،لأن النص خصصها بالشريك وحده إلاّ إذا كان الجار خليطا،أي شريكا في المرافق،كالطريق و الشرب،و ذلك أن يكون لعقارين متجاورين ممر خاص،أو شرب مشترك بينهما،فان صاحب كل من العقارين يسمى خليطا للآخر،فإذا باع أحدهما عقاره منضما مع الطريق أو الشرب فلجاره الأخذ بالشفعة،على شريطة أن يكون الشفيع واحدا.و لا فرق بين أن يكون الطريق و الشرب قابلا للقسمة أو غير قابل.أجل،إذا أريد بيع كل من الشرب و الطريق منفردا اعتبرت فيه القابلية للقسمة،و ليس للشفيع أن يختار الطريق أو الشرب دون العقار المبيع،بل يأخذ الجميع أو يترك الجميع.

و تجدر الإشارة إلى أن النص الذي ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام انما جاء في الطريق فقط،و لكن الفقهاء ألحقوا به الشرب المشترك بشهادة صاحب الجواهر، و صاحب مفتاح الكرامة،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن درب فيها دور، و طريقهم واحدة في عرصة،فباع بعضهم منزله من رجل،فهل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟قال الإمام:ان كان باع الدار،و حوّل بابه إلى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم،و ان باع الطريق مع الدار فلهم الشفعة.

و هذه الرواية كما ترى تثبت الشفعة للشركاء،و ان زادوا عن اثنين،و لكن المشهور حملوها على الاثنين فقط جمعا بينها و بين قول الإمام عليه السّلام:لا تكون الشفعة إلاّ لشريكين ما لم يقتسما،فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة.

ص:123

و إذا كانت البئر المشتركة التي لا تقبل القسمة في أرض مشتركة أيضا بين صاحبي البئر،و أمكن التعديل بين الأرض و البئر،بحيث تسلم كل منهما لواحد، و ان لم ينتفع بها على الوجه السابق،و لكن لها منفعة أخرى،إذا كان كذلك،فإنه يثبت للشريك الشفعة.و الحكم كذلك في كل ما لا يقبل القسمة منفردا،و كان معه غيره،و أمكن التعادل بينهما،مع إمكان الانتفاع بكل منهما في جهة من الجهات،كغرفة صغيرة مع حديقة أو حمام،و كدكان صغير مع ساحة،و ما إلى ذلك.

شراكة الوقف:

إذا كان بعض العقار وقفا على الإشاعة،و البعض الآخر ملكا لشخص، و باع المالك حصته،فهل تثبت الشفعة لولي الوقف و أهله؟.

ذهب جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الشرائع و الجواهر،ذهبوا إلى عدم ثبوت الشفعة،حتى و لو كان الموقوف عليه واحدا،لأن الوقف لا مالك له،و انما تملك المنفعة فقط،فأرباب الوقف أشبه بالمستأجر الذي لا شفعة له.

و الخلاصة ان الشفعة عند المشهور تثبت في الدار و البستان و الأرض،و ما إليها من الثوابت التي تقبل القسمة،على أن لا يكون الشريك وقفا.و لا تثبت في المنقولات إطلاقا،و لا في الثابت الذي لا يقبل القسمة،أو يقبلها مع عدم الانتفاع بالمقسوم،إلاّ إذا كان الذي لا يقبل القسمة طريقا أو شربا،و بيع منضما إلى غيره.

الشفيع:
اشارة

سبق أن الشفيع هو الذي يأخذ من المشتري بالشفعة،و يشترط فيه

ص:124

1-أن يكون شريكا في العين وقت البيع

،فلا شفاعة لمستأجر،و لا لجار، و لا للشريك بعد القسمة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«الشفعة لا تكون إلاّ لشريك لم تقاسمه،و في رواية ثانية:لا شفعة إلاّ لشريكين لم يقتسما.

و إذا أرفت الأرف،و حددت الحدود فلا شفعة»و الأرف هي الحدود،و في الحديث الشريف:«قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالشفعة ما لم تؤرف»أي ما لم يقتسم العقار،و يوضع الحد.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الشفعة في الدور،أي شيء واجب للشريك؟فقال:الشفعة في البيوع إذا كان شريكا.

2-أن يكون قادرا على دفع الثمن،و وفيا غير مماطل

،و لا يمهل أكثر من ثلاثة أيام إلاّ إذا ادعى وجود ماله في بلد آخر،فإنّه يؤجل بمقدار وصوله إليه، و زيادة ثلاثة أيّام،على شريطة أن لا يتضرر المشتري بسبب التأجيل،قال صاحب الجواهر:«لا أجد خلافا بينهم في ذلك،و يدل عليه أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل طلب شفعة أرض،فذهب على أن يحضر المال،فلم يرجع،فكيف يصنع صاحب الأرض إذا أراد بيعها؟أ يبيعها أو ينتظر مجيء شريكه صاحب الشفعة؟قال الإمام عليه السّلام:ان كان معه في المصر فلينتظر به إلى ثلاثة أيّام،فإن أتاه بالمال،و إلاّ فليبع،و بطلت شفعته في الأرض،و ان طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد آخر،فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلد،و ينصرف و زيادة ثلاثة أيّام إذا قدم، فإن وفاه و إلاّ فلا شفعة.

3-أن يكون الشفيع مسلما إذا كان المشتري مسلما

،فغير المسلم تثبت له الشفعة على مثله،حتى و لو كان البائع مسلما،و لا تثبت له على مسلم، حتى و لو كان البائع غير مسلم،و تثبت للمسلم إطلاقا على المسلم و غير

ص:125

المسلم،و استدلوا على ذلك بقول الإمام الصادق عليه السّلام عن جده أمير المؤمنين عليه السّلام:«ليس لليهودي و لا للنصراني شفعة».

4-أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الشفعة لا تثبت إذا تعدد الشركاء

، و زاد الشفيع عن الواحد،و استدلوا عليه بالإضافة إلى ما سبق بقول الإمام عليه السّلام:ان زاد الشريك على اثنين فلا شفعة لأحد منهم.

5-أن لا يأذن الشفيع بالبيع لشريكه

،أو يرفض الشراء إذا عرض عليه،مع قدرته،و ليس هذا من باب إسقاط ما لم يجب،بل هو مقتض لعدم الثبوت على حد تعبير صاحب الجواهر نظير اجازة الوارث لما أوصى به مورثه قبل موته فيما زاد عن الثلث،و يدل عليه أيضا الحديث الشريف:«لا يحل أن يبيع،حتى يستأذن شريكه،فان باع،و لم يأذن فهو أحق به».و معنى هذا أنّه إذا أذن بالبيع فلا حق له،و يأتي البيان الأوفى.

6-قال جماعة من الفقهاء:يشترط علم الشفيع بالثمن و المثمن معا حين

الأخذ بالشفعة

،فلو قال:أخذت بالشفعة بالغا ما بلغ الثمن لم يصح،لأن الشفعة في معنى المعاوضة،و الجهل بالثمن يستدعي الغرر المبطل لها، تماما كالشراء بثمن مجهول.

و ذهب صاحب الجواهر و كثير من كبار الفقهاء إلى أنّه لا دليل من العقل و النقل على وجوب العلم بالثمن حين الأخذ بالشفعة،بل يكفي العلم به عن طريق البينة أو غيرها وقت الدفع،و الغرر انما يبطل البيع فقط،لحديث:«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع الغرر»و إلحاق الشفعة بالبيع قياس باطل.أجل،إذا تعذر العلم بالثمن حين الأخذ و الدفع،بحيث لا يمكن العلم به بحال بطل الأخذ بالشفعة،لعدم إمكان التسليم،و مثل له صاحب الشرائع و الجواهر بأن يقول

ص:126

المشتري:نسيت مقدار الثمن،و يصدقه الشفيع.

الغائب و المجنون و الصبي و السفيه:

ليس العقل و البلوغ و الرشد من شروط الشفيع،لأن الشفعة حق مبني على الملك،و لا يشترط في الملك العقل و البلوغ و الرشد،و يأخذ للمجنون و الصبي و السفيه بالشفعة القائم على شؤونهم بشرط أن لا يكون في الأخذ مفسدة،و إلاّ لم يصح.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأن الغرض عدم تصرفه على الوجه المشروع،و عليه فإذا أخذ مع المفسدة يكون ضامنا لما دفع من الثمن،و يبقى السهم المأخوذ بالشفعة على ملك المشتري».

و إذا ترك ولي القاصر الأخذ مع وجود المصلحة يبقى حق الشفعة ثابتا، حتى يبلغ الصبي،و يفيق المجنون،و يرشد السفيه،و لو مضى على بيع العقار سنون،قال صاحب الجواهر:

«لا إشكال و لا خلاف في ذلك،و لا ينافيه التراخي،لأن التأخير كان لعذر، و هو الجنون و الصغر،أما تقصير الولي فلا يسقط حقهما الثابت لهما حال قصورهما بالنص و الفتوى،و انما الذي تجدد عند الأهلية و الكمال هو الأخذ لا أصل الحق،بل لو عفا الولي لم يمض عفوه مع فرض المفسدة،حتى و لو كان الذي عفا أبا أو جدا لأب،أما تضرر المشتري بطول الانتظار فإنه لا يسقط حق القاصر بعد أن كان المشتري هو السبب في إدخال الضرر على نفسه-لأنه أقدم على الشراء مع علمه بوجود الشفيع-بل لعل الأقوى جواز تحديد الولي الأخذ، و ان ترك أو عفا سابقا،لبطلان تركه و عفوه فلا يترتب الأثر عليهما».

أمّا الشفيع الغائب فإن علم البيع،و سكت عن الطلب،و لم يحضر و لم

ص:127

يوكل في الأخذ فيسقط حقه في الشفعة،لأن هذا الحق يثبت على الفور كما يأتي.

و إذا لم يعلم بالبيع،أو علم و لم يطالب لعذر مشروع،كما لو جهل بأن له حق الأخذ بالشفعة،فإن حقه يبقى قائما،و ان طال الزمان.و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:وصي اليتيم بمنزلة أبيه يأخذ له الشفعة إذا كان له رغبة،و للغائب شفعة.

الشفعة مع الشراء بالخيار:
اشارة

إذا اشترى من أحد الشريكين بالخيار،فهل تثبت الشفعة للشريك الثاني في زمن الخيار،أو ينتظر حتى ينتهي أمد الخيار،و يصير البيع لازما،و الجواب على هذا التساؤل يستدعي التفصيل التالي:

1-اتفق الفقهاء بشهادة صاحب المسالك و الحدائق على أن الخيار إذا كان

للمشتري دون البائع

تثبت الشفعة للشريك بنفس العقد،و لا يتوقف ثبوتها على مضي زمن الخيار،لأن المبيع خرج عن ملك البائع،و دخل في ملك المشتري بمجرد العقد،و ان كان الملك متزلزلا،أي في معرض الزوال.

و متى دفع الشفيع الثمن للمشتري،و أخذ منه المبيع يسقط خيار المشتري،لأن الغرض من خياره أن يفسخ العقد و يسترجع الثمن،و قد حصل عليه من الشفيع فلا جدوى من الفسخ-اذن-بل لا موضوع له إطلاقا.

2-اختلفوا فيما إذا كان الخيار للبائع فقط،أو له و للمشتري معا

،فذهب جمع من الفقهاء إلى عدم ثبوت الشفعة،لأن المبيع لم يخرج عن ملك البائع بزعمهم.و قال آخرون،و منهم صاحب الشرائع و الجواهر:ان الشفعة ثابتة مع هذا الخيار،لأن المقتضي لها موجود،و هو إطلاق أدلة الشفعة

ص:128

الشامل لجميع أنواع البيع،حتى البيع بالخيار،و مجرد الخيار لا يصلح للمنع عن ملك المشتري،و انما يجعله متزلزلا في معرض الزوال، و موضوع الشفعة هو الملك بما هو بصرف النظر عن اللزوم و عدمه.

3-إذا باع أحد الشريكين سهمه من زيد-مثلا-ثم باع الشريك الآخر

الذي له الشفعة سهمه من عمرو قبل أن يأخذ بالشفعة

،إذا كان كذلك انتقل حق الشفعة إلى زيد،و صار شفيعا بعد أن كان مشفوعا منه،و أخذ بالشفعة من عمرو ان شاء،لأنه شريكه حقيقة،و لا يحق للذي باع عمرا أن يعارض زيدا بشيء،لأنه صار أجنبيا بعد البيع.و بكلمة ان الشفيع هو الذي يصدق عليه اسم الشريك حين الأخذ بالشفعة،سواء أ صدقت عليه التسمية قبل حصول البيع من أحد الشريكين أو بعده.

لا يملك الشفيع إلاّ بدفع الثمن:

المشتري يملك العين من البائع بمجرد تمام البيع من غير توقف على دفع الثمن،أما الشفيع فيملك بعقد البيع حق التملك،و لا يصير مالكا إلاّ بدفع الثمن.

ثم أن للفقهاء هنا كلاما:في أنّه هل يجب أن يدفع الشفيع الثمن أولا،أو يجب التقابض بينه و بين المشتري دفعة واحدة،و قد أطال صاحب الجواهر و غيره في التحقيق و التدقيق.و رأينا أن المسألة مسألة ثقة فإن وجدت فهي،و إلاّ وضع الثمن عند الحاكم،أو عند أمين يتفقان عليه.

و ليس للشفيع أن يأخذ بعض المبيع،و يدع البعض،بل يأخذ الجميع أو يدع الجميع،قال صاحب الجواهر:«بل لا يبعد أن تكون الشفعة من قبيل حق القصاص الذي لا يقبل التجزئة،و ان رضي الشريك».يريد أنّه لو تراضى الشفيع

ص:129

و الشريك على قسمة المبيع لا يصح و يبطل الاتفاق.

و لست أرى وجها لذلك،فإن مبدأ التراضي حاكم على كل شيء إلاّ إذا حلل حراما،أو حرم حلالا،فإذا رضي الشريك أن يؤجل الثمن صح،و إذا رضي أن يقتسم مع الشفيع صح أيضا،لأن الغرض دفع الضرر عن المشتري،و مع الرضا يرتفع الضرر،بل قد تتفق مصلحته مع التبعيض و التقسيم.

الثمن المثلي و الثمن القيمي:

الثمن الذي يقع عليه العقد بين الشريكين تارة يكون مثليا،كالنقود و الحبوب و ما إليها من المثليات،و تارة يكون قيميا،كالحيوان و الدار.و قد اتفق الفقهاء على أن الثمن ان كان مثليا تثبت الشفعة للشريك،و يتملك بمثل الثمن الواقعي الذي جرى عليه عقد البيع بين البائع و المشتري،سواء أ كان مساويا لقيمة المبيع السوقية،أو كان دونها،أو أكثر منها،لأن الشفيع يملك العين من المشتري بمثل ما ملكها هو من البائع،و لا أثر للزيادة التي تضم صوريا إلى الثمن الحقيقي بقصد منع الشفيع من الأخذ بالشفعة،و الإضرار به،و لكن على الشفيع أن يثبت صوريتها،و ليس على المشتري إذا أنكرها إلاّ اليمين عملا بالظاهر حتى يثبت العكس.أجل،إذا حط البائع من الثمن بعد العقد فلا ينتفع الشفيع بهذا الحط إذا كان هبة من البائع للمشتري،و ينتفع به و يسقط من الثمن حتما إذا كان أرشا و عوضا عن عيب ظهر في المبيع،لأن الثمن الحقيقي هو ما تبقى بعد العقد.

و إذا زاد المشتري على الثمن بعد العقد فلا تلزم الزيادة،و لا يحق للمشتري أن يطالب الشفيع بها،لأنها ليست من الثمن في شيء إلاّ إذا ظهر أن البائع كان مغبونا،و أراد استرجاع المبيع،فأرضاه المشتري بالزيادة،حيث تكون

ص:130

الزيادة و الحال هذي،جزءا من الثمن.

هذا،إذا كان الثمن مثليا،أما إذا كان قيميا فقد اختلف الفقهاء على قولين، أحدهما ان الشفعة تسقط من الأساس،و استدل القائلون بذلك برواية أعرض عنها معظم الفقهاء بشهادة صاحب مفتاح الكرامة.

القول الثاني:ان الشفعة تثبت لو كان الثمن قيميا تماما كما لو كان مثليا، و على هذا أكثر الفقهاء بشهادة صاحب مفتاح الكرامة،و المسالك و الرياض، و استدلوا بأن القيمة تقوم مقام العوض،و بإطلاق أدلة الشفعة الشامل للمثلي و القيمي على السواء.ثم أن المعتبر القيمة وقت البيع،و لا عبرة بالزيادة و النقيصة بعده،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المعروف بين الفقهاء».

المحاباة بالثمن:
اشارة

سبق أن الشفيع يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد.و هنا فرض جاء في كتاب الجواهر ينبغي التعرض له لدقته و فائدته العلمية،و هو لو باع أحد الشريكين سهمه من شخص قريب منه أو بعيد،و باعه بأقل من ثمن المثل بقصد محاباته و منفعته،كما لو كانت قيمة السهم مأتين،فباعه بمئة،فهل يأخذ الشفيع بالثمن المسمى أو بالقيمة الحقيقية؟و الجواب يستدعي التفصيل على الوجه التالي:

1-ان يبيع،و هو في حال الصحة،أو في مرض الموت

،مع البناء على أن منجزات المريض تخرج من الثلث لا من الأصل،لأن البيع من المنجزات لا من الوصايا،و لكنه في حكمها على الأصح،كما يأتي في محله ان شاء اللّه.إذا كان كذلك يأخذ الشفيع تمام السهم المبيع من المشتري بالثمن

ص:131

الذي وقع عليه العقد،لأن أدلة الشفعة التي قالت:يأخذ الشفيع بالثمن تشمل هذا المورد و لم تفرق بين أن يكون الثمن مساويا للقيمة أو أقل أو أكثر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال».

2-أن يبيع،و هو في مرض الموت،مع فرض أن الثلث لا يتسع للمحاباة

،كما لو لم يملك البائع إلاّ السهم الذي باعه،و لم تجز الورثة هذا البيع،إذا كان كذلك يكون ثلث المبيع للمشتري محاباة له من البائع،فكأنه أوصى له به، و يأخذ أيضا النصف مقابل الثمن،و هو المائة،لأن المفروض أنّه اشترى بمئة ما قيمته مأتان،و عليه فيملك المشتري النصف و الثلث،و يبقى سدس المبيع للورثة مع المائة التي وقعت ثمنا للعقد.و سبق أن الشفيع يأخذ ما يملكه المشتري،و على هذا يكون مخيرا بين أن يترك الشفعة، و بين أن يأخذ خمسة أسداس المبيع بتمام الثمن الذي وقع عليه عقد البيع، و هو المائة،و بهذا تجد تفسير عبارة الجواهر،و هي:«لو فرض كون قيمة السهم مأتين،فحاباه و باعه بمئة،و ليس له سواه صح البيع في خمسة أسداسه التي هي النصف و الثلث،و بطل في السدس الذي لم يقابله ثمن، فيأخذ الشفيع ان شاء خمسة أسداسه بكل الثمن».

المؤن:

جاء في كتاب الشرائع و الجواهر و المسالك و غيرها من كتب الفقه الرئيسية:«ان الشفيع لا يتحمل شيئا أكثر من الثمن الذي دفعه المشتري للبائع، فأجرة الدلال و الوكيل و غير ذلك من المؤن هي على المشتري لا على الشفيع»و لم يذكر أحد من الفقهاء خلافا في ذلك.و السر أن الأحاديث و الروايات لم تشر إلى

ص:132

المؤن و التكاليف من قريب أو بعيد،و قواعد الشفعة تلزم بالثمن لا بالمؤن.

و يلاحظ بأن المؤن إذا لم تكن من قواعد الشفعة فإنّها من قواعد العدل الذي لا يجيز لأحد أن يكتسب شيئا على حساب غيره،و عليه يكون الشفيع ملزما بالتكاليف الضرورية التي لا بد منها لإتمام البيع.

تأجيل الثمن:

إذا كان عقد البيع ينص على تأجيل الثمن،أو أن يدفع أقساطا،فان الشفيع يستفيد من ذلك،لأن الشفيع يملك كل ما يملكه المشتري،و على الشفيع تقديم كفيل إذا طلب المشتري منه ذلك،حيث لا يجب عليه أن يحتمل نتائج إعسار الشفيع.

و إذا أخذ الشفيع بالثمن المؤجل،ثم مات المشتري قبل أن يحل الأجل فللبائع أن يطالب ورثة المشتري،لأن الميت تحل ديونه المؤجلة بالموت،كما تقدم في باب الدين،و ليس لورثة المشتري الرجوع على الشفيع إلاّ بعد حلول الأجل.

و إذا مات الشفيع قبل حلول الأجل فللمشتري أن يطالب بالثمن ورثة الشفيع،و ليس للبائع الرجوع على الشفيع إلاّ بعد مضي الأجل.

الفور:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق و مفتاح الكرامة إلى أن الشفعة تثبت على الفور،لا على التراخي،فإذا علم الشفيع بالبيع،و لم يبادر إلى طلب الأخذ بالشفعة من غير عذر بطل حقه فيها،لأن التراخي ضرر على المشتري،

ص:133

و لأن الشفعة على خلاف الأصل،فيقتصر منها على موضع اليقين،و هو الطلب حين العلم بالبيع،و ان لم يعلم بمقدار الثمن،و قد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل طلب شفعة فذهب،و لم يحضر؟قال الإمام عليه السّلام:ينتظر ثلاثة أيّام.

و لو كان حق الشفعة ثابتا على التراخي لاستمر إلى ما بعد الثلاثة.

ص:134

تصرفات المشتري

اشارة

سبق أن المشتري يملك المبيع بالعقد،و ان الشفيع له حق التملك عليه، و يتفرع على تملك المشتري أن له أن يتصرف في المبيع كيف شاء،و يتفرع على حق الشفيع للتملك أن يأخذ المبيع بالشفعة،و يبطل تصرفات المشتري.

و لا منافاة في الجمع بين هذين الحقين،فإنهما أشبه بحق الدائنين في تركة الميت المستغرقة للدين،و تملك الورثة لها،فإن لهؤلاء أن يتصرفوا فيما ملكوه من موروثهم،و في الوقت نفسه للدائنين أن يبطلوا تصرف الورثة إذا لم يفوا بديونهم.و مثله الهبة،فإن للواهب حق الرجوع عنها،و للموهوب له حق التصرف في الموهوب قبل الرجوع.

و قد ذكر الفقهاء أمثلة من إبطال الشفيع لتصرفات المشتري،و حكم ما يعرض للمبيع و هو في يده من الهلاك أو الزيادة أو النقصان،و نلخص طرفا منها فيما يلي:

التقايل بين البائع و المشتري:

إذا تقايل البائع و المشتري،و اتفقا على إرجاع المبيع لصاحبه قبل أن يأخذ الشفيع بالشفعة صح التقايل،لأن حق الشفيع سابق على البائع من حيث ان

ص:135

الشفعة استحقت بالعقد،و التقايل متأخر عنه،فتقدم الشفعة عليه،لمكان السبق.

و إذا طرأ نقص على المبيع بعد إرجاعه للبائع فضمانه على المشتري،لأنه كان مسؤولا عما يحدث في المبيع قبل التقايل،فتستمر المسؤولية إلى ما بعده.

هذا ما قاله الفقهاء دون أن ينقلوا الخلاف فيه.و الحق أنّه لا شفعة من رأس مع التقايل،لأن أدلة الشفعة ظاهرة في تملك المشتري للمبيع،و منصرفة عن حالة التقايل،بل ان موضوع الشفعة هو الشريك الحادث،و المفروض عدمه، فتنتفي لانتفاء موضوعها.

تصرف المشتري بالبيع أو الوقف أو الهبة:

إذا باع المشتري السهم الذي اشتراه من الشريك فللشفيع فسخ البيع، و يتخير بين أن يأخذ من المشتري الأول،أو المشتري الثاني،لأن حق الشفيع يثبت و يتعدد بتعدد البيع،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك».و إذا أخذ الشفيع من المشتري الأول دفع له الثمن الذي وقع عليه العقد، و بطل البيع الثاني،و إذا أخذ من المشتري الثاني دفع له الثمن الذي اشتراه به بالغا ما بلغ.

و إذا تعددت العقود و تتابعت،حتى تجاوزت الاثنين،فأي عقد أخذ به الشفيع يكون ما قبله صحيحا،و ما بعده باطلا،أما صحة السابق فلأن الرضا بالعقد المتأخر يستدعي الرضا بما تقدم عليه،و أمّا بطلان المتأخر فلان الذي قبله قد زال بالفسخ،فيبطل المتأخر،لأنه متفرع عنه.

و إذا اشترك عقاران في المرافق،كالطريق و الشرب،و بيع أحدهما،و بنى المشتري فيه مسجدا،ثم أخذه الشفيع من المشتري يبطل الوقف،و له أن يهدم

ص:136

المسجد،و كذا إذا كان عقار مشاعا بين اثنين،و باع أحد الشريكين سهمه المشاع، و أخفى المشتري البيع عن الشفيع،و قال له:استوهبت السهم من شريكك، و طلب منه القسمة،و بعد أن تقاسما بنى المشتري مسجدا في سهمه،ثم تبين الواقع للشفيع،فله أن يأخذ المبيع من المشتري،و يهدم المسجد،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه بيننا-أي بين فقهاء المذهب-و لا اشكال،لسبق حق الشفيع،بل عن كتاب المبسوط الإجماع على أن له نقض المسجد إن كان قد بناه».

و إذا وهب المشتري المبيع فللشفيع أخذه،و متى أخذه بطلت الهبة، و يأخذ الشفيع العين اين وجدها،و يدفع الثمن إلى المشتري الواهب،لا إلى الموهوب له،لأن المفروض بطلان الهبة،و إرجاع الأمر إلى ما كان قبلها.

نقص المبيع في يد المشتري:
اشارة

إذا طرأ على المبيع هدم أو عيب،و هو في يد المشتري فالحكم عند الأكثر على التفصيل التالي:

1-أن يتلف المبيع،و لا يبقى له من أثر بآفة سماوية

،فتبطل الشفعة لارتفاع موضوعها.

2-أن ينقص المبيع

،مثل الدار ينهدم بعضها أو كلها،و تبقى الأرض من غير ارادة المشتري و تصرفه،أو فعل أجنبي،و الحكم في ذلك أن يتخير الشفيع بين الأخذ بجميع الثمن،أو ترك الشفعة،سواء أحصل النقص قبل مطالبة الشفيع،أو بعدها،إذ المفروض أن المشتري لم يقم بأي عمل يوجب الضمان فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل اشترى من رجل دارا غير

ص:137

مقسومة،و كان الشريك الآخر غائبا،و لما قبضها المشتري جاء سيل جارف و هدمها،ثم جاء الشريك الغائب،و طلب الشفعة،فأعطاه الشفعة،على أن يعطيه الثمن كاملا،فقال الشريك الشفيع:ضع من الثمن قيمة البناء،فما هو الواجب في ذلك؟قال الإمام عليه السّلام:ليس له إلاّ الشراء و البيع.أي يأخذ الثمن الذي وقع عليه العقد.

3-أن يكون النقص بفعل المشتري

،و لكن قبل مطالبة الشفيع بالشفعة، و الحكم فيه كالصورة الأولى،و هو التخيير بين الأخذ بجميع الثمن أو الترك،لأن المشتري تصرف في ملكه،و لم يعتد،فلا موجب للضمان.

4-أن يكون النقص بسبب المشتري

،و لكن بعد أن طالب الشفيع بالشفعة، و الحكم أن المشتري يضمن النقص،أي يسقط من الثمن ما يقابل النقص الذي أحدثه المشتري،لأن الشفيع قد استحق أخذ المبيع كاملا بالمطالبة، فيكون تصرف المشتري بعدها تعديا منه،و المتعدي ضامن.

زيادة المبيع:

إذا اشترك عقاران في المرافق،كالطريق و الشرب،و بيع أحدهما،و أقام المشتري فيه بناء،أو غرس فيه غرسا،أو أخذه الشفيع بالشفعة،فهل عليه أن يدفع للمشتري عوض البناء و الغرس،أو يجوز له أن يهدم البناء،و يقلع الغرس، و يرمي به إلى المشتري؟ و ليس من شك أن للشفيع و المشتري أن يتفقا و يتراضيا على أن يتملك الشفيع البناء و الغرس لقاء عوض يدفعه للمشتري،أو يبقى البناء و الغرس على ملك المشتري لقاء عوض يدفعه المشتري للشفيع،كما أن للشريك أن يقلع

ص:138

الغرس،و يهدم البناء،و يزيلهما من أرض الشفيع دون أن يستأذنه،لأنه مالك لهما،و للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء،و لا يحق للشفيع أن يعارضه في شيء من ذلك،و لا أن يمنعه من الدخول و المرور في أرضه للقلع و الهدم،و نقل الأنقاض،لأن ذلك ضروري للتصرف في ملكه،كما أنّه ليس للمشتري أن يطالب الشفيع بشيء مما يتضرر به من الهدم و القلع،لأنه هو الذي أصر عليهما.

لا شك في شيء من ذلك،و انما الشك و الاختلاف فيما إذا أصر الشفيع على هدم البناء و قلع الغرس،و إزالتهما من أرضه،و أصر المشتري بدوره على الامتناع عنها،و لم يمكن التوفيق بين الشفيع و المشتري،و نقل صاحب الجواهر أقوال الفقهاء في ذلك:منها أن الشفيع مخير بين أمرين:امّا أن يسقط الشفعة، و امّا أن يأخذ البناء و الغرس بقيمتهما مستحقين للهدم و القلع لأن المشتري يملكها كذلك (1).

و منها أن الشفيع مخير بين أمور ثلاثة:أن يترك الشفعة،أو يأخذ البناء و الغرس بقيمتها،أو يجبر المشتري على القلع مجانا و دون تعويض،فان أبى قلع الشفيع و هدم.

و منها التخيير بين هذه الأمور الثلاثة على أن يتحمل الشفيع الضرر الذي ينال المشتري بسبب الهدم و القلع،و ذلك بأن يدفع له الشفيع التفاوت بين قيمة الشجر مغروسا،و قيمته مقلوعا،و التفاوت بين قيمة البناء قائما،و قيمة أدواته بعد الهدم،و بهذا قال الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة و كثيرون من كبار

ص:139


1- عبارة صاحب الجواهر هنا مجملة،و هذا نصها بالحرف:«أن يعطي قيمة ما أخذ من المشتري» و فسرناها نحن بأن الشفيع يأخذ الغرس و البناء مستحقين للهدم و القلع.لأن المعنى لا يستقيم إلاّ بهذا التفسير.

الفقهاء،و هو أرجح الأقوال،لأنه يجمع بين الحقين.

النماء:

النماء على نوعين:نماء متصل:كضخامة الشجرة،و تزايد فروعها و أغصانها،و نماء منفصل،كالثمرة على الشجرة،أو سكنى الدار،فإذا تجدد الأول بعد البيع فهو للشفيع،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال ضرورة تبعية ذلك للعين التي تعلق بها حق الشفعة».أما الثاني فهو ما يتجدد منه بعد البيع و قبل الأخذ بالشفعة فهو للمشتري،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال ضرورة أنّه نماء حدث في ملك المشتري،و أنّه كان متزلزلا.هذا بالإضافة إلى أن النماء الحادث ليس من متعلق البيع الذي ثبت فيه حق الشفعة».

ص:140

مسقطات الشفعة و توريثها و التنازع

المسقطات:
اشارة

تسقط الشفعة بأحد الأسباب التالية:

1-أن يتلف المبيع بتمامه قبل الأخذ بالشفعة

،فتسقط لارتفاع موضوعها،و إذا تلف بعضه بآفة سماوية تخير الشفيع بين ترك الشفعة،أو أخذ الباقي بتمام الثمن الذي وقع عليه العقد،و تقدم الكلام في ذلك في الفصل السابق فقرة:«نقص المبيع في يد المشتري».

2-أن يتنازل الشفيع عن الشفعة بعد البيع

،لأنها حق له،و لكل ذي حق أن يتنازل عن حقه.

3-أن يتنازل عن الشفعة قبل البيع

.و قيل:لا أثر لهذا التنازل،لأنه إسقاط للحق قبل ثبوته.

و نحن مع صاحب الجواهر الذي أسقط الشفعة بهذا التنازل،فقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا يحل أن يبيع،حتى يستأذن شريكه،فان باع،و لم يأذن فهو أحق به»و معنى هذا أن الشريك إذا أذن بالبيع فلا شفعة له،لأن الإذن بالبيع يشعر بالإعراض عن الشفعة،فالرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص:141

أعطى للشريك الحق بالاذن بالبيع و المنع عنه قبل صدوره،و إذا كان له الحق قبل البيع فله إسقاطه قبل البيع أيضا،قال صاحب الجواهر:«لا ينبغي الإشكال في عدم الشفعة مع صدور البيع مبنيا على أنّه لا شفعة للشريك بإذنه-ثم قال-و يكفي لصحة الإذن تعلق الحق على الوجه الذي سمعته من النص».يريد بالنص الحديث النبوي المذكور.هذا،إلى أن الشفعة إنما شرعت للإرفاق بالشريك، و دفع ما يتوقع من ضرر الدخيل،أي الشريك الجديد،و لا ضرر مع الرضا بترك الشفعة،سواء تقدم على البيع،أو تأخر عنه.

4- ان البائع إذا عرض على الشفيع البيع بثمن معين فرفض الشراء

جاء في كتاب مفتاح الكرامة نقلا عن كتاب المقنعة،و النهاية،و الوسيلة، و جامع الشرائع:«ان البائع إذا عرض على الشفيع البيع بثمن معين فرفض الشراء،و باع الشريك بذلك الثمن،أو زائدا عليه لم يكن لصاحب الشفعة المطالبة بها،أما إذا باع بأقل من الثمن الذي عرضه على الشفيع كان له المطالبة بها».

5-إذا علم بالشفعة

،و لم يبادر إلى الأخذ بها من غير عذر يوجب التأخير، بحيث يعد مقصرا و متوانيا سقط حقه في الشفعة.

6-إذا وقع البيع على ثمن معين

،ثم ظهر انّه مستحق للغير بطلت الشفعة لبطلان عقد البيع الذي هو موضوع الشفعة،و كذلك إذا تلف قبل قبضه.

7-إذا أخرج الشفيع سهمه عن ملكه بالبيع أو الهبة

،و ما إليها بعد أن باع الشريك سقط حقه في الشفعة،سواء أ كان عالما بالبيع أو جاهلا به،لأن ضابط الأخذ بالشفعة أن يكون شريكا حين الأخذ بها،لا قبلها،و لذا لا تثبت الشفعة بعد القسمة،كما تقدم.

8-قال جماعة من الفقهاء:تسقط الشفعة إذا وجدت القرائن

التي تدل على

ص:142

رضا الشفيع بالبيع،مثل أن يشهد البيع،و يسكت،أو يبارك للبائع أو المشتري،أو يكون وكيلا عن الأول في البيع،أو عن الثاني في الشراء،أو يضمن للمشتري درك المبيع إذا ظهر مستحقا للغير،أو يضمن للبائع درك الثمن كذلك.

و يلاحظ بأن الرضا بالبيع شيء،و الرضا بترك الشفعة و الاعراض عنها شيء آخر،و الذي تسقط معه الشفعة هو الرضا الثاني،دون الأول،إذ من الجائز أن يكون غرض الشفيع إيجاد السبب الذي يستحق به الشفعة،كما قال صاحب الجواهر.أجل،إذا دلت القرائن على أنّه أراد من الرضا بالبيع الرضا بترك الشفعة سقطت،و إلاّ فلا أثر للرضا بالبيع من حيث هو.

9-إذا تصالح المشتري و الشفيع على ترك الشفعة لعوض يدفعه الأول

للثاني صح الصلح

،و سقطت الشفعة،لأنها حق مالي كالخيار،فينفذ فيها الصلح،لأن دليله،و هو قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الصلح جائز»عام للشفعة و لغيرها إذا لم يحلل حراما،أو يحرم حلالا،و إذا اصطلحا على أن يكون عوض الشفعة بعض المبيع صح،لأنه من الصلح الجائز.

توريث الشفعة:

إذا سقطت الشفعة بأحد الأسباب الموجبة،ثم مات الشفيع فلا يحق لورثته المطالبة بها،لأن الساقط لا يعود.أما إذا مات الشفيع،و هو يملك حق الشفعة فقد ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الحدائق و غيره إلى أن الشفعة تنتقل إلى ورثته،تماما كسائر أمواله،و استدلوا بالآيات و الأحاديث الدالة على أن الوارث يقوم مقام المورث،و منها الحديث الشريف:«ما ترك الميت من حق فهو لوارثه»،

ص:143

و بأن الفقهاء قد أجمعوا على أن حق الخيار،و حق المطالبة بحد القذف و القصاص ينتقل إلى الوارث.و بديهة أن الشفعة في معنى الخيار،فيكون حكمها حكمه في عدم السقوط.

و قال آخرون:تبطل الشفعة بموت الشفيع،و استدلوا برواية ضعيفة،و بأن الشفعة ترتبط وجودا و عدما بالبيع،و ملك الورثة حادث بعد البيع.

و الواقع أن هذا القول ضرب من المغالطة،لأن الورثة يستحقون الشفعة بسبب مورثهم الذي استحقها عند البيع،فحدوث ملك الورثة لا يمنع من سبق الشفعة،و وجودها من قبل،كما لا يمنع كثرة الورثة و تعددهم إذا كان الأصل الأول الذي ورثوا الشفعة منه واحد.

صورة تقسيم الشفعة:

قد يتعدد الورثة،و تكون سهامهم متفاوتة،كما لو ترك الشفيع بنتا و ابنا، فان للبنت في كتاب اللّه سبحانه الثلث،و للابن الثلثين،هذا في الأموال،أما حق الشفعة فهل يقسم كذلك على السهام المفروضة في كتاب اللّه،فيكون للبنت من الشفعة الثلث،و الباقي للابن،أو يقسم على الرؤوس لا على السهام،فيكون لكل من البنت و الابن النصف من الشفعة؟.

اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على أن كل وارث يستحق من الشفعة باعتبار سهمه من تركة المورث،لا باعتبار نفسه،و ذلك أن جميع الورثة قد ملكوا من المورث،لا من المشتري،و لا فرق بين حق الشفعة و غيرها مما ترك الميت.

ثم أن الشفعة لما كانت واحدة لا تتجزأ فحق الورثة فيها أيضا واحد لا يتجزأ،و عليه،فاما أن يأخذ الورثة المبيع كاملا،و امّا أن يتركوه كذلك.و إذا عفى

ص:144

أحد الورثة،و أسقط نصيبه من الشفعة ينحصر حق الشفعة بمن لم يسقط حقه، و هذا بدوره اما أن يأخذ الجميع،و امّا أن يدع الجميع،و ليس له أن يأخذ بمقدار سهمه فقط حذرا من التبعيض.و بالإيجاز ان حق الشفعة لا يمكن فيه التجزئة بحال،سواء اتحد المستحق،أو تعدد،فإذا كان أكثر من واحد فليس له أن يأخذ بالشفعة ما لم يوافقه الشركاء الباقون،و ان أسقط حقه كان كأنّه لم يكن،و انحصر الحق بمن لم يعف.كل ذلك للفرار من التبعيض و التجزئة.

التنازع:

1-إذا اختلف المشتري و الشفيع في مقدار الثمن

،فقال الأول:اشتريته بألفين.

و قال الثاني:بل بألف،فمن هو المدعي،و من المنكر؟ ينبغي التنبيه قبل كل شيء إلى أن شهادة البائع هنا لا أثر لها،و لا تقبل إطلاقا،سواء أشهد مع المشتري،أو مع الشفيع،لأن المعيار لقبول شهادة الشاهد أن لا يكون الشيء المشهود به من فعله،و بديهة أن الثمن المتنازع عليه قد جرى بين البائع و المشتري،فلا تقبل شهادة فيه.ثم أن وجدت بينة شرعية تثبت قول المشتري،أو الشفيع تعين العمل بها،و إلاّ فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن القول قول المشتري بيمينه،لأنه لا يدعي شيئا على الشفيع،و كل أمنيته أن يترك و شأنه.و من هنا ينطبق عليه تعريف المنكر،و هو ما لو ترك لم يترك.هذا،إلى أن المشتري مالك للمبيع،و يده عليه،و الشفيع يريد انتزاعه منه،و قد تسالم الجميع على أن الأصل أن لا يؤخذ المال ممن هو في يده إلاّ بالبينة.

و تسأل:ان من الأصول المتسالم عليها أيضا ان التخاصم إذا وقع بين اثنين

ص:145

على الأقل و الأكثر أخذ بقول من يدعي الأقل،لأن الأصل عدم الزيادة.

و الجواب:ان هذا الأصل صحيح فيما إذا ادعى أحد المتخاصمين أن له في ذمة الأخر عشرة-مثلا-و قال المدعى عليه:بل لك عليّ خمسة،لا عشرة، فيؤخذ بقول مدعي الأقل،لأصل عدم الزيادة،و هذا أجنبي عما نحن فيه،لأن المفروض أن المشتري لا يدعي شيئا على الشفيع،و انما الشفيع هو الذي يدعي الاستحقاق على المشتري،قال صاحب الجواهر:

«القول قول المشتري بيمينه،لأنه هو الذي ينتزع الشيء من يده،و لأنه هو اعرف بالعقد،و لأنه الغارم،و لأنه ذو اليد،و لأنه الذي يترك لو ترك،و لأن المشتري لا دعوى له على الشفيع،إذ لا يدعي عليه شيئا في ذمته،و لا تحت يده، و انما الشفيع يدعي استحقاق ملكه بالشفعة بالقدر الذي يعترف به الشفيع، و المشتري ينكره،و لا يلزم من قوله اشتريته بالأكثر أن يكون مدعيا،و ان كان خلاف الأصل،لأنه لا يدعي استحقاق ذلك على الشفيع،و لا يطلب تغريمه إياه».

و كل هذا حقّ و صحيح،و مع ذلك ينبغي أن لا يؤخذ بقول المشتري إذا وجدت قرائن تدل على اتهامه،كما لو ذكر ثمنا باهظا جدا،أكثر بكثير من الثمن المألوف و المعتاد.

2-إذا قال المشتري للشفيع:أنا غرست و بنيت بعد أن اشتريت فقال الشفيع:

كلا،بل كان الغرس و البناء قبل أن تشتري

فالقول قول المشتري بيمينه، لأن البناء و الغرس ملك له،و الشفيع يدعي عليه الحق في تملكهما فعليه الإثبات.

3-إذا ادعى أحد الشريكين أنّه باع نصيبه من أجنبي،و أنكر الأجنبي ذلك

،

ص:146

و حلف اليمين سقطت دعوى الشريك،و لكن هل للشريك الثاني أن يطالب شريكه الذي ادعى أنّه باع سهمه أن يطالبه بحق الشفعة،لمكان اعترافه بالبيع؟ قال جماعة من الفقهاء:له ذلك،لحديث:«إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

و ذهب آخرون منهم صاحب الجواهر،إلى عدم ثبوت الشفعة في هذه الحال،لأن ثبوتها فرع من ثبوت البيع،و المفروض عدم ثبوته،و الإجماع و النص صريحان بأن الشفيع يأخذ من المشتري،لا من البائع،أما إقرار البائع بأنه باع الأجنبي فلا أثر له إطلاقا بالنسبة إلى الشفيع،بخاصة بعد أن سقطت دعواه.

4-إذا قال المشتري لمدعي الشفعة:أنت أجنبي،و لست بشريك

،فلا شفعة لك فان كانت يد مدعي الشفعة على المبيع فالإثبات على المشتري،و إلاّ فعلى مدعي الشفعة أن يثبتها بالبينة.

5-سبق أن الشفعة انما تثبت لمن كان شريكا حين البيع،و يخرج سهمه عن

ملكه قبل الأخذ بالشفعة

،و عليه فمن أراد أن يأخذ بالشفعة يجب أن يثبت أنّه كان مالكا عند البيع،و يتفرع على ذلك أن أحد الشريكين إذا باع سهمه من زيد-مثلا-و الشريك الآخر باع سهمه من عمرو،و حصل البيع من الاثنين دفعة واحدة فلا شفعة لأحد المشتريين على الآخر،للتساوي و عدم السبق.و إذا تقدم شراء أحدهما،و تأخر شراء الآخر فالشفعة للسابق على اللاحق.و إذا ادعى السبق كل منهما،و لا بينة تعيّن تاريخ بيعهما،أو بيع أحدهما فكل منهما مدع و منكر في آن واحد،أي يدعي الشفعة لنفسه،و ينفيها عن غيره،و الحكم في المتداعيين هو التحالف،

ص:147

فإذا حلف كل من المشتريين استقر ملكه على ما اشتراه،و تكون النتيجة عدم الشفعة لكل منهما.

و إذا طالب أحدهما بالشفعة دون الآخر فعلى مدعي الشفعة البينة،و على الآخر اليمين،لأن الشرط في ثبوت الشفعة هو سبق ملكية الشفيع،كما أشرنا، و بديهة أن مجرد الشك في وجود الشرط كاف لنفي المشروط.و يكفي أن يحلف المنكر على نفي الشفعة،و لا يطلب منه أن يحلف على أنّه السابق دون غيره،لأن الغرض من الدعوى استحقاق الشفعة،و اليمين على نفي الاستحقاق يحقق الغرض المطلوب.و هكذا في جميع الدعاوي لا يطلب من الحالف إلاّ نفي موضوع الدعوى الذي يراد إثباته.

ص:148

المضاربة

اشارة

ص:149

ص:150

معناها:

إذا اتفق اثنان على أن يكون المال من أحدهما،و العمل بهذا المال في التجارة من الآخر،و على أن يكون الربح بينهما سمي هذا الاتفاق مضاربة، و قراضا،و مقارضة.

و مصدر التسمية بالمضاربة قوله تعالى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ (1).و وجه التسمية بالقراض أن معنى القرض القطع،تقول:

قرضت الشيء،أي قطعته،و صاحب المال هنا يقتطع قدرا من ماله،و يسلمه إلى العامل،أما المقارضة فمعناها المساواة.

و يجوز أن يكون كل من المالك و العامل أكثر من واحد،فيعطي الرجل ماله لاثنين على سبيل المضاربة،أو يعطي الرجلان مالهما لواحد كذلك.

و قد تكررت في كتب الفقه،باب المضاربة هذه العبارة:ان اتفقا على أن يكون المال من أحدهما،و العمل من الآخر،و الربح بينهما فهو مضاربة،و ان اتفقا على أن يكون الربح للعامل و الخسارة عليه،و لا شيء للمالك إلاّ رأس المال فهو قرض المعروف بالدين،و ان اتفقا على أن يكون الربح للمالك،و الخسارة عليه،و لا شيء للعامل إلاّ اجرة المثل أو الأجرة المسماة فهو بضاعة.

ص:151


1- المزمل:20. [1]

و جاء في كتاب الجواهر:«ان المضاربة تلحقها بعض أحكام الوكالة، و الوديعة،و الشركة،و غيرها كالغصب،و أجرة المثل».

شرعية المضاربة:

المضاربة مشروعة إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يقول لآخر:ابتاع لك متاعا،و الربح بيني و بينك؟قال:لا بأس.

و قال صاحب الجواهر:«المشهور،بل المجمع عليه مشروعية المضاربة، المدلول عليها بقوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،و بالمتواتر من السنة عند الشيعة و السنة فيما عن بعض الفقهاء أنّها غير مشروعة معلوم البطلان، و واضح الفساد».

المضاربة جائزة غير لازمة:

اتفقوا على أن عقد المضاربة جائز من جانب المالك و العامل،فيجوز لكل منهما الفسخ و العدول قبل الشروع بالعمل و بعده،حصل الربح أو لم يحصل، تحول المال إلى سلعة أو لم يتحول،اشترط فيها وقت معين،أو كانت مطلقة.

قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و هو الحجة في الخروج عن قاعدة اللزوم».

الشروط:

لا بد في المضاربة من الأمور التالية:
1-الإيجاب من المالك،و القبول من العامل

،و يتحققان بكل ما دلّ عليهما من

ص:152

قول أو فعل.

2-العقل و البلوغ و الاختيار في المالك و العامل

وفقا للقواعد العامة المقررة في شروط المتعاقدين،و قد مر بيانها مفصلا في الجزء الثالث.و أيضا يعتبر فيهما عدم الحجر لسفه،لأن السفيه لا يجوز بيعه،و لا شراؤه،و لا إيجار نفسه،أما التحجير للإفلاس فإنه يخرج المفلس عن أهلية التصرف في ماله،و لا يخرجه عن أهلية التصرف في مال الغير بالنيابة بخاصة إذا عاد عليه بالنفع،فان كان ما يتجدد له من مال فهو في صالحه،و صالح الدائنين.

3-أن لا يكون مال المضاربة دينا

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال الامام علي أمير المؤمنين عليه السّلام:في رجل له على رجل مال،فتقاضاه-اي طالبه بقضاء الدين-و لا يكون عنده،فيقول صاحب المال:هو عندك مضاربة؟قال:لا يصح،حتى يقضيه.

4-أن يكون مال المضاربة من الذهب و الفضة المسكوكين
اشارة

،كالدرهم و الدنانير.هكذا قال الفقهاء،مع اعترافهم بأنّه لا نص على حصر مال المضاربة بالنقدين.

و الوجه الذي ذكروه لهذا الإجماع يتلخص بأن المضاربة على خلاف الأصل،لأن الأصل في الربح أن يكون تابعا لرأس المال،و كل ما خالف الأصل يقتصر فيه على موضع اليقين،و هو هنا الذهب و الفضة.فقد جاء في الجزء السابع من كتاب مفتاح الكرامة باب القراض صفحة 439:«لا ريب في مخالفة المضاربة للأصل من وجوه،فيقتصر فيما خالفه على المتيقن المجمع عليه-ثم قال صاحب الكتاب المذكور-فما ظنك بإطباق الفقهاء،و أكثر السنة على اشتراط كون مال المضاربة من النقدين».

ص:153

و نجيب عن هذا:
أولا:ان المضاربة على وفق القاعدة

التي دلّ عليها قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ .و عليه تصح كل مضاربة تقع على نقد رائج مهما كان نوعه.

ثانيا:نحن لا نعتبر الإجماع

الذي علمنا،بل ظننا،بل احتملنا أن مستنده هذا الأصل،أو تلك الآية أو الرواية،بل ندعه جانبا،و ننظر إلى مستنده بالذات،و الإجماع الذي نعتمده هو الإجماع الذي نعلم أنّه كاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.و بديهة أن الاحتمال لا يجتمع مع العلم.أما القول بأن الإجماع يكشف عن وجود دليل معتبر عند المجمعين،اطلعوا عليه، و خفي علينا فهو كلام لا منشأ له إلاّ حدس قائله.و لو صح لصح قول من قال:ان فتوى الصحابي حجة،لأنه سمع حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خفي علينا نحن.

ثالثا:ان ما جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام غير مقيد بالنقدين

باعتراف الفقهاء الذين خصصوا المضاربة و حصروها فيهما.من ذلك قوله عليه السّلام:«الذي يعمل به مضاربة له من الربح و ليس عليه من الوضعية شيء إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال».فهذه الرواية تشمل كل ما يعمل به مضاربة،سواء أ كان من النقدين،أو من غيرهما،و مثلها كثير.و من هنا قال صاحب الحدائق:«من لا يلتفت إلى دعوى مثل هذه الإجماعات،لعدم ثبوت كونها دليلا شرعيا فإنه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في غير النقدين نظرا إلى عموم الأدلة الدالة على جوازه،و تخصيصها يحتاج إلى دليل شرعي و هو غير موجود».

رابعا:لو افترض أن المعاملة في غير النقدين لا تسمى أو لا تصح مضاربة

ص:154

فإنّها تصح جعالة،و النتيجة واحدة،قال صاحب العروة الوثقى ما نصفه بالحرف:«يجوز إيقاع المضاربة بعنوان الجعالة،كأن يقول:إذا اتجرت بهذا المال،و حصل ربح فلك نصفه،فيكون جعالة تفيد فائدة المضاربة، و لا يلزم أن يكون جامعا لشروط المضاربة،فيجوز مع كون رأس المال من غير النقدين،أو دينا،أو مجهولا جهالة لا توجب الغرر».

خامسا:ان الذهب و الفضة يذكران في الغالب تعبيرا عن النقد الرائج في ذلك

العصر

مثل قول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا تؤجر الأرض بالحنطة،و لا بالشعير،و لا بالتمر.و لكن بالذهب و الفضة».و لا نعرف فقيها يقول بأن إيجار الأرض لا يصح بالنقد غير الذهب و الفضة،نقول هذا مع العلم بأن الذهب و الفضة لم يردا إطلاقا في روايات المضاربة.

5-أن يكون رأس المال معلوما

،لأن الجهل به يستدعي الجهل بالربح، فيتعذر تمييز الربح عن رأس المال،و تقع المنازعة التي يجب التجنب عنها ما أمكن.

6-أن يكون الربح مشاعا بين المالك و العامل

،فلا يصح اشتراط مقدار معين لأحدهما،كعشرين درهما-مثلا-و البقية للآخر،لأنه يؤدي إلى قطع الشركة،و انتفاء المضاربة من رأس،و يدل على أن الربح لا بد أن يكون مشاعا قول الإمام الصادق عليه السّلام:«الربح بينهما،و الوضيعة على المال».

و ليس من الضروري أن يكون نصيب كل منهما معادلا لنصيب الآخر،بل يجوز التفاوت على نحو الربع و الخمس،و ما إلى هذا مما يتم عليه الاتفاق.

أجل،مع الإطلاق،و عدم بيان الحصة يقسمان الربح مناصفة بينهما،لأنه المعروف بين الناس.

ص:155

7-هل يجب أن يكون رأس المال في يد العامل

،بحيث لا يصح اشتراط أن يساوم و يبيع و يشتري العامل لحساب المضاربة،و يحيل على المالك، تماما كما هو الشأن في أمين الصندوق؟ قال جماعة من الفقهاء:يجب أن يكون المال في يد العامل،ليتمكن من العمل.و قال آخرون:لا يجب،لأن العمل كذلك ممكن و يسير.و أكثر الفقهاء سكتوا عن هذا الشرط،و لم يتعرضوا له سلبا و لا إيجابا قال صاحب مفتاح الكرامة:«الذي يظهر من أكثر الفقهاء أنّهم لا يعتبرون هذا الشرط،حيث يذكرون سائر الشروط و يتركونه».و هو الحق.

ما يشترطه المالك و العامل:

الشروط التي ذكرناها في الفقرة السابقة شروط شرعية من اعتبار الشارع بالذات،بحيث لا تتحقق المضاربة إلاّ بوجودها كاملة،و تنتفي المضاربة بانتفاء أحدهما.و للمالك و العامل أن يضيفا شروطا أخرى يتفقان عليها،على شريطة أن لا تتنافى مع مقتضى العقد و طبيعته،أو تحلل حراما،أو تحرم حلالا شأنها في ذلك شأن سائر العقود.

و على هذا،فإذا اشترط المالك على العامل أن لا يسافر بالمال،أو يسافر به لجهة معينة دون غيرها،أو لا يتاجر إلاّ بنوع خاص من السلع و ما إلى ذاك صح الشرط و وجب الوفاء به.و إذا خالف،و طرأ على المال شيء فضمانه على العامل،لأنه وكيل أو بمنزلة الوكيل على المال،و على الوكيل أن ينفذ أوامر الموكل.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يعمل بالمال مضاربة؟قال:له الربح،و ليس عليه من الوضيعة شيء إلاّ أن يخالف ما أمر صاحب المال.و أيضا

ص:156

سئل عن رجل يعطي المال مضاربة،و ينهى أن يخرج به،فخرج؟قال:يضمن المال،و الربح بينهما.

و تسأل:ان الضمان مع تعدي اذن المالك على وفق القاعدة،أما مشاركة المعتدي مع المالك في الربح فلا وجه له.و هل يستحق شيئا على عمل لم يكن مأذونا به؟ الجواب:ان عدم الاستحقاق مع التعدي هو مقتضي الأصل و الاجتهاد.

و بديهة أنّه لا أصل و لا اجتهاد مع وجود النص.هذا،إلى أنّه بعد حصول الربح قد تبين أن العامل يتعد،لأن المالك عندما ضاربه فإنما ضاربه و شاركه على أساس المصلحة،فكأنه قال له:افعل جميع ما فيه مصلحة المضاربة،حتى و لو منعتك عنه.

شرط النفع زيادة عن الحصة:

قال صاحب العروة الوثقى:«إذا اشترط أحدهما على الآخر في ضمن عقد المضاربة مالا أو عملا،كما لو اشترط المالك على العامل أن يخيط له ثوبا،أو يعطيه درهما،أو نحو ذلك:أو اشترط هذا العامل على المالك فالظاهر صحة الشرط.و كذا إذا اشترط أحدهما على الآخر بيعا أو قرضا أو قراضا،أو بضاعة أو نحو ذلك صح.و دعوى أن القدر المتيقن ما إذا لم يكن من المالك إلاّ رأس المال، و من العامل إلاّ التجارة مدفوعة بأن ذلك من حيث متعلق العقد-أي أن العقد لا يوجب ذلك من حيث هو،و من غير شرط،أما مع الشرط فإنه يقتضيه،و لا ينافيه-و يكفي في صحته عموم أدلة الشرط».

ص:157

توقيت المضاربة:

إذا حددت المضاربة بوقت معين،كما لو قال:ضاربتك بهذا المال إلى سنة،و قبل العامل فهل يصح العقد و الشرط،أو يبطلان معا،أو يصح العقد دون الشرط؟ و للفقهاء في ذلك أقوال ثلاثة.و نحن على رأي صاحب الجواهر،حيث قال:ان أريد من اشتراط الأجل أن تكون المضاربة لازمة قبل مضيه،بحيث لا يجوز للمالك و لا للعامل الرجوع و الفسخ إلاّ بعد الأجل بطل العقد و الشرط،لأنه مناف لمقتضاه و طبيعته،أي الجواز.و ان أريد به أن أي تصرف يصدر من العامل بعد الأجل فهو غير جائز،و ليس من المضاربة المتفق عليها صح الشرط و العقد، لأنه لا يستدعي أي محذور.

و إذا أطلق العقد،و لم يقيد العامل بعمل أو زمان أو مكان خاص تصرف العامل حسبما تقتضيه مصلحة الشركة.

شرط الضمان و الخسارة على العامل:

اتفقوا على أن المال إذا خسر أو هلك منه شيء في يد العامل بلا تعدّ أو تفريط احتسبت الخسارة من الربح ان كان المال قد ربح،فان لم يكن ربح أصلا، أو كان و لم يف بالخسارة احتسبت من رأس المال،و تحملها المالك وحده.قال صاحب الجواهر:«ان الربح وقاية لرأس المال في شرع المضاربة و عرفها».

هذا إذا كان عقد المضاربة مطلقا،و لم يذكر فيه أن العامل يتحمل شيئا من الخسارة أو يضمن المال الهالك،و ان يفرط.أمّا إذا اشترط المالك على العامل أن يتحمل من الخسارة،أو يضمن المال على كل حال،و رضي العامل بالشرط

ص:158

فهل يصح الشرط،أو يقع لغوا؟ قيل:يبطل الشرط و العقد معا،و قيل:يبطل الشرط دون العقد،و قال صاحب الجواهر و صاحب العروة الوثقى:يصح الشرط و العقد.لأن المضاربة منها مطلقة،و هي التي لم تقيد بقيد،و من أحكامها أن تكون الخسارة بشتى أنواعها على المالك،و لا شيء على العامل إلاّ إذا فرط أو اعتدى،و منها مقيدة، و هي التي قيدت بقيد،و منه اشتراط الضمان و المساهمة في الخسارة،و ان لم يفرط.و هذا القيد يتنافى مع المضاربة المطلقة التي لم تقيد بشيء،و لا يتنافى مع طبيعة المضاربة التي هي القاسم المشترك،و القدر الجامع بين المضاربة المطلقة و المقيدة.و بتعبير الفقهاء أن هذا الشرط يتنافى مع العقد المطلق،لا مع مطلق العقد.و عليه فلا مانع مع التمسك لصحة الشرط بحديث:«المؤمنون عند شروطهم».و آية تِجارَةً عَنْ تَراضٍ .

تصرفات العامل:

قال الفقهاء:إذا كان عقد المضاربة مطلقا فلا يجوز للعامل أن يسافر بالمال،أو يستأجر أحدا في عمل المضاربة،و لا أن يبيع أو يشتري نسيئة،و لا أن يبيع بأقل من ثمن المثل،أو يشتري بأكثر منه إلاّ بإذن المالك،فإذا فعل العامل شيئا من ذلك بلا اذن بطل عمله إلاّ إذا أجاز المالك.

و الحق أن المالك إذا قيد التصرف بشيء خاص وجب التقيد به،و ليس للعامل أن يبدل أو يعدّل إلاّ بعد مراجعة المالك،لأن المال له،و الناس مسلطون على أموالهم،و ان خالف انقلبت يده إلى يد ضمان،أما إذا أطلق المالك،و لم يقيد العامل بشيء فللعامل أن يتصرف على أساس المصلحة التي يراها العقلاء،

ص:159

و يهدفون إليها من تصرفاتهم كما عليه أن يمتنع عن كل تصرف يراه ضررا على الشركة.

النفقة:

كل ما ينفقه العامل في ذهابه و إيابه،و ما إلى ذاك مما يعود إلى تدبير الشركة و أغراضها فهو من مالها:على شريطة أن يكون الإنفاق بالمعروف،و كل ما هو خارج عنها و عن مصلحتها فهو من ماله،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«ما أنفق المضارب في سفره فهو من جميع المال،و إذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه».

و تخصيص مورد الرواية بالسفر لا يجعلها خاصة به،و انما ذكر في باب المثال.

فساد المضاربة:

إذا فسدت المضاربة لسبب من الأسباب كان الربح للمالك،لأنه تبع لماله، و عليه أجرة المثل للعامل،سواء أ كان العامل جاهلا بفساد المضاربة،أو عالما لأن المفروض أنّه عمل باذن المالك،لا وجه التبرع.و قد اتفق الفقهاء على أن فساد العقد الجائز،كالوكالة،و الوديعة و العارية و المضاربة لا يستدعي فساد الاذن، و عبروا عن بقاء الاذن بعد فساد العقد الجائز بالإذن الضمني (1).و اتفقوا أيضا على أن كل عمل غير متبرع به تجب له أجرة المثل،لقاعدة احترام مال الإنسان و عمله.

ص:160


1- من الفروق بين العقود اللازمة،و العقود الجائزة أن العقد اللازم كالبيع إذا فسد ارتفع الإذن،لأن الإذن منوط بسلامة العوض و صحة المبادلة،فإذا لم يسلم العوض و لم تصح المبادلة انتفى الاذن قهرا،أمّا العقد الجائز كالعارية فإن الإذن فيه غير منوط بعوض و مبادلة فإذا فسد العقد يبقى الاذن،لهذا سمى الفقهاء العقود الجائزة بالعقود الإذنية.

ضمان العامل:

لا يضمن العامل شيئا مما يطرأ على المال إلاّ مع التعدي أو التفريط،قال الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:«من اتجر بمال و اشترط نصف الربح فليس عليه ضمان»و لا فرق في ذلك بين أن يكون عقد المضاربة صحيحا أو فاسدا، لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده،و تكلمنا عنها مفصلا في الجزء الثالث.

و إذا ادعى المالك أن العامل تعدى أو فرط فعليه البينة،و لا شيء على العامل إلاّ اليمين لأنه أمين.

مسائل:

1-إذا كان في مرض الموت،و أعطى مالا لآخر ليتجر به على سبيل المضاربة

، و لكن اشترط له من الربح أكثر من المعتاد كثلاثة أرباع،أو أربعة أخماس، إذا كان كذلك مضى الشرط،و ليس للورثة حق الاعتراض،سواء قلنا بأن تبرعات المريض تخرج من الأصل أو من الثلث،لأنه لم يفوت شيئا على الورثة،إذ الربح الذي يحصل ليس مالا للمريض،و انما حدث بفعل العامل،و لم يستند حصول الربح إلى مال المريض مباشرة،كالثمرة على الشجرة،و ما إليها.

2-إذا جرى عقد لازم بين اثنين كالبيع،و اشترط أحد المتبايعين على الآخر أن

يعطيه مالا ليتجر به على سبيل المضاربة

لزم الشرط،و يكون من باب الالتزام في التزام،و على من اشترط عليه ذلك أن يفي،فإن خالف كان للآخر خيار الشرط بالقياس إلى العقد اللازم.و لكن إذا دفع له المال لا

ص:161

تصير المضاربة لازمة بذلك،بل يجوز لكل منهما فسخها و العدول عنها.

أجل،إذا اشترط أن تكون المضاربة إلى أمد معين فلا يجوز الفسخ قبل مضي الأمد،لوجوب الوفاء بالشرط الذي أصبح لازما لأنه في ضمن عقد لازم.

3-إذا أهمل العامل و تكاسل عن التجارة

،بحيث مرت به فرص كثيرة،و لم يكترث،و فوّت عليه و على المالك الكثير من الأرباح فلا يستحق المالك عليه شيء غير رأس المال،و ان كان ملاما،بل و آثما في تعطيل مال الغير.

و السر أن العامل لم يتصرف في مال المالك تصرفا يوجب الإضرار به، و انما جمده،و وقف منه موقفا سلبيا،ففوت عليه المنفعة،و تفويت المنفعة شيء،و إدخال الضرر الذي يوجب التغريم شيء آخر.و إذا اشتبهت عليك الحال فقارن بين من أتلف مال غيره،و بين من منع غيره من شراء سلعة تعود عليه بالربح،فإن الأول آثم و ضامن،و الثاني غير ضامن، و مسألتنا من النوع الثاني.

4-إذا اشترى العامل بضاعة بالدين
اشارة

،حيث يجوز له ذلك،ثم هلك مال المضاربة،و لم يبق منه ما يفي بالدين فهل يرجع الدائم على العامل،أو على المالك؟

الجواب:

يخير الدائن صاحب البضاعة بين الرجوع على العامل لأنه هو الذي أجرى معه المعاملة و استدان منه،و بين الرجوع على المالك لأن الدين يثبت في ذمته،إذ المفروض أن الخسارة عليه وحده،و إذا رجع الدائن على العامل رجع هذا بدوره على المالك.

5-ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن العامل يملك حصته من الربح بمجرد ظهورها

ص:162

الربح بمجرد ظهورها،و لا تتوقف ملكيته على القسمة،و لا على الانقاص، أي تحويل البضاعة إلى نقود،لأن سبب ملكيته للربح هو نفس الشرط الواقع في ضمن العقد،و بموجب الشرط يملك الربح متى وجد،و تترتب على ملكيته للربح جميع الآثار من كون العامل شريكا مع المالك،و جواز بيع حصته من الربح،و انتقالها إلى الورثة،و من تعلق الخمس و الزكاة و حق الغرماء،و غير ذلك.

و على هذا فان اتفق الطرفان على قسمة الربح مع بقاء المضاربة على رأس المال فلهما ذلك،و إذا طلب أحدهما قسمة الربح فقط،و امتنع الآخر قال العلامة الحلي في القواعد لا يجبر عليها الممتنع.و الذي نراه هو الرجوع إلى الأحكام المقررة في باب الشركة لامتناع الشريك عن القسمة إذا طلبها شريكه.

انتهاء المضاربة:

اشارة

تنتهي المضاربة بأحد الأسباب التالية:

1-أن يفسخ المالك أو العامل

،لأن عقد المضاربة جائز من الجانبين.

2-أن يتلف مال المضاربة قبل أن يباشر العامل بالعمل و يشتري شيئا لحساب

المضاربة

،لانتفاء موضوعها،أما إذا اشترى بضاعة باذن خاص أو عام من المالك،و قبل أن ينقد ثمنها هلك مال المضاربة فعلى المالك أن يدفع ثمنها،و تبقى المضاربة على ما هي،كما قدمنا في الفقرة السابقة المسألة 4.و أيضا تبقى المضاربة إذا أتلف المال أجنبي،و تنتقل إلى العوض الذي يغرمه المتلف.

ص:163

3-ان يموت العامل أو المالك

،لأن الأول بمنزلة الوكيل المأذون،فإذا مات بطل الاذن و الوكالة،و بموت الثاني ينتقل المال إلى ورثته فيحتاج التصرف فيه إلى إذنهم،قال صاحب الجواهر:

«تبطل المضاربة بموت كل منهما،لأنها في معنى الوكالة التي هي كغيرها من العقود الجائزة،نحو العارية و الوديعة،تنفسخ بالموت و الجنون و الإغماء، و نحو ذلك مما يقتضي بطلان الاذن من المالك الذي هو بمنزلة الروح لهذا العقد و شبهه،بل ظاهر الفقهاء في المقام و غيره عدم تأثير إجازة الوارث،أو ولي المالك في حال الجنون و الإغماء،لتصريحهم بالفساد بعروض العوارض».

و إذا كان في مال المضاربة سلعة باعها العامل،بعد موت المالك و حولها إلى نقود،حتى يظهر بذلك ربحه،و لا يجوز أن يشتري بالنقود سلعة أخرى،لأن المفروض انتهاء المضاربة،و بعد أن يأخذ حصته من الربح يدفع الباقي إلى ورثة المالك.

4-أن يعرض الجنون لأحدهما

،لأنه يسلب الإنسان عن أهلية التصرف في ماله و مال غيره.و مثله إذا عرض السفه للمالك و العامل،للسبب نفسه.

أمّا المحجر عليه لفلس فلا يجوز أن يكون مالكا أي أن يضارب بماله، و يجوز أن يكون عاملا،لأن التحجير للإفلاس يخرجه عن أهلية التصرف في أمواله،و لا يخرجه عن أهلية التصرف في مال الغير بالنيابة.

القسمة بعد انتهاء المضاربة:

اشارة

إذا انتهت المضاربة بأحد الأسباب يجري العمل على التفصيل التالي :

1-أن تنتهي المضاربة قبل أن يشرع العامل بالعمل أو بمقدماته

،و الحكم أن

ص:164

يعود المال إلى صاحبه،و لا شيء للعامل،و لا عليه،حتى كأن لم يكن شيء.

2-أن تنتهي المضاربة في أثناء العمل

،و لكن قبل حصول الربح و الحكم تماما كالصورة الأولى:يعود المال إلى صاحبه،و لا شيء للعامل و لا عليه،و قال صاحب الشرائع:«يجب على المالك في مثل هذه الحال أن يدفع للعامل أجرة المثل»و رده صاحب الجواهر:«بأن هذا مناف للمعلوم من شرع المضاربة المبنية على استحقاق العامل من الربح ان حصل،و إلاّ فلا شيء».

3-أن تنتهي المضاربة بعد العمل،و بعد تحويل مال المضاربة كله إلى نقود

، بحيث لا يوجد فيه شيء من البضاعة فإذا كان في المال ربح أخذ العامل حصته حسب الشرط المتفق عليه،و الباقي للمالك،و ان لم يكن ربح يأخذ المالك المال كله،و لا شيء للعامل و لا عليه.

4-إذا انتهت المضاربة،و في المال سلعة ينظر:

فان لم يكن فيها ربح فلا يجوز للعامل أن يتصرف في السلعة إلاّ بإذن المالك،كما أنّه ليس للمالك أن يجبره على بيع السلعة.

و ان كان فيها ربح يكون المالك و العامل شريكين في العين،و على هذا فان اتفقا على قسمتها أو بيعها،أو الانتظار إلى الوقت المناسب فذاك،و ان طلب أحدهما بيعها،و امتنع الآخر فهل يجبر الممتنع على البيع،أو لا؟ للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال:الأول يجبر.الثاني:لا يجبر.الثالث:يجبر العامل دون المالك.و الحق أن نطبق الأحكام المقررة في باب الشركة لامتناع الشريك عن القسمة إذا طلبها شريكه.

ص:165

التنازع:

1-إذا قال:أعطيتك مالي للمضاربة فأنكر،و قال:كلا لم آخذ منك شيئا

،و بعد أن أثبت المدعي دعواه بالبينة اعترف العامل،و قال:أجل،أخذت المال مضاربة،و لكنه هلك فلا تسمع دعواه،بل يرد قوله بلا بينة،و لا يمين، و يحكم عليه بالمبلغ،لأن إنكاره أولا يشكل اعترافا بأنه كاذب في دعوى التلف.أما إذا لم ينكر،بل اعترف بالمال و ادعى تلفه من غير تعد أو تفريط فالقول قوله بيمينه.و كذا إذا ادعى الخسارة،أو عدم الربح،لأنه أمين،و ليس على الأمين إلاّ اليمين.

و إذا ادعى العامل أنّه ارجع المال،و رده إلى صاحبه فلا يقبل منه إلاّ بالبينة، قال صاحب الجواهر:لعموم الحديث:«البينة على المدعي».و قبول قول العامل بالتلف لا يقتضي قبول قوله في الرد،و ليس في الأدلة ما يقتضي قبول قول الأمين في جميع ما يدعيه على وجه يشمل ما نحن فيه،و القياس على الودعي غير جائز عندنا خصوصا بعد الفرق بينهما،لأن القبض في الوديعة كان لمصلحة المالك فقط،أما القبض في المضاربة فهو لمصلحة المالك و العامل».

2-إذا اختلفا في مقدار رأس المال

،فقال المالك:هو ألفان،و قال العامل:هو ألف فالقول قول العامل بيمينه،مع عدم البينة،لأن الأصل عدم الزيادة.

و إذا اختلفا في شرط زائد على إطلاق العقد،كما لو قال المالك:اشترطت عليك عدم شراء القطن-مثلا-و أنكر العامل،فعلى من يدعي الاشتراط البينة، و اليمين على من أنكر،لأن الأصل عدم الاشتراط،حتى يثبت العكس.

و إذا اختلفا في مقدار حصة العامل من الربح،فقال المالك:هي الربع.

و قال العامل:بل النصف فالقول قول المالك بيمينه مع عدم البينة،لأن الأصل أن

ص:166

يكون الربح تبعا للمال،و ليس للعامل منه إلاّ ما أقر له به المالك،أو ثبت بالبينة.

3-إذا قال العامل للمالك بعد أن ظهر الربح:أخذت المال منك على سبيل

القرض

،لا على الضمان فلا شيء لك من الربح.و قال المالك:بل أعطيتك المال على المضاربة،فلي نصف الربح،إذا كان كذلك فكل منهما مدع و منكر معا،فالمالك يدعي أن المال مضاربة،و ينكر الدين،و العامل يدعي أنّه دين،و ينكر المضاربة.فإن كانت بينة تعين أحد الأمرين عمل بها،و إلاّ فعلى كل منهما أن يحلف اليمين على نفي دعوى الآخر،فان حلف أحدهما،و نكل الآخر أخذ بقول الحالف.و ان حلفا معا،أو نكلا معا سقط قول الاثنين،و عاد كل شيء إلى أصله،حتى كأن لم يكن دين و لا مضاربة.و نتيجة ذلك أن يكون المال و الربح للمالك،و عليه اجرة المثل للعامل إلاّ إذا كانت اجرة المثل أكثر من مجموع الربح فان العامل يأخذ الربح فقط لاعترافه بأنه لا يستحق أكثر منه،و إذا كانت أجرة المثل أقل من نصف الربح فعلى المالك أن يدفع للعامل مقدار نصف الربح،لا أجرة المثل،لأنه يعترف أن العامل يستحق النصف بوصفه مضاربا.و هذا هو معنى قول الفقهاء:يأخذ العامل أكثر الأمرين من أجرة المثل و نصف الربح إلاّ إذا زادت الأجرة عن تمام الربح.

4-إذا اشترى العامل سلعة،و ادعى أنّه اشتراها لنفسه،لا للمضاربة

،و قال له المالك:بل اشتريتها للمضاربة،و انما أدعيتها لك بعد أن ظهر فيها الربح، إذا كان كذلك فالقول قول العامل،لأنه أبصر بنيته التي لا تعلم إلاّ من قبله.

و كذا إذا قال:اشتريت للمضاربة،و قال المالك:بل اشتريت لنفسك،و انما ادعيت الشراء للمضاربة لما ظهرت الخسارة.و الدليل الدليل.

ص:167

ص:168

المزارعة

اشارة

ص:169

ص:170

معناها:

المزارعة نوع من الشركة الزراعية لاستثمار الأرض،يتعاقد عليها المالك و العامل،على أن تكون الأرض من الأول،و العمل من الثاني،و المحصول بينهما بنسبة يتفقان عليها،و إلى هذا يرجع تعريف الفقهاء بأنّها معاملة على الأرض بحصة من نمائها.

فخرج«بالمعاملة على الأرض»المساقاة،فإنها معاملة على الشجر،و خرج «بالحصة»إجارة الأرض للزراعة،إذ لا تصح بحصة من نمائها.

و يسمى العامل في الأرض مزارعا،و المالك رب الأرض.

شرعية المزارعة:

المزارعة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بالمزارعة بالثلث و الربع و الخمس.و قوله:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما فتح خيبر تركها في أيديهم على النصف.و إلى ذلك كثير،قال صاحب الجواهر:«لا ريب في مشروعية المزارعة عند علماء الإسلام،و النصوص فيها و في المساقاة مستفيضة أو متواترة».

ص:171

المزارعة لازمة:

قال صاحب الجواهر:عقد المزارعة لازم بالإجماع،لقاعدة اللزوم المستفادة من آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و لا ينفسخ عقدها إلاّ بالتقايل،أو باشتراط الخيار،أو بخروج الأرض عن الانتفاع،و لا يبطل بموت أحد المتعاقدين،كما هو الشأن في العقود اللازمة،فإذا مات ربّ الأرض،أو العامل قام وارثه مقامه.

الشروط:

اشارة

يشترط في المزارعة:

1-الإيجاب من صاحب الأرض،و القبول من العامل

،و يتحققان بكل ما دل عليهما من قول أو فعل.

2-أهلية المتعاقدين

لمباشرة العقود العوضية.

3-أن تكون حصة كل منهما من النماء معلومة و مشاعا بينهما بالتساوي أو

بالتفاوت حسب الاتفاق

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تتقبل الأرض بحصة مسماة-أي كعشرين أو ثلاثين-و لكن بالنصف أو الثلث أو الربع أو الخمس.

و عنه عليه السّلام في رواية أخرى:لا بأس بالمزارعة بالثلث و الربع و الخمس.

و يتفرع على هذا الشرط أنّه لو جعل النماء بكامله لأحدهما،أو شيئا معينا له،كقنطار-مثلا-و الباقي للآخر،أو يختص سهمه بما تنتجه الأرض أولا،أو بجانب خاص منها،أو بالذي يحصل من احدى القطعتين لو وقعت المزارعة على أكثر من واحدة-كل هذه الشروط و ما إليها تفسد المزارعة،و تخرج العقد عن وضعها،لمنافاتها،لاشاعة الحصة التي هي شرط فيها.

ص:172

و قد اختلف الفقهاء في مسألتين تتصلان بهذا الشرط:الأولى إذا اشترطا إخراج مقدار معين من النماء،كالبذر،أو ضريبة السلطان،أو ما يصرف في إصلاح الأرض،أو غير ذلك،و ما زاد فهو بينهما.

و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى عدم الجواز،إذ من الممكن أن لا تنتج الأرض إلاّ المقدار المستثنى،فيبقى الآخر بلا شيء،و هو مناف لما ثبت من وضع المزارعة و قيامها على اشتراك المتعاقدين في النماء على الإشاعة.

و قال جماعة،منهم الشيخ الطوسي من القدامى،و صاحب الجواهر من الجدد،قالوا بالجواز.

و قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة،و السيد الحكيم في منهاج الصالحين:«يجوز هذا الشرط إذا علما أو اطمأنا ببقاء شيء بعد إخراج المقدار،و إلاّ يكون الشرط باطلا».أي أن جواز الشرط و صحته يتوقف على أن يبقى شيء يقتسمانه بعد إخراج المقدار المستثنى.

و يرجع قول هذين السيدين في حقيقته إلى ما ذهب إليه المشهور من المنع خشية أن لا يبقى شيء للآخر،و السيدان أجازا الشرط،مع العلم ببقاء شيء.

المسألة الثانية:إذا اتفقا على أن يعطي أحدهما للآخر مالا،أو يعمل له عملا بالإضافة إلى حصته.

و قد ذهب المشهور إلى صحة الشرط،و وجوب الوفاء به،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل عليه عامة المتأخرين.بل لم يعلم القائل بعدم الجواز».لحديث:«المؤمنون عند شروطهم».و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس لك أن تأخذ منهم شيئا،حتى تشارطهم.

ص:173

4-تعيين الأرض

،فلا تصح المزارعة على احدى القطعتين على الترديد.

أجل،تصح على دونمات معلومات من قطعة معينة،كما لو قال:زارعتك على عشر دونمات من هذه القطعة،و يكون تعيين مكان الدونمات لصاحب الأرض.

5-صلاحية الأرض و أهليتها للزراعة
اشارة

،و لو بالعمل و العلاج.و هذا الشرط بديهي لا يحتاج إلى دليل بعد أن كانت الزراعة هي الموضوع المقصود من الاتفاق.و يجب اعتبار هذا الشرط ابتداء و استدامة،فإذا حدث ما يمنع من الانتفاع بزراعة الأرض كشف ذلك عن بطلان المزارعة من الأساس، لفوات الشرط في المدّة الباقية.و لا شيء على المزارع للمالك و لا على المالك للمزارع،لأن حصتهما انما هي في النماء،و قد تعذر.

و قال صاحب الجواهر:«ان أخذت الزراعة موردا و قيدا للعقد،ثم انكشف عدم صلاحية الأرض يبطل عقد المزارعة،و ان كانت الأرض هي محل العقد و مورده،و الزراعة داعيا لا قيدا يصح العقد،و يكون المزارع بالخيار،لإمكان الانتفاع بالأرض في جهة أخرى».

و يلاحظ:
أولا:ان الزراعة هي نفس الموضوع لعقد المزارعة

،فإذا انتفت انتفى العقد، و لا وجه للتفصيل.

ثانيا:إذا كانت الزراعة داعيا لا قيدا

فالواجب لزوم العقد،و الخيار لا وجه له.

ثالثا:إن الفرق بين القيد و الداعي

،و إن كان صحيحا من الوجهة النظرية و الدقة العقلية،لكنه بعيد عن افهام عامة الناس،و لا يفرّق بينهما إلاّ الخاصة.

و بديهة أن الأحكام الشرعية منزلة على الأفهام العرفية،لا الدقة العقلية.

ص:174

6-تعيين المدة بالأيام أو الأشهر أو السنين

،و يجب أن تتسع لبلوغ الزرع و أدركه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«يتقبل الأرض بشيء معلوم إلى سنين مسماة».

و إذا أطلق،و لم يعين المدّة يحمل الإطلاق على ما عهد و عرف،فان لم يكن عرف بطلت المزارعة.

و تجوز المزارعة على أكثر من عام على شريطة الضبط،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بقبالة الأرض من أهلها عشر سنين،و أقل من ذلك،و أكثر.

العامل المخالف:

إذا لم يعين المالك نوعا خاصا للزرع تخير العامل أن يزرع أي نوع شاء إذا كان البذر منه.هكذا أطلق كثير من الفقهاء هذا الحكم.و لا بد من التقييد فيما إذا لم يكن هناك قرائن مقامية تعين نوع الزرع،فان وجدت وجب العمل بموجبها، فان الكثير من القطع لا تصلح لزرع جميع الأنواع.

و إذا عين المالك نوعا خاصا كالحنطة تعين،و لا تجوز مخالفته،فان خالف و زرع شعيرا أو عدسا-مثلا-فللمالك الخيار بين الفسخ أو الإمضاء،لعدم الوفاء بالشرط،فإن أمضى أخذ حصته المسماة،و ان فسخ كان الزرع للعامل،و عليه للمالك مثل اجرة الأرض،لأنه انتفع بملك غيره من غير اجارة و لا تبرع من المالك فوجب عليه العوض.بهذا أفتى المحقق الثاني في جامع المقاصد، و الشهيد الثاني في شرح اللمعة،و السيد أبو الحسن في وسيلة النجاة و غيرهم.

و كل مزارعة تقع فاسدة فالزرع لصاحب البذر،لأن النماء يتبع الأصل في الملك،فان كان البذر من العامل فله الزرع بكامله،و عليه أجرة الأرض،و ان كان

ص:175

البذر للمالك فله الزرع،و عليه أجرة العامل،و ان كان منهما فالزرع لكل بنسبة ما أدى من البذر،و على المالك أجرة العمل بقدر ما استوفى من الزرع،و على العامل أجرة الأرض كذلك.

و إذا أهمل العامل المزارعة،و ترك القطعة من غير زرع،حتى مضى الموسم،مع تمكين المالك له من الأرض،و تسليمه إياها،و عدم المانع من زرعها كالثلوج و نحوها،فهل يضمن العامل لصاحب الأرض أجرة المثل،أو لا شيء عليه؟.

للفقهاء في ذلك قولان:الأول،و عليه الأكثر،تلزمه اجرة المثل،لأنه فوت على المالك المنفعة المستحقة له،و لأن العامل في المزارعة إلى مدّة معينة كالمستأجر كذلك،و كما أن على المستأجر أن يدفع الأجرة،حتى و لو لم يستثمر إطلاقا كذلك على المزارع أن يدفعها إذا أهمل.

القول الثاني:لا شيء على المزارع سوى الإثم،لأنه لم يتلف عينا موجودة في الخارج،حتى ينطبق عليه«من أتلف مال غيره فهو له ضامن»و لا وضع يده على شيء كي يصدق حديث«على اليد ما أخذت،حتى تؤدي».و لا شيء سوى عقد المزارعة،و كل ما يقتضيه أن للمالك حصة من النماء على تقدير وجوده، و المفروض أنّه لم يوجد.اذن،فلا شيء للمالك و لا للعامل على الإطلاق.

و يلاحظ بأن موجبات الضمان لا تنحصر بالإتلاف و اليد،فان التسبيب أيضا يوجب الضمان،و بديهة أن المزارع المهمل يصدق عليه عرفا أنّه هو الذي فوت الناتج على المالك،و أنّه هو السبب المانع من الاستيفاء،و هذا كاف واف للحكم عليه بالضمان.

ص:176

للعامل أن يشارك الغير و يزارعه:

يجوز لمن استأجر أرضا أن يعطيها لغيره بالمزارعة،لأن المعيار لصحة المزارعة أن تكون منفعة الأرض مملوكة لمن يزارع عليها،أما ملكية رقبة الأرض فليست بشرط،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس أن تستأجر الأرض بدراهم،و ان تزارع الناس على الثلث،أو الربع،أو أقل،أو أكثر إذا كنت لا تأخذ من الرجل إلاّ ما أخرجت أرضك.

و أيضا يجوز للعامل الذي تقبل الأرض من المالك أن يزارع غيره،أي ينقل حقه بكامله في الزراعة إلى من يشاء،على شريطة أن يكون حق المالك محفوظا.

و أيضا يجوز له أن يشارك في عمل الزراعة من شاء بشيء من حصته.

و الوجه في ذلك أن العامل قد ملك المنفعة بعقد لازم،و الناس مسلطون على أموالهم،فيكون له،و الحال هذي،أن ينقلها كلا أو بعضا إلى غيره،و ليس لأحد أن يعارضه بشيء كما له أن يبيعها،و يتعلق فيها حق الدائنين،و الخمس و الزكاة، و ما إلى ذلك من آثار الملكية.

ذكر هذا الفقهاء في كتبهم دون أن ينقلوا فيه خلافا.أجل،قال جماعة منهم:يجوز ذلك للعامل إذا لم يشترط المالك عليه مباشرة العمل بنفسه،و مع هذا الشرط لا يجوز أن يزارع الغير أو يشاركه.

و لكن لصاحب الجواهر هنا جملة تشعر بأن للعامل أن يزارع و يشارك من أراد،حتى و لو نهاه المالك،و اشترط عليه المباشرة بنفسه،لأن المزارعة ملك للعامل،و الناس مسلطون على أموالهم،و لأن بعض الفقهاء نقل الإجماع على أن البائع لو اشترط على المشتري أن لا يبيع العين التي اشتراها منه لا يجب الوفاء

ص:177

بالشرط،و على هذا،إذا اشترط المالك أن يعمل المزارع بنفسه فلا يجب الوفاء بالشرط.و هذا نص عبارة الجواهر بالحرف:«لكن في صحة هذا الشرط-يريد شرط المالك مباشرة العامل-بحث لعموم:الناس مسلطون على أموالهم،و لما حكي من الإجماع في كتاب البيع على عدم صحة مثل هذا الشرط».

و مهما يكن،فان هذي التفاصيل لم يرد فيها نص بالذات،و انما استخرجت من القواعد العامة،و لم يرد نص إلاّ بخصوص مشاركة العامل لغيره بعد أن باشر العامل،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يبذر في الأرض مائة جريب أو أقل أو أكثر طعاما أو غيره،فيأتيه رجل يقول له:خذ مني ثمن نصف هذا البذر، و نصف نفقتك على أن تشركني فيه؟قال الإمام عليه السّلام:لا بأس.

و لكن تخصيص هذه الرواية بالمشاركة بعد العمل لا يجعلها خاصة،لأن المعيار في جواز المشاركة و المزارعة أن تكون المنفعة ملكا للعامل،و ليس من شك أن العامل قد ملك المنفعة بالعقد لا بالعمل،و لا بظهور الزرع،و عليه فيجوز له أن ينقلها إلى غيره بمجرد وقوع العقد.

ضريبة الأرض:

اتفقوا بشهادة صاحب الحدائق،و مفتاح الكرامة على أن الخراج،أي ضريبة السلطان على الأرض،انما هي على صاحب الأرض،لا على العامل،و لا على الناتج المشترك بينه و بين المالك،لأن الضريبة موضوعة على الأرض نفسها.

أجل،يجوز أن يشترط المالك على العامل أن تكون الضريبة عليه وحده،أو على الناتج،و لا يضر الجهل بمقدار الضريبة التي أخذت شرطا،لأن الجهل الغرر في مثلها مغتفر عرفا و شرعا،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تكون له الأرض،و عليها

ص:178

خراج معلوم،و ربما زاد،أو نقص،فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها، و يعطيه مأتي درهم في السنة؟قال:لا بأس.

و سئل أيضا عن رجل له ارض من أرض الخراج فيدفعها إلى رجل على أن يعمرها و يصلحها و يؤدي خراجها،و ما كان من فضل فهو بينهما؟قال عليه السّلام:

لا بأس.

و جاء في كتب الحديث و الفقه روايات عن أهل البيت عليهم السّلام تصور ظلم الحكام و جورهم على الفلاحين و المواطنين إلى حد كان الناس يتركون أملاكهم إلى الغير تهربا من الضرائب الفادحة،من تلك الروايات أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يأتي قرية قد اعتدى السلطان على أهلها،فضعفوا عن القيام بخراجها،و القرية في أيديهم،و لا يدري هي لهم أو لغيرهم،فيدفعونها إليه على أن يؤدي خراجها،فيأخذها منهم.قال الإمام عليه السّلام:لا بأس.إلى غير هذه الرواية كثير،ذكر طرفا منها صاحب الحدائق في المجلد الخامس ص 368.

ثم أن العمل الذي فيه صلاح الزرع و بقاءه،كالحرث و السقي و الصيانة و التنقية من الأعشاب الضارة فهو على العامل،أما ما عدا ذلك:«كشق النهر، و حفر البئر،و تهيئة آلات السقي،و نحو ذلك فلا بد من تعيين كونها على أي منها إلاّ إذا كانت هناك عادة تغني عن التعيين» (1).

البذر:

تقوم المزارعة على أن الأرض من أحدهما،و العمل من الآخر،و يدل على ذلك تعريفها،و عقدها الذي يتكون من الإيجاب من المالك و القبول من العامل.

ص:179


1- وسيلة النجاة [1]للسيد أبو الحسن الأصفهاني.

أما البذر فيجوز أن يكون من المالك وحده،و من العامل كذلك،و منهما بالتساوي أو التفاوت،سواء اتفقت حصة كل من النماء،أو اختلفت،و لا يتعين البذر على أحدهما أو عليهما إلاّ بالنص عليه منهما حين الاتفاق،أو تكون هناك عادة مستقرة فيجب حمل الإطلاق عليها.

و إذا لم يبينا على من يكون البذر،و لا عادة تغني عن البيان فالذي نراه هو بطلان المزارعة لمكان الجهالة.

و قيل:بل يكون البذر على العامل في هذه الحال،لأن الإمام الصادق عليه السّلام لما سئل عن المزارعة قال:«النفقة منك،و الأرض لصاحبها»بزعم أن النفقة تشمل البذر.

و يرد هذا الزعم بأن المزارعة تصح لو كان البذر من صاحب الأرض تماما كما تصح لو كان من العامل،و بديهة أن العام لا يدل على الخاص إلاّ مع القرينة، و حيث لا قرينة كما هو الفرض فتبطل المزارعة للجهالة،و المفهوم من لفظ النفقة الحرث و الحصاد،و ما إليهما.هذا،إلى أن الإمام عليه السّلام قال:و الأرض لصاحبها، و لم يقل و من المالك الأرض.

المزارعة بين أكثر من اثنين:

هل يصح أن تكون المزارعة بين أكثر من اثنين.فالأرض من واحد، و البذر من ثان،و العمل من ثالث،و البقر من رابع-مثلا-؟ قال كثير من الفقهاء لا تصح إلاّ بين اثنين«لأن العقد يتم بالموجب و هو صاحب الأرض،و القابل و هو العامل،فدخول ما زاد يخرج العقد عن وضعه،أو يحتاج إثباته إلى دليل».

ص:180

و يلاحظ بأنه ليس من الضروري إذا تم العقد بين اثنين أن لا يتم بين أكثر، و إلاّ أشكل الأمر في الشركات التي تضم العشرات.أمّا الحاجة إلى الدليل فحق، و لكن ليس من الضروري أن يكون الدليل نصا خاصا على المعاملة بالذات،و إلاّ أشكل الأمر في أكثر المعاملات.فيكفي لصحة المعاملة آية:تجارة عن تراض، و للزومها آية: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .هذا بالإضافة إلى إطلاق أدلة المزارعة الشاملة لما يقع بين اثنين،و أكثر.

مسائل:

1-إذا حددت المزارعة بأمد معين،و انتهى الأمد،و الزرع باق لم يبلغ بعد

، فما هو الحكم؟ قال جماعة من الفقهاء:يحق لصاحب الأرض أن يزيل الزرع من أرضه، سواء أ كان التأخير بتقصير من الزرع،أو لحادث سماوي،كتأخير المياه أو تغير الهواء،لأن حق الزارع قد انتهى بانتهاء الأمد.

و قال صاحب مفتاح الكرامة:ان المحقق الثاني في جامع المقاصد قال:ان كان التأخير بتقصير الزارع فللمالك ازالة الزرع،لأنّه عند الانتهاء يكون الزارع كالغاصب،و ان كان بغير تقصير منه يجب إبقاء الزرع إلى بلوغه و إدراكه.ثم قال صاحب مفتاح الكرامة،و بهذا أفتى الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط،و هو الحق.

و الذي نراه أن المالك لا يحق له أن يزيل الزرع إطلاقا،حتى و لو كان التأخير بتقصير الزارع،لأنه قد تصرف أول ما تصرف بحق و بسبب مشروع.

أجل،عليه أجرة الأرض للمدّة الباقية.أما قياس هذا الزارع على الغاصب فقياس

ص:181

مع الفارق،لأن الغاصب قد أقدم منذ البداية على هدر حقه،و عدم احترام ماله، و لذا تهدم الدار التي يبنيها في أرض الغير بالإجماع،إما الزارع فلم يقدم على شيء من ذلك.و بكلمة ان الغاصب يصدق عليه حديث:لا حق لعرق ظالم،و لا يصدق على الزارع المذكور.

2-إذا كانت لك أرض خربة فيجوز أن تعطيها لآخر على أن يصلحها

،و يكون له ناتجها سنة أو أكثر،و بعدها يكون الناتج بينكما،لكل حصة معلومة.

3-إذا بلغ الزرع،أو ظهر الثمر على الشجر

جاز أن يتقبل الزرع و الثمر رجل بمقدار معين منهما،فان جرت الصيغة بين المالك و المتقبل-أي الضامن بلسان العرف-لزمت المعاملة،و لا يجوز العدول عنها إلاّ باتفاق الطرفين، و إلاّ فحكمها حكم المعاطاة تلزم بالأخذ و الإعطاء،أو بالتصرف على ما سبق في الجزء الثالث.و إذا تبينت الزيادة فهي للمتقبل،و ان ظهر النقصان فعليه،على شرطية أن لا يصاب الزرع و الثمر بآفة تهلكهما قبل الحصاد و القطف،و إلاّ كان حكمها حكم تلف المبيع قبل قبضه من أنّه من مال البائع،كما أن التلف و الهلاك لو حصل بعد الحصاد و القطف فمن مال المتقبل،لأنه بحكم المشتري.

4-إذا انتهى أمد الزراعة،و بعده نبت حب أو أفرخت جذور من متخلفات

الزراعة المشتركة

فإن كان البذر من صاحب الأرض فهو له،و ان كان من العامل فهو له،لأن النماء يتبع البذر،و عليه أجرة الأرض إلاّ إذا كان قد أعرض عما تخلف و بقي،كما هو الغالب.

ص:182

التنازع:

1-إذا اختلفا في المدّة

،فقال أحدهما:وقعت المزارعة لسنة واحدة.

و قال الآخر:بل لسنتين فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه،سواء أ كان المالك أو العامل،لأن الأصل عدم استحقاق الزيادة لمن يدعيها.

و إذا اختلفا في مقدار الحصة فالقول قول صاحب البذر مع يمينه،حتى و لو ادعى الزيادة لنفسه،لأن النماء تابع للبذر في الملكية،و الأصل بقاؤه على ملكه، حتى يثبت انتقاله عنه بالإقرار أو البينة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من الحكمين».

2-إذا قال الزارع للمالك بعد أن زرع أرضه:لقد أعرتنيها

،فلا تستحق علي شيئا،و قال المالك:بل أجّرتكها بكذا،أو قال:زارعتك عليها بحصة معلومة،و لا بينة تعين أحد الأمرين،فما هو الحكم؟ ذهب المشهور إلى أن صاحب الأرض يحلف على عدم العارية،لأنه منكر لها،و لكن لا تثبت دعواه الإجارة أو المزارعة إلاّ بالبينة.و أيضا يحلف الزارع على نفي المزارعة.و الإجارة،لأنّه منكر لهما،و لكن لا تثبت دعواه العارية إلاّ بالبينة.و متى تحالفا سقطت كل من الدعويين،حتى كأنهما لم تكون من الأساس.و الواجب في مثل هذه الحال أن يختص الزارع بالزرع كله،لأن البذر له و منه،و عليه أن يدفع للمالك أجرة المثل،لأن الإذن له بالتصرف لم يكن على وجه التبرع.أجل،إذا زادت أجرة المثل على الحصة أو الأجرة التي ذكرها المالك استحق خصوص المقدار الذي ادعاه،لاعترافه بأنه لا يستحق أكثر منه.

و قال صاحب مفتاح الكرامة:بل للمالك أجرة المثل على كل حال سواء أ زادت عما يدعيه،أو نقصت،لأن التحالف أسقط أثر دعوى المالك.

ص:183

3-إذا قال الزارع:أعرتنيها.و قال المالك:بل اغتصبتها مني

.حلف المالك وحده على نفي العارية،لأن الأصل بقاء منافع أرضه على ملكه و عدم خروجها عنه بعارية أو بغيرها،و على مدعي العارية البينة،و لا تقبل منه اليمين لأنه مدع، و متى حلف المالك طولب الزارع بأجرة المثل طوال المدّة التي كانت الأرض في يده،و أيضا عليه أن يزيل الزرع،و ان امتنع فللمالك أن يزيله قهرا عنه،و يحمله التكاليف،و عوض الإضرار.

و الفرق بين هذه المسألة و التي قبلها أن الزارع في تلك كان مأذونا بالتصرف باتفاق الطرفين فلا تترتب عليه أحكام الغاصب،أمّا في هذه المسألة فلم يكن الزارع مأذونا،فيؤخذ بأحكام الغاصب لعدم ثبوت الاذن له بالتصرف.

قال صاحب الجواهر:«الزارع هنا كالغاصب الذي تترتب عليه أحكامه،و ليس ثمة إقرار من المالك يلزم به،و عليه فيكفي لترتب أحكام الغاصب عدم تحقق الاذن من المالك الحاصل بيمينه على نفي العارية التي يدعيها الزارع،كما هو واضح».

ص:184

المساقاة

اشارة

ص:185

ص:186

معناها:

المساقاة نوع من الشركة في نماء الشجر يتعاقد عليها المالك و العامل بحصة مشاعة منه،و بهذا نجد تفسير ما قاله الفقهاء في تعريفها من أنّها معاملة على أصول ثابتة-أي الشجر-بحصة من نمائها.

و قد خرج«بأصول»المزارعة التي هي معاملة على إيجاد الزرع،و خرج «بثابتة»الخضروات فإنها ملحقة بالزرع.و خرج«بحصة شائعة من نماء الأصول» الإجارة،لأنها تكون بأجرة معلومة.و خرج أيضا الشجر الذي لا نماء له، كالصفصاف،و يدخل في المساقاة ما ينتفع بورقه،كالتوت و الحناء-كما قيل- و المعيار لما تصح المساقاة عليه أن ينتفع بثمره أو ورقه مع بقاء أصله.

شرعية المساقاة:

لم يرد لفظ المساقاة في الكتاب و السنة بشهادة صاحب الجواهر و غيره، و انما استخرج الفقهاء أحكامها من الخطابات الشرعية،ثم اصطلحوا على تسميتها بالمساقاة،لأن الشجر تكثر حاجته إلى الماء و السقي.هذا،مع العلم بأن المعاملة تصح على البعل من الشجر،تماما كما تصح على السقي منه،لأن معيار الصحة هو العمل الذي يحتاجه الشجر لحمل الثمرة و نضجها،كالتقليم و التطعيم، و حرث الأرض،و تنقيتها من الأعشاب الضارة،و ما إلى ذاك.

ص:187

و المساقاة مشروعة إجماعا،و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يعطي أرضه،و فيها رمان،أو نخل،أو فاكهة،و يقول:اسق هذا من الماء، أو أعمره،و لك نصف ما أخرج؟قال:لا بأس.

و قال صاحب الجواهر:«المساقاة جائزة بالإجماع من علمائنا،و النصوص متواترة،أو مقطوع بمضمونها».

الشروط:

اشارة

يعتبر في المساقاة :

1-الإيجاب من المالك،و القبول من العامل بكل ما دل عليهما من قول أو

فعل

.و قد مرّ أن الإيجاب و القبول من الأركان.

2-أهلية المتعاقدين

للمعاملات المالية.

3-أن تكون الأصول،و هي الشجر معلومة عند الطرفين

،و كذا الأعمال المطلوبة من العامل يجب ذكرها و تعيينها،فان لم تذكر بالخصوص حملت المعاملة على المعهود عند العرف،فان لم يكن عرف يعين العمل المطلوب من العامل بطلت المعاملة،لمكان الجهل.

4-أن ينتفع بثمرها مع بقاء أصولها

،كالنخل و شجر الفواكه و كرم العنب،أو بورقها،كالتوت و الحناء،أمّا مثل البطيخ و الخيار و الباذنجان و القطن و قصب السكر فلا يدخل في باب المساقاة،و لكن يجوز أن يتفق المالك مع العامل على سقيها و خدمتها بحصة معينة من ناتجها،حيث ينطبق على هذا الاتفاق تجارة عن تراض.قال صاحب العروة الوثقى

ص:188

«لا يبعد الجواز للعمومات-أي مثل تجارة عن تراض-و ان لم تكن من المساقاة المصطلحة،بل لا يبعد الجواز في مطلق الزرع كذلك،فان مقتضى العمومات الصحة بعد كونه من المعاملات العقلانية،و لا يكون من المعاملات الغررية عندهم-أي أن العرف يتسامح في هذا الغرر الناشئ من عدم معرفة أجرة العامل بالضبط-غاية الأمر أنّها ليست من المساقاة المصطلحة».

5-تعيين المدّة

.و لا حد لأكثرها،فيجوز أن تكون لسنوات عديدة،أما القلة فتقدر بمدّة تتسع لحصول الثمر،و يختلف ذلك باختلاف الأشجار.

و إذا حددت مدّة لا تتسع لحصول الثمر فسدت المساقاة،و كان للعامل أجرة المثل إذا عمل.

و إذا قام العامل بكل ما طلب منه،و لم يثمر الشجر لآفة سماوية فلا شيء له،لأنه تماما كالمضارب الخاسر،و إذا ظهرت الثمرة في المدّة المحددة،ثم انتهت قبل نضوج الثمرة فالعامل شريك فيها،لأن سبب الشركة وجود الثمرة لا نضوجها.

6-أن تجري المساقاة قبل نضوج الثمرة

،سواء لم تكن قد ظهرت بعد،أو ظهرت دون أن تنضج،لأنه بعد النضوج لا يبقى موضوع للمساقاة.

المساقاة لازمة:

عقد المساقاة لازم،فلا يجوز لأحد الطرفين فسخه إلاّ برضا الآخر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده عندنا،للأصل،و عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ».

و إذا مات أحد المتعاقدين قام ورثته مقامه.أجل،إذا اشترط المالك على العامل مباشرة العمل بنفسه،و مات العامل قبل انتهاء العمل كان المالك بالخيار

ص:189

بين فسخ العقد،و بين الرضا بقيام ورثة العامل مقامه.

إهمال العامل:

على العامل أن يقوم بكل ما يلزمه من أعمال،فإن أخل،لعذر،أو لغير عذر تخير المالك بين فسخ العقد،لتخلف الشرط،و بين أن يستأجر عنه من حصته،و يشهد على الاستئجار دفعا للتنازع و التخاصم.و إذا اختار المالك الفسخ،فعلى المالك أن يدفع للعامل اجرة المثل بمقدار ما عمل،ان كان قد عمل.هذا إذا حصل الفسخ قبل أن تظهر الثمرة،أما بعد ظهورها فان للعامل حصته من الثمرة،و عليه للمالك أجرة بقائها على أصولها إلى زمن البلوغ و النضوج.

و إذا احتاج الشجر إلى السقي فأرسل اللّه غمامة استغنى بها عنه سقط السقي عن العامل،و بقيت المساقاة على صحتها و لزومها.

و تقول:ان المساقاة كالإجارة،و بديهة أن الإجارة تبطل إذا انتفى موضوعها،كمن استؤجر لقلع ضرس فانقلع تلقائيا فكذلك ينبغي أن تبطل المساقاة إذا حصلت على الشجر،فنزل المطر،و اكتفى به.

و نقول في الجواب فرق بين الإجارة و المساقاة،لأن المراد من الإجارة مقابلة العوض بالعمل،فإذا انتفى العمل لم يبق للعوض من مقابل،أما المساقاة و المزارعة فإن المقصود منهما حصول الناتج،فمع الاحتياج إلى العمل يقوم به العامل،و ان استغني عنه بفعل اللّه،أو بفعل الغير يسقط عن العامل،و يستحق الحصة-كما قال صاحب الجواهر.

ص:190

فساد المساقاة:

قال صاحب الجواهر:«كل موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل، لاحترام عمل المسلم الواقع باذن من استوفى عمله،و الثمرة لصاحب الأصل- أي الشجرة-لأن النماء تابع له.من غير فرق بين أن يكون العامل عالما بفساد المعاملة حين وقوعها،أو جاهلا،حتى و لو كان فسادها ناشئا من اشتراط كون النماء بكامله للمالك».

و يلاحظ على صاحب الجواهر بأن العامل إذا أقدم على العمل بشرط أن لا يكون له شيء من الناتج يكون متبرعا،و عليه فلا يستحق شيئا.فلا بد-اذن-من استثناء هذه الحال من قاعدة:«كل موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل».

و إذا ظهر أن الشجر مستحق للغير فإن أجاز هذا الغير المعاملة التي أجراها الغاصب مع العامل صحت المساقاة،و عمل بموجبها،و ان لم يجز بطلت،و كان الناتج بكامله للمالك،لأن النماء يتبع الأصل،و على الغاصب الذي أجرى المعاملة مع العامل أن يدفع له أجرة عمله ان كان جاهلا بالغصب،لأنه هو الذي استدعاه للعمل،و غرر به،و لا سبيل للعامل على المالك،لأنه لم يأمره،و لم يأذن له بالعمل في ملكه.

مسائل:

1-لا يتحمل العامل شيئا من الضريبة

التي يضعها السلطان على الشجر إلاّ مع الشرط.

2-يجوز اتحاد المالك

،مع تعدد العامل إذا تمت الشروط و توافرت،و كذا

ص:191

يجوز تعدد المالك،مع اتحاد العامل،كما لو كان البستان لأكثر من واحد، و ساقى أصحابه واحدا.

3-يجوز للعامل أن يستأجر غيره للعمل المطلوب منه

إذا لم يشترط عليه المالك المباشرة بنفسه،و هل يجوز له أن يساقي غيره،مع عدم اشتراط المباشرة،و عدم النهي من المالك؟ للفقهاء في ذلك أقوال.و نحن على رأي صاحب الجواهر الذي قال:

لا يجوز له ذلك،لأن من شروط المساقاة أن يكون الذي يجري المعاملة مع العامل مالكا للشجر،أو وكيلا عن المالك،أو وليا عليه،و ليس لأحد أن يستدل على صحة مغارسة العامل مع غيره ب أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،أو تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،أو المؤمنون عند شروطهم.لأن هذه و ما إليها مختصة بالأصيل أو الوكيل أو الولي، و لا تشمل الأجنبي.

التنازع:

1-إذا اختلفا في صحة العقد و فساده

فعلى مدعي الفساد البينة،لأن الأصل صحة العقد،حتى يثبت العكس.

2-إذا اختلفا في مقدار حصة العامل

،فقال العامل:هي النصف،و قال المالك:

بل الثلث فالقول قول المالك،لأن الأصل تبعية النماء للملك.

3-إذا اختلفا في أن المساقاة وقعت لسنة أو أكثر

فالقول قول من ينفي الزيادة، لأن الأصل عدمها.

4-إذا ادعى المالك التفريط أو التعدي على العامل،و أنكر العامل

فالقول قوله بيمينه،لأنه منكر بموافقة قوله للأصل،سواء أ كان أمينا أو لم يكن،كما

ص:192

قال صاحب الجواهر.

و إذا ادعى المالك الخيانة و الاختلاس على العامل فهل تسمع دعواه مطلقا، حتى و لو لم يعين المقدار الذي اختلسه،أو لا تسمع إلاّ مع تعيين المبلغ المختلس،لأن الدعوى بالمجهول يجب ردها،و لا يجوز سماعها؟ قال صاحب العروة الوثقى،و صاحب الجواهر:تسمع و لو لم يعين،لعموم حديث:«البينة على من ادعى،و اليمين على من أنكر».

المغارسة:

المغارسة أن يتفق اثنان على أن تكون الأرض من أحدهما يدفعها إلى الآخر،ليغرس فيها نوعا من الشجر على أن يكون بينهما،و قد أجمع الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق على بطلان ذلك،سواء أجعل للغارس جزء من الأرض،أو لم يجعل له منها شيء.

و لم يذكر صاحب الجواهر وجها للبطلان إلاّ أصل الفساد،و هذه عبارته بالحرف:«المغارسة باطلة عندنا،لأن الأصل الفساد».

و قال صاحب العروة الوثقى:«حكي عن الأردبيلي،و صاحب الكفاية الإشكال في هذا الأصل،لإمكان استفادة الصحة من العمومات،و هو في محله ان لم يكن إجماع».و العمومات الموجبة للصحة هي تجارة عن تراض،و المؤمنون عند شروطهم.

و نحن على رأي القائل بالجواز و الصحة ما دام التراضي متحققا من الطرفين،و الشروط سائغة،و غير مجهولة،أمّا الإجماع فليس بشيء بعد أن عرفنا مستنده،و أنّه أصل الفساد،لأن هذا الأصل محكوم بالعمومات،كما قال المحقق

ص:193

الأردبيلي.

و على افتراض عدم صحة هذه المعاملة مغارسة فإنها تصح صلحا،أو غيره من العقود،و ان لم تكن من العقود المسماة،و ذلك أن يجعل نصف الغرس و سقيه و خدمته مدّة معينة لقاء جزء من الأرض،أو لقاء منفعتها أمدا معينا،قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة آخر باب المساقاة:«بعد بطلان المغارسة يمكن التوصل إلى نتيجتها بإدخالها تحت عنوان آخر مشروع،كأن يشتركا في الأصول.ثم يؤجر الغارس نفسه لغرس حصة صاحب الأرض و سقيها و خدمتها مدّة معينة بنصف منفعة الأرض في تلك المدّة،أو نصف عينها».إلى غير ذلك من الطرق السائغة شرعا.

ص:194

الوديعة

اشارة

ص:195

ص:196

معناها:

الوديعة لغة مأخوذة من ودع الشيء إذا سكن و استقر،و تطلق على الشيء المودّع،لاستقراره و عدم الانتفاع به.أمّا المتشرعة و هم الفقهاء فيريدون بالوديعة أن يسلط انسان آخر على عين من ماله ليحفظها له،و يسمى المال وديعة،و بها سمي العقد،و صاحب المال المودع،و الحافظ له الوديع.

شرعيتها:

و هي مشروعة بالإجماع و الكتاب و السنة،قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ (1).و قال الإمام علي أمير المؤمنين عليه السّلام:لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم و صومهم،و كثرة حجهم و المعروف و طنطنتهم بالليل،انظروا إلى صدق الحديث و أداء الأمانة.و تواتر هذا المعنى عن أهل البيت عليهم السّلام بأساليب شتى.

الشروط:

اشارة

يعتبر في الوديعة :

1-الإيجاب من المودع،و القبول من الوديع

قولا أو فعلا-و أشرنا أكثر من مرة

ص:197


1- البقرة:283. [1]

أن الإيجاب و القبول من الأركان-و لا يكفي مجرد الاذن من المالك بحفظ المال،بل لا بد من توافق إرادته مع ارادة الوديع على الحفظ،ليتحقق العقد،قال صاحب الجواهر:

«لا إشكال في اعتبار معنى العقد في الوديعة،سواء أ كان ذلك بالقول،أو بالفعل،كما هو الشأن في البيع و الصلح و الإجارة و غيرها من العقود،لا أنّها من الاذن و الإباحة التي لم يلحظ فيها بين الربط بين القصدين و الرضا من الطرفين.

و لو أن صاحب العين طرحها عند من قصد استيداعها منه لم يلزم حفظها،إذا لم يقبلها الوديع بالقول أو بالفعل،لعدم تحقق الوديعة بذلك.و لو تركها الذي لم يقبلها،و ذهب،ثم هلكت فلا ضمان عليه،لأن الأصل عدم الضمان».

2-ان يكون كل من الطرفين أهلا للتعاقدات المالية

،و لو قبل البالغ العاقل الوديعة من الصبي أو المجنون ضمن ما يقبضه منهما من المال،حتى مع التعدي و التفريط،فان قبضه هذا تعد منه،لأنهما ليسا أهلا للإذن،و لا للتعاقد إلاّ إذا كان الصبي مميزا،و مأذونا بالتصرف،بناء على جواز الاذن له بذلك.و قد سبق التحقيق في الجزء الثالث فصل البلوغ،فقرة«عقد الصبي».أجل لو خاف العاقل البالغ أن تهلك العين في يد الصبي أو المجنون جاز له من باب الحسبة أن يأخذ العين منهما لغاية حفظها، و تكون في يده أمانة شرعية،على شريطة أن يردها إلى وليهما لا إليهما.

و إذا استودع إنسان وديعة عند صبي أو مجنون فهلكت لم يضمنا،لأن المودع هو المتلف لماله في الحقيقة،تماما كما لو رماه في البحر،قال صاحب الجواهر:«لا تصح وديعة الطفل و المجنون،لاعتبار الكمال في طرفي العقد، كغير الوديعة من العقود بلا خلاف،بل الإجماع على ذلك.و لا يجوز وضع اليد

ص:198

على الوديعة،بل يضمن القابض منهما،و لا يبرأ بالرد إليهما،لمكان الحجر عليها،.أما لو استودعا فكذلك في البطلان،و لم يضمنا بالإهمال وفاقا للمشهور،لأن المودع عندهما في الحقيقة هو المتلف لماله بإيداعه مثلهما،مع علمه بأنه لا يجب عليهما الحفظ و أداء الأمانة،فسببه في التلف أقوى من تفريطهما فيه».أي أن الصبي و المجنون إذا باشرا إتلاف الوديعة فلا ضمان عليهما،لأن المالك هو الذي سلطهما على ماله،فيكون هو السبب للتلف، و السبب هنا أقوى من المباشر،فيستند الإتلاف إليه،لا إليهما.

3-القبض

،فإن الوديعة لا تتم إلاّ به.

4-قدرة الوديع

على حفظ الوديعة.

5-أن يحفظ الوديع العين بلا اجرة

،و إلاّ كان حكمها حكم الإجارة.

عقد الوديعة جائز:

عقد الوديعة جائز من الجانبين،فيجوز لكل منهما فسخه متى شاء،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و هو الحجة في تخصيص آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و غيرها من أدلة اللزوم».

و عليه،فإنها تبطل بواحد من أربعة:

1-بفسخ أحدهما.

2-بموته،لأن العقد حصل بين الطرفين بالذات،و لا عقد مع ورثة المودع، و لا الوديع.

3-جنونه،لأن الجنون ينقل ولاية التصرف إلى غير من أجرى العقد.

4-إغماؤه،و هو بحكم الجنون.

ص:199

و إذا بطل عقد الوديعة لموت المودع أو جنونه أو إغمائه تتحول الوديعة من الأمانة المالكية إلى الأمانة الشرعية.و الفرق بين الأمانتين أن الأمانة المالكية تكون برضا المالك،أما الأمانة الشرعية فهي بغير اذنه و رضاه،و ربما بغير علمه، كالثوب يطيره الريح إلى دار الجار،فيكون في يد الجار أمانة شرعية،تنتفي عنها جميع أحكام الوديعة،و يجب على من هي في يده أن يردها إلى أهلها،أو يعلمهم بها فورا،و لا يجوز له التأخير إلاّ لعذر مشروع،و إذا أخر الرد،أو الإعلام بلا عذر يكون ضامنا،حتى مع عدم التعدي أو التفريط،بل أن التأخير بلا عذر تفريط و إهمال.

حفظ الوديعة:

لقد أوجب الشارع حفظ الوديعة،و ترك كيفية الحفظ إلى العادة و العرف الذي عليه الناس.و بديهة أن حفظ كل شيء بحسبه،فالنقود تحفظ في صندوق مقفل،و الثياب في خزانتها،و الدابة في الإصطبل،و الشاة في المراح،و ما إلى ذاك،و المعيار أن يحفظ الوديع الوديعة بما يحفظ به مال نفسه،بحيث لا يعد في نظر العرف مهملا و لا متعديا.

و قال الفقهاء:إذا اشترط المودع على الوديع أن يضع الوديعة في مكان خاص وجب الاقتصار عليه،لحرمة التصرف بمال الغير من غير إذنه.أجل، يجوز نقلها منه لمصلحة الوديعة،كما لو انهدم المكان المعين،أو اشتعلت النار فيه،و ما إلى ذاك.

ص:200

موجب الضمان:

لا يضمن الوديع إلاّ بالتفريط،أو التعدي،و التفريط أمر سلبي،و هو ترك ما يجب من الحفظ،و التعدي أمر وجودي،و هو التصرف في الوديعة،كالثوب يلبسه،أو يعيره،و الدابة يركبها،و النقود يصرفها أو يقرضها،أو يسافر بها من غير ضرورة،و ما إلى ذاك.

و إذا أراد ظالم أن يسلب الوديعة،و استطاع الوديع أن يدفعه عنها،دون أن يلحقه ضرر وجب عليه ذلك،لأنه مقدمة لحفظ الأمانة الواجبة و مقدمة الواجب واجبة،فان لم يفعل،و أخذ الظالم المال ضمنه الوديع لمكان الإهمال و التقصير.

و إذا أمكن إرضاء الظالم بالبعض،كالنصف-مثلا-وجب على الوديع أن يدفعه له،ليحفظ به النصف الآخر،فان لم يفعل ضمن النصف،لا الجميع،لأن الإهمال و التقصير حصل بالنسبة إلى النصف فقط.

و إذا أقنع الظالم بأن يحلف الوديع أن فلانا لم يستودعه شيئا وجب عليه أن يحلف و ينوي بينه و بين نفسه أنّه لم يستودعه ليلا،ان كان قد استودعه نهارا، و ينوي أنّه لم يستودعه نهارا،ان كان قد استودعه ليلا،فان لم يحلف كان ضامنا، لأن الكذب هنا جائز،لا أنّه محرم،و قد أبيح حفظا للأمانة،و دفعا للظلم.بديهة أن الواجب يسقط إذا انحصرت مقدمته في الحرام.

هذا ما حكم به الفقهاء بقول مطلق،كما جاء في الجواهر،و مفتاح الكرامة و غيرها.و يجب أن يقيد ذلك بما إذا كان الوديع عالما بجواز الكذب،و مع ذلك امتنع عنه حيث يعد،و الحال هذي،مقصرا،أما لو امتنع عن الكذب و الحلف لجهله و اعتقاده بالتحريم،ثم أخذ الظالم المال فان الوديع لا يضمن منه شيئا،لأنه لا يعد مهملا و لا مقصرا في مثل هذه الحال.

ص:201

الإنفاق على الوديعة:

إذا احتاجت الوديعة إلى الإنفاق وجب على الوديع أن ينفق عليها بالمعروف مقدمة لحفظها،و يرجع بما أنفق على المالك،و إذا قصر في شيء من ذلك ضمن،لمكان التفريط،قال صاحب الجواهر:«الظاهر أن هذا مفروغ منه عند الفقهاء.و لكن يجب أن يكون الإنفاق باستئذان من المالك،أو وكيله،فان تعذر رفع الأمر إلى الحاكم،و استأذن منه،فان تعذر أنفق هو،و اشهد على الإنفاق،فإن تعذر الإشهاد أنفق و اقتصر على نية الرجوع بما أنفق على المالك.

و لو كانت الوديعة حيوانا،و قال صاحبه للوديع:لا تنفق عليه،فهل يجب العمل بقوله؟ثم إذا خالف الوديع،و أنفق على الحيوان،فهل يرجع على المالك بالنفقة؟ قال صاحب الجواهر:«لا يسمع قول المالك في ذلك،لأن الحيوان ذو كبد حرّى،و نفس محترمة،فيجب حفظه مراعاة لحق اللّه،و لا يسقط هذا الحق بإسقاط الآدمي.فإذا أنفق عليه الوديع،و الحال هذه،رجع على المالك بما أنفق، و إذا ترك الإنفاق،حتى هلك الحيوان يأثم الوديع بذلك،و لكنه لا يضمن شيئا، لأن المالك هو الذي أسقط الضمان بنهيه عن الإنفاق،فيكون شأنه شأن من أمره بإلقاء ماله في البحر».

رد الوديعة:

يجب على الوديع أن يرد الوديعة إلى صاحبها عند طلبه،قال تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (1).فإن تأخر عن الرد بلا عذر يكون

ص:202


1- النساء:58. [1]

غاصبا،و تكون يده على العين يد عدوان و ضمان،لانفساخ العقد و ارتفاع الاذن و الرضا بالطلب.

و لو افترض أن المودع غير مسلم،و أنّه حربي يباح ماله وجب أن ترد إليه أمانته،و لا تجوز خيانته بحال،فان حكم الامانة غير حكم سائر أمواله المباحة، و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:ثلاثة لا عذر فيها لأحد:أداء الأمانة إلى البر و الفاجر،و الوفاء بالعهد إلى البر و الفاجر،و بر الوالدين برين كانا،أو فاجرين.

و منها أنّه عليه السّلام سئل عن رجل يستحل مال بني أمية و دماءهم،و قد أودعه بعضهم وديعة،أ يحل أن يأكلها؟قال عليه السّلام:ردوا الأمانة إلى أهلها،و ان كانوا مجوسا.

و قال عليه السّلام:ان ضارب عليّ بالسيف و قاتله لو ائتمنني،و استنصحني، و استشارني،و قبلت ذلك منه لأديت له الأمانة.

و قال جده علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام:عليكم بأداء الأمانة،فوالذي بعث بالحق محمّدا نبيا لو أن قاتل أبي الحسين عليه السّلام ائتمنني على السيف الذي قتل به أبي لأديته إليه.

و هذه أحكام شرعية،و ليست أخلاقية،و إلزامية،لا استحبابية،لأن الأمانة لها حكم خاص،قال صاحب الجواهر في باب الوديعة:«يجب رد الوديعة،و لو كان المودع كافرا،للنصوص المتواترة الآمرة برد الوديعة و الامانة على صاحبها، و لو كان قاتل علي،و الحسين عليهما السّلام،أو أولاد الأنبياء،أو مجوسا،أو حروريا،و قد عمل الفقهاء بهذه النصوص».

و قال صاحب مفتاح الكرامة:«هذا هو المشهور،و الحجة إطلاق النصوص

ص:203

و الفتوى».

مسائل:

1-إذا أودع اللص ما سرقه عند انسان فلا يجوز له أن يرده إليه

،ان أمن الضرر،و يكون المال المسروق في يده أمانة شرعية،فإن عرف صاحبه رده إليه أو أعلمه به،و ان جهله عرفه سنة كاملة،فان لم يجده تصدق به عن صاحبه،و ان ظهر صاحبه بعد التصدق به كان بالخيار بين أن يقر الصدقة، أو يطالب المتصدق بالعوض،فان طالب بالعوض دفعه إليه المتصدق، و كان أجر الصدقة له.

2-إذا ظهر للوديع أمارات الموت وجب أن يرد الوديعة إلى صاحبه أو وكيله

، و مع التعذر سلمها إلى الحاكم الشرعي،و مع التعذر أوصى بها،و اشهد على الوصية.

3- لو نوى الوديع التصرف في الوديعة،و لم يتصرف فيها

قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في الوسيلة:«لو نوى الوديع التصرف في الوديعة،و لم يتصرف فيها لم يضمن بمجرد النية،و لكن لو نوى الغصبية كأن قصد الاستيلاء عليها و التغلب على مالكها،كسائر الغاصبين ضمنها، لصيرورة يده يد عدوان بعد ما كانت يد استئمان،و لو رجع عن قصده لم يزل الضمان».

و يلاحظ أولا بأنّه لا فرق بين نية التصرف في مال الغير بلا اذنه،و بين نية الغصبية،فان كلا منهما محرم،ثانيا أن النية المجردة عن العمل ليست سببا للضمان،و لا تعديا في نظر العرف،و الشك في نية الغصب هل توجب الضمان أم لا كاف في نفيه،لأن الأصل عدمه.

ص:204

4-إذا تصرف الوديع بالوديعة تصرفا لم يغير منها شيئا،ثم أرجعها إلى مكانها

و حرزها

،كالثوب يلبسه قليلا،أو الكتاب يقرأ بعض صفحاته من غير اذن المودع،إذا كان كذلك يخرج عن حكم الوديع،و يصبح بحكم الغاصب إلاّ إذا أعلم المودع فأقره على ذلك،و جدد له الاستئمان.و المعيار لانقلاب اليد من الأمانة إلى العدوان أن يتصرف في الوديعة نفسها لغير مصلحتها من غير اذن صاحبها،أما مجرد النية و القصد بلا تصرف فليس بشيء.

التنازع:

1-إذا قال له:أودعتك كذا،فأنكر

،و قال:لم تودعني شيئا،فالبينة على المدعي،و اليمين على المنكر.

2-إذا اعترف بالوديعة،و ادعى هلاكها

فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى الأخذ بقول الوديع،سواء ادعى سببا ظاهرا للتلف، كالحرق و الغرق حيث يمكن إقامة البينة عليهما،أو ادعى سببا خفيا، كالسرقة.و مما استدلوا به على ذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس لك أن تتهم من ائتمنته،و لا تأمن الخائن،و قد جربته.و قوله عليه السّلام:لا يخونك الأمين،و لكن ائتمنت الخائن.أي ليس لك أن تخونه بعد أن اعتبرته أمينا،فإذا خونته فأنت المسؤول وحدك،حيث ائتمنت الخائن،و اخترته لوديعتك و أمانتك.

و هل يقبل قول الوديع بالتلف بلا يمين أو لا بد منها؟ قال صاحب الجواهر:«الأقوى الأخذ بقوله مع اليمين،لحديث:«إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان».و لو أخذ بقوله من غير يمين للزم القضاء بلا

ص:205

بينة،و لا يمين،و هو مناف للحصر في الحديث الشريف.

و إذا صدقه المودع بالتلف،و لكن ادعى عليه التعدي أو التفريط فعلى المودع البينة،و على الوديع اليمين،لأنه أمين،و ما على الأمين إلاّ اليمين.

3-ذهب المشهور إلى أن الوديع إذا قال للمودع:أرجعت إليك الوديعة أخذ بقول الوديع مع يمينه

بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن الوديع إذا قال للمودع:أرجعت إليك الوديعة أخذ بقول الوديع مع يمينه،لأنه أمين.

و إذا مات المودع،و طالب الوارث بالوديعة،فقال له الوديع:رددتها إليك لم يسمع قوله إلاّ مع البينة،لأن الوارث لم يأتمنه،حتى يكلف بتصديقه،و إذا لم يكن أمينا بالنسبة إلى الوارث كان أصل عدم الرد محكما لا يعارضه شيء،و هو موافق لقول الوارث.

4-إذا أنكر الوديعة من رأس،و لكن بعد أن أثبتها المودع بالبينة اعترف بها

الوديع

،و ادعى أنّها تلفت،إذا كان كذلك فلا تسمع دعوى الوديع،و لا تقبل منه بينة و لا يمين،لأن إنكاره الأول للوديعة يشكل اعترافا ضمنيا بتعديه و خيانته،و بهذا نجد تفسير قول صاحب الجواهر:«قد حصل بإنكاره سبب اشتغال ذمته بالضمان فلا تسمع دعواه،لكون الإنكار كالإقرار منه بالضمان».

5-إذا اعترف بالمال،و ادعى أنّه وديعة عنده،و قد هلك بلا تعد أو تفريط

، و قال صاحب المال:بل أخذته مني قرضا لا وديعة،و عليك الوفاء،حتى و لو هلك بلا تعد أو تفريط،فممن تطلب البينة؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن القول قول المالك بيمينه و على مدعي الوديعة البينة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قال لآخر:لي عليك الف درهم،فقال الرجل:لا،و لكنها وديعة؟فقال الإمام عليه السّلام:القول قول

ص:206

صاحب المال بيمينه.

و سئل حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت،فقال الرجل:كانت عندي وديعة،و قال صاحب المال:انما كانت عليك قرضا؟فقال الإمام عليه السّلام:المال لازم له،إلاّ أن يقيم بينة أنّها كانت وديعة.

ص:207

ص:208

العارية

اشارة

ص:209

ص:210

معناها:

العارية أن يعطي المعير عينا من أمواله إلى المستعير غير قابلة للاستهلاك، ليستعملها بلا عوض مدة معينة،أو في غرض معين،على أن يردها إلى صاحبها بعد الاستعمال،و هذا معنى قول الفقهاء:العارية تمليك منفعة العين على وجه التبرع.

و تتميز العارية عن الهبة بأن الهبة تمليك العين،لا المنفعة فقط،و العارية تمليك المنفعة دون العين،و تتميز عن الإجارة بأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض،و العارية تمليك المنفعة بلا عوض،و تتميز عن القرض بأن الشيء الذي يجب رده في القرض هو مثل الشيء لا عينه،أما في العارية فيجب رد عين الشيء لا مثله،و من هنا يجوز قرض المأكولات و المشروبات،و لا تجوز إعارتها،لأن الانتفاع بها يتوقف على استهلاكها.

و يسمى مالك العين معيرا،و المنتفع بها مستعيرا،و العين مستعارة، و معارة.

شرعيتها:

العارية مشروعة بالكتاب و السنة و الإجماع،قال تعالى فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ .فقد قرن اللّه سبحانه تارك العارية بتارك الصلاة،و نسبهما معا إلى الويل،أي الهلاك، و المراد هنا بالسهو الترك لا النسيان.

ص:211

و جاء في الحديث الشريف:«من منع الماعون جاره منعه اللّه خيره يوم القيامة،و وكله إلى نفسه».

و كلامنا في الوديعة يتناول العقد،و المعير،و المستعير،و الشيء المعار، و مسائل تتصل بها،و بعض صور التنازع.

العقد:

قال بعض الفقهاء:ان انتفاع الضيف بدار مضيفه،و بعض فراشه و آنيته، و ما إليها هو من باب العارية.و رده صاحب الجواهر بأن هذا من الاذن بالتصرف، و اباحة الانتفاع،و ليس من العارية في شيء،لأن العارية:«عقد يعتبر فيه إنشاء الربط بين الإيجاب و القبول،لا الإيقاع الذي يكفي فيه الاذن بالانتفاع من المالك».

و عقد العارية لا يشترط فيه شكل خاص،بل يتحقق بكل ما دل على توافق الإيجاب و القبول،و هو جائز من جانب المعير و المستعير،فان لكل منهما فسخ العقد و انهاءه متى شاء،سواء أ كانت العارية مطلقة،أو مؤقتة بأمد.

و بعد أن حكم الفقهاء بأن عقد العارية جائز تكلموا و أطالوا الكلام في حكم العارية للرهن بعد وقوع الرهن عليها،و عارية الحائط للجار،ليضع عليه أطراف خشب السقف،و عارية الأرض لدفن الميت،أو للبناء،و الغرس،و ما إلى ذلك مما يتضرر المستعير منه برجوع المعير عن العارية التي من شأنها الدوام و الاستمرار.

و يرى أكثر الفقهاء أن عارية الأرض للدفن تكون لازمة بعد الدفن،و لا يجوز الرجوع عنها،لحرمة نبش القبر،و أيضا تكون لازمة إذا أعار عينا من أمواله

ص:212

ليرهنها المستعير،و لكن تكون مضمونة على المستعير الراهن،حتى و لو تلفت من غير تعد أو تفريط،أما عارية الأرض للبناء و الغرس فان للمعير أن يرجع عنها،و يزيل البناء و الغرس بعد أن أعار أرضه لذلك،على أن يضمن الضرر الذي يلحق المستعير من الهدم و القلع.

و قال بعض الفقهاء:ان عقد العارية ينقسم إلى جائز،كعارية الثوب و السيارة،و إلى لازم،كالعارية للرهن و الدفن،و ما إليه.و رده صاحب الجواهر بأن هذا من غرائب الكلام،لأن التقاء عقد مع عقد آخر في بعض الخصائص و الآثار لا يوجب إدخال بعض العقود في بعض إذ العقد الجائز قد يعرض عليه ما يجعله لازما،كالعارية للرهن و الدفن،و لكن هذا عارض خارجي لا يحول العقد عن طبيعته من الجواز إلى اللزوم،كما أن العقد اللازم قد يعرض عليه ما يجعله جائزا،كالبيع بالخيار،و مع ذلك يبقى على طبيعته من اللزوم.

و بتعبير ثان أن عقد العارية يستدعي أن يفسخه و يرجع عنه كل من المعير و المستعير،و لو قبل انقضاء الأجل المعين للعارية.و قد يوجد المعير بإرادته و اختياره سببا يمنعه عن الفسخ،كما لو اذن للمستعير ان يرهن العين المعارة مع علمه بأن الرهن لازم من جانب الراهن،أو يأذن له بإيجارها،و هو يعلم أن الإيجار لازم طوال المدة المعينة،أو يأذن بدفن ميت في أرضه مع علمه بحرمة نبش القبر،أو يأذن بالبناء و الغرس مع علمه بأن مثل هذه العارية دائمة،و أنّه لا عاقل يقدم عليها بلا دوام و استمرار،و هذا السبب الطارئ الذي منع المعير من الفسخ لا يخرج عقد العارية عن الجواز،و هذا ما أراده صاحب الجواهر بقوله:

«ضرورة عدم امتناع فسخ الارتهان الواقع باذن المالك،و حرمة النبش،و الإضرار بالغير برجوع العين لزوم العقد ضرورة إمكان بقائه على الجواز».

ص:213

المعير:

قال العلامة الحلي في كتاب القواعد:

«يشترط أن يكون المعير مالكا للمنفعة،جائز التصرف،فلا تصح عارية الغاصب،و لا المستعير،و لا الصبي،و لا المحجور عليه لسفه أو فلس،و تصح من المستأجر».

تصح من المستأجر،لأنه يملك المنفعة،فله،و الحال هذي،أن يملكها لغيره إلاّ إذا اشترط المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه،فإنه مع هذا الشرط يحرم عليه أن يعير.و لا تصح العارية من الغاصب و المستعير،للنهي عن التصرف في مال الغير إلاّ باذنه،و لأن شخصية المستعير محل اعتبار في عقد العارية،أما المحجور عليه لسفه أو فلس فلأنه ممنوع من التصرف في أمواله بيعا و إيجارا و رهنا و عارية.

المستعير:

يعتبر في المستعير أن يكون جائز التصرف،فلا تصح استعارة الصبي،و لا المجنون،و ان يكون معينا فلا يصح:أعرت أحد هذين،و ان يكون أهلا للانتفاع بالشيء المعار،فلا تحل استعارة المصحف لغير المسلم،و لا الصيد لمن أحرم للحج أو للعمرة،لأنه يحرم عليه إمساك الصيد إطلاقا،و لو افترض أنّه استعاره وجب عليه إرساله،و ضمان قيمته لصاحبه.

و يجب على المستعير أن يحافظ على الشيء المعار محافظته على أمواله، و ان يستعمله في الوجه الذي حدده المعير،فإن أطلق و لم يعين وجه الاستعمال استعمله في الجهة التي أعد لها بطبيعته،فموسى الحلاقة-مثلا-لا يستعمل

ص:214

لتقليم الأشجار،و لا المصاغ للعب الأطفال.

و إذا استعمل المستعير العارية في وجهها،ثم حدث بها نقص،أو تلف فلا يكون مسؤولا عما يحدث إلاّ مع الشرط،أو كانت العارية من الذهب و الفضة، و تأتي الإشارة.و إذا استعملها في غير وجهها،أو في غير الجهة التي حددها المعير،و حدث فيها شيء فعليه الضمان،و اجرة المثل لما استعملها فيه.

الشيء المعار:

قال صاحب الجواهر:«ان ضابط الشيء المعار أن يصح الانتفاع به شرعا منفعة معتدا بها مع بقاء عينه،كالثوب و الدابة.لا مثل الأطعمة و الأشربة و نحوها مما تكون المنفعة بإتلاف عينها،و لا مثل أواني الذهب و الفضة للأكل و الشرب- حيث يحرم الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضة-و كلب الصيد لأجل اللهو و الطرب بلا خلاف و لا إشكال في ذلك».

و يستفاد من هذه العبارة أن العارية لا تتم إلاّ بقبض العين المعارة،لتوقف الانتفاع عليه.

مسائل:

1-سبق أن المستعير لا يجوز له أن يعير غيره

،فان فعل كان للمالك الرجوع بأجرة المثل على من شاء منهما،لأن كلا منهما قد تصرف بالعين دون اذن صاحبها،فان كان الثاني عالما بالعارية،و رجع المالك عليه فلا يرجع هو على الأول،لأنه غاصب مثله،و ان كان جاهلا رجع على الأول،لأن المغرور يرجع على من غره،و بكلمة ان الضمان يستقر على العالم دون

ص:215

الجاهل.

2-أجمعوا على أن المستعير لا يضمن العارية إلاّ مع التعدي أو التفريط

،أو إذا اشترط عليه المعير الضمان إطلاقا،حتى مع عدم التعدي أو التفريط لحديث:«المؤمنون عند شروطهم».هذا في غير عارية الذهب و الفضة، حيث أجمعوا على أن عاريتهما مضمونة،سواء اشترط المعير الضمان،أو لم يشترط.أجل،إذا اشترط المستعير سقوط الضمان عنه،و قبل المعير أخذ بالشرط،للحديث المتقدم.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنها إلاّ أن يكون قد اشترط عليه.

و قال:ليس على المستعير ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضة،فإنهما مضمونان،اشترط،أو لم يشترط.

3-إذا فرط،أو تعدى،ينظر:

فان كانت العارية من المثليات،كنسخ الكتاب من طبعة واحدة فعليه مثل العارية،و ان كانت من القيميات فعليه قيمتها حين التلف،لأنه الوقت الذي اشتغلت فيه ذمته بالقيمة.

4-قال صاحب الجواهر:«لا خلاف،و لا إشكال في أن المستعير إذا رد العارية

إلى المالك،أو وكيله

،أو وليه بريء،و لو ردها إلى حرزها الموجود عند صاحبها لم يبرأ من الضمان».

و إذا احتاج الرد إلى مؤنة و نفقة فهي على المستعير،لأنه قبض لمصلحة نفسه،و لأنه يجب عليه رد العين إلى صاحبها،مهما كلف الرد.

ص:216

التنازع:

1-إذا أنكر العارية فالقول قوله بيمينه

،لأنه منكر،و إذا أثبتها المعير بالبينة حكم على المنكر بالضمان،و لو ادعى تلفها بعد إنكارها لا تسمع دعواه، لأن إنكاره الأول يشكل اعترافا بخيانته،كما تقدم في الوديعة.

2-إذا قال المستعير تلفت العارية بلا تعد و لا تفريط فالقول قوله بيمينه

.

و إذا ادعى ردها إلى المعير فأنكر الرد فالقول قول المعير بيمينه،لأن الأصل عدم الرد.و سبق في باب الوديعة أن الوديع إذا ادعى الرد يؤخذ بقوله مع اليمين بعكس المستعير.و الفرق بينهما أن الوديع قبض العين لمصلحة المودع،فهو محسن محض،و ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ،أما المستعير فإنه قبض لمصلحة نفسه.

3-إذا قال المالك:اجرتكها،و قال الذي هي في يده:بل أعرتنيها

،فمن المدعي؟و من المنكر؟ للفقهاء في ذلك أقوال،فمن قائل بأن المالك مدع،و ثان بأنه منكر،و ثالث بأنهما متداعيان،و قال رابع بالقرعة.

و الذي نراه انهما متداعيان،أي أن كلا منهما مدع و منكر معا،فالمالك يدعي الإيجار و ينكر العارية،و الآخر يدعي العارية و ينكر الإيجار،فإن وجد بينة تعين أحد الأمرين عمل بها،و إلاّ فعلى كل منهما أن يحلف اليمين على نفي دعوى الآخر،فيحلف المالك أنّه لم يعر،و يحلف الآخر أنّه لم يستأجر،فإن حلف أحدهما و نكل الآخر أخذ بقول الحالف،و ان حلفا معا،أو نكلا معا سقط قول الاثنين،و عاد كل شيء إلى أصله،حتى كأن لم يكن إيجار و لا عارية.و نتيجة ذلك أن يدفع الآخر الذي استعمل العين و استثمرها اجرة المثل إلى المالك إلاّ إذا

ص:217

كانت اجرة المثل أكثر من الأجرة التي ادعاها المالك،فإنه و الحال هذي،يأخذ الشيء الذي ادعاه،لاعترافه بأنه لا يستحق أكثر منه،و بكلمة يأخذ المالك أقل الأمرين من الأجرة المسماة بزعمه،و اجرة المثل،فان كانت الأجرة المسماة أكثر فله أجرة المثل،و ان كانت اجرة المثل أكثر فله الأجرة المسماة.

4-إذا قال المالك لمن في يده العين:انك اغتصبتها.فقال:بل هي عارية

، فالقول قول المالك بيمينه،لأن المنافع تتبع الأعيان في الملك،و الأصل عدم إباحتها للغير،حتى يثبت العكس.و على المنتفع بالعين ان يدفع لمالكها اجرة المثل.

ص:218

الهبة

اشارة

ص:219

ص:220

معناها:

الهبة في اللغة التبرع و التفضل،و منه قوله تعالى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (1).

و في عرف الفقهاء تمليك مال في الحال بلا عوض.

فخرج«بالتمليك»الوقف،لأنه ليس تمليكا،و«بالمال»خرجت العارية، لأنّها تمليك منفعة،و«في الحال»خرجت الوصية،لأنّها تمليك بعد الموت،و «بلا عوض»خرج البيع،لأنه تمليك بعوض.

الهبة المعوضة:

نبه الفقهاء إلى أن طبيعة الهبة لا تستدعي العوض،و لا عدم العوض،بل يجوز أن تكون معوضة،و غير معوضة،و على هذا فلا مانع أن يهب شخص شيئا لآخر بشرط أن يهب الموهوب له شيئا،أو يقوم بالتزام معين من فعل أو ترك، قال صاحب الجواهر:

«المراد من عدم العوض عدم لزوم ذلك في الهبة،لا عدم جوازه فيها».

و فرق واضح بين عدم اللزوم و الوجوب،و بين عدم الجواز،فان عدم اللزوم

ص:221


1- مريم:4. [1]

لا يتنافى مع وجود العوض،أما عدم الجواز فإنه يأبى وجود العوض إباء كليا.

بين الصدقة و الهبة:

اشارة

تشترك الصدقة مع الهبة في أن كلا منهما تمليك بلا عوض مادي، و

يفترقان من وجوه:
1-أن الصدقة يعتبر فيها نية التقرب إلى اللّه سبحانه

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

«لا صدقة،و لا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه تعالى».و لا يعتبر ذلك في الهبة.

2-أن الصدقة تلزم بالقبض

،و لا يجوز الرجوع فيها بعده،سواء أ كانت على رحم أو أجنبي،لأن سبيل الصدقة هو ابتغاء ثواب الآخرة،فينال المتصدق عوضا أدبيا يعدل العوض المادي من حيث عدم جواز الرجوع في الهبة المعوضة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا ينبغي لمن أعطى اللّه شيئا أن يرجع فيه».و قد فهم الفقهاء من لفظة لا ينبغي في هذه الرواية التحريم،و عدم الجواز.و قال أيضا:انما مثل الذي يرجع في صدقته كالذي يرجع في قيئه.

3-تجوز الهبة من غير الهاشمي للهاشمي،و لا تجوز الصدقة الواجبة

من غير الهاشمي على الهاشمي إلاّ مع الضرورة.أما الصدقة المستحبة فحكمها حكم الهبة.

4-قال جماعة من الفقهاء تصح صدقة الصبي إذا بلغ عشرا

،لقول الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام:«إذا أتى على الغلام عشر سنين فيجوز في ماله ما أعتق، أو تصدق،أو أوصى على حد معروف».و لا تجوز هبته بالاتفاق.

و تجدر الإشارة إلى أن الصدقة تجوز على الغني و الفقير،و المسلم و غير

ص:222

المسلم،قال تعالى لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ (1).

و قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:ان أهل البوادي يقتحمون علينا،و فيهم اليهود و النصارى و المجوس،فنتصدق عليهم؟قال:نعم.

الشروط:

اشارة

نذكر في هذه الفقرة الشروط التي لا بد من توافرها في الهبة بشتى أنواعها:

1-الإيجاب من الواهب،و القبول من الموهب له

،و يكفي كل ما دل على التراضي من قول أو فعل،قال صاحب الجواهر:«السيرة القطعية متحققة في المقام على حصول الهبة بالمعاطاة».

و قال السيد اليزدي في الملحقات:«الأقوى كفاية المعاطاة في الهبة،و انها تفيد الملك».

2-أن يكون كل من الواهب و الموهوب له عاقلا بالغا مختارا

،لأن الهبة إيجاب و قبول و قبض،و القاصر و المكره لا يصح إيجابه و لا قبوله و لا قبضه،و للوصي و الولي أن يقبلا الهبة للقاصر،مع المصلحة.

و لا تصح الهبة من المحجر عليه لسفه أو فلس،لأنه ممنوع من التصرفات المالية،و تصح الهبة له.

3-ان يجوز تملك الموهوب له للشيء الموهوب

،فلا تصح هبة المصحف لغير المسلم.

4-لا تصح هبة ما سيوجد

،كالثمرة المتجددة،و ما تحمله الدابة في المستقبل،

ص:223


1- الممتحنة:8. [1]

لأن الهبة تمليك في الحال.قال صاحب مفتاح الكرامة:«و منه يعلم عدم صحة هبة دهن السمسم قبل عصره،و زيت الزيتون قبل استخراجه،و ما يجري مجراه،لأنه في حكم المعدوم.و قد جوزوا الوصية بالمعدوم، كالثمرة المتجددة،لأنها ليست تمليكا في الحال».

5-اتّفقوا على أن القبض شرط

،و لكنهم اختلفوا:هل هو شرط لصحة الهبة، بحيث لا تنعقد إلاّ به،أو هو شرط للزوم،بمعنى أن الهبة تتم و تنعقد بلا قبض؟ و تظهر الثمرة بين القولين من وجوه:الأول أن النماء المتخلل بين العقد و القبض يكون للواهب إذا كان القبض شرطا للصحة و للموهوب ان يكن شرطا للزوم.الثاني أن نفقة الشيء الموهوب ان احتاج إلى نفقة تكون على الواهب ان اعتبرنا القبض شرطا للصحة،و على الموهوب ان اعتبرناه شرطا للزوم.الثالث أن الشيء الموهوب يكون ميراثا ان مات الواهب قبل القبض بناء على أنّه شرط للصحة،امّا بناء على أنّه شرط للزوم يكون الوارث بالخيار،ان شاء أقر هبة مورثة،و ان شاء فسخها.الرابع أن قبض الموهوب له للشيء الموهوب لا يصح إلاّ بإذن الواهب،ان كان القبض شرطا للصحة،و يصح القبض بلا اذنه،ان كان شرطا للزوم.

و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق،و ملحقات العروة إلى أن القبض شرط للصحة،لا للزوم،و ان الهبة لا تنعقد،و لا تتم إلاّ بالقبض،و استدلوا على ذلك بقول الإمام الصادق عليه السّلام:الهبة لا تكون أبدا هبة،حتى يقبضها.و ما خالف هذه الرواية فهو شاذ متروك.

و يتفرع على ذلك أن القبض لا يصح إلاّ بإذن المالك.و يجوز أن يتأخر

ص:224

القبض عن الإيجاب و القبول،و لا يعتبر اتصاله بهما،و لا حصوله في مجلس.

6-اتفقوا على أن الموهوب يجوز أن يكون عينا معلومة في الخارج،و جزءا

مشاعا من عين،و كليا في شيء معين

،كصاع حنطة من هذه الصبرة،حيث لا مانع من القبض في شيء من ذلك.

أما الدين فان كان في ذمة الموهوب له فتصح هبته،و الهبة هنا تفيد فائدة الإبراء الذي لا يشترط فيه القبول عند أكثر الفقهاء.قال صاحب الجواهر:«تصح الهبة لمن عليه الحق بلا خلاف أجده،بل في بعض كتب مشايخنا الاتفاق عليه، و لعله لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه السّلام،قال:سألته عن الرجل يكون له على الرجل دراهم،فيهبها له،إله أن يرجع فيها؟قال:لا».

و لا تصح هبة الدين لغير من هو عليه عند المشهور،لأن القبض شرط في صحة الهبة،و ما في ذمة غير الموهوب له يمتنع قبضه،لأنه كلي،لا وجود له في الخارج.

7-لا يشترط العلم بمقدار الشيء الموهوب

،فيجوز هبة ما في الكيس،و هبة حصة شائعة من عين مجهولة الكم و المقدار،كنصف هذا البستان مع عدم العلم بمساحته.

و قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:تجوز هبة الفرد المردد،كأحد هذين.

هل عقد الهبة جائز؟

اشارة

سبق أن الهبة تتم،و تنعقد بالإيجاب و القبول و القبض،و ان القبض شرط في الصحة،لا في اللزوم.أجل،ان قاعدة وجوب الوفاء بالعقد تستدعي أن

ص:225

يكون عقد الهبة بعد القبض لازما إلاّ ما خرج بالدليل كما هو الشأن في جميع العقود،و لكن ثبت النص عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها،و إلاّ فليس.

و هذا النص يخرج الهبة من عموم قاعدة وجوب الوفاء بالعقد،و يجعل القاعدة في الهبة عدم وجوب الوفاء إلاّ ما خرج بالدليل،و قد دل الدليل على خروج الموارد التالية و لزومها (1):

1-ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة،و ملحقات العروة إلى أن

هبة القرابة تلزم بمجرد القبض

،و لا يجوز للواهب القريب الرجوع عن هبته لقريبه،سواء أ كان قد تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب،أو لم يتصرف،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يهب الهبة،أ يرجع فيها ان شاء،أم لا؟قال:تجوز-أي تنفذ-الهبة لذي قرابة،و الذي يثاب من هبته،و يرجع في غير ذلك ان شاء.

و جاء في كتاب الجواهر،و المسالك،و مفتاح الكرامة،و ملحقات العروة، و غيرها أن المراد بالقرابة كل قريب بعدت لحمته،أو قربت،جاز زواجه من الواهب،أو لم يجز،وارثا كان،أو غير وارث،مسلما كان،أو غير مسلم.

2-ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة إلى أن هبة

أحد الزوجين للآخر لا تلزم بالقبض

،بل يجوز لكل منهما الرجوع عنها، و لكن على كراهية.

و قال جماعة،منهم صاحب الجواهر،و صاحب ملحقات العروة،و السيد

ص:226


1- قال صاحب الجواهر:«ان الهبة من العقود اللازمة،و ان اعتراها الجواز في بعض مواردها». و الحق أنّها من العقود الجائزة لما ذكرنا،و لا نحكم بلزوم مورد منها إلاّ بدليل خاص.

الأصفهاني في وسيلة النجاة قالوا:إذا وهب الزوج زوجته،أو الزوجة زوجها فإن الهبة تلزم بمجرد حصول القبض،تماما كما هو الحكم في القرابة النسبية، و استدلوا برواية عن الإمام الصادق عليه السّلام جاء فيها:«لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته،و لا المرأة فيما تهب لزوجها».

3-تلزم الهبة بالقبض إذا كانت بعوض و مقابل

،كما لو فرض الواهب على الموهوب له القيام بالتزام خاص،لمصلحة الواهب أو لمصلحة أجنبي،أو للمصلحة العامة.و لا فرق بين أن يكون العوض قليلا أو كثيرا قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في ذلك مضافا إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا عوّض صاحب الهبة فليس له أن يرجع».

4-تلزم الهبة إذا هلك الشيء الموهوب بفعل الموهوب له،أو بفعل أجنبي،

أو بآفة سماوية

،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها،و إلاّ فليس.

5-إذا مات الواهب،أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة

،لأنها لا تنعقد إلاّ به،و إذا مات الواهب بعد القبض فليس لورثته الرجوع،لأن حق الرجوع متصل بشخص الواهب،لا بورثته.و كذا تلزم بموت الموهوب له بعد القبض،حيث ينتقل الملك إلى ورثته فلا يكون الموهوب قائما بعينه.قال السيد اليزدي في ملحقات العروة الوثقى ص 164 طبعة 1344 ه:

«إذا مات الموهوب له بعد القبض سقط جواز الرجوع،لأن المال انتقل إلى ورثته،فليس قائما بعينه،مع أن القدر المعلوم جواز الرجوع على الموهوب له- لا على ورثته-و إذا مات الواهب بعد الإقباض،و قبل الرجوع لزمت الهبة،و ليس لوارثه الرجوع وفاقا للعلامة،و الشهيد،و فخر المحققين،و المحقق الثاني،

ص:227

و تبعهم المحقق القمي للأصل بعد عدم الدليل على الانتقال إلى وارثه.و دعوى أن حق الرجوع الثابت للواهب ينتقل إلى ورثته،كما في حق الخيار مدفوعة بأن جواز الرجوع ليس حقا،حتى يدخل في عموم ما ترك الميت من مال أو حق فهو لوارثه،بل هو حكم شرعي،فليس من متروكات الميت،بل لو شك في كونه حقا أو حكما فهو كذلك-أي لا يورث-لعدم صدق كونه من التركة.و على فرض كونه حقا خاصا فالقدر المتيقن كونه قائما بنفس،فلا يقبل الانتقال،و لا يستفاد من النص إلاّ جواز الرجوع لنفس الواهب».

6-من الأسباب التي تجعل الهبة لازمة أن ينقل الموهوب له الشيء الموهوب

عن ملكه

بالبيع أو الهبة أو الوقف،أو يغيره تغييرا يصدق معه أن العين ليست قائمة بذاتها،كالحنطة يطحنها،و قطعة القماش يفصلها ثوبا،أمّا مجرد لبس الثوب،أو ركوب الدابة فلا يمنع من الرجوع بالهبة.قال الشهيد في اللمعة:ج 1 باب العطية:

«يصح الرجوع بالهبة بعد الإقباض ما لم يتصرف الموهوب له تصرفا متلفا للعين،أو ناقلا للملك،أو مغيرا للعين،كقارة الثوب،و نجارة الخشب، و طحن الحنطة».

و قال صاحب ملحقات العروة:

«أن إجارة الموهوب له العين الموهوبة يخرجها عن كونها قائمة بعينها فلا يجوز للواهب الرجوع معها.و كذا لو رهنها،أو غرس في الأرض أشجارا،أو بنى فيها دارا،أو الورق جعله كتابا،أو سندا.كل ذلك يمنع الواهب من الرجوع عن الهبة،و يجعلها لازمة.و المعيار لجواز الرجوع أن يكون الشيء الموهوب بحاله لم يتغير،فإذا تغير فلا رجوع.

ص:228

في القبض:

قبض الموهوب كقبض المبيع يختلف باختلاف طبيعته،فقبض غير المنقول التخلية بينه و بين الموهوب له،و قبض المنقول التسليم و التسليم يدا بيد، و المعيار أن يكون الشيء الموهوب تحت سلطان الموهوب له،بحيث يتمكن من التصرف فيه دون مانع.

و إذا كان الشيء الموهوب في يد الموهوب له عارية أو وديعة أو غصبا أو مستأجرا فلا يحتاج إلى قبض جديد،و لا إلى مضي زمن يمكن فيه القبض،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بين المتأخرين و لا إشكال».

و إذا وهب الولي ما في يده للقاصر المولى عليه فلا يحتاج إلى قبض جديد،لأنه من باب تعاقد الإنسان مع نفسه،بحيث يكون موجبا بالأصالة عنه، و قابلا بالنيابة عن غيره.

مسائل:

1-إذا أراد الواهب أن يرجع عن الهبة،حيث يجوز له ذلك فلا يجب عليه أن

يعلم الموهوب له بالرجوع

،فلو أنشأ الرجوع من غير علمه صح.

2-إذا ظهر الشيء الموهوب مستحقا للغير بطلت الهبة

،فإن كان موجودا أخذه المالك و انتهى كل شيء،و ان كان تالفا تخير المالك بين الرجوع على الواهب،أو الرجوع على الموهوب له،فإن رجع على الموهوب له رجع هو بدوره على الواهب ان كان عالما بالغصب فلا يرجع عليه،لأنه غاصب مثله.

3-إذا رجع الواهب في هبته فيما يجوز له الرجوع،و افترض أن تجدد نماء

ص:229

للشيء الموهوب بعد القبض،و قبل الرجوع،فهل يكون هذا النماء للواهب،أو للموهوب له؟ قال الفقهاء:ان كان النماء منفصلا،كالثمرة على الشجرة،و حمل الدابة، و اللبن في الضرع فهو للموهوب له،لأنه حصل في ملكه،إذ المفروض أن الهبة تتم بالعقد و القبض.و ان كان النماء متصلا،كسمن الدابة،و نمو الشجرة فهو للواهب،لأنه جزء لا ينفك عن الشيء الموهب الذي يجوز الرجوع فيه.

و إذا حدث عيب أو نقص في الشيء الموهوب،و رجع الواهب فلا ضمان على الموهوب له،حتى و لو كان النقص و العيب بفعله.

و قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:الأقوى أن الواهب لا يجوز له الرجوع إذا نقص الشيء أو زاد زيادة متصلة أو منفصلة،لأن العين،و الحال هذي،لا يصدق عليها أنّها قائمة.

و قريب من ذلك ما جاء في الوسيلة للسيد الأصفهاني،حيث قال:«يحتمل أن يكون النماء المتصل كالسمن مانعا من جواز الرجوع،لعدم كون الموهوب معه-أي مع النماء المتصل-قائما بعينه،و لا يخلو من قوة».

و بكلمة ان الشيء الموهوب إذا كان بحاله لم يتغير يجوز الرجوع فيه إذا كان الموهوب له أجنبيا،و إذا تغير،و لم يبق على حاله فلا يجوز الرجوع.

و الاختلاف بين الفقهاء انما هو في التطبيق و التشخيص،فمن يرى أن الزيادة و النقصان يغيران الشيء عما هو عليه قال بعدم جواز الرجوع،و من لم ير ذلك قال بجواز الرجوع.

و نحن على رأي من قال:ان الزيادة و النقصان يوجبان التغير،و بالتالي لا يجوز الرجوع مع حدوث واحد منهما.

ص:230

السبق و الرماية

اشارة

ص:231

ص:232

المعنى:

السبق بسكون الباء معناه في اللغة المسابقة،و بفتحها معناه المال المبذول للسابق،و في عرف الفقهاء معاملة على اجراء الخيل،و ما يشبهها في حلبة السباق،لمعرفة الأجود منها.

و للرمي في اللغة معان،منها الإلقاء،و في الاصطلاح معاملة على المناضلة بالسهام،ليعلم حذف الرامي،و معرفته بمواقع الرمي.

الشرعية:

و هما مشروعان إجماعا و نصا،و منه ما تواتر عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا سبق إلاّ في نصل،أو خف،أو حافر».و فائدتهما التمرن على مباشرة النضال و الاستعداد،لممارسة القتال دفاعا عن الدين و الوطن.

و يدخل في الحافر الخيل و البغال و الحمير،و في الخف الإبل و الفيلة،و في النصل السيف و السهم و الحراب،و اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن هذه الأشياء تجوز المسابقة بها على عوض،لأنها منصوصة،و أيضا اتفقوا على أن المسابقة بغيرها على عوض لا تجوز،كالمسابقة بالمصارعة و السفن و الطيور،و بالعدو على الأرجل،و برفع الأثقال و الأحجار و رميها،و ما إلى ذلك مما لم يرد فيه نص، و اختلفوا في جوازها بلا عوض.

ص:233

فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى الجواز،و قال البعض بالتحريم،و سبب الاختلاف هو أن الباء من سبق في حديث:«لا سبق إلاّ في نصل أو خف أو حافر»هل هي مفتوحة أو ساكنة،فإن كانت مفتوحة فمعنى الحديث أن المال لا يبذل في المسابقة إلاّ بالخف و الحافر و النصل،و عليه تجوز المسابقة بغير هذه الثلاثة بلا مال و عوض،و ان كانت ساكنة فالحديث ينفي مشروعية المسابقة من الأساس بعوض كانت أو بغير عوض إلاّ في الثلاثة المنصوصة.قال صاحب الجواهر:«فتح الباء هو المشهور-فالحديث اذن-لا يدل إلاّ على عدم مشروعية بذل العوض في غير الثلاثة،فيبقى غيرها على أصل الجواز-أي المسابقة مع عدم العوض-و ان احتملنا الأمرين:فتح الباء و سكونها تسقط دلالة الحديث،و يبقى أصل الجواز».

و نحن على رأي صاحب الجواهر،حيث يرى جواز المسابقة بالمصارعة و بالطيور و السفن،و بالعدو،و رفع الأثقال،و بالكتابة،لمعرفة أي الخطين أجود، و ما إلى ذاك إذا لم تكن بعقد ملزم.و يجوز للسابق أن يأخذ المال من الدافع على سبيل الوعد،بحيث يجوز له الوفاء به،و العدول عنه لعدم الدليل على التحريم، و الأصل الجواز.

قال صاحب الجواهر ما نصه بالحرف:

«ان التحقيق هو الحرمة و عدم الصحة إن أريد إيجاد عقد السبق بذلك،إذ لا ريب في عدم مشروعيته بعوض أو بغير عوض (1)،و لو للأصل،فضلا عن

ص:234


1- لا يشرع مع العوض،لأنه قمار،و لا من غير عوض لانه ليس تمليكا لعين و لا لمنفعة،حتى يكون هبة أو عارية،أو ما أشبه،و ليس في الشريعة الإسلامية عقد خال من التمليك و التملك من سائر وجوهه.

النهي في حديث الحصر-و هو لا سبق إلاّ في نصل أو خف أو حافر-أما فعله لا على وجه كونه عقد سبق فالظاهر جوازه للأصل،و السيرة المستمرة على فعله في جميع الأعصار و الأمصار من العوام و العلماء،و ما روي من مصارعة الحسن و الحسين عليهما السّلام و مكاتبتهما،و التقاطهما حب قلادة أمهما.بل لا يبعد جواز العوض على ذلك،و الوعد به،مع استمرار الرضا،لا على أنّه عوض شرعي».

الأسلحة الحديثة:

و هنا سؤال يفرض نفسه،و هو أن الحديث الشريف أجاز المسابقة بالسهم و الخيل،و ما إليهما استعدادا لدفع العدو،و صده.و بديهة إن العدو لا يتسلح بالسهم،و لا يعتد بالخيل،اذن،لم يبق للأشياء التي نص عليها من موضوع،فهل تجوز المسابقة بالأسلحة الحديثة،كالرمي بالبندقية،و مسابقة السيارات و ما إليهما على عوض،أو أن باب المسابقة يجب إلغاؤه من الفقه كلية؟ و الجواب:ان قوله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (1)يشمل كل قوة ترهب العدو و تخيفه و تصده عن العدوان.و ليس من شك أن العدو لا يخاف إلاّ إذا تسلحنا بنوع سلاحه،أو أقوى منه و أمضى.

و بتعبير ثان انّه لا اعتبار بالحافر و الخف و النصل،و انما الاعتبار بالسلاح المعروف المتداول،و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انما ذكر هذه الثلاثة،لأنها السلاح المعروف دون غيرها في عصره.و ليس هذا اجتهادا منا في قبال النص،و انما هو اجتهاد صحيح و مركز في تفسير النص يتفق كل الاتفاق مع مقاصد الشريعة

ص:235


1- الأنفال:60. [1]

السمحة الغراء،تماما كالاجتهاد في تفسير قول الإمام عليه السّلام:«لا زكاة إلاّ بحديد»من أن المراد بالحديد الآلة الصلبة المحددة:نحاسا كانت أو فضة أو ذهبا أو حديدا أو فولاذا،و لو جمدنا على ظاهر النص لكانت الذبيحة بسكين النحاس أو الفضة ميتة لا يجوز أكلها،حتى و لو اجتمعت كل الشروط،و لا أحسب أحدا يقول بذلك.و بالإجمال أن الاجتهاد في تفسير النص جائز،كتفسير الحديد بالآلة الصلبة،حسبما ذكرنا،و الاجتهاد في قبال النص محرم،كتحليل أكل الميتة خنقا، و من غير ذبح.

الشروط:

لا بد من تراضي المتسابقين جميعا،و من العقل و البلوغ،و من تعيين المال الذي يبذل للسابق،عينا كان أو دينا.و يجوز أن يكون من المتسابقين فيقول كل لصاحبه:ان سبقتني أعطيتك عشرة،و ان يكون من أحدهما فقط،فيقول له:ان سبقتني فلك مني عشرة،و ان سبقتك فلا شيء لي عليك،و ان يكون من أجنبي و من بيت المال،فتخصص الحكومة مبلغا للمسابقة تشجيعا للشباب على التمرن للحرب،و أيضا يشترط تعيين المسافة ابتداء،و غاية.

و لا بد في الرمي من معرفة الهدف،و عدد السهام أو الطلقات،كعشرين- مثلا-و عدد الإصابات،كعشر منها،و ان تكون آلة الرمي من جنس واحد.و قد أوجب جماعة من الفقهاء وجود المحلل،أي الحكم بين المتسابقين،و هو الخبير الأمين الذي يميز السابق عن غيره إذا تنازع المشتركون في السباق.

ص:236

تنبيه:

إذا فسدت المسابقة لسبب من الأسباب،كجعل الخمر عوضا،أو كون العوض مجهولا فليس للسابق شيء إطلاقا،لا المسمى،و لا أجرة المثل،إذ المفروض أنّه لم يعمل شيئا لغيره،و لم تستوف منه آية منفعة.أما سبقه و غلبته فإنه يرجع إليه وحده،و من هنا قال أكثر من محقق عريق في الفقه:ان المسابقة ليست عقدا من العقود،حيث لا معاوضة فيها،و لا هي تمليك بلا عوض،و لا جعالة على عمل،لأن الغالب لم يعمل شيئا لأحد.فلم يبق إلاّ أن تكون المسابقة معاملة مستقلة برأسها لا تشبه شيئا من المعاملات،و لا يشبهها شيء.

ص:237

ص:238

الوكالة

اشارة

ص:239

ص:240

معناها:

الوكالة بفتح الواو و كسرها معناها في اللغة التفويض،و عند الفقهاء عقد يستنيب به الإنسان غيره عن نفسه في تصرف مملوك له في حياته،و يسمى المستنيب موكّلا،و المستناب وكيلا،و محل الوكالة موكلا به.و بعد تمام الوكالة يصبح تصرف الوكيل فيما وكل به نافذا على الموكل،تماما كما لو باشره بنفسه.

شرعيتها:

الوكالة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا،حتى يعلمه بالخروج منها،كما أعلمه بالدخول فيها.

و قال صاحب الجواهر:«لا ريب في مشروعية عقد الوكالة،بل لعله من ضرورة الدين،فلا حاجة إلى الاستدلال عليه».

في العقد و الوكيل و الموكل:

1- المشهور أن الوكالة من العقود،فيعتبر فيها الإيجاب و القبول

قال السيد اليزدي في ملحقات العروة أول باب الوكالة:«المشهور أن الوكالة من العقود،فيعتبر فيها الإيجاب و القبول،و يتحقق إيجابها بكل لفظ دال على الاستنابة،و قبولها بكل ما يدل على الرضا بذلك من قول أو

ص:241

فعل،بل إيجابها بالقول و الفعل و بالإشارة و الكتابة».

و قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لو قال رجل لآخر:هل وكلتني؟فقال:

نعم،أو أشار بالإجابة كفى».

2-أن يكون كل من الموكل و الوكيل عاقلا بالغا مختارا

،و أن لا يكون الموكل محجرا عليه لسفه أو فلس،لأن السفيه و المفلس ممنوعان من التصرف في أموالهما.أجل،لهما التوكيل،و ما إليه مما لا يدخل في التصرفات المالية.

و يجوز أن يكون كل من السفيه و المفلس وكيلا عن الغير،لأنهما ممنوعان من التصرف في أموالهما،لا في أموال الغير،و بتعبير صاحب الجواهر ان المحجر عليه لسفه أو فلس لا يجوز أن يباشر العمل لنفسه،لا أنّه لا يجوز له أن يباشره بنفسه،حتى و لو كان نيابة عن غيره.

3-إذا كان الوكيل محرما للحج،أو للعمرة فلا يجوز له أن يتوكل عن غير

المحرم

في بيع الصيد أو شرائه أو حفظه،و لا في عقد الزواج.

4-ذهب المشهور إلى أن الوكالة يجب أن تكون منجزة غير معلقة

،فإذا قال له:وكلتك ان فعلت كذا،أو ان جاء فلان من سفره،و ما إلى هذا بطلت الوكالة،حيث يشترط أن يكون المتعاقدان على يقين من ترتب الأثر على العقد.و التعليق مناف لليقين و الجزم.

و قد أبطلنا هذا الشرط في الجزء الثالث في فصل شروط العقد،فقرة «التعليق»و أثبتنا بالأرقام أن العقد يصح مع التعليق،و أنّه لا دليل على اعتبار الجزم به،و ان المعيار هو وجود الرضا،و ان الرضا بالمنشإ المعلق تماما كالرضا بالمنشإ المطلق.

و من الغريب ما جاء في مفتاح الكرامة،أول باب الوكالة أن الفقهاء حكموا

ص:242

بصحة الوكالة إذا قال:وكلتك،و شرطت عليك كذا،و ببطلانها إذا قال:وكلتك بشرط كذا،لأن الأول مطلق،و الثاني معلق.و أغرب من هذه التفرقة،و هذا التعليل نسبة ذلك إلى الضوابط الشرعية.و لا أحسب شارعا يقول بذلك،أيا كان نوعه.

محل الوكالة:

اشارة

يعتبر في محل الوكالة،و هو الشيء الموكل فيه ما يلي:

1-أن يكون مملوكا للموكل أصالة،أو ولاية،أو وصاية

،فلو وكل غيره في طلاق امرأة سينكحها،أو بيع عقار سيشتريه أو قبض دين سيستدينه،و ما أشبه لم يصح،لأنه لا يتمكن من فعل ذلك بنفسه فلا ينتظم فيه اقامة غيره.

2-أن يكون الشيء الموكل به معلوما،و لو بجهة من الجهات

،قال السيد اليزدي في الملحقات:

«يشترط في صحة الوكالة عدم الإيهام الموجب للغرر،فلو قال:وكلتك، و لم يبين في أي شيء بطلت الوكالة.و كذا لو قال:وكلتك في أمر من أموري،أو في شيء من أموالي.نعم،لو قال:وكلتك في بيع داري،أو بستاني صح و لا يضر الترديد».

يريد بهذا أن الشيء المبهم من جميع جهاته لا يصح أن يكون محلا للوكالة،أما إذا كان مبينا من جهة،و مجهولا من جهة فلا بأس.

و الحق ان المحكم في ذلك هو العرف،فكل وكالة يراها صحيحة فهي صحيحة شرعا،لأن إطلاق أدلة الوكالة تشملها.

ص:243

3-هل الأصل جواز التوكيل في كل شيء إلاّ ما خرج بالدليل

،بحيث إذا وكل انسان غيره في شيء نحكم بالصحة بمجرد التوكيل دون توقف على دليل خاص،بل الحكم بالبطلان يحتاج إلى نص،أو أن الأصل بطلان الوكالة و عدم صحتها في كل شيء إلاّ ما خرج بالدليل،فمن وكل في شيء فلا نحكم بصحة الوكالة إلاّ إذا ثبت النص على صحتها بالخصوص؟ قال صاحب الجواهر:«يستفاد من كلام الفقهاء أن الأصل جواز الوكالة في كل شيء-ثم قال-و يكفي في إثبات ذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام في صحيح ابن سالم:ان الوكيل إذا وكل،ثم قام عن المجلس،فأمره ماض أبدا،و الوكالة ثابتة، و قوله في الصحيحين أيضا:من وكل رجلا عن إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا.فان قوله هذا يتناول كل مورد من الموارد التي تعلقت به الوكالة».

عقد الوكالة جائز:

عقد الوكالة جائز من الجانبين،فللوكيل أن يعزل نفسه،و لو لم يعلم الموكل،و للموكل أن يعزل الوكيل،و لكنه لا ينعزل،و يبقى تصرفه على النفوذ، حتى يبلغه العزل،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:كل من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا،حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها،قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك.

أجل،ذهب المشهور بشهادة صاحب الملحقات إلى أن الوكالة تصير لازمة إذا أخذت شرطا في ضمن عقد لازم،كما لو باعه شيئا،و اشترط عليه أن يكون وكيلا من قبله في شيء معين،فيصبح وكيلا بمجرد انعقاد العقد،و ليس له أن يعزله،و هذا من باب شرط النتيجة،و هي الأثر المترتب على العقد:و يسمى

ص:244

«التزام في ضمن التزام».أما لو اشترط أن يقيمه وكيلا،أي يجري معه عقد الوكالة ففعل،فان له،و الحال هذي،أن يعزله بعد التوكيل إلاّ إذا اشترط عليه عدم العزل، فيجب عليه الوفاء بالشرط،لحديث«المؤمنون عند شروطهم».

أقسام الوكالة:

تنقسم الوكالة باعتبار محلها و متعلقها إلى عامة،و خاصة،و مثال العامة أن يقول له:أنت وكيلي في كل شيء،فتشمل البيع و الشراء و الإيجار و الهبة و الرهن و المرافعة و التزويج،بل و التطليق،و ما إلى ذلك مما يخص الموكل،و تجوز فيه النيابة.

و الخاصة:أن يقول له:أنت وكيلي في بيع داري،أو تزويجي،و ما أشبه ذلك.و تنقسم الخاصة إلى مطلقة،كقوله:بع داري،و لم يحدد الثمن،و إلى مقيدة،كبعه بألف،و هذه الأقسام صحيحة بكاملها.

وظيفة الوكيل:

على الوكيل أن يحرص بدقة على مصلحة الموكل،و ان لا يتعدى في تصرفه محل الوكالة،فإن فعل كان فضوليا.أجل،إذا دلت القرينة الحالية على التجاوز صح،و نفذ فعله،كما لو قال له الموكل:بع داري بألف،فباعها بألف و مائة،لأن المفهوم هو النهي عن بيعها بالأقل،لا بالأكثر،أو قال له:اشتر لي دار فلان بألف،فاشتراها بتسع مائة،حيث يفهم النهي عن الشراء بالأكثر،لا بالأقل، و إذا أطلق و لم يعين،كما لو قال له:بع داري،أو اشتر لي دارا وجب على الوكيل مراعاة مصلحة الموكل من عدم البيع،أو الشراء بأكثر من ثمن المثل.

ص:245

و ليس للوكيل أن يوكل غيره إلاّ بتصريح خاص من الموكل،أو بإذن عام، كما لو قال له:فوضت الأمر إليك،فافعل ما شئت.

و لا يجب على الوكيل تسمية الموكل في المعاملات إلاّ في عقد الزواج، لأن الزوجين كالعوضين في البيع لا بد من ذكرهما صراحة.و لو اشترى الوكيل شيئا للموكل في ذمته وجب عليه أن يقصد الموكل بالذات،لأن ما في الذمة لا يتعين إلاّ بالقصد،أما إذا باع الوكيل عينا من أموال موكله فيصح البيع،و يقع للموكل،حتى و لو قصد غيره،لأن البيع يحصل في الواقع لمن يملك العين، و القصد لا يغير الواقع عن واقعه.

و أجمعوا على أن التوكيل في الخصومة لا يشترط فيه رضا الخصم،و أيضا أجمعوا بشهادة صاحب التذكرة على أن الوكيل في الخصومة ليس له أن يقر عن الموكل،أو يصالح،أو يبرئ إلاّ بإذن خاص من الموكل.قال صاحب القواعد، و صاحب مفتاح الكرامة:«ان التوكيل في الخصومة ليس إذنا في الإقرار،و لا الصلح،و لا الإبراء،لعدم دلالة التوكيل على شيء من ذلك،فان وكيل المدعي يملك اقامة الدعوى،و تقديم البينة،و تعديلها،و تحليف الخصم،و طلب الحكم من القاضي على الغريم،و كل ما هو وسيلة لإثبات الحكم،أما وكيل المدعى عليه فيملك الإنكار و الطعن بالشهود.و السعي ما أمكن»أي ما أمكن لرد الدعوى.

و أيضا إطلاق التوكيل في الخصومة ليس إذنا بقبض الحق من الخصم بعد ثبوته،كما أن إطلاق التوكيل في البيع ليس إذنا بقبض الثمن،و لا إطلاق الشراء إذنا بقبض المبيع،لأن الإنسان قد يرى في شخص أهلية المخاصمة،و اجراء المعاملات،و لا يراه أمينا على المال،و بالعكس،قد يراه أمينا على المال غير أهل للخصومة و المعاملات.

ص:246

تعدد الوكلاء:

اشارة

يجوز تعدد الوكلاء في تصرف واحد،أما نفاذ تصرفهم مجتمعين أو منفردين فيقتضي التفصيل التالي:

1-أن يوكل اثنين أو أكثر في شيء واحد

،و يشترط اجتماعهما معا في الرأي، بحيث لا ينفذ تصرف أحدهما دون موافقة الآخر،و عليه فإذا انفرد في التصرف يكون تصرفه لغوا،و إذا مات أحدهما،أو عزل نفسه،أو عزله الموكل تبطل وكالة الآخر،لأن الوكالة مركبة من إرادتهما معا،و المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه.

2-أن يطلق إرادة أحدهما في التصرف،و لا يقيده بإرادة الثاني

،و لكنه يشترط على الثاني أن يتقيد بإرادة الأول،و عليه ينفذ تصرف الأول منفردا،و لا ينفذ تصرف الثاني إلاّ منضما،و هذا الوكيل يسمى وكيلا بالضميمة،و إذا مات الثاني لا تبطل وكالة الأول،أما إذا مات الأول فتبطل وكالة الثاني.

3-ان يصرح الموكل باستقلال كل منهما في التصرف

،و عليه ينفذ تصرفه مطلقا،حتى مع معارضة الآخر.و إذا تصرف كل واحد تصرفا يتنافى مع تصرف الآخر،كما لو كانا وكيلين في بيع عقار،فباعه أحدهما من زيد، و باعه الآخر من عمرو،إذا كان كذلك نفذ البيع السابق،و بطل اللاحق و إذا وقعا في آن واحد بطلا معا.

4-أن يطلق لهما الوكالة

،و لا يبين:هل هي على سبيل الاستقلال،أو الانضمام،كما لو قال:وكلتكما في كذا،أو أنتما وكيلاي في كذا،و الوكالة هنا تحمل على الانضمام،تماما كما لو اشترط اجتماعهما معا.

ص:247

أحكام الوكالة:

1-الوكيل أمين لا يضمن إلاّ بالتعدي أو التفريط

،قال صاحب الجواهر:

«لا خلاف بين المسلمين،و لا إشكال في ذلك،سواء أ كانت الوكالة بجعل- أي بأجرة-أو بغير جعل،لأن الوكيل أمين كغيره من الأمناء الذين قام الدليل على عدم ضمانهم من النص و الإجماع».

و بالمناسبة نذكر رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام،لأن فيها عبرة و عظة،قال محمد بن مرازم:«شهدت الإمام الصادق عليه السّلام،و هو يحاسب وكيلا له،و الوكيل يكثر من قول:و اللّه ما خنت،فقال الإمام عليه السّلام:يا هذا،خيانتك و تضييعك عليّ سواء،الا ان الخيانة شرها عليك،ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:لو أن أحدكم فر من رزقه تبعه،حتى يدركه،كما أنّه ان هرب من أجله تبعه،حتى يدركه،و من خان خيانة حسبت عليه من رزقه،و كتب عليه وزرها».

2-إذا تعدى أو فرط الوكيل يضمن،و لكن وكالته لا تبطل

،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،لعدم التنافي بين الضمان بسبب شرعي،و بين بقاء الوكالة».

3-كل معاملة يتجاوز فيها الوكيل محل الوكالة تقع فضالة عن الموكل

،و تلزم بإجازته،و تلغى مع عدمها.

انتهاء الوكالة:

تنتهي الوكالة بالأمور التالية:

1-إتمام العمل الموكل به.

ص:248

2-موت كل من الوكيل و الموكل،لأن شخصيتهما موضع الاعتبار في الوكالة.

3-الجنون و الإغماء من كل منهما،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،بل في المسالك هو موضع وفاق».

4-إذا حجر على الموكل فيما وكل فيه بعد الوكالة،لأن الوكيل فرع عن الأصيل،فإذا سقط الأصل تبعه الفرع.

5-أن يعزل الموكل الوكيل،و لكنه لا ينعزل إلاّ بعد علمه بالعزل،فكل تصرف يأتي به بعد العزل و قبل العلم-فهو نافذ على الموكل.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل وكل آخر في أمر من الأمور،و اشهد له بذلك شاهدين، و لما خرج الوكيل لإمضاء الأمر قال الموكل:اشهدوا أني عزلته عن الوكالة؟فقال الإمام عليه السّلام:ان كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل فيه قبل العزل فإن الأمر ماض على ما أمضاه الوكيل،كره الموكل،أم رضي.قال السائل:ان الوكيل قد أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل،أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة،فهل الأمر على ما أمضاه؟قال الإمام عليه السّلام:نعم.

6-أن يعزل الوكيل نفسه،علم الموكل،أو لم يعلم.

7-أن يتصرف الموكل في محل الوكالة قبل أن يتصرف الوكيل.

8-أن يهلك الشيء الموكل به.

9-إذا وكله بشرط أن يكون عادلا فظهر فاسقا تبطل الوكالة من الأساس، و إذا طرأ الفسق بعد العدالة و الوكالة تزول الوكالة بمجرد حدوث الفسق.

ص:249

طرق إثبات الوكالة:

تثبت الوكالة بالطرق التالية:

1-إقرار الموكل.

2-الكتابة المفيدة للعلم،و منها الصك المنظم عند كاتب العدل و غيره من الدوائر الرسمية.

3-شهادة عدلين.و لا تثبت بشاهد و امرأتين،و لا بشاهد و يمين،لأن الوكالة من حيث هي ليست من الحقوق المالية.أجل،تثبت الأجرة على الوكالة بذلك،لأنها من الحقوق المالية.

و إذا اختلفت شهادة الشاهدين في الزمان و المكان ينظر:فان شهدا بالإقرار،لا بإنشاء الوكالة،فقال أحدهما:أقر زيد يوم الجمعة أن عمرا وكيله، و قال الآخر:أقر بذلك أمامي يوم السبت قبلت الشهادة،لأن الاختلاف في زمان الإقرار،أو مكانه لا يستدعي الاختلاف في صدور الوكالة.

و إذا شهدا بإنشاء الوكالة،فقال أحدهما:وكله يوم الجمعة،و قال الآخر:

بل وكله يوم السبت تسقط الشهادة عن الاعتبار،لعدم توافق قول الشاهدين على معنى واحد،و يأتي التفصيل في باب الشهادات ان شاء اللّه.

و لا تثبت الوكالة بموافقة الطرف المقابل في المعاملة،أو في الخصومة لأن إقراره حجة على نفسه،لا على الموكل.

مسائل:

1-على الوكيل أن يسلم ما في يده من مال الموكل إليه عند طلبه

،كما هو

ص:250

الشأن في كل من وضع يده على مال الغير بإذن،أو من غير اذن.و إذا أخر لغير عذر ضمن،حتى و لو تلفت العين بآفة سماوية.

2-إذا وكله في بيع شيء أو شرائه،فترك الوكيل و أهمل يأثم فقط،و لا

يضمن

،تماما كما لو أنكر الوكالة،و هو كاذب في إنكاره.

أجل،لو كان إهمال الوكيل سببا لهلاك الشيء الموكل به عند العرف يكون ضامنا،كما لو كان لإنسان محفظة و ما إليها في عرض الطريق العامة،و وكله في إيصالها إلى البيت،و بعد أن قبل و رضي بذلك تركها و مضى.

و إذا اشترى الشيء الذي وكل بشرائه،و وجد سبب من أسباب الخيار فعليه أن يراعي مصلحة الموكل بكل دقة في الفسخ و الإمضاء،فإن اقتضت مصلحته الفسخ،و لم يفسخ أثم،و لا ضمان عليه،تماما كما لو وكله بالفسخ و لم يفسخ،أو بالبيع،و لم يبع.و ان اقتضت مصلحة الموكل إمضاء الشراء ففسخ فعليه الضمان، لأنه قد أتى بفعل يضر بالموكل،و هو في الوقت نفسه منهي عما أتى به.

3-إذا وكله ان يودع عينا من أمواله عند شخص معين،فقال الوكيل:

أودعتها.و أنكر الشخص ذلك،و حلف

،فهل يضمن الوكيل بالنظر إلى إهماله بعدم الاشهاد على الإيداع؟ اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر«على أنّه لا يضمن ضرورة عدم كون ذلك تفريطا في نظر العرف خصوصا في الوديعة المبنية على الخفاء».

و إذا وكله بوفاء دينه،فقال الوكيل:وفيت.و قال الدائن:كلا،فهل يضمن الوكيل،لتركه الاشهاد على الوفاء؟ قال جماعة من الفقهاء:يضمن،و قال آخرون،منهم صاحب الجواهر، و السيد اليزدي في الملحقات،و السيد الأصفهاني في الوسيلة،قالوا:لا يضمن،

ص:251

لعدم صدق التفريط،و مع الشك في أنّه يضمن أو لا؟يحكّم أصل عدم الضمان، هذا،مع العلم بأنّه لا يجب الاشهاد على الإيداع،و لا على الوفاء.

4-قال صاحب ملحقات العروة:

«لا يشترط في الوكيل العدالة،و لا الإسلام

،فيجوز توكيل الفاسق.و كذا يجوز توكيل الكافر،حتى في تزويج المسلم.بل يجوز توكيل المرتد بقسميه- أي الفطري و الملي-لعدم كونه مسلوب العبارة،و لا ينافيه وجوب قتل الفطري- ثم قال في مكان آخر من باب الوكالة-لا بأس للمالك أن يوكل غير الأمين فيما يتعلق بمال نفسه،لا في مال غيره،مثل مال القاصر و الوقف،و نحو ذلك،لأنه مسلط على ماله،لا على مال الغير».

5-إذا اتفق الطرفان على اجرة الوكيل،أو على عدمها

تعين العمل بالاتفاق،و إذا لم يتعرضا لها سلبا و لا إيجابا فللوكيل اجرة المثل إذا لم ينو التبرع، لأن من دعا غيره إلى عمل،و لم يشترط المجان،و لم يكن العامل متبرعا-فعلى من استوفى العمل اجرة المثل،مع عدم التسمية.

التنازع:

1-إذا اختلفا في أصل الوكالة و صدورها فالقول قول المنكر بيمينه

،سواء أ كان المنكر هو المالك،أو غيره،لأن الأصل عدم الوكالة،حتى يثبت العكس.

2-إذا قال الوكيل:تلفت العين من غير تعد،أو تفريط،فأنكر الأصيل

التلف،أو اعترف به

.و لكن ادعى تعدي الوكيل،أو تفريطه فالقول قول الوكيل، لأنه أمين،و ما على الأمين إلاّ اليمين.

3- الوكيل إذا قال للموكل:أرجعت إليك المال الذي كان في يدي من أجل الوكالة،و أنكر الموكل

ذهب المشهور بشهادة صاحب الشرائع و الملحقات إلى أن الوكيل إذا

ص:252

قال للموكل:أرجعت إليك المال الذي كان في يدي من أجل الوكالة،و أنكر الموكل ذلك ينظر:فان كانت الوكالة بأجرة فالقول قول الموكل،لأن الوكيل مدع، و قد قبض لمصلحة نفسه.و ان كانت الوكالة بلا أجرة فالقول قول الوكيل،لأنه محسن قبض لمصلحة الموكل.

و قال جماعة من الفقهاء القول قول الموكل إطلاقا،لأن كل من كان في يده مال لغيره فعليه أن يثبت إيصاله بالبينة إلاّ ما خرج بالدليل،كالوديعة التي تقدم الكلام عنها (1).

4-إذا وكل في شيء،كالبيع أو الشراء،و ما إليهما،فقال الوكيل:بعت أو

اشتريت

كما نصت الوكالة،و أنكر الموكل البيع أو الشراء،و زعم أن الوكيل لم يفعل شيئا مما وكل به فالقول قول الوكيل ما دامت الوكالة قائمة،لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به.

5-إذا ادعى الوكالة عن رجل في تزويج امرأة،و أجرى العقد بمهر معين،

فأنكر الرجل التوكيل

،و لا بينة تثبت الوكالة-كان القول قول المنكر بيمينه، و للمرأة أن تتزوج بمن تشاء،مع عدم علمها بصدق المدعي،و على مدعي الوكالة أن يدفع لها نصف المهر،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قال لآخر:

اخطب لي فلانة،و ما فعلت من شيء و قاولت من صداق و شرطت فذاك رضاي و لازم لي،و لم يشهد،فذهب و خطب،و بذل عنه الصداق،ثم أنكر الرجل ذلك كله؟قال الإمام عليه السّلام:«يغرم-أي مدعي الوكالة-نصف المهر».

ص:253


1- من طريف ما قرأت،و أنا أتتبع مصادر هذه المسألة أن صاحب مفتاح الكرامة نقل كلاما لصاحب الحدائق حول المسألة بالذات،و بعد أن رده صاحب المفتاح بما رآه تمثل بهذا البيت: و ابن اللبون إذا ما لزّ في قرن لم يستطع وصولة البزل القناعيس
6-إذا اتفقا على أصل الوكالة،و اختلفا على محلها

،فقال الوكيل:وكلتني ببيع البستان،و قال المالك:بل ببيع الدار-حلف الموكل على نفي الوكالة ببيع البستان،و تكون النتيجة نفي الوكالة عن البستان و الدار معا:عن البستان،ليمين الموكل،و عن الدار لإنكار الوكيل.

7- الوكيل إذا ادعى الاذن من الموكل بالبيع بثمن معين،أو الشراء له بثمن معين،و أنكر الموكل

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن الوكيل إذا ادعى الاذن من الموكل بالبيع بثمن معين،أو الشراء له بثمن معين،و أنكر الموكل ذلك القدر كان القول قول الموكل،لأنه أعرف بفعله و مقاصده،و لأن الأصل عدم صدور التوكيل على الوجه الذي يدعيه الوكيل.و بكلمة ان الاختلاف في صفة الوكالة يرجع في الحقيقة إلى الاختلاف في أصل صدورها،و أنّه هل وكله على ثمن معين،أو لا؟و الأصل عدم صدور الوكالة على الثمن الذي ذكره الوكيل.

ص:254

الإجارة

اشارة

ص:255

ص:256

معناها:

الأجر و الأجرة بمعنى واحد لغة و عرفا،كلاهما يعبران عن الجزاء و العوض عن قول أو فعل،أو عن منفعة بيت،أو حانوت أو دابة،أو سيارة،أو ثوب و ما إلى ذلك.

أما الإجارة فمعناها لغة الكراء،و قريب منه المعنى الشرعي،حيث حدد الفقهاء الإجارة بأنّها ما شرعت لتمليك منفعة معلومة بعوض معلوم.

و بقيد المنفعة يخرج البيع،لأنه تمليك العين،و بقيد العوض،تخرج الهبة و الوصية لأنهما بغير عوض.

و تجدر الإشارة-هنا-إلى الفرق بين ملك المنفعة،و حق الانتفاع،فإن ملك المنفعة تختص بالمستأجر وحده،و لا يشاركه فيها أحد،أما حق الانتفاع فهو مجرد الترخيص بالتصرف لجهة معينة،كالمرور في الأسواق و الطرقات، و الجلوس في المساجد و الحدائق العامة،و السباحة في البحار و الأنهار،و ما إلى ذلك مما خصص للمصالح و المنافع العامة.

مشروعية الإجارة:

مشروعية الإجارة،تماما كمشروعية البيع و الزواج لا تحتاج إلى دليل،لأنها من الضرورات التي ليست محلا للاجتهاد و التقليد،و مع ذلك نذكر بعض الآيات

ص:257

للتبرك و التيمن،من ذلك الآية التي أحلت المتعة صراحة،و هي قوله تعالى:

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (1).و منها آية الرضاع فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (2).أما الآية 32 من سورة الزخرف وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ،أما هذه الآية فقد جاء في تفسيرها أن معنى«سخريا»أن يستسخر بعض الناس البعض الآخر لقاء أجر معين.

و ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن من الأفضل للإنسان أن يمارس الأعمال الحرة،كالتجارة و ما إليه،و لا يؤجر نفسه لغيره،لأن الإجارة فيها تحديد للرزق.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:من أجر نفسه فقد خطر على نفسه الرزق،و كيف لا يخطره،و ما أصابه فيه فهو لربه الذي أجره.أي ما استفاده من ناتج عمله فقد أعطاه لغيره.و في رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:لا يؤاجر الإنسان نفسه،و لكن يسترزق اللّه عزّ و جلّ،و يتجر،فإذا أجر نفسه فقد خطر-أي منع الرزق عن نفسه.

و ليس من شك أن كراهية إيجار الإنسان نفسه ترتفع إذا اضطر لذلك،و لم يجد وسيلة للرزق إلاّ به،فقد أجر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه ليهودي حين هاجر مع الرسول إلى المدينة،و أبى أن يكون عالة على غيره.

و للإجارة أركان و شروط نذكرها تحت هذا العنوان:

الشروط:

1-العقد

،و يتحقق بكل ما دل على الرضا من الجانبين قولا و فعلا،إيجابا

ص:258


1- النساء:24. [1]
2- الطلاق:6. [2]

و قبولا.

و قال بعض الفقهاء:لا تنعقد الإجارة إلاّ بلفظ خاص،لأنها من العقود اللازمة.و يكفي في ردّ هذا القول أنّه زعم بلا دليل.

2-أن يكون كل من المؤجر و المستأجر بالغا عاقلا رشيدا

،غير محجر عليه لسفه أو فلس،لأن الصغير و المجنون و السفيه و المفلس ممنوعون من التصرفات المالية بشتى أنواعها،تماما كما هو الشأن في البيع.أجل.،يجوز للمفلس أن يؤجر نفسه،لأنه ممنوع من التصرف في أمواله،لا في نفسه.

3-أن تكون العين المستأجرة معلومة لدى الطرفين

،و كذا الجهة التي يستوفيها المستأجر،كسكنى الدار،و زراعة الأرض،و ان تكون المنفعة حلالا و مملوكة للمؤجر،و داخلة تحت قدرته و تصرفه،و ان تستوفي المنفعة مع بقاء العين.فلا تصح اجارة المجهول عينا أو منفعة لمكان الغرر،و لا لغاية محرمة، كإجارة البيت للدعارة أو المقامرة،و لا اجارة مال الغير إلاّ إذا جاز،و لا اجارة ما لا يقدر المالك على تسليمه،كالمال المغصوب،إلاّ إذا كان المستأجر أقوى من الغاصب بحيث يستطيع انتزاعه منه،و لا تصح اجارة الخبز و الفاكهة،و ما إليهما مما لا ينتفع به إلاّ بهلاك عينه.

4-أن تكون العين المستأجرة قابلة للمنفعة التي استؤجرت من أجلها

، فلو أجره أرضا للزراعة دون أن تصلح لها،لعدم إمكان إيصال الماء إليها،أو نحو ذلك-تبطل الإجارة،لأنها أكل للمال بالباطل.

5-تصح إجارة حصة مشاعة من عين معينة

،تماما كما تصح اجارة المقسوم،لإطلاق أدلة الإجارة الشاملة لهما معا،و مجرد الشركة لا توجب المنع، و لا تقيد الأدلة.

ص:259

6-إذا استؤجر الطبيب لقلع ضرس مريض،أو قطع إصبع متأكلة،ثم زال

المرض قبل القلع و القطع

انفسخت الإجارة،أما إذا استؤجر على قطع ضرس صحيح،أو قطع يد سليمة فالإجارة باطلة من الأساس،لمكان الضرر،لأن العقل كما يحكم بقبح الظلم،و الكذب المضر يحكم أيضا بقبح إيلام النفس و إدخال الضرر عليها.

الإجارة عقد زمني:

الإجارة عقد زمني لا بد فيها من قياس المنفعة،و تقديرها بالزمن،و حيث لم يرد النص في الحد الأقصى و لا الحد الأدنى في مدّة الإجارة فيترك التحديد قلة و كثرة لإرادة المتعاقدين على شريطة أن تتسع المدّة للعمل،و ان تبقى العين بعد استثمار منفعتها.قال صاحب التذكرة:«يجوز أن يستأجر لحظة واحدة بشرط الضبط،و مائة ألف سنة-ثم فسر قوله هذا-بأنه يجوز اجارة العين مدّة تبقى فيها، و ان كثرت بشرط الضبط،و هو قول علمائنا أجمع».

فمثل سكنى الدار،و زراعة الأرض تقدر بالأيام و الأشهر و السنين لأن الزمن جزء من المنفعة،و لا قوام لها إلاّ به،أما استئجار الدابة أو السيارة إلى بلد معين فيجب تعيين المكان و الزمن الذي يباشر فيه السفر،و إرجاع العين المستأجرة إلى صاحبها،أما الاستئجار على خياطة البدلة أو صبغها،و نحو ذلك فيكفي ذكر الوقت الذي ينتهي فيه العمل،و إرجاع الثوب إلى مالكه دون ذكر الابتداء بالعمل على ما هو المعروف المألوف.و إذا قال له:خط لي هذا الثوب، و لم يذكر المدة حمل على المتعارف بين الناس،فإن لم يكن عرف يعين المدّة بأسبوع أو أكثر أو أقل فيحمل على التعجيل ما أمكن.

ص:260

الإيجار كل شهر بكذا:

ما هو حكم الشرع في الإيجار الشائع،مثل أجرتك هذا البيت،أو الحانوت كل شهر بكذا،بحيث تكون المنفعة و الأجرة و ابتداء الإجارة كل ذلك معلوم،و لم يجهل إلاّ انتهاء الإجارة فقط؟ قال جماعة من الفقهاء ببطلان الإجارة،حيث أوجبوا العلم بزمن الإجارة بداية و نهاية،و قال آخرون:تصح الإجارة في الشهر الأول،و تبطل فيما بعده، و يثبت على المستأجر أجرة المثل.و جاء في كتاب الجواهر باب الإجارة،و الجزء السابع من مفتاح الكرامة ص 112 طبعة 1336 ه:«في كتاب الخلاف للشيخ، و الغنية لابن زهرة:إذا قال:أجرتك هذه الدار كل شهر بكذا كانت الإجارة صحيحة،و المنع يحتاج إلى دليل،و ان لم يعين آخر المدة.و عن ابن الجنيد أنّه قال:لا بأس أن يستأجر الدار كل شهر بكذا،و كل يوم بكذا،و لا يذكر نهاية الإجارة».

و نحن على هذا الرأي،و من القائلين بالجواز،لأن العقد تام في نظر العرف،فيشمله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.و لا يستلزم ذلك أي محذور،فإن الأجرة معلومة،و جهة المنفعة معلومة،و مجرد الجهل بنهاية الإجارة لا يستلزم بطلانها،فليس كل جهل موجب للبطلان أو مؤد للضرر.و قد رأينا العرف يتسامح في مثل ذلك،و يكتفي بالعلم بجزء معلوم من الأجرة مقابل جزء معلوم من العمل.مثل أن يقول المالك للعامل:انقل هذه الأكياس،و لك كذا عن كل كيس،أو هذه الأحجار،و لك عن كل حجر درهم،و ما إلى ذاك فان مثل هذا شائع و معروف مع جهلهم بعدد الأكياس و الأحجار،و مجموع الأجرة

ص:261

عليهما (1).

و نقل صاحب الحدائق عن المحقق الأردبيلي و عن صاحب الكفاية الميل إلى صحة الإجارة إذا قال:آجرتك كل شهر بكذا،ثم قال صاحب الحدائق:و هو جيد.

سؤال ثان:إذا قال له:أجرتك الدار،و الحانوت كل شهر بكذا فمتى تنتهي الإجارة؟و في أي وقت يجوز للمالك،أو للمستأجر أن يفسخ الإيجار،و ينهي مدته؟مع العلم بأن الإجارة من العقود اللازمة التي لا تفسخ قبل انتهاء مدتها إلاّ بإرادة المتعاقدين؟ الجواب:نقل صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة عن السيد ابن زهرة أنّه أجاب عن ذلك بأن أجرة الشهر تستحق بالدخول فيه،و لا يجوز للمستأجر و لا للمؤجر الفسخ حتى ينقضي الشهر،فإذا انقضى الشهر جاز الفسخ.و مهما يكن،فإن الذين قالوا ببطلان الإجارة إذا لم يعين نهايتها قالوا جميعا:ان ذلك يصح إذا قصد الجعالة،أو الإباحة بعوض،حيث يتحملان من الجعالة ما لا تتحمله الإجارة،و سنذكر في الفصل الآتي الفرق بين الإجارة و الجعالة عند الفقهاء،و ان المستأجر يملك المنفعة في الإجارة،و عليه أن يدفع عوضها على كل حال،حتى و لو لم يستوفيها،أما الجعالة،فإن العوض لا يدفع إلاّ مع الاستيفاء.

الإجارة و القانون:

من المعلوم أن قانون الحكومات في هذا العصر يمنع المالك من إخراج

ص:262


1- ربما يجاب عن هذا،و أمثاله بأنه من باب الجعالة لا الإجارة.و الذي نعتقده أن العرف لا يفرقون بين الجعالة و الإجارة،و يأتي الكلام عن الجعالة مفصلا في الفصل التالي ان شاء اللّه.

المستأجر من ملكه بعد انتهاء أمد الإجارة المتفق عليها بين المؤجر و المستأجر و أيضا يمنعه من زيادة الأجرة.بل ان قانون الإيجار كثيرا ما يعدّل،و يفرض نقصان الأجرة على المؤجر رغم الاتفاق بينه و بين المستأجر على المبلغ المعين.

فهل يجوز للمستأجر العمل بقانون الحكومة،و ان لم يرض المالك؟ ثم ما هو حكم المال الذي يأخذه مستأجر الدكان من المستأجر الثاني، و المعروف عندنا في لبنان باسم الخلوّ،و في العراق باسم«سر القفلية»:هل هو حلال أم حرام؟ و لا بد في الجواب من التفصيل بين جهل المالك بالقانون حين الإيجار، و بين علمه به،فإن أجّر الدار-مثلا-قبل أن تصدر الحكومة قانون الإيجار،أو بعده،و لكنه كان جاهلا به حين أوقع الإجارة مع المستأجر،ان كان كذلك فإن الإيجار ينتهي بانتهاء أمده،و لا يحل للمستأجر العمل بقانون الحكومة،بل يكون حكمه حكم الغاصب إذا سكن و تصرف من غير اذن المالك.

و ان أجر المالك مع علمه بقانون الإيجار،و أنّه لا يحق له أن يخرج المستأجر،حتى و لو انتهت المدّة المضروبة بينه و بين المستأجر،و يعلم أيضا أنّه لا يستطيع زيادة الأجرة مهما ارتفع سعر الإيجار،و ان عليه أن يتقبل كل ما تفرضه الحكومة،ان كان الأمر كذلك يكون الإيجار صحيحا على شرط الحكومة،لأنه قد أقدم عليه بإرادته و اختياره،و يكون ذلك شرطا ضمنيا،أو بمنزلته،تماما كما لو قال المستأجر للمؤجر:استأجرت منك الدار على شرط الحكومة،و على النص الموجود في قانون الإيجار،و قبل المؤجر بذلك.و أي مانع في أن يقول المالك للمستأجر:أجرتك الدار كل سنة بكذا مدّة حياتك،كما يقول له:أسكنتك إياها مدّة حياتك،حيث اجمع الفقهاء على صحة ذلك كما يأتي في باب السكنى

ص:263

و العمرى.بل،يصح أن يقول له:آجرتك إياها كل سنة بكذا على أن يكون انتهاء الإيجار بيدك،ما دام كل من المنفعة و الأجرة،و ابتداء الإيجار معلوما،و مجرد الجهل بنهاية الأجرة لا يستدعي بطلان الإجارة،كما سبق في فقرة«الإيجار كل شهر بكذا».أجل،إذا قال المؤجر للمستأجر:لست أرضى بقانون الحكومة بحال،و انما اجري معك الإيجار على ما يجري بيننا من الاتفاق،بحيث إذا انتهت المدّة المعينة للايجار فعليك تسليم العين المستأجرة،إذا كان الأمر كذلك وجب على المستأجر التقيد بالاتفاق،و لا يجوز له الأخذ و العمل بقانون الحكومة.

و مثل ذلك تماما حكم الخلو الذي يأخذه مستأجر الدكان من المستأجر الثاني،فإن أجر المالك،و هو على علم بذلك جاز الإيجار للثاني و أخذ الخلو منه،لأن إقدامه على ذلك مع علمه بمنزلة الشرط الضمني.هذا،إلى أنّه قد جرت العادة في هذه الأيام أن يأخذ صاحب الدكان خلوا من المستأجر الأول غير الأجرة المتفق عليها لقاء الخلو الذي يأخذه المستأجر الأول من الثاني.و جاء عن الإمام عليه السّلام رواية تشير إلى جواز أخذ الخلو،فقد سئل عن الرجل يرشو الرشوة على ان يتحول عن منزله فيسكنه؟قال:لا بأس به.

و على جميع الأحوال لا يجوز أن يؤجر المستأجر غيره بخلو أو غير خلو، إذا انتهت مدّة إجارته،و كان المالك جاهلا بالقانون عند الإيجار أو كان عالما، و لكنه اشترط على المستأجر أن لا يؤجر غيره.و بكلمة إذا ذكر الشرط صراحة في متن العقد يجب العمل به،و لا ينظر إلى غيره إطلاقا،حتى و لو كان المالك عالما بقانون الإيجار،و مع عدم الشرط ينظر:فإن كان المالك عالما بقانون الإيجار.و أجر،و هو على يقين بأنه سيطبق عليه ألزم به،و ان كان جاهلا بالقانون حين الإيجار فعلى المستأجر أن لا يتصرف إلاّ بإذن المالك و موافقته،و لا يطبق

ص:264

عليه قانون الإيجار بحال.

المرأة الموظفة:

ذكر السيد اليزدي في العروة الوثقى،و السيد الحكيم في المستمسك أن المرأة إذا أجرت نفسها للخدمة مدّة معينة،ثم تزوجت قبل انقضاء المدّة لم تبطل الإجارة،حتى و لو كانت الخدمة منافية لاستمتاع الزوج و حقوقه الزوجية، و لا فرق في ذلك بين أن يكون الزوج عالما بالإيجار حين الزواج أو جاهلا.

و السبب لذلك أنّه قد وجد حقان:حق الخدمة،و حق الزوج،فإن تمكنت الزوجة من القيام بهما معا فذاك،و ان تزاحم الحقان،بحيث لا يمكن الجمع بينهما قدم الحق الأسبق،و هو هنا الخدمة،لأنه إذا تزاحمت الحقوق الشرعية يكون الترجيح للسابق.و عليه فليس للزوج أن يعترض أو يفسخ الإجارة،أو يعتبر الزوجة ناشزة.أجل،إذا أجرت نفسها بعد التزويج ينظر:فإن كانت الإجارة تزاحم حق الزوج فلا تصح إلاّ باذنه و أجازته،و إذا كانت الإجارة على شيء لا يتنافى مع حق الزوج إطلاقا،كما لو أجرت نفسها لقراءة القرآن،أو لحياكة ثوب بالسنارة أو الغزل باليد-مثلا-تصح الإجارة،حتى و لو لم يأذن الزوج.

هذا ما وجدته من أقوال الفقهاء فيما يعود إلى إيجار المرأة نفسها للخدمة، و لم أر أحدا من الفقهاء تعرض لتوظيفها في الوظائف الحكومية،و الشركات التي انتشرت،و كثرت في هذا العصر.و لم يتعرض الفقهاء لها،لأن توظيف المرأة لم يكن معروفا في عهدهم.

و الذي نراه أن من تزوج امرأة موظفة،و كان على علم بذلك حين الزواج فليس له أن يطالبها بترك الوظيفة،حتى و لو كانت مزاحمة لحقه،و إذا طالبها

ص:265

بذلك فلا تجب اجابته،و لا تسقط نفقتها عنه،لأنه أقدم مع العلم،و هذا الاقدام شرط ضمني أو في حكمه على أن تبقى في وظيفتها،بخاصة أن أكثر شباب اليوم يتزوجون الموظفات طمعا في رواتبهن،فإذا حصل بينهما شيء من النزاع طالبها بترك الوظيفة بقصد النكاية و التنكيل.

و ان تزوجها جاهلا بأنّها موظفة ينظر:فإن كان قد اشترط في ضمن العقد أن تكون غير موظفة أمرها بترك الوظيفة،فإن امتنعت كان له الحق في فسخ الزواج،لتخلف الشرط.و ان لم يشترط،و كانت الوظيفة مزاحمة لحقه،و أمرها بالترك فعليها الطاعة و الامتثال،و ان أبت فهي ناشز،تسقط نفقتها،و كفى.و ليس له أن يفسخ،لأن للزواج أحكاما و خصائص تخالف غيره من العقود،بخاصة فيما يعود إلى الفسخ و الإقالة.

و تسأل:لما ذا اعتبرت الموظفة ناشزا إذا أمرها الزوج بترك الوظيفة،مع جهله بأنّها كانت موظفة حين العقد،و لم تعتبر المرأة التي أجرت نفسها قبل الزواج للخدمة ناشزا إذا أمرها الزوج بترك الخدمة؟ الجواب:ان المرأة التي أجرت نفسها للخدمة قبل الزواج ملزمة شرعا بالتأدية و إتمام الخدمة على وجهها بموجب عقد الإيجار،و لا يجوز لها العدول إلاّ برضا المستأجر-بخلاف الموظفة،فإنّها غير ملزمة بمتابعة الوظيفة.بل يجوز لها أن تتركها شرعا متى شاءت،فقياس الموظفة على من أجرت نفسها للخدمة قياس مع وجود الفارق.

ص:266

لزوم الإجارة:

إذا توافرت الشروط في الإجارة لزمت،و لا يجوز للمؤجر أو المستأجر الفسخ و العدول إلاّ برضا الآخر،أو كان له الخيار في الفسخ إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

و سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام عن الرجل يكتري من الرجل البيت أو السفينة سنة أو أقل،أو أكثر؟قال:كراه لازم إلى الوقت الذي اكتراه.

بطلان الإجارة:

اشارة

قد تقع الإجارة باطلة منذ البداية،و قد تقع صحيحة ثم يطرأ عليها البطلان لأحد الأسباب قبل انتهاء أمدها.و أشرنا فيما سبق إلى أن الإجارة تقع باطلة إذا كانت الأجرة مجهولة،و المنفعة مجهولة أو محرمة،و اجمع كلمة لموارد الإجارة الباطلة قول الإمام الصادق عليه السّلام:

«أما وجوه الحرام من وجوه الإجارة فنظير أن يؤجر الإنسان على حمل ما يحرم عليه أكله،أو شربه،أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء،أو حفظه،أو لبسه،أو يؤاجر نفسه في هدم مسجد ضرارا،و قتل النفس بغير حل،أو عمل التصاوير-أي التماثيل المحرمة من ذوات الأرواح-و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر،و الخنازير و الميتة،أو شيء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه من غير جهة الإجارة فيه،و كل أمر ينهى عنه من جهة من الجهات فمحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه،أو له،أو شيء منه أو له إلاّ لمنفعة من استأجرته،كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه،أو أذى غيره،و ما أشبه ذلك».

و تبطل الإجارة بعد صحتها،و قبل انتهاء أمدها للأسباب التالية

ص:267

1-إذا هلكت العين المستأجرة و تعذر استيفاء المنفعة المطلوبة منها

، كالدار تستأجر للسكن فتنهدم،و الأرض للزراعة فتغرق،لانتفاء الموضوع إلاّ إذا أسرع المؤجر إلى إعادة العين المستأجرة إلى ما كانت،بحيث لا يفوت شيء من المنفعة على المستأجر.و إذا استوفى بعض المنفعة،ثم هلكت العين صحت الإجارة فيما استوفاه،و بطلت فيما بقي،و توزع الأجرة بالنسبة.

و إذا استأجر أرضا للزرع،فهلك الزرع بآفة سماوية فلا تبطل الإجارة،و لا يحق للمستأجر الرجوع على المؤجر بشيء،لأن الهلاك لحق بمال المستأجر لا بالعين المستأجرة،بل هي على ما كانت لم يطرأ عليها شيء يوجب البطلان أو خيار الفسخ،فقد جاء في كتاب مفتاح الكرامة:«لو اتفق هلاك الزرع في الأرض المستأجرة للزراعة بحريق أو سيل أو جراد أو شدة حر أو برد،أو كثرة مطر أو مسيل سيل،بحيث حصل الغرق للزرع دون الأرض لم يكن للمستأجر الفسخ، و لا حط شيء من الأجرة،لأن الجائحة لحقت مال المستأجر،لا منفعة الأرض» أي أن الأرض بقيت على أهليتها للمنفعة.

2-إذا استأجر سيارة،أو دابة معينة لنقل المتاع من بلد لآخر فهلكت

الدابة،أو خربت السيارة

انفسخت الإجارة،لانتفاء المحل،أما إذا استأجرها لنقل المتاع في الذمة،أي على آية سيارة أو دابة تكون،ثم حمل الأجير المتاع على دابته أو سيارته فهلكت قبل الوفاء فإن الإجارة تبقى على ما هي،و على الأجير أن ينقل المتاع على دابة أو سيارة أخرى،و الفرق بين الصورتين أن الهلاك في الأولى لحق العين المستأجرة بالذات،و في الثانية تعلق الهلاك بالفرد الذي أراد الأجير أن يفي بالإجارة بواسطته،قال صاحب الجواهر.إذا وقعت الإجارة على عين مشخصة تبطل الإجارة،أما إذا كانت كلية،و قد دفع المؤجر فردا،فتلف عند

ص:268

المستأجر فلا تنفسخ الإجارة،بل ينفسخ الوفاء،و يستحق عليه فرد آخر».

3-سبق أنّه إذا استأجره لقلع ضرس،فزال الألم قبل المباشرة بالقلع

انفسخت الإجارة لانعدام الموضوع.و كذا إذا استأجر امرأة لكنس المسجد فحاضت،حيث يحرم عليها الدخول إليه،و المانع الشرعي تماما كالمانع العقلي.

4-إذا استأجر دابة،أو سيارة،لتوصله إلى بلد معين،ثم مرض المستأجر،

و لم يقدر على الركوب

بطلت الإجارة،لتعذر استيفاء المنفعة التي استأجر العين من أجلها،و مجرد قابلية العين للمنفعة في نفسها غير كاف في صحة الإجارة،كما قال السيد الحكيم في المستمسك.

و بالأولى أن تبطل الإجارة إذا كان العذر عاما،مثل أن يستأجر السيارة للسفر إلى بلد فيعم الثلج و تسد الطريق،أو يستأجر دارا في بلد فتتوالى عليه الغارات،و يرحل أهله من الخوف،و ما إلى ذاك مما هو أشبه بتلف العين التي يتعذر استيفاء منفعتها.

5-اختلف الفقهاء في ان موت المؤجر أو المستأجر:هل يبطل الإجارة أو

لا

؟قال صاحب الجواهر:«المشهور بين الفقهاء المتأخرين أنّها لا تبطل بموت أحدهما.لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و الاستصحاب،و كون الإجارة من العقود اللازمة التي من شأنها عدم البطلان بالموت».

و هذا هو الحق،لأن موت أحد المتعاقدين لا يبطل العقد،و انما ينقل آثاره المترتبة عليه إلى الورثة.أجل،إذا استأجره بالذات،كما إذا اشترط عليه أن يبني له بيتا معينا بيده فإن الإجارة تبطل بموت الأجير،لانتفاء المحل و انعدامه، و كذا تبطل الإجارة بموت المستأجر إذا كان الأجير قد شرط أن يعمل له لا لغيره، أما إذا استأجره على أن يبني له بيتا كليا و في الذمة فلا تبطل الإجارة،و على الورثة

ص:269

أو الوصي أن يستأجر على البناء و إتمامه.

6-إذا باع المؤجر العين المستأجرة فلا تبطل الإجارة بالبيع

،بل تنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة إلى انتهاء أمد الإجارة.و إذا كان المشتري عالما بالإجارة حين الشراء فلا خيار،و ان كان جاهلا فهو بالخيار بين فسخ البيع، و بين إمضائه بلا منفعة مدّة الإجارة.

و كل موضع تبطل فيه الإجارة تجب اجرة المثل عوضا عما استوفاه من المنفعة،لأن البطلان يستدعي رجوع كل شيء إلى ما كان،فالمؤجر يرجع الأجرة المسماة إلى المستأجر،و هذا بدوره يدفع للمؤجر بدل ما استوفاه من ملكه بحسب ما يقدره العرف،سواء أ زاد على المسمى،أو نقص عنه.قال صاحب الجواهر:

«كل موضع يبطل فيه عقد الإجارة تجب فيه اجرة المثل مع استيفاء المنفعة أو بعضها،سواء زادت عن المسمى أو نقصت عنه بلا خلاف أجده فيه في شيء من ذلك،بل قد يظهر من إرسال الفقهاء ذلك إرسال المسلمات أنّه من القطعيات مضافا إلى قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده الشاملة للمقام،و إلى قاعدة احترام مال المسلم،و قاعدة من أتلف مال غيره،و قاعدة على اليد،و لا ضرر، و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل،و نحو ذلك مما يقضي بذلك،ضرورة أنّه مع بطلان العقد يبقى كل من العوضين على ملك صاحبه،فيجب على كل منهما رده بعينه إذا كان موجودا،و رد بدله من المثل أو القيمة ان كان تالفا،لفساد الالتزام بالمسمى بفساد العقد».

و قال جماعة من الفقهاء:ان هذا يتم مع جهل المتعاقدين ببطلان عقد الإجارة،أما مع علمهما بالبطلان فلا يحق لأحدهما الرجوع على الآخر لا بأجرة

ص:270

المثل لما استوفاه من المنفعة،و لا بما دفعه بعنوان الأجرة المسماة،لأنه هو الذي أقدم على هدر ماله،فكان متبرعا أو كالمتبرع بدفعه المال لمن يعلم بأنه غير مستحق له.

و نحن على رأي صاحب الجواهر الذي ردّ على هؤلاء«بأن الشرع نهى عن تناول الحرام،و منه أخذ المال بالإجارة الفاسدة،فتكون اليد عليه عادية ظالمة، تماما كأخذ العوض عن المحرمات.هذا،إلى أن التبرع ليس في قبالة شيء.أما الذي يدفع بعنوان معاملة فاسدة مشتملة على الإيجاب و القبول فليس دفع ماله من التبرع في شيء.ثم قال صاحب الجواهر:«فمن الغريب بعد ذلك كله دعوى صيرورة الفرض،و هو الاقدام على العقد الفاسد،كالهبة و العارية و التبرع لأن مفروض الكلام ان يعامل المدفوع بالمعاملة الفاسدة معاملة الصحيحة دون أدنى فرق و عليه فلا وجه للهبة و التبرع».

فسخ الإجارة بالخيار:

اشارة

الفرق بين بطلان الإجارة،و بين فسخها بأحد الأسباب أن معنى البطلان انعدام العقد،و عدم وجوده من رأس،أما الفسخ فالعقد موجود و لكن أمر رفعه و وضعه بيد صاحب الخيار،ان شاء أمضاه،و ان شاء فسخه.

و صرح جماعة من الفقهاء ان خيار المجلس و الحيوان و التأخير لا يجري شيء منها في الإجارة،لأن أدلة هذه الخيارات الثلاثة مختصة بالبيع فلا تشمل غيرها،و ذكرناها ما يتعلق بذلك مفصلا في الجزء الثالث عند الكلام عن كل واحد من هذه الخيارات الثلاثة.و فيما يلي نشير إلى الخيارات الأخرى التي تجري في الإجارة

ص:271

1-خيار العيب

،فإذا وجد المستأجر عيبا في العين المستأجرة تتفاوت به الأجرة،و لم يكن على علم به حين الإيجار فهو بالخيار بين الفسخ،و بين الإمضاء و الرضا من غير نقصان شيء من الأجرة،و هو المعروف بالأرش،لأن أخذ العوض عن العيوب على خلاف القاعدة،و قد ورد النص بجواز أخذه إذا وجد العيب في المبيع فيجب الاقتصار على مورده،و المسوغ لهذا الخيار هو رفع الضرر عن المستأجر.قال صاحب الجواهر:«ذكر الفقهاء أن العقد انما جرى على هذا المجموع،و هو باق،فاما أن يفسخ،و اما أن يرضى بالجميع-بلا أرش- و انما أثبتنا الأرش في البيع لوجود النص،و لا تقاس عليه الإجارة،أما الضرر الناشئ من العيب فيندفع بالخيار،و هذا هو المعتاد في جبر الضرر الذي سببه لزوم العقد».

و كذا يستقل المستأجر بالخيار إذا حدث العيب،أو اكتشفه بعد أن استوفى بعض المنفعة،لأن الخيار الناشئ عن الضرر لا يسقط بالتصرف مع الجهل بالضرر.هذا،إذا لم يسرع المالك فيتدارك العيب الحادث و يزيله بسرعة،بحيث لا يفوّت شيئا من المنفعة على المستأجر.و إذا اختار الفسخ وزعت الإجارة بالنسبة.

و أيضا يثبت خيار العيب للمؤجر إذا كانت الأجرة عينا شخصية،أمّا إذا كانت الأجرة كلية في الذمة،و لدى الوفاء سلمه المستأجر الفرد المعيب فللمؤجر المطالبة بالبدل،و لا حق له في الفسخ.و كذلك الحكم بالنسبة إلى العين المستأجرة،فإذا استأجر دابة غير معينة توصله إلى بلد خاص،و أتى المؤجر بدابة عرجاء-مثلا-فله المطالبة بإبدالها،و ليس له الفسخ إلاّ إذا وردت الإجارة على الدابة الشخصية بالذات.

ص:272

2-خيار الشرط

،يجوز لكل من المؤجر و المستأجر أن يشترط الخيار لنفسه،و لأجنبي في فسخ عقد الإجارة ضمن مدّة معينة،سواء أوردت الإجارة على العمل كخياطة الثوب،أو على المنفعة كسكنى الدار.و سواء أ تعلق الإيجار بشخص معين بالذات،أو بحصول العمل مطلقا مجردا عن مباشرة شخص بعينه،كالاستئجار على بناء حائط دون أن تحصر المباشرة بفرد خاص.

3-خيار تخلف الشرط

،مثل أن يستأجر الدار،و يشترط على المؤجر بعض الاصلاحات،فإذا امتنع عن الوفاء بالشرط كان للمستأجر الخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها بلا نقص شيء من الأجرة،و كذا إذا اشترط المؤجر على المستأجر شرطا سائغا مثل أن لا يسكن معه عائلة أخرى،أو لا يستعمله للتجارة، و ما إلى ذاك،فان لم يف المستأجر بالشرط كان المؤجر بالخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها دون زيادة في الأجرة.

4-خيار تبعض الصفقة

،مثل أن يستأجر دارا من غرفتين فتنهدم إحداهما،فإن بادر المؤجر إلى التعمير و اعادة كل شيء إلى ما كان،بحيث لم يفت شيء من المنفعة على المستأجر فلا خيار،و إلاّ كان المستأجر بالخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها،و توزيع الأجرة بالنسبة.

5-خيار الغبن

،فإنه يثبت للمغبون مؤجرا كان أو مستأجرا،إلاّ إذا اتفقا على سقوطه.

6-خيار الرؤية

،مثل أن يستأجر دارا،أو أرضا على الوصف و لدى التسليم و التسلم يجد المستأجر أن الوصف يختلف عن الموصوف فيثبت له الخيار،ان شاء فسخ الإجارة،و ان شاء أمضاها دون عوض عن الوصف الفائت، و ايضا يثبت هذا الخيار للمؤجر إذا كانت الأجرة عينا خارجية رضي بها المؤجر

ص:273

اعتمادا على الوصف،ثم تبين العكس،و دليل هذا الخيار قاعدة لا ضرر.

7-خيار الفلس

،يجوز للمؤجر أن يفسخ الإيجار دفعا للضرر إذا أفلس المستأجر،و عجز عن الدفع،و له إبقاء الإجارة،و الانتظار إلى ميسرة.

8-خيار تعذر التسليم

،فان على المؤجر أن يسلم العين المستأجرة بعد عقد الإجارة،و لا يجوز له التأخير بحال إذا كان المستأجر باذلا للأجرة،فإن امتنع المؤجر عن التسليم،و لم يمكن إجباره عليه كان المستأجر بالخيار بين فسخ الإجارة،و الرجوع بالأجرة دفعا للضرر،و بين أن يبقى على الإجارة،و يطالب المؤجر بعوض المنفعة و بدلها.

و قد تكلمنا مفصلا عن هذه الخيارات في الجزء الثالث.و بالإيجاز ان كل خيار يجري في البيع،لقاعدة لا ضرر فإنه يجري في الإجارة أيضا،و كل خيار يجري في البيع لنص خاص به كخيار المجلس و الحيوان فلا يجري في الإجارة.

و هناك خيارات أخرى غير التي ذكرناها قد تجري في الإجارة،قال صاحب الجواهر:«ربما يمر عليك في أثناء المباحث خيار لا يندرج في الخيارات المذكورة،و لا بأس به بعد قيام الدليل عليه لعدم الحصر العقلي،و لا الشرعي في الخيارات المذكورة،كما هو واضح».

من هذه الخيارات ما إذا غصب العين المستأجرة غاصب قبل أن يقبضها المستأجر،حيث يثبت له الخيار بين فسخ الإجارة و الرجوع على المؤجر بما دفعه له،و بين إمضائها و مطالبة الغاصب بعوض المنفعة.أما إذا حصل الغصب بعد ان قبض المستأجر العين فيتعين رجوع المستأجر على الغاصب وحده بالعوض،و ليس له مطالبة المؤجر بشيء،حتى و لو كان قادرا على انتزاع العين و تخليصها من الغاصب،لأن المفروض أن المؤجر قد أدى ما أوجبه عليه عقد

ص:274

الإيجار من التسليم و الإقباض،فيكون تماما كما لو باع عينا،و بعد أن سلمها للمشتري سرقت منه.أجل،لو كان ذلك قبل القبض كان من مال البائع،لحديث «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال البائع»و ألحق الفقهاء الإجارة بالبيع في هذا الحكم.

و«منها»إذا كانت الأجرة عينا مشخصة بذاتها،و قبل قبضها امتزجت أو اشتبهت بغيرها بحيث لا يمكن افرازها و تعيينها،مثل أن يؤجر الدار بهذا الكيس الخاص من الحنطة،و قبل قبضه يختلط بأكياس أخرى من الحنطة مثله تماما، فيصبح صاحب هذا الكيس المشتبه شريكا مع مالك الأكياس بالنسبة،كما أوضحنا ذلك في الجزء الرابع باب الشركة،إذا كان الأمر كذلك يثبت الخيار للمؤجر بين فسخ الإجارة أو إمضائها،و إذا اختار الإمضاء يكون المؤجر شريكا مع غيره.و قد عبر صاحب الجواهر و صاحب العروة الوثقى عن هذا الخيار بخيار الشركة.

و إذا حصل الفسخ بأحد الأسباب قبل استلام العين،و استيفاء شيء من المنفعة فلا شيء على المستأجر،و ان حصل في أثناء المدّة توزّع الأجرة المسماة بالنسبة إلى ما مضى،و ما بقي،فأجرة ما مضى إلى المؤجر،و ما بقي ترجع إلى المستأجر،ان كان قد دفعها.

ص:275

أحكام الإجارة

اشارة

تأجير العين المستأجرة:

إذا تم عقد الإجارة ملك المؤجر الأجرة،و ملك المستأجر المنفعة في إجارة الأعيان كاستئجار الدار للسكنى،و ملك العمل في إجارة الأعمال كالاستئجار للخياطة قال صاحب الجواهر:«تملك المنفعة بنفس العقد كما تملك الأجرة به بلا خلاف،بل الإجماع على ذلك،لأن هذا هو مقتضى العقد،و المراد من إنشائه،بل هو مقتضى ما دل على أن العقد سبب للملك».

و إذا كانت المنفعة ملكا للمستأجر فله أن يتصرف بها بالتنازل عنها لمن يشاء بغير عوض،أو بعوض مساو،أو أقل،أو أكثر من العوض الذي دفعه للمؤجر إلاّ أن يشترط هذا على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه،و يربط الإجارة بشخص المستأجر بالذات،فيجب حينئذ الوفاء بالشرط و لا يجوز للمستأجر أن يهب،أو يؤجر للغير إجماعا،لأن المؤمنين عند شروطهم.هذا ما تقتضيه القواعد العامة،و خرجت بعض الموارد عن هذه القاعدة،لوجود النص،و منها:

1-الإجارة ترد تارة على العمل

،كخياطة الثوب،و ما إليه،و أخرى على منفعة الأعيان كسكنى الدار،و زراعة الأرض،و نحوها،فإذا وردت على العمل جاز لمن التزم العمل و تقبله من الغير بأجر معلوم،و لم يشترط عليه المالك

ص:276

المباشرة بنفسه-جاز تقبيله و تلزيمه إلى الغير بما يساوي الأجرة،و بأكثر منها مطلقا،سواء أحدث في المستأجر عليه حدثا أو لا،و على هذا إجماع الفقهاء.

و لا يجوز تقبيله و تلزيمه من الغير بأقل من الأجرة الأولى إلا أن يأتي الملتزم الأول بعمل،و يحدث شيئا كتفصيل الثوب،و ما إليه.و بكلمة ان الملتزم الأول يجوز له تلزيم العمل إلى غيره بلا ربح،أو بخسارة،و لا يجوز له أن يربح إلاّ إذا عمل عملا في الشيء المستأجر عليه قبل التقبيل و التلزيم-مثلا-إذا استأجر زيد عمرا ليخيط له ثوبا أو يبني له بيتا بعشرة،و لم يشترط عليه أن يباشر العمل بنفسه،فيجوز لعمرو أن يستأجر على خياطة الثوب،أو بناء البيت بعشرة أو بأكثر،و ان لم يأت بأي عمل،و لا يجوز أن يستأجر عليه بتسعة إلاّ إذا فصّل الثوب،أو حفر أساس البيت،و ما إلى ذلك.

قال صاحب المسالك:«هذا قول أكثر الفقهاء».و قال صاحب الحدائق:

«هذا هو المشهور في كلام المتقدمين».و فيه روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام، منها أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل يتقبل عملا فلا يعمل فيه،و يدفعه إلى آخر يربح فيه،قال:لا.و أيضا سئل عن رجل يتقبل الثوب بدرهم،و يسلمه بأقل من ذلك بعد أن يشقه؟قال:لا بأس بذلك.ثم كرر قوله:لا بأس فيما تقبلت من عمل استفضلت فيه.أي عملت فيه،و تركت منه بقية.

و قال جماعة من الفقهاء:يجوز أن يستأجر الأجير غيره على العمل الذي استؤجر بأكثر من الأجرة،حتى و لو لم يعمل أي عمل،و حملوا الروايات الدالة على المنع،حملوها على الكراهة.قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«و ما ورد من الروايات دالا على النهي عن الزيادة يحمل على الكراهة جمعا بينها و بين ما دل على الجواز».

ص:277

2-أما إذا وردت الإجارة على المنفعة

كاستئجار البيت للسكن، و الحانوت للتجارة فذهب جماعة من الفقهاء إلى أن المستأجر لا يجوز له أن يؤجرهما إلاّ أن يصلح فيهما شيئا،من تبييض أو دهان،و ما إلى ذلك،و استدلوا عليه بأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين، فيؤاجرها بأكثر مما يتقبلها،و يقوم فيها بحظ السلطان؟قال الإمام عليه السّلام:لا بأس به، ان الأرض ليست مثل الأجير،و لا مثل البيت،ان فضل البيت و الأجير حرام.

و أيضا سئل عن الرجل يستأجر الأرض،ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها؟ فقال الإمام عليه السّلام:لا بأس،ان هذا ليس كالحانوت،و لا الأجير،ان فضل الأجير و البيت حرام.

و قال صاحب الجواهر:«أمّا جواز أخذ الزيادة إذا أحدث حدثا فيهما،فلأن مقتضى الأصل هو الجواز،و للإجماع،و لصحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السّلام في رجل يستأجر الدار،ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها؟قال:لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئا.و صحيح آخر للحلبي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:لو أن رجلا استأجر دارا بعشرة دراهم فسكن ثلثيها،و أجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس،و لا يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئا».

3-يجوز أن يؤجر الأرض بأكثر مما استأجرها

،سواء أصلح فيها شيئا،أو لا؟و لا يجوز أن يؤجرها لزرع الحنطة أو الشعير بمقدار معين مما يخرج منها، لروايات خاصة عن أهل البيت عليهم السّلام.و من الخير أن نختم هذه الفقرة بقول صاحب مفتاح الكرامة:«ليس في روايات أهل البيت عليهم السّلام على كثرتها ما يدل على جواز إيجار غير الأرض بأكثر مما استأجرها من دون أن يحدث حدثا»أي من دون أن يعمل شيئا،و لو قليلا في العين المستأجرة.

ص:278

موافقة المالك:

قدمنا أن المنفعة تنتقل إلى المستأجر بمجرد انعقاد العقد،و ان له التنازل عنها و تقبيلها إلى من يشاء بعوض و غير عوض إذا لم يشترط عليه المباشرة بنفسه،و يتفرع على ذلك مسألتان:

الأولى:أن المستأجر يحق له أن يؤجر العين لنفس المنفعة التي استؤجرت العين لها دون غيرها إلاّ إذا كانت أقل منها ضررا،فمن اكترى سيارة-مثلا-ليركب فيها خمسة أشخاص فلا يجوز للمستأجر أن يكريها لنقل الأمتعة،أو ليركب فيها ستة،بل ليركب فيها خمسة حسبما جرى عليه الاتفاق،و بالأولى لركوب أربعة.

المسألة الثانية:هل يجوز للمستأجر أن يسلم العين المستأجرة إلى المستأجر الثاني من دون موافقة المالك و اذنه،أو لا بد من الموافقة و الاذن؟ و تظهر النتيجة على فرض اشتراط الموافقة أنّه إذا سلم المستأجر الأول للثاني بلا موافقة المالك يكون ضامنا للعين على كل حال،حتى و لو تلفت من غير تعد أو تفريط،أما إذا لم تكن الموافقة شرطا فلا يضمن العين إلاّ مع التعدي أو التفريط.

و الجواب:أن اذن المالك و موافقته ليس بشرط،إذا لم يكن المؤجر قد اشترط على المستأجر أن لا يؤجر العين إطلاقا،أو أن لا يؤجرها إلاّ بموافقته، لأن جواز الإجارة من الغير يستدعي قهرا جواز تسليم العين للمستأجر الثاني، و إلاّ فلا معنى لجواز الإجارة دون جواز القبض و التسليم،و من هنا قيل:الاذن بالشيء اذن في لوازمه.و قوّى الشهيد الثاني في شرح اللمعة جواز التسليم بغير اذن المالك.هذا،إلى أن الروايات التي أباحت للمستأجر أن يؤجر مطلقة غير مقيدة بإذن المالك و موافقته.

ص:279

و المستأجر الثاني مسؤول عن الأجرة نحو المستأجر الأول،و الأول مسؤول عنها نحو المالك،و كل من المستأجر الأول و الثاني مسؤول نحو المالك عن العين إذا حصل عليها تعد أو تفريط،أي أن المالك مخير في الرجوع على من يشاء منهما.

الأجير المقيد و المشترك:

ينقسم الأجير بالنظر إلى التقييد و الإطلاق إلى مقيد و مطلق،و بتعبير الفقهاء إلى خاص و مشترك،و الأول هو الذي يؤجر جميع منافعه مدّة معينة لشخص آخر،بحيث لا يسوغ له أن يعمل أي شيء لغير المستأجر،سواء أ كان العمل معينا كالموظف للكتابة،فقط،أو كان العمل غير معين كالخادم الذي يعمل ما يأمره مخدومه طوال المدّة التي استؤجر فيها.

أمّا الأجير المشترك فيدخل فيه ثلاثة أقسام:الأوّل أن يستأجر على عمل معين في وقت معين من غير شرط المباشرة،مثل أن يستأجر حمالا لنقل الأمتعة من بيت إلى بيت في يوم معين،سواء أعمل بنفسه،أو أي شخص آخر،فإن المطلوب هو النقل.الثاني أن يستأجر على عمل بشرط أن يباشره بنفسه،و لكن دون أن يذكر أمدا خاصا،مثل أن يخيط له هذا الثوب بنفسه متى شاء.الثالث لا يشترط عليه المباشرة،و لا يعين له مدّة،مثل أن يقول له:أريد خياطة هذا الثوب منك أو ممن تكلفه أنت في أي وقت تراه.

و ليس للأجير الخاص أن يعمل شيئا لنفسه،أو لغيره في الوقت الذي أجر فيه نفسه إلاّ بإذن المستأجر و موافقته،لأن عمل الأجير في هذا الأمد المعين ملك خاص للمستأجر،و إذا كان الأجير مشتركا و مطلقا غير مقيد جاز له أن يعمل

ص:280

لنفسه و لغيره،لأن المستأجر لا يملك منفعته في وقت معين على وجه لا يجوز له العمل لغير من استأجره.و قد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يستأجر الرجل بأجر معلوم،فيجعله في ضيعته،فيعطيه رجل آخر دراهم،و يقول له:اشتر بها كذا و كذا،و الربح بيني و بينك؟فقال:إذا أذن الذي استأجره فليس به بأس.قال الفقهاء:ان ظاهر هذه الرواية يدل على أن المراد منها الأجير الخاص المقيد، و انّها تدل بالمفهوم على ثبوت البأس مع عدم الاذن و الموافقة.

و إذا عمل الأجير الخاص لغير المستأجر في الوقت الذي استؤجر فيه كان المستأجر بالخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها،فإن اختار الفسخ،و لم يكن قد عمل الأجير شيئا للمستأجر فلا شيء للأجير،و ان كان قد عمل وزعت الأجرة المسماة،و كان للأجير منها بنسبة ما عمل،و ان امضى،و لم يفسخ يضمن الأجير ما فوّته على المستأجر من عمله،و ينقص من أجرته بقدر ما أضاع من الزمن في العمل لغير المستأجر الأصيل،سواء أ كان قد عمل لغيره،أو لنفسه إلاّ ما يتسامح العرف فيه.

يد المستأجر:

من استأجر دارا ليسكنها،أو دابة ليركبها،أو كتابا ليقرأه،أو ثوبا ليلبسه، و ما إلى ذلك فالعين المستأجرة في يده أمانة لا يضمن هلاكها أو نقصها إلاّ أن يتعدى حقه في الانتفاع بها،أو يقصر في حفظها.و مثال التعدي أن يتجاوز بالدابة أو السيارة المحل الذي استأجرها إليه،أو يحمل عليها ما يخالف الشرط، أو العرف أو يستعمل الدار التي استأجرها للسكن مصنعا أو كاراجا فيضمن في ذلك كله،حتى و لو كان التلف بآفة سماوية،لأنه قد تعدى،تماما كما هي الحال

ص:281

في الغاصب.

و مثال التقصير و التفريط أن يهمل المستأجر العين،و لا يهتم بحفظها بما تقتضيه العادة كالدابة يتركها من غير علف أو ماء،أو يمر بها في المخاطر و المآزق،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل كرى دابته إلى مكان معلوم، فنفقت-نفقت الدابة أي هلكت و ماتت-قال الإمام عليه السّلام:أن كان جاز الشرط فهو ضامن،و ان دخل واديا و لم يوثقها فهو ضامن،و ان سقطت في بئر فهو ضامن، لأنه لم يستوثق منها.

و مورد الرواية،و ان كان الدابة،فإن حكمها يشمل كل عين مستأجرة، و قول الإمام عليه السّلام:«ان كان جاز الشرط»مثال للتعدي،و قوله:«لم يوثقها،و لم يستوثق منها»مثال للتقصير.

و أيضا يضمن العين إذا منعها عن المالك بعد انتهاء الإجارة و طلبها منه، فإذا هلكت أو تضررت فعليه الضمان مطلقا،حتى و لو كان التلف بآفة سماوية، لأنه امتناع من غير حق.

و يضمن المعتدي و المفرط قيمة العين حين التلف لا قبلها،لأن ذمته انما تشتغل بالقيمة عند هلاك العين.أجل،هو مسؤول عن العين من حين التعدي، بمعنى دخولها في ضمانه من ذلك الوقت إلى حين التلف،فيضمن قيمتها عند التلف على الأقوى،كما عبر صاحب الجواهر.

و تسأل:إذا اشترط المؤجر الضمان على المستأجر،مع عدم التعدي و التفريط،فهل يصح هذا الشرط،و يجب الوفاء به؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى صحة العقد و بطلان الشرط، لأنه مخالف للنص الصحيح القائل بعدم ضمان الأمين،و المستأجر أمين.

ص:282

الخياط:

إذا أفسد الخياط الثوب،و النجار الباب،و كل صانع أفسد ما في يده فهو ضامن له متهاونا كان أو غير متهاون،حاذقا كان أو غير حاذق،لأن التلف يستند إليه مباشرة،و من أتلف مال غيره فهو له ضامن،قصد ذلك،أو لم يقصد،لأن الضمان لا يشترط فيه القصد و لا العقل،و لا البلوغ.و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن».

أجل،إذا هلكت العين أو تضررت عند العامل كالثوب يحرق أو يسرق من دكان الخياط أو«الكوّاء»بلا تعد منه و تفريط فلا ضمان عليه،لأن الأصل عدم الضمان،و لأنه أمين،و قد دلّ النص على عدم ضمان الأمين.و بكلمة،هناك فرق بين أن تهلك العين بلا تعد من العامل و الصانع،و بدون فعله هو كما لو سرقت من محله،و بين أن تتلف أو تتضرر بفعله و في يده،كالخياط يخطئ في تفصيل البدلة،و الكوّاء في تنظيفها،و النجار في إصلاح الباب،فالأول غير ضامن،لعدم استناد الفعل إليه من قريب أو بعيد،و الثاني ضامن،لاستناده إليه حقيقة،حتى و لو كان من غير قصد.

الحمال:

إذا عثر الحمال،فسقط ما يحمله،و تلف،فهل يضمنه،أو لا؟ للفقهاء فيه قولان،فمن قائل بأنه يضمن،و على هذا أكثر الفقهاء.و من قائل بعدم ضمانه،و من هؤلاء الشيخ النائيني،قال في حاشيته على العروة الوثقى:«الأظهر عدم الضمان،و كونه من التلف دون الإتلاف».و الفرق بينهما أن الإتلاف لا بد من نسبته إلى فاعل،أما التلف فإنه يحدث من غير هذه النسبة،

ص:283

تماما كالموت،و الإماتة.

الطبيب:

من أقدم على تطبيب مريض،و تضرر من جراء خطأه فان لم يكن من أهل الفن و المعرفة بهذه المهنة فهو ضامن بالاتفاق،بل مستأهل للعقوبة،لأنه معتد و متطفل،و ان كان من أهل الاختصاص و الفن فلا يضمن إذا اجتهد و احتاط، و تبرأ مما يحدث،و قبل المريض أو وليه ذلك،لقول أمير المؤمنين عليه السّلام:«من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه،و إلاّ فهو ضامن».و إلى هذا ذهب صاحب العروة الوثقى و الشيخ النائيني في حاشيته على العروة،و السيد الحكيم في المستمسك،قال هذا السيد ما نصه بالحرف:«هو أي عدم الضمان المشهور،بل لا يعرف الخلاف فيه إلاّ عن الحلي،و بعض آخر».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب المستمسك إلى أن من وصف دواء لمريض فشربه و مات بسببه فلا ضمان على الواصف،طبيبا كان أو غير طبيب، و قال صاحب العروة الوثقى:«الأقوى عدم الضمان،و ان قال:الدواء الفلاني نافع للمرض الفلاني فلا ينبغي الإشكال في عدم ضمانه.و كذا لو قال:لو كنت مريضا بمثل هذا المرض لشربت الدواء الفلاني».

الملاح و المكاري و السائق:

ان كلا من الملاح و المكاري و قائد السيارة لا يضمن شيئا مما يهلك في السفينة و على الدابة و في السيارة إلاّ مع التعدي،أو التفريط،فإذا استأجر سفينة أو سيارة لحمل متاع فنقص أو سرق لم يضمن الملاح و قائد السيارة مع عدم التعدي

ص:284

و التفريط إلاّ إذا اشترط عليه ذلك،للنص الخاص،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل استأجر ملاحا،و حمله طعاما في سفينة،و اشترط عليه ان نقص فعليه؟قال الإمام عليه السّلام:جائز.قال السائل:انّه ربما زاد الطعام؟قال الإمام عليه السّلام:هل يدعي الملاح أنّه زاد فيه شيئا؟قال السائل:لا.قال الإمام عليه السّلام:الزيادة لصاحب الطعام، و النقصان على الملاح ان كان قد اشترط عليه ذلك.

الناطور:

إذا استؤجر لحفظ متاع فسرق فلا ضمان عليه إلاّ إذا قصر في الحفظ حسب المعتاد،و قد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق؟ قال:هو مؤتمن.أي لا يضمن إلاّ مع التقصير،كما هو الحكم في كل أمين.

و تسأل:هل يستحق الناطور الأجرة بعد سرقة المتاع الذي استؤجر لحفظه؟ قال صاحب الجواهر:«قد يقال:لا أجر له،لعدم حصول العمل المستأجر عليه».و قال صاحب المستمسك:«بل ينبغي أن لا يكون محلا للإشكال»،أي أنّه استؤجر لحفظ المتاع و بقائه،و المفروض أنّه سرق،فلم يبق موضوع للإجارة و لا للأجرة.

اشتراط نقص الأجرة أو عدمها:

قال صاحب الجواهر:«لو استأجره،ليحمل له متاعا إلى موضع معين، و اشترط عليه وصوله إليه في وقت معين،و أنّه ان قصر عنه نقص من أجرته شيئا معينا جاز وفاقا للمشهور،للأصل،و قاعدة«المؤمنون عند شروطهم».أما لو

ص:285

اشترط سقوط الأجرة ان لم يوصله إليه فلم يجز الشرط وفاقا للمشهور،لأنه شرط مناف لمقتضى عقد الإجارة،إذا يرجع المعنى إلى أن الإجارة بلا أجرة، فيكون نحو قولك:أجرتك بلا اجرة،و بفساده يفسد العقد،و إذا فسد العقد كان له أجرة المثل».

التردد في الأجرة و نوع العمل:

إذا قال له:ان خطت هذا الثوب عربيا فلك درهم،و ان خطته افرنجيا فلك درهمان صح من باب الجعالة،لا من باب الإجارة،لأن الجعالة تغتفر فيها الجهالة و الإبهام دون الإجارة.و كذلك إذا قال له:ان خطته اليوم فلك درهمان،و ان خطته غدا فلك درهم واحد،فإنه يصح جعالة لا اجارة،و يأتي الكلام عن الجعالة في الفصل التالي:

مسائل:

1-سبق أن المؤجر يملك الأجرة بعد انعقاد العقد

،أما تسليمها له فلا يجب بذلك،بل ينظر:فان اشترط التأجيل أو التعجيل وجب العمل بالشرط الذي اتفقا عليه،سواء وردت الإجارة على العين،أو على العمل.

و مع الإطلاق و عدم الشرط ينظر أيضا:فإن وقعت الإجارة على العين جاز لكل من المؤجر و المستأجر أن يمتنع عن تسليم ما في يده،حتى يستلم حقه من الآخر،تماما كالمتبايعين،لأن كلا من البيع و الإجارة من عقود المعاوضة.

و ان وقعت الإجارة على العمل كخياطة الثوب فلا يجب تسليم الأجرة إلاّ بعد إكمال العمل،قال صاحب الجواهر

ص:286

«يجب على المؤجر و المستأجر التسليم،لوجوب الوفاء بالعقد،فان تعاسرا أجبرا معا على التقابض،أما لو بذل أحدهما،و امتنع الآخر،و لم يمكن إجباره كان للباذل حبس ما لديه،حتى يدفع إليه العوض قضاء لحق المعاوضة التي بني عليها العقد-ثم قال صاحب الجواهر:و الظاهر الإجماع على عدم استحقاق الأجير تسلم الأجرة قبل العمل ما لم يشترط،أو تكون عادة تقوم مقام الاشتراط».

2-إذا تسلم المستأجر العين المستأجرة،و مضت مدّة الإجارة لزمته

، و وجب عليه دفعها إلى المالك،حتى و لو لم يستوف المنفعة،فمن استأجر دارا ليسكنها،أو سيارة ليركبها أمدا معينا،و مضى الأمد دون أن يسكن الدار،أو يركب السيارة فعليه الأجرة،بل لو تبين فساد الإجارة فعلى المستأجر أجرة المثل،لأن المنفعة فاتت تحت يده،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به، حتى و لو كانت الإجارة فاسدة،و لكن اللازم فيها اجرة المثل».

و إذا بذل المؤجر العين المستأجرة فلم يأخذها المستأجر،حتى مضت المدّة لزمته الأجرة للمالك ان كانت الإجارة صحيحة،و لا شيء عليه ان كانت الإجارة فاسدة،لأنه لم يستوف المنفعة،و لم تفت تحت يده لعدم القبض،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في ذلك.نعم ليس هنا أجرة المثل،مع فرض فساد الإجارة،لعدم القبض».

3-على المؤجر أن يسلم العين للمستأجر خالية من الأمتعة و العوائق

التي تحول دون الانتفاع بها،قال صاحب مفتاح الكرامة:«لا خلاف بين المسلمين في أنّه يجب تسليم الدار فارغة،ليتحقق الانتفاع بها».

4-ضريبة الحكومة على الأراضي و المسقفات تجب على المالك

لا على

ص:287

المستأجر إلاّ مع الشرط،فمعه يجب أن يدفعها المستأجر،حتى و لو كان جاهلا بمقدارها حين الإجارة،لأن العرف يغتفر و يتسامح بمثل هذه الجهالة.

5-يجوز للأجير أن يجعل لنفسه الخيار بعد الانتهاء من العمل

،ان شاء أمضى الإجارة،و أخذ الأجرة المسماة،و ان شاء فسخها،و طالب بأجرة المثل- مثلا-أجر نفسه لبناء بيت بشيء معين،و اشترط على صاحب البيت أن يكون له الخيار بعد الانتهاء من البناء في أن يقبل بالأجرة المسماة،أو يفسخ الإجارة، و يأخذ أجرة المثل،فإذا انتهى من العمل و أجاز الإجارة أخذ المسمى،و ان فسخ الإجارة طالب بأجرة المثل،و على المؤجر أن يدفعها له،حتى و ان زادت عن المسمى أضعافا،لأن عمله محترم و مضمون بعد أن كان برضا المالك،فإذا بطل المسمى بالفسخ تعين الضمان بأجرة المثل.

6-يجوز الاستئجار لحفر بئر أو قناة

،و لا بد من تقدير الحفر بالمدّة أياما أو أسبوعا أو شهرا أو أكثر أو أقل،أو يقدر الحفر بالوصف طولا و عرضا و عمقا، و إذا انهارت البئر و القناة فإزالة التراب على المؤجر لا المستأجر،كما لو وقع فيها حجر أو دابة،و ما إليها.

و إذا اعترضت الحافر صخرة لم تكن في الحسبان،و تعذر عليه الحفر أو تعسر إلاّ بمشقة و تكاليف أكثر من المعتاد فللأجير فسخ الإجارة،و له من الأجرة المسماة بنسبة ما عمل،ان نصفا فنصف،و ان ثلثا فثلث،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بين الفقهاء،و لا خلاف».

اتفقوا على أن للزوجة أن تؤجر نفسها للرضاع و غيره من الأعمال السائغة بإذن الزوج و موافقته،و اختلفوا:هل يجوز لها ذلك من غير اذنه؟ و الحق صحة الإجارة منها من غير اذن الزوج لكل عمل لا يتنافى مع

ص:288

الحقوق الزوجية،لأنها و الحال هذي مالكة لمنافعها،و لها أن تتصرف فيها، و تصرفها إلى من تشاء بعوض و غير عوض ما دام العمل لا يتعارض مع حق الغير،و إذا تعارضت الإجارة مع حق الزوج فله فسخها.

8-يجوز استئجار الأرض لجعلها مسجدا أمدا معينا

،و لكن لا يثبت له آثار المسجد من تحريم التنجيس و دخول الجنب و الحائض،لأن شرط المسجد أن يكون موقوفا،و شرط الوقف التأبيد،و لا تأبيد مع الإجارة،كما قال صاحب المسالك،و قال صاحب الجواهر:«مراد الفقهاء من المسجد هنا أنّه محل للسجود،كقولهم يستحب اتخاذ مسجد للصلاة في الدار،و مرادهم اعداد مكان مخصوص للصلاة».

التنازع:

1-إذا اختلفا في أصل الإجارة و وقوعها فالقول قول المنكر بيمينه

،سواء أ كان هو المالك أو المتصرف،ثم ان وقع النزاع قبل استيفاء شيء من المنافع رجع كل شيء إلى ما كان عليه،و ان كان بعد استيفاء المنفعة ينظر:فان كان المنكر هو المالك فله اجرة المثل فقط،فإذا افترض ان اجرة المثل عشرة،و قال المستأجر:استأجرتها باثني عشر فلا يستحق المالك إلاّ عشرة،لاعترافه بعدم استحقاق الزيادة.

و ان كان المنكر هو المتصرف فللمالك أجرة المثل أيضا،و إذا افترض ان اجرة المثل أكثر مما يدعيه المالك من الأجرة فلا يعطي أكثر مما ادعى،لاعترافه بأنه لا يستحق الزائد.

و تسأل:أن المتصرف يعترف بأن الزيادة عن اجرة المثل في الفرض الأول

ص:289

و الثاني هي حق للمالك بينما يعترف المالك صراحة أو ضمنا بأنّها ليست له، فما ذا يصنع بها المتصرف،مع العلم بأنّه لا يجوز له تملكها بموجب اعترافه؟ الجواب:يتعين عليه أحد أمرين:اما أن يدفعها للحاكم الشرعي و يعلمه بالحقيقة،و امّا أن يوصلها إلى المالك بطريق من الطرق،و لو بوضعها في أمواله دون علمه.

2-إذا اختلفا في مقدار الشيء المستأجر

،فقال المالك:أجرتك الدار ما عدا هذه الغرفة،و قال المستأجر:بل الدار بكاملها فالقول قول المالك بيمينه، لأنهما قد اتفقا على سائر الغرف،و اختلفا في الغرفة الزائدة،و الأصل عدم وقوع الإجارة على ما زاد عن مورد الاتفاق.

و قال بعض الفقهاء:هما متداعيان،لأن كلا منهما يدعي ما ينكر الآخر، و ينكر ما يدعيه،فيتحالفان.و رد صاحب المسالك و الجواهر على هذا القائل بأن ضابط التحالف عدم اتفاق المتداعيين على شيء من مورد العقد،كما لو قال أحدهما:أجرتك البيت.و قال الآخر:بل اجرتني الدابة و المفروض أنّهما هنا متفقان على ما عدا الغرفة المعلومة من الدار،فلا مبرر-اذن-للتحالف.

3-إذا اختلفا في مقدار الأجرة فالقول قول المستأجر بيمينه

،لأن الأصل عدم الزيادة،قال صاحب الجواهر و المسالك:و قيل بالتحالف و هو ضعيف.

4-إذا اختلف الأجير و المؤجر في نوع العمل

،مثل أن يدعي الخياط أن المالك طلب منه أن يخيط قطعة القماش قميصا،فأنكر المالك و قال:كلا،بل طلبت منك أن تخيطها سروالا،فمن هو المدعي؟و من هو المنكر؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن القول قول المالك بيمينه، لأن الأصل عدم اذن المالك بما يدعيه الخياط.

ص:290

5-إذا اختلفا في تعيين العين المستأجرة

،فقال المالك:آجرتك البيت.

و قال المستأجر:بل آجرتني الدكان.تحالفا،و بطلت الإجارة كأن لم يكن شيء، تماما كما هي الحال لو اختلفا في تعيين المبيع.

6-إذا اختلفا في شرط زائد فالقول قول المنكر

،لأن الأصل عدم الشيء الزائد،حتى يثبت العكس.

7-إذا اختلفا في صحة الإجارة و فسادها فالقول قول من يدعي الصحة

، لأن الأصل في أفعال العقلاء الذي تسالم عليه الجميع هو الصحة حتى و لو كان مدعي الصحة غير مسلم.

ص:291

ص:292

الجعالة

اشارة

ص:293

ص:294

معناها:

الجعالة و الجعيلة و الجعل بمعنى واحد في اللغة،و هو ما يجعل للإنسان على شيء يفعله،و عند الفقهاء الالتزام بمال معين لقاء عمل لأي عامل كان مجهولا أو معلوما،و صورته مع جهل العامل أن يقول:من فعل لي كذا فله كذا،أو من رد ضالتي الفلانية فله كذا،و صورته مع معرفة العامل أن يقول لمن يعرفه بشخصه:ان فعلت كذا فلك كذا.

الشرعية:

الجعالة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى في الآية 72 من سورة يوسف وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ .

و قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ربما أمرنا الرجل فيشتري لنا الأرض و الدار و الغلام و الجارية،و نجعل له جعلا؟قال:لا بأس.

بين الجعالة و الإجارة:

اشارة

فرق بين الجعالة و الإجارة من وجوه:

1-ان الإجارة عقد لازم من الجانبين،أما الجعالة فجائزة

من جانب الجاعل و العامل قبل التلبس بالعمل،و من جانب العامل أيضا إذا كان بعد أن

ص:295

يتلبس بالعمل،فان له الرجوع عنه قبل الإكمال،و لكنه لا يستحق شيئا،لأن الجاعل قد جعل له العوض في مقابل مجموع العمل،لا بعضه.و إذا رجع الجاعل قبل العمل فلا يستحق المجعول له شيئا،لانتفاء الموضوع،و إذا رجع بعد الابتداء بالعمل،و قبل الانتهاء منه فللعامل اجرة عمله،و ان كان بعد الانتهاء فله الجعل بكامله.قال صاحب المكاسب:

«لا خلاف في أن الجعالة من الأمور الجائزة من الطرفين،بمعنى تسلط كل من المالك و العامل على فسخها قبل التلبس بالعمل و بعده،سواء جعلناها عقدا أو إيقاعا،لأنها من حيث عدم اشتراط القبول فيها بمنزلة أمر الغير بعمل له اجرة، فلا يجب المضي فيه من الجانبين،ثم ان كان الفسخ قبل التلبس فلا شيء للعامل، إذ ليس هناك عمل يقابل بعوض،سواء كان الفسخ من قبله،أم من قبل المالك، و ان كان بعد التلبس،و كان الفسخ من العامل فلا شيء له،لأن المالك لم يجعل له العوض إلاّ لمجموع العمل من حيث هو مجموع،فلا يستحق على أبعاضه شيئا، لأن غرض المالك لم يحصل،و قد أسقط العامل حق نفسه،حيث لم يأت بما شرط عليه العوض.و ان كان الفسخ من المالك فعليه للعامل عوض ما عمل،لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له،و لا تقصير من قبله،و الأصل في العمل المحترم الواقع بأمر المالك أن يقابل بالعوض.و هل العوض الواجب له اجرة مثل ما عمل،أم بنسبة ما فعل إلى المجموع من العوض المسمى؟وجهان أظهرهما الثاني-أي بنسبة ما فعل إلى المسمى لا أجرة المثل-لأنه العوض الذي اتفقا عليه».

2-يجوز أن يكون العامل مجهولا في الجعالة

،فتقول:من أصلح هذه القطعة،و أزال منها الأحجار و الأشواك فله كذا،و لا يصح أن تقول:آجرتها لكل

ص:296

من يزرعها بكذا.

3-الأجير يملك الأجرة بنفس العقد في الإجارة

،سواء استعمله المالك، أو تركه بغير عمل،أما في الجعالة فإن الطرف الثاني،و هو المجعول له لا يستحق شيئا إلاّ بعد العمل.

4-يجوز أن يكون الملتزم غير مالك

،مثل أن يقول رجل أجنبي:من رد محفظة فلان فله عليّ كذا،و لا يصح أن يقول:من أجر داره بكذا فعليّ الأجرة.

5-يجوز أن يكون العامل المجعول له صبيا،و سفيها

،أما المستأجر فيشترط فيه البلوغ و الرشد.

6-يجوز في الجعالة أن يكون وصف الشيء الذي جعل المال من أجله

مجهولا بما لا يغتفر في الإجارة

،فإذا قال:من رد دابتي فله كذا صح،و ان لم يبين أنّها فرس أو حمار،و لا يصح أن يقول:أجرتك دابتي دون أن يميزها بالوصف.

الشروط:

اشارة

يعتبر في الجعالة أمور:

1-الصيغة

،و هي كل لفظ يدل على الالتزام بمال لقاء عمل،كقوله:من رد محفظتي فله كذا،أو أي انسان فعل كذا أعطيته كذا،و يصح فيها الإطلاق من حيث الزمان و المكان،كما يصح التقيد بهما أو بأحدهما،مثل أن يقول:من فعل كذا في شهر رمضان،أو يوم الجمعة،أو في بلد كذا،أو الأرض الفلانية.

و لا فرق في القبول بين أن يكون بالفعل أو بالقول،فلو قال إنسان:أنا أفعل.أو باشر بالعمل دون أن يقول شيئا تم العقد.

2-أن ينبذ الجاعل الأجرة أولا،ثم يحصل العمل

،فلو وجد انسان

ص:297

محفظة فالتقطها قبل الجعالة وجب عليه أن يسلمها لصاحبها،و لا يستحق من الجعل شيئا،لأنها أمانة في يده،و عليه أن يردها لمالكها،قال صاحب الجواهر:

«لا أجد خلافا في ذلك».

و من رد الضالة بقصد التبرع فلا شيء له،سواء أ كان ذلك بعد الجعالة،أو قبلها،و سواء أ سمعها العامل،أو لم يسمعها،أما إذا لم يقصد التبرع،و كان الرد بعد الجعالة فيستحقها،حتى و لو لم يسمعها،لأنه مع عدم التبرع و اذن الجاعل- يكون العمل محترما.

3-أن يكون الجاعل أهلا للتعاقد

،تتوافر فيه الشروط العامة من البلوغ و الرشد و القصد و الاختيار،و عدم الحجر،أما العامل فلا يشترط فيه إلاّ إمكان صدور العمل منه مع عدم المانع الشرعي،فيصح العمل من الصبي و السفيه،و قيل يصح من المجنون أيضا.قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في الوسيلة:«يجوز أن يكون العامل صبيا مميزا،و لو بغير اذن الولي،بل و لو كان غير مميز أو مجنونا على الأظهر،فجميع هؤلاء يستحقون الجعل المقرر لعملهم».

4-قال العلامة في التذكرة ما نصه بالحرف:يشترط في العمل أن يكون

محللا

فلا تصح الجعالة على محرم،فلو قال:من زنا أو قتل أو سرق،أو ظلم،أو شرب خمرا،أو أكل محرما،أو غصب،أو غير ذلك من الأفعال المحرمة فله كذا لم يصح،و لو فعل المجعول له ذلك لم يستحق العوض،سواء أ كان المجعول له معينا،أو مجهولا،و لا نعلم في ذلك خلافا.و يشترط أن يكون العمل مقصودا للعقلاء،فلو قال:من استقى من ماء دجلة،و رمى الماء في الفرات،أو حفرا نهرا ثم طمه،و غير ذلك مما لم يعده العقلاء مقصودا لم يصح.و يشترط في العمل أن لا يكون واجبا،فلو قال:من صلى الفريضة،أو صام شهر رمضان فله كذا لم

ص:298

يصح،لأن الواجب لا يصح أخذ العوض عليه.

5-أن يكون الجعل معلوما

،تماما كالأجرة في عقد الإجارة،و إذا كان مجهولا تبطل الجعالة،و يثبت للعامل أجرة المثل.أجل،يجوز أن يقول:من رد دابتي فله نصفها أو ربعها.

و إذا قال:من فعل كذا فأنا أرضية،فإن رضي الفاعل بما أعطاه الجاعل فذاك،و إلاّ فللعامل اجرة المثل.

مسائل:

1-إذا قال:من رد محفظتي فله دينار فردها جماعة

كان الجعل لهم بالسوية.

و إذا قال:من دخل داري فله دينار،فدخلها جماعة كان لكل واحد منهم دينار،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به و لا إشكال».

2-إذا خص الجعالة بإنسان معين

،مثل أن يقول:ان رد زيد محفظتي فله كذا،فإذا ردها غيره فلا شيء له.قال صاحب الجواهر:«لا خلاف أجده في ذلك، لأنه متبرع،حيث لم تبذل الأجرة له».

3-إذا قال:من رد سيارتي فله كذا

فلا يستحق العامل المبلغ المجعول إلاّ بتسليم العين إلى يد المالك،فلو جاء بالسيارة،و تركها امام المنزل،و لم يقبضها المالك،ثم سرقت فلا شيء للعامل.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده.

نعم،لو صرح الجاعل بما لا يقتضي التسليم،كما لو قال:من أوصلها إلى البلد، أو المنزل استحق العامل الجعل».

4-كل من أمر غيره بعمل،و لم يشارطه عليه

فإنه يستحق على عمله اجرة

ص:299

المثل بالإجماع.

التنازع:

1-قال صاحب الشرائع:إذا عمل شخص لآخر،أو رد له ضالته

،و قال للمالك:أنت أمرتني بالعمل،أو شارطتني عليه،فأنكر المالك ذلك فالقول قوله بيمينه،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه،لأنه منكر،و الأصل عدم الأمر و عدم الشرط».

و يلاحظ بان هذا يتم إذا لم يكن هناك قرينة تفيد الاطمئنان،و تدل على عدم التبرع،كالحمال يحمل المتاع لإنسان،فيدعي عليه صاحب المتاع التبرع، و كأصحاب سيارات الإيجار يدعي الراكب التبرع.و لا أظن عاقلا يطلب البينة من الحمال و صاحب السيارة على ثبوت الإيجار.

2-إذا قال:من رد محفظتي فله كذا فردها له زيد،و طالبه بالجعل

،فقال له الجاعل:لقد كانت المحفظة معك و في يدك قبل أن أنشئ الجعالة،و عليه فلا تستحق شيئا،و قال العامل:بل بحثت عنها،و حصلت عليها بعد الجعالة، فاستحق عليك الجعل كاملا-إذا كان الأمر كذلك فالقول قول المالك بيمينه،لأن الأصل براءة ذمة المالك من الجعل،حتى يثبت العكس.

3-إذا اتفقا على إنشاء الجعالة،و اختلفا في قدر الجعل

-مثلا-قال المالك:جعلت عشرة دراهم للعمل.و قال العامل:بل جعلت عشرين،فمن المدعي؟و من المنكر؟ و للفقهاء خمسة أقوال في ذلك،نقلها صاحب الجواهر و المسالك و مفتاح الكرامة.و أقرب الأقوال-فيما نرى-ما ذهب إليه العلاّمة في القواعد،و الشهيد

ص:300

الأول في اللمعة،و استحسنه أكثر من فقيه،و هو أن القول قول المالك بيمينه،مع عدم البينة للجاعل،فيحلف المالك على نفي الزيادة التي يدعيها العامل،و بديهة أن اليمين لا تثبت العشرة التي يدعيها الجاعل،لأن اليمين تنفي ما يدعيه الخصم، و لا تثبت ما يدعيه الحالف لأن الدعوى انما تثبت بالبينة،و إذا لم تثبت بالبينة، و لم تثبت العشرة التي يدعيها المالك،مع العلم بأن العمل محترم،لأنه كان باذن المالك وجب الأخذ بأقل الأمرين من أجرة المثل،و ما يدعيه العامل،فإن كانت اجرة المثل أكثر مما يدعيه،كما لو افترض أنّها ثلاثون اعطي العامل المبلغ الذي ادعاه،و هو العشرون،لاعترافه بعدم استحقاق الزائد،و براءة ذمة المالك منه، و ان كانت اجرة المثل أقل مما يدعيه العامل كما لو افترض أنّها خمسة عشر فله اجرة المثل فقط.أجل،لو افترض أن ما ادعاه المالك يزيد عن أجرة المثل،كما لو قال:جعلت 18 أعطيت الزيادة عن أجرة المثل للعامل،إذ المفروض ان المالك يعترف بأن العامل يستحقها،و العامل لا ينكرها،بل يدعي استحقاق الأكثر (1).

ص:301


1- لا أدري لما ذا اختلف الفقهاء في هذه المسألة على خمسة أقوال،و أطالوا النقل و الشرح،و لم يفعلوا ذلك في مسألة اختلاف المؤجر و المستأجر في قدر الأجرة الذي أشرنا إليه في الفصل السابق فقرة التنازع رقم 3 مع أن المسألتين من باب واحد؟.و نفرق بين الصورتين بكل حذر و تحفظ بأن النزاع في قدر الأجرة بباب الإجارة يرجع إلى النزاع في أن ما يستحقه المالك على المستأجر:هل هو الأقل أو الأكثر،تماما كمسألة النزاع في مقدار الدين.أما النزاع هنا فإنما وقع في أصل الجعالة و إنشائها عشرة أو عشرين بصرف النظر عن الشخص الذي يستحقها،إذ أن مستحق الجعل حين الجعالة غير معين،اما مستحق الأجرة فمعلوم و معين.نقول هذا،و نستغفر اللّه.

ص:302

اللقطة

اشارة

ص:303

ص:304

في المال المجهول المالك،و رد المظالم،و الإعراض:

من الألفاظ المتداولة في كتب الفقه المال المجهول المالك و رد المظالم، و إعراض المالك عن ملكه،و اللقطة،بضم اللام،و فتح القاف،و قد يقع الاشتباه، و عدم تمييز بعضها عن بعض بالنظر إلى أن كلا من المظالم و اللقطة و المال المجهول المالك لا يعرف صاحبه،كما أن المال الضائع-أي اللقطة-و الذي أعرض عنه صاحبه يجوز أخذه.لذا رأينا من المفيد قبل أن نتكلم عن اللقطة التي نحن بصددها أن نمهد بالإشارة إلى ما أراده الفقهاء من الأسماء الثلاثة،و حكم كل منها ليتضح الفرق بينها و بين اللقطة من جهة،و لأن الفقهاء لم يتكلموا عنها بعنوان مستقل،و انما تعرضوا لها استطرادا للمناسبات.

و المال المجهول المالك يفسر نفسه بنفسه،حيث لا يعرف له مالكا،و هو اما ضائع،و امّا غير ضائع،و الضائع يدخل في باب اللقطة،و غير الضائع،و هو الذي عناه الفقهاء من المال المجهول المالك،لا يجوز أخذه و حيازته،و لكن قد يقع في يدك غفلة و خطأ،كما لو كنت في فندق مع شخص تجهل هويته، فيختلط بعض أمتعته بأمتعتك،ثم يذهب إلى سبيله،و لا تعرف عنه شيئا.و من المجهول المالك أن تستدين مالا من شخص،أو يضع عندك أمانة،ثم يغيب عنك غيبة منقطعة،و تنسى اسمه،و لا تعرف من يرشدك إليه.أو يصل إلى يدك مال من الغاصب و السارق دون أن تعرف له صاحبا،أو تلبس قبعة غيرك أو تأخذ محفظته،أو عصاه ظنا و اشتباها أنّها قبعتك،أو محفظتك،أو عصاك.

و حكم المال المجهول المالك إذا وقع تحت يدك أن تتصدق به عن

ص:305

صاحبه بعد اليأس من معرفته و معرفة من يقوم مقامه،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عمن وجد متاع شخص معه،و لم يعرف صاحبه؟قال:إذا كان كذلك فبعه و تصدق به.

و إذا ظهر صاحبه بعد التصدق به فلا ضمان على المتصدق،لأن اذن الشارع بالصدقة يتنافى مع الحكم بالتغريم،هذا،إلى أن النص لم يشر من قريب أو بعيد إلى ضمان هذا المتصدق،بل قال السيد الحكيم في الجزء السادس من المستمسك ص 596 طبعة 1369 ه ما نصه بالحرف:«ان النصوص الآمرة بالتصدق بمجهول المالك ظاهرة في خلاف الضمان».و قال الشيخ النائيني تعليقا على المسألة 33 من باب الخمس في كتاب العروة الوثقى:«الأقوى عدم الضمان».

أمّا رد المظالم فقال صاحب مفتاح الكرامة:«ان رد المظالم و مجهول المالك شيء واحد على المشهور».و عن الشيخ الأردبيلي أن رد المظالم هو المال الحرام المختلط بالحلال،مع العلم بقدره،و الجهل بصاحبه.

و ليس من شك أن المظالم هي الأموال التي تدخل على الإنسان من غير وجه شرعي،و ان على الظالم أن يردها إلى صاحبها أو من يقوم مقامه ان كانت عينها قائمة،و ان يرد البدل من المثل أو القيمة ان تلفت،و ان جهل صاحبها و من يقوم مقامه تصدق بها عنه.

أما الإعراض فهو أن يترك الإنسان عينا من أمواله مع نية الإعراض،و إذا تركها للخوف،أو لأي سبب من غير إعراض تبقى على ملك مالكها الأول لا يجوز التعرض لها إلاّ إذا كانت بمعرض التلف،فيأخذها بقصد الحفظ و الصيانة، و تكون في يد الآخذ أمانة شرعية،لا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط،و متى

ص:306

ترك العين صاحبها بنية الإعراض أصبحت كسائر المباحات،و جاز لغيره حيازتها و تملكها،و إذا طالب بها المالك الأول لا يجب دفعها إليه ان كانت عينها قائمة، و بالأولى أن لا يضمن العوض،مع التلف.

و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،منها ما رواه عبد اللّه بن سنان في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السّلام:«من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض قد كلت،و قامت،و سيبها صاحبها،لما لم تتبعه،فأخذها غيره،فأقام عليها،و أنفق نفقة،حتى أحياها من الكلال،و من الموت فهي له،و لا سبيل له-أي للأول- عليها،و انما هي مثل الشيء المباح».

و قد اتفق الجميع على صحة هذه الرواية،و وصفها صاحب مفتاح الكرامة في باب اللقطة بأنّها الأصل في الحكم،و بأن رواية السكوني عاضدة و مؤيدة لها، و هي:«إذا غرقت السفينة و ما فيها،فأصابه الناس،فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله،و هم-أي أصحاب السفينة-أحق به،و ما غاص عليه الناس،و تركه صاحبه فهو لهم».أي هو لمن استخرجه من البحر.

و رواية ابن سنان هي أوضح الروايات دلالة على الإعراض،و على تملك الشيء المعرض عنه،أما دلالتها على الإعراض فلاشتمالها على لفظة«سيبها» الظاهرة في العين التي لا مالك لها.قال صاحب مجمع البحرين:«كان العربي يقول:إذا رجعت من سفري فناقتي سائبة،و سئل الإمام عليه السّلام عن السائبة؟فقال:

هو الرجل يعتق غلامه فيقول له:اذهب حيث شئت،ليس لي من أمرك شيء».

و قال صاحب الجواهر:«ان مورد الرواية الترك و الإعراض،لا خصوص الاعراض،و لا خصوص الترك».

أمّا تملك الآخذ للشيء الذي أعرض عنه صاحبه فيدل عليه صراحة قول

ص:307

الإمام عليه السّلام:«هي له،و لا سبيل للمالك الأول عليها،و هي مثل الشيء المباح».

و من ملكية الثاني الذي حاز العين نستكشف زوال ملكية الأول عنها،و إلاّ لزم اجتماع ملكين على شيء واحد،و بديهة أن اجتماع المثلين محال،كاجتماع الضدين.و لكن لا بد من الجزم و اليقين بأن الأول أعرض و صرف النظر،و مع الشك في أنّه أعرض أو لم يعرض تبقى العين على ملكه،حتى و لو تركها،لأن الترك أعم من الاعراض،كما صرح بذلك صاحب الجواهر أكثر من مرّة في باب اللقطة.

و إذا زالت ملكية الأول عن العين التي أعرض عنها صاحبها،و ثبتت ملكية الثاني لها بالحيازة بحكم الإمام عليه السّلام و قوله:«هي له و لا سبيل للأول عليها»،إذا كان كذلك لا يبقى موضوع للضمان لو طالب بها المالك الأول.قال صاحب الجواهر في باب اللقطة عند كلامه عن القسم الثاني،و هو التقاط الحيوان،قال ما نصه بالحرف:«أمّا عدم الضمان،فلا ريب فيه و لا إشكال ضرورة ظهور الأدلة في تملكه المنافي للضمان» (1).

و اللقطة بضم اللام،و فتح القاف هي لغة و عرفا كل مال ضائع،أخذ و لا يد لأحد عليه.و لكن توسع الفقهاء في معناها،و عمموها للملقوط الآدمي،حيث قسموا الشيء الملقوط إلى ثلاثة أقسام:إنسان،و حيوان،و مال غير حيوان، و لكل من هذه الثلاثة أحكام تخصه،و يسمى الآدمي الملقوط لقيطا و منبوذا،لأن أهله تركوه و نبذوه خوف الفقر و العار،و سنتكلم عن كل واحد من هذه الثلاثة

ص:308


1- من أحب التوسع في مسألة الاعراض فليرجع إلى المجلد السادس و الأخير من كتاب الجواهر باب اللقطة القسم الثاني،و أول كتاب نخبة الأحاديث للشيخ الكرباسي،و رأينا الذي أوضحناه مع دليله يتفق مع صاحب الجواهر. [1]

بعنوان مستقل تجنبا للاشتباه و الخلط بينها.

و في اللقطة روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:

تعرّف سنة قليلا كان-المال-أو كثيرا،و ما دون الدرهم فلا يعرف.

ص:309

الطفل اللقيط

الصبي المنبوذ:

أشرنا فيما تقدم أن الضائع قد يكون إنسانا،و قد يكون حيوانا،أو مالا غير حيوان،و نتكلم هنا عن الإنسان الضائع،و متى يصح التقاطه،و تثبت عليه للملتقط ولاية الحفظ و الحضانة و الإنفاق.

و قبل كل شيء ينبغي التنبيه إلى أن المراد باللقيط الذي يجوز التقاطه، و تترتب عليه الأحكام هو الذي نبذه أهله،و رموه و أعرضوا عنه لسبب من الأسباب،و لذا سمي منبوذا،أما الصبي الضائع الذي لم ينبذه أهله فلا يجوز التقاطه بالمعنى المصطلح،بل يسلم إلى أهله،فإنهم أولى الناس بحفظه و رعايته، و لا يجوز أن يتقدمهم أحد في ذلك،و كذا الصبي المنبوذ إذا عرفنا له كافلا، كالأب و الجد و الأم،و غيرهم ممن له الحق في حضانته،فإنه يعطى لكافله و حاضنه،و ان امتنع ألزم به قهرا عنه،بل لو التقطه شخص،ثم نبذه،فأخذه آخر ألزم الأول به،قال صاحب الجواهر:

«لو كان للطفل أب أو جد أو أم أو غيرهم ممن تجب عليه حضانته أجبر الموجود منهم على أخذه،لعدم كونه لقيطا،ضرورة وجود الكافل له،و عدم صدق كونه ضائعا عرفا،و كذا لو سبق إليه ملتقط،ثم نبذه فأخذه آخر ألزم الأول

ص:310

به،لتعلق الحكم به،و لا دليل على سقوطه عنه بنبذه».

إذن اللقيط هو الذي اجتمع به أمران:النبذ،و عدم الكافل،فإذا وجد الكافل،حتى و لو كان ملتقطا فلا يصح التقاطه.بقي شيء،و هو هل يصح التقاط كل منبوذ لا كافل له،مميزا كان،أو غير مميز؟ و قد اتفقت كلمة الفقهاء على جواز التقاط الصبي غير المميز،بل أوجبوه وجوبا كفائيا إذا كان في معرض التلف و الهلاك،يسقط عن الكل إذا قام به البعض،و يأثم الجميع إذا علموا به،و قدروا على التقاطه،و تركوه،أمّا إذا لم يخف عليه التلف و الهلاك فيستحب التقاطه.

و أيضا اتفقوا على عدم جواز التقاط البالغ العاقل،لاستقلاله بنفسه،و انتفاء الولاية عليه.أجل،يجب اسعافه إذا كان في معرض الهلاك،تماما كإنقاذ الغريق،و إطعام الجائع المضطر.و لكن وجوب الاسعاف شيء و إجراء أحكام الالتقاط عليه شيء آخر.

و اختلفوا في جواز التقاط الصبي المميز،فقال جماعة من الفقهاء:لا يجوز التقاطه،لأنه لا يسمى لقيطا في نظر العرف،و لأنه في غنى عن الحضانة و التعهد، فكان كالبالغ في حفظ نفسه،و قال آخرون،منهم صاحب الجواهر:يجوز التقاطه،و تجري عليه أحكام اللقيط،لأنه في حاجة الى التربية و التعهد،و ان كان محفوظا في نفسه.

و كل من الدليلين يصادر الآخر،و لا يقدم الحجة.و الحق أن المميز غير البالغ و المجنون لا يجوز التقاطهما،و لا يجري على أحدهما حكم اللقيط،لأن الالتقاط يقتضي الولاية الشرعية للملتقط على اللقيط في الحفظ و التربية،و الأصل عدم ولاية انسان على إنسان،أو عدم تأثير الالتقاط و إيجابه للولاية،أما افتقار

ص:311

الصبي المميز و المجنون إلى من يرعى مصالحهما فحق،و لكن الحاكم الشرعي هو الذي ينصب من يباشر ذلك دون غيره.

أجل،إذا ضاع المجنون أو المميز وجب من باب الحسبة على من رآه أن يبلّغه مأمنه،بل يجب ذلك،حتى و لو كان الضائع بالغا عاقلا.و لكن هذا شيء، و الالتقاط شيء آخر.

و بالإجمال ان أحكام اللقيط تتبع صدق هذا الاسم،لأن الأحكام تبع للأسماء،و ليس كل ضائع،و لا كل من يحتاج إلى اسعاف يقال له لقيط،و الذي يصدق عليه هذا الاسم يقينا هو الطفل غير المميز الذي نبذه أهله،و لا نعلم مكانهم،أما غيره فنشك في صدق اسم اللقيط عليه،و الأصل العدم.

و تجدر الإشارة إلى أن اللقيط لا يجب تعريفه،كما هو الشأن في غيره.

الملتقط:

ينقسم الملتقط باعتبار الشيء الملقوط إلى من يلتقط آدميا،و حيوانيا، و مالا،و المراد به هنا خصوص من يلتقط الصبي الضائع المنبوذ الذي لا كافل له، و يشترط فيمن يلتقطه ما يلي:

1-أن يكون بالغا عاقلا،لأن للملتقط نوعا من الولاية على اللقيط و ليس للصبي و المجنون الأهلية لشيء منها،بل هما في حاجة إلى من يتولى أمرهما.

2-ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة إلى أنّه يشترط في الملتقط أن يكون مسلما إذا كان اللقيط محكوما بإسلامه،كما لو التقط من مكان فيه مسلم يمكن تولده منه،لأن الالتقاط يجعل للملتقط نوعا من الولاية على اللقيط وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً النساء:140.و لأنه لا

ص:312

يؤمن أن يحمله الملتقط على ما يدين به،و عليه فإذا التقطه غير مسلم انتزع منه.

أمّا إذا لم يكن اللقيط بحكم المسلم،كما لو التقط من بلد لا مسلم فيه فيجوز أن يلتقطه المسلم و غير المسلم.

3-قال جماعة من الفقهاء:يشترط في الملتقط الرشد،و قال آخرون:

ليس الرشد بشرط،و ان للسفيه أن يلتقط الصبي المنبوذ.

و نحن مع القائلين بشرط الرشد،لأن الالتقاط يستدعي التصرف المالي، و هو الإنفاق على الملتقط،و السفيه ممنوع عنه.

ولاية الملتقط:

إذا توافرت الشروط في اللقيط و الملتقط تثبت الولاية للثاني على الأول، و الولاية هنا هي أن الملتقط أحق و أولى الناس جميعا بحفظ الطفل و رعايته و حضانته و تربيته و تنشئته،حتى يبلغ و يملك أمره،لا يزاحمه أحد في ذلك إلاّ إذا ظهر من له حق الولاية و الحضانة عليه،كأحد الأبوين،أو الأجداد:أو الأقارب الذين تنتقل إليهم الحضانة عند عدم الأبوين و الأجداد،حيث يخرج الطفل مع وجود واحد من هؤلاء عن عنوان اللقيط الذي لا كافل له.

و إذا عجز الملتقط عن حضانة الطفل و رعايته بالمعروف سلمه إلى الحاكم لأن العجز يسقط التكليف،و الحاكم ولي من لا ولي له.

و إذا تزاحم اثنان على التقاط الطفل قدّم السابق،و مع عدمه يقدم الأصلح للطفل،و مع التساوي في الشروط و المصلحة يقرع بينهما،فمن خرج اسمه كان هو المستحق،قال تعالى وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ آل عمران:44.و إلقاء الأقلام هو القرعة بالذات.

ص:313

و اللقيط حر،فإذا بلغ ملك أمره،و لا سبيل لأحد عليه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«اللقيط لا يشترى و لا يباع.فإن أحب أن يوالي غير الذي رباه والاه».

أي أن اللقيط بعد بلوغه إذا أحب أن يتخذ وليا بضمان الجريرة (1)يرث كل منهما الآخر كان له ذلك،قال صاحب الجواهر:«لا ولاء للملتقط على اللقيط،بل هو سائبة-أي لا سلطان لأحد عليه-يتولى من شاء.و الإجماع على ذلك، للأصل و النصوص،و حصر الولاء في المعتق بقول الامام عليه السّلام:انما الولاء لمن أعتق».

الإنفاق على اللقيط:

أجمعوا على أن الملتقط لا تجب عليه نفقة اللقيط،فان كان له مال،كما لو وجد المال مشدودا في ثيابه،أو تحته أو فوقه أو إلى جانبه أنفق عليه من ماله بإذن الحاكم،إذ لا ولاية للملتقط إلاّ في الكفالة و الحضانة.تماما كالأم التي تملك الحضانة دون الإنفاق مع وجود الأب،فإن تعذر الرجوع إلى الحاكم أو وكيله أنفق عليه بالمعروف.و إذا لم يكن للقيط مال فنفقته من بيت المال،فان تعذر يستعين الملتقط بالمحسنين،فان تعذرت الاستعانة بهم أنفق الملتقط من ماله،و رجع بما أنفق على اللقيط بعد بلوغه و يساره إذا لم ينو التبرع،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

المنبوذ حر،فإذا كبر فان شاء توالى الذي التقطه،و إلاّ فيرد عليه النفقة.و سئل عن اللقيطة؟فقال:لا تباع و لا تشترى،و لكن تستخدمها بما أنفقت عليها.

ص:314


1- إذا لم يكن للإنسان وارث فله أن يتعاقد مع آخر مثله لا وارث له،و يقول له:دمك دمي و ثأرك ثاري،أعقل عنك،أي أتحمل دية جنايتك،و تعقل عني،و ترثني وارثك،فإذا تم بينهما هذا التعاقد سمي كل منهما ضامنا لجريرة الآخر،و يكون أولى بميراث صاحبه من بيت المال.
الإقرار ببنوة اللقيط:

كل من أقر ببنوة طفل مجهول النسب،و أمكن تولده منه دون أن يعارضه أحد في ذلك يؤخذ بإقراره،و يعطى الطفل اليه بلا بينة،سواء أ كان الطفل لقيطا أو غير لقيط،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،و لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز،و لقول الإمام عليه السّلام:«إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينف عنه أبدا».

و أيضا يؤخذ بإقرار المرأة بلا بينة إذا ادعت بنوة طفل مجهول النسب،مع إمكان تولده منها،و إذا ادعاه اثنان في آن واحد،و لا بينة لأحدهما أقرع بينهما، و إذا كان أحد المتداعين هو الملتقط فلا يقدم قوله على غيره،لأن اليد امارة على الملك لا على النسب.

ص:315

لقطة الحيوان

الكراهية:

الحيوان الضائع يسمى ضالة،و يجوز التقاطه على كراهية،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يأوي الضالة إلاّ الضال،و عن الإمام الصادق عليه السّلام أن علي بن الحسين عليهما السّلام كان يقول لأهله:لا تمسوا الضالة.

و ترتفع الكراهية إذا كانت الضالة في معرض الهلاك،بل التقاطها،و الحال هذي،أفضل من تركها،و به يشعر حديث:«هي لك،أو لأخيك،أو للذئب» حيث يومئ إلى الترغيب في أخذها خشية أن يأكلها الذئب،إذ المعنى أنّك ان أخذتها و لم تعرف لها مالكا بعد التعريف و البحث تكون لك،و ان عرفته فقد حفظت مال أخيك،و سلمته إليه،و ان تركتها أكلها الذئب.

الأقسام:
1-أن يوجد في العمران

،أي المحل المأهول،و ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة إلى أن هذا الحيوان لا يجوز أخذه،و وضع اليد عليه،سواء أ كان كبيرا يحفظ نفسه من صغار السباع،أو صغيرا يعجز عن ذلك،لأن الأصل عدم جواز الاستيلاء على مال الغير،و لأن الحيوان محفوظ في العمران،فإن أخذ

ص:316

منه ضمن الآخذ،لأنه غاصب.أجل،لو كان في معرض التلف،لمرض أو نحوه جاز أخذه بنية الحفظ لصاحبه،فإن عرفه سلمه إليه،و إلاّ فإلى الحاكم،لأنه ولي الغائب،و إذا أهمله،و لم يتعرض له،بل تركه حتى هلك فلا ضمان و لا اثم عليه، لأنه ليس نفسا محترمة يجب حفظها و انقاذها،كما هو الشأن في الإنسان.

و تسأل:ان حفظ مال الغير تعاون على البر و التقوى،و اللّه سبحانه قد أمر بهذا التعاون،و الأمر يدل على الوجوب،و عليه فمن تركه فهو آثم؟ و الجواب:ان الأمر بالتعاون على البر ليس واجبا إطلاقا،و لا مستحبا كذلك،بل يختلف وجوبا و استحبابا باختلاف موارده،فيجب كفاية ان كان فيه حفظ نفس محترمة،و يستحب في حفظ مال الغير،و ما إليه.

2-ان يوجد في غير العمران

،و ان يكون من نوع الحيوانات التي تحفظ نفسها من صغار السباع،كالبعير و الفرس و الجاموس و الثور،ان كان كذلك فلا يجوز أخذه و وضع اليد عليه ان كان صحيحا،و ان لم يكن في ماء و كلأ،أو كان غير صحيح،و لكنه في ماء و كلأ يتمكن منهما،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن البعير؟فقال للسائل ما لك و له؟ خفه حذاؤه،و كرشه سقاؤه،خل عنه (1)؟فمن أخذه في صورة عدم الجواز كان ضامنا بلا خلاف و لا اشكال،لعموم على اليد ما أخذت حتى تؤدي،مع عدم الاذن من الشارع،أو المالك.و إذا رده إلى محله الذي كان فيه لا يبرأ من الضمان.

أجل،إذا سلمه إلى صاحبه،أو إلى الحاكم إذا لم يعرف له صاحبا يبرأ من

ص:317


1- النص مختص بالبعير،و لكن الفقهاء عمموه إلى كل حيوان لا خوف عليه من الهلاك،قال صاحب مفتاح الكرامة:« [1]المستفاد من النصوص ان وجه الحكم في جواز التقاطه و عدمه انما هو الأمن من تلفه بامتناعه من صغار السباع و عدمه».استفاد الفقهاء ذلك من فحوى خفه حذاؤه، و كرشه سقاؤه.

الضمان قطعا».

3-للحيوان الذي يحفظ نفسه ثلاث حالات باعتبار جواز الأخذ و عدمه

.

الأولى أن يكون سليما و في فلاة لا ماء فيها و لا كلأ،الثانية غير سليم،و لكنه في ماء و كلأ،و أشرنا في الرقم السابق إلى حكم هاتين الحالين،و أنّه لا يجوز أخذه، الثالثة غير سليم و في غير ماء و كلأ،و نتكلم الآن عن هذه الحال،و قد عبر الفقهاء عنها بمن ترك بعيرا،أو ما يلحق به لضعفه و عجزه عن متابعته،تركه في فلاة لا ماء فيها و لا كلأ،و أجمعوا إلاّ من شذ بشهادة صاحب الجواهر على جواز أخذه و تملكه،و عدم ضمان الآخذ،كما هو مقتضى التملك.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان أمير المؤمنين عليا عليه السّلام قضى في رجل ترك دابته من جهد،قال:ان تركها في ماء و كلأ من غير خوف فهي له، يأخذها-المالك-حيث أصابها،و ان كان تركها في خوف؟و على غير ماء و كلأ فهي لمن أصابها.

فقوله هي لمن أصابها صريح في الدلالة على تملك الواجد لها،قال صاحب الشرائع و الجواهر:

«لو ترك البعير عن جهد في غير ماء و كلأ جاز أخذه،لأنه كالتالف،و يملكه الآخذ،و لا ضمان،لأنه كالمباح،و كذا الدابة-أي الفرس-و البقرة و الحمار،إذا ترك من جهد في غير كلأ أو ماء.أما عدم الضمان فلا خلاف فيه و لا إشكال ضرورة ظهور الأدلة في تملكه المنافي للضمان معه.بل في التنقيح الإجماع عليه،قال-أي صاحب التنقيح-لو أخذ الجائز آخذ فهو له،و لا يجب عليه دفع قيمته للمالك لو ظهر،و ان أقام بينة،أو صدقه الملتقط إجماعا».

ثم أن البعير و ما يلحق به لا يجب تعريفه،بل يجوز التقاطه،و تملكه من

ص:318

غير تعريف إذا اجتمع الشرطان:الأول أن يتركه صاحبه من جهد،الثاني ان يكون الترك في غير ماء و كلأ،و إذا انتفى أحد الشرطين،كما لو ترك من غير جهد،أو من جهد،و لكن في ماء و كلأ فلا يجوز أخذه.قال صاحب مفتاح الكرامة:«ان البعير و ما ضاهاه امّا حرام الأخذ،و امّا جائز بلا تعريف».

4-أجمعوا على أن من وجد شاة في فلاة فله أن يأخذها

بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب التذكرة على أن من وجد شاة في فلاة فله أن يأخذها،لأنها لا تمتنع من صغار السباع،فكانت بحكم التالفة.

و ألحق المشهور بشهادة صاحب المسالك بالشاة كل ما لا يمتنع من صغير السباع،كأطفال الإبل و الخيل و الحمير و الدجاج و الإوز.و إذا أخذها الواجد كان مخيرا بين أن يحفظها عنده أمانة شرعية،و بين أن يدفعها إلى الحاكم،و بين ان يتملكها بعد التعريف.

و يدل على هذا التخيير ان الشاة و ما إليها لقطة فله أن يتملكها،و ان يبقيها أمانة في يده،و ان يدفعها إلى الحاكم،لأنه نائب الغائب،و منصوب للمصالح، فان حفظها للمالك،ثم تلفت دون تعد أو تفريط فلا ضمان عليه،لأنه أمين محسن،إذ المفروض أنّه مأذون بالأخذ،و كذا لو سلمها إلى الحاكم،لأنه كالتسليم إلى المالك،أما إذا تملكها فيضمن ان ظهر صاحبها،و طالب بها،و إلاّ فلا شيء على الملتقط،فقد روي عن الإمام عليه السّلام أن جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن رجل أصاب شاة في الصحراء،هل تحل له؟فقال للسائل:«هي لك،أو لأخيك، أو للذئب،فخذها و عرفها حيث أصبتها،فإن عرفت فردها إلى صاحبها،و ان لم تعرف فكلها،و أنت ضامن لها ان جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردها عليه».

فقوله:«أنت ضامن ان جاء صاحبها»يدل بالمفهوم أن صاحبها ان لم

ص:319

يجيء فلا ضمان،و يؤيد هذا قول الإمام الصادق عليه السّلام في صحيحة الحلبي:«فإن جاء لها طالب،و إلاّ فهي كسبيل ماله».و هذه الصحيحة حجة على صاحب الجواهر،حيث قال:هو ضامن على كل حال،جاء صاحبها،أو لم يجيء؟لأن مجيئه شرط للرد عليه،لا لأصل الضمان،و ان مثل لقطة الشاة،تماما كالدين يؤديه للمالك إذا جاء،و ان يئس منه فحكمه حكم مجهول المالك،أي يتصدق بها عن المالك (1).

تعريف الشاة:

هل يجب تعريف الشاة،و ما إليها؟ سبق أن البعير لا يجب تعريفه،أما الشاة و ما يلحق بها فللفقهاء في وجوب تعريفها قولان،فمن قائل بعدم وجوبه،لأن الأدلة التي أوجبت التعريف منصرفة إلى لقطة الأموال غير الحيوان،و قال آخرون،و منهم صاحب الجواهر بوجوبه، لقول الإمام عليه السّلام:«لا يأكل الضالة إلاّ الضالون إذا لم يعرفوها».و الشاة أظهر أفراد الضالة.و هؤلاء الذين أوجبوا التعريف قالوا:لا بد قبل أن يتصرف الملتقط بالشاة و نحوها أن يحفظ أوصافها كاملة،حتى إذا جاء صاحبها،و اقام البينة على

ص:320


1- ما قاله صاحب الجواهر [1]من الضمان على كل حال هو المشهور،و لكني لم اطمئن إلى مستند الشهرة،و يظهر من السيد الحكيم عدم الركون إليه أيضا،و لكنه توقف،و لم يحكم بالضمان و لا بالعدم،قال في منهاج الصالحين ج 2 باب اللقطة ما نصه بالحرف:« [2]المشهور أن يضمنها بقيمتها، و قيل:لا يضمن،بل عليه دفع القيمة إذا جاء صاحبها من دون اشتغال ذمته بمال،و كلاهما محل اشكال».و قوله دون اشتغال ذمته بمال إشارة إلى الفرق بين الضمان و الغرامة،فإن الضمان أن يثبت المال في ذمة الملتقط قبل مجيء المالك و مطالبته،أمّا الغرامة فأعم،حيث تصدق على دفع العوض للمالك عند المطالبة دون أن تشتغل الذمة من قبل.

ملكيته وفقا للأوصاف دفع إليه قيمتها.

الملتقط:

قدمنا في فصل«الطفل اللقيط»أنّه يشترط فيمن يلتقط الصبي البلوغ و العقل و الرشد و الإسلام إذا كان الصبي محكوما بإسلامه،لأن التقاطه يوجب للملتقط نوعا من الولاية على اللقيط.و بديهة أن فاقد الأهلية يحتاج إلى من يتولى أمره.أما من يلتقط الحيوان فلا يشترط فيه شيء من ذلك،لأن التقاطه مجرد اكتساب للمال،و هو يصح من العاقل و المجنون،و الكبير و الصغير،و الرشيد و السفيه،و المسلم و غير المسلم،و لذا قال كثير من الفقهاء:«لا يشترط في الآخذ إلاّ الأخذ»أي لا يشترط في هذه اللقطة شيئا زائدا على الالتقاط.

و لكن الولي ينتزع الضالة من يد الصغير و المجنون و السفيه كما هو الشأن في سائر أموالهم،و يتولى الوظيفة المطلوبة من التعريف،و ما تستدعيه مصلحة القاصر من تملكه للضالة،و تضمينه إياها،أو إبقائها أمانة شرعية لصاحبها،أو دفعها إلى الحاكم،قال صاحب الجواهر:«لا خلاف في شيء من ذلك».

مسائل:
1-ليس من اللقطة ما يدخل البيوت من الطيور الدواجن

،كالدجاج و الحمام،بل هو من مجهول المالك يبحث صاحب البيت عن المالك في مظان وجوده،و بعد اليأس منه يتصدق به،أو بثمنه عن المالك.

2-إذا صار الحيوان أهليا

،كالغزال،ثم نفر إلى البرية و الجبال،و امتنع على صاحبه فلا يجوز لأحد التقاطه،و لا صيده،لأنه مملوك،و الامتناع لا يخرج

ص:321

عن الملك،و كذا الطير.

3-سبق في أول هذا الفصل أن الحيوان لا يجوز التقاطه من العمران

، و استثنى المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة،استثنوا الشاة و قالوا:يجوز التقاطها من العمران،و على الملتقط أن يحتبسها عنده ثلاثة أيام، و يسأل عن صاحبها،فإن لم يجده باعها،و تصدق عنه بثمنها،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«جاءني رجل من أهل المدينة،فسألني عن رجل أصاب شاة؟ فأمرته أن يحبسها عنده ثلاثة أيام،و يسأل عن صاحبها،فإن جاء،و إلاّ باعها، و تصدق بثمنها».

قال صاحب الجواهر:«هذا الخبر ضعيف،و غير خاص بالعمران إلاّ أنه منجبر بفتوى كبار الفقهاء.بل نسبه غير واحد إلى الشهرة،بل الى الفقهاء مشعرا بالإجماع».

ص:322

لقطة المال

معناها:

سبق أن معنى اللقطة لغة و عرفا كل مال ضائع أخذ،و لا يد لأحد عليه،و ان الفقهاء توسعوا فيها،و عمموا اللقطة إلى التقاط الآدمي المعبر عنه باللقيط، و قسموها إليه،و إلى لقطة الحيوان،و لقطة المال،و تقدم الكلام عن اللقيط، و لقطة الحيوان،و نتكلم في هذا الفصل عن لقطة المال.

و بديهة أن اللقطة لا تتحقق إلاّ بالأخذ و الالتقاط،فلو أن إنسانا رأى مالا ضائعا،فأخبر به آخر،فالتقطه كان هو الملتقط دون الرائي المخبر.

و الفرق بين اللقطة،و بين المال المجهول المالك ان اسم الضياع ينطبق على الأولى دون الثاني.و يتفرع على هذا أنك إذا رأيت شيئا فظننته لك،و بعد أن أخذته تبين أنّه لغيرك،فإن عرفت صاحبه رددته إليه،و ان لم تعرفه،فإن صدق عليه اسم الضائع،كما لو رأيته في الطريق أو في فلاة فهو لقطة،و إذا لم يصدق عليه اسم الضائع،كما إذا كنت جالسا إلى رجل تجهل هويته،و أمامه«علبة» سجائر-مثلا-فأخذتها ظانا أنّها لك،ثم تبين أنّها للجليس المجهول لديك،إذا كان كذلك فالعلبة من المال المجهول المالك،لا من اللقطة.

ص:323

بين لقطة الحرم و غيرها:

اختلف الفقهاء في المال الضائع في الحرم-أي مكة المكرمة-هل يجوز التقاطه؟و أصح الأقوال القول الذي فصل بين التقاطه بنية التملك و بين التقاطه بنية الإنشاد و البحث عن صاحبه،فمنع الأول و أباح الثاني،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا تحل لقطتها-أي مكة-إلاّ لمنشد»أي لمن يعرّف عنها،و ينشد صاحبها.و سأل الفضل بن يسار الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يجد اللقطة في الحرم؟قال:لا يمسها،و أما أنت فلا بأس،لأنك تعرّفها.

فتعليل الإمام بقوله:لأنك تعرّفها يدل على أن كل من أراد أخذها بنية الإنشاد و التعريف جاز له ذلك،حتى و لو كان المال كثيرا.و إذا أخذ المال من الحرم بقصد التملك فعليه أن يعرفه حولا كاملا،فان لم يعرف له صاحبا تصدق به،فإذا جاء صاحبه بعد التصدق دفع إليه البدل من المثل أو القيمة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عمن وجد دينارا في الحرم فأخذه؟قال:بئس ما صنع،ما كان ينبغي له أن يأخذه.قال السائل:قد ابتلي بذلك.قال الإمام عليه السّلام:يعرفه سنة.قال السائل:

قد عرفه،فلم يجد له ناعتا.قال الإمام عليه السّلام:يرجع إلى بلده فيتصدق به على أهل بيت من المسلمين،فان جاء طالبه فهو له ضامن.

أما لقطة غير الحرم فتجوز على كراهية،قال الإمام الصادق عليه السّلام:أفضل ما يستعمله الإنسان في اللقطة إذا وجدها أن لا يأخذها،و لا يتعرض لها،فلو أن الناس تركوا ما يجدونه لجاء صاحبه فأخذه.

أقل من درهم:

إذا كانت اللقطة في غير الحرم،و قيمتها دون الدرهم-أي تعادل ليرة لبنانية

ص:324

على التقريب-جاز تملكها من غير تعريف إجماعا و نصا و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«ان كانت اللقطة دون الدرهم فهي لك،لا تعرّفها».و قال:لا بأس بلقطة العصا،و الشظاظ-هي قطعة من خشب تستعمل في شد الأحمال-و الوتد و العقال و أشباهه.ليس لهذه طالب.

فان الغالب أن تكون قيمة هذه الأشياء دون الدرهم،و قوله:ليس لها طالب إشارة إلى أن المالك يعرض عنها،و لا يطلبها بحسب العادة.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة إلى أن الملتقط إذا نوى تملك ما لا تبلغ قيمته درهما،ثم ظهر صاحبه فلا يجب رده عليه لا عينا و لا بدلا،لأن قول الإمام عليه السّلام«هي لك لا تعرفها»صريح في التملك.و قال جماعة من الفقهاء يرد العين ان كانت قائمة،و لا يرد بدلها ان كانت هالكة.

درهم فأكثر:
اشارة

إذا كانت اللقطة في غير الحرم،و كانت درهما أو أكثر عينا أو قيمة عرفها الملتقط حولا ان لم يعلم بعدم الجدوى من التعريف،و بعده يتخير بين أمور ثلاثة:

1-ان يتملكها و عليه ضمانها

،أي إذا حضر المالك دفعها إليه ان كانت قائمة،و دفع بدلها ان كانت تالفة،و ليس له أن يتملكها قبل تعريف الحول،فلو نوى التملك قبل مضي الحول ضمنها،و لو مع عدم التعدي أو التفريط،لأنه كالغاصب.قال صاحب الجواهر:«لا إشكال في استفادة جواز تملكها بعد التعريف من النصوص،مضافا إلى الإجماع».من هذه النصوص قول الإمام الصادق عليه السّلام:«تعرفها-أي اللقطة-سنة،فإن وجدت صاحبها،و إلاّ فأنت أحق

ص:325

بها».أي.ان لم يأت صاحبها فلا شيء عليك،و يؤكد ذلك قول الإمام في رواية أخرى:«هي كسائر ماله».

2-ان يتصدق بها الملتقط عن المالك

،و لكن إذا حضر المالك،و لم يقر الصدقة عنه فعلى الملتقط أن يدفع عوضها من المثل أو القيمة،فعن الإمام الصادق عليه السّلام:يعرفها حولا،فإن أصاب صاحبها ردها عليه،و إلاّ تصدق بها،فإن جاء صاحبها بعد ذلك خيّره بين الأجر-أي بين إمضاء الصدقة-و بين الغرم،فإن اختار الأجر فله الأجر و ان اختار الغرم فله الغرم.قال صاحب مفتاح الكرامة:

«الضمان مع الصدقة إذا كره المالك لم يختلف عليه اثنان فيما أجد».و تجدر الإشارة إلى أنّه إذا لم يجيء صاحبها فلا شيء عليه.

3-ان يبقيها الملتقط في يده أمانة شرعية لمالكها

،و عليه فلا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط،كما هو شأن الأمانات الشرعية.قال صاحب المسالك:

«يبقيها في يده أمانة في حرز أمثالها،كالوديعة،فلا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط،لأنه محسن إلى المالك بحفظ ماله و حراسته،فلا يتعلق به ضمان، لانتفاء السبيل على المحسن».

ما يسرع إليه الفساد:

إذا التقط ما يسرع إليه الفساد،كاللحم و الخبز و الفاكهة و الخضار فالملتقط بالخيار بين أن يتملكه بالقيمة،و يأكله،و بين أن يبيعه،و يحفظ ثمنه أمانة شرعية لصاحبه،و عليه أن يحفظ الخصوصيات و الصفات التي عليها اللحم و ما إليه قبل أن يأكل أو يبيع،ثم يعرفه سنة،مع عدم اليأس من جدوى التعريف،فان جاء المالك دفع الثمن إليه ان باع،و القيمة يوم الأكل ان أكل،و ان لم يجيء فلا شيء عليه.

ص:326

و يدل على جواز الأكل بعد التقويم ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن أمير المؤمنين عليا عليه السّلام سئل عن سفرة وجدت مطروحة في الطريق،كثير لحمها و خبزها و جبنها،و فيها سكين؟قال:يقوّم ما فيها،و يؤكل،لأنه يفسد،و ليس له بقاء،فان جاء طالبها غرموا له الثمن.قال السائل:يا أمير المؤمنين لا يدرى أ سفرة مسلم،أو سفرة مجوسي؟قال:هم في سعة،حتى يعلموا.

أما جواز بيع الطعام فلأنه قد أبيح اكله للملتقط فيباح له بيعه،و كذا يجوز للملتقط ان يسلم الطعام أو ثمنه للحاكم الشرعي باعتباره ولي الغائب.

الملتقط:

ملتقط المال تماما كملتقط الضالة لا يشترط فيه العقل و لا البلوغ و لا الرشد و لا الإسلام،لأن التقاط المال مجرد اكتساب،و هو يصح من الناقص و الكامل على السواء.و يتولى الأمر عن القاصر الولي،فإن كانت اللقطة دون الدرهم قصد الولي التملك للقاصر،و ان كانت أكثر تخير بين الأمور الثلاثة المتقدمة.

الكنز:

كل مال يوجد في مكان قفر،أو خربة باد أهلها،أو في أرض لا مالك لها، و حصل الاطمئنان ان المال ليس لأهل هذا الزمان فهو لمن وجده بلا تعريف، و لا يجري عليه حكم اللقطة.أجل،يجب إخراج خمسه،كما تقدم في الجزء الثاني باب الخمس،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الورق-أي الدراهم-يوجد في دار؟ قال:ان كانت معمورة فهي لأهلها،و ان كانت خربة فأنت أحق بما وجدت.

و إذا دلت القرائن و العلامات ان المال لأهل هذا الزمان فهو لقطة يجري

ص:327

عليه حكمها من التملك بلا تعريف ان كانت دون الدرهم،و إلاّ وجب التعريف، ثم التخيير على النحو المتقدم.

في جوف الحيوان و السمكة:

من وجد مالا في جوف حيوان انتقل إليه من غيره،عرض المال على المالك السابق.فإن لم يتعرف عليه فهو لواجده،و ان ادعاه المالك الأول فهو له بلا بينة،لسبق يده على الحيوان،و لأن الإمام سئل عن رجل اشترى جزورا،أو بقرة للأضاحي،فلما ذبحها وجد في جوفها صرة فيها دراهم،أو دنانير،أو جوهرة،لمن يكون ذلك؟فقال:عرّفها البائع،فإن لم يعرفها فالشيء لك، رزقك اللّه إياه.

و من اشترى سمكة فوجد في جوفها لؤلؤة،و ما إليها فهي له،لأنّها قد ملكت بالحيازة،و المحيز قصد تملكها خاصة لجهله بما في بطنها،و لكن قصده لتملك السمكة قصد اللؤلؤة بالتبع.

طرق الإثبات:

لا تعطى اللقطة لمن يدعي ملكيتها إلاّ مع العلم بأنّها له،أو بشاهدي عدل، أو بشاهد و يمين،أو شاهد و امرأتين.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة و المسالك إلى أن المدعي إذا وصفها،و ظن الملتقط صدقه يجوز أن يدفعها إليه،و لكنه لا يجبر على ذلك، قال صاحب الجواهر:«ان يتبرع الملتقط بتسليم اللقطة لمن وصفها لم يمنع،و ان امتنع لم يجبر».

ص:328

و استدلوا على ذلك بما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال:ان جاء ناعتها، فعرف عقاصها-أي الخيط الذي ربطت به-و عددها فادفعها إليه.و قول الإمام عليه السّلام:ان جاءك طالب لا تتهمه رده عليه.

و الحق ان الوصف ليس بشيء ما لم يحصل منه الاطمئنان بالصدق،أما النص المذكور فعلى تقدير ثبوته يحمل على ما إذا حصل من الوصف الوثوق و الاطمئنان.و على هذا،فإذا دفع الملتقط المال إلى الواصف دون أن يطمئن إلى صدقة،ثم جاء آخر،و أقام بينة شرعية أن اللقطة له فعلى الملتقط الضمان،و لكنه إذا دفع للمالك رجع بدوره على الواصف،حيث يستقر الضمان عليه ان تلف المال في يده،و ان كانت عينه قائمة انتزع منه،و اعطي للمالك.

مسائل:
1-يسقط التعريف

،مع اليأس من وجدان المالك،لعدم الجدوى.

2-اللقطة أمانة شرعية في يد الملتقط مدّة التعريف

،لا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط.

3-إذا كان للضالة الملتقطة نماء

،كاللبن و الصوف فهو للمالك في زمن التعريف،و بعده أيضا ان لم يقصد الملتقط التملك،و ان قصده بعد التعريف فهو له،لا للمالك.

4-يجوز أن يكون الملتقط أكثر من واحد

،و عليه فإن كانت اللقطة دون الدرهم اقتسماها من غير تعريف،و إلاّ تصدى لتعريفها أحدهما أو كلاهما،أو بتوزيع الحول بينهما،و بعده يجوز ان يتفقا على التملك،أو التصدق،أو الإبقاء أمانة شرعية لصاحبها،و أيضا يجوز أن يختار أحدهما غير ما يختاره الآخر.

ص:329

5-إذا مات الملتقط قام ورثته مقامه

،فان مات قبل حول التعريف أتموه، و ان مات بعده،و كان قد قصد تملك المال الملقوط كان كسائر ما ترك،على شريطة أن يضمنوا للمالك إن وجد،تماما كما هي الحال بالنسبة إلى الملتقط، و ان مات بعد التعريف،و قبل أن يقصد التمليك فالورثة بالخيار بين الأمور الثلاثة من التملك أو التصدق مع الضمان،أو إبقاء المال أمانة شرعية لصاحبه،و ان كان الملتقط قد اختار الامانة لصاحبه تعين على الورثة الالتزام بما اختار مورثهم.

6-قال جميل بن صالح:قلت للإمام الصادق عليه السّلام:رجل وجد في منزله

دينارا

؟قال:أ يدخل في منزله غيره؟قلت:نعم،كثير.قال:هذا لقطة.قلت:

وجد في صندوقه دينارا؟قال:أ يدخل أحد يده في صندوقه غيره،أو يضع فيه شيئا؟قلت:لا،قال:هو له.

و قد أفتى الفقهاء بهذه الرواية،و قالوا:إذا وجد شيئا في داره لا يعلم:هل هو له،أو لغيره ينظر:فان وجد في غرفة الاستقبال التي يتردد عليها زائروه فهو لقطة،و إلاّ فهو له.

ص:330

الصيد

اشارة

ص:331

ص:332

المعنى:

للصيد معنيان:الأول المعنى الذي يفهمه الناس من لفظ الصيد عند إطلاقه، و هو محاولة الاستيلاء على الحيوان الممتنع بحسب أصله،بحريا كان أو بريا، طائرا،أو غير طائر،و هذا الاصطياد جائز إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا المائدة:3.و قوله عز من قائل أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ المائدة:96.و المراد بالسيارة المسافرون.و الصيد بهذا المعنى خارج موضوعا عن هذا الفصل،و يدخل في باب المكاسب من حيث انّه سبب للتملك بالحيازة و الاستيلاء.

المعنى الثاني:أن تزهق روح الحيوان بآلة الصيد نفسها،كالسيف و الرمح و السهم،و الكلب،و ما إلى ذاك،لا بالذبح المعروف المألوف،و هذا المعنى هو المراد و المقصود بالبحث هنا دون غيره.فالفقهاء في هذا الفصل يتجهون بكلامهم و تحقيقاتهم إلى أن الصيد المقتول بسبب اداة من أدوات الصيد:هل هو مذكى ذكاة شرعية يحل أكله تماما كالمذبوح،أو هو ميتة يحرم أكلها؟ و قد مهد الفقهاء لذلك بتقسيم اداة الصيد إلى قسمين:الأول ما كان من نوع الحيوانات،كالكلب و الفهد و الذئب و البازي و الصقر و العقاب و الباشق.الثاني:

من نوع الجوامد،كالسيف و الرمح و السهم،و الفخ و الشبكة و الحبال،و ما إليها، ثم بينوا حكم الصيد بكل منهما على الوجه التالي:

ص:333

الصيد بالحيوان:

أجمعوا كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر و المسالك،و غيرهما على أن التذكية الشرعية تتحقق بصيد الكلب،مع الشروط الآتية،و ان الصيد إذا خرجت روحه بقتل الكلب يحل اكله تماما كالمذبوح على الوجه المعتبر شرعا إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ المائدة:4.أراد بمكلبين الكلاب المعلمة المدربة على الصيد،و ان مقتولها يحل اكله تماما كالمذكى بالذبح.و في معنى الآية الكريمة روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام تأتي الإشارة إلى بعضها.

و اختلف الفقهاء في صيد غير الكلب من الحيوانات،كالفهد و الصقر،و ما إليهما،فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى أن صيدها ميتة لا يحل أكله إطلاقا،حتى و لو كانت معلمة.و استدلوا على ذلك بالآية المتقدمة، حيث خصصت الجواز بصيد الكلب المعلم،و بأن الامام الصادق عليه السّلام سئل عن صيد البزاة و الصقور،و الكلب و الفهد؟فقال:لا تأكل صيد شيء من هذه إلاّ ما ذكيتم إلاّ الكلب المكلب-اي المعلم-قال السائل:فإن قتله الكلب؟قال الإمام:

كل،لأن اللّه عز و جل يقول وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .ثم قال الإمام:كل شيء من السباع تمسك على نفسها إلاّ الكلاب المعلمة،فإنّها تمسك على صاحبها.

و في رواية ثانية و صحيحة بشهادة صاحب الجواهر أنّه قال:ليس شيء يؤكل منه مكلب-أي معلم-إلاّ الكلب.و قال:خلاف الكلاب مما يعيده الفهود

ص:334

و الصقور و أشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته،لأن اللّه عز و جل قال مُكَلِّبِينَ ،فما خلا الكلاب فليس صيده بالذي يؤكل إلاّ أن تدرك ذكاته.

و كل ما خالف هذا النص فهو شاذ متروك.اذن،ما عدا صيد الكلب من الحيوانات لا يحل أكله إلاّ مع الذبح على الوجه الشرعي.

الشروط:

اشارة

يشترط في حلّية صيد الكلب ما يلي:

1-ان يكون معلما

،و المرجع لتمييزه عن غيره أهل الخبرة،و قال الفقهاء:ان تعليم الكلب يتحقق بإرساله إذا أرسله صاحبه،و بزجره إذا زجره، و بعدم الاعتياد على أكل ما يمسك من الصيد-في الغالب-و النادر بحكم العدم.

2-ان يرسله صاحبه بقصد الصيد

،فلو انطلق الكلب من تلقائه،و أتى بالصيد مقتولا فلا يحل،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن كلب أفلت،و لم يرسله صاحبه فصاد،فأدركه صاحبه،و قد قتله، أ يأكل منه؟قال:لا».

3-ان يكون الصائد الذي يرسل الكلب مسلما،أو بحكمه كالصبي

المميز

،و الصبية المميزة،لأن الإرسال نوع من التذكية،و من شروطها إسلام المذكي.و لا يصح إرسال الصبي غير المميز و لا المجنون،حيث لا شأن لقصدهما.

4-ان يسمي الصائد عند إرسال الكلب،فيقول:اذهب على اسم

،أو بسم اللّه الرحمن الرحيم،و ما إلى ذاك،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك، و النصوص مستفيضة».منها قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .و قول الإمام الصادق عليه السّلام:من أرسل كلبه،و لم يسم فلا يأكله.

ص:335

،أو بسم اللّه الرحمن الرحيم،و ما إلى ذاك،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك، و النصوص مستفيضة».منها قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .و قول الإمام الصادق عليه السّلام:من أرسل كلبه،و لم يسم فلا يأكله.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه لو ترك التسمية نسيانا لا يحرم الصيد،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ان كنت ناسيا فكل منه.

و إذا تركها جاهلا بالوجوب فلا يحل الأكل،لأن الأصل عدم التذكية بلا تسمية،خرج النسيان بالنص،فيبقى ما عداه مشمولا للأصل،و سنعود إلى شرط التسمية ان شاء اللّه تعالى في الفصل التالي.

5-أن يدرك الكلب الصيد حيا

،و ان يستند الموت إلى جرح الكلب بالذات،فلو أدركه ميتا لم يحل،و كذا إذا أدركه حيا،و لكن مات بسبب آخر،كما إذا عدا خلفه،حتى أتعبه و مات من الجهد و الإعياء.و بالإجمال لا بد من العلم بأن ذهاب الروح حصل بسبب جرح الكلب،و مع الشك في ذلك يحرم أكل الصيد،لأن الأصل عدم التذكية،حتى يثبت العكس،و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرميّة يجدها صاحبها،أ يأكلها؟قال:ان كان يعلم أن رميته هي التي قتلته فليأكل،قال صاحب الجواهر:«المستفاد من النصوص ان المدار على العلم باستناد القتل إلى السبب المحلل».و السبب المحلل هنا هو أداة الصيد،و من أجل هذا أفتى الفقهاء بأن الصائد لو أرسل كلبه على الصيد فغاب عن عينيه،ثم وجد الصيد ميتا،و الكلب واقف عليه،أفتوا بعدم الحل و تحريم الأكل،إذ من الجائز أن يكون القتل مستندا إلى غير الكلب.

6-ان لا يدرك الصائد الصيد حيا مع الكلب

،أو أدركه حيا،و لكن على الرمق الأخير،بحيث لا يتسع الوقت لذبحه،فإذا اتسع الوقت لذلك،و أهمل حتى مات فلا يحل أكله.

ثم ان الصائد الذي يرسل الكلب يجوز ان يكون أكثر من واحد،كما يجوز

ص:

أن يكون مع الصائد الواحد أكثر من كلب،فإذا قتلت الكلاب صيدا واحدا يحل أكله،على شريطة أن يكون كل واحد منها معلما،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا وجدت معه كلبا غير معلم فلا تأكل.

و إذا أرسل اثنان كلبا واحدا فعلى كل منهما أن يسمي،فلو سمى أحدهما دون الآخر لم يحل الصيد،و بالإيجاز يشترط في كل من الصائد و الكلب،مع التعدد ما يشترط فيه مع الانفراد.

و تجدر الإشارة إلى أنّه يجب غسل ما عضه الكلب،تماما كما يجب غسل غيره من المتنجسات.أمّا قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ فإنه لا يتنافى مع وجوب الغسل،لأن الآية مسوقة لبيان حكم صيد الكلب و جواز أكله،لا لبيان الطهارة و عدمها.

الصيد بالآلة:

لا أحد يشك في أن الاصطياد،و محاولة الاستيلاء على الصيد جائز شرعا و عقلا بكل آلة و أداة حجرا كانت أو بندقية،أو سيفا أو رمحا،أو شركا،أو فخا، أو عصا،أو حفرة،أو فهدا،أو ذئبا،أو صقرا،أو أي شيء،و ان الصائد إذا أدرك الصيد حيا ذكاه الذكاة الشرعية،و حل أكله،سواء أ كانت آلة الصيد ملكا له أو اغتصبها من غيره.أجل،عليه أجرة المثل لمالكها،تماما كما هو الشأن في الأعيان المغصوبة.كل هذا محل وفاق،و التساؤل انما هو عن هذه الأدوات الجامدة،كالسيف و الرمح و غيرهما إذا قتل بها الصيد:فهل يحل أكله،بحيث تحصل التذكية الشرعية بقتلها،تماما كما تحصل بقتل الكلب.

و الجواب يستدعي التفصيل بين أنواع آلات الصيد الجامدة،فإن منها ما له

ص:337

حد يصلح للذبح به،كالسيف و السكين و الخنجر،و منها ما ينطلق من آلة اخرى، و له رأس محدد يصلح للقتل بالخرق،كالسهم و النشاب و منها ما له رأس محدد، و لا ينطلق بواسطة أداة أخرى،كالحديدة المحددة المثبتة في رأس العصا،أو العصا يبرى رأسها،حتى يصير محددا يمكن القتل به طعنا لا ضربا،و منها ما لا يصلح للقتل بالحد،و لا بالطعن،و انما يقتل بالثقل و العرض،كالحجر، و العمود،و العصا غير المحددة الرأس.

و يحل الصيد المقتول بالنوع الأول و الثاني،أي السيف و السكين و الرمح و السهم و النشاب المنطلق عن غيره،و لا يشترط في واحد منها أن يجرح أو يخرق الصيد،بل الشرط الأساسي ان يكون القتل مستندا إليه بالذات،قال الشهيد الثاني في المسالك ج 2 باب الصيد:«يحل مقتوله،سواء أمات بجرحه،أم لا، كما لو أصاب معترضا عند فقهائنا،لصحيحة الحلبي،قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن الصيد يضربه بالسيف،أو يطعنه برمح،أو يرميه بسهم فيقتله، و قد سمى حين رماه،و لم تصبه الحديدة؟قال:فإن كان السهم الذي رماه هو قتله،فإن أراد-الصائد أن يأكله-فليأكله،و غيرها من الأخبار الكثيرة».

و من هذه الأخبار الكثيرة التي أشار إليها الشهيد أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل لحق حمارا-وحشيا-أو غزالا،فضربه بالسيف،فقطعه نصفين،هل يحل أكله؟ قال:نعم.

أما النوع الثالث،أي مثل العصا المحددة الرأس،أو السهم الذي لم ينطلق من آلة،أما هذا النوع فان خرق اللحم جاز أكل المقتول به،و يحرم ان قتل بالثقل و العرض،قال صاحب المسالك:«يحل مقتوله بشرط ان يخرقه،و ذلك أن يدخل فيه،و لو يسيرا،و يموت بذلك،فلو لم يخرق لم يحل،فقد روي عن

ص:338

عدي بن حاتم أنّه قال:سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صيد المعراض (1)؟فقال:ان قتل بحده فكل،و ان قتل بثقله فلا تأكل،و روي أيضا عن الإمام الصادق عليه السّلام:إذا رميت بالمعراض فخرق فكل،و ان لم يخرق و اعترض فلا تأكل».

أما النوع الرابع،و هو ما يقتل بالثقل،كالحجر و العمود،و ما إليه فإن مقتوله ميتة لا يحل أكلها،قال صاحب المسالك:«لا يحل مقتوله مطلقا،سواء أخدش، أم لم يخدش،و سواء أقطع بعض الأعضاء،أم لم يقطع،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عما قتل البندق و الحجر،أ يؤكل؟قال:لا».و البندق واحدة بندقة، و هي طينة مدورة مجففة،كالتي يلعب بها الأطفال.

و الخلاصة أن ما يقتل بالسيف و السكين و الرمح و السهم،و ما إليه مما ينطلق بواسطة فهو مذكّى شرعا يحل أكله،على آية صورة وقع القتل عرضا أو خرقا،ما دام القتل مستندا إلى الآلة بالذات،و أيضا كل آلة محدودة الرأس.حتى العصا إذا كانت كذلك يحل المقتول بها،على شريطة أن يكون القتل خرقا لا عرضا.و ما عدا ذلك،كالحجر و العمود و العصا غير المحددة،و الشبكة و الفخ و الحبال فلا يحل ما يقتل به،و انما يتخذ للاستيلاء على الصيد،فإذا أدركه الصائد حيا ذكاه،و أكله،و إلاّ فهو ميتة.

الآلة الحديثة:

هل يحل قتل الصيد بالسلاح الحديث«كالبارودة»و ما إليها بحيث يعد القتل به تذكية،مع اجتماع الشروط،تماما كالقتل بالسيف و الرمح و السهم؟ الجواب:ان كل ما يطلق عليه اسم السلاح إذا قتل به الصيد،مع الشروط

ص:339


1- المعراض خشبة محددة الطرفين ثقيلة الوسط.

الشرعية يحل أكله،و يدل عليه قول الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:

«من جرح صيدا بسلاح،و ذكر اسم اللّه عليه،ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه السبع،و قد علم أن سلاحه هو الذي قتله،فليأكل منه ان شاء».

فلفظ«سلاح و سلاحه»عام يشمل كل ما ينطبق عليه اسم السلاح.و في رواية أخرى أن الإمام عليه السّلام سئل عن الرجل يرمي الصيد فيصرعه،فيبتدره القوم، فيقطعونه؟فقال:كله.و رمي الصيد يشمل الرمي بكل سلاح،لأن حذف المتعلق يدل على العموم (1).

هذا إلى اطمئنان النفس بأن مناط الحل السلاح من حيث هو بصرف النظر عن صفاته الخاصة الراجعة إلى الفرد و النوع.

و قد أفتى السيد أبو الحسن الأصفهاني بحلّيّة ما قتل«بالبارودة»قال في وسيلة النجاة باب الصيد ما نصه بالحرف:«لا يبعد حلية ما قتل بالآلة المعروفة بالتفنك-أي البارودة-إذا سمى الرامي،و اجتمعت سائر الشروط».

و مثله في الجزء الثاني من منهاج الصالحين للسيد الحكيم،حيث قال:«لا يبعد حل الصيد بالبنادق المتعارفة في هذه الأزمنة،و لا سيما إذا كانت محددة مخروطة-أي تبدأ غليظة مستديرة،ثم تدق شيئا فشيئا،حتى تنتهي إلى النقطة الأخيرة من الدقة،كرصاصة البارودة-سواء أ كانت من الحديد،

ص:340


1- يمكن ان يلاحظ على الرواية الأولى التي ذكرت السلاح بأن لفظ السلاح ينصرف إلى المعنى المعروف في عصر الشارع،و انما يحمل لفظ الشارع على المعنى العرفي في عصرنا إذا لم ينصرف إلى المعنى المعهود في عصره.أما الرواية الثانية فيلاحظ بأن حذف المتعلق فيها لا يدل على العموم، لأن الروايات التي ذكرت السيف و الرمح و السهم مبينة أو مخصصة لها،و من هنا قال صاحب الجواهر في أول باب الصيد:ان الأصل عدم التذكية في الصيد المقتول بالسلاح الحديث،مع علمه بوجود الروايتين.

أو الرصاص،أو غيرهما».

و سبق هذين السيدين و غيرهما إلى هذه الفتوى النراقي صاحب المستند عند كلامه في المسألة الخامسة من البحث الثاني باب الصيد.

الشروط:

يشترط لحلية الصيد المقتول بالآلة الجامدة و جواز أكله،بالإضافة إلى أن تكون الآلة سيفا أو رمحا أو سهما،أو محددة الرأس على التفصيل المتقدم- يشترط ما يلي:

1-إسلام الصائد.

2-العقل و التمييز.

3-قصد الصيد،فلو رمى هدفا،لغرض غير الصيد،أو أفلت السهم من يده تلقائيا،فأصاب طائرا،أو غزالا من باب الصدفة فقتل فلا يحل أكله،حتى و لو كان قد سمى و جرى ذكر اللّه على لسانه.و عليه فإذا أدركه حيا،و اتسع الزمان،و ذبحه حل أكله،و إلاّ فهو ميتة.

4-أن يطمئن الصائد إلى أن قتل الصيد يستند إلى الآلة التي رماه بها فلو رمى صيدا فأصابه،و لكنه تردى من شاهق،أو سقط في الماء،و مات،لم يحل.

إذ من الجائز ان يكون الموت مستندا إلى السقوط،أو إليه و إلى الرمي معا.قال الإمام عليه السّلام:لا تأكل الصيد إذا وقع في الماء.و قال:ان رميت الصيد،و هو على جبل،فسقط و مات فلا تأكله.

ص:341

الحيوان الذي يحل صيده:

اشارة

يشترط في الحيوان الذي يحل صيده أمور :

1-أن يقبل التذكية الشرعية

،أمّا ما لا يقبلها،كالمسخ و نجس العين فلا يتحقق به الصيد،و سنتعرض في الفصل التالي«الذباحة»إلى ما يقبل التذكية،و ما لا يقبلها.

2-ان يكون بريا

،أو أنّه كان أهليا ثم نفر إلى البر،و صار متوحشا ممتنعا، كالثور الصائل،و البعير العاصي،و نحوهما،قال الإمام عليه السّلام:إذا امتنع عليك بعير، و أنت تريد أن تنحره،فانطلق منك،فان خشيت ان يستقبلك فضربته بسيف،أو طعنته برمح بعد أن تسمي فكل إلاّ أن تدركه و لم يمت بعد،فذكه.

أمّا الحيوانات المستأنسة،كالبقر و الغنم،و الطيور الدواجن،كالدجاج و الحمام فليست موضوعا للصيد ما دامت طوع الإرادة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل ضرب بسيفه جزورا أو شاة في غير مذبحها،و قد سمى حين ضرب؟فقال:لا يصلح أكل ذبيحة لا تذبح من مذبحها إذا تعمد ذلك،و لم تكن حاله حال اضطرار،فاما إذا اضطر إليه و استصعب عليه ما يريد أن يذبح- فلا بأس بذلك.

3-ان يكون قادرا على الامتناع

،فلا تحل أطفال الحيوانات الصغار التي لا تستطيع العدو،و ان كانت برية،و لا أفراخ الطير التي تعجز عن الطيران،قال الإمام عليه السّلام:إذا رمى رجل صيدا في وكره،فأصاب الطير و الفراخ جميعا فإنّه يأكل الطير،و لا يأكل الفراخ،و ذلك ان الفراخ ليست بصيد ما لم تطر،و انما تؤخذ باليد،و تكون صيدا إذا طارت.

ص:342

مسائل:

1-يملك الحيوان البري،و الطير غير الداجن-بأمور ثلاثة:

1:أن يضع يده عليه مباشرة.2:أن يقع في آلة الصيد،أو في الحفرة التي يحفرها الصياد بهذا القصد.3:أن يضربه بحجر أو خشبة أو آلة،حتى يصبح غير ممتنع و لا قادر على الفرار،على شريطة أن يكون ذلك بقصد الصيد،فلو رماه صدفة و من غير قصد فللآخر أن يأخذه،و لا يحق لأحد أن ينازعه فيه.

2-من تبع حيوانا بسارة أو فرس،حتى أعياه لا يصير ملكا له

إلاّ إذا وضع يده عليه،فلو أخذه غيره قبل ذلك يملكه،لأنه لم يضع يده عليه،و لم يرمه بسهم أو ما إليه.

3-إذا دخل عصفور إلى بيت انسان صدفة فللآخر أن يأخذه

،و ليس لصاحب البيت منعه من ذلك إلاّ من جهة التصرف في بيته.أجل،إذا فتح صاحب البيت الباب،و ألقى الحب لتدخل العصافير،فدخلت فلا يجوز لغيره أن يصطادها.و لو بنى العصفور عشا في حائط إنسان لا يملكه بمجرد ذلك.

4-إذا نصب شبكة للاصطياد فوقع فيها حيوان

،و لكنه كان أقوى من الشبكة فأفلت منها،ثم اصطاده آخر فهو لمن اصطاده،أما لو كانت الشبكة أقوى منه،و أمسكته،بحيث لا يستطيع الخلاص منها إلاّ بمعونة من الخارج،و صادف أن مرّ حيوان به،أو طائر،أو هبت رياح قوية،أو ما إلى ذاك،و تخلص بمعونته، ثم اصطاده آخر،فهو للأول،لأنه تماما كما لو أمسكه بيده،ثم أفلت منه.

و من هنا قال الفقهاء:إذا دخلت سمكة كبيرة في شبكة صغيرة فجرتها، و ذهبت السمكة و معها الشبكة في قلب البحر،و صادف ان دخلت في شبكة كبيرة لا تقوى على الإفلات منها كانت السمكة لصاحب الشبكة الكبيرة،فيأخذ

ص:343

السمكة،و رد الشبكة لأهلها.و الضابط أن تكون الآلة أقوى من الحيوان الذي يقع فيها بحيث تستطيع الآلة أن تمسكه،أما إذا كان الحيوان أو الطائر أقوى من الآلة فلا تتحقق اليد الموجبة للملك.

5-إذا رمى الصيد بشيء فجرحه،و لكنه بقي على قوته،بحيث لم يخرج

عن الامتناع

،سوى أنّه لذعره و خوفه دخل دارا،فأخذه صاحب الدار يكون ملكا له بالأخذ و وضع اليد،لا بدخول الدار،و لا يحق لمن جرحه أن يعارض و يمانع.

و إذا أضعفه،و جعله بحيث لا يقوى على الفرار يكون له،و لا يجوز لأحد أخذه:

و السر ما أشرنا إليه في المسألة السابقة.

6-بعد أن يصبح الصيد في يد الصائد يصير ملكا له

،و إذا أفلت منه يبقى على ملكه،و ان صار ممتنعا.لأن الملك بعد ثبوته لا يزول.أجل،إذا أعرض الصائد،و صرف النظر عنه كلية يصير كالأشياء المباحة تجوز حيازته لمن شاء.

ص:344

الذباحة

اشارة

ص:345

ص:346

معاني التذكية:

للتذكية الشرعية معان شتى،تختلف باختلاف الحيوان،فتذكية الحيوان البري المتوحش تتحقق بآلة الصيد قبل وضع اليد عليه،و تذكية الحيوان الأهلي المستأنس-غير الإبل-بذبحه،و الإبل بنحرها،و السمك بإخراجه من الماء حيا، و الجراد بقبضه،و الجنين بتذكية أمه،و تذكية ما يتعذر ذبحه بجرحه و عقره كيف اتفق من أجزاء بدنه.

و خصصنا الفصل السابق بعنوان الصيد للتذكية بآلاته،و نتكلم في هذا الفصل عن التذكية بسائر المعاني الأخرى،و جعلنا العنوان هنا«الذباحة»مع العلم بأنّها بعض أفراد التذكية تغليبا لها على بقية الأفراد،لأنها الأشهر و الأكثر،و أكثر الفقهاء تكلموا عن التذكية بوجه عام في فصل واحد بعنوان«الصيد و الذباحة».

و أفردنا نحن للصيد فصلا خاصا بالنظر لأهميته.

و قبل كل شيء نمهد بالإشارة إلى أقسام الحيوان باعتبار صلاحيته للتذكية و عدمها.

الحيوان و صلاحية التذكية:

اشارة

ينقسم الحيوان باعتبار صلاحيته للتذكية و عدمها إلى أقسام:

1-كل حيوان يجوز أكله فهو صالح و قابل للتذكية،و هذه الحقيقة تدل

ص:347

على نفسها بنفسها،لأن جواز الأكل يستدعي بذاته قبول التذكية فالدليل الذي دلّ على جواز أكل أي حيوان يدل بذاته على أنّه صالح للتذكية،سواء أ كان الحيوان بحريا أو بريا طائرا أو غير طائر،أهليا أو غير أهلي.

2-كل حيوان نجس العين،كالكلب و الخنزير،فهو غير صالح للتذكية، لا يؤثر الذبح فيه شيئا،بل يبقى بعد الذبح على نجاسته،و تحريم أكله،و هذا لا يحتاج إلى دليل،تماما كصلاحية مأكول اللحم للتذكية.

3-كل ما يؤكل لحمه مما لا نفس سائلة له،كالسمك و الجراد فهو قابل للتذكية و يأتي الكلام عنه.

4-كل ما لا يؤكل لحمه مما لا نفس سائلة له،كالذباب و ما إليه فليس موضوعا للتذكية إطلاقا،إذ المفروض أن أكله لا يحل بوجه،و أنّه طاهر على كل حال،حيا كان أو ميتا.

5-ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الحشرات،و هي التي تسكن باطن الأرض،كالفأرة و الجرذون و ما إليه-ذهبوا إلى أنّها لا تقبل التذكية، و ان ذبحها و موتها حتف الأنف سواء.

6-اتفقوا كلمة واحدة على عدم جواز أكل سباع الحيوانات و الطيور، و هي التي تفترس ما هو أضعف منها،و تتغذى باللحم،كالأسد و النمر و الفهد و الذئب و الثعلب و السنور و الضبع و ابن آوى،و الصقر و البازي و العقاب و الباشق.و أيضا اتفقوا على أنّها طاهرة.

و اختلفوا:هل تقبل التذكية،بحيث تطهر بالذبح،أو لا؟ذهب المشهور إلى أنّها تقبل التذكية،و يطهر لحمها و جلدها بالذبح،أو بالتذكية بآلة الصيد على النحو المتقدم في الفصل السابق،قال صاحب الجواهر:«بل في غاية المراد

ص:348

لا نعلم مخالفا في ذلك،بل عن السرائر الإجماع عليه،لأن الإمام عليه السّلام سئل عن جلود السباع،أ ينتفع بها؟فقال:إذا رميت و سمّيت فانتفع بها-ثم قال صاحب الجواهر-و السيرة مستمرة في جميع الأعصار و الأمصار على استعمال جلودها».

7-جاء في الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام أن الحيوانات الموجودة الآن على هيئة المسوخ كثيرة تزيد على عشرة أنواع،و سنذكرها للمناسبات الآتية.

و من هذه الحيوانات الفيل و الدب و القرد.و قد اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن لحوم المسوخ كلها محرمة لا يجوز أكلها.

و أيضا اتفقوا إلاّ قليلا منهم على أنّها طاهرة.و اختلفوا:هل تقبل التذكية،أو لا؟و معنى قبولها للتذكية أنّها تبقى على الطهارة بعد الذبح،أما لحمها فلا يحل إطلاقا،و معنى عدم قبولها للتذكية أنّها ميتة بعد الذبح،تماما كما لو ماتت حتف أنفها.

و نقل صاحب الجواهر عن كتاب غاية المراد أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى أنّها تقبل التذكية،و عليه يكون لحمها و جلدها طاهرين بعد الذبح،أو اصطيادها بآلة الصيد المعتبرة شرعا،و قال آخرون:انّها لا تقبل التذكية،و ان ذبحها و موتها حتف الأنف سواء.

أما الحق فبيانه في الفقرة التالية:

هل كل حيوان يقبل التذكية

؟ ان الحكم بأن المسوخ و السباع،و أيضا الحشرات التي لها جلد (1)،ان

ص:349


1- ذهب جماعة من الفقهاء منهم السيد الحكيم إلى أن كل ما له جلد من السباع و الحشرات يقبل التذكية،قال السيد المذكور في الجزء الثاني من منهاج الصالحين [1]باب الذباحة:«الظاهر وقوع الذكاة عليه إذا كان له جلد يمكن الانتفاع به بلبس أو فرش،و نحوهما،و يطهر لحمه و جلده بها، و لا فرق بين السباع كالأسد و النمر و الفهد و الثعلب و غيرها،و بين الحشرات التي تسكن الأرض إذا كان لها جلد مثل ابن عرس و الجرذ،فيجوز استعمال جلدها إذا ذكيت فيما يعتبر فيه الطهارة، فيتخذ ظرفا للسمن و الماء،و لا ينجس ما يلاقيها برطوبة».

الحكم بأن هذه تقبل التذكية أو لا تقبلها-يتوقف على معرفة:هل يوجد في الكتاب و السنة عموم أو إطلاق يدل على أن كل حيوان يقبل التذكية إلاّ ما خرج بالدليل،أو أنّه لا اثر لهذا العموم،أو الإطلاق؟فإذا شككنا في قبول حيوان للتذكية الشرعية فعلينا قبل كل شيء أن ننظر و نبحث في الكتاب و السنة عن هذا العموم،أو الإطلاق،فإن وجدناه حكمنا بقبوله للتذكية استنادا للعموم،و لا يبقى أثر للشك بحكم الشارع في القابلية،كي نرجع إلى أصل عدم صلاحية الحيوان للتذكية،سواء أ كان الحيوان من المسوخ،أو السباع،و عليه يكون طاهرا بعد الذبح،لأن صحة التذكية تستدعي طهارة المذكى على كل حال،سواء أ كان من مأكول اللحم،أو من غيره،أما الأكل من لحمه فيجوز إذا لم يدل الدليل من النص أو الإجماع على التحريم،لقاعدة:كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام.

و أشرنا فيما سبق إلى أن السباع و المسوخ و الحشرات يحرم أكلها بالإجماع، و تأتي زيادة البيان في فصل الأطعمة.

و إذا لم نجد في الكتاب و السنة دليلا على أن كل حيوان يقبل التذكية،فإن أصل عدم قابلية كل حيوان للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل-هو المحكم بالإنفاق.

و مجرد الشك في قابلية الحيوان للتذكية كاف في إجراء هذا الأصل.و عليه يكون الحيوان المشكوك في قابليته لها نجسا و محرما أكله بعد الذبح،لأن ذبحه و موته حتف الأنف سواء،ما دام غير صالح للتذكية.

و بهذا تبين معنا أنّه لا وجه للتساؤل إطلاقا في أنّه:هل الأصل في كل

ص:350

حيوان عدم قبوله للتذكية،أو أن الأصل قبوله لها،لأن هذا الأصل مردد بين أمرين:اما لا يجري إطلاقا،و ذلك إذا افترض وجود عموم أو إطلاق في الكتاب أو السنة يدل على أن كل حيوان يقبل التذكية إلاّ ما خرج،و اما يجري إطلاقا و بالاتفاق،مع عدم وجود هذا العموم أو الإطلاق.

فالواجب-اذن-هو النظر و البحث عن وجود هذا العموم أو الإطلاق في الكتاب أو السنة.و قد ادعى جماعة من الفقهاء أنّه موجود،و استدلوا عليه بإطلاق الآيات و الروايات الواردة في حلية أكل ما أمسك الكلب،و ما ذكر اسم اللّه عليه،و ما يصطاد بالسيف و الرمح،و ما إلى ذلك ما سبق في فصل الصيد،حيث دلت هذه الآيات و الروايات على جواز الأكل من كل ما أمسك الكلب،و ما ذكر اسم اللّه عليه،و ما يصطاد بالسيف و الرمح و السهم من غير تقييد و تفصيل بين حيوان و حيوان،و منه يستكشف قابلية كل حيوان للتذكية.

و الحق أنّه لا عموم و لا إطلاق في هذه الآيات و الروايات،لأنها لم ترد لبيان صلاحية الحيوان للتذكية،أو عدم صلاحيته لها،و انما وردت لبيان أن التذكية الشرعية في مأكول اللحم تتحقق بإمساك الكلب،و بالاصطياد بالسيف،و ما إليه، و بما ذكر اسم اللّه عليه.و بديهة أن أول شرط للتمسك بإطلاق اللفظ و عمومه ان يكون المتكلم قاصدا بيان الجهة التي حمل اللفظ عليها و فسر بها.و بكلمة ان النص قد ورد لبيان حكم التذكية،لا لبيان موضوعها.

و حيث ان الحكم بصحة التذكية يتوقف قبل كل شيء على العلم بأن المحل قابل و صالح لها.و المفروض أنّا نشك بهذه القابلية و الصلاحية،و أنّه لا عموم و لا إطلاق يدل على ثبوتها في كل حيوان-فيكون أصل عدم قبول كل حيوان للتذكية،و الحال هذي،هو المحكم.و عليه،فإذا ذبح الحيوان المشكوك يكون

ص:351

ميتة نجسة لا يجدي ذبحه شيئا.قال الشيخ الأنصاري في كتابه المعروف بالرسائل باب البراءة ما نصه بالحرف:«ان شك في حيوان من جهة الشك في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة،لأصالة عدم التذكية،لأن من شرائطها قابلية المحل،و هي مشكوكة،فيحكم بعدمها،و ان الحيوان ميتة».

و على هذا يكون الأصل في المسوخ و السباع و غيرها من الحيوانات المشكوكة،يكون الأصل عدم قابليتها للتذكية إلاّ ما خرج بدليل شرعي.أجل، يبقى شيء هام،و هو هل هناك دليل شرعي يدل على أن المسوخ و السباع تقبل التذكية الموجبة للطهارة،كما دل الدليل على حرمة أكلها؟و هذا ما سنتعرض له في فصل الأطعمة الذي يلي هذا الفصل مباشرة.

و بعد هذا التمهيد نتكلم عن التذكية بالذبح و النحر،و بالخروج من الماء، و بالقبض،و بالجرح و العقر،و بذكاة الأم،و فيما يلي التفصيل،و نبدأ بالذبح.

و أركانه ثلاثة:الذابح،و آلة الذبح،و صورته.

الذابح:

يشترط في الذابح الإسلام،و لا يشترط أن يكون ذكرا،و لا بالغا،و لا شيعيا،و لا أن يكون غير جنب،أو غير ابن زنا،أو غير أغلف.

فتحل ذبيحة الغلام المميز،و الصبية المميزة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذبيحة المرأة و الغلام،هل تؤكل؟قال:نعم،إذا كانت المرأة مسلمة،و ذكرت اسم اللّه حلت ذبيحتها،و إذا كان الغلام قويا على الذبح،و ذكر اسم اللّه حلت ذبيحته.

و قال الشهيد الثاني في المسالك:«من أوصاف الذابح أن يكون قاصدا إلى

ص:352

الذبح،فالمجنون و الصبي غير المميز و السكران لا يحل ما يذبحونه،لأنه بمنزلة ما لو كان في يد نائم سكين،فانقلب،و قطع حلقوم شاة».

و سئل الإمام عن ذبيحة ابن الزنا؟قال:«لا بأس.و عن ذبيحة الأغلف؟ قال:لا بأس.و قال:لا بأس ان يذبح الرجل،و هو جنب».الأغلف هو الذي لم يختن.

و نقل الإمام الباقر أو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن جده علي أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:من دان بكلمة الإسلام،و صام و صلى فذبيحته حلال لكم إذا ذكر اسم اللّه.

أجل،لا تحل ذبيحة المغالي،و لا من أعلن العداوة لأهل البيت عليهم السّلام،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«ذبيحة الناصب لا تحل».و المغالي اسوأ منه.

و قد توسع السيد الحكيم،و تسامح كثيرا في الأخذ من يد المسلم قال في منهاج الصالحين باب الذباحة:

«لا فرق في المسلم الذي يكون تصرفه امارة على التذكية بين الإمامي و غيره،و بين من يعتقد طهارة الميتة بالدبغ و غيره،و بين من يعتبر الشروط المعتبرة في التذكية كالاستقبال و التسمية،و كون المذكي مسلما،و قطع الأعضاء الأربعة و غير ذلك،و بين من لا يعتبرها».

و قال أيضا:«دهن السمك المجلوب من غير بلاد الإسلام لا يجوز شربه إذا اشتري من غير مسلم،و يجوز شربه إذا اشتري من مسلم،و ان علم أن المسلم أخذه من الكافر».

ص:353

ذبيحة أهل الكتاب:

قال الشهيد الثاني (1)في الجزء الثاني من كتاب المسالك باب الذباحة ما يتلخص بما يلي:

ذهب أكثر الفقهاء إلى تحريم ذبيحة أهل الكتاب،و ذهب ابن أبي عقيل، و أبو علي بن جنيد،و الصدوق أبو جعفر (2)إلى حلية ذبيحتهم،و لكن اشترط الصدوق سماع التسمية عليها،و استدلوا على الحلية بروايات كثيرة و صحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها ما جاء في صحيح الحلبي أنّه سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذبيحة أهل الكتاب و نسائهم؟فقال:لا بأس.و منها أنّه سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:ما تقول في مجوسي،قال: بسم اللّه ،ثم ذبح؟فقال:كل.

فقيل له:مسلم ذبح،و لم يسم؟فقال:لا تأكل.

ثم قال صاحب المسالك:أمّا الروايات الأخرى التي استدل بها القائلون بالتحريم فالصحيح منها لا دلالة فيه،و غير الصحيح لا عبرة به لو سلمت دلالته.

و قال أيضا:أما القول بأن الكافر لا يعرف اللّه،و لا يذكره على ذبيحته فمن العجيب،لأن الكتابي مقر باللّه،و ما ينسب إليه من التثليث،و ان عزيزا ابن اللّه، و المسيح ابن اللّه،و نحو ذلك-لا يخرجه عن الإقرار باللّه تعالى،و هذه الإلحاقات-

ص:354


1- الشهيد الثاني هو زين الدين العاملي الجبعي،استشهد سنة 966 ه،و هو من أكبر المراجع العلمية الدينية،و كتبه من أهم المصادر لفقه الإمامية،و بعضها مقرر للتدريس من أمد بعيد.
2- ابن أبي عقيل هو الحسن بن علي العماني من علماء القرن الرابع الهجري،و جاء في وصفه أنّه أول من هذب الفقه،و استعمل النظر،و فتق البحث عن الأصول و الفروع،و ابن الجنيد هو محمد بن أحمد الإسكافي من أكابر علماء الإمامية،توفي سنة 381 ه،و الصدوق هو محمد بن علي بن بابويه شيخ الطائفة،و صاحب كتاب«من لا يحضره الفقيه»أحد الكتب الأربعة في الحديث،توفي سنة 381 ه.

أي ابن اللّه،و ما إلى هذا-و ان أوجبت الكفر فلا تقتضي عدم ذكر اللّه،فإنه يذكر اللّه في الجملة،و يقول الحمد للّه،و ذلك كاف في الذكر على الذبيحة.و في فرق المسلمين من ينسب إلى اللّه منكرات،و لا يخرج بذلك عن الإقرار باللّه تعالى.

أمّا صاحب الجواهر فقد اعترف صراحة بصحة الروايات الناطقة بحلية ذبيحة أهل الكتاب،و لكنه حملها على غير ظاهرها و أولها بخلاف ما دلت عليه، و لذلك جزم بتحريم ذبيحتهم.و لكن عبارته في أوّل مباحث الذباحة تدل على أن من فقهاء المذهب من يقول بحلية ذبيحة أهل الكتاب غير الفقهاء الذين ذكرهم صاحب المسالك.قال صاحب الجواهر:«و من الغريب اطناب ثاني الشهيدين في المسالك و بعض اتباعه في تأييد القول بالجواز و اختياره».

و نحن على رأي صاحب المسالك،كما أنّا من القائلين بطهارة أهل الكتاب،و بيّنّا ذلك مفصلا في الجزء الأول،فصل أعيان النجاسات،فقرة«أهل الكتاب».

آلة الذبح:

قال الفقهاء:يشترط ان يكون الذبح بسكين من حديد-و الفولاذ نوع من الحديد-و لا تحل الذبيحة إذا ذبحت بسكين من نحاس،أو ذهب،أو فضة،مع الاختيار و إمكان الذبح بالحديد،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه بيننا».

و استدلوا بأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الذبح بالعود،أو الحجر أو القصبة؟ فقال:قال علي عليه السّلام:لا يصلح إلاّ بحديد.و سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الذبح بالليطة و المروة؟فقال:لا ذكاة إلاّ بحديد.و الليطة قشرة القصب،و المروة الحجر الحاد الذي يقدح الشرار،و هو المعروف عندنا بالصوان.

ص:355

و قالوا:ان لفظ الحديد لا يتناول النحاس و الرصاص و الذهب و الفضة.

و الذي نفهمه نحن من الحديد هنا هو الحديد المعروف،و ما يشبهه من المعدن الشديد الصلب،كالنحاس و الذهب و الفضة.فالمهم ان يكون معدنا في قبال الجسم الصلب-غير المعدن-كالحجر و العود المحدد،و ما إليه.و في الرواية نفسها إيماء إلى هذا الفهم،لأن السؤال وقع عن القصب و الحجر،لا عن النحاس و الذهب و الفضة،فجاء الجواب من الإمام عليه السّلام لنفي الحجر و نحوه، و لإثبات الحديد و شبهه.و عبر الإمام بالحديد،لأنه الفرد الغالب،و هذا النوع من التعبير كثير في كلمات أهل البيت عليهم السّلام.

و ليس هذا اجتهاد منا في قبال النص،بل اجتهاد في تفسير النص.

و الاجتهاد في قبال النص هو أن يقال بجواز الذبح بالحجر و القصب،مع إمكان الذبح بالحديد.

و قد أجاز الفقهاء الذبح بغير الحديد عند تعذر الذبح به،مع الخوف من فوات الذبيحة،و هذه عبارة صاحب الشرائع و الشارح صاحب الجواهر:«إذا لم يوجد الحديد،و خيف فوت الذبيحة جاز الذبح بما يفري أعضاء الذبيح،و لو كان ليطة-أي قصبة-أو خشبة محددة،أو مروة-أي حجر الصوان-أو زجاجة، أو غير ذلك،ما عدا السن و الظفر بلا خلاف.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل لم يكن يحضره سكين،أ يذبح بقصبة؟فقال اذبح بالحجر و بالعظم،أو بالقصبة و بالعود إذا لم تصب الحديدة إذا قطعت الحلقوم،و خرج الدم فلا بأس به».

و تجدر الإشارة إلى أن الفقهاء أجازوا الذبح بالحجر و ما إليه إذا تعذرت السكين من الحديد و جميع المعادن،حتى النحاس و الذهب و الفضة.فالذبح

ص:356

عندهم له مراتب ثلاث تأتي على هذا الترتيب:أولا و قبل كل شيء بسكين من حديد،فان تعذرت فبسكين من سائر المعادن،فان تعذرت فبما تيسر من حجر أو زجاج أو قصب.

صورة الذبح:

اشارة

يكون الذبح صحيحا إذا وقع على الصورة المأمور بها شرعا،و تتحقق هذه الصورة بالشروط التالية بعد قصد الذبح،فإن أخل بأحدها عامدا كانت الذبيحة ميتة.

1-استقبال القبلة

،مع الإمكان إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:إذا أردت أن تذبح ذبيحتك فاستقبل بها القبلة.

فمن ترك الاستقبال عامدا حرمت،و من تركه نسيانا لم تحرم،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة؟فقال:كل،لا بأس بذلك،ما لم يتعمد.

و الجاهل بوجوب الاستقبال تماما كالناسي،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل ذبح ذبيحة،جهل أن يوجهها إلى القبلة؟قال:كل منها.

قال صاحب الجواهر:يستفاد من النص ان الجاهل معذور هنا،و ان صدق عليه التعمد (1).

أمّا من ترك الاستقبال متعمدا،لأنه لا يعتقد بوجوب الاستقبال فقال

ص:357


1- الجاهل على قسمين:جاهل بالحكم،و هو الذي يعرف جهة القبلة،و يجهل وجوب الاستقبال، و جاهل بالموضوع،و هو الذي يعلم بوجوب الاستقبال،و يجهل جهة القبلة،و كلا الجاهلين معذور هنا،مع العلم بأن الفقهاء قالوا:ان الجهل بالموضوع عذر شرعي في كل مورد،و ان الجهل بالحكم ليس بعذر بوجه عام،و لكنهم استثنوا من هذه القاعدة الجاهل بحكم الاستقبال بالذبيحة،لوجود النص.

صاحب الجواهر و المسالك:تحل ذبيحته،لأنه في معنى الجاهل.

و يجب استقبال الذبيحة بمقاديم البدن بكاملها،و لا يكفي الاستقبال بمذبحها فقط،أما الذابح فلا يشترط فيه ذلك بل يستحب،فيجوز أن يذبح، و مقاديم بدنه إلى الغرب،أو الشرق،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المستفاد من النصوص المعتضدة بفتوى الفقهاء».

2-محل الذبح

،و هو أربعة أعضاء،يجب قطعها:الأول الحلقوم،و هو مجرى النفس دخولا و خروجا.الثاني المري،و هو مجرى الطعام و الشراب.

الثالث و الرابع الودجان،و هما العرقان الغليظان المحيطان بالحلقوم.

و لا بد من قطع هذه الأعضاء الأربعة بكاملها،فلا يكفي قطع،أو شق بعضها،و أيضا لا بد أن يكون القطع من الامام،أي المكان المعروف بالمذبح، فلا يحل الذبح من مؤخر العنق،لقول الإمام عليه السّلام:«لا يصح أكل ذبيحة لا تذبح من مذبحها».أجل،لو أدخل السكين تحت الأوداج،و قطعها إلى فوق لا تحرم الذبيحة،و لكنه قد فعل ما ينبغي تركه،و إذا قطع من الأوداج الرأس متعمدا فقد أثم.و لكن الذبيحة لا تحرم،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تكسر الرقبة،حتى يبرد الرأس.و سئل عن رجل ذبح طيرا،و قطع رأسه،أ يؤكل منه؟قال:نعم،و لكن لا يتعمد قطع رأسه.و النهي هنا يدل على التحريم دون الفساد.

و قد رأس جماعة من المتأخرين ان قطع الأوداج الأربعة لا يتحقق على الوجه المطلوب شرعا إلاّ إذا كان الذبح من تحت العقدة المسماة في لسان العرف بالجوزة،بحيث تكون الجوزة مع الرأس.و ليس في النص عين و لا اثر لذلك، و لكن الفقهاء أخذوه عن أهل الخبرة و المعرفة الذين شهدوا له بأن قطع الأوداج الأربعة لا يتم إلاّ ان تكون الجوزة مع الرأس.فإن صح هذا القول وجب أن تكون

ص:358

الجوزة مع الرأس،و إلاّ فلا (1).

و لا بد من الإشارة هنا إلى ما قاله صاحب المسالك من أنّه لا دليل على وجوب قطع الأوداج الأربعة-غير الحلقوم-إلاّ الشهرة فقط،حيث اكتفى النص بذكر الحلقوم،فقد جاء في صحيح الشحام:«إذا قطع الحلقوم،و خرج الدم فلا بأس به».

و أقصى ما استدل به القائلون بقطع الأوداج الأربعة ما جاء في رواية ابن الحجاج عن الإمام عليه السّلام:«إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك».و ردهم صاحب المسالك بأنّه لا تصريح فيها بأسماء الأربعة.

أمّا صاحب الجواهر فقد جزم و أصر على قطع الأربعة،و لكنه لم يجد شيئا يرد به على صاحب المسالك سوى قوله:قامت الشهرة العظيمة،و السيرة القطعية،و أصالة عدم التذكية.

و مهما يكن،فان المهم ان نكون على علم بأن روايات أهل البيت عليهم السّلام لم تنص صراحة إلاّ على الحلقوم،أمّا الثلاثة الباقية فلم يرد لها ذكر صريح في كلام الأئمة الأطهار عليهم السّلام.

و ليس من شك أن قطع الأربعة يوجب اليقين بحلية الذبيحة،أما قطع الحلقوم فقط فلا تركن النفس إليه،بخاصة بعد وجود السيرة و استمرارها منذ القديم على قطع الأربعة.

ص:359


1- قال صاحب الجواهر: [1]بقي شيء كثر السؤال عنه في زماننا،و هو دعوى تعلق الأعضاء الأربعة بالجوزة،فإذا لم يبقها الذابح في الرأس لم يقطع الأربعة أجمع،أو لم يعلم بذلك،و ان قطع نصف الجوزة،و لم أجد لذلك أثر في كلام الفقهاء و لا في النصوص،و المدار على قطعها،و العارفون أولى من غيرهم في معرفة ذلك،و قد أشير إليهم في بعض النصوص بمن يحسن الذبح و يجيده.توفي صاحب الجواهر 1266 ه.
3-تتابع قطع الأوداج الأربعة

،فيقطعها جميعا دفعة واحدة،أو يقطع الواحد تلو الآخر من غير فاصل معتد به،فإذا فصل و تثاقل أمدا أكثر من المعتاد حرمت الذبيحة.

و الحق ان هذا ليس شرطا بذاته،و انما هو متفرع عن شرط استقرار الحياة في الحيوان عند ذبحه،فإذا قطع بعض الأوداج،و انتظر،حتى أشرفت الذبيحة على الموت و قطع الأعضاء الباقية تحرم لأن الشرط في حلية الذبيحة أن يستند موتها إلى قطع جميع الأعضاء،لا إلى قطع بعضها دون البعض.

4-التسمية بقصد انّها على الذبيحة

،فمن تركها عامدا حرمت الذبيحة إجماعا و نصا،و يكفي قول اللّه أكبر ،و الحمد للّه ،و لا إله إلاّ اللّه ،و بسم اللّه ،و ما إليه،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل ذبح،فسبح،أو كبّر،أو هلل،أو حمد اللّه تعالى؟قال:هذا كله من أسماء اللّه تعالى،و لا بأس به.

و لو نسي التسمية لم تحرم الذبيحة إجماعا و نصا،و منه أن الامام الباقر أبا الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن رجل ذبح و لم يسم؟قال:ان كان ناسيا فلا بأس.

و ذهب جماعة من الفقهاء،منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني و السيد الحكيم إلى أن الذبيحة تحرم لو ترك الذابح التسمية جهلا بوجوبها،لأن الجهل بالحكم ليس بعذر،و الفارق بين الجهل بوجوب الاستقبال،و الجهل بوجوب التسمية هو النص،حيث صرح بأن الأول عذر،فخرج بذلك عن قاعدة«الجهل بالحكم ليس بعذر»و سكت عن الثاني،فبقي من موارد القاعدة و أفرادها.

5- يكفي في حلية الذبيحة أن يتحرك بعض أطرافها بعد الذبح

قال جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الشرائع و الجواهر:يكفي في حلية الذبيحة أن يتحرك بعض أطرافها بعد الذبح،حتى و لو كان الطرف الاذن أو العين،أو يخرج منها الدم معتدلا،أي بقوة و دفع،فإذا تحركت الذبيحة،و خرج

ص:360

الدم متثاقلا لا معتدلا،أو خرج الدم معتدلا و لم تتحرك فهي حلال،و لا تحرم إلاّ إذا اجتمع الأمران معا:عدم الحركة إطلاقا،و خروج الدم متثاقلا-أي سحا.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا تحرك الذنب،أو طرفت العين،أو الاذن فهو ذكي.و سئل عن رجل ضرب بقرة بفأس،فسقطت،ثم ذبحها؟قال:ان خرج الدم معتدلا فكلوا،و أطعموا،و ان كان خرج خروجا متثاقلا فلا تقربوه.

و الحق ان العبرة بأن نعلم استمرار حياة الذبيحة إلى تمام الذبح من غير فرق بين أن يحصل من وجود الحركة،أو من خروج الدم بقوة،أو من التنفس،أو أي شيء.و ذكر الإمام عليه السّلام الحركة و الدم المعتدل،لأنهما أظهر العلامات على الحياة و أغلبها.

النحر:

النحر مختص بالإبل فقط،فلا تحل بالذبح،و لا يحل غيرها من الحيوانات بالنحر،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كل منحور مذبوح حرام،و كل مذبوح منحور حرام»أي ما ينحر لا يجوز ذبحه،و ما يذبح لا يجوز نحره.

و محل النحر اللبة،و هي المكان المنخفض الكائن بين أصل العنق و الصدر،قال الإمام عليه السّلام:النحر في اللبة،و الذبح في الحلق،أي الحلقوم.

و صورة النحر أن يدخل الناحر سكينا،أو ما إليها من الآلات الحادة في اللبة،و يجوز نحر البعير قائما،و باركا،و مضطجعا على جنبه،على شريطة أن يكون متجها بنحره و جميع مقاديم بدنه إلى القبلة،و أفضل الصور ما جاء في بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و هي أن يقام البعير واقفا اتجاه القبلة،و تعقل احدى يديه،و يقف الذي ينحره إلى جنبه متجها إلى القبلة،ثم يضرب في لبته.

ص:361

و جميع الشروط التي ذكرناها في الذابح و آلة الذبح لا بد من توافرها في الناحر،و آلة النحر،بالإضافة إلى وجوب التسمية،و استمرار الحياة إلى إتمام النحر،و ترك الاستقبال هنا نسيانا أو جهلا لا يوجب التحريم،أما التسمية فتركها عن جهل يوجب التحريم،و لا يوجبه النسيان،تماما كما هو الشأن في المذبوح.

و الأولى ترك الذبح بعد النحر خشية أن يستند الموت إليهما معا،مع العلم بأن الموت يجب ان يستند إلى التذكية الشرعية نفسها التي هي النحر في الإبل، و الذبح في غيرها.

مستحبات الذبح و النحر:

يستحب في ذبح الغنم ان يربط اليدين مع احدى الرجلين،و يترك الرجل الأخرى،و ان يمسك صوفه،حتى يبرد،و مثله المعز.

و يستحب في البقر و الجاموس ان يربط القوائم الأربعة.

و يستحب في الإبل ان تنحر قائمة بعد أن يربط احدى يديها إلى الركبتين، و يترك الأخرى.

أما الطير فيستحب إرساله بعد الذبح،حتى يرفرف.

و من المستحبات الأكيدة أن يفعل الذابح الأسهل و يختار ما هو أقل عذابا و ألما للمذبوح،كتحديد الشفرة،و السرعة بالذبح،و ان يسقيه الماء قبل الذبح، فقد جاء في الحديث الشريف:كتب عليكم الإحسان في كل شيء،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة،و ليحد أحدكم شفرته،و ليرح ذبيحته.

و يكره أن يقطع الرأس،أو يسلخ الجلد قبل خروج الروح،و ان يذبح

ص:362

حيوان،و حيوان آخر ينظر إليه،و ان يذبح بيده ما رباه من الغنم.

الإخراج من الماء:

قال تعالى وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا النحل:14.

وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا فاطر:12.

الإخراج من الماء تذكية شرعية يختص بالسمك،على شريطة أن يخرج من الماء حيا،و يموت في خارجه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان السمك ذكاته إخراجه من الماء،ثم يترك،حتى يموت من ذات نفسه،و ذلك أنّه ليس له دم- أي سائل-و كذلك الجراد.

و إذا أخرج السمك من الماء حيا،ثم عاد إليه بطريق من الطرق فلا يحل أكله،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن سمك يصاد،ثم يجعل في شيء،ثم يعاد في الماء فيموت فيه؟فقال:لا تأكل،لأنه مات في الذي فيه حياته.

و إذا وثبت سمكة إلى البر فماتت فيه،أو جف الماء و انحسر عنها،فإن أخذت قبل أن تموت فهي حلال،و إلاّ فهي ميتة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن سمكة و ثبت من النهر فوقعت على الجد-أي الشاطئ-فماتت،هل يصلح أكلها؟ فقال:ان أخذتها قبل أن تموت،ثم ماتت فكلها،و ان ماتت قبل ان تأخذها فلا تأكلها.

و سئل عن الذي ينضب عنه الماء من سمك البحر؟قال:لا تأكله.و إذا عطفنا هذه الرواية على الرواية الأولى،و جمعنا بينهما كانت الأولى قيدا للثانية، و يكون معنى الروايتين مجتمعتين هكذا:إذا جف الماء عن السمك،أو وثب إلى

ص:363

خارجه حلّ إن أخذ حيا،و حرم ان أخذ ميتا.و لا يكفي مجرد النظر إليه،و هو يتحرك،من غير أخذ.و وضع اليد عليه،قال صاحب الجواهر:«وفاقا للمشهور شهرة عظيمة».و قال:«و من ذلك يظهر لك أن تذكية السمك إثبات اليد عليه على أن لا يموت في الماء،فهو كحيازة المباح الذي هو بمعنى الصيد».

و إثبات اليد يشمل ما يؤخذ باليد،أو بالشبكة،أو بواسطة حفرة،أو أي شيء،ما دام ينطبق عليه الأخذ حيا،و على هذا،إذا نصب شبكة و دخلها السمك،ثم جف الماء،و مات السمك في الشبكة يحل أكله،حيث يصدق عليه وضع اليد قبل الموت بواسطة الشبكة،و مثله إذا حفر حفرة،و أجرى إليها ماء البحر و النهر بواسطة قناة،و دخلها السمك،ثم جف الماء منها،و مات السمك فإنه يحل،لوضع اليد بسبب الحفرة.أجل،لو مات السمك في ماء الحفرة قبل أن يجف حرم اكله عند المشهور،لأنه مات في الذي فيه حياته،كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام معللا به حرمة أكل السمك الذي مات في الماء.

و إذا أخرج الصائد شبكته من الماء فوجد فيها سمكا ميتا،و آخر حيا حرم الأول،و حل الثاني بالبداهة،و إذا ترك الشبكة في البر،حتى مات الحي،و اشتبه بالميت،فما ذا يصنع؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى حرمة الجميع امتثالا للتكليف بالتجنب عن الحرام،و لا يتحقق الامتثال إلاّ بترك الجميع،فيجب بحكم العقل، تماما كما لو علمت بوجود إناءين:أحدهما طاهر،و الآخر نجس،و لم تميز الطاهر من النجس،فيجب عليك،و الحال هذي،عدم مباشرتهما معا.

و لا يشترط في صيد السمك التسمية،و لا الإسلام،فلو أخرجه غير المسلم من الماء حيا،و مات في خارجه،أو وضع يده عليه حيا بعد أن جف الماء عنه،

ص:364

أو خرج منه تلقائيا حل أكله،سواء أ كان الصائد أو صاحب اليد كتابيا،أو ملحدا، ما دمت تعلم أن يده استولت على السمك،و هو حي،و لا يحل مع الشك،و عدم العلم.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن صيد الحيتان،ان لم يسم؟فقال:لا بأس، و سئل عن صيد المجوسي للسمك؟فقال:ما كنت لآكله،حتى أنظر إليه.أي حتى اعلم أنّه خرج من الماء حيا.

و بهذا يتضح الفرق بين أخذ اللحوم من يد المسلم،و أخذها من يد غيره، فالأول تؤخذ من يده،حتى تعلم بأنّها ميتة،و الثاني لا تؤخذ من يده،حتى تعلم بأنّها مذكاة.

الجراد و الأخذ:

تتحقق التذكية الشرعية بالنسبة إلى الجراد بمجرد أخذه و الاستيلاء عليه حيا،سواء أ كان ذلك باليد،أو الآلة،و إذا مات قبل أخذه يحرم أكله،و لا تشترط التسمية،و لا الإسلام،تماما كما هو الحكم في السمك،فقد نقل الإمام الصادق عن أبيه عن جده علي أمير المؤمنين عليهم السّلام أن الحيتان و الجراد ذكي كله.و سئل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليه السّلام عن الجراد يصاب ميتا في الماء،أو في الصحراء،أ يؤكل؟قال:لا.و سئل عن الدبا من الجراد-أي الفراخ قبل أن تطير- أ يؤكل؟قال:لا.حتى يستقل بالطيران.

الجنين و امه:

إذا حملت الناقة أو البقرة أو الجاموسة أو الشاة،و ماتت دون أن تذكى، و مات الجنين في بطنها فكل منهما ميتة لا يحل اكله،و إذا ماتت هي،و أخرج

ص:365

الجنين من بطنها حيا ينظر:فان كان تام الخلقة،أي عليه شعر أو وبر،و كانت له، مع ذلك،حياة مستقرة،جاز ذبحه على الوجه الشرعي،و حل اكله بعد الذبح، و ان لم يكن تام الخلقة،و لا حياة له مستقرة فلا يحل أكله،و ان ذبح.

و إذا ذكيت أمه،و كان قد أشعر،أو أوبر،و مات قبل أن يخرج من بطنها حل اكله.و قال كثير من الفقهاء:تجب المبادرة بعد الذبح إلى شق بطن الذبيحة:

و إخراج الجنين منها،حتى و لو لم تمت بعد،و إذا توانى المخرج طويلا،ثم أخرجه ميتا لم يحل.

و المصدر في ذلك كله قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ذكاة الجنين ذكاة أمه (1)و روايات كثيرة في معناه عن أهل البيت عليهم السّلام،قال صاحب الجواهر:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ذكاة الجنين ذكاة أمه،و روي ذلك مستفيضا عن عترته،ففي صحيح يعقوب بن شعيب:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن الحوار-أي ولد الناقة-نذكي امه،أ يؤكل بذكاتها؟قال:إذا كان تاما،و نبت عليه الشعر فكل، و عن سماعة عن الإمام عليه السّلام:سألته عن الشاة،و في بطنها ولد قد أشعر-أي نبت عليه الشعر-قال:ذكاته ذكاة أمه.و سئل الإمام عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ (2).فقال:الجنين في بطن أمه إذا أشعر أو أوبر فذكاته ذكاة أمه».

ص:366


1- الذكاة مبتدأ،و الثانية خبر عنها،و قال بعضهم:ان الثانية منصوبة بنزع الخافض،و التقدير ذكاة الجنين كذكاة امه،أي أنّه يجب أن يذكى،تماما كما تذكى أمه.و قال الشهيد الثاني في اللمعة: «و الصحيح رواية و فتوى أن ذكاة الثانية مرفوعة خبرا عن الأولى».
2- المائدة:2. [1]

عند تعذر الذبح:

إذا نفر حيوان أهلي،و استعصى على صاحبه،و لم يمكن الاستيلاء عليه بوجه،و خاف أن يذهب،و لا يدركه،إذا كان كذلك،جاز له أن يضربه بالسيف أو السكين أو الرمح أو غيره،و إذا مات في هذه الحال،قبل أن يتمكن من ذبحه حل أكله إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان قوما أتوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

ان بقرة لنا غلبتنا،و استعصت علينا،فضربناها بالسيف،فأمرهم بأكلها.

و إذا تردى الحيوان في حفرة أو بئر،و تعذر إخراجه حيا،و ذبحه في مكانه على الوجه الشرعي جاز جرحه و طعنه في أي جزء اتفق من بدنه،حتى يموت، و يحل أكله على شريطة أن تتوافر بالضارب و الطاعن شروط الذابح المتقدمة،و ان يسمي،أما استقبال القبلة مع التعذر فليس بشرط،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عما تردى على منخره،فيقطع،و يسمى عليه؟قال:لا بأس به،و أمر بأكله.

و قال:أيما إنسية-أي حيوان أهلي مستأنس-تردت في بئر،فلم يقدر على منحرها،فلينحرها من حيث يقدر،و يسمي اللّه عزّ و جل،و يأكل.

روايات عن أهل البيت عليهم السّلام:

1-سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن شراء اللحم من الأسواق،و لا يدرون ما صنع القصابون؟قال:كل إذا كان ذلك في أسواق المسلمين،فلا تسأل عنه.

و قد فهم صاحب الجواهر من النهي عن السؤال أنّه مكروه،و ان تركه أولى.

2-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أصاب سمكة،و في جوفها سمكة؟ قال:يؤكلان جميعا.

ص:367

3-قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قال في رجل أبصر طيرا،فتبعه،حتى وقع على شجرة،فجاء رجل فأخذه،قال:للعين ما رأت، و لليد ما أخذت.

4-قال الإمام عليه السّلام:الحوت ذكيّ حيّه و ميته.

قال الفقهاء استنادا إلى هذه الرواية:يجوز أكل السمك حيا.

و سئل الإمام عليه السّلام عن السمك يشوى،و هو حي؟قال:نعم،لا بأس.

ص:368

الأطعمة و الأشربة

اشارة

ص:369

من الآيات و الروايات:

قال تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ (2).

يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً (3).

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (4).

و قال الإمام علي عليه السّلام لبعض أصحابه:أ ترى اللّه أحل لك الطيبات،و هو يكره أن تأخذها؟أنت أهون على اللّه من ذلك.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

المأكول و المشروب بوجه عام:

كل الأشياء على الإباحة كتابا و سنة و عقلا و إجماعا مأكولا كانت،أو

ص:370


1- الأنعام:145. [1]
2- الأعراف:32. [2]
3- البقرة:28. [3]
4- البقرة:28. [4]

مشروبا إلاّ ما ورد النص بتحريمه خصوصا،كالميتة و ما إليها،أو عموما،كالأشياء الضارة،و قد يصير الحلال بالذات محرما بالواسطة،كالمغصوب و المتنجس، و المحرم بالذات حلا بالواسطة،كأكل الميتة للمضطر.

و ذكر الفقهاء في هذا الباب كل ما نص الشارع على تحريمه خصوصا و عموما من الأطعمة و الأشربة،و نعرض أقوالهم ملخصة مع أدلتها فيما يلي:

السمك:

اتفقوا بشهادة صاحب المسالك على أن كل حيوان بحري-غير السمك- لا يحل أكله،حتى و لو كان له فلس،أو كان على صورة الحيوان البري الذي يحل أكله.و أيضا اتفقوا أن السمك الذي له فلس حلال أكله.و اختلفوا في السمك الذي لا فلس له،و ذهب الأكثر إلى تحريمه،و استدلوا فيما استدلوا به أن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن السمك الذي لا قشر له ؟فقال:كل ما له قشر من السمك،و ما كان ليس له قشر فلا تأكله.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان أمير المؤمنين كان يركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالكوفة،ثم يمر بسوق الحيتان،و يقول:لا تأكلوا،و لا تبيعوا ما ليس له قشر.

أجل،إذا كان له قشر في الأصل،ثم زال،و هو في الماء جاز أكله،و مثلوا لذلك بنوع من السمك كان يسمى الكنعت،و استدلوا بأن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن الحيتان ما يؤكل منها؟فقال:ما كان له قشر.فقال السائل:جعلت فداك،ما تقول في الكنعت؟قال:لا بأس بأكله.قال السائل:ليس لها قشر.قال الإمام:بلى،و لكنها حوت سيئة الخلق،تحتك بكل شيء-فيذهب قشرها-فإذا نظرت في أصل ذنبها وجدت لها قشرا.

ص:371

و ما في جوف السمكة من بيض و غيره يتبع السمكة نفسها في التحليل و التحريم،فان حرم أكلها فالذي في جوفها حرام،و ان كانت حلالا فهو كذلك، قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان البيض مما يؤكل لحمه فلا بأس به و بأكله فهو حلال.و قال:كل شيء لحمه حلال فجميع ما كان منه من لبن،أو بيض،أو إنفحة،كل ذلك حلال طيب.

الشك و التردد:

1-إذا وجدت سمكتين:

تعلم بأن أحدهما يحل أكلها،لأن لها فلسا، و أنّها أخذت حية،و تعلم بأن الثانية يحرم أكلها،لأنها غير مذكاة،أو لأنّها من غير فلس،و اشتبه عليك الأمر،و لا سبيل إلى التمييز بينهما،إذا كان كذلك يجب تركهما معا،لأنك قد علمت بوجود الحرام،و أنت ملزم بتركه،و لا يتم تركه إلاّ بترك السمكتين معا،فيتعين عليك الاجتناب عنهما،تماما كما هي الحال في اختلاط الثوب النجس مع الثوب الطاهر.

2-إذا علمت بأن للسمكة فلسا

،و لم تعلم:هل هي مذكاة أخذت حية،أو لا؟فان كانت في يد مسلم حل أكلها،و إلاّ حرم،لأن الأصل عدم التذكية،و هذا هو حكم السمك المعلب.

3-إذا علمت أنّها مذكاة

،و لم تعلم:هل هي من نوع السمك الذي له فلس،فيحل أكلها،أو من النوع الذي لا فلس له فيحرم.إذا كان كذلك حل أكلها، سواء أخذت من يد مسلم،أو غير مسلم،لقول الإمام عليه السّلام:كل شيء لك حلال، حتى تعلم أنّه حرام.

و تسأل:ما الفرق بين العلم بأن للسمكة فلسا مع الجهل بأنّها مذكاة،حيث

ص:372

قلت بالتحريم،و بين العلم بأنّها مذكاة مع الجهل بأن لها فلسا،حيث قلت بالحل؟ الجواب:واضح،و هو الفرق بين العلم بالتذكية و عدمها،فإنه مع العلم بها لا يجري أصل عدم التذكية،لأن موضوعه الشك و الجهل،و عليه تجري قاعدة كل شيء حلال،أمّا مع الجهل بالتذكية فيجري أصل عدمها،و لا يبقى مجال لقاعدة الحلال.

البهائم الأهلية:

أصبح من نافلة القول ان الإبل و البقر و الجاموس و الغنم و المعز،حلال أكلها (1)و يحل أكل الخيل و البغال و الحمير على كراهة،قال صاحب الجواهر:

«للأصل،و النصوص المقطوع بمضمونها،قال محمد بن مسلم:سألت الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن لحوم الخيل و البغال و الحمير؟فقال:

حلال،و لكن الناس يعافونها».

و يحرم الكلب و الخنزير،لنجاستهما،و يحرم السنور،لأنه من نوع السباع،و قد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:كل ذي ناب من السباع،و مخلب من الطير فهو حرام،قال صاحب الجواهر:«يحرم للنص عليه بخصوصه،و لأنّه سبع كما في بعض النصوص».

البهائم البرية:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الحيوانات البرية يحل منها

ص:373


1- قال الشهيد الثاني في اللمعة:«و من نسب إلينا تحريم الإبل فقد بهت،نعم،هو مذهب الخطابية، لعنهم اللّه»و الخطابية اتباع محمد بن مقلاص المكنى بأبي الخطاب،و من أقواله«كل من عرف الإمام حل له كل شيء»و كان معاصرا للإمام الصادق عليه السّلام فلعنه و تبرأ منه.

الغزلان و البقر و الغنم و المعز و الحمير المتوحشة،و اليحمور،و هو-على ما قيل- حيوان يشبه الإبل،و يحرم منها السباع،و هي كل حيوان له ظفر،أو ناب يفترس به،قويا كان كالأسد و النمر و الفهد و الذئب،أو ضعيفا كالضبع و ابن آوى.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى السيرة المستمرة،و قول الإمام عليه السّلام:لا تأكل من السباع شيئا-ثم قال-و كذا لا خلاف،بل الإجماع على تحريم القنفذ».

و في المجلد الثالث من كتاب الوسائل للحر العاملي باب الأطعمة روايات عن أهل البيت عليهم السّلام جاء فيها:

«قد حرم اللّه لحوم المسوخ.و انّها ثلاثة عشر صنفا:الفيل،و الدب، و الخنزير،و القرد،و الجريث-نوع من السمك-و الضب،و الوطواط، و الدعموص-دويبة سوداء تغوص في الماء،و تكون في العذرات-و العقرب، و العنكبوت،و الأرنب،و سهيل و الزهرة.قال الصدوق:سهيل و الزهرة دابتان من دواب البحر المحيط».

و أيضا في الكتاب المذكور عن الإمام الرضا عليه السّلام:«حرم اللّه الأرنب،لأنها بمنزلة السنور،و لها مخالب كمخالبه،و مخالب سباع الوحش،فجرت مجراها، مع قذارتها في نفسها،و ما يكون منها من الدم،كما يكون من النساء».

الحشرات:

لا يوجد في النص دليل على تحريم الحشرات بوجه هام،و عليه فما كان منها ساما فهو حرام،لمكان الضرر،و ما عداه تشمله قاعدة كل شيء لك حلال، حتى تعلم أنّه حرام.

ص:374

و تقول:ان الفقهاء استدلوا على تحريم الحشرات بأنّها من الخبائث، و الخبائث محرمة بنص القرآن الكريم،و هو قوله تعالى وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ الأعراف:156.

و الجواب ان الشارع لم يبين ما أراد من الخبائث في قوله:«و يحرم عليهم الخبائث»،و قد رأيناه يستعمل لفظ الخبيث في معان شتى،منها الشيطان،كقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا تعودوا الخبيث من أنفسكم،و منها الإنسان،كقوله تعالى لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ،و منها الشيء الرديء،لقوله سبحانه وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ ، و منها اللواط،كقوله عز و جل وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ، و منها البصل و الثوم و الكراث،كحديث:من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا،و منها مهر البغي،كحديث مهر البغي خبيث،و ثمن الكلب خبيث،يريد أنّه حرام،و منها الكلمة كقوله تعالى وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ،إلى غير ذلك.

و إذا لم يكن للشارع اصطلاح في معنى الخبيث،و المعنى العرفي غير منضبط يكون اللفظ مجملا،و بديهة أن الواقعة التي ورد النص فيها مجملا تكون بمنزلة ما لا نص فيه إطلاقا.

و قال صاحب الجواهر ما ملخصه:ان معنى قوله تعالى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ان كل حرام فهو خبيث،و ليس معناه أن كل خبيث فهو حرام،كي يقال بأن لفظ الخبائث مجمل.

و يلاحظ بأن هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة،لأن الخبائث فيها موضوع للتحريم،و ليس التحريم موضوعا للخبائث.هذا،بالإضافة إلى أن قول صاحب الجواهر يخالف ما عليه الإمامية القائلون بأن اللّه نهى عن هذا،لأنه قبيح و خبيث،

ص:375

و أمر بذاك،لأنه طيب و حسن،و يتفق مع قول الأشاعرة القائلين بأن هذا حسن و طيب،لأن اللّه أمر به،و ذاك خبيث و قبيح،لأن اللّه نهى عنه.

الطير:

اشارة

الطيور،كالسمك و البهائم،منها حلال،و منها حرام،و الحرام على أنواع:

1-المفترسة

التي تصطاد غيرها من الطيور،قال الإمام الصادق عليه السّلام:حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل ذي مخلب من الطير،و المخلب الظفر.و مثل الفقهاء له بالبازي،و الصقر،و العقاب،و الشاهين،و الباشق،و النسر،و الرخمة-طائر من الجوارح كبير الجثة-و البغاث،و هو طائر أصفر بطيء الطيران،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك و في الغراب روايتان:إحداهما تقول بأنه مكروه، و الثانية قالت بالحرمة-و اختار هو الحرمة-لأن الرواية التي حرمت أصح سندا، و معتضدة بغيرها مما دل على الحرمة من نص و إجماع».

2-كل طير صفيفه أكثر من دفيفه يحرم أكله

،و الصفيف بسط الجناحين من غير تحريكهما حين الطيران،و يقابله الدفيف،أي يحرك جناحيه،و هو طائر،فإن تساوى الصفيف و الدفيف،أو كان الدفيف أكثر من الصفيف حل أكله، قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك مضافا إلى النصوص،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عما يؤكل من الطير؟فقال:كل ما رفّ،و لا تأكل ما صفّ.و في رواية ثانية:ان كان الطير يصف و يدف،و كان دفيفه أكثر من صفيفه أكل،و ان كان صفيفه أكثر من دفيفه فلا يؤكل.

3-كل طير بريا كان أو بحريا ليس له قانصة،و لا حوصلة،و لا صيصة فهو

حرام

،و ما كان له واحد من هذه الثلاث فهو حلال إلاّ أن يثبت النص على تحريمه

ص:376

بالذات،كالطاوس و الوطواط.و الصيصة شوكة خلف رجل الطير خارجة عن الكف،و هذا تلخيص ما قاله صاحب الجواهر:

«الإجماع على ذلك،و النصوص فيه كثيرة منها قول الإمام عليه السّلام:كل من الطير ما كانت له قانصة،أو صيصة،أو حوصلة.و منها القانصة و الحوصلة يمتحن بهما من الطير ما لا يعرف طيرانه،و كل طير مجهول.و المستفاد من مجموع النصوص عموما و خصوصا،و مطلقا و مقيدا،و منطوقا و مفهوما أن للحرمة علامات أربعا:المخلب و أكثرية الصفيف،و انتفاء القانصة و الحوصلة و الصيصة،و المسخ كالوطواط،و ان للحل أربع علامات:أكثرية الدفيف، و الحوصلة و القانصة و الصيصة.و قد توافق النص و الفتوى على عدم الفرق بين طير البر و الماء في العلامات المذكورة،فيؤكل من طير الماء ما وجدت علامة من علامات الحل،حتى و لو كان يأكل السمك،لإطلاق الأدلة،و لأن الإمام الرضا عليه السّلام سئل عن طير الماء ما يأكل السمك منه؟قال:لا بأس به،كله».

و بعد أن ذكر الفقهاء علامات الحلال و الحرام في الطير بوجه العموم،قالوا:

يحل الحمام و الدجاج بشتى اصنافهما،و الدراج و الحجل و القبج و القطا و البط و الكروان و الحباري و الكركي،و العصافير جميعا،و منها البلبل و الزرزور و القبّرة.

البيض:

بيض الطير يتبعه في التحليل و التحريم،فبيض الطير الحرام مثله،و كذا بيض الطير الحلال،و إذا رأيت بيضة،و لم تعلم:هل هو من الحلال،أو الحرام نظرت إلى طرفيها،فان تساويا،بحيث لا يمكن التمييز بينهما فهي حرام،و ان اختلفا،بحيث كان أحد الطرفين عريضا مفرطحا كبيض الدجاج،فهو حلال،قال

ص:377

صاحب الجواهر:«بلا خلاف،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يدخل الأجمة-أي الشجر الكثير-فيجد فيها بيضا مختلفا،لا يدري أبيض ما يكره من الطير،أو يستحب؟قال:ان فيه علما لا يخفى،انظر إلى كل بيضة تعرف رأسها من أسفلها فكل،و ما سوى ذلك فدعه.و في رواية ثانية:ما كان مثل بيض الدجاج،و على خلقته،احدى رأسيه مفرطح،و إلاّ فلا تأكل.و المفرطح هو العريض».

الحرام بالواسطة:

اشارة

قد يصير الحلال بالذات حراما بالواسطة،طيرا كان أو غيره من الحيوانات.

و قد ذكر الفقهاء لهذا التحريم أسبابا ثلاثة:

1-الجلال

،و هو أن يتغذى الحيوان أو الطير من عذرة الإنسان خاصة دون أن يشرك معها غيرها،يتغذى بها أمدا حتى ينبت عليها لحمه،و يشتد عظمه في نظر العرف،فإذا تغذى من القذارات و النجاسات غير عذرة الإنسان،أو تغذى بها و بغيرها معا فلا يكون جلالا،و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى تحريم لحوم الحيوانات و الطيور الجلالة،لقول الامام الصادق عليه السّلام:لا تأكلوا من لحوم الجلالات،و ان أصابك من عرقها فاغسله.

و يذهب الجلل العارض بالاستبراء،و يحل اكله،و ذلك أن يمنع الحيوان عن العلف النجس،و يعلف بالطاهر إلى أمد يزول معه اسم الجلل عرفا، و يختلف الأمد طولا و قصرا باختلاف الحيوان.و قد روي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:

الناقة الجلالة لا يؤكل لحمها،و لا يشرب لبنها،حتى تغذى أربعين يوما،و البقرة الجلالة لا يؤكل لحمها،و لا يشرب لبنها،حتى تغذى ثلاثين يوما،و الشاة الجلالة

ص:378

لا يؤكل لحمها،و لا يشرب لبنها،حتى تغذى عشرة أيام،و البطة لا يؤكل لحمها حتى تربى خمسة أيام،و الدجاجة ثلاثة أيام.

2-إذا وطأ إنسان دابة ينظر:

فان كانت مما يؤكل كالبقرة و الغنم فيجب أن تذبح،ثم تحرق،و يغرم الواطئ قيمتها للمالك،ان لم يكن هو الفاعل،و ان لم تكن مما يؤكل عادة،كالخيل و الحمير،فيجب إخراجها إلى بلد آخر،و تباع فيه بأي ثمن،و يعطى للواطئ،و يغرم هو بدوره القيمة السوقية لصاحبها،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الرجل يأتي البهيمة؟قال:يجلد دون الحد،و يغرم قيمة البهيمة لصاحبها،لأنه أفسدها عليه،و تذبح،و تحرق،ان كانت مما يؤكل لحمه،و ان كانت مما يركب ظهره أغرم قيمتها،و جلد دون الحد، و أخرجت من المدينة التي فعل بها إلى بلد آخر،حيث لا يعرف،فيبيعها فيها كيلا يعرفها.

قال صاحب الجواهر:«لا فرق بين ان يكون الواطئ كبيرا،أو صغيرا، عاقلا أو مجنونا،عالما بالتحريم أو جاهلا».

3-إذا شرب الحيوان من لبن خنزيرة

،حتى نبت لحمه،و قوي عظمه حرم لحمه،و لحم نسله،و ان شرب منه دون أن ينبت اللحم و يقوى العظم،أو شرب من لبن كلبة،لا خنزيرة فلا يحرم هو و لا نسله،بل يكون مكروها،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده.و قال الشهيد الثاني في المسالك:و فيه نصوص كثيرة لا تخلو من ضعف،و لكن لا رادّ لها.

اشتباه الموطوءة:

قال الفقهاء:إذا وطئت غنمة،ثم دخلت في قطيع الغنم،و لم تعرف قسم

ص:379

القطيع إلى القسمين،ثم أجريت القرعة عليهما،فيسلم القسم الذي لم تخرج عليه القرعة،و تعاد القرعة ثانية على القسم الذي وقعت،و هكذا تعاد القسمة و القرعة،حتى يبقى شاتان،فيقرع بينهما،و تذبح و تحرق الشاة التي عينتها القرعة،و استدلوا على ذلك بروايات عن أهل البيت عليهم السّلام منها أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل أتى على قطيع غنم،فرأى الراعي ينزو على شاة منها،فلما أبصره خلى سبيلها،فدخلت في الغنم.فقال الإمام عليه السّلام:ان عرف الغنمة ذبحها و أحرقها،و ان لم يعرفها قسم الغنم نصفين،و ساهم بينهما-أي أقرع-فإذا وقع السهم على أحد النصفين فقد نجا النصف،و لا يزال كذلك،حتى يبقى شاتان فيقرع بينهما، فأيتهما وقع السهم عليها ذبحت و أحرقت،و نجا سائر الغنم.

الحيوان و شرب الخمر:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الحيوان إذا شرب الخمر يحرم ما في جوفه فقط من الأمعاء و القلب و الكبد،أما لحمه فحلال،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا شربت الشاة خمرا،حتى سكرت فذبحت على تلك الحال لا يؤكل ما في بطنها.

قال صاحب الجواهر:و هذه الرواية،و ان كانت خاصة بالشاة دون غيرها، و لكن الحكم يشمل جميع الحيوانات،لعدم القائل بالفرق بين الشاة و غيرها.

و يلاحظ،مع غض النظر عن ضعف الرواية،بأن عدم القول بالفصل ليس دليلا شرعيا إلاّ إذا رجح الإجماع،و مع ذلك فإنّه لا يستدعي سد باب الاجتهاد، فقد رأينا الكثير ممن تأخر،و منهم صاحب الجواهر يقول بما لم يقل به أحد ممن

ص:380

تقدم في العديد من المسائل (1)هذا،إلى أن الرواية خاصة في الشاة التي شربت الخمر و سكرت منه.فتعميم الحكم لكل شاة،حتى و لو لم تسكر،ثم تعميمه لكل حيوان،حتى و لو لم يكن شاة محل نظر و تأمل.

و إذا شرب الحيوان شيئا من النجاسات-غير الخمر-كالبول فلا يحرم لحمه و لا ما في جوفه،بل يغسل جوفه استحبابا،و يؤكل ما فيه من الأمعاء و القلب و الكبد،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن شاة شربت بولا،ثم ذبحت؟قال:يغسل ما في جوفها،ثم لا بأس.

و حمل الفقهاء الأمر بغسل الجوف على الاستحباب،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده.و كذلك إذا اعتلف الحيوان العذرة،و لم يبلغ حد الجلالة».

الحرام من غير الحيوان:

تكلمنا فيما سبق عما يحل و يحرم من ذوات الأرواح البرية و البحرية، حيث يمكن ضبطها بالعلامات،كالفلس في السمك،و الحوصلة،أو الصيصة، أو القانصة في الطير الحلال،و المخلب في الطير الحرام،و الافتراس في الحيوان، و ما إلى ذلك.و نتكلم عن المحرم مما لا روح فيه مأكولا كان،أو مشروبا،أما الحلال منه فلا حصر له.

و من الفروق بين الحيوان و غيره من حيث التحليل و التحريم ان الحيوان

ص:381


1- اقفل السنة باب الاجتهاد،و سدوه في وجه كل عالم،و ان بلغ أعلى المراتب،و فسروا ذلك بأن الفقيه العالم ليس له أن يرتأي رأيا لا يوافقه عليه أحد ممن تقدم عليه،و فتح الإمامية باب الاجتهاد،و فسروه بأن للفقيه أن يعمل برأيه الذي تكون من الأدلة و الأصول،سواء أوافق غيره، أو خالف.

يجري فيه أصل عدم التذكية إذا شك في قابليته لها،أو في وقوعها بعد العلم بالقابلية.إذا لم يكن اللحم في يد مسلم،و نتيجة هذا الأصل حرمة أكل اللحم المشكوك في غير يد المسلم،أما المشكوك في حله و حرمته من غير الحيوان فتجري فيه قاعدة كل شيء حلال،حتى تعلم الحرام بعينه،و بديهة أن ما تنطبق عليه هذه القاعدة من المصاديق و الافراد لا حصر لها،أما المحرمات من غير الحيوان فيمكن حصرها،و لو على الغالب،كما قال صاحب المسالك.

و على أيّة حال،فقد ذكر الفقهاء في هذا الباب للمحرم خمسة أنواع من الأطعمة:الميتة،و محرمات الذبيحة،و النجاسات،و الطين،و السموم،و خمسة أنواع من الأشربة،و فيما يلي التفصيل.

الميتة:

تحرم الميتة إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .

و أيضا أجمعوا على أن عشرة أجزاء من الميتة يحل استعمالها،و هي:الصوف، و الشعر،و الوبر،و الريش-و لا يجب غسل شيء من هذه إلاّ إذا قلعت،فيجب غسل أصلها لاتصاله برطوبة بدن الحيوان-و القرن،و الظفر،و الظلف-و هو كالحافر لما يجتر من الحيوانات،كالبقرة و الشاة-و السن،و العظم،و البيض على شريطة أن يكتسي القشر الأعلى الصلب،و إلاّ فهو بحكم الميتة،و الانفحة،و هي معدة الحمل أو الجدي حال ارتضاعه،و تصير كرشا بعد أن يأكل العلف و النبات، و تسمى مجبنة،حيث يصنع الجبن بسببها.

و الأصل في استثناء هذه من الميتة قول الإمام الصادق عليه السّلام:عشرة أشياء من الميتة ذكية:القرن،و الحافر،و العظم،و السن،و الانفحة،و اللبن،و الشعر،

ص:382

و الصوف،و الريش،و البيض.و في رواية ثانية عنه أنّه قال:ان كانت اكتست البيضة الجلد الغليظ فلا بأس بها.و في ثالثة ذكر الوبر،و بديهة ان الشعر و الوبر و الصوف من صنف واحد،و حكمها واحد.

و بالرغم من أن الرواية التي عددت الأصناف العشرة قد ذكرت اللبن من جملتها فان الفقهاء اختلفوا في استثنائه،قال صاحب المسالك:«ذهب الشيخ- يريد الطوسي المعروف بشيخ الطائفة-و أكثر المتقدمين،و جماعة من المتأخرين على أنّه طاهر،للنص على طهارته في الروايات الصحيحة،و منها صحيحة زرارة، قلت للإمام الصادق عليه السّلام:اللبن يكون في ضرع الشاة،و قد ماتت؟قال:لا بأس به».

اختلاط الذكي بالميت:

إذا اختلط المذكى من الحيوان بالميت و لا سبيل إلى التمييز وجب الامتناع من الجميع،امتثالا لوجوب الامتناع من الميتة،و لا يتم هذا الامتثال إلاّ بترك الكل.

و هل يجوز بيع المجموع من الحلال و الحرام المشتبهين،بيعهما ممن يستحل الميتة؟ قال جماعة من الفقهاء:يجوز،و يحل الثمن لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممن يستحل الميتة،و أكل ثمنه.و أيضا سئل عن رجل كانت له غنم و بقر،فلم يدرك المذكى منها فيعزله،و يعزل الميتة،ثم أن الميتة و المذكى اختلطا،كيف يصنع؟قال:يبيعه ممن يستحل الميتة،فإنه لا بأس به.

قال صاحب الجواهر:«فالمتجه العمل بهذين الخبرين الجامعين لشرائط الحجية خصوصا بعد الشهرة المحكية في مجمع البرهان على العمل بهما».

و تجدر الإشارة إلى أن كل جزء تحله الحياة إذا قطع من حيوان حي فهو

ص:383

بحكم الميتة لا يحل أكله.

محرمات الذبيحة:

اختلف الفقهاء في عدد المحرمات من الذبيحة،فعدها بعضهم ثمانية، و اقتصر الشهيد الثاني على تسعة،و قال الشهيد الأول في اللمعة:يحرم من الذبيحة خمسة عشر شيئا:

1-الدم،و هو غير الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج المعتاد منها.

2-الطحال،جاء في بعض الروايات أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان ينهى عن الطحال،فقال له بعض القصابين:يا أمير المؤمنين،ما الكبد و الطحال إلاّ سواء.فقال له:كذبت،اءتوني بإناءين فيهما ماء،و لما جيء بهما قال:شقوا الكبد من وسطه،و الطحال من وسطه،ثم أمر بوضع كل في الماء،فلم يتغير الماء الذي فيه الكبد،و صار الماء الذي فيه الطحال دما.

3-القضيب.

4-الأنثيان،و هما البيضتان.

5-الفرث،و هو الروث،و قد أجمع الفقهاء على تحريم هذه الخمسة بشهادة صاحب الجواهر.

6-المثانة،و هي مجمع البول.

7-المرارة.

8-المشيمة،و هي بيت الولد.

9-الفرج،ظاهره و باطنه.

10-العلباء،و هما عرقان عريضان ممدودان من الرقبة إلى قرب الذنب.

ص:384

11-النخاع،و هو الخيط الأبيض الذي ينظّم خرز سلسلة الظهر.

12-الغدد،المعروفة عندنا بالدرن.

13-ذات الأشاجع،و هي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف.

14-خرزة الدماغ،و هي حبة في الرأس بقدر الحمصة تميل إلى الغبرة.

15-حدقة العين.

قال الشهيد الثاني معلقا على ذلك:«ان المتيقن تحريمه من هذه:الدم، و الطحال،و الفرث،و الفرج،و القضيب،و الأنثيان،و المثانة،و المرارة، و المشيمة.أما تحريم الباقي فيحتاج إلى دليل،و الأصل يقتضي عدمه،و الروايات يمكن الاستدلال بها على الكراهة لسهولة خطبها».

يريد أن الروايات التي دلت على المنع من غير هذه التسعة ضعيفة لا يمكن الاستدلال بها على التحريم.و من الجائز الاستدلال بها على الكراهة،لأن القول بالكراهة أسهل من القول بالتحريم.و من الروايات التي أشار إليها الشهيد الثاني ما جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:لا يؤكل من الشاة عشرة أشياء:الفرث، و الدم،و الطحال،و النخاع،و العلباء،و الغدد،و القضيب،و الأنثيان،و الحياء، و المرارة.

النجس بالأصل و بالواسطة:

النجس بالأصل ما كانت عينه نجسة،كالدم و البول من ذي النفس السائلة، و ما إليهما مما ذكرنا في الجزء الأول بعنوان«أعيان النجاسات».و النجس بالواسطة ما خالطه شيء من النجاسات،و يسمى المتنجس،و أجمع الفقهاء كلمة واحدة على تحريم أكل النجس و المتنجس.قال صاحب الجواهر:هو من

ص:385

القطعيات،ان لم يكن من الضرورات.

الطين:

جاء عن أهل البيت عليهم السّلام روايات كثيرة تنهى عن أكل الطين،و تشدد في النهي عنه،و في بعضها:«من أكل الطين فقد أشرك في دم نفسه».مما يكشف أن قلة في ذاك العصر كانوا يأكلون الطين،و إلاّ فأي معنى لتخصيص الطين،مع العلم ان أكل التراب و ما إليه محرم،و يؤيد ذلك أن أقوال أهل البيت عليهم السّلام في التحريم و التشدد جاءت أجوبة عما وردهم من الأسئلة،بل في بعضها أن رجلا قال للإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:اني رجل مولع بأكل الطين،فادع اللّه لي بتركه.

و قد أشارت النصوص إلى المضمار التي تترتب على أكل الطين،منها أنّه يورث السقم،و يهيج الداء،و يورث النفاق،و الحكة في الجسد،و البواسير، و يثير داء السوداء،و يذهب بالقوة من الساقين و القدمين.

السموم:

كل شيء ضار فهو حرام إجماعا و عقلا و نصا،و منه قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1)و قول الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء يكون فيه المضرة على بدن الإنسان من الحبوب و الثمار حرام أكله إلاّ في حال الضرورة.

و كفى بقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا ضرر و لا ضرار»دليلا قاطعا، و حاكما على أدلة التكاليف الشرعية.

ص:386


1- البقرة:195. [1]

و هنا سؤال يفرض نفسه،و هو:هل الحرام هو ما نعلم و نقطع بوجود الضرر فيه،أو أنّه يشمل الضرر المظنون و المحتمل،بحيث يجب الامتناع عما يحتمل أنّه مضر فضلا عما يقطع أو يظن بضرره؟ ذهب أكثر من الفقهاء،أو الكثير منهم إلى أن الضرر الدنيوي يجب دفعه إذا كان مقطوعا أو مظنونا،أما المحتمل فلا يجب دفعه و الامتناع عنه،و الحق أن كل ما يعد فعله ضررا و تهلكة في نظر العرف فهو حرام،حتى و لو كان محتملا، فضابط التحريم أن لا يكون الفاعل في أمن من الضرر عند العقلاء.

و من نافلة الكلام و فضوله أن نستدل على جواز تناول القليل من المواد السأمة التي يصفها الطبيب للمريض.

الأشربة المحرمة:

اشارة

سبق في فقرة«الحرام من غير الحيوان»في هذا الفصل خمسة أنواع من الأطعمة المحرمة،و خمسة من الأشربة،و تكلمنا عن كل نوع من الأطعمة في فقرة مستقلة،و نتكلم الآن عن الأشربة بأنواعها الخمسة في هذه الفقرة:

1-الخمر

،و المراد به كل مسكر،سواء أصدق عليه اسم الخمر،أو غير اسم الخمر،حتى و لو كان الاسم غريبا عن اللغة العربية،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

لم يحرم اللّه الخمر لاسمها،و لكن حرمها لعاقبتها،فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو حرام.و أيضا قيل له:لم حرم اللّه الخمر؟فقال:حرم اللّه الخمر،لفعلها و فسادها،لأن مدمن الخمر تورثه الارتعاش،و تذهب بنوره،و تهدم مروءته، و تحمله أن يجسر على ارتكاب المحارم،و سفك الدماء،و ارتكاب الزنا،و لا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه،و هو لا يعقل ذلك،و لا تزيد شاربها إلاّ كل شر.

ص:387

و قد ثبت تحريم الخمر و انها من الكبائر،تماما كالزنا و السرقة،ثبت ذلك بضرورة الدين،و منكرها غير مسلم،و شاربها عن تهاون،مع العلم بتحريمها فاسق يحد بثمانين جلدة رجلا كان،أو امرأة.

و قال جاهل محتجا لجهله،أو مستهترا بدينه:ان القرآن لم يحرم الخمر.

و نجيب أولا:لقد نهى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الخمر،و لا فرق بين نهي اللّه،و نهي نبيه بعد قوله تعالى وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الحشر:7.و من أقوال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخمر أنّه لعن عشرة من أجلها:غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.

ثانيا:أن اللّه سبحانه وصفها تارة بالإثم،و تارة بأنّها رجس من عمل الشيطان،و يكفي في تحريمها أنّها اثم،و من عمل الشيطان،قال تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ البقرة:210.و قال إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ المائدة:91. (1)و قال:

إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ المائدة:

94.

و من لا يزدجر بهذه النذر البوالغ فلا زاجر له،و لا رادع.و سئل الإمام الرضا عليه السّلام عن تحريم الخمر في كتاب اللّه فقرأ قوله تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:32.ثم قرأ قوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ .

و إذا عطفنا احدى الآيتين على الأخرى يكون المعنى ان الخمر اثم،و كل

ص:388


1- الميسر [1]القمار،و الأنصاب و الأزلام،القداح،و هي سهام كانوا يجيلونها للقمار.

اثم حرام،فالخمر-اذن-حرام.هذا،إلى أن أحاديث الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي بيان و تفسير لآي الذكر الحكيم وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ النحل:44.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر أن ما يسكر كثيره فقليله حرام،حتى و لو لم يسكر.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ما أسكر كثيره فقليله حرام.و قيل له:ما تقول في قدح من السكر يغلب عليه الماء،حتى تذهب عاديته-أي ضرره- و يذهب سكره؟فقال الإمام:لا،و اللّه،و لا قطرة تقطر منه في حب إلاّ أهريق ذلك الحب.و قال:إذا شرب خمر أو مسكر على مائدة حرمت المائدة.و قال:لا تجالسوا شرّاب الخمر،فإن اللعنة إذا نزلت عمت من في المجلس.و من هنا أفتى الفقهاء بتحريم الأكل على مائدة يشرب الخمر عليها.

2-الدم

،قل،أو كثر،إذا كان من حيوان لا يؤكل لحمه سواء أ كانت له نفس سائلة،كالأرنب،و ابن آوى،أو لم تكن،كالضفدع و الوزغ،أما الدم من حيوان مأكول فيحرم بالإجماع إذا كانت له نفس سائلة،كالبقر و الغنم إلاّ ما تخلف في الذبيحة.أما دم الحيوان المأكول الذي لا نفس سائلة له،كالسمك فقد اختلف الفقهاء في حكمه،فمن قائل بالتحريم،و آخر بالتحليل،و ثالث بالتفصيل بين أكله مستقلا فيحرم،و مع السمك فيحل،و الأولى الترك إطلاقا.

3-كل مائع يتنجس بمماسته للنجاسة يحرم شربه

.أجل،لو جمد، كالدبس و السمن أيام الشتاء تلقى النجاسة،و ما لاقته،و يحل الباقي،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت،فان كان جامدا فألقها و ما يليها،و كل ما بقي،و ان كان ذائبا فلا تأكله.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه يجوز بيع الأدهان المتنجسة،

ص:389

و يحل ثمنها،على شريطة إعلام المشتري بذلك،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن سمن أو زيت أو عسل مات فيه جرذ،فقال:أما السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله،و أما الزيت فيستصبح به.أو يبيعه و يبينه لمن اشتراه،ليستصبح به.

قال صاحب الجواهر،و صاحب المسالك:يجب إعلام المشتري،حتى و لو كان ممن يستحل المتنجس.و هو حق،لتحريم الغش،و إطلاق النص.

4-الأعيان النجسة

،و مثّل لها الفقهاء ببول ما لا يؤكل لحمه.و نحن لا نشك في تحريم جميع الأبوال من جميع الحيوانات المأكولة،و غير المأكولة، لاستخباثها بالفطرة.و كنا في غنى عن هذه الإشارة لو لم يتعرض الفقهاء لها بالتفصيل و التطويل.

5-اللبن يتبع الحيوان

،فإذا حرم أكل لحمه حرم شرب لبنه،كالذئبة و اللبوة و الدبة،و إذا حل أكل لحمه على كراهة فلبنه كذلك،كلبن الخيل و الحمير.

قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجد فيه.

الأكل من مال الغير:

اشارة

لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره بأي نحو من أنحاء التصرف إلاّ بإذنه،و

استثنى الفقهاء من ذلك أمرين:
الأول:الأكل من بيوت الذين ذكرتهم هذه الآية:

وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً (1).

ص:390


1- النور:61. [1]

فيجوز للإنسان أن يأكل من اي بيت من هذه البيوت،دون أن يأذن صاحبها،أو يحرز رضاه بالأكل.و هذا هو الفرق بين هذي البيوت:و بين سواها من مال الغير،حيث لا يجوز تناول شيء منه،و ان قل و حقر إلاّ بالإذن الصريح من المالك،أو العلم برضاه،كما أنّه لا يجوز الأكل من هذه البيوت التي عددتها الآية الكريمة إذا نهى أصحابها عن الأكل،أو علم من القرائن بعدم الرضا و الترخيص.

و المراد بالآباء ما يشمل الأجداد،و بالأمهات ما يشمل الجدات.و المراد بما ملكتم مفاتحه من كانت له السلطة على المال بالولاية أو الوصاية أو الوكالة.

و المراد بالأكل أن يتناول شيئا من الفاكهة،أو الخضار،أو الطعام المعتاد الذي أعد لغداء أو عشاء أصحاب البيت دون الشيء العزيز الذي يدخر لحالات خاصة، فقد سئل الإمام عليه السّلام عما يحل للرجل من بيت أخيه؟قال:المأدوم و التمر.

و تسأل:لما ذا لم تذكر الآية الكريمة بيوت الأبناء؟ و الجواب ان الآية تدل على بيوت الأبناء بمفهوم الموافقة،تماما كما يدلّ قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ على تحريم الشتم و الضرب،و إذا جاز للأخ أن يأكل من بيت أخيه،و للوكيل أن يأكل من المال الموكل به فبالأولى أن يجوز للوالد أن يأكل من بيت ولده.هذا،بالإضافة إلى قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«أنت و مالك لأبيك».

الثاني:الأكل مما يمر به من فاكهة،أو خضار،و هو المعروف بحق المارة

، على شريطة أن لا يقصد المرور لأجل الأكل،و ان لا يفسد شيئا مما يمر به من الحقل و البستان،و ان لا يحمل معه شيئا منهما،و ان لا يعلم،أو يظن بعدم رضا المالك.فإذا قصد المرور ليأكل،أو أفسد،أو حمل كان آثما و ضامنا.

ص:391

رائحة المسكر:

قال صاحب الجواهر:«لا خلاف معتد به في أنّه لا يحرم شيء من الأشربة التي يشم منها رائحة المسكر،كرب الرمان و التفاح و السفرجل و التوت و غيرها، لأن كثيره لا يسكر».

فضابط التحريم أن يكون الشراب بذاته موجبا للإسكار و ذهاب العقل إذا تناول الكثير منه،أما مجرد رائحة المسكر،و المادة المسكرة في الشيء فإنها لا توجب التحريم،فالعنب أم الخمرة،و الخل أخوها،و هما من أهنأ و أمرأ الأطعمة و الأشربة في الشريعة.

الضرورات تبيح المحظورات:

اشارة

تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ و أسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة من أي نوع كان،و من تلك المبادئ السعة و عدم الضرر و اليسر و عدم الحرج،و هو أصل مطلق غير مقيد،و حاكم غير محكوم،لا ينفيه شيء، و به ينتفي كل شيء يوجب العسر و الحرج إلاّ إذا كان وسيلة لما هو أهم و أعظم، كالجهاد و التضحية في سبيل اللّه جل و عزّ.و قد أعلن القرآن الكريم،و السنة النبوية هذا المبدأ بأساليب شتى.

قال تعالى وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحج:78.

يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ البقرة:185.

يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ النساء:27.

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة:3.

وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الانعام:119.

ص:392

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ البقرة:173.

و من السنة النبوية:«لا ضرر و لا ضرار».«و كلما غلب اللّه عليه فهو أولى بالعذر».أي ان اللّه سبحانه يعذر المغلوب على أمره،لأسباب قاهرة لا قدرة له عليها.قال صاحب الجواهر:«ان هذه القاعدة ينفتح منها ألف باب».

هذا،بالإضافة إلى حكم العقل و الفطرة بأن التكليف بما لا يطاق قبيح من الحكيم العليم.و بعد هذا التمهيد نشير فيما يلي إلى معنى المضطر و الاضطرار الذي يبيح المحرمات،و إلى الترخيص في مقدار التناول منها.

معنى المضطر:

معنى المضطر من حيث هو معروف عند الناس،و ليس للشارع اصطلاح خاص به و لكن المتشرعة،و أعني بهم الفقهاء،قد حددوا المضطر،لا من حيث هو،بل من حيث يسوغ له ارتكاب المحظور و قالوا:ان المضطر هو الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم أو يخشى حدوث المرض،أو زيادته،أو أنّه يؤدي إلى الضعف و الانهيار،أو يخاف الضرر و الأذى على نفس أخرى محترمة،كالحامل تخاف على حملها،و المرضعة على رضيعها،أو أكرهه قوي على أكل أو شرب المحرم،بحيث إذا لم يفعل آذاه في نفسه،أو في ماله،أو في عرضه و شرفه،بل إذا خاف على نفس أخرى محترمة،أو عرضها،أو على مال الغير الذي يجب عليه،كما لو قال له القوي:إذا لم تشرب الخمر فسأقتل فلانا،أو أعتدي على عرضه و شرفه،أو أسلب المال الموجود عندك أمانة،كل ذلك،و ما إليه من المسوغات و المبيحات،قال صاحب الجواهر

ص:393

«الظاهر تحقق الضرر بالخوف على نفس غيره إذا كانت محترمة،كالحامل تخاف على الجنين،و المرضع على الطفل.أو عرض نفس محترمة،أو مال محترم يجب عليه حفظه،أو غير ذلك من الضرر الذي لا يتحمل عادة إذا كان الخوف معتدا به عند العقلاء».

و بالإجمال ان الاضطرار المسوغ لا ينحصر بالخوف من هلاك النفس،بل هناك أشياء أخر يترتب على وقوعها ضرر أشد و أعظم محذورا من إتيان المحظور.أجل،ليس من الاضطرار المسوغ للقتل التهديد به إذا لم يقتل،فإذا قال له:أقتلك ان لم تقتل فلانا فلا يجوز له أن يفعل ذلك،ليدفع الضرر عن نفسه.

الضرورة تقدر بقدرها:

متى تحقق الاضطرار حل للمضطر ان يتناول من الشيء المحظور مقدار ما يرتفع به الضرر،و من هنا اشتهر بين الفقهاء:«الضرورة تقدّر بقدرها»و يدل عليه قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ .و الباغي من يرتكب الحرام من غير ضرورة،و العادي من يضطر إليه،و لكنه يتجاوز مقدار الحاجة الملحة (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:أباح اللّه للمضطر-من الحرام-في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلاّ به،فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير.

و تسأل:لو افترض ان المضطر امتنع تنزها عن الحرام،و آثر الضرر،هل يعد عاصيا مستحقا للعقاب،و الحال هذه؟ أجل،هو آثم،لأنه خالف قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ و قد روي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:«من اضطر إلى الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم

ص:394


1- كثرت الأقوال في تفسير الباغي و العادي،و الذي ذكرناه هو المفهوم من لفظ الآية و سياقها.

يأكل شيئا من ذلك،حتى يموت فهو كافر».قال صاحب الجواهر:«ان ضعف هذه الرواية يجبره عمل الفقهاء».

و نحن على يقين بان هذا ليس من الورع في شيء،و انما الورع و التقوى في التضحية،و تحمل الضرر،لإعزاز كلمة الحق و الدين لا في الامتناع عن النجس مع الاضطرار إليه.

الاضطرار و حق الغير:

ان الاضطرار يسقط الخطاب التكليفي الذي يترتب الإثم و العقاب على عصيانه،و لا يسقط الخطاب الوضعي الذي هو حق للغير،فمن اضطر إلى التناول من مال غيره لدفع الهلاك جاز له أن يأخذ منه ما يسد الرمق و يحفظ الحياة،طابت نفس المالك،أو أبت،و لكن على المضطر ضمان القيمة.

و إذا مانع صاحب الطعام المضطر جاز له قتاله دفعا للضرر عن نفسه،و نقل صاحب المسالك عن شيخ الطائفة أنّه قال:«إذا امتنع صاحب الطعام عن بذله إلاّ بأكثر من ثمنه،فان كان المضطر قادرا على قتاله قاتله،و ان قتل المضطر فعلى صاحب الطعام الدية،أو القصاص،و ان قتل صاحب الطعام فدمه هدر».

التداوي بالخمر:

قال جماعة من الفقهاء:للمضطر أن يتناول ما يزيل به الضرر من جميع المحرمات إلاّ الخمر،فإنّها لا تحل له بحال،بل لا يجوز التداوي بأدوية فيها شيء من المسكر،و ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى الجواز إذا انحصر الدواء و الشفاء بها«لأن حفظ النفس من التلف واجب،و تركه محرم،

ص:395

و هو أغلظ تحريما من الخمر،فإذا تعارض التحريمان-أي ترك حفظ النفس، و شرب الخمر-وجب ترجيح الأخف،و ترك الأقوى،و لأن تحريم الميتة و لحم الخنزير أفحش و أغلظ من تحريم الخمر فاباحتها للمضطر يوجب إباحة الخمر بطريق أولى».

و اختار صاحب الجواهر جواز التداوي بالخمر،و قال:الأصح الجواز مع الاضطرار.أما الروايات الواردة في تحريمه فيمكن حملها على إمكان التداوي بغير الخمر،و عدم انحصار الدواء فيها.

المائدة و آدابها:

في كتب الفقه و الحديث روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام في آداب المائدة،و بيان النافع و الضار من الأطعمة و الأشربة،و قد جمعها الحر العاملي في المجلد الثالث من كتاب وسائل الشيعة باب الأطعمة و الأشربة،و تبلغ المئات، و لو أخرجت في كتاب مستقل لجاءت في مجلد ضخم،و فيما يلي بعض ما تضمنته تلك الروايات:

يستحب غسل اليدين قبل الطعام و بعده،مع غسل الفم،و ان يفتتح الأكل بالملح،و يختم به،و ان لا يأكل الفاكهة إلاّ بعد غسلها،فعن الإمام عليه السّلام أن لكل ثمرة سما.

و قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:لا تجلس على الطعام إلاّ و أنت جائع،و لا تقم عن الطعام إلاّ و أنت تشتهيه،و جوّد المضغ،و إذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء،فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب.

و قال حفيده الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الطعام إذا جمع

ص:396

ثلاث خصال فقد تم:إذا كان من حلال،و كثرت الأيدي عليه،و سمى في أوّله، و حمد اللّه في آخره.و قال:لا تأكل،و أنت تمشي إلاّ أن تضطر إلى ذلك.و ان يأكل كل انسان مما بين يديه،و لا يتناول شيئا من أمام الآخر إلاّ الفاكهة.

و يكره أكل الطعام حارا،فعن الإمام الصادق عليه السّلام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدم إليه طعام حار،فقال:نحوه،حتى يبرد،ان اللّه لم يطعمنا النار.و نهى ان ينفخ في طعام،أو شراب.

و يستحب أكل اللحم على أن لا يدمن عليه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:اللحم ينبت اللحم،و من تركه أربعين يوما ساء خلقه.و قال:لا تدمنوا أكل السمك فإنه يذيب الجسد.

و قال:ما استشفى مريض بمثل العسل.و قال:لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل طعاما،أو يشرب شرابا إلاّ قال:اللهم بارك لنا فيه،و أبدلنا خيرا منه إلاّ اللبن فإنه كان يقول:اللهم بارك لنا فيه،و زدنا منه.

و في الأحاديث و الروايات مدح و ترغيب في أكل الفاكهة و الخضار،فعن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليكم بالفواكه في إقبالها،فإنها مصحة للأبدان،و قال الإمام الصادق عليه السّلام:خمسة من فاكهة الجنة:الرمان،و التفاح،و السفرجل، و العنب،و الرطب.و روي عنه أنّه كان يكره تقشير الفاكهة.و قال:الهندباء سيدة البقول.و قال حفيده الإمام الرضا عليه السّلام:السلق شفاء من الأدواء.و قال:كلوا الزيتون،فإنه من شجرة مباركة.و قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ان الزيتون يجلب الريح.فقال:لا،بل يطرد الريح.

و نختم هذا الفصل بقوله عز من قائل وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ، وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 1.

ص:397

و نختم هذا الفصل بقوله عز من قائل وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ، وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (1).

قيل:المعروشات ما يزرعه الإنسان،و غير المعروشات ما ينبت من تلقائه في البراري و الجبال،و المتشابه من الفواكه ما يشبه بعضها بعضا في الطعم و اللون و الصورة.

ص:398


1- الانعام:141. [1]

المجلد 5

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

كتاب الغصب

معناه:

أطال الفقهاء الكلام في تعريف الغصب،و حاول الكثيرون ضبطه طردا و عكسا،و قدمنا أكثر من مرة أن التعاريف الفقهية إن هي إلاّ رسوم و إشارات إلى الشيء ببعض خواصه و آثاره،و مهما يكن،فإن الذي نراه أن معنى الغصب واحد لغة و عرفا و شرعا،و هو الاستيلاء على مال الغير دون اذن المالك،سواء أ كان المال عينا كمن استولى على دارك بنية تملكها بالذات،أو كان المال منفعة كمن استولى عليها بنية أن يغتصب السكنى دونها.و السرقة نوع من الغصب،و ان كان أشد من السلب جهرا،و لذا أوجبت الحد على السارق دون السالب جهرا و عيانا.

و تسأل:ان أخذ الاستيلاء في معنى الغصب يستدعي أن الظالم الذي يمنع المالك عن حفظ ماله،و التصرف فيه دون أن يستولي عليه،أن لا يكون غاصبا، و بالتالي أن لا يكون ضامنا.فالذي منع غيره من إمساك دابته،حتى هلكت-مثلا- ينبغي أن لا يضمنها للمالك،حيث لم يضع يده عليها من قريب أو بعيد؟ الجواب:ليس من الضروري إذا لم يكن هذا غاصبا ان لا يكون ضامنا،فإن أسباب الضمان لا تنحصر بالغصب،بل ان الفقهاء اهتموا ببيان أسباب الضمان أي اهتمام،و اعتبروا الغصب من مصاديق هذه الأسباب و إفرادها،و يتضح ذلك مما سنعرضه فيما يأتي:

و قد أجمع الفقهاء على أن الغصب كما يتحقق في الأشياء المنقولة أيضا يتحقق في الثوابت،كالأرض و الدر و البستان خلافا لبعض أئمة المذاهب،حيث

ص:3

نفى إمكان الغصب بالنسبة للعقار،لعدم إمكان ثبوت اليد عليه.

تحريم الغصب:

شدد الإسلام كثيرا في تحريم التعدي على أموال الناس،و اعتبره بمنزلة التعدي على الدماء و الاعراض،و أوجب الفقهاء التحفظ فيها و الاحتياط و حرموا التصرف بالمال إلاّ مع العلم بالإذن الشرعي،لقول الإمام عليه السّلام:لا يحل مال إلاّ من حيث أحله اللّه.و قد تضافرت نصوص الكتاب و السنة على ذلك.

قال تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ (1).

و قال تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (2).

و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان دماءكم و أموالكم عليكم حرام.لا يحل دم امرئ مسلم،و لا ماله إلاّ عن طيب نفس.

و قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من خان جاره شبرا من الأرض جعله اللّه طوقا في عنقه من تخوم الأرض السابعة،حتى يلقى اللّه يوم القيامة مطوقا إلاّ أن يتوب و يرجع.إلى غير ذلك.

أسباب الضمان:

يحرم على الغاصب التصرف في الشيء المغصوب،و يجب عليه رده بالذات،ان كانت عينه قائمة،ورد بدله،ان تلف،و لو بآفة سماوية.و بمناسبة

ص:4


1- البقرة:188. [1]
2- المطففين:1. [2]

ضمان الغاصب تكلم الفقهاء في باب الغصب عن موجبات الضمان من حيث هي،و بصرف النظر عن الغصب،و حصروها في ثلاثة:مباشرة الإتلاف، و التسبيب،و اليد.و ربما يظن أن هناك أسباب غيرها:

«منها»:الضرر،كمن فتح قفصا،و فوّت الطائر الذي فيه على صاحبه.

و«منها»:قاعدة الغرر،كمن باع مال غيره بعنوان أنّه المالك،و تصرف المشتري بنية صحة البيع،ثم تبين غش البائع و تدليسه.

و«منها»:احترام مال المسلم الذي دل عليه حديث:«حرمة مال المسلم كحرمة دمه».

و«منها»:ضمان المقبوض بالسوم،و هو أن تأخذ الشيء تنظره،لتشتريه، فيتلف في يدك قبل أن يتم الشراء.

و«منها»:المقبوض بعقد فاسد،فالمثمن الذي يقبضه المشتري بهذا العقد مضمون عليه للبائع،و الثمن الذي يقبضه البائع مضمون عليه للمشتري.

و«منها»:عارية الذهب و الفضة،و عارية غيرهما مع شرط الضمان حيث يضمنها المستعير،حتى مع عدم التعدي و التفريط.

ربما يظن للوهلة الاولى أن هذه غير الأسباب الثلاثة التي ذكرها الفقهاء، ولدي التأمل يتبين أن بعضها أجنبي عن الضمان و أسبابه،فإن قاعدتي الضرر و الاحترام تدلان على حرمة التصرف في مال الغير إلاّ بإذنه.و بديهة أن حرمة التصرف شيء،و الضمان شيء آخر.بخاصة لا ضرر.فإنها تنفي الأحكام الضررية في الإسلام،أما ثبوت الضمان أو نفيه فهي أجنبية عنه.

و بعض هذه القواعد يدل على الضمان،و لكنها لا تعدو الأسباب الثلاثة التي ذكرها الفقهاء،فالعارية و المقبوض بالعقد الفاسد و بالسوم من مصاديق

ص:5

الضمان باليد،و الغرر يدخل في ضمان التسبيب.و بالإيجاز أن هذه القواعد امّا لا دلالة فيها على الضمان،و امّا ينطبق عليها أحد الأسباب الثلاثة التي نتكلم عن كل منها في فقرة مستقلة.

الضمان بالمباشرة:

السبب الأول للضمان أن يباشر إتلاف المال بنفسه،مثل أن يقطع شجرة غيره،أو يكسر إناءه،أو يحرق كتابه أو ثوبه،و ما إلى ذلك.و لا فرق في وجوب الضمان بين أن يكون المتلف قاصدا،أو غير قاصد،و لا بين أن يكون بالغا عاقلا، أو غير بالغ و عاقل،لأن الخطابات الوضعية تشمل الجميع،فمن رمى صيدا بسهم فأصاب حيوانا مملوكا،خطأ،و من غير قصد،أو كان نائما فانقلب على إناء غيره فكسره فعليه الضمان.و كذا المجنون و الطفل إذا أتلفا مال انسان فعلى الولي أن يدفع له البدل ان كان لهما مال،و إلاّ انتظر المالك الميسرة.و الفرق بين البالغ العاقل القاصد و بين غيره أن الأول إذا أتلف يأثم و يغرم،و الثاني يغرم و لا يأثم و بهذا يتبين أن المتلف الضامن قد يكون غاصبا آثما،كالعاقل المتعمد،و قد يكون غير آثم،كالمخطئ و القاصر.

الضمان بالتسبيب:

الثاني من أسباب الضمان التسبيب،و هو أن يأتي الإنسان بفعل يوجب التلف،و لو بضميمة فعل آخر معه،كالحفر الذي يحصل به الهلاك مع المرور، بحيث لو لا الحفر لمضي المار بسلام.و موارد التسبيب كثيرة لا يبلغها الإحصاء، منها أن يحفر حفره في غير ملكه فيسقط فيها إنسان أو حيوان،أو يضع في

ص:6

الطريق المعاثر و المزالق،كقشر البطيخ و الموز،أو يغرس فيها المسامير،فتتضرر المارة بأنفسها و أموالها،أو ينصب شبحا فتنفر الدابة براكبها،أو حمولتها،أو يلقي صبيا أو حيوانا في مكان الحشرات المؤذية و الحيوانات المفترسة فتقتله،أو يفك مربط الدابة أو قيدها فتشرد،أو يفتح القفص على طائر فيذهب،أو يفك وكاء ظرف فيه زيت و نحوه فيسيل ما فيه.كل ذلك،و ما إليه يشمله ضمان التسبيب،و يوجب على الفاعل المسبب أن يدفع للمالك بدل التالف من المثل و القيمة.و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه.

و قال زرارة:سالته عن رجل حفر بئرا في غير ملكه،فمر عليها رجل، فوقع فيها؟ فقال:عليه الضمان.قال صاحب الجواهر:«إلى غير ذلك من النصوص التي منها المعتبرة المستفيضة».

تعدى النار إلى ملك الجار:

اتفقوا بشهادة صاحب المسالك على أن من أرسل في ملكه ماء،أو أجج نارا لمصلحته فتعدى الماء أو النار إلى ملك غيره فأفسده و أضر به،اتفقوا على أن الفاعل لا يضمن شيئا مما يهلك و يفسد بشرطين:الأول أن لا يزيد على مقدار حاجته من الماء و النار.الثاني أن لا يظن أن عمله مضر بغيره،لأنه،و الحال هذي،يكون مأذونا شرعا بالتصرف،و حديث«الناس مسلطون على أموالهم»لا يمنع من العمل به مانع.فإذا اجتمع الشرطان،ثم اتفق أن تضرر الغير فلا يضمن

ص:7

الفاعل،تماما كما إذا حفر بئرا في ملكه بعيدا عن الطريق العامة،ثم شرد حيوان فسقط فيها.

و إذا فقد الشرطان معا كما إذا أجج نارا أكثر من حاجته،و كان الهواء شديدا عاصفا،حيث يظن بتعدي النار عن ملكه،إذا كان كذلك فإنه يضمن بالاتفاق، لمكان التعدي و التفريط.و إذا فقد أحد الشرطين دون الآخر،كما إذا تجاوز عن مقدار الحاجة،و لم يظن الإضرار بالغير،أو اقتصر على مقدار الحاجة،و لكنه ظن الإضرار بغيره فللفقهاء قولان:أصحهما الضمان،لأنه قد أوجد عملا لولاه لما حدث التلف.هذا،إلى أن الخطابات الشرعية الوضعية-و منها الضمان-لا تقيد بعلم و لا جهل،و لا عمد،و لا خطأ.أما الاذن الشرعي بالتصرف فإنه لا يتنافى مع الحكم الوضعي.و أي مانع أن يقول الشارع:أنت مسلط على مالك،فافعل به ما شئت،و لكن إذا تضرر غيرك من تصرفك فيه فعليك الضمان؟

من يمنع المالك عن ملكه:

إذا لم يستول الظالم على العين،و لكن منع المالك من التصرف فيها، و المحافظة عليها كأن يمنعه عن إمساك دابته المرسلة فتهلك،أو عن أخذ محفظته فتسرق،أو عن سكنى داره فتهدم،إذا كان كذلك فهل يكون الظالم آثم و ضامنا،أو يكون آثما فقط غير ضامن؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن الظالم يأثم،لا يغرم،لان يده لم تثبت على العين،فلا يكون غاضبا.

و يلاحظ بأن الضمان لا ينحصر سببه بالغضب،بل يكفي في ثبوته أن يكون لعمل الغاصب نوع من التأثير في الهلاك،بحيث لولاه لسلمت العين.

ص:8

نقصان القيمة السوقية:

إذا منعه الظالم من بيع سلعته،فنقصت قيمتها السوقية دون أن يتغير شيء من صفاتها يأثم و لا يغرم،لأنه لم يفوت عليه العين،و لا شيء من صفاتها،و انما فوّت عليه الربح و الاكتساب،و عدم الربح من الصفات السلبية التي يشملها الضمان.أجل،ان العرف يرى الظالم-هنا-سببا للتفويت،و لكن ليس كل ما هو سبب عرفا فهو موجب للضمان شرعا،لأن لفظ السبب لم يرد في النص،كي يكون المرجع في معرفته العرف،على أن العرف غير منضبط في معرفة السبب.

الرجوع عن الشهادة:

إذا شهد اثنان بأن زيدا مدين لغيره بمال،و بعد أن حكم الحاكم بالدين اعتمادا على شهادتهما رجعا عن الشهادة،و أكذبا أنفسهما،فيغرمان للمشهود عليه عوض ما يدفعه للمشهود له.و كذا لو شهدا بالطلاق،و حكم به الحاكم،ثم رجعا عن الشهادة،فإنهما يغرمان المهر للزوج.

اجتماع السبب و المباشرة:

قدمنا أن كلا من المباشرة و التسبيب من موجبات الضمان،فإن انفرد أحدهما عن الآخر أثر أثره،و ان اجتمعا معا ينظر:فإن كان المباشر أقوى فعليه الضمان،و مثاله أن يحفر شخص حفرة على الطريق،أو في ملك غيره،فيأتي آخر،فيدفع إنسانا أو حيوانا فيهلك،و الضمان-هنا-يثبت على الدافع لا الحافر، تماما كما لو دفعه في الماء فغرق،أو عن علو فهلك.و ان كان المسبب أقوى فالضمان عليه،لا على المباشر،و ذكر الفقهاء لذلك مثالين

ص:9

الأول:التغرير،كمن يسرق أموال الناس،و يتصدق بها بعنوان أنّها له و منه،ثم يتصرف فيها الآخذ في مصلحته معتقدا حلها و تملكها من المعطي، و هنا يضمن المسبب دون المباشر الذي لم يتصرف لو لا الغرر و التسبيب.لكن يجوز للمالك أن يغرّم من شاء منهما،بالنظر إلى أن الغاصب قد استولى على المال،و ان الآخذ قد أتلفه،فإن رجع المالك على الغاصب لم يرجع الغاصب على الآخذ،و ان رجع المالك على الآخذ رجع هذا على الغاصب،لأن المغرور يرجع على من غره.و من القواعد الفقهية أن الضمان يستقر في النهاية على من تلف المال في يده إلاّ إذا كان صاحب اليد مغررا به.

الثاني:الإكراه على إتلاف المال،فمن أكره إنسانا على إتلاف مال فالضمان على المكره دون المباشر،لأن المباشر-هنا-أضعف من المسبب.و لو أكرهه على قتل نفس محترمة فلا يجوز له قتلها،فإن فعل قتل،و حبس المسبب مؤبدا،و السر-كم أظن-أن للمال بدلا،و النفس لا بدل لها.و التفصيل في باب الشهادات.

و قد يجتمع سببان على شيء واحد،كما لو حفر شخص حفره في غير ملكه،و وضع آخر حجرا بالقرب منها،فيعثر بالحجر إنسان،أو حيوان،و يقع في الحفرة فيهلك.قال الشهيد الثاني في المسالك:«ان اتفق وجود الحفرة و وضع الحجر في آن واحد فيتجه الضمان على الاثنين:الحافر و واضع الحجر، للتساوي و عدم الترجيح:و ان تأخر وجود أحدهما عن الآخر فالضمان على الأول،لأنه سبب السبب».

ص:10

مسائل:

1-شخص فتح بابا على مال الغير فأخذه السارق

،فالمسبب هو الفاتح، و السارق هو المباشر،و عليه الضمان،لأنه أقوى من المسبب،و لا شيء على الفاتح سوى الإثم.

2-شخص وشى إلى ظالم بآخر،فسلبه ماله

،فالواشي مسبب،و السالب مباشر،و عليه الضمان،لأنه أقوى من الواشي الذي باء بغضب اللّه و عذابه.

3-شخص أمسك بآخر،فقتله ثالث

،فيقتل القاتل،لأنه أقوى من الماسك،و يحبس هذا مؤبدا.و التفصيل في باب القصاص ان شاء اللّه تعالى.

الضمان باليد:

السبب الثالث من أسباب الضمان اليد،فكل من استولى على مال الغير بلا اذن منه استيلاء يمكنه من التحكم فيه،و لو آنا ما فقد دخل في عهدته،و أصبح مسؤولا عنه،و عليه إرجاعه لمالكه مع بقاء عينه،و إرجاع عوضه مع تلفه،سواء تعمد الاستيلاء كالسارق،أو لم يتعمد كمن اشتبهت عليه محفظته بمحفظة غيره فأخذها خطأ،و سواء أتلف المال تحت يده بسبب منه،أو بآفة سماوية،فيده في جميع ذلك يد ضمان إلاّ ما خرج بالدليل،لعموم:على اليد ما أخذت،حتى تؤدي خرج منه يد الولي و الوصي و الوكيل و الوديع و المستعير و المستأجر بدليل خاص،فبقي ما عدا ذلك مشمولا لضمان اليد.

و على هذا،فإن الضمان باليد لا يختص بالغاصب وحده،بل يشمل و يعم وضع اليد على الشيء خطأ و اشتباها بين ملكه و ملك الغير،و على ما يؤخذ من الغاصب باعتقاد أنّه المالك،و على المقبوض بالسوم و بالعقد الفاسد اللذين أشرنا

ص:11

إليهما في فقرة«أسباب الضمان»من هذا الفصل،و عقدنا للأخير فصلا مستقلا في الجزء الثالث بعنوان«المقبوض بالعقد الفاسد».

و قال الفقهاء:ان من وضع اليد الموجب للضمان الركوب على دابة الغير، و ان لم تنتقل به،و الجلوس على فراشه عدوانا.قال صاحب المسالك:«لا إشكال في تحقق الغصب مع الجلوس على البساط،و ركوب الدابة،سواء أقصده أولا، و سواء أ كان المالك حاضرا و أزعجه أو لا،لتحقق الاستيلاء عليه».

منافع الحر:

قال أكثر الفقهاء:ان من حبس إنسانا حرا ظلما و عدوانا يأثم،و لكنه لا يضمن شيئا من منافعه،إذ ليس شأن الإنسان كشأن الأموال التي تدخل تحت اليد.

و بكلمة إن الآدمي مضمون بالإتلاف،لا بالغصب.أجل،من يستخدم إنسانا قهرا عنه فعليه أجرة المثل،لأن عمل الإنسان محترم كدمه و أمواله.

و إذا هلك المحبوس،أو تضرر،و هو في الحبس ينظر:فان كان الضرر بسبب الحابس يأثم و يغرم،و ان كان بسبب آخر يأثم،و لا يغرم.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف محقق أجده فيه،بمعنى أنّه ليس كغصب الأموال الموجب للضمان،حتى و لو مات الإنسان حتف أنفه،ضرورة عدم كونه مالا،حتى يتحقق فيه الضمان-ثم قال-و الظاهر عدم الفرق بين الإنسان الكبير و الصغير،و المجنون و العاقل».

و لكن صاحب مفتاح الكرامة نقل في باب الغصب عن المقدس الأردبيلي، و أستاذه السيد بحر العلوم أنهما قويا الضمان،قالا:«من حبس صانعا-أي صاحب صنعة-و لم ينتفع به فعليه ضمان عمله،لأن في عدم الضمان ضررا

ص:12

عظيما،فإنه يموت هو و عياله جوعا،مع كون الحابس ظالما معتديا، وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ،و القصاص،و نحو ذلك».

و وافقهما على ذلك صاحب الرياض،فقد نقل عنه صاحب الجواهر الميل إلى ذلك.

و نحن في النتيجة على هذا الرأي،و نرى أن من يحبس عاملا منتجا، و يصده عن عمله فعليه ضمان منفعته.أمّا من يحبس كسولا بطالا يستهلك و لا ينتج فلا شيء عليه سوى الإثم.

و من غصب حيوانا فعليه ضمانه و ضمان منافعه،و ان لم يستوف منها شيئا،تماما كما لو غصب دارا،و لم يسكنها فإنه يضمن بدل المنفعة مدة الغصب،فإن المنفعة مال تدخل تحت اليد على وجه الضمان.

تداول الأيدي:

في الجزء الثالث فصل«الرد و أحكامه»تكلمنا مفصلا عما إذا تداول المغصوب أيد عديدة،و عن حكم المالك مع أصحاب الأيدي،ثم عن حكم بعضهم مع بعض،و لا شيء لدينا نزيده على ما سبق.

رد المغصوب:

يحرم على الغاصب التصرف في المغصوب،بل يحرم عليه إبقاؤه عنده، و ان لم يتصرف،و يجب رده فورا إلى صاحبه،و عليه مؤنة الرد مهما بلغت،بل يجبر عليه،و ان استلزم الرد التضرر بالغاصب،لأنه هو الذي أدخله على نفسه، و أقدم عليه بسوء اختياره،فإذا غصب حجرا،و بنى عليه يهدم البناء إذا توقف رد

ص:13

الحجر على الهدم،و يستخرج اللوح المغصوب من السفينة،و ان أدى إلى تلفها إلاّ أن يستلزم إخراجه هلاك نفس،أو مال لغير الغاصب،لأن الرد إلى المالك واجب على الفور،و ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.

و إذا غيّر الغاصب الشيء المغصوب عن صفته،كالحنطة يطحنها،و الدقيق يعجنه،و الثوب يفصّله لم يملكه الغاصب بهذا التصرف،و عليه رده مع الأرش ان نقصت قيمة المغصوب،و ان زادت فلا شيء للغاصب،إذ لا حرمة لعمله.

و إذا غصب بيضة فصارت فرخا فالفرخ لصاحب البيضة،لا للغاصب،و إذا غصب فحلا،فأنزاه على أنثى فأولدها فالولد لصاحب الأنثى،و ان كان الغاصب صاحبها،و عليه أجرة المثل لصاحب الفحل،قال صاحب الجواهر:«يمكن تحصيل القطع من السيرة المستمرة في سائر الأعصار و الأمصار على تبعية الولد للأنثى في غير الإنسان من غير فرق بين الغاصب و غيره».

و بعضهم ذكر وجه الفرق بين النطفة،و بين البيضة بأن نطفة الفحل من حيث هي لا قيمة لها،و ليست مملوكة بخلاف البيضة.

و حكم الحب و البيضة واحد،فإذا غصب حبا فزرعه فالزرع لصاحب الحب،لأن الملك يتعلق بالعين من حيث هي بصرف النظر عن الشكل و الصورة.هذا،بالإضافة إلى استصحاب بقاء الملك.

و إذا حدث في المغصوب عيب،كالحب يصيبه السوس و العفونة،و الثوب يصير خلقا،و المصاغ يصنع سبيكة،و الحيوان يهزل أو يمرض،أو يفقد عضوا من أعضائه،و الشجرة تذبل أو تقطع بعض فروعها،و الدار تهدم أو تتصدع-كل ذلك،و ما إليه لا يمنع من الرد،بل يجب على الغاصب أن يرد المغصوب على عيبه المتجدد عنده مع الأرش،و يدفع للمالك التفاوت بين قيمة المغصوب حين

ص:14

الغصب،و قيمته حين الرد،سواء أحدث العيب و النقصان بسبب الغاصب،أو بسبب آخر.

و إذا تلفت العين المغصوبة رد الغاصب بدلها إلى المالك من المثل أو القيمة،حتى و لو كان التلف بآفة سماوية.

ضياع المغصوب:

إذا ضاعت العين المغصوبة،أو سرقت من الغاصب،و تعذر عليه ردها إلى المالك عند طلبه لها،فما ذا يصنع؟ الجواب:يفاوض المالك على التعويض و شراء العين منه،فإن اتفقا تنتقل العين إلى ملك الغاصب و ينتهي كل شيء،و إلاّ وجب على الغاصب ان يدفع بدلها للمالك مثلا أو قيمة.و لكن ان وجدت العين بعد ذلك،و قدر عليها الغاصب فعليه أن يردها إلى المالك،و على المالك أن يرد البدل على الغاصب.

و في جميع الحالات يجب على الغاصب أن يدفع أيضا للمالك أجرة العين المغصوبة من حين الغصب إلى حين البدل،ان كان لها أجرة بحسب المعتاد.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،لما تقدم من ضمان كل ما فات في يد الغاصب،و لو بآفة سماوية،لأن المنافع أموال،فتضمن كالأعيان».

ص:15

منافع المغصوب:

المنافع المباحة كلها للمالك،لأنها نماء ملكه،و أيضا كلها مضمونة على الغاصب،لأن يده يد ضمان،فعليه أن يغرم ما يفوت بسببها،سواء أ كانت المنفعة عينا كاللبن و الشعر و الصوف و الثمر و الولد،أو غيرها كالسكن و اللباس و الركوب،و سواء استوفاها الغاصب،أو لم يستوف منها شيئا،بل ذهبت المنفعة سدى.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،بل و على عدم الفرق في المنافع بين الفوات و التفويت».و المراد بالفوات ذهاب المنافع من غير استيفاء، و بالتفويت استيفاؤها.

و إذا غصب حيوانا هزيلا فعلفه،حتى سمن،ثم هزل،و عاد إلى ما كان فعلى الغاصب ضمانه سمينا،تماما كما لو غصبه سمينا فهزل عنده.و كذلك إذا غصب شجرة ذابلة،فسقاها،و بذل الجهود حتى نمت و أينعت،ثم عادت إلى ما كانت عليه حين الغصب فإنه يضمنها نامية يانعة،لأن الصفات تتبع العين،سواء أحدثت عند المالك أو الغاصب و ما يفوت منها في يد الغاصب فعليه ضمانه.

و إذا غصب أرضا فزرعها،أو غرسها أو بنى فيها،فالزرع و الغرس و نماؤهما للغاصب،ان كان البذر و الغرس و مواد البناء منه،و عليه أجرة المثل لصاحب الأرض،و ازالة كل ما يحدث في الأرض بسبب الزرع و الغرس و البناء.

و إذا طلب المالك من الغاصب أن يبيعه الزرع أو الغرس فلا يجبر الغاصب على القبول.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل زرع أرض رجل بغير اذنه،حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال:زرعت أرضي بغير اذني،فزرعك لي، و علي ما أنفقت،إله ذلك أم لا؟فقال الإمام عليه السّلام:للزارع زرعه،و لصاحب الأرض كراء أرضه.

ص:16

و تجدر الإشارة إلى أن للمالك أن يجبر الغاصب على ازالة الزرع قبل أن ينضج-و ان تضرر ضررا جسيما-لأنه هو الذي سبب الإضرار لنفسه.هذا، بالإضافة إلى أجرة المثل مدّة بقاء الزرع في الأرض كما أشرنا.

و إذا حفر الغاصب في الأرض بئرا،و حين استرجع المالك الأرض أراد الغاصب أن يطم البئر،و يرجع الأرض كما كانت،فهل للمالك منعه من ذلك، و إبقاء البئر من غير طم؟ الجواب:أجل،له ذلك،لأن الطم يستلزم التصرف في ملك الغير،و لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك غيره إلاّ بإذنه.أجل،إذا تضرر انسان بسبب البئر،و الحال هذي،فلا مسؤولية على الغاصب.

و قال صاحب الجواهر:للمالك أن يمنعه من طم البئر،و مع ذلك يبقى الضمان على الغاصب إذا حدث شيء بسببها،لأن الحفر كان عدوانا من الغاصب، و العدوان سبب الضمان.

و يلاحظ بأن العدوان قد ارتفع برضا المالك بالبقاء،و عليه ترتفع المسؤولية عن الغاصب،تماما كما لو كان المالك هو الذي حفر البئر.و على آية حال،فإني لا أتعقل الجمع بين منع الغاصب من الطمّ تحفظا من درك الضمان، و بين بقاء الضمان.

المثلي و القيمي:

يجب أولا،و قبل كل شيء رد المغصوب بالذات،فان تعذر لهلاك أو ضياع فيجب رد المثل،فان لم يكن له مثل إطلاقا،أو كان و لكنه انقطع،و لم يوجد عند الوفاء فيجب رد القيمة،فالعين أولا مع الإمكان،و إلاّ فالمثل مع

ص:17

الإمكان أيضا،و إلاّ فالقيمة.و هذا الترتيب واجب بالاتفاق.أما وجوب رد العين إلى صاحبها مع الإمكان فلأنه صاحبها،فالقضية قياسها معها،و أما وجوب رد المثل مع عدم إمكان العين فلأن المثل مساو للعين في الجنس و الصفات و المالية فيكون أعدل و أبعد عن الضرر،و الى هذا يومئ قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1).و قوله سبحانه وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (2)و قوله عزّ و جلّ وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ (3).

و أما وجوب القيمة مع إمكان المثل فلأنه السبيل الوحيد لتفريغ الذمة و الخلاص من المسؤولية.بقي إن نعرف ما هو المثلي و القيمي؟ المثلي ما تساوت أجزاؤه في الجنس و الصفات و الآثار و الثمن،بحيث إذا اختلطت الاجزاء لا يمكن التمييز بينها،كالحبوب و النقود من صنف واحد.

و القيمي ما عدا ذلك:كالأرض و الشجر و الدار و الحيوان و نحوه مما لا نظير له من كل الوجوه.قال صاحب الجواهر:«المراد بالمثلي في كلام الفقهاء هو الذي له مثل،بمعنى أنّه مساو له في جميع ماله مدخلية في ماليته من صفاته الذاتية لا العرضية.و ما عداه قيمي».

و تجدر الإشارة إلى أنّه مع وجود المثل يجب على الغاصب إرجاعه بالغا ما بلغ الثمن،و لو زاد أضعافا عما كان عليه يوم الغصب،كما أن على المالك أن يقبل المثل و لا يحق له المطالبة بالقيمة،و لو نزل ثمنه أضعافا.

و إذا تعذر المثل بعد أن كان موجودا حين الغصب و حين تلف المغصوب،

ص:18


1- البقرة:194. [1]
2- الشورى:39. [2]
3- النحل:126. [3]

و لكنه انقطع،و لم يقدر عليه الغاصب حين طالب به المالك،إذا كان كذلك سقط المثل عن الغاصب و وجبت القيمة لقبح التكليف بما لا يطاق،و لأنه جمع بين الحقين.و هل تعتبر القيمة التي يقدر بها المثل يوم الغصب،أو يوم تلف المغصوب،أو يوم الإقباض و الأداء،أو أعلى القيم؟ اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه يدفع قيمة المثل السوقية حين الإقباض و الأداء،لأن الثابت في الذمة هو المثل فتعتبر القيمة ساعة الوفاء و عملية تفريغ الذمة،تماما كما لو استدان مثليا،ثم فقد المثل فإنه يدفع قيمته عند الأداء.

و إذا سقط المثل عن المالية من الأساس بعد أن كان من الأموال حين الغصب فليس للغاصب أن يلزم المالك بأخذ المثل،بل للمالك أن يلزمه بدفع القيمة،تماما كما لو تعذر وجوده،و لكن يدفع القيمة يوم سقوطه عن المالية،لا يوم الإقباض و الوفاء،لأن الذمة تشتغل بالقيمة يوم السقوط،كما هو الشأن في التلف.

هذا،إذا كان المغصوب مثليا،أمّا إذا كان قيميا كالحيوان و نحوه فعلى الغاصب أن يدفع قيمة المغصوب يوم تلفه لا قبله و لا بعده،و ان طال الأمد،لأن يوم التلف هو الوقت الذي تشتغل فيه الذمة بالقيمة.قال صاحب الجواهر:

«الأقوى وجوب القيمة حين التلف وفاقا للفاضل و الشهيد و السبوري و الكركي و الأردبيلي،بل هو المحكي عن القاضي،بل في الدروس و الروضة نسبته إلى الأكثر،و ذلك لأنه وقت الانتقال إلى القيمة،و إلاّ فقبله مكلف برد العين من غير ضمان للنقص السوقي إجماعا».

و قال جماعة من الفقهاء:يدفع الغاصب أعلى القيم من حين الغصب إلى حين الدفع عقابا على عدوانه.

ص:19

و يلاحظ بأن هذا مجرد استحسان،لأن اللّه هو الذي يشدد العقاب على المجرمين غدا،لا الإنسان.

هذا بالإضافة إلى أن الفقهاء أجمعوا كلمة واحدة أن القيمة السوقية لا تضمن مع وجود العين مهما زادت،و الإجماع على ذلك إجماع على عدم ضمان أغلى القيم من حين الغصب،حيث تكون عين المغصوب قائمة.و إذا وجد المغصوب بعد ما فقد،و أخذ المالك عوضه من الغاصب يرجع المغصوب للمالك،و عوضه للغاصب.

مسائل:

1-إذا غصب وقفا على جهة عامة

،كالمسجد و المقبرة و الطريق يجب عليه أن يرفع يده عنه.و لكن إذا تلف تحت يده فلا ضمان عليه،و كذا لو استعمله و استوفى منفعته،لأن الوقف العام لا مالك له حقيقة غير الحق العام،و عقوبة هذا الحق معنوية لا مادية،أمّا لو كان الوقف على جهة خاصة كالفقراء و المساجد و المصحّات،و ما إليها يكون حكمه حكم الملك الخاص،يضمن العين و المنفعة.

2-إذا مزج المغصوب بما يمكن فصله عنه

،كالحنطة يغصبها ثم يمزجها بالشعير فعلى الغاصب أن يفرز الحنطة و يعزلها عن الشعير و يردها على المالك، و لو استدعى ذلك بذل المال الكثير،لأنه هو الذي أقدم على ذلك مختارا،و إذا مزجه بما لا يمكن فرزه و عزله عنه،كالزيت يخلطه بمثله أو بمائع له قيمة فهما شريكان في المجموع،فإن كان المغصوب و المخلوط به متساويين قيمة فلكل من المجموع بنسبة ماله على أساس الكم و العدد،و ان اختلفا قيمة فلكل بنسبة

ص:20

ماله على أساس الكيف و الصفات.

3-إذا كان الشيء المغصوب يساوي عشر ليرات في البلد الذي حصل فيه

الغصب

،ثم سافر به الغاصب إلى بلد آخر يساوي المغصوب فيه عشرين ليرة، و تلف في هذا البلد،لا في بلد الغصب،فهل للمالك عشرا أو عشرون؟ الجواب:يدفع العشرين،لأن بلد التلف و زمانه اللذين اشتغلت الذمة فيه.

4-من كسر اداة غير محترمة،كآلة القمار و الملاهي

،و آنية الذهب و الفضة،بحيث ذهبت الهيئة و بقيت المادة فلا ضمان عليه،إذ المفروض أنّها غير محترمة إلاّ إذا كانت ملكا لمن ينتسب إلى ملة تبيح ذلك.أمّا إذا أتلف المادة من الأساس فعليه أن يدفع عوضها ان كان لها قيمة بحسب المعتاد.

5-إذا غصب فردا من زوج كلّ منهما جزء متمم للآخر

،كالحذاء،ثم تلف الفرد في يده ضمنه منضما إلى الفرد الآخر،فإذا افترض ان زوج الحذاء يساوي عشر ليرات،و الفرد منه يساوي ليرتين فقط فعليه أن يدفع ثماني ليرات.

6-إذا وقع الحائط على الطريق،أو على الجار فأتلف نفسا أو مالا ينظر:

فان كان صاحب الحائط مقصرا،كما لو بناه من غير أساس،أو بلا مؤنة كافية،أو رآه مائلا متصدعا فأهمل و لم يصلحه بحيث يراه العرف هو السبب لما حصل فعليه الضمان،و ان لم يره العرف سببا و لا مقصرا في شيء من ذلك،و انما وقع الحائط صدفة لم تكن في الحسبان فلا شيء على صاحبه.

التنازع:

1-إذا قال الغاصب:ان قيمة المغصوب الذي تلف تساوي خمسا

،و قال المالك:بل عشرا،فالقول قول الغاصب بيمينه،و على المالك البينة،لأن الأصل

ص:21

عدم الزيادة،قال صاحب الجواهر:«هذا هو الأشبه بأصول المذهب و قواعده التي منها أصل البراءة باعتبار أنّه غارم».

2-إذا قال الغاصب:تلفت العين المغصوبة،و عليّ عوضها

،لا ردها بالذات،و قال المالك:بل هي باقية،و عليك ردها،فالقول قول الغاصب بيمينه، و على المالك البينة،قال صاحب الجواهر:«لا أجد فيه خلافا-مع العلم بأن قوله مخالف لأصل بقاء العين-لأنه لو لم يقبل قوله لزم تخليده في الحبس على افتراض صدقه،و لا بينة له».

3-إذا قال الغاصب:«أرجعت المغصوب،أو دفعت بدله،و أنكر المالك

فالقول قول المالك بيمينه،لأن الأصل عدم الرد،حتى يثبت العكس.

و تسأل:ان تقديم المالك هنا يلزم منه تخليد الغاصب في الحبس على فرض صدقه و لا بينة له،تماما كما هي الحال في دعواه تلف العين.

و أجاب صاحب مفتاح الكرامة بأن الغاصب في دعواه تلف العين يثبت البدل على نفسه،أمّا دعواه الرد فمعناه سقوط ما يثبت عليه من حق،فحصل الفرق بين الموردين.

4-إذا ادعى الغاصب عيبا تنقص به قيمة المغصوب

،كالعور في الدابة و نحوه،و أنكر المالك فالقول قوله بيمينه،و على الغاصب البينة،لأن الأصل سلامة الشيء من العيوب الطبيعية،حتى يثبت العكس.

ص:22

كتاب النذر و اليمين و العهد

النذر:

اشارة

معنى النذر لغة الوعد،و شرعا إلزام الإنسان نفسه بفعل شيء،أو تركه لوجه اللّه.و الأصل في شرعيته الإجماع و الكتاب و السنة.فمن الكتاب قوله تعالى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً (1).و قوله سبحانه فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً (2).و قوله عزّ من قائل وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ (3).

و قال تبارك اسمه لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ (4).

و عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:من نذر أن يطيع اللّه فليطعه،و من نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل نذر أن يحج إلى بيت اللّه حافيا؟فقال:

فليمش،فإذا تعب فليركب.

ص:23


1- آل عمران:35. [1]
2- مريم:26. [2]
3- البقرة:270. [3]
4- الحج:29.
الشروط:

يشترط في صحة النذر و انعقاده:

1-الصيغة المقترنة بذكر اللّه سبحانه،بحيث يكون النذر خالصا لوجهه تعالى،كقولك عليّ للّه،أو نذرت للّه،و لا يكفي مجرد القصد بلا صيغة،و لا الصيغة بلا ذكر اللّه أو أحد أسمائه الحسنى،كما لو قال:نذر عليّ لئن عادوا و ان رجعوا لا فعلن كذا،إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس النذر بشيء،حتى يسمي للّه صياما،أو صدقة،أو هديا،أو حجا.و سئل عن رجل يحلف بالنذر،و نيته التي حلف عليها درهم أو أقل؟قال:إذا لم يجعل للّه فليس بشيء.

و لا يعتبر لفظ الجلالة بالذات،بل يكفي كل اسم من أسمائه الحسنى، و صفاته العليا،كالخالق و الرازق،و المحيي و الميت.و ينعقد النذر بالكتابة مع القصد،و بإشارة الأخرس.

2-أن يكون الناذر بالغا عاقلا مختارا قاصدا،فلا ينعقد نذر الصبي،و لا المجنون،و لا غير القاصد،كالهازل،و لا الغاضب على شريطة أن يبلغ الغضب حدا يرتفع معه القصد.

3-اتفقوا على أن النذر لا يصح و لا ينعقد إذا تعلق بمحرم أو مكروه،فقد نذر شخص في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان يقوم فلا يقعد و لا يستظل و لا يتكلم، و يصوم،فقال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«مروه فليتكلم،و يستظل،و يقعد،و ليتم صومه».و إذا لم ينعقد النذر من الأساس فلا كفارة على الناذر.و أيضا اتفقوا على صحة النذر و انعقاده إذا تعلق بواجب،أو مستحب.

ص:24

و اختلفوا في المباح المتساوي الطرفين:هل ينعقد فيه النذر؟ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى عدم الانعقاد للرواية المتقدمة:

«ليس النذر بشيء،حتى يسمي للّه شيئا».

4-اتفقوا على صحة النذر إذا اقترنت صيغته بفعل شيء،أو تركه،كقوله:

عليّ للّه ان رزقت كذا أن أفعل،أو ترك كذا،و اختلفوا فيما إذا لم تقترن صيغة النذر بشيء،كقوله:عليّ للّه كذا،و يسمون هذا النوع بنذر التبرع.و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى صحته،لا طلاق أدلة النذر،و لقوله سبحانه «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» .حيث لم تقيد النذر بشيء.

و تسأل:ما معنى أن ينذر الإنسان الإتيان بالشيء الواجب ما دام واجبا بنفسه من غير نذر؟ الجواب:تظهر النتيجة فيما لو ترك الواجب،حيث تجب عليه كفارة النذر بالإضافة إلى الآثار الأخرى التي تترتب على ترك الواجب من حيث هو.

5-المشهور بين الفقهاء المتأخرين بشهادة صاحب المسالك أن الزوجة لا ينعقد نذرها في غير فعل الواجب،و ترك المحرم إلاّ بإذن الزوج،حتى و لو نذرت أن تتصدق من مالها.و إذا نذرت من دون اذنه فله حله،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق،و لا صدقة،و لا تدبير،و لا هبة، و لا نذر في مالها إلاّ بإذن الزوج إلاّ في حج،أو زكاة،أو بر والديها،أو صلة رحمها.

و إذا أذن لها بالنذر،فنذرت صح و انعقد،و لا يحق له أن يعدل بعد ذلك.

و قال جماعة من الفقهاء:لا نذر للولد مع والده أيضا،مع اعترافهم بأن النص مختص بيمين الولد لا بنذره،و لكنهم ألحقوا النذر باليمين.

ص:25

و يلاحظ بأن اليمين و ان اشتركت مع النذر في بعض الآثار فإنها تخالفه، و تفترق عنه في أكثر من جهة،منها نية التقرب إلى اللّه سبحانه فإنها شرط في النذر،دون اليمين.أجل،قد استعمل أهل البيت عليهم السّلام اليمين في النذر في بعض الموارد،و لكن الاستعمال أعم من الحقيقة و المجاز.قال صاحب الجواهر:«ليس إطلاق اليمين على النذر على نحو قول الإمام عليه السّلام:الطواف في البيت صلاة،إذ لا شيء في النصوص ان النذر يمين كما هو واضح».

كفارة النذر:

إذا انعقد النذر صحيحا،ثم خالفه الناذر وجبت عليه الكفارة،أما إذا لم ينعقد النذر من الأساس كما لو نذر أن يفعل ما يحسن تركه،أو يترك ما يحسن فعله فلا ينعقد النذر،و بالتالي فلا تجب الكفارة.

و اختلف الفقهاء في نوع كفارة النذر تبعا لاختلاف الروايات،فذهب جماعة منهم السيد الحكيم في منهاج الصالحين إلى أنّها كفارة يمين،و هي عتق رقبة،أو إطعام عشرة مساكين،أو كسوتهم،فان عجز فصيام ثلاثة أيام متوالية.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و هو منهم،إلى أنّها كفارة الإفطار في شهر رمضان،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عمن جعل للّه أن لا يركب محرما فركبه؟فقال:يعتق رقبة،أو يصوم شهرين متتابعين،أو يطعم ستين مسكينا.

اليمين:

اشارة

اليمين لغة و عرفا الحلف و القسم بما يشاء الحالف،و شرعا الحلف باللّه و أسمائه الحسنى على فعل شيء أو تركه في الحال و الاستقبال،أو في أحدهما.

ص:26

أما اليمين على ما كان فالأولى تركها،حتى مع الصدق إلاّ لضرورة،و تحرم مع الكذب تحريما شديدا و تسمى اليمين الكاذبة يمين الغموس،لأنها تغمس الحالف الكاذب في الآثام.و يتعرض الفقهاء لليمين على ما كان،أو لم يكن في باب القضاء و فصل الخصومات.

و اليمين من حيث هي مشروعة إجماعا و نصا.فقد أمر اللّه سبحانه نبيه الكريم بالقسم في أكثر من آية،من ذلك قوله تعالى وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ-حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ (1).و كذلك الآية 89 من سورة المائدة التي حثت على حفظ الايمان،و ان على من حنث و خالف الكفارة.و قال تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ .

الشروط:

يشترط في اليمين :

1-أن يكون باللّه و أسمائه الحسنى التي لا يشاركه فيها غيره،كالرحمن و الخالق و الرازق.قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا أرى للرجل أن يحلف إلاّ باللّه.و قال أبوه الإمام الباقر عليه السّلام:ان للّه أن يقسم من خلقه بما شاء،و ليس لخلقه أن يقسموا إلاّ به عزّ و جلّ.

و ليس من معنى هذا أن اليمين بغير اللّه محرمة،بل المراد أنّها لا تكون

ص:27


1- يونس:35. [1]

شرعية تترتب عليها الآثار المنصوص عليها في الشريعة إلاّ إذا كان الحلف باللّه.

قال صاحب الجواهر:«السيرة القطعية على جواز الحلف بغير اللّه مضافا إلى الأصل،و إلى وجوده في النصوص».

يشير إلى بعض الروايات التي نقلت عن الأئمة الأطهار أنّهم كانوا يحلفون بجدهم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبتهم إليه.

2-ان يكون الحالف بالغا عاقلا قاصدا مختارا،تماما كما تقدم في الناذر.

3-يعتبر في صحة يمين الولد و انعقاده أن يكون بإذن الوالد،و يمين المرأة أن يكون باذن الزوج،حتى و لو لم يكن مزاحما لحقه،لقول الامام الصادق عليه السّلام:لا يمين لولد مع والده،و لا للمرأة مع زوجها.

هذا،إذا لم يكن اليمين على فعل واجب،أو ترك محرم،و إلاّ يصح النذر، حتى مع نهي الزوج.

4-تصح اليمين و تنعقد على فعل واجب،أو مستحب،و لا تصح على فعل محرم،أو مكروه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تجوز يمين على تحليل حرام، أو تحريم حلال،و لا قطيعة رحم.و سئل أبوه الإمام الباقر عليه السّلام عن رجل يحلف بالأيمان المغلظة أن لا يشتري لأهله شيئا؟قال:فليشتر لهم،و ليس عليه شيء في يمينه من الحلف.

و أيضا تصح اليمين و تنعقد على فعل شيء أو تركه إذا كان متساوي الطرفين،أي لا رجحان في تركه و لا في فعله،كما لو حلف أن لا يأكل نوعا خاصا من الخضار،و لكن يمينه تنحل إذا طرأ الرجحان بعدها،و له أن يأكل منه، و لا كفارة عليه،بل يؤجر و يثاب بمخالفة اليمين.قال صاحب الجواهر:«لا خلاف و لا إشكال في عدم الحنث،و عدم الكفارة إذا كان خلاف اليمين خيرا،

ص:28

فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يحلف اليمين،فيرى أن تركها أفضل؟ قال للسائل:أما سمعت قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها، و قال:من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك فهو لكفارة ذلك، و له حسنة.إلى غير ذلك من النصوص».

5-إذا اتبع اليمين بمشيئة اللّه سبحانه،فقال:و اللّه لا فعلن ان شاء اللّه، ينظر:فإن لم يقصد التعليق حقيقة،و انما أراد التبرك بذكر اللّه عملا بقوله تعالى:

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ان كان كذلك انعقدت اليمين،و وجب الوفاء،و ان خالف يكفّر.أمّا لو قصد التعليق حقيقة لا مجرد التبرك فلا تنعقد اليمين،و بالتالي،فلا حنث و لا كفارة،لحديث:«من حلف على يمين فقال:ان شاء اللّه لم يحنث».قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك».

فإذا توافرت هذه الشروط بكاملها تصح اليمين،و تنعقد،سواء أقصد بها وجه اللّه سبحانه،أو قصد جهة أخرى،و هذا من جملة الفروق التي تنفرد بها اليمين عن النذر الذي لا بد فيه من نية القربة.

و تجدر الإشارة إلى أن اليمين لا تنعقد بالطلاق،و لا بعدم الزواج كلية،أو بالثانية و الثالثة إلاّ إذا كان الترك أرجح،و إذا عرض الرجحان بعد اليمين تنحل و تذهب،و تجوز مخالفتها.و إذا حلف،و قال:لم أقصد اليمين حقيقة أخذ بقوله،لأنه من الأحكام التي تخصه وحده،و لم يتعلق بها حق الغير.

يمين اللغو:

اليمين التي تدور على ألسنة الناس،و اعتادوا عليها عند المخاطبات و المحاورات لا أثر لها إطلاقا.قال صاحب مجمع البيان في تفسير قوله تعالى

ص:29

لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ :المراد باللغو في اليمين ما جرت عليه عادة الناس من قول:لا و اللّه.بلى و اللّه من غير يمين يقطع به مال،أو يظلم به أحد، و هو المروي عن الإمامين:الباقر و الصادق عليهما السّلام.

يمين البراءة:

يمين البراءة أن يقول:هو بريء من اللّه،أو من رسوله،أو من آله،أو من دين الإسلام ان فعل كذا،أو ان كان قد فعل كذا.و لا تنعقد اليمين بشيء من ذلك،و هي من أشد المحرمات و الكبائر،فلقد بالغ الرسول الأعظم و أهل بيته في النهي عنها،ففي الحديث الشريف:«من قال:هو بريء من دين الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال،و ان كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما،و قال الإمام عليه السّلام:من حلف بالبراءة منا صادقا أو كاذبا فقد بريء.أعوذ باللّه و أستغفره.

كفارة اليمين:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك على أن الحانث يخير بين عتق رقبة،أو إطعام عشرة مساكين،أو كسوتهم،فإن عجز صام ثلاثة أيام،لقوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ (1).

و جاء عن أهل البيت عليهم السّلام روايات كثيرة في معنى هذه الآية الكريمة.

ص:30


1- المائدة:89. [1]

العهد:

اشارة

للعهد في اللغة معان شتى،منها التفقد و الحفظ،و في اصطلاح الفقهاء أن يعاهد اللّه سبحانه على فعل شيء أو تركه.و قد أمر اللّه بالوفاء بالعهد،و أثنى على الذين يفون به،قال عز و جل وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا (1).

و قال مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ (2).

و يصح العهد من غير قيد،كقولك:أعاهد اللّه أن أفعل كذا.و أيضا يصح معلقا على شيء،كقولك:ان رزقت ولدا فعليّ عهد اللّه أن أفعل كذا.و متعلق العهد تماما كمتعلق اليمين،فيصح على فعل الواجب و المستحب،و المباح المتساوي الطرفين،و لا يصح على فعل المحرم و المكروه،و أيضا يعتبر في المعاهد ما يعتبر في الحالف من الشروط.

و إذا صارت مخالفة العهد أولى و أجدى للمعاهد من الموافقة انحل العهد، و اتبع المعاهد ما هو الأصلح له،و لا كفارة عليه.

كفارة العهد:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن كفارة العهد عتق رقبة،أو صيام شهرين متتابعين،أو إطعام ستين مسكينا.

بين الناذر و الحالف و المعاهد:

يتضح من جميع ما سبق أن كلا من الناذر و المعاهد و الحالف يشترك مع

ص:31


1- البقرة:177. [1]
2- الأحزاب:23. [2]

الآخر في أنّه قد ألزم نفسه بفعل شيء أو تركه،و أنّه إذا خالف مع توافر الشروط فعليه أن يكفّر بما ذكرنا.

و ينفرد العهد عن اليمين و النذر أن العهد عقد أو شبيه بالعقد المركب من إيجاب و قبول،فالمعاهد يوجب و يعطي اللّه عهدا على الفعل أو الترك،و اللّه يقبل منه،أما اليمين و النذر فهما بالإيقاع أشبه،حيث لا يوجد إلاّ طرف واحد.و ينفرد النذر عن اليمين في نية التقرب إلى اللّه سبحانه فإنها شرط في النذر دون اليمين

ص:32

كتاب الكفارات

تنقسم الكفارة بالنظر إلى أسبابها إلى أقسام

اشارة

،نعرضها ملخصة مع أدلتها فيما يلي:

1-كفارة صيد المحرم:

سبق الكلام عنها مفصلا في الجزء الثاني من هذا الكتاب فصل«تروك الإحرام-فقرة:كفارة الصيد»فراجع إن شئت.

2-كفارة الظهار:

إذا قال الرجل لزوجته:أنت عليّ كظهر أمي أمام عدلين،و كانت في طهر لم يواقعها فيه،بحيث تجتمع جميع شروط الطلاق فإنها تحرم عليه،و لا تحل له،حتى يكفّر،و كفارة الظهار واحد من ثلاثة على هذا الترتيب:أن يعتق رقبة،فإن عجز صام شهرين متتابعين،فإن عجز أطعم ستين مسكينا،لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً 1.

ص:33

إذا قال الرجل لزوجته:أنت عليّ كظهر أمي أمام عدلين،و كانت في طهر لم يواقعها فيه،بحيث تجتمع جميع شروط الطلاق فإنها تحرم عليه،و لا تحل له،حتى يكفّر،و كفارة الظهار واحد من ثلاثة على هذا الترتيب:أن يعتق رقبة،فإن عجز صام شهرين متتابعين،فإن عجز أطعم ستين مسكينا،لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً (1).

3 كفارة القتل خطأ:

من قتل مسلما بطريق الخطأ دون العمد فعليه أن يدفع الدية إلى أهله،و ان يكفّر بعتق رقبة مؤمنة،فإن عجز صام شهرين متتابعين،فإن عجز أطعم ستين مسكينا،تماما كما هو الحكم في كفارة الظهار،قال تعالى وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ -ثم قال عزّ من قائل- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ (2).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا قتل خطأ أدى ديته إلى أوليائه،ثم أعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين،فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا.

4 كفارة القتل عمدا:

من قتل مسلما متعمدا فعليه أن يجمع بين عتق رقبة مؤمنة،و صيام شهرين متتابعين،و إطعام ستين مسكينا،و التفصيل في باب القصاص ان شاء اللّه تعالى.

5 كفارة قضاء رمضان:

من نوى الصيام قضاء لما فاته في شهر رمضان،ثم أفطر قبل الزوال فلا شيء عليه إلاّ الإعادة،و ان أفطر بعد الزوال فعليه كفارة إطعام عشرة مساكين،فان عجز صام ثلاثة أيام متتالية.فقد سئل الإمام الباقر عليه السّلام عن رجل أتى أهله في يوم

ص:


1- المجادلة:2. [1]
2- النساء:92. [2]

يقضيه من شهر رمضان؟قال:ان كان ذلك قبل الزوال فلا شيء عليه إلاّ يوم مكان يوم،و ان كان بعد زوال الشمس فان عليه أن يتصدق على عشرة مساكين،لكل مسكين مدّ،فان لم يقدر صام يوما مكان يوم،و صام ثلاثة أيام كفارة لما صنع.

6 كفارة الإفطار في رمضان:

تقدم الكلام عنها في الجزء الثاني من هذا الكتاب فصل«فساد الصوم و وجوب الكفارة-فقرة:كفارة رمضان».

7 كفارة النذر:

انظر فصل النذر و اليمين و العهد من هذا الجزء فقرة«كفارة النذر».

8 كفارة اليمين:

انظر الفصل المذكور فقرة«كفارة اليمين».

9 كفارة العهد:

انظر الفصل نفسه فقرة«كفارة العهد».

10 يمين البراءة:

اتفقوا على تحريم يمين البراءة،كما سبق في الفصل المتقدم،و اختلفوا:

هل توجب الكفارة،أو لا؟ذهب جماعة،منهم صاحب الشرائع و الجواهر و المسالك إلى أنّه لا شيء على الحالف بالبراءة سوى الإثم.

ص:35

11 جز المرأة شعرها في المصاب:

اتفقوا على أنّه يحرم على المرأة أن تجز شعرها في المصاب،و اختلفوا في وجوب الكفارة عليها،فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّها تكفر بعتق رقبة،أو صيام شهرين متتابعين،أو إطعام ستين مسكينا استنادا إلى رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام،و قال الشهيد الثاني في المسالك و اللمعة:الرواية ضعيفة،و الأقوى عدم وجوب الكفارة عليها،لأصل البراءة.

12 نتف شعر المرأة في المصاب:

النتف غير الجز و القص،و لذا اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة على الجز،و لم ينقل أحد منهم الخلاف في وجوب الكفارة على النتف،و هي عندهم كفارة يمين،أي عتق رقبة،أو إطعام عشرة مساكين،أو كسوتهم،و مع العجز يصوم ثلاثة أيام استنادا إلى رواية ضعّفها الشهيد الثاني في المسالك و اللمعة.

13 شق الرجل ثوبه:

قالوا:إذا شق الرجل ثوبه في موت امرأته،أو ولده فعليه كفارة يمين،و لا شيء عليه إذا شقه على غيرهما من أقاربه استنادا إلى رواية ضعّفها الشهيد في اللمعة و المسالك.

14 وطء الزوجة في الحيض:

انظر الجزء الأول من هذا الكتاب،فصل«الحيض و الاستحاضة و النفاس- فقرة:ما يحرم على الحائض».

ص:36

15 صوم الاعتكاف:

انظر الجزء الثاني من هذا الكتاب،فصل«الاعتكاف،المسألة الثالثة من فقرة:مسائل».

الصيام:

يجب التتابع بين أيّام الصوم في صوم الكفارة،سواء أ كان الواجب صيام ثلاثة أيّام،أو شهرين،و إذا أخل بالتتابع،و أفطر قبل الإكمال وجب أن يستأنف من جديد.أجل،لا يضر الإفطار لعذر مشروع،كالإكراه و المرض،و الحيض و النفاس و السفر لضرورة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل،عليه صيام شهرين متتابعين،فصام شهرا و مرض؟قال:يبني عليه.اللّه حبسه.قال السائل:

امرأة،عليها صيام شهرين متتابعين،و أفطرت أيّام حيضها؟قال تقضيها.أي تأتي بما بقي،و لا يجب عليها الاستئناف.

و يتحقق التتابع في صيام الشهرين أن يصوم شهرا متتابعا،و من الثاني،فإذا صام أول يوم من الشهر الثاني جاز له أن يفطر،و يفرق أيّام الصوم بعد ذلك إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:التتابع أن يصوم شهرا،و من الآخر أيّاما،أو شيئا منه.

الإطعام:

يتحقق إطعام المساكين بأحد أمرين:الأول أن يدعو العدد المطلوب من الفقراء دفعة واحدة،أو بالتدريج و التتابع،و يطعمهم،حتى يشبعوا.و لا فرق بين الذكور و الإناث،و لا بين الصغار و الكبار.الثاني أن يعطي كل نسمة مدا من

ص:37

القمح،و ما إليه،على أن لا يزيد للنفر الواحد عن المد،و ان زاد استحب،و لكن يحسب له إطعام مسكين واحد.أجل،يجوز أن يعطي لمن يعول أكثر من واحد بعدد ما يعول،و يدل على الاكتفاء بالمد قول الإمام الصادق عليه السّلام:في كفارة اليمين عتق رقبة،أو إطعام عشرة مساكين،و الإدام الوسط الخل و الزيت،و ارفعه الخبز و اللحم،و الصدقة المد لكل مسكين،و الكسوة ثوبان (1).

و تجدر الإشارة إلى أن الزيت و الخل كانا في عهد الإمام عليه السّلام من الإدام الوسط،فتنطبق عليهما يومذاك آية «مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ» أما اليوم فلا، لأنهما ليسا إداما أساسيا،بل من التوابع،فعلى من يكفّر اليوم بالإطعام أن يقدم للمساكين غير الزيت و الخل مما هو معروف بين الناس أنّه من الإدام الوسط.

و يختلف ذلك باختلاف البلدان و الأوساط.

الكسوة:

حددت بعض الروايات الكسوة الواجبة بثوب واحد لكل مسكين،و بعض بثوبين.و لاختلاف الروايتين اختلفت أقوال الفقهاء،فمنهم من اكتفى بثوب، و آخر أوجب ثوبين،و قال ثالث:الواحد واجب،و الثاني مستحب،و قال رابع:

يجب ثوبان مع القدرة،و ثوب مع العجز.

و الحق ان العبرة بتحقق الكسوة،فإن كان الثوب الواحد كبيرا يكسو البدن، كالجبة و القفطان كفى الثوب الواحد،و ان لم تتحقق كسوة البدن إلاّ بثوبين كالقميص و السروال تعينا،و بهذا يمكن الجمع بين رواية الثوب الواحد،و رواية الثوبين.

ص:38


1- المد الشرعي أكثر من 800 غرام بقليل.

مسائل:

1-لا تجب المبادرة إلى التكفير فورا

،بل يجوز التأخير و التراخي إلاّ مع خوف الفوات،لعدم الدليل على وجوب الفور،و الأصل العدم،حتى يثبت العكس.

2-الكفارة المالية كالطعام و الكسوة يجب إخراجها من أصل التركة

، أوصى بها الميت أو لم يوص إذا علمنا باشتغال ذمته،تماما كغيرها من الديون.أما البدنية كالصوم فإن أوصى بها خرجت من الثلث،و ان لم يوص فلا يجب إخراجها،حتى مع العلم باشتغال ذمته.

3-لا تدفع الكفارة إلى الطفل و المجنون ان كانت دقيقا أو حبوبا

،أو ثمرة كالزبيب و ما إليه،حيث لا أهلية لهما لقبول التمليك و التملك،و تدفع لوليّهما، كما هو الشأن في غير الكفارة.

4-لا تصرف الكفارة إلى من تجب نفقته على الدافع

،كالأب و الأم و الأولاد و الزوجة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا:الأب و الأم و الأولاد و المملوك و الزوجة،و ذلك أنّهم عياله لازمون له».

فقول الإمام عليه السّلام لأنهم عيال دليل على أن العيال لا يعطون شيئا من الصدقات زكاة كانت،أو غيرها.هذا،إلى أن ما يعطيه لعياله يعود إليه بالنتيجة، فيكون كمن تصدق على نفسه.

5-قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لا يجزي دفع القيمة في الكفارة

،بل لا بد من الإطعام،أو دفع الحبوب و ما إليها،لأن الذمة قد اشتغلت بها،لا بقيمتها التي لا تندرج في إطلاق الأمر.و الاجتزاء بها في الزكاة و نحوها للدليل الخاص، و من هنا لم يكن خلاف عندنا في ذلك،بل في المسالك هو إجماع».

ص:39

و لكن يجوز أن يعطي للفقير الثمن،و يوكله بالشراء لنفسه،على أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن زكاة الفطر،أ يجوز أن يؤديها فضة بقيمة هذه الأشياء التي سماها؟قال:نعم،ان ذلك أنفع له،يشتري ما يريد.

فان قول الإمام عليه السّلام:«أنفع له يشتري ما يريد»دليل عام يشمل الكفارات، و ليس خاصا بالزكاة،كما قال صاحب الجواهر.

6-كل من وجب عليه صوم شهرين متتابعين فعجز صام بدلا عنهما ثمانية

عشر يوما

،فان عجز تصدق عن كل يوم بمد من طعام،فان عجز استغفر اللّه سبحانه،و لا شيء عليه.قال صاحب الجواهر:«ظاهر الفقهاء الاتفاق على البدلية مع العجز عن خصال الكفارة،ما عدا الظهار».فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يكون عليه صيام شهرين متتابعين فلم يقدر على الصيام،و لم يقدر على العتق،و لم يقدر على الصدقة؟قال:فليصم ثمانية عشر يوما عن كل عشرة مساكين ثلاثة أيام.

و قال عليه السّلام:كل من عجز عن الكفارة التي تجب عليه من صوم أو عتق أو صدقة في يمين أو نذر أو قتل،أو غير ذلك مما يجب على صاحبه فيه الكفارة فالاستغفار له كفارة،ما خلا يمين الظهار.

و استثنى الظهار،لأن المماسة لا تحل إلاّ بعد التكفير،تماما كالمطلقة التي لا تحل إلاّ بعد الرجعة الصحيحة .

ص:40

كتاب احياء الموات

الأرض:

للأرض أربعة أقسام عند الفقهاء:
1-الأرض التي فتحها المسلمون عنوة نتيجة الجهاد،لانتشار الإسلام

، كأرض العراق،و سوريا،و إيران،و العامر من هذه الأرض حين الفتح ملك للمسلمين جميعا من وجد منهم،و من يوجد،و النظر فيها للإمام،أي للدولة، تقبلها لمن تشاء من أهلها أو من غيرهم بالنصف أو الأقل أو الأكثر،و يصرف الناتج في المصالح العامة.

و قال الفقهاء ان هذا النوع من الأرض-العامر حين الفتح-لا يجوز بيعه، و لا هبته،و لا وقفه،و لا توريثه،لأنّه ملك للكل.و مما استدلوا به قول الإمام الصادق عليه السّلام:«و من يبيع أرض الخراج،و هي ملك لجميع المسلمين؟».و لكن هذه الفتوى نظرية و كفى،لا أعرف أحدا عمل بها،فإن الناس،كل الناس،حتى الفقهاء يعاملون صاحب اليد على الأرض الخراجية معاملة المالك من البيع و الشراء و الوقف و التوريث،و ما إلى ذلك.و يوجهون أو يؤولون أعمالهم بتأويلات لا تركن إليها النفس،منها أن لصاحب اليد نحوا من الحق

ص:41

و الاختصاص،فينتقل هذا الحق منه إلى غيره دون رقبة الأرض و عينها،و منها ان الأصل في الأرض أن تكون الموات،حتى يثبت العكس.

أمّا الأرض التي كانت مواتا حين الفتح فهي للإمام،أي للدولة،و من أحياها فهو أولى بالتصرف فيها من غيره،لعموم:«من أحيا أرضا ميتة فهي له، و هو أحق بها.و الأرض للّه،و لمن عمرها».و تجدر الإشارة إلى أن الأرض العامرة بطبيعتها هي ملك للدولة،لقول الإمام عليه السّلام:«كل أرض لا رب لها فهي للإمام».

2-أرض من أسلم أهلها طوعا

،كالمدينة المنورة و البحرين و أطراف اليمن و اندنوسيا.و العامر من هذه الأرض لأهلها،و لا شيء عليهم سوى الزكاة، و يجوز بيعها،و التصرف فيها بشتى أنحاء التصرف.أمّا الموات منها فللدولة، و من سبق إلى إحيائه فهو أحق به من غيره،تماما كالموات مما فتح عنوة.

3-أرض الصلح،

و هي التي فتحها المسلمون بغير قتال،بل بالصلح بينهم و بين أهلها على أن تكون الأرض لأربابها لقاء ما يبذلونه من ناتجها،أو من غيره،و يجب الوفاء بما تم عليه الصلح،و العامر منها ملك لأهله يتصرفون فيه كما يشاءون،أما الموات فللدولة،و من سبق إلى إحيائه فهو أحق به من غيره.

4-الأنفال

،و تشمل الأرض التي ملكها المسلمون من غير قتال،سواء أ كانت عامرة فانجلى عنها أهلها،أو مكنوهم منها طوعا مع بقائهم فيها،و أيضا تشمل كل أرض ميتة،سواء أ كانت في البلاد المفتوحة عنوة،أو بالصلح،أو بقبول دعوة الإسلام،و سواء أ كانت مملوكة ثم باد أهلها،أو لم تملك من رأس، كالمفاوز و سواحل البحار،و أيضا تشمل رؤوس الجبال و بطون الأودية و الأحراج.

ص:42

و هذي كلها للإمام،و ما كان له فهو لشيعته بدليل قوله عليه السّلام:«ما كان لنا فهو لشيعتنا.كل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون».و تكلمنا عن الأنفال مفصلا في«الجزء الثاني،فصل الخمس-فقرة:الأنفال».

الأرض الموات و إحياؤها:

نريد بالأرض الموات التي لا يملكها أحد و لم يتعلق بها حق لأحد،و لا ينتفع بها أحد،لعدم وصول الماء إليها،أو لغلبته و فيضانه عليها،أو لسوء تربتها، أو لما فيها من العوائق،كالأحجار و الصخور و الأشواك،و ما إلى ذلك مما يحول دون الانتفاع بها.و بهذا نجد تفسير قول الفقهاء:«ان موات الأرض ما خلا عن الاختصاص،و لا ينتفع به،اما لعطلته،لانقطاع الماء عنه،أو لاستيلاء الماء عليه، أو لاستيجامه،أو غير ذلك».و الاستيجام أن يكون كثير القصب،أو ما إليه مما يمنع من الانتفاع بالأرض.

و كل من بذل جهدا،لإحياء الأرض،و أزال الأسباب التي تحول دون الانتفاع بها فهو أحق بها من غيره،لحديث الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«من أحيا أرضا ميتة فهي له،و هو أحق بها»و قول الإمام الصادق عليه السّلام:«أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض،أو عمروها فهم أحق بها،و هي لهم».و لا فرق في ذلك بين أن تكون الأرض الميتة في البلاد التي فتحت عنوة،أو أسلم أهلها طوعا،أو وقع الصلح بينهم و بين المسلمين،أو كانت من الأنفال.و أيضا لا فرق بين أن يكون محيي الأرض مسلما أو غير مسلم،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن شراء الأرض من أهل الذمة؟فقال:«لا بأس بأن يشتري منهم إذا عمروها،و أحيوها فهي لهم».

و قال صاحب الجواهر:«لا فرق فيما ذكرنا بين الموات في بلاد الإسلام،

ص:43

و غيره،لإطلاق الأدلة،و لا بين الذمي و غيره من أقسام الكفار».

أما الأرض العامرة فهي ملك لمن هي في يده،مسلما كان أو غير مسلم، و لا يجوز لأحد معارضته إلاّ مع العلم بأنه غاصب.

الشروط:
لا أحد يملك التصرف بواسطة الإحياء إلاّ بشروط،و هي بعد القصد و النية:
1-انتفاء يد الغير عما يراد إحياؤه،لأنّ اليد امارة الملك،حتى يثبت

العكس

،و يعلم أنّها ثبتت على الشيء من غير سبب مشروع.قال الشهيد الثاني في المسالك:«لو علم إثبات اليد بغير سبب مملك،و لا موجب،أو أولوية فلا عبرة بها،كما لو استندت إلى مجرد التغلب على الأرض،أو بسبب اصطلاح أهل القرية على قسمة بعض المباحات.كما يتفق ذلك كثيرا،أو لكونه محييا لها في الأصل.و قد زالت آثاره،ان قلنا بزوال ملكه،و نحو ذلك».

2-ان لا يكون الموات حريما تابعا لعقار أو بئر

،و ما إليها-يأتي الكلام عن الحريم بفقرة خاصة-لأن الحريم بحكم العامر.

قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده،كما اعترف به غير واحد،بل في التذكرة لا نعلم فيه خلافا بين علماء الأمصار في أن كل ما يتعلق بمصالح العامر،كالطريق،و الشرب، و مسيل ماء العامر،و مطرح قمامته،و ملقى ترابه،و آلاته،أو لمصالح القرية كقنانها،و مرعى ماشيتها،و محطبها،و مسيل مياهها-كل ذلك-لا يصح لأحد إحياؤه،و لا يملك بالاحياء،و كذا حريم الآبار،و الأنهار،و الحائط و كل مملوك لا

ص:44

يجوز احياء ما يتعلق بمصالحه،لحديث:«من أحيا ميتة في غير حق مسلم فهي له».

3-ان لا يكون محلا للعبادة و المناسك

،كعرفة و منى و المشعر،و غير ذلك من الأماكن المشرفة،قال صاحب الجواهر:«ان هذه في الحقيقة ليست من الموات الذي هو بمعنى المعطل عن الانتفاع.هذا إلى وضع يد المسلمين عليها، و تعلق حقوقهم بها،بل هي أعظم من الوقف الذي يتعلق به حق الموقوف عليهم بجريان الصيغة من الواقف».

4-أن لا يسبق إلى الأرض الموات سابق بالتحجير

،و ذلك أن يفعل شيئا لم يبلغ حد الأحياء،كما لو وضع علامات تدل على سبقه من تسوير الأرض،أو جمع التراب،أو حفر قناة،و ما إلى ذاك.

و التحجير لا يثبت ملكا و لا حقا،بل يكون المحجر أولى الناس بإحياء الأرض المحجرة من غيره،على شريطة أن لا يهمل تعميرها أكثر من المألوف، و إلا أجبره الحاكم على إحياء الأرض،أو تركها لمن يحييها،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بين من تعرض لهذا الحكم من الفقهاء معللين ذلك بقبح تعطيل العمارة التي هي منفعة للإسلام».و اعترف صاحب الجواهر، و صاحب مفتاح الكرامة بعدم وجود النص على أن التحجير يوجب الأولية، و لكن به أفتى الفقهاء.

إذا أهمل الأرض بعد الإحياء:

من أحيا أرضا ثم تركها،حتى عادت مواتا كما كانت،فهل يجوز لغيره إحياؤها؟ قال جماعة من الفقهاء:لا يجوز،لأن الأول قد ملكها بالاحياء،و الأصل

ص:45

بقاء الملك،حتى يثبت السبب الناقل،و ليس الخراب من الأسباب الناقلة.

و قال آخرون:يجوز للثاني إحياؤها،لأن الأول لم يملك رقبة الأرض بالاحياء،و انما يملك التصرف،و يكون أولى بها من غيره،و استدلوا بما جاء عن الامام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عن جده أمير المؤمنين عليهم السّلام:«أن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده،و العاقبة للمتقين.فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها و ليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي،و له من أكل منها،فان تركها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها و أحياها فهو أحق بها».

قال الشهيد الثاني في المسالك:«لأن هذه الأرض أصلها مباح،فإذا تركها، حتى رجعت إلى ما كانت عليه صارت مباحة.لأن العلة في تملك هذه الأرض الأحياء و العمارة،فإذا زالت العلة زال المعلول،و هو الملك،فإذا أحياها الثاني فقد أوجد سبب الملك،فيثبت الملك له،تماما كما لو التقط شيئا،ثم سقط منه، و ضاع عنه فلقطة غيره،فإن الثاني يكون أحق به».

تحديد الحريم:

للفظ الحريم معان شتى.و المراد به هنا الارتفاق الذي يكون تابعا لدار،أو عقار،أو بئر،أو حائط،و غير ذلك.

و سبقت الإشارة إلى أن الحريم لا يجوز إحياؤه،و جاء في روايات أهل البيت عليهم السّلام تحديدهم لحريم بعض الأشياء.فعن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع».و روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«حريم البئر العادية أربعون ذراعا حولها.و حريم المسجد أربعون ذراعا من كل ناحية».

ص:46

و قال صاحب الجواهر:«حريم الحائط مقدار مطرح ترابه بلا خلاف».

و بعد أن أفتى الفقهاء بموجب النصوص قالوا:ان التحديد لهذه الأشياء انما يثبت إذا أريد إنشاؤها في الأرض الموات،أما الأملاك المتلاصقة الموجودة بالفعل فلا حريم لأحد على جاره،و لكل ان يتصرف في ملكه كيف يشاء.

و الذي أراه ان الحريم يقدر بحسب الحاجة و المصلحة،و هي تختلف باختلاف البلدان و الأزمان،أما النص الوارد في تحديد الطريق و ما إليه فيحمل على ما دعت إليه الحاجة و المصلحة في ذاك العهد.و في كتاب أصول الإثبات عقدت فصلا مستقلا بعنوان:«هل تتغير الأحكام بحسب الأزمان؟»و قلت فيما قلت:ان من الأحكام ما شرع وفقا لطبيعة الإنسان بما هو انسان،و هذه الأحكام لا يمكن أن تتغير بحال مهما تغيرت الأزمان،و ضربت أمثلة على ذلك.و من الأحكام ما شرع للإنسان بالنظر إلى مجتمعة الذي يعيش فيه،و العادات و التقاليد المألوفة في ذاك العهد،و هذا النوع من الأحكام يتبدل بتبدل المجتمع،و منه حد الطريق سبعة أذرع،حيث لم تدع الحاجة إلى الزيادة يومذاك.أما اليوم فإذا أريد إنشاء قرية أو مدينة فيترك تحديد الطريق و جميع المرافق إلى معرفة المهندسين، و ما يراه أهل الاختصاص من المصلحة،و ليس من شك أن الشرع يقر كل ما فيه الخير و الصالح العام.و بكلمة ان الروايات حددت المرافق بما يتفق و ذاك العصر،حيث لا سيارات و شاحنات و مطارات،أما اليوم فليس لها من موضوع.

و مهما شككت فإني لا أشك أن الإمام عليه السّلام لو كان حاضرا،و أراد أن ينشئ قرية أو مدينة لأوكل الأمر إلى أهل الفن و الاختصاص في تحديد المرافق بكاملها.

ص:47

ضرر الجار:

هل يجوز للمالك أن يتصرف في ملكه تصرفا يستدعي ضرر جاره؟مثل أن يحفر حفرة يتصدع بسببها حائط الجار،أو يحبس الماء في ملكه فتتسرب النداوة و الرطوبة إلى بيت غيره،أو يجعل من ملكه مدبغة تنتشر منها الروائح الكريهة الدائمة،و يتولد منها الأدواء و الأمراض؟ و لا بد في الجواب من التفصيل على الوجه التالي:

1-ان يقصد المالك من التصرف الإضرار بالجار دون أن ينتفع هو بشيء، أو يناله أدنى ضرر من ترك التصرف،و انما غرضه الأول مجرد الإضرار بالغير.

إذا كان كذلك يمنع المالك من التصرف،و ليس له أن يحتج بحديث:«الناس مسلطون على أموالهم»لأن قاعدة لا ضرر تقدم على هذا الحديث،و تنفي سلطة المالك على ملكه إذا استدعت ضرر الغير.و بكلمة إن سلطة الإنسان على ملكه، تماما كالحرية تحدد بعدم ضرر الغير و التعدي على حريته.

2-ان لا يقصد المالك الإضرار بالجار،و لا بغيره،و لكنه لا ينتفع هو من احداث الحفرة،و ما إليها في ملكه،و أيضا لا يتضرر بتركها،مع العلم بتضرر الجار منها.و هذا كالأول يمنع المالك من التصرف،لأن قاعدة:لا ضرر،في هذه الحال تقدم على قاعدة:تسلط الإنسان على ملكه.

3-ان يلحق المالك الضرر إذا لم يتصرف في ملكه-مثلا-إذا لم يحفر المالك بالوعة في داره لا يستطيع سكناها،كما انه إذا حفر يتضرر الجار،فيدور الأمر بين ضرر المالك إذا ترك التصرف في ملكه،و بين ضرر الجار إذا تصرف.

و ليس من شك أنّه في مثل هذه الحال يتصرف المالك في ملكه دفعا للضرر عن نفسه،أو جلبا لمنفعتها،حتى و لو تضرر الجار،بل لو كان ضرره أشد من ضرر

ص:48

المالك و أكثر منه أضعافا.ذلك ان قاعدة:الناس مسلطون على أموالهم،هي المحكمة.و يجب الأخذ بها دون معارض،و لا تجري هنا قاعدة لا ضرر لرفعه عن الجار،لأن إجراءها و الأخذ بها يستدعي ثبوت الضرر على المالك،فيلزم من وجود الشيء عدمه،أي من رفع الضرر ثبوت الضرر.

و بتعبير ثان،ان:لا ضرر،شرعت للتخفيف و الامتنان،فيعمل بها حيث يتحقق هذا الامتنان،و حيث لا يستلزم العمل بها ضررا على أحد إطلاقا لا على المالك و لا على غيره.أما إذا استلزم رفع الضرر عن شخص،ثبوته على آخر فلا يمكن الاعتماد عليها،لأن الضرر لا يزال بالضرر.

و قد أطال الفقهاء الكلام في هذه المسألة في كتب الأصول و الفقه،بخاصة صاحب الجواهر و صاحب مفتاح الكرامة،و نقلا الإجماع على أن للمالك أن يتصرف في ملكه،حتى و لو تضرر الغير.و يجب حمل الإجماع على الصورة الثالثة،و هي ما إذا تضرر المالك من ترك التصرف في ملكه.

و ما رأيت فيما لدي من المصادر أحدا تكلم عن قاعدة:لا ضرر،بعامة و في هذه المسألة بخاصة مثل الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري.فقد تناول القاعدة من شتى نواحيها،و أطال،و لكن في التحقيق النافع المفيد.

الماء:
اشارة

للمياه أقسام:

1-ما أحرز في ظرف أو حوض،و نحوه

،و هذا الماء ملك لمن أحرزه بالإجماع،لا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلاّ بإذنه.

ص:49

2-ان يحفر بئرا في ملكه،أو في أرض ميتة بقصد إحيائها و تملكها

،فإذا بلغ الماء فهو ملك له،يتصرف فيه كيف يشاء.

و قيل:لا يملك هذا الماء و لا غيره من أقسام المياه لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الناس شركاء في ثلاث:النار،و الماء،و الكلأ.

و قال الشيخ الطوسي:ان صاحب البئر لا يملك ماءها،و لكنه أولى به بقدر حاجته لشربه و شرب ماشيته،و سقي زرعه،و ما يفضل عنه فعليه أن يبذله بلا عوض لمن يحتاج لشربه و شرب ماشيته،و لا يجب أن يبذله لسقي زرع الجار، و لكن يستحب.

و إذا حفر جاره بئرا في ملكه فذهب الماء من بئره أو نقص ينظر:فان كانت الثانية قد جذبت الماء الموجود بالفعل في البئر الأولى فعلى صاحب البئر الثانية أن يتدارك الضرر،لأنه أخذ الماء المملوك لغيره،تماما كمن أخذ الصيد من شبكة الغير.و ان صادف أن البئر الثانية استوعبت الماء الجاري تحت الأرض قبل وصوله إلى البئر الأولى فلا يجب التدارك،لأن الماء،و الحال هذي،غير مملوك لصاحب البئر الأولى،فأشبه من اصطاد صيدا كان في الاتجاه إلى شبكة الغير، بحيث لو ترك و شأنه لوقع فيها.

3-مياه العيون و الأمطار و الآبار في الأرض المباحة

،و هذي لمن سبق إليها لا يختص بها انسان دون إنسان.أجل،إذا نزل ماء المطر و تجمع في أرض مملوكة،و قصد المالك تملكه كان له وحده لا يجوز لغيره التصرف فيه إلاّ بإذنه.

4-مياه النهر الكبير

،كالفرات و النيل،و الناس في هذه شرع سواء،لكل أن يستقي منها ما شاء متى شاء.

5-مياه النهر الصغير غير المملوك

،فإذا لم يف ماؤه بسقي ما يقرب منه

ص:50

من الأرض،و تنازع أصحابها عليه فإنه يبدأ بمن في أوّل النهر فيأخذ منه مقدار حاجته للزرع أو الشجر بشتى أنواعه،ثم يرسل الماء إلى الذي يليه،فيصنع كذلك إلى أن ينتهي الماء،و إذا لم يفضل شيء عن الأول أو الثاني فلا شيء لمن يليه،و لو أدى إلى تلف زرعه أو شجره.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في أصل الحكم،مضافا إلى النصوص الواردة في ذلك من طريق السنة و الشيعة، منها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قضى في شرب نهر في سيل أن للأعلى أن يسقي قبل الأسفل،ثم يرسله إلى الأسفل.

6-إذا حفر نهرا و قناة في ملكه،أو في أرض ميتة بقصد إحيائها

،و وصله بنهر كبير كالفرات،فهل يملك الماء الذي فيه،أو يكون أولى به من غيره دون أن يملكه؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى أنّه يملك الماء، قال صاحب المسالك:«إذا حفر نهرا و أوصله بالنهر المباح فدخل فيه الماء فلا خلاف في أولية الحافر بالماء،و أنّه ليس لأحد مزاحمته فيه للسقي و لا غيره،و لا في ملكية نفس الأرض المحفورة.و انما الخلاف في ملكية الماء الذي يدخل فيه،فالمشهور بين الفقهاء خصوصا المتأخرين أنّه يملك أيضا،كما يملك الماء بحفر البئر و العين،لاشتراكهما في المقتضي و هو الإخراج.و ذهب الشيخ إلى عدم ملكية الماء بذلك،لأنه مباح دخل في ملكه،فيبقى على أصل الإباحة،و انما يكون الحافر أولى به،لأن يده عليه،كما إذا جرى الفيض إلى ملك رجل، و اجتمع فيه فإنه لا يملكه».

و على القولين يجوز الشرب منه و الوضوء و الغسل فيه،و ما إلى ذلك مما هو مألوف و معروف للسيرة القطعية إلاّ مع العلم بأن صاحب الماء يكره ذلك

ص:51

و يمنع منه.

المعادن:
اشارة

قسم الفقهاء المعادن إلى نوعين:

الأول:الظاهرة

،و هي التي تكون في متناول كل يد،حيث لا تفتقر إلى العمل و الحفر،كالملح و القار و الكحل و الدر و الياقوت.و هذه تملك بالأخذ لا بالإحياء،لأن الإحياء لن يكون إلاّ بالعمل،و المفروض أنّها ظاهرة بطبيعتها و من غير عمل،تماما كماء الأنهار.

الثاني:المعادن الباطنية

،و هي التي تحتاج إلى العمل و العلاج،كالحديد و الذهب و الفضة و النحاس و الرصاص،و هذه تملك بالاحياء.قال صاحب الجواهر:

«الناس سواء في المعادن الظاهرة،للسيرة المستمرة في سائر الأعصار و الأمصار.أما الباطنة فتملك بالإحياء الذي هو العمل،حتى يبلغ نيلها بلا خلاف أجده بين من تعرض له.و لعله لصدق الأحياء الذي هو سبب الملك.فإن إحياء كل شيء بحسبه،و من هنا يملك البئر ببلوغ الماء الذي هو فيها،إذ هو-أي الماء -كالجوهر الكائن فيها،و يبلغه بحفرها».

مسائل:
1-من أحيا أرضا مواتا،ثم ظهر فيها معدن فهو له تبعا للأرض

،سواء أ كان عالما به حين الإحياء،أو غير عالم.

ص:52

2-إذا شرع في إحياء المعدن،ثم أهمل أجبره الحاكم على الإتمام

،أو التخلي عنه إلى غيره.

3-يجوز لصاحب الدار أن يحفر بالوعة في الطريق العامة التي ينفذ منها

إلى شارع آخر

،يحفرها لحاجته إليها،و تجمع المياه القذرة من داره فيها،على شريطة أن يسدها سدا محكما بحيث لا تتضرر المارة بسببها،و أيضا يجوز أن يحفر سردابا تحتها بشرط الإحكام و عدم الخسف و الضرر،و إذا حصل الضرر من ذلك على المارة أو الجار كان ضامنا له.

ص:53

كتاب الوقف و أخواتها

كتاب الوقف

معناه:

الوقف يجمع على وقوف،و أوقاف،و الفعل وقف،أما أوقف فشاذ، و معناه لغة الحبس و المنع،تقول:وقفت عن السير،أي امتنعت عنه.

و في الشرع نوع من العطية،يقضي بتحبيس الأصل،و إطلاق المنفعة، و معنى تحبيس الأصل المنع عن الإرث و التصرف في العين الموقوفة بالبيع أو الهبة أو الرهن أو الإجارة أو الإعارة،و ما إلى ذاك،أما تسبيل المنفعة فهو صرفها على الجهة التي عينها الواقف من دون عوض.

شرعية الوقف:

الوقف مشروع إجماعا و نصا،و منه:«ينتفع الرجل بعد موته بثلاث خصال:سنة يعمل بها فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء،و صدقة جارية من بعده،و الولد الطيب يدعو لوالديه بعد موتهما.

و للوقف أركان و شروط نتكلم عنها في الفقرات التالية.

ص:54

الصيغة:

ذهب جماعة من المحققين،منهم السيد اليزدي صاحب العروة الوثقى، و السيد أبو الحسن الأصفهاني،و السيد الحكيم،ذهبوا إلى أن الوقف يتم بكل لفظ يدل عليه،حتى اللغة الأجنبية،لأنه-هنا-وسيلة للتعبير،و ليس غاية في نفسه.قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:

«الأقوى كفاية كل ما يدل على الوقف،و لو بضميمة القرائن كما في سائر العقود،إذ لا دليل على اعتبار لفظ مخصوص،و لا تعتبر العربية،و لا الماضوية، بل تكفي الجملة الاسمية،كقوله:هذا وقف،كما يدل عليه قول أمير المؤمنين عليه السّلام لما جاءه البشير بخروج عين ينبع:و هي صدقة في حجيج بيت اللّه، و عابري السبيل لا تباع و لا توهب و لا تورث».

و قال السيد المذكور في الملحقات،و السيد الأصفهاني في الوسيلة:يتم الوقف بالفعل من غير تلفظ في المساجد و المقابر،و الطرق و الشوارع و القناطر، و الأشجار المغروسة لانتفاع المارة بها.و في مثل الفرش و المصابيح للمشاهد و المساجد،و ما إلى ذلك مما كان محبسا على مصلحة عامة،فلو بنى بعنوان المسجد،و اذن بالصلاة للعموم،و صلى مصل واحد كفى في تحقق الوقف مسجدا.و كذا لو عيّن قطعة من الأرض مقبرة للمسلمين،و اذن بالدفن فيها، و دفن فيها كفى في الوقف،و مثله لو بنى جسرا،أو شق طريقا،و مر عليه انسان واحد.

و هل يحتاج الوقف إلى قبول،أو يكتفى بمجرد الإيجاب؟ و للفقهاء ثلاثة أقوال:أحدها اشتراط القبول مطلقا،الثاني عدم اشتراطه مطلقا،و به قال السيد الحكيم في منهاج الصالحين و السيد اليزدي في الملحقات،

ص:55

و هذي عبارة الأول بالحرف:«الظاهر عدم اعتبار القبول في الوقف بجميع أنواعه».و مثلها عبارة الثاني حيث قال:«الأقوى عدم الاشتراط».

القول الثالث التفصيل بين الوقف على الجهة العامة،كالمسجد و المقبرة و الفقراء،فلا يشترط القبول،و بين الوقف على جهة خاصة كالأولاد و ما أشبه، فيشترط القبول.و إلى هذا التفصيل ذهب جماعة من الكبار كصاحب الشرائع، و الشهيدين،و العلامة الحلي.و عليه يكون الوقف عقدا يحتاج إلى إيجاب و قبول إذا كان لجهة خاصة،و إيقاعا لا يحتاج إلى قبول إذا كان على جهة عامة،و لا مانع شرعا و لا عقلا أن يكون الوقف عقدا بلحاظ،و إيقاعا بلحاظ،و ان منعه صاحب الجواهر.

التأبيد و الدوام:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الوقف لا يتم إذا حدد بأمد معين، كما لو قال:هذا وقف على كذا إلى عشر سنوات.

و اختلفوا فيما لو قال ذلك:هل يصح حبسا،أو أنّه يبطل حبسا كما بطل وقفا؟و معنى الصحة حبسا أن الجهة التي خصصها صاحب العين للاستثمار تنتفع بها طوال المدّة المعينة،و بعدها ترجع إلى المالك.

ذهب جماعة من الفقهاء،منهم صاحب ملحقات العروة إلى أنّه يصح حبسا،و ان الجهة التي خصصها صاحب العين تستحق الانتفاع بها طوال المدة المعينة،قال صاحب الملحقات:«لأن قصد هذا المعنى-أي الانتفاع بالعين مدّة معينة-هو قصد لحقيقة الحبس،و لا يضر اعتقاد كونه وقفا بعد إنشاء ما هو حبس حقيقة».

ص:56

و سنتكلم في الفصل التالي عن الحبس و أحكامه إن شاء اللّه.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب ملحقات العروة إلى أنّه لو وقف على من ينقرض غالبا،كالوقف على أولاده مقتصرا على بطن واحدة و لم يذكر المصرف بعد انقراضهم،ذهبوا إلى أنّه يقع وقفا،و بعد الانقراض ترجع العين إلى الواقف،أو ورثته،قال صاحب المسالك:«لأن الواقف لم يخرج العين عن ملكه،و إنما تناول أشخاصا فلا يتعدى إلى غيرهم،و لظاهر قول الإمام:ان الوقف على حسب ما يقفه أهله.

و تسأل:كيف صح الوقف على من ينقرض،مع العلم بأن الوقف يشترط فيه التأبيد و الدوام؟ الجواب:ان الذين اشترطوا التأبيد و الدوام في الوقف أرادوا عدم تحديده بزمن معين،فلا يشمل المقام،قال صاحب الجواهر:«المراد من إجماع الفقهاء على اعتبار الدوام هو عدم التوقيت بمدّة».و يسمى الوقف على من ينقرض بالوقف المنقطع.

و تجدر الإشارة إلى ان صاحب العروة الوثقى و ملحقاتها لا يشترط التأبيد و الدوام في الوقف إطلاقا،و يجيز أن يحدده بزمن معين،و يفسر الوقف بالإيقاف،و إيقاف الشيء قد يكون إلى الأبد،و قد يكون إلى أمد،و المرجع في ذلك إلى قصد الواقف الذي نكتشفه من أقواله،و ما يتبعها من القرائن،و بهذا فسر قول الإمام عليه السّلام:«الوقف على حسب ما يقفه أهله».أي إلى الأبد إن أرادوا الدوام، و إلى أمد إن أرادوا التوقيت.

و نحن لا نستبعد هذا الرأي،لأن الذين اشترطوا التأبيد اعتمدوا على أنّه الظاهر من لفظ الوقف.و لنا أن نقول بأن للوقف قسمين:أحدهما دائم،و الآخر منقطع،أي مؤقت،و لا دليل على حصره بالدائم،أما وقوف أهل البيت عليهم السّلام التي

ص:57

استدل بها القائلون بالتأبيد،لاشتمالها عليه فلكل ما تدل عليه أن الوقف يصح مع التأبيد،و لا دلالة فيها على نفي غيره.

هذا،إلى أن بعض الفقهاء أنكر وجود الإجماع على اشتراط التأبيد.فقد نقل صاحب الحدائق عن الشهيد في المسالك أن شرط التأبيد مشكوك و متنازع فيه،و أيضا نقل عن صاحب المفاتيح ان هذا الشرط لا دليل عليه،و ان الأصل و العمومات تنفيه.و أيضا نقل هذا بالذات صاحب مفتاح الكرامة.و بهذا يتبين معنا أن الوقف على قسمين:مؤبد،و منقطع.

القبض:

معنى القبض أن يتخلى المالك عن العين،و يسلط عليها الجهة الموقوف إليها.و القبض شرط في لزوم العقد لا في صحته،فإذا وقف،و لم يحصل القبض فللواقف أن يرجع،قال صاحب الجواهر:«لا يلزم عقد الوقف إلاّ بالإقباض الذي هو القبض بالاذن،فلكل منهما حينئذ فسخه قبله».

و على هذا إذا وقف على جهة عامة كالمسجد،أو المقبرة،أو على الفقراء لا يلزم الوقف إلاّ باستلام المتولي،أو الحاكم الشرعي،أو بالدفن في القطعة،أو الصلاة في المسجد،أو يتصرف الفقير مع اذن الواقف،و إذا لم يحصل القبض بنحو من أنحائه جاز للواقف الرجوع عن الوقف،و إذا وقف على جهة خاصة كأولاده،فإن كانوا كبارا فلا يتم الوقف إلاّ باستلامهم بإذنه،و إن كانوا صغارا فلا داعي لقبض جديد،لأن يده يدهم،لمكان ولايته،و إذا مات الواقف قبل القبض بطل الوقف و أصبح ميراثا،و مثاله أن يقف دكانا في سبيل الخير،ثم يموت،و هي ما زالت في تصرفه فتعود،و الحال هذه إلى الورثة،و إذا حصل القبض فقد تم الوقف،و لا يجوز للواقف الرجوع عنه.

ص:58

و مما يدل على ذلك أن رجلا سأل الإمام عليه السّلام عن الوقف على الأئمة الأطهار؟فقال:أمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا،و ما يحل لنا،ثم يحتاج إليه صاحبه،فكل ما لم يسلّم فصاحبه بالخيار،و كل ما سلّم فلا خيار فيه لصاحبه، احتاج أو لم يحتج،افتقر إليه،أو استغنى.

و أيضا سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تصدق على ولد له قد أدركوا؟ قال:إذا لم يقبضوا،حتى يموت فهو ميراث،فان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز،لأن الوالد هو الذي يلي أمره.

و يكفي قبض الطبقة الأولى في الوقف على الذرية.

من يملك العين الموقوفة:

سبق في فقرة«التأبيد و الدوام»أن الوقف منه مؤبد،و منه منقطع الآخر.و قد اتفق الفقهاء على زوال ملك الواقف عن الوقف المؤبد،و اختلفوا في أن العين الموقوفة:هل يرتفع عنها وصف الملكية بالمرة،بحيث لا تكون ملكا لأحد إطلاقا،و هو المعبر عنه بفك الملك،أو أنّها تنتقل إلى الجهة الموقوف عليها؟ ذهب جماعة إلى التفصيل بين الوقف العام كالمساجد و المدارس و المصاحّ،و بين الوقف الخاص،كالوقف على الذرية،و ما إليها،و قالوا:ما كان من النوع الأول فهو فك ملك،لأن الملك فيه ينتقل إلى اللّه سبحانه،و لا شيء للناس منه سوى الانتفاع به.و ما كان من النوع الثاني تنتقل العين من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليهم.قال الشيخ الأنصاري في المكاسب:«فالذي ينبغي أن يقال في الوقف المؤبد:انّه على قسمين:أحدهما ما يكون ملكا للموقوف عليهم،فيملكون منفعته،و لهم استئجاره و أخذ أجرته،و الثاني ما لا يكون ملكا لأحد،بل يكون فك ملك نظير التحرير-اي عتق العبد-كما في المساجد

ص:59

و المدارس بناء على عدم دخولها في ملك المسلمين،كما هو مذهب جماعة، فان الموقوف عليهم يملكون الانتفاع دون المنفعة».

التنجيز:

ذهب أكثر الفقهاء إلى وجوب التنجيز،و عدم جواز التعليق في الوقف،فإن قال:ان متّ فهذا وقف لم يصر وقفا بعد الموت،أما ان قال:إذا متّ فاجعلوا هذا وقفا يكون وصية بالوقف،و على الوصي أن ينفذ و ينشئ الوقف،فان امتنع أجبره الحاكم،فإن لم يمكن إجبار الوصي تولى الحاكم عنه.

و قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:«لا دليل بالخصوص على شرط التنجيز في الوقف،كما اعترف به صاحب المسالك،و عليه فان تحقق الإجماع فهو،و إلاّ فمشكل».

و يلاحظ بأنّه حتى لو وجد الإجماع فإنه لا يصلح-هنا-للدلالة على عدم التنجيز.بديهة أن الإجماع انما يكون حجة إذا لم نعرف له مستندا.و قد أجمعوا هنا متوهمين أن الإنشاء معناه أنّه موجود بالفعل،و معنى التعليق أنّه غير موجود فيحصل التهافت و التناقض،و يرد هذا التوهم بأن الإنشاء متحقق بالفعل،و آثار هي التي تحصل في المستقبل على تقدير حصول الشرط.و قد تكلمنا عن هذا الشرط مفصلا و مطولا في«الجزء الثالث،فصل شروط العقد-فقرة:التعليق».

الواقف:

يشترط في الواقف أن يكون أهلا للمعاملة،فلا يصح وقف المجنون لنفي التكليف عنه،و لا وقف الصبي،حتى و لو كان مميزا،و لا وقف المحجر عليه لسفه،لأنه ممنوع من التصرفات المالية،و قال البعض:يصح وقف الصبي البالغ عشرا.

ص:60

و هو قول شاذ متروك مخالف لأصول المذهب،و إجماع المسلمين بشهادة صاحب المسالك الذي نقل عبارته هذه بالحرف صاحب الجواهر،و علق عليها بأن إلحاق الوقف بالوصية قياس محرم.

نية القربى:

ليس من شك أن قصد الوقف شرط في تحققه،فإذا تلفظ به السكران،أو المغمى عليه،أو النائم،أو العابث يكون لغوا.

و اختلفوا في نية التقرب إلى اللّه:هل هي شرط كالعقل و البلوغ،بحيث لو قصد الوقف أمرا دنيويا لا يتم الوقف؟ ذهب جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الجواهر،و صاحب العروة و ملحقاتها،إلى أن القربة ليست شرطا لصحة الوقف،و لا لقبضه،قال السيد في ملحقات العروة:«الأقوى وفاقا لجماعة عدم اشتراط نية القربة،للإطلاقات، و لصحة الوقف من غير المسلم.نعم،ترتب الثواب موقوف على قصد القربة، مع أنّه يمكن أن يقال بترتب الثواب على الأفعال الحسنة،و ان لم يقصد بها وجه اللّه (1).

الموقوف:

يشترط في الموقوف أن يكون عينا مملوكة و معينة ينتفع بها منفعة محللة

ص:61


1- ان جميع الفقهاء يثبتون الملازمة بين ثواب اللّه،و قصد التقرب إليه سبحانه،و لم أر فقيها-غير هذا السيد-قال:ان اللّه يثبت على الفعل،حتى و لو كانت غاية الفاعل دنيوية لا دينية.و نحن على رأي هذا السيد العظيم،لأن قوله هذا يرغب في الخير،و يتفق مع فضل اللّه و كرمه.

مع بقائها،و يمكن إقباضها و تسليمها،فلا يصح وقف الدّين،و لا الشيء المجهول،كعقار من ملكي أو جزء منه،و لا وقف ما لا يملكه المسلم كالخنزير، و آلات اللهو،و لا ما لا ينتفع به إلاّ بإتلافه،كالمأكول و المشروب،و لا وقف العين المرهونة،و لا ما لا يمكن إقباضه و تسليمه،كالطير في الهواء،و السمك في الماء،و لا الحيوان الضال،و لا العين المغصوبة التي لا سلطة عليها للواقف و لا الموقوف عليه،لعدم إمكان القبض.أما إذا وقف العين المغصوبة على غاصبها بالذات فيصح الوقف،لأن القبض متحقق بالفعل.

و يصح وقف الحصة المشاعة،كربع العقار أو نصفه،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،بل نصوص التصدق بالمشاع مستفيضة أو متواترة،فيدخل فيه الوقف.و لأن قبض المشاع هنا كقبضه في البيع،كما هو واضح».

الموقوف عليه:

الموقوف عليه هو الذي يستحق منفعة الوقف كما في الأوقاف الخاصة أو يجوز له الانتفاع بالعين الموقوفة كما في الأوقاف العامة،و يشترط فيه أمور:

1-ان يكون موجودا حين الوقف،فلا يصح الوقف ابتداء على المعدوم، و يصح تبعا للموجود فعلا،كمن وقف على أولاده الموجودين،و من سيوجد من أولادهم،و لا يصح الوقف على الحمل.

و تسأل:كيف صحت الوصية للحمل،و لم يصح الوقف عليه.

الجواب:ان الوقف تمليك في الحال،و ليس الحمل أهلا للتملك إلاّ بعد انفصاله حيا،أمّا الوصية فتمليك في المستقبل،و التملك فيها مراعى بوضعه حيا،

ص:62

فلو مات قبل خروجه بطلت الوصية.

2-أن يكون أهلا للتملك،فلا يجوز الوقف على الحيوان،و لا الوصية له،كما يفعل الغربيون،حيث يوصون للكلاب،بخاصة«السيدات».

أمّا الوقف على المساجد و المدارس و المصحات،و ما إليها فهو في الحقيقة وقف على من ينتفع بها من الآدميين.قال صاحب الحدائق:«لقد صرح الفقهاء بأن الوقف المذكور هو وقف على المسلمين باعتبار بعض مصالحهم.و لا ريب أنّهم قابلون للتملك،و غايته أنّه وقف عليهم باعتبار مصلحة معينة من مصالحهم،فكأنه وقف عليهم بشرط صرفه في مصرف خاص».

3-أن لا يكون الوقف معصية للّه سبحانه،كالوقف على الدعارة و أندية الخمر،و ما إلى ذاك.أما الوقف على غير المسلمين كالذمي فيجوز بالاتفاق، لقوله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (1).

و قال صاحب الجواهر:«يكفي في صحة الوقف على غير المسلم إطلاق الأمر بالمعروف و الإحسان و الخير».

و قال السيد صاحب ملحقات العروة في باب الوقف:بل يجوز الوقف و البر و الإحسان على الحربيّ أيضا لإطلاق الأمر بالخير و الإحسان.

و قال الشهيد الثاني في اللمعة الدمشقية الجزء 1 باب الوقف ما نصه بالحرف:«يجوز الوقف على أهل الذمة،لأنّه ليس بمعصية،و انهم عباد اللّه،و من جملة بني آدم المكرمين.ثم قال:لا يجوز الوقف على الخوارج و الغلاة (2)لأن

ص:63


1- الممتحنة:8. [1]
2- لا شيء أصدق في التعبير عن عقيدة أهل المذهب من كتبهم الدينية،و الشهيد و كتبه من أعظم المراجع الدينية عند الشيعة،و هذا القول منه صريح بأن غير المسلمين من أهل الأديان أفضل من الغلاة-اذن-كيف ينسب إلى الشيعة الإمامية الغلو و المغالاة؟

أولئك كفّروا أمير المؤمنين عليا،و هؤلاء الهوة،و الخير هو النمط الأوسط،كما قال الإمام:هلك في اثنان:مبغض قال،و محب غال».

4-أن يكون الموقوف عليه معينا غير مجهول،فإذا وقف على رجل،أو امرأة،أو على جهة من غير تعيين بطل.

5-لا يصح للوقف أن يقف على نفسه،أو يدخلها على الموقوف عليهم، إذ لا يعقل ان يملّك الإنسان نفسه بنفسه.أجل،إذا وقف على الفقراء،ثم افتقر يكون كأحدهم،و كذلك إذا وقف على طلبة العلم،ثم صار طالبا.

الوقف على الصلاة:

و من عدم جواز الوقف على النفس يتبين بطلان الأوقاف الكثيرة الموجودة في قرى جبل عامل،و التي وقفها أربابها على الصلاة عنهم بعد موتهم حتى و لو قلنا بجواز النيابة عن الميت في الصلاة المستحبة فضلا عن الواجبة،لأنها في حقيقتها وقف على النفس.

الاشتباه:

قال صاحب الملحقات:إذا اشتبه الموقوف عليه بين شخصين،أو جهتين فالمرجع القرعة،أو الصلح القهري،و معنى الصلح القهري-هنا-أن يقسم الناتج بين الاثنين اللذين هما طرفا الاشتباه.

و إذا لم نعلم جهة الوقف:هل هي المسجد أو الفقراء،أو غيرهم صرف

ص:64

الوقف في وجوه البر و الخير.

و إذا ترددت العين الموقوفة بين شيئين،كما لو علمنا بوجود الوقف،و لم نعلم أنّه الدار،أو الدكان رجعنا إلى القرعة،لأنها لكل أمر مشتبه.

ارادة الواقف:

إذا كان الوقف عطية و تبرعا و صدقة يكون الواقف،و الحال هذي،معطيا و متبرعا و متصدقا،و بديهة أن للإنسان العاقل البالغ الراشد الصحيح غير المحجر عليه في التصرفات المالية أن يتبرع من أمواله بما يشاء إلى من يشاء بالنحو الذي يريد،لحديث:«الناس مسلطون على أموالهم».و لقول الإمام عليه السّلام:«الوقوف بحسب ما يقفها أهلها».و لأجل هذا قال الفقهاء:شروط الواقف كنص الشارع، و ألفاظه كألفاظه في العمل بها و وجوب اتباعها،و مثله الناذر و الحالف و الموصي و المقر.

و على هذا فان علم قصد الواقف أخذ به،حتى و لو خالف اصطلاح العرف،كما لو علمنا أنّه أراد من لفظة أخي صديقه فلانا فنصرف الوقف للصديق لا للأخ،و إذا جهلنا القصد و المراد فالعرف هو المتبع،و إذا لم يكن اصطلاح رجعنا إلى اللغة،تماما كما هو الشأن في ألفاظ الشارع.

الشرط السائغ:

سبق أن للواقف أن يشترط ما يشاء.و تستثنى من هذه الكلية الحالات التالية:

1-يلزم الشرط،و ينفذ إذا اقترن بإنشاء الوقف،أما إذا تم الوقف من غير

ص:65

الشرط فيكون ذكره بعد الإنشاء لغوا.

2-أن لا يذكر شرطا ينافي مقتضى العقد و طبيعته،كما لو اشترط ان تبقى العين على ملكه،فيورثها و يبيعها و يهبها و يعيرها و يؤجرها متى شاء،و مثل هذا الشرط باطل و مبطل بإجماع الفقهاء.

3-ان لا يخالف الشرط حكما من أحكام الشريعة،كأن يشترط فعل الحرام،أو ترك الواجب،و في الحديث الشريف:«من اشترط شرطا سوى كتاب اللّه عزّ و جل فلا يجوز له،و لا عليه».و قال الإمام عليه السّلام:«المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطا حلل حراما،أو حرم حلالا».

و ما عدا ذلك من الشروط التي تقترن بالعقد يجب الوفاء بها بالاتفاق،و قد تكلمنا في الجزء الثالث فصل«الشروط»عنها مفصلا و مطولا،ما يصح منها،و ما لا يصح،و الشرط الباطل المبطل،و الباطل غير المبطل-تكلمنا عن الشروط بوجه عام و كمبدأ يشمل كل شرط أينما كان في البيع أو الإجارة أو الزواج أو الوقف أو غير ذلك،و استغرق البحث ما يقرب من 17 صفحة بالنظر لأهميته، و شدة الحاجة إليه.

الخيار:

ذهب المشهور إلى أن الوقف لا يقبل الخيار،فإذا اشترط الواقف ان يكون له الخيار في إمضاء الوقف،أو العدول عنه بطل الشرط و الوقف معا،و قيل:ان هذا الشرط ينافي طبيعة العقد.

ص:66

الأكل و وفاء الدين:

لو وقف على غيره،و اشترط وفاء ديونه و إخراج مؤنته من الوقف يبطل الشرط و الوقف،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به».و قال صاحب المسالك:«لما كانت القاعدة عند الفقهاء اشتراط إخراج الواقف نفسه من الوقف بحيث لا يبقى له استحقاق فيه،من حيث ان الوقف يقتضي نقل الملك و المنافع عن نفسه،فإذا شرط الواقف قضاء ديونه،أو مؤنته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه،فيبطل الشرط و الوقف معا».

اشتراط عودة الوقف إلى الواقف:

إذا اشترط الواقف في عقد الوقف عودة العين الموقوفة إليه عند الحاجة، فهل يصح هذا الشرط،أو لا؟و في حال صحته،هل يكون ذلك من باب الوقف، أو من باب الحبس الذي سنتكلم عنه قريبا؟ ذهب المشهور إلى صحة الشرط،و لكن العقد الذي بصيغة الوقف يكون حبسا لا وقفا،و ان العين تبقى على ملك صاحبها الأول،و المنفعة لمن اختاره المالك إلى أن يرجع،أو يموت.فإذا مات تكون لورثته و ان لم يرجع،لأن المفروض أن العين باقية على ملكه.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير،و قال-الكلام للرجل الذي تصدق-ان احتجت إلى شيء من المال فأنا أحق به،ترى يجوز ذلك،و قد جعله للّه يكون له في حياته،فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا،أو يمضي صدقة؟ قال الإمام عليه السّلام:يرجع ميراثا إلى أهله.

و في رواية ثانية:أنّه قال:من وقف أرضا،ثم قال:ان احتجت إليها فأنا

ص:67

أحق بها،ثم مات الرجل فإنّها ترجع إلى الميراث.

الإدخال و الإخراج:

إذا اشترط الواقف إخراج من يريد من الموقوف عليهم بطل الوقف،قال صاحب المسالك:«هذا عندنا موضع وفاق،لأن وضع الوقف على اللزوم.و إذا شرط إخراج من يريد من الموقوف عليهم كان منافيا لمقتضى الوقف،إذ هو بمنزلة اشتراط الخيار،و هو باطل».

و إذا اشترط إدخال من سيولد مع الموقوف عليهم جاز،سواء أ كان الوقف على أولاده،أو أولاد غيره.بداهة أن هذا الشرط لا يتنافى مع طبيعة العقد،و أي مانع في أن يقول:وقفت على هؤلاء بشرط ان يدخل معهم من سيولد من ذريتي، أو ذريتهم؟بخلاف لو قال:وقفت على هؤلاء بشرط أن أخرج من أشاء منهم.

ألفاظ الواقف:

إذا وقف على البنين لا تدخل البنات،و إذا وقف على البنات لا يدخل البنون،و إذا وقف على أولاده دخلا معا،و اقتسما بالسوية للأنثى مثل الذكر.

و إذا قال:وقف على أولادي،و سكت:فهل يشمل أولاد الأولاد،أو لا؟ ذهب المشهور إلى الاقتصار على أولاد الصلب فقط دون أولاد الأولاد.

و قال جماعة من المحققين:يشمل أولاد الأولاد.و هذا هو الحق.

و إذا قال:من انتسب إليّ.دخلت البنات دون أولادهن،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل يمكن دعوى الإجماع عليه».

و إذا قال:على ذريتي شمل الجميع البنين و أولادهم،و البنات و أولادهن.

ص:68

و إذا قال:على المسلمين كان لكل من أقر بالشهادتين.

و إذا قال:في سبيل اللّه فهو في وجوه الخير و البر.

الولاية على الوقف:

الولاية على الوقف سلطة محدودة برعايته و إصلاحه و استغلاله،و إنفاق غلته في وجهها.و تنقسم الولاية إلى نوعين:عامة،و خاصة،و العامة هي التي تكون لولي الأمر،و الخاصة إذا عين الواقف متوليا عند إنشاء الوقف،أو يعينه الحاكم الشرعي.

و يشترط في المتولي أن يكون عاقلا بالغا راشدا أمينا،بل لقد اشترط جماعة من الفقهاء العدالة،و الحق الاكتفاء بالأمانة و الوثاقة،مع القدرة على ادارة الوقف كما ينبغي.

و المتولي أمين لا يضمن إلاّ بالتعدي،أو التفريط.

و يجوز للواقف أن يجعل التولية حين الوقف لنفسه مستقلا،أو يشترط معه غيره مدة حياته،أو إلى أمد.و له أيضا أن يجعل الولاية للموقوف عليهم،أو لأجنبي.و إذا سكت،و لم ينص على الولي حين الوقف ينظر:فإن كان الوقف عاما كالمساجد و المقابر،و ما إليها كانت الولاية للحاكم الشرعي،و ان كان خاصا كالوقف على أولاده فالولاية للموقوف عليهم،قال صاحب المسالك ما ملخصه:

«الأصل أن تكون التولية و النظر للواقف،فهو أحق من يقوم بصرفه إلى أهله،فإذا جعل النظر لنفسه صح.و ان شرطه لغيره وجب العمل بمقتضى الشرط،و قد شرطت فاطمة عليها السّلام النظر في حوائطها السبعة التي وقفتها لأمير المؤمنين،ثم الحسن،ثم الحسين،ثم الأكبر من ولدها عليهم السّلام.و هذا كله لا خلاف

ص:69

فيه.و ان أطلق الواقف،و لم يشترط النظر في متن العقد إلى أحد فالأقوى أن يكون النظر للحاكم الشرعي ان كان الوقف على جهة عامة،و للموقوف عليهم، ان كان الوقف خاصا معينا».

و إذا جعل الواقف الولاية لنفسه،و كان غير مأمون،أو شرطها لغيره،و هو يعلم بفسقه فليس للحاكم ان ينزع الولاية من الواقف،و لا ممن ولاه،كما جاء في تذكرة العلامة الحلي،و نقله صاحب الجواهر عن السرائر،بل قال صاحب ملحقات العروة:لو اشترط أن لا يكون للحاكم آية مداخلة في أمر وقفه صح.

و متى أقام الواقف أو الحاكم متوليا فليس لأحد عليه من سلطان،ما دام قائما بالواجب،فان قصر أو خان،بحيث يلزم الضرر من بقائه و استمراره في الولاية فإن للحاكم أن يستبدله،و الأولى ان يضم معه نشيطا أمينا.

و إذا مات من عينه الواقف،أو جن،أو ما إلى ذاك مما يخرجه عن الأهلية فلا تعود الولاية إلى الواقف إلاّ إذا جعل له ذلك حين إنشاء الوقف.

و إذا جعل الواقف التولية لاثنين فان صرح بأن لكل منهما الاستقلال في العلم استقل،و إذا مات أحدهما،أو خرج عن الأهلية انفرد الآخر بالولاية،و ان صرح بالاجتماع،و عدم الاستقلال فلا يجوز لأحدهما التصرف بمفرده،و على الحاكم أن يعين آخر،و يضمه إلى رفيقه،ان خرج أحدهما عن الأهلية.و ان أطلق الواقف،و لم يبين الاستقلال في التصرف لأحدهما،و لا عدمه حمل كلامه على صورة الانضمام،و عدم الاستقلال في التصرف.

و إذا عين الواقف مقدارا من المنافع للمتولي تعين ذلك المقدار كثيرا كان أو قليلا،و ان لم يعين استحق اجرة المثل.

و للمتولي الخاص أن يوكل في إنجاز آية مصلحة من مصالح الوقف،إلاّ أن

ص:70

يشترط عليه المباشرة بالذات،و لم يؤذن له بالتوكيل.

و ليس للمتولي أن يفوض التولية من بعده إلى غيره،و إذا فعل يكون تفويضه لغوا.

ص:71

بيع الوقف
أسئلة:

هل توجد أسباب في الواقع تستدعي جواز بيع الوقف؟و ما هي هذه الأسباب في حال وجودها؟ثم ما هو حكم الثمن لو جاز البيع و وقع؟هل نستبدل به عينا تستهدف جهة الوقف الأولى،و تحل العين الجديدة محل العين القديمة،و تأخذ حكمها؟

المكاسب و الجواهر:

و سنعرض أقوال المذاهب بالتفصيل،و منها يتضح الجواب عن هذه التساؤلات و غيرها.و لم أجد فقيها من فقهاء المذاهب الخمسة قد أطال الكلام في هذه المسألة،كالفقيهين الإماميين الشيخ الأنصاري في مكاسبه،و الشيخ محمد حسن في جواهره-باب التجارة-فقد تناولاها من جميع أطرافها،و فرّعا عليها فروعا شتى،مع التبسيط في عرض الأقوال و غربلتها،و تنقية الحقائق الصافية الخالصة.و سنلخص المهم مما جاء في هذين السفرين اليتيمين اللذين اعتمدنا عليهما أكثر من أي كتاب في بيان ما ذهب إليه الإمامية.

و بهذه المناسبة أشير-بإيجاز-إلى أن الشيخ الأنصاري و صاحب الجواهر

ص:72

لم يوفرا أبدا على قارئهما الجهد و العناء في كل ما انتجا،و تركا من أثار،بل طلبا منه الكد و الصبر و الذكاء،و المؤهلات العلمية الثرية.و محال على من فقد هذه المؤهلات أن يتابعهما في شيء،أو يلحق بغبارهما،بل يدعانه ضالا في التيه،لا يدري أين شاطئ السلام.

أما من أقام بنيانه على أساس من العلم فيعطيانه أثمن الجواهر،و أجدى المكاسب،على شرط الصبر و المتابعة أيضا.و لا أعرف فقيها إماميا من القدامى و الجدد اعطى الفقه الجعفري و أصوله الحيوية و الأصالة بقدر ما أعطاه قلمهما الجبار.

و معذرة من هذا الاستطراد الذي قادتني إليه قسرا تلمذتني على يد هذين العظيمين،أو على آثارهما بالأصح.

هذه المسألة:

لقد تعددت أقوال الفقهاء،و تضاربت في هذه المسألة أكثر من آية مسألة غيرها في الفقه،أو في باب الوقف.و تعرض صاحب الجواهر إلى هذا التعدد و التضارب،نقطف من كلامه هذه الملمومة:

وقع الاختلاف بين الفقهاء في بيع الوقف على وجه لم نعثر على نظيره في مسألة من مسائل الوقف إطلاقا،فهم ما بين مانع من بيع الوقف إطلاقا،و مجيز له في بعض الموارد،و متوقف عن الحكم.بل تعددت الأقوال،حتى انفرد كل فقيه بقول،بل خالف الفقيه الواحد نفسه بنفسه في كتاب واحد،فذهب في باب البيع إلى غير ما قاله في باب الوقف،و ربما ناقض قوله في كلام واحد،فقال في صدره ما يخالف عجزه.ثم أنهى صاحب الجواهر الأقوال إلى 12 قولا،و تعرف هذه

ص:73

الأقوال،أو المهم منها من المسائل التالية:

المسجد:

للمسجد حكم عند المذاهب الإسلامية يخالف حكم جميع الأوقاف بشتى أنواعها،و لذا اتفقوا ما عدا الحنابلة على عدم جواز بيعه بحال،و مهما كانت الظروف و الأسباب،حتى و لو خرب،أو انتقل أهل القرية و المحلة،و انقطع المارة عن طريقه،بحيث يعلم جزما أنّه لا يمكن أن يصلي فيه انسان،مع ذلك كله يجب أن يبقى على ما هو بدون تغيير و لا تبديل،و عللوا ذلك بأن وقف المسجد يقطع كل صلة بينه و بين الواقف و غير الواقف إلاّ اللّه سبحانه،و من هنا عبروا عنه تارة بفك ملك،و أخرى بتحرير ملك،أي أنّه كان مقيدا فأصبح طلقا من كل قيد.و إذا لم يكن ملكا لأحد فكيف يجوز بيعه،مع العلم بأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

و رتبوا على ذلك أن لو استثمره غاصب،فسكن فيه،أو زرعه يأثم،و لكن لا يضمن و لا يغرم شيئا،لأنه غير مملوك لأحد.

و يلاحظ بأن خروجه عن الملك انما يمنع من تملكه بالبيع و الشراء،و لا يمنع من تملكه بالحيازة،كسائر المباحات العامة.

و قال الحنابلة:إذا انتقل أهل القرية عن المسجد،و صار في موضع لا يصلى فيه،أو ضاق بأهله،و لم يمكن توسيعه،و لا عمارة بعضه إلاّ ببيع بعضه جاز،و ان لم يمكن الانتفاع بشيء إلاّ ببيع يباع(المغني ج 5 باب الوقف).

و يلتقي قول الحنابلة في وجوه مع ما ذهب إليه الفقيه الإمامي السيد كاظم، حيث قال في ملحقات العروة بعدم الفرق بين المسجد و بين غيره من الأوقاف.

ص:74

فالخراب الذي يبرر بيع غير المسجد يبرر بيع المسجد أيضا،أمّا التحرير و فك الملك فلا يمنع البيع في نظره ما دامت العين متصفة بالمالية.و الحق ما قلناه من عدم جواز التملك بالبيع،و جوازه بالحيازة.

و الذي يعزز قول هذا الفقيه العظيم من عدم الفرق أن من أجاز بيع غير المسجد إذا خرب إنما أجازه لأن الخراب ينفي الغرض المقصود من الوقف،أو ينفي عنه الوصف الذي جعله الواقف موضوعا،أو قيدا للوقف،كما لو وقف بستانا من حيث هو بستان و لم يقف نفس الأرض من حيث هي هي،و هذا بعينه جار بالقياس إلى المسجد،لأن إقامة الصلاة فيه قيد في وقفه:فإذا انتفى القيد انتفت الوقفية،أو انتفت صفة المسجدية التي اعتبرت فيه،و حينئذ يجري عليه ما يجري على غيره من جواز التملك بأحد أسبابه،و لو بالحيازة.

أموال المساجد:
اشارة

في الغالب أن يكون للمساجد أوقاف كحانوت،أو دار،أو أشجار أو قطعة أرض،ينفق ريعها على إصلاح المسجد و فرشه و خادمه.و بديهة أن هذا النوع لا يترتب عليه أحكام المسجد من الاحترام،و أفضلية الصلاة فيه،للفرق بين الشيء نفسه،و بين أمواله و أملاكه التابعة له.

و أيضا فرق بينهما من جهة البيع،فكل من منع من بيع المسجد الخراب له أن يجيز بيع الأوقاف التابعة له،إذ لا ملازمة شرعية،و لا غير شرعية بينهما،لأن المسجد وقف للعبادة،و هي روحية خالصة،أما الدكان فوقف لأجل المنفعة المادية،و لذا كان المسجد من نوع الوقف العام،بل هو أظهر أفراده،أما أوقافه فهي من الأوقاف الخاصة به وحده.اذن يجوز بيع أوقاف المسجد،و أوقاف

ص:75

المقبرة و المدرسة بلا ريب،حتى و لو قلنا بعدم جواز بيع المدرسة و المقبرة.

و لكن هل يجوز بيع الأعيان التابعة للوقف مطلقا،حتى مع عدم وجود سبب مبرر كالخراب،أو ضآلة الناتج،أو لا بد فيها من وجود المبرر شأنها في ذلك شأن الوقف على الذرية و ما إليه من الأوقاف الخاصة؟

الجواب:

ان هذه الأعيان على قسمين:الأول ما ينشئه المتولي من ريع الوقف،كأن يكون للمسجد بستان،فيؤجره المتولي،و يشتري أو يبني المتولي بناتجه دكانا، لفائدة الوقف،أو يوجد الدكان بتبرعات المحسنين-إذا كان الأمر كذلك يجوز البيع و الاستبدال،مع المصلحة،سواء أوجد سبب من الأسباب التي ذكرها الفقهاء لجواز البيع،أم لم يوجد،لأن هذه الأعيان ليست وقفا،و إنما هي ناتج و مال للوقف،فيتصرف فيه المتولي تبعا للمصلحة،تماما كما يتصرف بثمر البستان الموقوف لمصلحة المسجد (1).اللهم إلاّ أن يتولى الحاكم الشرعي إنشاء وقف العقار الذي اشتراه المتولي،و حينئذ لا يباع العقار إلاّ مع وجود سبب يبرر البيع.أما وقف الناظر فلا أثر له بدون اذن الحاكم،لأنه ولي من أجل رعاية الوقف و استثماره،لا لإنشاء الأوقاف و إيجادها.

القسم الثاني الأعيان التي ينشئ وقفها المحسنون لمصلحة المسجد أو المدرسة،كمن أوصى بداره أو دكانه أو أرضه أن تكون وقفا للمسجد أو المدرسة،أو أنشأ هو الوقف نفسه،فهذه العين تعطى حكم الأوقاف الخاصة،

ص:76


1- ينبغي الانتباه للفرق بين العقار الذي نشتريه من ناتج الوقف،و بين أن نبيع الوقف الخرب و نشتري بثمنه عقارا آخر،فإن الثاني يأخذ حكم الأول في هذه الحال،أما العقار الذي نشتريه من ناتج الوقف فلا يأخذ حكم الوقف.

يجوز فيها البيع لسبب من أسباب الجواز:كالخراب و ضآلة العائد الملحق بالعدم.

و بدونه لا يجوز.و لم أجد فيما لدي من كتب المذاهب الأربعة من ذهب إلى هذه التفرقة الموضوعية.

و قد استوحيتها مما ذكره الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب،و هو يتكلم عن حكم حصير المسجد،قال ما نصه:«فرق بين ما يكون ملكا طلقا،كالحصير المشترى من مال المسجد،فهذا يجوز للناظر بيعه مع المصلحة،و لو لم يخرج من حيز الانتفاع،بل كان جديدا غير مستعمل،و بين ما يكون من الأموال وقفا على المسجد،كالحصير الذي يشتريه الرجل،و يضعه في المسجد،و الثوب الذي للبيت الحرام،فمثل هذا يكون ملكا للمسلمين لا يجوز لهم تغييره عن وضعه إلاّ في مواضع يسوغ فيها بيع الوقف».

و إذا جاز للناظر ان يبيع الحصير الجديد الذي كان قد اشتراه من مال المسجد جاز له في غيره بلا ريب.و يدل على عدم الفرق قول الشيخ نفسه بعد أسطر من العبارة السابقة،حيث قال:«ان حكم الحمامات و الدكاكين التي أنشئت لتحصيل المنافع بالإيجار و نحوه غير حكم المساجد و المقابر و المشاهد».

و مثل ذلك تماما قول النائيني في تقريرات الخوانساري:

«و إذا هدم،أو هجر المسجد،و لم يعد بحاجة إلى أوقاف و لا غيرها صرف الوقف الخاص به إلى وجوه البر،و الأولى صرفه إلى مسجد آخر»و كذلك إذا كان الوقف على مدرسة خاصة،أو مصح خاص،و خرب،فإنه يصرف إلى الخير و البر،أو إلى النظير و المثيل.

ص:77

غير المسجد:

أشرنا إلى أقوال المذاهب في المسجد،و ان الإمامية و الشافعية و الحنفية و المالكية ضد الحنابلة فيه،أما في غير المسجد من الأوقاف فإن للإمامية في بيعها مسلكا خاصا،لذا نشير أولا إلى أقوال المذاهب الأربعة ثم إلى قول الإمامية على حدة.

و إذا أجاز الحنابلة بيع المسجد،مع وجود المسوغ فبالأولى أن يجيزوا بيع غيره من الأوقاف و استبداله،مع السبب الموجب.

أما الشافعية فقد منعوا البيع و الاستبدال إطلاقا،حتى و لو كان الوقف خاصا،كالوقف على الذرية،و وجد ألف سبب و سبب.و أجازوا للموقوف عليهم أن يستهلكوا بأنفسهم الوقف الخاص إذا وجد المقتضي،كالشجرة تجف، و لم تعد صالحة للثمر،فإن للموقوف عليهم ان يتخذوها وقودا،و لا يجوز لهم بيعها،و لا استبدالها.

أما المالكية فقد جاء في شرح الزرقاني على أبي ضياء أن الوقف يجوز بيعه في حالات ثلاث:الأولى ان يشترط الواقف البيع عند إنشاء الوقف،فيتبع شرطه.

الثانية ان يكون الموقوف من نوع المنقول،و لم يعد يصلح للجهة الموقوف عليها،فيباع،و يصرف ثمنه في مثله و نظيره.الثالثة يباع العقار لضرورة توسيع المسجد،أو الطريق،أو المقبرة،و فيما عدا ذلك لا يسوغ البيع،حتى و لو خرب العقار،و أصبح لا يستغل في شيء.

أمّا الحنفية فقد نقل عنهم أبو زهرة في كتاب الوقف أنهم أجازوا الاستبدال في جميع الأوقاف الخاصة منها و العامة-غير المسجد-و انهم ذكروا لذلك ثلاث حالات:الأولى أن يشترط الواقف ذلك حين الوقف.الثانية أن يصير الوقف

ص:78

بحال لا ينتفع به.الثالثة أن يكون الاستبدال أدر نفعا،و أكثر غلة،و لا يوجد شرط من الواقف يمنع من البيع.

هذا هو ملخص رأي المذاهب الأربعة في غير المسجد،و هم كما رأيت لا فرق عندهم بين الأوقاف الخاصة،و بين الأوقاف العامة-غير المسجد-من جهة البيع،على عكس الإمامية الذين فرقوا بينهما.

العام و الخاص:

قسّم الإمامية الوقف إلى نوعين،و جعلوا لكل منهما حكمه و آثاره:

الأول:الوقف الخاص،و هو ما كان ملكا للموقوف عليهم،أي الذين يستحقون استثماره و الانتفاع به،و منه الوقف الذري،و الوقف على العلماء أو الفقراء،و وقف العقار لمصلحة المسجد و المقبرة و المدرسة و ما إليها.و هذا النوع من الوقف هو الذي وقع الخلاف بينهم في أنّه يجوز بيعه،مع الأسباب الموجبة، أو لا يجوز إطلاقا،حتى و لو وجد ألف سبب و سبب.

الثاني:الوقف العام و هو ما أريد منه انتفاع الناس،كل الناس،لا فئة خاصة و لا صنف معين،و منه المدارس و المصحات و المساجد و المشاهد و المقابر و القناطر،و الخانات التي كانت منذ زمان،و عيون الماء،و الأشجار المسبلة للمارة،و في حكمها المساجد و المقابر و المشاهد،لأنها لا تختص بمسلم دون مسلم،و لا بفئة من المسلمين دون فئة.

و قد اتفق الإمامية على أن هذه الأوقاف العامة لا يجوز بيعها،و لا استبدالها بحال،حتى لو خربت،و اوشكت على الهلاك و الضياع،لأنها عندهم،أو عند أكثرهم فك ملك،أي إخراج لها عن ملك مالكها الأول إلى غير مالك،فأصبحت

ص:79

بعد الوقف تماما كالمباحات العامة.و بديهة أنّه لا بيع إلاّ في ملك.بخلاف الأوقاف الخاصة،فإنها تحويل من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليهم بنحو من الأنحاء.أجل،إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها كلية يجوز تحويل الوقف إلى جهة أخرى قريبة من الأولى،كالمدرسة ينقطع عنها الطلاب،بحيث يتعذر اقامة الدروس فيها فيباح تحويلها إلى مكتبة عامة،أو ناد للمحاضرات.

و قد أشرنا في مسألة المسجد إلى أنّه إذا امتنع التملك بالبيع فإنه لا يمتنع بالحيازة،و أشرنا أيضا إلى أن السيد صاحب ملحقات العروة يرد على الفقهاء بعدم الفرق بين الوقف العام و الخاص،و ان السبب الذي يبرر بيع الخاص يبرر أيضا بيع العام،و أنّه لا يعترف بأن الوقف في العام من نوع فك الملك و تحريره.

و إذا افترض أنّه كذلك فلا مانع عنده من البيع،لأن المبرر للبيع في نظره مجرد اتصاف العين بالمالية.

أمّا نحن فنلاحظ على قول الفقهاء،و على قول السيد أيضا.وردنا على الفقهاء بأن عدم الملك أن منع التملك بالبيع.فإنه لا يمنع منه بالحيازة،كما أن الملك بمفرده لا يبرر البيع،فالعين المرهونة مملوكة بلا ريب،و مع ذلك لا يجوز بيعها إلاّ بإذن المرتهن.

و أما ردنا على السيد فهو أن الاتصاف بالمالية وحدها لا يجدي نفعا فان المباحات كالسمك في الماء،و الطير،لها مالية،و مع ذلك لا يجوز بيعها.اذن ينحصر سبيل التملك بالحيازة فقط،كما قلنا.

المقبرة:
اشارة

قدمنا أن المقبرة من الأوقاف العامة،كالمسجد،و ان الإمامية لا يجيزون بيع

ص:80

الأوقاف العامة بحال،حتى و لو خربت و اندرست.و رأيت من المفيد أن أخص المقبرة بهذه الفقرة،لأمرين:

الأول:لمكان الحاجة إلى بيان الحكم،فان كثيرا من مقابر المسلمين قد هجرت،و استعيض عنها.

الثاني:أن للمقبرة حالا تغاير بقية الأوقاف-في الغالب-و تتبين هذه الحال المغايرة مما يلي:

لو علمنا أن إنسانا وقف أرضه مقبرة،و استعملت للدفن جرى عليها حكم الوقف العام،و كانت من الأوقاف التي لا يجوز بيعها،حتى و لو اندرست رسومها،و انمحت آثارها،و بليت عظام موتاها.

و إذا علمنا ان هذه القطعة كانت مواتا،و لم يملكها مالك من قبل،ثم اتخذها أهل القرية مقبرة،كما هي الحال-في الغالب-فلن تكون وقفا من الأساس،لا عاما و لا خاصا،و انما تبقى على ما كانت مشاعا يحوزها من سبق، فإذا دفن ميت في جزء منها لم يجز لغيره نبشه،أو استعماله بما يستدعي الهتك.

و لكن لأي إنسان أن يحيي أي جزء شاء من هذه القطعة بالذات،يحييه بالعمارة، أو الزراعة،إذا كان خاليا من القبور،أو كان فيه قبر قديم،و قد صارت عظام صاحبه ترابا،أو كالتراب.يجوز له ذلك تماما كما جاز له أن يحيي أرضا أعرض عنها،أو هجرها من كان قد أحياها،حتى عادت إلى ما كانت عليه قبل الإحياء.

و إذا جهلنا الحال،و لم نعلم بأن هذه القطعة التي استعملت مقبرة:هل كانت مملوكة،ثم وقفها المالك،حتى تكون الآن وقفا،و تأخذ حكمه،أو أنّها كانت في الأصل مواتا،ثم جعلها أهل القرية مقبرة لموتاهم،إذا كان الأمر كذلك فلا تأخذ حكم الوقف،لأن الأصل عدم الوقف،حتى يثبت العكس بالبينة الشرعية.

ص:81

و تقول:ان الوقف يثبت بالشياع،فلما ذا لا نثبت به وقف المقبرة؟ و جوابنا أنّه إذا حصل الشياع بأن هذه المقبرة هي وقف،كأن يتناقل جيل عن جيل أن فلانا وقفها مقبرة،إذا كان هكذا فإنا نثبت الوقف قطعا.أمّا مجرد الشياع بأن هذه مقبرة فلا يجدي شيئا،إذ المفروض أنّا نعلم بالوجدان أنّها مقبرة، و أنّه لم ينازع في ذلك منازع،و لكن مجرد العلم بأنّها مقبرة لا يثبت الوقفية،إذ قد تكون مقبرة،و لا تكون وقفا،بل تكون مشاعا،و معلوم ان الخاص لا يثبت بوجود العام.

فرع:

إذا حفر انسان قبرا لنفسه،كي يدفن فيه عند ما يوافيه الأجل جاز لغيره ان يدفن فيه ميتا آخر،حتى و لو كان في الأرض سعة،و الأولى ان يتركه له تجنبا لإيذاء المؤمن.

الأسباب المبررة:

قدمنا أن فقهاء الإمامية اتفقوا على أن الأوقاف العامة كالمساجد و المقابر و ما إليها لا يجوز بيعها،و انّهم اختلفوا في بيع الأوقاف الخاصة،كالوقف على الذرية،و على العلماء أو الفقراء إذا وجد السبب المبرر للبيع،و هذي هي الأسباب التي ذكروها لتبرير بيع الوقف الخاص:

1-ان لا تبقى للعين الموقوفة آية منفعة للجهة الموقوف عليها،كالجذع البالي يجف و لا يثمر،و الحصير الخلق لا يصلح إلاّ للنار،و الحيوان إذا ذبح لم يعد صالحا إلاّ للأكل.و ليس من شك أن هذا سبب مبرر للبيع.

ص:82

2-قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة:ان الآلات و الفرش،و ثياب الضرائح،و أشباه هذه،ان أمكن الانتفاع بها مع بقائها على حالها لا يجوز البيع،و ان استغنى عنها المحل،بحيث يستدعي بقاؤها فيه الضياع و التلف جعلت في محل آخر مماثل،فإن لم يوجد المماثل،أو وجد،و كان في غنى عنها،صرفت إلى المصالح العامة.أما إذا لم يمكن الانتفاع بها إلاّ ببيعها، و لزم من بقائها ضياعها،أو تلفها بيعت،و صرف ثمنها في ذاك المحل،ان احتاج إليه،و إلاّ ففي المماثل،ثم في الصالح العام.

3-ان يخرب الوقف،كالدار تنهدم،و البستان لم يعد صالحا للانتفاع به، أو كانت منفعته ضئيلة أشبه بالعدم،فإن أمكنت عمارته،و لو بإجارة إلى سنوات فذاك،و إلاّ جاز البيع،على أن يستبدل بثمنه عين تحل محل العين الاولى،كما يأتي.

4-إذا اشترط الواقف ان تباع العين إذا اختلف الموقوف عليهم،أو قل ريعها،أو غير ذلك من الشروط التي لا تحلل حراما،و لا تحرم حلالا اتبع شرطه.

5-إذا وقع اختلاف بين أرباب الوقف يخشى منه على ضياع الأنفس و الأموال،بحيث لا ينحسم النزاع إلاّ بالبيع جاز و وزع الثمن على الموقوف عليهم،إذا لم ينحسم النزاع إلاّ بهذه السبيل.

هكذا قالوا.و لا أعرف له مدركا إلاّ ما ذكروه من دفع الضرر الأشد.

و معلوم بالبديهة انّه لا يجوز دفع الضرر عن النفس بإدخاله على الغير،و في البيع ضرر على البطون اللاحقة.

6-إذا أمكن أن يباع من الوقف الخرب،و يصرف الثمن لإصلاح الجزء الآخر جاز.

ص:83

7-إذا هدم المسجد فأحجاره و أخشابه و أبوابه،و سائر أدواته لا تأخذ حكم المسجد،و لا حكم العقار الموقوف لصالحه من عدم جواز البيع إلاّ بمبرر، بل يكون حكمها حكم أموال المسجد،و ناتج أوقافه تماما كإجار الدكان يتبع فيها المصلحة التي يراها المتولي.

ثمن الوقف:

إذا بيع الوقف بسبب مبرر،فما ذا نصنع بالثمن؟هل نوزعه على الموقوف عليهم،تماما كما نوزع الناتج،أو يجب أن نشتري به عقارا مماثلا،إن أمكن، و يأخذ الثاني مكان الأول؟ قال المحقق الأنصاري و كثير غيره من ذوي الاجتهاد:«ان الثمن حكمه حكم الوقف الأول من كونه ملكا للبطون،فان كان الثمن عقارا أخذ مكان الأول، و ان كان نقدا اشترينا به ما هو أصلح،و لا يحتاج البدل إلى صيغة الوقف،لأن نفس البدلية تستدعي بطبيعتها ان يكون الثاني كالأول من غير فرق.و لذا قال الشهيد في غاية المراد:«انّه-أي البدل-،صار مملوكا على حد الملك الأول،إذ يستحيل أن يملك على حدة».

ثم قال الأنصاري في المكاسب في آخر كلامه عن الصورة الأولى لصور جواز بيع الوقف:«لو تعذر أن نشتري بالثمن عقارا وضع الثمن عند أمين مترقبين الفرص،و إذا دعت المصلحة للاتجار به جاز،و لكن الربح لا يوزع على المستحقين،كما هو الشأن في الناتج،بل يكون حكمه حكم أصل الوقف،لأنه جزء من المبيع،و ليس كالنماء الحقيقي».

هذا ما قاله المحقق الأنصاري،و هو أعلم بمراده رضوان اللّه عليه،أما أنا

ص:84

فلم أدرك الفرق بين ربح التجارة بمال الوقف،و بين ثمرة العين الموقوفة،فكما أن الثمرة توزع على المستحقين كذلك ينبغي أن يوزع الربح.اللهم إلاّ أن يقال بأن ناتج العقار الموقوف ليس من نوع العين الموقوفة،بل يباينها،أما أرباح التجارة فهي من نوع المال،و لا تختلف عنه في شيء.و متى حصل الفرق اختلف الحكم.و مهما يكن فإن الفكر إذا جال وجد الحل لكل مشكلة و اشكال،و لكن من الوجهة النظرية،و بديهة أن العبرة بالواقع،و الواقع المحسوس أن العرف لا يجد فرقا بين الحالين،و عليه المعول في مثل ما نحن فيه.

و قال الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري:إذا ابتيع بثمن العين الاولى عين جديدة فإن الثانية لا تأخذ حكمها،و لا تكون وقفا مثلها،بل هي تماما كناتج الوقف.يجوز بيعها بدون عروض المبرر إذا رأى المتولي مصلحة في البيع.

و الحق ما ذهب إليه الأنصاري و الشهيد و غيرهما من المحققين من عدم الفرق بين البدل و المبدل منه.

ص:85

كتاب الحبس و السكنى

الحبس:

اعتاد الفقهاء بعد أن ينتهوا من الكلام عن الوقف ان يعقدوا بعده فصلا خاصا يتكلمون فيه عن الحبس،و السكنى،و العمرى،و الرقبى.و يريدون بالحبس أن يبيح الإنسان منفعة العين التي يملكها لجهة من الجهات،على أن تبقى العين على ملكه،فان حبسها في سبيل الخير ينظر:فان لم يحدد بمدة معينة فلا تعود العين إلى المالك،و لا إلى ورثته،تماما كما هي حال في الوقف،سواء أصرح بالدوام أو أطلق،و لم يصرح،و ان حدد الحبس بمدة معينة فلا يحق له أن يرجع إلاّ بعد انقضاء المدّة،حيث تكون المنفعة حينئذ للمالك.

و ان حبس المنفعة و أباحها لشخص فان عيّن وقتا لزم،و يرجع بعده إلى الحابس،أو ورثته،و ان لم يعيّن وقتا تبقى حبسا مدّة حياة الحابس،و بعد موته تصير ميراثا،فقد روى محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أبي جعفر الصادق عليهما السّلام أن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قضى برد الحبيس-أي العين المحبوسة-و إنفاذ المواريث.قال صاحب الشرائع و الجواهر:«إذا حبّس فرسه-مثلا-في سبيل اللّه، أو غلامه على البيت،أو المسجد لزم ذلك،و لم يجز تغييره ما دامت العين باقية بلا خلاف كما اعترف به الحلّي و غيره.أما لو حبّس شيئا على رجل-مثلا-و لم

ص:86

يعيّن وقتا،ثم مات الحابس كان ميراثا،و كذا لو عيّن مدّة و انقضت بلا خلاف و لا إشكال في ذلك،و لا في لزومه،لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم، و رواية محمد بن مسلم».و كل ما يصح وقفه يصح تحبيسه،و لا يلزم الحبس إلاّ بالقبض،فإذا مات الحابس قبل أن يقبض المحبس عليه بطل التحبيس.

السكنى و العمرى و الرقبى:

السكنى و العمرى و الرقبى نوع من الهبة و العطية،و لذا احتاج كل منها إلى الإيجاب و القبول،و تلزم بالقبض،و تختص السكنى بالمسكن،و صورتها أن يقول صاحب المسكن لآخر:سكّنتك هذه الدار،أو لك سكناها،أو هي لك مدّة كذا،و ما إلى هذا،و يتحقق القبول بكل ما دل على الرضا من الساكن،و إذا قرنها بالعمر أو مدّة الحياة،كما لو قال:أسكنتكها عمري،أو عمرك،أو مدّة حياتي،أو مدّة حياتك سميت سكنى و عمري أيضا.و إذا قرناها بمدة معينة كسنة أو أقل أو أكثر سميت سكنى و رقبى أيضا.و ان أطلق،و لم يتبعها بشيء سميت سكنى فقط.

و هي لا تنقل الملك عن صاحبه،و انما تسلط الساكن على استيفاء المنفعة طوال المدّة المعينة،و لهذا يجوز للمالك أن يبيع العين،و لكن السكنى لا تبطل بالبيع، قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«لا ينقض البيع الإجارة و لا السكنى،و لكن يبيع على أن الذي يشترى لا يملك ما اشترى،حتى تنقضي السكنى على ما شرط».

و ليس للمالك إخراج الساكن إلاّ بعد المدّة المعينة،فإذا جعل المدّة طوال حياة المالك،و مات الساكن قبله كان لورثته السكنى إلى أن يموت المالك،و إذا جعل المدّة طوال حياة الساكن،و مات المالك قبله فلا يحق لأحد معارضة الساكن.

ص:87

و إذا أطلق،و لم يعين أمدا فللمالك الرجوع متى شاء،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل أسكن رجلا داره،و لم يوقت؟قال:يخرجه صاحب الدار إذا شاء.

و العمرى و الرقبى لا يختصان بالمسكن،بل يعمان كل ما يصح وقفه من دار و أرض و حيوان و أثاث،و غير ذلك،قال صاحب الجواهر:«بهذا صرح كثير من الفقهاء،بل لا أجد فيه خلافا،بل عن التذكرة الإجماع عليه،للعمومات، و صحيح محمد بن مسلم،قال:سألت الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل جعل لذات محرم جاريته مدّة حياتها؟قال:هي لها على النحو الذي قال صاحب الجارية».

و معنى العمرى أن يحددها بعمر أحدهما،و صورتها أن يقول:أعمرتك هذه الأرض،أو هذا الحيوان،أو هذه السيارة ما حييت أنت،أو ما حييت أنا، و نحو ذلك،و معنى الرقبى أن يحددها بمدة معينة كسنة،أو أقل أو أكثر،فيقول:

أرقبتك هذا،أو لك منفعته أو هو لك مدّة كذا.

و بالإجمال،ما يقترن بالإسكان يسمى سكنى،و بالعمر فعمرى،و بالمدّة فرقبي،و تجتمع السكنى مع العمرى ان اقترنت بعمر أحدهما،و تجتمع مع الرقبى ان اقترنت بالمدّة،و يفترقان عن السكنى في غير الإسكان.

ص:88

كتاب الحجر

معناه:

الحجر،بفتح الحاء و سكون الجيم،معناه في اللغة المنع،و منه قوله تعالى:

وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (1).و عند الفقهاء منع الإنسان من التصرف في أمواله كلها،أو بعضها.و له أسباب،منها الرهن،فان الراهن يمنع من التصرف في ماله المرهون،و منها المرتد،عن فطرة حيث تنتقل أمواله في حياته إلى ورثته،و كذا المشتري يمنع عما اشتراه،حتى يدفع الثمن،و البائع عن الثمن المعين،حتى يسلم المبيع.

و الأسباب التي نتكلم عنها في هذا الفصل خمسة:الجنون،و الصغر، و المرض،و السفه،و الإفلاس.ثم أن الحجر على المريض مرض الموت عما زاد عن ثلث ماله لمصلحة الورثة،و الحجر على المفلس في أمواله لأصحاب الدين.

أما الحجر على المجنون،و الصغير،و السفيه فلمصلحتهم.

شرعية الحجر:

و الحجر ثابت بالإجماع و النص،و منه قوله تعالى:

ص:89


1- الفرقان:22. [1]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام،و هو رشده،و ان احتلم،و لم يؤنس منه رشده،و كان سفيها،أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله.

المجنون:

المجنون محجر عليه في جميع تصرفاته بالنص و الإجماع،دائما كان الجنون،أو أدوارا.و لكن الأدواري إذا تصرف حال إفاقته نفذ تصرفه،و إذا صدر منه تصرف،و لم نعلم أنّه كان في حال الجنون،أو الإفاقة لم ينفذ،لأن العقل ركن في صحة المعاملة،و الشك فيه شك في أصل وجود العقد،لا في صحته،فينفى بالأصل.و بتعبير ثان إذا كان الشك في صحة العقد ناشئا عن الشك في وجود العقل حين العقد نستصحب الحال السابقة،و نبقي ما كان على ما كان.

و المغمى عليه و السكران بحكم المجنون لا يصح شيء منهما حين الإغماء و السكر،و إذا وطأ المجنون امرأة،و حملت منه ألحق به الولد،تماما كوطء الشبهة.

الصغير و علامات البلوغ:

أجمع الفقهاء كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر و غيره على أن الصغير ممنوع من التصرفات المالية و غيرها،حتى يحصل له وصفان:البلوغ و الرشد،

ص:90


1- النساء:5. [1]

و للبلوغ علامات:

1-خروج المني الذي يكون منه الولد،و قد أجمعت المذاهب الإسلامية من دون استثناء على أن الاحتلام يدل على بلوغ الذكر و الأنثى في آية سن،و في آية حال حصل في اليقظة أو في المنام،و لا يحتاج هذا إلى دليل من الشرع،لأن البلوغ من الموضوعات الطبيعية المعروفة لغة و عرفا،لا من الموضوعات الشرعية،و العرف يرى البلوغ في الاحتلام في الذكر و الأنثى،و في الحمل و الحيض في الأنثى.و لصاحب الجواهر كلام في ذلك مفيد جدا سننقله في الأرقام التالية.و مع ذلك فإن الكتاب و السنة يدلان على أن الاحتلام علامة البلوغ، فمن الكتاب الآية 5 من سورة النساء وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ و الآية 59 من سورة النور وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا .

و ثبت بطريق السنة و الشيعة قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:رفع القلم عن ثلاثة:عن الصبي حتى يحتلم،و عن المجنون حتى يفيق،و عن النائم حتى يستيقظ.و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يتم بعد احتلام.

2-أجمعوا على أن الحيض و الحمل يدلان على بلوغ الأنثى،قال صاحب المسالك:«لا خلاف في كونهما دليلين على سبق البلوغ،أما الحيض فقد علق الشارع أحكام المكلف عليه في عدة أخبار،منها قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا تقبل صلاة حائض إلاّ بخمار،و قوله:إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلاّ هذا،و أشار إلى الوجه و الكفين،أما الحمل فهو مسبوق بالإنزال،لأن الولد لا يخلق إلاّ من ماء الرجل،و ماء المرأة كما نبه عليه تعالى بقوله مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ ،أي مختلطة من ماء الرجل و المرأة،فهو دليل على سبق البلوغ».

ص:91

3-ظهور الشعر الخشن على العانة،قال صاحب المسالك:«لا عبرة بالشعر الضعيف الذي ينبت قبل الخشن،ثم يزول،و يعبر عنه بالزغب،و قيدوا الشعر بشعر العانة،لعدم اعتبار غيره،كشعر الإبط،و الشارب،و اللحية،فلا عبرة بشيء من ذلك عندنا-أي فقهاء الشيعة الإمامية-إذ لم يثبت كون ذلك دليلا على البلوغ،و ان كان الأغلب تأخرها عنه».

4-قال صاحب الجواهر:«ان البلوغ من الأمور الطبيعية المعروفة في اللغة و العرف،و ليس من الموضوعات الشرعية التي لا تعلم إلاّ من جهة الشارع، كألفاظ العبادات.بل ذكر أهل اللغة ترتيب أحوال الإنسان،و ان له في كل حال اسما مخصوصا في الرجال و النساء من أول الخلقة إلى حال الشيخوخة.و على كل حال فلا يخفى على من لاحظ كلماتهم أن من المعلوم لغة و عرفا أن الغلام متى احتلم بلغ و أدرك و خرج عن حد الطفولة،و دخل إلى حد الرجولة.و كذا الجارية إذا أدركت و أعصرت فإنها تكون امرأة كغيرها من النساء.نعم يرجع إلى الشرع في مبدأ السن الذي يحصل به البلوغ مثلا إذا حصل فيه الاشتباه بخلاف الاحتلام و الحيض و الحمل و نحوهما مما لا ريب في صدق البلوغ معها لغة و عرفا،و لو للتلازم بينها».

و يدل هذا على مدى ادراك صاحب الجواهر للشريعة و إسرارها،و على أن وظيفة الشارع لا تتناول تحديد الأشياء الطبيعية كالبلوغ و ما إليه،بل ان هذي يرجع في معرفتها إلى أهل الخبرة،و ان الشارع إذا تكلم عنها فإنما يتكلم لا بوصفه شارعا،بل بوصفه أحد العارفين،أو يحمل كلامه على إمضاء قول الخبراء.و تكلمنا عن ذلك مفصلا في كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة فصل«النسب».أجل،أن للشارع أن يعلق أحكامه على السن التي يشاء،

ص:92

و علينا أن نسمع،و نطيع،و لذا ارجع صاحب الجواهر الأمر في معرفة السن إلى الشارع إذا اشتبه البلوغ،و لم نتمكن من معرفته.

و ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام ان سن البلوغ في الذكر خمس عشرة سنة.و في الأنثى تسع سنين فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:متى يؤخذ الغلام في الحدود التامة؟قال:«إذا احتلم،أو بلغ خمس عشرة سنة،أو أنبت قبل ذلك.قال السائل:فالجارية متى تجب عليها الحدود؟قال الإمام عليه السّلام:ان الجارية ليست مثل الغلام،انها متى تزوجت و دخل بها،و لها تسع سنين ذهب عنها اليتم، و دفع إليها مالها،و جاز أمرها في البيع و الشراء» (1).

قال صاحب الجواهر:«هذا المشهور بل هو الذي استقر عليه المذهب».

ثبوت البلوغ بالإقرار:

قال أكثر الفقهاء:ان بلوغ الصبي يثبت بمجرد إقراره و من غير يمين إذا ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت يحتمل بلوغه فيه.أما إذا ادعى البلوغ في السنة فعليه ان يثبت ذلك بالبينة.هذا ما قاله الفقهاء،و سنبين ما فيه في باب الإقرار فقرة«المقر»رقم 1.

و في الجزء الثالث من هذا الكتاب تكلمنا عن البلوغ بفصل مستقل بلغ 8 صفحات تعرضنا فيه لإسلامه،و عبادته و وصيته و صدقته و طلاقه و ضمانه

ص:93


1- قد يظن البعض أن القول ببلوغ الأنثى بالتسع مما تفرد به الفقه الجعفري،و لكن جاء في كتاب ابن عابدين،و هو من أهم المراجع عند الأحناف،جاء في الجزء الخامس ص 100 طبعة 1326 ما نصه بالحرف:«و أدنى مدة البلوغ للذكر اثنتا عشرة سنة،و للأنثى تسع سنين،و هو المختار كما في أحكام الصغار».

و حيازته و عقده و معاملاته في حال التمييز،و عدمه.و من أحب ان يستوعب أحكام الصبي بكاملها فليراجع فصل البلوغ من الجزء الثالث،و ما كتبناه عنه هنا في باب الحجر،و في باب الإقرار الذي يلي هذا الباب.

السفيه:

يفترق السفيه عن الصبي بالبلوغ،و عن المجنون بالعقل،فالسفه من حيث هو يجتمع مع الإدراك و التمييز،لأن السفيه هو الذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصحيحة عند العقلاء.و بكلمة ان السفيه هو الذي يعد في نظر العرف مبذرا،فيهمل أمواله و يضعها في غير مواضعها،على أن يتكرر منه ذلك.قال صاحب الجواهر:«ان البحث في معنى السفيه ليس من وظائف الفقيه فضلا عن الاطناب-ثم قال بعد فاصل طويل-و ان المرجع في تفسيره إلى العرف».

و من السفه أن يتصدق الإنسان بكل أو جل ما يملك:أو يبني مسجدا،أو مدرسة،أو مصحا لا يقدم عليه من كان في وضعه المادي،بحيث يضر البذل به و بمن يعول،و يراه الناس خارجا عن سنة العقلاء و عاداتهم في إدارة أموالهم.

فقد نقل صاحب الحدائق عن تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل اللّه ما كان قد أحسن،و لا وفق للخير،أ ليس اللّه تبارك و تعالى يقول وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ،وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ،يعني المقتصدين.

التخيير:

يحجر على السفيه في خصوص التصرفات المالية،و ان شأنه فيها شأن

ص:94

الصبي و المجنون إلاّ إذا اذن له الولي،و له تمام الحرية في التصرفات التي لا تتصل بالمال من قريب أو بعيد،قال صاحب الجواهر:«لا يمضي بيع السفيه،و لا شراؤه،و لا غير ذلك من عقوده و معاملاته،حجر عليه الحاكم،أو لم يحجر على الخلاف-الآتي-و كذا لو وهب أو أقر بمال،و الضابط المنع من التصرفات المالية بالإجماع،و هو الحجة بعد الاعتضاد بما دل عليه من الكتاب و السنة من غير فرق بين تصرفاته المالية التي تأتي في محلها أولا،و لا بين العين و الذمة،و لا بين الذكر و الأنثى».

حكم الحاكم:

هل يثبت الحجر على السفيه بمجرد ظهور السفه،أو يتوقف الحجر على حكم الحاكم،و لو افترض ان الحاكم حجر عليه بعد ثبوت السفه لديه،فهل يزول التحجير بمجرد زوال السفه،أو يتوقف على حكم الحاكم برفعه عنه؟ لقد اختلف الفقهاء في ذلك،و ذهب المحققون،و منهم صاحب الجواهر و المسالك إلى أن المعول في بطلان تصرفات السفيه على ظهور السفه،لا على حكم الحاكم بالتحجير،فكل تصرف يصدر منه حال السفه يكون باطلا،سواء أحجر عليه الحاكم أو لم يحجر،اتصل السفه بالصغر أو لم يتصل،فلو كان سفيها،ثم حصل الرشد ارتفع عنه الحجر،فإن عاد السفه عاد،فإن زال زال، و هكذا.و ذلك ان السبب الموجب للحجر هو السفه فيجب تحققه،فإذا ارتفع السبب فيجب ان يرتفع المسبب،و هو الحجر.هذا،بالإضافة إلى ظاهر قوله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ حيث علق الأمر بدفع المال على إيناس الرشد،لا على حكم الحاكم.

ص:95

إقرار السفيه و زواجه و طلاقه:

إذا أذن الولي للسفيه بالتصرف المالي،و تصرف جاز بالاتفاق،أما غير التصرفات المالية،كما لو أقر بالنسب،أو حلف أو نذر فعل شيء أو تركه لأصله له بالمال فينفذ،و ان لم يأذن الولي،لأنه بالغ عاقل،و انما منع من التصرف المالي فقط،و هذا ليس منه في شيء.

و لو أقر بدين،أو بإتلاف مال،أو بجناية تستدعي المال لا يؤخذ بإقراره، حتى و لو أسند الدين و الجناية إلى ما قبل السفه و الحجر،لأنه إقرار بما هو ممنوع من التصرف فيه فلا ينفذ،تماما كإقرار الراهن في الشيء المرهون.

و إذا جنى عليه جان بما يوجب المال فله ان يعفو عنه،لأن هذا من باب عدم تحصيل المال،لا من باب تضييعه،و التصرف فيه،و هو ممنوع عن التصرف و التضييع،و لا يجب عليه التحصيل.

و إذا أقر بالسرقة مرتين يقبل في العقوبة،لا في المال،لأنه ممنوع من التصرف المالي دون غيره.

و إذا أودع انسان عند السفيه وديعة،و هو يعلم بسفهه،و باشر السفيه إتلافها بنفسه عمدا أو خطأ ضمن السفيه،لقاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضامن،أمّا إذا تلفت الوديعة من غير مباشرة السفيه،و لكن لتقصيره في حفظها فلا يضمن،لأن المفرط في هذه الحال هو صاحب الوديعة بالذات،حيث أودعه مع العلم بسفهه.و قال جماعة من الفقهاء:لا يضمن إطلاقا،حتى و لو باشر السفيه إتلاف الوديعة بنفسه،لأن التفريط من صاحب الوديعة حاصل في الحالين بإعطائها للسفيه،و قد نهى اللّه عن ذلك بقوله وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ فيكون بمنزلة من ألقى ماله في البحر.

ص:96

و لا يصح زواج السفيه إلاّ بإذن الولي،لأنه يستدعي التصرف المالي،و هو الصداق و النفقة،و يصح طلاقه،لأن الطلاق بيده لا بيد الولي،و إذا صح الطلاق منه مجانا فبالأولى أن يصح منه الخلع بعوض،و لكن لا يدفع إليه مال الخلع،بل إلى وليه،و تصح منه الرجعة بعد الطلاق،لأنها ليست زواجا ابتدائيا،و انما هي تمسك بعقد صحيح سابق.

ثبوت الرشد:

ان علمنا أن هذا سفيه رتبنا عليه آثاره،و ان علمنا بأنه راشد فكذلك،و ان جهلنا الحال فما ذا نصنع؟ الجواب:لقد جرت سيرة الناس،كل الناس،حتى الفقهاء منذ القديم ان يعاملوا مجهول الحال من البالغين معاملة الراشد،حتى يعرف السفه،فيتعامل بعضهم مع بعض دون سؤال بل دون التفات إلى السفه.أجل،من كان عنده مال ليتيم فلا يدفعه إليه،حتى يأنس منه الرشد،لأن المفروض أنّه كان غير رشيد، و ان دفع المال إليه مشروط بالرشد،و لا بد من إحراز الشرط،كما نطقت الآية الكريمة فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً .و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن قوله تعالى:

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ .فقال:هم اليتامى لا تعطوهم،حتى تعلموا منهم الرشد.

و بكلمة فرق بين الرجل المجهول،و بين اليتيم،فالأول يعامل معاملة الرشيد،حتى يثبت العكس،و الثاني يمنع ماله عنه،حتى يثبت الرشد.و يثبت رشد الصبي و الصبية بالاختيار،و بالتواتر،و بشهادة رجلين عدلين في الذكر و الأنثى،لأن شهادة الرجلين هي الأصل،و بشهادة رجل و امرأتين،أو أربع نساء

ص:97

في الأنثى،أما رشد الذكر فلا يثبت إلاّ بشهادة الرجال.

و مثله السفه،فإذا أقيمت دعوى السفه على أنثى فيثبت بشهادة النساء منضمات و منفردات،و لا يثبت السفه على الذكر إلاّ بشهادة الرجال.

المريض:

المراد بالمريض هنا من اتصل مرضه بموته،على أن يكون المرض مخوفا،بحيث يظن الناس أن حياته في خطر،و ليس منه من مرض مرضا مخوفا، ثم عوفي منه،و مات بعد ذلك.

و لمن تمرّض مرض الموت أن يتصرف بمقدار الثلث من أمواله كيف شاء،و لا يحق لأحد معارضته،و ان تصرف فيما زاد عن الثلث ينظر:فإن كان التصرف مضرا بالوارث و مزاحما لحقه،كما إذا وهب،أو حابى:مثل ان يبيع بأقل من ثمن المثل،أو يشتري بأكثر منه-ان كان كذلك توقف نفوذ هذا التصرف على اجازة الوارث فيما زاد عن الثلث،فإن أجاز نفّذ،و إلاّ فلا،لحديث:«للرجل عند موته الثلث،و الثلث كثير».

و ان لم يكن التصرف مضرا بالوارث،و لا مزاحما لشيء من حقوقه،كما إذا باع،أو اشترى بثمن المثل صح تصرفه و لزم،حتى و لو عارض الوارث.و قد تكلمنا عن ذلك مفصلا في كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة بعنوان«تصرفات المريض»و سنعود إليه ثانية في باب الوصايا ان شاء اللّه تعالى.

ص:98

ولي الصغير و المجنون و السفيه

الصغير و المجنون:

تقدم الكلام عن الحجر على الصغير و المجنون و السفيه.و بديهة أنّه لا بد لكل محجر عليه في شيء من ولي أو قيم يرعى ذلك الشيء نيابة عن صاحبه، فمن هو هذا الولي و القيّم؟ تثبت الولاية أولا للأب و الجد له في مرتبة واحدة على الصغير و المجنون الذي اتصل جنونه بالصغر،بحيث يكون لكل من الأب و الجد أن يتصرف مستقلا عن الآخر،و أيهما سبق أخذ بقوله،مع مراعاة ما يجب.و إذا تشاحا يقدم تصرف الجد.و إذا تصرف كل منهما تصرفا يتنافى مع تصرف الآخر أخذ بالمتقدم،و ألغي المتأخر.و مع التقارن في الزمن يقدم الجد.و إذا فقدا معا كانت الولاية على الصغير و المجنون لوصي أحدهما،و الجد أولى من وصي الأب،فإن لم يكن جد،و لا أب،و لا وصي لأحدهما فالولاية للحاكم الشرعي.

قال السيد بحر العلوم في كتاب بلغة الفقيه:«الولاية ثابتة للأب و الجد له من النسب شرعا،فلا ولاية للأب رضاعا،و لا لمن أولده سفاحا،و ثبوت الولاية لهما بالاشتراك بينهما مورد اتفاق النص و الفتوى،و ان اختص الأب في أكثر

ص:99

النصوص إلاّ أن المراد منه ما يشمل الجد.بل يقدم عقده على عقد الأب مع المعارضة-ثم قال بعد فاصل طويل-أما الولاية للوصي المنصوب من الوصي قيما على أطفاله فهي ثابتة بالنص و الإجماع،و لكن بحسب ما هو مجعول له من الموصي من حيث الإطلاق و التقييد.فإن أطلق فلا إشكال في نفوذ ما يتولى من مصالحهم في حفظ نفوسهم و أموالهم،و أخذ الحقوق الراجعة إليهم،و غير ذلك من بيع و اجارة و مزارعة و مساقاة،و نحو ذلك-مما يتعلق بإصلاح أموالهم،كما لا إشكال في المنع عن فعل بعض ما كان للأب جوازه من حيث الأبوة.و لعل من ذلك-أي من المنع-تزويج الصغير و الصغيرة،و ان كان قيما».

و سنتعرض لهذه المسألة الهامة،و نبين ما هو الحق فيها في باب الزواج ان شاء اللّه.

الجنون المتجدد بعد الرشد:

فرّق جماعة من الفقهاء بين الجنون المتصل بالصغر،و بين الجنون المتجدد بعد البلوغ و الرشد،و قالوا:ان الولاية للأب و الجد تثبت على المجنون الأول،أمّا الثاني فإنها للحاكم،لأن ولايتهما قد سقطت و الساقط لا يعود إلاّ بدليل.و من طريف ما قرأته من الأدلة على ذلك ما نقله صاحب مفتاح الكرامة عن البعض من أن العلماء ورثة الأنبياء،و لا شك أن الولاية ثابتة للأنبياء فتكون للعلماء بمقتضي الوراثة.

و يلاحظ بأن العلماء يرثون الأنبياء في بيان الأحكام الشرعية،و الدعوة إلى الدين،و القيام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و فصل الخصومات و المحافظة على أموال القاصرين و الغائبين،أما نيابتهم عن الأنبياء في السلطة،

ص:100

و أنّهم أولى بالناس من أنفسهم فينبغي أن يقام ولي على مدعيها،تماما كما يقام على المجانين و الأيتام.

و قال صاحب الجواهر و صاحب مفتاح الكرامة:الأحوط توافق الجد و الأب مع الحاكم،أي ان التصرف بمال المجنون الذي فصل جنونه عن صغره يكون برأي الجميع،و قال السيد الأصفهاني في الوسيلة:لا يترك هذا الاحتياط.

و ليس من شك ان الاحتياط حسن لا ريب فيه،و لكنه هنا مندوب لا واجب،لأن الأدلة التي أثبتت الولاية للأب و الجد لم تفرق بين الحالين،و عليه يقدم الأب و الجد على الحاكم،لأن الحكم يدور مدار موضوعه وجودا و عدما.

هذا،إلى أن شفقة الأب لا توازيها شفقة الحاكم،و أي عاقل يستسيغ أن يعين الحاكم قيما أجنبيا على قاصر مع وجود أبيه الجامع لكل الشروط و المؤهلات؟

السفيه:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة على أن الصبي إذا بلغ رشيدا،ثم حدث السفه بعد الرشد تكون الولاية للحاكم دون الأب و الجد، و اختلفوا فيما إذا اتصل السفه بالصغر،أي بلغ سفيها منذ البداية،فمن قائل بأن الولاية عليه للحاكم أيضا،و قائل بأنّها للأب و الجد،و هو الحق،لاستصحاب بقاء ولاية الأب و الجد،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«ان احتلم و لم يؤنس منه الرشد، و كان سفيها فليمسك عنه ماله وليه».و ليس من شك أن المراد بوليه هنا من كان وليا قبل البلوغ،و هو الأب و الجد.

ص:101

شروط الولي:

يشترط في الولي و الوصي البلوغ و الرشد،و الاتحاد في الدين،أما العدالة فهي شرط في الحاكم الشرعي،لأن الولاية العامة نيابة عن المعصوم.و لا تكون هذه،و لن تكون إلاّ لمن اتقى اللّه.أما غير الحاكم فقد ذهب المشهور بشهادة الشيخ الأنصاري في المكاسب إلى أنّها ليست شرطا للأصل،و لإطلاق أدلة الولاية،فإنها لم تقيد بالعدالة.و بديهة أن العدالة هنا وسيلة للحفظ و الغبطة، و ليست غاية في نفسها،فالمهم أن يكون التصرف في مال القاصر على أساس المصلحة،سواء أصدر من عادل،أو من فاسق.

و اتفقوا على أن تصرفات الولي التي تكون خيرا و نفعا للمولى عليه تنفذ، و ان الضارة منها لا تنفذ،لمنافاتها مع الغرض الذي شرعت الولاية من أجله، و اختلفوا فيما لا نفع فيه و لا ضرر من التصرفات.

فقال جماعة:تنفذ إذا كانت من الأب و الجد فقط،لأن الشرط في تصرفهما عدم المفسدة،لا وجود المصلحة،و يشعر به قول الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:

«ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:أنت و مالك لأبيك،ثم قال-أي رسول اللّه-لا نحب أن يأخذ الأب من مال ابنه إلاّ ما يحتاج إليه مما لا بد منه،ان اللّه لا يحب المفسدين».

و المفهوم من هذا أن التصرف في مال الطفل مع الفساد لا يجوز إطلاقا، حتى من الأب.هذا بالقياس إلى الأب و الجد،أما الحاكم و الوصي فإن تصرفهما لا ينفذ إلاّ مع المصلحة.

و قال آخرون:لا فرق بين الأب و الجد و الوصي من أن تصرف الجميع لا ينفذ إلاّ فيما فيه المصلحة و الغبطة،بدليل قوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإن إطلاقه يشمل الجميع.

ص:102

أما الشيخ الأنصاري في المكاسب فقد اختار التفصيل،و قال:ان تصرف الأب و الجد يكفي في صحته عدم المفسدة،أما تصرف غيرهما فلا بد فيه من المصلحة،و قال:«وفاقا لغير واحد من الأساطين الذين عاصرناهم»و استدل بإطلاق الأدلة التي أثبتت الولاية للأب و الجد إطلاقا يشمل التصرف الذي فيه المصلحة،و الذي لا مصلحة و لا مفسدة فيه،و الذي فيه المفسدة،خرج الأخير بالدليل فبقي الأولان على دلالة الإطلاق،أما الآية الكريمة،و هي لا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن فأجاب بأنّها مخصصة بما دل على أن للجد سلطة التصرف بمال الطفل فيما ليس فيه مفسدة.

و مهما يكن،فإن للولي و القيم أن يتجر بمال القاصر،أو يعطيه لمن يتجر به،و ان يشتري له عقارا،أو يبيع من ماله،أو يرهنه بشرط المصلحة و النصيحة، إمّا إقراض ماله فلا يجوز إلاّ مع الخوف عليه من الضياع.

و قال جماعة من الفقهاء:ليس لولي الصبي القصاص المستحق له،لأن الصبي ربما رغب في العفو عند البلوغ،كما أنّه ليس للولي أن يعفو،لأن الصبي قد يرغب في القصاص تشفيا بعد كبره.

و ذهب جماعة آخرون،منهم العلامة الحلي إلى أن للولي القصاص و العفو و الصلح ببعض مال الطفل مع المصلحة،و هو الحق.

و للأب و الجد أن يزوجا الطفل و المجنون،و ليس للوصي ذلك،أما الحاكم فيزوج المجنون فقط مع المصلحة.و يجوز للأب و الجد أن يطلقا عن المجنون لوجود النص،و ليس لهما و لا للحاكم و لا لأحد أن يطلق عن الصبي،لعموم:

الطلاق بيد من أخذ بالساق،و قد سئل الإمام عليه السّلام:هل يجوز طلاق الأب؟قال:

«لا».و إذا لم يجز أن يطلق الأب فبالأولى غيره.

ص:103

و للولي أن يأخذ للقاصر بالشفعة أو يدع حسبما تقتضيه المصلحة،قال صاحب مفتاح الكرامة:«ان للولي أن يرشي الظالم من مال القاصر لتخليصه و إطلاقه،بل لو طمع الظالم في ماله وجب عليه أن يعطيه ما لا يقدر على دفعه إلاّ به».

و يجب على الولي أن يخرج من مال المولى عليه الحقوق الواجبة، كالديون و عوض الجنايات و ان لم تطلب من الولي،أما نفقة الأقارب الواجبة على الطفل فلا يدفعها الولي لمستحق إلاّ مع المطالبة.

و على الولي و القيم الإنفاق على المولى عليه بالمعروف،و لا يجوز التقتير و لا الإسراف.

و له،إن كان فقيرا،أن يأكل من مال القاصر بالمعروف،و ليس له ذلك ان كان غنيا،لقوله تعالى وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ،وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (1).

و كل من الولي و القيم أمين لا يضمن إلاّ بثبوت التعدي أو التفريط،و يقبل قوله في الإنفاق بالمعروف،و في البيع و الشراء و القرض و غيره لمصلحة،كما يقبل قوله في التلف من غير تفريط،فإذا بلغ الصبي و ادعى على الولي التعدي أو التفريط و عدم المصلحة فعلية البينة،و على الولي و القيم اليمين،لأنه أمين.

و يجوز للولي أن يشتري من مال المولى عليه لنفسه،و ان يبيعه من ماله، كل ذلك مع المصلحة،أو عدم المفسدة في البيع و الشراء على الخلاف الذي أشرنا إليه،و قد سئل الإمام عليه السّلام:هل للوصي أن يشتري من مال الميت إذا بيع، فمن زاد يزيد،و يأخذ لنفسه؟قال الإمام:يجوز إذا اشترى صحيحا.و إذا جاز

ص:104


1- النساء:6. [1]

ذلك للوصي فبالأولى للولي.بل قال صاحب الجواهر في باب الوصايا:«يجوز للأب أن يشتري من مال ولده الصغير بالإجماع».

و سنعود للحديث عن الولي و الحاكم الشرعي في باب الطلاق و الزواج، و عن الوصي و تصرفاته في باب الوصايا ان شاء اللّه تعالى.

ص:105

المفلس

معناه:

تقدم الكلام عن المجنون و الصغير و السفيه و المريض،و بقي المفلس- بكسر اللام-و هو في اللغة من لا مال،و لا عمل له يسد حاجته.و عند الفقهاء من حجر الحاكم عليه لديون تستغرق جميع أمواله،فالمديون لا يمنع من التصرف في أمواله بالغة ما بلغت ديونه إلاّ بعد أن يحجر عليه الحاكم،قال صاحب الجواهر:

«المفلس شرعا من حجّر عليه لقصور ماله عن ديونه.فقبل الحجر لا يسمى المديون مفلسا شرعا،و ان استغرقت ديونه أمواله،و زادت،و يشهد لذلك التأمل في كلمات الفقهاء».

الشروط:

لا يحجر الحاكم على المديون إلاّ بعد توافر الشروط التالية :

1-أن تثبت الديون عند الحاكم.بداهة،أن الحجر يقع من الحاكم،فلا بد من ثبوت الديون عنده بإقرار المديون،أو البينة،و ما إليها من طرق الإثبات.

2-ان تكون أمواله قاصرة عن وفاء الديون التي عليه،فإذا كانت زائدة على الديون أو مساوية لها فلا يحجر عليه بالإجماع،قال صاحب المسالك:«هذا

ص:106

هو الحكم عند علمائنا أجمع،و الدائن-في مثل هذه الحال-يطالب المديون فان لم يسدد ما عليه يرفع الدائن الأمر إلى الحاكم،و الحاكم بدوره مخير بين حبس المديون إلى أن يقضي ما عليه،و بين أن يبيع متاع المديون،و يقضي به الدين».

3-أن يكون الدين حالا غير مؤجل،لعدم الاستحقاق مع التأجيل.هذا، إلى أن اللّه سبحانه قد يسهل الوفاء عند حلول الأجل،و إذا كان بعض الدين حالا، و بعضه مؤجلا نظر:فان وفت أموال المديون بالدين الحال فلا حجر،و ان قصرت يحجر.و إذا حجر بالديون المعجلة تبقى المؤجلة إلى حينها.قال صاحب الجواهر:«لو كان بعضها حالا حجر عليه مع القصور و سؤال أربابها، فيقسم ماله حينئذ بينهم،و لا يدخر للمؤجلة شيء».

4-أن يكون الحجر بطلب الدائنين كلهم،أو بعضهم،لأن الحق للغرماء، فلا يتبرع الحاكم من تلقائه بالحجر لأجلهم،إلاّ أن تكون الديون لمن للحاكم الولاية عليه،كاليتيم و المجنون و السفيه.

بعد الحجر:

اتفقوا على أن المفلس يمنع من التصرف في أمواله التي كانت موجودة حين التحجير،و اختلفوا فيما إذا تجدد له مال بعده،فهل يمنع منه أيضا لمصلحة أرباب الدين،أو لا؟ و للفقهاء في ذلك قولان أصحهما أنّه لا يمنع من التصرف فيما يحصل له من المال بعد التحجير،لأن الحجر تعلق بأمواله الحاضرة حين الحجر فلا يشمل غيرها،و منعه عن التصرف بالمال المتجدد يحتاج إلى حكم الحاكم بالحجر ثانية، إذ لا حجر من غير حكم.

ص:107

و مهما يكن،فان المفلس لا يمنع من التصرفات غير المالية التي لا تضر بمصلحة الدائنين.قال صاحب الجواهر:«لا يمنع من الزواج و الطلاق و القصاص و العفو عنه،و الإقرار بالنسب،و ما إلى ذلك مما ليس من التصرفات المالية.كما لا يمنع من التصرفات المحصلة للمال،كالاحتطاب و الاصطياد،و قبول الهبة و الوصية،و الشراء في الذمة و القرض».

و يبيع الحاكم أموال المفلس،و يوزعها بين أرباب الدين لكل بنسبة ماله من حق.قال الإمام الصادق عليه السّلام:كان أمير المؤمنين عليه السّلام يحبس إذا التوى على غرمائه،ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص.

أجل،من وجد من الغرماء عين ماله التي كان قد اشتراها منه المفلس نسيئة كان بها أولى دون الغرماء جميعا،حتى و لو لم يكن هناك غيرها،و له أن يدعها، و يشارك الغرماء في الاستيفاء حسب حصته،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل لا أجد فيه خلافا معتدا به،للحديث المروي في كتب الفقهاء عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أفلس الرجل،و وجد سلعته فهو أحق بها.و سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تركبه الديون،فيوجد متاع رجل آخر عنده بعينه؟قال:لا يحاصه الغرماء».

و الحقيقة ان هذا يدخل في خيار التفليس،أي أن صاحب العين له الخيار بين إمضاء البيع،و الضرب مع الغرماء بثمن المبيع،و بين الفسخ و الرجوع عن البيع،لفلس المشتري.

إقرار المفلس:

إذا أقر المفلس بدين لشخص بعد التحجير،فهل يقبل منه،و يشارك المقر

ص:108

له الغرماء في تقسيم المال الموجود؟ اتفقوا كلمة واحدة على أن الدّين يثبت في ذمة المفلس للمقر له،و اختلفوا في أن المقر له:هل يشارك الغرماء في المال الموجود؟قال الشهيد الثاني في المسالك:الأقوى عدم المشاركة.و قال صاحب الجواهر:«هو-أي عدم المشاركة-قوي جدا.لصدق كون الإقرار في حق الغير فيكون ممنوعا».يريد أن إقرار المفلس لا ينفذ على الغرماء الذين تعلق حقهم بالمال الموجود.و بتعبير ثان أن المفلس لا يملك التصرف في ماله فلا يملك الإقرار به لأحد،لا صراحة و لا ضمنا.

المستثنيات:

يستثني من الحجر على أموال المفلس دار سكناه،و كل ما تدعو إليه الضرورة كثيابه،و قوت يوم له،لمن يعول،و الكتب التي لا يستغني عنها أمثاله، و أدوات الصناعة التي يكتسب منها قوته،و أثاث البيت الضروري،كالفرشة و اللحاف،و القدر و الإبريق،و ما إلى ذلك مما لا غنى لأحد عنه في حالته الراهنة.

و الذي ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام استثناء الدار و الخادم،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تباع الدار و لا الجارية في الدين،لأنه لا بد للرجل من ظل يسكنه، و خادم يخدمه.و قال:أيضا لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين.

و قد استكشف الفقهاء من استثناء البيت و الخادم استثناء كل ما تدعو إليه الضرورة الماسة،بل ان استثناء البيت و الخادم يدل على استثناء الثياب و ما في حكمها بطريق أولى،و هذه الأولية يعبر عنها الفقهاء بمفهوم الموافقة تارة، و بفحوى الخطاب أخرى.هذا،إلى أنّه قد ثبت بالنص استثناء الكفن و تقديمه

ص:109

على حقوق الغرماء،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:«أول ما يبدأ به من المال الكفن،ثم الدين،ثم الوصية،ثم الميراث».

قال صاحب الجواهر:و إذا استثنى الكفن الذي هو كسوة الميت فإن الحي أعظم حرمة منه.

حبس المديون:
اشارة

يقسم المديون بالنظر إلى ثبوت عسرة و يسره إلى الأقسام التالية :

1-ان يكون له مال ظاهر

،بحيث يعد عند عارفيه من أهل اليسار،و هذا ان امتنع عن الوفاء رفع الدائن أمره إلى الحاكم،و الحاكم بدوره مخير بين حبسه، حتى يوفي المديون بنفسه ما عليه من الدين،و بين ان يبيع الحاكم بعض أمواله، و يفي عنه،لحديث:«لي الواجد تحل عقوبته و عرضه»و اللي المطل،و الواجد الميسور،و العقوبة الحبس،و ما إليه من التعزير الذي يراه الحاكم،و العرض الاغلاظ للمديون بالقول،كأن يقول له:يا ظالم و نحوه.و قد ثبت أن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام كان يحبس المديون،إذا ماطل أرباب الدين،ثم يأمر بقسمة أمواله بين الغرماء.و هذا الحكم يشمل كل من ثبت يسره و مقدرته على الوفاء بإقراره أو بالتواتر أو بالبينة.

2-ان لا يكون له مال ظاهر

،و لم يكن عنده مال معهود في السابق،و ان يقول:لا أملك شيئا فإن صدقه الغريم وجب عليه الانتظار و إلاّ فعلى الغريم البينة، و على المديون اليمين،لأن الغني و اليسر أمر حادث،و الأصل عدمه،و متى حلف يمهل إلى ميسرة،لقوله تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ .

3-أن لا يكون له الآن مال ظاهر

،و لكن كان غريمه قد أقرضه مالا،أو

ص:110

باعه سلعة،و لم يقبض ثمنها،و المدعي يدعي تلفها،و هذا يحبس،حتى يثبت الإعسار،لأن الأصل بقاء ذلك الدين الذي كان في يده حتى يثبت العكس.

4-أن لا يكون له مال ظاهر

،و لكن كان له مال معهود في السابق،و ادعى تلفه،و هذا يحبسه الحاكم حتى يثبت إعساره،لأن الأصل بقاء المال الذي كان عنده،حتى يثبت الإعسار،و على هذا تحمل الرواية القائلة:ان عليا عليه السّلام كان يحبس،حتى يثبت الإعسار.

و يثبت الإعسار بأن تشهد البينة أن المال الذي كان عنده قد تلف،و لم يبق منه شيء.و تقبل هذه الشهادة لأن مفادها الإثبات،و هو التلف.و ان لم تشهد البينة على التلف،بل شهدت بالإعسار دون أن تبين السبب فلا تقبل إلاّ إذا علمنا أن هذه البينة مطلعة على أحوال المديون بالمعاشرة الأكيدة،لأن الشهادة بالإعسار شهادة بالنفي و عدم المال.و بديهة أن الشهادة بالنفي غير مسموعة إلاّ أن ترجع إلى الإثبات،و لا يمكن أن تفيد الإثبات هنا إلاّ إذا اطلع الشهود على حال المديون،و عرفوا معرفة حسية بأنه لا يملك شيئا،و ان لم تكن البينة مطلعة على حقيقته كان للغرماء اليمين على المديون.هذا شرح لما جاء في كتاب الجواهر و المسالك دون الإشارة إلى الخلاف بين الفقهاء،بل نسبه صاحب الحدائق إليهم بلا استثناء.

مسائل:
1-إذا قسم الحاكم مال المفلس على الغرماء،ثم ظهر غريم لم يكن يعلم

به

،و ليس له عين مال كي يختار الفسخ و يسترجعها بسبب الفلس،فهل تنتقض القسمة،و تبطل من رأس،أو تبقى القسمة،و لكن يرجع الغريم الجديد على كل

ص:111

واحد من الغرماء بحصة يقتضيها الحساب؟ و للفقهاء في ذلك قولان أصحهما ما ذهب إليه صاحب الشرائع و الجواهر و المسالك،و غيرهم،و هو بطلان القسمة من رأس،و ذلك أن القسمة كانت مبنية على الظاهر من انحصار الحق بالغرماء المعروفين.و قد تبين خلافه،و المبني على الباطل باطل،تماما كما لو اقتسم الشركاء،ثم ظهر شريك آخر.

2-سبق أن من وجد عين ماله بين أموال المفلس فهو أولى بها من سائر

الغرماء

،لأن له،و الحال هذه خيار الفسخ،فهل يسري هذا الحكم على غرماء الميت،بحيث إذا مات انسان،و عليه ديون،و وجد أحد الدائنين عين ماله ما زالت قائمة في تركة الميت كان أولى بها من الجميع؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن تركة الميت ان كانت وافية كافة لسد الديون بكاملها كان لصاحب العين أخذها،و ان لم تف التركة بجميع الديون التي على الميت فليس له ذلك،بل يكون شأنه شأن سائر الغرماء على السواء.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل باع من رجل متاعا إلى سنة فمات المشتري قبل أن يحل المال،و أصاب البائع متاعه بعينه،إله أن يأخذه إذا حققه-أي عرفه بالذات-؟قال الإمام عليه السّلام:ان كان عليه دين،و ترك نحوا أي مثل ما عليه-فليأخذ المتاع ان حققه،فإن ذلك حلال له،و لو لم يترك-أي الميت-نحوا من دينه فإن صاحب المتاع كواحد ممن له عليه شيء،يأخذ بحصته،و لا سبيل له على المتاع.

3-ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن من اشترى

أرضا فغرسها،أو بنى فيها،ثم أفلس كان صاحب الأرض أحق بأرضه

،و إذا اختار أخذها فليس له ازالة الغرس أو البناء،بل يجب بقاؤه لحساب المفلس من غير

ص:112

أجرة،لأن المفلس قد زرع و غرس بحق في ملكه،فيكون عمله محترما،قال صاحب الجواهر:«لم يذكر أحد استحقاق صاحب الأرض أجرة البناء و الغرس».

4-يرتفع الحجر عن المفلس بمجرد تقسيم أمواله بين الغرماء

،و لا يحتاج الرفع إلى اذن الحاكم،و كذا لو اتفق الغرماء على رفع الحجر عنه،لأن الحق لهم،و هم بالنسبة إلى أموال المفلس تماما كالمرتهن بالنسبة إلى العين المرهونة.

5-ليس من شك أن المديون القادر على الوفاء إذا جازت عقوبته بالحبس

مع المماطلة جاز منعه من السفر

،مع الخوف على الحق إذا سافر،كما إذا كان السفر بعيدا أو خطرا،أمّا إذا كان له وكيل أو ضامن،بحيث يكون الحق محفوظا فلا يجوز منعه بحال.

قال صاحب مفتاح الكرامة في باب الحجر:«ان وفاء الدين مع المطالبة و التمكن واجب على الفور فلصاحب الدين المنع من كل ما ينافي أداء حقه،و هذا الحكم لا ريب فيه،و ليس هو في الحقيقة منعا من السفر،كما يمنع السيد عبده، و الزوج زوجته،بل هو شغل له عن السفر يرفعه إلى الحاكم،و مطالبته،حتى يوفي الحق،و حبسه ان ماطل».

و بهذا يتبين أن القرارات التي تتخذها المحاكم الشرعية بلبنان لمنع سفر المدعى عليه قبل ان تفصل الدعوى،و يثبت عليه الحق،ان هذه القرارات لا تستند إلى أصل في الشريعة الإسلامية،بل إلى مادة قانونية وضعية.

و الحمد للّه على العافية و الإعفاء من هذه الأسواء.

ص:113

كتاب الإقرار

معناه:

معنى الإقرار لغة و عرفا و شرعا واحد،و هو الاعتراف بحق ثابت.و يندرج في لفظ الحق كل الحق،سواء أ كان للّه،كالإقرار بما يوجب الحدود و التعزيرات، أو للناس عينا كان أو منفعة أو قصاصا.و من الإقرار الاعتراف بالحق المعلق على شيء،مثل أن يقول لفلان عليّ مائة بندر إذا حصل الشيء الفلاني،أو دخل شهر كذا،فالحق ثابت الآن،و لكن ليس للمقر له المطالبة به إلاّ في المستقبل.قال صاحب الجواهر:«و إنكار صدق الإقرار عليه،أو عدم جريان حكم الإقرار من المنكرات التي لا تسمع من مدعيها».و مهما يكن فقد اجمع الفقهاء على أن الإقرار ليس من العقود و الإيقاعات في شيء،لأنه لا يمت إلى الإنشاء بسبب.

شرعية الإقرار و حجيته:

ليس من شك في شرعية الإقرار،و أنّه حجة نافذة بحق المقر،قال صاحب الجواهر:«الأصل في شرعية الإقرار إجماع المسلمين،أو الضرورة-أي البديهة- بل الكتاب و السنة المقطوع بها».

فمن الكتاب قوله تعالى أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا 1.و قوله سبحانه وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ 2.

ص:114

فمن الكتاب قوله تعالى أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا (1).و قوله سبحانه وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ (2).

و من السنة الحديث النبوي المتواتر:إقرار العقلاء على أنفسهم جائز،أي نافذ.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا أجيز شهادة الفاسق إلاّ على نفسه.و هناك روايات كثيرة منتشرة في أبواب الفقه حسب المناسبات،و قال الفقهاء:لو قامت البينة على المدعى عليه،ثم اعترف بالحق حكم عليه بإقراره لا بالبينة.

و يتقوم الإقرار بأربعة أركان:الصيغة،و المقر،و المقر له،و المقر به.

و التفصيل فيما يلي:

الصيغة:

هل الإقرار من مقولة اللفظ،بحيث لا يشمل الكتابة،و لا الإشارة،و لا الفعل،أو هو أعم و أشمل؟ قال صاحب الجواهر:«ان إيكال الإقرار إلى العرف في مفهومه و مصداقه أولى من التعرض لتحديده-و بعد فاصل طويل قال-فان العرف هو الذي يميز بين أفراد الإقرار،حتى انّه في القضية الواحدة يجعل-أي العرف-قائلها مدعيا من جهة،مقرا من جهة أخرى».

و هذا حق،لأن الشارع لا حقيقة له خاصة بمعنى الإقرار،و المرجع لمعرفة مفهومه،و تمييز افراده عن افراد غيره هو العرف.و العرف يرى تحقق الإقرار بكل ما يدل على مراد المقر،لفظا كان،أو فعلا،أو إشارة،أو كتابة.

فمن الإقرار باللفظ أن يقول المقر:لك عندي،أو عليّ،أو هذا لك،و ما

ص:


1- آل عمران:81. [1]
2- التوبة:102. [2]

إلى ذاك بأية لغة تكون،و من ذلك-نعم و أجل و بلى في جواب من قال:لي عليك كذا،و من الفعل أن تقول لشخص:لي عليك مائة،فيدفعها لك حالا.و كذا يتحقق الإقرار بكل من الإشارة و الكتابة المعبرة عن قصد المشير و الكاتب،سواء أحصلت من القادر على النطق،أو غيره،فالعبرة بالتعبير عن المراد.قال صاحب المسالك:«لما كان الغرض من الإقرار الإخبار عما في الذمة،أو في العهدة فلا يختص بلفظ معين،بل ما دل على المراد».

فاللفظ-اذن وسيلة للتعبير عن المراد،و ليس غاية في نفسه،و عليه فكل ما دل على المراد،حتى الفعل و الإشارة و الكتابة فهو إقرار،أو يعطى حكم الإقرار.

أجل،الفرق بين اللفظ و غيره من وسائل التعبير ان ظاهر اللفظ حجة معتبرة عند العقلاء و الفقهاء،و ان أفاد الظن دون العلم،أما غيره كالفعل و الإشارة و الكتابة فليس بحجة إلاّ إذا أفادت العلم بالقصد،و عليه يكون العلم هو الحجة،لا نفس الفعل و الكتابة و الإشارة.

و بالمناسبة ننقل ما ذكره صاحب الجواهر في أول باب الوصية،قال ما نصفه بالحرف:«ضرورة حجة ظواهر الأفعال كالأقوال،بل الكتابة أخت الألفاظ،و هي المرتبة الثانية للدلالة في الوضع على ما في النفس،فتكون أولى من الأفعال».

و مهما شككنا فلسنا نشك في أن فقهاء المسلمين و غيرهم من الذين اعتبروا الكتابة وسيلة من وسائل إثبات الحق قد رأوا أنّها تفيد العلم بالمراد، و الذين لم يعتبروها حجة و وسيلة للإثبات الحق يرون أنّها لا تفيد العلم به،و عليه فليس الخلاف بين هؤلاء جوهريا،بل صغرويا يرجع إلى التشخيص و التطبيق.

و يشترط في صيغة الإقرار التنجيز،و عدم التعليق،قال صاحب الجواهر:

«لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط التنجيز،لأنه اخبار عن حق ثابت،و معنى

ص:116

التعليق أن الحق لم يثبت،و لا يثبت إلاّ بعد أن يوجد الشيء المعلق عليه».فإذا قال:هذا لك،ان شاء اللّه،أو ان شاء زيد فلا يكون إقرارا،و كذا لو قال:ان شهد فلان فحقك ثابت في ذمتي،أو هو صادق فلا يلزم المقر بشيء،إذ من الجائز أن يكون معتقدا بأن فلانا لا يشهد،قال صاحب المسالك:«ان هذا الاستعمال شائع في العرف،يقول الناس في محاوراتهم:ان شهد فلان بأني لست لأبي صدقته، و هو لا يريد سوى أنّه لا يشهد بذلك للقطع بأنّه لا يصدقه لو قال فلان ذلك».

هذا،إلى أن أمر الطريق الذي يثبت به الحق بيد الشارع،لا بيد المتداعيين، فإذا قال أحدهما:أرضى أن يثبت الحق عليّ بهذا الطريق فلا يلتفت إلى قوله، حتى و لو كان قد اتفق مع خصمه على ذلك.و بكلمة،هناك فرق بين الإقرار بالحق،و بين الإقرار أو الرضا بالطريق الذي يثبت به الحق،فإن الأول يلزم به المقر،أما الثاني فأمره بيد الشارع.

المقر:

يشترط في المقر:
1-العقل و البلوغ

،بديهة أن قول المجنون لا يلزمه بشيء،و كذا إقرار الصبي،و ان كان مميزا،و يؤخذ بإقراره بالوصية بالمعروف إذا بلغ عشرا،لأن له أن يوصي بذلك في هذا السن،و من ملك شيئا ملك الإقرار به.

و هل يؤخذ بإقرار الصبي إذا أذن له الولي بالإقرار؟ قال في الجواهر نقلا عن تذكرة العلامة الحلي:«لا يقبل إقراره عند علمائنا، حتى و لو اذن له الولي،و حتى و لو كان مراهقا و مميزا،لأنه مسلوب العبارة إقرارا و إنشاء».

ص:117

و استثنى الفقهاء من عدم الأخذ بإقرار الصبي،استثنوا إقراره بالبلوغ بسبب الاحتلام إذا صدر الإقرار في وقت يمكن أن يكون فيه بالغا كابن عشر سنين، قالوا:يؤخذ بإقراره من دون يمين،لأنها لا تصح إلاّ من البالغ فلا يعقل ثبوت البلوغ بها،و بتعبير ثان ان القول بأن البلوغ يتوقف على اليمين تماما كالقول بأن وجود القلم يتوقف على وجود الكتابة،بحيث لا يوجد القلم إلاّ بعد أن توجد الكتابة،مع العلم بأن الكتابة لا توجد إلاّ بعد وجود القلم فيلزم أن يتوقف الشيء على نفسه،و هو المعروف عند أهل المنطق بالدور الباطل (1).قال صاحب مفتاح الكرامة«ظاهر الفقهاء قبول دعواه بلا يمين،و لو كان في مقام الخصومة، و الجارية كالصبي إذا ادعت البلوغ بالاحتلام».

أمّا صاحب الجواهر فبعد أن نقل هذا القول عن عديد من الفقهاء،و أن أحدا منهم لم يحك الخلاف فيه،بعد هذا رد عليهم بقوله:ان مجرد إمكان البلوغ غير كاف في صحة أقوال الصبي.ضرورة عدم كون الإمكان من الأدلة.أما ظهور الصدق في أقوال المسلمين فإنما هو بعد ثبوت بلوغهم.و قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في الوسيلة:ان قبول قوله بلا يمين أو مع اليمين محل تأمل و اشكال.

و نحن على هذا الرأي،إذ لا دليل على الأخذ بقوله من النقل،و لا من العقل،و الفقهاء الذين أخذوا بقوله قد استندوا إلى قاعدة القبول فيما لا يعلم إلاّ من قبله،و لا دليل على صحتها بنحو الإطلاق،بحيث يشمل ما نحن فيه.

و مهما يكن،فقد اتفقوا على أنّه لو ادعى البلوغ بالسن،أو بإنبات الشعر

ص:118


1- نظم بعض الشعراء الدور بقوله: مسألة الدور جرت بيني و بين من أحب لولا مشيبي ما جفى لولا جفاه لم أشب

فعليه البينة،و تغتفر-هنا-رؤية العورة،لمكان الحاجة،تماما كرؤية الطبيب.

2-القصد

،فلا عبرة بإقرار النائم و السكران،و لا الساهي و المغمى عليه، و لا الهازل مع القرائن الدالة على الهزل،و لا فرق في السكران بين من شرب المسكر اختيارا،أو اضطرارا،أو مكروها،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك».

3-الاختيار

،فلا عبرة بإقرار المكره،و لا يختص الإكراه بالضرب و التهديد،بل يعم كل ما من شأنه أن يحمل الإنسان على الاعتراف بغير رضا و طيب نفس.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، ضرورة وضوح اعتبار الاختيار من النصوص المتفرقة في الأبواب و الفتاوى في جميع الأسباب الشرعية التي منها الأقدار إلاّ ما خرج بدليله كضمان المتلف».

4-ان يكون المقر عالما بمدلول الإقرار

،و إذا أقر،ثم قال:لم أفهم ما قلت فان احتمل الجهل بحقه صدّق بيمينه،و إلاّ ردت دعواه.قال صاحب المسالك:«إذا علم أن المقر عارف بمعنى ما أقر به لم تقبل دعواه خلافه،و ان احتمل الأمرين،و قال:لم أفهم معنى ما قلت،بل لقنت فتلقنت صدق بيمينه، لقيام الاحتمال،و أصل عدم العلم بغير لغته،و كذا القول في جميع العقود و الإيقاعات».

5-تقدم في باب الحجر،فقرة«إقرار السفيه و زواجه و طلاقه»ان إقراره

يقبل في غير التصرفات المالية،و يرفض فيها

.و تقدم في فصل المفلس،فقرة «إقرار المفلس»ان الفقهاء اختلفوا في إقرار المفلس بدين لشخص بعد التحجير.

و أيضا اختلفوا فيما إذا أقر المريض مرض الموت بدين أو عين،و لم نعلم:

هل الشيء الذي أقر به هو حق عليه واجب الأداء،أو أنّه مجرد تبرع،اختلفوا

ص:119

هل ينفذ هذا الإقرار من الأصل أو الثلث،و تكلمنا عن ذلك مفصلا في كتاب الفصول الشرعية،و كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة،و اخترنا أن المريض إذا كان متهما،بحيث دلت القرائن على أنّه يريد محاباة المقر له يكون حكم الإقرار حكم الوصية ينفذ من الثلث،و ان كان المريض مأمونا في إقراره، و لا قرينة تدل على المحاباة ينفذ الإقرار من الأصل.و سنتكلم عن ذلك مفصلا ان شاء اللّه في باب الوصايا.

دعوى المقر فساد الإقرار:

إذا قال المقر:انّه كان صغيرا أو مجنونا،أو مكرها،أو هازلا،أو سكرانا حين الإقرار،و قال المقر له:بل كنت عاقلا بالغا مختارا و جادا،فمن هو المدعي؟و من هو المنكر؟ قال الشهيد الثاني:«الأقوى عدم سماع قول المقر في جميع ذلك».

و الحق انّه إذا اختلف المقر و المقر له في أهلية المقر،و أنّه هل كان عاقلا بالغا حين الإقرار فالقول قول من ينفي العقل و البلوغ،لأن أصل الصحة لا يجري في الإقرار إلاّ بعد أن نحرز و نتأكد من أهلية المقر،و ان إقراره يمكن أن يكون صحيحا،و يمكن أن يكون غير صحيح،أما إذا لم نتأكد من أهلية المقر فإن معنى هذا أنّا لم نتأكد من وجود الإقرار،لأن الشك في أهلية المقر شك في الإقرار من رأس لا شك في صحته و فساده،و عليه فلا موضوع لأصل الصحة،و بالتالي يكون القول قول المقر بيمينه.

أمّا إذا اتفق المقر و المقر له على وجود الأهلية،و تحقق البلوغ و العقل حين الإقرار،و اختلفا في صحته بسبب غير فقدان الأهلية كالقصد و الاختيار،أما إذا كان

ص:120

الأمر كذلك فيجري أصل الصحة،لأن الإقرار موجود بالفعل،و يمكن أن يتصف بالصحة،و ان يتصف بالفساد،فنرجح حينئذ جانب الصحة على جانب الفساد، و بالتالي يكون القول قول المقر له بيمينه.

و بكلمة:ان الشك في وجود الأهلية شك في وجود الإقرار الحقيقي، و يكون هذا الذي صدر مع عدم إحراز الأهلية هو صورة إقرار،لا إقرارا في واقعة، أما مع إحراز الأهلية فإن الصادر يكون إقرارا حقيقة و واقعا،و لكنه يحتمل الصحة و الفساد،فنلغي احتمال الفساد بأصل الصحة.

المقر له:

اشارة

يشترط في المقر له أن تكون له أهلية التملك و ثبوت الحق له،فلو قال:

عليّ لهذا الحائط،أو لهذه الدابة كذا كان لغوا.و يصح الإقرار للمدرسة و المسجد و المصح،و ما إليه،لأنه إقرار لمن ينتفع بالمدرسة و المسجد،و المصح.و يصح الإقرار للمجهول جهالة غير فاحشة.كما لو قال:لأحدكما عليّ مبلغ كذا،لا أدري من هو بالذات،فيستخرج بالقرعة بينهما.

و اتفق الفقهاء على صحة الإقرار للحمل إذا ولد حيا لأقل من ستة أشهر، حيث يحصل العلم بأنه كان موجودا عند صدور الإقرار،لأن أقل الحمل ستة أشهر،و لا يولد حيا قبلها.و إذا سقط الحمل ميتا فان قال المقر:ان الشيء الذي أقر به هو إرث للحمل رجع إلى باقي الورثة،و ان قال:هو وصية رجع إلى ورثة الموصي،عملا بما يستدعيه الإقرار.و ان لم يعزه إلى الإرث و الوصية ترك المقر، و شأنه يعمل بتكليفه الذي هو أعرف به،و لا يحق لأحد معارضته،لأن أمر الأموال يرجع بها إلى من هي في يده،حتى يثبت العكس،و المال هنا ليس

ص:121

للحمل لأنه ولد ميتا،فيكون أمره لمن هو في يده.

و أيضا اتفقوا على بطلان الإقرار للحمل إذا ولد لأكثر من أقصى مدّة الحمل للعمل بعدم وجوده حال الإقرار،و معلوم أن الإقرار للمعدوم لا يصح.

و اختلفوا فيما إذا ولد في منتهى التسعة أشهر من حين الإقرار بناء على أنّها أقصى مدّة الحمل،فقال جماعة:يصح الإقرار عملا بالظاهر،أي الغالب،لأن أكثر النساء يلدن للتسعة،و عليه يكون الحمل موجودا عند الإقرار،و إذا صح الإقرار مع الولادة في منتهى التسعة فيصح مع الولادة قبلها و بعد الستة بطريق أولى.

و قال آخرون،و منهم صاحب الجواهر بعدم صحة الإقرار،لأن الحمل حادث،و الأصل تأخر الحادث،و عليه لا يكون الحمل موجودا حين الإقرار،أما الظاهر فلا يقدم على الأصل،و لا يصح الاعتماد عليه إلاّ إذا دل الدليل الشرعي عليه،أو أفاد العلم بالكشف عن الواقع.

و على كل حال،فإن استحق الحمل الشيء المقر به فهو له بكامله ان كان واحدا،و ان زاد عن الواحد اقتسم الذكر و الأنثى بالسوية إلاّ مع العلم بأن الاستحقاق ثابت بالتفاوت،كميراث الأولاد و الأخوة من الأب،لأن الأصل عدم التفاضل بين الذكر و الأنثى،حتى يثبت العكس،و من هنا اتفق الفقهاء على أنّه إذا وقف على أولاده،أو أوصى لهم اقتسم الذكر و الأنثى بالسوية.

عدم تكذيب المقر له:

هل يشترط في صحة الإقرار عدم تكذيب المقر له للمقر؟ قال صاحب الجواهر:ان تكذيب المقر له للمقر لا يبطل الإقرار،لأنّ قبول

ص:122

المقر له ليس شرطا في صحة الإقرار،بل في تنفيذه بحق المقر.

و عليه،فإذا أقر إنسان لآخر بدين أو عين،و نفى المقر له ذلك كان الشيء المقر به بحكم مجهول المالك ان بقي المقر على إصراره و إقراره،و ان رجع عنه ذاكرا وجها معقولا كالاشتباه و النسيان المحتملين في حقه قبل منه،و ان كان إنكارا بعد إقرار،لأن المفروض أنّه لا يزاحم حق الغير (1).و كذا يقبل من المقر له ان رجع عن إنكاره،و قال:أجل،انّه لي.و قد كنت مشتبها أو ناسيا.

المقر به:

يشترط في المقر به:
1-أن يكون في طبيعة الاستحقاق

،كدين،أو عين،أو زوجية،أو حق شفعة،أو ما يوجب الحد،أو القصاص،أو الدية،و ما إلى هذه.و لو أقر بما لا يصح تملكه،كإقرار المسلم لمثله بخمر أو خنزير يكون الإقرار لغوا،و لو أقر بهما لغيره فيصح.

2-أن يكون الشيء المقر به في يد المقر و تصرفه

،فلو قال:العين الموجودة في يد زيد هي لخالد يكون قوله هذا شهادة،و ليس إقرارا.أجل،لو اتفق أن حصلت تلك العين في يد المقر بطريق من الطرق ألزم بتسليمها للمقر له، كما لو قال:ان العين التي في يد أبي قد اغتصبها من عمرو،ثم توفي أبوه و انتقلت إليه تركته،فيجب عليه أن يرد العين التي اعترف له بها،لأن الاعتراف تام

ص:123


1- لا يجوز الإنكار بعد الإقرار إذا كان مزاحما لحق الغير،و إلاّ فلا آية و لا رواية على عدم جوازه من حيث هو.

الاقتضاء،لصدوره عن عاقل بالغ مختار.و قد زال المانع من تنفيذه،فيجب أن يأخذ مجراه.

و لو أقر بأن الدين الذي باسمه على زيد هو لفلان أخذ بإقراره،إذ من الجائز أن يكون المقر له قد استودع المقر مالا،و اذن له ان يقرضه لمن يشاء باسمه،لا باسم صاحب المال،لأن مصلحته الخاصة تستدعي التستر و الكتمان، و كثيرا ما يقع ذلك.

الإقرار بالمجهول:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه يصح الإقرار بالمجهول،كما لو قال له:لك علي شيء،من غير فرق بين أن يقع الإقرار في مجلس القضاء،و مع الخصومة،و بين أن يقع ابتداء.قال صاحب المسالك:«ربما كان في ذمة الإنسان شيء لا يعلم قدره فلا بد من الاخبار عنه،ليتواطأ هو و صاحبه على الصلح بما يتفقان عليه،فدعت الحاجة،و اقتضت الحكمة سماع الإقرار المجمل،كما سمع المفصل».

و يطالب المقر بالبيان،و التفسير،فإن فسر بتفسير صحيح كالدرهم و الرغيف قبل منه،و ان كان يسيرا،و ان فسره بما لا يصح كقشرة الجوز التي لا قيمة لها،أو كالخمر و الخنزير إذا كان الإقرار لمسلم فلا يقبل منه.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أنّه ان امتنع عن التفسير مع قدرته عليه يحبس،حتى يفسّر،لأن البيان واجب عليه،و قد امتنع عنه فتحل عقوبته،تماما كما تحل عقوبة الممتنع عن أداء الدين.أجل،إذا قال:نسيت فلا يتجه الحبس،بل يرجع إلى الصلح،أو يصبر عليه حتى يتذكر.

ص:124

تعقيب الإقرار بما ينافيه:

إذا أقر بشيء،و عقبه بما ينافيه،مثل ان يقول:له عليّ ألف و قد قضيته،أو هو دين من قمار،أو ثمن خمر أو خنزير،فهل يلغى الإقرار جملة،أو يكون مقرا من جهة،و مدعيا من جهة،فيؤخذ بإقراره،و عليه البينة لإثبات ما يدعيه؟ اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه مقر و مدع،فيلزم بالمال عملا بإقراره،و عليه إثبات دعواه،بل لو قال:اشتريت هذا منك بالخيار يؤخذ بإقراره، و عليه إثبات دعواه،بل لو قال:اشتريت هذا منك بالخيار يؤخذ بإقراره بالشراء، دون الخيار.أجل،لو قال.له عليّ دراهم ناقصة سمع منه،لأنّه كقوله:له عليّ ألف جنيه مصري أو ليرة سورية.

و قال الفقهاء:إذا كانت في يده عين،و اعترف لشخص،ثم لآخر،كما لو قال:هذي لزيد،بل لعمرو حكم عليه بإعطائها لزيد،و غرم قيمتها لعمرو،بل قالوا:لو استمر الإضراب إلى الألف،و قال:بل لخالد،بل لسعيد إلخ وجب أن يغرم البدل كاملا لكل واحد ما عدا الأول الذي يجب أن تسلّم إليه العين.

و استدلوا بأن إقراره للأسبق قد حال بين العين،و بين الثاني،فيكون كالمتلف، قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به،لعموم إقرار العقلاء،و للحيولة».

و يلاحظ بأن الإقرار انما يكون حجة على المقر ما لم نعلم كذبه و مخالفته للواقع.

و إذا اعترف شخص بالبيع و القبض و وقّع السند،ثم قال:لم أقبض الثمن، و انما اعترفت بالقبض ثقة مني بأن المشتري سيدفع لي بعد الاعتراف،و قد جرت العادة على ذلك-إذا ادعى المقر مثل هذه الدعوى تسمع منه،و له اليمين على خصمه بأنّه أقبضه الثمن كاملا.

ص:125

و لا مجال هنا للبينة بأنّه لم يقبض،لأنها على النفي المحض.و قال صاحب الجواهر:«تقبل دعواه بعدم قبض الثمن بعد اعترافه به،لأنه ادعى ما هو معتاد.و ليس لقائل أن يقول:لا تقبل دعواه،لأنه مكذب لنفسه فيكون إنكارا بعد إقرار،لأنا نقول:انّه لم يكذب نفسه،بل هو مدع لشيء آخر مع الإقرار،فتتجه اليمين على المشتري».ثم قال صاحب الجواهر:و هذا أشبه بأصول المذهب و قواعده.أجل،لو شهدت البينة بمشاهدة القبض لا بالاعتراف بالقبض ترد الدعوى رأسا،و لا تتجه اليمين على المشتري.

و اتفقوا كلمة واحدة على أن من أقر بما يوجب الرجم كالزنا،ثم أنكر يسمع منه الإنكار،و يسقط عنه الحد،لأن الحدود تدرأ بالشبهات،و للنص الخاص كما يأتي في باب الحدود.

اذن،فالإنكار لا يرد في جميع أنواعه،و شتى صوره،بل يقبل الإنكار إذا جاء بعد الإقرار الموجب للرجم،و فيما إذا لم يزاحم حق الغير،و يقبل إذا اقترن بدعوى ممكنة و معقولة كإنكار القبض بعد الاعتراف به،و للمقر على المقر له اليمين.و لا يقبل الإنكار بحال بعد الإقرار بالولد،و لو ذكر المقر لإنكاره بعد الإقرار ألف سبب و سبب،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينتف عنه أبدا.

تعقيب الإنكار بالإقرار:

إذا انعكس الأمر،فأقر بعد أن أنكر قبل منه،لأن الإقرار بعد الإنكار لا يزاحم حق المدعي.بل يتفق معه كل الاتفاق بعكس الإنكار بعد الإقرار فإنه يزاحمه و يضاده.بل قال صاحب العروة الوثقى في باب الزواج:لو ادعت امرأة

ص:126

على رجل بأنه زوجها فأنكر،و حلف اليمين الشرعية،ثم رجع عن إنكاره إلى الإقرار يسمع منه،و يحكم بالزوجية بينهما إذا أظهر عذرا لإنكاره.

ص:127

الإقرار بالنسب
الإقرار بالولد:
اشارة

ينقسم الإقرار بالولد إلى قسمين:إقرار ببنوة الصغير،و إقرار ببنوة الكبير، و يشترط في ثبوت نسب الصغير بالإقرار،و الحاقه بالمقر ما يلي:

1-ان يكون بين المولود،و بين المقر تفاوت في السن بحيث تجري العادة بولادته لمثله،و إلاّ كذبه الحس و الوجدان،و كذلك إذا كانت أم الولد في بلد بعيد لا نحتمل أن المقر خرج إليها،أو أن أم الولد أقدمت إليه.

2-أن يكون الصغير مجهول النسب،فمن أقر ببنوة صغير تنسبه الناس إلى غيره لا يسمع منه،حتى و لو صدقه الولد بعد بلوغه،لأن الأنساب لا تقبل النقل من انسان إلى آخر.

3-أن لا ينازع المقر في الصغير منازع،فإن وجد مدع ثان حكم بالولد لصاحب البينة،و مع عدمها يقرع بينهما،و يلحق الولد بمن يعينه الاقتراع.

و اجمع الفقهاء على اعتبار هذه الشروط بشهادة صاحب الجواهر و صاحب مفتاح الكرامة،و ثبت عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:«إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينتف عنه أبدا».و أيضا سئل الإمام عليه السّلام عن رجل ادعى ولد امرأة لا يعرف له أب،ثم نفاه بعد ذلك؟قال:ليس له ذلك.

ص:128

و اختلفوا فيما لو أقرت المرأة ببنوة الصغير:هل يلحق بها مع الشروط، تماما كما هي الحال في الرجل،أو لا؟ و الحق عدم الفرق في ذلك بين الرجل و المرأة،لاتحاد السبب،و لإقرار العقلاء على أنفسهم،و لأن الإمام عليه السّلام سئل عن المرأة تسبى من أرضها،و معها الولد الصغير،فتقول هي ابني،و الرجل يسبى،فيلقى أخاه،فيقول أخي، و يتعارفان،و ليس لهما بينة على قولهما؟.فقال الإمام عليه السّلام:إذا جاءت بابنها أو ابنتها،و لم تزل مقرة،و إذا عرف أخاه،و كان ذلك على صحة من عقلهما،و لم يزالا مقرين ورث بعضهم من بعض.

و متى توافرت الشروط يثبت النسب،و تترتب عليه جميع اثاره من التوارث،و تحريم الزواج،و وجوب الإنفاق،و المشاركة في الوقف و الوصية، و ما إلى ذاك.و تتعدى هذه الآثار إلى جميع الأقارب و الأرحام دون استثناء،و لا يعتبر تصديق الصغير بعد بلوغه و رشده،بل لا يلتفت إلى إنكاره إذا أنكر الأبوة و الأمومة،و إذا طلب اليمين من المقر فلا يحلف،لأن المقر ملزم بإقراره على كل حال،حتى و لو رجع عنه.اذن،فلا مورد لليمين.

و إذا أقر ببنوة كبير فلا بد من تصديقه بالإضافة إلى الشروط الثلاثة المتقدمة،فإذا أنكر الكبير لم يثبت النسب بينهما إلاّ إذا أقام المقر البينة،فان لم يكن له بينة حلف المنكر،و سقطت دعوى المقر،و ان نكل حلف المقر،و ثبت النسب.و إذا تصادق البالغان على ثبوت النسب،ثم رجع أحدهما أو كلاهما عنه لم يقبل منهما،لأنه تماما كالفراش متى ثبت دام.

و المجنون كالصغير،لاشتراكهما في عدم الأهلية.

ص:129

الإقرار بالولادة من الزنا:

لو قال:هذا ولدي من الزنا،فهل يؤخذ بقوله،و ينفى عنه الولد،أو يلحق به شرعا،و لا يلتفت إلى قوله من الزنا؟ ذكر هذا الفرع صاحب الجواهر استطرادا في المسألة الأولى من مسائل الإقرار بالنسب.و لم يحكم به سلبا و لا إيجابا،لأن قوله:«هذا ولدي»يستدعي إلحاقه به،و قوله:«من الزنا»يستلزم نفيه عنه.و في الترجيح لأحد الطرفين نظر.

و هذه عبارة صاحب الجواهر بالحرف:«لو قال:هذا ولدي من الزنا فهو من باب تعقب الإقرار بالمنافي،و هل يؤخذ بأول كلامه فيلحق به،أو بآخره فلا يثبت به حكم النسب؟نظر،كما في الدروس».

و الأقرب صحة الإلحاق به،و الحكم بأنّه ولده الشرعي،لأنه أشبه بقول من قال:له عليّ ألف من ثمن خمر،حيث أجمع الفقهاء على الحكم عليه بالمال.

و لا يسمع منه«من ثمن خمر»و لأنه بعد أن أقر به فلا يسمع نفيه عنه،لقول الإمام عليه السّلام:إذا اعترف بالولد فلا ينتفي عنه أبدا.و إذا قيل بأن هذا ليس باعتراف أجبنا بأن قوله:عليّ ألف من ثمن خمر ينبغي أن لا يكون اعترافا،لأن الاثنين من باب واحد.و الفرق تحكّم.و مهما يكن،فإن الأصل في كل مولود ان يلحق شرعا بمن أولده،حتى يثبت العكس.

بين النسب و الزوجية:

لا تلازم بين النسب و الزوجية،فإذا قال:هذا ابن زوجتي فلانة فلا يكون الإقرار بزوجية الأم إقرارا بالولد،إذ من الجائز أن يكون ولدها من غيره.و كذا إذا قال:هذا ولدي من فلانة فإن الاعتراف بالولد ليس اعترافا بزوجية الأم،حتى و لو

ص:130

كانت معروفة بالصون و العفاف،إذ من الجائز أن يكون قد وطأها بشبهة،أو أنّه أكره على وطئها،أو أن الولد انعقد من مائه بطريق غير الوطء.

و قال بعض الفقهاء:لا تثبت زوجية المرأة،و لكن يثبت لها المهر،لأنها ان كانت زوجة فلها المهر،و ان كانت موطوءة بشبهة فكذلك.

ورد صاحب الجواهر هذا القول:«بأن الولادة قد تكون بلا وطء،أو بوطء عن إكراه،و كلاهما لا يوجبان المهر».و هذا حق،لأن العام لا يدل على الخاص.

الإقرار بنسب الميت:

إذا مات انسان مجهول النسب،فقال شخص:هذا ابني،و لم ينازعه في ذلك أحد،و كان تولده منه ممكنا،إذا كان كذلك يثبت نسبه و يرثه ان كان له مال، سواء أ كان الميت صغيرا،أو كبيرا،لأن السبب لثبوت النسب في حياته هو الإقرار به،و الإقرار موجود بعد الموت فيثبت به النسب،تماما كما يثبت به في الحياة.

قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«لا يعتبر تصديق الصغير و المجنون و الميت، بل يثبت نسبهم بمجرد الإقرار،لأن التصديق انما يعتبر مع إمكانه،و هو ممتنع منهم،ثم نسب هذه الفتوى إلى الفقهاء،و نقل صاحب الجواهر عن كتاب جامع المقاصد و الرياض عدم الخلاف في ذلك.

الإقرار بغير الولد:

قسم جملة من الفقهاء الإقرار بالنسب إلى قسمين:إقرار على نفس المقر خاصة،و إقرار على غيره،و قسمه آخرون إلى إقرار بالولد،و إقرار بغير الولد، و المعنى واحد في التقسيمين،و لا اختلاف إلاّ في التعبير،لأن الإقرار على النفس

ص:131

يختص بالولد فقط،لأنه من فعله،و الإقرار على الغير يشمل غير الولد أخا كان، أو ابن ابن،أو أبا،أو أما،فإذا قال:هذا أخي كان معناه أنّه ابن أبي،أو ابن أمي، و هو إقرار بحق الغير،و إلحاق بغير المقر،و كذلك إذا قال:هذا ابن ابني فإنه ادعاء على ابنه بأنّه أولد هذا،و أيضا إذا قال:هذا أبي،أو هذي أمي فإنه ادعاء على الرجل بأنه أولده،و على المرأة بأنّها أولدته.كل هذا و ما إليه-غير الإقرار بالنبوة- يدخل في الإقرار بحق الغير،و الإقرار بغير الولد،قال صاحب مفتاح الكرامة:«لا فرق في غير الولد بين الإقرار بالأب أو الأم أو الأخ و غيرهم».

و اتفق الفقهاء على أن الإقرار بغير الولد يشترط فيه:

أولا:تصادق الطرفين،و إذا كان الآخر صغيرا ينتظر به إلى ما بعد البلوغ، ثم يسأل فإن أنكر يكون الإقرار من الطرف المقابل لغوا بل قال صاحب الجواهر:

«لو تصادق الكبيران على نسب غير البنوة ثم رجعا يقبل منهما،أمّا لو رجع المتصادقان في البنوة فلا يقبل منهما،لأنه كالفراش،بل أشد».أي أن الإقرار بالبنوة يثبت به النسب،و متى ثبت فلا يرتفع،أمّا الإقرار بغير البنوة فلا يثبت به النسب،و أنما أخذ المقر بإقراره فيما يعود إلى الحقوق المادية.

ثانيا:أن لا يكون لأحد المتصادقين المتوافقين على الاخوة،و ما إليها وارث موجود حين الإقرار،لأنه إقرار بنسب الغير فلا يتعدى أثره إلى غير المقر.

و متى تحقق الشرطان جاز التوارث بينهما،لأن هذا الإقرار و التصادق من باب الدعوى بلا معارض.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين جيء بهما من أرض الشرك.فقال أحدهما لصاحبه:أنت أخي،فعرفا بذلك،و مكثا و عرفا بالإخاء،ثم مات أحدهما:قال الإمام عليه السّلام:الميراث للأخ،يصدقان.و تقدم في فقرة«الإقرار بالولد»قول الإمام عليه السّلام:و لم يزالا مقرين ورث بعضهم من بعض.

ص:132

و لكن الميراث لا يتعدى إلى أولاد الطرفين،بل يقف على المتصادقين فقط،فإذا جاء لأحدهما أولاد بعد التعارف و التوافق يعامل أولاد أحدهما مع أولاد الآخر معاملة الأجانب.

و بهذا يتبين معنا أن الإقرار بالولد يفترق عن الإقرار بغيره من وجوه:

1-ان التصادق و التعارف بين الطرفين شرط في الإقرار بغير الولد، و بالولد إذا كان كبيرا و حيا.و ليس شرطا في الإقرار بالولد الصغير،و لا بالمجنون، و لا بالولد الميت كبيرا كان أو صغيرا.

2-ان الميراث و تحريم الزواج و غير ذلك من آثار النسب لا تتعدى إلى الأقارب و الأرحام،مع الإقرار بغير الولد،و تتعدى إليهم مع الإقرار بالولد،حتى و لو كان كبيرا.و بالاختصار أن النسب يثبت في الإقرار بالولد،و لا يثبت في الإقرار بغيره.

3-أن للمتصادقين في غير الولد أن يرجعا عن إقرارهما،لعدم ثبوت النسب،و ليس لهما ذلك في الإقرار بالولد،لثبوت النسب،و متى ثبت دام.

مسائل:
1-إذا أقر ولد الميت بآخر ثبت الميراث له دون النسب

،و تقاسما بالسوية،ان تساويا في الذكورية و الأنوثية،و بالتفاوت ان كان أحدهما ذكرا، و الآخر أنثى،و إذا كانا اثنين و اعترفا بثالث،فإن كانا عدلين يثبت نسب الثالث و الميراث،لقيام البينة.و ان لم يكونا عدلين يثبت الميراث دون النسب، و اقتسموا التركة أثلاثا،و إذا اعترف به أحدهما دون الآخر يأخذ المنكر نصف التركة،و المقر ثلثها،و للآخر الذي أقر له أحد الاثنين السدس فقط،لأن الإرث قد

ص:133

ثبت في حق المقر دون المنكر،فعلى المقر أن يدفع ما فضل عن ميراثه،و هو السدس يدفعه لمن أقر له،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده،و في التذكرة هو مذهب علمائنا.و جاء عن أهل البيت عليهم السّلام إذا أقر واحد من الورثة بدين،أو إرث جاز ذلك في حصته،و كذا إذا أقر اثنان،و كانا عدلين مضى ذلك على الورثة.و أوضح من هذه الرواية رواية أخرى،و هي أن عليا عليه السّلام قضى في رجل مات،و ترك ورثة،فأقر أحد الورثة بدين على أبيه أنّه يلزمه ذلك في حصته بقدر ما ورث،و لا يكون ذلك في ماله- أي وحده-و ان أقر اثنان من الورثة،و كانا عدلين أجيز ذلك على الورثة،و إذا لم يكونا عدلين ألزما في حصتهما بقدر ما ورثا.و كذلك إذا أقر بعض الورثة بأخ أو أخت انما يلزم في حصته».

و نستنتج من هذه الرواية أن بعض الورثة إذا أقر بدين على الميت،و أنكر البعض الآخر أخذ من المقر وفاء للدين بنسبة نصيبه من التركة،و لم يؤخذ من المنكر شيء إلاّ إذا تمت البينة بشهادة الورثة أو غيرهم فان الدين ينفذ بكامله من أصل التركة.و الإجماع على ذلك.

2-إذا كان للميت زوجة و اخوة،و أقرت الزوجة بولد للميت

ينظر.فإن صدقها الأخوة و أقروا به أيضا كان للزوجة الثمن،و الباقي للولد و ليس للإخوة شيء و ان أنكروا أخذت هي الثمن،لاعترافها بوجود الولد للميت،و أخذ الإخوة ثلاثة أرباع،لأنهم ينكرون أن يكون للميت ولد،و أخذ الولد التي أقرت به الزوجة الثمن،أي باقي حصتها على تقدير عدم الولد.

3-تبين مما تقدم أن الميراث قد يثبت دون النسب

كما لو أقر الوارث بوارث آخر،فإنّه ينفذ الإقرار في المال خاصة،و يشارك المقر في التركة.و تبين

ص:134

أيضا أن النسب إذا ثبت فلا ينفيه شيء.أجل قد يثبت النسب دون الميراث،كما لو قتل الوارث مورثه عمدا،أو كان على غير دينه،و يأتي التفصيل ان شاء اللّه في باب الإرث.

ص:135

كتاب الشهادات

معنى الشهادات:

تأتي الشهادة بمعنى الحضور،و منه قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (1).و تأتي بمعنى الاخبار عن يقين كقوله سبحانه وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .و ليس للشارع حقيقة خاصة في معنى الشهادة،قال صاحب الجواهر:

«الأصوب إيكال معرفة الشهادة إلى العرف للقطع بعدم معنى شرعي مخصوص لها».أجل،ان الشارع لم يقبلها إلاّ بشروط نذكرها فيما يأتي:

و تعرض الكتاب و السنة للشهادة في كثير من الآيات و الروايات،فمن الكتاب قوله جل و علا وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ (2).و قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (3).و من السنة ما روي عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن الشهادة؟ فقال للسائل:هل ترى الشمس؟قال:نعم.فقال:على مثلها فاشهد،أو دع.

ص:136


1- البقرة:185. [1]
2- البقرة:282. [2]
3- الطلاق:2. [3]

بين الشهادة و الرواية:

ان الفرق بين الشهادة و الرواية في اصطلاح المتشرعة-أي الفقهاء-هو الفرق بين الحكم و الفتوى،حيث يريدون من الرواية في أبواب الفقه ما يثبت به الأحكام الشرعية العامة،و يريدون بالشهادة ما يفصل بين المتخاصمين في حوادث خاصة،و يشترطون العدد في الشهادة،و الذكورية في أكثر مواردها،و لا يشترطون ذلك في الرواية.

تحمل الشهادة و أداؤها:

معنى تحمل الشهادة أن يدعوك انسان لتشهد له على شيء،فيجب عليك أن تلبي و لا يجوز لك الرفض من غير عذر،قال تعالى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا (1).و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا دعاك الرجل لتشهد على دين أو حق فلا يسعك أن تتقاعس عنه.و قال:إذا دعيت إلى الشهادة فأجب.لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول:لا أشهد لكم.

و معنى أداء الشهادة أن تؤديها و تدلي بها أمام الحاكم إذا دعيت لذلك،و هذا الأدلاء واجب،تماما كالتحمل،قال تعالى وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (2).و قال وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ (3).و قال الإمام عليه السّلام:من كان في عنقه شهادة فلا يأبى إذا دعي لإقامتها،و ليقمها،و لينصح فيها،و لا تأخذه فيها لومة لائم،و ليأمر بالمعروف،و لينه عن المنكر.

ص:137


1- البقرة:282. [1]
2- البقرة:283. [2]
3- البقرة:140. [3]

و اتفق الفقهاء على أن كلا من تحمل الشهادة و أدائها واجب على سبيل الكفاية،لا العين،فإذا قام به البعض سقط عن الكل،و ان امتنع الكل أثموا جميعا.

و يجوز للشاهد أن يتخلف عن أداء الشهادة مع خوف الضرر على نفسه، أو على غيره من الأبرياء،لأنه لا ضرر في الإسلام،قال الإمام عليه السّلام:أقم الشهادة للّه و لو على نفسك،أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم،فإن خفت على أخيك ضيما فلا.

قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده».

الشهادة و شروطها:

اشارة

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أردت أن تقيم الشهادة فغيّرها كيف شئت، و رتبها و صححها،بما استطعت،حتى يصح الشيء لصاحب الحق،بعد أن لا تكون تشهد إلاّ بحقه،و لا تزيد في نفس الحق ما ليس بحق،فإنما الشاهد يبطل غير الحق،و يحق الحق،و بالشاهدين يوجب الحق،و بالشاهد يعطى،و ان للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكل ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ و المعاني،و التفسير في الشهادة ما به يثبت الحق،و لا يؤخذ به زيادة على الحق، و ان له بذلك مثل أجر الصائم المجاهد بسيفه في سبيل اللّه.

أما شروط الشهادة فهي:

1 الوضوح:

أن تكون صريحة واضحة،و يكفي كل لفظ يدل عليها كأشهد و أتيقن،

ص:138

و أعرف،و الذي أدين به،و ما إلى ذلك.

2 المطابقة:

أن تطابق شهادة كل من الشاهدين مع شهادة الآخر في المعنى،فإذا اختلفا فيها ردت شهادتهما،كما لو شهد أحدهما بالبيع،و الآخر بالإجارة.أو شهدا بالبيع،و لكن قال أحدهما:انّه حصل يوم الجمعة،و قال الآخر:يوم السبت،أو شهد أنّه حصل في السوق،و الآخر بأنه حصل في البيت.

و إذا شهد أحدهما بوقوع الشيء كالبيع،و الآخر بالإقرار فلا يثبت شيء، لعدم توارد الشاهدين على الشيء الواحد.

هذا ما قاله صاحب الشرائع و الجواهر و المسالك و غيرهم من الفقهاء، و كنت لا أرتضيه من قبل،و أرى أن يوكل الأمر إلى نظر الحاكم و اجتهاده،ثم عدلت،و رأيت الحق بجانب الفقهاء،و ان الحاكم لا يمكنه بحال أن يعتبر مثل هذه الشهادة بينة كاملة،إذ لا ملازمة بين الإقرار بالشيء،و بين وجوده واقعا،فمن الجائز ان يقر الإنسان بغير الواقع لمصلحة تستدعيها ظروفه الخاصة.و إذا لم يكن الإقرار بالشيء هو عين الشيء بالذات صح ما قاله الفقهاء من عدم توارد الشاهدين على شيء واحد،و لا على شيئين متلازمين في الواقع.أجل، للمشهود له أن يحلف اليمين مع أحد الشاهدين فيثبت ما شهد به إذا كان من الحقوق التي تثبت بشاهد و يمين.

و قال صاحب الجواهر:إذا شهد واحد بالإقرار بألف،و شهد الآخر بالإقرار بألفين يثبت الألف بالشهادة التامة.أما الألف الثانية فلا تثبت إلاّ بضم اليمين إلى شهادة من شهد بألفين،أما إذا شهد أحدهما بالبيع بألف،و شهد الآخر بالبيع

ص:139

بألفين فلا يثبت شيء،لأن العقد بألف غير العقد بألفين.

3 شهادة النفي:

ان لا تكون الشهادة على النفي المحض،لأن الشاهد يجب أن يكون عالما بما يشهد به.و بديهة أن النفي لا يعلم به إلاّ اللّه سبحانه،فمن شهد أن زيدا لم يستدن من عمرو كانت شهادته رجما بالغيب إذا كانت استدانة مثله منه ممكنة بحسب العادة،فإنّه يجوز أن يستدين منه دون أن يعلم أحد بذلك.و استثنى الفقهاء من ذلك الشهادة بالإعسار،على شريطة أن يكون الشاهد مطلعا على أحوال من شهد بفقره،و عارفا بأموره الخاصة لمعاشرته الأكيدة،و أشرنا إلى ذلك في فصل المفلس من هذا الجزء،فقرة«حبس المديون»رقم 4.و استثنوا أيضا الشهادة بأن الميت لا وارث له،مع الشرط المذكور.

أجل،لو رجعت شهادة النفي إلى الإثبات يؤخذ بها،كما لو ادعى شخص على آخر أنّه قتل أباه يوم كذا في مكان معين،فيقيم المدعى عليه بينة أنّه كان في ذلك اليوم غائبا بحيث لا يمكن صدور القتل منه بحال،أو ادعى رجل زوجية امرأة،و أنّه عقد عليها سنة ستين فتقيم البينة على كذبه،لأنه جرى عقد زواجها الشرعي على غيره سنة تسع و خمسين،و انها في عصمته حتى الآن.

4 العلم:

ان تكون الشهادة عن علم و يقين،فلا تقبل إذا كان سببها الظن،قال تعالى:

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع».و قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا تشهد بشهادة،حتى

ص:140

تعرفها كما تعرف كفك».

و المراد بالعلم-هنا-ما يشمل العلم الناشئ من المشاهدة و العيان،مثل أن ترى شخصا يضرب،أو يقتل،أو يسرق،أو يبيع،فتشهد بما ترى.و أيضا يشمل العلم الناشئ من التواتر و الاستفاضة،مثل أن يستفيض و يشاع بين الناس أن هذه القطعة وقف،و هذه المرأة زوجة فلان،و هذا الولد ابنه،فيحصل لك العلم بذلك،فتشهد به.و أيضا يشمل العلم المتولد من علم آخر بحسب العادة، مثل أن ترى رجلا يتصرف في دار بهدم و بناء و أجار دون معارض،فيحصل لك من العلم بذلك علم بأنّها ملكه،فتشهد له بالملك.فقد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن رجلا قال له:إذا رأيت شيئا في يد رجل،أ يجوز لي أن أشهد أنّه له؟قال الإمام:نعم.قال الرجل:أشهد أنّه في يده،و لا أشهد أنّه له،فلعله لغيره.

قال الإمام:أ يحل الشراء منه؟قال الرجل:نعم.قال الإمام:فلعله لغيره من أين جاز لك أن تشتريه،و يصير ملكا لك،ثم تقول:بعد ذلك هو لي،و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك.ثم قال الإمام عليه السّلام:لو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق.

و قال صاحب الجواهر:المراد من العلم المعتبر في الشهادة العلم الحاصل من الرؤية و غيرها.فنحن نشهد أن النبي نصب أمير المؤمنين إماما يوم غدير خم،و لم نكن حاضرين في ذاك الوقت.ثم قال:و لا يضر احتمال تخلف العلم عن الواقع إذا كان ناشئا من غير الرؤية،كما أنّه قد يتخلف عن الواقع العلم عن الرؤية و الحس.

ص:141

شروط الشاهد

اشارة

يشترط في الشاهد أمور:

1-العقل:

قال الشهيد الثاني في المسالك:«لما كان الشاهد من شرطه أن يميز المشهود به،و المشهود عليه،و المشهود له،و ان يكون متصفا بالعدالة و مرضيا، لما كان الشاهد كذلك لم تجز شهادة المجنون،سواء أ كان جنونه مطبقا،أو يقع أدوارا،و قد قال تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ،و قال مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ،و المجنون بنوعيه غير مرض،و هذا محل وفاق بين المسلمين،و لكن غير المطبق إذا أكمل عقله في غير دوره،و استحكمت فطنته قبلت شهادته لزوال المانع».

و على هذا،فإذا شهد الأدواري حال إفاقته فعلى الحاكم أن يبحث و يدقق، حتى يستوثق من إدراكه التام قبل الأخذ بشهادته.

2 البلوغ:

اتفقوا قولا واحدا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك على أن شهادة

ص:142

الصبي غير المميز لا تقبل في شيء على الإطلاق،و اختلفوا في قبول شهادة المميز،فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّها لا تقبل إطلاقا،تماما كغير المميز،لأن الصبي لا يقبل إقراره على نفسه فبالأولى على غيره،و لأن الشهادة يشترط فيها العدالة،و لا عدالة للصبي،و لقوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فإن لفظ رجال لا تقع على الصبيان.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى أن شهادة المميز تقبل في القتل و الجرح فقط بشروط ثلاثة:الأول أن يبلغ الصبي العاشرة من العمر،الثاني أن يكون الصبيان قد اجتمعوا على أمر مباح،الثالث أن يشهد الصبي قبل أن يغيب عن الحادثة التي يشهد بها،بحيث لا يحتمل أن يلقن و يوعز إليه.

و استدلوا بهذه الروايات:«شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا أو يرجعوا إلى أهلهم»،الرواية الثانية:«تجوز شهادة الغلام إذا بلغ عشر سنين»، الثالثة:«لا تجوز شهادة الصبي إلاّ في القتل،يؤخذ بأول كلامه،و لا يؤخذ بالثاني».و إذا جمعنا هذه الروايات في كلام واحد،و عطفنا بعضها على بعض كانت النتيجة أن الصبي تقبل شهادته في القتل إذا بلغ عشرا على أن يشهد قبل أن يرجع إلى أهله،و إذا جازت في القتل جازت في الجرح بطريق أولى.أجل، يبقى شرط اجتماع الصبيان على مباح فقد اعترف صاحب الجواهر و صاحب المسالك بأنّه لا دليل على هذا الشرط.

و لو لا قول صاحب الجواهر:«بأن المقطوع به من النصوص و الفتاوى قبول شهادة الصبيان في الجناية في الجملة»لكنا مع القائل بعدم شهادة الصبيان مطلقا في القتل و غيره للأدلة الناطقة صراحة باشتراط البلوغ و العدالة في الشاهد.هذا، إلى أنّه إذا لم تجز شهادة الصبي في التافه فبأولى أن لا تجوز في الدماء.

ص:143

3 الإسلام:

نقل صاحب الجواهر و صاحب المسالك عن الشيخ الطوسي الكبير و المعروف بشيخ الطائفة أنّه قال:تقبل شهادة أهل كل ملة على ملتهم مستندا إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن شهادة أهل الذمة؟فقال:لا تجوز إلاّ على ملتهم.

ثم نقل صاحب الجواهر عن صاحب كتاب كشف اللثام أنّه قال معلقا على قول الشيخ:«هو قوي إلزاما لأهل كل ملة بما تعتقد».

و اتفقوا على أنّه إذا أوصى رجل مسلم في السفر،و لم يكن عنده أحد من المسلمين فله أن يشهد اثنين من أهل الكتاب على ان يستحلف بعد الصلاة بحضور جمع من الناس أنهما ما خانا،و لا كتما،و لا اشتريا به ثمنا قليلا،لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى (1).

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى أنّه لا يشترط أن يكون ذلك في الغربة،بل تجوز شهادة غير المسلمين من أهل الكتاب في الوصية إذا لم يجد الموصي شاهدين مسلمين يشهدان على وصيته،و حملوا قيد السفر في الآية الكريمة على الغالب،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن شهادة أهل الملل:هل تجوز على رجل من غير أهل ملتهم؟فقال:لا،إلاّ أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم،فان لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية،لأنه لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم،و لا تبطل وصيته.

ص:144


1- المائدة:109. [1]
4 العدالة:

يشترط في قبول شهادة الشاهد العدالة إجماعا و كتابا و سنة،فمن الكتاب:

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ .و من السنة ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام«لا أقبل شهادة الفاسق إلاّ على نفسه».و نشير هنا إلى أمرين:إلى معنى العدالة،و إلى طريق ثبوتها و المعرفة بها.

و قد اختلف الفقهاء في معنى العدالة،و أطالوا الكلام،فمنهم من قال:انّها الإسلام مع عدم ظهور الفسق،و قال آخر:هي ملكة راسخة في النفس تبعث على التقوى،و قال ثالث:انّها الستر و العفاف،و ذهب رابع إلى أن العدالة تتحقق بترك الكبائر،مع عدم الإصرار على الصغائر.و نحن في النتيجة على هذا الرأي، و الدليل عليه في الكلمات التالية.

و إذا دل اختلاف الفقهاء في معنى العدالة على شيء فإنما يدل على أن الشارع حين اعتبر العدالة شرطا في الشاهد و غيره قد أوكل معرفتها إلى فهم العرف،حيث لم يثبت عنه أنّه حددها بتحديد خاص،و ان ذهب جماعة إلى ذلك.أجل،لقد وردت الإشارة إلى معناها في بعض الأخبار،و لكنها إشارة إلى المعنى العرفي،و ليست تحديدا للحقيقة الشرعية فيما نعتقد.و لا أدل على ذلك من أن الفقهاء قد بحثوا و نقبوا عن معنى العدالة في كتب اللغة،و فيما يتبادر منها إلى افهام العرف،تماما كما يبحثون عنها في كتب الحديث،بل ان بعضهم قد استشهد بأقوال أفلاطون.و بديهة أن كل ما يرجع الفقهاء في معرفته إلى اللغة و العرف،أو أي مصدر غير الشرع فليس من الحقيقة الشرعية في شيء.

و الذي حصل لنا بعد التأمل و التتبع لسيرة العرف و الآيات و الروايات و أقوال الفقهاء أن العادل هو الأمين الملتزم بأحكام دينه عمليا لا نظريا،و لا يؤثر

ص:145

دنياه على دينه من أجل قريب أو صديق أو آية غاية من الغايات،من غير فرق بين أن يكون ذلك عن ملكة أو عن غير ملكة،فالمهم أن يكون مصداقا لقوله تعالى وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .

و يستأنس لذلك بما جاء في بعض الأخبار أو الآثار أن المؤمن المتدين هو الذي لا يرتكب كبيرة،و لا يداوم على صغيرة،و بقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

اشهدوا من ترضونه دينه و أمانته و صلاحه و عفته،و أيضا يستأنس له بقوله تعالى:

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ .و الكبائر هي ترك الأركان،و ارتكاب الجنايات،كالقتل و السرقة،و أكل المال بالباطل،و ما إليه مما توعد اللّه عليه في كتابه العزيز.أما اللمم فهي صغائر الذنوب التي يتعذر الاجتناب عنها-في الغالب-و التي أشار إليها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله:

ان تغفر اللهم تغفر جما و أي عبد لك ما ألمّا

و لصاحب الجواهر في باب الشهادات كلام عن العدالة يدل على صفاء فطرته،و اعتدال ذوقه،نقطف منه ما يلي:

«لا شك ان الصغائر لا ينفك عنها انسان.و ان فعل الطاعات،و اجتناب الكبائر تكفير لارتكاب الصغائر.اذن لا حاجة إلى التوبة منها،نعم لا ينبغي ترك العزم على الإصرار،لحديث:«لا صغيرة مع إصرار،و لا كبيرة مع استغفار».و هذا الحديث يشعر بأنّه لا حاجة إلى الاستغفار من الصغيرة مع عدم الإصرار،كما هو واضح».

و من صغار الذنوب لبس الحرير،و خاتم الذهب،و الشرب من آنية الذهب و الفضة،و تناول لقمة أو جرعة متنجسة،و الجلوس على مائدة فيها مأكول أو مشروب محرم،و منها أيضا إشارة الطرف بصورة محرمة،و سقطات اللسان،

ص:146

و الزهو و الغرور إذا لم يكن وسيلة إلى الإساءة و الإضرار بالغير.

أمّا المروءة فقد ذهب جماعة،منهم الشيخ و المفيد و الحلبي و القاضي و الأردبيلي و المجلسي و النراقي و صاحب الشرائع و المدارك و الجواهر و غيرهم ذهبوا إلى أن المروءة ليست ركنا من أركان العدالة،و لا شرطا من شروطها.

و أجاد صاحب الجواهر بقوله في باب الشهادات:«لا إشكال في رد الشهادة بما يتنافى معها من فعل محرم،أو عمل ينبئ بالخبل،لأن الأول ضد التقوى، و الثاني لا يتفق مع كمال العقل،أما ما لا يرجع إلى ذلك فيشكل اعتباره في الشهادة أو العدالة»و إذا لم تكن المروءة ركنا و لا شرطا في العدالة،و لا في الشهادة فالحديث عنها-اذن-أجنبي عن مباحث الفقه و أبوابه.

أمّا طريق ثبوت العدالة،و معرفتها فهو التجربة و المخالطة،أو شهادة عدلين،أو الشياع المفيد للعلم.

5 الضبط:

لا تجوز شهادة من يكثر غلطه و سهوه،و لا شهادة المغفل الذي يغلب البله عليه،لعدم الوثوق بقولهما.و على الحاكم أن يتأكد من يقظة الشاهد قبل الاعتماد على شهادته،تماما كما يتأكد من عدالته،قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:«أشهدوا من ترضون دينه و أمانته و خلقه و صلاحه و عفته و تيقظه فيما يشهد به و تحصيله و تمييزه،فما كل صالح مميز،و ما كل مميز صالح».قال بعض العلماء:نرد شهادة أقوام نرجو شفاعتهم يوم القيامة.و قال صاحب الجواهر:شاهدت بعض الأولياء يدخل عليه الغلط و التزوير من حيث لا يشعر.

ص:147

6 العداوة:

تقبل شهادة العدو لعدوه إذا كان عادلا بالاتفاق،و لا تقبل إذا كانت عليه.

قال صاحب الجواهر:أمّا العداوة الدنيويّة فإنها تمنع من قبول الشهادة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:لا تقبل شهادة ذي شحناء،و قوله:يرد من الشهود الظنين و المتهم و الخصم،و قوله:لا تجوز شهادة خائن و لا خائنة و لا ذي غمز على أخيه.

و إذا كان جماعة في طريق،أو في فندق و ما إليه،فهل تقبل شهادة بعضهم لبعض على أن فلانا قطع عليهم الطريق،أو هجم على الفندق و سلب أموالهم؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى عدم القبول،لمكان العداوة، و لأن الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن رفقة كانوا في طريق،فقطع عليهم الطريق،فأخذوا اللصوص،فشهد بعضهم لبعض؟قال:لا تقبل شهادتهم إلاّ بإقرار اللصوص،أو بشهادة من غيرهم عليهم.

و ينبغي حمل الرواية،و قول الفقهاء على أن الذي لا تقبل شهادته من هؤلاء إذا كان ممن قد اعتدي عليه بنهب أو إهانة،أمّا من لم يعتد عليه بشيء فتقبل شهادته مع اجتماع الشروط،لعدم التهمة.

7 القرابة:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن النسب و ان كان قريبا لا يمنع من قبول الشهادة،فتقبل شهادة الوالد لولده و عليه و الولد لوالده،و الأخ لأخيه و عليه، و أحد الزوجين للآخر و عليه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:تجوز شهادة الوالد لولده، و الولد لوالده،و الأخ لأخيه إذا كان مرضيا.و قال:تجوز شهادة الرجل لامرأته،

ص:148

و المرأة لزوجها إذا كان معها غيرها.

و قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لا خلاف بيننا في قبول شهادة الصديق لصديقه،و ان تأكدت بينهما الصحبة و الملاطفة و المهاداة و غيرها من أنواع الموادة و التحاب».

و استثنى المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك،استثنوا من شهادة القريب شهادة الولد على والده،و قالوا بعدم قبولها،لأنها عقوق للوالد.و قال جماعة من الفقهاء:انّها تقبل عليه كما تقبل له،لقوله تعالى وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).و قوله سبحانه كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (2).و قال الإمام الصادق عليه السّلام:أقيموا الشهادة على الوالدين و الولد.

8 جلب النفع،و دفع الضر:

لا تقبل آية شهادة تجر نفعا للشاهد،أو تدفع عنه ضرا،كشهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه،أو شهد لشريكه في بيع سهمه،لأن شهادته تتضمن إثبات الشفعة لنفسه،فإن لم يكن فيه شفعة قبلت شهادته.قال الإمام عليه السّلام:لا تجوز شهادة الشريك لشريكه فيما هو بينهما،و تجوز في غير ذلك مما ليس فيه شركة.

و لا تقبل شهادة الغريم بمال لمديونه المفلس المحجر عليه،لأن حقه يتعلق بالمال الثابت،و تقبل شهادة الغريم لمديونه الموسر،و المعسر قبل

ص:149


1- الأنعام:152. [1]
2- النساء:134. [2]

الحجر،لأن الحق،و الحال هذي،متعلق بذمة المديون لا بعين ماله.و لا تقبل شهادة الوكيل للموكل فيما هو وكيل فيه،و لا شهادة الولي و الوصي في محل تصرفهما.و تقبل شهادة الوكيل على الموكل،و الولي على المولى،و الوصي كذلك.

و كذا لا تقبل الشهادة إذا دفعت ضررا عن الشاهد،و مثال ذلك أن تشهد البينة بأن فلانا قتل زيدا خطأ لا عمدا،فيشهد أحد أقرباء القاتل الذين يتحملون عنه دية الخطأ،يشهد بجرح البينة،و أنّها غير عادلة،فإن هذه الشهادة لا تقبل منه، لأنها تدفع عنه الغرم،إذ المفروض أن دية قتل الخطأ على العاقلة،لا على القاتل.

و بهذا يتبين معنا أن التهمة من حيث هي ليست مانعا من قبول الشهادة، و انما تمنع من قبولها إذا جرت نفعا للشاهد،أو دفعت عنه ضررا.

9 شهادة المتسول:

قال صاحب المسالك ما نصه بالحرف:«المشهور بين الفقهاء عدم قبول شهادة السائل في كفه،لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام الكاظم عليه السّلام عن أبيه الصادق عليه السّلام أنّه كان لا يقبل شهادة من يسأل في كفه،و روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال:رد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهادة السائل الذي يسأل بكفه،و ذلك أنّه إذا أعطي رضي،و إذا منع سخط و في التعليل إيماء إلى تهمته.و في حكم السائل بكفه الطفيلي».

10 شهادة مستحق الزكاة:

إذا شهد فقير يستحق الزكاة بأن على فلان زكاة قبلت شهادته،لأنه و ان جاز

ص:150

له أخذ الزكاة إلاّ أنّها ليست حقا مختصا به،و انما هي حق للفقراء عامة،تماما كما تقبل الشهادة بأن هذا الشيء وقف على المصالح العامة،مع العلم بأن الشاهد أحد الذين يجوز لهم الانتفاع بالمشهود به.

و كذا يجوز للحاكم إذا كان وليا على القاصر أن يحكم له على خصمه،لأن ولايته عامة،و ليست خاصة كما هي الحال في ولاية الأب و الجد،و أيضا يجوز له أن يحكم بأن هذا وقف على العلماء أو القضاة أو السادة و ان كان هو واحدا منهم للعلة نفسها.

11 شهادة الأعمى و الأخرس:

تجوز شهادة الأعمى و الأخرس فيما يمكنهما العلم به.فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الأعمى؟قال:تجوز شهادته إذا أثبت.أي تأكد.

و يشهد الأخرس بما رأى معبرا عنه بالإشارة،لأن الإشارة بالنسبة إلى الأخرس كاللفظ بالنسبة إلى غيره،فيكتفى بالظاهر من الإشارة،كما يكتفى بالظاهر من اللفظ على حد تعبير صاحب الجواهر،ثم أن فهم الحاكم إشارة الأخرس و مراده منها فذاك،و إلاّ ترجمها له عارفان عادلان،تماما كالترجمة من لغة أجنبية.

12 شهادة المتبرع:

المتبرع بالشهادة هو الذي يدلي بها في مجلس الحكم قبل سؤال الحاكم و استنطاقه له.و اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن المتبرع ترد شهادته إذا

ص:151

شهد بحق من حقوق الآدميين كالدين و الهبة و البيع و ما يوجب الدية و القصاص، ثم قال صاحب الجواهر:«و العمدة في دليل هذا الحكم هو الإجماع مؤيدا بحديث لم يثبت عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هو أنّه ذم قوما يعطون الشهادة قبل أن يسألوها.إلاّ أن المتجه الاقتصار على ما علم أنّه مورد للإجماع».

و التبرع بالشهادة لا يوجب الفسق،لأنه ليس بمعصية،و عليه فإذا شهد المتبرع في غير تلك الواقعة بعد سؤال الحاكم و استنطاقه تقبل شهادته.

و اختلفوا:هل تقبل شهادة المتبرع في حقوق اللّه كشرب الخمر و الزنا، و في المصالح العامة كالمساجد و المدارس و المصحات؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى قبولها،إذ لا مدع لها بالخصوص،كي تتأتى التهمة،و لإطلاق أدلة قبول الشهادة،خرج منه شهادة المتبرع في حقوق الآدميين بالإجماع،فبقيت شهادة التبرع بحقوق اللّه سبحانه مشمولة للإطلاق،قال الشهيد الثاني في المسالك:«تسمى الشهادة بحقوق اللّه على وجه المبادرة بشهادة الحسبة.و هي نوع من الأمر بالمعروف،و النهي عن المنكر،و هو واجب،و أداء الواجب لا يعد تبرعا،و هذا هو الأقوى».

اجرة الشهود:

سبق أن أداء الشهادة واجب كفاية إذا لم يكن في أدائها ضرر على الشاهد، أو أحد المؤمنين،و فرّع على ذلك صاحب المسالك أنّه إذا كان أداء الشهادة لا يحتاج إلى النفقة،و لا يكلّف الشاهد شيئا فلا أجرة له،و اما مع الحاجة إلى النفقة في السفر من المركوب و غيره فلا يجب على الشاهد أن يتحمل شيئا من ذلك، فإن قام بها المشهود له فذاك،و إلاّ سقط وجوب الأداء،لأن هذا الوجوب مقيد

ص:152

بعدم توجه ضرر مستحق (1)على الشاهد.

الشهادة على الشهادة:

معنى الشهادة على الشهادة أن يشهد عدلان عند الحاكم بأن فلانا شهد أمامهما بكذا،و تسمى الشهادة المنقولة بالأصل،و الناقلة بالفرع،و بالشهادة على الشهادة،و تثبت شهادة الأصل بالشروط التالية:

1-أن يتعذر حضور شاهد الأصل،لمرض أو غيبة،أو حبس و ما إليه، قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة».و سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الشهادة على شهادة الرجل،و هو في الحضرة بالبلد؟قال:نعم،و لو كان خلف سارية يجوز ذلك،إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلة تمنعه عن أن يحضر و يقيمها.

2-ان تكون في غير حد،فتقبل في القصاص و النسب و جميع العقود، و في عيوب النساء و الولادة،و في الزكاة و الوقف،و لا تقبل فيما يستوجب الحد كالزنا و شرب الخمر و السرقة،لأن الحدود مبتنية على التخفيف،و الدرء بالشبهة، و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا تجوز شهادة على شهادة في حد.

3-أن يشهد اثنان على شهادة الواحد،و يجوز أن يشهدا على شهادة اثنين،أو جماعة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:كان علي عليه السّلام لا يجيز شهادة رجل على

ص:153


1- الضرر على نوعين:ضرر مستحق يجب عليك تحمله،كما لو كان عليك دين للمشهود عليه،فإذا شهدت عليه طالبك بحقه و ضايقك به،و في مثل هذه الحال عليك أن تشهد و تتحمل الضرر،لأنه مستحق عليك،و ضرر غير مستحق كما لو أديت الشهادة لآذاك المشهود عليه ظلما و عدوانا، و هنا لا يجب عليك أداء الشهادة.

رجل إلاّ شهادة رجلين على رجل.

4-على شاهدي الفرع أن يعينا و يسميا شاهد الأصل عند الحاكم،و لا يكفي أن يقولا:نشهد على شهادة عدل أو عدلين،لأن العبرة بعدالة الشاهد عند الحاكم،لا عند غيره،و لأن ذلك يسد على الخصم المشهود عليه باب الطعن بالشاهد.

ثم أن الشهادة الثالثة لا تسمع بحال،أي أن شهادة الفرع لا تكون أصلا لغيرها.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن شهادة النساء على الشهادة لا تقبل إطلاقا،حتى فيما تقبل فيه شهادة النساء،لظهور النص في اعتبار الرجلين في الشهادة على الشهادة.

و إذا شهد الفرعان،و حكم الحاكم،ثم حضر شاهد الأصل ينفذ الحكم، حتى و لو خالف الأصل،و ان حضر قبل الحكم سقط الفرع،و يؤخذ بقول الأصل،لأن العمل بالفرع مشروط بعدم حضور الأصل.

ص:154

أقسام الحقوق و الحوادث

اشارة

ان الحادثة التي تثبت بشهادة الشهود تنقسم باعتبار تعدد الشاهد،و كونه ذكرا أو أنثى أقسام:

1-الزنا:

لا يثبت الزنا بشهادة النساء منفردات بالإجماع،و يثبت بشهادة أربعة رجال،قال تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (1).و قال لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ (2).

قال صاحب الجواهر و المسالك و غيرهما:ليس في الآية الكريمة ما يدل على الحصر بأربعة رجال،بحيث لا تقبل النساء إطلاقا،حتى و لو منضمات إلى الرجال،و عليه فإذا ثبت الانضمام بدليل آخر عمل به.و قد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام ان الزنا الموجب للرجم كما يثبت بأربعة رجال أيضا يثبت بثلاثة رجال،و امرأتين،و لا يثبت برجلين و ثماني نساء،و أيضا جاء عنهم أن الزنا

ص:155


1- النور:4. [1]
2- النور:13. [2]

الموجب للجلد (1)يثبت بأربعة رجال،و بثلاثة و امرأتين،و برجل و أربع نسوة.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال،و لا يجوز في الرجم شهادة رجلين و أربع نسوة،و يجوز في ذلك ثلاثة رجال،و امرأتان.

قال صاحب الجواهر:و قد يشعر التقييد بالرجم القبول في الجلد المصرح به في رواية ثانية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:يجب الرجم بشهادة ثلاثة رجال و امرأتين،و ان شهد رجلان و أربع نسوة فلا تجوز شهادتهم،و لا يرجم،و لكن يضرب حد الزاني.

2-اللواط و السحق:

يثبت اللواط و السحق بأربعة رجال فقط،و لا تقبل شهادة النساء إطلاقا، لعدم الدليل على الأخذ بشهادتهن فيهما،و لكن لا دليل صريح على اعتبار أربعة رجال،قال صاحب الجواهر:«لم نعثر في النص على ما يدل على اعتبار الأربعة فيهما،نعم جاء في النص أن اللواط يثبت بالإقرار أربعا،و ان المساحقة في النساء كاللواط في الرجال».

و يلاحظ بأن ثبوت اللواط بالإقرار أربع مرات لا يستدعي حصر الشهادة لثبوته بأربعة رجال،و إذا افترض وجود الإجماع على الأربعة فإنه ليس بشيء،إذ من الجائز أن يكون مصدره ما أشار إليه صاحب الجواهر من ان اللواط يثبت بالإقرار أربعا فيلزم على هذا القياس أن لا يثبت إلاّ بأربعة رجال،و هذا استحسان لا تثبت به أحكام اللّه جل و عز.

ص:156


1- حد الزنا الرجم إن كان الزاني متزوجا و متمكنا من زوجته ساعة يشاء،و يحد بمئة جلدة إن كان أعزب،أو غير متمكن من زوجته،و كذلك المرأة و التفصيل في باب الحدود.
3-حق اللّه:

حق اللّه على نوعين:مالي،كالخمس و الزكاة و النذور و الكفارات،و غير مالي كحد الارتداد عن الإسلام،و حد القذف،و هو أن يرمي شخص آخر بالزنا أو اللواط،و حد السرقة،و الزنا و اللواط و السحق،و تقدمت الإشارة إلى الثلاثة الأخيرة،و لا يثبت حق اللّه بكلا نوعيه إلاّ بشهادة رجلين،و لا تقبل فيه النساء إطلاقا،لا منفردات و لا منضمات و لا الشاهد مع اليمين،قال صاحب المسالك:

«لا فرق في حقوق اللّه تعالى بين كونها مالية،كالزكاة و الخمس و الكفارة، و بين غيرها كالحدود،و قد دل على عدم قبول شهادة النساء في الحدود روايات- منها لا تجوز شهادة النساء في الحدود و القود-و استثنى ما تقدم-اي ثبوت الزنا بالنساء منضمات إلى الرجال-و أما حقوق اللّه المالية فليس عليها نص بخصوصها،لكن لما كان الأصل في الشهادة هو شهادة الرجلين،و كان مورد الشاهد و اليمين و الشاهد و امرأتين هو الديون و نحوها من حقوق الآدميين اقتصر على مورده،و بقي غيره على الأصل».

و نستفيد من هذا الكلام أن قوله سبحانه وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ .هو قاعدة عامة على أن الحادثة،آية حادثة،انما تثبت بشهادة رجلين إلاّ ما خرج بالدليل،و لا دليل على أن حقوق اللّه المالية تثبت بشهادة النساء أو اليمين فبقيت مشمولة للقاعدة،و موردا من مواردها.

4-حقوق الناس غير المالية:

أطلق جماعة من الفقهاء القول بأن كل حق من حقوق الناس ليس مالا،و لا المقصود منه المال،و يمكن اطلاع الرجال عليه-في الغالب-كالإسلام و تزكية

ص:157

الشهود و جرحهم،أن هذا الحق لا يثبت إلاّ بشاهدين ذكرين،و لا تقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمات.

و بعد أن نقل هذا صاحب الجواهر علق عليه بقوله:«و لكن لم أقف في النصوص على ما يفيده،بل فيها ما ينافيه».و من أحاط بما ذكرناه في هذا الفصل من النصوص تبين له وجه الصواب في قول صاحب الجواهر.

و مهما يكن،فقد ذهب المشهور،و منهم صاحب الشرائع و المسالك إلى أن كلا من الطلاق و الخلع و الوكالة و اقامة الوصي و النسب و رؤية الهلال لا يثبت إلاّ بشهادة رجلين.قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا تجوز شهادة النساء في الطلاق، و لا في الهلال».و في رواية ثانية عنه:«لا يقبل في الهلال إلاّ رجلان عدلان،و لا في الطلاق إلاّ رجلان عدلان».و الخلع من أقسام الطلاق.أما النسب و الوكالة، و اقامة الوصي فلم اطلع على نص خاص بواحد منها فيما لدي من كتب الفقه و الحديث،و منها الوسائل و الجواهر،و قال صاحب المسالك:«لا تثبت هذه إلاّ بشاهدين،إذ لا تعلق لها بالمال أصلا».

و قال أيضا:«اختلف الفقهاء في قبول شهادة النساء في الزواج تبعا لاختلاف الأخبار،و ليس فيها خبر نقي،و أكثر الفقهاء على قبول شهادتين في الزواج،و اختلفوا أيضا في قبول شهادتين في الجنايات الموجبة للقصاص تبعا لاختلاف الاخبار أيضا إلاّ أن أصحها و أكثرها دال على القبول».

و من الروايات الدالة على قبول شهادتين في الزواج أن الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن شهادة النساء،هل تجوز في الزواج؟قال:نعم،و لا تجوز في الطلاق.و مما دل على قبول شهادتين في القصاص ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل:ا تجوز شهادة النساء في الحدود؟قال:في القتل وحده،ان عليا عليه السّلام كان يقول:لا يطل دم رجل مسلم.و التفصيل في باب الحدود و القصاص.

ص:158

5-حقوق الناس المالية:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه يثبت بشهادة رجلين،و برجل و امرأتين،و برجل و يمين حقوق الناس المالية،أو ما كان المقصود منها المال، كالديون و الغصب و عقود المعاوضات و الرهن و الوصية بالمال و الجناية التي توجب الدية فقط،كقتل الخطأ و شبه العمد،قال الإمام الصادق عليه السّلام:تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين.و قال أيضا:كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقضي بشاهد و يمين.قال صاحب الجواهر:«إلى غير ذلك من الأدلة المعتضدة بفتوى الفقهاء قديما و حديثا».

و تسأل:هل يثبت الحق المالي للناس بشهادة امرأتين و يمين،كما يثبت بشهادة رجل و يمين؟ قال صاحب الجواهر:الظاهر ثبوت ذلك بهما وفاقا للمشهور شهرة عظيمة،بل عن الشيخ في كتاب الخلاف الإجماع عليه،لصحيح منصور بن حازم عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:إذا شهد لصاحب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز.و في رواية ثانية:أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف باللّه أن حقه لحق.ثم قال صاحب الجواهر:نعم لا تقبل شهادة النساء منفردات-أي من غير يمين معهن-في شيء من الحقوق المالية و ان كثرن بلا خلاف محقق أجده.

6-ما يعسر اطلاع الرجال عليه:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه يثبت بشهادة الرجال و النساء منضمات و منفردات عن الرجال ما يعسر اطلاع الرجال عليه في الغالب،كالولادة

ص:159

و البكارة و الثيبوبة و عيوب النساء الباطنة كالرتق و القرن و الحيض (1)و استهلال المولود،أي ولادته حيا ليرث،قال الإمام الصادق عليه السّلام:تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه،و يشهدوا عليه.و في رواية ثانية:تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة.و المنفوس هو المولود،و العذرة البكارة.و في رواية ثالثة:أنّه جيء إلى علي أمير المؤمنين عليه السّلام بامرأة زعموا أنّها زنت،فأمر النساء فنظرن إليها،فقلن هي عذراء،فقال:ما كنت لا ضرب من عليها خاتم اللّه.

قال صاحب الجواهر:«إلى غير ذلك من النصوص التي يمكن دعوى القطع بها، أو تواترها،أما الثبوت بهن منضمات مع الرجال،أو بالرجال-فقط-فهو المشهور،كما في كشف اللثام للعمومات-الدالة على قبول شهادة الرجال- و معلومية كون الرجال هم الأصل في الشهادة».

و جاء في كتاب الجواهر نقلا عن أكثر الفقهاء أن شهادة النساء لا تقبل في الرضاع،و ان فلانة أرضعت فلانا،حتى صار ولدها من الرضاعة.و قال جماعة، منهم صاحب الشرائع و الجواهر و المسالك:انّها تقبل،و ان انفردن عن الرجال، لأن الرضاع من الأمور التي لا يطلع عليها إلاّ النساء غالبا،فمست الحاجة إلى قبول شهادتهن فيه،كغيره من الأمور الخفية،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة تقول:انّها أرضعت غلاما و جارية؟قال الإمام:أ يعلم ذلك غيرها؟قال السائل:

لا.فقال الإمام عليه السّلام:لا تصدّق ان لم يكن غيرها.و المفهوم من هذا الجواب أنّها تصدق إذا علم بذلك غيرها منضما معها.

و ذهب المشهور،بشهادة صاحب الجواهر إلى أن كل موضع تقبل فيه شهادة

ص:160


1- الرتق بالتحريك،و هو أن يكون الفرج ملتحما ليس فيه للذكر مدخل،و القرن لحم في فم الفرج يمنع من النكاح.

النساء منفردات لا بد فيه من أربع نسوة،لأن كل امرأتين تقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة بدليل قوله سبحانه أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (1).

أجل،أجمع الفقهاء على استثناء أمرين من ذلك هما ولادة الولد حيا، و الوصية بالمال،فقبلوا شهادة المرأة الواحدة من غير يمين في ربع ميراث المستهل (2)أي ولادة المولود حيا،و في ربع الوصية بالمال للموصى له،و النصف بشهادة اثنين،و ثلاثة أرباع بشهادة الثلاث،و تمام المال بشهادة الأربع.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه».و قد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل مات، و ترك امرأته،و هي حامل،فوضعت بعد موته غلاما،ثم مات الغلام بعد ما وقع على الأرض،فشهدت القابلة أنّه استهل و صاح حين وقع على الأرض،ثم مات؟ قال الإمام عليه السّلام:على الحاكم أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام.و في رواية ثانية:ان كانت امرأتان تجوز شهادتهما في النصف،و ان كن ثلاثا جازت شهادتهن في ثلاثة أرباع،و ان كن أربعا جازت شهادتهن في الميراث كله.

ص:161


1- البقرة:282. [1]
2- جاء في كتاب«الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»لابن القيم الجوزية،ص 80،طبعة 1953 ما نصه بالحرف:«قال أحمد بن حنبل:قال أبو حنيفة:تجوز شهادة القابلة وحدها و ان كانت يهودية أو نصرانية».و في ص 129:«ما لا يطلع عليه الرجال غالبا من الولاد و الرضاع و العيوب تحت الثياب الحيض و العدة فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة مع العدالة،و الأصل فيه حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.»ثم ذكر الحديث.

في الطواري بعد الشهادة

الامتناع عن الشهادة:

إذا امتنع الشاهد عن الأدلاء بشهادته أمام الحاكم من غير عذر فإنه يأثم بلا ريب،لقوله تعالى وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ .و لكن إذا فات الحق فهل يضمنه الشاهد،لأنه السبب في التفويت؟ و لم يرد نص في الشريعة الإسلامية على ذلك سلبا و لا إيجابا،و لكن قواعد الشريعة و أصولها تستدعي عدم الضمان،لأن أسباب الضمان ثلاثة:

الأول:المباشرة،كمن باشر بنفسه إتلاف مال الغير.

الثاني:التسبيب،كمن حفر حفره في الطريق العامة،فتلف شيء بسببها.

الثالث:وضع اليد،كمن اغتصب عينا،ثم تلفت في يده،و لو بآفة سماوية.

و سبق الكلام مفصلا عن أسباب الضمان في باب الغصب من هذا الجزء.

و الامتناع عن الشهادة ليس في شيء من هذه الثلاثة،فإن الشاهد لم يباشر الإتلاف بنفسه،و لم يضع يده على العين،و لم يقم بأي عمل يستدعي الإتلاف،كالحفر و ما إليه،و انما وقف موقفا سلبيا،و بديهة أن السلب ليس بعلة تامة للضمان.

أجل،أن كاتم الشهادة يستحق العقاب من اللّه سبحانه،و اللوم من الناس،و لكن

ص:162

العقاب و اللوم شيء،و التغريم بالمال شيء آخر.هذا،إذا كتم الشهادة،أما إذا شهد،ثم طرأ شيء بعد الشهادة،كموته أو الرجوع عن شهادته أو العلم بكذبه فللفقهاء في ذلك تفصيل يتضح مما يلي:

الموت بعد أداء الشهادة:

إذا شهدا عند الحاكم،و قبل الحكم مات الشاهدان أو أحدهما،أو عرض عليه الجنون أو الإغماء فلا يضر ذلك بشهادتهما،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،لأصالة بقاء صحتها»و لأن الحكم يستند إلى الأداء،و قد حصل.

و إذا كانا حين الشهادة مجهولي الحال،و ماتا بعدها،ثم زكيا بعد الموت كشفت التزكية عن صحة شهادتهما،و لزم الحكم بموجبها.

الفسق بعد الشهادة و قبل الحكم:

إذا طرأ على العدلين أو أحدهما بعد الشهادة،و قبل الحكم،هل يجوز الأخذ بشهادتهما و الحكم بموجبها؟ اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك على عدم جواز الحكم إذا كان المشهود به حقا من حقوق اللّه،كحد الزنا و اللواط و شرب المسكر لوجود الشبهة الدارئة للحدود.

و اختلفوا فيما إذا كان المشهود به حقا من حقوق الناس،كالدّين و ما إليه، و نحن على رأي صاحب المسالك و الجواهر،حيث قال بعد جواز الحكم تماما كالحال السابقة،لأن الأدلة التي منعت من الحكم بموجب شهادة الفاسق تشمل هذا الفرض،و لو اعتمد الحاكم على شهادته لصدق عليه أنّه حكم بشهادة الفاسق.

ص:163

إذا صار الشاهد وارثا:

سبق أن الأقرباء يجوز أن يشهد بعضهم لبعض،فإذا شهد شاهد لقريبه بمال،و قبل الحكم مات المشهود له،و انتقل المال المشهود به للشاهد،إذا كان كذلك تسقط الشهادة،و لا يجوز الحكم إجماعا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك،لأن من شرط قبول الشهادة أن لا تجر نفعا للشاهد،كما تقدم،و لو حكم له لكان معنى ذلك أن الإنسان يجوز أن يشهد بنفسه لنفسه.

و إذا كان للشاهد شريك فلا تثبت حصته،لأن الشهادة لا تتجزأ.

شهادة الزور:

لا يتحقق الزور في الشهادة إلاّ بتعمد الكذب،فمجرد بطلانها لا يستدعي أن تكون زورا،بل قد تكون باطلة،و لا تكون زورا،و لا يثبت زور الشهادة بالبينة،بل يكون ذلك من تعارض البينات،و يأتي الكلام عنه في باب القضاء ان شاء اللّه،و أيضا لا يثبت الكذب و الزور بإقرار الشاهدين،لأن إقرارهما بالكذب رجوع عن الشهادة،و سنذكر حكمه في الفقرة التالية،و انما يثبت الزور في الشهادة بالقرائن التي تفيد القطع،بحيث يعلم الحاكم على اليقين بكذب الشاهد، كما لو كشف بنفسه على الشيء المشهود به أو تيقن ذلك من تقرير الخبراء.

و متى ثبت الزور في الشهادة ينتقض الحكم،سواء أ كان ذلك قبل التنفيذ، أو بعده،لأن المبني على الفاسد فاسد مثله،و عليه فان كانت العين المحكوم بها قائمة استعيدت،و ان كانت تالفة ضمن كل شاهد بقدر ما كانت شهادته سببا لتلف المال،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن شاهد الزور؟فقال:ان كان الشيء قائما بعينه ردّ على صاحبه،و ان لم يكن قائما ضمن الشاهد بقدر ما أتلف من مال الرجل.

ص:164

هذا،إذا كان المشهود به مالا،أما إذا كان قتلا أو قطعا فيفعل بكل شاهد ما فعل بالمشهود عليه.

الرجوع عن الشهادة:
اشارة

إذا رجع الشاهدان أو أحدهما عن الشهادة بعد الأدلاء بها فلهذا الرجوع حالات:

1-أن يرجع الشاهد قبل الحكم

،و قد اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على إلغاء الشهادة،و عدم القضاء بها،مهما كان نوع المشهود به،كما أن الشاهد لا يضمن شيئا،ثم ان اعترف بأنه تعمد الكذب فهو فاسق،و ان قال:غلطت أو أخطأت فلا فسق،و ليس من شك أنّه لو عاد و شهد ثانية لا يقتضي بشهادته، لمكان التناقض.

2-أن يحصل الرجوع بعد الحكم

و قبل تنفيذه،و ان يكون المحكوم به حقا للّه سبحانه،كحد الزنا و اللواط و شرب المسكر،و اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على انتقاض الحكم،لأن الحدود تدرأ بالشبهات،حتى و لو كان حق اللّه سبحانه مشوبا بحق الناس،كحد القذف و السرقة.

3-أن يحصل الرجوع بعد الحكم و القضاء بالشهادة

،و لكن المحكوم به حق من حقوق الناس المالية كالدين و ما إليه،فيبقى الحكم على حاله،و لا ينتقض بمجرد الرجوع،لأن حق المشهود له قد ثبت بالقضاء،و ليس هو من الحقوق التي تسقط بالشبهة،حتى يتأثر بالرجوع على حد تعبير صاحب المسالك،و قال صاحب الجواهر:هذا هو الأقوى.

و رب قائل:ان رجوع الشهود عن شهادتهم،تماما كشهود الزور فإذا

ص:165

انتقض الحكم المبني على الزور فكذلك أيضا يجب أن ينتقض إذا رجع الشهود.

و ردّنا على ذلك بأن الفرق بعيد جدا بين الموردين،حيث نقطع بأن شهادة الزور مخالفة للواقع-كما هو الفرض-أما الرجوع عن الشهادة فلا يدل بحال على مخالفتها للواقع،إذ من الجائز ان تكون الشهادة صحيحة،و الرجوع كاذب،و كذا يجوز أن يكون الرجوع صحيحا،و الشهادة كاذبة،و لكن نرجح جانب الشهادة لوجود القضاء الذي يصان عن الإلغاء ما أمكن،و لأن الرجوع أشبه بالإنكار بعد الإقرار.

و لا فرق في ذلك بين أن يكون الرجوع عن الشهادة قبل التنفيذ و الاستيفاء، أو بعده،فإن كان الشيء المحكوم به قد تسلمه المحكوم له فذاك،و إلاّ وجب تسليمه إليه،و يضمن الشهود لمن شهدوا عليه عوض ما أخذ منه من المثل أو القيمة.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا شهدوا على رجل،ثم رجعوا عن شهادتهم، و قد قضى القاضي على الرجل ضمنوا ما شهدوا به و غرموا،و ان لم يكن قضاء طرحت شهادتهم،و لم يغرموا شيئا.

4-أن يرجع الشهود بعد القضاء و تنفيذه

،و المشهود به قتل أو جرح أو قطع،و ما إليه،و عندئذ يسأل الشهود،لما ذا رجعوا عن شهادتهم؟فإن قالوا تعمدنا الكذب اقتص من كل واحد،و فعل به مثل ما فعل بالمشهود عليه من القتل أو القطع،و ان قالوا أخطأنا وزعت عليهم الدية،و ان قال بعضهم تعمدنا، و بعضهم أخطأنا فعلى المقر بالعمد القصاص،و على المقر بالخطإ نصيبه من الدية.

قال صاحب الجواهر:كل ذلك لا خلاف في شيء منه،لقاعدة قوة السبب على المباشر،و عمومات القصاص مضافا إلى نصوص المقام.و منها أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا،ثم رجع أحدهم بعد

ص:166

ما قتل الرجل؟فقال الإمام:ان قال الراجع:أوهمت ضرب حد القذف،و أغرم الدية،و ان قال:تعمدت،قتل.

الشهادة بالطلاق:

إذا شهد شاهدان بأن فلانا طلق زوجته،و قضى الحاكم بشهادتهما،ثم تبيّن للحاكم كذبهما ينتقض الحكم،و تبقى العلاقة الزوجية،حتى و لو تزوجت غيره، لما سبق من أن المبني على الباطل باطل،أما إذا رجعا عن الشهادة فلا تعود المرأة إلى زوجها،لأن رجوعهما عن الشهادة محتمل للصدق و الكذب،و لا يرد القضاء المبرم بقول محتمل على حد تعبير صاحب المسالك الذي نسب هذا القول إلى المشهور.و قال صاحب الجواهر:فلا إشكال في عدم انتقاض الحكم بالطلاق إذا رجع الشاهدان.

ثم ينظر:فان كان الزوج قد دخل بالمرأة فلا يضمن الشاهدان له شيئا،لأنه قد استوفى البضع،و ان لم يدخل ضمنا له نصف المهر الذي دفعه الزوج دون أن ينتفع بشيء،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده».

الشهادة بالوصية:

إذا شهد اثنان بأن فلانا أوصى لزيد بهذا الشيء الخاص من ماله،ثم شهد شاهد واحد بأنّه عدل عن وصيته،و أوصى به إلى خالد،فلخالد أن يحلف اليمين مع الشاهد،و يحكم له بالشيء الموصى به،و لا تعارض بين شهادة الشاهدين لزيد،و القضاء بشاهد و يمين لجواز العدول عن الوصية.

ص:167

كتاب الزواج

الخطبة:

اشارة

تستحب خطبتان:إحداهما عند طلب الزواج،و الثانية أمام العقد،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان جماعة قالوا للإمام علي عليه السّلام:نريد أن نزوج فلانا من فلانة، و نريد أن نخطب له،فتكلم الإمام بخطبة-عند طلب المرأة للرجل-ابتدأها بحمد اللّه،و الثناء عليه،و الوصية بتقوى اللّه،ثم قال:ان فلان ابن فلان ذكر فلانة بنت فلان،و هو في الحسب من قد عرفتموه،و في النسب من لا تجهلونه،و بذل لها من الصداق ما قد عرفتم،فردوا خيرا تحمدوا عليه،و تنسبوا إليه،و صلّى اللّه على محمّد و آله و سلم.

و قال صاحب المسالك:تستحب الخطبة أمام العقد،و هي حمد اللّه تعالى، و الشهادتان،و الصلاة على النبي و آله،و الوصية بتقوى اللّه،و الدعاء للزوجين، و انما استحبت للتأسي بالنبي و الأئمة صلوات اللّه عليهم بعده.و كذا تستحب الخطبة أمام الخطبة من المرأة و وليها،كما تستحب للولي أن يخطب.و الأفضل الاختصار في الجميع على حمد اللّه،فإن الإمام زين العابدين عليه السّلام كان لا يزيد على قوله:الحمد للّه،و صلّى اللّه على محمد و آله،و استغفر اللّه،و قد زوجناك على شرط اللّه تعالى،بل قال الإمام زين العابدين عليه السّلام:من حمد اللّه فقد خطب.ثم

ص:168

قال الشهيد الثاني في المسالك:لو تركت الخطبة صح العقد عند جميع العلماء إلاّ داود الظاهري.

ثم أن للزواج ركنين:الصيغة و الزوجين،أما المهر فليس ركنا و لا شرطا في صحة العقد.

1-الصيغة:

و يشترط فيها:

لفظ الإيجاب و القبول من الخطوبة و الخاطب،أو من ينوب عنهما وكالة أو ولاية،و لا يتم الزواج بالمراضاة و المعاطاة،و لا بالإشارة و الكتابة مع القدرة على اللفظ.و بهذا يفترق عقد الزواج عن غيره من العقود.

و تقول:و لما ذا اللفظ؟و هل هو إلاّ وسيلة للكشف عن الرضا و الإرادة،فإذا تأكدنا من وجود الرضا كان اللفظ و عدمه سواء؟ و نجيب بأن الهدف من التلفظ بالزواج هو الالتزام بالزوجية و آثارها،بحيث لا يبقى مجال للتهرب منها بحال،تماما كتوقيع سند البيع من المتبايعين،و توقيع المعاهدة بين دولتين،بل أن الزوجية أهم و أخطر من المعاملات التجارية، و المعاهدات الدولية،لأنها ميثاق غليظ بين الزوجين،كما عبرت الآية 20 من سورة النساء وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً .فكما أن كلا من المتبايعين و الدولتين في حل من أقوالهما و و عودهما«رسميا»حتى يتم التوقيع كذلك المخطوبة و الخاطب لا يتحقق الميثاق بينهما و الالتزام إلاّ باللفظ الذي هو بمنزلة التوقيع، فمتى تلفظ كل منهما بالزواج فقد ألزم به نفسه،و قيدها بعهده و ميثاقه،و على

ص:169

الأصح بسلاسله و أغلاله.

2-لفظ خاص:

اتفقوا على أن الإيجاب في العقد الدائم يقع بلفظ«زوجت و أنكحت»بل قال جماعة من الفقهاء:لا يقع إلاّ بهذين اللفظين،و الأصل في ذلك قوله تعالى:

فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ،و قوله وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ فان المراد من النكاح هنا العقد.

و اختلفوا في وقوع الزواج الدائم بلفظ«متعت»فذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى عدم وقوعه،لأن الأصل عصمة الفروج.خرج منه موضع اليقين،و هو العقد بلفظ«زوجت و أنكحت»فبقي غيره على أصل المنع.هذا، إلى أن في الزواج رائحة العبادة المتوقفة على أمر الشارع،قال صاحب المسالك:

«الزواج مبني على الاحتياط،و فيه شوب من العبادة المتلقاة من الشارع،و لأن الأصل تحريم الفرج،فيستصحب إلى أن يثبت سبب الحل شرعا».

أما القبول فيكفي اللفظ الدال على الرضا صراحة،مثل«قبلت و رضيت» قال صاحب الجواهر:«لا خلاف و لا إشكال في حصول الرضا بهذين اللفظين.

و إذا قالت له:زوجتك نفسي،و قال:قبلت النكاح،أو قالت:أنكحتك،و قال:

قبلت الزواج صح بداهة قيام الألفاظ المترادفة بعضها مقام بعض.كما لا خلاف و لا اشكال عندنا في أنّه يجوز الاقتصار على:قبلت،كغيره من العقود».

3-صيغة الماضي:

ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن صيغة الزواج الدائم لا

ص:170

تنعقد إلاّ بلفظ الماضي:«زوجت،دون أتزوج».و قال كثير من المحققين،منهم صاحب المسالك و الجواهر و الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب،و صاحب العروة الوثقى،و صاحب المستمسك و غيرهم،قالوا بانعقاد الزواج بغير صيغة الماضي.ورد صاحب المسالك على من اشترط صيغة الماضي بأقوال اعتمدها صاحب الجواهر و كثير غيره.قال الشهيد في المسالك:«ان المقصود من العقد لما كان هو الدلالة على القصد الباطني،و اللفظ كاشف عنه،فكل لفظ دل عليه ينبغي اعتباره،و قولهم ان الماضي صريح في الإنشاء دون غيره ممنوع،لأن الأصل في الماضي أن يكون اخبارا،لا إنشاء،و انما التزموا بجعله إنشاء بطريق النقل،و إلاّ فإن اللفظ لا يفيده،و انما يتعين بقرينة خارجة،و مع اقتران القرينة يمكن ذلك في غير صيغة الماضي».

و قال الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب:«فقد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام أن المتعة تجوز بلفظ أتزوجك متعة،و إذا جاز في المنقطع جاز في الدائم،لعدم الفرق،حيث ان كلا منهما عقد لازم».

و هذي هي الرواية التي أشار إليها الشيخ الأنصاري:فقد سئل الإمام عليه السّلام عن زواج المتعة كيف يقول لها؟قال الإمام:تقول:أتزوجك متعة على كتاب اللّه، و سنة نبيه بكذا إلى كذا،فإذا قالت:نعم،فقد رضيت،و هي امرأتك،و أنت أولى الناس بها.

4-غير العربية:

اتفقوا على أن عقد الزواج يتم بغير العربية مع العجز عنها،و اختلفوا في انعقاده مع القدرة عليها،فذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى عدم

ص:171

الانعقاد إلاّ بالعربية،و قال جماعة،منهم الشيخ الأنصاري و السيد الحكيم، بالانعقاد،فقد جاء في الجزء التاسع من مستمسك العروة للحكيم:«البناء على جواز غير العربي كما عن ابن حمزة غير بعيد،بل هو المتعين».و قال الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب:«لا دليل على اعتبار العربية.أما قول من قال:

ان العقد لا يصدق على العربي مع القدرة فمردود بأن القدرة لا مدخل لها في مدلول الألفاظ».

و اتفقوا على أن الزواج لا ينعقد بالكتابة (1)و ان الأخرس القادر على التوكيل يكتفى منه بالإشارة الدالة على قصد الزواج صراحة إذا لم يحسن الكتابة،و ان أحسنها فالأولى أن يجمع بينها و بين الإشارة المفهمة.و جاء عن الإمام عليه السّلام أنّه سئل عن الأخرس الذي لا يكتب و لا يسمع،كيف يطلقها؟قال:بالذي يعرف من أفعاله.

5-الموالاة:

ذهب المشهور إلى أن الموالاة بين الإيجاب و القبول شرط في انعقاد عقد الزواج،بحيث إذا وجد بينهما فاصل طويل لا يتحقق العقد،و قال السيد الحكيم في الجزء التاسع من المستمسك:«ان صدق العقد لا يتوقف على الفورية،و لا على اتحاد المجلس،و لو مع الفصل الطويل».و قال صاحب الجواهر:«لا دليل

ص:172


1- نقل السيد الحكيم في المستمسك [1]عن صاحب القواعد،و صاحب جامع المقاصد قولهما بأنّه لا ريب في أن الكتابة لا تكفي إجماعا،و ان الثاني علل ذلك بأن الكتابة كناية،و ان الزواج لا يقع بالكنايات،ورد السيد الحكيم هذا التعليل بقوله:ان الكتابة ليست من الكناية في شيء،و لا مانع من الكناية إذا كانت واضحة الدلالة.هذا قول السيد الحكيم،و الذي نفهمه منه أن الزواج عنده يقع بالكتابة إذا كانت واضحة الدلالة.

على اعتبار اتحاد المجلس في عقد الزواج،و لا في غيره من العقود».

و سبق قولنا في الجزء الثالث فصل شروط العقد فقرة«الموالاة»:ان الواجب هو بقاء ارادة الموجب قائمة إلى حين القبول،فالعبرة ببقاء الإيجاب،و عدم رجوع الموجب عنه قبل القبول،أما الفاصل فوجوده و عدمه سواء.

6-التعليق:

ذهب المشهور إلى أن التعليق مبطل لعقد الزواج،فإذا قالت:زوجتك ان رضي فلان،أو حدث كذا،بطل العقد و لا دليل للقائلين بهذا إلاّ الظن بأن العقد، أي عقد،يجب أن تترتب عليه آثاره بالحال،و لا يمكن أن تتراخى عنه إلى الاستقبال،و تكلمنا عن ذلك مفصلا في الجزء الثالث فصل شروط العقد،فقرة «التعليق»و أبطلنا هذا الظن،و مع ذلك نتحفظ بالنسبة إلى عقد الزواج،لأنه يفترق عن عقود المعاوضات في جهات تلحقه بالأمور التوقيفية.

7-التقديم و التأخير:

الأصل أن يكون الإيجاب من المخطوبة،و القبول من الخاطب،فتقول هي أو وكيلها:زوجت،و يقول هو أو وكيله:قبلت،و لكن المشهور أجازوا تقديم القبول على الإيجاب،و ان يقول:زوجتني نفسك بكذا،فتقول:زوجتك،أو قبلت.قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«لأن العقد هو الإيجاب و القبول، و التركيب كيف اتفق غير مخل بالمقصود،و يزيد الزواج على غيره من العقود أن الإيجاب من المرأة،و هي تستحي غالبا من الابتداء به،فاغتفر هنا.و من ثم ادعى بعضهم الإجماع على جواز تقديم الإيجاب هنا».

ص:173

و يكفي أن يكون بلفظ نعم،لرواية أبان بن تغلب عن الإمام الصادق عليه السّلام:

إذا قالت المرأة:نعم،بعد قول الرجل:أتزوجك متعة بكذا إلى كذا فهي امرأتك و أنت أولى الناس بها.

بل يكفي من المتعاقدين النطق بما يحسنان مع العجز عن التلفظ بالزواج و النكاح،كأن يقول أحدهما:جوزت بدلا عن زوجت،على شريطة أن يكون كل منهما على يقين من مقصود الآخر.قال صاحب الشرائع و الجواهر:«إذا عجز أحد المتعاقدين عن النطق بلفظ الزواج و النكاح تكلم بما يحسنه بعد فرض علم كل منهما بمقصود الآخر».

8-شرط الخيار:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الخيار لا يصح في الزواج دائما كان أو منقطعا،فإذا اشترط الزوج أو الزوجة في ضمن العقد فسخه و الرجوع عنه في مدة معينة فسد الشرط،لأن الزواج لا يقبل التقايل فلا يقبل الفسخ.

و اختلفوا:هل يفسد العقد أيضا،أو ان الفاسد الشرط دون العقد؟ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى فساد العقد أيضا.قال صاحب الجواهر:

«المشهور بين الفقهاء،بل لا أجد فيه خلافا في بطلان الشرط.للعلم بأن عقد الزواج لا يقبل الخيار،لأن فيه شائبة العبادة،و فسخه محصور بالعيوب المنصوص عليها-كما يأتي-و لذا لا تجري فيه الإقالة بخلاف غيره من عقود المعاوضات،فاشتراط الخيار فيه مناف لمقتضى العقد المستفاد من الأدلة الشرعية.و من هنا كان شرط الخيار مبطلا للعقد».

و قال جماعة من الفقهاء،منهم ابن إدريس،و السيد الأصفهاني في

ص:174

الوسيلة،و السيد اليزدي في العروة الوثقى،و السيد الحكيم في المستمسك، قالوا:«يبطل الشرط فقط،أما العقد فصحيح»و نحن على هذا الرأي،لأن لعقد الزواج حكما خاصا يخالف جميع العقود.

9 الشهود:

اتفقوا-ما عدا ابن أبي عقيل-على أن الإشهاد على الزواج الدائم مستحب، و ليس بواجب.قال صاحب الجواهر:«المعروف بين الفقهاء عدم وجوب الاشهاد،بل القول بالوجوب شاذ».

و ذلك ان الإشهاد شرط زائد،و الأصل عدمه،حتى يثبت الدليل،و لا دليل.

أجل،جاء نص من طريق السنة و الشيعة على أنّه لا زواج إلاّ بوليّ و شاهدين، و لكنه ضعيف بشهادة صاحب الجواهر و المسالك،قال الشهيد الثاني في المسالك:«لقد اعتبر الخيار من نقاد الحديث هذا النص فوجدوه ضعيف السند».

أهلية المتعاقدين:

اتفقوا على شرط العقل و البلوغ و الرشد في كل من المخطوبة و الخاطب إلاّ مع الولي،و يأتي الكلام عنه (1)،و من الطريف قول صاحب الجواهر ان ألفاظ المجنون و الصغير كأصوات البهائم بالنسبة إلى العقود».و المجنون الأدواري تنفذ جميع تصرفاته حين الإفاقة.و السكر و الإغماء و النوم بحكم الجنون،أما المزح فليس بشيء،كما قال الإمام الرضا عليه السّلام:

و أيضا اتفقوا على خلو الخاطب و المخطوبة من المحرمات السببية

ص:175


1- تكلمنا مفصلا عن حد البلوغ في الذكر و الأنثى في باب الحجر فقرة«الصغير و علامات البلوغ».

و النسبية التي سنعقد لها فصلا خاصا.

و أيضا اتفقوا على وجوب التعيين،فلا يصح زوجتك احدى هاتين البنتين،و لا زوجت أحد هذين الرجلين،لأن الأخذ بآثار الزوجية و أحكامها لا يمكن إلاّ بعد التشخيص و التمييز.

و أيضا اتفقوا على وجوب القصد و الرضا و الاختيار،و إذا وقع عقد الزواج عن إكراه،ثم رضي المكره،و أجاز العقد صح،قال صاحب الجواهر:«إذا ارتفع الإكراه،و حصل الرضا كفى ذلك في الصحة».و قال الشيخ الأنصاري في المكاسب:«المشهور بين المتأخرين أن المكره لو رضي بعد ذلك بما فعله صح العقد،بل نقل الاتفاق عليه لأنه عقد حقيقي فيؤثر أثره»أي أن العقد موجود، و لكنه اقترن بوجود المانع من نفاذه،فإذا ارتفع المانع،و هو الإكراه،أثر العقد أثره.

و لا يعتد برضا الهازل و الساهي و النائم و المغمى عليه بعد زوال المانع، لعدم الاتجاه من هؤلاء إلى آثار العقد حين التلفظ به.

و على هذا،لو ادعت امرأة أنّها أكرهت على العقد،أو ادعى هو ذلك،و كانا بعد العقد قد تعاشرا معاشرة الأزواج،و انبسطا انبساط العروسين،أو قبض المهر،و ما إلى ذلك مما يدل على الرضا ترد دعوى من يدعي بطلان العقد للإكراه.

و تقول رواية عن أهل البيت عليهم السّلام:«ان السكرى إذا زوجت نفسها،ثم أفاقت و رضيت،و أقرت الزواج كان ماضيا».و لكن المشهور بشهادة صاحب العروة الوثقى قد أعرض عنها،و قال صاحب المسالك:«قد عرفت أن شرط صحة العقد القصد إليه،فالسكران الذي بلغ به السكر حدا زال عقله معه و ارتفع قصده يكون زواجه باطلا كغيره من عقوده،سواء في ذلك الذكر و الأنثى،هذا هو

ص:176

الأقوى على ما تقتضيه القواعد الشرعية،و متى كان العقد باطلا فلا تنفعه أجازته بعد الإفاقة،لأن الإجازة لا تصحح ما وقع باطلا من أصله،و الرواية على خلاف ذلك.و حملها بعضهم على السكر الذي لا يبلغ حد عدم الإفاقة،و لعل الأولى طرحها».

و لا يجوز للسفيه أن يعقد لنفسه،لأن الزواج يستدعي التصرفات المالية من المهر و النفقة،و هو ممنوع عنها،و يجوز العقد لنفسه مع اجازة الولي،و ان يكون وكيلا عن غيره في إجراء صيغة العقد،حتى و لو لم يأذن الولي،قال صاحب المستمسك:«إجماعا،و يقتضيه إطلاق الأدلة».

الوكيل يزوج نفسه:

إذا وكلته ان يزوجها من شخص معين،فلا يجوز أن يزوجها من غيره،فإن فعل كان فضوليا (1)و ان أطلقت و لم تعين،بل قالت:زوجني من رجل،فقال الفقهاء أو أكثرهم بأن الوكيل لا يجوز له أن يزوجها من نفسه،لأن الحال تشهد بأنّها أرادت غيره.فالعبرة-اذن-بما يستفاد من قولها و يعبر عن ارادتها و لو بالقرائن المقالية أو الحالية.

و إذا أذنت له إذنا صريحا بأن يزوجها من نفسه،مثل أن تقول:زوجني من نفسك،أو إذنا عاما،مثل زوجني بمن شئت فهل له أن يتولى اجراء العقد إيجابا و قبولا،و يقول:زوجت فلانة من نفسي بكذا،قبلت الزواج لنفسي؟

ص:177


1- تقدم في باب الوكالة أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل قال لآخر:اخطب لي فلانة،فلما خطبها له أنكر ذلك؟.فقال الإمام:يغرم الوكيل نصف الصداق،ثم علل الحكم بأن الوكيل قصر في عدم الاشهاد عليه.و قد اعتمد المشهور هذه الرواية،و أفتوا بمضمونها.

ذهب جماعة من كبار الفقهاء،منهم صاحب الشرائع،و المسالك، و الجواهر،و العروة الوثقى،ذهبوا إلى الجواز و عدم المانع،و يكفي التغاير بين الموجب و القابل باللحاظ و الاعتبار،أما الرواية التي تشعر بعدم الجواز فهي ضعيفة السند،قاصرة الدلالة،كما قال صاحب المسالك،أو محمولة على الكراهة أو غيرها من المحامل،كما قال صاحب العروة.و قال صاحب الجواهر:

«الجواز أشبه بأصول المذهب و قواعده المستفادة من العمومات الشاملة للفرض التي لا تصلح الرواية لقطعها بعد ندرة القول بها،و الطعن في سندها».

و نحن على هذا الرأي،إذ المفروض أن الموكل حقق ارادة موكلته بكاملها، فكان أشبه بما إذا وكل اثنان رجلا ثالثا أن يجري المعاملة الشكلية بينهما بعد أن اتفقا على النقط الأساسية.

تزوجها و لا تسأل:

قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد، فأقول:أ لك زوج؟فتقول:لا.فأتزوجها؟قال الإمام:نعم،هي المصدقة على نفسها.

و قال له آخر:إني أكون في الطرقات،فأرى المرأة الحسناء،و لا آمن أن تكون ذات بعل،أو من العواهر؟قال:ليس عليك هذا،انما عليك أن تصدقها في نفسها.

و قال له ثالث:اني تزوجت امرأة،فسألت عنها،فقيل فيها؟فقال:لم سألت؟ليس عليكم التفتيش.

و سأل رجل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل تزوج امرأة،

ص:178

فيقع في قلبه أن لها زوجا؟فقال:و ما عليه؟أ رأيت لو سألها البينة أ كانت تجد من يشهد أن ليس لها زوج (1)؟ و قد عمل الفقهاء بهذه الروايات بالإضافة إلى أصل الصحة في فعل المسلم.

خطأ الوكيل في التسمية:

سئل الإمام عليه السّلام عن وكيل أخطأ باسم الجارية،فسماها بغير اسمها؟قال:

«لا بأس به»بداهة أن معرفة قصد الطرفين هو الأساس.

ص:179


1- لا يختص هذا بالفقه الجعفري، [1]فان بقية المذاهب تقول المرأة تصدق مع عدم المعارض،فقد جاء في كتاب الأشباه و النظائر للسيوطي أن المطلقة ثلاثا تقبل دعواها بأن المحلل أصابها،و تحل للزوج الأول،بل جاء في كتاب المغني طبعة ثالثة ص 274 ان المرأة إذا ادعت أن فلانا زوجها لا تسمع دعواها إذا أفردت دعوى الزواج دون أن تضيف إليه دعوى المهر أو النفقة.قال بهذا بعض فقهاء السنة.

الشروط

الشروط التي يشترطها الزوج أو الزوجة ضمن العقد على أقسام:
1-أن يشترط أحدهما وجود صفة في الآخر

،مثل أن يشترط هو أن تكون باكرا،لا ثيبا،أو تشترط هي أن يكون متدينا،لا متسامحا في دينه،فيصح الشرط،و يلزم العقد مع تحققه،و يثبت خيار الفسخ مع تخلفه.فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،فيقول لها:أنا من بني فلان،فلا يكون كذلك؟ قال:تفسخ النكاح.

2-ان يشترط أحدهما فسخ الزواج و الرجوع عنه مدّة ثلاثة أيام أو أكثر أو

أقل

،فيفسد الشرط و العقد عند المشهور،لأن الزواج لا يقبل الإقالة،فلا يقبل الفسخ أيضا،و تقدم الكلام في ذلك فصل الزواج فقرة«شرط الخيار».

3-أن يكون الشرط منافيا لمقتضى العقد و طبيعته

،مثل أن تشترط عليه أن لا يمسها إطلاقا،و ان تكون تماما كالأجنبية،فيبطل الشرط،و يصح العقد،مع العلم بأن هذا الشرط يبطل العقد-غير الزواج-و لكن للزواج حكمه الخاص،لأن الهدف منه أسمى من المعاوضة.

4-أن يكون الشرط مخالفا للشرع

،مثل أن تشترط أن لا يتزوج عليها،أو لا يطلقها،أو لا يأتي ضرتها،أو لا يصل أرحامه،قال صاحب الجواهر:«يصح

ص:180

العقد،و يبطل الشرط اتفاقا،لقوله:من اشترط شرطا سوى كتاب اللّه فلا يجوز له و لا عليه».فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج على أن في يدها الجماع و الطلاق،قال:خالفت السنة،و وليت حقا ليس لها،ثم قضى أن عليه الصداق و في يده الجماع و الطلاق.

5-أن يشترط لها على نفسه ان سلمها المهر كاملا في أمد معين فهي

زوجته

،و ان أخلف فلا زواج،فيصح العقد و المهر،و يبطل الشرط،و لا خيار لها،لأن تخلف الشرط أو تعذره لا يوجب الخيار في الزواج بخلاف سائر العقود التجارية إلاّ إذا كان الشرط التزاما بصفة خاصة في أحد الزوجين،كما ذكرنا في الرقم الأول،و قد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل تزوج امرأة إلى أجل مسمى،فإن جاء بصداقها إلى الأجل فهي امرأته،و ان لم يأت به فليس له عليها سبيل،و ذلك شرطهم بينهم حين أنكحوه؟فقضى الإمام للرجل أن في يده بضع امرأته،و حبط شرطهم.

6-إذا اشترطت عليه أن يترك نوعا خاصا من الاستمتاع كالجماع فقط

، و له دون ذلك ما يشاء،فهل يصح الشرط؟ ذهب جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الشرائع و المسالك و الجواهر إلى صحة الشروط،و وجوب الوفاء به،سواء أ كان الزواج دائما أو منقطعا،لأن الزوجة لم تشترط عدم الاستمتاع بشتى أنواعه،و انما اشترطت شيئا خاصا،لغاية معقولة.هذا،إلى أن الوطء غاية من غايات الزواج،و أثر من آثاره،و ليس موضوعا له،و لذا يصح الزواج بامرأة يتعذر وطؤها،و يصح أيضا أن تتزوج هي من رجل عنين،و ترضى بعيب العنن،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة قالت لرجل:أزوجك نفسي على أن تلمس مني ما شئت من نظر و التماس،و تنال ما

ص:181

ينال الرجل من أهله إلاّ أنك لا تدخل فرجك في فرجي،فإني أخاف الفضيحة؟ قال الإمام:ليس له منها إلاّ ما اشترطت.

و إذا أذنت بعد ذلك بالوطء جاز،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة على أن لا يفتضها،ثم أذنت له بعد ذلك؟قال:«إذا أذنت بعد ذلك فلا بأس».

و قال صاحب الجواهر:«ان الشرط كالمانع،و مع فرض الاذن يزول المانع،فيبقى المقتضي على مقتضاه-و هو عقد الزواج-بل لو عصى و خالف الشرط لم يكن زانيا،و يلحق به الولد،كما هو واضح».

و قال آخرون:يصح الشرط في الزواج الدائم،و يبطل في المنقطع.و نحن مع القائلين بصحة الشرط في الدائم و المنقطع،لأن النص مطلق،و التقييد تحكم، و المقاصد من الزواج عديدة،و يكفي ارادة بعضها.

7-إذا اشترط أن لا يخرجها من بلدها

،أو يسكنها في بلد أو مسكن معين وجب الوفاء بالشرط،لعموم«المؤمنون عند شروطهم»و لأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يتزوج امرأة،و يشترط لها أن لا يخرجها من بلدها؟قال:يلزمه ذلك.

مدعي الشرط:

إذا ادعت الزوجة،أو الزوج شرطا سائغا زائدا على العقد و أنكر الآخر فعلى المدعي البينة،و على من أنكر اليمين،لأن الأصل عدم الشرط،حتى يثبت العكس.

ص:182

دعوى الزواج

اشارة

إذا ادعى رجل زوجية امرأة فأنكرت،أو ادعت هي ذلك فأنكر،فعلى المدعي البينة،و على المنكر اليمين،و إذا حلف المنكر،و حكم القاضي بنفي الزوجية،أو أهملت الدعوى،و لم يحصل فيها البت سلبا و لا إيجابا فعلى المدعي أن يلتزم بأحكام الزوجية و آثارها التي قد استدعاها الإقرار و الاعتراف، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز،قال صاحب الجواهر:«ان كان المدعي الرجل فليس له التزويج بخامسة،و لا أمها و لا بنتها مع الدخول بها،و لا بأختها، تماما كأنها زوجة،و يجب عليه إيصال المهر إليها بحسب الإمكان».

أما النفقة فلا تجب عليه،لعدم التمكين الذي هو شرط في وجوبها،و ان كانت المدعية هي المرأة فلا يجوز لها التزويج بغيره،و لا فعل ما يتوقف على اذن الزوج-ثم قال صاحب الجواهر-و لو أوقع الرجل المنكر صورة الطلاق،كأن يقول:ان كانت زوجتي فهي طالق،فالظاهر انتفاء الزوجية عنها،و جاز لها التزويج بغيره،لا بأبيه و ابنه مطلقا،لاعترافها بما يوجب حرمة المصاهرة».

و لو افترض أن مدعي الزواج رجع عن دعواه،و قال:كنت مبطلا في دعواي،و ذكر سببا معقولا أخذ بقوله،حتى و لو كان إنكارا بعد إقرار،لأن الإنكار لا يجوز بعد الإقرار إذا كان مزاحما لحق الغير،أما إذا جاء على وفق ما يقوله الغير فهو جائز،بخاصة في الأشياء التي لا تعلم إلاّ من قبل المنكر،و لو انعكس الأمر

ص:183

فأقر منكر الزوجية بها صح و قبل منه،لأن الإقرار بعد الإنكار لا يزاحم حق المدعي،بل يتفق معه كل الاتفاق.بل قال صاحب العروة الوثقى في باب الزواج:

«لو ادعت امرأة على رجل بأنه زوجها فأنكر،و حلف اليمين الشرعية ثم رجع عن إنكاره إلى الإقرار يسمع منه،و يحكم بالزوجية بينهما إذا أظهر عذرا،لإنكاره».

هل يثبت الزواج بالمعاشرة:
اشارة

ترفع لدى المحاكم بين الحين و الحين دعوى الزواج،و كثيرا ما يدلي المدعي بأنهما تعاشرا و سكنا في محل واحد،كما يسكن الزوج و زوجته،و يأتي بشهود على ذلك،فهل يثبت،و الحال هذه،أم لا؟

الجواب:
اشارة

ان ظاهر الحال يقتضي الحكم بالزواج حتى يثبت العكس،أي ان المعاشرة،تدل بظاهرها على وجود الزواج،و هذا الظاهر يستلزم الأخذ بقول المدعي حتى نعلم أنّه كاذب،على أن الجزم بكذب مدعي الزواج صعب جدا بناء على قول الإمام من عدم شرط الشهادة في الزواج.

و لكن هذا الظاهر معارض بالأصل،و هو أصل عدم حدوث الزواج،لأن كل حادث شك في وجود فالأصل عدمه،حتى يقوم الدليل عليه،و على هذا يكون قول منكر الزوجية موافقا للأصل،فيطلب الإثبات من خصمه،فان عجز عن إقامة البينة يحلف المنكر،و ترد الدعوى.

و هذا هو الحق الذي تستدعيه القواعد الشرعية،حيث تسالم فقهاء الإمامية على أنّه إذا تعارض الظاهر مع الأصل يقدم الأصل،و لا يؤخذ بالظاهر إلاّ مع الاطمئنان أو قيام الدليل،و لا دليل في هذه المسألة.

ص:184

نعم إذا علم بوقوع صيغة العقد،ثم شك في أنّها وقعت على الوجه الصحيح أو الفاسد يحكم بالصحة بلا ريب،أما إذا كان الشك في أصل وقوع العقد فلا يمكن أن نستكشف وجوده من المعاشرة و المساكنة بحال.

و لسائل أن يسأل:ان حمل فعل المسلم على الصحة يوجب الأخذ بقول مدعي الزواج ترجيحا لجهة الحلال على الحرام،و الخير على الشر،فنحن مأمورون أن نحمل كل عمل يجوز فيه الصحة و الفساد،و أن نلغي جانب الفساد، و نرتب آثار الصحة.

الجواب:

ان الحمل على الصحة في مسألتنا هذه لا يثبت الزواج،و انما يثبت انهما لم يرتكبا محرما بالمعاشرة و المساكنة،و عدم التحريم أعم من أن يكون هناك زواج أو شبهة حصلت لهما،كما لو توهما الحلال،ثم تبين التحريم،و يأتي التفصيل في نكاح الشبهة.و بديهة أن العام لا يثبت الخاص،فإذا قلت في الدار حيوان فلا يثبت وجود الفرس أو الغزال.و كذلك هنا،فإذا قارب رجل امرأة و لم نعلم السبب فلا نقول هي زوجة،بل نقول لم يرتكبا محرما،و قد تكون المقاربة عن زواج،و قد تكون عن شبهة.و إليك هذا المثال زيادة في التوضيح:

لو مر بك شخص،و سمعته يتفوه بكلمة،و لم تدر هل كانت كلمته هذه شتما أم تحية؟فليس لك أن تفسرها بالشتم،كما أنّه لا يجب عليك رد التحية، و الحال هذه،لأنك لم تتأكد من وجودها،أما لو تيقنت بأنه تفوه بالتحية، و شككت هل كان ذلك بقصد التحية حقيقة أو بداعي السخرية؟فيجب الرد حملا على الصحة،و ترجيحا للخير على الشر.

و كذلك الحال فيما نحن فيه،فإن حمل المعاشرة على الصحة لا يثبت

ص:185

وجود العقد،و لكن لو علمنا بوجود العقد،و شككنا في صحته نحمله على الصحة من دون توقف.

و مهما يكن،فإن المعاشرة وحدها ليست بشيء،و لكنها إذا ضمت إلى سبب آخر تكون مؤيدة و مقوية،و الأمر في ذلك يناط بنظر القاضي و اطمئنانه و تقديره على شريطة أن لا يتخذ المعاشرة سندا مستقلا لحكمه (1).

هذا بالقياس إلى ثبوت الزواج،أما الأولاد فإن الحمل على الصحة يستلزم الحكم بأنهم شرعيون على كل حال،لأن المعاشرة اما عن زواج و اما عن شبهة، و أولاد الشبهة كأولاد الزواج في جميع الآثار الشرعية،و لذا لو ادعت امرأة على رجل بأنّه زوجها الشرعي،و أنّه أولدها،فأنكر الزواج،و اعترف بالولد يقبل منه، إذ من الممكن أن يكون عن شبهة.

و بالتالي،فإن هذه المسألة انما تتم بناء على عدم شرط الشهادة في العقد، كما تقول الإمامية،أما على قول سائر المذاهب فعلى من يدعي الزواج أن يسمي الشهود،و إذا ادعى تعذر حضورهما لموت أو غياب يتأتى القول المتقدم.

و لا بد من الإشارة إلى أن المعاشرة لا تثبت الزواج مع الخصومة و النزاع، أما مع عدم الخصومة فإننا نرتب آثار الزواج من الإرث و نحوه كما عليه العمل عند جميع المذاهب.

الدعوى على متزوجة:

إذا ادعى رجل على امرأة متزوجة بأنه عقد عليها قبل الثاني فلا تسمع

ص:186


1- هذا و لكن كلمات الفقهاء في البلغة مسألة اليد،و في الشرائع و الجواهر باب الزواج تدل على أن المعاشرة تكشف بظاهرها عن الزواج،و ليس هذا ببعيد.

دعواه إلاّ مع البينة،و مع عدمها ترد دعواه،و لا يؤخذ بإقرار الزوجية لو صدقته، و لا تتجه عليها اليمين لو أنكرت،لا يؤخذ بإقرارها،لأنه إقرار بحق الغير،و لا تتجه عليها اليمين،لأنها انما تتجه على المنكر الذي لو أقر بما أنكر لحكم عليه به،و حيث لا يجوز الحكم بالزوجية لو أقرت بها فلا تتجه اليمين.و قد اشتهر بين الفقهاء بشهادة صاحب ملحقات العروة أن كل موضع لا يلزم التسليم مع الإقرار لا يلزم اليمين مع الإنكار،و قد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،بعد أن سألها:

أ لك زوج،فقالت:لا.ثم أتاه رجل،و قال:هي امرأتي،فأنكرت المرأة ذلك،ما يلزم الزوج؟قال:هي امرأته إلاّ أن يقيم-المدعي-البينة.

زواج المرأة قبل انتهاء الدعوى:

إذا ادعى رجل زوجية امرأة فأنكرت فهل يجوز لها الزواج من غيره قبل انتهاء الدعوى و الفصل فيها؟ قال السيد صاحب العروة الوثقى،و الحكيم في المستمسك ج 9:لها ذلك، لأنها خلية قبل الحكم عليها بالزوجية،و هي مسلطة على نفسها.

و تسأل:كيف؟و في زواجها تفويت لحق المدعي الذي في معرض الثبوت.

و أجاب السيد الحكيم بأن جواز الادعاء من الأحكام،و لم يثبت أنّه من الحقوق،فإنه لا يسقط بالإسقاط (1).هذا إلى أن الزواج من الغير ليس تصرفا في حق الغير،بل رافع لموضوعه.

ص:187


1- إسقاط الدعوى في المحاكم الشرعية،و الرجوع عنها نهائيا موجب للإسقاط،و يسد باب الادعاء ثانية،فعمل المحاكم الشرعية بلبنان على ذلك.و بمقتضى فتوى السيد الحكيم تكون هذه المحاكم غير شرعية بالقياس إلى من يقلد هذا السيد.

المحرمات

اشارة

قال سبحانه و تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ (1).

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عما حرم اللّه من الفروج في القرآن،و عما حرم رسول اللّه في سنته؟قال:

الذي حرم اللّه عز و جل من ذلك أربعة و ثلاثون وجها سبعة عشر في القرآن،و سبعة عشر في السنة.فأما التي في القرآن فالزنا.قال تعالى وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى ،و نكاح امرأة الأب.قال تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ .

ص:188


1- النساء:23. [1]

أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ .و الحائض حتى تطهر.قال اللّه عزّ و جل وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ، و النكاح في الاعتكاف.قال تعالى وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ .

و أما التي في السنة فالمواقعة في شهر رمضان نهارا،و تزويج الملاعنة بعد اللعان، و التزويج في العدة،و المواقعة في الإحرام،و المحرم يتزوج أو يزوّج،و المظاهر قبل ان يكفّر،و تزويج المشركة،و تزويج الرجل امرأة قد طلقها للعدة تسع تطليقات،و تزويج الأمة على الحرة،و تزويج الذمية على المسلمة،و تزويج المرأة على عمتها،و تزويج الأمة من غير اذن مولاها،و تزويج الأمة على من يقدر على تزويج الحرة،و الجارية المشتراة قبل أن تستبرئها،و المكاتبة التي أدت بعض المكاتبة.

و المكاتبة هي الأمة التي تشترى نفسها من سيدها بمبلغ معين تؤديه أقساطا.و قد ذكر الإمام عليه السّلام في هذه الرواية ما يحرم وطؤها كالحائض و من إليها، و ما يحرم زواجها كالأم و نحوها.

الموانع:
اشارة

يشترط في المرأة التي يراد العقد عليها أن تكون محلا صالحا للعقد،أي جامعة للشروط الإيجابية،كالعقل و البلوغ و الرشد،خالية من الموانع،و الموانع قسمان:نسب و سبب،و السبب منه ما يوجب التحريم المؤبد،كزوجة الأب

ص:189

و الابن،و منه ما يوجب التحريم المؤقت،كأخت الزوجة.و إليك التفصيل.

النسب:

النسب،هو انتهاء الإنسان بالولادة إلى آخر،أو انتهاء اثنين إلى ثالث انتهاء قريبا،بحيث يعد في نظر العرف من أرحامه و أقاربه،و للنسب سبعة أصناف:

1-الأم،و تشمل الجدات لأب كن،أو لام.

2-البنات،و تشمل بنات الابن،و بنات البنت،و ان نزلن.

3-الأخوات لأب أو لأم،أو لهما.

4-العمات،و تشمل عمات الآباء و الأجداد.

5-الخالات،و تشمل خالات الآباء و الأجداد.

6-بنات الأخ،و ان نزلن.

7-بنات الأخت كذلك.

و الأصل في ذلك الآية السابقة 23 من النساء،أما أصناف المحرمات بالسبب فكثيرة،نذكر منها فيما يلي المحرمات التالية:

المصاهرة:

المصاهرة علاقة تحدث بسبب الزواج،و تستدعي تحريمه ببعض أقارب الزوجة أو الزوج عينا أو جمعا،على التفصيل التالي:

1-تحرم زوجة الأب على الابن مؤبدا،و ان نزل بمجرد العقد،سواء أدخل الأب،أم لم يدخل إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ .و النكاح حقيقة في العقد.

ص:190

2-تحرم زوجة الابن على الأب مؤبدا،و ان علا بمجرد العقد إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ .

3-أم الزوجة و ان علت تحرم على زوج ابنتها مؤبدا،و هل تحرم بمجرد العقد على بنتها،حتى و لو لم يدخل،أو أنّها لا تحرم إلاّ بالدخول،كما هو الشأن في بنت الزوجة؟ قال صاحب الجواهر:«فيه روايتان أشهرهما رواية و فتوى أنّها تحرم بمجرد العقد،بل في كتاب الغنية و كتاب الناصريات الإجماع على ذلك،لعموم قوله تعالى وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ،و للاخبار و للاحتياط.و جاء في كتاب المكاسب نقلا عن الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة أن الرواية التي تقول بالتحريم ان لم يدخل موافقة لكتاب اللّه،و التي تقول بعدم التحريم مخالفة له،و القاعدة المتسالم عليها عند الجميع أن تطرح المخالفة،و يؤخذ بالموافقة مع تعارضهما، ثم قال صاحب المكاسب:«و كيف كان فالمذهب القول بالتحريم مطلقا».

4-تحرم بنت الزوجة إذا دخل بالأم،و لا تحرم بمجرد العقد،فيجوز للزوج إذا طلق الأم قبل أن يدخل بها أن يعقد على بنتها إجماعا لقوله تعالى:

وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .و ذكر الحجور بيان للأغلب،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عليا عليه السّلام كان يقول:الربائب عليكم حرام اللاتي دخلتم بهن في الحجور و غير الحجور سواء،و الأمهات مبهمات-أي عامات للمدخول بهن و غير المدخول بهن-دخل أم لم يدخل،فحرّموا،و أبهموا ما أبهم اللّه،أي عمموا ما عمم.

ص:191

تحريم الجميع:

يحرم الجمع بين الأختين سواء أ كانتا لأب و أم،أم لأحدهما،لقوله تعالى:

وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ .

قال صاحب الجواهر:«كتابا و سنة و إجماعا».فإذا فارق الأخت بموت أو طلاق جاز له أن يعقد على أختها بعد انتهاء عدتها ان كان الطلاق رجعيا،و ان كان بائنا جاز العقد قبل انقضاء عدة الأخت المطلقة لأن الرجعية بحكم الزوجة،و لذا وجبت نفقتها،و جاز الرجوع إليها.

و ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّه يجوز أن يدخل العمة و الخالة على بنت الأخ و الأخت إطلاقا،و لا يجوز أن يدخل بنت الأخ و الأخت على العمة و الخالة إلاّ بإذنهما،أي أنّه إذا تزوج أولا بنت الأخ،أو بنت الأخت فله أن يتزوج أيضا العمة أو الخالة،و ان لم تأذن بنت الأخ أو بنت الأخت،و إذا تزوج أولا العمة أو الخالة فلا يجوز له أن يعقد على بنت الأخ أو بنت الأخت إلاّ إذا أذنت العمة أو الخالة، و استدلوا بأن اللّه سبحانه بعد أن عدد المحرمات في الآية 23 من سورة النساء أباح غيرهن بقوله عزّ من قائل وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فإن وراء ذلكم يشمل الجمع بين العمة و بنت الأخ،و بين الخالة و بنت الأخت،و لو كان هذا الجمع محرما لنص عليه القرآن تماما كما نص على تحريم الجمع بين الأختين.

أما شرط الاذن من العمة و الخالة فقد دلت عليه الرواية عن الإمام الباقر أبي جعفر الصادق عليهما السّلام:«لا تزوّج بنت الأخ،و لا بنت الأخت على العمة،و لا على الخالة إلاّ بإذنهما،و تزوّج العمة و الخالة على بنت الأخ و الأخت من غير إذنهما».

قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به أجده،بل عن التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة بعد أصل الجواز،و عموم قوله تعالى وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ .

ص:192

الزنا:
اشارة

و فيه مسائل :

1-لا يجوز للرجل أن يتزوج بنته من الزنا،و أخته،و لا بنت ابنه،و لا بنت

بنته،و لا بنت أخيه أو أخته

،لأنها،و ان تكن من الزنا،فإنها من ماء من تولدت منه حقيقة و واقعا فتكون بنته لغة و عرفا،و الأحكام تتبع الأسماء خرج منها بالدليل الإرث و الإنفاق،فبقي غيرها من نشر التحريم على إيجابية.

2-لا أثر للزنا الطارئ بعد العقد

،فإذا زنى بأم زوجته أو بنتها،أو زنى الأب بزوجة ابنه،أو الابن بزوجة أبيه فلا تحرم الزوجة على زوجها الشرعي، لقاعدة«لا يحرّم الحرام الحلال،و أنّه ما حرّم حرام حلالا قط»كما جاء عن أهل البيت عليهم السّلام بالإضافة الى النصوص الخاصة،منها إذا تزوّجها فوطأها،ثم زنى بها ابنه لم يضره،لأن الحرام لا يفسد الحلال.و منها ان كانت عنده امرأة،ثم فجر بأمها أو بنتها لم تحرم عليه امرأته،ان الحرام لا يفسد الحلال.

3-الزنا قبل العقد يوجب تحريم المصاهرة

،فمن زنا بامرأة فليس لأبيه و لا لابنه أن يعقد عليها.قال صاحب الجواهر:«وفاقا للأكثر،بل هو المشهور» لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا فجر الرجل بالمرأة لم تحل له بنتها أبدا»أي لا يجوز له أن يعقد عليها بعد أن فجر بها أبوه،و سئل عن رجل زنى بامرأة،هل تحل لابنه؟قال:لا.

هذا،بالنسبة إلى تحريم المزني بها على أب الزاني و ابنه،أما بالنسبة إلى الزاني نفسه،فهل يجوز له أن يعقد عليها،و يتزوجها بعد أن كان قد زنى بها أولا؟ و فرّق الفقهاء بين أن تكون المزني بها متزوجة،أو معتدة من طلاق رجعي

ص:193

فتحرم مؤبدا،أي لا يجوز أن يعقد عليها من زنى بها،بانت من الأول بطلاق أو موت،و بين ما إذا كانت خلية حين الزنا،أو معتدة من وفاة أو طلاق بائن فلا تحرم عليه.

فقد جاء في كتاب الشرائع:«لو زنى بذات بعل أو في عدة رجعية حرمت عليه أبدا في قول مشهور».و قال صاحب الجواهر في شرح هذه العبارة:بل لا أجد فيه خلافا كما عن جماعة،بل عن كتاب الغنية و الحلي و فخر المحققين الإجماع عليه مطلقا،و في ذلك رواية و لكنها ضعيفة،لأنها من كتاب الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السّلام،و الإنصاف-ما زال الكلام لصاحب الجواهر-ان العمدة في ذلك الإجماع من غير فرق فيما قام عليه الإجماع بين العالم بالحكم و الجاهل،بل و لا بين علم الزاني بأنّها ذات بعل أو جهله،و لا بين الزواج الدائم و المنقطع».

و أيضا قال صاحب الجواهر:فإذا زنى بها،و هي خلية لم يحرم عليه زواجها،و ان لم تتب،وفاقا للمشهور شهرة عظيمة،بل عن كتاب الخلاف الإجماع عليه للعمومات التي منها أن الحرام لا يحرم الحلال،و خصوص صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السّلام:أيما رجل فجر بامرأة،ثم بدا له أن يتزوجها حلالا جاز،فإن أوله سفاح،و آخره نكاح،و مثله مثل النخلة أصاب الرجل من ثمرها حراما،ثم اشتراها بعد ذلك،فكانت حلالا.

و قيد الفقهاء هذه الرواية،و ما في معناها بالخلية خاصة دون المتزوجة و دون المعتدة من طلاق رجعي،و لا دليل على التقييد سوى الإجماع،كما قال صاحب الجواهر.

و من الخير ان نشير بهذه المناسبة إلى أن أهل البيت عليهم السّلام أجازوا الزواج

ص:194

بالمعروفة بالزنا أملا في تحصينها و تركها الفجور،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل أعجبته امرأة،فسأل عنها فإذا النساء تنبئ عنها بالفجور؟ فقال الإمام:لا بأس أن يتزوجها و يحصنها.

العقد على المعتدة:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق على أنّه إذا عقد على امرأة معتدة من وفاة أو طلاق بائن أو رجعي أو شبهة فسد العقد،و لا أثر له إطلاقا،سواء أ كان عالما أم جاهلا بالحكم و الموضوع معا،أو بأحدهما دون الآخر،و العلم بالموضوع هو أن يعلم أنّها في العدة،و العلم بالحكم هو أن يعلم أنّه يحرم عليه ذلك.

و هنا سؤال،و هو هل العقد عليها يوجب تحريم زواجه بها،بحيث إذا انتهت العدة لا يجوز له أن يعقد عليها،و يتزوجها ثانية،أو لا؟ و الجواب يستدعي التفصيل التالي:

1-أن يعقد عليها،و يدخل بها.و قد اتفقوا على أنّها تحرم عليه مؤبدا، سواء أ كان عالما بالحكم و الموضوع،أو بأحدهما.

2-أن يعلم أنّها في العدة،و أنّها تحرم عليه و مع ذلك عقد عليها،و اتفقوا على أنّها تحرم عليه مؤبدا.

و هنا سؤال يفرض نفسه،و هو إذا كان الزنا بالمعتدة من وفاة أو طلاق غير رجعي لا يوجب التحريم،كما سبق،فكيف أوجب العقد من غير دخول التحريم المؤبد؟و هل تأثير القول أعظم من تأثير الفعل؟ و الجواب ان الفارق هو النص الذي سنذكره في الرقم التالي،و لا شيء

ص:195

سواه.

3-ان يعقد عليها،و لم يدخل بها،و لكنه عقد،و هو جاهل بأنها في العدة،أو بأنه يحرم عليه ذلك.و قد اتفقوا على أنّها لا تحرم عليه مؤبدا،و ان له بعد انقضاء العدة أن يستأنف العقد،و يتزوجها.قال صاحب المسالك:«و في ذلك روايات كثيرة».

و قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك،بل الإجماع عليه،و هو الحجة بعد الروايات المعتبرة المستفيضة.قال الإمام الصادق عليه السّلام:

الذي يتزوج المرأة في عدتها،و هو يعلم لا تحل له أبدا.و قال أيضا:إذا تزوج الرجل في عدتها،و دخل بها لم تحل له أبدا عالما كان أو جاهلا،و ان لم يدخل بها حلت للجاهل،و لم تحل للآخر».أي إذا اختص العلم بأحدهما دون الآخر اختص التحريم به،مع العلم بأنّه يحرم على الجاهل التزويج بها مع الدخول.

العقد على المتزوجة:

حكم العقد على المتزوجة حكم العقد على المعتدة في جميع الحالات، لمساواتها لها في المعنى و زيادة،و هي العلاقة الزوجية،فيثبت التحريم بطريق أولى،و من باب مفهوم الموافقة،كما قال صاحب المسالك.هذا،بالإضافة إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:المرأة التي تتزوج يفرق بينهما،ثم لا يعاودان أبدا.و أيضا سئل عن امرأة نعي إليها زوجها فتزوجت،ثم قدم زوجها بعد ذلك؟قال:تعتد منهما جميعا ثلاثة أشهر عدة واحدة،و ليس للأخير أن يتزوجها أبدا.

ص:196

عدد الزوجات:

اتفقوا على أن للرجل أن يجمع بين أربع نسوة،على شريطة عدم الخوف من الجور،و مجانبة العدل،كما هو صريح الآية الكريمة،و العدل المطلوب هنا هو القسم بين الزوجين-و يأتي الكلام عنه-و المساواة في الإنفاق المعاملة،أما العدل و المساواة في المحبة فغير مطلوب،لأنه تكليف بما لا يطاق.

و الأصل في ذلك قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً (1).و الواو هنا للتخيير لا للجمع، و إلاّ جاز الجمع بين 18.و هو باطل بضرورة الدين.قال الإمام عليه السّلام:لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع حرائر.و قال:لا يجمع الرجل ماءه في خمس.

و إذا خرجت إحداهن من عصمة الزواج بموت أو طلاق بائن جاز له الزواج من أخرى،و لا يجوز أن يتزوج الخامسة إذا كانت الرابعة معتدة من طلاق رجعي،لأن الرجعية بحكم الزوجة من حيث وجوب الإنفاق عليها،و جواز إرجاعها.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا برئت عصمة المطلقة،و لم يكن له عليها رجعة فله أن يخطب أختها.و لم يفرق المشهور بين الأخت و الخامسة،لأن العلة في إباحة الزواج بكل منهما هي بينونة المطلقة من العصمة،و صيرورتها أجنبية أو كالأجنبية.و يؤيده قول الإمام عليه السّلام:لا يجمع الرجل ماءه في خمس.فان البائن لا يجوز نكاحها للمطلق.

قذف الخرساء و الصماء:

الخرس آفة تصيب اللسان فتمنعه عن الكلام،و النعت أخرس للذكر،

ص:197


1- النساء:3. [1]

و خرساء للأنثى،و الصمم آفة تذهب بحاسة السمع،و من كان عنده زوجة خرساء صماء لا تسمع و لا تستطيع الكلام،و رماها بالزنا ففيه التفصيل التالي:

1-أن يرميها بالزنا،دون أن يدعي المشاهدة و دون أن يقيم البينة،و هذه لا تحرم عليه،و لكن يحد حد القذف،و هو ثمانون جلدة،على شريطة أن يثبت القذف عند الحاكم.

2-أن يدعي المشاهدة،و يقيم البينة على ما قذفها به،و هذه أيضا لا تحرم عليه،و يسقط عند الحد،بل يجب الحد عليها،و هو الرجم لأنها محصن، على أن تثبت البينة عند الحاكم.

3-أن يدعي المشاهدة،و لا تثبت البينة عند الحاكم،فإنها تحرم عليه مؤبدا،و من غير ملاعنة،و لا يسقط عنه الحد بالتحريم.قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«لا يسقط الحد بتحريمها عليه،بل يجمع بينهما ان ثبت القذف عند الحاكم،و إلاّ حرمت بينه و بين اللّه،و بقي الحد في ذمته على ما دلت عليه رواية أبي بصير التي هي الأصل في الحكم».

و قال صاحب الجواهر:«تحرم عليه و ان لم يكن بينهما لعان بلا خلاف أجده،بل الإجماع عليه مضافا إلى صحيح أبي بصير أو موثقة».فقذف الزوجة الخرساء الصماء انما يوجب التفريق بينهما بشرطين:الأول أن يدعي المشاهدة، الثاني ان لا تقوم البينة على الزنا عند الحاكم،فإن لم يدع المشاهدة فلا تحرم عليه،و ان ادعاها،و لم تثبت البينة لا يفرق بينهما في الظاهر،و لكن يجب عليه بينه و بين ربه أن لا يقربها إطلاقا.

ص:198

الملاعنة:

إذا قذف الرجل زوجته-غير الخرساء و الصماء-قذفها بالزنا،أو نفى عنه الولد الذي ولدته على فراشه،و كذّبته هي،و لا بينة له جاز له أن يلاعنها،أما كيفية الملاعنة و شروطها فيأتي الكلام عنهما في باب الظهار و الإيلاء و اللعان من هذا الجزء ان شاء اللّه،و متى تمت الملاعنة حرمت عليه مؤبدا،قال الإمام الصادق عليه السّلام لزوجين تلاعنا:لا تجتمعا بنكاح أبدا بعد ما تلاعنتما.و قال صاحب الجواهر:

«الإجماع على ذلك،و لكن بشروط اللعان الآتية في محله».

عدد الطلاق:

إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا بينهما رجعتان حرمت عليه،و لا تحل له،حتى تنكح زوجا غيره،و ذلك أن تعتد بعد الطلاق الثالث،و عند انتهاء العدة من هذا الطلاق تتزوج زواجا شرعيا دائما،و يدخل بها الزوج الثاني،فإذا فارقها بموت أو طلاق،و انتهت عدتها جاز للأول ان يعقد عليها ثانية،فإذا عاد و طلقها ثلاثا حرمت عليه،حتى تنكح زوجا غيره،و هكذا تحرم عليه بعد كل طلاق ثالث، و تحل له بمحلل،قال تعالى اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و قال سبحانه فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ (1).

قال الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام:«ان اللّه عزّ و جلّ انما اذن في الطلاق مرتين،فقال: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ،يعني في التطليقة الثالثة. فَلا تَحِلُّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ،لئلا يوقع الناس الاستخفاف بالطلاق».

ص:199


1- البقرة:129. [1]

و على هذا،يكون الطلاق ثلاثا من أسباب التحريم المؤقت لا المؤبد أي أن المطلقة تحرم بالتطليقة الثالثة،و تحل بعد زواجها من المحلل و دخوله بها، و مفارقته لها بموت أو طلاق،و لكن الفقهاء الإمامية استثنوا صورة واحدة،و قالوا فيها بالتحريم المؤبد،و هي المرأة المطلقة تسعا طلاق العدة،و معنى طلاق العدة عندهم أن يطلقها،ثم يراجعها و يطأها،ثم يطلقها في طهر آخر،ثم يراجعها و يطأها،ثم يطلقها في طهر آخر،و حينئذ لا تحل له إلاّ بمحلل،فإذا عقد عليها ثانية بعد مفارقة المحلل،و طلقها ثلاثا طلاق العدة كما فعل أولا حلت له بمحلل، ثم عقد عليها،ثم طلقها طلاق العدّة،حتى أكملت التطليقات التسع حرمت عليه مؤبدا،أما إذا لم يكن الطلاق للعدة،كما لو ارجعها،ثم طلقها قبل الوطء،أو تزوجها بعقد بعد انتهاء العدة فلا تحرم عليه،و لو طلقت مائة مرة.

و جاء في اللمعة و شرحها:«طلاق العدة هو أن يطلق على الشروط ثم يرجع في العدة و يطأ،ثم يطلق في طهر آخر،و إطلاق العدة عليه من حيث الرجوع فيه في العدة.و تحرم المطلقة للعدة في التاسعة أبدا إذا كانت حرة.و ما عدا طلاق العدة من أقسام الطلاق الصحيح،و هو ما إذا رجع في العدة،و تجرد الرجوع عن الوطء،أو رجع بعد العدة بعقد جديد،و ان وطأ تحرم المطلقة في كل تطليقة ثالثة للحرة،و في كل ثانية للأمة».و قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك».ثم ذكر روايات عن الإمام الصادق عليه السّلام،و سنعود إلى الموضوع ثانية في باب الطلاق ان شاء اللّه.

اختلاف الدين:
اشارة

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر و غيره على أنّه لا يجوز للمسلم و لا

ص:200

للمسلمة التزويج ممن لا كتاب سماوي لأهل ملته،و هم عبدة الأوثان و النيران و الشمس،و سائر الكواكب،و ما يستحسنونه من الصور،و بالأولى من لا يؤمن بشيء.

و كذا لا يجوز للمسلم أن يتزوج من مجوسية،و بالأولى أن لا تتزوج المسلمة من مجوسي،و ان قيل بأن للمجوس شبهة كتاب،أي كان لهم كتاب فتبدلوه،فأصبحوا و قد رفع عنهم.و قد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن المسلم يتزوج المجوسية؟قال:لا.و لكن إن كانت له أمة مجوسية فلا بأس.

و قال صاحب الجواهر:«المجوس إنما ألحقوا باليهود و النصارى في الجزية و الديات.لعدم العبرة عندنا بغير التوراة و الإنجيل من باقي الكتب التي هي على ما قيل نقل من الأنبياء بالمعنى،لا أن ألفاظها نزلت من رب العزة،أو أنّها مواعظ،لا أحكام،و لعله لذلك اختص أهل الكتابين ببعض الأحكام دون غيرهم،فالذي يقوى في النظر حرمة نكاح المجوس مطلقا إلاّ بملك اليمين».

و هل يجوز للمسلم أن يتزوج الكتابية اليهودية و النصرانية؟ و للفقهاء في ذلك أقوال أنهاها بعض الفقهاء إلى أكثر من ستة،منها عدم الجواز إطلاقا،و منها عدم الجواز دواما،و الجواز بالمتعة و ملك اليمين، و منها الجواز مع الاضطرار و عدم وجود المسلمة.و منها الجواز مطلقا على كراهية.و بهذا قال جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الجواهر،و صاحب المسالك،و السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة،و نحن على هذا الرأي،و الدليل عليه:

أولا:الأدلة الدالة على اباحة الزواج بوجه عام،خرج منه زواج المسلم

ص:201

بالمشركة،و المسلمة بالمشرك و الكتابي،و بقي ما عدا ذلك مدلولا و مشمولا للعمومات و الإطلاقات.

ثانيا:قوله تعالى اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (1).فإن هذه الآية ظاهرة في حل أهل الكتاب دواما و متعة و ملك اليمين، و المراد بالمحصنات العفيفات،أما قوله سبحانه وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ فإنه خاص بالمشركات،و هن غير الكتابيات،و أما آية وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فليس صريحة في الزواج،لأن الإمساك بالعصم كما يكنى به عن الزواج يكنى به عن غير الزواج أيضا،بل قال صاحب المسالك:«ان الآية ليست صريحة في إرادة النكاح،و لا فيما هو أعم منه».

ثالثا:الروايات الكثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،و هي العمدة في ذلك،و قد ذكرها صاحب الوسائل و الجواهر،و وصفها هذا بالمستفيضة،أي أنّها بلغت حدا من الكثرة يقرب من التواتر،منها أن رجلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مؤمن يتزوج اليهودية و النصرانية؟قال الإمام عليه السّلام:إذا أصاب المسلمة فما ذا يصنع باليهودية و النصرانيّة؟قال السائل:يكون له فيها الهوى.فقال الإمام:ان فعل فليمنعها من شرب الخمر و أكل لحم الخنزير،و اعلم أن عليه في دينه غضاضة.

فلم يمنع الإمام عليه السّلام السائل من الزواج بالكتابية،بل أذن له بذلك،حيث قال:«ان فعل فليمنعها من شرب الخمر»هذا من حيث الدلالة أمّا من حيث السند فقال صاحب المسالك:«ان هذه الرواية أوضح ما في الباب سندا،لأن طريقها صحيح،و فيها إشارة إلى كراهية التزويج المذكور،فيمكن حمل النهي الوارد عنه

ص:202


1- النساء:5. [1]

على الكراهة جمعا بين الروايات-ثم قال-و قد انتهى الفقهاء في الخلاف و الأدلة إلى ما لا طائل تحته».

و بالإجمال انّه قد ورد عن أهل البيت عليهم السّلام روايات تمنع من الزواج بالكتابية،و روايات تجيز ذلك،و هذه الرواية التي قال فيها الإمام:«ان عليه في دينه غضاضة»تجمع بين الروايات،و ذلك بحمل الروايات المانعة على الكراهية،و حمل المجيزة على مجرد الإباحة،و تكون النتيجة أن زواج الكتابية مكروه لا محرم،و يسمى هذا الجمع شرعيا،لأن الدليل عليه من الشرع بالذات.

أما صاحب الجواهر فإنه بعد أن أطال في رد المناعين و المفصّلين قال:

«و من ذلك كله يظهر لك ضعف التفصيل بين الدائم و غيره،و أضعف منه اختصاص الجواز بملك اليمين،و كذا التفصيل بين الجواز و غيره،فان جميع ذلك مناف للعمومات،و لما سمعته من الكتاب و السنة».

و تجدر الإشارة إلى أنّه لا فرق في جواز نكاح الكتابية ذمية كانت أو حربية.

و من الطريف قول بعض المانعين:أن اليهودية و النصرانية تحاول حمل الولد على اعتناق دينها.و آية علاقة لذلك في صحة العقد و فساده؟و إلاّ حرم التزويج بالمسلمة مع الخوف منها على دين الولد و عقيدته.

الارتداد عن الإسلام:

من كان على دين الإسلام ثم ارتد عنه إلى غيره فلا يحل زواجه إطلاقا رجلا كان أو امرأة،فطريا أو مليا،و المرتد الفطري هو الذي يكون أحد أبويه أو كلاهما مسلما،و المرتد الملي من كان أبواه غير مسلمين،ثم يعتنق هو الإسلام، ثم يرتد عنه،و الارتداد بقسميه مانع من الزواج.قال صاحب المسالك:«ان

ص:203

الارتداد ضرب من ضروب الكفر الذي لا يباح التناكح معه».و نقل صاحب الجواهر عن الشهيد الأول أنّه قال في كتاب الدروس:«لا يصح تزويج المرتد و المرتدة على الإطلاق».

و عليه،فإذا كان الزوجان مسلمين،ثم ارتد أحدهما عن الإسلام،و بقي الآخر على إسلامه فيجري الحكم على التفصيل التالي:

1-ان يرتد أحد الزوجين قبل الدخول،و قد أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الزواج يبطل ساعة الارتداد،سواء أ كان المرتد هو الزوج أو الزوجة،و سواء أ كان الارتداد عن فطرة أو عن ملة،لأن الارتداد بنفسه مانع من الزواج،و لذا يبطل الزواج إذا ارتدا معا.

ثم ان ارتد الزوج،و بقيت هي على إسلامها فعليه أن يدفع لها نصف المهر، لأن الفسخ جاء من جهته فكان كما لو طلق قبل الدخول.و ان ارتدت هي،و بقي هو على إسلامه أو ارتدا معا فلا شيء لها،لأن ارتدادها سبب من أسباب الفسخ.

2-ان يرتد الزوج عن فطرة بعد أن يدخل،فينفسخ الزواج في الحال أيضا،لأنه يقتل و ان تاب،و تقسم تركته،و تعتد زوجته عدة الوفاة.قال الإمام الصادق عليه السّلام:من ارتد عن الإسلام،و جحد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذبه فإن دمه مباح لمن سمع ذلك منه،و امرأته بائنة يوم ارتد،و يقسم ماله على ورثته،و تعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها،و على الإمام أن يقتله،و لا يستتيبه.

و عليه أن يدفع لها المهر كاملا،لاستقراره بالدخول.

3-ان ترتد هي عن ملة أو عن فطرة لا فرق،أو يرتد هو عن ملة بعد الدخول،و حينئذ ينتظر انقضاء العدة،فإن رجع من ارتد عن ارتداده أثناء العدة ثبت الزواج،و إلاّ انفسخ.و في جميع الحالات عليه أن يدفع لها المهر كاملا،

ص:204

لاستقراره بالدخول.

إسلام أحد الزوجين:

إذا كان الزوجان غير مسلمين،ثم أسلم أحدهما ففيه التفصيل التالي:

1-أن تكون هي كتابية،و هو غير مسلم بصرف النظر عن كونه كتابيا أو و ثنيا،ثم يدخل هو في الإسلام،و تبقى هي على يهوديتها أو نصرانيتها،و قد أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك و الحدائق على بقاء الزواج بحاله، سواء أ كان الزوج قد دخل،أو لم يدخل بعد،حتى الذين قالوا بأن المسلم لا يجوز له أن يعقد على الكتابية ابتداء قالوا هنا ببقاء الزواج،لأن حكم الابتداء غير حكم البقاء و الاستمرار.

2-ان يكون هو كتابيا،و هي غير مسلمة بصرف النظر عن كونها كتابية أو و ثنية،ثم تدخل هي في الإسلام دونه،و حينئذ ينظر:فان كان لم يدخل بعد انفسخ الزواج في الحال،لعدم العدة،و لأن الكتابي لا يجوز له أن يتزوج المسلمة بضرورة الدين و المذهب،و بالأولى الوثني،و ليس لها من المهر شيء،لأنه لم يدخل،و الفسخ جاء من جهتها لا من جهته،و لا عدة لها لعدم الدخول،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أسلمت امرأة،و زوجها على غير الإسلام فرّق بينهما.و في رواية أخرى صحيحة بشهادة صاحب الجواهر:انقطعت عصمتها منه،و لا مهر لها،و لا عدّة له عليها.و ما خالف هذه الرواية من النصوص فهو متروك لا عامل به كما قال صاحب الجواهر.و قال صاحب الحدائق:ما دلت عليه الرواية من وجوب التفرقة و عدم المهر و العدة هو المعروف من مذهب الفقهاء.

و ان أسلمت بعد أن دخل بها فلا يفسخ النكاح في الحال،بل ينتظر حتى

ص:205

تنقضي العدة،فإن أسلم في أثنائها فهي زوجته،و إلاّ بانت منه،و عليه المهر،لأنه استقر بالدخول،قال صاحب الجواهر:هذا هو الحكم وفاقا للأكثر،بل هو المشهور،لأن اللّه لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا،مضافا إلى النصوص الخاصة،و قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«هذا هو المشهور بين الفقهاء، و عليه الفتوى،و للشيخ قول بأن النكاح لا ينفسخ بانقضاء العدة إذا كان الزوج ذميا قائما بشروط الذمة،و لكن لا يمكّن من الدخول عليها ليلا،و لا من الخلوة بها، و لا من إخراجها إلى دار الحرب ما دام قائما بشروط الذمة استنادا إلى روايات ضعيفة مرسلة أو معارضة بما هو أقوى منها».

3-أن يكون الزوجان غير كتابيين،بل كانا وثنيين أو ناصبيين و ما إليهما، فإذا أسلما معا بقي النكاح،سواء أ كان قبل الدخول أو بعده،لعدم الموجب للفسخ،و ان أسلم أحدهما دون الآخر ينظر:فان كان ذلك قبل الدخول انفسخ العقد في الحال،لعدم العدة،و لان المسلم ان كان هو الزوجة فلا سبيل لغير المسلم عليها،و ان كان هو الزوج فان المسلم انما يجوز له الزواج بالكتابية لا بغيرها،و لا شيء لها من المهر إن أسلمت هي،لأن الفسخ جاء من قبلها،و ان أسلم هو فعليه نصف المهر،لأن الفسخ جاء من جهته.

و ان أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الفسخ على انقضاء العدة،فإن أسلم أو أسلمت قبل انقضائها بقي الزواج،و إلاّ فرّق بينهما،و عليه المهر لمكان الدخول،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف في ذلك و لا إشكال نصا و فتوى».

و قال صاحب المسالك:«هذا مما لا خلاف فيه».

و جاء في كتاب الوسائل عن منصور بن حازم أنّه قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مجوسي أو مشرك من غير أهل الكتاب كانت تحته امرأته،

ص:206

فأسلم أو أسلمت؟قال:ينظر بذلك انقضاء عدتها،فان هو أسلم أو أسلمت قبل أن تنقضي عدتها فهما على نكاحهما الأول،و ان هو لم يسلم،حتى تنقضي العدة فقد بانت منه.

انكحة غير المسلمين:

أنكحة غير المسلمين كلها صحيحة،على شريطة أن تقع على الوجه الذي يعتقدونه في دينهم،و نحن المسلمين نرتب عليها جميع آثار الصحة من غير فرق بين أهل الكتاب و غيرهم،حتى الذين يجيزون نكاح المحارم.و قد ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام:«من دان بدين قوم لزمته أحكامهم.ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».و هذا المبدأ يطبق الآن و يعمل به في لبنان فيما يختص بالأحوال الشخصية،فإن لكل طائفة محاكمها في ذلك.

و إذا أسلم الزوجان أو أحدهما طبقنا أحكام الإسلام على من اعتنقه، و أمضينا من العادات و التقاليد ما يتفق مع شرعية الإسلام،و أبطلنا ما يخالفها.قال صاحب الجواهر في باب الزواج في المسألة الأولى من المقصد الثالث:«نحكم بصحة ما في أيديهم من النكاح و غيره،بمعنى ترتب الآثار عليه،و ان كان فاسدا عندنا،بل يقرون عليه بعد الإسلام».أي أن من أسلم نقر ما مضى من أفعاله، حتى و لو كان مخالفا للإسلام،أمّا ما يقع منها بعد الإسلام فنقر الموافق،و نبطل المخالف.

الإحرام:

المحرم للحج أو للعمرة وجوبا أو ندبا لا يحل له أن يتزوج أو يزوج رجلا

ص:207

كان أو امرأة،وكيلا كان أو أصيلا أو وليا،فان حصل عقد الزواج حين الإحرام بطل العقد،سواء أ كان العاقد عالما بالتحريم أو جاهلا.هذا،بالقياس إلى العقد.

أما بالقياس إلى التحريم فينظر:فان كان العاقد جاهلا بالتحريم حرمت المرأة المعقود عليها مؤقتا،فإذا أحلا،أو أحل الرجل أن تكن المرأة محرمة جاز له استئناف العقد عليها،و ان كان عالما بالتحريم فرق بينهما،و حرمت مؤبدا.قال الإمام الصادق عليه السّلام:المحرم لا ينكح و لا ينكح،و لا يخطب،و لا يشهد النكاح، و ان نكح فنكاحه باطل.

قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:هذا هو المشهور.و لا تحرم الزوجة بوطئها في الإحرام مطلقا،سواء أ كان الواطئ عالما بالتحريم أو جاهلا.و سبق الكلام على ذلك في الجزء الثاني فصل تروك الإحرام،فقرة«الزواج».

الكفاءة:

الكفاءة بين الزوجين عند الإمامية هي الإسلام،و كفى به جامعا من غير فرق بين المذاهب الإسلامية و فرقها جميعا.قال صاحب الجواهر في باب الزواج-المسألة الاولى من لواحق العبد ما نصه بالحرف:«المدار على الإسلام في النكاح،و ان جميع فرقه التي لم يثبت لها النصب و الغلو (1)أو نحو ذلك ملة واحدة يشتركون في التناكح بينهم و التوارث،و غيرهما من الأحكام و الحدود».

ص:208


1- الناصب هو الذي ينصب البغض و العداء لواحد من أهل البيت عليهم السّلام و قرابة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هو عند الإمامية كافر،و ان نطق بالشهادتين،لأنه مخالف لما ثبت بضرورة الدين،و القرآن الكريم،و هو قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و المغالي هو الذي يصف واحدا من أهل البيت عليهم السّلام أو غيرهم ببعض الصفات الإلهية،فإنه كافر و لو نطق بالشهادتين.

و نقل صاحب الجواهر روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام في هذا المعنى، و وصفها بالمتواترة،نذكر منها ما يلي:

ان الإمام علي بن الحسين جد الإمام الصادق عليهم السّلام لما أنكر عليه بعضهم الزواج من بعض الناس و تزويجهم قال:«ان اللّه رفع بالإسلام كل خسيسة،و أتم به الناقصة،و أكرم به اللؤم،فلا لؤم على مسلم،و انما اللؤم لؤم الجاهلية».

و قال الإمام محمد الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:«الإسلام ما ظهر من قول أو فعل،و هو الذي عليه جماعة من الناس من الفرق،و به حقنت الدماء،و عليه جرت المواريث،و جاز النكاح،و اجتمعوا على الصلاة و الزكاة،و الصوم و الحج، و خرجوا بذلك من الكفر».

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:«الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و به حقنت الدماء،و عليه جرت المناكح».

هذا،بالنسبة إلى الفرق و المذاهب الإسلامية،أما بالنسبة إلى الطبقية و العنصرية فقال صاحب الشرائع و الجواهر،و غيرهما من فقهاء الإمامية:يجوز عندنا أن يتزوج العبد بالحرة،و العجمي بالعربية،و غير الهاشمي بالهاشمية، و بالعكس،و كذا أرباب الصنائع الدنيئة،كالكناس و الحجام و غيرهما أن يتزوجوا بذوات الدين و العلم و البيوتات.

و نقل صاحب الجواهر من جماعة من كبار الفقهاء،منهم الشيخ الطوسي و الشيخ المفيد و بنو زهرة و العلامة الحلي أن من شروط الكفاية و صحة الزواج أن يكون الزوج قادرا على النفقة،و لكن أكثر الفقهاء على خلاف ذلك لقوله تعالى:

إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .

ص:209

نكاح الشغار:

نكاح الشغار هو أن يقول أحد الوليين للآخر:زوجتك ابنتي أو أختي على أن تزوجني ابنتك أو أختك،و يقبل الآخر،و بحيث يكون بضع كل واحدة مهرا للأخرى،و كان هذا النحو من الزواج معروفا في الجاهلية،و فحرمه الإسلام باتفاق جميع المذاهب،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا شغار في الإسلام.

التعريض بالخطبة:

لا يجوز التعريض للمتزوجة بالعقد عليها،و لا للمعتدة من طلاق رجعي، لأنها بحكم الزوجة،أما المعتدة البائنة فيجوز التعريض لها من مطلقها و غيره، على أن يتم العقد بعد انقضاء العدة إذا كان المتعرض غير الزوج الذي طلق،حيث يحل له الرجوع إليها،قال تعالى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً (1).

ص:210


1- البقرة:135. [1]

الرضاع

اشارة

تكلمنا في الفصل السابق عن جملة من أسباب تحريم الزواج:النسب، و الزنا،و المصاهرة،و العقد على المعتدة،و على المتزوجة،و عدد الزوجات، و قذف الخرساء الصماء،و الملاعنة،و عدد الطلاق،و الاختلاف في الدين، و الارتداد عن الإسلام،و الإحرام للحج أو العمرة.تكلمنا عن كل سبب من هذه الأسباب بفقرة خاصة.

و من أسباب التحريم الرضاع،و عقدنا له فصلا مستقلا بالنظر إلى أهميته، و تعدد شروطه،و كثرة فروعه.و الأصل فيه قوله تعالى وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ و ما تواتر عن الرسول الأعظم و أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

و معنى الحديث الشريف أن كل امرأة حرمت عليك بسبب النسب فإنها تحرم عليك بسبب الرضاع.

الشروط:
اشارة

الرضاع لا يؤثر التحريم و ينشره إلاّ إذا توافرت الشروط التالية

ص:211

1-أن اللبن الذي يرضعه الطفل يجب أن يكون من امرأة متزوجة زوجا

شرعيا

،و اختلفوا إذا كان لبنها من وطء شبهة:هل ينشر التحريم تماما كالزواج؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق و الجواهر إلى إلحاق الشبهة بالزواج الشرعي في التحريم.قال صاحب الجواهر:«نكاح الشبهة كالعقد الصحيح،وفاقا للأكثر،بل لم نجد فيه خلافا محققا».و قال صاحب الحدائق:

«المشهور إلحاق اللبن الذي عن نكاح الشبهة باللبن الذي عن النكاح الصحيح، لأن نكاح الشبهة موجب للنسب،كالنكاح الصحيح،و اللبن تابع للنسب».

و هذا هو الصواب،فان من تتبع مصادر الشريعة،و أقوال الفقهاء يجد أن النكاح الصحيح اسم لمعنى عام يشمل الزواج،و وطء الشبهة.هذا إلى أن قوله تعالى وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ يشمل كل مرضعة،سواء أ كانت زوجة شرعية،أو موطوءة بشبهة،أو زانية،أو غير متزوجة،خرجت الزانية و غير المتزوجة بالدليل،فبقيت الزوجة و الموطوءة بشبهة على حكم العموم،و مهما يكن،فقد أجمعوا-إلاّ من شذ-على أنّه لا أثر للبن الذي تدره المرأة من غير نكاح ثيبا كانت أو بكرا،و لا للبن الذي تدره بسبب الزنا،إذ لا حرمة لماء الزاني، و لا للبن الذي تدره من غير حمل أو ولادة،حتى و لو كانت متزوجة زواجا شرعيا،و يدل عليه أن الامام الصادق عليه السّلام سئل عن امرأة درّ لبنها من غير ولادة، فأرضعت ذكرانا و اناثا،أ يحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟قال:لا.

و اختلفوا في اللبن الذي تدره الحامل قبل أن تلد:هل ينشر الحرمة؟و لهم في ذلك قولان،أصحهما أنّه لا أثر للبن الحمل،لان انتشار الحرمة على خلاف الأصل،فيقتصر فيه على موضع اليقين،و هو الوضع،و بهذا قال صاحب الجواهر،و نقل الإجماع عليه عن كتاب الخلاف للشيخ،و الغنية لابن زهرة،

ص:212

و السرائر لابن إدريس.و يومئ إليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«ما أرضعت امرأتك من لبن ولدك ولد امرأة أخرى».فقوله عليه السّلام لبن ولدك يصدق على ما بعد الوضع، لا قبله.

ثم أنّه لا يشترط بقاء المرضعة في عصمة صاحب اللبن،فلو طلقها،أو مات عنها،و هي حامل منه،أو مرضع،ثم أرضعت ولدا تثبت الحرمة مع توافر سائر الشروط،حتى و لو تزوجت،و دخل بها الثاني،قال صاحب الجواهر:

«لا يعتبر في نشر الحرمة بقاء المرأة في حبال الرجل قطعا و إجماعا،فلو طلق الزوج،و هي حامل منه،ثم وضعت بعد ذلك أو طلقها،و هي مرضع،أو مات عنها كذلك فأرضعت ولدا نشر هذا الرضاع الحرمة،كما لو كانت في حباله، و الإجماع على ذلك.و لا فرق بين أن يرتضع في العدة أو بعدها،و لا بين أن يستمر اللبن أو ينقطع ثم يعود.و كذا لو تزوجت و دخل بها الزوج الثاني،و لم تحمل منه،أو حملت منه،مع كون اللبن بحاله،و لم تحدث فيه زيادة فإنه للأول أيضا بلا خلاف».

2-الشرط الثاني للتحريم أن يمتص الرضيع اللبن من الثدي

،فلو وجر في حلقه،أو شربه بطريق غير الامتصاص مباشرة لم تثبت الحرمة،قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لا بد من ارتضاعه من الثدي في قول مشهور،تحقيقا لمسمى الارتضاع،فلو وجر في حلقه،أو وصل إلى جوفه بحقنة،و ما شاكلها لم تنتشر الحرمة،لعدم صدق الارتضاع و لخبر زرارة عن الصادق عليه السّلام:«لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضع من ثدي واحد».و كذا لو جبّن فأكله جبنا بلا خلاف بيننا، و كذا لو مزج اللبن بغيره،كما لو ألقي في فم الصبي مائع فرضع فامتزج حتى خرج عن كونه لبنا،أما إذا لم يخرج اللبن عن الاسم بالامتزاج فيجري عليه حكم

ص:213

اللبن الذي يوجب التحريم».

3-أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق و المسالك على أنّه يشترط

في نشر التحريم أن يستوفي المرتضع عدد الرضعات

المطلوبة بكاملها قبل أن يكمل الحولين من عمره،و لا أثر لرضاعه بعدهما قل أو كثر،حتى لو افترض أنّه بقي له رضعة واحدة من العدد المطلوب فأكملها بعد الحولين بلا فاصل،أو رضع بعدهما أشهرا لم تنتشر الحرمة،لقوله تعالى وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ،و للحديث الشريف لا رضاع بعد فطام، و للرواية عن الامام الصادق عليه السّلام:الرضاع قبل الحولين.

و اختلفوا في سن ولد المرضعة الأصيل الذي حصل اللبن بسببه:هل يشترط أن يكون أيضا في الحولين تماما كالمرتضع أو لا؟ قال صاحب الشرائع و المسالك:لا يشترط ذلك،و لا تجب مراعاة الحولين في ولد المرضعة.

و نحن على رأي صاحب الجواهر الذي اشترط أن لا يتجاوز الحولين، و أوجب مراعاتهما في ولد المرضعة،لأن هذا الولد الأصيل إذا أتم الحولين،ثم أرضعت غيره بعدهما يصدق على إرضاعها لهذا الغير أنّه إرضاع بعد الفطام،أي بعد فطام الأصيل.و بديهة أنّه لإرضاع بعد فطام بالاتفاق.

و إذا حصلت الرضعات المطلوبة،و شككنا:هل كانت قبل أن يكمل المرتضع الحولين،أو بعدهما،إذا كان الأمر كذلك فلا تنتشر الحرمة،لأن الشك في الشرط شك في المشروط،فيبقى أصل الإباحة و عدم الحرمة.

4-اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك و الحدائق و غيرهم على أن

الرضاع كيف اتفق لا ينشر الحرمة

،بل له نحو خاص.و قد جاء بيانه و تحديده

ص:214

بثلاثة أشياء:الأول بما يتركه الرضاع من التأثير في جسم الطفل،و هو أن ينبت اللحم،و يشتد العظم،الثاني بالعدد،و هو أن يرضع الطفل خمس عشرة رضعة من امرأة واحدة،لا يفصل بينها رضاع من امرأة أخرى،و هذا هو معنى قول الفقهاء:لا بد من التوالي بين الرضعات،الثالث التحديد بالزمان،و هو أن يرضع من امرأة واحدة يوما و ليلة،أي 24 ساعة.

و يدل على الأول الإجماع المعلوم على حد تعبير صاحب الجواهر، و الحديث المروي عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كتبنا:الرضاع ما أنبت اللحم، و شد العظم.و أيضا ما استفاض-ما زال الكلام لصاحب الجواهر-عن الإمام الصادق عليه السّلام:لا يحرم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم،و شد العظم،و سئل:هل يحرم من الرضاع الرضعة و الرضعتان و الثلاث؟فقال:لا إلاّ ما أنبت اللحم،و شد العظم.

و يدل على الثاني و الثالث قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يحرم من الرضاع إلاّ رضاع يوم و ليلة،أو خمس عشرة رضعة.

و قال أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام:لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم و ليلة،أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد،لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها،فلو أن امرأة أرضعت غلاما،أو جارية عشر رضعات لم يحرم نكاحهما.

و لا بد أن يكون غذاء الطفل في اليوم و الليلة منحصرا بلبن امرأة واحدة لا يتخلله في هذه المدة طعام أو رضاع من امرأة أخرى،و أيضا لا بد أن تكون الرضعة في العدد كاملة تروي الطفل،و ان يرضع كلما احتاج إلى الرضاع.

و تسأل:ان قولك:«لا يتخلله طعام»لا يتفق مع قول صاحب المسالك:«لو

ص:215

فصل بين الرضعات بمأكول أو مشروب لم يضر في التوالي قطعا:و كذا لا يضر شربه اللبن بغير رضاع،و انما يضر و يقطع التوالي إرضاع امرأة أخرى».و أيضا لا يتفق مع قول صاحب الجواهر،«لا يضر الفصل بالأكل و نحوه،بل بوجود اللبن بفمه بلا خلاف أجده فيه».

و نجيب بأن صاحبي المسالك و الجواهر أرسلا هذا القول دون أن يستدلا عليه بنقل أو عقل.و دليلنا على أن الأكل يمنع من نشر الحرمة أنّه يؤثر في نبات اللحم و اشتداد العظم.و معه لا يستند النبات و الاشتداد إلى الرضاع وحده كما هو المطلوب شرعا،هذا بالنسبة إلى الإنبات و الاشتداد.و أمّا بالنسبة إلى العدد و اليوم و الليلة فلأن الأكل فاصل أجنبي.و قول الإمام عليه السّلام«لم يفصل بينهما رضعة غيرها»لا يدل على جواز الفصل بالأكل،بل هو على العكس أدل،لأنه إذا أضرت الرضعة من امرأة أخرى فبالأولى أن يضر الأكل و يمنع من التحريم،لأن كلا منهما فاصل، و كلا منهما يؤثر في إنبات اللحم،و اشتداد العظم،و الجمود على ظاهر اللفظ يخالف ما عليه أهل الاجتهاد و البصيرة النيرة.و قد وردت روايات شاذة و متروكة في باب الرضاع تردد بسببها بعض الفقهاء فرد عليه صاحب الجواهر بما نصه بالحرف الواحد:«لو ساغ للفقيه التردد بكل ما يجد،أو الجمود على كل ما يرد ما أخضر للفقه عود،و لا قام للدين عمود،نسأل اللّه تعالى تنوير البصيرة و صفاء السريرة» (1).

و قال كثير من الفقهاء:ان كل واحد من الثلاثة،أي نبات اللحم و اشتداد العظم،و خمس عشرة رضعة،و يوم و ليلة،كل منها أصل برأسه،فإذا أرضعته

ص:216


1- انظر الجزء الخامس من الجواهر، [1]باب الزواج،الشرط الثاني لنشر الحرمة بالرضاع عند شرح قول المصنف«يوم و ليلة».على أن تصبر و تصمد،و أنت تبحث عن هذه العبارة التي نقلناها.

يوما و ليلة دون أن يتم الخمس عشرة رضعة،و دون أن ينبت اللحم و يشتد العظم،أو رضع حتى نبت اللحم و اشتد العظم قبل إكمال العدد،و قبل انقضاء ال 24 ساعة كفى في ثبوت الحكم.

و الذي نراه أن الأصل هو نبات اللحم و اشتداد العظم،و ان العدد و الزمان علامتان شرعيتان على النبات و الاشتداد،و دليلنا صحيحة علي بن رئاب التي ذكرها صاحب الجواهر و الوسائل،و هي أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عما يحرم من الرضاع؟فقال:ما أنبت اللحم و شد العظم.قال السائل:فيحرم عشر رضعات؟ فقال الإمام:لا،لأنه لا ينبت اللحم،و لا يشد العظم عشر رضعات.

فقول الإمام،لأنّه لا ينبت اللحم و لا يشد العظم عشر رضعات واضح و صريح في أن المدار على النبات و الاشتداد.و مهما يكن فإن النتيجة واحدة،لأنه متى كنا على يقين من واحد من الثلاثة ثبت الحكم،و إذا شككنا في واحد منها نرجع إلى التقديرين الآخرين،و إذا شككنا فيها جميعا فلا حرمة،لأن الأصل هو العدم،حتى يثبت واحد منها.

5-الشرط الخامس حياة المرضعة عند جميع الرضعات

،فلو افترض أنّها ماتت قبل الرضعة الأخيرة،فدبّ إليها الطفل بعد الموت،و ارتضع من ثديها لم تثبت الحرمة،لأنه لا يصدق عليها بعد الموت اسم المرضعة.

و تسأل:هل تلحق النائمة و المغمى عليها بالميتة؟ قال صاحب الجواهر:لا،للاكتفاء بمجرد الحياة دون اعتبار القصد.

6-أن يكون اللبن لفحل واحد،و الفحل هو زوج المرضعة

،و يدل على هذا الشرط ما جاء في الرواية السابقة:«أو خمس عشرة رضعة من امرأة واحدة من لبن فحل واحد».و يتفرع عن هذا الشرط أحكام كثيرة

ص:217

«منها»إذا أرضعت طفلا بعض النصاب،كثماني رضعات بلبن رجل،ثم فارقها و تزوجت بغيره،و ولدت من الثاني،و صادف ان أكملت نصاب الرضعات للطفل،و أرضعته سبعا،و كان الطفل في خلال ذلك يتغذى بالطعام أو بلبن امرأة أخرى،إذا كان كذلك لم تنتشر الحرمة بين المرضعة و الرضيع،و لا بينه و بين الزوج الأول،و لا الثاني،أي لا تكون المرأة أما للرضيع،و لا الزوج أبا له.

و«منها»إذا أرضعت المرأة صبيا الرضعات المطلوبة من لبن فحل ثم طلقها هذا،و تزوجت بغيره،و أرضعت صبية تمام العدد من لبن الثاني فلا تثبت الحرمة بين الرضيعين الصبي و الصبية،لمكان تعدد الفحل و عدم اتحاده،قال صاحب الجواهر:«لو أرضعت اثنين مثلا بلبن فحلين الرضاع المحرم لم يحرم أحدهما على الآخر على المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا».

و بهذا يتبين أن الاخوة من الأم في الرضاعة لا تكفي في نشر الحرمة.

و«منها»إذا أرضعت صبيا و صبية بلبن زوج واحد ثبتت الحرمة بينهما، سواء أ كان رضاعهما في زمن واحد أو في وقتين مختلفين،و سواء أ كان بلبن ولد واحد أو ولدين.و لو افترض أن أرضعت مائة بلبن زوج واحد حرم بعضهم على بعض،لأنهم اخوة من الرضاعة لأب و أم.

و«منها»:ان الفقهاء قد أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه إذا كان للرجل أكثر من زوجة،و أرضعت إحدى الزوجات ذكرا الرضعات المطلوبة، و أرضعت الأخرى أنثى ثبتت الحرمة بين الذكر و الأنثى،و صارا أخوين من الأب، و بهذا يتبين أن الاخوة من الأب في الرضاعة تكفي لثبوت التحريم بين الرضيعين الأجنبيين،و لا تكفي الأخوة من الأم وحدها،و يدل على هذا ما جاء في صحيح الحلبي أنّه سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يرضع من امرأة،و هو غلام،أ يحل له

ص:218

أن يتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟فقال الإمام عليه السّلام:ان كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا تحل،و ان كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين فلا بأس بذلك.

و بهذا تخصص قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب،و يستثني منها الأخت من الأم،حيث تحرم الأخت النسبية منها،و لا تحرم الأخت الرضاعية.

النتيجة:

و متى توافرت جميع الشروط المتقدمة يصير الرضيع ابنا للمرضعة و لزوجها صاحب اللبن،و يكون حكمه بالنسبة إليهما حكم الولد النسبي في انتشار الحرمة،و يصير أصولهما كالآباء و الأجداد و الأمهات و الجدات أصولا له، و فروعهما كالأولاد اخوة له،و أبناء أولادهما أبناء اخوته من غير فرق بين أن يكون الأول و الفروع من جهة النسب أو من جهة الرضاعة.

و يصير أولاد الرضيع و أولادهم أولادا للمرضعة و لزوجها صاحب اللبن، أما آباء الرضيع و اخوته فهم أجانب بالنسبة للمرضعة و زوجها،و بالأولى بالنسبة لأصولهما و فروعهما و إخوتهما و أخواتهما.قال صاحب الجواهر:«ان موضوع المحرم بالرضاع هو موضوع المحرم بالنسب،فتقول بدل تحريم الأخت من النسب تحريم الأخت من الرضاع،و البنت كذلك،و هكذا في حليلة الابن و الأب،و الجمع بين الأختين و غير ذلك.

و إليك المثال:إبراهيم رضع من عاتكة المتزوجة من خليل فيصير إبراهيم بهذا الرضاع ولدا لعاتكة و زوجها خليل،و أم عاتكة تصير جدة لإبراهيم لأمه، و أبوها جدا له لأمه أيضا،و إخوتها أخوالا له،و أخواتها خالات،و تصير أم خليل

ص:219

جدة لإبراهيم لأبيه،و أبوه جدا له لأبيه،و إخوته أعماما، و أخواته عمات،أمّا أولاد خليل،و هو أبو الرضيع من الرضاعة فهم إخوة لإبراهيم،و أولادهم أولاد أخوة له سواء أ كانوا أولاد خليل من عاتكة أم من غيرها،لأن الأخوة من الأب الرضاعي تنشر الحرمة،أمّا أولادها الذين من خليل فهم إخوة لإبراهيم دون أولادها من غير خليل،لأن الأخوة من الأم في الرضاعة لا تثبت الحرمة كما تقدم.

و إذا كبر إبراهيم،و جاءه أولاد فيصير أولاده و أولادهم أولادا لعاتكة و خليل،أما آباء إبراهيم و اخوته فهم بحكم الأجانب عن عاتكة و زوجها.أجل، قد جاء النص بأن أبا الرضيع لا ينكح في أولاد صاحب اللبن،و نذكر ذلك في المسائل التالية التي تتفرع على ما قدمناه من الشروط:

الفحل و أخت الرضيع:

هل يجوز للفحل الذي هو زوج المرأة،و أبو الرضيع من الرضاعة،و يعبر عنه أيضا بصاحب اللبن،هل يجوز له أن يتزوج الأخت النسبية للرضيع؟ الجواب:يجوز له أن يتزوج بأخته و أمه أيضا،كما ذهب إليه المشهور بشهادة صاحب الحدائق،لأن المحرم على الرجل هي بنته النسبية أو الرضاعية، أو بنت زوجته المدخول بها،و المفروض أن أخت الرضيع ليست بنتا نسبية للفحل،و زوجته لم ترضعها إطلاقا،فلا تكون بنتا له من الرضاعة،و لا ربيبة، و مجرد كونها أختا لابنه من الرضاعة لا يجعلها بنتا لزوجته ما دامت أمها أجنبية عنه.قال صاحب الجواهر:«لا بأس أن ينكح الفحل أخت المرتضع نسبا،و ان كانت هي أخت ولده،لعدم كونها بنتا رضاعية،و لا ربيبة عرفا،و المحرم في

ص:220

النسب البنت و الربيبة».

أما الزواج بأم الرضيع فلأن للرجل أن يتزوج بأم ولده من النسب فبالأولى إذا كان من الرضاع.

أبو الرضيع و أم المرضعة:

هل يجوز لأبي الرضيع من النسب أن يتزوج بأم المرضعة التي أرضعت ولده؟ الجواب:يجوز،لأن أمها ليست أما لزوجته،و ان كانت أما لأم ولده من الرضاعة.فمجرد كون المرضعة أما لولده من الرضاعة لا يجعلها زوجة لأب الرضيع،حتى يصدق على أمها اسم أم الزوجة.و بتعبير ثان ان المصاهرة لا تتحقق إلاّ بأمرين العقد و القرابة،و القرابة موجودة بين البنت و أمها قبل العقد، و لكن المصاهرة لا توجد إلاّ بعد العقد على البنت،فإذا تم العقد وجدت المصاهرة بين العاقد و أم المعقود عليها،و الرضاع انما يقوم مقام القرابة و النسب و لا يقوم مقام عقد الزواج،بل ان عقد الزواج لا يغني عنه شيء.قال صاحب الجواهر:

«لا يشتبه عليك أن الرضاع يحدث مصاهرة بمعنى أن الأجنبية لو أرضعت ولدك صارت بمنزلة زوجتك،فتحرم أمها لأنها من أمهات نسائكم،كما توهمه جماعة،بل المراد من نشر الحرمة على حسب النشر في النسب،أي لا بد من وجود سبب المصاهرة،و هو النكاح لأن الرضاع يوجد المصاهرة كما اشتبه جملة من الأعاظم،و ارتطم عليهم الأمر،حتى وقع منهم تحريم جملة مما أحل اللّه غفلة عن حقيقة الحال».

ص:221

أبو الرضيع و أولاد صاحب اللبن:

هل يجوز لأب الرضيع من النسب أن يتزوج بنت صاحب اللبن،و هو الفحل،ولادة و رضاعا؟ ذهب جماعة من الفقهاء إلى الجواز عملا بعموم:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»و بنت الفحل هي أخت للرضيع،و ليست بنتا و لا ربيبة لأبيه، و المحرم هو البنت و الربيبة،لا أخت الابن.

و قال كثير من أهل التحقيق،منهم صاحب الجواهر و الشهيد الثاني و السيد أبو الحسن الأصفهاني،قالوا بعدم الجواز لوجود النص،ورد صاحب الجواهر على القائلين بالجواز«بأنه اجتهاد في قبال النص».

و قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«تعليل القائلين بالجواز حسن لولا معارضته النصوص الصحيحة،فالقول بالتحريم أحسن».

و من النصوص المشار إليها أن الإمام عليه السّلام سأله سائل أن امرأة أرضعت لي صبيا،فهل يحل لي أن أتزوج ابنة زوجها؟فقال له الإمام:ما أجود ما سألت،من ههنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأة من قبل لبن الفحل،هذا هو لبن الفحل لا غير،فقال السائل:ان الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي،هي ابنة غيرها،فقال الإمام:لو كنّ عشرا متفرقات ما حل لك منهن شيء،و لكن في موضع بناتك.

و لم يفرق الفقهاء في التحريم على أبي الرضيع بين أن يكون أولاد الفحل من النسب،أو من الرضاع.

و يجوز لأبي الرضيع أن يتزوج بنت المرضعة من الرضاعة التي ليست بنتا للفحل،لأن هذه البنت لا تحرم على الولد الرضيع فبالأولى أن لا تحرم على أبيه،

ص:222

و لا يجوز لأبي الرضيع أن يتزوج بنت المرضعة من النسب التي ليست بنتا للفحل،لأن الإمام عليه السّلام سئل:هل يحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة؟ فقال:لا تحل له.

و حمل الفقهاء هذه الرواية على خصوص البنت النسبية دون الرضاعة،لما أشرنا إليه.قال صاحب الجواهر:«ان الوجه في تخصيص ولد المرضعة بالنسبي دون الفحل هو عدم حرمة ولدها الرضاعي على ولده الذي هو المنشأ في التحريم عليه،لاعتبار اتحاد الفحل بخلاف صاحب اللبن،فان جميع أولاده يحرمون على المرتضع نسبا و رضاعا».

تحريم الزوجة:

قد تبين من الفقرة السابقة مسألتان:الأولى أن أب الرضيع لا يجوز له النكاح في أولاد صاحب اللبن لا نسبا و لا رضاعا،و سبق أن المراد بصاحب اللبن هو زوج المرضعة،المسألة الثانية ان أبا الرضيع لا يجوز له أيضا أن يتزوج في أولاد المرضعة نسبا لا رضاعا،و يترتب على هاتين المسألتين أنّه إذا كان لك ولد من زوجتك،فأرضعته أم الزوجة و هي جدته لأمه فإن زوجتك تحرم عليك بسبب هذا الرضاع،سواء أ كان صاحب اللبن-و هو زوج المرضعة التي هي أم زوجتك-أبا لزوجتك أو أجنبيا عنها،لأنه ان كان أبا لزوجتك تكون زوجتك بنتا له نسبا و رضاعا،و ان كان أجنبيا تكون بنتا له من الرضاعة،و المفروض بمقتضى المسألة الأولى أنّه لا يجوز لأبي الرضيع-و هو أنت-أن يتزوج في أولاد صاحب اللبن لا نسبا و لا رضاعا.هذا،بالإضافة إلى أن أم زوجتك تصير مرضعة لولدك، و زوجتك بنتها من النسب،و المفروض بمقتضى المسألة الثانية أنّه لا يجوز لأبي

ص:223

الرضيع أن ينكح في أولاد المرضعة من النسب،فيجتمع لتحريم زوجتك عليك أكثر من سبب.

الزواج بأخت الأخ:

إذا كان لزيد أخت من الرضاعة اسمها هند مثلا،و له أخ من النسب اسمه خالد،فهل يجوز لخالد أن يتزوج بهند،مع العلم بأنها أخت أخيه؟ الجواب:يجوز،لأن التي يحرم العقد عليها هي الأخت بالذات،لا أخت الأخت من حيث هي.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج أخت أخيه؟ فقال:«لا أحب أن أتزوج أخت أخي من الرضاعة».و لفظ«لا أحب»ظاهر في الكراهة،كما قال صاحب الجواهر،و قال صاحب المسالك:

«لو كان لواحد من الناس أخ من أبيه،و أخت من أمه جاز لأخيه المذكور نكاح أخته،إذ لا نسب بينهما محرم،و انما تحرم أخت الأخ من أمه إذا كانت لمن يحرم عليه من الأب أو من الأم،و هنا ليس كذلك،إذ لا نسب بين أخوة الرضيع من النسب،و اخوته من الرضاع».

الرضاع بعد الزواج:

إذا حصل الرضاع بشروطه فإنه يبطل الزواج،تماما كما يمنع منه لو حصل من قبل،فمن كانت له زوجة صغيرة فأرضعتها ابنته،أو أمه،أو أخته،أو بنت أخيه،أو زوجة أخيه حرمت عليه الرضيعة الصغيرة،لأنها تصير،و الحال هذي، بنتا أو أختا أو بنت أخ،أو بنت أخت.و إذا كانت له زوجتان صغيرة و كبيرة، فأرضعت الكبرى الصغرى حرمت الكبرى،لأنها أم زوجته،و حرمت الصغرى،

ص:224

لأنها بنت زوجته المدخول بها.

ابن العم يصير عما:

إذا زوج ابنه الصغير ببنت أخيه الصغيرة،ثم أرضعت جدتهما أحد الزوجين الصغيرين بطل زواجهما،لأن الجدة ان كانت للأب،و كان الرضيع هو الذكر فإنه يصير عما لزوجته،لأنه صار أخ أبيها لأنه من الرضاع بعد أن كان ابن عمها،و ان كان الرضيع هي الأنثى فإنها تصير عمة لزوجها،لأنها أخت أبيه لأمه، و ان كانت الجدة المرضعة جدة للأم،كما لو كان الزوجان الصغيران ولدي خالة، كما أنهما ولدا عم فان الرضيع هو الذكر فإنه يصير خالا لزوجته،لأنه صار أخا لأمهما من الرضاع،و ان كان الرضيع هي الأنثى فإنها تصير خالة لزوجها،لأنها أخت أمه من الرضاعة،و الكل يحرم زواجه من النسب فيحرم من الرضاع أيضا.

الشهادة بالرضاع:

تكلمنا في باب الشهادات،فصل أقسام الحقوق و الحوادث،فقرة:«يعسر اطلاع الرجال عليه»تكلمنا عن شهادة النساء،و ان جماعة من الفقهاء قالوا:يثبت الرضاع بشهادتهن منضمات مع الرجال و منفردات عنهم،و نتكلم في هذه الفقرة في أن الشهادة بالرضاع لا تقبل مجملة،مثل أن يقول الشاهد:فلانة أرضعت فلانا و كفى،بل لا بد من التوضيح و التفصيل،مثل أن يقول:اشهد أن فلانا ارتضع من ثدي فلانة من لبن الولادة المستندة إلى نكاح صحيح خمس عشرة رضعة متواليات و تامات قبل أن يتم الرضيع الحولين من عمره،لا بد من هذا التفصيل حذرا من أن يستند الشاهد في شهادته إلى ما يعتقده هو بأنه موجب للتحريم،

ص:225

و هو عند الحاكم غير محرم.

اشتباه العلماء في الرضاع:

لاحظت و أنا أكتب دورة كاملة لفقه الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أن مسألة الرضاع هي أشكل و أدق المسائل الفقهية على الإطلاق،بخاصة معرفة الأحكام المتفرعة عن قاعدة:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»و تمييزها عن غيرها، و تطبيقها على مواردها،فبعضهم يعمم التنزيل،إلى حد يقوم معه الرضاع مقام عقد الزواج في ثبوت المصاهرة،و يجعل أم المرضعة بمنزلة أم الزوجة بالنسبة إلى ابي الرضيع،و أخت الأخ بمنزلة الأخت،و آخر يخص القاعدة بالنسب، و لكن يعممها إلى جميع موارده دون استثناء،و ثالث يستثني و يخرج من القاعدة النسب الثابت بوطء الشبهة،و لا يعتبره إطلاقا في الرضاع،و رابع يعتبر الزنا كالزواج الشرعي من حيث ثبوت الحرمة من الرضاع،و خامس يكتفي في ثبوت الحرمة برضاع الطفل مقدار ما يفطر الصائم،و سادس يقول:لا بد من رضاع حولين كاملين،إلى غير ذلك من التناقضات التي نقلها صاحب الجواهر و المسالك و غيرهما.

و قد استنكر ذلك صاحب الجواهر،فقال-عند الكلام عن الشرط الثاني من شروط تحريم الرضاع-«لقد أفتى البعض بما يمكن أن يكون مخالفا للضرورة من الدين».و قال في المسألة الأولى بعد الشرط الرابع:«وقع في الاشتباه جملة من الأعاظم،و ارتطم عليهم الأمر،حتى حرموا جملة مما أحله اللّه».و قال في المسألة الثانية:«وقفت على بعض الرسائل المعمولة في هذه المسألة فرأيت فيها أمورا عجيبة و أشياء غريبة يقطع من له أدنى نظر بخروجها عن

ص:226

المذهب أو الدين».و قال في المسألة الثالثة:«من لاحظ رسالة السيد الداماد قضى منها العجب،و علم انتهاء الوهم و الاشتباه في العلماء،بل و كذا رسالة جدي الآخند ملا«أبو الحسن الشريف»و ان كان بين الرسالتين بون عظيم.لأن ما ذكره السيد الداماد (1)في رسالته شيء لا ينبغي نسبته إلى أصاغر الطلبة فضلا عن العلماء».

و صلوات اللّه و سلامه على من قال:«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.و من وقع في الشبهات وقع في الحرام».و هو سبحانه الهادي إلى الصواب.

ص:227


1- السيد الداماد هو محمد باقر الأسترآبادي،توفي سنة 1040 ه،و قال القمي في كتاب الكنى و الألقاب ينعته:«المحقق المدقق العالم الحكيم المتبحر النقاد ذو الطبع الوقاد الذي حلي بعقود نظمه، و جواهر نثرة عواطل الأجياد»إلى غير ذلك مما كان على وزن«داماد».ثم نقل عن صاحب السلافة أنّه قال فيه:«ان الزمان بمثله لعقيم،و ان مكارمه لا يتسع لها صدر رقيم». و أبو الحسن الشريف هو الشيخ محمد طاهر بن معتوق الفتوني العاملي النباطي صاحب كتاب ضياء العالمين،و أحد أجداد صاحب الجواهر،توفي سنة 1138 ه.

الولاية

اشارة

الولاية في الزواج سلطة شرعية جعلت للكامل على المولى عليه لنقص فيه،و رجوع مصلحة إليه،و يقع الكلام في أمور،منها:

البالغة الراشدة:
اشارة

اتفقوا على أن الولي ينفرد بزواج الصغير و الصغيرة،و المجنون و المجنونة،و السفيه و السفيهة،و أيضا اتفقوا على أن البالغ الراشد يستقل في زواجه و لا ولاية لأحد عليه،و اختلفوا في البالغة الراشدة:هل يصح زواجها من غير ولي،و تستقل في اختيار من تشاء،أو يستقل الولي بزواجها و ليس لها من الأمر شيء،أو يشتركان معا في الاختيار،فلا تستقل من دونه،و لا يستقل من دونها،أو يفصّل بين الثيب و البكر (1)،أو بين الزواج الدائم و المنقطع؟ و للفقهاء في ذلك خمسة أقوال،و المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر و الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب،المشهور بينهم على أنّه لا سلطان لأحد عليها إطلاقا،و أنّها تتزوج بمن تشاء دون قيد و شرط،قال صاحب

ص:228


1- قال صاحب الجواهر و المسالك:لا خلاف في سقوط الولاية عن الثيب إلاّ ما نقل عن ابن أبي عقيل و هو شاذ.

الجواهر ما نصه بالحرف:«المشهور في محل البحث نقلا و تحصيلا-أي أن غيره نقل له الشهرة،و هو أيضا اطلع عليها بنفسه-بين الفقهاء القدماء و المتأخرين سقوط الولاية عنها،بل عن الشريف المرتضى في كتاب الانتصار و الناصريات الإجماع عليه».

و هذا هو الصواب الذي لا نرتاب فيه،و إليك الأدلة:

أولا:ان الولاية على خلاف الأصل،فإن لكل انسان بالغ عاقل راشد أن يستقل في التصرف بجميع شؤونه،و لا يحق لأحد أن يعارضه في شيء ذكرا كان أو أنثى،ما دام لا يعارض حقا خاصا أو عاما،و المفروض أن البنت تتصرف في شأنها الخاص لا في شأن غيرها،و انها كاملة و تامة الأهلية من جميع الجهات.

و هذا الأصل يتفق على صدقه و صحته جميع المسلمين،بل جميع العقلاء،بل جميع الأديان و الشرائع السماوية و الوضعية.و لا يجوز الخروج عنه إلى بدليل قاطع،لأنّا نقطع و نؤمن ايمانا جازما بصحة هذا الأصل،فإذا أردنا مخالفته و الخروج عنه في مورد من الموارد يجب أن نقطع و نؤمن ايمانا جازما بوجود السبب الذي أوجب مخالفته و الخروج عنه،لأن اليقين لا ينقض بالشك،و لا بالظن،و على هذا،فمن نفى الولاية عن البنت الكاملة لا يطالب بالإثبات و الدليل على النفي،و انما عبء الإثبات على من يدعي ثبوت الولاية عملا بمبدإ البينة على من ادعى،و مبدأ لكل حكم دليله الخاص أو العام.

ثانيا:ان زواج الكاملة ينطبق عليه اسم العقد عرفا،فتشمله الآية الكريمة:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1)لأن الأحكام تتبع الأسماء،و يؤيد ذلك اتفاق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر و الشيخ الأنصاري على أنّها لو رغبت في زواج الكفؤ يصح

ص:229


1- المائدة:1. [1]

عقدها عليه،حتى و لو كره الولي.

ثالثا:ان قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ و ما إليه من العمومات و الإطلاقات يدل بظاهره على اباحة الزواج و صحته من غير الرجوع إلى الولي و مشورته،خرج الزواج بالمجنونة و الصغيرة و السفيهة فبقي غيرها بحكم العموم.

رابعا:لقد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام روايات كثيرة أطلقت الحرية في الزواج للبالغة الراشدة،و تركت لها أن تختار من تشاء من الأزواج:

«منها»قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن أبيها.

و هذه الرواية صريحة في استقلال البكر بالتزويج بمن تشاء،و بالأولى الثيب،قال الشيخ الأنصاري في ملحقات المكاسب:ان هذه الرواية لا تقبل التقييد.

و مثلها في الصراحة ما رواه الحلبي عن الإمام الصادق عليه السّلام،حيث سأله عن المتعة في البكر؟قال:لا بأس.

قال الشيخ الأنصاري:ان أخبار الجواز بالمتعة من غير ولي تدل على الجواز في الدائم بالأولية،و قال:«لقد استقر مذهب الفقهاء الإمامية على عدم القول بالفصل بين المتعة و الدوام».و عليه فإذا صح زواجها متعة بلا ولي صح دواما كذلك.

و قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع و تشتري،و تعطي مالها من تشاء-أي غير سفيهة-فإن أمرها جائز تتزوج ان شاءت بغير ولي،و ان لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلاّ بأمر وليها.

ص:230

و هذه الرواية صريحة في نفي الولاية عن الكاملة،و عامة للبكر و الثيب، و للزواج الدائم و المنقطع.

و تقول:لقد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام روايات تدل بظاهرها أن للأب الولاية على البكر،و بعضها أن الولاية في الزواج الدائم،و بعضها يدل على التشريك بينه و بينها فلا يستقل هو من دونها،و لا تستقل هي من دونه؟

الجواب:

أولا:ان هذه الروايات ضعيفة السند بشهادة صاحب الجواهر،حيث قال:

«جميعها أو أكثرها قاصرة السند و لا جابر لها».و عليه فلا تكون أهلا للمعارضة، أما صاحب المسالك فقد ناقشها سندا و دلالة،و أطال الكلام في ذلك أكثر من صاحب الجواهر،و لم يعتمد على شيء منها.

ثانيا:على افتراض صحة هذه الروايات نحملها على الاستحباب،و ان الأفضل أن تستشير الولي،و ان صح زواجها من غير رأيه،نحملها على ذلك جمعا بينها و بين الروايات الدالة على نفي الولاية.و دليلنا على هذا الجمع ما رواه ابن عباس أن جارية جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و قالت له:ان أبي زوجني من ابن أخ له،و أنا له كارهة؟فقال:اجيزي ما صنع أبوك.فقالت:لا رغبة لي فيما صنع أبي.

فقال:اذهبي فانكحي من شئت.

فقد أمرها الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان تجيز ما صنع أبوها،فلما أخبرته بعدم رغبتها ترك لها الخيار،و يدل هذا على أن أمره بالإجازة للاستحباب لا للوجوب.

ثالثا:و على افتراض عدم إمكان الجمع و الحمل على الاستحباب،و بقاء التعارض فان الروايات الدالة على استقلال البكر في الزواج مقدمة على التي أثبتت الولاية،لأن تلك أشهر.قال الشيخ الأنصاري:«ان الروايات الدالة على

ص:231

استقلال البكر معتضدة أو منجبرة بفتوى الأكثر،و دعوى الإجماع».هذا،إلى أنّها موافقة لظاهر الكتاب،و التي أثبتت الولاية مخالفة له،كما قال صاحب الجواهر.

و قد ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أنّه مع تعارض الروايتين يؤخذ بالأشهر،و مع التكافؤ بالشهرة يؤخذ بما وافق الكتاب،و يطرح المخالف.

رابعا:و على افتراض تكافؤ الروايات من جميع الجهات نرجع الى الأصل،و هو عدم الولاية،هذان ان قلنا بتساقط المتعارضين،و ان قلنا بالتخيير فانّا نختار الروايات النافية.

و نختم هذه المسألة بما ختمها به صاحب الجواهر،فإنه بعد أن أبطل أدلة القائلين بثبوت الولاية،و جزم بنفيها قال:«لا ينبغي لمن له أدنى معرفة بمذاق الفقه و ممارسته في خطاباتهم التوقف في هذه المسألة،ثم يستحب لها إيثار اختيار وليها على اختيارها،بل يكره لها الاستبداد،كما أنّه يكره لمن يريد نكاحها أن لا يستأذن وليها.بل ينبغي مراعاة الوالدة أيضا،بل يستحب أن تلقي أمرها إلى أخيها مع عدم الوالد و الوالدة،لأنه بمنزلتهما في الشفقة».

الصغير و الصغيرة:
اشارة

اتفقوا على أن للأب و الجد للأب أن يزوجا الصغير و الصغيرة،و ليس لأحدهما أن يطلّق عن الزوج الصغير،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الصبي يتزوج الصبية،هل يتوارثان؟فقال:إذا كان أبواهما اللذين زوجاهما فنعم.قال السائل:هل يجوز طلاق الأب؟قال الإمام:لا.

فقول الإمام:«إذا كان أبوهما»يدل بمفهوم الشرط على أنّه لا ولاية في زواج الصبي و الصبية لغير الأب،و منه الحاكم و الوصي،و من هنا اتفقوا بشهادة

ص:232

صاحب الحدائق على أنّه لا ولاية للحاكم في زواج الصغير و الصغيرة،كما ذهب المشهور-على ما في الجواهر-إلى أنّه لا ولاية في الزواج لوصي الأب،و لا لوصي الجد،حتى و لو نصا على ذلك،و إذنا به للوصي،لأن الولاية كالأبوة لا تسقط بالإسقاط و لا يصح الإيصاء بها إلى الغير.

و بهذا يتبين أنّه لا ولاية في زواج الصبي و الصبية إلاّ للأب و الجد للأب فقط دون غيرهما،و يستقل كل منهما في الولاية عن الآخر،و إذا عقد الجد على انسان،و عقد الأب على آخر يصح العقد السابق،و يبطل اللاحق،و إذا وقعا في آن واحد صح عقد الجد،و بطل عقد الأب،قال الإمام عليه السّلام:إذا زوّج ابنة ابنه فهو جائز على ابنه،و إذا هوى أبوها رجلا،وجدها رجلا فالجد أولى بنكاحها.

و تسأل:إذا زوّج الأب أو الجد الصغير أو الصغيرة،ثم بلغا،فهل لهما الاعتراض على الزواج،أو انهما ملزمان به على كل حال،حتى و لو كان ضررا محضا؟

و الجواب عن ذلك يستدعي التفصيل التالي:

1-أن يقع الزواج في محله،و لا ضرر فيه إطلاقا،لا من حيث الزواج، و لا من حيث المهر كما لو كان بمقدار مهر المثل،إذا كان كذلك لزم عقد الولي، و لا يصح الاعتراض عليه بعد البلوغ و الرشد بالإجماع،و عليه تحمل الروايات الدالة على إلزام القاصر بعقد الولي،و منها ان الإمام عليه السّلام سئل عن الجارية الصغيرة يزوجها أبوها،إلها أمر إذا بلغت؟فقال:لا.

2-ان يتضرر المولى عليه من زواج الولي،و ليس من شك أن للقاصر الاعتراض على الزواج إذا بلغ،لأنه لا ولاية مع الضرر.قال صاحب الجواهر:«إذا كان في الزواج مفسدة و مضرة فإن لها الاعتراض قطعا،لعدم الولاية له في ذلك».

ص:233

و ذكرنا في باب الحجر فقرة«شرط الولي»أن تصرف الولي بمال القاصر مع الضرر لا ينفذ،فبالأولى أن لا ينفذ تصرفه بنفس القاصر مع الضرر.

3-أن لا يكون في الزواج مصلحة،و لا مفسدة،فيصح العقد،و يلزم به القاصر،و لا يحق له الاعتراض عليه بعد البلوغ،عملا بعموم النص الذي أثبت الولاية للأب و الجد،خرج عنه ما فيه مضرة و مفسدة،فبقي غيره على حكم العموم.

4-إذا لم يكن في الزواج من حيث هو مفسدة،و لكن كانت المفسدة و المضرة في المهر،كما إذا زوّج الصبية بأقل من مهر المثل،أو الصبي بأكثر منه، فهل للقاصر بعد البلوغ الاعتراض على العقد،و يحق له الفسخ،أو أن الزواج ماض عليه،و له أن يعترض على المهر فقط،و يرجعه إلى مهر المثل؟ و للفقهاء في ذلك قولان:ذهب جماعة،منهم صاحب الجواهر،و العروة الوثقى،و المستمسك إلى أن المولى عليه في الخيار بعد البلوغ،ان شاء أمضى، و ان شاء فسخ،لعدم التفكيك هنا بين العقد و المهر،قال صاحب الجواهر:«إذ من الواضح كون الواقع في الخارج أمرا واحدا مشخصا.هذا،إلى أن إلزام الصبية بمهر المثل على وجه القهر أيضا ضرر منفي».

و يلاحظ بأن صاحب الجواهر قد جزم من غير تردد بأن الولي إذا زوّج الصبية بمهر المثل مع عدم الضرر عليها في أصل الزواج،جزم بنفاذ العقد بحق الصبية،و إلزامها به قهرا عنها،فإذا كان الإلزام بمهر المثل ضرر فينبغي أن لا ينفذ هذا العقد من الولي إلاّ برضاها،بل ينبغي نفي الولاية من رأس في شتى الصور و الحالات،لأنها تلزم المولى عليه بالزواج قهرا عنه.

ص:234

المجنون:

الولاية في زواج المجنون للأب،و الجد للأب،ذكرا كان المجنون أو أنثى، و لا ولاية للحاكم مع وجودهما،سواء اتصل الجنون بالصغر،أو طرأ بعد البلوغ و الرشد،لأن الحاكم ولي من لا ولي له،و المفروض وجود الولي.هذا،إلى أن ولاية الحاكم في التزويج محل نظر.لأن وظيفته تنحصر في بيان الأحكام، و فصل الخصومات،و المحافظة على الأموال العامة كالأوقاف،و أموال الغائب و القاصر مع وجود الولي الخاص.أما الولاية على النفس فهي للمعصوم وحده.

أجل،لو افترض أن المجنون يحتاج إلى الزواج حاجة ملحة،بحيث لا تنتظم حياته من غير زواج،و لم يكن له أب و لا جد للأب جاز للحاكم أن يتولى تزويج المجنون من باب الحسبة،بل جاز ذلك لعدول المؤمنين أيضا مع عدم وجود الحاكم.قال صاحب الجواهر:«و تثبت ولاية الحاكم على من بلغ غير رشيد بجنون،و لم يكن له ولي من حيث القرابة،أو تجدد فساد عقله إذا كان النكاح صلاحا له بلا خلاف أجده فيه،بل الظاهر كونه مجمعا عليه».

أما وصي الأب و الجد فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن له أن يزوج من بلغ فاسد العقل مع حاجته إلى الزواج،قال صاحب الجواهر:

«للوصي أن يزوج من بلغ فاسد العقل إذا كان به ضرورة إلى النكاح،بل نفى بعضهم الخلاف في ذلك،بل ظاهر الكفاية الإجماع عليه».و قال العلامة الحلي في التذكرة:«تثبت ولاية الوصي في صورة واحدة عند بعض علمائنا،و هي أن يبلغ الصبي فاسد العقل،و يكون به حاجة إلى النكاح و ضرورة إليه».

ص:235

السفيه:

إذا كان زواج السفيه لا يستدعي التصرف في ماله لا مهرا،و لا نفقة،كما لو تهيأت له امرأة غنية تعطيه و لا تأخذ منه،إذا كان كذلك صح زواجه من غير أن يأذن الولي،و إذا استدعى زواجه التصرف في المال ينظر:فان لم يكن محتاجا إلى الزواج فلا يصح زواجه إطلاقا،حتى و لو اذن الولي،قال صاحب الجواهر:

«أما المحجور عليه للتبذير فلا يجوز أن يتزوج غير مضطر إذا كان فيه إتلاف لماله بلا خلاف أجده فيه،و لا اشكال معتد به،بل لو أوقع العقد كان فاسدا،حتى و لو اذن له الولي به،لعدم جواز الاذن له،و حينئذ فلا يؤثر الإذن أثرا».

و ان اضطر السفيه إلى الزواج صح بإذن الولي،و إلاّ فلا.هذا ما قاله الفقهاء.مع اعترافهم بأنه لا نص عليه بالخصوص،و دليلهم الوحيد أن السفيه ممنوع من التصرفات المالية،و الزواج من جملتها،لأنه يستدعي المهر و النفقة و حيث لا نص يمنع من زواج السفيه فالذي نراه أنّه إذا اضطر إلى الزواج فله أن يستقل به،حتى و لو نهى الولي،على شريطة أن لا يتجاوز المألوف بالمهر دفعا لما يلحقه من الضرر.و بكلمة:ان على الولي أن يأذن له بالزواج إذا احتاج إليه،فإن امتنع عن الاذن سقطت ولايته.و يؤيد ما قلناه أن صاحب الشرائع و القواعد قالا:إذا اضطر السفيه إلى الزواج،و بادر إليه قبل اذن الولي صح العقد.

و الولاية على السفيه في الزواج و غيره للأب و الجد له إذا بلغ سفيها،و إذا بلغ راشدا،ثم عرض عليه السفه بعد الرشد تكون الولاية عليه للحاكم الشرعي، و تكلمنا عنه مفصلا في:باب الحجر،فقرة«السفيه».

ص:236

المتعة

وظيفة رجل الدين:

لقد كثر الكلام قديما و حديثا حول المتعة،و بالأصح كثر الخلاف و النقاش في حكمها،و هل هي حلال أم حرام في الشريعة الإسلامية؟و ان كثيرا من الناس يحسبونها ضربا من الزنا و الفجور جهلا بحقيقتها،و يعتقدون ان ابن المتعة عند الشيعة لا نصيب له من ميراث أبيه،و لا يشارك اخوته من الزواج الدائم في شيء.

و ان المتمتّع بها لا عدة لها،و انها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل ان شاءت بمجرد أن ينتهي أمد الاتفاق بينها و بينه.و من أجل هذا استقبحوا المتعة و استنكروها،و شنعوا على من أباحها.

و بما أن الواجب على رجل الدين أن يقوم بدور إيجابي في توعية الناس، بخاصة في المسائل الدينية،و إرشادهم إلى الحقيقة بعيدا عن التعصب و الطائفية التي يستنكرها العقل و الدين فقد رأيت أن أعرض المتعة،و اكشف عن حقيقتها كما هي عند الشيعة،دون أن ابدي رأيا أو أوحي بفكرة أو اقارن و اوازن.

من معاني المتعة:

للمتعة معان،منها المنفعة،قال تعالى مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا .و منها الزاد،

ص:237

قال سبحانه مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ .و منها البقاء،قال عزّ من قال فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً .

و منها العطاء،قال تباركت أسماؤه مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ .

أما الفقهاء فقد تكلموا عن المتعة بمعنى العطاء،و أوجبوه على الذي يتزوج امرأة دون أن يسمي لها مهرا حين العقد،ثم يطلقها قبل الدخول،أوجبوا عليه أن يهدي المطلقة شيئا يتناسب مع وضعه المادي من الثراء و العوز، و استدلوا على ذلك بالآية 236 من سورة البقرة لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ .و تكلم الفقهاء أيضا عن متعة الحج، و بحثناها مفصلا في الجزء الثاني من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:فصل التقصير و الحلق،فقرة عمر و متعة الحج.

زواج المتعة:

و أيضا تكلم الفقهاء عن المتعة بمعنى الزواج الموقت،و أجمعوا قولا واحدا السنة منهم و الشيعة على أن الإسلام شرعها،و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أباحها، و استدلوا بالآية 24 من سورة النساء فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً .

و ربما جاء في صحيح البخاري ج 9 كتاب النكاح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه في بعض حروبه:«قد اذن لكم أن تستمتعوا،فاستمتعوا.أيما رجل و امرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال،فإن أحبا أن يتزايدا،أو يتتاركا تركا».

و بما جاء في صحيح مسلم ج 2 باب نكاح المتعة ص 623 طبعة 1348 ه عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنّه قال:«استمتعنا على عهد رسول اللّه و أبي بكر

ص:238

و عمر».و في الصفحة نفسها حديث آخر عن جابر قال فيه:ثم نهانا عنها عمر.

و بعد أن اتفق المسلمون جميعا على شرعيتها و إباحتها في عهد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اختلفوا في نسخها،و هل صارت حراما بعد أن أحلها اللّه سبحانه.

ذهب السنة إلى أنّها نسخت،و حرمت بعد الاذن بها.قال ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج:11 ص 70 طبعة 1959:«وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عن المتعة بعد الاذن بها».و جاء في الجزء السادس من كتاب المغني لابن قدامة ص 645 طبعة ثالثة ما نصه بالحرف:«قال الشافعي:لا أعلم شيئا أحله اللّه،ثم حرمه،ثم أحله،ثم حرمة إلاّ المتعة».

و قال الشيعة:أجمع المسلمون كافة على إباحة المتعة،و اختلفوا في نسخها،و ما ثبت باليقين لا ينفى و يزول بمجرد الشك و الظن،بل لا بد من ثبوت النسخ يقينا و أيضا استدلوا على عدم النسخ بروايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام ذكرها الحر العاملي في كتاب الوسائل،منها أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل:هل نسخ آية المتعة شيء؟قال:لا لولا ما نهى عنها عمر ما زنى إلاّ شقي.

و ليس من شك أن النسخ لو ثبت عند السنة لقالوا بمقالة الشيعة،و لو لم يثبت عند الشيعة لقالوا بمقالة السنة،و ليست آية المتعة وحدها محلا للاختلاف من حيث النسخ و عدمه،فقد اختلف السنة و الشيعة في غيرها من هذه الحيثية، كما اختلف فقهاء السنة بعضهم مع بعض،و فقهاء الشيعة كذلك في نسخ جملة من الأحكام و الآيات.

و مهما يكن،فان الزواج المنقطع-أي المتعة-يجتمع مع الزواج الدائم في أشياء،و يفترق عنه في أشياء عند الشيعة،و فيما يلي نذكر ملخصا لما يجتمعان فيه،و يفترقان:

ص:239

المساواة بين الزواج الدائم و المنقطع:

أجمع فقهاء المذهب الجعفري على أن الزواج الدائم و المنقطع يشتركان في الأمور التالية:

1-لا بد في كل منهما أن تكون المرأة عاقلة بالغة راشدة خالية من جميع الموانع،فلا يجوز التمتع بالمتزوجة،و لا بالمعتدة من طلاق أو وفاة،و لا بالمحرّمة نسبا أو مصاهرة أو رضاعا،و لا بالمشركة،و ما إلى هذه مما ذكرناه مفصلا في فصل المحرمات.و أيضا لا يجوز لها هي أن تتمتع إلاّ بالمسلم الخالي من جميع الموانع.

2-لا يصح الزواج المنقطع بالمعاطاة و مجرد المرضاة،بل لا بد فيه من العقد اللفظي الدال صراحة على قصد الزواج،تماما كالزواج الدائم،و لا يقع عقد المتعة بلفظ وهبت و أبحت و أجرت و نحوه،بل ينحصر لفظ العقد بخصوص أنكحت و زوجت و متعت،قال صاحب الجواهر:«أما صيغة زواج المتعة فهي اللفظ الذي وضعه الشرع للإيجاب كزوجتك و أنكحتك و متعتك،أيّها حصل وقع الإيجاب به،و لا ينعقد بغيرها،كلفظ التمليك و الهبة و الإجارة،و يقع القبول باللفظ الدال على الإنشاء كقبلت و رضيت».

3-عقد الزواج المنقطع كالدائم لازم في حق الرجل و المرأة.أجل، للزوج أن يهب المدّة المتفق عليها للمتمتع بها،كما له أن يطلق الزوجة الدائمة.

4-الزواج المنقطع ينشر الحرمة،تماما كالدائم،فإن المتمتع بها تحرم على الزوج مؤبدا،و بنتها ربيبته،و لا يجمع بين الأختين متعة كما لا يجمع بينهما دواما،و الرضاع من الزانية فلا أثر له إطلاقا،و الفرق أن المتمتع بها زوجة شرعية، و فراش صحيح،أما الزانية فلها الحجر.

ص:240

5-الولد من الزوجة المنقطعة كالولد من الدائمة في وجوب التوارث و الإنفاق،و سائر الحقوق المادية و الأدبية.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المرأة المتمتع بها إذا حملت؟فقال:هو ولده.

6-يلحق الولد بالزوج بمجرد الجماع،حتى و لو عزل،و أراق ماءه في الخارج،لأن المتمتع بها فراش شرعي كالدائمة،و الولد للفراش إجماعا و نصا.

7-المهر في الزواج المنقطع كالمهر في الزواج الدائم،من حيث عدم تقديره قلة أو كثرة،فيصح بكل ما يقع عليه التراضي واحدا كان أو مليونا عملا بالآية الكريمة وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً .

8-إذا طلق الزوجة قبل الدخول يثبت لها نصف المهر المسمى،و كذا إذا وهب المدّة للزوجة المؤقتة قبل أن يدخل،أما إذا انقضت المدّة دون أن يدخل لسبب فلها المهر كاملا.و قيل:نصف المهر.

9-لا أثر للخلوة من غير الدخول في الزواج الدائم و المنقطع بالنسبة إلى المهر و العدة.

10-على المتمتع بها أن تعتد مع الدخول بها بعد الأجل،و لا عدة عليها إذا لم يدخل،تماما كالزوجة الدائمة إذا طلقت من غير تفاوت،و عليهما معا العدة الكاملة من وفاة الزوج،سواء أدخل أو لم يدخل.

11-كل شرط سائغ في الشريعة الإسلامية تشترطه المرأة أو الرجل في متن العقد فهو نافذ كالشرط في الزواج الدائم،لحديث:«المؤمنون عند شروطهم».

12-تحريم مقاربة الزوجة،و هي في الحيض منقطعة كانت أو دائمة.

13-إذا عقد عليها متعة،ثم تبين فساد العقد،لسبب موجب للتحريم

ص:241

فسد العقد،و لا شيء لها من المهران لم يدخل.أما إذا تبين فساد العقد بعد الدخول فينظر:فان كانت عالمة بالتحريم،و مع ذلك أقدمت و مكنت من نفسها فلا شيء لها،لأنها بغي.و قد جاء في الحديث:«لا مهر لبغي»و ان كانت جاهلة فلها المهر، كما هو الحكم في الدائمة.

14-لا يجوز أن يدخل على المتمتع بها بنت أختها،أو بنت أخيها إلاّ بإذنها،كما هو الحكم في الدائم.

التباين بين الزواج الدائم و المنقطع:

و يفترق الزواج الدائم عن الزواج المنقطع في الأمور التالية:

1-لا بد في الزواج المنقطع أن يذكر في متن العقد أجل معين لا يقبل الزيادة و النقصان،أما الزواج الدائم فلا يصح ذكر الأجل فيه بحال،و هذه الحقيقة تدل على نفسها بنفسها،و تحمل قياسها معها.

و إذا قصد كل من الرجل و المرأة الزواج المنقطع،و تركا ذكر الأجل في متن العقد نسيانا،فهل يقع الزواج دواما،أو متعة،أو يكون العقد لغوا،لا يقع هذا، و لا ذاك؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن الزواج،و الحال هذي، يقع دائما،بل قال صاحب الجواهر:«لعله مجمع على ذلك،لصلاحية اللفظ للدوام،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا سمى الأجل فهو متعة،و ان لم يسم فهو نكاح ثابت.

و قال بعض الفقهاء:بل يقع لغوا لا دائما و لا منقطعا،لأن ما قصد لم يقع، و ما وقع لم يقصد.

ص:242

2-المهر ركن من أركان العقد في الزواج المنقطع،فلو أخل بذكره في متن العقد بطل من رأس،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تكون متعة إلاّ بأمرين:أجل مسمى،و أجر مسمى،و عنه في الرواية ثانية:أجل معلوم،و مهر معلوم.

أما الزواج الدائم فالمهر ليس ركنا له،بل يصح مع المهر و دونه،فمن تزوج امرأة و لم يذكر لها مهرا في متن العقد،و دخل بها فعليه مهر المثل.

3-إذا طلّقت الزوجة الدائمة قبل الدخول فلا عدة لها،و مثلها المتقطعة إذا انتهى الأجل قبل الدخول،و إذا طلّقت الدائمة بعد الدخول و كانت غير حامل فعدتها ثلاث حيضات،أو ثلاث أشهر،و ان كانت حاملا فعدتها وضع الحمل، إما المنقطعة فعدتها بعد الدخول و انقضاء الأجل حيضتان أو خمسة و أربعون يوما ان كانت غير حامل،و ان كانت حاملا فعدتها وضع الحمل.هذا بالقياس إلى طلاق الدائمة،و انتهاء أجل المنقطعة،أما بالنسبة إلى عدّة الوفاة فلا فرق بينهما إطلاقا أم لم يدخل،هذا مع عدم الحمل،أما معه فتعتدان بأبعد الأجلين من وضع الحمل و هو أربعة أشهر و عشرة أيام.

4-اختلف فقهاء المذهب الجعفري في توارث الزوجين في الزواج المنقطع،فذهب جماعة،منهم الشهيد الأول محمد بن مكي(ت 786 ه) و الشهيد الثاني زين الدين العاملي الجبعي(ت 965 ه)ذهبوا إلى أنّه لا يورث إلاّ مع الشرط،لأن عقد الزواج بطبيعته لا يقتضي التوارث،و لا عدمه،و متى حصل الشرط وجب العمل به،لحديث:«المؤمنون عند شروطهم».و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«ان اشترطا الميراث فهما على شرطهما».

5-لا نفقة للمنقطعة إلاّ مع الشرط،أما الدائمة فلها النفقة،حتى و لو اشترط عليها عدم الإنفاق.

ص:243

6-يكره التمتع بالأبكار،أما الزواج بهن دواما فمندوب،قال صاحب الحدائق:«سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المتعة؟فقال:ان أمرها شديد،فاتقوا الأبكار».

7-قال الفقهاء:للزوجة الدائمة حق على الزوج أن ينام في فراش قريب من فراشها ليلة واحدة من كل أربع ليالي معطيا لها وجهه،و ان لم يتلاصق الجسدان،و المهم أن لا يعدّ هاجرا،أما المواقعة فتجب عليه في كل أربعة أشهر مرة،و لها أن تطالب ان امتنع عن المبيت،أو المواقعة.

و لا يجب شيء من ذلك للمنقطعة،بل يترك له الخيار،و ليس لها أن تطالبه،لا بالمبيت و لا بالمواقعة.

8-إذا طلّقت الزوجة الدائمة طلاقا رجعيا بعد الدخول فللمطلق أن يرجع إليها قبل انقضاء العدة.و إذا كان الطلاق خلعيا،و عن كره و بذل منها له،فلها الحق أن ترجع بالبذل ما دامت في العدة.

أمّا المنقطعة فإنّها تبين منه بمجرد انتهاء المدّة أو هبتها،و لا يحق له و لا لها الرجوع أثناء العدة،و بالأولى بعد انتهائها.أجل،يجوز له أن يجدد العقد عليها دواما أو انقطاعا،و هي في العدة منه،و لا يجوز ذلك لغيره إلاّ بعد انقضاء العدّة.

9-إذا دخل بالزوجة الدائمة فقد استقر عليه تمام المهر،فان امتنعت بعد ذلك و لم تمكنه من نفسها نشوزا منها و عصيانا فلا يسقط من مهرها شيء،و انما تسقط نفقتها،لأنها في مقابل الطاعة.

أما إذا دخل بالمنقطعة،ثم امتنعت من غير عذر فللزوج أن يضع من مهرها بنسبة الوقت الذي امتنعت فيه.قال صاحب الجواهر:«لو أخلت هي ببعض المدّة كان له أن يضع من المهر بنسبتها،ان نصفا فنصف،و ان ثلثا فثلث بلا خلاف

ص:244

أجده،بل و لا اشكال للروايات المعتبرة المستفيضة التي منها رواية ابن حنظلة، قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام أتزوج امرأة شهرا بشيء مسمى،فتأتي بعض الشهر،و لا تفي ببعض؟قال:تحبس عنها من صداقها بقدر ما احتبست عنك إلاّ أيّام حيضها،فإنها لها.

10-يجوز أن يتمتع الرجل بأكثر من اربع نساء،و لا يجوز له في الدائم الزيادة على الأربع.و قد ذكر الحر العاملي في كتاب وسائل الشيعة روايات عن أهل البيت تدل على ذلك.و لكنه ذكر إلى جانبها روايات أخرى تدل على عدم جواز الزيادة على الأربع في المتعة،كما هو الحكم في الدائم،منها ما رواه عمار الساباطي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن المتعة؟فقال:هي أحد الأربعة، و منها ما رواه زرارة عن الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام أنّه سئل:هل المتعة مثل الإماء،يتزوج ما شاء؟فقال:لا.هي من الأربع.

و بالجملة ان كل ما يثبت للزوجة الدائمة يثبت للمنقطعة إلاّ ما خرج بالدليل.و قد دل الدليل على ما ذكرناه من الفروق،فيبقى غيرها من الآثار و الأحكام على حكم العموم.قال صاحب الجواهر:«الأصل اشتراك الدائم و المنقطع في الأحكام التي موضوعها النكاح و التزويج ما يشغل المنقطع إلاّ ما خرج بالدليل»و جاء في كتاب اللمعة و شرحها ما نصه بالحرف:«حكم الزواج المنقطع كالدائم في جميع ما سلف من الأحكام شرطا و ولاية و تحريما إلاّ ما استثني».

و من هنا قال كثير من الفقهاء:ان حقيقة المنقطع و الدائم واحدة،و ان لفظ الزواج موضوع لمعنى له فردان:أحدهما الزواج الدائم،و الآخر الزواج المنقطع، تماما كالإنسان الشامل للذكر و الأنثى.

ص:245

التمتع بالعفيفة:

و من الخير أن نختم الكلام عن المتعة ببعض ما جاء فيها عن أهل البيت عليهم السّلام فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المتعة؟فقال:هي حلال،و لا تتزوج إلاّ عفيفة،ان اللّه سبحانه يقول وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ و في رواية أخرى أنّه قال:ان اللّه عزّ و جلّ يقول اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .

و من هنا قال الشيخ الصدوق:«ان من تمتع بزانية فهو زان»كما جاء في كتاب الحدائق.

و جاء في كتاب وسائل الشيعة مجلد 3 ص 74 طبعة 1324 ه أن علي بن يقطين سأل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليهما السّلام عن المتعة؟ فقال له:ما أنت و ذاك قد أغناك اللّه عنها.

و سأله آخر،فقال:هي حلال مباح مطلق لمن لم يغنه اللّه بالتزويج، فليستعفف بالمتعة،فإن استغنى عنها بالتزويج فهي مباح له إذا غاب عنها.أي الزوجة.

ص:246

العيوب

اشارة

العيوب التي يكتشفها أحد الزوجين في الآخر على نوعين:الأول يوجب الخيار بين فسخ الزواج أو إمضائه،و الثاني لا تأثير له على الإطلاق،فوجوده و عدمه سواء.و النوع الأول قد يوجد في الرجل فيثبت الخيار للمرأة،و قد يوجد في المرأة فيثبت الخيار للرجل.هذا،إذا لم يعلم أحد الزوجين بوجود العيب في صاحبه قبل العقد،أما إذا علم به،و أقدم عليه عن رضا و طيب نفس فلا خيار له، و فيما يلي التفصيل:

الجنون:

الجنون من العيوب المشتركة بين الرجل و المرأة.فأية امرأة تزوجت رجلا،ثم تبين لها جنونه قبل العقد،و استمراره إلى حين العقد فلها و الحال هذي،أن ترد الزواج،و أيضا لها أن ترد و تفسخ إذا تجدد الجنون بعد العقد،حتى و لو دخل و رزق منها العديد من الأولاد.و لا فرق في الحالتين بين أن يكون الجنون دائما أو أدوارا،أي تأتيه نوبات متقاطعة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن امرأة يكون لها زوج قد أصيب في عقله بعد أن تزوجها؟فقال:لها أن تنزع نفسها منه ان شاءت.

ص:247

و أي رجل تزوج امرأة،ثم تبين أنّها مجنونة قبل العقد فله أن يرد الزواج، سواء أ كان الجنون دائما أو أدوارا،لصدق اسم الجنون عليها،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ترد البرصاء و المجنونة و المجذومة.

و إذا تجدد جنون المرأة بعد العقد فلا خيار له،بل كل عيب يحدث في المرأة جنونا كان أو غيره فإنّه لا يوجب الفسخ،سواء أحدث قبل الدخول أو بعده،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا.لاستصحاب اللزوم الذي هو مقتضى الأصل في العقود،أما الضرر فينجبر بإمكان الطلاق منه»أي أن الزوج يمكنه التخلص من الضرر بطلاق المرأة التي حدث لها العيب.هذا،إلى أن أكثر النصوص التي أثبتت الخيار للرجل مختصة بما إذا دلست المرأة،و أخفت عنه ما فيها من عيوب قبل العقد.

و الخلاصة ان المرأة تتسلط على الفسخ بالجنون السابق و اللاحق،أما الرجل فيفسخ بالجنون السابق دون اللاحق.

و إذا تم الفسخ قبل الدخول فلا مهر و لا عدة للمرأة،و ان كان بعده فلها المهر،و عليها أن تعتد،و لا فرق في ذلك بين أن يكون الفاسخ الزوج أو الزوجة.

و تجدر الإشارة إلى أنّه إذا رضي أحد الزوجين بالعيب قولا أو فعلا فليس له أن يعدل و يفسخ بعد الرضا.

الخصاء:

الخصاء سلّ الأنثيين أو رضّهما،قال صاحب المسالك:ان الخصي يولج و يبالغ،و حالته في ذلك أكثر من الفحل،و لكنه له ينزل،فإذا تزوجت امرأة من رجل خصي جاهلة بحاله،ثم تبين لها ذلك فلها الخيار في فسخ الزواج أو إمضائه

ص:248

إجماعا و نصا معتبرا و مستفيضا على حد تعبير صاحب الجواهر،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن خصي دلّس نفسه لامرأة مسلمة،فتزوجها؟فقال:يفرق بينهما ان شاءت المرأة،و يوجع رأسه.و ان رضيت به،و أقامت معه لم يكن لها بعد رضاها به أن تأباه.و في رواية ثانية:«و لها المهر بدخوله عليها».

و إذا لم يدخل فلا شيء لها.هذا إذا كان الخصاء سابقا على العقد،أما إذا تجدد فلا خيار لها،و عليها أن تصبر،سواء أدخل،أم لم يدخل عند كثير من الفقهاء.قال صاحب الجواهر:«للأصل و اختصاص النصوص بالخصاء السابق».

و سنثبت في الفقرة التالية«الجب»إذ الخصاء اللاحق يوجب الخيار السابق.

الجب:

إذا قطع ذكر الرجل من الأساس،و لم يبق منه شيء فللمرأة الخيار مع سبق الجب على العقد،و جهلها به،و إذا قطع بعضه،و بقي منه ما يمكن معه الوطء، و لو بمقدار الحشفة فلا خيار لها.

و إذا تجدد الجب بعد العقد فللفقهاء قولان ثبوت الخيار لها،و عدمه، و مهما يكن فقد اعترف كل من تعرض للجب بأنه لا نص عليه بالخصوص،و انما ألحق الفقهاء الجب بالخصاء.قال صاحب المسالك:«لأنه أقوى عيبا من الخصاء،لقدرة الخصي على الجماع بالجملة،بل قيل انّه يصير أقوى من الفحل بواسطة عدم خروج المني منه».

و الصواب ان الخصاء و الجب إذا تجددا بعد العقد يثبت الخيار للمرأة، تماما كما لو كانا قبل العقد،لصحيح أبي بصير،قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة ابتلي زوجها،فلم يقدر على الجماع،أ تفارقه؟فقال:نعم،ان شاءت.

ص:249

و روى مثله أبو الصباح الكناني.و قد نعت صاحب الجواهر هاتين الروايتين بالصحة،و قول السائل«ابتلي زوجها»ظاهر في أن البلاء حاصل بعد العقد بالخصوص،أو شامل للبلاء السابق و اللاحق-على الأقل.

العنن:

العنن داء يعجز معه الرجل عن عملية الجنس،و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق على أنّه عيب تتسلط المرأة بسببه على فسخ الزواج،سواء أ كان سابقا على العقد،أم حدث بعده،و قبل الدخول.

و تسأل:إذا حدث العنن و تجدد بعد الوطء و لو مرة واحدة:فهل لها الخيار؟ نقل صاحب الجواهر عن ابن زهرة و الشيخ المفيد أن لها الفسخ،و قال صاحب المسالك ما نصه بالحرف:«ذهب المفيد و جماعة إلى أن لها الفسخ أيضا،للاشتراك في الضرر الحاصل باليأس من الوطء،و إطلاق الروايات بثبوت الخيار للمرأة من غير تفصيل-بين الدخول و عدمه-كصحيحة محمد بن مسلم، و رواية الكناني،قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة ابتلي زوجها،فلا يقدر على الجماع أبدا،أ تفارقه؟قال:نعم،ان شاءت،و غيرهما من الروايات الكثيرة المعتبرة الاسناد».

و يظهر من صاحب المسالك الميل إلى هذا القول،و لكن القول الأشهر بشهادة صاحب الجواهر أنّه لا خيار لها،لأن الإمام الصادق عليه السّلام قال في العنين:إذا علم أنّه لا يأتي النساء فرق بينهما-أي بينه و بين زوجته-فإذا وقع عليها دفعة واحدة لم يفرق بينهما.و في رواية أخرى أنّه قال:كان علي عليه السّلام يقول:إذا تزوج

ص:250

الرجل امرأة فوقع عليها مرة،ثم أعرض عنها فليس لها الخيار،لتصبر فقد ابتليت.

و عليه تكون هذه الرواية و ما إليها مقيدة لرواية الكناني و ما في معناها.

سؤال ثان:إذا عجز عن وطئها دون غيرها،مع العلم بأنّه لا مانع من جهتها فهل يثبت لها خيار الفسخ؟ ذهب صاحب الجواهر،و كثير من الفقهاء إلى أنّه لا خيار لها.

و الذي نراه أنّه لها تمام الحق في فسخ الزواج،لأنه إذا واقع غيرها فلا يجب عليها أن تغتسل هي من الجنابة،و ضررها لا يرتفع بانتفاع غيرها.هذا إلى أن قول الإمام في رواية ابن مسكان:«فإن أتاها و إلاّ فارقته»و قوله في رواية البختري:«فإن خلص إليها و إلاّ فرق بينهما»ظاهر في وطئها هي بالذات،لا في وطء غيرها.و لعل هذا ما دعا الشيخ المفيد إلى القول بأن لها الخيار،قال صاحب المسالك:«و يظهر من المفيد أن المعتبر قدرته عليها،و لا عبرة بقدرته على غيرها،لأنه قال:لو وصل إليها و لو مرّة واحدة فهو أملك بها،و ان لم يصل إليها في السنة كان لها الخيار».و من تأمل بألفاظ المفيد هذه،و قارن بينها و بين الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام يجد أن الشيخ المفيد قد اقتبسها من الروايات بالذات.

و إذا علمت بالعنن و رضيت به سقط حقها في الخيار،و لا يجوز لها العدول بحال،قال صاحب الجواهر:«إذا ثبت العنن فان صبرت عالمة بالعنن و بأن لها الخيار فلا خلاف في عدم الخيار لها بعد ذلك إذا إرادته،لأنه حق يسقط بالإسقاط،و لقول الإمام عليه السّلام:متى أقامت المرأة مع زوجها بعد ما علمت أنّه عنين، و رضيت به لم يكن لها خيار بعد الرضا».

و إذا علمت بالعنن،و لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم،و يؤجله الحاكم

ص:251

بدوره سنة كاملة من حين المرافعة على أن تساكن الزوج طوال فصول السنة،و لا تمتنع عنه أبدا،فان واقعها فلا خيار لها،و إلاّ كان لها الفسخ إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:العنين يؤخر سنة من يوم مرافعة امرأته،فإن خلص إليها،و إلاّ فرق بينهما،و ان رضيت أن تقيم معه،ثم طلبت الخيار بعد ذلك يرد طلبها.

و قال بعض الفقهاء:ان السر في تحديد مدّة التأجيل بسنة هو أن يمر الرجل في الفصول الأربعة،إذ من الجائز أن يتعذر الجماع عليه لحرارة في جسمه فتزول في الشتاء،أو برودة فتزول في الصيف،أو يبوسة فتزول في الربيع،أو رطوبة فتزول في الخريف.

و ذا فسخت حيث يجوز لها الفسخ فلها نصف المهر،و لا عدّة عليها،فقد جاء في الصحيح بشهادة صاحب المسالك عن الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«فان وصل إليها و إلاّ فرق بينهما،و أعطيت نصف الصداق،و لا عدة عليها».

و لها أن تفسخ دون أن تستأذن الحاكم،و انما ترجع إليه لضرب الأجل فقط،لأنه من وظائفه،أما الفسخ فهو حق خاص بها لا يتصل بالحقوق العامة من قريب أو بعيد،تماما كغيره من الخيارات.

الطريق لإثبات العنن:

يثبت العنن بإقرار الزوج نفسه،فان لم يعترف و يقر تسأل هي ان كان لها بينة بإقراره بالعنن،و لا تقبل منها البينة بالعنن،لأنه من الأمور الخفية،فان لم تكن لها بينة بإقراره ينظر:فان كانت بكرا عرضت على النساء الخبيرات،و أخذ

ص:252

بقولهن،و ان كانت ثيبا عرض عليه اليمين،لأنه منكر،لأنها تدعي هي وجود عيب فيه موجب للخيار،و الأصل كونه تام الخلقة سالما من النقص الجسدي و عيوبه،حتى يثبت العكس.فان حلف ردت دعواها،و ان نكل حكم بالعنن بناء على القضاء بمجرد النكول،أو ردت اليمين عليها بناء على القضاء بعد الرد،ثم يؤجله الحاكم سنة على التفصيل المتقدم.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا تزوج الرجل المرأة الثيب التي قد تزوجت غيره،و زعمت أنّه لم يقربها منذ دخل بها-أي اختلى بها-فان القول في ذلك قول الرجل،و عليه أن يحلف بأنه قد جامعها،لأنها مدعية.و ان تزوجها،و هي بكر فزعمت أنّه لم يصل إليها،فإن مثل هذا يعرفه النساء،فلينظر إليها من يوثق به منهن،فإذا ثبت أنّها عذراء فعلى الإمام أن يؤجله سنة،فإن وصل إليها،و إلاّ فرّق بينهما،و أعطيت نصف المهر،و لا عدة عليها.

و إذا أقر الزوج بالعجز عن إتيان الزوجة،و أجله الحاكم سنة،و بعد انتهائها قال هو:دخلت،و قالت هي:لم يدخل فهل يؤخذ بقول الزوج أو بقولها؟ قال صاحب الجواهر:يؤخذ بقول الزوج مع يمينه كما لو لم يقر بالعجز منذ البداية،و استدل بأدلة دقيقة محكمة قلّ من يتنبه إليها،إذ قد يتوهم أن دعوى الزوج القدرة على الوطء بعد الإقرار بالعجز عنه،قد يتوهم أنّه مدع لشيء جديد، أو أنّه إنكار بعد إقرار،و لكن شيخ الجواهر أبعد نظرا ممن لا يدركون إلاّ الظواهر، و إليك ما قاله بتصرف في التعبير،لغاية التوضيح:

أولا:ان إقراره بالعجز قبل ضرب الأجل لا يثبت العنن،لأن العجز في حين الإقرار قد يكون عجزا مؤقتا،و قد يكون دائما،و بداهة أن وجود العام لا يثبت وجود الخاص،فإذا قلت:كتبت بالقلم فلا يدل قولك هذا على أن القلم

ص:253

الذي كتبت به قلم رصاص،أو قلم حبر،كذلك العجز لا يدل على العنن أو غيره، بل قد يكون لنقص في الخلقة،و قد يكون لسبب خارج عنها،و استصحاب العجز لا يثبت العنن إلاّ على القول بالأصل المثبت (1).

ثانيا:ان المنكر هو الذي لو سكت عنه لسكت،و المدعي هو الذي لو سكت عنه لم يسكت.و ليس من شك أن الزوجة لو سكتت عن دعوى العنن لسكت عنها الزوج،و لو سكت الزوج لم تسكت هي.فتكون،و الحال هذي، مدعية عليها البينة،و يكون هو منكرا عليه اليمين.

ثالثا:ما جاء في الرواية المتقدمة عن الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«و عليه أن يحلف بأنّه قد جامعها لأنها مدعية».فلم يفرق الإمام في ذلك بين من سبق منه الإقرار بالعجز و غيره.

البرص و الجذام:

العيوب التي سبق الكلام عنها ثلاثة منها تختص بالرجل،و هي:الخصاء و الجب و العنن،و واحد منها مشترك بينه و بين المرأة،و هو الجنون،أما المرأة فترد بالجنون على النحو المتقدم،و بمرض البرص و الجذام على شريطة أن يحدث أحدهما قبل العقد،و ان يكون الرجل جاهلا به،و لا يحق للمرأة ان تفسخ إذا كان أحد هذين العيبين في الرجل،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ترد البرصاء

ص:254


1- من الأصول الباطلة عند الفقهاء الجعفريين الأصل المثبت،و هو الذي يثبت أثرا من آثار الموضوع باللزوم العقلي لا بالأصل الشرعي،فالاستصحاب حجة بالقياس إلى ما يترتب على الشيء المستصحب من أحكام شرعية دون لوازم العقل،مثلا،استصحاب بقاء الليل في رمضان يبيح تناول الطعام فقط،و لكنه لا يثبت أن الساعة لم تبلغ الخامسة باعتبار أنّها وقت لطلوع الفجر.

و المجنونة و المجذومة،فقيل له:و العوراء؟قال:لا.و أيضا قيل له:أ رأيت ان كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟قال:لها المهر بما استحل من فرجها.

العمى و العرج:

اتفقوا على أن العمى و العرج ليسا من عيوب الرجل في شيء،أي ان المرأة لا يحق لها أن تفسخ بأحدهما،حتى و لو لم تعلم بالحال حين العقد إلاّ إذا دلّس الرجل،و ظهر لها على خلاف حقيقته،و يأتي الكلام عن التدليس في الفصل التالي.و اختلفوا:هل العمى و العرج من عيوب المرأة التي يرد بها الرجل أو لا؟ و للفقهاء في ذلك أقوال ذكرها بالتفصيل مع أدلتها صاحب الحدائق في الجزء السادس،فصل عيوب المرأة،و أطال الكلام في العرج صاحب الجواهر و المسالك أقوالا و أدلة.و قال صاحب الحدائق:«يظهر من شيخ الطائفة في كتاب المبسوط أن العمى ليس بعيب،لأنه عد العيوب ستة،ثم قال-الكلام ما زال لصاحب الحدائق-:و في أصحابنا من ألحق بها العمى».

و لكن صاحب الجواهر قال:«العمى موجب للخيار بلا خلاف أجده فيه، بل عن المرتضى و ابن زهرة الإجماع عليه،و هو الحجة مضافا إلى النص الصحيح».

أمّا العرج فقد ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك و الحدائق إلى أنّه عيب في المرأة يوجب تسلطه على فسخ الزواج،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يتزوج المرأة،فيؤتى بها عمياء أو برصاء أو عرجاء؟قال:ترد على وليها.

و قال أبوه الإمام الباقر عليه السّلام:ترد البرصاء و العمياء و العرجاء.

ص:255

القرن و العفل و الإفضاء و الرتق:

القرن شيء يبرز في الفرج كقرن الشاة،و العفل لحم فيه لا يخلو من رشح على ما قيل،و في بعض روايات أهل البيت عليهم السّلام أن القرن و العفل شيء واحد، و الإفضاء اختلاط المسلكين،و الرتق انسداد مدخل الذكر من الفرج،بحيث يتعسر معه الجماع.

و هذه العيوب الأربعة-كما ترى-مختصة بالمرأة،و قد ورد النص على القرن و العفل و الإفضاء،و لا نص على الرتق بالذات،و لكن أكثر الفقهاء ألحقوه بالقرن،لأنه مثله يمنع من الوطء،قال صاحب الجواهر:«المشهور أن الرتق من العيوب».و قال الشهيد الثاني في اللمعة:«و فيه قوة».

و الخلاصة ان أكثر الفقهاء عدوا عيوب النساء سبعة و بعضهم ثمانية،و آخر ستة،و عدها الشهيد الأول في الروضة تسعة:الجنون،و الجذام و البرص، و العمى،و العرج،و القرن،و الإفضاء،و العفل،و الرتق.و قد تعرضنا لكل واحد من هذه التسعة.و لا ترد المرأة بواحد من هذه العيوب إذا حدث بعد العقد،سواء أ كان قد دخل،أو لم يدخل بعد،و أيضا لا ترد بشيء منها إذا كانت سابقة على العقد،و أقدم مع علمه بالحال،أو كان جاهلا و لكن رضي بالزواج بعد الاطلاع على العيب و علمه به.و إذا فسخ الزوج حيث يجوز له فلا شيء لها من المهر ان لم يكن قد دخل بها.و إذا فسخه بعد الدخول فلها تمام المهر المسمى ان كان قد ذكر لها مهرا في متن العقد،و مهر المثل ان أجر العقد بلا مهر.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة فوجد بها قرنا؟قال:هذه لا تحبل،و ينقبض زوجها عن مجامعتها،و ترد على أهلها.قال السائل:فإن كان دخل بها؟قال:ان علم بها قبل أن يجامعها فقد رضي بها،و ان لم يعلم بها إلاّ بعد ما جامعها فان شاء

ص:256

أمسك،و ان شاء سرحها إلى أهلها،و لها ما أخذت-أي المهر-بما استحل من فرجها.

الفور:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن خيار الفسخ يثبت على الفور،فلو علم الرجل،أو المرأة بالعيب،و علم أيضا أن له الخيار،و أنّه واجب على الفور، و مع ذلك لم يبادر إلى الفسخ لزم العقد،و إذا جهل بالعيب،أو علم به و جهل بأن له الخيار،أو علم بهما و جهل بأن الفسخ على الفور فإنه يكون معذورا في التأخير،على أن يبادر إلى الفسخ حين العلم بذلك.

لا يعتبر اذن الحاكم:

لا يحتاج الفسخ إلى اذن الحاكم،سواء أحصل من الرجل أم المرأة.أجل، انما يرجع إلى الحاكم ليضرب الأجل العنين،كما أشرنا،لأن الأدلة التي دلت على جواز الفسخ مطلقة و غير مقيدة بإذن الحاكم،قال صاحب الجواهر:«و من هنا أفتى الفقهاء بذلك من غير اشكال و لا تردد».

البينة على مدعي العيب:

العيب الموجب للفسخ منه جلي كالجنون و العمى و العرج،و منه خفي كالعنن و الرتق،فان كان العيب جليا فلا حاجة إلى البينة،و لا إلى اليمين،و ان كان خفيا،و اختلفا في وجوده فعلى مدعيه البينة،لأن الأصل السلامة من العيوب، حتى يثبت العكس،و على منكره اليمين.

ص:257

بين الفسخ و الطلاق:

يفترق الفسخ عن الطلاق بما يلي:

1-لا يصح الطلاق إلاّ بحضور شاهدي عدل،و يصح الفسخ من غير شهود.

2-يشترط في المطلقة المدخول بها أن تكون في طهر لم يواقعها فيه، كما يأتي في باب الطلاق،و لا يشترط ذلك في المرأة التي ترد بالعيب.

3-لا يحسب الفسخ من التطليقات الثلاث التي تحرم المطلقة معها على المطلق،حين تنكح زوجا غيره.

4-للمطلقة قبل الدخول نصف المهر،و لا شيء لمن ترد بالفسخ قبل الدخول إلاّ في العنن.

ص:258

التدليس

الخيار بالعيب و الخيار بالتدليس:

العيوب التي ذكرناها في الفصل السابق هي التي نص الشارع عليها بالذات، و أوجب الخيار بسببها على كل حال،سواء أ كان معها تدليس،أو لم يكن.أجل، إذا كان مع العيب الموجب للخيار تدليس أيضا.و كان الزوج قد دخل بالمرأة، و دفع لها المهر رجع به على المدلّس،سواء أ كانت هي المدلسة (1)،أو الذي زوجها،لأن المغرور يرجع على من غيره.

أما العيوب الأخرى كالمرض-غير الجذام و البرص-و القبح،و ما إليه مما لم ينص عليه الشارع فإنها لا توجب الخيار بنفسها،و على كل حال،و انما توجبه مع الشرط أو الضرر،و يأتي التفصيل.

معنى التدليس:

التدليس هو التغرير و التمويه بإخفاء نقص موجود،و ادعاء كمال غير موجود،و قد يكون الخادع هو الرجل،و المرأة هي المخدوعة و قد تكون هي

ص:259


1- إذا كانت هي المدلسة فلا تستحق شيئا من المهر إلاّ أقل ما ينطبق عليه اسم التمول كرمز لعوض البضع.هذا ما عليه المشهور بشهادة الشهيد الثاني في كتاب اللمعة.

الخادعة،و هو المخدوع،و مثال إخفاء النقص أن يكون أحدهما أعور أو مسلولا فيخفي النقص عن صاحبه عند العقد،ثم تظهر الحقيقة بعده،أما ادعاء الكمال فهو أن تدعي المرأة أنّها بكر و شابة،أو يدعي هو أنّه ذو مكانة و شرف،ثم يتبين كذب الدعوى.

و تسأل:إذا كان في أحد الطرفين نقص-غير العيوب الموجبة للخيار- و سكت عنه،و لم يتعرض له سلبا و لا إيجابا،و لم يظهر نفسه بمظهر السالم منه، و المفروض أن الطرف الآخر لا يعلم به فهل يعد هذا من التدليس؟ الجواب:إذا كان النقص من النوع الذي لا يتسامح به عادة،و لا يقدم على الزواج بصاحبه غالبا فهو تدليس.قال صاحب الجواهر:«الذي يظهر من نصوص المقام،بل هو صريح جماعة من الفقهاء تحققه هنا بالسكوت عن العيب مع العلم به فضلا عن الاخبار بضده من السلامة»و بعد أن قال هذا في أول كلامه عن التدليس قال في المسألة الثانية عشرة من مسائله:«قد تكرر منا غير مرة قوة ثبوت الخيار بالتدليس بصفة من صفات الكمال على وجه يتزوجها على أنّها كذلك فبان الخلاف».

و نحن نوافق على أن السكوت عن النقص مع عدم علم الطرف الآخر به يعد تدليسا،و لكنا لم نجد دليلا شرعيا على أن كل تدليس يوجب الفسخ،أو يوجب سقوط المهر،أو سقوط شيء منه على سبيل القاعدة الكلية،و عليه فلا أثر للتدليس إطلاقا لا بالقياس إلى المهر،و لا بالقياس إلى الفسخ إلاّ ما قام عليه الدليل بالخصوص من آية أو رواية أو إجماع أو بالعموم كقاعدة:لا ضرر،و فيما يلي التفصيل.

ص:260

التدليس و جواز الفسخ:
لا يجوز الفسخ مع التدليس إلاّ في الحالات الثلاث التالية:

1-الأول أن تؤخذ صفة الكمال أو عدم النقص شرطا في متن العقد،مثل أن يقول الرجل:تزوجتك بشرط أن تكوني بكرا،أو سليمة الجسم من الأمراض،أو تقول هي:زوجتك نفسي بشرط أن تكون عالما بكذا،أو سليما من الأدواء.

2-أن يؤخذ الكمال أو عدم النقص وصفا لا شرطا مثل أن يقول وكيل الزوجة:زوجتك فلانة البكر السالمة من الأمراض.

3-أن يذكر الكمال أو عدم النقص عند حديث الزواج ثم يقع العقد مبنيا على هذا الأساس.

و متى تحقق واحد من هذه الثلاثة كان للمخدوع الخيار إذا تبين العكس، و لكن لا للتدليس بالذات،بل لتخلف الشرط الذي اتفق عليه الطرفان صراحة أو ضمنا.و لا بد أن يحصل الفسخ فورا،و عند العلم بالتخلف،فإذا علم،و سكت لم يكن له الفسخ بعد ذلك إلاّ إذا كان جاهلا بأن له الفسخ،أو بوجوب الفور و المبادرة.و إذا جرى العقد دون أن يذكر شيء في متنه،و دون أن يبنى على شيء سابق،ثم وجد في أحد الزوجين عيبا فهل للثاني أن يفسخ الزواج،أو لا؟ و يعرف الجواب مما يلي:

الرجل المدلس:

إذا تزوجت المرأة رجلا باعتقاد أنّه خال من العيوب،لأنه دلس عليها

ص:261

بسكوته،و عدم إظهار ما فيه،ثم تبين أن فيه عيبا كبيرا،مثل أن تعتقد أنه بصير، فيتبين إنّه أعمى أو ما إلى ذلك مما تتفاوت الرغبات بسببه،إذا كان كذلك فهل لها أن تفسخ الزواج؟ و الذي رأيته في كلمات كثير من الفقهاء أن المرأة لا يجوز لها أن تفسخ إلاّ إذا كان الزوج مجنونا،أو عنينا،أو خصيا،أو مجبوبا على التفصيل المتقدم في فصل العيوب،و أيضا يجوز لها أن تفسخ،إذا أخذ وصف الكمال،أو عدم النقص شرطا أو وصفا في متن العقد،أو بني العقد على أحدهما،كما تقدم في الفقرة السابقة.أجل،يظهر من عبارة الجواهر في باب الزواج المقصد الثالث في التدليس،يظهر من العبارة-أن التدليس بما هو سبب للخيار-فقد جاء في المسألة الثانية من هذا المقصد:«أن المرأة إذا تزوجت برجل على أنّه حر فبان مملوكا كان لها الفسخ،لصحيح محمد بن مسلم،قال:سألت الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن امرأة حرة تزوجت مملوكا على أنّه حر،فعلمت بعد أنّه مملوك؟قال:هي أملك بنفسها ان شاءت أقامت معه،و ان شاءت فلا».

و علق صاحب الجواهر على هذه الرواية بأنّها«ظاهرة في عدم الفرق بين شرط الحرية في متن العقد و عدمها بعد صدق التدليس و الغرر و الخديعة».و قال في الثانية عشرة:«صورة التدليس تلحق بصورة الشرط في إثبات الخيار».

و الذي نراه أن التدليس بما هو لا يثبت الخيار للزوجة،و انما يثبت لها الخيار إذا اشترطت شرطا صريحا أو ضمنيا أثناء العقد،أو بني العقد على الوصف.أو إذا كان في التدليس ضرر عليها لا يتسامح به عادة،كالعمى و الأمراض السارية،لأن: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،لا تنطبق على العقد الذي يتولد منه ضرر،إذ لا ضرر و لا ضرار في الإسلام،بخاصة ان الطلاق بيد الزوج لا بيدها.

ص:262

و إذا قال قائل:ان في الزواج رائحة العبادة قلنا في جوابه:ان قاعدة:لا ضرر،تشمل المعاملات و العبادات،حتى الصلاة التي هي عامود الدين.

و تجدر الإشارة إلى أنّه إذا حدث العيب في الرجل بعد العقد فلا يحق لها فسخ الزواج بعد ثبوته.

المرأة المدلسة:

إذا حصل التدليس على الرجل فلا يفسخ الزواج (1)بل يرجع بتمام المهر على المدلس الذي زوجه إياها،لأن المغرور يرجع على من غره و ان كانت هي المدلسة فتستحق من المهر أقل ما ينطبق عليه اسم التمول،قال الشهيد في اللمعة:«يرجع الزوج بالمهر على المدلس،و لو كانت هي المدلسة رجع عليها بأقل ما يمكن أن يكون مهرا،و هو أقل ما يتمول على المشهور».

و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل ولته امرأة أمرها،أو ذات قرابة،أو جارة له،لا يعرف دخيلة أمرها،فوجدها قد دلست عيبا هو فيها؟فقال الإمام عليه السّلام:يؤخذ المهر منها،و لا يكون على الذي زوّجها شيء.

و قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:من زوج امرأة فيها عيب دلسه،و لم يبين ذلك لزوجها،فإنه يكون لها الصداق بما استحل من فرجها، و يكون المهر على الذي زوجها و لم يبين.

و أيضا سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل الذي يتزوج إلى قوم،فإذا امرأته عوراء،و لم يبينوا له؟قال:لا ترد،انما يرد النكاح من البرص و الجذام و الجنون

ص:263


1- قالوا:إذا دلست امرأة غير الحرة،و تزوج باعتقاد أنّها حرة فله فسخ الزواج،و لا مورد اليوم لهذه المسألة،حيث لا إماء و لا عبيد.

و العقل.قال السائل:أ رأيت ان كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟قال:لها المهر بما استحل من فرجها،و يغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها.

و هذه الروايات،و ما إليها صريحة في أن الزوج يرجع على المدلس بالمهر،و لا يحق له الفسخ.

البكر و الثيب:

إذا تزوج فتاة،و أخذ البكارة شرطا أو وصفا في متن العقد،أو بني العقد عليها،ثم تبين أنّها كانت ثيبا قبل العقد فله الفسخ،لتخلف الشرط،قال صاحب الجواهر:«و لعله لا خلاف في ذلك».

و إذا لم يكن شيء من هذه الثلاث،و انما تزوجها باعتقاد أنّها باكر،لأنها لم تتزوج بغيره من قبل،و بعد العقد ادعى الزوج أنّها ثيب فان ثبت ذلك بإقرارها،أو بغيره لم يكن له فسخ الزواج،و له أن ينقص من مهرها بنسبة التفاوت بين مهرها بكرا،و مهرها ثيبا،فان كان النصف أعطيت نصف المسمى،و ان كان الثلث أعطيت الثلثين،هذا ما قاله كثير من الفقهاء،و النص الذي جاء عن أهل البيت عليهم السّلام قال:ينقص من المهر دون أن يتعرض للتفاوت،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج جارية بكرا،فوجدها ثيبا،هل يجب لها الصداق وافيا،أو ينقص؟قال:ينقص.

و ان عجز الزوج عن إثبات سبق الثيبوبة على العقد فله عليها اليمين على أنّها كانت بكرا عند العقد،لأن الأصل بقاؤها على الخلقة الأصلية حتى يثبت العكس.

ص:264

مسائل:
1-كل من ادعى وجود عيب في صاحبه فعليه البينة،و على المنكر

اليمين

،لأن الأصل السلامة من العيوب،حتى يثبت العكس.

2-كل من ادعى شيئا زائدا على صيغة العقد فعليه البينة،و على المنكر

اليمين

،لأن الأصل عدم الشرط و الزيادة،حتى يثبت العكس.

3-كل موضع يحكم فيه ببطلان العقد فللمرأة مهر المثل مع الوطء لا

المسمى

،لأن بطلان العقد يستدعي بطلان المسمى،و يثبت مهر المثل لمكان الشبهة.

و كل موضع يحكم فيه بصحة العقد فلها المهر المسمى مع الوطء،و ان تعقبه الفسخ،لأن الفسخ يرفع العقد من حين الفسخ،و لا يبطله من الأصل.

ص:265

المهر

اشارة

المهر،و يسمى الصداق و الفريضة،و هو حق للزوجة بحكم الكتاب و السنة و الإجماع،و هو على ثلاثة أنواع:المهر المسمى،و مهر المثل،و المهر الذي يعينه أحد الزوجين بسبب التفويض.

المهر المسمى:

و هو كل ما تراضى عليه الزوجان مما يصح أن يملكه المسلم،و سمياه في متن العقد،و لا حد لأكثره بالاتفاق،لقوله تعالى وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً (1).

و أيضا لا حد لأقله بالاتفاق،لقول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام الصداق كل شيء تراضى عليه الناس قلّ أو كثر.و يستحب أن لا يزيد المهر عن مهر السنة،و هو خمسمائة درهم،حيث تواتر أن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تزوج هو و زوج بناته عليها،و قيل:انّها تبلغ 25 ليرة عثمانية ذهبا، و مهما يكن فان المندوب شرعا قلة المهر.قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول

ص:266


1- النساء:19 [1]

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أفضل نساء أمتي أصبحهن وجها،و أقلهن مهرا،و قال ما معناه:شؤم المرأة غلاء مهرها.

شروط المهر:
اشارة

يشترط في المهر:

1-أن يكون حلالا،و متقوما بمال عرفا و شرعا

،فإذا سمى لها خمرا أو خنزيرا أو ميتة،أو ما إليها مما لا يصح ملكه بطل المهر،و صح العقد،و ثبت لها مهر المثل مع الدخول،هذا هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر، لأن المقتضي لصحة العقد موجود،و هو الإيجاب و القبول،و المانع من الصحة مفقود،لأن فساد المهر لا يستدعي فساد العقد،حيث يصح معه و دونه،بل يصح العقد،حتى و لو اشترط عدم المهر.

2-أن يكون معلوما بجهة من الجهات

،كهذه القطعة من القماش أو الأرض أو الذهب و الفضة،و لا يشترط أن يكون معلوما بالتفصيل فقد زوّج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من أصحابه بامرأة،و جعل مهرها تعليم ما يحسن من القرآن الكريم دون أن تعلم الشيء الذي يحسنه بالتفصيل،بل يصح أن يتزوجها على بيت أو فرس دون أن يذكر الأوصاف التي تميز الفرس عن سائر الأفراس،و البيت عن سائر البيوت،و يتعين عليه و الحال هذه،أن يدفع الوسط من الخيل و البيوت، فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة على خادم؟فقال:«وسط من الخدام.

قال السائل:على بيت؟قال الإمام عليه السّلام:وسط من البيوت»و ممن أفتى بهذه الرواية السيد الحكيم،كما جاء في رسالته منهاج الصالحين،بل قال صاحب

ص:267

الجواهر ما نصه بالحرف:يصح جعل المهر شيئا و نحوه،و يتعين على الزوج أقل ما يتمول»تماما كما يصح للموصي أن يوصي لآخر بلفظ«شيء»و على الوارث أن يدفع له ما ينطبق عليه اسم المال قليلا كان أو كثيرا.و السر أن عقد الزواج لا يقصد منه المعاوضة التي لا بد فيها من العلم الرافع للغرر.

3-يصح أن يكون المهر نقدا و مصاغا و ثوبا و عقارا و حيوانا و منفعة

و غير ذلك مما له قيمة.

إذا سمى لها مهرا مغصوبا،كما لو تزوجها بعقار ظهر أنّه لأبيه أو لغيره فإن أجاز المالك فلها المسمى بالذات،و إلاّ ثبت لها عوض المسمى من المثل أو القيمة،لأن المسمى،و الحال هذي،يصح تملكه في نفسه،بخلاف الخمر و الخنزير.

و إذا تزوجها بمهر سرا،و بآخر جهرا كان لها الأول،سواء أ كان هو الزائد، أو الناقص.قال صاحب الجواهر«بلا خلاف و لا إشكال بداهة كون الثاني لغوا، فلا يفيد شيئا».

مهر المثل:
اشارة

الثاني مهر المثل،و يعتبر في حالات:

1-اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن المهر ليس ركنا من أركان عقد

الزواج،و لا شرطا في صحته

،فيصح العقد مع المهر،و دونه،بل يصح مع اشتراط عدم المهر،و على الزوج في مثل هذه الحال أن يعوضها شيئا قلّ أو كثر.

فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المرأة تهب نفسها للرجل ينكحها من غير مهر؟

ص:268

فقال:انما كان هذا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأما لغيره فلا يصح هذا،حتى يعوضها شيئا يقدم إليها قبل أن يدخل بها قلّ أو كثر،و لو ثوبا أو درهما.

و يسمى العقد بلا ذكر المهر،و دون اشتراط عدمه،يسمى بتفويض البضع،و يثبت لها مع الدخول مهر المثل،و إذا طلقها قبل الدخول فلا تستحق مهرا،و لها على المطلّق المتعة،و هي هدية يقدمها الرجل للمرأة بحسب وضعه من الغنى و الفقر،كخاتم و ثوب و سوار،و ما إليه،و ان تراضيا عليها فذاك،و إلاّ فرضها الحاكم.

و الدليل قوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف المهر،و ان لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف،على الموسع قدره، و على المقتر قدره،و ليس لها عدة،تتزوج ان شاءت من ساعتها.

و إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول،و قبل أن يفرض لها فلا مهر لها و لا متعة،و لها الميراث،و عليها العدة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة توفيت قبل أن يدخل بها،ما لها من المهر؟و كيف ميراثها؟فقال:ان كان قد فرض لها صداقا فلها نصف المهر،و هو يرثها،و ان لم يكن فرض لها صداقا فلا صداق لها.و هي ترثه،و عليها العدة.

و إذا تزوجها على كتاب اللّه و سنة نبيه،و لم يسم لها مهرا فلا تستحق مهر المثل،بل يكون لها مهر السنة،و هو كما تقدم ما يعادل خمسمائة درهم،قال

ص:269


1- البقرة:236. [1]

صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة، و لم يسم لها مهرا،و كان الكلام أتزوجك على كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فمات عنها،أو أراد أن يدخل،فما لها من المهر؟قال مهر السنة.فقال السائل:يقول لها:مهر نسائها.قال الإمام:هو مهر السنة.

2-يثبت مهر المثل أيضا إذا جرى العقد على ما لا يملك شرعا

،كالخمر و الخنزير،و قد تقدم.

3-من عقد على امرأة،و دخل بها،ثم تبين فساد العقد

،لأنها أخته من الرضاعة،أو لغير ذلك من أسباب التحريم،ان كان كذلك فسد العقد بالاتفاق، و حينئذ ينظر:فان لم يكن قد سمى لها مهرا في متن العقد استحقت مهر المثل، و ان كان قد سماه،و كان دون مهر المثل فلها المسمى فقط،لأنّها رضيت به،و إن كان أكثر من مهر المثل فلها مهر المثل الذي استحقته بالوطء،لا بالعقد،و يسمى هذا النوع بوطء الشبهة،و منه وطء السكران،و النائم و المجنون (1)و يأتي الكلام عن وطء الشبهة في فصل النسب.

4-من أكره امرأة على الزنا فعليه مهر المثل

،و ان طاوعته لم يجب عليه شيء لأنها بغي.

و يقاس مهر المثل بمهر مثيلاتها،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،و لم يفرض لها صداقا،ثم دخل بها؟قال:صداق نسائها.

قال صاحب الجواهر:«المعتبر في مهر المثل حال المرأة في الشرف

ص:270


1- إذا واقع مجنون امرأة قهرا عنها،و كان له مال فلها أن تطالب ولي المجنون بمهر المثل يدفعه من مال المولى عليه،و على القاضي أن يلزم الولي بذلك،و لا سبيل لها على الولي إذا كان المجنون فقيرا،بل تنتظر إلى حين الميسرة.

و الجمال و السن و البكارة و اليسار و العقل و العفة و الأدب،و ما إلى ذلك مما يختلف به الغرض و الرغبة اختلافا بينا».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن لها مهر أمثالها على شريطة أن لا يتجاوز مهر السنة،و هو ما يعادل خمسمائة درهم،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،فوهم-أي نسي-أن يذكر لها صداقها، حتى دخل بها؟قال:السنة خمسمائة درهم.

و حمل الفقهاء هذه الرواية،و ما إليها على ما إذا زاد مهر أمثالها عن مهر السنة،جمعا بينها و بين الرواية التي قالت:صداق نسائها.

و إذا اتفقا بعد العقد على مبلغ معين كان كالمهر المذكور في متن العقد،لا يجوز لأحدهما العدول عنه،لأن فرض المهر إليهما ابتداء فجاز انتهاء على حد تعبير صاحب الشرائع.

تفويض المهر:

قسّم الفقهاء التفويض إلى قسمين:الأول تفويض البضع،و هو أن يجري العقد من غير ذكر المهر،و تقدم أن لها مهر المثل مع الدخول.الثاني تفويض المهر،و هو أن يجري العقد،و يفوض تعيين المهر للزوج أو الزوجة.و هذا هو القسم الثالث من المهر.

و أجمعوا بشهادة صاحب الحدائق على أن تفويض المهر جائز،و أنّه إذا ترك التعيين إلى الزوج فعلى الزوجة أن تقبل بحكمه قليلا كان المهر الذي فرضه على نفسه،أو كثيرا،لأنها هي التي رضيت بذلك بملء ارادتها و اختيارها،و ان ترك التعيين إليها فعليها أن لا تتجاوز مهر السنة،أي ما يعادل خمسمائة درهم.

ص:271

فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل تزوج امرأة على حكمها؟قال الإمام:لا تتجاوز بحكمها مهر نساء محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو وزن خمسمائة درهم فضة.قال السائل:أ رأيت لو تزوجها على حكمه،و رضيت بذلك.قال الإمام:ما حكم من شيء فهو جائز عليها قليلا كان أو كثيرا.قال السائل للإمام:كيف لم تجز حكمها عليه،و أجزت حكمه عليها؟قال الإمام:لأنه حكّمها،فلم يكن لها أن تجاوز ما سن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و زوّج عليه نساءه، فرددتها إلى السنة،و لأنها هي حكّمته،و جعلت الأمر إليه،و رضيت بحكمه في ذلك،فعليها أن تقبل حكمه قليلا كان أو كثيرا.

و إذا طلقها قبل الدخول ألزم من فوّض إليه تعيين المهر أن يبين إذا لم يكن قد بيّن بعد،ليمكن إيصال الحق إلى أهله،و لها منه النصف.

و إذا مات الزوج قبل البيان،و بعد الدخول فلها مهر المثل،و إذا مات قبل الدخول و البيان معا سقط المهر،و لها المتعة،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل تزوج امرأة على حكمه،أو حكمها،فمات أو ماتت قبل أن يدخل بها؟قال:لها المتعة و الميراث،و لا مهر لها.

تعجيل المهر و تأجيله:

يجوز تأجيل المهر و تعجيله كلا أو بعضا،و قد يكون الأجل معينا ظاهرا و واقعا،كسنة أو أكثر،أو أقل،و قد يكون معينا واقعا لا ظاهرا،كأحد الأجلين:

الموت أو الطلاق،و كلاهما جائز،لأن أحدهما واقع لا محالة،و لأن المهر يحتمل من الجهالة ما لا يحتمله الثمن في البيع،فليس هو عوضا حقيقة.بل قال السيد الحكيم في الجزء الثاني من منهاج الصالحين فصل المهر:«لو أجل المهر وجب

ص:272

التعيين و لو في الجملة مثل ورود المسافر و وضع الحمل و نحو ذلك»يريد يجوز تأجيل المهر إلى ورود مسافر معين أو وضع حمل معين،لا مطلق الحمل و المسافر.

و تسأل:إذا أجّل،و لم يعين الأجل كما لو قال:تزوجتك بألفين منها ألف معجل،و ألف مؤجل،فهل يكون حالا بتمامه،أو يبطل المهر المسمى،و يثبت بالدخول مهر المثل،تماما كما لو لم يذكر المهر من الأساس؟ قال السيد الحكيم في منهاج الصالحين:«يبطل المهر و يصح العقد، و يكون لها مع الدخول مهر المثل».

و يلاحظ بأنه بعد أن اتفق جميع الفقهاء،و منهم السيد الحكيم على أن عقد الزواج ليس من عقود المعاوضة،و أنّه لذلك يتحمل المهر من الجهالة ما لا يتحمله الثمن،حتى أن صاحب الجواهر أجاز أن يقع المهر بلفظ شيء،كما قدمنا في فقرة«شروط المهر رقم 2»من هذا الفصل.بعد هذا لا يبقى وجه للقول ببطلان المهر،بل يتعين القول بصحته،و حمل لفظ الأجل على التأخير أياما بحيث ينطبق عليه اسم الأجل،و عليه يجوز للمرأة المطالبة بالمؤجل بعد يوم أو يومين،و تكون النتيجة كالتعجيل.هذا،إلى أن اللازم على قول السيد الحكيم أن المرأة يجوز لها أن تطالب بمهر المثل مع الدخول،في هذه الحال حتى و لو كان المسمى الذي رضيت به أقل من مهر المثل.و أحسب أن هذا لا ينطبق على أصل من أصول المذهب.

تأجيل المعجل و تعجيل المؤجل:

إذا كان المهر المسمى معجلا،ثم رضيت الزوجة بتأجيله إلى أمد،فهل

ص:273

يلزمها ذلك،بحيث لا يجوز لها العدول،و المطالبة قبل الأجل؟ الجواب:إذا لم يؤخذ الرضا بالتأجيل شرطا في ضمن عقد لازم يجوز لها العدول،لأنه تماما كالوعد الابتدائي الذي يستحب الوفاء به،قال صاحب مفتاح الكرامة:ج 55/5 باب-الدّين:«إذا أجّل الحال فلا يلزم،كما في المبسوط و الخلاف و السرائر و الشرائع و النافع و التذكرة و التبصرة و التحرير و الإرشاد و الدروس و الميسية و المسالك و الكفاية،و في هذا الكتاب أنّه المشهور بين الفقهاء.إذ ليس ذلك بعقد يجب الوفاء،بل وعد يستحب الوفاء به،و لا فرق بين أن يكون مهرا أو غيره»و مثله في كتاب الجواهر آخر باب البيع.

سؤال ثان:إذا كان المهر المسمى مؤجلا،ثم رضي الزوج بالتعجيل،فهل يلزمه ذلك؟بحيث لا يجوز له العدول،و يحق لها أن تطالب به قبل حلول الأجل؟ و الجواب:قال العلامة في القواعد باب-الدين:«لو أسقط المديون أجل الدين الذي عليه لم يسقط،و ليس لصاحبه المطالبة في الحال».

نعم يجوز تعجيل الدين المؤجل بإسقاط بعضه بالاتفاق.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يكون له دين على آخر فيقول له قبل أن يحل الأجل:عجّل النصف من حقي على أن أضع عنك النصف،أ يحل ذلك؟قال:نعم.

و تكلمنا عن المسألتين مفصلا في الجزء الرابع باب الدين،فقرة:«تعجيل الدين بإسقاط بعضه».

أبو الزوجة و المهر:

إذا عيّن الزوج مبلغا لأب الزوجة فهل يملكه الأب؟و يحل له أخذه؟

ص:274

و الجواب يستدعي التفصيل التالي:

1-أن يجعل المهر مبلغا معينا،ثم لأبيها شيئا،بحيث يكون المجعول للأب خارجا عن المهر،إذا كان كذلك لزم ما جعله مهرا،و سقط ما سماه لأبيها.

قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،بل عن الغنية الإجماع عليه،و الأصل في ذلك صحيح الوشاء عن الإمام الرضا عليه السّلام:لو أن رجلا تزوج امرأة،و جعل مهرها عشرين ألفا،و جعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا،و الذي جعله لأبيها فاسدا».

2-أن يشترط الزوج على نفسه في ضمن العقد شيئا للأب،بحيث يكون المجعول جزءا من المهر،و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى فساد هذا الشرط،لأن الشرط انما يصح إذا كان لمن له العقد،لا لغيره.

3-أن تشترط الزوجة على الزوج شيئا يدفعه لأبيها زائدا على المهر، و يرضى هو بالشرط،إذا كان كذلك لزم الشرط،لأن المؤمنين عند شروطهم ما لم تحلل حراما،أو تحرم حلالا،و هذا الشرط لا يتنافى مع مقتضى العقد،و لا يخالف الكتاب و السنة.

4-أن يجعل جعالة للأب أو لغيره على عمل محلل،كالتوسط بين الخاطب و المخطوبة،و ازالة الموانع و الحواجز،و هذا جائز شرعا إذا لم تذكر الجعالة في متن العقد،و إلاّ كانت من الصورة الأولى.

و من الخير أن نختم هذه الفقرة بما روي عن الإمام عليه السّلام،فقد سئل عن الرجل يزوج ابنته،إله أن يأكل صداقها؟قال:لا،ليس له ذلك.

ص:275

امتناع الزوجة حتى تقبض المهر:

هل تملك الزوجة المهر المسمى بمجرد العقد،أو يتوقف ملكها له على الدخول؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أنّها تملكه بالعقد و ان لم يدخل،لقوله تعالى وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (1).حيث أوجب تعالى إعطاء الصداق لهن دون أن يقيده بالدخول.هذا،إلى أن الرجل يملك التصرف بالمرأة فيما يعود إلى الدخول بمجرد العقد فوجب أن تملك هي المهر أيضا بمجرد العقد.

و تسأل:لقد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:لا يوجب المهر إلاّ الوقاع.

و الجواب:ان هذا القول من الامام لا ينفي الملك قبل الوقاع،بل الملك موجود،و لكن لا يستقر إلاّ بالوقاع.و بكلمة ان الملك على نوعين:ملك متزلزل،و ملك ثابت،و الزوجة تملك نصف المهر قبل الدخول ملكا متزلزلا، فإذا ما دخل الزوج صار الملك ثابتا.هذا،إلى ان صاحب الجواهر قال:ان هذه الرواية،و هي«لا يوجب المهر إلاّ الوقاع»يراد بها نفي احتمال ثبوت المهر كاملا بالخلوة،و هو غير بعيد،لأن سياقها يدل على ذلك،و تأتي الإشارة إلى ذلك في فقرة الخلوة.

و يترتب على ملك الزوجة للمهر بمجرد العقد أحكام،منها ان لها التصرف في المهر قبل قبضه و من غير اذن الزوج إذا كان عينا خارجية و منها ان نماءه لها من تاريخ العقد،و منها يجوز أن تمتنع عن الزوج حتى تقبض المهر المعجل كاملا.

و متى قبضت المهر فلا يحق لها الامتناع،و إذا امتنعت تعد ناشزا تسقط

ص:276


1- النساء:4. [1]

نفقتها،و تستحق النفقة على الزوج إذا امتنعت قبل أن تقبض المهر،لأن امتناعها لمبرر شرعي،على شريطة أن لا تكون قد مكنته من نفسها،فإذا مكنته و لو مرة واحدة قبل أن تقبض المهر فليس لها أن تمتنع بعد ذلك محتجة بعدم قبض المهر.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،و هو أشبه بأصول المذهب و قواعده،لأن للزوج أن يستمتع بها بمجرد العقد-سواء ادفع المهر أو لم يدفعه- خرج من ذلك الاستمتاع قبل القبض بالإجماع،فيبقى الباقي على أصله،و لأن حقها قد سقط برضاها،و لا دليل على عودته».

و إذا كانت الزوجة صغيرة لا تصلح للفراش،و الزوج كبيرا فلولي الزوجة أن يطالب بالمهر،و لا يجب الانتظار إلى بلوغ الزوجة،لأن المفروض أنّها تملك المهر بمجرد العقد،و إذا كانت الزوجة كبيرة،و الزوج صغيرا فلها أن تطالب ولي الزوج بالمهر،و لا يجب عليها الانتظار إلى أن يبلغ،للسبب نفسه.

و إذا تشاح الزوج و الزوجة فقالت هي:لا أطيع،حتى أقبض المهر.و قال هو:لا أعطي المهر،حتى تطيع أجبر الزوج على تسليم المهر إلى أمين،و ألزمت هي بالطاعة،فان أطاعت سلّم المهر إليها،و استحقت النفقة،و ان امتنعت فلا تعطى المهر،و تسقط نفقتها،و ان امتنع هو عن تسليم المهر إلى الأمين حكم عليه بالنفقة ان طلبتها،لأن النشوز من جهته لا من جهتها.

عجز الزوج عن المهر:

إذا عجز الزوج عن المهر فلا يسقط حقها في النفقة،و لا في الامتناع عنه إذا لم يكن قد دخل،لأن العجز عن الحق لا يسقطه،و انما يوجب العذر و رفع الإثم بالتأخير،و على صاحبه أن ينتظر إلى الميسرة،و ليس للزوجة أن تفسخ الزواج

ص:277

و لا للقاضي أن يطلقها بسبب العجز.

الأب و مهر زوجة الابن:

لا يلزم الأب بمهر زوجة ولده الكبير إلاّ إذا ضمنه لها.و إذا زوّج الأب ولده الصغير ينظر:فان كان للولد مال ورثه من أمّه أو تملكه بسبب من الأسباب فالمهر في ماله،و ليس على الأب شيء،و إذا لم يكن للصغير مال حين العقد فالمهر على الأب،و ليس على الولد شيء،و ان صار غنيا بعد ذلك،إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يزوج ابنه،و هو صغير؟قال:ان كان لابنه مال فعليه المهر،و ان لم يكن للابن مال فالأب ضامن،ضمن-أي صراحة-أو لم يضمن.

الطلاق قبل الدخول:

إذا ذكر لها مهرا معينا في العقد،ثم طلقها قبل الدخول سقط نصف المهر، و إذا جرى العقد من غير ذكر المهر فلا شيء لها إلاّ المتعة إجماعا و نصا،و منه الآية 236 من سورة البقرة لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ .

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فقد بانت، و تتزوج ان شاءت من ساعتها،و ان كان فرض لها مهرا فلها نصف المهر،و ان لم يكن فرض لها فليمتعها.

ص:278

و على هذا،فإذا لم يكن الزوج قد دفع لها شيئا من المهر المسمى،و طلقها قبل الدخول فعليه أن يدفع لها نصف المهر،و ان كان قد دفعه كاملا استعاد نصفه ان كان قائما بعينه،و نصف بدله من المثل أو القيمة ان تلف.

و لو ترك ذكر المهر في العقد،ثم تراضيا على شيء،و بعد التراضي طلقها قبل الدخول فلها نصف ما تراضيا عليه،لأنه تماما كالمهر المسمى في العقد،كما قدمنا في فقرة«مهر المثل».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أنّها ان أبرأته من المهر ثم طلقها جاز له أن يطالبها بنصف المهر.فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج جارية،أو تمتع بها،ثم جعلته في حل؟قال:إذا جعلته في حل فقد قبضته،فان خلاّها-أي طلقها-قبل أن يدخل بها ردت المرأة على الزوج نصف الصداق.

الموت قبل الدخول:

اتفقوا على أنّه إذا مات أحد الزوجين قبل أن يدخل،و قبل أن يفرض المهر فلا مهر للزوجة،و لها الميراث،و عليها العدة،كما قدمنا في فقرة«مهر المثل» و اختلفوا الاختلاف الروايات،فيما إذا مات أحدهما قبل الدخول و بعد الفريضة.

فمن قائل بأن لها تمام المهر،سواء أمات الزوج قبلها أم ماتت هي قبله،و قائل بأن لها نصف كذلك،و فصّل ثالث بين موت الزوجة قبله فأوجب لها النصف، و بين موته قبلها فأوجب لها الكل.

و الصواب انّها لا تستحق أكثر من النصف،سواء أماتت قبله أو بعده،لأن الروايات التي دلت على ذلك صحيحة و صريحة،و أكثر من غيرها،و قد عمل بها و اعتمد عليها جمع من الكبار،منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني في كتاب

ص:279

الوسيلة و الشيخ أحمد كاشف الغطاء في سفينة النجاة و الشيخ الصدوق في المقنع و نقل عنه أنّه قال بالحرف:«هذا الذي أعتمده و أفتي به»و أيضا منهم الحر العاملي،فإنّه بعد أن ذكر جميع الروايات الواردة في هذه المسألة و عددها 25، بعد هذا قال ما نصه بالحرف الواحد:

«لا يخفى قوة الأحاديث الدالة،على النصف،أولا لكثرتها و قلة ما عارضها.ثانيا ان رواتها أروع و أوثق و أكثر،ثالثا اعتضادها بروايات كثيرة.رابعا قوة دلالتها و وضوحها و صراحتها و ضعف دلالة ما عارضها،و قبوله للتأويل و الحمل على الاستحباب،و يحمل المهر على النصف،لأن نصف المسمى إذا كان هو الثابت شرعا يجوز أن يطلق عليه لفظ مهرها».

و نختم الفقرة ببعض تلك الروايات الكثيرة الصحيحة الصريحة الدالة على النصف،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن المرأة تموت قبل أن يدخل بها،أو يموت الزوج قبل أن يدخل بها؟قال:أيهما مات فللمرأة نصف ما فرض لها،و ان لم يكن فرض لها فلا مهر لها.

أما سند هذه الرواية فزرارة بن أعين،و أما متنها،و هو قول الإمام:«أيهما مات»فلا يقبل التأويل.

و مثلها سندا و متنا ما رواه ابن بكير عن عبيد بن زرارة قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،و لم يدخل بها،فقال:ان هلك أو هلكت فلها النصف،و عليها العدة كاملة،و لها الميراث.

فقد ساوى الإمام بين الموت و الطلاق.

ص:280

افتضاض البكارة بغير المعتاد:

إذا افتض الزوج بكارة زوجته بإصبعه،أو بآلة فهل يكون ذلك بحكم الدخول بالقياس إلى استقرار المهر و وجوب العدّة لو طلقت بعد ذلك؟ أما المهر فيجب لما جاء في كتب الحديث من أن عبد اللّه بن سنان قال للإمام الصادق عليه السّلام:ما على رجل وثب على امرأة فحلق رأسها؟قال الإمام عليه السّلام:

يضرب و يحبس-أي للتعزير-فان نبت الشعر أخذ منه مهر نسائها،و ان لم ينبت أخذ منه الدية كاملة.قال ابن سنان:فكيف صار مهر نسائها ان نبت شعرها؟قال الإمام:ان شعر المرأة و عذرتها-أي بكارتها-شريكان في الجمال،فان ذهب أحدهما وجب المهر كاملا.

فقول الإمام:فإن ذهب أحدهما وجب المهر يشمل ذهاب البكارة بالإصبع و الآلة،و أيضا سئل أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام عن رجل تزوج جارية لم تدرك لا تجامع مثلها،أو تزوج رتقاء،فطلقها ساعة دخلت عليه؟قال:هاتان ينظر إليهن من يثق به من النساء،فان كن كما دخلن عليه فان لها نصف الصداق الذي فرض لها.

و معنى هذا أن الزوجة إذا دخلت على الزوج بالبكارة،ثم خرجت بها من عنده فلها نصف المهر،و ان خرجت بلا بكارة،بحيث هو الذي أزالها بأي سبب من الأسباب فلها المهر كاملا.

أما احتمال وجوب العدة فغير وارد إطلاقا،لأن العدة انما تكون من ماء الرجل أو الدخول،و المفروض أنّه لا دخول و لا ماء.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إنما العدة من الماء.فقيل له.فان واقعها و لم ينزل؟فقال:ان ادخله وجب الغسل و المهر و العدة.و في رواية ثانية:إذا التقى الختانان وجب المهر و العدة و الغسل.

ص:281

و في ثالثة:إذا أولجه فقد وجب الغسل و الجلد و الرجم و وجب المهر.

الخلوة:

إذا اختلى الرجل بزوجته خلوة تامة،بحيث لا شيء يمنعه إطلاقا من الدخول،و مع ذلك لم يدخل،فهل لهذه الخلوة تأثير بالنسبة إلى المهر،أو العدة؟ ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى أن المعول على الدخول حقيقة و واقعا،و أنّه لا أثر للخلوة إطلاقا،لقوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ فقد أجمع المفسرون على أن المراد من المس هو الوطء، و عليه فلا أثر للخلوة،و ان حصل معها المس من غير وطء.

و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تزوج،فأغلق بابا أو أرخى ستارا،و لمس و قبّل،ثم طلقها،أ يجب الصداق؟ قال:لا يوجب الصداق إلاّ الوقاع.و في رواية ثانية أنّه قال:ليس عليه إلاّ نصف المهر.

و قد حمل الفقهاء الروايات التي دلت بظاهرها على أن الخلوة توجب المهر،حملوها على ما إذا كان مع الخلوة دخول جمعا بينها و بين ما دلّ على أن الخلوة لا تأثير لها.

التنازع:
1-إذا اختلف الزوجان في استحقاق المهر

،فقال هو:لا تستحق المهر من الأساس.و قالت هي:بل استحقه،ينظر:فان كان لم يدخل بعد فالقول قوله

ص:282

بيمينه.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف لاحتمال تجرد العقد عن المهر الذي عرفت عدم اعتباره في صحة العقد».أي من الجائز أن يكون العقد من غير ذكر المهر و يجوز أيضا أن يكون قد جرى مع ذكر المهر.و على التقدير الأول يكون الزوج غير مسؤول عن المهر،كما تقدم،و على الثاني يكون مسؤولا عنه،فيرجع الشك-اذن-إلى الشك في أن الزوج:هل هو مطلوب بالمهر أو غير مطلوب، و الأصل براءة الذمة.

و إذا كان الزوج قد دخل،و ادعت مبلغا لا يزيد على مهر المثل حكم لها به، و لا يلتفت إلى إنكاره،لأن المهر ثابت على كل حال بسبب الدخول،سواء أ سمّى لها أو لم يسم.

2-إذا اختلف الزوجان في الدخول،فقالت هي:لم يدخل

،لتثبت أن لها حق الامتناع عنه،حتى تقبض معجل المهر،و قال هو:دخلت،ليثبت أن امتناعها بغير مبرر شرعي،أو قال هو:لم أدخل،كي يسقط عنه نصف المهر بالطلاق، و قالت هي:دخل،لتثبت المهر كاملا،و نفقة العدة فإن القول قول من ينكر الدخول،سواء أ كان هو الزوج أو المرأة،عملا بقاعدة على المدعي البينة،و على من أنكر اليمين إلاّ إذا ادعت هي،أو هو الدخول،و كانت بكرا،فان كشف الخبيرات،أو الطبيب المختص بقطع النزاع،فإذا قرر انّها ما زالت بكرا،و حصل الاطمئنان من قوله ترد دعوى من ادعى الدخول من غير يمين.

3-إذا اختلفا في تسمية المهر في متن العقد

،فقال أحدهما:اقترن العقد بذكر المهر الصحيح.و قال الآخر:بل وقع مجردا عن التسمية فالبينة على مدعي التسمية،و اليمين على من أنكرها،و لكن إذا كانت الزوجة هي التي ادعت التسمية،و الزوج هو المنكر،و حلف على عدم التسمية بعد عجزها عن الإثبات

ص:283

تعطى مهر المثل بعد الدخول على شريطة أن لا يزيد مهر المثل عما تدعيه،فلو قالت جرى العقد بعشرة و أنكر هو،و كان مهر المثل عشرين تعطى عشرة فقط عملا باعترافها بأنّها لا تستحق الزيادة.و لو كان مهر المثل عشرة،و قالت:جرى العقد على عشرين تعطى عشرة.

4-إذا اتفقا على أصل التسمية،و اختلفا في قدر المسمى

،فقالت:هي عشرة،و قال هو:بل خمسة فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن القول قول من ينكر الزيادة،لأن الأصل عدمها حتى يثبت العكس،و لأن الإمام الباقر أبا الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن رجل تزوج امرأة،فلم يدخل بها،فادعت أن صداقها مائة دينار.و ذكر الزوج أن صداقها خمسون،و ليس لها بينة على ذلك؟ فقال:القول قول الزوج مع يمينه.

5-إذا اختلفا في قبض المهر

،فقالت هي:لم أقبض.و قال هو:بل قبضت فان القول قول الزوجة،لأن الأصل عدم القبض،حتى يثبت العكس، و على الزوج البينة،لأنه مدع،و لا فرق في ذلك بين أن يحصل النزاع قبل الدخول أو بعده.

و تسأل:ان الإمام عليه السّلام قد سئل عن ذلك فقال:«إذا أهديت إليه،و دخلت بيته،و طلبت بعد ذلك فلا شيء لها،انّه كثير لها أن يستحلف باللّه مالها من قبله صداق قليل أو كثير»فقد دلت هذه الرواية بالمنطوق على أن القول قوله إذا كان قد دخل و دلت بالمفهوم أن القول قولها ان لم يكن قد دخل بعد.

الجواب:قال جماعة من الفقهاء منهم صاحب الجواهر:كانت العادة في القديم ان الزوجة لا تنتقل إلى بيت زوجها إلاّ بعد أن تقبض المهر المعجل،و هذه الرواية،و ما إليها منزلة على المعتاد أما اليوم فلا أثر لهذه العادة فيتعين العمل

ص:284

بالأصل،و هو عدم القبض،حتى يثبت العكس.

6-إذا اتفقا على أن الزوجة أخذت شيئا من الزوج،ثم اختلفا

،فقالت هي أنّه هدية،و قال هو:بل من المهر فالقول قول الزوج،حتى يثبت العكس،لأنه أعرف بنيّته.

هذا،إذا لم تكن قرائن حالية من عادة العرف توجب الاطمئنان،أو من أوضاع الزوج الخاصة التي تدل على أنّه هدية،كما لو كان مأكولا،أو ثوبا أو ما يسميه اللبنانيون بالعلامة،و المصريون بالشبكة،و هو خاتم و ما أشبه مما يهديه الخاطب للمخطوبة،فان كان شيء من ذلك يكون القول قول الزوجة،لا قول الزوج.

و عليه فيأخذ الشيء المتنازع فيه حكم الهبة،و لا يجوز الرجوع بها بعد القبض إذا كانت بعد قيام الزوجية،كما تقدم في«الجزء الرابع باب الهبة،فقرة هل عقد الهبة جائز».و ان كان قد وهب قبل عقد الزواج فله الرجوع بها ما دامت عينها قائمة،و لم تتصرف المرأة فيها ببيع أو هبة أو تغييرها من هيئة إلى هيئة أخرى، و إلاّ تكون لازمة لا يجوز الرجوع بها.

ص:285

الزوجان و أثاث البيت

اشارة

إذا أقام اثنان في محل واحد،فيه بعض الأمتعة و الأدوات،ثم اختلفا في شيء منها،و ادعى كل واحد أنّه له،و ذلك مثل الزوجين يختلفان في أثاث البيت كله،أو بعضه،و مثل نجار و خياط يقيمان في حانوت واحد،ثم يختلفان في بعض محتوياته،إذا كان الأمر كذلك فهل تكون الدعوى بينهما من باب المدعي و المنكر،فيكلف الأول بالبينة و الثاني باليمين،أو من باب المتداعيين،أي أن كلا منهما مدع و منكر و على كل واحد البينة و اليمين معا،كما هو الشأن في المتداعيين؟

و الجواب:

إذا رجعنا إلى القواعد المتسالم عليها نجد ان المنكر هو واحد من اثنين:اما من وافق قوله الأصل،و امّا أن يكون صاحب يد،و المدعي بعكس الاثنين،أي لا هو صاحب يد،و لا قوله يتفق مع الأصل.أما ظاهر العرف و العادة فليس بشيء يعتمد عليه إلاّ إذا قام الدليل الخاص على اعتباره،و مع وجوده يختصر على مورده،لأن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من عرف الناس و عاداتهم (1).أجل،يرجع

ص:286


1- قد يستفاد الحكم الشرعي من العرف العام،إذا كان في عهد المعصوم،و بمرأى منه،و مسمع و لم ينه عنه،و بكلمة ان العرف لا يكون حجة إلاّ بإمضاء الشارع ضمنا أو صراحة.

إليهم في معرفة الموضوع الخارجي الذي تعلق به الحكم الشرعي-مثلا-تحريم الخمر يؤخذ من نص الشارع،أمّا تشخيص الخمر في الخارج،و تمييزه عن سائر المائعات فيرجع فيه إلى العرف،و أصحاب الخبرة،و عليه فقد يكون الظاهر مع المدعي دون المنكر،و قد يكون مع المنكر دون المدعي.

و ليس من شك أنّه لا أصل-هنا-يتفق مع أحد الطرفين دون الآخر،حتى يكون الذي معه الأصل منكرا،و الذي يخالفه مدعيا،إذ لو قلنا بأن الأصل أن لا يكون هذا المتاع ملكا للزوج معارض بأصل أن لا يكون ملكا للزوجة،و لا مرجح لأحد الأصلين على الآخر،بدون فرق بين ما يصلح لأحدهما فقط،و بين ما يصلح لهما معا بعد أن قلنا:ان الظاهر لا يعول عليه،و كذلك الحال بالقياس إلى النجار و الخياط.

و لو قلنا بما ذهب إليه من ذهب من أن ما يصلح للنساء خاصة فهو للزوجة، و ما يصلح للرجل فقط فهو للزوج،و ما يصلح لهما معا فهما فيه سواء أخذا بظاهر الحال،لو قلنا بهذا للزم أن نقول به أيضا فيما لو تنازع رجل مع امرأة أجنبية في شيء لا يد لأحدهما عليه،و لا يقيمان معا في محل واحد،بحيث إذا كان المتنازع فيه يصلح للنساء فقط تكون المرأة منكرة،و الرجل مدعيا.و إذا صلح للرجل فقط يكون هو المنكر،و هي المدعية أخذا بالظاهر،و كذا لو تنازع اثنان في منشار- مثلا-و كان أحدهما نجارا،و الآخر خياطا،و لا يد لأحدهما عليه،و لا يقيمان في محل واحد.ان يكون النجار منكرا،و الثاني مدعيا،مع أنّه لا قائل بذلك من الإمامية (1).

ص:287


1- في الجزء الرابع من كتاب الفروق«الفرق 232»لو تنازع قاض و جندي رمحا،فالقاضي مدع، و الجندي مدعى عليه،ثم أشكل على من زعم هذا بأنه لو ادعى أبو بكر على أفسق الناس ينبغي أن يكون أبو بكر منكرا.

فلم يبق-إذن-إلاّ اليد،فإن كان لأحد الزوجين يد-دائمة أو غالبة-على شيء من أثاث البيت كان صاحب اليد منكرا،و الآخر مدعيا،فإذا تنازعا في الحلي و الملابس التي لبستها الزوجة،و استعملتها كان القول قولها مع اليمين، لليد لا لأنها تصلح للنساء فقط.و إذا تنازعا في العمامة و الأسلحة التي استعملها و يستعملها الرجل كان القول قوله مع اليمين.لليد أيضا،لا لصلاحها للرجال فحسب (1).و من هنا نقول:إذا حصل الخلاف بينهما في قطعة حلي لم تستعملها الزوجة أبدا،و كانت يد الاثنين عليها فهما فيها سواء،بل لو وجدت هذه القطعة في صندوق الزوج الذي يحمل مفتاحه،و لا يستعمله أحد سواه يكون هو صاحب اليد،و يؤخذ بقوله دونها.و كذا لو وجدت قطعة سلاح في الصندوق الخاص بها يكون القول قولها،لأنها صاحبة اليد.فالعبرة اذن باليد لا بما يصلح، أو لا يصلح.

أما ما لا يد لأحدهما عليه دون الآخر،كالراديو يستمعان إليه معا،و الساعة في الحائط ينتفعان بها،و«طاولة»الطعام يأكلان عليها.أما هذه و ما إليها فهما فيه سواء.

و منه تعرف مسألة النجار و الخياط اللذين يقيمان في حانوت واحد،حيث يحكم للنجار بالمنشار،و للخياط بالإبرة،لمكان اليد،دون أن يكون للصلاحية أي تأثير.و لو افترض أن في الحانوت منشارا لا يد دائمة أو غالبة عليه لأحدهما

ص:288


1- و على هذا نحمل الأحاديث التي فصلت بين ما للنساء،و بين ما للرجال،بل ان موثق يونس يشعر بذلك،حيث جاء فيه:«ما كان من متاع للنساء فهو للمرأة،و ما كان من متاع النساء و الرجال فهو بينهما،و من استولى على شيء منه له»فقول الإمام من استولى إلخ.إشارة إلى وضع اليد.

دون الآخر لكانا فيه سواء لدى التخاصم و التنازع.

إذا تمهد هذا عرفنا أنّه إذا تنازع المقيمان في محل واحد على شيء من محتوياته،فإن كانت يد أحدهما دون الآخر فهو له مع يمينه،و إلاّ فهما متداعيان، فإن أقام أحدهما البينة دون الآخر فهو له،و ان أقاما معا البينة قسم بينهما،و ان لم يكن لهما و لا لأحدهما يحلفان و يقتسمان،و ان حلف أحدهما،و نكل الآخر فالشيء لمن حلف.

هذا ما توصلت إليه بعد البحث و التأمل،و كنت قبلا أعتقد بالتفصيل بين ما يصلح،و ما لا يصلح بصرف النظر عن اليد،ثم رجعت إلى اليد بصرف النظر عما يصلح و ما لا يصلح.

و قال الحنابلة و أكثر الإمامية:ان ما يصلح للرجال من العمائم،و قمصانهم، و جبابهم،و الأقبية و السلاح فهو للزوج مع يمينه،و ما يصلح للنساء،كحليهن، و قمصهن و مغازلهن فهو للزوجة مع يمينها،و ما يصلح لهما،كالفراش و الأواني فهو بينهما.

و قال الحنفية:ما كان في يد أحدهما فعلا فهو له مع اليمين،و ما كان في يدهما معا فهو للزوج وحده مع يمينه.

و قال الشافعية:كل ما في البيت فهو بينهما مناصفة.

و قال المالكية:ما يصلح للنساء فقط،فللزوجة،و ما يصلح للرجال و النساء فللزوج،لأن يده أقوى من يدها.(المغني باب الأقضية).

ص:289

النسب

اشارة

يلحق الولد بالرجل بسبب الزواج،أو بوطء الشبهة مع مراعاة الشروط التالية:

الدخول و الفراش و قاعدة الإمكان:

ان عقد الزواج يرفع الموانع و الحواجز التي كانت بين الرجل و المرأة قبل العقد،و يبيح لكل منهما عملية الجنس و توابعها،و لكن العقد بمجرده،و من حيث هو ليس سببا تاما لا لحاق الولد بالزوج،بل لا بد معه من الدخول،فان المراد من الفراش في حديث:«الولد للفراش،و للعاهر الحجر»المراد منه الافتراش،لا مجرد العقد كما يقول السنة،و بتعبير ثان ان هذا الحديث تفسير و بيان لقوله تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (1).

و على هذا،فلا يلحق الولد بالزوج لمجرد أنّه زوج و كفى،بل لأنه قد افترش زوجته افتراشا حقيقيا.

و لا يحتاج الوقاع و الجماع إلى بيان و تفسير،و لكن هل كل وقاع يستدعي

ص:290


1- البقرة:187. [1]

إلحاق الولد بالزوج،أو لا يلحق به إلاّ مع وقاع خاص؟و الجواب في التفصيل التالي:

أولا:أن يدخله،و ينزل في داخل الفرج،و ليس من شك أن الولد يلحق به،و الحال هذه.

ثانيا:أن لا يحصل الدخول،و لكن يريق ماءه على الفرج،و يلحق به الولد كما لو أراق داخل الفرج،إذ من الجائز أن يسبق الماء إلى الداخل دون أن يشعر الزوجان بذلك،و قد تسالم الفقهاء على قاعدة عامة أسموها قاعدة إمكان الإلحاق و هي:كل ما أمكن أن يلحق الولد بالزوج يجب أن يلحق به في ظاهر الشرع، فمتى علم الحاكم بهذا الإمكان قضى به من غير حاجة إلى الإثبات،أما مستند هذه القاعدة فحديث«الولد للفراش»فإنّه يدل على أن كل ولد للفراش،حتى يثبت العكس.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان رجلا أتى الإمام عليا عليه السّلام،فقال له:ان امرأتي هذه حامل،و هي جارية حدثة،و هي عذراء،و حامل في تسعة أشهر،و لا أعلم إلاّ خيرا،و أنا شيخ كبير ما اقترعتها،و انّها لعلى حالها؟فقال له الإمام:نشدتك اللّه هل كنت تهريق على فرجها؟قال الشيخ:نعم.قال الإمام:قد ألحقت بك ولدها.

و بالأولى إذا أدخله،ثم انزل خارج الفرج،قال الإمام الصادق عليه السّلام:جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و قال:كنت أعزل عن جارية لي،فجاءت بولد؟فقال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الوكاء قد ينفلت،و الحق به الولد.

ثالثا:أن يدخله،أو يدخل بعضه،بحيث يلتقي ختانان،و لكنه لم ينزل، و في هذه الحال يلحق الولد به أيضا لأن معنى الفراش،كما قلنا،هو الافتراش،

ص:291

و المفروض أن الزوج قد افترش الزوجة.قال صاحب الجواهر:«يمكن التولد من الرجل بالدخول،و ان لم ينزل،و لعله لتحرك نطفة المرأة،و اكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلها،أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلاّ ربّ العزّة، و لذا أطلق أن الولد للفراش المراد به الافتراش فعلا».

و بالجملة ان مجرد عقد الزواج لا يوجب إلحاق الولد بالزوج ما لم يكن معه واحد من اثنين:اما الدخول،و ان لم ينزل،و امّا الإنزال على الفرج،و ان لم يدخل،و متى تحقق واحد منهما فلا ينتفي الولد على الزوج إلاّ باللعان الذي سنتعرض له في الجزء السادس ان شاء اللّه.

أقل مدّة:

الشرط الثاني لا لحاق الولد بالزوج أن يمضي ستة أشهر من حين الوطء أو الإنزال على الفرج،لأن هذه المدّة هي أقل مدّة الحمل إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى في الآية 15 من سورة الأحقاف التي نصت على أن حمل الولد و رضاعه ثلاثون شهرا وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً و الفصال هو الرضاع،و نصت الآية 14 من سورة لقمان على أن الرضاع يكون في حولين كاملين وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ و الدليل مركب من الآيتين معا،فإذا أسقطنا العامين من الثلاثين شهرا يبقى ستة أشهر،و هي أقل مدّة الحمل بالإجماع،فيتعين أن تكون أقل مدّته،و الطب الحديث أقر ذلك و أيده.

و ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن أدنى ما تحمل المرأة ستة أشهر،و أكثر ما تحمل سنة.

ص:292

أقصى مدّة الحمل:

الشرط الثالث لإلحاق الولد أن لا يتجاوز الحمل أقصى مدّته،و اتفقوا على أنّها لا تزيد ساعة عن السنة،فإذا طلق الزوج أو مات عنها،ثم ولدت بعد سنة، و لو ساعة لم يلحقه الولد.

و اختلفوا في تحديدها،فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أنّها تسعة أشهر،و قال آخرون:انّها عشرة،أما الشريف المرتضى و أبو الصلاح و الشهيد الثاني فقد اختاروا أنّها سنة كاملة،و حملوا الروايات الدالة على التسعة على الغالب.قال الشهيد الثاني في المسالك:«روى ابن حكيم عن الإمام عليه السّلام أنّه قال في المطلقة يطلقها زوجها،فتقول:أنا حبلى،فتمكث سنة؟قال الإمام:ان جاءت به لأكثر من سنة لم تصدق،و لو ساعة واحدة في دعواها».ثم قال الشهيد:

و هذا القول أقرب إلى الصواب،إذ لم يرد دليل معتبر على أن أقصاه أقل من سنة، فاستصحاب حكمه و حكم الفراش أنسب،و ان كان خلاف الغالب،و قد وقع في زماننا ما يدل عليه.

ولد الشبهة:

وطء الشبهة أن يقع الرجل على امرأة تحرم عليه،مع جهله بالتحريم، و الشبهة على قسمين:شبهة العقد مع الوطء،و شبهة الوطء من غير عقد.و معنى شبهة العقد أن يجري عقد زواجه على امرأة،ثم يتبين فساد العقد،لسبب من الأسباب الموجبة للفساد.و معنى شبهة الوطء من غير عقد أن يقع على امرأة من غير أن يكون بينهما عقد صحيح و لا فاسد،بل يقاربها معتقدا أنّها تحل له،ثم يتبين العكس،و يدخل في ذلك وطء المجنون و السكران و النائم لأجنبية.

ص:293

و ولد الشبهة شرعي تماما كمن تولد من الزواج الصحيح من دون تفاوت، سواء أ كانت الشبهة شبهة عقد أم شبهة فعل،و لو نفى المشتبه الولد عنه لا ينتفي، و يلزم به إذا تحققت الشروط الثلاثة المتقدمة،و هي الدخول أو الإنزال على الفرج،و مضي ستة أشهر على الحمل-على الأقل-و عدم تجاوزه عن أقصى المدّة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها؟قال:يفرق بينهما،و تعتد عدة واحدة منهما،فإن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر-أي من حين وطء الأخير-فهو للأخير،و ان جاءت بولد في أقل من ستة أشهر فهو للأول.

و قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لو تزوج امرأة لظنها خالية،أو لظنها موت الزوج،أو طلاقه فبان أنّه لم يمت،و لم يطلق ردت على الأول قطعا بعد الاعتداد مع الثاني الذي قد فرض اشتباهه،و اختص الثاني بالأولاد،مع حصول الشروط لإلحاق الولد».

ثم أن الشبهة قد تكون من الرجل و المرأة،كما لو كان كل منهما غير عالم، و لا ملتفت،و قد تكون الشبهة من الرجل فقط،كما لو كانت هي عالمة بأن لها زوجا،و دلست على الرجل،و قد تكون الشبهة منها فقط،كما لو كان هو على علم بأنّها ربيبته أو أخته من الرضاع،و ما إلى ذاك من أسباب التحريم،و دلس عليها.و إذا كانت الشبهة من الطرفين لحق الولد بهما معا،و إذا كانت من طرف واحد لحق بالشبهة فقط.

و من قارب امرأة تحرم عليه،و ادعى الجهل بالتحريم قبل قوله بلا بينة أو يمين،و كذا يقبل قول المرأة بلا بينة أو يمين إذا ادعت الاشتباه،لأن الحدود تدرأ بالشبهات،فإذا أمكن حمل الولد على أنّه ابن شبهة،و لو لاحتمال واحد من مائة

ص:294

فلا يجوز الحكم بأنه ابن زنا،و هذا من الموارد التي يتغلب فيها الضعيف على القوي،و الأقل على الأكثر.

اللقيط:

ليس اللقيط من النسب في شيء،لأنه يفقد الشروط الثلاثة التي لا بد منها في إلحاق الولد،و انما أشرنا إليه بهذه الفقرة للتوضيح،و تبعا للفقهاء،و كذا الحال بالنسبة إلى التبني.

و اللقيط أن يجد الإنسان طفلا لا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعا،و لا يدفع عنها ضرا،فيضمه إليه،و يكفله مع سائر عياله،و قد أجمعت كلمة المذاهب الإسلامية على أنّه لا توارث بين اللقيط و الملتقط،لأنه عمل متمحض للخير و الإحسان،و التعاون على البر و التقوى،فمثله مثل انسان وهب آخر مبلغا كبيرا من المال تقربا إلى اللّه،فجعله غنيا بعد الفقر،و عزيزا بعد الذل،فكما ان هذا الإحسان لا يكون سببا للتوارث،كذلك الالتقاط.

التبني:

التبني أن يقصد إنسان إلى ولد معروف النسب،فينسبه إلى نفسه، و الشريعة الإسلامية لا تعتبر التبني سببا من أسباب الإرث،لأنه لا يغير الواقع عن حقيقته،بعد أن كان نسب الولد ثابتا و معروفا.و النسب لا يقبل الفسخ،و لا يسقط بالإسقاط،و بذلك صرحت الآية(4)من سورة الأحزاب وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ .و ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية قصة طريفة:سبي

ص:295

زيد بن حارثة في الجاهلية،فاشتراه رسول اللّه،و بعد الإسلام جاء حارثة إلى مكة،و طلب من الرسول أن يبيعه ابنه زيدا أو يعتقه،فقال الرسول:هو حر، فليذهب حيث شاء،فأبى زيد أن يفارق رسول اللّه،فغضب أبوه حارثة،و قال:

يا معشر قريش اشهدوا أن زيدا ليس ابني،فقال رسول اللّه:اشهدوا أن زيدا هو ابني (1).

رجلان وقعا على امرأة:

إذا زنى بامرأة متزوجة فحملت،و أمكن أن يكون الحمل من الزاني و من الزوج ألحق بالزوج،و ان كان الولد شبيها بالزاني،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد،لمن يكون الولد؟قال:للذي عنده،لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الولد للفراش و العاهر للحجر.

و أيضا سئل عن رجل تزوج امرأة ليست بمأمونة تدعي الحمل؟قال:

يصبر،لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الولد للفراش،و للعاهر الحجر.

و إذا وطأ متزوجة بشبهة،و حملت،و أمكن أن يكون الحمل من الزوج، و من المشتبه تعين العمل بالقرعة،فمن خرج اسمه ألحق به الولد.قال صاحب الجواهر:«لو وطأ شبهة على وجه يمكن تولده من الزوج و المشتبه فإنه يقرع بينهما،و يلحق بمن تقع عليه القرعة،لأن المرأة حينئذ فراش لهما من غير فرق بين وقوع الوطئين في طهر واحد و عدمه،مع إمكان الإلحاق بهما.نعم لو أمكن الإلحاق بأحدهما دون الآخر تعين الإلحاق به دون عملية القرعة،كما أنّه ينتفي عنهما معا،لعدم إمكان تولده منهما،و هو واضح».

ص:296


1- مجمع البيان في تفسير القرآن.

و إذا طلق الرجل زوجته بعد أن قاربها فاعتدت،ثم تزوجت،و أتت بولد، لدون ستة أشهر على زواجها من الثاني،و لكن مضى على مقاربة الزوج الأول لها ستة أشهر فأكثر على أن لا تزيد مدّة المقاربة عن أقصى زمن الحمل،إذا كان كذلك لحق الولد بالأول،و إذا مضى على زواجها من الثاني ستة أشهر لحق بالثاني.

و إذا طلقها و تزوجت،ثم ولدت لأقل من ستة أشهر من مقاربة الثاني، و لأقصى زمن الحمل من مقاربة الأول ينفى عنهما معا-مثلا-إذا مضى على الطلاق ثمانية أشهر،و بعدها تزوجت بآخر،فمكثت عنده خمسة أشهر، و ولدت،و افترضنا أن أقصى مدّة الحمل سنة فلا يلحق بالأول،لأنه قد مضى على المقاربة أكثر من سنة،و لا يلحق بالثاني حيث لم تمض ستة أشهر على مقاربته.

الشك:

إذا علمنا أنّه لم يدخل،و لم ينزل على الفرج،أو أنّه دخل،و ولدت لأقل من ستة أشهر من تاريخ الدخول،أو لأكثر من مدّة الحمل،كما لو غاب عنها مدّة تزيد عن أقصى مدّة الحمل-إذا علمنا ذلك فلا يجوز إلحاق الولد به،و إذا اعترف به فلا يلتفت إلى اعترافه.

و إذا علمنا أنّه دخل،و مضى ستة أشهر على الحمل،و لم يتجاوز أقصى المدّة فلا ينتفي عنه إلاّ باللعان،حتى و لو اتفق هو و الزوجة على نفيه.

و إذا علمنا بالدخول،و شككنا في مضي ستة أشهر،أو في تجاوز أقصى مدّة الحمل يلحق به الولد،و لو نفاه لا يلتفت إلى نفيه تغليبا لحكم الفراش، و عملا بقاعدة كل ما أمكن أن يكون منه فهو ولده المستفادة من حديث:«الولد

ص:297

للفراش»خرج منه ما علم بأنه ليس ولده قطعا فيبقى المعلوم و المشكوك على حكم الفراش.و بهذا يتبين معنا أن هذه القاعدة رافعة لموضوع الأصل القائل:

الشك في الشرط يستدعي الشك في المشروط.

التنازع:
1-إذا نفى الولد عنه محتجا بأنّه لم يدخل

،و قالت هي:بل دخل،لتلحق الولد به فالقول قوله،لأن الأصل عدم الدخول.

و تسأل:و قاعدة الفراش و إمكان الإلحاق،أ ليست رافعة لموضوع الأصل كما قلت؟ الجواب:لقد سبق أن معنى الفراش هو الافتراش،فإذا شككنا في أنّه افترشها أو لا فقد شككنا في موضوع القاعدة.و بديهة أنّه لا يمكن التمسك بإطلاق الشيء أو عمومه إلاّ بعد التثبت من وجود موضوعه (1).

2-إذا اتفقا على الدخول،و اختلفا في المدّة

،فقالت هي وضعته بعد مضي ستة أشهر،أو قبل تجاوز أقصى مدّة الحمل.و قال هو:بل قبل الستة،أو قال بعد تجاوز أقصى المدّة فالقول قول المرأة،لأن الأصل إلحاق الولد بالوطء أي بالفراش،حتى يثبت العكس.قال صاحب الجواهر:«المرأة منكرة على كل حال باعتبار موافقة دعواها للأصل من غير فرق بين دعوى الزوج الأكثر من أقصى الحمل،أو الأقل من أدناه،إذ هو على كل حال مدع لما ينافي أصل لحوق الولد بالوطء».

ص:298


1- الغريب أن صاحب الجواهر قد أخذ بإطلاق القاعدة إذا شككنا في الدخول ذاهلا عن ان ذلك تمسك في العام أو الإطلاق في الشبهة المصداقية.
طرق ثبوت النسب:

يثبت النسب بالإقرار،و تكلمنا عنه مفصلا و مطولا في باب الإقرار فصل:

«الإقرار بالنسب».و أيضا يثبت بشهادة عدلين،و لا تقبل فيه شهادة النساء لا منفردات و لا منضمات،و أيضا يثبت النسب بالاستفاضة،و هي أن يشتهر الإنسان عند جماعة يقيم بينهم بأنّه ابن فلان،بحيث إذا سئل عنه منسوبا إليه دلّ عليه، و ان يسجل اسمه بهذا النسب في دائرة العقارات،و الإحصاء و المحاكم.و في دفتر التاجر و القصاب،و ما إليه.

و قد بحثنا أدلة ثبوت النسب من سائر جهاتها،و استوفينا البحث فيها كاملا في كتاب«الفصول الشرعية».

ص:299

الرضاع و الحضانة

لبن الأم:

ان أفضل ما يرضع به الصبي هو لبن أمّه،لأنه أكثر ملاءمة لمزاجه،و أنسب بطبعه،حيث كان غذاء له،و هو في بطن أمّه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال علي أمير المؤمنين عليه السّلام:ما من لبن يرضع به الصبي أعظم عليه بركة من لبن أمّه.

مدّة الرضاعة:

لقد حدد الشرع المدّة التي يجب أن يرضع فيها الطفل،حددها بحولين، و أجاز أن تنقص إلى أحد و عشرين شهرا،و ان تزيد شهرا،أو شهرين.قال تعالى وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ (1).

أمّا جواز الاقتصار على واحد و عشرين شهرا فتدل عليه الآية 15 من سورة الأحقاف وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً فإذا حملت به تسعة كما هو الغالب كان

ص:300


1- البقرة:233. [1]

الباقي للرضاع 21 شهرا.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:الرضاع واحد و عشرون شهرا فما نقص فهو جور على الصبي.

أما جواز الزيادة شهرا و شهرين فقد استدل عليه صاحب الجواهر برواية لا تدل صراحة على الجواز،و لكن يكفي في الإباحة و الجواز عدم النص عليه، و على هذا فيجوز أن ترضعه سنين بخاصة إذا احتاج إلى ذلك،و لكنها لا تستحق اجرة على الرضاع الزائد على الحولين.

أجرة الرضاعة:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق على أن الأم لا تجبر على إرضاع ولدها،لقوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ و قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا تجبر المرأة على إرضاع الولد.

أجل،إذا انحصر إرضاع الولد بالأم،بحيث يتضرر بتركها إرضاعه فيجب عليها أن ترضعه.

و للأم أن تطالب بإرضاع ولدها،لقوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .و إذا كان للطفل مال فأجرتها من ماله،و إلاّ فعلى الأب الموسر،و ان علا،و ان لم يكن للأب مال وجب عليها أن ترضعه مجانا.و ذلك أن الرضاع طعام و غذاء،فيكون حكمه،تماما كحكم النفقة،و هي في مال الإنسان نفسه، فإن لم يكن له مال فعلى أبيه الموسر،و ان علا،فإن لم يكن فعلى الأم،و يأتي التفصيل في باب النفقة.

و إذا طلبت الأم أجرة أكثر من غيرها كان للأب انتزاع الطفل منها،و تسليمه إلى غيرها،و كذا إذا وجدت من ترضعه مجانا،و أبت الأم إلاّ الأجرة،أمّا إذا

ص:301

رضيت بما ترضى به غيرها من الأجرة أو التبرع فالأم أولى.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا طلق الرجل المرأة،و هي حبلى أنفق عليها،حتى تضع حملها، فإذا وضعته أعطاها أجرها،و لا يضارها إلاّ أن يجد من هو أرخص منها،فإن رضيت بذلك الأجر فهي أحق بابنها،حتى تفطمه.

و في جميع الحالات فإن على القاضي أن يراعي مصلحة الطفل و عدم الضرر بالأم،و ان يثبت،و لا يأخذ بالظواهر للوهلة الأولى،فإن كثيرا من الآباء يموهون و يحتالون و يوجدون المتبرعة زورا بقصد الإضرار بالأم عن طريق ولدها.و اللّه سبحانه يقول «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها» .

الحضانة:

الحضانة،بفتح الحاء،و أصلها من حضن الطير بيضه،أي ضمه تحت جناحه،و الغاية منها المحافظة على الطفل،و تربيته،و رعايته مصلحته.قال الشهيد الثاني في المسالك:و هي بالأنثى أليق منها بالرجل لمزيد شفقتها،و خلقها المعد لذلك.

لمن الحضانة:

الحضانة للأم و الأب ما لم يقع الطلاق،فإن طلقها فالأم أحق بالذكر حتى يكمل الحولين من عمره،و أحق بالأنثى حتى تكمل سبع سنين.هذا هو المشهور بين الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و هذا التفصيل لا دليل عليه صراحة في النصوص.قال صاحب المسالك:«اختلف الفقهاء في مستحق الحضانة من الأبوين،لاختلاف الاخبار-أي النصوص-ففي بعضها أن الأم أحق

ص:302

بالولد مطلقا ما لم تتزوج،و في بعضها أنّها أحق به إلى سبع سنين،و في آخر إلى تسع،و في بعضها أن الأب أحق به،و ليس في الجميع فرق بين الذكر و الأنثى.

و ليس في الباب خبر صحيح،بل هي بين ضعيف و مرسل و موقوف (1)».

و الذي دعا المشهور إلى التفصيل و الفرق بين الذكر و الأنثى اعتقادهم بأنّه يجمع بين نصين روى أحدهما أيوب بن نوح أن الإمام الصادق عليه السّلام قال:«المرأة أحق بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين».و ثانيهما رواه داود بن الحصين عن الإمام الصادق عليه السّلام:«أن الولد ما دام في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية،فإذا فطم فالأب أحق به من الأم،فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة».

و يلاحظ بأن هذا الجمع اعتباطي لا دليل عليه من الشرع أو العرف.ثانيا ان الولد في الروايتين يشمل الذكر و الأنثى.ثالثا ان هناك رواية أخرى تقول:

المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج،و رواية رابعة قالت إلى تسع سنوات.

أما عمل المشهور فليس له أي تأثير في الجمع بين النصوص إذا لم يقم على أساس من الشرع أو العرف،حتى و لو قلنا بأن عملهم يرجح أحد النصين المتعارضين على الآخر.

و غير بعيد أن تختص الأم بحضانة الطفل سنتين ذكرا كان أو أنثى،و بعدها يترك الأمر إلى اجتهاد القاضي و نظره فهو الذي يقرر انضمام الطفل إلى الأم أو الأب بعد السنتين على أساس مصلحة الطفل دينا و دنيا.نقول هذا من الوجهة النظرية.أما من الوجهة العملية فنحن مع الأكثرية من أنّها أحق بالذكر إلى السنتين،و بالأنثى إلى السبع ما لم تتزوج،فإذا تزوجت قبل ذلك سقطت

ص:303


1- المرسل أن يسند الحديث إلى المعصوم مع حذف الرواة كلا أو بعضا،و الموقوف أن لا يسند إلى المعصوم،بل يقف عند أحد الرواة.

حضانتها.

و اتفقوا على أن الطفل إذا بلغ يكون له الخيار في الانضمام إلى من شاء من أبويه.

الشروط:

قال صاحب الجواهر:«يشترط في الحاضنة أن تكون حرة مسلمة عاقلة غير متزوجة بلا خلاف في هذه الشروط الأربعة».

أما الإسلام إذا كان الولد بحكم المسلم فلان غير المسلم لا سبيل له على المسلم،و أمّا العقل فلأن المجنونة في حاجة إلى من يحضنها،و أمّا الخلو من الزوج فلقول الإمام عليه السّلام:المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج.

و أيضا يشترط أن تكون سليمة من الأمراض السارية،و لا فاجرة متهتكة، و لا مهملة لرعاية الطفل و مصالحه.كل ذلك للاحتفاظ بالطفل صحيا و خلقيا.

السفر بالطفل:

ليس للأم المطلقة أن تسافر بالولد إلى بلد بعيد بغير رضا أبيه،و ليس له أن ينتزعه منها،و يسافر به حال حضانتها له.و ذلك أن للأب الولاية على ابنه فيجب أن لا يبتعد عنه،و ان للام حضانته فيجب أن لا ينتزع منها،و لا يمكن مراعاة الحقين معا إلاّ بما ذكرنا.

اجرة الحضانة:

هل للام اجرة على الحضانة غير أجرة الرضاع؟

ص:304

مال صاحب المسالك إلى نفيها،و مال صاحب الجواهر إلى ثبوتها.و حيث لم يرد نص في الشرع على الوجوب،و لم تجر العادة على الأجرة،و لم تكن الحضانة من النفقة في شيء،كي تجب على الأب كما وجب عليه أجرة الرضاع، و لم تكن الحضانة عملا للأب بالذات،لذلك كله يكون الحق في جانب صاحب المسالك من عدم وجوب الأجرة على الحضانة،بخاصة إذا كانت واجبة على الأم.

إذا فقد الأبوان:

الحضانة للأم،ثم للأب،كما قدمنا،و إذا ماتت الأم قبل انتهاء حضانتها فالأب أولى من جميع الأقارب،حتى أم الأم،و إذا مات الأب أو جن بعد أن انتقلت إليه الحضانة،و كانت الأم في قيد الحياة عادت الحضانة إليها،و كانت أحق من جميع الأقارب بما فيهم الجد لأب،حتى و لو تزوجت بأجنبي.

و إذا فقد الأبوان معا انتقلت الحضانة إلى الجد لأب،و إذا فقد و لم يكن له وصي فالحضانة لأقارب الولد على ترتيب الميراث،الأقرب منهم يمنع الأبعد، و مع التعدد و التساوي كجدة لأم،و جدة لأب،و كالعمة و الخالة يقرع بينهما مع التزاحم و التشاح،فمن خرجت القرعة باسمه كان أحق بالحضانة إلى أن يموت أو يعرض عن حقه.

تسقط الحضانة بالإسقاط:

هل الحضانة حق يجوز لمن هي له أن يسقطها،أو هي حكم لا تسقط بالإسقاط؟

ص:305

الجواب:ان قول الإمام عليه السّلام:«المرأة أحق بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين إلاّ أن تشاء المرأة»ان قوله هذا ظاهر في ان الحضانة حق لا حكم.قال صاحب الجواهر:«ان التعليق على مشيئتها و التعبير بالأحقية ظاهر على أن الحضانة كالرضاع،و حينئذ لا تكون واجبة عليها،و لها أن تسقط هذا الحق».ثم نقل عن صاحب الرياض أنّه قال:«لا شبهة في كون الحضانة حقا»أي يجوز إسقاطها.

ص:306

النفقة

نفقة الزوجة:

تجب نفقة الزوجة على زوجها،حتى و لو كانت غنية،إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ (1)،و المولود له هو الزوج، و ضمير«هن»عائد إلى الزوجات.

و قوله سبحانه اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (2).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:«حق المرأة على زوجها أن يشبع بطنها،و يكسو جلدها،و ان جهلت غفر لها».

النشوز و الطاعة:

اتفقوا على أن الزوجة الدائمة تجب نفقتها على الزوج،و ان المتمتع بها لا نفقة لها،و اختلفوا:هل تجب النفقة بمجرد العقد،أو أنّها لا تجب إلاّ بالعقد و الطاعة معا.

ص:307


1- البقرة:232. [1]
2- النساء:33. [2]

و يظهر الفرق بين القولين في موارد:

«منها»إذا اختلفا في الطاعة،فقالت هي:لم امنع عنك نفسي فأنا مطيعة مستحقة للنفقة.و قال هو:بل أنت ناشزة،فلا تستحقين النفقة،فعلى القول الأول،و هو ان العقد لوحدة موجب للنفقة يكون الزوج مدعيا،عليه البينة،و هي منكرة عليها اليمين،و على القول الثاني،و هو ان الموجب للنفقة العقد و الطاعة تنعكس الآية،و يكون هو منكرا،و هي مدعية.و بتعبير الفقهاء انّه على الأول يكون العقد مقتضيا للنفقة،و النشوز مانعا،و الأصل عدم المانع،حتى يثبت العكس،و على القول الثاني تكون الطاعة شرطا لوجوب النفقة،و الأصل عدم وجود الشرط،حتى يثبت العكس.

و«منها»إذا عقد عليها،و بقيت أمدا عند أهلها،فتجب نفقتها على القول الأول طوال تلك المدّة،لمكان العقد الذي افترضنا أنّه مقتض للنفقة،و لا تستحقها على القول الثاني.

و على آية حال،فقد ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الشرائع و الحدائق إلى أن العقد بمجرده لا يوجب النفقة،بل لا بد من ثبوت الطاعة معه.قال صاحب الحدائق:«لم أقف على مصرح بأن العقد بمجرده موجب للنفقة».

و الصواب ان العقد بمجرده لا يقتضي النفقة،و لا عدمها،و ان ما دلّ من الروايات على وجوب طاعة الزوجة للزوج انما ورد لبيان حقه عليها،و لا دليل فيه من قريب أو بعيد على أن الطاعة شرط للنفقة أو ليست بشرط،كما ان ما دل على وجوب النفقة انما ورد لبيان أصل الوجوب من حيث الفكرة،بصرف النظر عن الطاعة و النشوز.

و ربما انّا نعلم أن الزوجة المطيعة لها النفقة،و ان الناشزة لا تستحقها،و إنّا

ص:308

نشك أن هذه المرأة مطيعة أو غير مطيعة،و لا دليل أو أصل يثبت أحد الأمرين فيكون الأصل عدم وجوب النفقة،حتى يثبت العكس،و على هذا،إذا طلبت النفقة فعليها أن تثبت أنّها مطيعة،فإذا عجزت عن الإثبات حلف الزوج،وردت دعواها.

أجل،إذا علمنا الحال السابقة،و أنّها كانت مطيعة استصحبنا وجود الطاعة، و حكمنا بالنفقة،حتى يثبت العكس،و إذا علمنا بأنها كانت ناشزة استصحبنا النشوز،حتى يثبت العكس،مع العلم بأن مجرد الشك في النشوز كاف بإسقاط النفقة.

الزوجة الصغيرة:

لا نفقة للزوجة الصغيرة التي لا تطيق الفراش،حتى و لو كان الزوج كبيرا، لأن العقد بمجرده لا يوجب النفقة،كما تقدم،و ليست هي قابلة للطاعة و المتابعة،لصغرها و نقصها على حد تعبير صاحب الجواهر.

الزوج الصغير:

اختلفوا:هل تجب النفقة للزوجة إذا كانت كبيرة تطيق الفراش،و كان هو صغيرا لا يحسن عملية الجنس؟ قيل:تجب لها النفقة،لأن المانع من جهته،لا من جهتها.و قال جماعة، منهم الشيخ الطوسي،و صاحب الجواهر:لا تجب،و هو الصواب ما دام العجز الطبيعي متحققا من الزوج،و الصغير غير مكلف،و تكليف الولي لا دليل عليه.

و لا أقل من الشك في الوجوب،و معه فالأصل العدم،قال صاحب الجواهر:«لو

ص:309

سلم عدم المانع من قبلها فقد يقال:يشك في شمول الأدلة لأنها خطابات و تكاليف لغير الصغار،و صرفها إلى الولي مدفوع بالأصل.لذا كان قول الشيخ بعدم النفقة هو المتجه،كما اعترف به في كشف اللثام و الرياض و نهاية المراد».

الزوجة المريضة:

المرض و الحيض يمنعان من الفراش،و لكن لا تسقط النفقة بهما،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،لمكان العذر الشرعي أو العقلي».

و إذا سافرت الزوجة بإذن الزوج فلا تسقط نفقتها،لأن إذنه إسقاط منه لحقه،فيبقى حقها على ما هو،سواء أ سافرت لمصلحته أو مصلحتها،لواجب أو مندوب أو مباح.و إذا سافرت من غير اذنه ينظر:فإن كان السفر لواجب كالحج فلا تسقط نفقتها،حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،و ان لم يكن لواجب فلا نفقة لها.

نفقة المعتدة:
اشارة

هل للمعتدة نفقة أو لا نفقة لها بوجه العموم،أو فيه تفصيل بين المعتدات؟ الجواب:فيه تفصيل على الوجه التالي:

1-أن تكون معتدة من طلاق رجعي

،و تثبت لها النفقة حاملا كانت أم حائلا،كما تثبت للزوجة،لأنها بحكمها إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:ان المطلقة ثلاثا ليس لها نفقة على زوجها،انما ذلك للتي لزوجها عليها رجعة.

2-أن تعتد من طلاق بائن،و تثبت لها النفقة ان كانت حاملا

،و لا نفقة مع

ص:310

عدم الحمل إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1).

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يطلق امرأته،و هي حبلى؟قال:أجلها أن تضع حملها،و عليه نفقتها،حتى تضع حملها.

و الطلاق في كل من الآية و الرواية لم يخصص بالرجعي،و لا بالبائن، فيشملهما معا.

و اختلفوا:هل النفقة للحامل،أو للحمل؟و يتفرع على هذا الخلاف أنّه لو كانت النفقة للحامل لوجب قضاؤها،تماما كالدين،أما إذا كانت للحمل فلا يجب القضاء،للاتفاق على عدم وجوب القضاء لنفقة القريب،كما يأتي:

و الصواب ان النفقة للحامل لا للحمل،لأن قوله تعالى فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ و قول الإمام«عليه نفقتها»ظاهران في أن النفقة لها،لا له.هذا،إلى أن الحمل في نظر العرف ليس موضوعا للإنفاق،و عليه فليس لهذا الخلاف من موضوع.

و حاول بعض الفقهاء أن يوجه الإنفاق على الحمل بقوله:«ان الإنفاق عليه انما يكون بالإنفاق على امه».و علّق صاحب الجواهر على ذلك قائلا:«و هو كما ترى من المضحكات».

3-أن تعتد عدّة الوفاة،و لا نفقة لها حاملا كانت،أو غير حامل

.قال صاحب المسالك:«ورد بعدم الإنفاق عليها أربع روايات معتبرات الاسناد.

و على ذلك سائر المتأخرين،و هو الأقوى».و قال صاحب الجواهر:«لا محيص عن القول بذلك».

و من هذه الروايات الصحيحة ما رواه زرارة عن الإمام الصادق عليه السّلام،قال:

ص:311


1- الطلاق:6. [1]

سألته عن المرأة المتوفى عنها زوجها،هل لها نفقة؟قال:لا.

و في رواية ثانية صحيحة أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الحبلى المتوفى عنها زوجها،هل لها نفقة؟قال:لا.

المرأة الموظفة:

انظر الجزء الرابع باب الإجارة،فقرة«المرأة الموظفة».

مسائل:
1-تجب النفقة للزوجة الكتابية،تماما كما تجب للمسلمة

.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال».

2-إذا خرجت من بيته من غير اذنه

،أو امتنعت عن سكنى البيت اللائق بها تعد ناشزا بالاتفاق.

3-إذا كانت الزوجة مطيعة لزوجها في الفراش

،و تساكنه حيث يشاء، و لكنها تخاشنه في الكلام،و تقطب في وجهه،و تعانده في أمور كثيرة،إذا كان كذلك،و كان من طبعها و فطرتها،حتى مع أمّها و أبيها فلا تعد،و الحال هذي، ناشزا،أما إذا لم يكن ذلك من طبعها،و كانت حسنة المعشر مع الجميع إلاّ مع زوجها فتكون ناشزا لا تستحق النفقة.

4-إذا امتنعت الزوجة عن متابعة الزوج،حتى تقبض مهرها

ينظر:فإن كانت قد مكّنته من نفسها،و لو مرّة واحدة فلا يحق لها أن تمتنع بعد ذلك،و ان امتنعت تعد ناشزا،و ان لم تكن قد مكّنته إطلاقا فلا تعد ناشزا،و تستحق النفقة.

5-إذا حبست زوجها من أجل النفقة،أو الصداق

،فإن كان معسرا يعجز

ص:312

عن الوفاء تسقط نفقتها،لأنها ظالمة له،و ان كان موسرا مماطلا يكون هو الظالم، و تبقى النفقة.

6-إذا طلقت الزوجة في حال نشوزها فلا تستحق النفقة

،و إذا كانت معتدة من طلاق رجعي و نشزت في أثناء العدّة تسقط نفقتها،و ان عادت إلى الطاعة تعود النفقة،تماما كالزوجة.

العرف و نفقة الزوجة:

لا حقيقة شرعية لنفقة الزوجة،بل أوكل الشرع تحديدها إلى العرف،فكل ما يعده الناس لازما للنفقة فهو منها،و إذا جاء في بعض الروايات ما يشعر بالتحديد فإن القصد منه بيان ما عليه الناس،فان الشارع كثيرا ما يتكلم عن الشيء باعتباره أحد أفراد المجتمع،لا بصفته الشرعية،كقوله:«فليطعم يوم العيد أفضل الطعام».و الذي عليه أهل العرف أن نفقة الزوجة تشمل المأكل و الملبس و المسكن،و ما يتبع ذلك من الاخدام و الأدوات تبعا لعادة أمثالها.

و لا بد أن نأخذ الوضع المادي للزوج بعين الاعتبار،كما صرح بذلك القرآن الكريم لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ،وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (1).

و قال تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ (2).

و للزوجة تمام الحق في الاستقلال بالسكن مع زوجها،دون أن يكون معها أحد من أقارب الزوج فضلا عن الضرة،لقوله تعالى وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

ص:313


1- الطلاق:6. [1]
2- الطلاق:5. [2]

وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ .

ثمن الدواء:

قدمنا أن المرجع في تحديد النفقة هو العرف،و ليس من شك أن كل ما تحتاج إليه الزوجة فهو من النفقة في نظر العرف،و الحاجة إلى الدواء و التطبيب أشد من الحاجة إلى المأكل و الملبس و المسكن و الاخدام،و الأحمر و الأبيض، فإذا وجب هذا وجب ذلك بالأولية.

نفقة النفاس:

نفقة النفاس،و أجرة التوليد على الزوج إذا دعت الحاجة إليه.

ضمان نفقة الزوجة:

هل للزوجة أن تطالب الزوج بضامن يضمن نفقتها المستقبلية إذا عزم على السفر،و لم يصحبها معه،و لم يترك لها شيئا؟ قال أكثر الفقهاء:ليس لها ذلك،لأن النفقة لم تثبت بعد في ذمة الزوج، فيكون من باب ضمان ما لا يجب،و هو غير جائز.

و الذي نراه أن لها الحق بطلب الضمان،لأن سبب الضمان متحقق،كما هو الفرض،و هو الزوجية مع عدم النشوز.هذا،إلى أنّه لا دليل على عدم الجواز لضمان ما لم يجب.قال السيد اليزدي في العروة الوثقى،باب الضمان مسألة 38:

«لا مانع من ضمان ما لم يجب بعد ثبوت المقتضي،و لا دليل على عدم صحته من نص أو إجماع،و ان اشتهر في الألسن،بل في جملة من الموارد حكموا بصحته».

ص:314

و قال في مسألة 35:«لا يبعد صحة ضمان النفقة المستقبلية للزوجة، لكفاية وجود المقتضي،و هو الزوجية».

و قال السيد الحكيم في منهاج الصالحين ج 2 الفصل-الناشز في النفقات-:

«الأظهر جواز إسقاط النفقة في جميع الأزمنة المستقبلية».و ليس من شك أنّه إذا جاز الاسقاط جاز الضمان.

و قال الشيخ أحمد كاشف الغطاء في سفينة النجاة باب الضمان:«القول بالصحة ليس ببعيد ان لم يكن إجماعا،فتضمن نفقة الزوجة للمستقبل كالماضي و الحال».

و إذا وصل الأمر إلى الإجماع هان،لأن كل إجماع ينعقد بعد عهد الأئمة الأطهار يمكن الطعن فيه،فإذا احتملنا أن مستند الإجماع هنا هو اعتقاد المجمعين بأن النفقة المستقبلة لا يجوز ضمانها،لأنها ضمان ما لم يجب-إذا احتملنا هذا سقط الاستدلال بالإجماع،لأنه انما يكون حجة إذا كشف يقينا عن رأي المعصوم،و بديهة أن الاحتمال يتنافى مع اليقين.

و قد تكلمنا مفصلا عن ضمان ما لم يجب و نفقة الزوجة المستقبلة في «الجزء الرابع،باب الضمان فقرة-الحق المضمون».

التلف و الهبة و المصالحة:

كما يجوز ضمان النفقة المستقبلية و إسقاطها تجوز المصالحة عليها أيضا بمبلغ معين يتفق عليه الطرفان،و تجوز على إسقاطها بالمرة،و تملك الزوجة النفقة بالقبض،لرواية شهاب بن عبد ربه عن الإمام الصادق التي قال فيها عن نفقة الأقارب:«و ليقدر-رب العائلة-لكل من افراد عائلته قوته،فان شاء أكل،و ان

ص:315

شاء وهبه،و ان شاء تصدق به».قال صاحب الجواهر:«يدل صحيح شهاب على ملك النفقة قبل التمكين مثل غسل الجمعة يوم الخميس،و تقديم الفطرة قبل الهلال».و قال صاحب الحدائق:«ان استحقاق الزوجة للنفقة على وجه التمليك لا الانتفاع،لأن الانتفاع به لا يتم إلاّ مع ذهاب عينه».

و على هذا إذا دفع الزوج لزوجته نفقة الأيام المقبلة،ثم تلفت في يدها فلا يجب على الزوج الدفع ثانية،سواء أ كان ذلك لسبب قهري،أو للتهاون و التفريط،قال صاحب المسالك:«و حيث كان أخذها على سبيل الملك فلو سرقت منها أو تلفت لم يلزم الزوج مرة أخرى،حتى و لو لم يكن ذلك بتفريط».

و تسأل:إذا سلمها نفقة مدّة معينة،ثم طلقها أو نشزت قبل انتهاء المدّة فهل تعود النفقة إلى الزوج؟ الجواب:أجل،تعود إليه،و لا يتنافى هذا مع تملّك النفقة،لأن موضوع هذا التملك هو الزوجية و الطاعة،فإذا انتفى أحدهما انتفى الموضوع،و انتقلت النفقة إلى غيرها،تماما كتملك الإنسان لماله ما دام حيا،فإذا مات انتقل المال إلى الغير،و بالجملة ان أسباب انتقال المال من شخص إلى آخر كثيرة لا تنحصر بما ذكره الفقهاء ما دام لم يرد بالحصر آية و لا رواية.نقول هذا مع العلم بأنّا في غنى عن كل توجيه،مع وجود النص الذي هو معيار الأحكام و مصدرها.

قضاء نفقة الزوجة:

نفقة الزوجة تقضى كالدين بالإجماع،و إذا كان للزوج دين على زوجته جاز له أن يحتسبه من نفقتها الماضية و الحاضرة و المستقبلة على شريطة أن تكون موسرة،أما إذا كانت معسرة فلا،لأن وفاء الدين يجب مع اليسر لا مع العسر.

ص:316

البائن تدعي الحمل:

تقدم أن المطلقة بائنا تستحق النفقة مع الحمل،و لا نفقة لها بدونه،فإن علم أنّها حامل فعلى المطلق أن يسلمها النفقة،و مع عدم العلم بالحمل،و دعواها إياه،فهل تصدّق أو لا؟ الجواب:تصدق،لقول الإمام عليه السّلام:«فوض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء:

الحيض و الطهر و الحمل».

و عليه،فإذا تبين الحمل فذاك،و إلاّ كان للمطلّق الرجوع عليها بما دفعه لها،لحديث:«على اليد ما أخذت،حتى تؤدي».و:من أتلف مال غيره فهو له ضامن.

التنازع:
1-إذا اختلف الزوجان في الإنفاق

،مع اعتراف الزوج بأنّها تستحق النفقة،فقالت هي:لم ينفق.و قال هو:أنفقت،ينظر:فإن كانت تقيم معه في بيت واحد،فالقول قوله،و ان كان كل منهما في مكان فالقول قولها.

2-إذا اعترف الزوج بعدم الإنفاق محتجا بنشوزها

،و لم تعلم بحالها السابقة،و أنّها هل كانت مطيعة أو ناشزة،إذا كان كذلك تكلف هي بإثبات أنّها مطيعة،و يكفي في الدلالة على اطاعتها أن تقيم البينة على أنّها سكنت في البيت الذي أسكنها فيه،أو أنّها طلبت منه بيتا صالحا فلم يهيئه،و ما إلى ذلك مما يستكشف منه المتابعة و الانقياد،و لا تقبل هنا شهادة النساء منفردات و لا منضمات.

3-إذا تركت بيت الزوج محتجة بأنه طردها

،أو اذن لها بالخروج،و أنكر

ص:317

هو فعليها البينة،و عليه اليمين.

4-إذا بقيت الزوجة بعد اجراء العقد مدّة في بيت أبيها

،ثم طالبته بنفقة تلك المدّة تثبت لها النفقة إذا كان قد دخل بها و تصرف،أو أظهرت له الطاعة و المتابعة صراحة إذا دفع المهر المعجل.

5-إذا اتفقا على أنّه قد طلقها،و أنّها قد وضعت حملها

،و لكن قالت هي:

وضعت حملي أولا،ثم طلقني فأنا الآن في العدّة،ولي عليك نفقة العدّة.و قال هو:بل طلقتك أولا،ثم وضعت و أنت الآن غير معتدة،فلا تستحقين النفقة، فمن هو المدعي؟و من المنكر؟ و قد تقول هي:طلقتني أولا،ثم وضعت فلا رجعة لك عليّ،لأني غير معتدة،و يقول هو:بل وضعت أولا،ثم طلقتك فيحق لي الرجوع إليك،فمن هو المدعي؟و من المنكر؟ و للفقهاء أقوال،أصحها ان القول قولها بيمينها في الحالين،و عليه البينة، لأن أمر العدة بيدها نفيا و إثباتا،لقول الإمام عليه السّلام:«فوض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء:

الحيض و الطهر و الحمل».و في رواية ثانية:«و العدة».

قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:«ان في المسألة ثلاثة أقوال و ان الأقوى تقديم قولها،لأن أمر العدة إليها نفيا و إثباتا».

و على هذا،إذا ادعى هو أن الطلاق وقع قبل الوضع،و أنّها قد خرجت من العدّة،و عجز عن البينة حلفت هي اليمين،و حكم لها بالنفقة،و لكن لا يجوز له الرجوع إليها إلزاما بإقراره،كما أنّه لا يجوز لها أن تتزوج إلاّ بعد انقضاء العدّة إلزاما لها بإقرارها.

ص:318

نفقة الأقارب:

تجب على الآباء نفقة الأبناء،و ان نزلوا ذكورا و اناثا،و تجب على الأبناء نفقة الآباء و ان علوا ذكورا و اناثا،و لا تجب نفقة الاخوة و الأعمام و الأخوال،فقد سأل سائل الإمام الصادق عليه السّلام:من الذي أجبر عليه،و تلزمني نفقته؟قال:الوالدان و الولد و الزوجة.

و لفظ الوالدين يشمل الأجداد و الجدات،و لفظ الولد يشمل أولاد الأولاد باتفاق الفقهاء.

الشرط:

لا يشترط في وجوب هذه النفقة أن يكون القريب المنفق عليه عادلا أو مسلما.قال صاحب الجواهر:«تجب نفقة الأصول و الفروع،حتى و لو كان الأصل فاسقا أو كافرا بلا خلاف،لإطلاق الأدلة التي أوجبت النفقة على القريب خصوصا في الوالدين المأمور بمصاحبتهما بالمعروف مع كفرهما».يشير إلى الآية 15 من سورة لقمان وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً فإن الآية قد أوجبت على الإنسان أن يصحب والديه المشركين بالمعروف،و النفقة عليهما من الصحبة بالمعروف،بل من أظهر معانيها.

و الشرط الأساسي لوجوب الإنفاق أن يكون القريب المنفق عليه فقيرا عاجزا عن القيام بقوته و مؤنته،و المنفق غنيا قادرا على الإنفاق على غيره،بداهة أن القدرة شرط في التكليف كتابا و سنة و إجماعا.

و تسأل:هل يشترط في وجوب الإنفاق أن يكون القريب المنفق عليه

ص:319

عاجزا عن الاكتساب،بحيث لا يقدر على العمل،أو لا يجد العمل الذي يدرّ عليه القوت؟ الجواب:كل قادر على الاكتساب و العمل بما يليق بحاله فلا تجب نفقته على أحد والدا كان أو ولدا،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لاحظ في الصدقة لغني و لا لقوي مكتسب».قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لأن النفقة معونة على سد الخلة-أي الحاجة-و المكتسب قادر كالغني،و لذا لا يعطى من الزكاة و الكفارات المشروطة بالفقر».و تكلمنا عن ذلك مفصلا في الجزء الثاني«فصل:

المستحقون للزكاة،فقرة-مدعي الفقر».

و معنى قدرة المنفق على نفقة قريبة أن يفضل من ناتجه ما يزيد على نفقته و نفقة زوجته،حيث يجب توزيع الزائد عنهما على الآباء و الأبناء.

نفقة القريب و التزويج:

الواجب في نفقة القريب هو سد الحاجة الضرورية من الخبز و الإدام، و الكسوة و المسكن،لأنها وجبت لحفظ الحياة،و دفع الضرورة،و بديهة أن الضرورة تقدر بقدرها.

و لا يجب على الابن ان يزوج أباه،و لا على الأب أن يزوج ابنه،حتى و لو احتاجا إلى التزويج،لأنه ليس من النفقة في شيء،و الأصل عدم الوجوب.قال صاحب الجواهر:«لا يجب إعفاف من تجب النفقة له ولدا كان أو والدا.بلا خلاف معتد به».

ص:320

قضاء نفقة الأقارب:

تقضى نفقة الزوجة مطلقا،سواء قدّرها الحاكم و حكم بها أو لا،و سواء أمر الزوجة بالاستدانة أو لم يأمر،أما نفقة الأقارب فإنها لا تقضى،حتى و لو قدرها الحاكم و أمر بها،لأن تقديره لها،و حكمه بها لا يزيد عن أصل وجوبها.أجل، إذا أمر الحاكم بالاستدانة،و استدان القريب فيجب القضاء،لأن أمره بمنزلة أمر صاحب العلاقة.قال صاحب الجواهر:«لا تقضى نفقة القريب،لأنها مواساة لسد الخلة فلا تستقر بالذمة،و ان قدّرها الحاكم.نعم لو أمر الحاكم المنفق عليه بالاستدانة فاستدان وجب القضاء تنزيلا لأمر الحاكم منزلة أمره لكونه وليا بالنسبة إلى ذلك».

و قال صاحب المسالك،و هو يفرق بين نفقة الزوجة،و بين نفقة القريب:

«ان الغرض من نفقة القريب مواساته وسد خلته،فوجوبها لدفع الخلة، لا لعوض،فإذا أخل بها أثم،و لم تستقر في ذمته،فلا يجب قضاؤها،كما لو أخل بقضاء حاجة المحتاج الذي تجب عليه إعانته،بخلاف نفقة الزوجة فإنها تجب عوض الاستمتاع،فكانت كالمعاوضة المالية،فإذا لم يؤدها استقرت في ذمته، و وجب قضاؤها».

و ينبغي التنبيه إلى أن القريب لو حصل على نفقة يوم أو أكثر بطريق الدعوة إلى وليمة،أو الهدية،أو من الزكاة و الحقوق،و غير ذلك يسقط من النفقة بمقدار ما حصل له،حتى و لو كان الحاكم قد أمر بها أو باستدانتها.

النفس أولا ثم الزوجة ثم الأقارب:

إذا اجتمع على الواحد عيال كلهم محتاجون إلى النفقة و عجز عن الإنفاق

ص:321

عليهم جميعا،و استطاع ان ينفق على بعض دون بعض فمن يقدم؟و من يؤخر؟ و ليس من شك أنّه إذا قدر على نفقة الجميع فعليه نفقة الجميع،و إلاّ ابتدأ قبل كل الناس بنفسه،لأنها مقدّمة على جميع الحقوق من الديون و غيرها.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال،لاهمية النفس عند الشارع».فإن فضل عنه شيء ابتدأ بزوجته،لأن نفقتها تثبت على سبيل المعاوضة،لا على سبيل سد الخلة و المساواة،و لا شيء للقريب ان لم يفضل شيء عن الزوجة،و ان فضل عنها شيء فهو بين الأقارب بالسوية،لا فضل لوالد على ولد،و لا لولد على والد.

هذا هو حكم الدين،و ان جرت العادة على خلافه.

قال صاحب الجواهر:«إذا فضل ما يكفي الأب أو الابن كانا فيه سواء مع فرض انتفاعهما به،لأنهم مستوون في الدرجة،و متحدون من حيث القرابة القريبة،و إذا فرض أن الفاضل لا ينتفع به إلاّ واحد،و الأقارب اثنان أو أكثر فالمتجه القرعة،حيث لا يمكن الترجيح إلاّ بها بعد فرض التساوي في الدرجة.

و من هنا كان الأب أولى من الجد،لأنه أقرب درجة،و كذا الأم فإنّها أولى من الجدة لنفس السبب» (1).

المنفقون و تربيتهم:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك على أن نفقة الولد تجب على الأب،و ان فقد أو كان معسرا فعلى الجد من جهة الأب،و ان فقد أو كان معسرا فعلى الأم،ثم على أبيها و أمها و أم الأب بالسوية،و هؤلاء الثلاثة،أي الجدة و الجد

ص:322


1- نقلنا عبارة صاحب الجواهر مع التصرف باللفظ،و الاحتفاظ بالمعنى،لغاية الاختصار و التوضيح.

و الأم يشتركون جميعا في الإنفاق على الولد بالسوية ان كانوا موسرين،و إلاّ فعلى الموسر منهم خاصة.

و إذا كان للقريب أب و ابن،أو أب مع بنت وزعت النفقة عليهما بالسوية، و كذا إذا كان له أبناء متعددون توزع النفقة عليهم بالسوية،لا فرق بين الذكور و الإناث،و بالجملة لا بد من مراعاة الترتيب الأقرب فالأقرب فيما عدا الأب و الجد له حيث يقدمان على الأم،و مع التساوي في درجة الأقارب-غير الأم و الأب-توزع عليهم النفقة بالسوية من غير فرق بين الذكور و الإناث،و لا بين الفروع و الأصول إلاّ في تقديم الأب و الجد له على الأم،كما تقدم.

مدعي الفقر:

سبق أن النفقة لا تجب للقريب إلاّ إذا كان فقيرا معدما،و على هذا فان ادعى الفقر،و كان له مال ظاهر ردت دعواه،و إلاّ فان صدّقه القريب الغني وجبت عليه النفقة،و ان كذّبه فعليه أن يقيم البينة بأنّه غني،و ان عجز عنها حلف طالب النفقة، لأن الغني و اليسر أمر حادث،و الأصل عدمه،و متى حلف يحكم على قريبه بالنفقة بعد التثبت من مقدرته،و إذا قال:أنا أيضا فقير،و لم يكن له مال ظاهر فعلى طالب النفقة أن يثبت غنى المطلوب منه.و فصلنا الكلام عن مدعي الفقر في «فصل المفلس:فقرة حبس المديون ج 5».

و إذا وجبت نفقة القريب على قريبه،و امتنع عن القيام بها أجبره الحاكم عليها،فإن أصر على الامتناع تخير الحاكم بين حبسه،حتى ينفق،و بين أن يبيع من أمواله،و ينفق على القريب حسبما يراه ملائما،لأن النفقة بحكم الدّين، و الحاكم ولي الممتنع.

ص:323

المجلد 6

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

كتاب الطلاق

الطلاق

اشارة

جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق.ان اللّه يبغض كل ذوّاق من الرجال،و كل ذواقة من النساء.و ما من شيء أحب إلى اللّه من بيت يعمر بالزواج،و ما من شيء أبغض إلى اللّه من بيت يخرب بالفرقة.

ثم أن

للطلاق أربعة أركان:
اشارة

المطلق،و المطلقة،و صيغة الطلاق،و الاشهاد عليه.

المطلق:
يشترط في المطلق ما يلي:
1-البلوغ

،ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن طلاق الصبي لا يصح مميزا كان،أو غير مميز،بلغ عشرا،أو لم يبلغها،لأن البلوغ من الشروط العامة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يجوز طلاق الغلام،حتى يحتلم.

و هناك رواية أخرى تجيز طلاق الصبي إذا بلغ عشر سنين،و لكن أعرض عنها المشهور،و وصفها صاحب الشرائع بالضعف،و حملها صاحب الجواهر على ما إذا احتلم ابن العشر،و هو كامل العقل،كما يحصل ذلك في بعض البلدان الحارة.

ص:3

2-العقل

،فلا يصح طلاق المجنون مطبقا كان أو أدوارا حال جنونه،و لا المغمى عليه،و لا الذي غاب عقله بسبب الحمى،و لا النائم،و السكران،سواء أ كان السكر باختياره،أو أكره عليه.

3-الاختيار

،فلا يقع طلاق المكره،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى النصوص العامة،مثل رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه،و رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر الصادق عليهما السّلام:ليس طلاق المكره بطلاق،و لا عتقه بعتق.

4-القصد

،أي أن يتلفظ بالطلاق،و يقصد معناه حقيقة،فلو قصد،و لم يتلفظ،أو تلفظ،و لم يقصد لسهو أو نوم أو سكر أو غلط أو هزل لا يقع الطلاق، قال صاحب الجواهر:«للإجماع،و صحيح هشام عن الإمام الصادق عليه السّلام:لا طلاق إلاّ لمن أراد الطلاق.و قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:لا طلاق إلاّ بنية،و لو أن رجلا طلق،و لم ينو الطلاق لم يكن طلاقه طلاقا».

و إذا تلفظ بصيغة الطلاق،ثم قال:لم أقصد الطلاق،فهل يقبل قوله؟ الجواب:إذا صدقته هي في قوله قبلت دعواه،سواء أ كانت في العدّة أو بعدها،قال صاحب الجواهر:«لا خلاف أجده في قبول دعواه إذا صدقته،لأن الحق منحصر فيهما،بل ظاهر الفقهاء على ذلك،حتى مع انقضاء العدة».

و ان لم تصدقه يقبل منه ما دامت المرأة في العدة،لبقاء العلاقة الزوجية، و لا يسمع قوله إذا ادعى ذلك بعد انقضاء العدّة،لأن هذا التأخير قرينة ظاهرة على كذبه،كما جاء في الجواهر نقلا عن«كشف اللثام».

ص:4

طلاق الولي:

ليس للأب أن يطلق عن ابنه الصغير،و بالأولى غيره،لحديث:«الطلاق بيد من أخذ بالساق»و لأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يزوج ابنه،و هو صغير؟ قال:لا بأس.قال السائل:يجوز طلاق الأب؟قال الإمام:لا.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن الصبي إذا بلغ فاسد العقل بحيث اتصل جنونه بالصغير فإنه لأبيه،أو جده من جهة الأب أن يطلق عنه،مع وجود المصلحة،فإن لم يكن أب و لا جد لأب طلق عنه الحاكم،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن طلاق المعتوه؟قال:«يطلق عنه وليه،فإني أراه بمنزلة الإمام».

و علق صاحب الجواهر على هذه الرواية و غيرها الواردة في ذلك علق بقوله:لا إشكال في دلالة النصوص على صحة طلاق الولي عنه.

الوكالة في الطلاق:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن للزوج غائبا كان أو حاضرا أن يوكل من شاء في طلاق زوجته،لإطلاق أدلة الوكالة.

و قال الشيخ الطوسي و ابن حمزة و ابن البراج و غيرهم:ان التوكيل في الطلاق يصح من الغائب دون الحاضر.

و تسأل:هل يجوز أن تكون هي وكيلة من قبل الزوج في طلاق نفسها.

قال صاحب الحدائق ما نصه بالحرف:«قال الشيخ-أي الشيخ الكبير المعروف بالشيخ الطوسي-في المبسوط:«و ان أراد أن يجعل الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح من المذهب»،و توقف صاحب الحدائق عن الحكم،أما صاحب الجواهر فقال:«و على كل حال فالاحتياط لا ينبغي تركه».

ص:5

أجل،يجب هنا الاحتياط،لأن الفروج،تماما كالدماء،و لأن توكيلها من الشبهات التي يجب الوقوف عندها.هذا،إذا كان توكيلها بالطلاق بعد العقد،أما إذا اشترط ذلك في متن العقد بحيث يجوز لها أن تطلق نفسها متى تشاء يبطل الشرط جزما و يقينا،لأنه تحايل على اللّه بجعل الطلاق في يدها،و وقوعه بالرغم عن الزوج،و قد أجمع الفقهاء قولا واحدا على فساد كل شرط مخالف لكتاب اللّه و سنة نبيه،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل تزوج امرأة، و اشترطت عليه أن بيدها الجماع و الطلاق؟.قال:خالفت السنة،و وليت حقا ليست له بأهل.ان عليه الصداق،و بيده الجماع و الطلاق.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا طلاق إلاّ لمن أراد الطلاق».و لو صحت هذه الوكالة لصح أن توكل المرأة الخلية رجلا ضمن عقد لازم كالبيع أن يزوجها بمن يشاء،حتى و لو لم ترض به،و لا أظن أحدا يجرأ على فتح هذا الباب و هو يعلم عواقبه الوخيمة.

المطلقة:
اشارة

الركن الثاني من أركان الطلاق هو المطلقة،و يشترط فيها:

1-أن تكون بالفعل زوجة دائمة،فإذا قال:ان تزوجت فلانة فهي طالق، أو كل من أتزوجها فهي طالق كان لغوا بالإجماع،قال صاحب الجواهر:«بل لعله من ضرورات المذهب».

2-التعيين،و هو أن يقول:فلانة طالق،أو يشير إليها بما يرفع الإبهام و الاحتمال.

3-إذا طلق المدخول بها غير الآئسة و الحامل فيجب أن تكون في طهر لم

ص:6

يواقعها فيه،فلو طلقت،و هي في الحيض أو النفاس،أو في طهر المواقعة فسد الطلاق إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:ان المرأة إذا حاضت و طهرت من حيضها أشهد رجلين عدلين قبل أن يجامعها على تطليقه.

و قال الرازي في تفسير الآية من سورة الطلاق يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ .قال ما نصه بالحرف:«أي لزمان عدتهن،و هو الطهر بإجماع الأمة،و قال جماعة من المفسرين:الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرة من غير جماع،و بالجملة فالطلاق حال الطهر لازم،و إلاّ لا يكون سنيا،و الطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآئسة و الحامل».

و هذا عين ما قاله فقهاء الشيعة بالذات.و إذا وطأها حال الحيض فلا يصح طلاقها بعد انقطاع الحيض،بل لا بد من الانتظار حتى تحيض مرة ثانية،و ينقطع الحيض،و يطلقها في طهر آخر،لأن الشرط أن تستبرئ بحيضة بعد المواقعة،لا مجرد وقوع الطلاق في طهر لم يواقعها فيه،بل لا بد من الاستبراء بحيضة لم يواقعها فيها.

المسترابة:

هي التي في سن من تحيض،و لا تحيض-خلقة أو لمرض أو نفاس-و لا يصح طلاقها إلاّ بعد أن يمسك عنها الزوج ثلاثة أشهر على الأقل إجماعا و نصا، و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عنها؟فقال:يمسك عنها ثلاثة أشهر،ثم يطلقها.

ص:7

صحة الطلاق في الحيض:

اتفقوا على أن خمسا من الزوجات يصح طلاقهن في الحيض و غيره:

1-الصغيرة التي لم تبلغ التاسعة.

2-التي لم يدخل بها الزوج ثيبا كانت أو بكرا،مع الخلوة،و عدمها.

3-الآئسة،و هي التي بلغت سن الخمسين أن كانت غير قرشية،و الستين أن تكنها.

4-التي غاب عنها زوجها مدّة يمكن أن تحيض فيها،و تنتقل إلى طهر، و قدّرها كثير من الفقهاء بشهر،و فيه أكثر من رواية عن أهل البيت عليهم السّلام منها ما رواه إسحاق عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:الغائب إذا أراد أن يطلقها تركها شهرا.

و المسجون بحكم الغائب.

5-الحامل.و الدليل روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام منها قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:خمس يطلقهن الرجل على كل حال:الحامل المتيقن حملها،و التي لم يدخل بها زوجها،و الغائب عنها زوجها،و التي لم تحض-أي لم تبلغ التاسعة-و التي يئست من المحيض.

الصيغة:

الركن الثالث الصيغة،و كما أن عقد الزواج لا يقع إلاّ بلفظ«زوجتك و أنكحتك»تعبدا من الشارع كذلك الطلاق لا يقع إلاّ بلفظ«طالق»تعبدا من الشارع،فإذا قال:أنت الطالق مع الالف و اللام،أو المطلقة،أو طلقتك،أو الطلاق،و ما إلى ذلك كان لغوا،فقد جاء في صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن رجل،قال لامرأته:أنت خلية أو بريئة أو بائن أو حرام؟

ص:8

فقال:ليس بشيء.و في رواية بكير بن أعين عن الإمام عليه السّلام أن يقول لها،و هي في طهر من غير جماع:أنت طالق،و يشهد شاهدين عدلين،و كل ما سوى ذلك فهو ملغي.

فقول الإمام:«و كل ما سوى ذلك فهو ملغي»واضح لا يتحمل التفسير و التأويل،و الاجتهاد معه اجتهاد في مورد النص.و بالأولى أن لا يقع الطلاق،إذا قال له قائل:هل طلقت زوجتك؟فقال:نعم،حتى و لو قصد بنعم إنشاء الطلاق.

و لا يقع الطلاق بغير العربية مع القدرة على التلفظ بلفظ«طالق»،قال صاحب الجواهر:«وفاقا للمشهور لظاهر النصوص».و لا بالكتابة أو الإشارة إلاّ من الأخرس العاجز عن النطق،قال صاحب الجواهر:«قولا واحدا،للأصل و ظاهر النصوص».و كذلك لا يقع الطلاق بالحلف،و لا بالنذر،و لا بالعهد،و لا بالتعليق على شيء كائنا ما كان،و لا بشيء إلاّ بلفظ«طالق»مجردا عن القيود.

لا لشيء إلاّ تعبدا من الشارع الذي حصر الطلاق بهذه اللفظة دون غيرها،و ربما كانت الحكمة التضييق.

و إذا قال:أنت طالق ثلاثا،أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق،و قصد الثلاث لا تقع إلاّ واحدة،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،بل كأنّه من ضروري مذهب الشيعة».و في صحيح زرارة أنّه سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد،و هي طاهر؟قال:واحدة.

الإشهاد على الطلاق:

الركن الرابع الاشهاد فلا يقع إلاّ بحضور شاهدين عدلين،و لا تقبل شهادة النساء منفردات و لا منضمات،و إذا طلق ثم أشهد وقع الطلاق لغوا،إجماعا

ص:9

و كتابا و سنة متواترة،منها قول الإمام الصادق و أبيه الباقر عليهما السّلام:و ان طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع،و لم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق.و في رواية ثانية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:كان علي أمير المؤمنين عليه السّلام لا يجيز شهادة امرأتين في الزواج،و لا يجيز في الطلاق إلاّ شاهدين عدلين.

و قال الشيخ أبو زهرة-من علماء السنة-في كتاب الأحوال الشخصية، فصل إثبات الطلاق و الاشهاد فيه:

«قال فقهاء الشيعة:ان الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين،لقوله تعالى:

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق و جواز الرجعة فكان المناسب أن يكون راجعا إليه-أي إلى الطلاق-و ان تعليل الاشهاد بأنه يوعظ به من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر يرشح ذلك و يقويه،لأن حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين،فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى اللّه،و أنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي،فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين».

السني و زوجته الشيعية:

إذا كان الزوج سنيا،و الزوجة شيعية،و طلقها طلاقا معلقا،أو بلفظ ثلاثا، أو في طهر المواقعة،أو في حال الحيض و النفاس،أو بغير شاهدين،أو حلف عليها بالطلاق،أو ما إلى ذلك مما يصح عند السنة،و يبطل عن الشيعة،فهل يكون هذا صحيحا،أي نرتب عليه آثار الصحة،و تكون المطلقة خلية،يجوز

ص:10

التزويج بها بعد انقضاء العدة؟ اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على إلزام كل طائفة بما تدين،و ترتيب آثار الصحة على زواجهم و ميراثهم و طلاقهم،و جميع معاملاتهم إذا أوقعوها على وفق ما يدينون،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ألزموهم من ذلك ما ألزموا أنفسهم.

و في رواية ثانية أنّه سئل عن امرأة طلقها سني على غير الشروط عند الشيعة؟ فقال:تتزوج المرأة،و لا تترك من غير زوج.و في ثالثة:يجوز على أهل كل دين ما يستحلّون.و في رابعة من دان بدين قوم لزمته أحكامهم.

و على هذا فإذا طلق السني زوجته الشيعية على ما يعتقد هو فالطلاق صحيح،و لو طلق الشيعي زوجته السنية حسب ما تعتقد هي لا ما يعتقد هو فسد الطلاق،لأن الطلاق من فعل الرجل فيكون المعيار عقيدته هو لا عقيدتها.

و قال صاحب الجواهر:نرتب الآثار على كل ما هو صحيح عندهم فاسد عندنا،بل مقتضى رواية الإلزام أنّه يجوز لنا أن نتناول كل ما هو دين عندهم،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مات،و ترك ابنته و أخته لأمه و أبيه؟فقال الإمام عليه السّلام:المال كله لابنته،و ليس للأخت شيء.قال السائل:قد احتجنا إلى هذا، و الميت من السنة،و أخته من الشيعة؟قال الإمام عليه السّلام:خذ لها النصف،خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنتهم،و قضائهم،و قضاياهم،خذ بحقك في أحكامهم و سنتهم كما يأخذون منكم.

الطلاق سنة و بدعة:
اشارة

قسم الفقهاء الطلاق باعتبار شرعيته و عدمها إلى قسمين:طلاق السنة، و طلاق البدعة،و طلاق السنة هو الذي شرعه اللّه و رسوله،و يقع صحيحا تنحلّ به

ص:11

العصمة بين الزوجين،و طلاق البدعة هو غير المشروع،و تبقى العصمة على ما كانت.

و يدخل في طلاق البدعة أربعة أقسام:

أحدهما:أن يطلق الحائض أو النفساء بعد دخوله بها،و حضوره معها، و كونها حائلا،لا حاملا.

ثانيها:أن يطلقها في طهر واقعها فيه،و هي شابة غير حامل إذا كان حاضرا.

ثالثها:أن يطلقها ثلاثا بصيغة واحدة،أو بأكثر دون أن تتخلل الرجعة منه إليها بعد الطلاق الأول حيث تصح التطليقة الواحدة،و يفسد ما زاد عنها،كما سبق.

رابعها:أن يطلق بغير شهود.

أمّا طلاق السنة
اشارة

فهو أن يطلق الرجل زوجته مع الشروط المقررة،و توافرها كاملة على التفصيل السابق.

الطلاق رجعي و بائن:

ينقسم طلاق السنة إلى رجعي،و بائن.و الطلاق الرجعي هو ما يملك معه المطلق الرجعة إلى المطلقة ما دامت في العدة،سواء أ رضيت أم لم ترض،و من شرطه أن تكون المرأة مدخولا بها،لأن المطلقة قبل الدخول لا عدّة لها،لقوله تعالى في الآية 49 من سورة الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها .و من شرط الطلاق الرجعي أيضا أن لا يكون الطلاق عوض مال تدفعه الزوجة،لتفتدي به و تتحرر من قيد الزواج،و ان لا يكون مكملا للثلاث،كما تأتي الإشارة.

ص:12

و اتفقوا أن المطلقة الرجعية بحكم الزوجة،و للمطلق كل حقوق الزوج عليها،و يحصل التوارث بينهما لو مات أحدهما قبل الآخر و قبل انقضاء العدّة، قال الإمام الصادق عليه السّلام:المطلقة-أي الرجعية-تكتحل و تختضب،و تلبس ما شاءت من الثياب،لأن اللّه عزّ و جل يقول لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً .

و بالجملة ان الطلاق الرجعي لا يحدث شيئا سوى عدّة من التطليقات الثلاث.

أمّا الطلاق البائن فلا يملك المطلق فيه الرجعة إلى المطلقة،و هو يشمل عددا من المطلقات:

1-غير المدخول بها.

2-المطلقة ثلاثا.

3-المطلقة طلاقا خلعيا،و هي التي بذلت مالا،لتفتدي به،و يأتي الكلام عنها في الطلاق الخلعي.

4-الآئسة،و لا عدّة لها تماما كغير المدخول بها،أما الآية 4 من سورة الطلاق وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ فليس المراد من اللائي يئسن المعلوم يأسهن،بل معناه أن اللائي ارتفع حيضهن و لا تدرون:هل انقطع و ارتفع لمرض،أو لكبر فعدتهن ثلاثة أشهر بدليل قوله تعالى إِنِ ارْتَبْتُمْ فان المفهوم منه ان شككتم في المرأة نفسها،و انها قد بلغت حد اليأس أو لا فحكمها ان تعتد ثلاثة أشهر،و أما قوله تعالى وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ فان المراد به الشابات اللائي في سن من تحيض، و مع ذلك انقطع عنهن الدم.و سنعود إلى الكلام عن حكم الآئسة مرة ثانية إنشاء في فصل العدّة.

5-التي لم تبلغ التسع،و ان دخل بها.

ص:13

المطلقة ثلاثا و المحلّل:

من طلق زوجته ثلاث مرات فلا تحل له،حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا،و يدخل بها المحلل حقيقة،لقوله تعالى في الآية 230 من سورة البقرة:

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ،حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا .

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:المطلقة التطليقة الثالثة لا تحل له،حتى تنكح زوجا غيره،و يذوق عسيلتها.

و يشترط أن يكون المحلل بالغا،و ان يكون الزواج دائما،و ان يدخل،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل طلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له،حتى تنكح زوجا غيره،فتزوجها غلام لم يحتلم؟قال:لا،حتى يبلغ.و أيضا سئل عن امرأة طلقت ثلاثا،ثم تزوجت متعة،أ تحل للأول؟قال:لا.فان اللّه يقول:فان طلقها- أي الثاني-فلا جناح عليهما أن يتراجعا،و المتعة ليس فيها طلاق.أمّا شرط الدخول فيدل عليه قول الإمام عليه السّلام في الرواية السابقة:«و يذوق عسيلتها».

و إذا حللها بالشروط الثلاثة،ثم فارقها بموت أو طلاق،و انقضت عدتها جاز للأول أن يعقد عليها ثانية،فإذا عاد و طلق ثلاثا تحرم عليه،حتى تنكح زوجا غيره،و هكذا تحرم بعد كل طلاق ثالث،و تحل بنكاح المحلل،و ان طلقت مائة مرة،إلاّ في صورة واحدة،و هي ما إذا طلقت تسع مرات للعدة،و تزوجت مرتين فإنها تحرم مؤبدا.و معنى طلاق العدة أن يطلقها،ثم يراجعها،و يطأها،ثم يطلقها في طهر آخر،ثم يراجعها و يطأها،ثم يطلقها،و يحللها المحلل،ثم يتزوجها الأول بعقد جديد،و يطلقها ثلاثا للعدة،كما فعل أولا،ثم يتزوجها الأول،فإذا طلقها ثلاثا،و تم طلاق العدة تسع مرات حرمت عليه أبدا،قال صاحب الجواهر

ص:14

«الإجماع على ذلك»،ثم ذكر روايات عن أهل البيت عليهم السّلام منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:و الذي يطلق الطلاق الذي لا تحل له،حتى تنكح زوجا غيره ثلاث مرات و تزوج ثلاث مرات لا تحل له أبدا.

و إذا لم يكن الطلاق للعدة،كما إذا طلق،ثم رجع في العدّة،ثم طلق قبل أن يطأ،أو طلق و اعتدت و بعد الانتهاء من العدة تزوجها،ثم طلقها لم تحرم مؤبدا، بل تحل بمحلل،و ان بلغت التطليقات ما لا يبلغه الإحصاء.

الشك و التردد:

إذا شك في صدور الطلاق،و أنّه هل طلق أو لا؟فالأصل عدم الطلاق،و إذا علم بأنه طلق،و لم يدر:هل طلق مرّة أو أكثر؟.فالأصل عدم الزيادة على ما هو المتيقن.

تصديق المطلقة بالتحليل:

إذا طلقها ثلاثا،و غاب عنها،أو غابت عنه مدّة تتسع لمضي العدّة منه، و الزواج و الطلاق و مضي العدّة من غيره،و ادعت أنّها تزوجت،و طلقت، و اعتدت،إذا كان كذلك يقبل قولها بلا يمين،و للأول أن يتزوجها إذا اطمأن إلى صدقها،و لا يجب عليه الفحص و البحث،قال صاحب الجواهر:«لم أجد فيه خلافا محققا،لرواية حماد الصحيحة عن الإمام الصادق عليه السّلام في رجل طلق امرأته ثلاثا،فبانت منه،فأراد مراجعتها،فقال لها:اني أريد مراجعتك فتزوجي زوجا غيري،فقالت:قد تزوجت زوجا غيرك،و حللت لك نفسي؟أتصدّق، و يراجعها،و كيف يصنع؟قال الإمام:إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها».

ص:15

و علق صاحب الجواهر على هذه الرواية:«بأن وثاقة المرأة و أمانتها في أخبارها ليس بشرط،لعدم القائل باعتباره،و لأنه لا مدخلية لوثاقة المدعي من حيث كونه كذلك في تصديقه،و الإمام عليه السّلام إنّما ذكر هذا الشرط للاستحباب لا للوجوب».و نقول:ان الأمر يدل على الوجوب،و الاستحباب يحتاج إلى قرينة، و لا قرينة هنا،و لا خصم مكذب لها،كي يقال:لا مدخلية لوثاقة المدعي و عدم القائل لا يخيفنا.

يدخل و يدعي الطلاق:

جاء في كتاب الشرائع و الجواهر ان الغائب إذا طلق،و انقضت العدة،ثم حضر،و دخل بالزوجة،و بعد هذا ادعى الطلاق لم تقبل دعواه،و لا تسمع منه البينة تنزيلا لتصرفه على المشروع،و هو بفعله مكذّب لنفسه،و إذا ولدت ألحق به الولد،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل طلق امرأته،و هو غائب،و اشهد على طلاقها،ثم قدم فأقام مع المرأة أشهرا لم يعلمها بطلاقها،ثم أن المرأة ادعت الحمل،فقال الرجل:قد طلقتك و أشهدت على طلاقك؟فقال الإمام عليه السّلام:يلزمه الحمل،و لا يقبل قوله.

ص:16

الخلع و المبارأة

الخلع:
اشارة

الخلع بضم الخاء،و هو إبانة الزوجة على مال تفتدي به نفسها،و الأصل فيه قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها (1).و قوله في الآية 4 من سورة النساء فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً .

و جاء في الحديث أن ثابت بن قيس كان متزوجا بنت عبد اللّه بن أبي، و كان هو يحبها،و هي تبغضه،فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و قالت:يا رسول اللّه لا أنا و لا ثابت،لا يجمع رأسي و رأسه شيء،و كان ثابت قد أصدقها حديقة،فقال ثابت:و الحديقة،فقال لها الرسول:ما تقولين؟فقالت:نعم،و أزيده.قال الرسول:لا،الحديقة فقط.فاختلعت منه.و قيل هذه الحادثة سبب في نزول الآية.

و يقع الكلام في صيغة الخلع،و في الفدية،و الشروط و الأحكام،و سيتضح معنا أن الخلع قسم من أقسام الطلاق،و أنّه يعتبر فيه جميع ما يعتبر في الطلاق بزيادة الفدية و الكره من الزوجة.

ص:17


1- البقرة:229. [1]
الصيغة:

لا يقع الخلع بلفظ الكناية،و لا بشيء من الألفاظ الصريحة فيه الا بلفظين فقط،و هما الخلع و الطلاق مع الفدية،فأيهما حصل كفى،فإذا قالت له:بذلت لك كذا لتطلقني،فقال هو:خلعتك على ذلك،أو قال:أنت طالق على ذلك صح،و الأفضل أن يجمع بين الصيغتين،و يقول:خلعتك على كذا فأنت طالق، فان وقوع الخلع مع الجمع بين لفظي الخلع و الطلاق محل وفاق بين الجميع، و يدل على الاكتفاء بالخلع من غير لفظ الطلاق قول الإمام الصادق عليه السّلام:عدّة المختلعة عدّة المطلقة،و خلعها طلاقها،و هي تجزي من غير أن يسمى طلاقا.

أمّا الاكتفاء بلفظ الطلاق مع البذل فقال صاحب الحدائق:ان ظاهر الفقهاء على ذلك من غير خلاف يعرف،و جاء في كتاب الشرائع و الجواهر:يقع الخلع بالطلاق مع الفدية،و ان انفرد عن لفظ الخلع،لكون الخلع نوعا خاصا من الطلاق.

و نحن و ان كنّا نظريا نكتفي بواحد من لفظ الخلع أو الطلاق مع الفدية، و لكنا عمليا نجمع بينهما معا،و نأمر الرجل أو وكيله أن يقول:هكذا خلعتها على ما بذلت فهي طالق.لأنه أحوط للدين،بخاصة بعد أن أوجبه الشيخ و ابن زهرة و ابن إدريس،و جعفر و الحسن ابنا سماعة و علي بن رباط و ابن حذيفة من المتقدمين،و علي بن الحسن من المتأخرين،كما جاء في كتاب الجواهر،بل فيه رواية عن الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام.

و إذا اقتصر على الخلع مجردا عن لفظ الطلاق فهل يقع طلاقا يحسب من الثلاث،أو يكون فسخا لا يعد من التطليقات الثلاث؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أنّه طلاق لا فسخ،

ص:18

لقول الإمام الصادق عليه السّلام:خلعها طلاقها.و قوله في رواية ثانية:إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائن،أي يعد الخلع تطليقة واحدة.

و اتفقوا على أن صيغة الخلع يجب أن تكون مطلقة غير معلقة على شيء، فلو قال:خلعتك ان كان كذا لم يصح.و أيضا اتفقوا على أن الخلع يجب أن يعقب البذل فورا،و بلا فاصل،فان تراخ لم يستحق العوض،و وقع الطلاق رجعيا ان كان قد دخل،و لم تكن آيسة،و علل صاحب الجواهر وجوب الفور بأن المعاوضة تقتضيه.

و يلاحظ بأنّه لا دليل على الفور من الشرع،و لا من العقل،فالمعيار،اذن، أن تبقى ارادة المرأة للبذل قائمة إلى حين الخلع،فان رجعت عن البذل قبل الخلع بطل،و إلاّ صح.و سبق الكلام عن الفور في العقود في الجزء الثالث-فصل شروط العقد،فقرة«الموالاة».

الفدية:

الفدية هي العوض الذي تبذله المرأة للزوج كي يطلق سراحها،و كل ما يصح أن يكون مهرا يصح أن يكون فدية،و كل ما لا يصح أن يكون مهرا لا يصح أن يكون فدية،و يجوز أن تكون بمقدار المهر،و أقل منه،و أكثر إجماعا و نصا، و منه قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:يخلعها بما تراضيا عليه من قليل أو كثير.

و لا يشترط أن تكون الفدية معلومة بالتفصيل،بل تكفي المعرفة الإجمالية،كما هو الشأن في المهر،بل هنا أولى،فيجوز أن يخلعها على ما لها في ذمته من مهر و نفقة،و ان لم يعرف المبلغ،و كذا على ما في الصندوق،أو في

ص:19

البيت،أو ثمرة البستان،حيث يؤول إلى العلم،قال صاحب الجواهر:«كل ذلك و ما إليه صحيح،لاقتضاء ذلك عموم الأدلة و إطلاقها».

و يصح أن يكون الفداء منها،و من وكيلها القائم مقامها،و من أجنبي إذا طلبت هي منه ذلك،أما إذا تبرع من تلقائه فلا يصح البذل،و لا الخلع الذي بني عليه،قال صاحب الجواهر:«ان المستفاد من الكتاب و السنة مشروعية الفدية منها،و لو بواسطة وكيلها،أما المتبرع فيبقى على أصل المنع،لأنه لا إطلاق و لا عموم يقتضي مشروعية ذلك».

أجل،لو بذل له مالا على أن يطلقها،ففعل،بحيث يكون البذل داعيا إلى الطلاق،و لم يبن الطلاق عليه بالذات صح،و لكن يقع رجعيا لا خلعيا.

و إذا ما خالعته على مال خاص باعتقاد أنّه ملك لها فبان لغيرها،فإن أجاز المالك فذاك،و إلاّ كان له البدل من المثل أو القيمة.

و إذا خالعته على إرضاع ولده و نفقته مدّة معينة صح،و لزمها الوفاء،و كذا تصح المخالعة على إرضاع الحمل و الإنفاق عليه أمدا معينا ان ولد حيا،لأن المقتضي موجود،و هو الحمل،و تعهدها بمنزلة الشرط على نفسها،و المؤمنون عند شروطهم ما لم يحلل الشرط حراما،أو يحرم حلالا.و بديهة أن هذا الشرط سائغ شرعا،فيجب الوفاء به،لأنه أخذ في صيغة لازمة.

و إذا خلعها على نفقة الولد،ثم عجزت عن الإنفاق عليه فلها أن تطالب أباه بالنفقة،و يجبر عليها،و لكنه يرجع على الأم بما أنفق إذا أيسرت.

الشروط:

يشترط في كل منهما العقل و البلوغ و الاختيار و القصد،و يصح البذل من

ص:20

وليها،و الخلع من وليه مع المصلحة.

و يصح الخلع منه حتى و لو كان مريضا مرض الموت،أو محجّرا عليه لسفه أو فلس،سواء أ كان العوض بقدر المهر أو أقل،لأن الخلع لا يستدعي بذل المال،بل هو موجب لكسب المال،و لأنه لو طلق مجانا لصح،فالطلاق بعوض أولى.أجل،يسلم العوض في خلع السفيه إلى وليه،و لا يصح تسليمه للمخالع.

أما هي فلا يصح بذلها إذا كانت سفيهة إلاّ بإذن الولي،و يصح بذلها إذا كانت مفلسة على شريطة أن تبذل شيئا لا يتعلق به حق الغرماء،أمّا المريضة مرض الموت فان خالعته بمقدار مهر أمثالها دون زيادة جاز و نفذ من الأصل، تماما كما لو باع المريض أو اشترى بالقيمة السوقية،أما إذا بذلت أكثر من مهر المثل فيخرج مقدار مهر المثل من الأصل،و ما زاد فمن الثلث.

قال صاحب المسالك:«هذا هو المشهور بين الفقهاء و المعمول به بينهم».

و قال صاحب الشرائع:«و هو أشبه بأصول المذهب و قواعده».

و يشترط في المختلعة بالإضافة إلى كل ذلك أن تكون في طهر لم يواقعها فيه إذا كان قد دخل بها،و كانت غير صغيرة،و لا آيسة،و لا حامل،تماما كما هو الشأن في المطلقة.و أيضا يشترط في صحة الخلع حضور شاهدي عدل،و إلاّ كان لغوا،كما هي الحال في الطلاق.و أيضا يشترط في كل من البذل و صيغة الخلع التنجيز و عدم التعليق.

الكراهية:

خصصنا الكراهية بفقرة مستقلة،مع أنّها من جملة الشروط،لاهميتها، و عدم تنبه الكثيرين إليها،و على أيّة حال فقد اتفقوا قولا واحدا على أن الخلع لا

ص:21

يصح،و لا يجوز للرجل أخذ العوض إلاّ إذا كانت هي وحدها كارهة للزوج،فإذا لم تكن هناك كراهية إطلاقا لا منها و لا منه،أو كانت منه دونها لم يصح البذل، و حرم عليه أخذه،و يقع الخلع طلاقا رجعيا مع تحقق شروطه،و إذا كانت الكراهية منهما معا تكون مباراة،و يأتي الكلام عنها في فقرة على حدة آخر هذا الفصل.

و الدليل على شرط الكراهية منها بعد الإجماع النصوص المستفيضة أو المتواترة على حد تعبير صاحب الجواهر،منها الحديث المتعلق بزوجة ثابت بن قيس الذي ذكرناه في أول هذا الفصل فقرة«الخلع»و منها قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:لا يكون الخلع،حتى تقول:لا أطيع لك أمرا،و لا أبر لك قسما،و لا أقيم لك حدا-أي لا أحترم أحكامك و أقوالك-فخذ مني و طلقني،فإذا قالت ذلك فقد حل له أن يخلعها بما تراضيا عليه من قليل أو كثير.

و لا فرق بين أن تقول ذلك بهذا اللفظ،أو بما يؤدي معناه،أو بالفعل و بلسان الحال.

أحكام الخلع:
1-إذا توعدها،أو أساء معاملتها بقصد أن تبذل و تفتدي نفسها منه فبذلت

خوفا منه

،أو للتخلص من إساءته فهو آثم،و لا يحل له شيء من الفدية،لأنّه لا يحل مال امرئ إلاّ عن طيب نفس،و إذا وقع الخلع مبنيا على هذا البذل وقع عند الفقهاء رجعيا،قال صاحب الجواهر:«لا خلاف معتد به في صيرورة الطلاق رجعيا إذا كان مورده كذلك،و لا يستلزم بطلان البذل بطلان الطلاق».

و يلاحظ بأن الصيغة وقعت و أنشئت مبنية على البذل،و المبني على الفاسد

ص:22

فاسد،و عليه فلا يقع الخلع بهذه الصيغة،لأنه و ان قصد بها الخلع إلاّ أن المقصود غير صحيح،و لا يقع الطلاق الرجعي،لأنه لم يقصد،و لا نص في المورد ليجب التعبد به،فيتعين الحكم بالبطلان من الأساس بذلا و طلاقا.

و إذا أساء معاملتها لا بقصد أن تبذل له،بل لنقص في طبعه،أو ضعف في دينه،و بذلت و خلع مبنيا على هذا البذل صح البذل و الخلع،لعدم صدق الإكراه.

2-ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الحدائق إلى أنّها إذا أتت بفاحشة

جاز له أن يعضلها

،و يسئ إليها كي تبذل الفدية،لقوله تعالى وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ (1).قال صاحب الجواهر:

قيل:«ان هذه الآية منسوخة بآية اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا .و لكن لم يثبت النسخ، و لا قائل به منا».

3-المختلعة إذا لم يكن لها عدة كغير المدخول بها

،أو كان لها عدة، و لكن كان طلاقها مكملا للثلاث-لا يجوز لها أن ترجع عما بذلته.

و إذا كانت في العدة من غير الطلاق الثالث فلا يحق له الرجوع إليها،و لها هي أن ترجع أثناء العدة عن الشيء الذي بذلته على شريطة أن يعلم هو برجوعها قبل انقضاء العدة،فإن علم به كان له أن يرجع بالطلاق،فان رجع تصبح زوجة شرعية له من غير حاجة إلى عقد جديد،و ان علم و لم يرجع تكون مطلقة رجعية يثبت لها جميع ما للرجعية من وجوب النفقة و التوارث،لقول الإمام عليه السّلام:«تبين منه،و ان شاءت أن يرد إليها ما أخذ منها،و تكون امرأته فعلت».قال صاحب المسالك:«المراد بقول الإمام عليه السّلام:«و تكون امرأته»أن طلاقها حينئذ يكون رجعيا،و الرجعية بمنزلة الزوجة للإجماع على أنّها تصير امرأته بمجرد

ص:23


1- النساء:18. [1]

رجوعها».

4-إذا لم ترجع بالبذل يجوز أن يعقد عليها أثناء العدة بعقد جديد

،و مهر جديد،لأنّها أجنبية،و لا يجوز ذلك في المعتدة الرجعية،لأنها زوجة.

5-لا توارث بين المختلعة،و المطلق إذا مات أحدهما قبل انقضاء العدة

، و يثبت التوارث في المعتدة الرجعية.

6-المختلعة تعتد أينما شاءت

،و لا نفقة لها إلاّ إذا كانت حاملا كما تقدم في الجزء الخامس باب الزوج.

المبارأة:
اشارة

المبارأة بالهمزة،و معناها المفارقة،تقول:بارأت شريكي،أي فارقته، و هي تماما كالخلع في الشروط و الأحكام،قال الإمام الصادق عليه السّلام:المبارأة تطليقة بائن،و ليس فيها رجعة.و قال:لا مباراة إلاّ على طهر من غير جماع بشهود.

و قال:لا ميراث بينهما،لأن العصمة قد بانت.

و تفترق عن الخلع من وجوه:
1-أن تكون الكراهية من الزوجين

،فان لم تكن كراهية،أو كانت من أحدهما فقط لم تصح بلفظ المبارأة،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى موثق سماعة عن الإمام الصادق عليه السّلام:سألته عن المبارأة،كيف هي؟ فقال:يكون للمرأة شيء على زوجها من صداق أو من غيره،و يكون قد أعطاها بعضه،فيكره كل منهما صاحبه،فتقول المرأة لزوجها،ما أخذته منك فهو لي، و ما بقي عليك فهو لك،و أبارئك،فيقول لها:فإن أنت رجعت في شيء مما تركت فأنا أحق ببضعك».

ص:24

2-يجب أن تكون الفدية بمقدار المهر فما دون

،و لا تجوز الزيادة عنه، لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يحل لزوجها أن يأخذ منها إلاّ المهر فما دونه.

3-أن الخلع يصح بلفظ خلعتك،و ان لم يتبعه بالطلاق كما تقدم

،أما المبارأة فتصح بلفظ بارأتك،و فاسختك و ابنتك على شريطة أن يتبعه بالطلاق، كما يصح الاقتصار على الطلاق،فيقول لها:أنت طالق.بكذا أو على كذا فلفظ الطلاق لا بد منه على كل حال،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«لا بد فيها من الاتباع بالطلاق على المشهور،بل لا نعلم فيه مخالفا،و ادعى جماعة أنّه إجماع».

و إذا كان لا بد من لفظ الطلاق فأي لفظ اقترن بالطلاق جاز،سواء أ كان صريحا أو كناية،إذ المعوّل على الطلاق،و لذا لو اقتصر عليه وحده جاز.

ص:25

العدة

اشارة

وجوب العدة في الجملة من ضرورات الدين،لا يختص القول به بمذهب دون مذهب،و الأصل فيه قوله تعالى وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .و قوله وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً .

أما السنة فقد تجاوزت حد التواتر،منها هذا الحديث الشريف:«من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يغشى رجلان امرأة في طهر واحد».

و يتناول كلامنا التالي من لا عدة عليها،و التي عليها العدة إذا فارقها الزوج بطلاق أو فسخ،أو هبة المدة،كما في المتمتع بها،و في عدّة المتوفى عنها زوجها،و عدة من وطئت بشبهة،و استبراء الزانية،و في عدة زوجة المفقود،و

ما
اشارة

يترتب على ذلك من أحكام

.

لا عدّة:

1-لا عدة على من طلقها الزوج قبل أن يدخل بها بكرا كانت أو ثيبا، إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها 1.

ص:26

1-لا عدة على من طلقها الزوج قبل أن يدخل بها بكرا كانت أو ثيبا، إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا طلق امرأته،و لم يدخل بها فقد بانت منه، و تتزوج من ساعتها ان شاءت».و انتهاء مدّة المتمتع بها،أو هبتها بحكم الطلاق بإجماع الفقهاء،و كذا الفسخ.

و لا أثر للخلوة مع عدم الدخول مهما كان نوعها،و إذا فخّذ،و سبق الماء إلى فرجها فهل تجب العدّة؟ الجواب:تجب العدّة،لأن النص قد دل صراحة على أن العدة تجب بأحد أمرين:أما الدخول مطلقا أنزل أم لم ينزل،و أما دخول الماء من غير وطء،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل تزوج امرأة،فأدخلت إليه،و لم يمسها،و لم يصل إليها حتى طلقها،هل عليها عدة منه؟قال:إنما العدة من الماء.قال السائل:

فإن واقعها في الفرج،و لم ينزل؟قال الإمام عليه السّلام:إذا أدخله وجب المهر و الغسل و العدّة.

2-لا عدّة على من لم تكمل التسع ان كان قد دخل بها،ثم طلقها.

3-الآئسة،و هي التي بلغت الخمسين غير القرشية،و الستين ان كانت قرشية،و قد اختلف الفقهاء:هل عليها العدّة إذا طلقها الزوج بعد الدخول؟ و لهم في ذلك قولان:ذهب السيد المرتضى و ابن سماعة و ابن شهرآشوب كما في الجواهر،و ابن زهرة كما في الحدائق و المسالك ذهبوا إلى وجوب العدة عليها تماما كالشابة،لقوله تعالى في الآية 4 من سورة الطلاق وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ .و لما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام:أن عدة التي قعدت عن الحيض ثلاثة أشهر.

ص:


1- الأحزاب:49. [1]

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق و المسالك و غيرهم إلى أنّه لا عدّة لها،و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام يمكن دعوى تواترها على حد تعبير صاحب الجواهر،و من أجل كثرتها و صحة سندها و عمل المشهور بها وجب ترجيحها على الرواية التي أثبتت العدّة.أما الآية الكريمة فقد مر في فصل الطلاق فقرة«الطلاق رجعي و بائن»أن المراد من اللائي يئسن من المحيض المرأة التي انقطع عنها الدم،و لا نعلم سبب انقطاعه هل هو بلوغها سن اليأس أو عارض آخر،و ان هذه عليها أن تعتد بثلاثة أشهر،و الدليل قوله تعالى إِنِ ارْتَبْتُمْ .

1-عدة المطلقة الحامل:

المطلقة الحامل تعتد بوضع الحمل إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى:

وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (1).

و قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:طلاق الحامل واحدة،فإذا وضعت ما في بطنها فقد بانت منه.

و تخرج من العدة بإسقاط الحمل،حتى و لو كان غير تام الخلقة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن امرأة وضعت سقطا،و كان قد طلقها زوجها؟قال:كل شيء يستبين أنّه حمل تم أو لم يتم فقد انقضت عدتها،و ان كان مضغة.أي ان المعيار في السقط الذي تخرج به عن العدّة أن يعلم أنّه مبدأ لتكوين الإنسان(غير النطفة قطعا).

و إذا كانت حاملا بأكثر من واحد فلا تخرج من العدّة إلاّ بوضع الجميع،لأن

ص:28


1- الطلاق:4. [1]

المفهوم من قوله تعالى أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ و هو وضع الكل لا وضع البعض دون البعض.

و سبق أن انتهاء المدّة في المتمتع بها،و فسخ الزواج بحكم الطلاق،و عليه تكون عدة الحامل من فسخ أو انتهاء مدّة المتعة هي وضع الحمل تماما كالمطلقة الحامل.

2-دعوى الحمل بعد الطلاق:

إذا طلقها على الوجه الشرعي،و لم تدع الحمل حين الطلاق،و بعده بأمد قالت:أنا حامل،فهل تصدق؟ الجواب:إذا ادعت الحمل بعد أن مضى على وطئه لها أقصى مدّة الحمل فيرد قولها و لا تصدق،لأن الحمل،و الحال هذي،غير ممكن،و إذا لم تمض هذه المدّة وجب الصبر عليها سنة،فان وضعت قبل انتهائها ألحق الولد بالمطلق، و إلاّ فلا يلحق به.

و لا فرق في ذلك بين أن تكون معتدة بالأشهر،أو بالحيض،قال صاحب الحدائق في المجلد السادس ص 342 طبعة 1317 ه:«و ان تأخرت الحيضة الثانية أو الثالثة فقد استرابت بالحمل،و الأصل في هذا الحكم ما رواه الشيخ في التهذيب أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل طلق امرأته تطليقة على طهر من غير جماع طلاق السنة،و هي ممن تحيض،فمضى ثلاثة أشهر،فلم تحض إلاّ حيضة واحدة،ثم ارتفعت حيضتها،حتى مضت ثلاثة أشهر أخرى،و لم تدر ما رفع حيضها؟قال:إذا كانت شابة مستقيمة الطمث،فلم تطمث في ثلاثة أشهر إلاّ حيضة،ثم ارتفع طمثها-أي حيضها-فإنها تتربص تسعة أشهر من يوم طلاقها،

ص:29

ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر،ثم تتزوج ان شاءت.

3-عدة من استقام حيضها:

إذا طلق الرجل زوجته بعد أن دخل بها،و لم تكن حاملا و لا آيسة،و قد اعتادت أن يأتيها الحيض مرّة أو أكثر فيما دون الثلاثة أشهر،إذا كان كذلك فإنّها تعتد بثلاثة قروء،للآية 228 من سورة البقرة وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .و القرء هو الطهر،قال صاحب الجواهر،«عملا و رواية،بل لم أقف فيه على مخالف».

قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها،و حلت للأزواج.و أيضا قال:ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

انما القرء ما بين الحيضتين.و عليه فإذا طلقها في آخر لحظة من طهرها احتسب من العدة،و أكملت بعده طهرين.و المعتدة بسبب الفسخ،تماما كالمعتدة من الطلاق،أمّا المتمتع بها فتعتد بحيضتين،و يأتي الكلام عنها.

4-عدّة الشابة التي لا تحيض:

إذا كانت شابة في سن من تحيض،و لا تحيض،خلقة أو لمرض فإنّها تعتد مع الدخول،و عدم الحمل بثلاثة أشهر،سواء أفارقها بطلاق،أو بفسخ،أما المتمتع بها فعدتها 45 يوما كما يأتي،و يطلق الفقهاء على هذه الشابة التي لا تحيض اسم المسترابة.أمّا الدليل على أن عدتها ثلاثة أشهر فروايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:عدّة المطلقة ثلاثة قروء،أو ثلاثة أشهر ان لم تكن تحيض.و أيضا سئل عن رجل طلق امرأته بعد ما ولدت

ص:30

و طهرت،هي امرأة لا ترى دما ما دامت ترضع،ما عدتها؟قال:ثلاثة أشهر.

5-أقصر عدّة:

إذا أخبرت التي اعتدت بالأقراء بأنّها قد اعتدت و قضت عدّتها تصدّق إذا مضت مدّة يمكن انقضاء العدّة فيها،و أقل ما تصدق به المعتدة بالأقراء ستة و عشرون يوما و لحظتان،و ذلك أن يطلقها في آخر لحظة من الطهر،ثم تحيض ثلاثة أيام،و هي أقل مدّة الحيض،ثم يمر بها أقل الطهر عشرة أيّام،ثم تحيض ثلاثة أيّام،ثم يمر بها ثانية أقل الطهر عشرة أيّام،ثم تحيض،فمجرد رؤية الدم الأخير تخرج من العدّة،و لا بد من اللحظة الأولى من الحيض الثالث للعلم بتمامية الطهر الأخير.

و قال صاحب الجواهر:«هذا في ذات الحيض،و إلاّ فقد يتصور انقضاء العدّة بأقل من ذلك في ذات النفاس كأن يطلقها بعد الوضع قبل رؤية الدم بلحظة، ثم ترى النفاس لحظة،لأنه لا حد لأقله عندنا،ثم ترى الطهر عشرة أيام،ثم ترى الدم ثلاثا،ثم ترى الطهر عشرا فيكون مجموع ذلك 23 يوما و ثلاث لحظات:

لحظة بعد الطلاق،و لحظة للنفاس،و لحظة الدم الثالث».و لا بد من الإشارة إلى أن المراد بأقصر عدّة لمن كانت معتدة بالأقراء،و إلاّ فيمكن أن تكون العدّة أقل من ساعة،كما لو طلقها،و هي حامل،ثم وضعت بعد الطلاق،فإنها تخرج من العدّة بمجرد الوضع.

6 أطول عدّة:

قد تبين مما سبق أن من استقام حيضها تعتد بثلاثة قروء،و من لا تحيض

ص:31

و هي في سن من تحيض تعتد بثلاثة أشهر،و تسأل:إذا اعتدت هذه بالأشهر، و لكن قبل مضي ثلاثة أشهر بيض عاد إليها الدم،فما ذا تصنع؟ الجواب:تعتد بأسبق الأمرين من ثلاثة أشهر بيض،أو ثلاثة أقراء،بمعنى ان مضى لها ثلاثة أشهر بيض قبل أن تتم الأقراء انقضت عدتها،و ان مضى ثلاثة أقراء قبل ثلاثة أشهر انقضت عدتها أيضا،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«أي الأمرين سبق إليها فقد انقضت عدتها،فان مرت ثلاثة أشهر لا ترى فيها دما انقضت عدتها،و ان مرت ثلاثة أقراء انقضت عدتها».

قال صاحب الجواهر:«و بهذا يتضح لك عموم الضابط لكل معتدة من الطلاق،و ما يلحق به-كالفسخ-و هو أي الأمرين سبق إليها اعتدت به من غير فرق بين إفرادها جميعا».

أما إذا رأت الحيض قبل انقضاء الأشهر الثلاثة،و لو بلحظة صبرت تسعة أشهر،و لا يجديها نفعا أن تمر بعد ذلك ثلاثة أشهر بلا دم،و بعد انتهاء الأشهر التسعة فإن وضعت قبل انتهاء السنة خرجت من العدّة،و كذلك إذا حاضت و أتمت الأطهار،و إذا لم تلد،و لم تتم الأقراء قبل سنة اعتدت بثلاثة أشهر مضافة إلى التسعة فيكون المجموع سنة كاملة،قال صاحب الجواهر:«و الأصل في ذلك خبر سودة بن كليب،و هو ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل طلق امرأته تطليقة على طهر من غير جماع بشهود طلاق السنة،و هي ممن تحيض،فمضى ثلاثة أشهر فلم تحض إلاّ حيضة واحدة،ثم ارتفعت حيضتها،حتى مضت ثلاثة أشهر أخرى،و لا تدري ما رفع حيضتها؟قال:ان كانت شابة مستقيمة الطمث فلم تطمث في ثلاثة أشهر إلاّ حيضة واحدة،ثم ارتفع طمثها،فما تدري ما رفعه، فإنها تتربص تسعة أشهر من يوم طلاقها،ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر،ثم

ص:32

تتزوج ان شاءت».

7-عدّة المتمتع بها:

إذا انتهت مدّة المتمتع بها،أو وهبها ايّاها قبل أن يدخل فلا عدّة لها،لأنّها من أفراد آية ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ .فان انتهاء المدّة أو هبتها بحكم الطلاق.

و ان كانت حاملا فعدتها وضع الحمل إذا طلقها،لقوله تعالى وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ .

و ذهب المشهور بشهادة صاحب ملحقات العروة إلى أن عدّة المتمتع بها مع الدخول،و عدم الحمل حيضتان،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا انقضى الأجل بانت منه بغير طلاق،و يعطيها الشيء اليسير،و عدتها حيضتان.

و ان كانت في سن من تحيض،و لا تحيض فعدتها 45 يوما،قال صاحب الجواهر:«إجماعا و نصوصا،بل في خبر البزنطي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه قال:

قال:الإمام أبو جعفر عليه السّلام:عدّة المتمتع بها خمسة و أربعون يوما،و الاحتياط خمس و أربعون ليلة،بمعنى 45 يوما بلياليها،بل الأولى عدم اعتبار التلفيق».

و ان كانت آيسة فلا عدّة لها.

و ان توفي عنها فعدتها أربعة أشهر و عشرة أيّام،سواء أدخل أم لم يدخل، حتى و لو كانت صغيرة،و ان كانت حاملا اعتدت بأبعد الأجلين،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرّة كانت أو أمة،و على أي وجه كان النكاح متعة،أو تزوجها،أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر و عشرا».و يأتي الكلام عن عدّة الوفاة.

ص:33

8-عدّة من ارتد زوجها:

إذا كان الزوجان مسلمين،و ارتد الزوج ينظر:فإن كان قد ولد على فطرة الإسلام،كما لو كان أحد أبويه مسلما تبين منه زوجته في الحال،لوجوب قتله و تقسيم تركته،و عدم قبول توبته بالنسبة إلى الأحكام الدنيوية،و ان قبلت بينه و بين اللّه عزّ و جلّ،قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل مسلم ارتد عن الإسلام،و جحد محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذبه فإن دمه مباح لكل من سمعه،و امرأته بائنة منه يوم ارتد فلا تقربه،و يقسم ماله على ورثته،و تعتد امرأته عدّة المتوفى عنها زوجها،و على الإمام أن يقتله،و لا يستتيبه.

و إذا كان مرتدا عن ملة لا عن فطرة،أي لم يكن في الأصل مسلما،و لكنه أسلم،ثم ارتد،و هذا تقبل توبته،و لكن تحرم عليه زوجته المسلمة لمكان الإسلام،و عليه فإنها تعتد عدّة الطلاق،فان تاب أثناء العدّة فهو أملك بها،و إلاّ فقد بانت منه.

9-عدّة الوفاة:

إذا توفي عنها الزوج،و هي غير حامل فعدتها أربعة أشهر و عشرة أيّام، كبيرة كانت أو صغيرة،آيسة أو شابة،دخل بها أو لم يدخل دائمة أو منقطعة، لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ،وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً (1)و هذه الآية بإطلاقها تشمل الجميع،ما عدا الحامل للدليل الآتي.

و ذكرنا في الفقرة السابقة قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:على أي وجه كان النكاح فالعدة أربعة أشهر و عشرا إذا مات الزوج.

ص:34


1- البقرة:234. [1]

أمّا إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل و الأربعة أشهر و عشرة أيّام،فإن مضت الأربعة و العشرة قبل الوضع اعتدت بالوضع،و ان وضعت قبل مضي الأربعة و العشرة اعتدت بالأربعة و العشرة.

و الدليل على ذلك هو عملية الجمع بين آية يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و آية أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ،فالآية الأولى جعلت العدة أربعة أشهر و عشرا،و هي تشمل الحامل و غير الحامل إذا توفي عنها زوجها،و الآية الثانية جعلت عدّة الحامل وضع الحمل،و هي تشمل المطلقة،و من مات زوجها، فيحصل التنافي بين ظاهر الآيتين في المرأة الحامل التي تضع قبل الأربعة و العشرة،فبموجب الآية الثانية تنتهي العدّة،لأنها وضعت الحمل،و بموجب الآية الأولى لا تنتهي العدّة،لأن الأربعة و العشرة لم تنقض بعد.

و أيضا يحصل التنافي إذا مضت الأربعة و العشرة،و لم تضع،فبموجب الآية الأولى تنتهي العدّة،لأن مدّة الأربعة و العشرة قد مضت،و بموجب الآية الثانية لم تنته العدّة،لأنها لم تضع الحمل،و كلام القرآن يجب أن يلائم بعضه بعضا،بخاصة إذا كانت الآيتان على مستوي واحد في الظهور كما نحن فيه، و على هذا فإذا جمعنا الآيتين هكذا وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ، وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ يكون المعنى أن عدّة الوفاة أربعة أشهر و عشرة أيّام لغير الحامل، و للحامل التي تضع قبل مضي الأربعة و العشرة،و أن الحامل التي تضع بعد مضي الأربعة و العشرة عدتها وضع الحمل،و بهذا الجمع يستقيم الكلام،و قد أخذه فقهاء الشيعة عن أهل البيت عليهم السّلام الذين هم أدرى بما فيه.

و اتفقوا على وجوب الحداد على من توفي عنها زوجها ما دامت في العدّة،

ص:35

و معنى الحداد أن تجتنب كل ما من شأنه أن يحسّنها،و يدعو إلى اشتهائها،قال الإمام الصادق عليه السّلام:المتوفى عنها زوجها لا تكتحل للزينة،و لا تتطيب،و لا تلبس ثوبا مصبوغا،و لا تبيت عن بيتها،و تقضي الحقوق.

و المعيار في ترك الزينة هو العرف.

و اتفقوا على أن المطلقة طلاقا رجعيا إذا مات زوجها قبل انقضاء العدّة فعليها أن تستأنف عدّة الوفاة من حين موته،سواء أ كان الطلاق في مرض الموت،أو في حال الصحة،لأن العصمة بينها و بين المطلق لم تنقطع،و لذا يتوارثان،و تجب لها النفقة،أمّا لو كانت معتدة من طلاق بائن فإنها تمضي في عدتها،و لا تتحول إلى عدّة الوفاة،لانقطاع العصمة.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل طلق امرأته طلاقا يملك فيه الرجعة،ثم مات عنها؟قال:

تعتد بأبعد الأجلين أربعة أشهر و عشرا.

ثم أن مبدأ عدّة الطلاق من حين وقوعه حاضرا كان الزوج أو غائبا،و عليه فإذا طلقها،و لم تعلم،حتى مضت العدّة فلا يجب أن تعتد ثانية،أما مبدأ عدّة الوفاة فمن حين بلوغها الخبر إذا كان الزوج غائبا،أما إذا كان حاضرا،و افترض عدم علمها بموته إلاّ بعد حين فمبدأ العدّة من حين الوفاة،قال صاحب الجواهر:

«تعتد زوجة الحاضر من حين الطلاق أو الوفاة بلا خلاف أجده فيه،بل الإجماع على ذلك،لقاعدة اتصال العدّة بسببها.و تعتد من الغائب في الطلاق من حين وقوعه عند المشهور،للنصوص المستفيضة أو المتواترة كصحيح ابن مسلم،قال لي الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا طلق الرجل،و هو غائب فليشهد على ذلك،فإذا مضى ثلاثة من ذلك اليوم فقد انقضت عدتها.

أجل،تعتد زوجة الغائب من الوفاة من حين بلوغها الخبر،لا من حين الوفاة على

ص:36

المشهور،للنصوص المستفيضة أو المتواترة،كصحيح ابن مسلم عن الإمام عليه السّلام في رجل يموت،و تحته امرأة،و هو غائب؟قال:تعتد من يوم يبلغها وفاته».

10-عدّة وطء الشبهة:

وطء الشبهة هو الوطء الذي يعذر فيه صاحبه،و لا يجب عليه الحد،لأن موضوع الحد هو الزنا و المفروض عدمه،و تجب العدّة من وطء الشبهة،لأنه وطأ محترم،و قد ثبت النص:«إذا التقى الختانان وجب الغسل و المهر و العدة».و العدة منه تماما كالعدة من الطلاق،فان حملت اعتدت بوضع الحمل،و ان كانت من ذوات القروء اعتدت بثلاثة منها،فقد سئل الإمام عليه السّلام عمن تزوج امرأة في عدتها؟ قال:ان دخل بها فرق بينهما،و تأخذ ببقية العدّة من الأول،ثم تأتي عن الثاني ثلاثة أقراء مستقبلة.

و على هذا فإذا مات الواطئ بشبهة فلا تعتد المرأة عدّة وفاة،لأنها ليست زوجة،كي ينطبق عليه قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً .

و تسأل:هل يجب على من وطأها بشبهة أن ينفق عليها أيّام عدتها؟ الجواب:لا،سواء أ كانت حاملا أو حائلا،لأن النفقة انما تجب للمطلقة الرجعية التي يملك الرجعة إليها،و للمطلقة البائن إذا كانت حاملا،و هذه ليست مطلقة،و من هنا قال صاحب الجواهر:«الأصح أنّه لا نفقة لها مطلقا للأصل».

سؤال ثان:لو افترض أن الموطوءة بشبهة كانت متزوجة،فهل تجب نفقتها على الزوج الشرعي أيّام عدّتها،أو تسقط بالنظر إلى حرمة مقاربتها؟ الجواب:تجب نفقتها عليه،لأن المانع من مقاربتها لم يأت من جهتها،بل أتى من جهة الشرع،و بديهة أن المانع الشرعي كالمانع العقلي،و عليه فلا تكون

ص:37

ناشزة،كي تسقط نفقتها.

ثم أن كانت الشبهة من الرجل و المرأة ألحق الولد بهما معا على تقدير الحمل،و وجب لها المهر،و ان كان المشتبه أحدهما دون الآخر ألحق الولد بالمشتبه،و ان كانت هي عالمة بالتحريم فلا مهر لها،لأنها بغي،و لا مهر لبغي.

و تقدم الكلام على ذلك مفصلا في باب الزواج.

11-اجتماع العدتين:

إذا كانت متزوجة فوطئت بشبهة،ثم طلقت،أو كانت معتدة من طلاق أو وفاة،و وطئت بشبهة قبل انتهاء العدة،فقد اجتمع عليها عدتان،إذا كان كذلك فهل تتداخل العدتان،و تكتفي بعدة واحدة لهما،أو لا بد من أن تعتد مرتين، فتتم عدّة الطلاق إذا كانت قد وطئت أثناء العدّة،و بعدها تعتد ثانية للشبهة،و إذا كانت قد وطئت شبهة،و هي متزوجة،ثم طلقت تعتد أولا للشبهة،ثم تستأنف العدّة للطلاق؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى وجوب التعدد و عدم التداخل،لأن الأصل تعدد المسبب بتعدد السبب،و لبعض الروايات الدالة على أن المرأة إذا تزوجت في عدتها جهلا يبطل الزواج،و لكن العدّة لم تنقطع، فإن لم يدخل الزوج أكملت عدتها و كفى،و ان كان قد دخل أتمت العدّة الأولى، لأنها أسبق و استأنفت الأخرى.

و ذهب جماعة من كبار الفقهاء،منهم صاحب المسالك و صاحب الحدائق و صاحب ملحقات العروة إلى التداخل،و الاكتفاء بعدة واحدة،و في ذلك روايات كثيرة و صحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها أن الإمام الباقر أبو الإمام جعفر

ص:38

الصادق عليهما السّلام،سئل عن امرأة تزوجت قبل أن أن تنقضي عدتها؟قال:يفرق بينهما و تعتد عدّة واحدة منهما جميعا.

12-عدّة الزانية:

اتفقوا بشهادة صاحب الحدائق على أن الحامل من الزنا لا عدة لها،و أنّه يجوز لها أن تتزوج قبل أن تضع حملها،و اختلفوا فيمن زنت و لم تحمل:فهل يجب عليها أن تستبرئ بحيضة؟ ذهب المشهور إلى عدم الوجوب،و أنّه يجوز أن تتزوج بمن تشاء، و يتزوجها من شاء في الساعة التي زنت بها.

و قال العلامة الحلي و صاحب الحدائق:يجب أن تستبرئ بحيضة،و قال صاحب المسالك:لا بأس به حذرا من اختلاط المياه،و تشويش الأنساب.

و نحن أيضا نقول:لا بأس به،لما جاء في كتاب الكافي أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يفجر بالمرأة،ثم يبدو له أن يتزوجها،هل يحل له ذلك؟قال:نعم،إذا اجتنبها،حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور،فله أن يتزوجها.

و إذا وجب أن تستبرئ من ماء من زنى بها قبل أن يتزوجها،ليتميز الولد الشرعي من غيره،فاستبراؤها من ماء غيره أولى.

13-عدّة الكتابية:

عدة الكتابية،تماما كعدة المسلمة عددا و حكما و حدادا،سواء أ كانت زوجة لمسلم أو لكتابي مثلها،فإذا مات عنها زوجها أو طلقها فلا يصح التزويج

ص:39

بها إلاّ بعد انقضاء عدتها،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،لإطلاق الأدلة،و صحيح السراج عن الإمام الصادق عليه السّلام قلت له:النصرانية مات عنها زوجها،و هو نصراني،ما عدتها؟قال:عدّة الحرّة المسلمة أربعة أشهر و عشرا».

14-زوجة المفقود:

الغائب على حالين:أحدهما أن يعرف موضعه،و هذا لا يحل لزوجته أن تتزوج بالاتفاق.

الحال الثانية:أن ينقطع خبره،و لا يعلم موضعه،و حينئذ ينظر:فإن كان له مال تنفق منه زوجته،أو كان له ولي ينفق عليها،أو وجد متبرع بالإنفاق-وجب على زوجته الصبر و الانتظار،و لا يجوز لها أن تتزوج بحال،حتى تعلم بوفاة الزوج أو طلاقه.و ان لم يكن له مال،و لا من ينفق عليها فإن صبرت فذاك،و ان أرادت الزواج رفعت أمرها إلى الحاكم فيؤجلها أربع سنين من حين رفع الأمر إليه،ثم يفحص عنه في تلك المدّة،فإن لم يتبين شيء ينظر،فإن كان للغائب ولي يتولى أموره أو وكيل أمره الحاكم بالطلاق،و ان لم يكن له ولي و لا وكيل،أو كان،و لكن امتنع الولي أو الوكيل من الطلاق،و لم يمكن إجباره طلّقها الحاكم بولايته الشرعية،و تعتد بعد هذا الطلاق بأربعة أشهر و عشرة أيام،و يحل لها بعد ذلك أن تتزوج.

و كيفية الفحص أن يسأل عنه في مكان وجوده،و يستخبر عنه القادمون من البلد الذي يحتمل وجوده فيه.و خير وسيلة للفحص أن يستنيب الحاكم من يثق به من المقيمين في محل السؤال،ليتولى البحث عنه،ثم يكتب للحاكم بالنتيجة، و يكفي من الفحص المقدار المعتاد،و لا يشترط السؤال في كل مكان يمكن أن

ص:40

يصل إليه،و لا أن يكون البحث بصورة مستمرة.و إذا تم الفحص المطلوب بأقل من أربع سنوات بحيث نعلم أن متابعة السؤال لا تجدي يسقط وجوب الفحص، و لكن لا بد من الانتظار أربع سنوات عملا بظاهر النص،و مراعاة للاحتياط في الفروج،و احتمال ظهور الزوج أثناء السنوات الأربع،أي يسقط وجوب الفحص للعلم بعدم الجدوى منه أما وجوب التربص فيبقى على ما هو.

و بعد هذه المدّة يقع الطلاق،و تعتد أربعة أشهر و عشرة أيّام،و لكن لا حداد عليها،و تستحق النفقة أيّام العدّة،و يتوارثان ما دامت فيها،و إذا جاء الزوج قبل انتهاء العدّة فله الرجوع إليها ان شاء،كما أن له إبقاءها على حالها،و ان جاء بعد انتهاء العدّة،و قبل أن تتزوج فالقول الراجح أنّه لا سبيل له عليها،و بالأولى إذا وجدها متزوجة.

و الدليل على ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،منها أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن المفقود،كيف يصنع بامرأته؟قال:ما سكتت و صبرت يخلى عنها،فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجّلها أربع سنين،ثم يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه،و يسأل عنه،فان جاء الخبر بحياته صبرت،و ان لم يخبر عنه بشيء،حتى تمضي الأربع سنين دعي ولي الزوج المفقود،و قيل له:هل للمفقود مال،فإن كان له مال أنفق عليها،حتى يعلم حياته من موته،و ان لم يكن له مال قيل للولي:

أنفق عليها،فان فعل فلا سبيل لها أن تتزوج ما دام ينفق عليها،و ان أبى أن ينفق عليها أجبره الوالي على أن يطلق تطليقة في استقبال العدّة،و هي طاهر،فيصير طلاق الولي طلاق الزوج،فان جاء زوجها من قبل أن تنقضي عدتها من طلاق الوالي،و بدا لزوجها أن يراجعها فهي امرأته،و هي عنده على تطليقتين-أي ان تطليقة الوالي تحسب من الثلاث-و ان انقضت العدّة قبل أن يجيء،أو يراجع

ص:41

فقد حلت للأزواج،و لا سبيل للأول عليها.

و في رواية ثانية ان لم يكن للزوج ولي طلقها الوالي،و يشهد شاهدين عدلين،و يكون طلاق الوالي طلاق الزوج،و تعتد أربعة أشهر و عشرا،ثم تتزوج ان شاءت.

15-العدّة بسبب الفسخ:

إذا فسخ الزواج أحد الزوجين للأسباب الموجبة لذلك،و قد مر تفصيلها في باب الزواج عند ذكر العيوب،إذا حصل الفسخ فحكمه تماما حكم الطلاق من عدم وجوب العدّة مع انتفاء الدخول و الاعتداد بوضع الحمل ان كانت حاملا، و بالأقراء ان استقام حيضها،و بالشهور ان كانت مسترابة و كان قد دخل بها.

16-نفقة المعتدة:

سبق في باب الزواج فصل النفقة أن المعتدة من طلاق رجعي لها النفقة حاملا كانت،أو غير حامل،و ان المعتدة من الوفاة لا نفقة لها،حتى و لو كانت حاملا،و ان المعتدة من طلاق بائن لها النفقة ان كانت حاملا،و لا نفقة لها ان كانت حائلا.

و أيضا سبق في فقرة«عدّة وطء الشبهة»من هذا الفصل أن المعتدة للشبهة لا نفقة لها.و كذا لا نفقة للمعتدة بسبب الفسخ لانقطاع العصمة بينها و بين الزوج، حتى و لو كانت حاملا،و انما أوجبنا النفقة للحامل البائن لوجود الدليل الخاص، و لا دليل على الوجوب بالقياس إلى المعتدة للفسخ،و الأصل العدم.

ص:42

17-التوارث بين المطلق و المطلقة:

اتفقوا على أن الرجل إذا طلق امرأته رجعيا لم يسقط التوارث بينهما،بل يتوارثان ما دامت في العدة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذلك؟فقال:يرثها و ترثه ما دام له عليها رجعة.

و لا فرق في ذلك بين أن يطلقها،و هو في مرض الموت أو في حال الصحة،و يسقط التوارث بانقضاء العدّة.و أيضا اتفقوا على عدم التوارث ان طلقها طلاقا بائنا في حال الصحة.أما إذا طلقها و هو في مرض الموت فإنها ترثه هي،حتى و لو كان الطلاق بائنا،و لكن بعد توافر الشروط التالية:

1-أن يموت قبل أن تمضي سنة كاملة على طلاقها،فلو مات بعد السنة بساعة لا ترثه.

2-أن لا تتزوج قبل موته،فإذا تزوجت،ثم مات في أثناء السنة فلا شيء لها.

3-أن لا يبرأ من المرض الذي طلقها فيه،فلو بريء من مرضه ثم مات في أثناء السنة لم تستحق الميراث.

4-أن لا يكون الطلاق بطلب منها.

و سنعود ان شاء اللّه إلى الموضوع ثانية في باب الإرث.

18-أين تعتد المطلقة:

اتفقوا على أن المطلقة الرجعية تعتد في بيت الزوج،و لا يجوز له إخراجها منه،كما لا يجوز لها أن تخرج إلاّ بإذنه،و إلاّ تعد ناشزة،و تسقط نفقتها.

و أيضا اتفقوا على أن البائنة تعتد في أي مكان تشاء،لانقطاع العصمة بينها

ص:43

و بين الزوج،و انتفاء التوارث بينهما،و عدم استحقاقها النفقة إلاّ إذا كانت حاملا، و عليه فلا يحق له احتباسها،و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام.و لكن لا عامل بها اليوم،فإن الرجعية تعامل معاملة الأجنبية.

19-الزواج بالأخت في عدة أختها:

إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا فلا يجوز له ان يعقد على أختها إلاّ بعد انقضاء العدّة،لأن الرجعية بحكم الزوجة،و إذا كان الطلاق بائنا جاز العقد على الأخت قبل انتهاء العدّة،لانقطاع العصمة بين البائنة و المطلق.

ص:44

الرجعة
معناها و شرعيتها:

معنى الرجعة أن يرد المطلق المرأة إليه،و يستبقيها في عصمته،و الأصل فيها الكتاب و السنة و الإجماع،قال تعالى وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ (1)و قال:

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (2).أي إذا أشرفن على انتهاء أجل عدتهن فراجعوهن بقصد المعاشرة بالمعروف،لا بقصد الإضرار.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:المطلقة تكتحل و تختضب و تلبس ما شاءت من الثياب،لأن اللّه عزّ و جل يقول لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ،لعلها تقع في نفسه،فيراجعها.

و بكلمة:ان ثبوت الرجعة و جوازها من ضرورات دين الإسلام.

محل الرجعة:

محل الرجعة هي المطلقة الرجعية ما دامت في العدة،فلا يرجع إلى من لا

ص:45


1- البقرة:228. [1]
2- الطلاق:2. [2]

عدّة لها بل لا بد من عقد جديد،و إلى المطلقة ثلاثا و ان كانت في العدّة لافتقارها إلى المحلل،و لا إلى المختلعة بعوض إلاّ إذا رجعت في البذل أثناء العدّة،و علم هو بالرجوع،فيجوز له أن يرجع بالطلاق،كما تقدم في فصل الخلع.

صورة الرجعة:

تتحقق الرجعة بكل ما دل عليها من اللفظ،و لا تحتاج إلى صيغة خاصة.

و أيضا تتحقق بالفعل المقصود بالذات الذي لا يحل إلاّ للأزواج،و ان لم يقصد به الرجعة،كالوطء و التقبيل و اللمس و ما إلى ذلك.أجل،لا عبرة بفعل النائم و الساهي و المشتبه،لعدم القصد إلى الفعل من حيث هو.ورد صاحب الجواهر على من اشترط قصد الرجعة بالذات من الفعل،رد عليه بقوله:«هذا كالاجتهاد في مقابل النص و فتوى المصرحين ببقائها في العدّة على حكم الزوجة الذي منه جواز وطئها من غير حاجة إلى قصد الرجوع،و بذلك يظهر أن الأفعال رجوع، و ان لم يقصد بها ذلك.بل لعل مقتضى إطلاق النص و الفتوى ذلك،حتى مع قصد عدم الرجوع».

و يشير بإطلاق النص إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:«من غشي امرأته بعد انقضاء العدّة.....كان غشيانه إياها رجعة».فقد حكم الإمام عليه السّلام بأن الغشيان رجعة، دون أن يقيده بقصد الرجوع،و بديهة أن عدم القيد دليل الشمول.

و أيضا تتحقق الرجعة بإنكار الطلاق على شريطة أن يكون الإنكار أثناء العدّة،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،لأنه يتضمن التمسك بالرجعة،بل في المسالك هو أبلغ من الرجعة بألفاظها.و قد جاء في النص:ان أنكر الطلاق قبل انقضاء العدّة فإن إنكاره للطلاق رجعة.و في رواية أخرى:أدنى

ص:46

المراجعة أن يقبلها،أو ينكر الطلاق».

الإشهاد على الرجعة:

الإشهاد على الرجعة مستحب،و ليس بواجب،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه بيننا-أي بين الشيعة-مضافا إلى الأصل و النصوص المستفيضة أو المتواترة،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام في صحيح ابن مسلم:ان الطلاق لا يكون بغير شهود،و ان الرجوع بغير شهود رجعة،و لكن ليشهد بعد فهو أفضل».

أما قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فإن المراد به الشهادة على الطلاق،لا على الرجعة،و قد مرّ بيان ذلك في باب الطلاق،فقرة«الاشهاد على الطلاق».

الارتداد أثناء العدّة:

إذا كانت معتدة من طلاق رجعي،و ارتدت عن الإسلام قبل انقضاء العدّة، فهل يصح له مراجعتها في حال الارتداد؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى عدم جواز المراجعة،لأن المرتدة لا يصح زواجها ابتداء فلا يصح استدامته أيضا.

التنازع:
1-إذا اختلفا في أصل العدّة

،فقالت هي:لا عدّة لي،لأنك لم تدخل، و عليه فلا رجعة لك عليّ.و قال هو:بل عليك العدّة،ولي الرجوع،لأني دخلت

ص:47

فالقول قولها مع اليمين،لأن الأصل عدم الدخول،حتى يثبت العكس.

2-إذا اتفقا على العدّة

،و اختلفا في الرجوع،فقال هو:رجعت.و قالت هي:كلا.فان كان ذلك أثناء العدّة فإن ادعاءه هو الرجوع بعينه،تماما كما لو أنكر الطلاق من رأس،و ان كان بعد انقضاء العدّة فعليه الإثبات أن الرجعة حصلت في العدّة،و مع عجزه يؤخذ بقولها مع اليمين،لأن الأصل عدم الرجوع،و بقاء أثر الطلاق،حتى يثبت العكس،و تحلف هي أنّه لم يرجع إذا ادعى الرجوع إليها بالفعل،كالوطء و نحوه،و على عدم العلم بالرجوع إذ ادعى الرجوع بالقول،و انّها على علم به.

3-إذا اتفقا على أن عليها العدّة

،و اختلفا في بقائها و انتهائها،فقالت هي:

انتهت العدّة،كي لا يصح له الرجوع إليها،أو قال هو:انتهت العدّة،كي لا ينفق عليها فقد ذهب أكثر الفقهاء أو الكثير منهم إلى أن القول قولها بيمينها إذا كانت معتدة بالأقراء،و قوله بيمينه إذا كانت معتدة بالأشهر.

و الصواب ان القول قولها في كل ما يعود إلى العدّة،سواء أ كان النزاع في بقائها،أم في نفيها،و سواء أ كانت معتدة بالأقراء،أم بالأشهر،لاتفاق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على أن الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام قال:

الحيض و العدّة إلى النساء إذا ادعت صدقت.و ان الإمام الصادق عليه السّلام قال:فوض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء:الحيض و الطهر و الحمل.

فقد جعل الإمام عليه السّلام أمر العدّة للمرأة،و أنّه يجب أن تصدق فيها،و لم يفصّل بين العدّة بالأقراء،و بين العدّة في الشهور،و بديهة أن ترك التفصيل دليل على العموم.و من هنا قال السيد صاحب العروة و ملحقاتها:«لو اختلفا في انقضاء العدّة بالأقراء و عدمه قدم قولها،لأن أمر العدّة راجع إليها،بل و كذا لو

ص:48

اختلفا في الانقضاء بالأشهر و عدمه على الأقوى».و قال صاحب الجواهر:«ان قول الإمام عليه السّلام:إذا ادعت صدقت يقتضي تصديقها متى كان صدقها محتملا.لأن احتمال صدقها كاف في تصديقها».

و يتفرع على ذلك فروع كثيرة،منها إذا اختلفا في أصل الحمل،فادعته هي،و أنكره هو،أو اتفقا على الحمل،و اختلفا في وضعه،أو في تقديمه أو تأخيره على الطلاق فالقول قولها في جميع ذلك،لأن الإمام عليه السّلام قال:فوض إليها الحمل،و لم يقل وضع الحمل أو تقديم الوضع أو تأخيره،و الإطلاق يقتضي العموم و الشمول.

و منها إذا اتفقا على العدّة و الرجوع،و اختلفا في التقديم و التأخير،و ان الرجوع هل كان بعد انتهاء العدّة أو في أثنائها فإن القول قولها،لقول الإمام عليه السّلام:

«العدّة إليها إذا ادعت صدقت»حيث أرسل قوله هذا دون قيد أو شرط.

ص:49

طلاق الحاكم لعدم الإنفاق

اشارة

هل للحاكم الشرعي أن يطلق زوجة الرجل قهرا عنه لأنه لم ينفق عليها؟ أجل،له أن يطلق،و تعرف الدليل فيما يلي بعد أن نمهد بهذه المقدمة:

أهمية المسألة:

لا أعرف مسألة فقهية تدعو الحاجة إلى تمحصها،و الجرأة في بيان الحق أكثر من هذه بعد أن عمت بها البلوى،و كثرت الشكوى من عدم الحلول لهذه المعضلة الاجتماعية.

و ليس من ريب أن فكرة طلاق الحاكم الشرعي عن الزوج من حيث هي ثابتة في الفقه الجعفري،فقد أفتى فقهاء المذهب بأن للحاكم أن يطلق زوجة المفقود بالشروط التي سبق ذكرها في:«فصل العدّة-فقرة زوجة المفقود».

و أيضا أفتوا بأن له أن يطلق عن المجنون إذا اقتضت مصلحته ذلك،و سبق الكلام عنه في:«فصل الطلاق-فقرة طلاق الولي».أذن،فكرة الطلاق الجبري موجودة عند الإمامية،و ان الحديث المشهور:«الطلاق بيد من أخذ بالساق»لم يبق على إطلاقه،بل خرج عن شموله لطلاق الحاكم عن المفقود،و عن فاسد العقل.

ص:50

و تتساءل:هل خرج أيضا عن حديث:«الطلاق بيد من أخذ بالساق»طلاق الحاكم الشرعي قهرا عن الزواج لعدم الإنفاق على زوجته لعسر،أو عصيان،أو لمانع آخر،كالغائب يملك ثروة لا يستطيع تحويلها أو تحويل بعضها إلى مكان الزوجة؟ و نذكر أولا ما جاء عن أهل البيت عليهم السّلام من النصوص على ذلك،ثم نعرض أقوال الفقهاء،ثم نعقب بما نراه.

الروايات:

جاء في صحيح ربعي و الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ أنّه قال:إذا أنفق عليها ما يقيم حياتها مع كسوة،و إلاّ فرق بينهما.

و في صحيح أبي بصير قال:سمعت الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليه السّلام يقول:من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها،و يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الإمام أن يفرق بينهما.

و قد وصف هاتين الروايتين بالصحة جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق،و صاحب الرياض،و السيد كاظم اليزدي في ملحقات العروة الوثقى.

أقوال الفقهاء:

قال ابن الجنيد:إذا تجدد عجز الزوج عن الإنفاق جاز للزوجة أن تفسخ الزواج،أي تطلب من الحاكم أن يفسخ كما يفهم من كلامه الذي نقله عنه الشهيد

ص:51

الثاني في المسالك ج 1 باب الزواج مسألة الكفاءة،قال ما نصه بالحرف:

«إذا تجدد عجز الزوج عن النفقة ففي تسلط الزوجة على الفسخ قولان:

أحدهما،و به قال ابن الجنيد،ان لها الخيار،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ان أنفق عليها ما يقيم حياتها مع كسوة و إلاّ فرق بينهما،و لقوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و الإمساك بلا نفقة خلاف المعروف فيتعين التسريح،فإذا تعذر صدوره من الزوج فسخ الحاكم لأنّه وليّ».يريد بفسخ الحاكم طلاقه بعد طلبها هي،و إلاّ إذا رضيت فلا كلام في عدم جواز الطلاق.

فابن الجنيد يخص جواز الطلاق فيما إذا تجدد عجز الزوج عن الإنفاق و وافقه على ذلك صاحب الرياض،و البهبهاني،فقد نقل صاحب روضات الجنات في الجزء الرابع أن له رسالة في حكم النكاح مع الإعسار سماها مظهر المختار«و ذهب فيها إلى جواز فسخ المرأة نكاحها في صورة حضور الزوج و امتناعه من الإنفاق و الطلاق،و ان كان من جهة الفقر و الإملاق».

و قال صاحب الجواهر و صاحب الحدائق في باب الزواج-مسألة الكفاءة، و السيد أبو الحسن الأصفهاني في«الوسيلة الكبرى»تحت عنوان«القول في الكفر»قالوا:يجوز للحاكم أن يطلق عن الزوج إذا امتنع عن الإنفاق مع يساره و قدرته،و لا يطلق إذا كان معسرا.

أمّا السيد الحكيم فقد أجاز الطلاق للحاكم عن العاجز عن النفقة،و عن القادر الممتنع عنها،قال في منهاج الصالحين ج 2 ص 161 طبعة 1381:«لا يبعد أن يجوز لها-أي لزوجة العاجز عن النفقة-أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي،فيأمر زوجها بالطلاق،فإن امتنع طلقها الحاكم الشرعي،و كذا ان امتنع القادر عن الإنفاق جاز لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي،فيلزمه بأحد

ص:52

الأمرين من الإنفاق أو الطلاق،فإن امتنع عن الأمرين،و لم يمكن الإنفاق عليها من ماله جاز للحاكم طلاقها،و لا فرق بين الحاضر و الغائب».

و قال السيد اليزدي في ملحقات العروة ص 70 طبعة 1344 ه:«لا يبعد جواز طلاقها للحاكم الشرعي مع مطالبتها،و عدم صبرها،بل و كذا في المفقود المعلوم حياته مع عدم تمكن زوجته من الصبر،بل و في غير المفقود ممن علم أنّه محبوس في مكان لا يمكن مجيئه أبدا،و كذا في الحاضر المعسر الذي لا يتمكن من الإنفاق مع عدم صبر زوجته على هذه الحالة،ففي جميع هذه الصور و أشباهها-كما لو امتنع عن النفقة مع القدرة عليها-و ان كان ظاهر كلمات الفقهاء عدم جواز فكها و إطلاقها للحاكم إلاّ أنّه يمكن أن يقال بجوازه،لقاعدة:نفي الضرر،و خصوصا إذا كانت شابة،و استلزم صبرها طول عمرها وقوعها في المشقة الشديدة».

خلاصة الأقوال:

و نستخلص من هذه الأقوال ان هؤلاء الفقهاء قد أباحوا للحاكم الشرعي أن يطلق لعدم الإنفاق سوى أن بعضهم خص ذلك بزوجة المعسر العاجز،كابن الجنيد و صاحب الرياض،و بعضهم خصه بزوجة الممتنع عنه مع القدرة عليه، كصاحب الحدائق و الجواهر،و بعضهم عممه لهما معا،كالسيد الحكيم و السيد اليزدي.

و نحن نميل إلى رأيهما،و نرى أن المعيار لجواز الطلاق هو تعذّر الإنفاق، سواء أ كان سببه فقر الزوج و عجزه،أم عناده و عصيانه،و سواء أ كان الزوج حاضرا،أم غائبا،لأن السبب الموجب هو عدم وصول الزوجة إلى حقها في

ص:53

النفقة،و لأن قول الإمام عليه السّلام:«لم يطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الإمام أن يفرق بينهما»عام و شامل لكل زوج لا ينفق على زوجته لعسر أو عصيان،حاضرا كان أو غائبا.و في أيّامنا طلق العلماء الكبار العديد من النساء،لامتناع الزوج عن الإنفاق،فالسيد محسن الأمين طلق زوجة رجل حكم عليه بالسجن المؤبد، و السيد عبد الحسين شرف الدين طلق زوجة مهاجر من الغازية،و السيد أبو الحسن الأصفهاني و كلّ بعض الشيوخ بطلاق العشرات من النساء العامليات، و بالأمس القريب و كلّ السيد الحكيم بطلاق زوجة مهاجر من صور.

و قد ذاكرت الكثير ممن أثق بعلمهم في ذلك فرأيتهم على يقين من جواز الطلاق لعدم الإنفاق،و لكنهم يحجمون خوفا أن تشيع الفوضى،و يتطفل من ليس أهلا للعلم،و لا أمينا على الدين،فيجري الطلاق قهرا عن الزوج دون أن تتوافر المسوغات الشرعية،و الأسباب الموجبة.و الحل الوحيد أن يتولى ذلك من تسالم العارفون به على اجتهاده و عدالته و تحفظه.

ص:54

الظهار و الإيلاء و اللعان

الظهار:

و هو أن يقول الرجل لزوجته:أنت علي كظهر أمي،و قد اتفقوا على أنّه إذا قال لها ذلك فلا يحل له وطؤها حتى يكفّر بعتق رقبة،فإن عجز عنها صام شهرين متتابعين،فان عجز عن الصيام أطعم ستّين مسكينا.

و اتفقوا على أنّه إذا وطأ قبل أن يكفر يعتبر عاصيا،و أوجبوا عليه،و الحال هذه،كفارتين.

و اشترطوا لصحة الظهار أن يقع بحضور عدلين يسمعان قول الزوج،و ان تكون الزوجة في طهر لم يواقعها فيه تماما كما هو الشأن في المطلقة،كما اشترط المحققون منهم أن تكون مدخولا بها،و إلاّ لم يقع الظهار.

و الأصل في جعل الظهار بابا من أبواب الفقه عند المسلمين ما جاء في أول سورة المجادلة،فقد ذكر صاحب«مجمع البيان»أن أحد أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و هو أوس بن صامت كانت له امرأة حسنة الجسم،فرآها ساجدة في صلاتها،فلما انصرفت أرادها،فأبت عليه،فغضب،و قال:أنت علي كظهر أمي،ثم ندم على ما قال:و كان الظهار من طلاق أهل الجاهلية،فقال لها:ما أظنك إلاّ حرمت عليّ.قالت:لا تقل ذلك،و اذهب إلى الرسول فاسأله.قال:استحي أن

ص:55

أسأله عن مثل هذا.قالت:دعني أنا أسأله.قال سليه.

فذهبت إلى النبي،و عائشة تغسل رأسه:فقالت:يا رسول اللّه ان زوجي أوس تزوجني،و أنا شابة غنية ذات مال و أهل حتى إذا أكل مالي و أفنى شبابي، و تفرق أهلي،و كبر سني ظاهر،ثم ندم،فهل من شيء يجمعني و إياه فتنعشني به؟ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ما أراك إلا حرمت عليه.و قالت:يا رسول اللّه و الذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا،و أنّه أبو ولدي،و أحب الناس إليّ.فقال لها:لم أومر بشأنك.فجعلت تراجع رسول اللّه،فإذا دافعها الرسول هتفت،و قالت:أشكو إلى اللّه فاقتي و حاجتي و شدة حالي فانزل اللهم على نبيك ما يكشف كربي، و أعادت على الرسول،و استعطفته قائلة:جعلت فداك يا نبي اللّه انظر في أمري.

فقالت لها عائشة:أقصري حديثك و مجادلتك،أما ترين وجه رسول اللّه؟!و كان إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات.

ثم التفت إليها الرسول،و قال:ادعي زوجك،و لما أتاه تلا عليه قوله تعالى:

قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، اَلَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا،فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ .

و لما انتهى الرسول من التلاوة قال للزوج:هل تستطيع أن تعتق رقبة؟قال:

اذن يذهب مالي كله.فقال:هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟قال:و اللّه إذا

ص:56

لم آكل كل يوم ثلاث مرات كلّ بصري،و خشيت أن تعشى عيناي.قال:هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟قال:إلاّ أن تعينني على ذلك يا رسول اللّه.فقال:

اني معينك بخمسة عشر صاعا،و أنا داع لك بالبركة.فأخذ أوس ما أمر له به الرسول و أطعم المساكين و أكل معهم،و اجتمع أمره مع زوجته.

الإيلاء:

الإيلاء أن يحلف الزوج باللّه على ترك وطء زوجته،و الأصل فيه الآية 226 من سورة البقرة لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

و اشترط الفقهاء أن تكون الزوجة مدخولا بها،و إلاّ لم يقع الإيلاء.

و اتفقوا على أن الإيلاء يقع إذا حلف الزوج على ترك وطء الزوجة مدّة حياتها،أو مدّة تزيد على أربعة أشهر (1).

و اتفقوا على أنّه إذا وطأ في الأربعة الأشهر يكفّر،و يزول المانع من استمرار الزواج.

و ان مضى أكثر من الأربعة أشهر،و لم يطأ،فإن صبرت و رضيت فلها ذلك، و لا يحق لأحد أن يعترض،و ان لم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم،و بعد مضي الأربعة الأشهر (2)يجبره على الرجوع أو الطلاق،فان امتنع ضيّق عليه،و حبسه حتى يختار أحد الأمرين،و لا يحق للحاكم أن يطلق قهرا عن الزوج.

ص:57


1- السر في تحديد المدّة بذلك أن للزوجة حق المواقعة مرّة في كل أربعة أشهر على الأقل.
2- قال أكثر الفقهاء:ان الحاكم يؤجل الزوج أربعة أشهر من حين رفع الأمر إليه،لا من حين الحلف

و اتفقوا على أن كفارة اليمين أن يخير الحالف بين إطعام عشرة مساكين،أو كسوتهم،أو تحرير رقبة،فان لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

و كل يمين لا تنعقد إلاّ إذا كان المقسم به ذات اللّه المقدسة،و لا تنعقد أيضا من الولد و الزوجة مع منع الوالد و الزوج إلاّ في فعل الواجب،أو ترك المحرم.و لا تنعقد أيضا من أحد كائنا من كان إذا حلف على الإتيان بفعل تركه أولى من فعله، أو حلف على ترك فعل فعله أولى من تركه،إلاّ يمين الإيلاء فإنها تنعقد مع أنّ تركها أولى.

اللعان:

اللعان في اللغة الطرد و الابعاد،و في الشريعة المباهلة بين الزوجين على وجه معين،و غايتها رفع الحد عن الزوج الذي يقذف زوجته بالزنا،أو نفي الولد عنه،و لا تشرع إلاّ في موردين:

الأول:أن يقذف بالزنا زوجته الشرعية التي عقد عليها بالعقد الدائم،و أن تكون الزوجة سالمة من الصمم و الخرس،و أن يدعي المشاهدة،و ان لا تكون له بينة شرعية على الزنا،فإذا انتفى واحد من هذه الشروط،كما لو كانت بالمنقطع، أو كانت صماء أو خرساء أو لم يدع المشاهدة أو كانت له بينة فلا لعان.

المورد الثاني:أن ينكر من ولدته على فراشه،و يمكن أن يلحق به،و ذلك أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين الوطء،و لم يتجاوز أقصى مدّة الحمل، و إلاّ انتفى عنه من غير لعان.

و إذا تمت الشروط،و رمى الرجل زوجته بالزنا،أو نفى الولد عنه فعليه حد القذف إلاّ أن يقيم البينة،أو يلاعن،و صورة الملاعنة أن يقول عند الحاكم

ص:58

الشرعي:أشهد باللّه اني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة أربع مرات، و يقول في الخامسة بعد ان يعظه الحاكم:و عليه لعنة اللّه ان كان من الكاذبين.

ثم تشهد المرأة باللّه أربع مرات انه لمن الكاذبين فيما رماها به،ثم تقول:ان غضب اللّه عليها ان كان من الصادقين.

و الأصل في ذلك الآية 7 من سورة النور وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ، وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ .

و يجب ان يكونا قائمين عند الملاعنة،و متى تمت الملاعنة الجامعة لشروطها ترتب عليها الأحكام التالية:

1-انفساخ عقد الزواج،قال صاحب الجواهر:ليس اللعان طلاقا لغة و لا شرعا و لا عرفا،فلا يشترط فيه اجتماع شروط الطلاق،و لا تلحقه أحكامه.

2-تحرم المرأة على الرجل الملاعن حرمة مؤبدة و لا يجوز له ان يرجع إليها أو يعقد عليها بعقد جديد،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف و لا اشكال نصا و إجماعا.

3-انتفاء حد القذف عن الرجل،لأن يمينه أربع مرات بمنزلة البينة المؤلفة من أربعة شهود.

4-انتفاء الولد عن الرجل شرعا،أي لا يتوارثان،و لا يجب نفقة أحدهما على الآخر،أما بالنسبة إلى المرأة فهو ولدها الشرعي،و هي أمة الشرعية.

ص:59

كتاب القضاء

القضاء

معناه:

للقضاء معان في اللغة،منها الإتمام،كقوله سبحانه إِلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي أتمها،و منها القضاء عليه بالقتل،كقوله تعالى فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ أي قتله،و منها الحكم،كقوله سبحانه وَ اللّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ .

و هذا هو الذي عقد الفقهاء له باب القضاء،و لكن أرادوا الحكم بين المتخاصمين،لقطع الخصومات،و رفع المنازعات،و منع الظالم عن ظلمه، و تكلموا في هذا الباب عن الحاكم و شروطه،و الطرق التي يستند إليها في حكمه كالإقرار أو الشهادة أو اليمين أو النكول عنها أو الاستفاضة أو القرائن.

القاضي و المفتي و المجتهد و الفقيه:

ان وظيفة القاضي هي إلزام أحد المتخاصمين بما عليه للآخر بعد أن يثبت ذلك لديه،و وظيفة المفتي بيان الحكم الشرعي،حتى مع عدم الخصومة، و المجتهد من يستدل على الحكم،و الفقيه هو العالم بالحكم عن دليله.و صفات الجميع واحدة،و التغاير بالحيثية فقط،فالشخص الواحد الجامع للصفات يسمى قاضيا باعتبار حكمه على الافراد بأحكام خاصة،و مفتيا باعتبار اخباره عن

ص:60

الحكم،و مجتهدا باعتبار استدلاله عليه،و فقيها باعتبار علمه به.

منصب القضاء:

جاء عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:القضاة ثلاثة:قاضيان في النار،و قاض في الجنة،قاض قضى بالحق فهو في الجنة،و قاض قضى بالهوى فهو في النار،و قاض قضى بغير علم فهو في النار.

و أيضا:القاضي على شفير جهنم.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قال لشريح:يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلاّ نبي أو وصي نبي أو شقي.

و أيضا قال الصادق عليه السّلام:من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه عزّ و جلّ فهو كافر.

واجب كفائي:

القضاء من فروض الكفايات،تماما كالجهاد و الأمر بالمعروف و نصرة المظلوم إذا قام به البعض سقط عن الكل،و ان تركه الكل أثموا،و قد يصير القضاء واجبا عينيا بالعرض،كما لو لم يوجد أهل للقضاء سواه،و دعت إليه الحاجة.

1-الشروط:

بديهة أن العقل و البلوغ من الشروط الأساسية في القاضي.أما الإسلام فقد

ص:61

استدلوا على شرطيته بقوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1).و قال الامام الصادق عليه السّلام:«إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور،و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم،فإني قد جعلته قاضيا،فتحاكموا اليه».و الشاهد في قوله:«منكم».

2-طهارة المولد:

طهارة المولد،فقد اشترطها الفقهاء،و قالوا بأن ابن الزنا لا يجوز ان يتولى القضاء.و لكن لا دليل على قولهم من العقل أو النقل بشهادة صاحب الجواهر، حيث قال:«العمدة الإجماع المحكي و الا فمقتضى العمومات دخوله».

و على افتراض صحة الحكاية،و ان الإجماع متحقق واقعا فان هذا الإجماع ليس بحجة،لما سبق مرات من ان الإجماع عند الإمامية انما يكون حجة مع العلم بأنه يكشف عن قول المعصوم،و نحن نجزم بالعكس و عدم كشفه هنا عن قول المعصوم،لأن الفقهاء أنفسهم استدلوا على شريطة طهارة المولد بأن ابن الزنا اما كافر،و اما مسلم غير مقبول الشهادة،و إذا لم تقبل شهادته فقضاؤه أولى و قولهم هذا يتنافى مع قوله تعالى وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (2).

3 الحرية:

الحرية،فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى انّها ليست بشرط لأصل و لا طلاق أدلة تولي القضاء و شمولها لكل من له الأهلية حرا كان أو عبدا،قال

ص:62


1- النساء:140. [1]
2- الانعام 164». [2]

صاحب ملحقات العروة الوثقى:«قال جماعة بأن الحرية شرط،بل نسب إلى الأكثر،و لا دليل على ذلك.فالأظهر عدم اشتراطها إذا أذن له مولاه».و قال صاحب الشرائع و الجواهر:ان الحرية ليست بشرط و قال صاحب المسالك:ان شرط الحرية مجرد دعوى.

4 الذكورية:

الذكورية،قال صاحب الجواهر:للإجماع،و لحديث:«لا يفلح قوم وليتهم امرأة».و في آخر:«لا تتولى المرأة القضاء».

5 العدالة:

العدالة،و هي من أهم الشروط،و لا يجدي العلم بدونها شيئا بالغا ما بلغ إجماعا و نصا،و كفى بقول الإمام عليه السّلام لشريح:لا يجلس مجلسك هذا إلاّ نبي،أو وصي أو شقي،كفى به شاهدا.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:اتقوا الحكومة،فإن الحكومة انما هي للإمام العالم العادل بين المسلمين،لنبي أو وصي نبي.و سبق الكلام عن معنى العدالة في«باب الشهادات-فقرة العدالة».

و فرّع الفقهاء على ذلك فروعا،منها ما ذهب إليه جمع من الفقهاء من أن صاحب الحق لا يجوز له أن يرفع دعواه لغير العادل،حتى و لو انحصر تحصيل حقّه بهذا الترافع،بحيث لولاه يذهب هدرا و ضياعا،و قال آخرون:يجوز إذا كان حقه ثابتا،و لا سبيل للحصول عليه إلاّ بهذا الترافع.

و منها ان صاحب الحق إذا استطاع الحصول على حقه بدون الترافع إلى غير العادل،و مع ذلك ترافع إليه،و حكم بالحق فلا يجوز له أن يأخذ الشيء المحكوم

ص:63

به،و ان كان حقا له عملا بقول الإمام الصادق عليه السّلام في رواية ابن حنظلة:«فإنما يأخذ سحتا،و ان كان حقا ثابتا له».

و فرّق بعضهم بين الدّين و العين،فأباح أخذ المحكوم به بالحق ان كان عينا،و منع أخذه ان كان دينا،و لم يفرق السيد الحكيم في الجزء الأول من المستمسك بين العين و الدين،و حكم بتحريم أخذ كل منهما مع كونه حقا.

و الصحيح ان لصاحب الحق أن يستعين بالحاكم الجائر للحصول على حقه إذا انحصر بالرجوع إليه،بحيث لا يجد وسيلة سواه من غير فرق بين أن يكون الحق عينا أو دينا،لأن دفع الضرر عن النفس جائز شرعا بحسب الظرف،و قد يجب،و لا يتم إلاّ بالرجوع إلى الجائز،فيكون جائزا أو واجبا،أما الإثم و الحرام فهو على من امتنع عن دفع الحق،لا على من أخذ حقه،قال صاحب الجواهر:

«لو توقف حصول حقه على مراجعة الجائر جاز،و لو لامتناع الخصم عن المرافعة إلاّ إلى الجائر،تماما كما يجوز الاستعانة بالظالم على تحصيل حقه المتوقف على ذلك،و الإثم حينئذ على الممتنع-ثم استدل صاحب الجواهر-بأن الإمام عليه السّلام سئل عن تفسير قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ .فكتب هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم،فيحكم له القاضي،فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم به إذا كان قد علم أنّه ظالم».

و معنى هذا أنّه معذور في أخذ ما حكم به إذا كان حقا في الواقع.

6 الاجتهاد:

الاجتهاد،و هو محرم و جائز،و يقوم المحرم على أساس الظنون و الترجيحات و الاستحسانات،و لا يصل إلى درجة الجزم بإدراك العقل،مثل أن

ص:64

ابن الزنا لا يجوز له أن يقضي بين الناس،لأن الطباع تنفر منه،و العبد لا يحق له أن يتولى القضاء،لأنه مأمور مقهور،و القاضي آمر قاهر.

و يقوم الجائز على أساس الكتاب و السنة و إدراك العقل القطعي،مثل قبح العقاب بلا بيان،و ان المسبب يوجد بوجود سببه،و يزول بزواله،و يتلخص بأنه استخراج الحكم الشرعي من مصدره المقطوع به،سواء أ كان هذا المصدر النقل أو العقل،ثم تطبيق هذا الحكم على مورده.

و المجتهد الذي يستنبط الحكم من مصدره،و يطبقه على مورده على قسمين:مطلق،و متجزي،و المطلق من له ملكة الاستنباط و التطبيق لجميع الأحكام الشرعية دون استثناء،و المتجزي من يستطيعهما في بعض الأحكام دون بعض.و قد اختلف الفقهاء في إمكانه،فذهب إليه قوم و أحاله آخرون.

و قد درست هذه المسألة و درّستها.و راجعتها مرات،و كتبتها أكثر من مرّة، و في كل مرّة أدقق مليا فأصل إلى هذه النتيجة:و هي ان ملكة الاجتهاد لا تتجزأ، و ان من كانت له القدرة على استنباط البعض كانت له على الكل،و من فقدها في الكل فقدها في البعض.

و تقول:يمكن الاجتهاد في بعض الأحكام بالبديهة،كمسألة ان وقت صلاة الصبح بعد طلوع الفجر،و قبل شروق الشمس،و ما إليها.

و الجواب:ان هذه المسألة و نحوها ليست محلا للاجتهاد،و لا للتقليد لأنها من البديهيات التي يشترك في معرفتها العالم و الجاهل.

و مهما يكن،فإن القضاء و الإفتاء لا يجوزان إلاّ للمجتهد المطلق (1)،قال

ص:65


1- لا يشترط الحنفية العدالة و العلم بالقاضي و المفتي،فقد جاء في متن الكتاب المعروف بابن عابدين ج 4 ص 212 طبعة 1325 ه باب القضاء ما نصه بالحرف:«و الفاسق أهل للشهادة فيكون أهل للقضاء»و في فتح القدير ج 5 ص 456 باب القضاء:«أما تقليد الجاهل فصحيح عندنا».

صاحب مفتاح الكرامة في المجلد العاشر أول باب القضاء:«لا يكفي التجزي إجماعا،كما هو ظاهر كتاب المسالك،و كتاب الكفاية،مضافا إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا،و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا،فارضوا به حكما.فأحكامنا جمع مضاف إلى المعرفة يفيد العموم».

7 الضبط:

أن يكون ضابطا،بحيث لا يغلب عليه الذهول و النسيان احترازا من ضياع الحق على أهله.

قاضي التحكيم:

قاضي التحكيم هو الذي تراضى به الخصمان للحكم بينهما،و يشترط فيه ما يشترط في غيره من العدالة و الاجتهاد المطلق،و عليه فلا جدوى من الكلام فيه،لأن القاضي ان توافرت فيه الشروط كاملة جاز الترافع عنده،سواء أرضي به الخصمان أو لا،و ان لم تتوافر فيه الشروط فلا ينفذ حكمه،حتى و لو اتفقت عليه كلمة الانس و الجن.و الفقهاء فرضوا وجود قاضي التحكيم في زمن حضور الإمام عليه السّلام و وجود قاض خاص منصوب من قبله،أما اليوم فقد نصب بصورة عامة كل من توافرت فيه الشروط بعد أن ثبت قوله عليه السّلام:«انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا،فاجعلوه بينكم،فإني قد جعلته قاضيا،فتحاكموا إليه».

ص:66

قال صاحب الجواهر:«يشترط في قاضي التحكيم جميع ما يشترط في القاضي المنصوب عن الإمام عدا الاذن»أي ما عدا النص عليه من الإمام بالخصوص.

حكم المجتهد:

تسالم فقهاء الإمامية على أن للّه في كل واقعة حكما يصيبها من أصاب، و يخطئها من أخطأ،و للمخطئ أجر،و للمصيب أجران،كما في الحديث الشريف،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان اللّه تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى و اللّه ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد،فلا يستطيع عبد أن يقول:لو كان هذا أنزل في القرآن.

و أيضا قال:ما من شيء إلاّ و فيه كتاب أو سنة.

و قال:في الجامعة كل حلال و حرام،و كل شيء يحتاج إليه الناس،حتى الأرش في الخدش.

و حكم المجتهد لا يغير الحكم الواقعي عما هو عليه،فلو ظهر لمجتهد آخر جامع للشروط خطأ المجتهد الأول بطريق القطع و اليقين،لا بطريق النظر و الاجتهاد جاز له نقضه،و الحكم بخلافه،و إليك التوضيح:

إذا اختلف مجتهدان جامعان للشروط،اختلفا في النظر و الاجتهاد،مثل أن يرى أحدهما أن زواج البنت لا يصح من غير اذن الولي،و يرى الآخر الصحة، حتى و لو لم يأذن الولي،ثم حكم هذا بصحة زواج هند بدون اذن وليها،فليس للمجتهد الذي يرى فساد العقد أن ينقض هذا الحكم،بل عليه أن يقره و يعمل به،لأن المفروض أن كلا منهما يعتمد الظن و الاجتهاد الذي يحتمل الصواب

ص:67

و الخطأ،فنقض أحدهما بالآخر ترجيح بلا مرجح،إذ النظرية الخاصة لا تكون دليلا على فساد نظرية خاصة مثلها.

و إذا اعتمد الحاكم الأول على النظر،و تبين للثاني الخطأ لا بالاجتهاد و النظر،بل بدليل قاطع،كإجماع محصل،أو آية صريحة،أو حديث متواتر، بحيث يكون هذا الدليل القطعي معيارا للحق عند جميع المجتهدين،إذا كان الأمر كذلك جاز الثاني أن ينقض حكم الأول،بل يجب عليه ذلك،و بالإيجاز أن المعيار لنقض الحكم هو العلم بمخالفته للواقع،لا لمخالفته لاجتهاد فلان.

و كذا يجوز نقض الحكم،مع العلم بتقصير الحاكم للاجتهاد،و إهماله الموازين الشرعية.هذا شأن الحكم بالقياس إلى حاكم آخر،أما لو حكم لأحد المتخاصمين بغير حقه،فلا يجوز للمحكوم له العالم بذلك أن يأخذ الشيء المحكوم به فيما بينه و بين اللّه،لأن حكم الحاكم لا يغير الواقع عما هو عليه،قال صاحب الجواهر:«الحكم عندنا ينفذ ظاهرا،لا باطنا،و لا يستبيح المشهود له ما حكم له به إلاّ مع العلم بصحة الشهادة،أو الجهل بحالها».

تحاكم أهل الكتاب عند قاض مسلم:

في كتاب الجواهر باب الجهاد بحث مفيد يتناسب مع ما نحن بصدده نلخصه بما يلي:

لو تحاكم غير المسلمون عند قاض مسلم فهل يحكم بأحكام دينهم،أو بحكم الإسلام.

الجواب:على القاضي أن ينظر،فإن كان المتخاصمان ذميين كان مخيرا بين أن يحكم بحكم الإسلام،و بين الاعراض عنهما،و عدم سماع الدعوى بالمرة

ص:68

للآية 42 من سورة المائدة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً.وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ .

و سئل الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:عن رجلين من أهل الكتاب بينهما خصومة ترافعا إلى حاكم منهم،و لما قضى بينهما أبى الذي قضى عليه،و طلب أن يحاكم عند المسلمين،فقال الإمام عليه السّلام:يحكم بينهما بحكم الإسلام.

و إذا كانا حربيين فلا يجب على القاضي أن يحكم بينهما،إذ لا يجب دفع بعضهم عن بعض،كما هي الحال في أهل الذمة.

و إذا كان ذميا و مسلما،أو حربيا و مسلما وجب على القاضي قبول الدعوى،و ان يحكم بينهما بما أنزل اللّه،لقوله تعالى في الآية 49 من سورة المائدة وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ،وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ،وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ .

و لو استعدت زوجة الذمي على زوجها حكم عليه بحكم الإسلام.

و بالتالي فقد تبين مما تقدم أن علينا نحن المسلمين أن نبني على صحة المعاملات التي تجريها الطوائف غير الإسلامية إذا كانت على طبق دينهم ما داموا لم يتقاضوا إلينا،أما إذا تحاكموا عندنا فيجب أن نحكم عليهم بحكم الإسلام في جميع الحالات،كما تقتضيه عموم الآيات و الأحاديث الدالة على وجوب الحكم بالحق و العدل.

ص:69

الدعوى

اشارة

(1)

معناها و أركانها:

الدعوى هي مطالبة شخص شخصا آخر بحق يدعيه عليه،و قد يكون هذا الحق عينا،أو دينا،أو خيارا،أو شفعة،أو بنوّة أو زوجية،أو جناية،و ما إلى ذاك.

و أركانها ثلاثة:المدعي و المدعى عليه،و المدعى به،أمّا شروط الدعوى فكثيرة،منها ما يعتبر في المدعي،و منها في المدعى عليه،و منها في المدعى به، و تتضح عند الكلام في كل واحد من الثلاثة:

المدعي:
اشارة

نتكلم أولا في تعريفه،و ثانيا في شروطه،و ثالثا في وظيفته.

و المدعي هو الذي لو سكت لسكت عنه،أي إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها،سواء أسبق إلى رفع الدعوى،أو سبقه إليه خصمه.و بكلمة:ان المدعي هو المهاجم،و المدعى عليه هو المدافع.و يتفق هذا،مع ما نقل عن القانون

ص:70


1- من هنا إلى آخر باب القضاء و مسائله نقلناه بالحرف عن كتابنا«أصول الإثبات»حيث لا جديد لدينا نضيفه إليها،و الغرض أن نجمع أبواب الفقه بكاملها في أجزاء«فقه الإمام الصادق عليه السّلام». [1]

الفرنسي من أن المدعي هو الذي يدعي ضد الواقع الذي كان من قبل،و منه يعرف المنكر،و أنّه الذي يسكت إذا سكت عنه،و يأتي إنكاره وفق الواقع الذي يستدعيه الأصل.و قد يتحول المنكر إلى مدّع،و المدعي إلى منكر،كما لو ادعى شخص على آخر بدين،فادعى هذا الشخص الوفاء و التسديد،فيكون مدعيا، و يكلف بالإثبات.

المتداعيان:

قد يصدق تعريف المدعي على أحد المتخاصمين دون الآخر،فيكون هو المدعي،و الثاني منكرا،و قد يصدق عليهما معا،كما إذا اتفق صاحب بنائه مع شخص على أجار شقة منها بمبلغ معين،و قبل أن ينتقل المستأجر وقع الخلاف بينهما على تعيين الشقة،فقال المستأجر:هي الغربية،و قال المالك:بل هي الشرقية،فيكون كل منهما-في مثل هذه الحال-مدعيا و منكرا في آن معا،لأن المالك يدعي وقوع الإجار على الشرقية،و ينكر وقوعه على الغربية،و المستأجر يدعي وقوعه على الغربية،و ينكر وقوعه على الشرقية.و الفقهاء يسمون هذين بالمتداعيين،و دعواهما بالتداعي.و على القاضي أن يطبق على كل منهما قاعدة المدعي و المنكر في آن واحد،ذلك أن ينظر:فان كان لأحدهما بينة دون الآخر أخذ بها،و ان كان لكل منهما بينة أخذ بأقوى البينتين،و ان تساوتا في القوة سقطتا،و عاد كل شيء إلى ما كان قبل الإجار،أي يحكم القاضي بفسخ الإجار من الأساس.

و ان لم يكن لهما،و لا لأحدهما بينة عرض القاضي عليهما اليمين،فإن حلف أحدهما،و نكل الآخر أخذ بقول الحالف،و ان نكلا،أو حلفا معا فسخ

ص:71

الإجار،كما فعل عند تساوي البينتين.

شروط المدعي:
اشارة

يشترط في المدعي أمور (1):

1-العقل

،و دليل هذا الشرط البديهة و الضرورة.

2-البلوغ

،فلا تسمع الدعوى من الصبي،حتى و لو كان مميزا،لعدم صحة الإقرار منه،و لا حلف اليمين.و قال السيد كاظم في«ملحقات العروة»:

تسمع منه بعض الدعاوي،كما لو ادعى أن شخصا اعتدى عليه،و اغتصبه نفسه، أو جنى عليه بالضرب،أو سلبه ما في يده من مال أو متاع،بخاصة إذا خيف فرار المدعى عليه،و تفويت الحق على الصبي.أجل،إذا ثبت حقه لا يسلم إليه،بل إلى وليه.و الذي نراه أن الصبي المميز يملك جميع التصرفات التي تعود عليه بالنفع و الصلاح،و ليس للولي حاكما كان أو غير حاكم أن يبطلها،لأن شرط البلوغ و الرشد إنما أخذا كوسيلة إلى مصلحة الصبي،لا غاية في نفسها.و قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم«رفع القلم عن الصبي،حتى يبلغ»أراد بها رفع المؤاخذة و العقاب،بصرف النظر عن صحة معاملاته أو بطلانها.

و لست أفهم لما ذا لم تقبل الدعوى من الصبي المميز،إذا كان يقوى على المرافعة و المدافعة بأكمل الوجوه.و لنفترض أن أبا الصبي،أو وصيه بذر

ص:72


1- من طريف ما قرأت في شروط سماع الدعوى ما نقل عن القانون الانكليزي المعروف ب 14 اغسطس من عدم سماع الدعوى كلية ممن أكثر من رفع الدعاوي الباطلة،فتوصد في وجهه جميع أبواب المحاكم إلاّ بإذن خاص من القضاء يسمح له بتقديم الدعوى.

و أسرف في ماله،حتى أوشك أن يتلف كله،أو جله،و لم يرفع الدعوى عليه أحد،فهل يترك للولي أو الوصي أن يتماديا في الغي،و لا تقبل الدعوى من الصبي عليهما القادر على المحافظة على حقه،لا تقبل منه،لأنه لم يبلغ السن المحددة؟.و ليس من شك أن الدين و العقل يحتمان قبول الدعوى منه،و يدعان له الحرية الكاملة في الأدلاء بما يشاء،كما يحتمان على القاضي البحث و التدقيق و الفصل بالحق.

3-ان يكون رشيدا

،فلا تسمع الدعوى من السفيه المحجر عليه،إذا استدعت التصرف بالمال،و إلاّ سمعت منه،كدعوى الاعتداء عليه،و ما إليها.

و ما قلناه في الصبي نقوله في السفيه من أن تصرفاته النافعة نافذة مهما كان نوعها.

4-أن تكون الدعوى لنفسه،أو لمن له الدعوى عنه بالولاية،أو الوكالة

، أو الوصاية،أو القيمومة،أو الأمانة،أو الحسبة (1).و بكلمة.ينبغي أن يكون المدعي صاحب علاقة بنحو من الأنحاء،أما إذا كان أجنبيا من كل وجه فلا تقبل دعواه،و تسمى مثل هذه الدعوى تبرعية.

5-ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن من جملة ما يشترط في سماع

الدعوى أن يكون المدعي جازما بما يدعيه

،فلا تسمع منه ان كان ظانا،أو محتملا،و قال آخرون:ليس الجزم شرطا،بل يكفي مجرد الخصومة،و ان كان

ص:73


1- من أمثلة الحسبة أن يدعي شخص على ميت بدين،و له صغار،و فرض أن رجلا أجنبيا يعلم أن الميت قد سدد هذا الدين،و له شهود على الوفاء،فله و الحال هذه،أن يرفع الدعوى لدى القاضي ببراءة ذمة الميت،و كذا إذا ادعى على صديق له غائب.و من أمثلة الحسبة أيضا أن يفرط الولي،أو الوصي بالشيء المولى عليه،فللأجنبي أن يرفع عليهما الدعوى بقصد الإحسان و المعروف،لا بقصد النكاية و التشهير لحزازات بينه و بينهما،و للقاضي أن يسمع الدعوى منه.أما الأمانة فهي أن يأتمنك إنسان على مال،فيعتدي عليه آخر.فلك أن تقيم الدعوى عليه،لأنك مسؤول عن الامانة.

سببها الظن،أو الوهم.و هذا هو الحق،بخاصة إذا لم تكن الواقعة المتنازع عليها من فعل المدعي،كالقتل و السرقة،و التهاون بالأمانة،و ما إلى ذاك.

وظيفة المدعي:

اتفقت جميع الشرائع:قديمها و حديثها،الوضعية و السماوية،على أن البيّنة على من ادعى،و اليمين على من أنكر،فإذا ادعيت على شخص بدين أو جناية فعليك أن تقيم الدليل على ذلك،لأن الأصل براءة الذمة،حتى يثبت العكس.قال صاحب الجواهر:الأصل دليل قوي،و الخروج عنه يحتاج إلى دليل أقوى،فإذا أقمت الدليل على الدين،و ادعى غريمك الوفاء يصير مدعيا،و عليه عبء الإثبات،حيث ينعكس الأصل،و يحكم ببقاء الدين بعد العلم بوجوده، حتى يعلم بالوفاء و التسديد.

و ليس معنى«على المدعي البينة،و على المنكر اليمين»أن البينة لا تقبل من المنكر إطلاقا،بل تسمع منه في بعض الصور،و ذلك إذا رجع النفي إلى الإثبات.

و يعبر عنها الحقوقيون الجدد ببينة العكس.و مثال ذلك أن تدعي امرأة على رجل أنّها زوجته الشرعية،فينكر و يقيم البينة على أنّها زوجة شرعية لغيره،أو يدعي شخص على آخر أنّه أتلف ماله،فيقيم المدعي عليه بينة على أن المتلف غيره،لا هو،لاطلاعه على ذلك.أما إذا لم ترجع بينة المنكر إلى الإثبات فلا تسمع منه، لأن البينة على النفي المحض مستحيلة في ذاتها،و من الذي يعلم أن زيدا-مثلا- لم يقترض مالا من خالد،أو غيره؟

ص:74

المدعى عليه:
يشترط في المدعى عليه:
1-أن يكون عاقلا بالغا

،و من كان له حق على مجنون أو صبي أقام الدعوى بوجه الولي.و بناء على ما اخترناه يجوز للقاضي أن يدخل الصبي في الدعوى المقامة عليه،بحيث يشترك مع الأب أو الوصي في الدفاع،هذا إذا كان الصبي مميزا قادرا على المدافعة.

2-قال بعض الإمامية:يجب أن يكون المدعى عليه معينا بالذات

،فلو قال المدعي:سرق مالي أحد هذين لا تسمع منه.و ذهب المحققون منهم إلى صحة السماع،و عدم اشتراط التعيين،غير أن القاضي يحفظ الدعوى بجميع توابعها و أدلتها،إلى أن يعرف المدعي غريمه بالذات.

و تجوز الدعوى على الغائب،و يباع ماله في قضاء دينه بعد ثبوته،و لكن لا يدفع إلى الدائن إلاّ بكفيل،و يكون الغائب على حجته.

المدعى به:
يشترط في المدعى به:
1-أن يكون معلوما

،فلو ادعى شخص على آخر بمجهول كما لو قال:

لي عليه شيء،أو ثوب،أو كتاب لا تسمع دعواه،حتى يذكر كل الصفات المميزة.لأن الحكم تابع للدعوى.فان كانت مجهولة يكون الحكم كذلك، و يتعذر التنفيذ.و استثنى الفقهاء دعوى الوصية بالمجهول لأن الوصية به جائزة،

ص:75

و قالوا:لو ادعى شخص على الوارث بأن مورثه بأن مورثه أوصى له بشيء سمع منه،فإذا أقام البينة على صدق دعواه ترك الخيار للوارث في التعيين.و يقبل منه أقل شيء له ثمن،كثوب،أو عصا،و ما إلى ذلك.

2-أن يكون وقوع المدعى به معقولا

،فلو ادعى من لا يملك شيئا على آخر أنّه اقترض منه مليون ليرة أو ما أشبه.لا تسمع الدعوى.و كذا لو ادعى الأصغر على الأكبر منه سنا أنّه ولده،أو ادعى الأعمى أنّه رأى الهلال.

3-أن يصح تملك المدعى به

،فلو ادعى بدين سببه القمار،أو الربا،أو أي شيء محرم لا تسمع الدعوى.

4-أن تكون الدعوى منتجة

،فلا تسمع إذا كانت عقيمة،كما لو تنازع اثنان في مقدار مساحة الكرة الأرضية،أو الشمس.و كذا لو ادعى شخص الهبة قبل القبض،لأنها غير لازمة في هذه الحال،حتى و لو اعترف المدعى عليه.

و خير ضابط لسماع الدعوى هو أن المدعى عليه لو أقر بما يدعيه خصمه لألزم بالأداء،و ان يكون هناك طريق لفصل الخصومة على تقدير إصرار المنكر على الإنكار،فإذا افترض ان المدعى عليه لا يلزم بشيء لو أقر و اعترف فلا تسمع الدعوى.و كذا لا تسمع إذا أقيمت بوجه الوصي أو الوكيل إذا لم يكن للمدعي بيّنة،لأن إقرارهما لا ينفذ بحق الموصي و الموكل،و اليمين لا تتجه عليهما بحال.

و على هذا فمن كان له حق على غائب فإن كانت له بينة رفع دعواه إلى القاضي.

و أدلى بها،و إلاّ أرجأ حقه إلى يوم يبعثون.و كذا من كان له دين على ميت إلاّ أن يدعي على الوارث أنّه يعلم بالدين،و حينئذ تتجه اليمين على الوارث بنفي العلم بالدين.

و بالتالي،فان من الدعاوي ما لا تقبل بحال،كدعوى المحال،و الدعوى

ص:76

العقيمة،و منها مال لا يقبل الإثبات ضدها بحال،كمن يدعي الإسلام،و منها ما يقبل الإثبات معها و عليها،و يأتي التفصيل.و الطرق التي يمكن الاعتماد عليها للإثبات في مقام النزاع و التخاصم هي:الإقرار،و الكتابة و القرائن،و البينة،و اليد، و العرف و الاستفاضة،و العلم و اليمين،و تسمى هذه أصول الإثبات.

ص:77

الإقرار

السكوت:

متى تمت الدعوى بجميع شروطها طلب القاضي من المدعى عليه الجواب،و هذا بدوره إما أن يسكت و يمتنع عن الإجابة،و إما أن يجيب بنفي العلم بالواقعة،و يقول:لا أعلم إثباتا،و لا نفيا،و إما أن يجيب بالإنكار،و إما بالإقرار.

و اختلف فقهاء الإمامية إذا سكت المدعي عليه،فمنهم من قال:يحبسه القاضي،حتى يجيب،لأن كل مدع له حق الجواب على المدعى عليه،كائنا من كان بخاصة في مقام الترافع،و قد امتنع عنه،فساغ حبسه.و جاء في الحديث:«ان الرجل يحبس إذا التوى على غرائمه».و ليس من شك أن المدعي غريم للمدعى عليه و قد حاول بامتناعه عن الجواب الالتواء و المماطلة.

و يلاحظ على هذا القول بأن في الحبس مماطلة أيضا،لأنه يوجب التأجيل،و هو ضرر على المدعي،و قد يؤدي إلى تضييع حقه كلية.

و قال آخرون:ان على القاضي في مثل هذه الحال أن يقول للمدعى عليه:

أجب،و إلاّ أعتبرك ناكلا،و أردّ اليمين على المدعي.فإن أصر على السكوت طبق عليه القاضي حكم الناكل،و حكم للمدعي بعد أن يحلف اليمين.

ص:78

و الأولى أن يترك تقدير ذلك إلى القاضي،فقد يرى من ظروف الدعوى و ملابساتها أن يعتبر الساكت ناكلا،و قد يرى تكليف المدعي بالإثبات.

نفي العلم:

إذا قال المدعى عليه:لا أعلم بأن هذه الدعوى حقّ،أو باطل.فعلى القاضي-و الحال هذه-أن يسأل المدعي:هل تصدقه في دعوى الجهل،أو تكذبه،و تجزم بأنه يتجاهل؟ فإن صدقه فلا تسمع الدعوى إلاّ مع البينة،حيث لا يمكن فصل الخصومة إلاّ بها،لأن اليمين على نفي الواقع لا تتجه على المدعى عليه،لجهله به،و كذا اليمين على نفي العلم،لأن المفروض أن المدعي يصدقه عليه،و لا يمكن رد اليمين على المدعي،لأن الرد فرع عن توجهها إلى المدعى عليه.فينحصر طريق الإثبات اذن بالبينة لا غير.

و كذا يكون الحكم لو قال المدعي:و أنا أيضا لا أعلم:هل يجهل المدعي، أو يتجاهل؟ أما إذا ادعى عليه العلم بحقه،و قال:انّه يتجاهل،و ليس بجاهل،فله، و الحال هذه،تحليفه على نفي العلم،فان نكل المدعى عليه عن اليمين و الرد معا حكم عليه،و ان حلف لم يحكم عليه بشيء.و لكن الدعوى لا تسقط بهذه اليمين سقوطا نهائيا،بل مؤقتا بحيث إذا توفرت البينة للمدعي بعد ذلك جاز له اقامة الدعوى من جديد،و الأدلاء ببينته،إذ المفروض أن المدعى عليه لم يحلف على نفي الواقع بما هو،بل على«نفي العلم»و هو يعلق الدعوى،و لا يفصلها من الأساس.

ص:79

هذا إذا سكت المدعى عليه:أو أجاب بنفي العلم،أما إذا أقر،و كان جائز التصرف فيحكم عليه بإقراره،و عقدنا فصلا مستقلا عن الإقرار،و المقر،و المقر له،و المقر به،فراجع.

الإقرار بحق الغير:

الإقرار حجة على المقر وحده،و هو الذي يؤخذ به دون سواه،فلو باع شخص عينا من آخر،و بعد أن تم البيع جاء ثالث،و قال:كنت قد اشتريت العين من قبل،فالبيع الذي حصل مع غيري باطل لا اثر له.فإذا صدقه البائع،و أقر له بسبق البيع فلا يلتفت إلى إقراره لأن الأخذ به يستدعي انتزاع العين من يد المشتري،و المفروض أن الإقرار لا ينفذ بحق أحد غير المقر.

و يتفق هذا مع القوانين الوضعية الحديثة التي نصت على أن حجة الإقرار قاصرة على المقر وحده.

و كذلك لو أقرت امرأة متزوجة في الظاهر من زيد.أقرت بأنّها ليست زوجة شرعية له،و إنما هي زوجة لعمرو،لأنه عقد عليها من قبل،إذ الأخذ بإقرارها يتنافى مع حق زيد.أجل،لو مات زيد،أو طلقها ردت إلى عمرو عملا باعترافها بعد أن زال المانع.

بين الإقرار و البينة:

ذكر الشهيد الثاني في«المسالك»و السيد كاظم في«الملحقات»أن الإقرار يفترق عن البينة:

أولا:ان الإقرار حجة قاصرة على المقر فقط،و البينة حجة متعدية على

ص:80

الجميع-مثلا-إذا أقر أحد الورثة بدين على مورثه لم يسر هذا الإقرار إلاّ على المقر،بخلاف ما لو ثبت الدين بالبينة،فإنه يسري على جميع الورثة.

ثانيا:ان الحق يثبت بمجرد وقوع الإقرار بدون توقف على حكم الحاكم، بخلاف البينة،فإن الحق لا يثبت بمجرد حصولها،بل لا بد من حكم الحاكم.

و بكلمة ان الإقرار حجة بنفسه،و البينة حجة بحكم الحاكم.

و نقل صاحب الجواهر في أول باب الحدود أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام،فأقر بالسرقة،فقال له:أ تقرأ شيئا من القرآن؟قال:نعم، سورة البقرة،فقال له:قد وهبت يدك لسورة البقرة،ثم قال الإمام عليه السّلام:إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو،و إذا أقر الرجل على نفسه،فذاك إلى الإمام،ان شاء عفا،و ان شاء قطع.و هذا فرق ثالث.

لا إنكار بعد إقرار:

اشتهرت هذه الكلمة على ألسنة المتشرعة و غيرهم،و فهم منها البعض أن كل إنكار يأتي بعد الإقرار فهو مردود إطلاقا،و بلا توقف،حتى انهم ذهبوا إلى أن من قال:هذه العين لزيد،بل لعمرو حكم عليه بإعطاء العين لزيد،و بدلها لعمرو.بل قالوا:لو استمر الإضراب إلى الألف،و قال:بل لخالد،بل لسعيد إلخ وجب أن يغرم لكل واحد ممن تلفّظ باسمه البدل كاملا.و هذا-كما ترى-لا يرتكز على أساس معقول.

و الواجب يستدعي-إذا أقر الشخص ثم أنكر-أن ننظر:فإن لم يذكر سببا لإنكاره،و لم يدّع معه شيئا كلية،أو ادعى أمرا غير معقول.ان كان الأمر كذلك فالواجب يقضي أن لا نلتفت إليه،و لا إلى إنكاره.إلاّ في صورة واحدة،و هي

ص:81

فيما إذا أقر بما يوجب الرجم كالزنا،ثم أنكر،فحينئذ يسمع منه الإنكار إطلاقا و يسقط عنه الحد،و ان لم يذكر السبب.باتفاق الفقهاء.

و ان ذكر سببا للإنكار،و ادعى شيئا ممكن الوقوع بحسب المعتاد، كالصورة المتقدمة،و هي إذا اعترف بالبيع و القبض،ثم أنكر القبض،و قال:

اعترفت ثقة مني بأن المشتري سيدفع الثمن بعد الاعتراف.

و كذلك إذا اعترف الوارث بدين على أبيه،و بعد أمد عدل عن اعترافه مدعيا أن اعترافه كان مبنيا على علمه بأن أباه كان قد استدان من المقر له،و بعد الاعتراف وجد بين أوراق أبيه اشعارا من الدائن بالتسديد و الوفاء،أو وجد أن أباه قد كتب في دفتره الخاص أنّه سدد المبلغ بكامله.فتسمع الدعوى،و الحال هذه، و على مدعيها الإثبات.

و بكلمة،ان الإقرار حجة على المقر ما لم نعلم بكذبه،أو تقم حجة شرعية على خلافه،فإذا قامت الحجّة على عكسه،أو علمنا بكذبه-يكون الإقرار لغوا، و من هنا اتفقوا على عدم الأخذ بإقرار من أقر ببنوة آخر في سنه،أو يقاربه فيها، حتى و لو صدقه الطرف الآخر،لأن الواقعة محال في ذاتها.

و قد انعقد الإجماع قديما و حديثا على أن الشرط الأساسي لقبول الدعوى أن لا يكذبها العقل أو الشرع،أو ما جرت عليه العادة.و كذلك إذا قامت البينة الشرعية على أن الإقرار قد بني على الخطأ،أو الإكراه،و ما إلى ذاك.

اذن،فالإنكار بعد الإقرار لا يرد في جميع أنواعه و شتى صوره،و إنما يرد إذا كان إنكارا محضا غير مقترن بدعوى ممكنة و معقولة.أما إذا اقترن بدعوى تجمع كل ما يعتبر فيها من الشروط،فيكون معترفا من جهة،و مدعيا من جهة أخرى يطبق عليه جميع أحكام المدعي،كمن أقر بدين،ثم ادعى الإكراه على

ص:82

الإقرار.

و لكن الفقهاء استثنوا من ذلك ما لو أقر بالولد،ثم نفاه،و اتفقوا على أن مثل هذا النفي لا يسمع بحال،حتى و لو ذكر له ألف سبب و سبب.و بنوا ذلك على قاعدة كلية،و هي:ان النسب بعد ثبوته لا يزول إطلاقا.و أسندوا هذه القاعدة إلى قول الإمام:إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينتف عنه أبدا.

و لو انعكس الأمر فأقر بعد أن أنكر،قبل منه،لأن الإقرار بعد الإنكار لا يزاحم حق المدعي،بل يتفق كل الاتفاق،بعكس الإنكار بعد الإقرار،فإنه يزاحمه و يضاده.بل قال صاحب العروة الوثقى في باب الزواج:لو ادعت امرأة على رجل بأنه زوجها،فأنكر،و حلف اليمين الشرعية،ثم رجع عن إنكاره إلى الإقرار،يسمع منه،و يحكم بالزوجية بينهما إذا أظهر عذرا لإنكاره.

و إذا قال قائل:هذا ابني من الزنا فلا تسمع منه لأن الأصل في كل مولود أن يلحق شرعا بمن أولده،حتى يثبت العكس.و ان على الوالد-بموجب هذا الأصل-حق تربية الولد و نفقته،و قوله:«من الزنا»يتنافى مع هذا الحق،فيكون إقرارا،أو أشبه بالإقرار بحق الغير،فيلغى.هذا،إذا جهلنا الواقع،و لم نعلم:هل هو صادق في قوله،أو كاذب؟.أما مع العلم بصدقة فلا يلحق به بحال من الأحوال.

الإقرار بالزنا و السرقة:

اتفق فقهاء الإمامية على أن الزنا لا يثبت بالإقرار مرة واحدة،سواء أ كان من الرجل،أم المرأة،بل لا بد من تكراره أربع مرات،مع كمال المقر بالبلوغ و العقل و الاختيار و الحرية.و استدلوا بأن رجلا اسمه ماعز بن مالك جاء إلى

ص:83

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و قال له:قد زنيت،فأعرض عنه،ثم جاء من شقه الأيمن،فقال مثل الأول.فأعرض عنه،ثم جاءه،و قال مثل ذلك إلى أن تم أربع مرات،و عندها قال له النبي:أ بك جنون؟قال:لا.قال:لعلك قبّلت،أو غمزت،و نظرت؟قال:

لا.قال:أنكحتها؟قال:نعم.قال:حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟قال:

نعم.قال:كما يغيب المرود في المكحلة،و الرشاء أي الحبل في البئر؟قال:

نعم.قال:أ تدري ما الزنا؟قال:نعم،أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا.قال:ما تريد بهذا القول؟قال:أريد أن تطهرني.فأمر به فرجم.

و ان دلت هذه المحاورة على شيء فأول ما تدل عليه أن اللّه جل و عزّ لا يحب أن تشيع الفاحشة بحال،سواء أ كان المشيع و المذيع فاعلها،أم غيره، و سواء أ كانت حقا أم باطلا.كما أنّها تدل على أن الإقرار،و ان كان سيد الأدلة في المواد المدنية إلاّ أنّه قد يكون أضعفها في المواد الجنائية،و هذا ما نصت عليه بالضبط القوانين الحديثة.

و اتفقوا أيضا على أنّه لو أنكر بعد أن أقر سقط عنه الحد،و على هذا يكون الحد في يد المقر ان شاء أقدم على الانتحار،و ان شاء أحجم.

و أيضا اتفقوا على أن المقر لو تاب فالأمر بيد الإمام ان شاء أقام عليه الحد، و ان شاء عفا.

و أيضا اتفق الإمامية على أن كل ما يوجب الحد-غير الزنا-كشرب المسكر،و السرقة و القذف لا يقام فيه الحد على المقر إلاّ بالإقرار مرتين مع العقل و البلوغ و الاختيار.و إذا أنكر بعد أن أقر بما يوجب الحد غير الرجم فلا يسمع منه،و انما يسمع الإنكار إذا أقر بما يوجب الرجم دون غيره.

ص:84

الكتابة و القرائن

اشارة

ان للكتابة في الإثبات أهمية كبرى في القوانين الوضعية،حتى قال بعضهم:ان الأصل في الإثبات أن يكون بالكتابة إلاّ ما استثني،بل ان الديون-غير التجارية-لا تثبت بأي طريق إلاّ بالكتابة إذا زادت عن مبلغ معين.و هو عشرة جنيهات في القانون المصري،و خمسون ليرة في القانون اللبناني إلاّ إذا ثبت وجود مانع أدبي،أو مادي من الكتابة،أو فقد الدائن السند،لسبب يخرج عن إرادته.

و بكلمة.إن المشترع الزمني قد اعتبر ان الكتابة هي الأصل و القاعدة في الإثبات،و حجته في ذلك أن شهادة الشهود عرضة للخطإ بضعف الذاكرة،و عدم الدقة،كما أنّها عرضة للمحاباة و الانتقام،و الرشوة،و فساد الذمم،و للمبالغة،و ما إليها (1).

القرآن و كتابة الدين:
اشارة

و هذا يتفق من بعض الوجوه مع ظاهر القرآن الكريم،و هو قوله تعالى في الآية 282 من سورة البقرة:

ص:85


1- و لاحظ بعضهم على ذلك بأن الكتابة أيضا عرضة للتزوير.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ،وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

و إذا قارنا بين هذه الآية الكريمة،و القوانين الوضعية نخرج بالنتيجة التالية:

1-إن كلا منهما أمر بكتابة الدّين محافظة على الحق.

2-ان المشترع الزمني استثنى الدين القليل،أما القرآن الكريم فلم يفرق بين الدين القليل و الكثير،لأن كلا منهما حق،و الحق لا يتجزأ.بخاصة في وجوب الرعاية و المحافظة.

3-ان كلا منهما لا يرى بأسا بترك الكتابة في المواد التالية التجارية،لأن طبيعة التجارة تستدعي سرعة المعاملة،و لكن القرآن قيّد التجارة بالحال،أي أن يكون البيع بالنقد لا بالنسيئة،و القانون لم يعتبر هذا القيد.

ص:86

4-ان كلا منهما اعتبر وجود شاهدين على الكتابة (1).

الفقهاء و الكتابة:

و مهما يكن،فإن أكثر فقهاء المذاهب لم يوجبوا الكتابة في الدين،و لا في البيع،و ما إليه،و حملوا الأمر بالكتابة في الآية الكريمة على الاستحباب،بل ان كثيرا منهم لم يتعرض في باب الدين لحكم الكتابة سلبا و لا إيجابا.

و قال«أحمد نشأت»في كتاب«رسالة الإثبات»:«ان العلماء الذين قالوا بالندب قد أثرت عليهم حسن ذمة الناس في عهدهم،و تدينهم شهودا كانوا،أو متعاقدين».

و هذا التوجيه غريب جدا،لأن مجرد حسن الظن بالناس-لو افترض وجوده انذاك-لا يكون عند علماء المسلمين مبررا لتأويل القرآن،و صرف آياته عن ظاهرها.اذن لا بد أن يكون السبب شيئا آخر،و هو إمام لزوم العسر و الحرج من حصر الإثبات بالكتابة،و اما وجود حديث مبين للآية،و امّا غير ذلك.و أيا كان السبب لقولهم بالندب فليس من قصدنا-في هذا المقام-أن نتعرض لوجوب الكتابة أو ندبها،و انما غرضنا الأول أن نتكلم عن مدى تأثير الكتابة في الإثبات بعد وجودها عند الفقهاء.

و الكتابة بما هي ليست بشيء عندهم يعتمد عليه،لإثبات الحق،لأن المدعى عليه ان اعترف بها دخلت في باب الإقرار،و ان أنكرها و كان عليها شهود

ص:87


1- قال صاحب مجمع البيان في تفسيره وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ :يعني أشهدوا على المكتوب رجلين من رجالكم.و قد اعتبر القانون وجود الشاهدين في تحرير العقود الرسمية،تماما كما صرحت الآية الكريمة.

يشهدون بصدورها منه كانت شهادة بالإقرار،لأن الكتابة أخت الإقرار،و هي المرتبة الثانية في الوضع للدلالة على ما في النفس،كما قال صاحب الجواهر (1).

و ان كانت بلا شهود و لا اعتراف أهملها القاضي،و لم يعتمد عليها.و قال صاحب المستند:«لا تجوز الشهادة برؤية الشاهد خطه و خاتمه إذا لم يتذكر الواقعة،و ان أمن التزوير بلا خلاف أو لم يكن معه عدل آخر».

القرينة و الكتابة المجردة:

هذا،و قد ذكر الفقهاء ان الوارث إذا وجد بخط مورثه وصية،أو كيسا فيه مال مكتوبا عليه هو وديعة لفلان،أو وجد بخطه على كتاب أنّه وقف (2).ذكروا ان هذه،و ما إليها،ليست بشيء إلاّ إذا أقر بها الكاتب قبل موته،أو علم الوارث بصحتها علما قاطعا.قالوا هذا،و لم يشيروا إلى أن للحاكم أن يحكم بهذه الكتابة، و يعتمد عليها.

و ان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الفقهاء كانوا و ما زالوا يتوقفون عن الحكم بالأموال و الاعراض استنادا إلى كتابة لم تثبت ببينة و لا بإقرار.

ص:88


1- و هذه هي العبارة التي أوردها في أول باب الوصية:«ضرورة حجية ظواهر الأفعال كالأقوال، بل الكتابة أخت الألفاظ،و هي المرتبة الثانية للدلالة في الوضع على ما في النفس،فتكون أولى من الأفعال»و ذكرنا في باب الزواج فقرة«الصيغة»رقم 4 أن للسيد الحكيم عبارة في المستمسك تشعر بأن الزواج يقع بالكتابة إذا كانت واضحة الدلالة.
2- بل قال صاحب«ملحقات العروة»في آخر باب الوقف:«إذا ظهرت في تركة الميت ورقة أن ملكه الفلاني وقف لا يحكم بوقفيته،و ان حصل القبض و الإقباض،و ان كان بخط الميت و خاتمه، لاحتمال أنّه كتب ليجعله وقفا له في ذلك».و نحن نوافق السيد في صورة وجود الخط بدون القبض و الإقباض،و نخالفه لو حصل القبض بإرادة الكاتب و اذنه،لأن ظاهر الأفعال حجة كظاهر الأقوال،كما اعترف السيد بذلك صراحة في العروة الوثقى ص 405 طبعة العرفان. [1]
القرائن:

أما القرائن«فمنها»شرعية،و هي التي نص عليها الشارع صراحة و أوجب على الحاكم العمل بها إطلاقا،سواء أحصل منها العلم،أم لم يحصل،كالإقرار و البينة و اليد.

«و منها»القرائن التي ترافق الدعوى و وقائعها،و تسمى القرائن الموضوعية،و هذه على نوعين.

الأول:ما يحصل منه العلم باللزوم العقلي،لكل من اطلع عليه،كائنا من يكون،كما لو ادعى إنسان بأن هذه الدابة ملك له منذ سنة،ثم دلت سنها على أقل من ذلك.أو قال:ان هذه الدار التي في يد زيد اشتريتها أنا من عمرو،ثم ظهر أن عمرو لم يملك دارا مدّة حياته،و ما إلى هذه من القرائن التي يحصل منها القطع، لكل انسان بدون استثناء.و ليس من شك أنها حجّة متبعة،و لكن السر في اتباعها و اعتبارها في العلم،و ليست في ذاتها،و عليه تدخل في فصل العلم و القضاء الذي يأتي الكلام عنه.

النوع الثاني:القرائن الموضوعية التي لا يحصل منها العلم و الجزم،و هذه ليست بشيء يعتمده الحكم و القضاء،و لكنها قد تعزز و تدعم أصلا من أصول الإثبات،كالخصومة الشديدة بين القتيل،و بين المشهود عليه بالقتل،بخاصة إذا كان القاتل موتورا،و بينه و بين القتيل ثأر،و كسوابق المشهود عليه بالسرقة.

و قد تضعف هذه القرائن،و توهن أصل الإثبات،أو توجب الزيادة في التثبيت و التحقيق،كمن عرف بالقداسة و الوداعة فيشهد عليه بالجريمة،أو كالضعيف الجبان يشهد عليه بما يحتاج إلى قوة و اقدام،و ما إلى هذه من القرائن التي لا يبلغها الإحصاء.

ص:89

ما نسب إلى الإمام:

قدمنا أن القاضي لا يجوز له أن يحكم بالقرائن إلاّ إذا حصل منها العلم باللزوم العقلي مع أنّه قد نسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أقضية مستندا فيها إلى قرائن لا تستدعي العلم،من ذلك أنّه سئل عن رجل قاء الخمرة؟فقال:ما قاءها، حتى شربها.

و نحن نشك في نسبة هذا الخبر إلى الإمام،إذ من الجائز أن يكون قد شربها جاهلا بأنّها خمرة،أو للتداوي،أو أكره عليها.و قد ثبت بالتواتر عند الشيعة و السنة عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ان الحدود تدرأ بالشبهات»و من هنا اتفق الجميع على أنّه لو ادعى شيئا من ذلك سمع منه و سقط عند الحد.

و ان صحت نسبة هذا الخبر إلى الإمام فلا بد من حمله على أن الذي قاءها قد ثبت أنّه شربها من دون عذر،أو ان الإمام تعرض للشرب نفسه،بصرف النظر عن الحد.

و من ذلك أن امرأتين تنازعتا في غلام،و ادعت كل منهما أنّه ولدها،و حين رفعتا النزاع إلى الإمام عليه السّلام أمر بإحضار سيف،و قال:ان لم تقولا الحق قطعته شطرين،و أعطيت كل واحدة شطرا،فرضيت إحداهما بقطعه،و أبت الأخرى قائلة:دعوه لها.فأعطاه لهذه،حيث اكتشف من عدم رضاها بقتله أنّها الأم،و من رضا تلك أنّها غريبة عنه.

و هذا الخبر أبعد عن الواقع من سابقه،و ان صح فيحمل على أن الإمام قد حمل المرأة بذلك على الإقرار أو أنّه اكتشف من رضاها بقتل الولد و حالتها الخاصة إقرارا منها بأنه ليس بولدها،و عليه يكون حكما خاصا في قضية خاصة لا يتعدى إلى غيرها.

ص:90

الشهادة

البينة على المدعي:

اتفقت الشرائع السماوية و الوضعية على أن البينة على من ادعى،و ان اليمين على من أنكر.و لكن إذا كان للمدعي بينة جاز له إهمالها،و تحليف المنكر،أي انّه مخير بين إقامة البينة و تحليف خصمه.و كذلك المنكر مخير بين أن يحلف اليمين،أو يقيم البينة على براءته،إن أمكن سماعها،كما إذا رجعت إلى الإثبات.فالقاضي-اذن-غير مخير في أن يطلب البينة ممن يشاء،و يوجهها إلى من يشاء،بل عليه أولا و قبل كل شيء أن يميز بين المدعي و المنكر،ثم يفهم كلا ما يطلب منه،فإن أنكر المدعى عليه قال للمدعي:عليك البينة،و لك اليمين على خصمك مع عدمها،فإن أتى بشاهدين،و عرف عدالتهما بالتجربة أو التزكية و اتفقت شهادتهما،و وافقت المدعى به قال للمدعي:ان كان عندك ما يقدح في الشهادة فبينه،فان سأل الإمهال أمهله ثلاثة أيام فان لم يأت بشيء معقول حكم بما تستدعيه الشهادة،و عقدنا فصلا خاصا للشهادات.

شروط الشاهد:

يشترط في الشاهد العقل و البلوغ و العدالة و الإسلام و عدم العداء،و ان لا

ص:91

يجلب الشاهد لنفسه بشهادته نفعا،أو يدفع عنها ضرا على التفصيل المتقدم في باب الشهادات.

طريق المعرفة إلى أوصاف الشاهد:

يستطيع الحاكم أن يعرف و يميز-حين استماعه لأقوال المدعي-بين الدعوى الواضحة،و المبهمة،و بين الجنائية،و الحقوقية،و بين دعوى المحال، و غيرها.و أيضا يستطيع الحاكم بمجرد الاستماع للشهادة أن يعرف أنّها مطابقة للدعوى،أو غير مطابقة،و أنّها على الإثبات،أو على النفي،و أنّها تبرعية أو غير تبرعية (1).

أمّا بقية الشروط التي يجب توافرها في الشهادة و الشاهد،كالعلم بأن الشهادة عن يقين،لا عن ظن،و بأن الشاهد عدل،و ليس عدوا و لا قريبا-أمّا هذه،و ما إليها.فيحتاج إثباتها إلى وسائل يعتمدها الحاكم.و فيما يلي بيان هذه الوسائل:

طريق المعرفة بمصدر الشهادة:

تكلم الفقهاء الإمامية عن واجبات الشاهد من جهة،و واجبات الحاكم تجاه الشهادة من جهة ثانية،و أوجبوا على الشاهد،كقاعدة كلية،و ضابط عام أن يشهد مع العلم بالمشهود به،و إلاّ فليدع.أجل،استثنوا من ذلك جواز الشهادة بالنسب و الموت،و ما إليها-كما تأتي الإشارة-استنادا إلى الاستفاضة و الشيوع.و قال بعضهم:ان هذه سبب للعلم أيضا.و عليه يبقى الضابط على عمومه.

ص:92


1- التبرعية هي التي يدلي بها الشاهد من تلقائه قبل أن يسأله الحاكم.

و جاء في فتح القدير للحنفية:«لا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلاّ النسب و الموت و النكاح و الدخول و ولاية القاضي،فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره من يثق به».

ثم اختلف الإمامية فيما بينهم:هل للشاهد أن يشهد بعلمه إطلاقا سواء أحصل له العلم من المشاهدة و العيان،أم من غيره،أو لا يجوز له إلاّ مع العلم الحاصل بالحس و العيان فقط؟.

قال صاحب الجواهر:يكفي مجرد العلم من أي طريق حصل،بل قال جماعة منهم صاحب المستند:تجوز الشهادة اعتمادا على الاستصحاب،كما لو علم أن الدار كانت فيما مضى لزيد.و بعد أمد طلبه للشهادة،فيستصحب بقاء الملك،و يشهد به شهادة مطلقة،مع أنّه يحتمل أن زيدا قد باع،أو وهب الدار.

هذا،بالقياس إلى شهادة الشاهد و مصدرها،و أمّا بالقياس إلى الحاكم فإن عليه أن يفترض أن الشاهد شهد عن علم لا عن ظن أو احتمال،لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة،و هي العلم بالذات.و لكن ليس معنى شهادة الشاهد عن علم أن الحاكم ملزم بقبولها،و الحكم بموجبها،إذ لا ملازمة عقلا،و لا شرعا بين أن تكون الشهادة عن علم،و بين وجوب العمل بها (1).و يتفق هذا من بعض الوجوه مع القوانين الحديثة التي نصت على أن الشهادة يترك تقديرها للحاكم.

و ليس معنى افتراض صدور الشهادة عن علم،و عدم وجوب السؤال عن السبب أن الحاكم لا يجوز له أن يسأل الشاهد،بل له أن يسأله عنه و عن غيره،

ص:93


1- قال الملا علي في كتاب القضاء:«الظاهر من أداء الشهادة أنّها عن جزم ما لم يعلم الخلاف».و قال صاحب ملحقات العروة:«ان المعلوم من طريقة الشرع حمل كلام الشاهد على الواقع و لذا لا يجب سؤاله عن السبب»و أراد بالواقع الواقع عند الشاهد.و قال صاحب المستند ج 2:باب القضاء و الشهادات:«ان جواز الشهادة لا يستلزم جواز الحكم».

و يلقي عليه كل سؤال يمكن أن يتوصل به إلى اكتشاف الحق،على أن يترك للشاهد الحرية التامة في كيفية الأدلاء،و اختيار الألفاظ،و ان يكف عنه،حتى ينتهي،فإن توقف فلا يرغبه في الاقدام،و ان أقدم فلا يحبّبه في الإحجام إلاّ في حقوق اللّه تعالى،كما مر في الإقرار.

أجل،صرح صاحب الشرائع و الجواهر و المسالك و غيرهم من فقهاء الإمامية أن للحاكم إذا ارتاب في الشاهد في جهة من الجهات،و لو لضعف ذهنه و بصيرته أن يعنته و يحرجه،بل يستحب ذلك،أما إذا كان الشاهد من ذوي المروءة و البصائر،و الأذهان القوية فيحرم تعنته،و لا يجوز بحال.

و على هذا يسهل الطريق على الحاكم إلى معرفة أن الشاهد عالم بما شهد به،أو غير عالم،لأن له أن يعتبر الشهادة صادرة عن علم بدون سؤال الشاهد أخذا بظاهر الشهادة،و له أن يبحث و يسأله عن السبب،ثم يجري على ما توصل له، و انكشف لديه.

الطريق إلى معرفة العدالة و غيرها:

قدمنا أنّه يشترط في الشاهد الإسلام و العقل و البلوغ و الضبط و العدالة و عدم العداوة و القرابة.و الطريق إلى كل صفة من هذه يختلف و يتعدد باختلافها و تعددها،و قبل أن نتعرض للطرق التي تصل بنا إلى هذه الصفات نرى لزاما أن نمهد بما يلي:

لم يختلف اثنان من أهل الشرائع القديمة و الحديثة على أن كل ما يشك في أصل وجوده بما هو،أو بما هو شرط أو مانع،فهو ملغي،و ان الأصل عدمه، حتى يثبت العكس.أي أننا لا نرتب أي أثر على وجوده إلاّ إذا ثبت بالحجة

ص:94

و الدليل،سواء أ كان وجوده شرطا لوجود شيء آخر،أو كان مانعا من وجود ذلك الشيء مثلا-إذا شككنا أن فلانا باع عقاره أو لا؟فالأصل عدم حدوث البيع،و إذا علمنا أن صيغة البيع صدرت عنه قطعا،و شككنا:هل صدرت حين بلوغه الذي هو شرط لصحة البيع؟فالأصل عدم البلوغ،و إذا علمنا بوجود الصيغة و البلوغ معا،و شككنا أن البيع حصل عن الإكراه المبطل للبيع؟فالأصل عدم الإكراه، حتى يثبت العكس،و من ادعى وجود شيء من ذلك فعليه الإثبات.

و يتفرع على هذا أن الشرط لا بد من إحراز وجوده بالحس،أو الدليل.و إذا لم نحرز وجوده فلا نحكم بوجود المشروط.لأن الشك في الشرط يستدعي الشك فيما هو شرط فيه،بل يستدعي الحكم بعدم وجوده.أما عدم المانع فلا نحتاج في إحرازه إلى دليل،بل مجرد الشك في وجوده كاف للحكم بعدمه،لأن الأصل عدم وجوده،حتى يثبت العكس،كما هي الحال إذا شككنا في حصول الإكراه المانع من صحة البيع.

و متى عرفنا أن الشرط يحتاج إلى إثبات،و ان المانع يكفي في نفيه أصالة عدمه،حيث لا دليل يدل على وجوده-و عرفنا أيضا أن الإسلام و البلوغ و العقل و العدالة و الضبط شروط لقبول الشهادة،و ان القرابة و العداوة يمنعان من قبولها، إذا تبين لنا كل هذا.عرفنا أن الحاكم لا يحتاج إلى البحث و السؤال عن العداوة و القرابة،لأنهما من الموانع التي ينفيها بالأصل،لا من الشروط التي يحتاج إثباتها إلى دليل.و إذا بحث و سأل عنهما فمن باب التأكيد و الزيادة في التثبت،أو للتنبيه إلى أن القرابة و العداوة تمنعان من الشهادة.و مهما يكن فإن المشهود ضده هو المسؤول وحده عن اثارة العداوة و القرابة-على فرض وجودهما-و عليه الإثبات إذا ادعى وجود أحدهما.

ص:95

و بعد أن تمهد معنا هذا نشرع في بيان الطرق التي تثبت توافر الشروط المطلوبة في الشاهد.أما إثبات الإسلام فأمره سهل جدا،لأن مجرد إظهاره كاف في إثباته،بل لا تقبل آية دعوى من أي كان ضد إسلام من يظهر الإسلام.

و يعرف البلوغ و العقل و الضبط من ظاهر الحال.و ان لم تظهر الدلائل للحاكم بحث بكل طريق يراه مؤديا إلى العلم و الاطمئنان،و لا يتقيد بطريق خاص،لأن مسألة إحراز هذه الشروط،و ما إليها مسألة موضوعية بحتة يترك تقدير الدليل إلى معرفتها للحاكم وحده.

و لو اعترف المشهود ضده ببلوغ الشاهد و عقله و ضبطه كفى إذا اطمأن الحاكم.و على كل،فإن الطريق سهل يسير إلى معرفة البلوغ و العقل و الضبط.

أما عدالة الشاهد فإن عرفها الحاكم أخذ بشهادته بدون حاجة إلى التزكية أي إلى من يشهد له بعدالته-لأن الغاية من التزكية معرفة العدالة،و هي حاصلة بالفعل،و ان جهلها بحث عنها بنفسه ان شاء،و ان شاء بيّن للمدعي أن له تزكية الشهود بشاهدين معلومي العدالة،لأن التزكية من توابع البينة،فكما تطلب البينة من المدعي فكذلك التزكية.

و لو ادعى الخصم فسق الشاهد سمع منه،و عليه الإثبات،فإن أثبت دعواه بالبينة سقطت الشهادة،و إلاّ ترد دعواه.و إذا أراد المدعي أن يزكي شهوده،أو أراد المدعي عليه أن يجرح الشهود فينبغي أن تكون التزكية و التجريح سرا.

و لو اعترف الخصم بعدالة الشاهدين،و ادعى خطأهما،فهل تقبل شهادتهما مع فرض جهل الحاكم بحال الشاهدين؟ قال صاحب الجواهر:«الأقوى عدم القبول،لأن رضا الخصم بالحكم بشهادة

ص:96

فاسقين».

و قوله هذا يتفق تماما مع ما جاء في القوانين الحديثة من أنّه«إذا اتفق الطرفان على شهادة شاهد معين لا يلزم القاضي بهذا الاتفاق،لأنه لا يصح أن يتفق الطرفان على طريقة للإثبات تقيد الحاكم غير الطريقة التي نص عليها القانون».

بعد أن يتأكد الحاكم من أن البينة جامعة للشروط فاقدة للموانع يقول للمدعي عليه:أ تقدح في شهادتهم عليك؟فإن كان عنده شيء استمع الحاكم إليه،و عمل بما تستدعيه الأصول.

و من تأمل فيما قدمنا يجد أن الفقه الجعفري في أصول المحاكمات و المرافعات يتفق مع القوانين الحديثة نصا و روحا في بعض المسائل،و روحا لا نصا في بعضها الآخر.فللحاكم أن يلقي على الشاهد ما يراه من الأسئلة،بل له أن يحرجه إذا ارتاب فيه و في شهادته،و متى اطمأن إليه يسأل الخصم عما يقوله فيه، و ان التزكية و التجريح تكون سرا،لا علانية.

و إذا ترك القانون تقدير الشهادة للحاكم،و ألزمه الشرع بالأخذ و الاعتماد على قول العادل،فقد ترك في نفس الوقت للحاكم اختيار الطريق الذي يشاء إلى معرفة العدالة،و ضبط الشاهد،و ما إلى ذلك.و هذا في حقيقته يرجع إلى أن شهادة الشاهد تترك لتقدير الحاكم.و لو من بعض الوجوه.

التداعي و ترجيح البينات:

أشرنا فيما سبق إلى أن الدعوى قد تكون بين مدع و منكر،و قد تكون بين متداعيين،أي ان كلا من المتخاصمين يصدق عليه تعريف المدعي و المنكر في

ص:97

آن معا،و ذكرنا في الصفحات المتقدمة العديد من الأمثلة على ذلك،و نضيف إليها المثالين التاليين زيادة في التوضيح من جهة،و لأن الفقهاء قد أولوهما عناية خاصة،و أطالوا فيهما الكلام:

1-أن يتنازع المتداعيان على عين لا يد لأحدهما عليها،كقطعة نقود،أو سكين وجدت في مكان،و رآها اثنان،فقال كل:انّها له،و نفى أن تكون لغيره- أي انّه يدعي ملكية العين لنفسه،و ينفي ملكيتها عن صاحبه.ولدي الترافع ينظر،فإن لم يكن لهما و لا لأحدهما بينة تعرض عليهما اليمين،فإن حلف أحدهما،و نكل الآخر فهي للحالف،و ان حلفا معا فهي بينهما مناصفة.

و ان كانت لأحدهما بينة دون الآخر فهي لصاحب البينة،و ان أقام كل منهما بينة،تعين الترجيح بالعدالة و العدد،فتقدم بينة الأعدل شهودا على غيرها.و ان تساوتا في العدالة قدمت الأكثر عددا.و مع التساوي عدالة و عددا فإنه يقرع بينهما،فمن خرج اسمه حلف،و قضي له.و ان امتنع عن اليمين من عينته القرعة حلف الآخر،و قضي له.و ان نكلا معا بعد تساوي البينتين قسمت العين بينهما نصفين.

2-أن يتنازعا عينا في يد كل منهما،كما لو سكنا في دار،ثم ادعى كل منهما أن الدار له بكاملها،فان كان لأحدهما بينة دون الآخر فهي له.و ان أقاما البينة قسمت بينهما،حتى و لو كانت احدى البينتين أقوى عدالة،و أكثر عددا،و لا تجري عملية الترجيح كما في المسألة السابقة.و السر أن المفروض في المسألة السابقة عدم اليد لأحدهما على العين،فتتصادم البينتان لورود كل منهما على العين،و يتحتم الترجيح.أما في هذه المسألة فالمفروض أن كلا من المتداعيين صاحب يد على النصف،و في الوقت نفسه صاحب بينة،و المفروض أيضا أن

ص:98

بينة كل ناظرة إلى النصف الذي في يد الآخر دون النصف الذي في يده بالذات، و عليه تكون النتيجة عدم التعارض بين البينتين،و مع انتفاء التعارض لا يبقى مورد للترجيح.هذا ما فهمته من قول صاحب الشرائع،و هو:«لأن يد كل واحد على النصف،و قد أقام الآخر بينة فيقضى له بما في يد قرينه»معللا بهذا القول عدم الحاجة إلى الترجيح.

و مهما يكن،فقد جاء في الجواهر-باب القضاء:«يقضى بينهما نصفين من دون اقتراع و لا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية.بلا خلاف أجده بين من تأخر».

و ان لم يكن لهما و لأحدهما بينة حلفا و قسمت مناصفة،و ان نكل أحدهما و حلف الآخر فهي للحالف،على أن يحلف أن الجميع له و لا حق لصاحبه فيه.(الجواهر و المسالك).

تعارض البينتين:

لا يتحقق التعارض بين البينتين إلاّ إذا كان العمل بأحدهما مستلزما لتكذيب الأخرى،بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال،كما لو شهدت إحداهما بأن فلانا باع داره لزيد صباح اليوم الفلاني،و شهدت الأخرى بحصول البيع لعمرو في الوقت نفسه،أو قالت الأولى:ان هذا ابن خالد،و قالت الثانية:انّه ابن خليل،أما إذا شهدت الأولى بأن البيع حصل بالأمس،و الثانية بأنه حصل اليوم فلا تعارض، و يؤخذ بالسابقة،و تهمل اللاحقة،لأن البيع المتأخر وقع في غير ملك،و لا بيع إلاّ في ملك.و مثله لو شهدت إحداهما بالبيع لإبراهيم،و عينت الوقت،ثم شهدت الأخرى بالبيع لسليم،و أطلقت،و لم تعين وقتا خاصا،فإنّه يؤخذ بالأولى التي

ص:99

عينت،و تهمل الثانية التي أطلقت،لاحتمال أن يكون البيع حصل لسليم متأخرا عن البيع لإبراهيم،و عليه لا يكون له أي أثر.

و متى تحقق التعارض بين البينتين،و تعذر الجمع بينهما بنحو من الأنحاء أجرينا عملية الترجيح بالعدالة و العدد فقط،فنقدم البينة التي شهودها أعدل و أوثق على غيرها،فان تساوتا بالعدالة و الوثاق نقدم الأكثر عددا،فان تساوتا عدالة و عددا أقرع بينهما.فمن خرج اسمه حلف،و قضي له.فان امتنع عن اليمين من خرج اسمه بالقرعة حلف الآخر،و قضي له.و ان نكل قضي بالعين مناصفة بين الاثنين.

و يتحقق التعارض بين شاهدين،و مثلهما.و بين شاهد و امرأتين، و مثلهم.و بين شاهدين،و شاهد و امرأتين.و لا يتحقق بحال بين شاهد و يمين، و شاهدين،أو شاهد و امرأتين،لأن الشاهد و اليمين لا يصدق عليهما اسم البينة، كي يقع التعارض،بخلاف الشاهدين،أو الشاهد و امرأتين فإن كلا منهما بينة تامة فيتحقق التعارض بهما.(الجواهر و المسالك).

البينة و اليد:

إذا كانت العين في يد شخص،ثم ادعاها آخر،فإن كانت له بينة حكم له، و مع عدمها يحلف صاحب اليد،و ترد الدعوى،فإن نكل عن اليمين فهي للمدعي بعد يمينه،فإن نكل سقطت الدعوى.

و ان أقام كل منهما بينة فلفقهاء الإمامية آراء و تفاصيل أنهاها صاحب المستند في المجلد الثاني،باب القضاء،إلى عشرة أقوال نذكر منها الأربعة التالية:

القول الأول:تقديم بينة الخارج،و هو المدعي على بينة الداخل،و هو

ص:100

صاحب اليد.

الثاني:عكس الأول،أي تقديم بينة الداخل على بينة الخارج.

الثالث:الرجوع إلى عملية الترجيح في العدالة و الأكثرية.

الرابع:اللجوء إلى القرعة،فتقدم البينة التي يخرج اسم صاحبها.

و بعد أن نقل صاحب المستند الأقوال و أدلتها اختار القول الأول،أي تقديم بينة الخارج بصورة عامة،و نسبه إلى فحول العلماء من المتقدمين و غيرهم، و استدل بأن البينة وظيفة المدعي،و اليمين وظيفة المنكر،و المدعي هنا هو الخارج،و المنكر هو صاحب اليد.فالبينة،اذن،على الأول،و متى أقامها قبلت، لأنها مطلوبة منه بالأصل،و يرد غيرها،لأنها لم تطلب منه بالأصل.

و جاء في الجواهر أن المشهور بين علماء الإمامية شهرة عظيمة أن بينة الخارج مقدمة على بينة صاحب اليد،ان شهدت البينتان بالملك المطلق-أي دون أن تبينا سبب الملك-على أن تتساويا بالعدالة و العدد.

و ليس من شك أن ذهاب الأكثرية إلى ذلك يشعر بأفضلية بينة الخارج على بينة الداخل.

و المالكية يتفقون مع الإمامية على الترجيح بين البينتين باشتهار العدالة، و كثرة العدد.أما الحنفية،و الشافعية،و الحنابلة،فينفون الترجيح كلية،و لا أثر عندهم لاشتهار العدالة،و كثرة العدد،و يقولون بتساقط البينتين إطلاقا،و تكون الحال كما لو لم تكن لهما بينة بالمرة.

ص:101

مسائل:
1-الحكم بشهادة الزور:

جاء في كتاب فتح القدير ج 2 باب النكاح ص 389،و ج 5 باب القضاء ص 492،و كتاب الفروق ج 4 ص 41 طبعة 1346 ه،الفرق الثالث و العشرون بعد المائتين:

«إذا شهد عند الحاكم شاهدا زور بطلاق امرأة،فحكم بطلاقها،جاز لكل من الشاهدين أن يتزوجها مع علمه بكذب نفسه،لأن حكم الحاكم فسخ لذلك النكاح،و كذلك إذا شهد عنده ببيع جارية،فحكم ببيعها جاز لكل واحد من تلك البينة أن يشتريها ممن حكم له بها،و يطأها هذا الشاهد،مع علمه بكذب نفسه، لأن حكم الحاكم ينزل منزل البيع لمن حكم له».

و هذا اللفظ لصاحب الفروق،و في معناه ما جاء في فتح القدير.

و قال الإمامية:ان حكم الحاكم لا يحلل حراما،و لا يحرم حلالا،و انما هو لنصرة الحلال لا الحرام،و وسيلة لاحقاق الحق،و إبطال الباطل،فمن علم بأنه خلاف الحق و الواقع فلا يجوز له العمل به.و إذا حكم القاضي،و ذهب المحكوم إلى قاض آخر مدعيا على الأول أنّه حكم عليه بالجور و الفساد،و ثبت للثاني أن الحاكم قصر في الاجتهاد،أو خالف دليلا قطعيا من الشرع وجب عليه نقضه و إبطاله.

و قال بعضهم:ينبغي أن لا تسمع الدعوى على القاضي،لأنها اهانة له.

و أجابه صاحب المستند بأنّه لا بأس بإهانته،بل ينبغي أن يهان،لأن في إهانته عز

ص:102

للإسلام-إذا كان هو جائرا.

و يتفق قول الإمامية مع الحديث الشريف:«انكم تختصمون إليّ،و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،فأقضي له على نحو مما اسمع منه، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه،فإنما أقطع له به قطعة من نار».

و إذا كان قضاء سيد الأنبياء لا يغير الواقع،فكيف يغيره قضاء غيره؟ و ما أبعد ما بين ما ذهب إليه أبو حنيفة،و ما ذهب إليه جماعة من الإمامية من قولهم انّه إذا أوقع الزوج طلاق امرأته أمام رجلين معتقدا عدالتهما،و كانا عند نفسهما غير عادلين،فلا يسوغ لأحدهما أن يتزوج المرأة بعد الانتهاء من عدتها.

2-الرجوع عن الشهادة:

قدمنا أنّه إذا تبين أن الشاهدين شهدا كذبا و زورا ينتقض الحكم،و لو بعد التنفيذ لمكان العلم بمخالفة الواقع،أما إذا رجع الشاهدان عن الشهادة فينظر:فإن رجعا قبل الحكم أحجم الحاكم عنه،و ان رجعا بعد الحكم لم ينتقض،حتى و لو لم ينفذ.لأن الرجوع محتمل للصدق و الكذب.و عليه إذا شهد شاهدان بأن فلانا طلق زوجته،و حكم الحاكم بالطلاق،ثم تبين كذبهما تبقى العلاقة الزوجية كما كانت قبل الشهادة.أما إذا رجعا عن الشهادة فلا تعود المرأة إلى زوجها بلا اشكال-كما عبر صاحب الجواهر.و نسبه صاحب المسالك إلى المشهور بين فقهاء الإمامية.

ثم ينظر:فان كان الزوج قد دخل بالمرأة فلا يضمن الشاهدان له شيئا،لأنّه قد استوفى البضع،و انتفع به.و ان لم يدخل ضمنا له نصف المهر،لأن الزوج دفعه،و لم ينتفع بشيء.و بعد أن ذكر هذا صاحب الجواهر قال:«و هو الأقوى

ص:103

عندي».

و بهذا قال الحنفية.(فتح القدير باب الشهادات).و إذا رجع أحد الشاهدين دون الآخر ضمن الراجع نصف ما دفعه الزوج،و لم يضمن الذي بقي على شهادته شيئا.و إذا شهد رجل و امرأتان،و رجعت امرأة واحدة فعليها الربع.

و إذا شهد عند الحاكم اثنان مجهولا الحال،فزكّاهما عدلان.و بعد الحكم و التنفيذ رجعا عن التزكية،و قالا:كنا نظن بهما العدالة،ثم تبين العكس،و انهما كانا فاسقين عند الشهادة،إذا كان الأمر كذلك ضمن المزكيان تماما كما يضمن الشاهدان.(الجواهر).

3-في العقود:

دار في يد صاحبها،فادعى شخص أنّه اشتراها منه،و دفع الثمن كاملا.

فأنكر صاحب الدار البيع و القبض،ثم جاء ثان و ادعى نفس ما ادعاه الأول،أي أنّه اشترى أيضا،و أقبض،و أنكره صاحب الدار كما أنكر الأول.

فإن ذكرت كل من البينتين تاريخ البيع،و كان متعددا صح البيع المتقدم، و بطل المتأخر.و ان كان التاريخ واحدا،أو أطلقتا،و لم تذكرا التاريخ بالمرة تعينت عملية الترجيح،لأن المال الواحد لا يكون مملوكا بتمامه لاثنين،و تقدم البينة الأقوى عدالة و وثوقا.و مع التساوي في العدالة تقدم الأكثر عددا.و مع التساوي عدالة و عددا يقرع بينهما.

و قدمنا أن المالكية يوافقون الإمامية في الترجيح،و لكنهم لا يقولون بالقرعة،مع التساوي،كما هي الحال عند الإمامية.أما الحنفية و الشافعية و الحنابلة فيذهبون إلى تساقط البينتين مطلقا،حتى و لو كانت إحداهما أشهر

ص:104

عدالة،و أكثر عددا.

هذا،بالقياس إلى المتداعيين،أما بالقياس إلى صاحب الدار فيمكن الجمع بين البينتين،إذ من الجائز أن يكون قد باع الدار مرتين،و قبض ثمنها من الاثنين، و لذا وجب عليه اعادة الثمن لمن لم يعمل ببينته.و تكون النتيجة على تقدير كذب البينتين في الواقع أنّه يخسر الدار،و ما يعادل ثمنها،و على تقدير كذب إحديهما دون الأخرى يخسر الدار فقط،و ان كانتا صادقتين فلا ظالم و لا مظلوم.

هذا هو شأن القضاء يرتكز على الحجاج و النقاش لا على معرفة الغيب، و لا على الطرق العلمية الحسية التي تصيب الواقع،و لو تسعين بالمئة.بل قد و قد،كما أشار الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«و لعل بعضكم ألحن بحجته.»و ما ضياع الحق على أهله بيسير.و من هنا جاء في الحديث الشريف:«من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين.القضاة ثلاثة:قاضيان في النار،و قاض في الجنة.القاضي على شفير جهنم.»و الحمد للّه الذي أعفاني من هذا الشفير بعد أن ابتليت به.

4-الاختلاف في الشهادة:

كما يشترط التطابق بين الشهادة و الدعوى يشترط أيضا توارد الشاهدين على معنى واحد،و لا يضر الاختلاف في اللفظ،كما لو شهد أحدهما أنّه استدان مائة إلى شهر،و شهد الآخر أنّه أخذها منه على أن يفيه بعد شهر.أما إذا اختلف المعنى،كما لو شهد الأول بحصول الدين،و شهد الثاني بالإقرار بالدّين فلا يثبت الدين،لعدم ثبوت واحد من المشهود به،لأن الدّين غير الإقرار به،و لم تتم البينة عليهما،و لا على واحد منهما،فتلغى الشهادة.أجل إذا حلف المدعي مع أحد الشاهدين حكم له،حيث يقضى بشاهد و يمين في الحقوق المالية.

ص:105

هذا ما قاله صاحب الشرائع و الجواهر و المسالك و غيرهم من فقهاء الإمامية،و كنت لا أرتضيه من قبل،و أرى أن يوكل الأمر إلى نظر القاضي و اجتهاده،ثم عدلت و رأيت الحق بجانب الفقهاء،و ان القاضي لا يمكنه بحال أن يعتبر مثل هذه الشهادة بينة كاملة،لأن الإقرار،و ان كان نافذا في حق المقر إلاّ أنّه لا ملازمة بين وجود الإقرار بالدين و بين وجود الدين واقعا،إذ من الجائز أن يقر الإنسان بغير الواقع لمصلحة تستدعيها ظروفه الخاصة.و إذا لم يكن الإقرار هو الدين بالذات،و لا ملازم للدين واقعا،صح ما قاله الفقهاء من عدم توارد الشاهدين على شيء واحد،و لا على شيئين متلازمين في الواقع.

و بهذا قال الشافعية و الحنفية.(فتح القدير).و قال صاحب المغني-من الحنابلة-إذا شهد أحدهما بالفعل،و شهد الآخر بالإقرار به كملت الشهادة،و عمل بها.

و لو شهد أحدهما بدينار،و الآخر بدرهم،أو شهد بثوب أبيض،و الآخر بثوب أسود،أو شهد أنّه باعه الدار بألف صباحا،و الآخر بألفين في الوقت نفسه، أو شهد أنّه باعه ليلا،و الآخر نهارا،أو في السوق،و الآخر في البيت.لو كان في الشهادة شيء من هذا النوع لم تكمل،و لا يجوز العمل بها.و لكن للمدعي أن يحلف مع الشاهد الذي اتفقت شهادته مع دعواه،و يحكم له بعد الحلف.

و بكلمة.ان البينة لا تتم و تكمل إلاّ بتوارد شهادة عدلين على فعل واحد، و زمن واحد،و مكان واحد،و صفة واحدة.و من المعروف قديما و حديثا من سيرة القضاة الشرعيين و المدنيين أن التناقض في أقوال الشهود مسقط للشهادة.

و إذا لم يبين الشاهد الزمان و المكان و ما إليهما فللحاكم أن يلقي عليه ما يشاء من الأسئلة التي تتصل بموضوع الدعوى،بخاصة إذا طلب ذلك منه

ص:106

المدعى عليه.

و لو شهد أحدهما بألف،و الآخر بألفين يثبت الألف بالشاهدين،و الألف الثانية بشاهد و يمين،لأن الألف الأولى معلومة على كل حال بخلاف الألف الثانية فإنه لم يشهد بها إلاّ شاهد واحد.(الجواهر).

و قال أبو حنيفة:لا يثبت شيء.و تثبت عنده الألف إذا شهد أحدهما بألف،و الآخر بألف و خمسمائة.و السر انّه يعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ و المعنى،فإذا اتفقا معنى لا لفظا لم تقبل الشهادة،و لفظة الألف قد وجدت بشهادة الاثنين في المثال الثاني،فتوارد اللفظ و المعنى،فقبلت الشهادة.و لم توجد لفظة الألف إلاّ في شهادة واحد في المثال الأول،فاختلف قول الشاهدين في اللفظ بالنسبة إلى الألف،فتسقط الشهادة،حتى و لو اتفق الاثنان على الألف معنى،و كان معلوما و متبقيا على كل حال.

5-الشهادة في غير الترافع:

إذا شهد لك عدلان أن هذه المرأة التي تزوجتها هي أختك من الرضاع،أو أنك استدنت من فلان كذا،و نسيت،أو أن عليك قضاء أيام من رمضان،أو أنك نذرت أو حلفت،أو أن هذا فاسق،أو عادل،أو مجتهد،أو جاهل،و ما إلى ذاك فهل يجب عليك أن ترتب الآثار على ذلك،و ان لم يحكم به حاكم،و يوجد طرف ثان ينازع،و يخاصم؟ ليس من شك و لا خلاف أيضا أنّه إذا حصل لك العلم و الإقناع وجب أن ترتب الآثار،حتى و لو كان الشهود غير عدول عندك،بل و لو حصل العلم من شاهد واحد.أما إذا شهد عدلان،و لم يحصل العلم و الاطمئنان ففيه خلاف بين

ص:107

الفقهاء،و الأكثر على وجوب العمل،لأن البينة حجة متبعة في الموضوعات الخارجية.و لا يتوقف العمل بها على الترافع،و حكم الحاكم،بل قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه:«ان ذلك من الأمور المسلّمة في الشريعة».و أخبار أهل البيت عليهم السّلام كثيرة في ذلك،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:«و الأشياء كلها على ذلك،حتى يستبين لك غيره،أو تقوم به البينة».و منها:«إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم».و هي شاملة لمحل التنازع و غيره.و منها ان الوكيل لا يعزل،حتى يبلغه العزل بثقة،أو مشافهة الأصيل.

و قال الشيخ الهمداني أيضا في آخر باب الطهارة:«ان قبول البينة في مورد الخصومة،و تقديمها على اليد يدل على قبولها في غير الخصومة بالأولية القطعية.بل ان كثيرا من الفقهاء اكتفوا بقول الواحد إذا كان ثقة.».

6-مجهول العقيدة:

لو مات رجل،و لم نعلم على أي دين كان حين الموت،و لا قبل الموت، و أيضا لم نعلم على أي دين كان أبواه.و له ولدان:مسلم،و غير مسلم.فقال المسلم مات أبوه على الإسلام،فله التركة بكاملها.و قال الآخر:بل مات على غير الإسلام،فالتركة مناصفة بيننا.

و بعد أن افترضنا أننا نجهل حال أبوي الميت،و أيضا نجهل حال الميت السابقة و اللاحقة،بعد هذا الافتراض لا نجد أصلا في الشريعة يعين،أو يرجح الإسلام على الكفر،أو الكفر على الإسلام،حيث لا دليل من كتاب،أو سنة،أو إجماع على أن كل من شك في إسلامه فهو مسلم.و إذا قلنا بطهارته فإنما نقول بها،لمكان الشك في الطهارة.أجل،الأصل في كل إنسان أن يكون حرا،لا أن

ص:108

يكون مسلما.و إذا قلنا أيضا بطهارة الجلد المستعمل المطروح في أرض البلاد الإسلامية،و رجحنا الظاهر على الأصل فإنما قلناه عملا برواية إسحاق بن عمار التي نصت على أنّه«لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني،و ما صنع في أرض الإسلام،أو كان الغالب عليها من المسلمين».

و إذا لم يوجد أصل يعين أحد الطرفين تكون المسألة من باب التداعي، حيث يصدق على كل من المسلم و غير المسلم أنّه مدع و منكر في آن معا.

فالمسلم يدعي أن أباه كان مسلما،و ينفي عنه الكفر،و غير المسلم يدعي أنّه غير مسلم،و ينفي عنه الإسلام.و عليه فإن كان لأحدهما بينة دون الآخر عمل بها،و ان كان لكل بينة جرت عملية الترجيح بين البينتين من تقديم الأشهر عدالة،و مع التساوي في العدالة يرجح الأكثر شهودا و مع التساوي عدالة و عددا فالقرعة.

و ان لم تكن لهما،أو لأحدهما بينة فصلت بينهما اليمين،فإن حلف المسلم،و نكل غير المسلم فالتركة بكاملها للأول،و ان حلف غير المسلم،و نكل المسلم فهي بينهما مناصفة،و ان حلفا معا اعطي ثلاثة أرباع للمسلم،و الربع لأخيه غير المسلم،لأن النصف للمسلم على كل حال،سواء أ كان الميت مسلما، أو لم يكن،و انما الخلاف على النصف الآخر،لأنه على تقدير الإسلام فالكل للولد المسلم،و على تقدير عدم الإسلام فالتركة مناصفة.

و لم أجد أحدا من فقهاء الإمامية تعرض لهذه المسألة بالذات فيما لدي من المصادر،و ربما تعرضوا لها،و لم أهتد إليها-رغم البحث و التنقيب-و لكنهم تعرضوا لحكم من شك في إسلامه بصورة عامة،و جزموا بأنه لا امارة و لا أصل يعين،أو يرجح الإسلام على الكفر،أو الكفر على الإسلام.

قال صاحب الجواهر في باب اللقطة:ان الأصول العقلية تقتضي عدم

ص:109

الحكم بإسلام اللقيط،أو كفره،لأن الأصل كما يقتضي عدم تولده من الكافر يقتضي أيضا عدم تولده من المسلم.و قال صاحب العروة الوثقى:لا نرتب أحكام الإسلام على المجهول-ما عدا الطهارة-و وافقه السيد الحكيم في «المستمسك»،و السيد الخوئي في«التنقيح».و بكلمة ان فقهاء الإمامية كلهم أو جلهم على أن الأصل في الإنسان الحرية دون الإسلام.

ص:110

اليد

الإمامية و اليد:

تكلم الإمامية عن اليد في كتب الفقه و أصوله،و أطالوا الكلام.و لم أر كتابا- فيما لدي-من كتب المذاهب و القوانين الحديثة تبسّط فيها على هذا النحو الذي رأيته في كتب الإمامية.و مهما يكن،فقد تكلم فقهاؤهم في معنى اليد،و تحديد مواردها،و في الدليل على اعتبارها،و المسوّغ للاعتماد عليها،و في معارضتها مع غيرها من الأدلة،و في سببيتها للضمان،و دلالتها على التذكية و الطهارة،إلى غير ذلك.

معنى اليد:

معنى وضع اليد على الشيء أن يستطيع صاحبها التصرف فيه تصرف المالك في ملكه بلا معارض،كالزرع و الغرس في الأرض،و السكن و البناء و الهدم في الدار،و الركوب للدابة،و اللبس للثوب،و بيع هذه الأعيان و اجارها، و هبتها و إعارتها.و بالاختصار،ليس للفقهاء اصطلاح خاص في وضع اليد.و انما العبرة عندهم في الصدق العرفي.و إذا اختلفوا فيما بينهم في مورد أنّه من وضع اليد،أو غيره تحاكموا إلى العرف.

ص:111

دلالة اليد على الملك:

لا يختلف اثنان في أن وضع اليد يدل على الملك،و السر هو طريقة العقلاء،و تباني الناس على ذلك قبل الشرع و بعده.و قد أقر الشرع،و أمضى هذه الطريقة بأخبار كثيرة،نكتفي منها بخبر«حفص»الذي سأل الإمام الصادق عليه السّلام قائلا:

إذا رأيت شيئا في يد رجل أ يجوز أن اشهد أنّه له؟ قال الإمام:نعم.

قال حفص:أشهد أنّه في يده،و لا أشهد أنّه له،فلعله لغيره.

قال الإمام:أ يحل الشراء منه؟ قال حفص:نعم.

قال الإمام:لعله لغيره،فمن اين جاز لك أن تشتريه،و تصيره ملكا لك،ثم تقول بعد ذلك:هو لي،و تحلف عليه،و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه قبلك؟لو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق (1).

فاليد تستمد قوتها من تباني العرف على دلالتها على الملك،و إمضاء الشرع لهذا التباني،أما الحكمة لهذا التباني و هذا الإمضاء فهو قيام الحياة الاجتماعية،و سيرها في طريقها الطبيعي،و عدم اختلال النظام.

الأموال و الأعراض و الأنساب:
اشارة

ليس من شك أن وضع اليد على الأموال دليل على الملك،سواء أ كانت

ص:112


1- ذكر المسلمين،و أراد عموم الناس،و انما خص المسلمين بالذكر،لأنهم الأكثرية الغالبة في ذلك العهد.

الأعيان منقولة أم غير منقولة.و كما يدل وضع اليد على ملكية الأعيان يدل أيضا على ملكية المنافع،فلو سكن شخص في دار زيد بحجة أنّه استأجرها منه،ثم جاء آخر،و قال له:أنا المستأجر،لا أنت كان مدعيا،و عليه البينة،أما الساكن فلا يكلف بالإثبات،لأن يده تشهد له.

أجل،لو وقع التخاصم بين المالك و الساكن،و قال الأول للثاني:أنت تسكن ملكي ظلما و عدوانا.و قال له الساكن:بل استأجرت الدار منك يكون الساكن مدعيا،و عليه الإثبات،و يكون المالك منكرا،لا يكلف إلاّ باليمين،لأن اليد انما تدل على ملكية المنافع مع عدم معارضة المالك،أمّا مع هذه المعارضة فلا،لأن المنفعة تابعة للعين،و لا تنتقل عن صاحب العين الاّ بمسوغ شرعي، كالإجارة،و العارية،و قد ادعى الساكن وجود هذا المسوغ فعليه الإثبات.

هذا فيما يعود إلى الأعيان و المنافع،أما في الأعراض و الأموال،كما لو تنازع اثنان زوجية امرأة هي تحت أحدهما،أو بنوة صبي هو في بيت أحد المتنازعين،و من جملة عياله،فهل تدل اليد على أن المرأة هي زوجة الذي تحته،و الصبي هو ابن الذي عنده،بحيث يكون صاحب اليد منكرا،و الطرف الثاني مدعيا،يطلب منه الإثبات؟

الجواب:

ان اليد لا تدل على الاختصاص إلاّ في الأموال،أما في الاعراض و الأنساب فلا أثر لها ابدا.هذا مع العلم بأن المرأة في هذه المسألة هي للذي تحته،حتى يثبت العكس،و لكن لا لليد،بل عملا بظاهر حال المسلم،و حمل أفعاله على الصحيح.

و أمّا بالنسبة إلى الصبي،فإن كان الذي هو عنده قد أقر و اعترف أنّه ولده

ص:113

قبل أن ينازعه فيه منازع فهو أولى به،و ان لم يكن قد أقر به فالمتنازعان فيه سواء، فان كان لأحدهما بينة حكم له،و ان أقاما معا البينة أقرع بينهما،و بالتالي،لا يكون لليد أي أثر.(الجواهر و المسالك و البلغة).

حال اليد:

لا يدل وضع اليد على الملك إلاّ بشرطين أساسيين:

الأول:أن نجهل كيف ابتدأ وضع اليد على العين،بحيث لا نعلم ما ذا كان السبب لحدوثها،و أنّه هل هو البيع،أو الهبة،أو الإجار،أو الغصب.مثلا:نعلم أن هذه الدار كانت فيما مضى لزيد،و بعد أمد رأيناها في يد عمرو،يتصرف فيها تصرف المالك في أملاكه،و لكن لا نعلم بأي سبب انتقلت إليه،و لا كيف ابتدأ وضع يده عليها.فوضع اليد-و الحال هذه-يدل على الملك بلا ريب،و لا يجري الاستصحاب.أما إذا علمنا أن صاحب اليد كان قد استأجر العين من صاحبها،و بعد أمد شككنا:هل انتقلت إليه بمسوغ شرعي،أو لا؟أما إذا كانت الحال هكذا فلا أثر لليد في دلالتها على الملك،بل نستصحب حال اليد التي كانت عليها فيما سبق.

و على هذا،إذا كانت دار في يد شخص،و ادعى عليها آخر،و قال:هي ملكي،و اني أجرته إياها منذ سنوات،و أبرز أوراقا تثبت الإجار،أو أقام شهودا على ذلك.إذا كان الأمر كذلك-تسقط اليد عن الدلالة على الملك،و ليس لساكنها أن يحتج بها،بل عليه أن يثبت الملك بطريق آخر غير وضع اليد،و أنّها انتقلت إليه بناقل شرعي.و مع عدم البينة لصاحب اليد يحلف الذي أثبت الإجار، و يحكم له.

ص:114

الشرط الثاني:أن تكون العين التي تحت اليد قابلة بطبيعتها للنقل و الانتقال،و التملك و التمليك.أما إذا لم تكن قابلة لذلك،كالوقف الذي لا يقبل الملك إلاّ في حالات خاصة فإن اليد تسقط عن الدلالة على الملك.فإذا علمنا بأن هذا العقار كان وقفا فيما مضى،و بعد أمد رأيناه في يد شخص يتصرف فيه، و شككنا:هل انتقل إليه بالبيع لوجود المسوغ لبيع الوقف.إذا كان الأمر كذلك.

فلا يسوغ أن نحكم لصاحب اليد اعتمادا على وضع يده.

و على هذا إذا تنازع أرباب الوقف مع صاحب اليد على ما كان وقفا في السابق،فقالوا:ان هذا العقار كان وقفا،و ما زال.و قال صاحب اليد:هو ملكي، و أنا المتصرف،فالقول قول أرباب الوقف،و على صاحب اليد البينة أنّها انتقلت إليه بناقل شرعي،و لا يفيده وضع اليد شيئا.

ص:115

العرف و الاستفاضة

اشارة

قدمنا في الصفحات السابقة أنّه يحكم و يقضى بالإقرار،و أيضا يقضي بالبينة و الشهادة لمن كانت معه،و باليد لصاحبها-أحيانا-و عقدنا هذا الفصل للنظر بالعرف و الاستفاضة:هل يقضى بهما أو لا؟و على تقدير القضاء بهما فهل يقضى بهما في جميع الحالات،أو في حالات خاصة.

العرف:
اشارة

لقد حددوا العرف بتعاريف شتى،أقربها إلى الأذهان ما جرت عليه عادة الناس في بيعهم و شرائهم و اجارهم،و سائر معاملاتهم،بحيث يسوغ للمتكلم إذا أراد معنى أن يطلق اللفظ،و يترك القيود اتكالا على فهم العرف-مثلا-إذا قال اللبناني-اشتريت هذا بليرة فهم منها الليرة اللبنانية بدون الوصف.و إذا قال العراقي:اشتريته بدينار فهم منه الدينار العراقي كذلك.

و نوجز الكلام عن العرف من جهات ثلاث:الأولى،هل هو مصدر من مصادر التشريع؟الثانية:هل هو سبيل لتشخيص الموضوع الذي تعلق به الحكم الشرعي؟الثالثة:هل يقضي به؟

ص:116

العرف و التشريع:

ليس من شك أن العرف بذاته ليس مصدرا من مصادر التشريع،أي ليس طريقا صحيحا لمعرفة الأحكام الشرعية.أجل،إذا جرت عادة العرف على شيء في عهد الشارع و زمنه،و حصل ذلك بمرأى منه و مسمع،و مع هذا لم ينه و يردع عنه،مع قدرته،و عدم المانع له عن النهي و الردع-إذا كان الأمر كذلك.يكون هذا إمضاء من الشارع.لأنه قد التقى مع العرف في هذا المورد بالذات.و عليه لا يكون هذا عملا بالعرف،بل أخذا بالسنة التي تشمل قول الشارع و فعله و تقريره.

العرف و الموضوعات الشرعية:

أما الاعتماد على العرف،لمعرفة الموضوع،و تحديد المعنى الذي تعلق به الحكم الشرعي،أما هذا فثابت في الموضوع الذي لا حقيقة خاصة فيه للشرع، فإذا قال الشارع«الخراج بالضمان.و لا ضرر و لا ضرار.و الأعمال بالنيات»فان المرجع في تشخيص الخراج و الضمان و الضرر و النية و ما إليها هو العرف.

و بتعبير الأصوليين نرجع إلى العرف في الشبهة الحكمية،لا في الشبهة الموضوعية (1).

ص:117


1- إذا شككنا في قصد الشارع و مراده،بحيث لا نعلم:هل هذا عنده حلال أو حرام؟تكون الشبهة حكمية،و سميت حكمية،لأن الشك في نفس الحكم الشرعي،لا في موضوعه.و إذا علمنا الحكم الشرعي:و اشتبه علينا موضوعه في الخارج،كما لو علمنا أن الشارع حرم الخمر و أباح الخل،ثم اشتبه هذا المائع الخاص:هل هو خمر أو خل تكون الشبهة موضوعية،و سميت بذلك لأن الشك حصل في تشخيص موضوع الحكم،لا في الحكم نفسه،كما هي الحال في الشبهة الحكمية.
العرف و القضاء:

ان نسبة العرف إلى القضاء تماما كنسبته إلى التشريع،فكما أن العرف لا يكون بذاته طريقا لمعرفة الحكم الشرعي،و يكون-أحيانا-سبيلا لتشخيص الموضوع الذي تعلق به الحكم،كذلك لا يكون العرف أصلا من أصول الإثبات في القضاء،و يكون-أحيانا-وسيلة لمعرفة الشيء الذي اختلف فيه المتخاصمان،و يكون تأثيره في القضاء من هذه الجهة فحسب.و لذا لو تغيرت العادة،و زال هذا العرف من الزمن،يزول معه هذا التأثير.قال صاحب الجواهر:

باب الزواج-فصل المهر:إذا اختلف الزوجان في تسليم المهر فالقول قول الزوجة،مع يمينها،أما الاخبار الدالة على أن القول قول الزوج مع الدخول،لا الزوجة فإنها محمولة على أن العادة كانت فيما مضى على تقديم المهر قبل أن يدخل الزوج،ثم تركت هذه العادة،فرجعنا إلى الأصل القاضي بعدم التسليم، حتى يثبت العكس.

إذن،للعادة تأثير في تعيين الشيء الذي تنازع عليه المتخاصمان،و فيما يلي نذكر طرفا من الأمثلة على ذلك:

1-إذا اتفقا على حصول عقد البيع بمئة دينار-مثلا-و قال أحدهما:

جرى الاتفاق على الدينار البلدي الذي يتعامل الآن به الناس عندنا.و ادعى الآخر:

بأنه جرى على الدينار الأجنبي،أو الدينار الذي كان يتعامل به أهل زمان.إذا كان الأمر كذلك فالقول قول الأول،مع يمينه،و على الثاني البينة.

2-إذا اشترى عينا،ثم وجد بها صفة لم يكن عالما بمكانها من قبل، و زعم أنّها عيب يوجب الرد.و قال البائع:ليست هذه الصفة بعيب،حكّمنا العرف و أهل الخبرة،و قضينا بقولهم.

ص:118

3-إذا وقع الإجار على بيت،دون أن يتعرض المؤجر و المستأجر إلى الضريبة التي تضعها البلدية من الحراسة و الكناسة،و لا إلى ضريبة المسقفات، و ما إلى ذلك.ثم وقع النزاع،فقال المستأجر:هي على المالك.و قال المالك:

هي على المستأجر.رجعنا إلى العرف،و العادة المتبعة.

4-إذا باع فرسا فهل تندرج البرذعة و اللجام في المبيع؟أو دابة حاملا فهل يندرج الحمل؟أو بستانا فهل يندرج حائطه؟أو دارا فهل تدخل المفاتيح و الشجرة التي فيها؟كل هذه،و ما إليها نرجع فيها إلى العرف ما لم يوجد نص على العكس،أو قرينة تعين الخروج،أو الدخول.

5-إذا أقامت الزوجة مع الزوج في محل واحد،ثم طالبته بالنفقة مدّة إقامتها معه،فترد دعواها عملا بالعادة و الظاهر من أن الزوج في مثل هذه الحال قد أدى النفقة.

و قد أطال الفقهاء الكلام فيما يشمله لفظ الدار و البستان و الأرض و العبد و الفرس،و ما إليها.و جعلوا العرف هو المرجع.قال صاحب الفروق المالكي ج 3 الفرق 199:«هذه الألفاظ كلها حكّمت فيها العادة».و قال صاحب الجواهر الإمامي في باب المتاجر:«إذا باع شجرة عليها ثمرة فالثمرة للبائع على كل حال إلاّ أن يكون عرف يقتضي الخروج».

و الذي يجب التنبيه إليه،و لا يجوز الذهول عنه بحال ان العرف بذاته ليس مصدرا من مصادر القضاء،و لا يرجع إليه لتمييز المحق من المبطل،و انما نعتمد عليه عند الحاجة لمعرفة معاني الألفاظ،و ما يتبع هذه المعاني التي تنازع فيها المتخاصمان.و هذا في حقيقته ليس قضاء بالعرف،و ان كان له تأثير في القضاء، لأن معنى القضاء به أن يكون هو الفصل بين الحق و الباطل،و الحاكم لأحد

ص:119

المتداعيين أو عليه.و لا أحسب أن فقيها يقول بذلك،أو يستند قول مدعيه إلى دليل.أجل،قد نحكم بالظاهر في بعض الحالات كمن تغدى في بيت آخر،ثم طالبه صاحب البيت بثمن الغداء،فقال الآكل:أنا ضيف،و بيتك ليس مطعما.

فإن قاعدة احترام المال،و ضمانه تقتضي أن يكون الآكل مدّعيا،و صاحب البيت منكرا.مع أننا لا نشك بأن القول قول الآكل،و لكن هذا بالحقيقة عمل بالاطمئنان لا بالظاهر.

الاستفاضة:
اشارة

الاستفاضة و الشياع و التسامع بمعنى واحد،و هو أن تسمع من جماعة يستبعد اتفاقهم و تواطؤهم على الكذب بحيث يحصل من قولهم الاطمئنان بالصدق.و قد تكلم صاحب الجواهر عن الاستفاضة في جهات ثلاث:

1-الاستفاضة و العمل

عمل الإنسان بالاستفاضة بينه و بين ربه بصرف النظر عن الشهادة و القضاء، كما إذا شاع أن هذا العقار وقف،و ان فلانة زوجة فلان،و ان هذه الدار غصب، و ان فلانا عالم،أو جاهل،أو عادل،أو فاسق،أو أنّه ابن فلان و ما إلى ذلك.

و ليس من شك أن الناس كانوا،و ما زالوا يعتمدون هذا الشياع،و يرتبون عليه الآثار،سواء أحصل لهم القطع،أو الظن.و قد أشرنا في فصل سابق إلى أن بعض المحققين من علمائنا يأخذ بخبر الواحد في الموضوعات إذا كان ثقة في غير الترافع و التخاصم.

ص:120

2-الاستفاضة و الشهادة:

أما الشهادة بالاستفاضة،و الأدلاء بها أمام الحاكم،لمجرد الشياع و التسامع ففيه تفصيل:

فان حصل العلم من الشياع جازت الشهادة إطلاقا في كل شيء،سواء أ كان من نوع الجنايات،أم العقود و الموجبات،أو الأحوال الشخصية أو غيرها،لأن العلم حجة من أي سبب حصل.

و ان لم يحصل العلم من الاستفاضة فلا تجوز الشهادة استنادا إليه إلاّ في أشياء خاصة نص عليها الفقهاء،و هي سبعة:النسب،و الملك المطلق-أي بدون ذكر سبب الملك من الشراء و الوراثة أو غيرها،فإن بيّن السبب سقطت الشهادة- و الزواج،و الوقف،و العتق،و الولاء،و الموت.و اكتفى بعضهم بثلاثة:النسب و الموت و الملك.و آخر بخمسة،حيث أضاف إلى هذه الثلاثة النكاح و الوقف.

و مهما يكن،فان الشرط الأساسي للشهادة هو العلم،و لكن الفقهاء أجازوا الشهادة استنادا إلى الاستفاضة في هذه الأشياء،و ان لم يحصل العلم.

و الأولى أن يشهد الشاهد بوجود الشياع،و ينقله إلى الحاكم،و هو بدوره يرى فيه رأيه.

و اتفقت المذاهب الأربعة على أن الشهادة بالاستفاضة تصح في النسب و الولادة.و اختلفوا فيما عدا ذلك.فقال الحنفية:تقبل أيضا في الموت و النكاح و الدخول.

و قال الحنابلة:تقبل في الموت و النكاح و الملك المطلق و الوقف.

و قال الشافعية:تقبل في الموت و الملك.(المهذب.المغني.فتح القدير- باب الشهادات).

ص:121

3-الاستفاضة و القضاء:

متى ثبتت الاستفاضة عند الحاكم قضى بها،سواء أحصل له العلم،أم لم يحصل،تماما كالقضاء بالبينة و الإقرار.و ليس للمنكر أن يطعن و يعترض.و لكن القضاء بالاستفاضة ينحصر في النسب و الملك المطلق و الزواج و الوقف.و انما جاز الحكم بها لسيرة الفقهاء،و دلالة بعض الاخبار.(الجواهر باب القضاء).

و قبل أن ندع هذا الفصل نشير إلى أمرين مهمين،هما خلاصة ما تقدم:

الأول:الفرق بين العرف و الاستفاضة،و هو أن العرف لا يقضى به،و لا يعتمد عليه،كطريق من طرق الإثبات في باب القضاء،و انما يرجع إليه،لمعرفة معاني الألفاظ التي اختلف المتخاصمان في مدلولها،إما الاستفاضة فيقضى بها، و يعتمدها الحاكم،كأصل من الأصول الشرعية للإثبات في الأشياء التي ذكرناها.

الثاني:الفرق بين الشهادة و القضاء،و هو أن الشهادة لا بد أن تكون عن علم،تماما كالشمس،حسبما جاء في الحديث الشريف،إلاّ في موارد خاصة ذكرناها في الفقرة السابقة.أما القضاء فيجوز مع العلم و الظن،لأن الحاكم يحكم بالإقرار و البينات و الايمان و اليد،و بالاستفاضة،و ان لم يحصل له العلم.و النتيجة الحتمية لذلك أنّه ليس كل ما تجوز الشهادة به يجوز القضاء به،فقد يشهد الشاهد بشيء عن علم،و لا يحكم الحاكم.و لا كل ما يجوز القضاء به تجوز الشهادة به، فقد يحكم الحاكم باليمين،و مع ذلك لا يجوز للشاهد أن يشهد لأحد بيمينه كائنا من كان.

ص:122

علم الحاكم

اشارة

و مدى تأثيره في القضاء

أسباب العلم:

للعلم أسباب لا يبلغها الإحصاء،و يعنينا منها ما يتصل بالدعاوي التي ترفع لدى المحاكم،و يعلم القاضي بوقائعها،أو بجهة من جهاتها.و ينقسم علم الحاكم بالواقعة المتنازع عليها باعتبار ظرفه و الزمن الذي حصل فيه إلى قسمين:الأول أن يحصل العلم للحاكم في خارج المحكمة،و قبل التنازع و الترافع.الثاني أن يحصل أثناء السير في الدعوى،و من وقائعها و ملابساتها بالذات،و هذا النوع- و هو المقصود من هذا الفصل-ينقسم باعتبار أسبابه إلى ما يلي:

1-معاينة الحاكم و مشاهدته إذا كان المدعى به من الوقائع المادية.

2-القرائن الموضوعية من غير الطب الشرعي،بل يستنتجها الحاكم بذكائه و تفطنه لحجاج الخصوم و خداعهم.

3-الأمور العامة البديهية التي يشترك فيها جميع الناس،مثل أن الأطرش لا يسمع،و الأعمى لا يبصر،فإذا شهد الأول بسماع الإقرار،و الثاني برؤية الحادثة لا يلتفت إليهما.

ص:123

4-الطب الشرعي،و منه أقوال الخبراء.

5-المبادئ الشرعية العامة،مثل أن أقل الحمل ستة أشهر،و أكثره سنة، فيقضي الحاكم بنفي الولد،أو إلحاقه على هذا الأساس بدون بينة أو يمين،بعد العلم بتاريخ الوطء،أي ان من يدعي خلاف هذا المبدأ ترد دعواه ابتداء،لأنه يدعي خلاف ما ثبت في الشرع.

الأصل في القضاء:

و قبل أن نتكلم عن علم الحاكم بشتى ظروفه و أقسامه نقدم هذا التمهيد:

ان الأصل في القضاء و في جميع التكاليف أن تؤدى و تمتثل على وجهها بطريق العلم و القطع،و لا يجوز تأديتها و امتثالها بطريق غير طريق العلم و اليقين إلاّ إذا نص الشارع على الاكتفاء بطريق خاص.و حينئذ يتّبع هذا الطريق حين التأدية و العمل،و ان لم يفد العلم.أما السر في أن الأصل يقتضي أن تكون التأدية بالعلم لا بغيره فهو أن التكليف قد تحقق بالعلم و اليقين،و اليقين لا يرفع إلاّ بيقين مثله،و لا يرفع بالشك و لا بالظن،لأن الأقوى لا يزال بالأضعف.اللهم إلاّ أن يقوم الدليل من اليقين بالذات على الاكتفاء بالظن في بعض الحالات،و هذا في حقيقته عمل بما ينتهي إلى اليقين،و لو بالواسطة.

و قد قام الدليل القطعي من الشرع نفسه على جواز القضاء بأصول لا تفيد العلم و الجزم،كالإقرار و البينة و اليد،و الاستفاضة.و السر في ذلك هو التيسير و التسهيل،إذ لو انحصر طريق القضاء بالعلم لا نسد بابه،و ذهبت الحقوق هدرا، و عمّت الفوضى.

و قد ذهب البعض إلى أن الواقع بما هو واقع غير مطلوب في القضاء،و انما

ص:124

المطلوب الحكم بما تؤدي إليه البينات و الايمان،لحديث:«إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان».و يرده ان المطلوب في جميع التكاليف،لا في القضاء فقط هو الواقع بحقيقته.فإذا قال:أشهد،و أقضي فمعناه أشهد بالواقع،و اقضي بالواقع،إلاّ أن يقوم الدليل على أنّه ليس للقاضي أن يحكم بالواقع،بل بشهادة الشهود،و ما إليها فقط لا غير.و ليس لهذا الدليل عين و لا أثر في الشريعة،لأنه يصادم المنطق،و البرهان العقلي،بل قام الدليل من الكتاب و السنة أن واجب القاضي أن يحكم بالواقع أولا و قبل كل شيء.أما حديث:«انما أقضي بينكم بالبينات و الايمان»فهو منزل على الغالب من عدم العلم بالواقع،و ان الحكم بهما يكون حيث لا طريق سواهما،و إلاّ جاز الحكم بالبينة و اليمين مع العلم بكذبهما، و لا قائل بذلك.

و مهما يكن،فإن المهم أن نتذكر،و لا ننسى أن القضاء بالعلم لا يحتاج إلى دليل،لأنه على مقتضى الأصل،و لأنه ليس وراء العلم شيء.أما القضاء بغير العلم فيحتاج إلى دليل قاطع.

القوانين الحديثة و أئمة المذاهب:
و على ما قدّمنا يتجه هذا السؤال:

إذا كان القضاء بالعلم لا يحتاج إلى دليل،و القضاء بغيره يفتقر إلى الدليل فكيف أجمعت القوانين الحديثة،و فقهاء المذاهب الأربعة و عدد من فقهاء الإمامية-أجمعوا على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه،و لا أن يستند إلى شيء من معلوماته في حكمه؟

ص:125

الجواب:

ان أرباب الشرائع الحديثة حين قالوا:«ليس للحاكم أن يحكم بعلمه».

أرادوا أنّه لا يحق له أن يتصدى للحكم و الفصل في الواقعة التي قد علمها من قبل،و ان عليه أن يدع النظر فيها إلى قاض آخر،و يكون هو شاهدا لا حاكما،و لم يجيزوا بحال أن يتصدى للقضاء،ثم يحكم بخلاف ما علم.و يمكن أن نحمل كلام الفقهاء الذين منعوا القاضي من الحكم بعلمه على ذلك مع التمحل.و على هذا فلا منافاة بين قول من قال:لا يصح للحاكم أن يقضي بعلمه،و بين ما يقتضيه الأصل من وجوب اتباع العلم في كل شيء،حيث لا مانع من العقل و الشرع أن يكون طريق الحكم و الفصل بين الناس غير علم الحاكم في بعض الظروف و الأحوال.

القضاء على خلاف العلم:

قدمنا أن الأصل الأول يقتضي القضاء بالعلم،حتى يثبت العكس،و قد ثبت جواز القضاء بالبينة و ما إليها،و ان لم يحصل العلم.و أيضا قد تحتم الضرورة في بعض الحالات الخروج عن هذا الأصل،لا بالعمل بالظن فقط الذي قد يجتمع مع الواقع،بل بالعمل على خلاف العلم،و الحكم بغير الواقع.

مثال ذلك رجل استودع آخر درهمين،ثم استودعه ثان درهما واحدا، فوضعه مع الدرهمين،و صادف أن تلف درهم من الثلاثة،بدون تفريط أو تعدّ من المستودع،و ذهب الجميع إلى الحاكم ليقضي بالحق،فعليه أن يقضي بدرهم و نصف للأول،و هو صاحب الدرهمين،و بنصف درهم للثاني،و هو صاحب الدرهم،مع علمه و يقينه بأن هذا القضاء خلاف الواقع،لأن الدرهم التالف،امّا

ص:126

أن يكون لصاحب الدرهمين،و عليه يبقى له درهم واحد،مع أنّه أخذ درهما و نصف درهم.و امّا أن يكون التالف لصاحب الدرهم،و عليه فلا شيء له،مع أنّه أخذ نصف درهم.

و حيث انسدت السبل لمعرفة الواقع حصلت الشركة الحكمية بين الاثنين- لمكان الخلط-في درهم فقط،لأن أحد الدرهمين الباقيين هو للأول،سواء أ كان التالف منه،أم من الآخر،بعد أن كان المفروض أن له درهمين،و ان التالف واحد،فأحد الدرهمين باق لا محالة،فيعطى له باليقين،و يبقى درهم واحد يقسّم بينهما نصفين،و تكون النتيجة أن يأخذ صاحب الاثنين واحدا و نصفا، و صاحب الواحد نصف الواحد.و بهذا وردت الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام.

و أيضا يقضي الحاكم على خلاف علمه فيما لو تداعى اثنان في شيء لا يد لأحدهما عليه،و لا بينة له،و زعم كل منهما أنّه له وحده،فإنهما يحلفان معا،ثم يقتسمان بالسوية،مع العلم بأن إحدى اليمينين كاذبة،و الأخرى صادقة،و ان المتنازع فيه لصاحب اليمين الصادقة.و لكن بعد أن انسد الطريق إلى معرفة الواقع تعين هذا التقسيم،لفصل الخصومة.و على مذهب أبي حنيفة قد يتكشف الواقع جليا،و يمكن العمل به بدون أي محذور،و مع ذلك يقضي الحاكم بخلافه،مع علمه و يقينه بالمخالفة،و مع إمكان الأخذ بالواقع.فقد جاء في كتاب «اختلاف أبي حنيفة و ابن أبي ليلى»لأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة ص 183 طبعة 1358 ه و كتاب«ميزان الشعراني»باب اللعان أن أبا حنيفة قال:

«لو تزوجت امرأة،و غاب عنها الزوج،فأتاها خبر وفاته،فاعتدت ثم تزوجت،و أتت بأولاد من الثاني،ثم قدم الأول،فإن الأولاد الذين ولدوا من الثاني يلحقون بالأول،و ينتفون عن الثاني».

ص:127

و على هذا،إذا تنازع الأول و الثاني على الأولاد المذكورين،و ترافعا لدى الحاكم،فيجب عليه أن يقضي للغائب،و ينفيهم عن الأب الحقيقي بدون بينة و يمين،مع علمه و يقينه بمخالفة قضائه للواقع،و مع إمكان العمل بهذا الواقع.

و بعد هذا التمهيد الذي عرفنا من خلاله أن الحاكم ممنوع-عند أكثر الفقهاء و أرباب القوانين-من القضاء بعلمه الذي حصل له قبل التنازع و الترافع نذكر الأسباب التي يكون منها علم القاضي أثناء سيره في الدعوى.

المعاينة:

ليس من شك أن للقاضي أن يكشف و يشاهد بنفسه أثناء سيره في الدعوى الواقعة المادية المتنازع عليها،و يكون علمه الحاصل من المعاينة و المشاهدة أصلا من أصول الإثبات بدون حاجة إلى أي شيء آخر.

مثال ذلك أن يستأجر شخص شخصا آخر على بناء بيت بصورة اتفقا عليها،و بعد انتهاء الأجير من العمل قال له المستأجر:لم تؤد العمل بشروطه، و قال الأجير:بل أديته على الوجه المطلوب،فللحاكم أن يعاين و يحكم بدون حاجة إلى بينة و يمين.

و كذلك إذا ادعت امرأة على زوجها بأن البيت الذي أعده لسكنها غير صالح،فللحاكم أن يذهب بنفسه بطلب منها،أو من تلقائه،ثم يحكم بما رأى.

و ان لم يذهب بنفسه،و اتفق الطرفان على تعيين خبير.انتدبه الحاكم و أخذ بقوله على أن للحاكم ان يجتهد،و يرفض قول الخبير برغم هذا الاتفاق.

و ان لم يتفقا عليه،و انتدبه الحاكم من تلقائه فان حصل له العلم من قوله حكم به، و إلاّ توقف،لأن الظن لا يغني عن الحق إلاّ إذا دل الدليل على اتباعه.أجل،إذا

ص:128

وجدت قرائن أخرى بحيث إذا ضمت إلى قول الخبير حصل الاطمئنان و الاقتناع.أمكن و جاز،و إلاّ أهمله كلية.

المحاكم الشرعية:

بهذا يتبين معنا أن ما جرت عليه المحاكم الشرعية بلبنان من الأخذ بقول الخبير الذي يكشف على بيت الطاعة في دعاوي نفقة الزوجة،و الاعتماد على تقريره،حتى و لو لم يحصل منه العلم-يتبين أن هذا الاعتماد لا يبتنى على أساس من الشرع.

القرائن الموضوعية:

و هي القرائن التي ترافق الدعوى،و يستنتجها الحاكم بذكائه و تفطنه لحجاج الخصوم،و هذه القرائن لا تدخل تحت ضابط عام،و لا يجمعها قاسم مشترك،لأنها تختلف باختلاف الدعاوي و المتداعين،و لا ريب في جواز القضاء بالعلم الناشئ منها،لأن المفروض أنّها تتصل بوقائع الدعوى،و لا تنفك عنها، و ليست بشيء إذا لم تكن سببا للعلم.أجل،قد يرى الحاكم أنّها تدعم أصلا من أصول الإثبات،أو تضعفه.و قد سبقت الإشارة إليها في فصل القرائن و الكتابة.

المبادئ العامة:

المبادئ العامة هي-كما قدمنا-التي يشترك في العلم بها جميع الناس، كشهادة الأطرش بسماع الإقرار،و الأعمى بمشاهدة الحادثة،و كدعوى من قال:

ان هذه الدابة له،و انّها ولدت عنده منذ سنة،ثم تبين أن سنها أقل،أو أكثر.

ص:129

و القضاء بالعلم من هذه المبادئ بديهي لا يحتاج إلى بيان،حتى عند من منع الحاكم من القضاء بعلمه،لأنها من المعلومات الفطرية المستقلة عن الدعوى و غيرها.

الطب الشرعي:

المراد بالطب الشرعي العمليات التي يقوم بها اخصائيون لتحليل الدماء، و فحص البصمات،و الكتابات،و الملابس لمعرفة أصحابها،و فحص الحرائق لمعرفة أسبابها،و القنابل لمعرفة مصدرها،بل حتى التراب و الأحجار،و ما إليها مما يمكن أن يترك فيه المتهم أثرا منه.و قد شيدوا لهذا الطب المعامل و المعاهد في أمريكا،و أوربا،و قصدتها البعوث من سائر الدول و الأقطار.

و قد سبق الإمام علي عليه السّلام الجميع إلى هذا الفحص و الاختبار،فلقد وجدنا في أقضيته أساسا لهذا الطب الشرعي،من ذلك:

ان امرأة تعلقت برجل من الأنصار،و استعملت كل طريق لاغرائه،و لما عجزت عنه حاولت الكيد له،فأخذت بيضة،و صبت البياض على ثيابها،و بين فخذيها،ثم جاءت إلى عمر،و قالت:ان هذا الرجل اغتصبني.و أراد عمر أن يعاقب الشاب،فقال له:تثبت في أمري.فقال عمر لعلي عليه السّلام:ما ترى يا أبا الحسن،فقال الإمام:ائتوني بماء حار مغلي،ثم صب الماء على البياض،حتى إزاحة عن الثوب،فألقاه في فمه،و لما عرف طعمه لفظه،ثم اقبل على المرأة، حتى أقرّت.

و الحكم في هذه الواقعة،و ان استند إلى الإقرار،لا إلى الفحص و الاختبار، إلاّ أنّها تدل بصراحة على أن لهذا الفحص أساسا في الشريعة الإسلامية.

ص:130

و منه أن امرأتين تحاكمتا إليه،ولدت إحداهما ذكرا،و الثانية أنثى في آن واحد،في مكان واحد،و ادعت كل منهما أنّها أم الغلام،فوزن حليب الاثنين، فكان أحد الحليبين أخف،فحكم لصاحبة اللبن الأخف بالبنت،و لصاحبة اللبن الأثقل بالغلام.

و هذا الحديث،و ان لم يعتبره الفقهاء كأصل من أصول الإثبات،و دليل يعتمدونه في هذا الباب إلاّ أنّه كسابقه،يدل على وجود معالم الطب الشرعي في تراثنا الإسلامي،بخاصة في آثار أهل البيت عليهم السّلام.

و قد جاء في أحاديثهم ان امرأة ادعت العنن على زوجها،و أنكر هو ذلك، فيقام الرجل في الماء البارد،فإن تقلص إحليله حكم بقوله،و ان استرخى حكم بقولها.

و قال صاحب الجواهر:«لقد عمل بهذا الحديث ابنا بابويه و ابن حمزة، و أهمله المتأخرون من الفقهاء،لعدم الوثوق به،و عدم الوثوق أيضا بالانضباط، لأن قول الأطباء يثمر الظن الغالب بالصحة إلاّ أنّه ليس طريقا شرعيا».و معنى هذا أنّه لو انضبط و أفاد العلم لكان شرعيا معتبرا.

و قد اعترف الاخصائيون في هذا الفن أن الطب الشرعي لا يستدعي العلم القاطع للشك و الريب في كل ما يقدمه و يرسمه،بل قد يفيد العلم،كفحص بصمات الإبهام التي تعين شخصية المتهم و هويته،بعد أن أثبتت التجارب أن لكل انسان بصمة خاصة،بحيث يمكن التشابه في الوجه و الملامح،و لو من وجه،و لا يمكن التشابه في البصمات بوجه (1).و قد لا يفيد الطب الشرعي العلم،

ص:131


1- تعيين هوية المتهم من بصمة الإبهام لا تقبل الشك،و ليس للمتهم الاعتراض عليها بحال،و لكن له أن يثبت أن ذهابه لمكان الجريمة كان بدافع مشروع،لا بدافع ارتكاب الجريمة.

و لكنه يزود الحاكم بحلقة جديدة من سلسلة الأدلة،أو يقوي و يدعم حلقة ضعيفة منها،كفحص الخط و الكتابة،أو وجود أثر من آثار المتهم في مكان الجريمة:أو من آثار الجريمة أو مكانها.على المتهم،بحيث توجب الترجيح و الظن،و لا تفيد العلم.

و ليس من شك أن العلم الذي يحصل من الطب الشرعي في غير الأنساب- حجة متبعة،تماما كالعلم الناشئ من اللزوم العقلي،و المبادئ العامة التي يشترك في العلم بها الناس جميعا،و لا يحتاج اعتبار العلم من أي مصدر حصل إلى جعل و إمضاء من الشارع،لأنه حجة بنفسه،بل هو المصدر لكل حجة سواه، حتى للأخذ و التقيد بقول الشارع.

و مرة ثانية نشير إلى أن العلم الحاصل من الطب الشرعي،و من الملازمة العقلية،و ملابسات الدعوى شيء.و المعلومات الخاصة التي عرفها الحاكم خارج المحكمة و الدعوى شيء آخر.و ان للذين منعوا الحاكم من القضاء بهذه المعلومات أن يوجبوا عليه الأخذ بالعلم الذي حصل له من الطب الشرعي، و اللزوم العقلي.

أما إذا لم يحصل العلم من الطب الشرعي فيترك الأمر إلى تقدير القاضي، و مدى اقتناعه بدعم القرينة لدليل من أدلة الإثبات،أو تضعيفها،لأن تشخيص الحوادث الخارجية من الأشياء الموضوعية البحتة،لا يرجع في بيانها و معرفة حقيقتها إلى الشارع،و انما تعرف و تشخص من الطرق المألوفة لدى الناس.و من هنا كان للمتهم كل الحق في إثبات العكس بجميع الطرق،للتشكيك بما دل عليه الطب الشرعي و غيره من القرائن سواء أ كان من شأنها أن تفيد العلم،أم لم يكن- ما عدا الأدلة التي نص عليها الشارع.

ص:132

و بالنظر إلى أهمية القضاء بالطب الشرعي في المحاكم الزمنية اقتضت هذه الإشارة.

الخلاصة:

و كلمة الخلاصة ان آية قرينة تتصل بالدعوى أثناء رؤيتها يجوز للحاكم أن يعتمدها،و يبني حكمه عليها،مع وجود العلم القاطع،سواء أ كانت القرينة من نوع الطب الشرعي،أو اللزوم العقلي،أو غيره لأن العلم لا يفرّق فيه بين سبب و آخر من أسبابه.أما مع عدم العلم فيترك تقدير القرينة إلى الحاكم،ان شاء طرحها بالمرة،و ان شاء رجّح و عزر بها أحد الأدلة،حسب اقتناعه و اطمئنانه بينه و بين خالقه جل و عز.

ص:133

اليمين

اشارة

اليمين من أهم الطرق التي يبتني عليها الحكم في باب القضاء.هذا مع العلم بأنّها شرعت لفصل الخصومات،لا لإثبات الواقع،و الكشف عنه.و يقع الكلام فيها من جهات نعرضها فيما يلي:

وظيفة المنكر:

قدمنا أن المدعي هو من لو ترك لترك،و ان المدعى عليه هو من لو ترك لم يترك.و ان وظيفة المدعي الأدلاء بالبينة،و وظيفة المنكر حلف اليمين.و قد تتجه اليمين على المدعي،كالأمين إذا ادعى تلف العين بلا تعد أو تفريط.و قد لا تقبل اليمين من المنكر،كما لو كان وكيلا أو وليا أو وصيا.و مهما يكن،فان الغالب في الحالف أن يكون منكرا،و في صاحب البينة أن يكون مدعيا،و أرجعوا ذلك إلى قوة الإنكار و السلب،لأنه يتفق مع الأصل،و إلى ضعف الإيجاب لمخالفته له، فاحتاج المدعي إلى البينة،ليقابل الحجة بحجة أقوى.

شروط الحالف:

يشترط في الحالف ما يشترط في مجري العقود و الموجبات من العقل

ص:134

و البلوغ و الاختيار،و يزيد عليه أن يكون له حق الاسقاط،و التبرع،فلا تصح اليمين من الوكيل و الوصي و الولي،و لا من السفيه فيما لا ينفذ تصرفه فيه.

أجل،إذا كان للقاصر دين على آخر،و ادعى المديون أنّه سلم المبلغ إلى الوصي،و أنكر.اتجهت اليمين عليه،و لكن هذه دعوى شخصية بالنسبة إلى الوصي.و إذا حلف الوصي حكم ببقاء الدين في ذمة المدعي،و ان نكل أورد اليمين،و حلف المدعي حكم بالمبلغ على الوصي،لأن النكول أو الرد بمنزلة تصديق المدعي،أو قل:هو الذي حكم على نفسه بنفسه ما دام له مخرج و ندحة عن الحكم.و الضابط في صحة اليمين أن يكون المحلوف من أجله فعلا للحالف بالذات،أو علما بفعل الغير،و كلاهما من شؤونه.

أمّا الضابط لصورة اليمين من الحالف و كيفيتها فقال الفقهاء:ان كانت الدعوى متعلقة بفعل الحالف حلف على البت واقعا،و ان كانت متعلقة بفعل الغير حلف على نفي العلم،و الحق أن هذا مبني على الغالب.و الضابط الصحيح ان يمين الحالف تأتي على حسب جوابه،فإن أجاب بنفي الواقع إطلاقا حلف على البت واقعا،و ان أجاب بنفي العلم حلف على نفي العلم من دون فرق في الحالين بين أن يكون المحلوف لأجله من فعل نفسه،أو من فعل غيره.

فإذا ادعى المدعي في وجه الوارث بأن مورثه اقترض أو اغتصب،و أجاب بأن مورثه لم يقترض و لم يغتصب حلف على البت،و ان أجاب بأنّه لا يعلم حلف على نفي العلم.

موضوع اليمين:

موضوع اليمين هو الحق المحلوف من أجله،و يشترط صحة الحكم به

ص:135

إثباتا أو نفيا،بحيث لو حلف المنكر حكم ببراءته،أو حلف المدعي حكم بثبوت حقه.و يشمل هذا الحق العين و الدين،و العقود و الموجبات،و الجنايات و الأحوال الشخصية،و ما إليها،ما عدا حقوق اللّه،و هي الحدود.أما اليمين العقيمة التي لا يصح بناء الحكم عليها فلا تتجه على أحد مدعيا أو مدعى عليه.

و من أمثلتها أن يبيع شخص داره من زيد،ثم يأتي ثالث،و يدعي شراءها من قبل،فإذا أنكر البائع لا تتجه عليه اليمين،إذ لو أقر بسبق البيع لا يؤخذ بإقراره،لأنه في حق الغير.و إذا لم يكن للإقرار من أثر لم يبق لليمين من موضوع.

و كذلك لو قال شخص لآخر:لي عندك شهادة،و أطلبك إلى تأديتها أمام الحاكم.فأنكر،و قال:لا شهادة لك عندي،فلا تتجه اليمين على المنكر،لأنه لو أقر لا يحكم عليه بشيء،لأن منكر الشهادة مسؤول أمام اللّه فقط.

صيغة اليمين:

اتفق فقهاء المذاهب على أن اليمين تكون باللّه جل و عز،لا بالقرآن،و لا بالرسل و اليوم الآخر،و لا بالكعبة و الملائكة،و لا بغيرها.فلقد ثبت في الحديث الشريف:«لا تحلفوا إلاّ باللّه،و من حلف باللّه فليصدق،و من حلف له باللّه فليرض،فإن لم يرض فليس من اللّه».و في آخر:«من حلف فليحلف باللّه،أو ليصمت».

و ذكروا لليمين صيغا،و كلها في معنى واحد،منها«و اللّه»مقتصرا على اسم الجلالة،و منها«و اللّه الذي لا إله إلاّ هو»أو يتبع ذلك بالسميع العليم.

و غير المسلم يؤدي اليمين وفقا للاوضاع المقررة في ديانته.و يقبل منه إذا اختار الحلف باللّه.

ص:136

و يستحب التغليظ في اليمين عند الإمامية،و هو أن يكون اللفظ مرهبا و مخوّفا للحالف نحو«و اللّه المهلك المدرك الطالب الغالب المنتقم الجبار».

هذه هي صيغة اليمين الشرعية،و ليس للخصم أن يفرض الصيغة التي يشاء.

أقسام اليمين:

قسم أرباب الشرائع الحديثة اليمين إلى نوعين:قضائية،و هي التي تؤدي في مجلس القضاء،و غير قضائية،و هي التي تؤدي في غيره،تماما كما هي الحال في الإقرار عندهم.

ثم قسموا اليمين القضائية إلى نوعين:حاسمة،و هي التي يوجهها الخصم إلى خصمه عند عجزه عن إثبات حقه،حسما للنزاع.و متممة:و هي التي يوجهها القاضي من تلقائه،لأحد الخصمين تتميما لما بين يديه من الأدلة.

و لا أثر عند الإمامية لأية يمين يؤديها الحالف بدون اذن الحاكم،سواء أ كان في مجلس الحكم،أم في خارجه،فما جرت عليه العادة من قول أحد المتخاصمين للآخر:احلف و أسامحك،أو احلف و ادفع لك،فيحلف،ان هذا الحلف لا يلزم القائل بشيء،و تبقى الدعوى قائمة بينهما كما كانت.

أجل،إذا تعذر حضور الأصيل إلى مجلس القضاء،لمرض و نحوه و اتجهت عليه اليمين يسوغ للحاكم أن يستنيب من يحلّفه إياها،و يكون حكمها كما لو كانت في مجلس القضاء.و المهم أن تقع باذن الحاكم المجتهد،فإذا حصلت بغير اذنه تكون لغوا،حتى و لو كانت في مجلس القضاء،و تكون شرعية يقضي بها الحاكم إذا حصلت باذنه،حتى و لو كانت في غير مجلس القضاء.

و من تتبع أقوال الفقهاء،و قارنها بكلمات المشرّعين الجدد يجد أن كلام

ص:137

الطرفين في النتيجة يرجع إلي تقسيم اليمين إلى حاسمة،و غير حاسمة، و الاختلاف بينهما انما هو في المصداق و التطبيق،فإن كلا منهما يرى أن اليمين الحاسمة هي التي ينسد معها باب الدعوى،و لكن الجدد جعلوا منها،أو حصروها باليمين التي يوجهها الخصم إلى خصمه.و ينتقض هذا فيما إذا ادعى شخص على وارث في يده تركة مورثه،ادعى عليه بأنه يعلم أن له دينا على المورث،فأنكر الوارث العلم بالدين،و حلف على نفي العلم،فان هذه اليمين تسقط دعوى العلم بالدين،و لا تسقط الدعوى بالدين،إذ يسوغ للمدعي بعد هذه اليمين أن يقيم البينة على ما ادعاه،و عليه فلا تكون حاسمة رغم أنّها موجهة من الخصم،لا من الحاكم.اللهم إلاّ أن يقال بأنّها حاسمة بالنسبة إلى دعوى العلم بالدين.

و قد تكون اليمين المتممة حاسمة،كالتي تضم إلى الشاهد في الحقوق المالية،مع أن الجدد يعتبرونها غير حاسمة.و مهما يكن،فان اليمين الحاسمة- كما نفهم-هي التي ينسد معها باب النزاع و التخاصم،و غير الحاسمة،هي التي يبقى معها هذا الباب مفتوحا على مصراعيه،و هذا انسب و أقرب إلى دلالة اللفظ من اصطلاح المشرّعين الجدد.

و قسّم فقهاء الإمامية اليمين الحاسمة إلى نوعين:يمين الإنكار و يمين الإثبات-كما جاء في قضاء ملاّ علي-و تندرج في الثانية اليمين المردودة، و المنضمة،و يمين الاستظهار.

يمين الإنكار:

ذكرنا فيما سبق أن المدعى عليه اما أن يسكت،و امّا أن يقر،و امّا أن ينكر، و تكلمنا عن حكم السكوت و الإقرار.و الآن نتعرض لحكم الإنكار.

ص:138

إذا أجاب المدعى عليه بالسلب و الإنكار سأل الحاكم المدعي:أ لك بينة؟ فإن تكن أدلى بها،و إلاّ أفهمه أن له حق الحلف على خصمه،فإن طلبها أحلف الحاكم الخصم.و لا يجوز للحاكم أن يحلفه من تلقائه،و بدون طلب المدعي، لأن الحلف حق خاص به،و ربما كانت له مصلحة في ارجاء الحلف من الأمل بالصلح،أو رجوع المنكر عن موقفه،أو توقع وجود الشهود،أو غير ذلك.كما لا يجوز للمنكر أن يسرع و يتبرع باليمين بدون طلب الحاكم.و إذا حلف المنكر تبرعا،أو بطلب الحاكم بلا سؤال المدعي وقعت يمينه لغوا.

و متى حلف بسؤال المدعي و الحاكم سقطت الدعوى،و ليس للمدعي بعدها المطالبة بشيء،حتى و لو كانت له ألف بينة،و لا أن يثبت كذب الحالف بطريق من الطرق،لما جاء في الحديث،«ذهبت اليمين بحق المدعي».و في بقية الأحاديث أن سائلا قال للإمام الصادق:ان يهوديا خانني بألف درهم،و حلف، ثم وقع له عندي مال،فهل آخذه عوضا عن مالي؟ فقال له:ان خانك فلا تخنه.و ان ظلمك فلا تظلمه.و لا تدخل فيما عبته عليه.و لو لا أنك رضيت يمينه فأحلفته لأمرتك أن تأخذ مما تحت يدك،و لكنك رضيت،و قد مضت اليمين بما فيها.

و هذا عين ما جاء في القوانين الحديثة من أن رضا الخصم بيمين خصمه يعتبر تنازلا منه عن حقه.

و غني عن البيان ان العبرة بالحلف فعلا،لا بالاستعداد له،و أشرنا إلى هذه الحقيقة الواضحة،لأن بعض من يتصدى للقضاء و الحكم بين الناس يقول في هذه الحال لصاحب الدعوى:ينبغي أن نكتفي نحن و أنت بهذا الاستعداد،لأن من استعد لحلف اليمين كأنه حلفها،و لم يبق عليه من سبيل.فإذا حصل شيء

ص:139

من ذلك تبقى الدعوى قائمة على حالها.

و إذا قال المدعي لا أقبل يمين المدعى عليه-كما يحدث أحيانا-أفهمه الحاكم بأنه مخيّر بين واحد من ثلاثة:اما أن يدلي بالبينة على مدّعاه،و امّا أن يقبل بيمين المنكر،و امّا أن يرفع يده عن الدعوى،و ليس له أن يستبد برأيه.فإن اقتنع و اختار فذاك،و إلاّ أمهله الحاكم المدّة التي يراها،فإن بقي على إصراره ردت دعواه ردا مؤقتا،بحيث يستطيع تجديدها متى تهيأت له البينة،أو رضي بيمين المنكر.و بكلمة:ليس للمدعي أن يرفض يمين خصمه،و لا يقيم البينة،و في الوقت نفسه يبقى مصرا على دعواه.

و ليس للحاكم أن يحلّف المنكر من تلقائه بحجة أنّه ولي الممتنع،لأن ولايته تختص في استيفاء ما على الممتنع من حق.قال صاحب الجواهر في باب القضاء:«لا دليل على قيام الحاكم مقام الممتنع فيما امتنع عنه مما هو عليه فيما هو له»أي ان للممتنع فردين:أحدهما عليه الحق،و الآخر له الحق،و الحاكم ولي عن الأول،و هو الذي عليه الحق،فإن امتنع عن أدائه،فالحاكم يأخذه قهرا عنه،أما الثاني الذي له الحق فلا ولاية للحاكم عليه.و تحليف المنكر-هنا-حق للمدعي، لا عليه،فلا يكون المورد مشمولا للقاعدة.

اليمين المردودة:

قد عرفت أن المدعى عليه إذا حلف سقطت دعوى المدعي من الأساس سقوطا نهائيا.و ان لم يحلف فاما أن يرد اليمين على المدعي،و امّا أن ينكل، و يمتنع عن الحلف و الرد معا.

و قبل كل شيء تنبغي الإشارة إلى أنه لا يجوز رد اليمين من المنكر إلى

ص:140

المدعى عليه إلاّ بشرطين:الأول أن يكون المدعي جازما بدعواه،فان كان ظانا أو مشككا،فلا يجوز رد اليمين عليه،الثاني أن يكون الحق المدعى به لنفس المدعي لا لغيره،فلو كان وكيلا،أو وليا،أو وصيا لم تصح منه اليمين،لأن حق الغير،لا يثبت بيمين الغير،فإذا انتفى أحد هذين الشرطين انتفى الرد،لعدم إمكانه.و متى تحققا معا صح الرد.

و عليه،فإذا كان المدعي جازما و أصيلا،ورد المنكر عليه اليمين فإن حلف.ثبتت دعواه،و حكم بحقه على المدعى عليه.و ان نكل المدعي و امتنع عن حلف اليمين المردودة سقطت دعواه نهائيا عن المنكر.

و إذا نكل المنكر،و امتنع عن الحلف و الرد معا،فهل يقضي عليه الحاكم بمجرد النكول،أو أن الحاكم يرد اليمين على المدعي؟ قال الحنفية و الحنابلة:يقضى عليه بمجرد النكول،و لا موجب لرد اليمين على المدعي إذا كانت الدعوى مالا،أو المقصود منها مال.

و قال المالكية:لا بد من الرد في الدعاوي المالية.

و قال الشافعية:الرد لازم في جميع الدعاوي.(المغني ج 9 باب الأقضية).

و اختلف الإمامية فيما بينهم،و أكثرهم على أن الحاكم لا يقضي بالنكول، و ان عليه أن يرد اليمين من تلقائه على المدعي.و بعد أن ذكر صاحب الجواهر أدلة الطرفين بطولها،و ناقشها بالمنطق قال:«و بذلك ظهر لك أن أدلة الطرفين محل نظر،و أنّه ليس في النص بيان لوظيفة الحاكم في هذا الغرض».

و ما دام النص لم يفرض على الحاكم الرد فنحن مع صاحب الشرائع الذي اختار القضاء بمجرد النكول.و دليلنا أولا:ان الحاكم لا ولاية له هنا،لأن الحق للممتنع،و هو الرد،لا عليه،و الحاكم ولي الممتنع عن الحق الذي عليه فقط،كما

ص:141

ذكرنا قبل أسطر.ثانيا:ان للناكل ندحة و مخرجا عن الحكم عليه،إذ بإمكانه أن يحلف بدون حرج ما دام على علم ببراءته و فراغ ذمته.اذن،امتناعه عن الحلف يشكل اعترافا بثبوت الحق عليه،و لذا قيل:«من امتنع عن الاختيار فقد اختار».

و بالنتيجة يكون الناكل هو الذي حكم على نفسه بنفسه.و كلمة التلخيص ان الصور أربع:

1-إذا حلف المنكر سقطت دعوى المدعي.

2-إذا رد المنكر اليمين على المدعي،و نكل هذا خسر دعواه أيضا.

3-إذا حلف المدعي بعد الرد حكم له بما يدعيه.

4-إذا نكل المنكر،و امتنع عن الحلف و الرد معا حكم عليه بمجرد النكول.

اليمين المنضمة:

و يصح تسميتها باليمين المتممة،و هي التي تضم إلى شهادة شاهد واحد، أو إلى شهادة امرأتين لإثبات الحقوق المالية،و تقدّم الكلام عن ذلك في فصل «أقسام الحقوق»التابع لفصل الشهادة.

يمين الاستظهار:

لا تسمع الدعوى في وجه الورثة على مورثهم في حق من الحقوق المالية إلاّ إذا ترك الميت أموالا في أيدي الورثة.فلو لم يترك شيئا،أو ترك أموالا في غير أيدي الورثة لا تسمع الدعوى في وجوههم بحال،لأن الوارث-و الحال هذه- يكون تماما كالأجنبي.

ص:142

و متى ترك الميت أموالا في أيدي الورثة تسمع الدعوى على الميت، و لكنها لا تثبت إلاّ بالبينة،و يمين المدعي معا.و هذه هي يمين الاستظهار، و القصد منها التثبت من بقاء الدين في ذمة الميت إلى حين وفاته،و ان الدائن لم يبرئه منه،و لم يستوفه،أو يعاوضه عليه.

و أوجب الشافعي هذه اليمين في الدعوى على الصبي و المجنون.و أوجبها مالك في الدعوى بعين على الحي،و لم يوجبها في دعوى الدين.(الفروق ج 4).

و لم أهتد فيما لدي من كتب الفقه إلى قائل بإضافة هذه اليمين إلى البينة في الدعوى على الميت غير الإمامية.و مهما يكن،فان هذه انما تجب في خصوص الدعوى على الميت بدين لا بعين،على أن يكون المدعي أصيلا،لا وكيلا،أو وصيا،أو وليا-بل و لا وارثا أيضا-و أن يكون جازما لا ظانا،أو مشككا،حيث لا تتجه اليمين على واحد من هؤلاء.و لو لم تقبل من الولي و الوصي الدعوى بالبينة فقط لذهب حقهما هدرا.أجل،على الحاكم أن يضاعف جهوده في التحقيق و التدقيق في الدعوى على الميت و الصبي و المجنون،و يوليهما العناية و الاهتمام التام،سواء أ كانت الدعوى بعين،أم بدين.

و إذا لم يكن لصاحب الدين على الميت إلاّ شاهد واحد حلف مرتين، إحداهما اليمين المتممة للبينة،و الثانية يمين الاستظهار.قال صاحب الجواهر في باب القضاء:«هذا هو الأولى،بل الأقوى».و قال صاحب ملحقات العروة:

«انّه الأظهر و الأحوط».

و ينبغي التنبيه إلى أمور تتصل بهذا الموضوع:

«منها»ان هذه اليمين انما تصح بطلب الحاكم،لا بسؤال الوارث،و لا تبرعا من المدعي.

ص:143

و«منها»ان الوارث إذا علم ببقاء الدين في ذمة الميت وجب عليه الوفاء و الأداء بدون حاجة إلى الدعوى،و البينة و اليمين.

و«منها»إذا ادعى صاحب الحق علم الوارث بحقه،و طلب منه اليمين على نفي العلم،و نكل عنها ثبت عليه الحق بمقدار سهمه.

و«منها»إذا قال الميت:كل من ادعى عليّ بحق فهو صادق كان هذا وصية يخرج من الثلث إلاّ إذا ثبت حقه بالبينة الشرعية.

و«منها»إذا ادعى شخص على آخر بدين،و بعد رفع الدعوى لدى الحاكم، و قبل صدور الحكم مات المدعى عليه،فيكتفى بالبينة فقط،و لا داعي إلى اليمين.

كذب الحالف:
اشارة

إذا تبين كذب الحالف،مدعيا كان،أو مدعى عليه،فما هو الحكم؟

الجواب:

ان كذب الحالف يعلم تارة من إقراره،كما لو أكذب نفسه،و قال صراحة:

ان الحق لخصمه،و انّه كان كاذبا في يمينه،و أخرى من طريق آخر غير الإقرار، و الاعتراف على نفسه بالكذب.فإن أكذب نفسه بنفسه انتقض الحكم الذي بني على اليمين،و جاز لصاحب الحق مطالبة الحالف،و الاستيفاء منه بكل سبيل.و ان علم كذبه من أدلة و قرائن أخرى غير الإقرار فليس لأحد مطالبته بشيء إلاّ إذا نقض الحاكم حكمه.

أجل،من علم بكذبه فعليه أن يرتب آثار علمه،كما لو حلف أن الدار التي في يده ملك له،و أنت تعلم بأنّها ملك لزيد،فلا يسوغ لك أن تشتريها،أو

ص:144

تستأجرها منه،و لا أن تتصرف فيها بأي نحو من أنحاء التصرف إلاّ بإذن المالك الأصيل،و لكن لا يجوز لأحد،حتى المالك أن يطالبه بشيء.

و هذا الفرق الذي ذكرناه بين ما لو أكذب الحالف نفسه،و بين ما لو علمنا بكذبه من طريق آخر غير الإقرار،مع أن العلم بالكذب متحقق في الحالين.ان هذا الفرق لا مستند له إلاّ النص و التعبد المحض بقول الشارع،كما قال صاحب الجواهر.و بكلمة ان قول الإمام:«مضت اليمين بما فيها.و بطل كل ما ادعاه»و ما إلى ذلك.يستفاد منه أن المدعي المحق يذهب حقه بعد يمين المبطل،حتى كأنّه لم يكن،إلاّ إذا أكذب الحالف نفسه،و أقر بأن الحق ثابت عليه.

ص:145

كتاب الوصايا

معناها:

الوصايا جمع وصية،و تستعمل بمعنى الوصول،تقول:وصيت الشيء بالشيء إذا وصلته به،و أيضا تستعمل بالتقدم إلى الغير بما يطلب منه أن يفعله، و منه قوله تعالى وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ،و أيضا تستعمل في تفويض الإنسان بتصرف خاص بعد موته،و هذا المعنى هو المقصود بالبحث.و كثير من الفقهاء عرفوا الوصية بأنها تمليك عين أو منفعة مضاف إلى ما بعد الموت،و لا بد من هذا القيد الأخير،لإخراج التصرفات المنجزة التي ينفذها الإنسان في حياته، فإنها ليست من الوصية في شيء.

شرعيتها:

الوصية مشروعة كتابا و سنة و إجماعا،بل ان شرعيتها ثابتة بضرورة الدين، و نشير إلى بعض الآيات و الروايات للتيمن،و كفى،قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من لم يحسن وصيته عند

ص:146


1- البقرة:180. [1]

الموت كان نقصا في مروءته و عقله.

و أجمع الفقهاء قولا واحدا على استحباب الوصية،و عليه يحمل قوله تعالى «كُتِبَ» في الآية المذكورة،و قال بعض الفقهاء بوجوبها مطلقا،و ذهب الأكثرون إلى أنّها تجب إذا كان عليه حقوق للّه أو للناس،و ظن الموت،و خاف ضياعها من بعده،و هو الحق،و عليه يحمل هذا الخبر:«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية».

الصيغة:

من تتبع موارد الوصية يرى أنّها ليست على نسق واحد،فإن الوصية في بعضها تتم بمجرد الإيجاب،و لا تحتاج إلى قبول،كمن أوصى لآخر أن يفي ديونه،و يرعى أطفاله،و تسمى هذه بالوصية العهدية.

و أيضا لا يشترط القبول إذا كانت الوصية لعنوان عام،كالفقراء و المساجد، حيث تتم الوصية بإيجابها و موت الموصي،و يجب تنفيذها دون الرجوع إلى الحاكم الشرعي بدليل سيرة الفقهاء و عملهم قديما و حديثا.قال صاحب المسالك:«لو كانت الوصية لجهة عامة انتقلت إليها بلا خلاف».

و بعضها يحتاج إلى قبول،و لا تتم الوصية إلاّ به،كمن أوصى بشيء من ماله لشخص معين،و تسمى هذه الوصية تمليكية.اذن لا مناص من القول بأن الوصية تكون عقد إذا تعلقت بتمليك شخص معين،و تكون إيقاعا فيما عدا ذلك،و لا مانع من الشرع و لا من العقل ان يكون الشيء الواحد عقدا في مورد،و إيقاعا في مورد آخر تبعا للموضوع الذي تدور الأسماء مداره وجودا و عدما.

و يتحقق الإيجاب من الموصي مطلقا،و القبول من الموصى له الخاص

ص:147

المعين،يتحققان بكل ما دل عليهما من قول أو فعل أو كتابة،فالمعيار أن نعلم أو نطمئن بوجود الإرادة عن وسيلة من وسائل التعبير أيا كان نوعها،فلا أثر لوجود الإرادة واقعا،و من حيث هي إذا لم يعبر المريد عنها بوسيلة من الوسائل المألوفة عند أهل العرف،و لا للأداة إذا كان مدلولها غير مراد.

و تسأل:إذا وجدت الأداة المعبرة بظاهرها عن الإرادة،و شككنا:هل هي حجة يجب الأخذ بها أو لا؟فما ذا نصنع؟ الجواب:إذا شككنا في أصل التعبير،و ان هذه الأداة معبرة أو غير معبرة فلا يجوز الاعتماد عليها بحال،لعدم جواز الاعتماد على الظن مع عدم الدليل عليه، فكيف بالشك،و إذا كانت قطعية الدلالة على المراد وجب الاعتماد عليها،لفظا كانت أو فعلا أو إشارة،إذ ليس وراء العلم شيء.

و إذا كانت الأداة ظنية الدلالة ينظر:فان دل على الأخذ بها دليل من الشرع كشهادة العدلين،أو من طريقة العقلاء و عاداتهم،فهي،و الا يكون لغوا.

و ليس من ريب أن ظواهر الألفاظ حجة عند العرف،و انهم لا يعتنون بالاحتمالات المخالفة لظواهرها إلاّ مع القرائن الدالة عليها.

أما الكتابة فهي مثل اللفظ عند أهل العرف،سواء أ سجلها صاحبها في دائرة رسمية أو لا،أشهد على نفسه أو لم يشهد،قادرا على التلفظ أو عاجزا عنه،غائبا كان أو حاضرا على شريطة أن نعلم بأن الكتابة بخط يده،و ان ظاهرها دال على التزامه بها،و إبرامه لها.و كذا الأفعال الدالة على القصد فإنها بحكم اللفظ و الكتابة،قال صاحب الجواهر:«يجوز أن يكون القبول فعلا دالا على الرضا بالإيجاب بلا خلاف أجده».و إذا جاز ان يكون القبول فعلا جاز أيضا أن يكون الإيجاب كذلك ما دام كل منهما جزءا من العقد.و بكلمة ان الوصية تنعقد

ص:148

بالمعاطاة،كما تنعقد بغيرها.

أمّا الإشارة المعبرة عن القصد فإنها حجة مع العجز عن النطق،إذ لا وسيلة للتعبير إلاّ بها،أما مع القدرة على التلفظ أو الكتابة فليست الإشارة بشيء،حيث لم يعهد من العقلاء و عاداتهم أنهم يعتمدون على الإشارة مع القدرة على النطق في الأمور الهامة،كالوصية و ما إليها.و لو افترض وجود بلد يعتمد أهله على الإشارة مع القدرة على اللفظ لكانت اشارتهم حجة متبعة.

و بالجملة أنّا نعلم علم اليقين بأن الشارع لم يقيد الناس بطريق من طرق الإفصاح و البيان عن مقاصدهم إلاّ في موارد خاصة كالزواج و الطلاق،و انما أوجب عليهم الوفاء بعقودهم،و ألزمهم بشروطهم،و كفى،و عليه فكل ما دل عندهم على القصد و عبر عنه فهو حجة يعتمد عليها.

الرجوع عن الوصية:

الوصية جائزة،و ليست بلازمة عقدا كانت أو إيقاعا،لأن المفروض أنّها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت،و أنّه لا يترتب عليها أي أثر حال حياة الموصي،و عليه فيجوز له أن يرجع عنها ما دام فيه الروح،حتى و لو كانت تمليكا لشخص خاص،و قبل هذا الشخص،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لصاحب الوصية أن يرجع فيها،و يحدث في وصيته ما دام حيا.و في رواية ثانية:للرجل أن يغير وصيته،فيعتق من كان أمر بملكه،و يملك من كان أمر بعتقه،و يعطي من كان حرمه،و يحرم من كان أعطاه ما لم يمت،أي الموصي.

أجل،لا يجوز لمن سمع الوصية أن يبدل شيئا منها،قال تعالى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 1.

ص:149

أجل،لا يجوز لمن سمع الوصية أن يبدل شيئا منها،قال تعالى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1).

و من موارد الرجوع عن الوصية أن يتصرف بالشيء الموصى به تصرفا ناقلا له عن ملكه ببيع أو هبة،أو مغيرا لصورته كالحنطة يطحنها،أو الدقيق يخبزه أو الثوب يفصله.

و لما كانت الوصية جائزة صح تأخر القبول من الموصى له الخاص عن إيجاب الموصي،و ان طال الزمن و تقدم الكلام في ذلك مفصلا في الجزء الثالث فصل شروط العقد،فقرة«الموالاة».

القبول و الرد من الموصى له:

إذا أوصى لشخص معين بشيء معين فلا يملك الموصى له الشيء الموصى به بموت الموصي وحده،و لا بقبول الموصى له وحده،بل لا بد منهما معا،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا، بل هي إجماع على الظاهر».

و ليس من شك أن الملك يتحقق بقبول الموصى له بعد موت الموصي، و لكن هل يكفي قبوله في حال حياة الموصي؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و مفتاح الكرامة إلى الاكتفاء، و عدم وجوب تجديد القبول ثانية بعد موت الموصي،لصدق اسم الوصية و العقد.

و أيضا ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الموصى له إذا رد في حياة الموصي فله أن يقبل الوصية بعد وفاته،لأنها تمليك بعد الوفاة،فردها

ص:


1- البقرة:181. [1]

حال الحياة بمنزلة رد ملك الغير،فيقع لاغيا،على حد تعبير صاحب المسالك.

و إذا رد بعد الموت ابتداء،و رفض من أول الأمر و قبل أن يقبل بطلت الوصية من الأساس،و لم يبق لإيجابها من أثر،فإذا قبل بعد الرد و الرفض فلا يلتفت إليه،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و هو الحجة».

و اتفقوا قولا واحدا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك على أنّه إذا رد بعد الموت و القبول و القبض فرده ليس بشيء،لثبوت الملك و استقراره و كذا إذا قبل بعد الموت و القبول و قبل القبض،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل كاد يكون إجماعا،كما أن النصوص كادت تكون متواترة في عدم اعتبار القبض».

و للموصى له الخاص أن يقبل بعض الشيء الموصى به،و يرد بعضه،لأن الوصية تبرع محض،فلا يجب مطابقة القبول للإيجاب.

الموصي:

يشترط في الموصي أن يكون أهلا للتصرفات المالية،فلا تصح الوصية من الصغير غير المميز،و لا من المجنون،إذ لا ارادة لهما،و لا معول على عبارتهما.

و تسأل:إذا أوصى و هو عاقل،ثم عرض له الجنون فهل تبطل وصيته؟ قال صاحب الجواهر:«لا تنفسخ الوصية بعروض الجنون،كما لا تنفسخ بعروض الإغماء و نحوه مما لا عقل معه،و ان استمر إلى الموت.و في كتاب المصابيح عدم البطلان بعروض الجنون و الإغماء،سواء استمر إلى الموت أو انقطع».

و قال صاحب بلغة الفقه:«لا تبطل الوصية بعروض الجنون و الإغماء»

ص:151

للموصي إجماعا،كما حكاه جدنا في المصابيح،و ان بطلت سائر العقود الجائزة بالجنون و الإغماء كالوكالة و نحوها،لوضوح الفرق بين العقود الجائزة و الوصية، لأن الموت شرط في نفوذ الوصية فعدم بطلانها بالجنون و الإغماء أولى».

و أيضا لا تصح وصية المكره،لعدم الإرادة،و لا وصية السفيه،لأنه ممنوع عن التصرفات المالية،و قيل:تصح إذا أوصى بالبر و الإحسان،و قال صاحب العروة الوثقى لا تصح وصيته إطلاقا،عملا بعموم الإمام الصادق عليه السّلام:إذا بلغ أشده كتبت عليه السيئات،و كتبت له الحسنات و جاز له كل شيء إلاّ أن يكون ضعيفا أو سفيها.فان ترك التفصيل بين الوصية و غيرها دليل على بقائها على حكم المنع.

أما المحجر عليه لفلس فتصح وصيته إذا تعلقت في غير المال المحجور لحساب الدائنين.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن من جرح نفسه،أو تناول سما بقصد الانتحار،ثم أوصى فلا تصح منه الوصية،و إذا أوصى أو لا،و قبل أن ينتحر،ثم انتحر قبلت وصيته،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أوصى بوصيته،ثم قتل نفسه،أ تنفذ وصيته؟قال:ان كان قد أوصى قبل أن يحدث حدثا في نفسه من جراحة أو فعل لعله يموت أجيزت وصيته في الثلث،و ان كان أوصى بوصيته بعد ما حدث في نفسه من جراحة،أو فعل لعله يموت لم تجز وصيته.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الصبي إذا أتم العشرة من عمره جازت وصيته بالخير و المعروف،لروايات عن أهل البيت عليهم السّلام أنهاها بعضهم إلى 12 رواية،منها قول الإمام أبي جعفر الصادق عليه السّلام:إذا أتى على الغلام

ص:152

عشر سنين فإنه يجوز له فيما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف و حق فهو جائز.

الموصى له:

يشترط في الموصى له أن يكون موجودا حين إنشاء الوصية،فلا تصح الوصية لمعدوم،لأن الوصية تمليك،و لا يتصور قيام التمليك فيما لا وجود له، كما لا يتصور قيام الموجود في اللاوجود.و انما صح الوقف على البطن اللاحق غير الموجود تبعا للبطن السابق الموجود،و من هنا صحت الوصية للنوع كالفقراء و العلماء بالنظر لوجود بعض الأفراد.هذا،إلى أن النوع لا يشترط القبول منه على العكس من الموصى له الخاص الذي لا بد من قبوله،كما قدمنا.

و تصح الوصية للحمل على شريطة أن نعلم بوجوده حين إنشاء الوصية، أما الوصية لحمل سيوجد فإنها من باب الوصية المعدوم.و العلم بوجود الحمل حين الوصية ينحصر في طريقين:الأول أن تلده حيا لأقل من مدّة الحمل،و هي ستة أشهر من تاريخ صدور الوصية،حيث لا يمكن أن يدل حيا لأقل من هذه المدّة.

الطريق الثاني أن تلده لدون أقصى مدّة الحمل،و هي سنة على الأصح بشرط أن تكون خالية من الزوج،كما لو أوصى للحمل،ثم مات،و لم تتزوج بعده،أما إذا أوصى و بقي معها أمدا،ثم مات،و بعد ستة أشهر أو أكثر أتت بولد فلا تصح الوصية،أي لا يعطى الحمل الشيء الموصى له به،لاحتمال أن يكون قد تجدد بعد الوصية،و انها ولدته لستة أشهر.و ليس معنى هذا أن الولد لا يلحق بالميت و أنّه لا يرث،بل يلحق به و يرث،لأن الوصية شيء،و الإرث شيء آخر.

ص:153

أجل،إذا أتت به بعد موته بسنة ينفى عنه قطعا،و يأتي التفصيل في باب الإرث ان شاء اللّه تعالى.و إذا أوصى للحمل فولدت ذكرا أو أنثى قسم الموصى به بينهما بالسوية لأن الوصية عطية لا ميراث.

و تجوز الوصية للأجنبي و للوارث،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى إطلاق أدلة الوصية في الكتاب و السنة».

و اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الوصية تصح للذمي،و هو الذي يدفع الجزية للمسلمين،تصح الوصية له للآية 9 من سورة الممتحنة لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .

و اختلفوا في صحة الوصية لغير الذمي،فذهب جماعة منهم صاحب المسالك و الجواهر إلى جوازها و صحتها،لأن الهبة تصح للحربي و غيره فكذلك الوصية التي هي في معناها مع فارق غير جوهري،و هو أن الهبة تمليك حال الحياة،و الوصية تمليك بعد الموت.و لذا صرح صاحب المسالك بأن الوصية تجوز للحربي من غير أهل الكتاب أيضا،و مما استدلوا به على جواز الوصية للحربي قول الإمام الصادق عليه السّلام:«أعط الوصية لمن أوصى له،و ان كان يهوديا أو نصرانيا،ان اللّه يقول فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه».و لفظ اليهودي و النصراني شامل للذمي و للحربي.ورد صاحب الجواهر على من زعم بأن الحربي غير أهل للملك،رده بقوله:«و دعوى عدم قابلية الحربي للملك واضحة المنع.فالأقوى الجواز مطلقا من غير فرق بين الحربي و غيره».هذا،إلى أن الحربي قد يكون محسنا لإنسان،فيوصي له مكافأة على إحسانه،تماما كما يهدي إليه،و قد أجمعوا على جواز الهدية إليه.

ص:154

ملحوظة:صغيرة جاشت النفس بها،و هي ان الخونة الذين يؤازرون أعداء الدين و الوطن،و يتسترون باسم الإسلام هم أشر و أضر على الإسلام و المسلمين ممن ينصب الحرب و العداء علانية.

موت الموصى له قبل الموصي:

اشارة

إذا مات الموصى له قبل الموصي فهل تبطل الوصية،أو يقوم ورثة الموصي له مقامه؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى صحة الوصية إذا بقي الموصي مصرا على الوصية،و لم يرجع عنها،و يقوم ورثة الموصي له مقامه،يمثلون دوره في الرد و القبول،فإذا لم يردوا كان الموصى به ملكا خاصا بهم يقتسمونه بينهم قسمة ميراث:للذكر مثل حظ الأنثيين،لا قسمة الوصية التي هي بين الجميع على السواء.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:من أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا فتوفي الموصى له قبل الموصي فالوصية لورثة الذي أوصى له إلاّ أن يرجع في وصيته.

سؤال ثان:هل الموصى به،و الحال هذي،ينتقل من الموصي إلى الميت،و من الميت إلى ورثته،بحيث يكون حكم المال الموصى به حكم سائر التركة من تعلق الدين به،و تنفيذ الوصية منه،أو ينتقل من الموصي ابتداء و بلا واسطة إلى ورثة الميت الموصى له،و عليه فلا يتعلق الدين به،و لا تنفذ وصية الموصى له منه؟

الجواب:

ان الورثة يتلقون المال الموصى به من الموصي ابتداء و بلا واسطة،و لا

ص:155

يدخل في ملك مورثهم إطلاقا،لأنه مات في حياة الموصي،و بديهة أنّه لا ملك في حياته.

أجل،ان الورثة يرثون من الموصى له حق الرد و القبول،كما هو الشأن في حق الخيار،فان ردوا فلا شيء،و ان قبلوا انتقل الملك إليهم من الموصي،لأن قبولهم بالذات جزء من السبب المملّك.

هذا،إلى أن قول الإمام عليه السّلام:«فالوصية لورثة الذي أوصى»ظاهر في ملكية الورثة و انتقال هذه الملكية إليهم ابتداء،و عليه فلا يستوفى من المال الموصى به دين الموصى له،و لا وصيته.

تعيين الموصى له:

قد يعين الموصي الموصى له بالشخص،كزيد أو هذا المسجد بالذات،أو بالنوع،كالمساكين و المنكوبين،أو بالجهة،كالبرّ و الإحسان،و إذا لم يعين إطلاقا منذ البداية بطلت الوصية،و إذا عين الوصية لشخص خاص،أو مسجد خاص، ثم تردد بين فردين أو أكثر على نحو الشبهة المحصورة أخرجنا الموصى له بالقرعة،و ان كان التردد بين افراد كثر غير محصورين،أو كانت الوصية لجهة خاصة و نسيها الوصي تعين عليه أن ينفقها في وجوه الخير و البر،قال صاحب الجواهر:«وفاقا للمشهور،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن إنسان أوصى بوصية،فلم يحفظ الوصي إلاّ بابا واحدا،كيف يصنع بالباقي؟قال الإمام عليه السّلام للسائل:الأبواب الباقية اجعلها في البر.

ص:156

الموصى به:

الموصى به هو محل الوصاية،أي الشيء الموصى به،و يشترط فيه ان يصح قصده عرفا،و يجوز فعله شرعا،فلا تصح الوصية بشيء لا قيمة له،كقشرة اللوز و الجوز،و ما إلى ذلك مما لا يباع و لا يوهب و لا يوصى به عند أهل العرف، و لا بالخمر و الخنزير،و ما إليهما مما هو غير مملوك شرعا.

و لا يشترط أن يكون الموصى به موجودا حال الوصية،بل تجوز الوصية بكل ما يمكن أن يوجد عينا كان،كالوصية بما ستحمله الدابة،أو منفعة،كالثمرة المقبلة،أو فعلا،كالوصية بعمارة مسجد،أو كان حقا ثابتا في الذمة،كالوصية بالبراءة من الدّين،أو من الكفالة.بل أجاز الفقهاء الوصية بماله الذي لا يقدر على تسليمه،كالطير في الهواء،و الحيوان الشارد،و المغصوب في يد القوي الظالم.

بل أجازوا للموصي أن يتوغل في المبهمات إلى أقصى الحدود،و أن يقول:

أعطوا فلانا شيئا أو قليلا أو كثيرا أو جزءا أو سهما أو نصيبا،و بكلمة ان من تتبع النصوص و الفتاوى يرى أن الوصية تصح بكل شيء إلاّ ما خرج بالدليل،كالوصية بمال الغير،و بالخمر و الخنزير.

و إذا أوصى بألفاظ مجملة لا تقدير لها عرفا أو لغة يبحث عن تفسيرها في النص،فان لم يكن يترك الخيار فيه إلى الوارث،فيعطى الموصى له ما يصدق عليه اسم التمول (1).

ص:157


1- لقد أطال الفقهاء الكلام في بيان الجزء و الشيء و السهم و النصيب،و ما إلى ذلك إذا تعلقت الوصية بواحد منها،و من أحب الاطلاع فليرجع إلى الجواهر:المجلد الرابع-باب الوصية،و كتاب:بلغة الفقيه.

بين الأصل و الثلث

اشارة

هل الموصى به يخرج من الأصل أو الثلث؟و الجواب يستدعي التفصيل التالي:

1-الواجب المالي فقط:

أن يكون الموصى به واجبا ماليا فقط غير مشوب بالواجب البدني، كالوصية بديون الناس،أو بديون اللّه سبحانه كالخمس و الزكاة،ورد المظالم و الكفارات،و اتفقوا على أنّها تخرج من الأصل إذا لم يعين إخراجها من الثلث، لقوله تعالى في الآية 11 من سورة النساء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ .

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل فرط في إخراج زكاته في حياته،فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما فرط فيه مما لزمه من الزكاة،و أوصى أن يخرج ذلك، و يدفع إلى من يجب له؟قال جائز،يخرج ذلك من جميع المال،انما هو بمنزلة الدين لو كان عليه،ليس للورثة شيء،حتى يؤدي ما أوصى من الزكاة.

فإن قول الإمام،«انما هو بمنزلة الدين لو كان عليه»ظاهر في كل دين، سواء أ كان دينا للّه،أو للناس.

ص:158

2-الواجب المالي و البدني معا:

أن يكون الموصى به واجبا ماليا و بدنيا معا،كالحج فإنه مالي،حيث يحتاج إلى النفقة،و بدني لأنه إحرام و طواف و سعي،و ما إلى ذاك من الأعمال.

و اتفقوا على أنّه يخرج من الأصل،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل مات،و عليه خمسمائة درهم من الزكاة،و عليه حجة الإسلام،و ترك ثلاثمئة درهم،و أوصى بحجة الإسلام؟قال:يحج عنه من أقرب ما يكون،و يرد الباقي في الزكاة.و في رواية ثانية:سئل عن رجل توفي،و أوصى أن يحج عنه؟قال:«ان كان صرورة- أي لم يحج من قبل-فمن جميع المال،انّه بمنزلة الدين الواجب،و ان كان قد حج فمن ثلثه».

لأن الحجة الأولى مع الاستطاعة واجبة تخرج من أصل المال،و الثانية مستحبة تخرج من الثلث،كما يأتي.و تجدر الإشارة إلى أن الحج واجب و جميع الواجبات المالية بشتى أنواعها يجب إخراجها من الأصل،حتى و لو لم يوص بها،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل مات،و لم يحج حجة الإسلام،و لم يوص أيضا،و هو موسر؟قال:يحج عنه من صلب ماله،لا يجوز غير ذلك.

3-الواجب البدني فقط:

أن يكون الموصى به واجبا بدنيا،فقط،كالصوم و الصلاة،و ذهب المشهور بشهادة صاحب البلغة،و السيد اليزدي في رسالة:منجزات المريض، المطبوعة في آخر حاشيته على«المكاسب»،ذهبوا إلى أنّها تخرج من الثلث ان أوصى بها،و لا يجب إخراجها،حتى مع العلم بها ان لم يوص بها.أجل،إذا كان للميت ولد أكبر قضى عنه ما فاته من صلاة و صوم على الوجه الذي ذكرناه في

ص:159

الجزء الأول-فصل قضاء الصلاة،فقرة«الولد الأكبر يقضي عن والديه»و في:

الجزء الثاني-فصل الصوم و القضاء،و فقرة«قضاء الولي عن الميت».

و تسأل:لما ذا وجب إخراج الواجب المالي من الأصل،حتى مع الوصية به،و لم يخرج الواجب البدني إطلاقا مع عدم الوصية،و إخراجه من الثلث معها.

و أجاب بعضهم بما يتلخص في أن الواجب المالي تعلق بذمة المديون، و الميت لا ذمة له،فينتقل الحق من الذمة إلى التركة،و هذا الانتقال طبيعي على الأصول،لأنه مطلوب بمال،و الذي تركه مال،أما إذا اشتغلت ذمته بعمل فإذا مات ارتفع الموضوع،و لم ينتقل إلى التركة،لأنه ترك مالا،و لم يترك فعلا و عملا.

و قد يلاحظ بأن هذا مجرد استحسان.و الأفضل أن يقال:ان الاستئجار على الصوم و الصوم من الأصل أو الثلث يحتاج إلى دليل،و لا أثر لهذا الدليل في النقل و لا العقل.

4-غير الواجب:

أن يكون الموصى به غير واجب مالي و لا بدني،و انما تعلقت الوصية به على وجه التبرع،و اتفقوا على أن هذه الوصية تنفذ بمقدار الثلث فقط،مع وجود الوارث،سواء أصدرت في حال المرض،أو في حال الصحة،فإن وسعها الثلث نفذت بكاملها،و ان زادت عنه افتقر نفاذ ما زاد عن الثلث إلى اجازة الورثة،فإن أجازوا جميعا نفذت الوصية بكاملها،و ان رفضوا نفذت بمقدار الثلث،و ان أجاز البعض دون البعض نفذ في حق المجيز ما زاد عن الثلث،و لا أثر لإجازة الوارث إلاّ إذا كانت من العاقل البالغ الراشد.

ص:160

قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و النصوص مستفيضة أو متواترة».من هذه النصوص ان رجلا قال للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أنا ذو مال،و لا يرثني إلاّ ابنة لي،أ فأتصدق بثلثي مالي؟قال الرسول:لا.قال الرجل:فالشطر، أي النصف؟قال الرسول:لا.قال الرجل:فالثلث؟قال الرسول:الثلث،و الثلث كثير.انك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة،يتكففون الناس.

فقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أن تذر ورثتك أغنياء»يشعر بأنه إذا لم يكن له وارث جازت الوصية بأكثر من الثلث،حيث لا ظلم و لا إجحاف،و في هذا المعنى روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام.منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:للرجل عند موته ثلث ماله،و ان لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه.و في رواية ثانية:الثلث و الثلث كثير.

و سئل عن رجل مات،و لا وارث له و لا عصبة؟قال:يوصي بماله حيث شاء في المسلمين و المساكين و ابن السبيل.و ما خالف ذلك من النصوص و الأقوال فشاذ متروك.

و اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الوارث إذا أجاز الوصية فيما زاد عن الثلث بعد وفاة الموصي لزمه الوفاء،و لا يجوز له العدول،و اختلفوا فيما إذا أجاز قبل الوفاة:هل تلزم الوارث،أو لا؟فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أنّها تلزمه،تماما كما لو أجاز بعد الوفاة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل أوصى بوصية،و ورثته شهود،فأجازوا ذلك،فلما مات الرجل نقضوا الوصية،هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟قال:ليس لهم ذلك،الوصية جائزة عليهم.

و تجدر الإشارة إلى أن الإجازة متى حصلت من الوارث لما زاد عن الثلث كان ذلك إمضاء لفعل الموصي،و تنفيذا له،و ليس هبة من الوارث إلى الموصى

ص:161

له،و عليه فلا يفتقر إلى القبض،و لا تجري على الوصية أحكام الهبة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بيننا».

لا ميراث و لا وصية مع الدين:

اتفقوا على أنّه لا ميراث و لا وصية بغير الواجب المالي إلاّ بعد إخراج الواجبات المالية بشتى أنواعها،فإن فضل عنها شيء نفذت الوصية من الثلث، و الثلثان تركة للورثة،و قوله تعالى بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها المراد به الوصية بالواجب المالي،بل يخرج هذا الواجب من الأصل،حتى مع عدم الوصية كما تقدم.

الثلث حين القبض:

يحسب الثلث من التركة في الوقت الذي يقبضها الوارث،لا حين الوصية، و لا حين موت الموصي،فإذا أوصى،ثم قتله قاتل،و أخذت منه الدية،أو نصب الموصي شبكة في حياته فحازت طيرا أو سمكا بعد وفاته يضم ذلك كله إلى أصل التركة،و يخرج منه الثلث،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل أوصى لرجل بوصية من ماله،الثلث أو الربع،فقتل الموصي؟فقال الإمام:تجاز هذه الوصية من ميراثه و ديته.

تعدد الوصايا و تزاحمها:

سبق أن الواجب المالي يخرج من الأصل،و الواجب البدني،و المتبرع به من الثلث بعد وفاء الواجبات المالية،و عليه فإذا اجتمعت هذه الثلاثة في وصية

ص:162

واحدة بدئ بالواجب المالي من الأصل (1)ثم ينظر إلى ثلث الباقي فإن وسع الواجب البدني و المتبرع به،أو ضاق عنها و أجاز الوارث نفذت الوصايا بكاملها، و ان ضاق الثلث عنها،و لم يجز الوارث بدئ بالواجب البدني الأول فالأول حسب ما رتبه الموصي في وصيته،فلو قال:استأجروا عني سنة صلاة و شهر صيام بدئ بالصلاة،و لو قال:شهر صيام و سنة صلاة بدئ بالصيام.

و ان فضل شيء عن الواجب البدني ينظر:فان جمع الموصي بينها في كلام واحد،و قال هكذا:أعطوا جمالا و سليمان ألفا،و كان الثلث 500 قسم هذا المبلغ بين الاثنين،و ان قدّم و أخر،فقال:أعطوا جمالا 500 و سليمان مثلها اعطي المبلغ للأول،و ألغيت الوصية الثانية،لأن الأولى استغرقت الثلث بكامله فلم يبق للثانية من موضوع.قال صاحب الجواهر:«لأن الوصية الأولى نافذة، لوقوعها من أهلها في محلها،و تبقى المتأخرة بلا موضوع تتعلق به،فتختص بالبطلان،لخبر حمران عن الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام في رجل أوصى عند موته،و قال:أعتقوا فلانا و فلانا،حتى ذكر خمسة،فنظر في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين أمر بعتقهم؟قال الإمام:ينظر الذين سماهم،و بدأ بعتقهم فيقوّمون،و ينظر إلى ثلثه،و يعتق منه أول شيء ذكره،ثم الثاني ثم الثالث،ثم الرابع،ثم الخامس،فان عجز الثلث كان ذلك-أي العجز و عدم النفاذ-في الذي سمي أخيرا،لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك،فلا يجوز له ذلك».

و مورد الرواية و ان كان العتق إلاّ أن الحكم عام و شامل لجميع الوصايا

ص:163


1- إذا كان عنده عين خاصة تعلق بها حق الرهانة أو الخمس و الزكاة أو النذر و ما في حكمه يقدم هذا الحق على جميع الحقوق حتى الكفن و ما إليه،ثم يخرج الكفن و ما يتوقف عليه تجهيز الميت الذي لا بد منه شرعا،ثم تخرج الواجبات المالية و غيرها على الترتيب المبين أعلاه.

المتزاحمة من أي نوع يكون الموصى به بدليل التعليل الذي ذكره الإمام،و هو قوله:«لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك».

و عليه إذا أوصى بالثلث لشخص،ثم أوصى بالربع أو بالسدس لآخر صحت الوصية الأولى و ألغيت الثانية،إذ لا شيء للموصي إلاّ الثلث الذي استبدت به الأولى،فلم يبق للثانية شيء.

و تسأل:من الجائز أن تكون الثانية رجوعا عن بعض الأولى بمقدار الربع أو السدس؟ الجواب:ننفي هذا الجواز و احتمال الرجوع باستصحاب بقاء الوصية الأولى على حالها،و متى ثبت موضوع الأولى بالاستصحاب لم يبق للثانية من موضوع.

أجل،لو أوصى بالثلث لشخص،ثم أوصى به لآخر كانت الثانية رجوعا عن الأولى،«للتضاد في متعلق الوصية الذي قد فرض اتحاده،و اختلاف الموصى له،فليس إلاّ الرجوع»على حد تعبير صاحب الجواهر.

الوصية بأعيان التركة للورثة:

إذا أوصى لكل وارث بعين خاصة بقدر نصيبه تصح الوصية،و يجب نفاذها-مثلا-إذا قال:البستان لولدي إبراهيم،و الدار لأخيه حسن،و قطعة الأرض لابنتي مريم،و لم يكن في ذلك محاباة تنفذ الوصية بكاملها،لعدم المزاحمة لحق وارث من الورثة.

السهم المشاع و العين الخاصة:

إذا كان المال الموصى به سهما مشاعا كالثلث أو الربع من مجموع التركة،

ص:164

أو من شيء خاص فان الموصى له يملكه بمجرد موت الموصي و قبول الوصية، غائبا كان المال الموصى به أو حاضرا،فهو شريك للورثة في الحاضر يأخذ نصيبه منه،و كذلك إذا حضر المال الغائب.

أما إذا كان الموصى به عينا خاصة متميزة و مستقلة فلا يملك الموصى له العين إلاّ إذا كان ضعف قيمتها في يد الورثة،و تحت سلطتهم.أما إذا افترض أن للموصى مالا غائبا أو ديونا،و كان الشيء الموصى به أكثر من ثلث ما في يد الورثة كان لهم تمام الحق في معارضة الموصى له،و منعه عما زاد عن ثلث مجموع الموجود معهم من التركة،بخاصة إذا كان الغائب في معرض الضياع،أو يصعب استيفاؤه.و إذا حضر شيء من المال الغائب استحق الموصى له من باقي العين الموصى بها إليه مقدار ما يساوي ثلث المال الذي حضر.

الوصية بالمنفعة المؤبدة:

ليس من ريب في صحة الوصية بالمنافع،كايجار الدار،و سكناها،و ثمرة البستان،و لبن الشاة،و ما إلى ذلك مما سيحدث من المنافع،سواء أحددت المنفعة بأمد معين،أو دامت بدوام العين،فإذا كانت غير مؤبدة،بل محددة بأمد معين فأمرها سهل،لأن العين يكون لها قيمة،و الحال هذي،بعد إخراج المنفعة المحدودة و استيفائها،فإذا أوصى-مثلا-بمنفعة البستان خمس سنوات قوّم البستان بمجموعه أولا،فإذا كانت قيمته عشرة آلاف قوّم ثانية مسلوب المنفعة خمس سنوات،فإذا كانت المنفعة خمسة آلاف تخرج من الثلث ان تحملها،و إلاّ كان للموصى له ما يتحمله الثلث سنة أو أكثر،ان لم يجز الوارث أما إذا كانت المنفعة مؤبدة قوّم البستان بكامله مع المنفعة،و كانت الحال كما في المنفعة

ص:165

الموقتة.

و تسأل:كيف؟و بأي شيء نقوّم العين ما دامت مسلوبة المنفعة فإن ما لا منفعة له لا قيمة له.

الجواب:بل هناك منافع لها قيمتها،و ان تكن يسيرة،فالبستان ينتفع بما ينكسر من جذوعه،و بما يصيبه من اليبس،و إذا زال الشجر لسبب من الأسباب ينتفع بأرضه،و إذا خربت الدار،و لم يعمرها الموصى له ينتفع الوارث بأحجارها،و أرضها و الشاة ينتفع بلحمها و جلدها إذا ذبحت،و على آية حال فلا تخلو العين من فائدة غير المنفعة الموصى بها.

إثبات الوصية:

تثبت الوصية بشهادة عدلين،لعموم ما دل على حجّية البينة،و وجوب العمل بها.

و أيضا تثبت عند الضرورة بشهادة أهل الذمة إجماعا و نصا،و منه الآية 107 من سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى .

و قد مر التفصيل في:الجزء الخامس،باب الشهادة.

و أيضا تثبت الوصية بالمال بشهادة عدل و يمين،و بشهادة عدل و امرأتين ثقتين،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال،لا طلاق الأدلة الدالة على ذلك الشاملة لما نحن فيه».

ص:166

و أيضا تثبت الوصية بالمال بشهادة أربع نسوة،و ثلاثة أرباعه بشهادة ثلاث،و نصفه بشهادة اثنتين،و ربعه بشهادة واحدة،قال صاحب الجواهر:«من غير خلاف في شيء من ذلك،و الأصل فيه النصوص المستفيضة،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:في خبر ربعي في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصي،ليس معها رجل؟قال:يجاز ربع ما أوصى به بحسب شهادتها.و في رواية ثانية:تجوز شهادتها في ربع الوصية إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها».

و إذا جمدنا على النص فلا يثبت النصف بل و لا الربع بشهادة رجل واحد، و لا يثبت الكل بشهادة امرأتين و يمين قياسا على ثبوت الكل بالرجل و اليمين، و قد جمد فقهاء المذهب على النص،قال صاحب الجواهر:«لابتناء الحكم على مصالح يقصر العقل عن إدراكها».

أما الوصاية و العهدة إلى شخص بالقيام بعمل عن الميت فإنها لا تثبت إلاّ بشهادة عدلين،و لا تقبل فيها شهادة النساء لا منفردات و لا منضمات،كما لا تقبل شهادة العدل الواحد مع اليمين.

ص:167

الوصاية

معناها:

معنى الوصاية أن يعهد انسان لآخر بتنجيز وصاياه و تنفيذها بعد موته، كوفاء ديونه و استيفائها،و رعاية أطفاله و الإنفاق عليهم،و المحافظة على أموالهم، و يعبّر عنها بالولاية،و بالوصية العهدية،و يسمى الشخص المعهود إليه الوصي المختار.

و عرّفها صاحب الجواهر«بأنّها ولاية على إخراج حق-أي وفائه و إخراجه من تركته-أو استيفائه،أو على طفل،أو مجنون يملك الموصي الولاية عليه بالأصالة كالأب و الجد،أو بالواسطة كالوصي المأذون في الإيصاء».

و لما كانت الوصاية بعد ثبوتها نوعا من الولاية فلا يجوز للوصي أن يتنازل عنها،و يستقيل منها،لأنها حكم لا يسقط بالإسقاط.أجل،يجوز له أن يوكل من يشاء أن يقوم بعمل يدخل تحت وصايته،تماما كما هو الشأن في الأصيل.

رد الوصاية:

للموصي أن يرجع عن الوصاية ما دام فيه الروح،أما الوصي فإن علم بالوصاية إليه،و كان الموصي ما يزال حيا فله أن يرد،على شريطة أن يعلم

ص:168

الموصي برده،أما إذا تعذر اعلام الموصي برد الوصاية فإنها تصير لازمة،و لا يجوز للوصي ردها بحال،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أوصى الرجل إلى أخيه، و هو غائب فليس له أن يرد وصيته،لأنه لو كان شاهدا و أبى أن يقبلها طلب غيره.

و بهذا يتبين معنا أن الوصاية تصبح لازمة للوصي في حالين:الأولى أن يعلم بها و لم يرد،حيث يمكن إبلاغ الموصي بالرد.الثانية أن يتعذر إبلاغ الموصي الرد لموته أو غيابه.و بناء على هذا تكون الوصاية،و هي الوصية العهدية،من الإيقاعات،لا من العقود،لأن العقد مركب من جزئين:إيجاب و قبول،و لا يكفي عدم الرد،قال صاحب الجواهر:«قد تكون في صورة عقد كما لو أوصى الموصي فقال الوصي:قبلت،و لكن هذا لا يكفي في ثبوت العقد ضرورة كونه اسما لما اعتبر فيه القبول على وجه الجزئية».

شروط الوصي:
اشارة

يشترط في الوصي:

1-أن يكون عاقلا بالغا

،لأن المجنون و الصغير لا ولاية لهما على أنفسهما فكيف يتوليان أمور الغير؟.أجل،تصح وصاية الصبي منضما إلى البالغ،فيتصرف الكبير منفردا،حتى يبلغ الصغير،فيشاركه في التصرف،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل أوصى إلى امرأة،و شرك معها صبيا؟فقال:يجوز ذلك، و تمضي المرأة الوصية،و لا تنتظر بلوغ الصبي،فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلاّ ما كان من تبديل و تغيير،فان له أن يرده إلى ما أوصى به الميت.

ص:169

و إذا طرأ الجنون على الوصي سقطت وصايته،و إذا عاد الى الرشد فلا تعود الولاية لأن الساقط لا يعود إلا بدليل.

قال صاحب الشرائع و الجواهر:إذا مات الصغير،أو بلغ فاسد العقل بقي الكبير العاقل على استقلاله في الوصاية،و ليس للحاكم أن ينصب وصيا ثانيا مكان الصغير،لاستصحاب استقلال الكبير في الوصاية.

2-تعيين الوصي بالذات

،فإذا أوصى إلى أحد هذين،و لم يعين بطلت الوصية،حيث يتعذر التنفيذ مع الجهل بالوصي.

3-تعيين الموصى به

،فإذا أطلق،و قال:فلان وصي،و لم يبين على أي شيء،و لم يفهم من قرائن الحال أو المقال شيء بطلت الوصاية.أجل،يجوز أن يفوض الأمر إلى نظر الوصي،قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:ان أبي حضره الموت،فقيل له:أوص فقال:هذا ابني،فما صنع فهو جائز؟قال له الإمام:فقد أوصى أبوك،و أوجز.

4-اتفقوا على أن الوصي يجب أن يكون مسلما إذا كان الموصي على

دين الإسلام

،و اختلفوا في شرط العدالة على ثلاثة أقوال،أصحها الاكتفاء بالأمانة و الوثاقة،بحيث ينفذ الوصي الوصية على وجهها،لإطلاق أدلة الوصاية الشاملة للعدالة و غيره،و لأن المعروف من سيرة الفقهاء أنهم يحكمون بصحة كل وصاية، حتى تثبت خيانة الوصي.

الوصاية لاثنين:

اتفقوا على أن للميت أن يجعل الوصاية لاثنين أو أكثر،فإن نص على أن لكل واحد الاستقلال في التصرف عمل بنصه،و إذا اشترط أن لا يستقل أحدهما

ص:170

في الرأي عن صاحبه فلا بد من اجتماعهما معا.و إذا أطلق،و لم يعين الاستقلال، و لم يشترط الاجتماع فليس لأحدهما أن يستقل عن صاحبه في التصرف،لأنّا نعلم علم اليقين بوجوب النفاذ مع اجتماع الرأي،و نشك في وجوبه مع الانفراد، و الأصل عدم الوجوب.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة،لكونه المتيقن.فهو شبه العين الموصى بها لاثنين،فإنها شراكة بينهما».

و إذا اجتمع رأيهما على شيء فهو المطلوب،و ان تعاسرا أجبرهما الحاكم الشرعي على الوفاق،فان تعذر الوفاق عزلهما،و استبدلهما بأمينين،أو أمين حسب ما يراه،لأن وجودهما،و الحال هذي،و عدمه سواء.

و ليس لهما قسمة المال بينهما،و انفراد كل بالنظر في شيء دون الآخر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأنه خلاف مقتضى الوصية من وجوب الاجتماع في التصرف.أجل،لهما ذلك إذا أذن لكل منهما أن يستقل في التصرف عن صاحبه».

و قال أكثر الفقهاء-كما في الجواهر-:لو مات أحد الوصيين اللذين اشترط اجتماعهما معا،أو طرأ عليه الجنون،أو الخيانة،أو غير ذلك مما يوجب ارتفاع وصايته استقل الآخر في التصرف،و لا يحتاج إلى ضم شخص جديد،لأن الاجتماع مشروط ببقائهما معا،و انتفاء الشرط يستدعي انتفاء المشروط.

و إذا ماتا معا رجع الأمر إلى نظر الحاكم،تماما كما لو لم يكن له وصي منذ البداية.

ص:171

خيانة الوصي:

إذا خان الوصي انعزل تلقائيا،و بطلت جميع تصرفاته من غير حاجة إلى عزل الحاكم،إذ المفروض أن الأمانة شرط،و المشروط عدم عند عدم شرطه.

أجل،الحاكم يمنعه من التصرف،و إذا تصرف يحكم ببطلان تصرفه،كما يجب عليه أن يقيم مقامه أمينا مراعاة لحق الأطفال،و حفظ الأموال.

ضمان الوصي:

الوصي أمين لا يضمن إلاّ مع التعدي أو التفريط،كما هي الحال في كل أمين،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أوصى إلى رجل،و أمره أن يعتق عنه نسمة بستمائة درهم من ثلثه،فانطلق الوصي،و أعطى ال 600 درهم رجلا يحج عنه؟فقال الإمام:أرى أن يغرم الوصي ال 600 من ماله،و يجعلها فيما أوصى الميت في عتق نسمة.

الوصاية على الأطفال:

لكل من الأب و الجد للأب أن يقيم وصيا على الأطفال بالنظر لولايتهما الجبرية،قال صاحب بلغة الفقيه:«ان ولاية الوصي المنصوب من الموصي قيما على أطفاله ثابتة بالنص و الإجماع،و لكن بحسب ما هو مجعول له من حيث الإطلاق و التقييد،فإن أطلق فلا إشكال في نفوذ ما يتولى من مصالحهم في حفظ نفوسهم و أموالهم،و أخذ الحقوق الراجعة إليهم،و غير ذلك من البيع و الشراء و المزارعة و الإيجار،و ما إلى ذاك مما يتعلق بإصلاح أموالهم».

و ان عيّن شيئا خاصا فلا يجب التعدي إلى غيره،و ليس للأم أن تقيم قيما

ص:172

على أطفالها،إذ لا ولاية لها عليهم،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به للأصل».و لا تثبت الولاية على الأطفال إلاّ بنص صريح من الولي.

لا وصاية على الأطفال مع الجد:

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الأب إذا أقام وصيا على أولاده مع وجود الجد للأب تبطل وصيته،لأن أب الأب أب،و لا وصاية لأحد حتى الحاكم الشرعي مع وجود الأب.

الإيصاء بالزواج:

ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك و صاحب البلغة إلى أنّه ليس للأب و لا للجد له أن يوصيا بزواج الصغير ذكرا كان أو أنثى،و إذا أوصيا بذلك لأحد بطلت الوصية،لاستغناء الصغير عن الزواج،و لقول الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز».و بديهة أن وصي الأبوين غير الأبوين،و لا أقل من الشك،و معه الأصل عدم الجواز.

هل للوصي أن يوصي؟

اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن للوصي أن يوصي بما أوصاه به الوصي إذا أذن له بذلك.و أيضا اتفقوا على أنّه لا يجوز له ذلك إذا نهاه،و اختلفوا فيما إذا سكت الموصي،فلم يأذن،و لم ينه،و ذهب المشهور إلى عدم الجواز، لأن الاذن غير معلوم،و الأصل عدم الجواز.

ص:173

وظيفة الوصي:

إذا عيّن الموصي النظر في شيء فلا يجوز للوصي أن يتعداه إلى غيره،و إذا أطلق،و لم يعين جاز له أن يتولى من حفظ ماله ما كان جائزا للموصي،تماما كما هو الشأن في الوكالة.

و الوصية على المال لا تستدعي الوصية على الأطفال،بل لا بد من الوصية عليهم من نص صريح واضح الدلالة على ذلك من الموصي.و سبقت الإشارة إلى ذلك في فقرة«الوصاية على الأطفال».

اجرة الوصي:

للوصي أن يأخذ أجرة المثل من المال الذي يتولى النظر فيه،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عمن تولى مال اليتيم،هل له أن يأكل منه؟قال:ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك.

من لا وصي له:

إذا مات بلا وصية،أو مات الوصي،و كان للميت أطفال يحتاجون إلى الرعاية،و لا ولي جبري لهم كان النظر في أمرهم إلى الحاكم الشرعي،لأنه ولي من لا ولي له،فان تعذر الوصول إليه تولى ذلك الأمناء الصالحون من المؤمنين، قال صاحب الجواهر:«على ما هو المشهور بين الفقهاء من ثبوت الولاية لهم على مثل ذلك للنصوص المعتبرة المستفيضة المؤيدة بما دل على الحسبة».

ص:174

إقرار الوصي:

إذا أقر الوصي بدين أو عين على الميت فلا ينفذ إقراره بحق الصغير و لا بحق غيره من الورثة،لأنه إقرار بحق الغير،ولدي الخصومة يعتبر الوصي شاهدا يشترط فيه ما يشترط في الشاهد إذا لم يكن هو أحد طرفي الدعوى.

و إذا شهد الوصي للأطفال،أو للميت فلا تقبل شهادته،لأنه يثبت لنفسه ولاية التصرف فيما يشهد به.

إثبات الوصاية:

اتفقوا كلمة واحدة على أن الوصاية لا تثبت إلاّ بشهادة عدلين،و لا تقبل شهادة النساء منفردات و لا منضمات،و لا شهادة رجل مع اليمين.و سبقت الإشارة إلى ذلك في فصل:بين الأصل و الثلث-فقرة«إثبات الوصية».

ص:175

تصرفات المريض

المريض:

المراد بالمريض-هنا-من اتصل مرضه بموته،على أن يكون المرض مخوفا،بحيث يظن الناس أن حياته في خطر،فوجع الضرس و العين و الصداع الخفيف،و ما إليه لا يعد من المرض المخوف،فهذا المريض،و من تمرض مرضا مخوفا،ثم عوفي منه،و مات بعد ذلك حكم عطيتهما حكم عطايا الصحيح.

تصرفات الصحيح:

ليس من شك و لا خلاف بين المذاهب أن الصحيح إذا تصرف في أمواله تصرفا مطلقا و منجزا،أي غير معلق على الموت نفذ تصرفه من الأصل،سواء أ كان تصرفا واجبا،كوفاء الدين،أو محاباة،كالهبة و الوقف.

و إذا علق الصحيح تصرفاته على الموت كانت وصية،فان لم تكن بالواجب المالي خرجت من الثلث،و ان كانت به فان كانت قضاء دين فمن الأصل عند الإمامية و الشافعية و الحنابلة،و من الثلث عند الحنفية و المالكية،كما مر.

ص:176

تصرفات المريض:

أما تصرفات المريض،فان كانت معلقة على الموت فهي وصية،و حكمها ما أسلفنا في وصية الصحيح،إذ لا فرق في الوصية بين صدورها في حالة الصحة، و حالة المرض،ما دام المريض ثابت العقل،كامل الإدراك و الشعور.

و إذا تصرف المريض تصرفا مطلقا غير معلق على الموت ينظر:فان عاد التصرف إلى نفسه،كما لو اشترى ثيابا مثمنة،و تلذذ في مأكله و مشربه،و أنفق على دوائه و تحسين صحته،و سافر للراحة و الاستجمام،و ما إلى ذاك،فكل تصرفاته صحيحة ليس لأحد عليه من سبيل وارثا كان أو غير وارث.

و ان تصرف بدون محاباة،كما لو باع أو أجّر،أو استبدل شيئا من ممتلكاته بعوضه الحقيقي ينفذ عمله من أصل المال،و ليس للوارث معارضته،لأنه لم يفوت عليه شيئا.

و إذا تصرف تصرفا منجزا غير معلق على الموت،و كان فيه محاباة كما لو وهب،أو تصدق،أو ابرأ من الدين،أو عفا عن الجناية الموجبة للمال،أو باع بأقل من قيمة المثل،أو اشترى بالأكثر،أو غير ذلك من التصرفات التي تستدعي ضررا ماليا بالوارث-إذا كان تصرفه من هذا النوع فإنه يخرج من الثلث،تماما كالوصية.و معنى كونه من الثلث أن نوقف التنفيذ إلى ما بعد الموت،فان مات في مرضه،و اتسع الثلث للتبرعات المنجزة كشف عن كونها نافذة من أول الأمر،و ان ضاق الثلث عنها كشف عن فساد التصرف بمقدار الزائد عن الثلث،مع عدم اجازة الورثة.

و في ذلك روايات كثيرة صحيحة و صريحة،عمل بها المشهور من المتأخرين،و منهم صاحب الجواهر،و اعتمد عليها أكثر الفقهاء،كما قال صاحب

ص:177

المسالك،منها ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل حضره الموت،فأعتق مملوكا ليس له غيره،فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك؟قال الإمام:ما يعتق منه إلاّ الثلث.و قال البعض:انها تخرج من الأصل.

بين الوصية و منجزات المريض:

الفرق بين الوصية و منجزات المريض أن التصرف في الوصية معلق على الموت،أمّا المنجزات فهي التي لم تعلق على الموت،سواء لم تعلق أبدا،أو علقت على أمر آخر يصح فيه التعليق،كما لو نذر في مرضه أن يضحي بهذا الكبش إذا رزق ذكرا،ثم ولد له ذكر بعد موته،فيدخل في منجزات المريض.

و قد جاء في كتاب المغني في فقه الحنابلة،و كتاب التذكرة في فقه الإمامية أن منجزات المريض تشترك مع الوصية في خمسة أشياء،و تفترق عنها في ستة.

و يظهر من الاتفاق في لفظ العبارتين أن العلامة الحلي صاحب التذكرة الذي توفي سنة 726 ه قد أخذ عن ابن قدامة صاحب المغني المتوفى سنة 620 ه.و من المفيد أن نلخص أقوالهما فيما يلي:

أما الخمسة التي تشترك فيها المنجزات مع الوصية فهي:

1-أن كلا منهما يقف نفوذها على الخروج من الثلث،أو اجازة الورثة.

2-أن المنجزات تصح للوارث عند الإمامية،تماما كالوصية،و عند الأربعة لا تصح للوارث،كما أن الوصية كذلك.

3-أن كلا منهما أقل ثوابا عند اللّه من الصدقة في حال الصحة.

4-أن المنجزات يزاحم بها الوصايا في الثلث.

5-ان خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله،و لا بعده.

ص:178

و أمّا الستة التي تفترق بها المنجزات عن الوصية فهي:

1-أن الموصى يجوز له الرجوع عن وصيته،و لا يجوز الرجوع للمعطي في المرض عن عطيته إذا تحقق القبول و القبض من المعطى له،و السر أن الوصية تبرع مشروط بالموت،فما دام الشرط لم يتحقق فإنه يجوز العدول،أما العطية في المرض فهي مطلقة و غير مشروطة بشيء.

2-أن المنجزات يكون قبولها،أو ردها على الفور و في حياة المعطي،أما الوصية فلا حكم لقبولها،و لا لردها إلاّ بعد الموت.

3-أن المنجزات تفتقر إلى شروط،كالعلم بحقيقة العطية و عدم الضرر، و الوصية لا يشترط فيها ذلك.

4-أن المنجزات تقدم على الوصية إذا ضاق الثلث عنهما معا،إلاّ في العتق،فإن الوصية به تقدم على غيره من العطايا المنجزة،و هو رأي الإمامية و الحنفية و الشافعية(التذكرة باب الوصية).

5-أن المنجزات إذا ضاق عنها الثلث بدئ بالأول فالأول عند الشافعية و الحنابلة،أما الوصية إذا ضاق عنها الثلث فيدخل النقص على الجميع،كما أشرنا في تزاحم الوصايا.و الإمامية يبدأون بالأول فالأول في المنجزات و الوصايا.

إقرار المريض:

إذا أقر،و هو في مرض الموت،لوارث،أو لأجنبي بدين أو عين،ينظر:

فإن كان هناك قرائن يظن معها أنّه غير صادق في إقراره،بل متهم فيه،حيث يستبعد في العادة أن يكون الشيء المقر به حقا ثابتا للشخص المقر له،و لكن المريض يريد أن يؤثره على غيره لسبب من الأسباب-ان كان الأمر على هذا

ص:179

فحكم الإقرار حكم الوصية ينفذ من الثلث.و ان كان المريض مأمونا في إقراره بحيث لم يكن هناك آية قرينة تدل على أنّه كاذب في قوله-كما لو كان بينه و بين المقر له معاملة سابقة تستدعي ذلك بموجب العادة-ينفذ الإقرار من الأصل بالغا ما بلغ.

هذا إذا علم حال المقر،أما إذا جهل:هل هو متهم أو مأمون؟و قال الوارث:ان مورثه غير أمين بإقراره فعلى المقر له بالمال أن يثبت أنّه يملك الشيء الذي أقر له به المريض،فإن أثبت ذلك بالبينة ينفذ الإقرار من الأصل،و إلاّ يحلف الوارث أنّه لا يعلم أن الشيء الذي أقر به المورث هو لفلان،ثم ينفذ الإقرار من الثلث.

و ذلك ان الروايات التي جاءت عن أهل البيت عليهم السّلام تدل صراحة على أن أمانة المقر،و عدم تحيزه في إقراره شرط لنفاذ إقراره من أصل التركة،و عليه فلا بد من إثبات الشرط بطريق من طرق الإثبات،و إلاّ تعين الإخراج من الثلث، و تكون النتيجة لذلك أن القاعدة نفاذ الإقرار من الثلث،حتى يثبت العكس،أي تثبت امانة المقر و وثاقته.أجل،لو كان اتهام المقر،و عدم أمانته مانع من الإخراج من أصل التركة لانعكست النتيجة،و كانت القاعدة نفاذ الإقرار من أصل التركة، حتى يثبت العكس،أي يثبت الاتهام.و من تلك الروايات التي دلت على أن الأمانة شرط للنفاذ من الأصل،و ليس الاتهام مانعا أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا؟فقال:ان كان الميت مرضيا فأعطه الذي أوصى له.و في رواية ثانية:إذا كان مصدقا.و في ثالثة:إذا كان مليا.

و ليس من ريب أن لفظة«إذا»صريحة بالشرط،فيكون النفاذ من أصل التركة مشروطا بوجود الأمانة و التصديق،قال السيد اليزدي في رسالة المنجزات

ص:180

المطبوعة في آخر حاشيته على الرسالة:«الظاهر أن المأمونية شرط في النفاذ من الأصل،لا أن الاتهام مانع،و ذلك لما عرفت من النصوص من تعلق النفاذ على المأمونية،و كون المقر مرضيا أو مليا و نحو ذلك-ثم قال-و الحاصل انّه لا ينبغي التأمل في أن المأمونية شرط».

ص:181

كتاب الإرث

التركة:

التركة اسم للأشياء التي يتركها الميت،و هي:
1-ما ملكه قبل الموت عينا كان أو دينا

،أو حقا ماليا،كحق التحجير،كما لو قصد إحياء أرض موات،فحجرها بحائط و نحوه،فيكون أولى بها من غيره، أو حق الخيار في بيع أو شراء،أو حق الرهن،أو حق الشفعة،أو القصاص و الجناية إذا كان وليا عن المقتول،كما لو قتل ولده شخص،ثم مات القاتل قبل الاقتصاص منه،فان حق القصاص ينقلب ما لا يؤخذ من تركة القاتل،تماما كالدين.

2-ما يملكه بعد الموت

،كما لو وقع الصيد بعد موته في الشبكة التي نصبها في حياته،أو جنى عليه جان بعد موته،فقطع عضوا من أعضائه،فأخذت منه الدية،كل ذلك،و ما إليه يحسب من التركة.

دية القتيل:

هنا سؤالان:الأول:هل يقضى من دية القتيل ديونه،و تخرج منها وصاياه،

ص:182

بحيث تكون الدية من هذه الجهة كسائر الأموال التي تركها الميت؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك و الجواهر إلى أن الديون و الوصايا تخرج من الدية من غير فرق بين دية العمد،و دية الخطأ،فقد سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام عن رجل قتل،و عليه دين،و لم يترك مالا، فأخذ أهله الدية من قاتله،أ عليهم أن يقضوا دينه؟قال:نعم.و في رواية ثانية:

من أوصى بثلثه،ثم قتل خطأ فإن ثلث ديته داخل في وصيته.

السؤال الثاني:هل يرث الدية جميع الورثة دون استثناء،أو أن هناك فئة من الأقارب يرثون من غير الدية،و لا يرثون منها شيئا؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الدية يرث منها كل قريب حتى الزوج و الزوجة ما عدا من يتقرب بالأم،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ان الدية يرثها الورثة على كتاب اللّه و سهامهم إذا لم يكن على المقتول دين إلاّ الاخوة من الأم،و الأخوات من الأم،فإنهم لا يرثون من الدية شيئا.

و أجمعوا بشهادة صاحب المسالك و الجواهر على أن الزوج إذا قتل عمدا فليس للزوجة أن تطالب بقتل القاتل،و إذا قتلت الزوجة عمدا فليس للزوج المطالبة بالقصاص أيضا،لأن أحد الزوجين لا يرث القصاص،و لكن إذا اتفق الورثة الآخرون مع القاتل على أخذ الدية،و أخذوها منه ورث أحد الزوجين نصيبه منها،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا قبلت دية العمد فصارت مالا فهي ميراث،كسائر الأموال.

فقد أعطى الإمام دية العمد حكم سائر الأموال دون أن يستثني أحد الزوجين،فوجب أن يأخذ نصيبه منها،و إذا ثبت إرثه في دية العمد فبالأولى في دية الخطأ،لأن قتل العمد انما يوجب أولا و بالذات القصاص،و قد أشرنا إلى أن

ص:183

أحد الزوجين لا يرث القصاص،أما قتل الخطأ فيوجب المال منذ البداية،و المال يرثه كل مناسب و مسابب على حد تعبير الفقهاء.

الحقوق المتعلقة بالتركة:
اشارة

قد يتعلق بتركة الميت حقوق متنوعة،و هي :

1-أن يتعلق بها حق الرهانة

،و هذا الحق يقدم على جميع الحقوق،حتى الكفن،و سائر ما يتوقف عليه التجهيز الواجب،كالغسل و الدفن،فإذا افترض ان شخصا رهن جميع ما يملك فلا يخرج الكفن من ماله المرهون،بل يكون حاله حال الفقير الذي يموت،و هو لا يملك شيئا،حيث يكفن من بيت المال،فان لم يكن فعلى المحسنين،ذلك ان صاحب المال ممنوع شرعا من التصرف في المرهون،و الممنوع شرعا كالممنوع عقلا.

2-التجهيز الواجب للميت من كفن و غسل و دفن

،فإنه مقدم على الديون،لأنه بمثابة النفقة الضرورية التي تقدم على حقوق الدائنين حال الحياة.

و يستثني من ذلك تجهيز الزوجة،حيث يجب على الزوج إذا كان موسرا باذلا.

3-و بعد التجهيز يبدأ بوفاء الدين

،سواء أ كان للناس،أم للّه،كالخمس و الزكاة و الكفارات ورد المظالم،و حجة الإسلام.

4-و بعد إخراج التجهيز الواجب،و الواجبات المالية يقسم الباقي أثلاثا

، و تخرج الوصايا بغير الواجب المالي و غير المشوب به كالحج من الثلث،و يقسم الثلثين بين الورثة على كتاب اللّه،و سنة نبيه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:أول شيء يبدأ به من المال الكفن،ثم الوصية،ثم الميراث.

ص:184

و قال صاحب الجواهر:لقد بينت النصوص الحال في تركة الميت من إخراج الكفن أولا،و الدين ثانيا،و الوصية ثالثا،و السهام رابعا.

التركة و الورثة و أرباب الدين:

تنتقل التركة إلى ورثة الميت،حتى و لو كان عليه ديون تستغرق جميع ما ترك،و ان الدين يتعلق بها بنحو من الأنحاء،إما كتعلق حق الرهانة،و امّا كتعلق حق الجناية القائم بالعبد الجاني،و امّا تعلقا مستقلا لا يشبه هذا،و لا ذاك،و مهما يكن،فان الدين لا يمنع من أصل الميراث،و انما يمنع من التصرف في التركة فيما قابل الدين،فقد جاء في المسالك:«ان التركة تنتقل إلى الوارث مطلقا-أي حتى و لو استغرق الدّين التركة بكاملها-لكن الوارث يمنع من التصرف فيها إلى أن يوفي الدين لاستحالة بقاء المال بلا مالك،و الميت لا يملك،و التركة لا تنتقل إلى أرباب الدين بالإجماع،و لا إلى غير الوارث،فتعين انتقالها إلى الوارث».

موجبات الإرث:
اشارة

للإرث أسباب موجبة،و موانع،و يأتي الكلام عن الموانع،أمّا الموجب للإرث فهو أمران:نسب،و سبب.و السبب أمران:زوجية،و ولاء،و الولاء متأخر عن النسب،بحيث لا يرث به أحد إلاّ إذا فقد القريب المناسب بجميع طبقاته، بخلاف الزوجية فإنها تجتمع مع القرابة و الولاء.

النسب:
اشارة

الموجب الأول للإرث النسب أي القرابة،و تثبت القرابة بعلاقة الولادة

ص:185

الشرعية بين شخصين،اما بانتهاء أحدهما إلى الآخر،كانتهاء الأبناء و الأحفاد إلى الأب أو الجد،و امّا بانتهاء الاثنين إلى ثالث،كالاخوة و الأعمام و الأخوال.

و بقولنا«الولادة الشرعية»يدخل الزوج الشرعي بعقد صحيح،و النكاح بشبهة،و هو الذي حصل من غير عقد صحيح،و لكن فاعله معذور و غير آثم، لمكان الجهل بالتحريم،أو للإكراه،أو للجنون أو الصغر،و تخرج الولادة بسبب الزنا،فلا يرث ولد الزنا أبويه،و لا يرثانه ان كان الزنا منهما معا،أما لو كان أحدهما جاهلا بالزنا،أو مكرها عليه،أو صغيرا أو مجنونا فان المعذور يرث غير المعذور،و لا عكس،و كل من يتقرب بالزاني يعطى حكمه،و ابن الزنا يرث أولاده و زوجته،و هم يرثونه،و كذا بنت الزنا ترث زوجها و يرثها.

مراتب القرابة:

و للقرابة في الميراث مراتب ثلاث لا تداخل بينها،أي لا يرث واحد من المرتبة الثانية مع وجود وارث من المرتبة الأولى،و لا واحد من المرتبة الثالثة مع وجود وارث من المرتبة الثانية،و هذه المراتب هي:

1-الأبوان من غير ارتفاع،أي من غير الأجداد.و الأولاد،و ان نزلوا،أي و أولادهم.

2-الأجداد و ان ارتفعوا،و الاخوة و أولادهم و ان نزلوا.

3-الأعمام و الأخوال و أولادهم و ان نزلوا على شريطة أن يصدق عليهم اسم القرابة في نظر العرف.

و يأتي الكلام عن ميراث كل مرتبة من هذه الثلاث بصورة مفصلة ان شاء اللّه.

ص:186

الزوجية:

الموجب الثاني للإرث الزوجية،فيرث أحد الزوجين من الآخر الفرض المقدر له شرعا على التفصيل الآتي من النصف و الربع و الثمن.و تجتمع الزوجية في الميراث مع الجميع دون استثناء.

الولاء:

الموجب الثالث للإرث الولاء بفتح الواو،و أقسامه ثلاثة:

الأول:العتق،و هو أن يرث السيد عبده بشرط أن يعتقه تبرعا،لا في كفارة أو نذر،و ان لا يتبرأ من ضمان جريرته،و ان لا يكون للعبد وارث.و ندع التفصيل عنه لعدم وجود الرق في هذا العصر.

الثاني:ضمان الجريرة،و المراد بها الجناية،و معنى ضمانها أن يتفق اثنان على أن يضمن كل منهما جناية الآخر،أو يضمن أحدهما ما يجنيه الآخر دون العكس،و يصح ذلك بشرط أن لا يكون للمضمون وارث قريب،و لا مولى معتق،فإذا كان الضمان من جانب واحد قال المضمون للضامن:عاقدتك على أن تنصرني،و تدفع عني،و تعقل عني و ترثني فيقول الآخر:قبلت،و إذا كان الضمان من الجانبين قال أحدهما:عاقدتك على أن تنصرني و أنصرك،و تعقل عني و أعقل عنك،و ترثني و أرثك فيقول الآخر:قبلت،و متى تم ذلك كان على الضامن بدل الجناية،و له الميراث مع فقد القريب و المعتق.مقدما على الإمام في الميراث.

الثالث:ولاء الإمام،إذا مات انسان،و ترك مالا،و لا وارث له من أرحامه، و لا ضامن جريرة،و لا مولى معتق كان ميراثه للإمام إلاّ إذا كان الميت زوجة فإن

ص:187

الزوج يأخذ النصف بالفرض،و النصف الآخر بالرد،و إذا كان زوجا أخذت الزوج الربع،و الباقي للإمام،و تأتي الإشارة في ميراث الزوجين.

و في روايات أهل البيت عليهم السّلام أن الإمام وارث من لا وارث له.أما اليوم حيث لا إمام ظاهر فان هذا الميراث يعطى للفقراء من أهل بلد الميت،فقد روى الشيخ الحر في وسائله العديد من الروايات أن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام كان يقول:

«إذا مات الرجل،و ترك مالا،و لا وارث له،أعطوا المال همشاريجه».قال صاحب الوسائل:«يعني أهل بلده،قال الصدوق:متى كان الإمام ظاهرا فماله للإمام،و متى كان الإمام غائبا فماله لأهل بلده-يريد بلد الميت-متى لم يكن له وارث و لا قرابة أقرب إليه منهم».و في هذا إشارة إلى أن الصدوق يعتبر البلد نوعا من القرابة.

موانع الإرث:
اشارة

لا يكفي لثبوت الإرث وجود الموجب له،بل لا بد من انتفاء المانع أيضا، و بتعبير الفقهاء يثبت الإرث إذا وجد المقتضي،و انتفى المانع،و موانع الإرث كثيرة،و أشهرها ثلاثة:اختلاف الدين،و القتل،و الرق،بقية الموانع تعرف من تضاعيف الكلام.و نهمل الكلام عن الرق،لأنه أصبح من القضايا التي لا موضوع لها.

اختلاف الدين:
اشارة

اتفقوا قولا و عملا على أن المسلم يرث غير المسلم،و ان غير المسلم لا يرث المسلم،للحديث الشريف:لا يرث الكافر المسلم.و في حديث آخر ثبت

ص:188

عند الشيعة:«نرثهم،و لا يرثوننا».و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:لا يرث اليهودي و النصراني المسلمين،و يرث المسلم اليهودي و النصراني.

و غير المسلم من أنكر الألوهية،أو أقر بها،و أنكر رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أو أقر بهما،و أنكر ضرورة من ضرورات الدين كوجوب الصوم و الصلاة،و تحريم الزنا و الخمر و السرقة،و من هؤلاء الخوارج و النواصب الذين أنكروا وجوب المودة لأهل البيت عليهم السّلام،و المغالون الذين وصفوا مخلوقا بصفة من صفات الربوبية.

و إذا مات غير المسلم،و له ورثة مثله غير مسلمين،و وارث مسلم كان الميراث كله للمسلم،حتى و لو كان بعيدا كضامن الجريرة،و لا شيء لغير المسلم،حتى و لو كان قريبا كالابن،قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك، و لما جاء عن أهل البيت عليهم السّلام لو أن رجلا ذميا أسلم،و أبوه حي،و لأبيه ولد غيره، ثم مات الأب ورث المسلم جميع ماله،و لا يرث ولده،و لا امرأته من المسلم شيئا.

و إذا كان أحد ورثة الميت غير مسلم،ثم أسلم بعد موت المورث ينظر:

فإن أسلم بعد قسمة التركة فلا شيء له،و ان أسلم قبل القسمة شارك الورثة ان كان مساويا لهم في المرتبة،و إلاّ اختص بجميع التركة،كما لو كان ولدا،و هم أخوة، فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يسلم على الميراث؟قال:ان كان قسّم فلا حق له،و ان لم يقسم فله الميراث.

و إذا كان الوارث المسلم واحدا-غير الإمام-اختص بالإرث،و لا شيء لمن أسلم،قال صاحب الجواهر:لعدم صدق القسمة مع الوحدة.

ص:189

الطفل تابع:

يختلف الحكم بإسلام الطفل و عدمه حسب التفصيل التالي:

1-أن يتولد من أبوين مسلمين،و ليس من شك أنّه بحكمهما.

2-أن يكون أحد أبويه مسلما حين انعقاده و تكوينه،و هذا بحكم الإسلام،لأن الولد يتبع أشرف الأبوين،حتى و لو ارتد أبوه و امه،أو أحدهما بعد ذلك،فبمجرد علوقه في بطن أمه حال إسلام أحدهما كاف في إسلامه.قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده.

3-أن يكون أبواه غير مسلمين يوم تكوينه في بطن أمه،ثم أسلما،أو أسلم أحدهما،قال صاحب المسالك:و الحكم بإسلام الولد موضع وفاق.

4-فيما عدا ذلك،و هو أن يتولد من أبوين غير مسلمين،و بقيا على ذلك حتى بلوغ الطفل،و عليه فيحكم بعدم إسلامه.

و قال الشهيد الثاني في المسالك،و الشيخ أحمد كاشف الغطاء في أحسن الحديث:إذا كان الأبوان غير مسلمين،و أحد أجداد الطفل،أو جداته مسلما و لو حال تكوينه يكون الطفل بحكم المسلم.

المرتد:

المرتد على قسمين:مرتد عن فطرة،و هو الذي بحكم المسلم،و لما بلغ رجع عن الإسلام،و مرتد عن ملة،و هو الذي ولد بحكم غير المسلم،و لما بلغ أسلم،ثم عاد و رجع عن الإسلام.

و اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن المرتد عن فطرة إذا كان رجلا يقتل،و لا يستتاب،و تعتد امرأته عدة الوفاة من حين ارتداده،و تقسم تركته،و ان

ص:190

لم يقتل،و لا تقبل توبته بالنسبة إلى فسخ الزواج و تقسيم التركة،و وجوب القتل، و تقبل في الواقع و عند اللّه،و أيضا تقبل توبته بالنسبة إلى طهارته و صحة عبادته، كما انه يملك بعد التوبة الأموال الجديدة بسبب التجارة و اللقطة و الحيازة و الإرث.

أما المرتد عن ملة فإنه يستتاب،فان تاب فله ما للمسلمين،و عليه ما عليهم،و إلاّ قتل،و تعتد زوجته من حين الارتداد عدّة الطلاق،فان تاب في العدّة رجعت إليه،و لا تقسم تركته،حتى يقتل أو يموت.

أما المرأة فلا تقتل،سواء أ كان ارتدادها عن فطرة،أم عن ملة،بل تحبس و تضرب أوقات الصلاة،حتى تتوب،أو تموت،و لا تقسم تركتها إلاّ بعد الموت،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام، و جحد نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذّبه فإن دمه مباح لكل من سمع ذلك منه،و امرأته بائنة عنه يوم ارتد،فلا تقربه،و يقسم ماله على ورثته،و تعتد امرأته عدّة المتوفى عنها زوجها،و على الإمام أن يقتله،و لا يستتيبه.و المرأة إذا ارتدت استتيبت، فان تابت و رجعت،و إلاّ خلّدت في السجن،و ضيق عليها في حبسها.و روي أن أمير المؤمنين عليا عليه السّلام كتب إلى بعض عماله:أما من كان من المسلمين ولد على الفطرة،ثم تزندق فأضرب عنقه،و لا تستتيبه،و من لم يولد منهم على الفطرة فاستتيبه،فان تاب و إلاّ فاضرب عنقه».و يأتي الكلام مفصلا و مطولا عن المرتد في فصل المرتد و الفاعل بالأموات و البهائم،فقرة«الفطري و الملي».

أهل المذاهب و أهل الأديان:

اتفقوا على أن المسلمين يتوارثون مهما اختلفت مذاهبهم،قال صاحب

ص:191

الجواهر:للإجماع و النصوص المعتبرة المستفيضة الناطقة بأن الإسلام هو ما عليه جماعة الناس من الفرق كلها،و به حقنت الدماء،و جرت المناكح و المواريث.

و قال صاحب المسالك:ان المسلمين على اختلاف مذاهبهم يجمعهم أمر واحد،و هو الإسلام الموجب للموالاة و المناصرة.

أما غير المسلمين فإنهم يتوارثون،فالمسيحي يرث من اليهودي و بالعكس،و غيرهما من أهل الأديان-غير الإسلام-يرث منهما،و يرث منه،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف معتد به.لأن الكفر ملة واحدة.و قال صاحب المسالك:اختلاف غير المسلمين،كاختلاف المذاهب الإسلامية،و قد قال تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ .و قال فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فأشعر بأن الكفر كله ملة واحدة.

القتل:

إذا قتل مورثه عمدا بغير حق،بحيث يوجب القتل القود و القصاص،إذا كان كذلك منع القاتل من الإرث،لحديث:«لا ميراث لقاتل»و لأنه تعجل الميراث فعوقب بخلاف قصده.

و إذا قتله بحق،كما لو قتله قصاصا،أو دفاعا عن النفس،و ما إلى ذلك من المسوغات الشرعية فإن القتل،و الحال هذي،لا يمنع من الإرث،لمكان العذر و عدم المؤاخذة.

و ذهب أكثر الفقهاء إلى أن من قتل مورثه خطأ يرث من سائر التركة إلاّ من الدّية،للحديث النبوي:«ترث المرأة من مال زوجها،و من ديته،و يرث الرجل من مالها،و من ديتها ما لم يقتل أحدهما صاحبه،فان قتل أحدهما صاحبه عمدا

ص:192

فلا يرث من ماله،و لا من ديته،و ان قتله خطأ ورث من ماله،و لا يرث من ديته.

و قال صاحب الجواهر:«عمد الصبي و المجنون بحكم الخطأ.و الخطأ هنا يشمل شبه العمد»و مثال شبه العمد أن يضرب شخص آخر بآلة غير قاتلة،و لم يقصد قتله فيصادف القتل،و يأتي التفصيل في باب الديات ان شاء اللّه.

و لا يمنع من الإرث من يتقرب بالقاتل،فلو افترض أن رجلا قتل أباه، و كان للقاتل ولد ورث هذا الولد جده المقتول،و منع أبوه من الإرث.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان كان للقاتل ابن ورث جده المقتول.

ولد الملاعنة:
اشارة

تقدم الكلام عن الملاعنة،و شروطها و كيفيتها في فصل«الظهار و الإيلاء و اللعان»من هذا الجزء،و نشير الآن إلى ما يتعلق في ميراث ولد الملاعنة.

اتفقوا على أنّه لا توارث بين الزوجين المتلاعنين،و لا بين ولد الملاعنة و أبيه،و لا بين من يتقرب بهما.و أيضا اتفقوا على ثبوت التوارث بين الولد و أمه التي حصل التلاعن بينها و بين الأب.و إذا رجع الأب،و اعترف بالابن بعد الملاعنة ورث الابن و من يتقرب به من الأب،و لا يرث الأب و لا من يتقرب به من الابن إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:فان ادعاه أبوه لحق به،فان مات الأب ورثه الابن،و ان مات الابن لم يرثه الأب.

و تسأل:كيف لا يمنع من الإرث من يتقرب بالقاتل،و يمنع من يتقرب بالملاعن مع العلم أن كلا منهما سبب و واسطة،فإن المعقول أن يمنعا معا،أو لا يمنعا معا.

ص:193

الجواب:

لا فارق سوى النص الذي كثيرا ما يجمع بين المتفرقات،و يفرق بين المجتمعات.و من هنا قال الشيعة:و ليس من مذهبنا القياس.

الحمل:

إذا مات،و امرأته حامل،فإن أمكن عدم إجراء القسمة حتى يتبين أمر الحمل فذاك،و إلاّ فيوقف للحمل نصيب ذكرين من باب الاحتياط،فإن أتت بهما فهو،و إلاّ اقتسم الورثة ما زاد عن نصيب الحمل على افتراض ولادته حيا،و إلاّ اقتسموا الجميع.

و انما يرث الحمل بشرط ولادته حيا،و ان تأتي به لستة أشهر فما دون، و ان لا يتجاوز أقصى المدّة،و هي سنة على الأصح،و أما الاستهلال في قول الإمام عليه السّلام:«لا يرث شيئا حتى يستهل»فهو كناية عن الحياة،فإذا تحرك و لم يستهل كفى في ثبوت الميراث،إذ ربما كان أخرس،كما قال الإمام.

تقسيم تركة الغائب:

تكلمنا في فصل العدّة،فقرة«زوجة المفقود»من هذا الجزء،تكلمنا عن طلاق زوجة الغائب بعد توافر الشروط بصرف النظر عن الميراث،و نتكلم في هذه الفقرة عن تقسيم تركته رجلا كان أو امرأة،و متى يجوز هذا التقسيم؟و متى لا يجوز؟ و ليس من ريب أن الأصل في كل انسان غاب عنا،و غبنا عنه أن نرتب الآثار على حياته من توريثه الغير،و عدم توريث الغير منه،حتى يثبت موته بالشياع أو

ص:194

البينة،أمّا إذا لم يكن شيء من ذلك،فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى أن الغائب إذا انقطع خبره،و جهل مكانه،و لا يمكن العلم بحياته أو موته عن طريق البحث و السؤال فإن تركته تقسّم بين ورثته على شريطة أن تنقضي مدّة لا يعيش مثله إليها،في الغالب.و قدر المشهور هذه المدّة بمئة سنة من تاريخ ولادته،و هذا التقدير لم يرد به نص،و لكنه يوجب الاطمئنان و ركون النفس.و لا يحتاج تقسيم التركة بعد مضي المائة سنة إلى حكم الحاكم بالموت.

و هناك أقوال أخرى،منها الحكم بموته بعد مضي عشر سنوات،و منها بعد مائة و عشرين،و منها بأربع،و قال صاحب الجواهر:«و ما عليه المشهور أحوط و أبعد عن التهجم على الأموال المعصومة».

و قال صاحب المسالك:«ان بلوغ العمر مائة سنة الآن على خلاف العادة، و هي الحكمة عند الفقهاء في«الاكتفاء بمضيها».

ص:195

الفرض و الحجب

الفرض:
اشارة

من الورثة من يرث بالفرض فقط،كالزوجة،و الزوج اللذين سمى لهما اللّه سهما معينا في كتابه العزيز،و منهم من يرث بالقرابة فقط،و هو الذي لم يسم له اللّه سهما معينا،كالابن،و منهم من يرث بالفرض تارة،و بالقرابة أخرى،كالبنت فإنها ترث بالفرض إذا لم يكن معها ابن،و بالقرابة إذا كان،و يعرف التفصيل مما يأتي.و المراد بالفرض السهم المقدر في كتاب اللّه.

الفروض ستة:

الفروض المقدرة في كتاب اللّه ستة بالاتفاق،و هي النصف،و الربع، و الثمن،و الثلثان،و الثلث،و السدس،أو قل:الثلث و الربع،و ضعف كل و نصفه.

1-و ذكر النصف في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:الأول في فريضة البنت الواحدة،قال تعالى وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ .

الثاني في فريضة الأخت الواحدة لأبوين أو لأب،قال تعالى وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ .

الثالث في فريضة الزوج عند عدم الولد،قال تعالى وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ .

ص:196

2-و ذكر الربع في موضعين:الأول في فريضة الزوج مع الولد،قال سبحانه فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ .

الثاني في فريضة الزوجة عند عدم الولد،قال سبحانه وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ .

3-و ذكر الثمن في موضع واحد،و هو فريضة الزوجة مع الولد،قال عز من قائل فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ .

4-و ذكر الثلثين في موضعين:الأول في فريضة الأختين لأبوين أو لأب، قال عز من قائل فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ .

الثاني في فريضة البنتين فأكثر،قال جل و علا فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ .

5-ذكر الثلث في موضعين:الأول في فريضة الأم عند عدم وجود الولد الذكر للميت،و عدم الاخوة له يحجبونها عما زاد عن السدس على التفصيل الآتي،قال جل و عز وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ .

الثاني في فريضة الاخوة و الأخوات من الأم فقط،قال عز و جل فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ .

6-ذكر السدس في ثلاثة مواضع:الأول في فريضة الأبوين مع الولد،قال تعالى وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ .

الثاني في فريضة الأم مع الأخوة،قال سبحانه فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ .

الثالث في فريضة الأخ الواحد،أو الأخت الواحدة من الأم،قال جل جلاله وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ .

ص:197

اجتماع الفروض:

ثم أن الفروض الستة يجتمع بعضها مع بعض،فالنصف يجتمع مع مثله، كزوج و أخت،فإن لكل منهما النصف و يجتمع النصف مع الربع:كزوج و بنت، فان لها النصف،و له الربع،و أيضا يجتمع النصف مع الثمن،كزوجة و بنت،فإن للأولى الثمن،و للثانية النصف،و أيضا يجتمع مع الثلث،كزوج و أم مع عدم الحاجب،فان له النصف و لها الثلث،و يجتمع مع السدس،كزوج و واحد من كلالة الأم،للزوج النصف،و للكلالة السدس.

و يجتمع الربع مع الثلثين،كزوج و بنتين،له الربع و لهما الثلثان،و يجتمع مع الثلث،كزوجة و متعدد من كلالة الأم،للزوجة الربع،و للكلالة المتعددة الثلث،و أيضا يجتمع الربع مع السدس،كزوجة،و متحد من كلالة الأم،للزوجة الربع،و للكلالة السدس.

و الثمن يجتمع مع الثلثين،كزوجة و بنتين،للزوجة الثمن،و للبنتين الثلثان بالفرض،و أيضا يجتمع الثمن مع السدس،كزوجة واحد الأبوين مع الولد.

و يجتمع الثلثان مع الثلث،كأختين فصاعدا لأب مع الاخوة لأم، و يجتمعان أيضا مع السدس كبنتين واحد الأبوين.

و يجتمع السدس مع السدس،كالأبوين مع الولد و لا يجتمع ربع و ثمن، و لا ثمن و ثلث،و لا ثلث و سدس.

الحجب:
اشارة

المراد بالحجب هنا أن يمنع شخص من الإرث كلا أو بعضا بسبب وجود شخص آخر،بحيث يوجد اثنان:أحدهما حاجب،و الآخر محجوب تحققت به

ص:198

الأهلية الكاملة للإرث لولا وجود الحاجب،و إذا كان الحاجب سببا لمنع المحجوب عن أصل الميراث سمي حجب حرمان،كحرمان الجد كلية بسبب وجود الأب،و إذا كان الحاجب سببا للمنع من النصيب،لا من أصل الإرث سمي حجب نقصان،كحرمان الزوج مما زاد على الربع بسبب وجود الولد.

حجب الحرمان:

و الضابط لحجب الحرمان هو مراعاة الأقرب،حيث يقدم في الإرث على من دونه في القرابة،و استدلوا على ذلك بقوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (1).حيث فسروا الآية الكريمة بأن الأقرب إلى الميت أولى بميراثه ممن هو دونه في القرابة.و لحجب الحرمان صور.

1-الولد،و لو كان أنثى،يحجب ولد الولد و لو كان ذكرا،فالبنت تحجب ابن الابن عن الميراث،و لا شيء له معها،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده فيه نصا و فتوى،بل الإجماع عليه،بل لعله من ضرورات مذهبنا.و ابن الابن يشارك الأب في الميراث عند عدم الابن،لأن الشارع نزله منزلة أبيه».

2-كل من الأب و الأم و الولد و ولد الولد،و ان كان أنثى يمنع الأجداد و الجدات،و الأخوة و الأخوات،و الأعمام و الأخوال،و بالأولى أولادهم.

3-كل من الجد و الجدة،و لو لام،و كل من الأخ و الأخت،و لو لام أيضا يمنع الأعمام و الأخوال و أولادهم.

4-من يتقرب بالأبوين يمنع من الإرث من يتقرب بالأب وحده مع المساواة في الحيز،فالأخت لأبوين تمنع الأخ لأب،و العمة لأبوين تمنع العم

ص:199


1- الأنفال:75. [1]

لأب،و كذلك الخالة،و لا يمنع المتقرب من الأعمام بالأبوين المتقرب بالأب فقط من الأخوال،لاختلاف الحيز،و لا فرق بين الذكور و الإناث في أن أولاد الأولاد يقومون مقام الأولاد عند فقدهم،سواء أ كانوا أبناء ابن أو بنت،أو أولاد أخ أو أخت،أو أولاد خال أو خالة.

و بهذا يتبين معنا أن للإرث مراتب ثلاث:الأولى الأبوان،و الأولاد و ان نزلوا.الثانية الأجداد و الأخوة.الثالثة الأعمام و الأخوال،و إذا وجد واحد من المرتبة الأولى و لو أنثى منع المرتبة الثانية بكامل أفرادها،و كذلك إذا وجد واحد من المرتبة الثانية يمنع المرتبة الثالثة بأجمعها.

حجب النقصان:

و لحجب النقصان صور:

1-الزوجة تحجب عن الربع إلى الثمن إذا كان للزوج ولد أو ولد ولد،و لو بنت بنت،منها،أو غيرها.و يأتي الكلام مفصلا عن ميراث الزوجين ان شاء اللّه.

2-الزوج،يحجب عن النصف إلى الربع إذا كان للزوجة ولد كذلك.

3-الأم،تحجب بإخوة الميت عما زاد عن السدس بالشروط التالية:

الأول:أن يكونوا أخوين فأكثر،أو أخا و أختين،أو أربع أخوات، و الخناثى كالإناث.

الثاني:انتفاء موانع الإرث عن الاخوة و الأخوات.

الثالث:أن يكون الأب موجودا.

الرابع:أن لا يكونوا كلهم أو بعضهم أخوة الميت لأمه فقط،بل اخوته لأبيه

ص:200

و امه،أو لأبيه فقط.

الخامس:أن يكونوا أحياء،فالميت منهم لم يحجب.

هذه صور لجملة عن الحجب،و التفصيل في مطاوي المسائل الآتية.

ص:201

التعصيب و العول و الرد

اشارة

الفروض الستة المقدرة في كتاب اللّه تارة تتساوى مع مجموع التركة، كبنتين و أبوين،و حينئذ لا عول و لا تعصيب،حيث تأخذ البنتان الثلثين،و الأبوان الثلث.

و أخرى تنقص الفروض عن التركة،كبنت واحدة،فإن فرضها النصف،أو بنتين فإن فرضهما الثلثان،و هذا هو التعصيب.

و حين تزيد الفروض على مجموع التركة،كزوج و أبوين و بنت،فإن فرض الزوج الربع،و البنت النصف،و الأبوين الثلث،و التركة لا تتحمل ربعا و نصفا و ثلثا،و هذا هو العول،و يأتي الكلام عنه في الفقرة الثانية.

التعصيب:

عرفوا التعصيب هنا بأنه توريث العصبة مع ذي فرض قريب،كما إذا كان للميت بنت أو أكثر،و ليس له ولد ذكر،أو لم يكن له أولاد أصلا لا ذكور و لا إناث،و له أخت أو أخوات،و ليس له أخ،و له عم،فإن مذاهب السنة تجعل أخ الميت شريكا مع البنت أو البنات،فيأخذ مع البنت النصف،و مع البنتين فأكثر الثلث.كما تجعل العم أيضا شريكا مع الأخت أو الأخوات كذلك.

ص:202

و قال الإمامية:ان التعصيب باطل،و ان ما بقي من الفرض يجب رده على صاحب الفرض القريب،فالتركة عندهم بكاملها للبنت أو للبنات،و ليس لأخ الميت شيء.و إذا لم يكن له أولاد ذكور و لا إناث،و كان له أخت أو أخوات، فالمال كله للأخت أو الأخوات،و لا شيء للعم،لأن الأخت أقرب منه،و الأقرب يحجب الأبعد.

و مرجع الخلاف بين السنة و الإمامية في ذلك إلى حديث طاوس،فلقد اعترف به السنة،و أنكره الإمامية.و هو«ألحقوا الفرائض بأهلها،فما بقي فللأولى عصبة ذكر»،و روي بلسان آخر:«فما بقي فهو لرجل ذكر»فالبنت صاحبة فرض، و هو النصف،و أقرب رجل إلى الميت بعدها أخوه فيعطي النصف الباقي.و كذا إذا لم يكن له ولد أبدا،و له أخت،و ليس له أخ،تأخذ الأخت النصف بالفرض، و النصف الآخر يأخذه عم الميت،لأنه أقرب رجل إليه بعد أخته.

و الإمامية لا يثقون بحديث طاوس،و ينكرون نسبته إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن طاوس ضعيف عندهم،و لو وثقوا به لقالوا بمقالة أهل السنة،كما أن أهل السنة لولا ثقتهم بهذا الحديث لقالوا بمقالة الإمامية.و بعد أن أبطل الإمامية نسبة الحديث إلى النبي استدلوا على بطلان التعصيب بالآية 6 من سورة النساء:

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً .

فقد دلت هذه الآية على المساواة بين الذكور و الإناث في استحقاق الإرث، لأنها حكمت بالنصيب للنساء كما حكمت به للرجال،مع أن القائلين بالتعصيب قد فرقوا بين النساء و الرجال،و قالوا بتوريث الرجال دون النساء فيما إذا كان للميت بنت،و أخ و أخت،فإنهم يعطون النصف للبنت،و النصف الآخر للأخ،

ص:203

و لا شيء للأخت،مع أنّها في درجته و مساوية له.و كذا لو كان له أخت،و عم و عمة،فإنهم يوزعون التركة بين البنت و العم دون العمة،فالقرآن يورث النساء و الرجال،و هم يورثون الرجال،و يهملون النساء،و بهذا يتبين أن القول بالتعصيب باطل،لأنه مستلزم للباطل.

و قيل:ان توريث التركة بكاملها للبنت أو البنات يتنافى مع الآية 10 من سورة النساء فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ،وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ و كذلك توريث التركة للأخت وحدها مخالف لنص الآية 175 من سورة النساء:

إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ.

حكم القرآن بالنصف للبنت،و بالثلثين للبنتين فأكثر،و حكم أيضا بالنصف للأخت،و بالثلثين للأختين،و خالف الإمامية هذا الحكم صراحة.

و أجاب الإمامية عن الآية الأولى:

1-ان القرآن فرض الثلثين للبنتين فأكثر،و فرض النصف للبنت المنفردة،و سكت عن الثلث الباقي من نصيب البنات،و النصف الآخر الباقي من نصيب البنت،و لم يبين حكمهما بالخصوص.و لا بد من وجود شخص ما،يرد عليه الباقي من الفرض،و القرآن لم يعين هذا الشخص بالذات،و إلاّ لم يقع الخلاف،و السنة أيضا لم تتعرض له من قريب أو بعيد،لأن حديث«ألحقوا الفرائض»غير صحيح،كما قدمنا فلم يبق ما يدل على تعيين من يرد عليه الباقي إلاّ الآية 5 من سورة الأحزاب وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ حيث دلت على أن الأقرب أولى ممن هو دونه في القرابة.و ليس من شك أن

ص:204

البنت أقرب إلى الميت من أخيه،لأنها تتقرب به بلا واسطة،و الأخ يتقرب إليه بواسطة الأب أو الأم،أو هما معا،فيتعين،و الحال هذه،الرد على البنت و البنتين دون الأخ.

2-قال الحنفية و الحنابلة:إذا ترك الميت بنتا أو بناتا،و لم يوجد واحد من أصحاب الفروض و العصبات فالمال كله للبنت،النصف بالفرض و الباقي بالرد.

و كذلك للبنتين الثلثان فرضا،و الباقي ردا.و إذا كانت الآية لا تدل على نفي الرد على أصحاب الفروض في هذه الحالة فكذلك لا تدل على النفي في غيرها،لأن الدلالة الواحدة لا تتجزأ.

و قال الحنفية و الحنابلة أيضا:إذا ترك أما،و ليس معها أحد من أصحاب الفروض و العصبات تأخذ الثلث بالفرض و الثلثين الباقيين بالرد،و إذا أخذت الأم جميع التركة فكذلك أيضا يجب أن تأخذها البنت،لأن الاثنين من أهل الفروض(المغني و ميزان الشعراني باب الفرائض).

3-اتفق الأربعة على أن الميت إذا ترك أبا و بنتا يأخذ الأب السدس بالفرض،و تأخذ البنت النصف كذلك،و الباقي يرد على الأب وحده،مع أن اللّه سبحانه قال وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ .فكما أن هذا الفرض في هذه الآية لا ينفي أن يكون للأب ما زاد على السدس،كذلك الفرض في قوله تعالى فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ،و فَلَهَا النِّصْفُ لا ينفي أن يكون للبنات ما زاد على الثلثين،و للبنت ما زاد على النصف.بخاصة ان فرض البنات و الأبوين وارد في آية واحدة،و سياق واحد.

4-قال اللّه سبحانه وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ نصت هذه الآية على أن الدين يثبت بشاهدين:و يثبت

ص:205

أيضا بشهادة رجل و امرأتين،مع أن بعض المذاهب الأربعة أثبته بشاهد و يمين، بل قال مالك:يثبت بشهادة امرأتين و يمين.فكما أن هذه الآية لم تدل على أن الدين لا يثبت بشاهد و يمين كذلك آية الميراث لا تدل على عدم جواز الرد على البنت و البنات،و الأخت و الأخوات.

و أجاب الإمامية عن الآية الثانية ،و هي إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ بأن الولد يطلق على الذكر و الأنثى،لأن لفظة مشتق من الولادة الشاملة للابن و البنت، و لأن القاسم المشترك بين الإنسان و أقاربه هو الرحم و الرحم يعم الذكور و الإناث على السواء،و قد استعمل القرآن لفظ الأولاد بالذكور و الإناث،فقال عز من قائل:

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و قال:ما كان اللّه أن يتخذ ولدا أي لا ذكر و لا أنثى و قال يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى .و عليه فكما أن الابن يحجب الأخ كذلك البنت تحجبه،هذا بالإضافة إلى أن ما أجيب به عن ميراث البنت يجاب به عن ميراث الأخت أيضا.ثم أن الإمامية أوردوا على مذاهب السنة اشكالا عديدة،و ألزموهم بإلزامات يأباها الطبع،و لا تتفق مع القياس الذي يعملون به.من ذلك ما جاء في كتاب الجواهر من أنّه لو كان للميت عشر بنات و ابن،فيأخذ الابن في مثل هذه الحال السدس،و البنات خمسة أسداس،و لو كان مكان الابن ابن عم للميت،أي انّه ترك عشر بنات و ابن عم، فعلى القول بالتعصيب يأخذ ابن العم الثلث و البنات الثلثين،و عليه يكون الابن اسوأ حالا من ابن العم.

هذا،إلى أن الإنسان أرأف بولده منه بإخوته،و هو يرى أن وجود ولده ذكرا كان أو أنثى امتداد لوجوده.و من هنا رأينا الكثير من أفراد الأسر اللبنانية الذين لهم بنات فقط يبدلون مذهبهم من التسنن إلى التشيع،لا لشيء إلاّ خوفا أن

ص:206

يشترك مع أولادهم الأخوان أو الأعمام.

و يفكر الآن الكثير من رجال السنة بالعدول عن القول بالتعصيب،و الأخذ بقول الإمامية من ميراث البنت،تماما كما عدلوا عن القول بعدم صحة الوصية للوارث،و قالوا بصحتها كما تقول الإمامية،على الرغم من اتفاق المذاهب الأربعة على عدم الصحة.

العول:

العول أن تزيد السهام على التركة،كما لو ترك الميت زوجة و أبوين و بنتين،ففرض الزوجة الثمن،و فرض الأبوين الثلث،و فرض البنتين الثلثان، و التركة لا تتسع للثمن و الثلث و الثلثين.و كذا لو ماتت امرأة و تركت زوجا و أختين لأب،فإن فرض الزوج النصف،و فرض المرأتين الثلثان،و لا تحتمل الفريضة نصفا و ثلثين.و العول لا يتحقق إلاّ بوجود الزوج و الزوجة.

و اختلفوا:هل يدخل النقص،و الحال هذه،على كل واحد من أصحاب الفروض،أو على بعض دون بعض؟ قال الأربعة بالعول،أي بدخول النقص على كل واحد بقدر فرضه،تماما كأرباب الديون إذا ضاق المال عن حقهم،فإذا وجدت زوجة مع أبوين و بنتين تكون المسألة عندهم من مسائل العول،و تصح الفريضة من سبعة و عشرين سهما بعد أن كانت أربعة و عشرين،تأخذ الزوجة من ال 27 ثلاثة أسهم،أي يصبح ثمنها تسعا،و يأخذ الأبوان منها ثمانية،و البنات ستة عشر.

و قال الإمامية بعدم العول و بقاء الفريضة كما كانت أربعة و عشرين، و يدخل النقص على البنتين،فتأخذ الزوجة ثمنها كاملا 24/3،و يأخذ الأبوان

ص:207

الثلث 24/8،و الباقي للبنتين.

و استدل الأربعة على صحة العول و دخول النقص على الجميع بأن امرأة ماتت في عهد الخليفة الثاني عمر عن زوج و أختين لأب،فجمع الصحابة،و قال:

فرض اللّه للزوج النصف،و للأختين الثلثين،فإن بدأت بالزوج لم يبق للأختين الثلثان،و ان بدأت بالأختين لم يبق للزوج النصف،فأشيروا عليّ.

فأشار عليه البعض بالعول،و إدخال النقص على الجميع،و أنكر ذلك ابن عباس،و بالغ بالإنكار،و لكن عمر لم يأخذ بقوله،و عمل بقول الآخرين،و قال للورثة:ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص.فعمر أول من أعال الفرائض،و تبعه جمهور السنة.

و استدل الإمامية على بطلان العول بأنه من المستحيل على اللّه سبحانه أن يجعل في المال نصفا و ثلثين،أو ثمنا و ثلثا و ثلثين،و إلاّ كان جاهلا أو عابثا، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.و لذا نقل عن الإمام علي و تلميذه عبد اللّه بن عباس انهما قالا:ان الذي أحصى رمال عالج ليعلم أن السهام لا تعول على الستة،أي لا تزيد على الستة المقدرة في كتاب اللّه،و هي النصف و الربع و الثمن،و الثلثان و الثلث و السدس.

و النقص عند الإمامية يدخل دائما على البنات و الأخوات دون الزوج و الزوجة و الأم و الأب،لأن البنات و الأخوات لهن فرض واحد،و لا يهبطن في فرض أعلى إلى فرض أدنى،فيرثن بالفرض مع عدم وجود الذكر،و بالقرابة مع وجوده.و قد يكون لهن معه دون ما كان لهن منفردات.أما الزوج فيهبط من النصف إلى الربع،و الزوجة من الربع إلى الثمن،و الأم من الثلث إلى السدس، و يرث الأب السدس بالفرض في بعض الحالات.و كل واحد من هؤلاء لا ينقص

ص:208

عن فرضه الأدنى،و لا يزيله عنه شيء،فلدى الاجتماع يقدم و يبدأ به،و ما بقي تأخذه البنات أو الأخوات.

و قال الشيخ أبو زهرة في كتاب«الميراث عند الجعفرية»:قال ابن شهاب الزهري:«لولا تقدم فتوى الإمام العادل عمر بن الخطاب على فتوى ابن عباس لكان كلام ابن عباس جديرا بأن يتبعه كل أهل العلم،و يصادف الإجماع عليه».

و ان الإمامية قد اختاروا رأي ابن عباس رضي اللّه عنهما،لأنه جدير بأن يتبع،كما أشار إلى ذلك ابن شهاب الزهري،و هو بحر العلم لأنه تلميذ الإمام علي.

ص:209

الآباء و الأولاد و الأحفاد

اشارة

سبقت الإشارة أكثر من مرة إلى أن مراتب الإرث عند الشيعة ثلاث:

الأولى:الأبوان و الأولاد و أولادهم.

الثانية:الأجداد و الجدات،و الأخوة و الأخوات و أولادهم.

الثالثة:الأعمام و الأخوال و أولادهم.

و أن هذه المراتب تأتي في الإرث على الترتيب،فلا يرث واحد من الفئة الثانية مع وجود واحد من الأولى،و لا واحد من الثالثة مع وجود واحد من الثانية.

و نتكلم الآن عن ميراث الفئة الأولى،و الدليل عليها قول الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:لا يرث مع الأم،و لا مع الأب،و لا مع الابن،و لا مع الابنة،إلاّ الزوج و الزوجة،و أن الزوج لا ينقص من النصف شيئا إذا لم يكن ولد، و ان الزوجة لا تنقص من الربع شيئا إذا لم يكن ولده فإن كان معهما ولد فللزوج الربع،و للمرأة الثمن.

الأب:

لميراث الأب حالات:

1-إذا انفرد الأب عن الأم و الأولاد و أولادهم و عن أحد الزوجين بحيث لا

ص:210

يوجد من الفئة أحد سواه حاز المال كله بالقرابة.

2-إذا كان معه أحد الزوجين أخذ نصيبه الأعلى،و الباقي للأب بالقرابة، حيث لم يفرض له شيء في الكتاب المجيد ان لم يكن ولد.

3-إذا كان معه ابن أو بنون،أو بنات و بنون أو ابن ابن و ان نزل يأخذ الأب السدس فقط،و الباقي لغيره.

4-إذا كان معه بنت واحدة فله السدس بالفرض،و لها النصف كذلك، و يبقى الثلث يرد على الأب و البنت معا،لا على الأب فقط،و تكون الفريضة من أربعة:واحد منها للأب،و ثلاثة للبنت،قال صاحب مفتاح الكرامة:«كل موضع من مواضع الرد كان الوارث فيه اثنين من ذوي الفروض فالرد أربعا،و ان كان الوارث فيه ثلاثا فالرد أخماسا».

5-إذا كان معه بنتان فأكثر فللأب الخمس،و للبنات أربعة أخماس،لأن السدس الباقي عن فرضه و فرضهن يرد على الجميع،لا على الأب وحده.

6-إذا كان معه أم أخذت فرضها،و هو الثلث مع عدم الحجب،و السدس معه،و الباقي يأخذه الأب بكامله.

و تسأل:لما ذا لم يرد الباقي على الأب و الأم معا،كما هي الحال في اجتماع الأب مع البنت؟ الجواب:ان كلا من الأب و البنت من أصحاب الفروض عند اجتماعهما، و إذا اجتمع ذوو الفروض أخذ كل ذي فرض فرضه،و ما بقي يرد على كل حسب فرضه و نصيبه،و في حال اجتماع الأب و الأم كما فيما نحن فيه لا يرث الأب بالفرض،و لا يعد من ذوي الفروض،لعدم الولد،و انما يرث بالقرابة،أما الأم فإنها ترث بالفرض،حتى مع عدم الولد،فيكون اجتماع الأب مع الأم اجتماع من

ص:211

لا فرض له مع من له فرض بخلاف اجتماعه مع البنت فان كلا منهما له فرض.

و متى اجتمع ذو فرض مع غيره الذي لا فرض له كان الباقي عن نصيب ذوي الفرض لغير ذي الفرض.

7-إذا كان معه بنت ابن فحكمها حكم أبيها،للأب السدس،و الباقي لها كما تقدم في رقم 3،و إذا كان معه ابن بنت فحكمه حكم وجود أمه،كما تقدم في رقم 4،لأن أولاد الأولاد يقومون مقام آبائهم مع فقدهم إجماعا و نصا،و يأتي التفصيل ان شاء اللّه.

الأم:

لميراث الأم حالات :

1-تحوز المال بكامله إذا لم يكن معها أب،و لا أولاد،و لا أولاد أولاد، و لا أحد الزوجين،تأخذ الثلث بالفرض،و الباقي بالرد.

2-تأخذ ثلاثة أرباع إذا كان معها زوجة فقط،الثلث بالفرض،و الباقي بالرد.

3-تأخذ النصف إذا كان معها زوج فقط،الثلث بالفرض،و الباقي بالرد.

4-تأخذ الثلث إذا كان معها أب،و لم تحجب عما زاد عن السدس بأخوين للميت،أو أربع أخوات،أو أخ و أختين لأبوين،أو لأب،و هؤلاء لا يرثون مع الأب و لا مع الأم،و لكن يحجبون الأم عما زاد عن السدس.

5-تأخذ الربع إذا كان معها بنت،تماما كالرقم 4 من فقرة الأب.

6-تأخذ السدس إذا كان معها أب و اخوة يحجبونها عما زاد عن السدس على ما تقدم في الرقم 4 من هذه الفقرة،و تأخذ السدس أيضا إذا كان معها ابن

ص:212

فأكثر.

7-تأخذ الخمس إذا كان معها بنتان،تماما كالرقم 5 من فقرة الأب.

8-أقل من الربع،و أكثر من الخمس إذا كان معها بنت و زوج.

9-أولاد الأولاد يقومون مقام آبائهم عند عدمهم،و يمثل كل منهم الدور الذي كان لأبيه،فبنت الابن كالابن،و ابن البنت كالبنت دون تفاوت.

الأولاد:

إذا انفرد الولد أخذ المال بكامله،ذكرا كان أو أنثى سوى أن الذكر يأخذ المال كله بالقرابة،و الأنثى تأخذ نصفه بالفرض،و نصفه الآخر بالرد،و إذا تعددت الذكور من الأولاد،و لا إناث معهم اقتسموا بالسوية،و كذا إذا تعددت الإناث،و لا ذكور معهن،و إذا تعددوا ذكورا و اناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين.

و إذا كان مع الأولاد أبوان أو أحدهما،و كان في الأولاد ذكر فلأحد الأبوين السدس،و لهما معا السدسان،و الباقي للأولاد،و إذا كان مع الأولاد زوج أو زوجة أخذ الزوج الربع،و الزوجة الثمن،و الباقي للأولاد،و إذا كان مع البنت الواحدة أبوان فلها ثلاثة أخماس،و لهما خمسان مع عدم الحاجب للأم،و إذا وجد الحاجب كان لها السدس،و ما بقي من الخمسين فللأب.

و إذا كان مع البنتين فأكثر أبوان للبنات الثلثان،و لكل من الأبوين السدس، و إذا كان معهن أحد الأبوين فلهن أربعة أخماس،و لأحد الأبوين الخمس.

قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،بل في كتاب المسالك،و كتاب كشف اللثام الإجماع على ذلك.و جاء في الخبر الصحيح:أقرأني الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و خط

ص:213

علي بيده،فوجدت فيها:رجل ترك ابنته و امه فللابنة النصف ثلاثة أسهم،و للأم السدس سهم،و يقسم المال على أربعة أسهم،فما أصاب ثلاثة أسهم فللابنة، و ما أصاب سهما فهو للأم.و قرأت فيها:رجل ترك ابنته و أباه فللابنة النصف ثلاثة أسهم،و للأب السدس سهم،يقسم المال على أربعة أسهم،فما أصاب ثلاثة أسهم فللابنة،و ما أصاب سهما فللأب،و قرأت فيها:رجل ترك أبويه و ابنته فللابنة النصف ثلاثة أسهم،و للأبوين لكل واحد منهما السدس،كل واحد سهم، يقسم المال على خمسة أسهم فما أصاب ثلاثة فللابنة،و ما أصاب سهمين فللأبوين».

قال صاحب مفتاح الكرامة:هذا الطريق المذكور في الأخبار،و هو الأخذ بأصل المسألة من أول الأمر من دون ضرب،هذا الطريق اعتمده المحقق الطوسي في رسالته،و الفاضل البهائي في مقدمته.

أولاد الأولاد:

لا يرث واحد من أولاد الأولاد مع وجود واحد من الأولاد للصلب و يقومون مقام الأولاد عند عدمهم،و كل فريق من أولاد الأولاد يأخذ نصيب من يتقرب به فلأولاد البنت و لو تعددوا و كانوا ذكورا نصيب أمهم لو كانت حية، و لأولاد الابن و لو كانت أنثى واحدة نصيب أبيهم لو كان حيا،و أولاد البنت يقتسمون فيما بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين،تماما كما يقتسم أولاد الابن، و الأقرب يمنع الأبعد،فلا يرث ابن ابن ابن مع ابن ابن،و يشاركون أبوي الميت كآبائهم،و يرد على أولاد البنت كما يرد على البنت،و إذا كان معهم زوج أو زوجة كان لهما النصيب الأدنى،تماما كما هي الحال لو كانا مع الأولاد للصلب.

ص:214

قال صاحب الجواهر:«المعروف بين الفقهاء أن أولاد الأولاد،و ان نزلوا ذكورا و اناثا يقومون مقام آبائهم في مقاسمة الأبوين،و حجبهم عن أعلى السهمين إلى أدناهما،و منع من عداهما من الأقارب.فقد جاء عن الإمام الصادق و أبيه عليهما السّلام:ان لم يكن ولد،و كان ولد الولد ذكورا و إناثا فإنهم بمنزلة الولد،و ولد البنين بمنزلة البنين يرثون ميراث البنين،و ولد البنات بمنزلة البنات،يرثون ميراث البنات،و يحجبون الأبوين و الزوجين عن سهامهم الأكثر،و ان سفلوا-أي أولاد الأولاد-ببطنين و ثلاثة أو أكثر يرثون ما يرث الولد الصلب،و يحجبون ما يحجب الولد الصلب».و قال صاحب الجواهر معلقا على هذا الخبر:و هو نص في المطلوب.

الحبوة:

المراد بالحبوة هنا الشيء الذي يختص به الولد الأكبر من دون الورثة،فقد ذكر الفقهاء أن الولد الأكبر يختص بثياب الميت و خاتمه و سيفه و مصحفه على شريطة أن يكون ذكرا،و ان يترك الميت مالا غير ذلك،فإذا لم يترك شيئا سواه لم يختص الولد الأكبر بشيء،و اشترط بعضهم أن يكون الولد الأكبر إماميا و غير سفيه.و قال صاحب الجواهر:«لا دليل على هذا الشرط،أما أصل الحبوة فإنها من متفردات الإمامية،و معلومات مذهبهم،و بذلك تظافرت نصوصهم عن أئمتهم، ففي صحيح ربعي عن الإمام الصادق عليه السّلام:إذا مات الرجل فلأكبر ولده سيفه و مصحفه و خاتمه و درعه».

ص:215

الأجداد و الأخوة و أولادهم

اشارة

تكلمنا في الفصل السابق عن المرتبة الأولى،و هي الأبوان و الأولاد و أولادهم،و نتكلم الآن عن المرتبة الثانية المتأخرة في الميراث عن الأولى.

و المرتبة الثانية هي الأجداد و الجدات،و الأخوة و الأخوات و أولادهم.

الأخوة:

الأخوة،و يسمون بالكلالة أخذا من الإكليل.لا حاطتهم بالرجل.كما يحيط الإكليل بالرأس.إذا كانت للميت أخ واحد،و ليس معه أحد من مرتبته و طبقته،و كان للأب و الأم فالمال كله له بالقرابة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال،قال تعالى وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مات و ترك أخاه،و لم يترك وارثا غيره؟قال:المال له.

و إذا كان للميت أخوة ذكور كلهم من أبيه و أمه فالمال بينهم بالسوية،و ان كان معهم أنثى أو إناث فللذكر مثل حظ الأنثيين،قال صاحب الجواهر:«كتابة و سنة و إجماعا».

و إذا كان للميت أخت واحدة من أبيه و أمه أخذت الكل:النصف بالفرض، و النصف الثاني بالرد،قال صاحب الجواهر:«لاية أولي الأرحام و غيرها».

ص:216

و إذا كان له أختان فأكثر أخذن الكل:الثلثين بالفرض،و الثلث بالرد.

و إذا لم يكن أخ أو أخت لأبيه و امه،و كان له أخوة أو أخوات لأبيه فقط قام هؤلاء مقام أولئك،و الحكم في ميراثهم واحد مع الانفراد أو التعدد.

و إذا اجتمع أخوة أو أخوات الميت لأبيه و أمه مع الأخوة أو الأخوات للأب فقط سقط المتقرب بالأب وحده،و اختص الميراث بالمتقرب بالأبوين.فلو افترض أن للميت أختا من أبيه و أمه،و عشرة أخوة من أبيه فقط فالمال لها بكامله،و لا يرثون معها شيئا،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك، لاجتماع السببين في كلالة الأبوين فيكون أقرب من كلالة الأب.و جاء في الخبر:

أخوك لأبيك و أمك أولى بك من أخيك لأبيك،و ابن أخيك لأبيك و أمك أولى بك من ابن أخيك لأبيك».

و إذا كان له أخ واحد،أو أخت واحدة من أمه فقط أخذ أو أخذت المال بكامله:السدس بالفرض،و الباقي بالرد.

و إذا كان الأخوة للأم أكثر من واحد،و ليس معهم غيرهم من طبقتهم أخذوا الثلث بالفرض و الباقي بالرد،و اقتسموا بينهم بالسوية للذكر مثل الأنثى.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال،لتطابق الكتاب و السنة و الإجماع».

و إذا اجتمع الاخوة،و اختلفت نسبتهم إلى الميت،فكان البعض لأبوين، و البعض لأب فقط،و ثالث لأم فقط سقط المتقرب بالأب فقط بالمتقرب بالأبوين،و يقوم مقامه و يعطي حكمه مع فقده،أما المتقرب بالأم فقط فلا يسقط بالمتقرب بالأبوين،و يأخذ المتقرب بالأم فقط السدس إذا كان واحدا ذكرا كان أو أنثى،و إذا تعدد أخذ الثلثين،و اقتسموا بالسوية للذكر مثل الأنثى،و الباقي لمن يتقرب بالأبوين واحدا كان أو أكثر ذكرا كان أو أنثى،و إذا تعددوا اقتسموا

ص:217

بالتفاوت للذكر سهمان،و للأنثى سهم،قال صاحب الجواهر:«كتابا و سنة و إجماعا،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام:عن امرأة تركت زوجها و إخوتها لأمها، و أخواتها لأبيها؟فقال:للزوج النصف ثلاثة أسهم،و للأخوة من الأم الثلث،الذكر و الأنثى فيه سواء،و يبقى سهم للأخوة و الأخوات من الأب،للذكر مثل الأنثيين».

أولاد الأخوة:

أولاد الأخوة و الأخوات لا يرثون مع وجود واحد من الأخوة و الأخوات، سواء أ كان لأب و أم،أو لأب فقط،أو لأم فقط.قال صاحب الجواهر:«المعروف بين الفقهاء أنّه لو اجتمع أخ من أم مع ابن أخ لأب و أم فالميراث كله للأخ من الأم،لأنه أقرب».

و إذا لم يكن واحد من الأخوة و الأخوات قام أولادهم مقامهم،و يأخذ كل نصيب من يتقرب به،فالسدس لابن الأخ أو الأخت من الأم،و كذا لبنت الأخ أو الأخت منها،و الثلث لأولاد الأخوة أو الأخوات من الأم إذا تعدد اباؤهم من الأم، و الباقي لأولاد الأخ أو الأخت من الأبوين،أو الأب إذا لم يوجد من يتقرب بالأبوين،لأن أولاد من يتقرب بالأب خاصة يسقطون مع وجود من يتقرب بالأبوين،و لكنهم يقومون مقامه عند عدمهم،و يقتسم أولاد الأخوة و الأخوات من الأم بالسوية كآبائهم،و يقتسم أولاد الأخوة و الأخوات من الأبوين أو من الأب فقط بالتفاوت كآبائهم.

و الأعلى من أولاد الأخوة يحجب الأسفل،فابن ابن الأخ و لو كان لأبوين، يسقط مع وجود بنت الأخت أو ابن الأخ،و لو كان لأب،لقاعدة الأقرب فالأقرب.

ص:218

ثم ان أولاد الأخوة و الأخوات يشاركون الجد و الجدة كآبائهم إذا فقدوا، كما أن أبا الجد يشارك الأخ إذا فقد الجد الأدنى،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه بيننا ضرورة قيام الأولاد مقام آبائهم في ذلك».

الأجداد:

لانفراد الأجداد عن الأخوة حالات :

1-إذا كان للميت جد منفرد،أو جدة منفردة،و لا أحد من الأخوة و الأخوات و لا أولادهم،و لا زوج و لا زوجة أخذ المتفرد من الأجداد المال بكامله،سواء أ كان لأب أم لأم إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:ان عليا عليه السّلام «أعطى الجدة المال كله».و نقل صاحب الوسائل عن الصدوق و الشيخ انهما قالا:

إنما أعطاها المال كله لأنه لم يكن للميت وارث غيرها.

2-إذا تعدد الأجداد،و اتحدوا في النسبة إلى الميت فان كانوا جميعا لأب اقتسموا بالتفاوت للذكر مثل حظ الأنثيين،للإجماع على أن المتقربين بالأب وحده أو بالأب و الأم يقتسمون كذلك.

و ان كانوا جميعا لأم اقتسموا بالسوية من غير فرق بين الذكر و الأنثى، للإجماع على أن المتقربين بالأم فقط يقتسمون كذلك.

3-إذا اجتمع الأجداد و الجدات،و اختلفت نسبتهم فكان بعضهم لأب، و آخرون لأم قسم المال أثلاثا،و أعطي الثلث لمن يتقرب بالأم واحدا كان أو أكثر،لأن الثلث نصيب الأم إذا اجتمعت مع الأب،و لا ولد و لا حاجب، و يقتسمون بالسوية،لأنهم ورثوا بسبب الأم،و أعطي الثلثان لمن تقرب بالأب واحدا كان أو أكثر لأن الثلث نصيب الأب إذا اجتمع مع الأم،و يقتسمون بالتفاوت

ص:219

للذكر سهمان،و للأنثى سهم،لأنهم ورثوا بسبب الأب،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

كل رحم بمنزلة الرحم الذي يجرّ به إلاّ أن يكون وارث أقرب منه إلى الميت.

4-إذا كان مع الأجداد زوج أو زوجة أخذ نصيبه الأعلى،و إذا وجد أحد الزوجين مع من يتقرب بالأم،و يتقرب بالأب أخذ من يتقرب بالأم نصيبه المفروض دون نقصان،و دخل النقص على من يتقرب بالأب،تماما كما لو اجتمع أحد الزوجين مع الأم و الأب.

5-الأدنى من الأجداد و الجدات لأب كان أم لأم يمنع الأبعد من الإرث، فالجد أولى من أب الجد،و أبو الجد أولى من جد الجد،و كذلك الجد يمنع أبناءه من الإرث،و هم الأعمام و الأخوال،لأنه أقرب،و كذلك أبو الجد وجد الجد، و يجتمع الجد مع الأخوة و الأخوات و أبنائهم،كما سنبين فيما يلي:

اجتماع الأجداد و الأخوة:

لاجتماع الأخوة مع الأجداد حالات:

1-إذا اجتمع الأجداد و الأخوة،و اتحدوا في النسبة إلى الميت،و كانوا جميعا لأب أخذ الجد مثل الأخ،و أخذت الجدة مثل الأخت،و اقتسموا المال للذكر مثل حظ الأنثيين،على القاعدة المتبعة فيمن يتقرب بالأب.

2-و إذا اجتمعوا،و اختلفوا في النسبة فكان الجد و الجدة لأم،و كان الأخوة و الأخوات لأبوين،أو لأب،أخذ الجد أو الجدة أو هما معا الثلث، و اقتسما بالسوية،و أخذ الأخوة و الأخوات الثلثين،و اقتسموا بالتفاوت.

و إذا انعكس الفرض فكان الأجداد لأب،و الأخوة لأم فللأخ المنفرد أو

ص:220

للأخت المنفردة السدس،و إذا تعدد الإخوة لأم أخذوا الثلث و اقتسموا بالسوية للذكر مثل الأنثى،و الباقي للجد أو الجدة للأب.

و بكلمة:ان الجد كالأخ و الجدة كالأخت،سواء أ كان من جهة الأب أم من جهة الأم مع فارق واحد،و هو أن الأخوة للأم لهم الثلث مع التعدد،و السدس إذا كان واحدا،أما الأجداد للأم فلهم الثلث على كل حال،حتى و لو كان الجد لأم منفردا،و الدليل على أن الجد كالأخ،و الجدة كالأخت قول الإمام عليه السّلام:ان الجد مع الأخوة يرث حيث ترث الأخوة،و يسقط حيث تسقط،و كذلك الجدة مع الأخوات ترث حيث يرثن،و تسقط حيث يسقطن.

فقد دلت الرواية على أن الجد كالأخ،و الجدة كالأخت دون تقييد بأم أو بأب.

3-إذا كان مع الأجداد و الأخوة زوج أو زوجة أخذا نصيبهما الأعلى، و دخل النقص على من يتقرب بالأب دون من يتقرب بالأم فقط.

أولاد الأخوة و الأخوات:

أولاد الأخوة و الأخوات من الأبوين أو من أحدهما يقومون مقام آبائهم عند عدمهم،و يرث كل نصيب من يتقرب به،و الحكم واحد من غير تفاوت في الانفراد عن الأجداد،و الاجتماع معهم،و في التعدد و عدمه.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف نصا و فتوى و لا اشكال فيه».و قال صاحب مفتاح الكرامة، «انعقد الإجماع على أن أولاد الأخوة يقومون مقام آبائهم،و يرثون نصيبهم مع عدمهم،و عدم من هو في درجتهم».

ص:221

الأعمام و الأخوال و أولادهم

اشارة

سبق الكلام عن ميراث المرتبة الأولى،و هي الأبوان و الأولاد و أولادهم، و عن ميراث المرتبة الثانية،و هي الأجداد و الأخوة و أبناؤهم،و نتكلم الآن عن ميراث المرتبة الثالثة،و هي الأعمام و الأخوال و أولادهم،قال صاحب الجواهر:

«لا يرث أحد من الأعمام و الأخوال مع وجود أحد من الطبقة السابقة بالإجماع، و النصوص،و قاعدة الأقرب».و قال صاحب مفتاح الكرامة:«أجمع الفقهاء على أن جميع أفراد هذه المرتبة إنما يرثون مع فقد الأجداد و آبائهم،و الأخوة و أبنائهم.

الأعمام:

لانفراد الأعمام عن الأخوال حالات:

1-إذا كان للميت عم واحد،و ليس معه أحد الزوجين،و لا واحد من الأخوال،و الخالات أخذ المال بكامله،سواء أ كان لأبوين أو لأب،أو لأم، و كذلك العمة الواحدة.

2-إذا اجتمع الأعمام،و لا عمة معهم و اتحدوا في النسبة إلى الميت اقتسموا بالسوية،و كذا إذا اجتمعت العمات،و اتحدن في النسبة،و لا عم معهن،

ص:222

و إذا اجتمع الأعمام و العمات فإن كانوا جميعا لأبوين،أو لأب اقتسموا بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن عم و عمة؟فقال:للعم الثلثان،و للعمة الثلث.

و إذا كانوا جميعا لأم اقتسموا بالسوية من غير فرق بين الذكر و الأنثى،لأنهم بمنزلة الإخوة لأم على ما هو المشهور شهرة عظيمة على حد تعبير صاحب الجواهر،و قال صاحب مفتاح الكرامة:الإجماع على ذلك،و لم يخالف إلاّ الفضل و الصدوق و المفيد،حيث أوجبوا القسمة بالتفاوت.

و إذا اجتمع الأعمام و العمات،و اختلفت نسبتهم إلى الميت،فكان بعضهم لأبوين،و بعضهم لأب،و آخرون لأم،فالمتقرب بالأب وحده يسقط بالمتقرب بالأبوين،كما هي الحال في الإخوة،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:عمك أخو أبيك من أبيه و أمه أولى بك من عمك أخي أبيك من أبيه،و انما يرث المتقرب بالأب فحسب إذا فقد المتقرب بالأبوين،و يأخذ العم و العمة لأب ما يأخذه العم و العمة لأبوين عند عدمهما.

و إذا اجتمع الأعمام و العمات لأبوين،أو لأب مع الأعمام و العمات لأم يأخذ الواحد من قرابة الأم السدس،و مع التعدد يأخذون جميعا الثلث، و يقتسمون بالسوية من غير فرق بين الذكر و الأنثى،تماما كما هي الحال في الأخوة للأم.

الأخوال:

لانفراد الأخوال عن الأعمام حالات:

1-إذا وجد الأخوال و الخالات،و ليس معهم أحد الزوجين،و لا واحد

ص:223

من الأعمام و العمات فللخال الواحد المال كله لأب كان أو لأم أو لهما،و كذلك الخالة الواحدة.

و إذا تعددوا و اتحدوا في النسبة إلى الميت فان كانوا جميعا لأبوين،أو لأب أو لأم اقتسموا بالسوية للذكر مثل الأنثى،كما هو الشأن في كل من يتقرب بالأم.

و ان اختلفوا بالنسبة إلى الميت فكان بعضهم لأبوين،و بعضهم لأب، و آخرون لأم سقط المتقرب بالأب بالمتقرب بالأبوين.

و إذا اجتمع الأخوال و الخالات لأبوين أو لأب مع الأخوال و الخالات لأم يأخذ الواحد من قرابة الأم السدس،و مع التعدد يأخذون الثلث،و يقتسمون بالسوية،و الباقي لقرابة الأبوين أو الأب،و القسمة بينهم أيضا بالسوية للذكر مثل الأنثى من غير تفاوت،لأن الأصل التسوية إلاّ ما خرج بالدليل.

اجتماع الأعمام و الأخوال:

إذا اجتمع العم و الخال فللخال الثلث واحدا كان أو أكثر،ذكرا كان أم أنثى، و الثلثان للعم واحدا كان أو أكثر ذكرا كان أو أنثى،لأب كان الأعمام و الأخوال،أو لأم،أو لهما،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور بين الفقهاء شهرة عظيمة، لاستفاضة النصوص أو تواترها.قال الإمام الصادق عليه السّلام:جاء في كتاب علي عليه السّلام:

ان العمة بمنزلة الأب،و الخالة بمنزلة الأم:و بنت الأخ بمنزلة الأخ،و كل ذي رحم فهو بمنزلة الرحم الذي يجر به إلاّ أن يكون هناك وارث أقرب إلى الميت فيحجبه.

و تسأل:إذا أخذ الأخوال المتعدون الثلث فكيف يقتسمونه فيما بينهم؟ الجواب:ينظر،فان اتحدوا جميعا بالنسبة فكانوا لأبوين أو لأب أو لأم

ص:224

اقتسموا الثلث بالسوية للذكر مثل الأنثى.و ان اختلفوا في النسبة فكان بعضهم لأبوين،و بعضهم لأب،و آخرون لأم سقط المتقرب بالأب فقط بالمتقرب بالأبوين،و أخذ المتقرب بالأم سدس الثلث ان كان واحدا،و ثلث الثلث ان كان أكثر،و اقتسموا بالسوية،و الباقي من سدس الثلث،أو ثلث الثلث للمتقرب بالأبوين أو بالأب فقط عند عدم المتقرب بهما،و يقتسمون أيضا بالسوية،لأن الجميع يتقربون بالأم.

سؤال ثان:إذا أخذ الأعمام الثلثين فكيف يقتسمونهما فيما بينهم؟ الجواب:ينظر:فان اتحدوا في النسبة فالمال بينهم بالتفاوت للذكر مثل حظ الأنثيين عند صاحب الشرائع و جماعة من الفقهاء،و عند صاحب الجواهر الأمر كذلك ان لم يكونوا جميعا لأم،و إلاّ اقتسموا بالسوية،و ان اختلفوا بالنسبة فمن تقرب منهم بالأم يأخذ سدس الثلثين ان كان واحدا،و ثلث الثلثين إن كان أكثر،و يقتسمون بالسوية،و الباقي من سدس الثلثين أو ثلثهما للأعمام من الأب و الأم،أو الأب فقط عند عدم من يتقرب بالأبوين،و يقتسمون بالتفاوت للذكر سهمان،و للأنثى سهم واحد.

أولاد الأعمام و الأخوال:

إذا فقد الأعمام و العمات،و الأخوال و الخالات جميعا قام أبناؤهم مقامهم، و يأخذ كل نصيب من يتقرب به واحدا كان أو أكثر،لقول الإمام عليه السّلام:كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي يجر به،فلو كان لعم عدة أولاد،و للعم الآخر بنت واحدة كان للبنت وحدها النصف،و لأولاد العم الكثيرين النصف،و إذا اجتمع بنت عم، و ابن عمة كان لبنت العم نصيب أبيها،و هو الثلثان،و لابن العمة نصيب امه،و هو

ص:225

الثلث،أما ولد الخال و الخالة فإنهم يتساوون،لأن الأخوال يقتسمون بالسوية.

و الأقرب من أحد الصنفين،و ان كان لأب فقط أو أم فقط يحجب الأبعد الذي من صنفه و من الصنف الآخر،و ان كان لأبوين،فابن الخال و ان كان من أبوين لا يرث مع العم و ان كان لأب أو لأم لأنه أقرب،و بالأولى أن لا يرث مع الخال،و ابن العم و ان كان لأبوين لا يرث مع الخال،و ان كان لأب فقط،و كذا لا يرث ابن العم من الأب فقط أو الأم فقط مع العم.

و لكن أجمعوا على أن ابن العم من الأبوين يقدم في الميراث على العم من الأب فقط،أو من الأم،و أطلقوا على هذه المسألة المسألة الإجماعية،و قد اعترف الفقهاء بأنه لا نص على ذلك إلاّ رواية الحسن بن عمارة حيث قال له الإمام الصادق عليه السّلام:أيما أقرب،ابن العم لام و أب أو عم لأب؟قال الحسن:حدثنا أبو إسحاق السبعي عن الحارث الأعور عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه كان يقول:أعيان بني الأم أقرب من بني العلات-أي أبناء أب واحد،و أمهات شتى-فاستوى الإمام جالسا،و قال:أخذتها من عين صافية،ان عبد اللّه أبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخو أبي طالب لأمه و أبيه.

و كلنا يعلم ان الامام الصادق عليه السّلام كان في عصر العباسيين،و ان هؤلاء كانوا يحكمون الناس لانتمائهم الى العباس عم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قد كان عمه لأبيه فقط،فرد الإمام عليهم بمنطقهم،و ألزمهم بنظير حجتهم من أنّه إذا كانت الحجة و العلة هي قرابة الرسول فان ممن يدلي إليه بسببين،و هما الأب و الأم أولى ممن يدلي إليه بسبب واحد،و هو الأب فقط.

و يشعر بهذا الذي قلناه ما جاء في الرواية من اهتمام الإمام للجواب،و قول الراوي «فاستوى جالسا».و إلاّ فأي داع للاهتمام و الاستواء.

ص:226

و لكن إجماع الفقهاء قولا واحدا في كل عصر و مصر اخرج هذه المسألة عن النظريات،و جعلها من ضرورات المذهب،و عليه يكون الاجتهاد فيها كالاجتهاد في قبال النص القطعي سندا و دلالة.

ثم إذا اجتمع أبناء العمومة،و لا أحد معهم من أبناء الخؤولة أخذ أبناء العم الواحد لام السدس،و اقتسموا بالسوية ذكورا و اناثا.و إذا كانوا أبناء عمين أو أكثر لام أخذوا الثلث،و اقتسموه كذلك.و الباقي لابن العم أو العمة،أو الأعمام و العمات للأب و الأم،أو للأب عند عدمهم،و يقتسمون بالتفاوت للذكر مثل حظ الأنثيين.

و كذلك أولاد الخال أو الخالة،و لكنهم يقتسمون بالسوية مطلقا،كما هي الحال في آبائهم.

و إذا اجتمع أولاد الخال،و أولاد العم فلأولاد الخال الثلث لواحد كانوا أو أكثر،و لأولاد العم الباقي،ثم ان اتفقوا في النسبة تساووا في القسمة و إلاّ كان سدس الثلث لأولاد الخال أو الخالة للأم بالسوية،و ثلثه لأولاد المتعدد،لكل نصيب من يتقرب به بالسوية،و باقي الثلث لأولاد الخال أو الخالة أو لهما للأبوين أو الأب بالسوية،و سدس الثلثين لأولاد العم أو العمة للأم،للذكر مثل الأنثى، و ثلثهما لأولاد المتعدد،لكل نصيب من يتقرب به،للذكر مثل الأنثى،و الباقي لأولاد العم أو العمة أو لهما لأبوين أو لأب للذكر ضعف الأنثى (1).

عمومة أب الميت:

عمومة الميت و عماته،و خؤولته و خالاته،و أولادهم أولى بالميراث من

ص:227


1- هذه العبارة بطولها للعلامة في كتابه القواعد.

عمومة أب الميت و خؤولة أبيه،و كل أولاد بطن أولى بالإرث من أولاد بطن أبعد، فلو كان ابن عم،و عم الأب فالمال لابن العم،و مثله ابن خال مع خال للأب لقاعدة الأقرب فالأقرب.

اجتماع أحد الزوجين مع الأعمام و الأخوال:

إذا اجتمع الزوج أو الزوجة مع العم و الخال،فللزوج أو الزوجة نصيبه الأعلى،و للخال الثلث واحدا كان أو أكثر،ذكرا كان أو أنثى،لأنه نصيب الأم التي تقرب بها الخال،و الباقي للعم واحدا كان أو أكثر،ذكرا كان أو أنثى،لأنه نصيب الأب الذي تقرب به العم،فالنقص يدخل على العم في جميع الحالات التي يجتمع فيها أحد الزوجين مع الأعمام و الأخوال،تماما كما لو اجتمع الأب و الأم و أحد الزوجين.

اجتماع السببين:

إذا اجتمع في انسان سببان ورث بهما إذا لم يمنع أحدهما الآخر-مثلا- رجل توفي،و له زوجة هي بنت عم،فترث بالزوجية و بالقرابة إذا لم يكن هناك من هو أولى منها.

و أيضا عمة لأب،هي خالة لأم،فإنها تأخذ سهم العمة و الخالة،و يتصور ذلك أن يكون لإبراهيم أخت من أبيه فقط،اسمها عفاف،و لها أخت من أمها فقط،اسمها مريم،فيتزوج إبراهيم من مريم،و يأتيه منها ولد،فعفاف هي عمة الولد لأبيه،و هي في الوقت نفسه خالته لأبيه.

ص:228

ميراث الزوجين

الزوج:

الزوج يشارك الورثة في جميع مراتبهم الثلاث،و له النصف من تركة الزوجة إذا لم يكن لها ولد منه،و لا من غيره،و الربع ان كان لها ولد منه أو من غيره،للآية 12 من سورة النساء وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ .

و ولد الولد،و ان نزل بمنزلة الولد،فبنت البنت تماما كالابن يحجب أحد الزوجين عن نصيبه الأعلى إلى الأدنى.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:ولد البنين بمنزلة البنين،و يحجبون الأبوين و الزوجين عن سهامهم الأكثر،و ان سفلوا ببطن أو بطنين أو ثلاثة،أو أكثر،و يرثون ما يرث الولد للصلب،و يحجبون ما يحجب الولد للصلب.

و إذا لم يكن هناك وارث إطلاقا إلاّ الإمام أخذ الزوج الجميع،النصف بالفرض،و النصف الآخر بالرد،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا،مضافا إلى المعتبرة المستفيضة،منها ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن امرأة توفيت،و لم يعلم لها أحد؟قال الميراث كله لزوجها.

ص:229

الزوجة:

الزوجة تشارك الورثة في جميع مراتبهم الثلاث،و لها الربع ان لم يكن له ولد منها،و لا من غيرها،و الثمن إذا كان له ولد منها،أو من غيرها،للآية 12 من سورة النساء وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ .

و إذا تعددت الزوجات فهن شركاء في الربع،أو الثمن يقتسمنه بالسوية، قال الإمام عليه السّلام:لا يزاد الزوج على النصف،و لا ينقص من الربع،و لا تزاد المرأة على الربع،و لا تنقص من الثمن،و ان كن أربع،أو دون ذلك فهن فيه سواء.

و ذهب المشهور إلى أنّه إذا لم يكن وارث إلاّ الإمام أخذت الزوجة نصيبها الأعلى،و الباقي للإمام حاضرا كان أو غائبا.

قال الصدوق و الشيخ و العلامة و الشهيد الأول،و نجيب الدين بن سعيد، كما في الجواهر و المسالك قالوا:يعطى الباقي للإمام حال حضوره،و حملوا عليه قول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«إذا ترك الرجل امرأته فلها الربع، و ما بقي للإمام».أمّا إذا كان غائبا كما نحن الآن فالباقي يرد على الزوجة،و حملوا عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا مات الرجل،و ترك امرأته فالمال لها.

و إذا طلق الرجل زوجته طلاقا رجعيا،ثم مات أحدهما قبل انتهاء العدة توارثا،لأن المطلقة الرجعية زوجة شرعية،و لذا وجبت لها النفقة،و وجب عليها الطاعة،و لا يجوز الزواج بأختها،و هي في العدة،و لا أثر للطلاق إلاّ عده من التطليقات الثلاث التي توجب التحريم،حتى تنكح زوجا غيره،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا طلق الرجل امرأته يرثها و ترثه ما دام له عليها رجعة.

ص:230

و لا توارث بين المطلق و المطلقة بائنا:لانقطاع العصمة بينهما،و لذا لم تجب لها النفقة،و لم يملك الرجعة إليها،و صح زواجه من أختها قبل انتهاء العدّة.

طلاق المريض:

إذا طلق الرجل زوجته في حال مرض الموت طلاقا رجعيا توارثا ما دامت في العدّة،كما هي الحال في طلاق الصحيح،و إذا كان الطلاق رجعيا،و انقضت عدتها،أو لم يكن الطلاق رجعيا كالمطلقة ثلاثا،أو لم يكن لها عدّة إطلاقا كغير المدخول بها،و اليائسة،إذا كان كذلك فإنها ترثه هي،و لا يرثها هو بشروط أربعة:

1-أن يموت أثناء سنة من تاريخ الطلاق إلى حين الوفاة،فلو مات بعد السنة بيوم فلا ترثه.

2-أن يكون الموت مستندا إلى المرض الذي طلقها فيه،فإذا شفي من المرض المذكور،ثم تمرض،و مات قبل انتهاء السنة،فلا شيء لها من الميراث.

3-أن لا تتزوج بغيره.

4-أن لا يكون الطلاق بطلب منها،و لا أن يكون خلعيا أو مباراة،حيث تبذل هي من أجل الطلاق.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا طلق الرجل امرأته في مرضه ورثته ما دام في مرضه ذلك،و ان انقضت عدتها إلاّ أن يصح منه.فقيل له:فإن طال به المرض؟ قال:ما بينه و بين سنة.

و في رواية ثانية:و هي مقيمة عليه لم تتزوج.و في ثالثة:ترثه و لا يرثها.

ص:231

زواج المريض:

دخول الزوج بالزوجة ليس بشرط للتوارث بينهما،و انما الشرط وجود العلاقة الزوجية،و كفى إلاّ في زواج المريض،حيث أجمعوا بشهادة صاحب مفتاح الكرامة على أنّه إذا عقد عليها في مرض موته،ثم توفي في ذاك المرض بالذات قبل أن يدخل فلا مهر لها و لا ميراث.

و تسأل:هل عدم دخول المريض يكشف عن بطلان العقد من الأساس، بحيث لا يترتب أي أثر من الآثار،فكما أنّه لا مهر و لا ميراث فكذلك لا عدة عليها،و لا يرث هو إذا ماتت هي في مرضه،ثم مات بعدها في ذلك المرض،بل و لا ينشر هذا العقد التحريم بينها و بين أبناء العاقد،أو ان العقد صحيح،و تلحقه جميع الأحكام و الآثار ما عدا المهر و الميراث للدليل الخاص.

و للفقهاء قولان:أحدهما ان الدخول شرط للزوم العقد،لا لصحته،ثانيهما ان الدخول شرط لصحته لا لزومه،فمع عدم الدخول يكون العقد باطلا،و على هذا جماعة منهم صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة،و السيد الحكيم.

قال هذا السيد في منهاج الصالحين ج 2 فصل أقسام الطلاق طبعة سابعة:«الظاهر أن النكاح في حال مرض الزوج إذا مات فيه قبل الدخول بمنزلة العدم،فلا عدة عليها بموته».

و قال صاحب الجواهر ما نصه بالحرف:«ان حصل الدخول علم صحة النكاح من أول الأمر،و إلاّ انكشف فساده كذلك-أي من أول الأمر-و له الوطء بالعقد الصادر،و منه يعلم قوة القول بعدم الإرث لو ماتت هي في مرضه،ثم مات هو بعدها في ذلك المرض،لانكشاف فساد العقد بعدم الدخول،و الموت في المرض».

ص:232

و قال صاحب مفتاح الكرامة:معاقد الإجماعات،و مناطيق الروايات، و فتاوى الفقهاء كما في المبسوط و غيره على أن النكاح بدون الدخول باطل.و ان الدخول كاشف عن الصحة،و عدمه كاشف عن عدمها،كما هو الشأن في عقد الفضولي بالنسبة إلى الإجازة».

و نحن مع هؤلاء الأقطاب،نميل إلى بطلان العقد،لأنه قد ثبت في الصحيح عن أهل البيت عليهم السّلام وصف زواج المريض بلفظ«باطل»فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المريض،إله أن يطلق؟قال:لا و لكن له أن يتزوج ان شاء،فإن دخل بها ورثته،و ان لم يدخل بها فنكاحه باطل.و هذه الرواية رواها عبيد و ولده الموصوفين بالصدق و الوثاقة،و مثلها تماما رواية أخرى رواها أبو ولاد.و لفظ «نكاحه باطل»صريح في البطلان،و القول بصحة العقد اجتهاد في قبال النص.

ميراث الخنثى:

الخنثى من له ما للرجال،و للنساء،و يقدر سهمه في الإرث على التفصيل التالي:

1-إن بال من فرج الرجل دون فرج الأنثى يأخذ ميراث الذكر و ان بال من فرج النساء يأخذ ميراث الأنثى،قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك مضافا إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:كان أمير المؤمنين علي عليه السّلام يورث الخنثى من حيث يبول.

2-و ان بال منهما تعتبر الفرج الذي يخرج البول منه أولا،فإن سبق من فرج الرجل فله ميراثه،و ان سبق من فرج المرأة فله ميراثها،قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك مضافا إلى صحيح هشام بن سالم الذي جاء فيه:فإن

ص:233

خرج منهما جميعا فمن حيث سبق.

3-و ان بال منهما من غير سبق،بل نزل البول من المخرجين في آن واحد اعتبر الذي ينقطع أخيرا،لا أولا،و ورث بحسبه،فإن تأخر فرج الرجل فله ميراثه،و ان تأخر فرج المرأة فله ميراثها،قال صاحب الجواهر:«إجماعا في محكي السرائر و التحرير و المفاتيح».

و ان تساويا في السبق و الانقطاع فقد ذهب المشهور إلى أنّه يعطى نصف نصيب الذكر،و نصف نصيب الأنثى،قال صاحب الجواهر:«فقد جاء في الصحيح عن الإمام عليه السّلام:فإن مات،و لم يبل فنصف عقل امرأة،و نصف عقل الرجل،و المراد من العقل هنا الميراث،على أن ذلك هو الموافق لقاعدة قسمة المال المشتبه بين شخصين بالنصف».

و الطريق إلى معرفة نصف سهم الذكر،و نصف سهم الأنثى أن نفرض الخنثى ذكرا تارة،و نأخذ نصف سهمه،و نفرضه أنثى تارة،و نأخذ نصف سهمها،ثم نعطيه النصفين،فإذا كان مع الخنثى ذكر نفرضه هو ذكر أيضا،و نجعل القسمة من 12 فيكون له نصفها 6 ثم نفرضه أنثى،فيكون له ثلثها 4،و نصف الستة 3،و نصف الأربعة 2 و مجموع النصفين 5 فيكون للخنثى 5 من 12،و إذا كان معه أنثى يكون له 7 من 12.و إذا لم يكن مع الخنثى أحد أخذ المال بكامله.

و قال بعض الفقهاء:ان تساوى المخرجان في سبق البول و انقطاعه اعتبر بالقرائن الأخر،فإن خاض فهو امرأة،و ان كانت له لحية فهو رجل.و ليس هذا ببعيد.و لو حصل العلم من قول الأطباء و أهل الاختصاص تعين العمل به،إذ ليس وراء العلم حجة أقوى منه.

و لو افترض وجود انسان لا فرج له على الإطلاق سوى مخرج الغائط الذي

ص:234

يكون للذكر و الأنثى ورث بالقرعة،أي يقرع:هل هو ذكر أو أنثى؟و يرث حسبما تخرج القرعة.

ص:235

ميراث الحرقى و الغرقى

اشارة

و المهدوم عليهم

ذكر فقهاء السنة و الشيعة مسألة ميراث الغرقى و الحرقى و المهدوم عليهم و أمثالهم،و اختلفوا في توريث بعضهم من بعض،إذا اشتبه الحال،و لم يعلم تقدم موت أحدهما على موت الآخر.

فذهب الأئمة الأربعة:أبو حنيفة و مالك و الشافعي و ابن حنبل إلى أن بعضهم لا يرث بعضا،بل تنتقل تركة كل واحد لباقي ورثته الأحياء،و لا يشاركهم فيها ورثة الميت الآخر،سواء أ كان سبب الموت و الاشتباه الغرق أم الهدم أم القتل أم الحريق أم الطاعون.

أما الشيعة الإمامية فكان لاجتهادهم أثر بليغ في هذه المسألة،فقد شرحها فقهاء العصر الأخير شرحا وافيا،و فرعوا عنها صورا لم تخطر في ذهن أحد من رجال التشريع قديما و حديثا،فقبل أن يتكلموا عن ميراث الغرقى،و المهدوم عليهم بالخصوص تكلموا عنهم و عن أمثالهم بوجه يشمل كل حادثين علم بوجودهما،و لم يعلم المتقدم من المتأخر،و كان تأثير أحدهما في حال السبق و التقدم غير تأثيره في حال التأخير و التخلف عن الآخر.ان المجتهدين من فقهاء

ص:236

الشيعة المتأخرين يرون مسألة ميراث الغرقى و غيرهم مسألة جزئية لكلية كبرى، و فردا من أفراد قاعدة عامة لا تختص بمسألة دون مسألة،و باب دون باب من أبواب الفقه،بل تشمل كل حادثين حصلا،و اشتبه المتقدم من المتأخر،سواء أ كان الحادثان أو أحدهما من نوع العقود،أم من الإرث أم من الجنايات،أم غير ذلك،فيدخل في القاعدة ما لو حصل عقدا بيع،أحدهما أجراه المالك الأصيل بنفسه مع عمر على شيء خاص من ممتلكاته،و الثاني أجراه وكيله في بيع ذلك الشيء مع زيد،و لم يعلم أي العقدين متقدم ليحكم بصحته و أيهما متأخر ليحكم بفساده؟و هكذا كل حادثين يرتبط عدم تأثير أحدهما بتقدم الآخر عليه مع فرض أنّه ليس في البين دلائل تدل على وقوع الحادثين في لحظة واحدة،أو سبق أحدهما على الآخر،فليست مسألة الغرقى و غيرهم مسألة مستقلة بذاتها،و انما هي من جزئيات قاعدة عامة.لذلك نرى المجتهدين من فقهاء الشيعة الإمامية صرفوا الكلام قبل كل شيء إلى القاعدة نفسها.و بيان حكمها،و بعد هذا تكلموا عن ميراث الغرقى و غيرهم،و ان حكمهم هل هو حكم القاعدة العامة أو أن هناك ما يوجب استثناء حكم الغرقى عن القاعدة،و لا ريب أن تحرير البحث على هذا النحو أجدى نفعا،و أكثر فائدة.

و حيث ان معرفة هذه القاعدة تتوقف على معرفة أصلين آخرين يتصلان اتصالا وثيقا بها،لذلك نختصر الكلام عنهما بمقدار ما تدعو الضرورة لمعرفة القاعدة المقصودة بالذات،على انهما لا يقلان عنها نفعا.و الأصلان هما أصل عدم وقوع الحادث الذي شك في وقوعه،و أصل تأخر الحادث الذي علم وقوعه.

ص:237

أصل عدم وقوع الحادث:

لنا قريب في المهجر،كنا نراسله،و يراسلنا،ثم قطع عنا الرسائل، و قطعناها نحن عنه،و بعد أمد طويل يخطر لنا أن نرسل إليه كتابا،فنكتب له على عنوانه الأول،مع أنّه قد يخالجنا الشك بأنه مات،أو انتقل من مكانه.فما هو السر الذي دعانا إلى عدم الاهتمام بما طرأ على ذهننا من الشك و احتمال الموت، و تغير العنوان؟و أيضا نعتقد بأمانة انسان و صدقه،فنجعله محل ثقتنا،و نأتمنه على أثمن الأشياء،ثم يصدر منه عمل فنظن أنّه تغير و تبدل،و مع ذلك نمضي معه كما كنا أولا،و هكذا في جميع المراسلات و المعاملات و المواصلات.

و السر في ذلك أن الإنسان مسوق بفطرته على الأخذ بالحال السابقة إلى أن يثبت العكس،فإذا علم بحياة زيد،ثم حصل الشك بحدوث موته،فالأصل الذي تقره الفطرة هو البقاء على نية الحياة إلى أن يثبت الموت بأحد طرق الإثبات، و هذا معنى أصل عدم وقوع الحادث الذي لم يثبت وقوعه،و إليه يهدف قول الإمام الصادق عليه السّلام:«من كان على يقين ثم شك فلا ينقض اليقين بالشك،ان اليقين لا ينقضه إلاّ اليقين،لا تدخل الشك على اليقين،و لا تخلط أحدهما بالآخر،و لا تعتد بالشك مع اليقين في حال من الأحوال».

فإذا علمنا أن فلانا مدين بمال،ثم ادعى الوفاء،فالأصل بقاء الدين إلى أن يثبت الوفاء،أي كما علمنا بالدين يجب أن نعلم بالوفاء،لأن العلم لا يزيله إلاّ العلم،و الشك الطارئ بعد العلم لا أثر له،فمن ادعى شيئا يضاد الحال السابقة فهو مدع و عليه أن يقيم البينة على مدعاه،و من كان قوله وفق الحال السابقة فهو منكر لا تتجه عليه سوى اليمين.

فتحصل من هذا البيان أن معنى أصل عدم الحادث في حقيقته هو الأخذ

ص:238

بالحال السابقة إلى أن يثبت العكس.

أصل تأخر الحادث الواحد:

لو علم القاضي أن خليلا كان حيا في يوم الأربعاء،و أنّه في يوم الجمعة كان في عداد الأموات و لم يعلم هل حدث موته في يوم الخميس أو في يوم الجمعة و ليس لديه آية دلالة تعين زمن الموت بالخصوص،فبما ذا يحكم؟أ يحكم بأن خليلا مات يوم الجمعة أو يوم الخميس؟ ان في فرضنا هذا ثلاثة أزمنة:زمن العلم بالحياة،و هو يوم الأربعاء،و زمن العلم بالموت،و هو يوم الجمعة،و الزمن المتخلل بينهما،و هو يوم الخميس الذي لم يعلم بالحياة فيه،و لا بالموت.و الأصل يوجب إلحاق هذا الزمن المتخلل بالزمان الذي قبله لا بالذي بعده،أي نلحق زمن الجهل بالحياة بالحالة السابقة، و هي العلم بالحياة،فنبقى على علمنا بالحياة إلى زمن العلم بالموت،و تكون النتيجة ان الموت تأخر زمن حدوثه إلى يوم الجمعة.و هكذا كل شيء علم بحدوثه،و حصل الشك في تقدمه و تأخره إذا كان الحادث واحدا غير متعدد.

العلم بوقوع حادثين مع الجهل بالمتقدم منهما:

بعد أن مهدنا بذكر الأصلين:عدم وقوع الحادث،و تأخر وقوع الحادث الواحد.نشرع ببيان حكم القاعدة العامة المقصودة بالذات من هذا البحث،و هي العلم بوقوع حادثين يرتبط تأثير أحدهما بتقدمه على الآخر مع الجهل بالمتقدم منهما كوقوع عقدين أجرى أحدهما الأصيل،و الآخر أجراه الوكيل،و كحصول الولادة و الهبة،كما قلنا فيما تقدم،و كموت متوارثين لا يعرف أيهما توفي قبل

ص:239

صاحبه.

و يختلف حكم هذه القاعدة باختلاف علم القاضي بزمن وقوع كل واحد من الحادثين أو عدم علمه بزمان حدوثهما أو علمه بزمن حدوث أحدهما خاصة،فالحالات ثلاث:

1-أن يعلم القاضي من أقوال المتداعيين أو من الوقائع تاريخ كل واحد من الحادثين،فيحكم و الحال هذه بموجب علمه.

2-أن يجهل القاضي تقدم أحد الحادثين على الآخر،و لكن يحصل له العلم بتاريخ حدوث أحدهما دون الآخر كما لو علم بأن بيع الفرس حصل في اليوم الثاني من شهر حزيران و لا يدري هل وقع العيب في اليوم الأول منه كي يجوز الرجوع أو اليوم الثالث كي لا يجوز؟و العمل في هذه الحال هو الحكم بتقدم معلوم التاريخ،و تأخر المجهول لأن أصل تأخر الحادث الذي تقدم ذكره لا يجري في معلوم التاريخ فإن العلم يمنع من الأخذ بالأصل.أما الحادث الذي جهلنا زمن حدوثه فيجري فيه أصل تأخر الحادث لأن هذا الأصل يعتمد عليه في مقام الجهل.

و الخلاصة أنّه إذا وقع حادثان أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهول التاريخ يحكم بقول مطلق بتقدم المعلوم و تأخر المجهول سواء أ كان الحادثان من نوع واحد كموت شخصين،أو وقوع عقدين أو كان الحادثان متغايرين.

3-أن لا يعلم القاضي زمن حدوثهما،و لا زمن حدوث أحدهما خاصة أي أن يكونا مجهولي التاريخ،و حينئذ لا أصل يعين تقديم أحدهما و تأخير الآخر،لأن أصل تأخير أحدهما عن الثاني ليس بأولى من أصل تأخير الثاني عن صاحبه-بعد أن كان كل منهما مجهول التاريخ-فأصل تأخر الحادث إنما يؤخذ به

ص:240

إذا كان الحادث واحدا أو كان متعددا،و لكن أحدهما معلوم التاريخ لا يجري فيه الأصل،و الآخر مجهول يجري فيه الأصل،أما إذا كانا مجهولين و لا ميزة لأحدهما على الآخر فيسقط الاعتماد على الأصل بكل منهما لمكان المعارضة.

الغرقى و المهدوم عليهم:

قد يكون بين اثنين قرابة قريبة،و لكن ليس لأحدهما أهلية الإرث من قريبه كأخوين لهما أولاد،و هذه الحال خارجة عما نحن فيه و ينتقل ميراث كل واحد لأولاده سواه أمات هو و أخوه في لحظة واحدة أو تقدم الموت أو تأخر.

و يتفق هذا مع ما جاء في كتب الفقه لجميع المذاهب الإسلامية،و ما نقل عن القانون الفرنسي.

و قد تكون أهلية الإرث ثابتة لأحد الطرفين دون الطرف الثاني كأخوين لأحدهما خاصة أولاد،و ليس للآخر أولاد،و هذه الحال خارجة أيضا عن الموضوع لأن أبا الأولاد ينتقل ميراثه لأولاده و الذي ليس له أولاد تختص تركته بسائر أقاربه الموارثين غير أخيه الذي مات معه غرقا أو حرقا أو غير ذلك لأن الشرط في الإرث أن تعلم حياة الوارث عند موته الموروث و المفروض عدم العلم بحياة أبي الأولاد عند موته من لا ولد له.

و قد تكون الموارثة ثابتة لكلا الطرفين كابن و أب و كأخوين ليس لهما أب و أم،و ليس لهما أو لأحدهما أولاد و كزوجين وارث كل منهما غير وارث الآخر، و هذه الحال تدخل في صميم الموضوع و يشترط الشيعة الإمامية لتوريث بعضهم من بعض أمرين:

1-أن يكون موت كل منهما مستندا إلى سبب واحد،و ذلك السبب يجب

ص:241

أن يكون الهدم أو الغرق خاصة بأن يكونا في بنائه فتنهار عليهما،أو سفينة فتغرق بهما،و لو هلك أحدهما بسبب الغرق،و الآخر بسبب الحريق أو الانهيار أو هلكا معا بسبب الطاعون أو في المعركة فلا توارث،و المنقول عن القانون الفرنسي أنه يشترط للتوارث اتحاد سبب الموت،و لكنه لا يحصر السبب بالغرق و الهدم فحسب-كما تقول الشيعة-بل يتحقق التوارث أيضا إذا كان الهلاك بالحريق.

2-أن يكون زمن كل واحد من الهالكين مجهولا فلو عرف زمن موت أحدهما و جهل زمن موت الآخر يرث المجهول دون المعلوم.

و إليك المثال:انهارت بنائه على رجل و زوجته،أو غرقت بهما سفينة و حين الاسعاف عثر على الزوج و هو يلفظ النفس الأخير و كانت الساعة قد بلغت الخامسة،و بعد ساعتين عثر رجال الاسعاف على الزوجة و هي جثة هامدة،و لم يعلموا هم و لا نحن هل فارقت الحياة قبل الزوج أو بعده فزمن موت الزوج معلوم و زمن موت الزوجة مجهول،و أصل تأخر الحادث الذي أشرنا إليه يستدعي أن ترث الزوجة التي جهل تاريخ وفاتها من الزوج الذي علم تاريخ وفاته.و لا يرث هو منها شيئا.و إذا انعكس الأمر فعلم زمن موت الزوجة،و جهل زمن موت الزوج ورث الزوج دون الزوجة.و بتعبير ثان انّه إذا علم تاريخ احدى الوفاتين فمجهول التاريخ يرث من المعلوم،و معلوم التاريخ لا يرث من المجهول.

و حيث ان الإرث يختص بالمجهول فحسب،و غير ثابت للطرفين فلا يفرق في هذه الحال بين أسباب الموت.فالحاكم واحد سواء أ كان سبب الموت الغرق أو الحريق أو الانهيار أو الوباء أو القتل في المعركة.

أما إذا جهل التاريخان كما لو عثر على جثة الزوج و الزوجة و هما هامدتان و لم يعلم زمن موت أحدهما تتحقق الموارثة بين الطرفين أي يرث كل واحد

ص:242

من صاحبه.و هذا التفصيل بين حال العلم بتاريخ أحد الهالكين من جهة و الجهل بالتاريخين من جهة ثانية لم ينقل عن قانون أجنبي،و لم أجده في كتب فقهاء السنة المتقدمين و المتأخرين،و لا في كلمات الشيعة السالفين،و انما ذكره مجتهدو الشيعة المتأخرون في كتب أصول الفقه.

و الخلاصة ان الشيعة الإمامية يحصرون التوارث فيما إذا كان سبب الموت الغرق أو الهدم خاصة،و لم يعلم زمن موت واحد من الهالكين،و على هذا إذا ماتا حتف الأنف أو بسبب الحريق أو القتل في المعركة أو الطاعون و ما إلى ذلك فلا توارث بل ينتقل مال كل واحد إلى ورثته الأحياء،و لا يرث أحد الهالكين من صاحبه شيئا،و إذا علم تاريخ موت أحدهما دون الآخر يرث المجهول من المعلوم،و لا يرث المعلوم من المجهول.

كيفية التوارث:

كيفية التوارث أن يفرض أن الزوج مات قبل الزوجة و يخرج من تركته نصيبها و تقتسم ورثتها أموالها التي كانت لها في قيد الحياة و نصيبها المتصل إليها بالإرث من زوجها،ثم يفرض أن الزوج مات بعد الزوجة،و يخرج من تركتها نصيب الزوج،و يقتسم ورثته أمواله التي كانت له و هو حي و نصيبه المتصل إليها بالإرث من زوجها ثم يفرض أن الزوج مات بعد الزوجة،و يخرج من تركتها نصيب الزوج،و يقتسم ورثته أمواله التي كانت له و هو حي و نصيبه المتصل إليه بالإرث من زوجته و لا يرث أحدهما من الأموال التي ورثها منه صاحبه فإذا كانت الزوجة تملك مائة ليرة و الزوج يملك ألفا فترث الزوجة من الألف فحسب، و الزوج من المائة فقط لأنه لو ورث أحدهما من الأموال التي ورثها صاحبه منه لأدى ذلك إلى أن الإنسان بعد موته يرث من مال نفسه!و من المحال أن يرث الإنسان شيئا ورثه هو لغيره.

ص:243

و الخلاصة إذا مات اثنان بسب الغرق أو الهدم،و كان بينهما توارث و اشتبه المتقدم من المتأخر و لم يعلم تاريخ وفاة أحدهما يرث بعضهم من بعض من تلاد المال دون طارفه (1)عن الإمامية فقط.

ص:244


1- تلاد المال هو ما كان للميت حال حياته،و طارفه هو ما ورثه من ميت معه.

الحدود و التعزيرات

بين الحد و التعزير:

المراد بالحد هنا العقوبة التي نص عليها الشارع،و أوجب إنزالها بالعاصي المرتكب جريمة معينة،و الغاية منه الردع و الزجر عن المحرمات،و يسمى الحد عقوبة مقدرة،لأن الشارع هو الذي قدرها.

أما التعزير في اصطلاح الفقهاء فهو العقوبة على الكبائر من فعل الحرام،أو ترك الواجب اللذين لا تقدير للعقوبة عليهما،و انما ترك تقدير ذلك إلى الحاكم بما يراه على أن لا يبلغ في التقدير الحد المنصوص عليه للجرائم الأخر،كالقتل و مائة جلدة،و على هذا يحمل قول الإمام عليه السّلام:«لكل شيء حد،و لمن تجاوز الحد حد»أي ان حد الجريمة يعرف من نص الشارع،أو من تقدير الحاكم،و يسمى التعزير عقوبة مفوضة،لأنها قد فوضت الى نظر الحاكم.

و يثبت الموجب للتعزير بالإقرار مرتين،أو بشهادة عدلين،و لا تقبل شهادة النساء إطلاقا.

و قال الفقهاء:ان أسباب الحد سبعة:الزنا،و ما يتبعه كاللواط و المساحقة و القياد،و القذف،و شرب الخمر،و السرقة،و قطع الطريق،و الارتداد،و نتكلم

ص:245

في هذا الفصل،و الفصول التي تليه عن هذه السبعة،و كثير غيرها من العقوبات الموجبة للتعزير التي ترك تقديرها لنظر الحاكم.

الزنا

تحريم الزنا:

تحريم الزنا ثابت بضرورة الدين،فمن استحله من غير شبهة تدرأ عنه الحد فهو كافر،و من فعله متهاونا و مستخفا فهو فاسق.قال تعالى وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً (1).و قال اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (2)و قال وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (3).

الشروط:
اشارة

لا يتحقق مفهوم الزنا الموجب للتحريم و الحد إلاّ بعد توافر الشروط التالية :

1-إدخال الحشفة قبلا أو دبرا،لثبوت النص بأن التقاء الختانين يوجب الغسل و المهر و الحد.و عليه فلا يتحقق الزنا بالضم و التقبيل و التفخيذ،و ان كان محرما يوجب التعزير.

2-البلوغ،لحديث:«رفع القلم عن الصبي،حتى يحتلم و عن المجنون، حتى يفيق،و عن النائم،حتى يستيقظ».

ص:246


1- الإسراء:32. [1]
2- النور:3. [2]
3- الفرقان:68. [3]

أجل،إذا زنى غير البالغ بالبالغة فعليه التعزير،و عليها الجلد.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن غلام لم يدرك عشر سنين زنى بامرأة؟قال:يجلد الغلام دون الحد،و تجلد المرأة الحد كاملا.قال السائل:فإن كانت محصنة؟قال الإمام عليه السّلام:لا ترجم،لأن الذي نكحها ليس بمدرك،و لو كان مدركا رجمت.

3-العقل،فلا حد على المجنون،للحديث المذكور،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن امرأة مجنونة زنت؟قال:ليس عليها رجم و لا نفي.

4-العلم،فإذا عقد جاهلا على أخته من الرضاع،أو امرأة في العدة،أو اعتقد أن مجرد الرضا كاف في الحل،و لو من غير عقد،و وطأ فلا شيء عليه سوى أن الموطوءة في العدة الرجعية تحرم على الواطئ مؤبدا.و بكلمة ان كل من وطأ امرأة متوهما الحل،و هي محرمة عليه،يسقط عنه الحد،سواء أ كان جاهلا بالحكم فقط،كما لو علم أنّه رضع هو و هذه من لبن واحد،و جهل بتحريم العقد عليها،أو كان جاهلا بالموضوع فقط،كما لو علم بتحريم العقد على الأخت من الرضاع،و جهل بأن هذه أخته من الرضاع،و سواء أ كان جهله عن قصور،أو عن تقصير،لحديث:«تدرأ الحدود بالشبهات».أجل،ان الجاهل عن تقصير يستحق العقاب يوم القيامة،لا العقوبة عليه في الدنيا.

و كل من يدعي الاشتباه و الجهل يقبل منه من غير بينة ما دام ذلك ممكنا في حقه،بحسب المعتاد،كمن يدعي الجهل بتحريم العقد على الأخت من الرضاع، و ما إليها لقرب عهده بالإسلام.

قال صاحب الشرائع و الجواهر،«يسقط الحد في كل موضع يتوهم فيه الحل،كمن وجد على فراشه امرأة فظنها زوجته فوطأها.و كذا يسقط الحد لو أباحته نفسها فتوهم الحل».و المثال الأول شبهة موضوعية،و المثال الثاني شبهة

ص:247

حكمية،و كلتاهما يسقط معها الحد،على شريطة أن يكون الجهل بالحكم ممكنا في حقه بالقياس إلى الشبهة الحكمية.قال الإمام الصادق عليه السّلام:لو أن رجلا دخل في الإسلام،و أقر به،ثم شرب الخمر و زنى،و أكل الربا،و لم يتبين له شيء من الحلال و الحرام لم أقم عليه الحد،إذا كان جاهلا،إلاّ أن تقوم عليه البينة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا و الخمر و الربا،و إذا جهل ذلك أعلمته و أخبرته،فإن ركبه بعد ذلك جلدته،و أقمت عليه الحد.

5-الاختيار،فإذا أكرهت المرأة على الزنا سقط عنها الحد إجماعا و نصا، و منه:ليس على المستكرهة حد إذا قالت:انما استكرهت.و في رواية ثانية:

جيء لأمير المؤمنين علي عليه السّلام بامرأة مع رجل فجر بها،فقالت:استكرهني و اللّه يا أمير المؤمنين.فدرأ عنها الحد.و اشتهر بين السنة و الشيعة قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه.

و اختلفوا:هل يتحقق الإكراه بالنسبة إلى الرجل؟قيل:لا يعقل تحققه،لأن القضيب لا ينتشر مع الإكراه،و مع عدم الانتشار لا يمكن الإدخال الذي هو شرط في تحقق مفهوم الزنا،كما سبق في الرقم 1.و قيل:بل يتحقق الانتشار و الإدخال مع الإكراه.

و لست أرى لهذا الاختلاف آية فائدة،ما دام الفرض فيما إذا أدخله مكرها، و ليس من ريب أنّه إذا تحقق ذلك فلا شيء عليه،لنفس الأدلة التي ذكرناها في المستكرهة.

و تسأل:إذا أكره رجل آخر على وطء امرأة،و كانت هي مكرهة أيضا،فهل يثبت لها المهر؟و على افتراض ثبوته،و استحقاقها المهر،فهل يثبت على الواطئ أو على من أكرهه على الوطء؟

ص:248

الجواب:

يثبت لها المهر،لأنها ليست ببغي،و يجب على المكره،لا على الواطئ، لأنه أقوى من المباشر.أجل،إذا وطأها دون أن يضغط أحد عليه،بل هو أكرهها على ذلك كان المهر عليه،لقول الإمام علي عليه السّلام المنجبر بعمل الفقهاء على حد تعبير صاحب الجواهر،و هو:«إذا اغتصب الرجل أمة فافتضها فعليه عشر ثمنها، فإذا كانت حرة فعليه الصداق».

و يتحقق الإكراه بتوعد القادر بما يتضرر به الذي وجّه إليه التهديد و الوعيد إذا لم يفعل.

سؤال ثان،إذا حملت المرأة فبمن يلحق الولد؟ الجواب:ان كانت هي المكرهة دونه ألحق بها لا به،و ان كان هو المكره دونها،ألحق به لا بها،و ان كان كل منهما مكرها ألحق بهما فالمعيار أن من سقط عنه الحد يلحق به الولد،لأنه بحكم الشبهة.

طرق الإثبات:
اشارة

يثبت الزنا بالطرق التالية:

1-اتفقوا على أن الزنا لا يثبت بالإقرار به مرة واحدة

،و لا بمرتين أو ثلاث،سواء أ كان المقر رجلا أو امرأة،بل لا بد من تكراره أربع مرات،مع كمال المقر بالبلوغ و العقل و الاختيار،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يرجم الزاني،حتى يقر أربع مرات بالزنا إذا لم يكن شهود،فإن رجع ترك،و لم يرجم.

ص:249

و قد اشتهر أن رجلا اسمه ماعز بن مالك جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال له:

قد زنيت،فأعرض عنه،ثم جاء من شقه الأيمن،فقال مثل الأول،فأعرض عنه، ثم جاءه،و قال مثل ذلك إلى أن تم أربع مرات،و عندها قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أ بك جنون؟قال:لا.قال:أ نكحتها؟قال:نعم،قال:حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟قال:نعم.قال:أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا؟قال:

نعم.قال:ما تريد بهذا القول؟قال:أريد أن تطهرني،فأمر به،فرجم.و في حديث ثان:أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له:لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال:لا.

و إذا أقر بما يوجب الرجم كالمحصن،ثم أنكر و رجع عن إقراره سقط الرجم،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،بل تحصيل الإجماع عليه للنصوص المعتبرة المستفيضة التي منها قول الإمام عليه السّلام في حسنة محمد بن مسلم:من أقر على نفسه أقمت عليه الحد إلاّ الرجم،فإنه إذا أقر على نفسه،ثم جحد لم يرجم.

و إذا أقر على نفسه بما يوجب الجلد،لا الرجم كغير المحصن،ثم أنكر و رجع عن إقراره لم يسقط الحد،قال صاحب الجواهر:هذا هو المشهور شهرة عظيمة يمكن دعوى الإجماع معها،لقاعدة عدم سماع الإنكار بعد الإقرار، و للنصوص المعتبرة».

و من هذه النصوص التي أشار إليها قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أقر الرجل على نفسه بحد أو فرية،ثم جحد جلد،فقال له بعض من حضر:أ رأيت ان أقر على نفسه بما يبلغ الرجم،أ كنت ترجمه؟قال:لا،و لكن كنت ضاربه.

و على الإجمال،ان قاعدة:لا إنكار بعد إقرار يجب العمل بها،حتى يثبت العكس و قد ثبت بالنص الصحيح الصريح قبول الإنكار بعد الإقرار بما يوجب

ص:250

الرجم،و بقي ما عداه على القاعدة.

و إذا أقر بما يوجب الحد،ثم تاب فللحاكم العادل أن يعفو عنه،و له أن يقيم الحد عليه،من غير فرق بين أن يكون الحد رجما أو جلدا.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده للنص المنجبر بالشهرة العظيمة،فقد جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام،فأقر بالسرقة،فقال له:أ تقرأ شيئا من القرآن؟قال:نعم، سورة البقرة.قال:قد وهبت يدك لسورة البقرة.فقال الأشعث:أ تعطل حدا من حدود اللّه؟فقال له الإمام عليه السّلام:و ما يدريك يا هذا-إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو،و إذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام ان شاء عفا،و ان شاء قطع».

و إذا حملت امرأة،و لا بعل لها تحد إلاّ أن تقر بالزنا أربعا،أو تقوم عليها البينة،لاحتمال الاشتباه و الإكراه،و غيرهما على حد تعبير صاحب الجواهر.

2-يثبت الزنا بأربعة شهود عدول

،سواء أ كان الزنا موجبا للرجم،كما لو كان الزاني محصنا،أو موجبا للجلد،كما لو كان غير محصن،لقوله تعالى:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:حد الرجم في الزنا أن يشهد أربعة أنّهم رأوه يدخل و يخرج،و في رواية ثانية عن الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام عن علي عليه السّلام في ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا،فقال:أين الرابع؟قالوا:الآن يجيء، فقال:حدوا الشهود،فليس في الحدود نظر ساعة.

و لا تقبل شهادة الشاهد إلاّ إذا كانت صريحة في ولوج الذكر في الفرج،

ص:251


1- النور:5. [1]

تماما كالميل في المكحلة،و أنّه حصل من غير عقد و لا شبهة قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف معتد به»،لقول الإمام عليه السّلام:يشهد أربعة منهم رأوه يدخل و يخرج.

و لا بد من توارد الشهود الأربعة و اتفاقهم على الشيء المشهود به فعلا و جهة و مكانا و زمانا،فان نقصوا عن الأربعة،أو اختلفوا بجهة من الجهات حدّ الشهود حد القذف.

و ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الزوج إذا كان أحد الشهود الأربعة أخذ بشهادته على شريطة أن يأخذ صفة الشاهد،لا صفة القاذف، فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن أربعة شهود على امرأة بالزنا،أحدهم زوجها؟ قال:تجوز شهادتهم.

3-يثبت الزنا الموجب للرجم و للجلد بشهادة ثلاثة رجال و امرأتين

فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل فجر بامرأة،فشهد عليه ثلاثة رجال،و امرأتان؟ قال:وجب عليه الرجم،و ان شهد عليه رجلان،و أربع نسوة فلا تجوز شهادتهم، و لا يرجم،و لكن يضرب حد الزاني.

4-يثبت الزنا الموجب للجلد فقط دون الرجم بشهادة رجلين و أربع

نسوة

،للرواية المتقدمة،و إذا انتفت البينة و الإقرار فلا يمين على من أنكر.

5-علم الحاكم

،فإذا قبض الحاكم الزاني و الزانية بالجرم المشهود أقام عليهما الحد،دون حاجة إلى بينة و شهود.

الستر أولى:

جاء في روايات أهل البيت عليهم السّلام أن الإنسان إذا ابتلي بالمعاصي فالأولى له أن يستتر و يتوب،و لا يفضح نفسه،قال الإمام عليه السّلام:ما يضر أحدكم إذا قارف هذه

ص:252

السيئة أن يستر على نفسه،كما ستر اللّه عليه،و في رواية ثانية:ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش،فيفضح نفسه على رؤوس الأشهاد،أفلا تاب؟ فواللّه لتوبته فيما بينه و بين اللّه أفضل من إقامتي عليه الحد.

و أيضا يستحب لمن رأى غيره على الزنا أن يتجاهل،و لا يشهد،قال الإمام عليه السّلام:لو سترته بثوبك كان خيرا لك.

و جاء في الحديث الشريف:أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر اللّه،و من أبدى صفته أقمنا عليه الحد.

و الذي نستفيده من هذه الروايات،و من وجب العدول الأربعة أن مقصد الشارع الأول هو حماية الأسرة،و صيانتها من الضياع و الشتات.هذا،إلى أن الأفعال الفاضحة كثيرا ما تؤدي إلى اليأس و التمادي في البغي،أما الجريمة المستورة فقد تذهب مع الأيام،و توأد في الظلام،و يرجع صاحبها إلى ربه و ضميره.

على الدولة أن تزوج الزانية:

جاء في روايات أهل البيت عليهم السّلام أن على الإمام أن يزوج الزانية رجلا يمنعها من الزنا،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:قضى علي أمير المؤمنين عليه السّلام في امرأة زنت و شردت أن يربطها أمام المسلمين بالزوج،كما يربط البعير الشارد بالعقال.

و المراد بإمام المسلمين الدولة،أما العقال فكناية عن الزوج القوي الذي يسد حاجتها و يمنعها من الزنا.بهذا المنطق المعقول يقضى على الجريمة و الفاحشة،لا بالحكم و المواعظ،و لا بالتأنيب و التوبيخ.

ص:253

الزنا بذات محرم:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن من زنى بذات محرم من النسب، كالأم و البنت و الأخت و بنت الأخ و العمة و الخالة وجب قتله متزوجا كان أو غير متزوج،شيخا كان أم شابا،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من وقع على ذات محرم فاقتلوه.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:يضرب ضربة بالسيف.و في رواية:تضرب عنقه.إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

و تسأل:هل يقتل أيضا الزاني بذات محرم مصاهرة و رضاعا،كمن زنى بأم زوجته أو بنتها أو بأخته أو أمه من الرضاعة؟ الجواب:لقد جاء النص بذات المحرم،و المتبادر من ذات المحرم هي المحرمة نسبا لا مصاهرة أو رضاعا،فيقتصر على المحرمة نسبا،بخاصة ان التهجم على الدماء صعب عسير.أجل،ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن من وقع على امرأة أبيه يقتل،و ان كان غير متزوج،لرواية عن الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:أنّه جيء إلى علي أمير المؤمنين عليه السّلام برجل وقع على امرأة أبيه فرجمه،و كان الرجل غير محصن،أي غير متزوج.

و نحن لا نميل إلى العمل بالخبر الواحد في الدماء،و ان كانت من الفروع، لا من الأصول.

زنا غير المسلم بمسلمة:

إذا زنى غير المسلم بامرأة مسلمة قتل،سواء أ كان ذلك بإرادتها أو لا، متزوجا كان،أو غير متزوج.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن يهودي فجر بمسلمة؟قال:يقتل.

ص:254

الزنا بالمستكرهة:

من أكره امرأة على الزنا يجب قتله،محصنا كان أو غير محصن،إجماعا و نصا.و منه أن الإمام الباقر أبا الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن رجل اغتصب امرأة فرجها؟قال:يقتل محصنا كان أو غير محصن.

أجل،إذا طاوعته فإنه يجلد فقط إذا كان غير محصن،و يأتي الكلام عنه قريبا.

و بهذا يتبين أن عقوبة القتل تجب لثلاثة:من زنى بذات محرم نسبي،و غير المسلم زنى بمسلمة،و من اغتصب امرأة.

زنا المحصن و المحصنة:

الإحصان في اللغة المنع،و المراد به هنا أن يكون الإنسان البالغ العاقل متزوجا بالعقد الدائم،و ان يطأ في القبل،و ان يتهيأ للزوج الوطء متى يشاء،فإذا لم يكن متزوجا أو كان،و لكن لم يحصل وطء،أو حصل،ثم غاب عنها أو غابت عنه،أو امتنعت عنه لسبب من الأسباب فلا يترتب عليه حكم الإحصان.

و لا تكون المرأة محصنة إلاّ بهذه الشروط،ما عدا التمكن من الوطء فإنه يعتبر في حق الزوج خاصة دون الزوجة،كما جاء في اللمعة و شرحها للشهيدين، سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن معنى المحصن؟فقال:من كان له فرج يغدو عليه،و يروح فهو محصن.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يتزوج المتعة،أ تحصنه؟قال:لا،انما ذاك على الشيء الدائم عنده.و في رواية أخرى:لا يكون محصنا حتى يكون عنده امرأة يغلق عليها بابه.و في رواية رابعة:أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن قول اللّه عز و جل وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ؟فقال:هن ذوات الأزواج.قال السائل:و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم:قال:هن العفائف.

ص:255

و لا تكون المرأة محصنة إلاّ بهذه الشروط،ما عدا التمكن من الوطء فإنه يعتبر في حق الزوج خاصة دون الزوجة،كما جاء في اللمعة و شرحها للشهيدين، سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن معنى المحصن؟فقال:من كان له فرج يغدو عليه،و يروح فهو محصن.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يتزوج المتعة،أ تحصنه؟قال:لا،انما ذاك على الشيء الدائم عنده.و في رواية أخرى:لا يكون محصنا حتى يكون عنده امرأة يغلق عليها بابه.و في رواية رابعة:أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن قول اللّه عز و جل وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ؟فقال:هن ذوات الأزواج.قال السائل:و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم:قال:هن العفائف.

و المطلقة الرجعية بحكم الزوجة ما دامت في العدة،لبقاء العصمة بينها و بين المطلق بخلاف الطلاق البائن،لانقطاع العصمة به.

و إذا زنى الرجل المحصن أو المرأة المحصنة فيعاقبان بالرجم،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و إذا كان الزاني المحصن شيخا أو شيخة جلد،ثم رجم،بلا خلاف محقق معتد به،بل الإجماع عليه،لقول الإمام عليه السّلام:إذا زنى الشيخ و العجوز جلدا،ثم رجما عقوبة لهما،و إذا زنى الصغير من الرجال رجم و لم يجلد إذا كان أحصن،و إذا زنى الشاب الحدث السن جلد،و نفي سنة من مصره.و قال الإمام في رواية ثانية:الرجم حد اللّه الأكبر،و الجلد حد اللّه الأصغر،فإذا زنى الرجل المحصن رجم،و لم يجلد».

و إذا زنى البالغ بالبالغة،أو زنى البالغ بغير البالغة عوقب غير البالغ بالتعزير لا بالحد،و عوقب البالغ بحد الجلد المنصوص عليه شرعا،محصنا كان أو غير محصن.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن غلام صغير لم يدرك عشر سنين زنى بامرأة؟قال:يجلد الغلام دون الحد:و تجلد المرأة الحد كاملا.قال السائل:فإن كانت محصنة؟قال:لا ترجم،لأن الذي نكحها ليس بمدرك،و لو كان مدركا رجمت.و في رواية ثانية:أنّه سئل عن غلام لم يبلغ الحلم وقع على امرأة،أي شيء يصنع بهما؟قال:يضرب الغلام دون الحد،و يقام على المرأة الحد.قال السائل:جارية لم تبلغ وجدت مع رجل يفجر بها؟قال:تضرب الجارية دون الحد،و يقام على الرجل الحد.

ص:

الحامل و تأجيل الحد:

لا يقام الحد على الحامل لا رجما و لا جلدا،حتى و لو حملت من الزنا، و انما تؤجل إلى أن تضع حملها و ترضعه،ان لم يكن له مرضعة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف نصا و فتوى،بل و لا اشكال مع فرض خوف الضرر على ولدها لو جلدت،لعدم السبيل عليه،إذ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى .و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن محصنة زنت،و هي حبلى؟قال:تقرّ،حتى تضع ما في بطنها، و ترضع ولدها،ثم ترجم.و في الحديث النبوي الشريف:أنّه قال لها:حتى ترضعي ما في بطنك،فلما ولدت قال لها:اذهبي،فأرضعيه.

صورة الرجم:

تحفر حفرة،و توضع فيها المرأة إلى صدرها،و الرجل إلى حقويه،ثم يرمي الناس على الزاني بأحجار صغار.قال الإمام الصادق عليه السّلام:«تدفن المرأة إلى وسطها،ثم يرمي الإمام،و يرمي الناس بأحجار صغار،و لا يدفن الرجل إذا رجم إلاّ إلى حقويه».هذا،بعد أن يغتسل،و يتحنط،و يلبس الكفن،أما الصلاة عليه فبعد الموت بالبداهة لأن موضعها صلاة الميت.

و إذا هرب الزاني من الحفرة وجب إعادته إليها ان كان قد ثبت عليه الزنا بالبينة،و لا يعاد،بل يترك و شأنه ان كان هو الذي أقر على نفسه بالزنا،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن المحصن إذا هرب من الحفرة،هل يرد،حتى يقام عليه الحد؟ فقال:إذا كان هو المقر على نفسه،ثم هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شيء من الحجارة لم يرد،و ان كان قد قامت عليه البينة،و هو جاحد،ثم هرب رد،و هو صاغر،حتى يقام عليه الحد.

ص:257

السيد المسيح و علي بن أبي طالب:

جيء للسيد المسيح عليه السّلام بزانية ليرجمها،فقال لمن أتى بها:من كان منكم بريئا فليرمها بحجر.

و جاءت امرأة إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام،فأقرت عنده على نفسها بالزنا أربع مرات،و طلبت منه أن يطهرها بالرجم،فأمر مناديه أن ينادي بالناس، فلما اجتمعوا حفر لها حفرة،ثم وضع إصبعه في أذنيه،و نادى بأعلى صوته:أيها الناس لا يقم الحد من كان للّه عليه حد،فمن كان للّه عليه مثل ما على هذه المرأة فلا يقيم عليها الحد،فانصرف الناس،ما عدا الإمام و ولديه:الحسن و الحسين عليهم السّلام.

اقترفت هذه المرأة ما اقترفت،لأنها إنسان،و كلنا أبناء لآدم يقترف الذنوب و الخطايا.و قد رجعت هذه المرأة إلى ربها و ضميرها تائبة آئبة،و طلبت من الإمام أن يطهرها،كي تلقى اللّه سبحانه مطهرة من الأنجاس و الأرجاس،فهي إذن،خير ألف مرة من الذين يصرون على الكبائر،و يظهرون أمام الناس بمظهر الأتقياء و الأبرياء،فكيف يرميها بحجر من هي أشرف منه و أفضل؟و هل يطهر الدنس بما هو أشد منه رجسا و قذارة؟ و مهما يكن،فقد قال بعض الفقهاء:لا يرمي الزاني و الزانية بحجر إلاّ المطهرون،و ذهب الأكثرون إلى أن هذا ليس بشرط،بخاصة مع التعذر و عدم الإمكان.

و يستحب أن يشهد الرجم طائفة من الناس،لأجل الردع و الزجر،و لقوله تعالى في الآية 2 من سورة النور وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .

إما الشهود و الحاكم الذي حكم بالرجم فيجب حضورهم،حيث أفتى أكثر

ص:258

الفقهاء بأن الزنا ان كان قد ثبت بالبينة فأول من يبدأ بالرجم الشهود،و ان كان قد ثبت بالإقرار فأول من يبدأ به الإمام،فقد جاء عن أهل البيت عليهم السّلام،إذا أقر الزاني المحصن كان أول من يرجمه الإمام،ثم الناس،فإذا قامت البينة كان أول من يرجمه البينة،ثم الإمام،ثم الناس.

زنا غير المحصن و المحصنة:

إذا زنى الذكر غير المحصن عوقب بأمور ثلاثة:مائة جلدة،و حلق شعر رأسه،و نفيه عن بلده سنة كاملة،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا زنى الشاب الحدث السن جلد،و حلق رأسه،و نفي سنة عن مصره.

و إذا زنت غير المحصنة عوقبت بمئة جلدة فقط،و لا جز عليها و لا نفي، قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به أجده».و قال صاحب المسالك:«هذا هو المشهور بين الفقهاء».

المريض و المستحاضة:

إذا كان عقاب المريض و المستحاضة الرجم رجما من غير تأخير،لأن مآلهما إلى الموت على كل حال،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال، لإطلاق الأدلة».

و إذا كان عقابهما الجلد أمهل المريض،حتى يبرأ خشية أن يؤدي به الجلد إلى الموت،قال الإمام الصادق عليه السّلام أتي علي أمير المؤمنين عليه السّلام برجل أصاب حدا،و به قروح كثيرة في جسده،فقال:أخروه،حتى يبرأ.

و كذا المستحاضة فإنها مريضة،لفساد الدم،قال الإمام الصادق عليه السّلام

ص:259

«لا يقام الحد على المستحاضة،حتى ينقطع الدم».أما الحائض فلا يؤخر حدها، لأن حيضها يدل على صحة مزاجها،و تكلمنا عن الحائض و المستحاضة و الفرق بينهما في:الجزء الأول-فصل«الحيض و الاستحاضة و النفاس».

الحر و البرد:

إذا كان الحد جلدا فلا يقام في شدة الحر،و لا في شدة البرد،فقد مر الإمام الصادق عليه السّلام بالمدينة في يوم بارد،و إذا برجل يضرب بالسياط،فقال:سبحان اللّه في مثل هذا الوقت يضرب!.فقيل له:و هل للضرب وقت؟قال:نعم،إذا كان في الحر ضرب في برد النهار،و إذا كان في البرد ضرب في حر النهار.

صورة الجلد:

يجلد الرجل،و هو واقف،و يجرد من ثيابه حين الضرب ان قبض عليه حين الزنا عاريا،و إلاّ فلا تجريد،أما المرأة فتجلد جالسة،و لا تجرد من ثيابها إطلاقا،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:يضرب الرجل قائما، و المرأة جالسة.

و يتقى من الضرب الوجه و الرأس و الفرج،لقول الإمام عليه السّلام:اضرب و أوجع،و اتق الرأس و الفرج.و في رواية ثانية الوجه و المذاكير.

قتل الزوجة الزانية و صاحبها:

من وجد مع زوجته رجلا يزني بها فله قتلهما معا،و لا شيء عليه بينه و بين اللّه،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل دخل دار غيره،ليتلصص أو للفجور فقتله

ص:260

صاحب الدار؟فقال:من دخل دار غيره هدر دمه.

المصر على الزنا:

سبق أن المحصن يرجم منذ البداية:و ان غير المحصن يجلد مائة جلدة، فان عاد ثانية جلد أيضا،و ان عاد جلد،و في الرابعة يقتل،قال صاحب الجواهر:

«هذا هو المشهور،بل عن صاحب الانتصار و الغنية الإجماع عليه،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:الزاني إذا زنى يجلد ثلاثا،و يقتل في الرابعة.

و سبق في الجزء الأول،فصل الصلاة فقرة«جاحد الصلاة و تاركها»أن من ترك الصلاة تهاونا أدبه الحاكم أولا،و ثانيا و ثالثا،فإن أصر قتله في الرابعة.

لا طهارة أفضل من التوبة:

من أقيم عليه الحد لذنب ارتكبه،زنا كان أو غيره،فلن يعاقبه اللّه عليه مرة ثانية،لأنه سبحانه أعدل من أن يجمع بين عقابين على ذنب واحد.

و إذا تاب المذنب قبل أن تقوم عليه البينة يسقط عنه الحد،سواء أ كان رجما أو جلدا،و لا يجوز إقامته عليه إطلاقا،أما إذا تاب بعد أن تقوم البينة فلا يسقط عنه.و إذا ثبتت الجريمة عليه بإقراره كان الإمام بالخيار،ان شاء عفا،و ان شاء عاقب،قال صاحب الوسائل:أن الأصبغ بن نباتة قال:أتى الإمام علي عليه السّلام رجل،و قال له:يا أمير المؤمنين إني زنيت،فطهرني،فقال له الإمام:و ما دعاك إلى ما قلت؟قال:طلب الطهارة.قال له الإمام عليه السّلام و أي طهارة أفضل من التوبة!.

ثم أقبل الإمام على أصحابه يحدثهم.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا جاء السارق من قبل نفسه تائبا إلى اللّه عزّ

ص:261

و جلّ ترد سرقته إلى صاحبها،و لا قطع عليه.

و سبق الكلام فيما يتعلق بذلك في:فقرة«طرق الإثبات»،و فقرة«الستر أولى»-من هذا الفصل.

الشهادة عليها بالزنا و هي بكر:

إذا شهد أربعة عدول على امرأة بالزنا قبلا،فقالت:أنا بكر،فكشف عليها أربعة نسوة فوجدنها كما قالت،إذا كان كذلك سقط الحد عنها،و عن الشهود، و المشهود عليه بأنه زنى بها،و ذلك لمكان الشبهة التي يدرأ بها الحد،قال الإمام الصادق عليه السّلام:جيء لأمير المؤمنين علي عليه السّلام بامرأة بكر،زعموا أنّها زنت،فأمر النساء فنظرن إليها،فقلن هي عذراء،فقال:ما كنت لا ضرب من عليها خاتم اللّه».

قال صاحب الجواهر:«الأشبه بأصول المذهب السقوط،لا الثبوت».

زنا غير المسلم بمثله:

إذا زنا غير المسلم بامرأة غير مسلمة فالحاكم المسلم مخير بين أن يحكم فيهم بموجب شرع الإسلام،و بين أن يعرض عنهما،و يسلما إلى أهل ملّتهما، ليقيموا الحد على ما يعتقدون:لقوله تعالى فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (1).

خلاصة أنواع حد الزنا:

و الخلاصة ان حد الزنا على أنواع:

ص:262


1- المائدة:42. [1]

الأول:القتل،و يعاقب به ثلاثة:الزاني بالمحرمات نسبا و بامرأة أبيه.

و بالمرأة المستكرهة.و غير المسلم يزني بمسلمة.

الثاني:الجلد و الرجم معا للشيخ المحصن و الشيخة المحصنة.

الثالث:الرجم فقط للمحصن و المحصنة غير الشيخ و الشيخة.

الرابع:الجلد و الحلق و النفي،للشاب غير المحصن.

الخامس:الجلد فقط،للمرأة غير المحصنة.

ص:263

اللواط و السحق و القيادة

اشارة

تقدم في أول الفصل السابق أن أسباب الحد ستة:الزنا،و ما يتبعه كاللواط و السحق و القيادة،و القذف،و شرب الخمر،و السرقة،و قطع الطريق.

و تكلمنا في الفصل السابق عن الزنا.و نتكلم في هذا الفصل عن اللواط و السحق و القيادة.

اللواط:
اشارة

اللواط معناه في اللغة اللصوق،تقول:هذا لاط بهذا،أي لصق به،و المراد به هنا الفعل الشنيع،و سمي لواطا لالتصاق اللوطي بالملوط به،أو لأنه فعل قوم لوط.قال تعالى في الآية 161 من سورة الشعراء إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ، وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ .

و هو أشد تحريما من الزنا،قال الإمام الصادق عليه السّلام:حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج،ان اللّه تعالى أهلك أمة بحرمة الدبر،و لم يهلك أحدا بحرمة الفرج.

و في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من جامع غلاما جاء

ص:264

جنبا يوم القيامة،لا ينقيه ماء الدنيا،و غضب اللّه عليه،و لعنه،و أعد له جهنم، و ساءت مصيرا.

و قال الإمام علي عليه السّلام:لو كان أن يرجم مرتين لرجم اللوطي.

طرق الإثبات:

يثبت اللواط الموجب للحد بالطرق التالية:

1-إقرار الفاعل أو المفعول أربع مرات على شريطة أن يكون عاقلا بالغا مختارا،كما هي الحال في الزنا،و بديهة أن إقرار الفاعل لا يسري إلى المفعول، و كذا إقرار المفعول،لأن الإقرار نافذ بحق المقر وحده.

2-شهادة أربعة رجال عدول،و لا تقبل شهادة النساء إطلاقا،لا منضمات و لا منفردات.و انما قبلت شهادتهم منضمات مع الرجال في الزنا لمكان النص.

و إذا انتفت البينة و الإقرار فلا يمين على المنكر،لأنه مستثنى من قاعدة اليمين على من أنكر.

3-على الحاكم،فإنه يقيم الحد على الفاعل و المفعول إذا قبضهما بالجرم المشهود،تماما كما هي في الزاني و الزانية.قال صاحب الجواهر و المسالك:

«لأن علم الحاكم أقوى من البينة».

هذا،إذا كان الحق متمحضا للّه وحده،كحد الزنا و اللواط و السحق و شرب الخمر و ترك الصلاة و الصوم،لأن الحاكم هو المطالب بهذا الحق،و المستوفي له، و المسؤول عنه،أما إذا كان فيه حق للناس،كحد القذف و السرقة فإن الحاكم لا يقيمه بمجرد علمه إلاّ إذا التمسه و طالب به المستحق،لأنه منوط بإرادته،قال

ص:265

الإمام الصادق عليه السّلام:الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني،أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحد،و لا يحتاج إلى بينة مع نظره،لأنه أمين اللّه في خلقه،و إذا نظر إلى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزجره و ينهاه،ثم يمضي و يدعه.فقيل له:

كيف ذاك؟قال:ان الحق إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته،و إذا كان للناس فهو للناس.

حد اللواط:

اتفقوا بشهادة صاحب المسالك و الجواهر على أن حد اللواط على الفاعل و المفعول القتل،على شريطة أن يدخل الذكر أو شيء منه في المخرج،و ان يكون كل منهما عاقلا بالغا مختارا،و لا فرق بين أن يكون محصنا أو غير محصن، و لا بين أن يكون مسلما أو غير مسلم.

أما كيفية القتل فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر على أن الحاكم مخير بين أن يضربه بالسيف،أو يحرقه بالنار،أو يلقيه من شاهق مكتوف اليدين و الرجلين،أو يهدم عليه جدارا،و له أيضا أن يجمع عليه عقوبة الحرق،و القتل أو الهدم أو الإلقاء من شاهق.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام ذكرها صاحب الوسائل،و استشهد ببعضها صاحب الجواهر.

و تسأل:و لما ذا الحرق و الإلقاء من شاهق و هدم الجدار؟أ لم يكن في القتل كفاية؟و هل اللواط أشد من الارتداد عن الإسلام؟ الجواب:لما كانت جريمة اللواط أسوأ أثرا في المجتمع من جميع الجرائم،لأنها تذهب بإنسانية الإنسان،و تستأصلها من الجذور،و لذا قيل:لو نكح الأسد في دبره لذل،أوجب ذلك المبالغة في الردع و الزجر صيانة للمجتمع

ص:266

من الأسواء و الأدواء.هذا،إلى أن العرب لم تكن تبالي بالقتل،و تراه شيئا من قبل.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر عن رجل يؤتى في دبره،فاستشار أبو بكر عليا أمير المؤمنين عليه السّلام؟فقال:أحرقه بالنار،فإن العرب لا ترى القتل شيئا.

سؤال ثان:إذا لم يدخل القضيب أو شيء منه في المخرج،و لكن دار حوله و عليه في الخارج،بحيث لم يحصل الإيقاب،أو فخذ و ما إلى ذلك بشهوة كما يحصل بين الرجل و المرأة،فهل يعاقب الاثنان إذا كانا عاقلين بالغين مختارين؟ و على افتراض العقاب،فما هو نوعه؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن كلا منهما يعاقب بمئة جلدة.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان كان دون الثقب فالحد،و ان كان قد ثقب أقيم قائما،ثم ضرب بالسيف.

ثم قال صاحب المسالك و تبعه صاحب الجواهر:«الظاهر في كون المراد من الحد هنا الجلد».

و ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى أن هذه الفاحشة،أي التفخيذ و ما إليه إذا تكررت قتل من يرتكبها في الرابعة،لأنها من الكبائر،و أهل الكبائر يقتلون إذا تكرر عمل الجريمة منهم أربع مرات،كما جاء في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق عليه السّلام.

سؤال ثالث:قلت:ان عقاب العاقل البالغ القتل،فبأي شيء يعاقب الصبي و المجنون؟ الجواب:إذا لاط عاقل بالغ بصبي أو مجنون يعاقب العاقل البالغ بالقتل، و يترك تأديب الصبي و المجنون إلى نظر الحاكم فيعاقبهما بما دون الحد.قال

ص:267

الإمام الصادق عليه السّلام:جيء للإمام علي عليه السّلام برجل أوقب غلاما و ثقبه،و شهد الشهود بذلك،فقتل الرجل،و ضرب الغلام دون الحد،و قال له:لو كنت مدركا لقتلتك، لإمكانك إياه من نفسك.

و من قبّل غلاما بشهوة أدبه الحاكم و عزره بما يراه،لأنه ارتكب محرما.

قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه كغيره من المحرمات،و في الخبر:

من قبّل غلاما ألجمه اللّه بلجامين من نار،و لا فرق بين أن يكون الغلام محرما كابنه و أخيه أو غير محرم».

التوبة من اللواط:

إذا تاب من اللواط قبل أن تقوم عليه البينة سقط عنه الحد فاعلا أو كان مفعولا،و إذا تاب بعدها لم يسقط.أما إذا أقر،ثم تاب كان الخيار في العفو و عدمه للإمام،تماما كما هي الحال في التوبة من الزنا التي سبق الكلام عنها في الفصل السابق فقرة«لا طهارة أفضل من التوبة».

السحق:
اشارة

عنونّا هذا الفصل باللواط،و السحق،و القيادة.و قد تكلمنا عن اللواط،أما السحق فمعناه لغة الشدة في الدق،و المراد به هنا وطء المرأة مثلها،و يطلق عليها المساحقة من باب المفاعلة،و هو من أشد الكبائر،و أعظم المحرمات،و في روايات أهل البيت عليهم السّلام:أنّه الزنا الأكبر،و أنّه يؤتى بالمساحقة غدا،و عليها سبعون حلة من نار،إلى غير ذلك من الأخبار.

ص:268

حد السحق:

ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك و الجواهر إلى أن حد السحق مائة جلدة للفاعلة و المفعولة مع العقل و البلوغ و الاختيار،محصنة كانت،أو غير محصنة.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن المساحقة؟قال:حدها حد الزاني،فإذا عطفنا هذه الرواية على رواية أخرى عن أبيه الإمام الباقر عليه السّلام التي قال فيها:

المساحقة تجلد كانت النتيجة أن المساحقة تعاقب بمئة جلدة،لأنها حد الزاني غير المحصن.

و إذا تكررت المساحقة تقتل الفاعلة و المفعولة في الرابعة،لأن السحق من الكبائر التي يقتل المصر عليها في الرابعة.

و يسقط حد السحق بالتوبة قبل إقامة البينة لا بعدها،و مع الإقرار و التوبة يكون الحاكم مخيرا بين إقامة الحد،و العفو،تماما كما هي الحال في الزنا و اللواط،لأن الجميع من باب واحد.

و يثبت السحق بشهادة أربعة رجال عدول،و لا تقبل شهادة النساء منضمات مع الرجال،و لا منفردات.و أيضا يثبت بالإقرار أربعا من البالغة الرشيدة المختارة،تماما كما هو الشأن في الزنا.

الحمل بالمساحقة:

إذا واقع رجل زوجته،و لما قام عنها ساحقت بكرا،فانتقلت نطفة الزوج من الزوجة إلى البكر،و حملت فما هو الحكم في الحد و مهر البكر و الحمل؟ و للفقهاء في ذلك أقوال،و الصواب ان كلا من الفاعلة و المفعولة تحد مائة جلدة،للنص على أنّها حد السحق من غير فرق بين المحصنة و غيرها كما تقدم،

ص:269

و ان على الزوجة الفاعلة أن تغرم للبكر مهر أمثالها،لأنها السبب لذهاب بكارتها، و ليست البكر بزانية،لأن الزانية أذنت في افتضاض بكارتها بخلاف هذه،و على هذا الشهيدان،و صاحب الشرائع و تلميذه العلامة و الشيخ و الأردبيلي.

أما الحمل فإنه يلحق بالزوج صاحب الماء،لأنه تولد من مائه،و لا موجب لانتفائه عنه على حد تعبير الشهيد الثاني،و على هذا صاحب الشرائع و العلامة و الشهيدان و الشيخ الأردبيلي.و أيضا يلحق بأمه،لأنه ولدها حقيقة،و لا دليل على نفيه عنها،و ما دل على نفيه عن الزانية لا يشمل المقام على حد تعبير السيد الحكيم في جوابه عن مثل هذه المسألة،و على هذا صاحب الرياض و السيد الحكيم.و قال الشيخ الأردبيلي:«يحتمل لحوق الولد بالبكر،للولادة من غير زنا.و قد تكلمنا عن ذلك في كتاب:الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة- فصل التلقيح الصناعي.

حد القيادة:

القواد هو الذي يجمع بين الرجل و المرأة،أو بين الذكر و الذكر على الحرام.و قد أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر و المسالك على أن حد من يفعل ذلك خمس و سبعون جلدة رجلا كان،أو امرأة،لقول الإمام الصادق عليه السّلام يضرب ثلاثة أرباع حد الزاني خمسة و سبعين سوطا،و ينفى من المصر الذي هو فيه.

قال صاحب المسالك:«ليس في الباب من الاخبار سوى هذه الرواية».

و قال جماعة من الفقهاء:ان الرجل القواد يضرب،و يحلق رأسه،و يشهر،و ينفى من بلده،أما المرأة القوادة فتضرب فقط،و لا حلق عليها،و لا تشهير،و لا نفي، قال الشهيد في شرح اللمعة:«للأصل،و منافاة النفي لما يجب من ستر المرأة».

ص:270

و تثبت القيادة بالإقرار مرتين مع كمال المقر بالعقل و البلوغ و الاختيار، و بشهادة رجلين عدلين.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال.و لا تثبت بشهادة النساء منفردات أو منضمات».

ص:271

القذف و السكر و السرقة و قطع الطريق

اشارة

سبق أن أسباب الحد ستة:الزنا،و ما يلحق به من اللواط و السحق و القيادة، و القذف،و شرب المسكر،و السرقة و قطع الطريق.و سبق الكلام عن السببين الأولين،و نتكلم في هذا الفصل عن الأسباب الأربعة الباقية:

القذف:
للقذف الذي يترتب عليه الحد المنصوص عليه شرعا أركان ثلاثة:
1-الصيغة

،و هي أن يرمي إنسان آخر بالزنا أو اللواط فقط رجلا كان المقذوف،أو امرأة،و يتحقق القذف بكل لغة،على أن يكون اللفظ صريحا بالقذف،و القاذف عارفا به،أما معرفة المقذوف فليست بشرط،فإذا قال عربي لا عجمي:يا زاني أو يا لوطي تحقق القذف،مع توافر الشروط،حتى و لو لم يفهم الأجنبي شيئا.

و إذا قال له:يا فاسق أو يا شارب الخمر،و ما إلى ذلك،و هو بريء أو مستتر غير متجاهر لم يقم عليه الحد،و انما يعزره الحاكم بما يراه فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قال لآخر:يا فاسق؟فقال:لا حد عليه،و يعزر.و كذا إذا

ص:272

قال له:يا كلب،أو يا خنزير،أو يا حقير،و ما أشبه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا قال الرجل:أنت خبيث أو خنزير فليس فيه حد،و لكن فيه موعظة،أو بعض العقوبة.

و إذا قال له:يا فاسق،و كان المقول له كذلك.و في الوقت نفسه غير مبال، بل هو مستخف و مستهتر و متجاهر بالفسق و ارتكاب الحرام،إذا كان كذلك فلا حد و لا تعزير على القائل.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال،بل له الأجر على ذلك،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة.و في الحديث النبوي:إذا رأيتم أهل البدع و الريب من بعدي فأظهروا البراءة منهم،و أكثروا من سبهم،كي لا يطمعوا بالفساد،و يحذرهم الناس،فيكتب لكم بذلك الحسنات،و ترفع لكم الدرجات».

و إذا قال له:يا ابن الزانية،أو يا زوج الزانية،أو يا ابن الزاني و اللوطي فليس للمقول له أن يطالب بإقامة الحد على القائل،حيث لم ينسب الفاحشة إليه، و انما نسبها إلى الأم و الزوجة و الأب،و لهؤلاء تمام الحق أن يطالبوا بإقامة الحد، لأنهم المقذوفون بالذات دون المقول له.أجل،له أن يطلب من الحاكم أن يؤدب القائل و يعزره،حيث قال له ما يكره.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام قضى علي أمير المؤمنين عليه السّلام في الهجاء بالتعزير.

2-الركن الثاني القاذف

،و لا يقام عليه الحد الكامل إلاّ إذا كان عاقلا بالغا، فلا حد على الصبي و لا على المجنون،بل يعزران على ما يراه الحاكم،حتى لا يؤذيا أحدا،و لا فرق بين أن يكون المقذوف بالغا عاقلا،أو صبيا و مجنونا.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،لأن القلم مرفوع عن الصبي و المجنون، و في الصحيح أن الإمام الصادق عليه السّلام:قال لا حد لمن لا حد عليه،يعني لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا،و لو قذفه رجل فقال له:يا زاني لم يكن عليه

ص:273

حد:و سئل أبوه الإمام الباقر عليهما السّلام عن الغلام لم يحتلم،يقذف الرجل،هل عليه حد؟قال:لا،و ذلك لو أن رجلا قذف الغلام لم يحد».

3-الركن الثالث المقذوف

،و يشترط فيه العقل و البلوغ و الإسلام و عدم التظاهر و التجاهر بالزنا،فمن قذف صبيا أو مجنونا،أو غير مسلم،أو متجاهرا فلا يحد الحد الكامل،حتى و لو كان القاذف كاملا،و لكن يؤدب و يعزر بما يراه الحاكم،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يقذف الصبية،أ يجلد؟قال:لا حتى تبلغ،و سئل عن أهل الذمة و الكتاب،هل يجلد المسلم الحد في الافتراء عليهم؟قال:و لكن يعزر.

لا حد على الأب:

إذا قذف الابن الكامل أباه يقام عليه الحد،و إذا قذف الأب ابنه فلا يقام عليه الحد،و لكن يعزر،لا من أجل حق الابن،بل لأنه فعل محرما.فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر صادق عليهما السّلام عن رجل قذف ابنه بالزنا؟قال:لو قتله ما قتل به،و إن قذفه لم يجلد.

الإثبات:

يثبت القذف بشهادة رجلين عدلين،و لا تقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمات،و أيضا يثبت بالإقرار مرتين من الكامل،فلا عبرة بإقرار الصبي، و لا المجنون،و لا المكره،و إذا انتفت البينة و الإقرار فلا حد و لا تعزير.

و أيضا كل ما يوجب التعزير من حقوق اللّه سبحانه يثبت بشاهدين،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لإطلاق ما دل على اعتبارهما».

ص:274

و ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أنّه يثبت الموجب للتعزير بالإقرار مرتين،لا مرة واحدة.

حد القذف:

القذف من الكبائر،فقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«اجتنبوا السبع الموبقات.فقيل له:و ما هن يا رسول اللّه؟قال:

الشرك باللّه،و السحر،و قتل النفس التي حرم اللّه،و أكل الربا،و أكل مال اليتيم، و الفرار يوم الزحف،و قذف المحصنات».

و حد القاذف ثمانون جلدة إجماعا و نصا،و منه الآية 4 من سورة النور:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً .

و سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن امرأة قذفت رجلا؟قال:

تجلد ثمانين جلدة.

و يضرب القاذف ضربا وسطا،و هو مرتد ثيابه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:

يضرب المفتري بين ضربين-أي الخفيف و الشديد-و يضرب جسده كله فوق الثياب.و أيضا قال:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:الزاني أشد ضربا من شارب الخمر، و شارب الخمر أشد ضربا من القاذف،و القاذف أشد ضربا من التعزير.

و قال صاحب الشرائع و الجواهر:«و يشهر القاذف ليعلم الناس بحاله، فيجتنبوا شهادته،كما يشهر شاهد الزور».

و إذا مات المقذوف قبل أن يستوفي الحد من القاذف،أو يعفو عنه ورث حق المطالبة بإقامة الحد ورثة المقذوف،و هم الذين يرثون المال من الذكور و الإناث،عدا الزوج و الزوجة.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا

ص:275

إلى النصوص العامة و الخاصة».

مسقطات الحد:

سبق أن الحد الكامل لا يثبت من الأساس على الصبي،و المجنون، و المكره،و الجاهل بمدلول اللفظ.و لا يثبت أيضا إذا كان المقذوف متجاهرا،أو غير مسلم.و نتكلم الآن في الموجبات التي يسقط معها الحد بعد ثبوته و تحققه، و هي:

1-أن تقوم البينة الشرعية على ثبوت ما رمى به القاذف المقذوف من الزنا أو اللواط.

2-أن يقر المقذوف بذلك،و لو مرة واحدة،و لا يشترط الإقرار أربع مرات إلاّ لثبوت حد الزنا و اللواط.

3-العفو،فإذا عفا المقذوف عن القاذف سقط عنه الحد.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال بديهة كونه من حقوق الآدميين القابلة للسقوط بالإسقاط،و لقول الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:لا يعفى عن الحدود التي في يد الإمام،أمّا ما كان من حقوق الناس في حد فلا بأس أن يعفى عنه.

و إذا عفا المقذوف فليس له العدول و المطالبة بإقامة الحد بعد العفو،لأن الساقط لا يعود،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يفتري على الرجل،ثم يعفو عنه،ثم يريد أن يجلده الحد بعد العفو؟قال:ليس له ذلك بعد العفو.

4-اللعان،فإذا رمى زوجته بالزنا،ثم لا عنها سقط عنه الحد،و قد مر الكلام عن اللعان مفصلا في باب«الظهار و الإيلاء و اللعان»من هذا الجزء.

5-الصلح،فإذا اصطلحا على ان يسقط المقذوف حقه لقاء شيء يدفعه

ص:276

القاذف صح الصلح،و سقط الحد،لأن هذا الصلح لا يحلل حراما،و لا يحرم حلالا،فيشمله قول الإمام عليه السّلام:الصلح جائز ما لم يحلل حراما،أو يحرم حلالا.

6-انتقال حق المطالبة بالحد من المقذوف إلى القاذف بالإرث،فإذا قذف إنسان أحد أقاربه الذين يرثهم بالنسب،لا بالسبب،ثم توفي المقذوف قبل الاستيفاء ينتقل الحق إلى الوارث القاذف،و يسقط عنه تلقائيا.

7-التقاذف،فإذا تقاذف اثنان كاملان غير متجاهرين سقط عنهما الحد و عزّرا.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،لصحيح ابن سنان:سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين افترى كل منهما على صاحبه؟قال:يدرأ عنهما الحد، و يعزران».

سب المعصومين عليهم السّلام:

أجمع الفقهاء الإمامية قولا واحدا على أن من سب الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نعوذ باللّه يجب على من يسمعه أن يقتله ما لم يخف الضرر على نفسه،أو غيره من أهل الإيمان.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذلك؟قال:يقتله الأدنى فالأدنى-أي ممن سمعه-قبل أن يرفع إلى الإمام.و قال رجل للإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:أ رأيت لو أن رجلا سب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أ يقتل؟فقال له:

ان لم تخف على نفسك فاقتله،إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

و قال صاحب المسالك:باقي الأنبياء يلحقون بالنبي الكريم في هذا الحكم،لأن تعظيمهم من صميم دين الإسلام.و روى الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عن آبائه عن جدهم الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن من سب نبيا من الأنبياء قتل،و من سب صاحب نبي جلد.

ص:277

و أيضا أجمعوا على أن من سب علي بن أبي طالب فدمه هدر،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذلك؟فقال:حلال الدم و اللّه لو لا أن يعم بريئا.

و من سب فاطمة الزهراء عليها السّلام فدمه هدر،لأنها بضعة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و النيل منها نيل منه بالذات عرفا و شرعا.

و أجمعوا أيضا بشهادة صاحب الجواهر على أن من كان على ظاهر الإسلام،و قال:لا أدري:هل محمد بن عبد اللّه صادق في قوله أو لا؟فهو مرتد يجب قتله،قال الإمام الصادق عليه السّلام:من شك في اللّه و رسوله فهو كافر.

السب عن غضب:

من سب الجلالة أو أحد المعصومين،و هو غاضب فغضبه ليس بشيء ينجيه من العقوبة ما دام مالكا لعقله و إرادته،بحيث لا يسقط الغضب عنه التكليف،و كذا تصح جميع معاملاته و طلاق زوجته.أجل،إذا بلغ الغضب منه حدا أفقده الشعور بحيث لا يعي و لا يعرف ما يقول،تماما كالمجنون فلا شيء عليه،قال صاحب الجواهر في باب الحدود،مسألة من سب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لم أجد من أفتى بأن الغضب مبرر على وجه لا يستلب الغضب اختياره على وجه يسقط عنه التكليف».

مدعي النبوة:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن مدعي النبوة يجب قتله،قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ان فلانا يدعي النبوة.فقال،ان سمعته يقول ذلك فاقتله.

و في الحديث الشريف:أيّها الناس لا نبي بعدي،و لا سنة بعدي،فمن ادعى ذلك

ص:278

فدعواه ضلالة و بدعة في النار فاقتلوه.

حد الساحر:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن تعلّم السحر حرام،قال الإمام علي عليه السّلام:من تعلم شيئا من السحر كان آخر عهده بربه،و حدّه القتل إلاّ أن يتوب.

و أيضا أجمعوا على أن من عمل بالسحر يقتل ان كان مسلما،و يؤدب ان كان غير مسلم.قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان ساحر المسلمين يقتل،و ساحر الكفار لا يقتل.فقيل له:لم لا يقتل ساحر الكفار؟فقال:لأن الكفر أعظم من السحر.

السكر
الشراب:

المراد بالشراب هنا المسكر،و ليس للشارع حقيقة خاصة في معناه، و المرجع في تشخيصه هو العرف،فكل ما من شأنه أن يكون كثيره مسكرا فهو حرام و ان كان قليلا،سواء أصدق عليه اسم الخمر،أو أي اسم آخر،و سواء أ كان الاسم عربيا أو أجنبيا،كان في عهد الشارع،أو حدث بعده،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:كل مسكر من الأشربة يجب فيه ما يجب في الخمر من الحد.و عنه في رواية ثانية:كل مسكر حرام.فالعبرة في ثبوت التحريم و الحد أن تكون طبيعة الشراب مسكرة،فإذا افترض أن شخصا إذا شرب منه أرطالا لا يسكر فإنه يحد، و ان لم يؤثر فيه الشراب شيئا،ما دام الذي شربه من شأنه أن يسكر.بل من شرب القليل من المسكر يحد.و قد اشتهر بين الفقهاء:«ما أسكر كثيره فقليله حرام» و المصدر قول الإمام الصادق عليه السّلام:«من شرب حسوة خمر يجلد ثمانين جلدة.

ص:279

قليلها و كثيرها حرام».و عنه في رواية ثانية:«الحد في الخمر أن يشرب منها قليلا،أو كثيرا».و المراد بالخمر في قول الإمام مطلق الشراب المسكر،من أي نوع كان،و من غير استثناء.

أما الفقاع المأخوذ من الشعير فإنه حرام و موجب للحد،و ان لم يكن من شأنه و طبيعته السكر،لأن النص قد جاء في تحريمه و الحد عليه بالخصوص.

فقد سئل الإمام عنه فقال،فيه حد الشرب.و في رواية ثانية:خمرا استصغره الناس.

و كذلك النبيذ فإنه كالخمر حكما واحدا،و إن لم يكن من شأنه الإسكار، قال صاحب الجواهر:«لا إشكال في ذلك نصا و فتوى».و من النص قول الإمام الصادق عليه السّلام:يضرب شارب الخمر ثمانين،و شارب النبيذ ثمانين.و الخلاصة ان غير النبيذ و الفقاع من الشراب ليس بحرام إلاّ إذا كان مسكرا،أما النبيذ و الفقاع فإنهما حرام على كل حال،حتى مع عدم الإسكار،لتعلق النص بهما.

الشارب:

و المراد بالشارب من تناول شيئا من الشراب الذي ذكرناه،صرفا كان أو ممزوجا بغيره من مأكول أو مشروب،قليلا كان أو كثيرا،لأن الحرام هو عين الشراب بالذات حيثما وجد،حتى و لو كان مستهلكا في غيره.

و لا يحد هذا الشارب إلاّ بشروط أربعة:و هي أن يكون عاقلا بالغا مختارا مسلما عالما بأن هذا الشراب الذي تناوله حرام،فلا حد على الصبي و المجنون، لأن القلم مرفوع عنهما،و لا على المكره لحديث:«رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه»،و لا على غير المسلم إذا شرب في بيته و بلده،أما إذا شرب

ص:280

متجاهرا في بلد المسلمين فعليه الحد.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«قضى علي أمير المؤمنين عليه السّلام أن يجلد اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهرا الشرب في مصر من أمصار المسلمين،و كذلك المجوسي،و لم يتعرض لهم إذا شربوها في منازلهم و كنائسهم».

و أيضا لا حد على من شرب جاهلا بالحكم،كما لو علم بأنّها خمر أو نبيذ، و جهل بالتحريم لقرب عهده بالإسلام،لأن الجهل بالحكم عن غير تقصير عذر، أو شرب جاهلا بالموضوع،كما لو تناول مائعا باعتقاد أنّه خل فبان خمرا.

و أيضا لا حد على المضطر،كالمريض و العطشان.

الإثبات:

يثبت الشرب بشهادة رجلين عدلين،و لا تقبل شهادة النساء إطلاقا،حتى على النساء منفردات كن،أو منضمات.

و أيضا يثبت بالإقرار مرتين،كغيره من الحدود،على أن يكون المقر عاقلا بالغا مختارا.قال الإمام علي عليه السّلام:من أقر عند تجريد-أي جرد من ثيابه ليضرب- أو حبس أو تخويف فلا حد عليه».

و تسأل:هل يثبت الشرب برائحة الفم،أو بوضع الإنسان على حالة السكر،كذهاب العقل،و ما إليه؟ الجواب:كلا،إذ من الجائز أن يشرب للتداوي،أو جهلا،أو مكرها، و الحدود تدرأ بالشبهات.

ص:281

الحد:

إذا ثبت الشرب يحد الشارب ثمانين جلدة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام علي عليه السّلام:إذا شرب سكر،و إذا سكر هذي،و ان هذي افترى،فإذا فعل ذلك فاجلدوه حد المفتري ثمانين.

أمّا صورة الجلد فان كان الشارب امرأة ضربت،و عليها ثيابها،و ان كان رجلا جرد من ثيابه إلاّ ما يستر العورة،ثم ضرب على جسده دون الوجه و الفرج، و إذا شرب مرارا حدّ مرة واحدة،و ان تنوع الشراب،و إذا أقيم عليه الحد ثلاث مرات قتل في الرابعة،و قيل:في الثالثة.

توبة الشارب:

إذا تاب الشارب قبل أن تقوم البينة على شربه سقط عنه الحد.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،كما هو الشأن في الزنا».

و إذا تاب بعدها لم يسقط الحد،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور».

و إذا تاب قبل الإقرار فلا شيء عليه،و إذا تاب بعد الإقرار تخيّر الحاكم بين الحد و العفو.

السرقة
السارق و شروط الحد:

عقدنا هذا الفصل للكلام عن حد القذف،و الشرب،و السرقة،و قطع الطريق،و سبق الحديث عن الأولين.و نتكلم الآن عن السارق،و لا يحد إلاّ مع توافر الشروط التالية:

1-البلوغ،فلا حد على الصبي،و لو تكررت منه السرقة مرات و مرات،

ص:282

لحديث:«رفع القلم».أجل،يؤدبه الحاكم في كل مرة بما يرى.

و قال بعض الفقهاء:إذا تكررت السرقة من الصبي قطع الحاكم أطراف أصابعه في المرة الرابعة،أو الخامسة مستندا إلى روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام و لكنها مختلفة الدلالة و المعنى،و قد أعرض المشهور عن العمل بها بشهادة صاحب الجواهر و المسالك،و حملها أكثر من واحد على إرادة التأديب بنظر الحاكم بسبب اختلافها،لأن نظر الحاكم في التأديب و التعزير يختلف باختلاف الصبيان.

2-العقل،فلا حد على المجنون،لحديث«رفع القلم»و لكن يؤدبه الحاكم إذا كان للتأديب أثر في ردع المجانين.

3-ارتفاع الشبهة،أما مع وجودها فلا قطع،و مثال ذلك أن يتوهم أن الذي أخذه هو ملك له،فيتبين أنّه مال الغير.

4-إذا كان المال المسروق شراكة بين السارق و غيره ينظر:فان كان الذي أخذه بمقدار نصيبه أو أقل فلا حد عليه،و ان كان آثما،للتصرف من غير اذن الشريك.

و إذا كان المأخوذ أكثر من سهمه،و يزيد عنه بمقدار النصاب الذي سنتكلم عنه فإنه يحد،على شريطة أن لا يدعي الاشتباه،و يقول:ظننت أن سهمي بهذا القدر فأخذته،و كان ذلك ممكنا في حقه،لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

و تسأل:ما هو الحكم لو سرق من بيت المال؟ الجواب:ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى أنه إذا أخذ بمقدار نصيبه فلا حد،و إلاّ أقيم عليه الحد،تماما كما هو الشأن في المال المشترك.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل سرق من الغنيمة،أي شيء

ص:283

عليه؟قال:ان كان الذي أخذ أقل من نصيبه دفع إليه تمام ماله،و ان كان قد أخذ مثل الذي له فلا شيء عليه،و ان كان أخذ فضلا بقدر ربع درهم قطع.

و بديهة أن هذا التفصيل انما يتأتى و يتم في عهد الإمام و ما إليه،حيث كان بيت المال يوزع على الافراد و العائلات.أمّا اليوم،حيث ينفق بيت المال في الصالح العام فلا مورد لهذا التفصيل من الأساس.فالأولى أن يترك الأمر إلى نظر الحاكم و تقديره،و مهما تكن العقوبة فلا يجوز أن تكون قطع اليد،لأن القطع حد،و الحدود تدرأ بالشبهات،و له ما عدا ذلك مما ينطبق عليه اسم التعزير.

5-أن يكون المال المسروق في حرز،فمن سرق سيارة من كاراج مقفل- مثلا-يحد،و يرجع السيارة إلى صاحبها،و من سرقها من الطريق فلا يحد،بل يعزر بما يراه الحاكم،و يرجع السيارة إلى أهلها.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«لا يقطع إلاّ من نقب بيتا،أو كسر قفلا».يريد من أخذ المال من حرز،حتى و لو لم ينقب البيت،و يسكر القفل،كمن تسلق الحائط،و دخل من النافذة،و سرق أمتعة البيت أو بعضها،فإنه يحد بالإجماع،و المعيار للحد أن كل مكان عام يدخله الناس من غير اذن فلا حد على من سرق منه،و كل مكان خاص لا يدخله أحد إلاّ بإذن صاحبه فعلى من يسرق منه الحد.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:«كل مدخل يدخل فيه من غير اذن يسرق منه السارق فلا قطع عليه».و من هنا لا يحد الوكيل و لا الأجير و لا الضيف إذا خانوا،لمكان الاذن لهم بالدخول إلاّ إذا أحرز المال عنهم.قال الإمام الصادق عليه السّلام:الأجير و الضيف أمينان لا يقع عليهما حد السرقة.

و إذا كسر القفل شخص،و فتح الباب،و جاء الثاني و سرق المال،فلا حد عليهما،حتى و لو جاءا بهذا القصد،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،

ص:284

و لا اشكال فيه،لأن الأول لم يسرق،و الثاني لم يأخذ من الحرز.نعم،يجب على الأول إصلاح ما أفسد،و على الثاني إرجاع ما أخذ».

6-أن لا يكون السارق أبا،فإذا سرق الأب من ابنه فلا حد عليه، لحديث:«أنت و مالك لأبيك».و من الفقهاء من ألحق الأم بالأب،لأنها أحد الأبوين.

و جاء في كتاب الشرائع و شرحه لصاحب الجواهر:«يقطع الزوج إذا سرق من زوجته ما أحرزته دونه،و الزوجة إذا سرقت من زوجها ما أحرزه دونها بلا خلاف و لا اشكال.نعم،لا بأس بسرقة الزوجة مقدار النفقة إذا منعها منها،فان هندا قالت للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان أبا سفيان رجل شحيح،لا يعطيني و ولدي إلاّ ما أخذته سرا؟قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف».

7-أن تبلغ قيمة المسروق ربع دينار ذهبا خالصا مضروبا عليه السكة على حد تعبير الفقهاء القدامى و الجدد،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا قطع إلاّ في ربع دينار».و مثله عن الإمام الصادق عليه السّلام،و عليه فمن سرق ما قيمته دون ذلك فلا يحد،و انما يعزر بما يراه الحاكم،و يرجع المسروق.

و لا أعرف قيمة ربع الدينار على التحقيق،و الذي أظنه أن قيمته لا تتجاوز خمس ليرات لبنانية كما هي الآن«اكتب هذه الكلمات في سنة 1966».

سنة المجاعة:

و من الشروط لثبوت الحد على السارق أن لا تكون السرقة في عام المجاعة،فإذا سرق الجائع مأكولا،حيث لا يجد وسيلة لسد حاجته إلاّ السرقة فلا حد عليه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يقطع السارق في عام مسنت،أي مجاعة،

ص:285

و في رواية ثانية:لا يقطع السارق سنة المحل في شيء يؤكل مثل اللحم و الخبز، و أشباهه.

سارق الأكفان:

من حفر قبرا،و سرق كفن الميت أقيم عليه الحد،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:يقطع سارق الموتى كما يقطع سارق الأحياء.و سئل عن رجل نبش امرأة فسلبها ثيابها،و نكحها؟قال:ان حرمة الميت كحرمة الحي، تقطع يده،لنبشه،و سلبه الثياب،و يقام عليه الحد في الزنا،فإن أحصن رجم، و ان لم يكن أحصن جلد مائة.

الإثبات:

تختلف طرق الإثبات بالنظر إلى ثبوت الحد،و الغرم،و هو المال المسروق على التفصيل التالي:

1-إذا شهد رجلان عدلان ثبت الحد،و الغرم،لإطلاق أدلة الأخذ بقولهما،و لا بد من التفصيل في الشهادة لثبوت الحد،فتشهد البينة أن السارق أخذ من حرز،و ان المال المسروق يبلغ النصاب،و هو ما يعادل ربع دينار، بحيث ترتفع بسبب الشهادة جميع الشبهات التي يدرأ بها الحد.

2-يثبت الغرم فقط بشاهد و يمين،و بشاهد و امرأتين،لأنه من الحقوق المالية،أما الحد فلا يثبت باليمين،و لا بشهادة النساء على الإطلاق.

3-إذا أقر السارق مرة واحدة بالسرقة،و كان عاقلا بالغا مختارا ثبت الغرم فقط،و إذا أقر مرتين ثبت الغرم و الحد،و إذا رجع بعد الإقرار مرتين،و أكذب

ص:286

نفسه ثبت الغرم دون الحد،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يقطع السارق،حتى يقر بالسرقة مرتين،فان رجع ضمن السرقة،و لم يقطع إذا لم يكن شهود.

4-تقدم في فصل«اللواط و السحق و القيادة».فقرة«طرق الإثبات»رقم 3 أن الحاكم يقيم حد الزنا و شرب الخمر بعلمه،دون حد السرقة،و أنّه إذا نظر إلى رجل يسرق فالواجب أن يزجره و ينهاه:و يمضي و يدعه،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام.

القطع:

يختلف حد السارق بالنظر إلى إقامته مرة واحدة،أو أكثر على التفصيل التالي:

1-إذا ثبت عليه ما يوجب الحد للمرة الأولى،بحيث لم يجر عليه الحد من قبل فتقطع أصابعه الأربع من يده اليمنى فقط،و يترك له الراحة و الإبهام.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،لخبر هلال عن الإمام الصادق عليه السّلام».و قد جاء في هذا الخبر أن هلالا سأل الإمام عليه السّلام:من أين تقطع اليد؟فقال:تقطع الأربع أصابع و تترك الراحة و الإبهام يعتمد عليهما في الصلاة،و يغسل بهما وجهه للصلاة».و بهذا يتحقق القطع الذي أمرت به الآية 38 من سورة المائدة:

وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ .

2-إذا قطع،ثم عاد للسرقة ثانية بعد القطع تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم،و يترك له العقب يعتمد عليها،و يقال للعقب الكعب،و الكاحل،و هو أصل الساق.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده نصا و فتوى.قال الإمام الصادق عليه السّلام:القطع من وسط الكف،و لا يقطع الإبهام،و إذا قطعت الرجل ترك

ص:287

العقب،و لم يقطع».

و لا فرق بين أن تكون يده اليمنى صحيحة،أو شلاء،و بالعكس،و كذا الحكم بالقياس إلى الرجل اليسرى.

3-إذا سرق للمرة الثالثة بعد أن قطعت يده اليمنى،و رجله اليسرى حبس مؤبدا حتى يموت،أو يتوب توبة نصوحة و أنفق عليه من بيت المال ان لم يكن له مال،و لا يقطع منه شيء.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك نصا و فتوى.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:قضى علي أمير المؤمنين عليه السّلام في السارق إذا سرق قطعت يمينه،ثم إذا سرق مرة أخرى قطعت رجله اليسرى،ثم إذا سرق مرة أخرى سجن و تركت رجله اليمنى يمشي عليها، و يده اليسرى يأكل بها،و اني لأستحي من اللّه أن اتركه لا ينتفع بشيء،و لكن أسجنه،حتى يموت».

4-إذا سرق،و هو في السجن يقتل.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا أخذ السارق قطعت يده،فإن عاد قطعت رجله، فإن عاد استودع في السجن،فان سرق في السجن قتل».

سرقات كثيرة وحد واحد:

إذا سرق مرات و مرات،دون أن يظفر به لإقامة الحد عليه،ثم قبض عليه، و ثبت بالبينة أو بالإقرار جميع السرقات،إذا كان كذلك أقيم عليه حد واحد،و هو قطع اليد اليمنى فقط.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف.فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل سرق فلم يقدر عليه،ثم سرق مرة أخرى فلم يقدر عليه،ثم سرق مرة أخرى،فجاءت البينة،و شهدت عليه بالسرقة الأولى و الأخيرة؟قال:تقطع يده

ص:288

بالسرقة الأولى،و لا تقطع رجله بالسرقة الأخيرة،فقال السائل:و كيف ذلك؟قال الإمام:لأن الشهود شهدوا جميعا في مقام واحد بالسرقة الأولى و الأخيرة قبل أن يقطع بالسرقة الأولى».

لقد أعطى الإمام عليه السّلام في هذه الرواية الضابط الكلي،و المعيار الصحيح لتعدد العقوبات،و تكرارها،و انها تناط بتعدد البينة و تكرار الطريق الموجب للحكم،و لا تناط بتعدد الحوادث و تكرارها من حيث هي،لأن الحكم انما يتبع البينة و الدليل على الجريمة،و لا يتبع نفس الجريمة،حتى و لو لم يقم الدليل عليها.

ذو اليد الواحدة:

إذا كان السارق للمرة الأولى مقطوع اليد اليمنى،و لم يكن له إلاّ شماله فما هو الحكم.

قيل:تقطع يده اليسرى،و قيل:بل رجله اليسرى،و كلا القولين خروج عن موضع الإذن الشرعي في القطع،لأن قوله تعالى وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما مفسر في النص الصحيح بقطع اليمين،و المفروض عدمها،و قطع الرجل اليسرى لا يجوز إلاّ في الحد الثاني،و مفروض الكلام في الحد الأول، و عليه ينتفي الحد،و يتعين التعزير بما يراه الحاكم.قال صاحب الجواهر:

«المتجه سقوط الحد بسقوط موضوعه.خصوصا ان الحدود تدرأ بالشبهات، فيبقى التعزير المنوط بنظر الحاكم».

ص:289

توبة السارق:

إذا تاب السارق من تلقاء نفسه،و قبل أن تثبت السرقة عليه عند الحاكم بالبينة أو الإقرار فلا حد عليه لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا جاء من قبل نفسه تائبا إلى اللّه سبحانه،ورد سرقته على صاحبها فلا قطع عليه.

و إذا تاب بعد قيام البينة لم يسقط الحد و ليس للحاكم أن يعفو عنه،لقول الإمام علي عليه السّلام،إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو.

و إذا تاب بعد الإقرار مرتين كان الحاكم مخيرا بين أن يقطع يده،أو يعفو عنه.

حق اللّه و حق العبد:

من الجرائم ما يستدعي ارتكابها التعدي على حق اللّه فقط،كالزنا بغير المتزوجة،و اللواط،و شرب المسكر،فان من يفعل شيئا من هذه الموبقات فقد اعتدى على حق اللّه،أي الحق العام،لأن الزنا و اللواط حصل برضا الطرفين،و لا طرف ثان في شرب المسكر.و الوجه في أن هذا الفعل تعد على حق اللّه أن الفاعل قد خالف أمره سبحانه،و استهان بحرماته جل و عز،و نشر الفساد في الأرض.الذي يضر بالمجتمع و الصالح و العام.و بديهة ان كل ما يمس الصالح بسوء فهو تعد على حق اللّه.

و من الجرائم ما يستدعي ارتكابها التعدي على حق اللّه و العبد معا،كالقذف و السرقة فإن فيهما جهة شخصية،و هي الضرر و الأذى لشخص معين.و أيضا فيهما مخالفة لأمر اللّه،و إضرار بالمجتمع و الصالح العام،لانتشار الفساد في الأرض.

ص:290

و يفترق كل من الحقين عن الآخر بأن الحق الخاص يجوز العفو عنه،و لا يجوز العفو عن الحق العام إلاّ إذا ثبت بالإقرار على التفصيل المتقدم في فقرة توبة السارق،و توبة الشارب،و مسقطات الحد من هذا الفصل،و في فقرة التوبة من اللواط،و لا طهارة أفضل من التوبة من فصل الحدود و التعزيرات.

و يفترقان أيضا بأن اقامة حد اللّه المحض لا تتوقف على المطالبة،و لا يرثه أحد.أما اقامة السارق و القاذف فتتوقف على المطالبة،و تنتقل حق المطالبة إلى الورثة.و أيضا يقيم الحاكم حد اللّه بمجرد علمه،و لا يقيم الحد به في حقوق الناس.و سبق الكلام عن ذلك في فصل«اللواط و السحاق و القيادة»فقرة طريق الإثبات،رقم 3.

و إذا أقيم الحد على السارق فعليه أن يعيد المسروق،و لا يسقط عنه بحال.

قال الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:السارق يتبع بسرقته،و ان قطعت يده و لا يترك أن يذهب بمال امرئ مسلم.

قطع الطريق
قاطع الطريق:

عقدنا هذا الفصل للكلام عن حد القذف،و السكر،و السرقة،و قطع الطريق،و سبق الحديث عن الثلاثة.و بقي أن نتكلم عن الأخير.و قد عنونه الفقهاء بالمحارب،و عرفوه بمن جرد السلاح لإخافة الناس في بر أو بحر ليلا أو نهارا في مصر و غيره.

و المراد بالسلاح كل ما من شأنه أن يخيف الناس،حتى و لو كان عصا أو حجارة،و قولهم لإخافة الناس يشمل من جرد السلاح بقصد تخويف الغير، حتى و لو لم يخف منه أحد،و لم يعتد على أحد بسلب أو قتل أو إهانة،و يخرج

ص:291

من حمل السلاح و جرده لا بقصد التخويف.

الإثبات:

تثبت هذه الجناية بالإقرار مرة واحدة،لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز،و لا دليل على وجوب التكرار هنا،و انما احتجنا إليه في الزنا و اللواط و السرقة و القذف لمكان الدليل الخاص.و أيضا تثبت بشهادة رجلين عدلين،و لا تقبل شهادة النساء على الإطلاق.

و لا تقبل شهادة اللصوص بعضهم على بعض،لأن اللصوصية من الكبائر، و شرط الشهادة العدالة.و أيضا لا تقبل شهادة المسلوبين بعضهم لبعض على اللصوص و قطاع الطريق،لمكان العداوة.فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رفقة كانوا في طريق،فقطع عليهم الطريق،و أخذ اللصوص،فشهد بعض الرفقاء لبعض؟ فقال:لا تقبل شهادتهم إلاّ بإقرار اللصوص،أو شهادة من غيرهم عليهم.

و نحن لا نشك في أن تقدير الشهادة هنا و بهذه الجناية بالذات ترجع إلى نظر الحاكم و تقديره،حتى و لو لم يكن لتقدير أي أثر في غيرها من الجنايات.

الحد:

يترك للحاكم الخيار في نوع العقوبة التي يوقعها بقاطع الطريق،فان شاء قتل،و ان شاء صلب،و ان شاء قطع يده اليمنى مع رجله اليسرى و ان شاء نفاه من بلده إلى بلد آخر.قال تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ المائدة:33.

ص:292

و لفظ«أو»للتخيير.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ذاك إلى الإمام ان شاء قطع، و ان شاء صلب،و ان شاء نفى،و ان شاء قتل.

و المراد بلفظ من خلاف في الآية الكريمة أن يخالف الحاكم في القطع بين يد المجرم و رجله،فلا يقطعهما من جانب واحد،بل يقطع اليد اليمنى،و الرجل اليسرى،كما هي عقوبة السارق إذا حدّ مرتين.

و انما يتخير الحاكم بين قتل المحارب الذي قطع الطريق،و صلبه،و قطعه من خلاف،و نفيه من البلاد إذا لم يكن قد قتل شخصا طلبا للمال.أما إذا فعل ذلك فيتعين قتله على كل حال،حتى و لو عفا ولي المقتول عنه.قيل للإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:أ رأيت لو أراد أولياء المقتول أن يأخذوا الدية، و يدعوه،أ لهم ذلك؟قال:لا.عليه القتل.

توبة قاطع الطريق:

إذا تاب قاطع الطريق من تلقاء نفسه،و قبل أن يقبض عليه سقط عند الحد، و الحق العام الذي يسميه الفقهاء حق اللّه،لقوله تعالى في الآية 34 من سورة المائدة إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

و خرج في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام حارثة بن زيد محاربا،ثم تاب،فقبل الإمام توبته.

و بديهة أن التوبة قبل الظفر تسقط عنه الحق العام فقط،أما الحقوق الخاصة للناس فلا تسقط،و يطالب بها،فان سلب مالا فعليه إرجاعه،و ان قتل شخصا فلأوليائه أن يقتلوه به ان شاءوا.

و إذا تاب بعد القبض عليه،و الظفر به فلا تجديه التوبة شيئا في سقوط

ص:293

الحد و العقوبة الدنيوية،و ان كانت السبيل إلى مغفرة اللّه و عفوه في الدار الآخرة.

قتل اللص:

من دخل دار غيره للتلصص أو الفجور،و لا سبيل لصاحب الدار إلى دفعه و الخلاص منه و من شره إلاّ بالقتل جاز له قتله،و إذا قتله فدمه هدر.قال الإمام الصادق عليه السّلام:من دخل على مؤمن داره محاربا له فدمه مباح في تلك الحال للمؤمن،و هو-أي دمه-في عنقي.و في رواية ثانية:إذا دخل عليك اللص فان استطعت أن تبدره و تضربه فابدره و اضربه.و في ثالثة:اللص محارب للّه و رسوله،فما عليك منه فهو علي.و في رابعة:من دخل دار غيره فقد أهدر دمه، و لا يجب عليه-أي على قاتله-شيء.و في خامسة:ان اللّه ليمقت العبد يدخل اللص على بيته فلا يقاتل.إلى غير ذلك من الروايات التي تحث على قتل اللص بصراحة و وضوح.

و هي-كما رأيت-مطلقة و غير مقيدة بتوقف الدفع و الخلاص من اللص على قتله.و لكن الفقهاء قيدوها بذلك.و أحسب أنّه لا دليل على هذا القيد إلاّ وضع أنفسهم و أنهم لو ابتلوا بذلك لم يقتلوا اللص.أثابهم اللّه.

المزور و المحتال:

و تسأل:لقد ذكرت عقوبة السارق،و قاطع الطريق،و حكم صاحب الدار مع اللص،و لم تذكر عقوبة الذين يحتالون بالكذب و التزوير على ابتزاز الأموال و اختلاسها.

الجواب:لقد جاء النص الصحيح الصريح بشهادة صاحب الجواهر و غيره

ص:294

بأن هذا تقطع يده،تماما كالسارق.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قال لآخر:أرسلني إليك فلان بكذا و كذا،فصدقه و أعطاه،ثم تبين كذبه؟فقال الإمام:ان وجد عليه بينة أنّه لم يرسله قطعت يده.قال السائل:أ رأيت لو زعم أنّه حمله على ذلك الحاجة؟قال الإمام:يقطع،لأنه سرق مال الرجل.

و بالرغم من اعتراف الفقهاء بصحة هذه الرواية و صراحتها فإنهم أعرضوا عنها،و قالوا:لا يقتل المزور المحتال،بل يعزر بما يراه الحاكم.و لم يفسروا اعراضهم عن الرواية بشيء معقول.و قد فسرت اعراضهم عن قتل اللص بوضعهم الخاص،و روعهم و احتياطهم،و لا شيء لديّ أفسر به إعراضهم عن هذا النص الصريح الصحيح.

الاطلاع على العورات:

من تطلّع في بيت انسان من ثقب أو شق باب و نحوه فعلى صاحب البيت أن يزجره أو لا،فإن أصر فله أن يضربه،أو يرميه بحصاة،و ما أشبه،و إذا تضرر بذلك المتلصص المتجسس فلا شيء على صاحب البيت.قال صاحب الجواهر:

«الإجماع على ذلك،لقول الإمام عليه السّلام:عورة المؤمن على المؤمن حرام.و من اطلع على مؤمن في منزله فعيناه مباحتان للمؤمن في تلك الحال.و في الحديث النبوي الشريف:من اطلع عليك،فحذفته بحصاة ففقأت عينه فلا جناح عليك».

الاستمناء:

الاستمناء باليد و غيرها من الذنوب الكبائر،و من يثبت عليه أدبه الحاكم و عزره بما يراه.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عنه؟قال:هو اثم عظيم،قد نهى اللّه

ص:295

عنه في كتابه،و فاعله كناكح نفسه،و لو علمت بمن يفعله ما أكلت معه.قال السائل:أين هو في كتاب اللّه يا ابن رسول اللّه؟فتلا الإمام الآيات الأولى من سورة المؤمنون وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ .و الاستمناء مما وراء ذلك.و في رواية ثانية:الخضخضة-أي الاستمناء-من الفواحش.

ص:296

المرتد و الفاعل بالأموات و البهائم

المرتد:
اشارة

المرتد من كان مسلما عاقلا بالغا،ثم رجع و ارتد عنه،و الارتداد أفحش و أفضع أنواع الكفر على الإطلاق.

قال تعالى وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (1).

و قال كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (2).

و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (3).

و قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (4).

و جاء في الحديث عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«من بدل دينه فاقتلوه».

ص:297


1- البقرة:217. [1]
2- آل عمران:86. [2]
3- المائدة:54. [3]
4- النساء:137. [4]

و قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:من رغب عن الإسلام، و كفر بما انزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد إسلامه فلا توبة له.و قد وجب قتله،و بانت منه امرأته،و قسم ما ترك على ولده.إلى غير ذلك من الأحاديث و الروايات.

حقيقة الارتداد:

و تسأل:بأي شيء يحصل الارتداد؟و هل له صيغة خاصة أو فعل خاص؟ الجواب:يحصل الارتداد بجحود الإسلام بعد الايمان به،و بكل فعل أو قول يشعر بقصد التحقير و الإهانة لما ثبت في دين الإسلام بطريق القطع و الجزم عند جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم-أصلا كان هذا الشيء،كالإيمان باللّه و الرسول و اليوم و الآخر،أو فرعا،كوجوب الصوم و الصلاة،و الحج و الزكاة.

قال الشيخ الأردبيلي (1)في شرح الإرشاد،باب الحدود،المقصد الثامن في الارتداد:

«يتحقق الارتداد من مسلم بالغ عاقل اما بفعل دال عليه،مثل عبادة غير اللّه تعالى،كعبادة الأصنام و السجود لها،و عبادة الشمس و القمر،و إلقاء المصحف عامدا عالما في القاذورات،و ضربه بالرّجل،و تمزيقه اهانة و إعراضا،و نحو ذلك مما يدل على الاستهزاء بالشرع و الشارع».

و امّا بقول دال على الخروج من الإسلام،و الإهانة بالشرع و الشارع، و الاستهزاء به،سواء أ كان عنادا:أو سخرية،أو اعتقادا،مثل أن يقول:اللّه ليس

ص:298


1- هو أحمد بن محمد الأردبيلي نسبة إلى بلده بآذربيجان،و منزلته عند الإمامية منزلة الكبار المعظمين،و أهل التأليف المحققين،تلمذ عليه من ذوي الشأن و المكانة علما و تأليفا صاحب المعالم،و صاحب المدارك،و غيرهما،توفي سنة 933.

بموجود،أو له شريك،أو ليس بشيء،أو يقول:محمد ليس على حق:

و الإسلام ليس بحق،و نحو ذلك،أو ينكر ما علم من الدين ضرورة،مثل إنكار وجوب الصلاة و الصوم و الزكاة.و بالجملة ما يدل على قصده اهانة الشرع،و عدم اعتقاد أنّه حق،و عدم الاعتداد به فعلا كان أو قولا،معتقدا بالإهانة أو غير معتقد، بل مجرد الهزل و المزاح،و عدم الاعتداد-أي الاهتمام-بشأن الإسلام في تحقق الارتداد،و لا عبرة بفعل الصبي و قوله ما لم يبلغ،و لا المجنون ما لم يفق،و لا المكره ما لم يرتفع الإكراه،و لا السكران ما لم يذهب السكر».

أ رأيت كيف تشدد الشيعة في تعظيم الإسلام،و تكريم كل ما يمت إليه بسبب قريب أو بعيد.حتى الإهانة و الاستهزاء بفرع من فروعه فضلا عن أصوله موجب للقتل و عدم التوبة.و مع ذلك قال قائل:ليست الشيعة على شيء من الإسلام.تماما كما قيل للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لست مرسلا،فأمره الخالق البارئ أن يجبهم وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ آخر سورة الرعد.

الفطري و الملي:
قسم الفقهاء المرتد إلى قسمين:
1-كل مولود تكوّن من نطفة،و أبواه أو أحدهما مسلم حين نزول النطفة

في رحم أمه

فهو بحكم الإسلام،فإن بلغ مسلما،أي اختار الإسلام حين بلوغه بالقول أو بالفعل،ان كان كذلك انتقل من المسلم حكما إلى المسلم حقيقة،و ان بلغ كافرا،أي اختار الكفر حين بلوغه انتقل من المسلم حكما إلى الكافر حقيقة.

ص:299

و تسأل:إذا انعقد،و أبواه أو أحدهما مسلم،ثم ارتد الأبوان عن الإسلام، فهل يبقى الولد على حكم الإسلام،و يتبعهما في عدم الإسلام؟ الجواب:بل يبقى بحكم الإسلام،قال صاحب الجواهر في باب الميراث:

«بلا خلاف أجده».و قال في باب الحدود:«لا دليل على تغيره بارتداد الأب،بل لو انعقد بإسلام أحد أبويه حكم بإسلامه،و لذا لو ماتت الأم مرتدة،و هي حامل به تدفن في مقابر المسلمين».

سؤال ثان:إذا انعقد،و أبواه غير مسلمين،ثم أسلما،فهل يتبعهما في الإسلام،أو يبقى على حكم غير المسلم؟ و للفقهاء في هذا قولان:الأول:انه يبقى على حكم غير الإسلام،لأنه كان كذلك قبل إسلام أبويه،أو أحدهما،و بعده نشك،فنبقي ما كان على ما كان استصحابا للحال السابقة،و على هذا صاحب الجواهر حيث قال في باب الحدود:«لو انعقد منهما كافرين لم يكن الولد فطريا-أي بحكم الإسلام-و ان أسلم أبواه أو أحدهما عند الولادة،فإن له حالا سابقة محكوما بكفره،فلم تكن فطرية على الإسلام».

القول الثاني:ان الولد،و الحال هذي،يتبع أبويه الذين أسلما بعد انعقاده.

و عليه الشهيد الثاني في المسالك،كما جاء في باب الميراث،و أشرنا إليه في فصل الإرث من هذا الجزء فقرة«الطفل تابع».

و نميل نحن إلى عدم الفرق بين من انعقد و أبواه أو أحدهما مسلم،و بين من انعقد و أبواه غير مسلمين،ثم أسلما كلاهما أو أحدهما،و أنّه في حكم المسلم،و هو صغير،من حيث الطهارة و الزواج و الإرث و الدفن في مقابر المسلمين،و انّه إذا بلغ،و اختار الكفر دعي إلى الإسلام،فإن أسلم فذاك،و ان

ص:300

اختار الكفر استتيب،فان تاب قبل منه،و إلاّ ضربت عنقه،و دليلنا ما جاء في كتاب من لا يحضره الفقيه عن الإمام عليه السّلام،إذا أسلم الأب جرّ الولد إلى الإسلام، فمن أدرك من ولده دعي إلى الإسلام،فإن امتنع قتل.

فقول الإمام:إذا أسلم الأب جرّ الولد إلى الإسلام يشمل إسلام الأب قبل انعقاد الولد،و حينه،و بعده.

و بالإجمال ان المرتد عن فطرة الذي يجب قتله على كل حال،و لا تقبل توبته في الظاهر،ان هذا هو الرجل الذي انعقد،و أبواه أو أحدهما مسلم،و حين بلوغه و إدراكه اختار الإسلام بالقول أو بالفعل،و أصبح مسلما حقيقة لا حكما، و بعد هذا كله ارتد عن الإسلام.أما إذا اختار الكفر حين بلوغه و إدراكه فإنه لا يقتل على كل حال،بل يستتاب أولا،تماما كالمليّ الذي سنتكلم عنه في الرقم الثاني، و إذا لم ينطبق عليه اسم الملي حقيقة فإنه في حكمه.

2-المرتد الملي

،و هو الذي كان كافرا حقيقة عند بلوغه،ثم أسلم،ثم ارتد،و رجع عن الإسلام،أمّا إذا بلغ كافرا فإنه يستتاب و يدعى إلى الإسلام،فإن أجاب فذاك،و ان أصر على الكفر قتل ان كان رجلا.

و لا يتحقق الارتداد بكلا قسميه إلاّ مع العقل و البلوغ و الاختيار،قال صاحب الجواهر:لا عبرة بارتداد الصبي،حتى و لو كان مراهقا،لحديث:رفع القلم.و غيره،و لكنه يؤدب بما يرتدع به.و أيضا لا عبرة بردة المجنون حال جنونه مطبقا،أو أدواريا،و لا بردة المكره الذي رفع التكليف عنه.قال تعالى:

إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (1).

قال الرازي في تفسيره الكبير:«روي أن أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا

ص:301


1- النحل:166. [1]

عن الإسلام بعد دخولهم فيه،و كان فيمن أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصرا على الايمان عمار و أبواه ياسر و سمية و صهيب و بلال و خباب و سالم،فهؤلاء عذبوا بأنواع العذاب،فأما سمية فقيل:ربطت بين بعيرين، و وخزت في قلبها بحربة،و قالوا لها:إنك أسلمت من أجل الرجال،و قتلت و قتل ياسر،و هما أول قتيلين قتلا في الإسلام،و أمّا عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها،فقيل:يا رسول اللّه ان عمارا كفر.فقال:كلا،ان عمارا مليء ايمانا من قرنه إلى قدمه،و اختلط الايمان بلحمه و دمه،فأتى عمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يبكي،فجعل رسول اللّه يمسح عينيه،و يقول:مالك؟ان عادوا لك فعد لهم بما قلت».

أحكام المرتد عن فطرة:

إذا تاب الرجل المرتد عن فطرة قبلت توبته في الواقع،و لم تقبل في الظاهر،و معنى قبولها في الواقع أن اللّه سبحانه يسقط العقاب عنه غدا يوم القيامة، لأنه مكلف في حال ارتداده بالإسلام،لبلوغه و كمال عقله فلو لم يقبل و كان معاقبا على كل حال لكان مكلفا بما لا يطيق،و هو محال و باطل في مذهب الإمامية.قال صاحب المسالك:«أمّا فيما بينه و بين اللّه فقبول توبته هو الوجه حذرا من تكليف ما لا يطاق».

و معنى عدم قبول توبته في الظاهر أنّه يقتل على كل حال،حتى و لو أسلم، و تبين منه زوجته في الحال،و تعتد منه عدة الوفاة أربعة أشهر و عشرة أيام من حين ارتداده،و تقسم أمواله بين ورثته.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك للنصوص».و من هذه النصوص قول الإمام الصادق عليه السّلام:كل مسلم بين

ص:302

مسلمين ارتد عن الإسلام،و جحد محمّدا نبوته و كذّبه،فإن دمه مباح لكل من سمع ذلك منه،و امرأته بائنة منه يوم ارتد،فلا تقربه،و يقسم ماله بين ورثته، و تعتد امرأته عدّة المتوفى عنها زوجها،و على الإمام أن يقتله،و لا يستتيبه.و في رواية ثانية:إذا ارتد المسلم يقتل و لا يستتاب،و إذا أسلم النصراني،ثم ارتد عن الإسلام يستتاب،فان رجع و إلاّ قتل.

أحكام المرتد عن ملة:

إذا تاب المرتد عن ملة تقبل توبته و لا يقتل،و ان أصر على الارتداد قتل.

فقد سئل الإمام عليه السّلام عن مسلم تنصر؟قال:يقتل و لا يستتاب.قال السائل:

فنصراني أسلم،ثم ارتد عن الإسلام؟قال الإمام:يستتاب،فان رجع،و إلاّ قتل.

و تعتد زوجته في الحال عدّة الطلاق،فان تاب قبل انقضاء العدة فهو أملك بها،و ان تاب بعدها بانت منه،و انقطعت العصمة بينهما،و لا تقسم أمواله على ورثته إلاّ بعد قتله أو موته،و لكنه يمنع من التصرف بها،و ان عاد إلى الإسلام رفع عنه المنع.قال صاحب الجواهر:«لا خلاف أجده بيننا في أنّه يحجز الحاكم على أمواله أي يمنعه من التصرف فيها،حتى الذي يتجدد بعد الارتداد بالاحتطاب أو الانهاب أو التجارة،أو غير ذلك.

المرأة المرتدة:

أجمعوا قولا واحدا أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل بحال،سواء أ كان ارتدادها عن فطرة،أو عن ملة.

و إذا تابت تقبل توبتها،و يخلى سبيلها،و إذا بقيت مصرة على الارتداد

ص:303

تخلد في السجن مع الأشغال الشاقة،و يضيق عليها في المأكل و المشرب و الملبس،و تضرب أوقات الصلاة.قال صاحب الجواهر:«إجماعا و نصا».و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:المرتدة عن الإسلام لا تقتل،و تستخدم خدمة شديدة، و تمنع الطعام و الشراب إلاّ ما يمسك نفسها،و تلبس خشن الثياب،و تضرب على الصلاة.

للفاعل بالأموات:

من وطأ زوجته بعد موتها فقد فعل محرما،و لكنه لا يحد حد الزاني، لمكان الزوجية،و انما يعزر بما يراه الحاكم.قال صاحب الجواهر،«لم أجد خلافا فيه.و يسقط عنه الحد للعلاقة الزوجية،و ان عزر لانتهاك الحرمة،أو لكونه محرما إجماعا،و ان لم يكن زنا لغة و عرفا،و ما بحكمه شرعا».

و من وطأ ميتة أجنبية،فإن كان محصنا رجم،و ان كان غير محصن جلد مائة جلدة،تماما كما لو زنى بامرأة حية،بل هنا أفحش و أفظع،فيعزره الحاكم بما يراه بالإضافة إلى الحد.قال صاحب الجواهر:«الإجماع و النص على ذلك.فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل نبش امرأة فسلبها ثيابها و نكحها؟قال:ان حرمة الميت كحرمة الحي،حده أن تقطع يده،لنبشه و سلبه الثياب،و يقام عليه حد الزنا-ان أحصن رجم،و ان لم يكن قد أحصن جلد مائة.

و غيره من النصوص،بل الجناية هنا أفحش،فتغلّظ له العقوبة زيادة على الحد بما يراه الإمام».

و من لاط بميت فحكمه حكم من لاط بالحي مع زيادة التعزير.

و يثبت الزنا و اللواط بالميت بما يثبت به الزنا و اللواط بالحي.انظر فصل

ص:304

«الحدود و التعزيرات»و فصل«اللواط و السحاق و القيادة»من هذا الجزء.

الفاعل بالبهائم:

من وطأ بهيمة عزره الحاكم بما يرى.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ليس عليه حد،و لكن يضرب تعزيرا.و في رواية ثانية:لا رجم عليه،و لا حد،و لكن يعاقب عقوبة وجعة.

ثم ان كانت البهيمة الموطوءة مما يؤكل لحمه كالبقر و الغنم حرم لحمها و لبنها و نسلها،و وجب أن تذبح،ثم تحرق،و يغرم الواطئ قيمتها للمالك،ان لم يكن واطئها صاحبها.

و ان تكن مما لا يؤكل عادة كالخيل و الحمير وجب إخراجها إلى بلد آخر، و تباع بأي ثمن،و يعطى للواطئ،و يغرم هو بدوره القيمة السوقية لمالكها،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الرجل يأتي البهيمة؟قال:

يجلد دون الحد،و يغرم قيمة البهيمة لصاحبها،لأنه أفسدها عليه،و تذبح و تحرق ان كانت مما يؤكل لحمه،و ان كانت مما يركب ظهره أغرم قيمتها،و جلد دون الحد،و أخرجت من المدينة التي فعل بها إلى بلد آخر.

و يثبت هذا الفعل الشنيع بإقرار البالغ العاقل المختار،و بشهادة رجلين عدلين،و لا تقبل النساء منفردات و لا منضمات.

ص:305

كتاب القصاص

اشارة

تبين من تضاعيف الفصول الأربعة السابقة أن الجرائم التي لها عقوبات مقدرة في الكتاب و السنة تسمى حدا،و أن الكبائر التي لا تقدير لعقوبتها في لسان الشارع،و ترك تحديدها و تقديرها لنظر الحاكم تسمى تعزيرا،و أن الحدود المنصوص عليها هي الزنا و اللواط،و السكر،و السرقة،و قطع الطريق، و الارتداد،و أن التزوير،و الشتم بغير الزنا و اللواط،و وطء البهائم،و ما إليه من الكبائر يدخل في التعزيرات.

القصاص:

و نتكلم الآن عن القصاص،و المراد به أن يستوفي الإنسان ممن اعتدى عليه بمثل ما اعتدى من قطع أو جرح.أمّا الضرب فلا قصاص فيه،و تأتي الإشارة إلى ذلك في الفصل التالي«الأعضاء و الجروح»فقرة الضرب دون زيادة.و يسمى أيضا بالقود،تقول:أقاد القاتل بالقتيل،أي قتله به.و قد نص الشارع عليه في الكتاب و السنة عموما و خصوصا،و لم يترك أمر تقديره إلى نظر الحاكم أو غيره.

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ البقرة:178.

ص:306

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ البقرة:178.

و قال وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ البقرة:179.

و قال وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ المائدة:45.

و قال وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الإسراء:33.

و قال وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ الشورى:40.

و قال فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ البقرة:195.

و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لو اجتمعت ربيعة و مضر على قتل امرئ مسلم قيدوا به.و الجريمة الموجبة للقصاص على نوعين:قتل النفس و ما دون القتل،كقطع عضو من الأعضاء،أو الجرح أو الضرب و فيما يلي التفصيل:

قتل العمد:

يقع القتل على أنحاء ثلاثة:عمد،و خطأ،و شبه عمد.و المقصود في باب القصاص هو قتل العمد،لأنه موجب له،أمّا قتل الخطأ و شبه العمد فإنهما يوجبان الدية دون القصاص،و سنتعرض لهما مفصلا في باب الديات ان شاء اللّه،كما فعل غيرنا من الفقهاء المؤلفين.

و قد اتفقوا بشهادة صاحب المسالك و الجواهر على أن قتل العمد يتحقق

ص:

من العاقل البالغ إذا قصد القتل من فعل يستدعي القتل في الغالب،كالضرب بأداة قاتلة،أو الإلقاء من شاهق،أو في النار،أو البحر،أو خنقه،أو أطعمه السم،و ما إلى ذلك مما يحصل به،إزهاق الروح عادة.

و أيضا اتفقوا على أن من ضرب غيره ضربا مبرحا،حتى قتل فهو عامد و ان لم يقصد القتل بالذات،لأن قصد الفعل القاتل قصد للقتل.قال صاحب الجواهر:

«و يعضد ذلك النصوص المعتبرة المستفيضة،منها ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل ضرب رجلا بعصا،فلم يرفع الضرب عنه حتى مات،أ يدفع لأولياء المقتول؟-أي ليقتلوه قصاصا-قال:نعم.و يجهز عليه بالسيف-ثم قال صاحب الجواهر-فيكفي قصد ما علم أنّه يسبب القتل عادة،و ان ادّعى الفاعل الجهل لم تسمع دعواه.إذ لو سمعت بطلت أكثر الدماء،كما هو واضح».

و تسأل:إذا ضربه بشيء لا يحصل به القتل عادة،كالضرب بحجر أو عصا، أو وكزة،فمات بسبب ذلك،فهل يعد هذا عمدا موجبا للقصاص؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن هذا الفعل إذا اقترن منذ البداية بقصد القتل فهو عمد،و إلاّ فلا عمد.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إنما الخطأ أن يريد شيئا فيصيب غيره،أمّا كل شيء قصدت إليه فأصبته فهو عمد.و في رواية ثانية:كل من اعتمد شيئا فأصابه بحديد،أو حجر،أو عصا،أو بوكزة،هذا كله عمد.

و الخلاصة ان ضابط قتل العمد«ان يقصد الفعل و القتل،أو يقصد الفعل الذي يقتل مثله في الغالب،و ان لم يقصد القتل»كما قال صاحب الجواهر،اما إذا فعل فعلا لا يوجب القتل عادة،و لم يكن القتل من قصده،و مع ذلك حصل القتل فلا يكون عمدا موجبا للقصاص،و عليه تكون عناصر قتل العمد ثلاثة:القتل،

ص:308

و الفعل،و القصد،سواء اتجه القصد إلى القتل مباشرة،أو إلى الفعل القاتل غالبا.

المباشرة و التسبيب:

ليس في النصوص لفظ مباشرة،و لا لفظ تسبيب،و انما الذي فيها لفظ عمد و خطأ.قال صاحب الجواهر:«ليس في شيء من الأدلة أخذ موضوعا للحكم بلفظ المباشرة و السبب،و انما الموجود قتل العمد و نحوه،فالمدار في القصاص على صدقه».

و على هذا،فمتى صدق قتل العمد في نظر العرف جاز القصاص،سواء أ كان القتل بالمباشرة،أو بالتسبيب،و معنى المباشرة أن يترتب القتل على فعل القاتل مباشرة،و من غير واسطة شيء آخر،كالذبح و الخنق.أمّا التسبيب فهو أن يأتي المسبب بفعل يتولد منه شيء آخر يترتب عليه الموت،كمن حبس غيره، و منع عنه الطعام و الشراب،حتى مات جوعا و عطشا،فان الموت قد استند مباشرة إلى الجوع و العطش،و هما قد استندا إلى الحبس،فيكون الحابس هو المسبب للقتل،و بالتالي يصدق عليه أنّه عامد.

من أمثلة التسبيب:

ذكر صاحب الشرائع و الجواهر أمثلة كثيرة للقتل بالتسبيب:

«منها»إذا حبسه أمدا لا يستدعي الموت في الغالب،ثم أطلقه،و مات بعد إطلاقه،و تبين أن الموت يستند في النهاية إلى حبسه،إذا كان كذلك ينظر:فان كان قد قصد من حبسه القتل فهو عمد،و ان لم يكن القتل من قصده فليس بعمد، تماما كما لو ضربه أو وكزة بعصا فمات على ما فصلنا في فقرة«قتل العمد».

ص:309

أجل،لو كان ضعيفا لمرض،أو صغر،يموت مثله فهو عمد،حتى و لو لم يقصد القتل،كما قال صاحب الجواهر.

و«منها»:إذا رماه في الماء أو في النار فان كان لا يستطيع الخروج فهو عمد موجب للقصاص،و ان علمنا أنّه قد كان بإمكان الملقى أن يخرج،و مع ذلك تعمد البقاء،و تقصد عدم الخروج،حتى مات فلا قصاص و لا دية على من ألقاه، لأن المقتول هو الذي أعان على نفسه.قال صاحب الجواهر:«ليس سببا للضمان،مع فرض قدرته على التخلص».

و«منها»:إذا قدم طعاما مسموما لغيره فأكله و مات ينظر:فان كان الآكل عالما بالسم فلا قود و لا دية على من قدم الطعام.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأنّه هو قاتل نفسه بمباشرته عالما بالحال لا المقدم».أجل، إذا كان الآكل طفلا صغيرا غير مميز فعلى المقدّم القصاص.أما إذا كان الآكل غير عالم بالسم فهو من أظهر الأفراد لقتل العمد بالتسبيب،لمكان التغرير.

و«منها»إذا جرحه ثم عضه كلب و نحوه فمات بسبب الجرح و العض معا، بحيث يكون كل منهما جزء من السبب للموت،و هما معا سبب كامل له،إذا كان كذلك فولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ نصف الدية من الجارح،و بين أن يقتله على شريطة أن يدفع نصف ديته لورثته،لأن الجرح جزء السبب،و ليس سببا كاملا.

و«منها»:إذا حرّض عليه كلبا فقتله،فإن كان من عادة الكلب قتل الإنسان قتل المحرض،حتى و لو لم يقصد القتل مباشرة،لأنه قد قصد الفعل القاتل،و ان لم يكن ذلك من عادة الكلب فإن كان المحرض قاصدا القتل قتل،و إلاّ فعليه الدية.

ص:310

و«منها»إذا حفر حفرة فجاء آخر،و دفع ثالثا فيها فمات كان الدافع هو القاتل دون الحافر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،لأن الدافع هو المباشر للقتل،أما الحافر فسبب بعيد».

و إذا ألقاه من شاهق فضربه آخر بالسيف،أو أطلق عليه الرصاص فمات قبل أن يصل إلى الأرض كان الضارب،أو مطلق الرصاص هو القاتل دون الملقى.

و إذا أمسك به شخص،و قتله آخر قتل المباشر للقتل،و سجن الممسك مؤبدا،و إذا وقف ثالث عينا للممسك و القاتل،و حارسا لهما سملت عيناه،لأن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قضى في رجل أمسك،و آخر قتل،و ثالث كان عينا لهما أن يسجن الممسك،حتى يموت،و ان يقتل القاتل،و ان تسمل عينا الثالث،قال صاحب الجواهر:تفقأ عيناه بالشوك،أو تكحلان بمسمار محمى بالنار».

الإكراه على القتل أو القطع:

إذا قال الظالم القادر لمن هو دونه مقدرة،قال له:اقتل زيدا،و إلاّ قتلتك، و تأكد المقول له أنّه مقتول لا محالة إذا لم يفعل،فما ذا يصنع.

قال صاحب الجواهر:لا يجوز عندنا إجماعا و نصا ان ينفّذ المقول له ارادة الظالم،إذ لا يجوز أن يدفع ضرر القتل عن نفسه بإدخاله على الغير،و قد ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام:«انما جعلت التقية ليحقن بها الدماء،فإذا بلغ الدم فلا تقية»و على هذا،فإذا امتنع المقول له عن القتل،و نفّذ الظالم إرادته و قتل المقول له قتل الظالم،و ان نفّذ المقول له ارادة الظالم و قتل زيدا قتل به قصاصا،لأنه المباشر للقتل،و لا أثر هنا للإكراه،أما الظالم المكره فلا قتل و لا دية و لا كفارة عليه،بل يحبس مؤبدا،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليه السّلام عن رجل أمر

ص:311

رجلا بقتل آخر؟فقال:يقتل الذي قتله،و يحبس الآمر في السجن،حتى يموت.

هذا،إذا كان المقول له عاقلا بالغا،أما إذا كان صغيرا أو مجنونا فان القصاص على الآمر المكره.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأن الصغير و المجنون بالنسبة إلى المكره تماما كالآلة الصماء».

و إذا قال:اقتلني و إلاّ قتلتك فلا يجوز له أن يباشر قتله،و لكنه إذا فعل فلا شيء عليه سوى الإثم،و يسقط عنه القصاص و الدية،لأنه هو الذي أسقط حرمة نفسه.

و إذا قال له:اقطع يد فلان و إلاّ قتلتك جاز له أن يقطعها دفعا لإتلاف نفسه بما ليس إتلافا لنفس غيره،و يكون القصاص على الآمر الظالم،لا على المباشر، لأن السبب هنا أقوى من المباشر،كما قال صاحب الجواهر.

و على الإجمال ان الفقهاء يقولون:ان الإكراه على قتل النفس لا يجعل القتل جائزا بحال،و لا يرفع الخطاب التكليفي،و لا الخطاب الوضعي.أمّا الإكراه على غير القتل فإنه يسقط الخطابين،حتى و لو كان الإكراه على قطع عضو من الأعضاء ارتكابا لأهون الشرين،و دفعا لأشد الخطرين.

إذا قتله أكثر من واحد:

قد تكون الجريمة اعتداء على النفس،و قد تكون اعتداء على ما دونها، فإذا اشترك أكثر من واحد في قتل النفس المحترمة عوقب كل واحد عقوبة القتل.

و يعتبر اشتراك الجميع في القصد إلى القتل،و ان يستند القتل إلى فعل الكل، بحيث يكون لفعل كل واحد أثر في القتل،أمّا إذا استند القتل إلى واحد فقط كما لو ضربه شخص،و جاء الأخير فاحتز رأسه فإن القتل ينسب إلى هذا الأخير،

ص:312

و يكون وحده المسؤول عن القتل.أجل،لا يعتبر التساوي و الاتحاد في الفعل كما و لا كيفا،فلو ضربه واحد سوطا واحدا،و الآخر مائة سوط،و استند الموت إلى جميع الضربات فهما شريكان في القتل،و كذا إذا ضربه واحد بحجر و الآخر بالعصا،و استند الموت إليهما.قال صاحب الجواهر:«لا يعتبر التساوي في عدد الجناية بل لو جرحه واحد جرحا،و الآخر مائة جرح،أو ضرباه بسوط كذلك،ثم سرى الجميع-أي أثّر الجميع في القتل-فالجناية قصاصا عليهما بالسوية».

و اتفقوا بشهادة صاحب المسالك و الجواهر على أنّه لو اشترك جماعة في قتل واحد قتلوا به جميعا،قال صاحب المسالك:«و احتجوا بالنص و بأن القصاص شرّع لحقن الدماء،فلو لم يجب القتل عند الاشتراك لاتخذ ذريعة إلى سفكها».

ثم ان اتفق ولي المقتول مع القتلة على الدية وزعت عليهم بنسبة عددهم، فإن كان القاتل اثنين فعلى كل منهما النصف،و ان لم يتفقا على الدية،و اختار قتلهما معا فعليه أن يدفع لورثة كل واحد نصف الدية،و ان اختار قتل أحدهما دون الآخر فقد استوفى حقه،و لكن على من ترك أن يدفع لورثة المقتول نصف الدية.قال الإمام الصادق عليه السّلام في رجلين قتلا رجلا:إذا أراد أولياء المقتول قتلهما أدوا دية كاملة،و قتلوهما،و تكون الدية بين أولياء المقتولين،فإن أرادوا قتل أحدهما فقتلوه أدى المتروك-أي الذي لم يقتل-نصف الدية إلى أهل المقتول.

و إذا اشتركوا في قطع عضو كاليد و الرجل و العين فالحكم في ذلك كحكم الاشتراك في قتل النفس.قال صاحب الشرائع و الجواهر:«يقتص من الجماعة من الأطراف-أي الأعضاء-كما يقتص في النفس بلا خلاف و لا اشكال،فلو اجتمع جماعة على قطع يده،أو قلع عينه فله القصاص منهم جميعا بعد رد ما

ص:313

يفضل لكل واحد منهم عن جنايته على نحو ما سمعته في النفس.قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام في رجلين اجتمعا على قطع يد رجل:«ان أحب أن يقطعهما أدى إليهما دية يد يقتسمانها،ثم يقطعهما،و ان أحب أخذ منهما دية يد،و ان قطع يد أحدهما رد الذي لم يقطع على الذي قطعت يده ربع الدية»،أي نصف دية اليد.و يأتي الكلام عن دية اليد،و انها نصف دية النفس.

إذا قتل أكثر من واحد:

إذا قتل واحد اثنين أو أكثر عدوانا ثبت لكل واحد من أولياء المقتولين حق القصاص على القاتل،فان اجتمعوا و اتفقوا على قتله،و قتلوه فقد استوفوا حقهم منه،و لا شيء لهم عليه في ماله،إذ لا يجني الجاني أكثر من نفسه.قال صاحب الجواهر«بلا خلاف،بل لا إشكال،إذ ليس لهم عليه إلاّ نفسه».

و إذا عفا أحد الأولياء مجانا أو بعوض فللذي لم يعف أن يقتص،لأن سقوط حق انسان لا يستدعي سقوط حق الآخر،و لا فرق في ذلك بين أن يكون الجاني قتل الجميع على التعاقب الواحد بعد الآخر،أو دفعة واحدة،كما لو ألقى عليهم قنبلة،أو هدم عليهم بيتا،و ما أشبه.

و إذا قتل القاتل أحد الأولياء من غير استئذان من الآخرين،فقد استوفى حقه منه،و لا شيء عليه،و للآخرين الدية من مال الجاني،ان كان له مال،لقول الإمام عليه السّلام:لا يطل دم امرئ مسلم.

و تسأل:إذا مات القاتل عمدا قبل الاقتصاص منه،فهل تؤخذ الدية من ماله؟ الجواب:ان الأصل عدم وجوب الدية في مال القاتل،لأن الواجب في قتل

ص:314

العمد هو القصاص،و ان الدية لا تجب إلاّ صلحا،و لا موضوع للقصاص بعد موت القاتل،و لا صلح على الدية،كي تجب،و لكن يجب الخروج عن هذا الأصل لمكان النص الدال على وجوب الدية في ماله ان كان له،و إلاّ أخذت الدية من أرحامه الأقرب فالأقرب.

قال صاحب المسالك:

«ذهب أكثر الفقهاء إلى ذلك،لقوله تعالى فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً و قول الإمام عليه السّلام:لا يطل دم امرئ مسلم.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قتل آخر عمدا،ثم هرب،و لم يقدر عليه،حتى مات؟قال:ان كان له مال أخذت منه الدية،و إلاّ أخذت من الأقرب فالأقرب».

و لا أدري ما هو الوجه لتغريم الأقرباء الدية،إذا قتل قريبهم عمدا،و هرب، و لذا قال صاحب المسالك:و قد اختار الفقهاء المتأخرون سقوط الدية إذا لم يكن للقاتل مال.

الشروط:

إذا تحقق قتل العمد بالمباشرة أو التسبيب جاز لولي المقتول أن يقتص من القاتل مع توافر الشروط التالية:

1-أن يتساوى القاتل و المقتول بالحرية و الرقية،و لا موضوع لهذا الشرط بعد ان أصبح الرق اليوم في خبر كان،و صار الناس جميعهم أحرارا.

2-المساواة بين القاتل و المقتول في الدين،فيقتل المسلم بالمسلم، و غير المسلم بغير المسلم،و ان اختلفا في الدين و الملة كاليهود و النصارى و لا يقتل المسلم بغير المسلم،أما غير المسلم فيقتل بالمسلم،و جاء عن أهل

ص:315

البيت عليهم السّلام روايات كثيرة تدل على أن المسلم يقتل بغير المسلم،و قال الشيخ الأردبيلي في شرح الإرشاد باب القصاص،الشرط الرابع،قال:«أكثر هذه الروايات و أصحها يدل على القصاص،و لكن القائل بها غير ظاهر».

3-أن لا يكون القاتل أبا للمقتول،إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يقاد الرجل بولده إذا قتله،و يقتل الولد إذا قتل والده.

و تقتل الأم بولدها.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف إلاّ من الإسكافي».

و بالأولى أن يقتل الولد بأمه.

4-أن يكون القاتل كاملا بالعقل و البلوغ،فلا قصاص على المجنون،و لا على الصبي،حتى و لو كان مميزا،و تؤخذ دية المقتول من العاقلة،سواء أ كان المقتول عاقلا بالغا،أو غير عاقل و لا بالغ،و يأتي الكلام عن العاقلة في باب الديات إن شاء اللّه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:عمد الصبي و خطأه واحد.و في رواية ثانية:أن عليا أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن مجنون قتل رجلا عمدا،فجعل الدية على قومه،و جعل عمده و خطأه سواء.

و إذا كان القاتل عاقلا حين القتل،ثم طرأ عليه الجنون لم يسقط عنه القصاص.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بيننا».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن العاقل البالغ إذا قتل الصغير قتل به.

و أيضا اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر إلى أن العاقل إذا قتل المجنون لا يقتل به.فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل قتل رجلا مجنونا؟فقال:ان كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فقتله فلا شيء عليه من قود و لا دية،و يعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين،و ان قتله من غير أن

ص:316

يكون المجنون اراده فعليه الدية في ماله،يدفعها إلى ورثة المجنون،و يستغفر اللّه،و يتوب إليه.

و اختلفوا في السكران إذا قتل:هل يقتل أو لا؟ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى أنّه يقتل،لأنه سكر مختارا مع علمه بالتحريم،فيحكم عليه بحكم الصاحي.

و هذا مجرد استحسان،و الصواب ان السكران بحكم المجنون و النائم ما دام فاقدا لشعوره.أجل،هو معاقب على السكر و ارتكاب الحرام.و لكن عقابه على السكر شيء،و ترتب جميع أحكام الصاحي عليه شيء آخر.

5-أن يكون المقتول غير مباح الدم،فمن قتل الزاني المحصن،و اللوطي و المرتد عن الإسلام فلا قود و لا دية عليه،لأن هؤلاء يجب قتلهم شرعا،لقول الإمام عليه السّلام:من قتله الحد فلا دية له.

و كذا من قتل شخصا دفاعا عن النفس،أو قطع عضوا أو جرح غيره استيفاء لحق القصاص من غير أن يعتدي فمات المقطوع و المجروح بسبب القطع أو الجرح فإنه لا شيء على القاتل المدافع عن نفسه،و لا على القاطع و الجارح قصاصا.

و تسأل:إذا قتل شخص آخر،و جاز قتله قصاصا لولي المقتول،و لكن جاء أجنبي فقتله،فما هو الحكم؟ الجواب:يثبت لولي المقتول الثاني حق القصاص على الأجنبي،أما ولي المقتول الأول فيعطى الدية من مال المقتول الثاني الذي هو القاتل الأول،تماما كما لو مات القاتل حتف أنفه قبل أن يقتص منه،و سبقت الإشارة إلى ذلك في فقرة:-إذا قتل أكثر من واحد.

ص:317

المرأة و الرجل:

إذا قتلت المرأة رجلا عمدا كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية ان رضيت هي،كما يأتي،و بين أن يقتلها،فإذا اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئا.و إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية،ان رضي الرجل، و بين أن يقتله على أن يدفع لورثته نصف الدية 500 دينار،إجماعا و نصا.و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا قتل الرجل المرأة تعمدا،و أراد أهل المرأة أن يقتلوه فذاك لهم إذا أدوا إلى أهله نصف الدية،و ان قبلوا الدية فلهم نصف دية الرجل، و ان قتلت المرأة الرجل قتلت به،و ليس لهم إلاّ نفسها.

و إذا اشتركت امرأتان في قتل رجل قتلتا به،و لا شيء لورثتهما،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن ذلك؟فقال:تقتلان به.ما يختلف فيه أحد.

الإثبات:

اشارة

يثبت القتل بالطرق التالية:

1-ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك و الجواهر إلى ثبوت القتل

بالإقرار مرة واحدة

من العاقل البالغ المختار.قال صاحب المسالك:«لعموم:

إقرار العقلاء على أنفسهم جائز،و حمله على الزنا و السرقة،و غيرهما مما يعتبر فيه التعدد قياس مع وجود الفارق،لأنه حق آدمي،فيكفي فيه المرة كسائر الحقوق».

و إذا أقر انسان على أنّه هو القاتل عمدا وحده دون سواه،فجاء آخر،

ص:318

و قال:بل أنا القاتل عمدا وحدي دون سواي،و بقي كل منهما مصرا على قوله،إذا كان كذلك تخير الولي بين أن يقتص من أيهما شاء،لأن كلا من الإقرارين نافذ في حق المقر،و لا يمكن الجمع بينهما فيتخير الولي بين الأخذ بأيهما شاء.

و كذا الحكم إذا قال أحدهما:أنا قتلته عمدا،و قال الآخر:أنا قتلته خطأ.

فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل وجد مقتولا،فجاء به رجلان إلى وليه، فقال أحدهما:أنا قتلته عمدا،و قال الآخر:أنا قتلته خطأ؟فقال الإمام:ان هو أخذ بقول صاحب العمد فليس له على صاحب الخطأ سبيل،و ان أخذ بصاحب الخطأ فليس له على صاحب العمد سبيل.

هذا،إذا بقي كل منهما مصرا على إقراره،و انه هو القاتل عمدا دون سواه، أما إذا رجع الأول عن إقراره بعد أن أقر الثاني فيدرأ عنهما معا القتل و الدية، و يعطي ورثة المقتول الدية من بيت المال.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،لما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قد جيء برجل إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام بيده سكين ملطخ بالدم،و رجل مذبوح،فقال له أمير المؤمنين:ما تقول؟قال:أنا قتلته.قال الإمام:اذهبوا به فأقيدوه،فلما أرادوا قتله جاء رجل مسرعا،و قال:أنا قتلته.فقال الإمام للأول:ما حملك على إقرارك على نفسك؟ قال:ذبحت بجنب الخربة شاة،فأخذني البول،فدخلت الخربة،فوجدت الرجل يتشحط بدمه،فقمت متعجبا،فدخل هؤلاء فأخذوني،و ما كنت أستطيع أن أقول،و قد شاهدوني على هذا الحال.فخلى الإمام عن الرجلين،و أخرج دية المذبوح من بيت المال.

2-يثبت ما يجب القصاص به نفسا و طرفا بشهادة رجلين عدلين

،و لا تقبل النساء منفردات و لا منضمات،لقول الإمام الرضا عليه السّلام:لا تجوز شهادتهن في

ص:319

الطلاق و لا في الدم.

و لا يثبت القصاص بشاهد و يمين.قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل في كتاب الرياض الاتفاق عليه».

أمّا ما تجب به الدية فقط دون القصاص كالقتل و قطع الطرف خطأ فإنه يثبت بشاهد و يمين،و شاهد و امرأتين،لأنه من الشهادة على المال،لا على الدماء.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا اشكال».

و إذا شهد اثنان بالقتل،و بعد أن قتل المشهود عليه تبين تعمد الشاهدين و التزوير،إذا كان كذلك يقتل الشاهدان،لأن السبب هنا أقوى من المباشر،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا،ثم رجع أحدهم بعد ما قتل الآخر؟فقال الإمام:ان قال الراجع:وهمت ضرب الحد، و غرم الدية-لأنه من باب قتل الخطأ-و ان قال:تعمدت قتل-لأنه من باب قتل العمد-و سبق الكلام عن ذلك مفصلا في الجزء الخامس فصل الطواري بعد الشهادة،فقرة«الرجوع عن الشهادة».

اللوث:

3-و يثبت القتل باللوث

،و هذا مثاله:إذا ادعى شخص على آخر بأنه القاتل،و عجز عن إقامة البينة،و أنكر المدعى عليه القتل و لا قرينة يظن معها صدق الدعوى،إذا كان كذلك طبقت قاعدة«البينة على من ادعى،و اليمين على من أنكر».كغيرها من الدعاوي.

و إذا وجدت قرينة يظن معها بصدق الدعوى،و ادانة المدعى عليه حلف المدعي و قومه خمسين يمينا،كل واحد يحلف يمينا واحدة،حتى و لو لم يكن

ص:320

وارثا،فان كانوا أكثر من خمسين اقتصر على خمسين منهم،و ان كانوا دون الخمسين بسطت الخمسون و وزعت عليهم بالسوية،أو على بعضهم حسبما يستدعيه العدد،فان تمت الخمسون ثبت القتل،و إلاّ حلف المنكر و قومه خمسين يمينا،فان لم يكن له قوم،أو كانوا،و لكنهم امتنعوا حلف هو وحده خمسين،فان حلفها فلا شيء عليه،و ان امتنع ثبت القتل عليه،و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

قال صاحب المسالك:«و صورتها أن يوجد قتيل في موضع لا يعرف من قتله،و لا تقوم عليه بينة،و يدعي الولي على واحد،أو جماعة،و يقترن بالواقعة ما يشعر بصدق الولي في دعواه،و يقال له اللوث».

و ذكر الفقهاء أمثلة لذلك:منها أن يوجد القتيل متشحطا بدمائه،و إلى جانبه رجل في يده سلاح يقطر دما.

و منها:أن يوجد في دار لا يدخلها غير أهلها،فإن ذلك يوجب التهمة، حتى و لو لم يكن بينهم و بين القتيل عداوة.

و منها:أن يشهد عدل واحد بالقتل،أو جماعة من غير العدول،أو النساء، أو الصبيان بحيث يحصل الظن من شهادتهم.

و منها:أن يوجد القتيل في محلة بينه و بين أهلها عداوة،فمجرد العداوة لا تكفي ما لم يكن معها قرينة ثانية.

القتيل في الأمكنة العامة:

إذا وجد قتيل في مكان عام،أو في فلاة،و لم يعرف قاتله،و لم يحصل لوث على شخص معين فديته على بيت المال.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف

ص:321

مضافا إلى النصوص المستفيضة أو المتواترة،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان وجد قتيل بأرض فلاة أديت ديته من بيت المال،و قوله أيضا:ان عليا أمير المؤمنين قال:من مات في زحام الناس يوم الجمعة،أو يوم عرفة،أو على جسر لا يعلمون من قتله فديته من بيت المال».إلى غير ذلك من الروايات.

الاستيفاء من القاتل:

إذا ثبت القتل فإن كان خطأ أو شبيها بالعمد تعينت الدية،و لا قصاص،و ان كان عمدا فالأصل هو القصاص دون الدية،و ليس لولي المقتول أن يلزم الجاني بالدية ما دام باذلا نفسه للقتل،و لا للجاني أن يلزم ولي المقتول بالدية ما دام مصرا على القتل قصاصا،لقوله تعالى «وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» .قال صاحب الجواهر:«لا بد أن يعلم أنّه لا خلاف معتد به بيننا في أن قتل العمد يوجب القصاص لا الدية عينا و لا تخييرا».و قال صاحب المسالك:الواجب في قتل العمد بالأصالة هو القود،و هذا هو المشهور بين الفقهاء،و منهم الشيخان- أي الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي-و الأتباع و المتأخرون».

أجل،للقاتل،و ولي المقتول أن يصطلحا،و يتفقا على مبلغ من المال بمقدار الدية،أو أقل،أو أكثر عوضا عن القتل و القصاص.قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف و لا إشكال».و عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:من قتل مؤمنا متعمدا أقيد به إلاّ أن يرضى أولياء المقتول بالدية،و أحب ذلك القاتل.و في رواية ثانية:

العمد كلّ ما عمد به الضرب ففيه القود،لأنّه متلف،يجب به البدل من جنسه،و لا يعدل إلى غيره إلاّ بالتراضي،كسائر المتلفات.

و في هذه الرواية بيان للسبب الموجب للقصاص،و ان المثل هو الأصل،

ص:322

و لا ينتقل إلى غيره إلاّ لسبب موجب،كالتراضي،أو تعذر الاستيفاء بالمثل.

و يستحب لأولياء المقتول العفو عن القاتل،قال تعالى فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ .و قال سبحانه فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ .

و ان لم يعفوا،و طلبوا القصاص بأجمعهم قتل الجاني.أما صورة القتل فهو أن تضرب عنقه بالسيف،و ما إليه من الآلات الحديدية،و لا يجوز بغيرها مهما كان نوع الجناية،حتى و لو كانت حرقا،أو خنقا،أو تسميما،أو إلقاء بالبحر، و غير ذلك.و يجب أن تكون الآلة حادة تجنبا للتعذيب،و غير مسمومة،كي لا يستند القتل إلى غير ضرب العنق.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده، للحديث النبوي»:«إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».

أولياء القتيل:

اتفقوا على أن الزوج و الزوجة لا يرثان حق القصاص،فليس للزوج أن يطالب بقتل قاتل زوجته عمدا،و لا للزوجة أن تطالب بقتل قاتل زوجها كذلك.

و أيضا اتفقوا على أن أقرباء القتيل من أبيه يرثون حق القصاص،و لهم قتل القاتل.

و اختلفوا في قرابة الأم:هل يرثون القصاص؟و ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنهم لا يرثون القصاص،لأن أكثر الفقهاء قالوا بأن قرابة الأم لا يرثون من الدية،فبالأولى أن لا يرثوا القصاص.

و إذا كان ولي القتيل صغيرا أو مجنونا فعلى وليهما أن يراعي مصلحتهما من تعجيل القصاص أو تأجيله أو المصالحة على مبلغ من المال.

ص:323

إرث الدية:

انظر فقرة دية القتيل في باب الإرث من هذا الجزء.

عفو بعض الأولياء دون بعض:

إذا كان أولياء القتيل أكثر من واحد،و عفا بعضهم عنه مجانا،و تقربا إلى اللّه سبحانه،و أصر البعض الآخر على القصاص و قتل القاتل،فهل له ذلك؟و على افتراض أن له أن يقتل القاتل،و يقتص منه،فهل يجب عليه أن يعطي ورثة القاتل من المال مقدار نصيب من عفا من الدية؟ و أجمعوا بشهادة صاحب المسالك و الجواهر على أن عفو البعض لا يسقط حق الباقين في القصاص،و لكن يجب على من يقتص بالقتل أن يعطي لورثة القاتل مقدار نصيب من عفا من الدية.قال صاحب الجواهر:بلا خلاف و لا اشكال،بل لم أجد من تأمل أو تردد في ذلك.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قتلته امرأة،و له أب و أم و ابن،فقال الابن:أريد قتله بأبي،و قال الأب:أنا عفوت،و قالت الأم:أنا أريد الدية؟فقال الإمام:فليعط الابن أم المقتول السدس من الدية-لأنه سهمها-و يعطي ورثة القاتل السدس من الدية،و هو حق الأب الذي عفا عنه،و يقتله.و في رواية ثانية في قتيل له وليان،فعفا أحدهما دون الآخر:ان الذي لم يعف ان أراد القتل رد نصف الدية على أولياء المقتول.

و إذا اتفق بعض أولياء القتيل مع القاتل على إسقاط حقه في القصاص لقاء مبلغ معين،و قبضه منه،و أصر الولي الآخر على القتل و القصاص جاز له ذلك، على شريطة أن يرد لورثة القاتل مقدار ما أخذ الذي أسقط حقه في القصاص،إذ ليس على الجاني أكثر من نفسه.

ص:324

و إذا بادر أحد الأولياء،و اقتص من الجاني قبل أن يستأذن من الولي الآخر ضمن حصته من الدية.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال».

اذن الحاكم:

هل يجب على الولي أن يستأذن في القصاص من الحاكم الشرعي؟ الجواب:كلا،لأن القصاص من الحقوق الخاصة،و لذا يسقط بالإسقاط.

الحامل:

سبق أن الحامل لا يقام عليها الحد من الزنا و غيره،حتى تضع حملها، و يحصل الأمان و الاطمئنان على حياة طفلها،و كذلك أيضا لا يقتص منها إلاّ بعد الوضع.قال صاحب الجواهر:«حتى و لو كان الحمل من الزنا بلا خلاف أجده».

و إذا توقفت حياة الصبي عليها وجب الانتظار إلى أن يستغني عنها.

ص:325

الأعضاء و الجروح

اشارة

تقدم في الفصل السابق أن الجريمة الموجبة للقصاص على نوعين:

قتل النفس،و ما دون القتل،كقطع العضو،أو الجرح من غير قطع،و تقدم الكلام في الفصل السابق عن النوع الأول،و نتكلم في هذا الفصل عن النوع الثاني.

الجرح:

إذا جرح شخص آخر فقد يكون مع الجرح قطع و إبانة،كقطع اليد أو الرجل أو الأذن،و ما إلى ذاك،و قد لا يكون معه قطع و إبانة،كجرح الظهر و البطن.

ثم ان القطع قد يكون من مفصل،بحيث يبقى العضو الذي كان متصلا بالمقطوع سالما،و قد لا يكون كذلك.و ليس من ريب أن القصاص يجري في الجروح، سواء أ كان معها قطع أو لم يكن،و الأصل فيه قوله تعالى وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ أي متقاصة مثلا بمثل،حيث تكون المماثلة ممكنة،كما يأتي.

و شروط القصاص في الجرح،تماما مثل شروط القصاص في القتل،فمن يقتص منه في قتل النفس يقتص منه فيما دون النفس،و من لا يقتص منه في قتل النفس لا يقتص منه فيما هو دونها.فالشروط الخمسة في قصاص القتل،

ص:326

و هي المساواة في الدين و الحرية،و ان يكون القاتل بالغا عاقلا،و المقتول محقون الدم،و القاتل ليس بأب-لا بد من توافرها هنا.و أيضا يتحقق العمد بالمباشرة و التسبيب،و بترتب الجرح مع قصده و ان لم تكن الآلة جارحة في الغالب،أو بقصد الضرب المؤدي إلى الجرح في الغالب،و ان لم يكن الجرح مقصودا حسبما تقدم في قتل النفس دون تفاوت.

الرجل و المرأة:

يقتص للرجل من الرجل مثلا بمثل،و يقتص للمرأة من المرأة كذلك، و أيضا يقتص للرجل من المرأة إذا جنت هي عليه مثلا بمثل،فإذا قطعت يده قطعت يدها،و لا تعطيه شيئا،تماما كما لو قتلته عمدا فإنها تقتل به،و ليس لولي الرجل المقتول أكثر من نفس المرأة القاتلة كما جاء في النص.

دين اللّه لا يصاب بهذه العقول:

و هل يقتص من الرجل للمرأة مثلا بمثل إذا هو جنى عليها؟ و يستدعي الجواب التفصيل التالي :

1-أن يقتلها عمدا،فإنه يقتل بها،على شريطة أن يعطي وليها لورثة الرجل القاتل نصف دية الرجل،كما تقدم في فصل القصاص«فقرة:الرجل و المرأة».و إذا قتلها خطأ أعطى وليها نصف ديتها.و يأتي التفصيل في باب الديات.

2-أن يقطع منها إصبعا،أو اثنتين،أو ثلاثا عمدا،فإنها تستوفي منه،

ص:327

و تقطع ثلاثا من أصابعه قصاصا مثلا بمثل،و لا ترد عليه شيئا من المال،و ان شاءا أن يصطلحا على مبلغ من المال فلهما ذلك،و ان قطع أصابعها الثلاث خطأ فلا قطع،و لها دية ثلاث أصابع كاملة،تماما كما لو قطعت هي منه ثلاث أصابع من دون تفاوت،لا في القصاص،و لا في مقدار الدية.

3-ان يقطع منها أربع أصابع عمدا،فان لها،و الحال هذي،أن تقطع منه أربع أصابع مثلها،على شريطة أن ترد عليه دية إصبعين،و هي عشرون من الإبل كما يأتي في باب الديات،و لها أن تتفق معه على مبلغ من المال عوضا عن أصابعها الأربع.و إذا قطع أصابعها الأربع خطأ أعطاها دية إصبعين فقط،و إذا قطعت هي منه أربع أصابع عمدا فله أن يقطع منها مثلها قصاصا،و إذا قطعتها منه خطأ أخذ منها دية أربع أصابع بالتمام.

و هنا سؤال يفرض نفسه،و يتبادر إلى كل ذهن:كيف تساوت المرأة مع الرجل إذا قطع منها إصبعين،أو اثنتين،أو ثلاثا مثلا بمثل قصاصا و دية،عمدا و خطأ من غير تفاوت،و افترقت عنه إذا قطع منها أربعا فتأخذ منه دية إصبعين في قطع الخطأ.و إذا قطعها عمدا تقطع هي منه أربعا بعد أن ترد عليه دية إصبعين.

مع العلم انها إذا قطعت هي منه أربعا خطأ دفعت له دية الأربع كاملة،و إذا قطعتها عمدا اقتص منها مثلا بمثل من غير رد.بل أعظم من هذا أن تأخذ منه عن دية الثلاث خطأ دية ثلاث أصابع،و عن دية الأربع دية إصبعين!! الجواب:ان السر في ذلك لا يكمن في هذه العقول-أي عقولنا نحن- و انما يكمن في قاعدتين شرعيتين ثبتا بالنص صراحة،و اجمع الفقهاء على العمل بهما:القاعدة الأولى:ان دية المرأة في قتل النفس على النصف من دية الرجل،فإذا قتلته هي دفعت لوليه دية كاملة،و إذا قتلها هو دفع لوليها نصف

ص:328

الدية،و انها تقتل به بلا شرط في قتل العمد،و لا يقتل بها إلاّ بشرط أن ترد إلى ورثته نصف الدية.و هذه القاعدة-كما رأيت-فرقت بين الرجل و المرأة في قتل النفس دية و قصاصا من حيث الشروط و عدمه.

القاعدة الثانية:ان الرجل و المرأة يتساويان قصاصا و دية.و في العمد و الخطأ فيما هو دون قتل النفس،أي في الجرح و القطع،إلاّ إذا بلغت دية الجرح و القتل ثلث دية الرجل فأكثر،فإذا بلغت ديتهما الثلث رجعت دية جرحها و عضوها الى نصف دية جرح الرجل و عضوه،و تصير هي كنصف الرجل،حتى ان دية الأربع أصابع كدية الإصبعين بعد أن كانت تماما كالرجل قبل أن تبلغ دية الجرح الثلث.و على هذا فإذا جرحها الرجل،أو قطعها عمدا،و أرادت الاقتصاص ينظر:فان كانت دية الجرح و القطع دون دية ثلث دية الرجل اقتصت منه بلا قيد و شرط،و ان كانت الدية بمقدار الثلث اقتصت بشرط ان ترد عليه نصف دية الجرح أو القطع.و إذا جرحها أو قطعها خطأ ينظر كذلك فان كانت الدية دون الثلث أخذتها منه تماما كما يأخذ الرجل منها،و ان كان الجرح و القطع بمقدار الثلث فليس لها إلاّ نصف دية العضو و الجرح.

مثلا:إذا قطع هو منها أربع أصابع عمدا فليس لها أن تقطع منه أربعا إلاّ إذا ردت عليه دية إصبعين،لأن دية الأربع أكثر من ثلث دية الرجل،كما يأتي،و إذا قطع الأربع منها خطأ فليس لها إلاّ دية إصبعين.و كذا إذا قطع يدها عمدا،فإنها تقطع يده على أن ترد عليه نصف دية اليد،لأن ديتها أكثر من ثلث دية النفس، و هكذا بالنسبة إلى العين و الاذن،و ما أشبه،و السر الأول و الأخير هو النصف فقط لا غير.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:المرأة و الرجل سواء إلى أن تبلغ ثلث الدية،فإذا

ص:329

بلغت ذلك تضاعف جراح الرجل على جراح المرأة ضعفين.و في رواية ثانية عن ابان بن تغلب:قلت للإمام الصادق عليه السّلام:ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة،كم فيها؟قال:عشر من الإبل.قال ابان:قطع اثنتين؟قال الإمام:

عشرون.قال ابان:قطع ثلاثا؟قال الإمام:ثلاثون.قال ابان:قطع أربعا؟قال الإمام:عشرون.و هنا قال أبان:يا سبحان اللّه!يقطع ثلاثا،فيكون عليه ثلاثون! و يقطع أربعا،فيكون عليه عشرون!!فقال الإمام مهلا يا ابان.ان هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.ان المرأة تقابل الرجل إلى ثلث الدية،فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف.يا أبان إنك أخذتني بالقياس.و السنة إذا قيست محق الدين.

ان قول الإمام:هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و إذا قيست السنة محق الدين- ان قوله هذا صريح في أن عقولنا لا تدرك لهذا الحكم سرا و أنّه تعبدي محض.

بين العضوين:

سبق أن شروط القصاص في القتل لا بد من توافرها في قصاص الطرف و الجرح.و يشترط في قصاص الطرف زيادة على تلك:

أولا:أن يتساوى عضو الجاني مع عضو المجني عليه في السلامة و العيب، أو يكون عضو الجاني سقيما،و عضو المجني عليه سليما،فلا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء،بل تتعين الدية.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قطع يد رجل شلاء؟قال:عليه ثلث الدية.

و إذا رضي الجاني أن تقطع يده الصحيحة بدلا عن اليد المعيبة التي قطعها فلا يصغي إليه،و لا يجوز قطعها بحال ما دام الشارع لم يوجب ذلك.

و تقطع اليد الشلاء بالصحيحة.و الضابط ان العضو السليم يقتص له من

ص:330

السقيم،و لا يقتص للسقيم من السليم.

ثانيا:التساوي في المحل،فتقطع اليمين باليمين،و اليسرى باليسرى، و الإبهام بمثلها،و السبابة كذلك.

و في جميع الحالات لا يجوز القطع إذا خيف على نفس المقتص منه،أو على عضو آخر من أعضائه،أو على عقله،و ما إلى ذاك،لأن العقل لا يجيز إدخال الضرر على الجاني بما يزيد عن جنايته.

بين الجرحين:

إذا جرح انسان آخر اقتص منه مثلا بمثل،لقوله تعالى وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ و القصاص هو المماثلة.هذا مع توافر الشروط لقصاص القتل،و يزيد عليها:

أولا:أن يكون الجرح في اللحم لا في العظم،فإذا كان في العظم امتنع القصاص،و تعين الأرش لعدم الوثوق بالمماثلة،و معنى الأرش هنا تقدير العضو قبل الجناية عليه و بعدها،و هو المعبر عنه بتدارك العطل و الضرر،و المرجع في تقديره أهل الخبرة،و يسمى هذا الأرش،أو من يقدره بالحكومة.

ثانيا:أن يكون الجرح الذي هو قصاص عن غيره في محل الجرح الآخر، و في مساحته طولا و عرضا،لا عمقا على حد تعبير الفقهاء.

ثالثا:أن لا يستدعي القصاص في الجراح التعرض لهلاك نفس المقتص منه،أو تعطيل عضو آخر من أعضائه،أو كسر عظم،فإن استدعى شيئا من ذلك ففيه الحكومة.

ص:331

الضرب:

قال صاحب مفتاح الكرامة في المجلد العاشر،باب القصاص:«لا قصاص في الضرب الذي لا يجرح،كالرفس بالرجل و اللطم و الوكز،و الضرب بسوط أو عصا،فإن حصل بها انتفاخ-أي ورم-أو مرض فالحكومة،و ان حدث تغيير لون،فإن كان احمرارا في الوجه فدينار و نصف،و ان كان اخضرارا فثلاثة دنانير، و ان كان اسودادا فستة،و إذا كانت هذي التغيرات في غير الوجه فعلى النصف مما في الوجه،و ان لم يحدث شيء سوى الألم فالتعزير».

و معنى هذا أنّه لا قصاص إلاّ في القطع و الجرح الذي معه قطع،و يستأنس له بقوله تعالى وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فإن الجروح تشمل كل جرح سواء أ كان معه قطع،أو لم يكن،و لا تشمل الضرب.و ربما تعرضنا مرة ثانية للضرب في آخر باب الديات.

الإثبات:

يثبت القصاص في الجرح و القطع بالإقرار مرة واحدة من البالغ العاقل المختار،و بشهادة رجلين عدلين،و لا تقبل النساء منفردات و لا منضمات و لا يثبت بشاهد و يمين.أجل،قطع الخطأ و جرحه يثبت بشاهد و يمين،و شاهد و امرأتين،لأنّه من الشهادة على المال دون القصاص.

ص:332

السجن

اشارة

تعرضت كتب الفقه و الحديث لمن يجب أو يجوز سجنه في أبواب شتى لمناسبة يستدعيها المقام،و لم أر من جمع مسائله في فصل مستقل،فرأيت أن أفرد هذا الفصل لما تهيأ لي منها تسهيلا على الراغبين في معرفتها.

المرأة المرتدة:

إذا ارتدت المرأة عن الإسلام عرضت التوبة عليها،فان تابت فذاك،و إلاّ تخلد في السجن مع الأشغال الشاقة،و يضيق عليها في المأكل و المشرب و الملبس،و تضرب في أوقات الصلاة.(كتاب الجواهر ج 6 القسم الثاني من كتاب الحدود،و فصل«المرتد و الفاعل بالأموات و البهائم»من هذا الجزء،فقرة المرأة المرتدة).

السارق للمرة الثالثة:

إذا سرق للمرة الأولى تقطع يده اليمنى،فان عاد ثانية تقطع رجله اليسرى.

فإذا سرق للمرة الثالثة حبس مؤبدا.(الجواهر و الوسائل)،و فصل القذف و السكر و السرقة و قطع الطريق من هذا الجزء،فقرة القطع.

ص:333

الإعانة على القتل:

إذا أمسك بشخص و قتله آخر حبس الممسك مؤبدا.(الجواهر و الوسائل باب القصاص).

و في كتاب الوسائل باب القضاء ان الإمام الصادق عليه السّلام قال:«لا يخلد في السجن إلاّ ثلاثة:الذي يمسك على الموت يحفظه،حتى يقتل،و المرأة المرتدة عن الإسلام،و السارق بعد قطع اليد و الرجل».

ثلاثة و ثلاثة:

و أيضا في الوسائل باب القضاء قال الإمام الصادق عليه السّلام:«يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء،و الجهال من الأطباء،و المفاليس من الأكرياء» (1).

و أيضا في الباب المذكور قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:لا يحبس في السجن إلاّ ثلاثة:الغاصب،و من أكل مال اليتيم ظلما،و من اؤتمن على أمانة فذهب بها.

و إذا صحت هذه الرواية عن الإمام فيكون قصده من الحصر بالثلاثة هو حبس التعزير بما يراه الإمام،و إلاّ فإن المرأة المرتدة و الممسك و السارق للمرة الثالثة يحبسون حدا،لا تعزيرا.

و أيضا في نفس الباب قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان على الإمام أن يخرج المحبّسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة،و يوم العيد إلى العيد،فيرسل معهم،فإذا قضوا الصلاة و العيد ردهم إلى السجن.

ص:334


1- جاء في اللغة أن الأكرياء جمع كري،و هو الناعس و النائم،و ربما كان مراد الإمام من المفاليس من الأكرياء الفقراء الكسالى الذين يقدرون على العمل،و لا يعملون.
السجن على ذمة التحقيق:

جاء في كتاب الوسائل عن الإمام الصادق عليه السّلام،باب القصاص:أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام،فإن جاء أولياء المقتول بثبت و إلاّ خلّى سبيله.

و تعرض لذلك صاحب الجواهر في باب القصاص،المسألة الرابعة.

حبس المفلس:

جاء في كتاب الوسائل،باب الحجر عن الإمام الصادق عليه السّلام:أن عليا عليه السّلام كان يحبس في الدّين،فإذا تبين له حاجة و إفلاس خلى سبيله حتى يستفيد مالا.

أنظر الجزء الرابع من كتابنا«فقه الإمام جعفر الصادق»باب القرض و الدين،فقرة«المماطلة مع القدرة»و الجزء الخامس،فصل المفلس،فقرة «حبس المديون».و كتاب الجواهر،باب الدين،و باب الحجر.

فقد ذكرنا في باب القرض و الدين أن من كان له مال ظاهر،و عليه ديون للناس يجوز للحاكم أن يحبسه،حتى يؤدي ما عليه،عملا بحديث:الواجد تحل عقوبته و عرضه.

من خلص القاتل:

جاء في كتاب الوسائل باب القصاص:أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل قتل رجلا عمدا فرفع إلى الوالي،فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه،فوثب عليه قومه فخلصوه من أيدي الأولياء؟قال:أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل من أيدي الأولياء،حتى يأتوا بالقاتل.قال السائل:فان مات القاتل،و هم في

ص:335

السجن؟قال الإمام:ان مات فعليهم الدية،يؤدونها إلى أولياء المقتول.

حبس الكفيل:

قال صاحب الجواهر في الجزء الرابع،القسم الثالث في الكفالة:إذا تكفل شخص بإحضار آخر،و لم يحضره في الوقت المعين فللمكفول له ان يحبس الكفيل عند الحاكم،حتى يحضر المكفول،لأن الإمام الصادق عليه السّلام قال:جيء برجل إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام قد كفّل بنفس رجل فحبسه،و قال:له اطلب صاحبك.

انظر الجزء الرابع من كتاب:فقه الإمام جعفر الصادق،باب الكفالة،فقرة «تسليم المكفول».

الآمر بالقتل:

قال صاحب الجواهر في باب القصاص،الصورة الثانية:«سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن رجل أمر رجلا بقتل آخر،فقتله؟قال:يقتل به من باشر القتل،و يحبس الآمر بقتله في الحبس،حتى يموت.و لا بأس بالعمل- هذا الكلام لصاحب الجواهر-بهذه الرواية بعد صحتها،و عمل غير واحد من الأصحاب بها».

انظر فصل القصاص من هذا الجزء،فقرة:-«الإكراه على القتل أو القطع».

شعر المرأة:

جاء في كتاب الجواهر،باب الديات،المقصد الأول في ديات الأعضاء

ص:336

أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل وثب على امرأة،فحلق رأسها؟قال:يضرب ضربا موجعا،و يحبس في سجن المسلمين،حتى ينبت شعرها،فإن نبت أخذ منه مهر نسائها،و ان لم ينبت أخذت منه الدية كاملة.

ص:337

كتاب الديات

تمهيد:

تقسم العقوبة إلى أدبية و مادية،و الأولى تشمل عقوبة الزنا،و اللواط، و السحاق،و القيادة،و القذف بالزنا و اللواط،و السرقة،و السكر،و قطع الطريق، و الارتداد.و قد نص الشارع على عقوبة هذه الجرائم،و لم يترك لولاة الأمر التصرف في أمر تقديرها،و تسمى حدا،و عقوبة مقدرة و منصوصة.

و أيضا تشمل العقوبة الأدبية العقوبات على الكبائر غير المقدرة في لسان الشارع،كالعقوبة على الغيبة و التزوير،و ما إلى ذلك مما فوض تقديره إلى ولاة الأمر،فيعاقبون عليه بما يرون،و تسمى هذه العقوبة تعزيرا،و عقوبة مفوضة، و غير منصوصة.

و تشمل أيضا العقوبة الأدبية القصاص،أي معاقبة الجاني على جريمة القتل،أو القطع،أو الجرح عمدا مثلا بمثل،و لا تشمل الضرب و الشتم.

و سبق الكلام عن العقوبة الأدبية بشتى أقسامها.و نتكلم الآن عن العقوبة المادية بعنوان الديات،كما فعل الفقهاء.و المراد بها المال الواجب بسبب الجناية على النفس،أو غيرها.و هذا المال الواجب بالجناية منه مقدر في لسان الشارع، كدية النفس و أكثر الأعضاء،و منه ما فوض أمر تقديره إلى الحكومة،أي معرفة

ص:338

الخبراء الموثوق بهم،فيقدّرون التعويض الضرري للمجني عليه،أو لورثته.

و الضابط أن كل ما لا تقدير فيه شرعا ففيه الحكومة،و التفصيل في الصفحات التالية:

دية النفس

الأصل:

و الأصل في الدية قوله تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (1).

و قال الإمام عليه السّلام:ان شاء أولياء المقتول أن يعفوا عن القاتل فعلوا و ان شاءوا قبلوا الدية،إلى غيرها كثير من الروايات.

عمد و خطأ و عمد الخطأ:

الجناية على ثلاثة أنواع:عمد محض،و خطأ محض،و شبه عمد،و يسمى أيضا عمد الخطأ.

و العمد ان يكون عامدا في فعله و قصده،أي يقصد الفعل و القتل،أو يقصد الفعل القاتل،كما مر في فصل القصاص.

و الخطأ المحض أن يكون مخطئا في قصده و فعله،كما إذا رمى حيوانا فأصاب إنسانا.قال صاحب مفتاح الكرامة:«و كذا إذا رمى إنسان فأصاب غيره،

ص:339


1- النساء:91. [1]

و هذا من الخطأ المحض،و مرجعه إلى عدم قصد الشخص».

و شبه العمد أن يكون عامدا في فعله مخطئا في قصده،كمن ضرب صبيا للتأديب فمات،فالضرب مقصود،أما الموت فغير مقصود.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:العمد كل من اعتمد شيئا فأصابه،و الخطأ من اعتمد شيئا فأصاب غيره.و في رواية ثانية:ان ضرب رجل رجلا بعصا أو بحجر فمات من ضربة واحدة قبل أن يتكلم فهو شبه العمد.

و بالإجمال العمد المحض ان يتعمد القتل مباشرا أو تسبيبا،و الخطأ أن يتعمد شيئا فيصيب غيره،و عمد الخطأ أن لا يتعمد القتل فيقع القتل.

متى تجب الدية بالأصل؟

الأصل في جناية العمد القصاص،سواء أ كانت قتلا،أو قطعا،أو جرحا، لأن معنى القصاص المماثلة،و لا يثبت المال إلاّ بالتراضي،و يجوز أن يكون بقدر الدية،و أقل و أكثر كما تقدم.أجل،تتعين دية القتل عمدا المنصوص عليها شرعا إذا فات المحل كما إذا مات القاتل،أو كان أبا للمقتول،أو كان المقتول مجنونا.و تثبت الدية بالأصل في قتل الخطأ المحض،أو شبه العمد،و قد نص الشرع على دية العمد،و الخطأ،و شبه العمد.

دية العمد:

إذا قتل الذكر المسلم عمدا،و من في حكمه،كالمولود على الفطرة فديته ألف دينار (1)أو عشرة آلاف درهم،أو ألف شاة،أو مأتا حلة،أو مائة من الإبل،أو

ص:340


1- قيل:ان الألف دينار تبلغ ثلاث كيلوات و نصفا و 29 غراما من الذهب الخالص،و قدرها كثيرون بخمسمائة ليرة عثمانية ذهبا.

مأتا بقرة.و الخيار بين هذه الأشياء الستة للجاني،لا لولي المجني عليه،و يعطى الجاني مهلة سنة كاملة لتأديتها،و لا تجب المبادرة،كما لا يجوز التأخير عن السنة إلا برضا من يستحق الدية.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام:

منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:كانت الدية في الجاهلية مائة من الإبل فأقرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،ثم فرض على أهل البقر مأتي بقرة،و على أهل الشياه ألف شاة ثنية،و على أهل الذهب ألف دينار،و على أهل الورق-الدراهم-عشرة آلاف درهم،و على أهل الحلل مأتي حلة.و في رواية ثانية:مائة من الإبل.و رواية ثالثة تدل على أن مدار الدية في كل أرض على ما يوجد فيها غالبا.و بهذا يتبين لنا أن المراد من التخيير هو التسهيل و التيسير.

و دية العمد يؤديها الجاني من ماله،لا من مال العاقلة.و قال جماعة من الفقهاء:ان الإبل يجب أن تكون ثنايا فصاعدا،و ان كل حلة ثوبان من برد اليمن.

أما البقر و الشاة فيكفي منهما ما يصدق عليه الاسم.

و لا فرق في ذلك بين أن يكون المقتول كبيرا،أو صغيرا،أو عاقلا،أو مجنونا،أو سليم الأعضاء،أو مفقودها عملا بإطلاق النص.و هذا التعميم يشمل دية العمد،و الخطأ،و شبه العمد.

دية الخطأ و شبه العمد:

تشترك الديات الثلاث:العمد،و الخطأ،و شبه العمد في التخيير بين الستة، و هي الإبل،و البقر،و الغنم،و الحلل و الدراهم و الدنانير.و أيضا تشترك دية العمد مع دية شبه العمد في أن كلا منهما تستوفي من مال الجاني،لا من العاقلة،و ان الخيار للجاني فيهما.

ص:341

و تفترق دية العمد عن دية شبه العمد في أمرين:الأول في أسنان الإبل،لا في عددها،أي في الكيف لا في الكم.الثاني ان الجاني عمدا يمهل سنة لوفاء الدية.أما الجاني شبه العمد فتمهل سنتين.

و تفترق دية العمد عن دية الخطأ المحض في أربعة:1-في أسنان الإبل.

2-أن العامد يدفع الدية من ماله،و المخطئ تدفعها عنه العاقلة.3-أن العامد يمهل سنة للوفاء،و العاقلة تمهل ثلاث سنين.4-أن الخيار بين الأنواع الستة للعامد،أما في دية الخطأ فالخيار للعاقلة.

و تفترق دية شبه العمد عن الخطأ المحض في أن الجاني في شبه العمد يمهل سنتين و الخيار له.و في قتل الخطأ تمهل العاقلة ثلاثا و الخيار لها،و أيضا يفترقان في أسنان الإبل.أما في البقر و الشياه و الحلل و الدراهم و الدنانير فلا فرق بين الجميع لا كما و لا كيفا.و أيضا تفترق دية شبه العمد عن الخطأ في أن الدية في الأول من مال الجاني،و في الثاني من مال العاقلة.

القتل في الأشهر الحرم:

الأشهر الحرم أربعة و هي:رجب،و ذو القعدة،و ذو الحجة،و المحرم.

و اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر على أن من قتل عمدا في هذه الأشهر فعليه دية و ثلث تغليظا في العقاب،لانتهاكه حرمة هذه الأشهر المقدسة.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يقتل في الأشهر الحرم،ما ديته؟قال:عليه دية و ثلث.

و ألحق جماعة من الفقهاء حرم مكة المكرمة بالأشهر الحرم.

ص:342

دية ابن الزنا:

دية ابن الزنا كدية غيره من المسلمين إذا أظهر الإسلام.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بين من تأخر عن المصنف»يريد بالمصنف صاحب كتاب الشرائع الذي هو متن للجواهر،و قد توفي المصنف سنة 676 ه.

دية الذمي:

دية الذمي 800 درهم.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام.و لا دية لغير أهل الذمة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده».

دية المرأة:

دية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل من أنواع الدية الستة المتقدمة عمدا كانت الجناية عليها،أو خطأ،أو شبه عمد،صغيرة كانت،أو كبيرة،و عاقلة،أو مجنونة،سليمة الأعضاء،أو غير سليمة.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و النصوص مستفيضة،أو متواترة،و كذا الجراحات و الأطراف منها على النصف من الرجل ما لم تقصّر ديتها عن ثلث دية الرجل،فان قصرت دية الجناية جراحة،أو طرفا عن الثلث تساويا قصاصا و دية».

و قد أوضحنا ذلك،و شرحناه مفصلا في فصل الأعضاء و الجروح من هذا الجزء،فقرة:«دين اللّه لا يصاب بهذه العقول».

العاقلة:

سبق أن دية العمد و شبهة من مال الجاني،و ان دية الخطأ من مال العاقلة،

ص:343

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن القاتل خطأ لا يتحمل الدية و ان كان غنيا،و كذلك الأنثى و ان كانت من قرابة الأب،و الصبي و المجنون الفقير، و الجنود الذين أعدهم الحاكم للجهاد،و رتب لهم ارزاقا من بيت المال،و من يتقرب بالأم فقط،كل هؤلاء،حتى الوارثين منهم لا يتحملون شيئا من دية الخطأ،و لا يشملهم اسم العاقلة التي تتحمل المال.

و الذين يتحملون دية الخطأ عن القاتل هم العصبة قرابة الأب،كالإخوة و الأعمام،و أولادهم،فان لم يكونوا فضا من الجريرة-مر تفسيره في باب الإرث، فقرة«الولاء»-فان لم يكن فبيت المال،إذ لا يطل دم امرئ مسلم،و لا يشترط فيمن يتحمل الدية أن يكون وارثا في الحال.

و تسأل:هل يدخل الآباء و الأبناء في العاقلة،و يتحملون من دية الخطأ مع من يتحملها من قرابة الأب.

ذهب المشهور بشهادة الشهيد الثاني في المسالك و شرح اللمعة إلى عدم الدخول،و انهم لا يتحملون منها شيئا،لأن الأصل براءة الذمة،حتى يثبت الدليل،و لا دليل إلاّ رواية سلمة،و هي ضعيفة،و ثبوتها على قرابة الأب لا يستدعي ثبوتها على الأب و الابن.

و قال آخرون بدخولهما في العاقلة،و مشاركتهما في تحمل الدية،و من هؤلاء صاحب الشرائع و الجواهر،لأن دية الخطأ على العصبة،و لفظ العصبة تشملهما.

الكفارة:

من قتل مسلما متعمدا فعليه أن يجمع بين عتق رقبة مؤمنة و صيام شهرين

ص:344

متتابعين،و إطعام ستين مسكينا،و تسمى هذه الكفارة بكفارة الجمع.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى النصوص التي منها صحيح ابن سنان:ان الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن المؤمن يقتل عمدا،إله توبة؟قال:ان قتله لإيمانه فلا توبة له،و ان كان قتله لغضب أو سبب من أسباب الدنيا فان توبته أن يقاد منه،و ان لم يكن قد علم به أحد انطلق إلى أولياء المقتول،فأقر عندهم بقتل صاحبهم فان عفوا،و لم يقتلوه أعطاهم الدية،و عتق نسمة،و صام شهرين متتابعين،و اطعم ستين مسكينا.

و لو قد قتله خطأ،أو شبه العمد فعليه أن يدفع الدية إلى أهله،و ان يكفر بعتق نسمة،فإن عجز صام شهرين متتابعين،فان عجز أطعم ستين مسكينا.

و لقد شرحنا الكفارات بشتى أنواعها مع أدلتها في الجزء الخامس،باب الكفارات.

و تجب الكفارة في العمد و الخطأ و شبهه لقتل المسلم ذكرا كان،أو أنثى، كبيرا أو صغيرا،عاقلا،أو مجنونا،و لا تجب لقتل غير المسلم عمدا كان القتل، أو خطأ.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه».

و أيضا لا تجب الكفارة إطلاقا إلاّ إذا باشر الفاعل القتل بنفسه،أمّا إذا كان السبب للقتل،كمن طرح حجرا،أو نصب سكينا،أو حفر حفره في غير ملكه فمات بسبب ذلك من مات فان على الفاعل المسبب الدية دون الكفارة.

التسبيب:

تقدم في باب القصاص فقرة«المباشرة و التسبيب»ان الجناية قد تكون بالمباشرة.و قد تكون بالتسبيب،و ذكرنا بعض الأمثلة للتسبيب.و قد أطال الفقهاء

ص:345

في باب الديات ذكر هذه الأمثلة،و نعرض فيما يلي طرفا منها:

1-ذكر العلامة الحلي في القواعد،و صاحب مفتاح الكرامة في شرحها:

أن من قفز من علو عن قصد فصادف وقوعه على غيره فقتله،فان كان قد قصد الوقوع عليه،و كان مثل هذا الفعل يقتل في الغالب فهو من قتل العمد،حتى و لو لم يقصد القتل،لأنه قاصد للفعل القاتل،و ان كان مثل هذا الفعل لا يقتل في الغالب فهو شبه عمد ان لم يقصد به القتل،و عمد ان قصد القتل.

2-و في مفتاح الكرامة أيضا:إذا ألقى الهواء شخصا على آخر قهرا عنه، أو انزلق فوقع عليه فمات فلا ضمان على الواقع،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل يسقط على رجل،فيقتله؟قال:لا شيء عليه.

و تسأل:لقد اتفقوا على أن النائم يضمن ما يتلفه بانقلابه نفسا كان التالف، أو غيرها،و انما اختلف الفقهاء في محل الضمان:هل هو العاقلة،أو النائم،إذا كان التالف نفسا،و على هذا يجب أن يضمن الزالق و من ألقاه الهواء،أو تضمن عنه العاقلة على الخلاف في النائم؟ الجواب:فرق واضح بين من ألقاه الهواء قهرا عنه،و بين النائم،لأن الأول، تماما كالآلة الصماء في نظر العرف.أما الثاني فيستند إليه في نظرهم،و ان كان فاقد الشعور،تماما كالمجنون،و الصبي غير المميز.

3-من دعا غيره،فأخرجه من منزله ليلا،و لم يعد فعليه الدية من ماله،لا من مال العاقلة.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا دعا الرجل أخاه بالليل فهو ضامن،حتى يرجع إلى بيته».

و تسأل:إذا وجد مقتولا فما هو الحكم؟ الجواب:إذا ادعى من أخرجه على شخص أنّه القاتل،و أثبت عليه بالبينة

ص:346

فقد بريء،و إلاّ فلا يقتص منه،و لكن يدفع الدية من ماله،لا من مال العاقلة.قال صاحب الجواهر:«نصا و فتوى مضافا إلى أصالة براءة العاقلة من الدية».

سؤال ثان:فإذا وجد ميتا فما هو الحكم؟ قال صاحب الجواهر:إذا علم أنه قد مات حتف أنفه فلا شيء على من أخرجه،و مع عدم العلم بذلك فعليه الدية،لإطلاق أدلة الضمان.

4-من ملك حيوانا،و هو يعلم أنّه لو أطلقه يجني على الناس و أموالهم فيجب عليه إمساكه و حفظه،سواء أ كان الحيوان كلبا أو بعيرا أو فرسا أو ثورا أو غير ذلك،فإذا أهمل صاحبه،و أحدث الحيوان حدثا ضمن جنايته.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و اشكال».فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن جمل هاج، فقتل رجلا،فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسيف،فعقره؟قال:صاحب الجمل ضامن للدية،و يقتص ثمن جمله».

و إذا كان جاهلا بحاله،حيث لم يكن ذلك من عادته،أو كان عالما،و لكنه احتاط،و لم يفرط فلا ضمان عليه.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا صال الفحل أول مرة لم يضمن صاحبه،فإذا ثنّى ضمن.

و ذكرنا طرفا من ذلك في باب الإجارة و الغصب.

ص:347

دية الأعضاء و المنافع و الشجاج

اشارة

تبين مما سبق أن الجناية على النفس عمدا توجب القصاص،و تجوز الدية مع التراضي،و ان الجناية عليها خطأ أو شبه العمد توجب الدية،و ان الجناية على ما دون النفس قد تكون عمدا و خطأ و شبه العمد،و انها ان كانت جرحا أو قطعا عن عمد،و أمكن القصاص مثلا بمثل جاز القصاص،و ان لم تكن جرحا و لا قطعا،أو كانت و تعذرت المماثلة تعين الأرش.و سبق أيضا بيان دية النفس.

و نتكلم الآن عن دية الأعضاء كاليد و الرجل،و دية المنافع،كالعقل و السمع.

و كل ما فيه تقدير معين في الشرع مما هو دون النفس اقتصر فيه على ما عينه الشارع،و كل ما لا تقدير فيه ففيه الأرش المسمى بالحكومة.و المراد بالأرش تدارك العطل و الضرر الذي تقدره أهل الخبرة،و تحكم به.و جاء في النص التقدير لثمانية عشر عضوا من أعضاء الإنسان كما في الجواهر،و نلخصها فيما يلي،ثم نذكر بعدها المنافع.

الأعضاء
1-الشعر:

من تسبب بإزالة شعر رأس انسان،بحيث لا ينبت أبدا فعليه دية قتل نفس كاملة،ذكرا كان أو أنثى،لأنه شيء واحد في الإنسان.و قد أجمعوا على أن كل ما

ص:348

يكون في بدن الإنسان منه واحد فقط فان فيه الدية كاملة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل دخل الحمام فصب عليه ماء حارا فامتعط شعر رأسه، و لحيته فلا ينبت أبدا؟قال:عليه الدية.

و ان زال الشعر،ثم نبت ففيه الأرش ان كان ذكرا،لعدم النص على التقدير، و ان كان امرأة ففيه مهر أمثالها.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل وثب على امرأة فحلق رأسها؟قال يضرب ضربا موجعا،و يحبس في سجن المسلمين،حتى ينبت شعرها،فان نبت أخذ منه مهر نسائها،و ان لم ينبت أخذت منه الدية كاملة.

و في شعر اللحية الدية كاملة ان لم ينبت،و ان نبت فالأرش،و قيل:ثلث الدية ان نبت،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:قضى علي أمير المؤمنين عليه السّلام في اللحية إذا حلقت فلم تنبت فالدية كاملة،و ان نبتت فثلث الدية.

و في شعر الحاجبين معا 500 دينار،و في كل واحد 250.قال صاحب الجواهر:«وفاقا للأكثر،بل المشهور على ذلك».

و ذهب أكثر الفقهاء بشهادة الشهيد الثاني في شرح اللمعة إلى أن في الأهداب الأربعة ان لم تنبت الدية كاملة،و فيما دون الأربعة الأرش،و كذا ان نبتت،و الأهداب الأربعة هي الشعر النابت على الأجفان الأربعة،لكل عين جفنان أعلى و أسفل.

و فيما عدا ذلك من الشعر،كالنابت على الصدر و الساعد و الساق،و ما إليه يثبت فيه الأرش.

ص:349

2-العين:

في العينين معا الدية كاملة،و في واحدة نصف الدية إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:كل ما كان في الإنسان اثنان ففيهما الدية،و في أحدهما نصف الدية،و ما كان فيه واحد ففيه الدية.

قال صاحب الجواهر:و لا فرق بين العين الصحيحة،و العمشاء،و الحولاء، و الجاحظة.و العمشاء ضعيفة البصر مع سيلان دمعها في الغالب،و الجاحظة خارجة المقلة.

و في العين الصحيحة من الأعور خلقة،أو بآفة من اللّه على حد تعبير الفقهاء دية كاملة،لأنها بالنسبة إليه بمنزلة العينين،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:في عين الأعور دية كاملة.

3-الأنف:

و في الأنف دية كاملة إذا استؤصل،لأنه واحد في الإنسان،و كل ما كان في الإنسان واحد ففيه الدية.

و في المنخر الواحد نصف الدية،لأن الأنف يشتمل على منخرين،و كل ما كان في الإنسان اثنان ففي أحدهما نصف الدية.

4-الاذن:

في الأذنين الدية،و في كل واحدة النصف،تماما كالعينين و المنخرين.

و لا فرق بين الاذن الصحيحة،و بين الصماء،لأن قوة السمع شيء،و الاذن شيء آخر،فقد يكون للإنسان سمع بلا اذن،و قد يكون له اذن بلا سمع.و يأتي عند

ص:350

الكلام في المنافع،ان ذهاب السمع موجب للدية الكاملة،لأنه تماما كالعقل.

و إذا قطع بعضها اعتبرت مساحة المجموع من أصل الاذن،و ينسب المقطوع إليه،و تثبت الدية بالنسبة،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:و ما قطع منها غير الشحمة فبحساب ذلك.

5-الشفة:

حكم الشفتين حكم الأذنين.و قيل في الشفة العليا ثلث الدية،و في السفلى الثلثان،لأنها تمسك الطعام و الشراب،و ترد اللعاب.

6-اللسان:

و فيه الدية كاملة،لأنه واحد،أما الأخرس فقال صاحب الجواهر:لا خلاف في أن فيه ثلث الدية.لقول الإمام عليه السّلام في لسان الأخرس،و عين الأعمى ثلث الدية.

7-الأسنان:

مجموع أسنان الفم 28،و فيها جميعا تمام الدية،و في بعضها دون بعض تفصيل بين الثنيتين،و الرباعيتين،و النابين و الأضراس على الوجه الذي جاء في رواية عن الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام،و عمل بها الفقهاء بشهادة صاحب المسالك و الجواهر،و هذي هي:

قيل للإمام عليه السّلام:ان بعض الناس له في فيه اثنان و ثلاثون سنا،و بعضهم له ثمان و عشرون سنا،فعلى كم تقسم دية الأسنان؟فقال:الخلقة انما هي 28،اثنتا

ص:351

عشر في مقاديم الفم،و ست عشرة سنا في المؤخرة،و على هذا قسمت دية الأسنان،فدية كل سن من المقاديم إذا كسر،حتى يذهب خمسمائة درهم،و هي 12 سنا،فديتها 6000 آلاف درهم،و دية كل سنّ من الأضراس إذا كسر،حتى يذهب 250 درهما،و هي 16 سنا،و ديتها كلها 4000 درهم،فتجمع دية المقاديم،و دية المؤخرة من الأسنان 10000 درهم،و انما وضعت الدية على هذا،أما ما يزيد على 28 سنا فلا دية له،و ما نقص فلا دية له.

و قوله:و ما يزيد لا دية له معناه أن الزائد لا توزع عليه الدية،و لكن فيه الحكومة كما هو اختيار صاحب الجواهر و كثير غيره من الفقهاء،أما قوله:و ما نقص فلا دية له فمعناه أنّه ينقص من الدية بمقدار ما يلحق الناقص منها لو كان موجودا.

ثم انّه لا فرق بين السن السوداء و البيضاء و الصفراء بحسب الخلقة.

8-العنق:

إذا كسر عنقه فمال،أو تعذر عليه البلع و الازدراد فعليه تمام الدية،و إذا بقي كذلك أياما ثم صح،و عاد إلى حاله الطبيعية فعليه تدارك العطل و الضرر الذي تقدره أهل الخبرة.

9-اللحيان:

و في اللحيين دية كاملة،و في أحدهما نصف الدية،و فيهما مع الأسنان ديتان،و مع بعضها بحسابه،و اللحيان هما العظمان اللذان تنبت اللحية على بشرتهما،و يتصل كل واحد منهما بالأذن.

ص:352

10-اليدان:

في اليدين تمام الدية،و في واحدتهما النصف عملا بقاعدة:كل ما فيه واحد فالدية،و ما فيه اثنان فنصفها.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى النصوص العامة و الخاصة،و تتساوى اليمنى و اليسرى،و ان كانت اليمنى أقوى و أنفع،كما يتساوى من له يدان،و من ليس له إلاّ يد واحدة،و قياس من له يدان على من له عين واحدة اجتهاد في مورد النص».

و ليس للأصابع دية إذا زالت تبعا لليد،و لها الدية إذا قطعت لوحدها،و فيما يلي البيان.

11-الأصابع:

في الأصابع العشر الدية كاملة،سواء أ كانت في اليدين،أو في الرجلين.

قال صاحب الجواهر:إجماعا و نصا.انظر فصل الأعضاء و الجروح،فقرة«دين اللّه لا يصاب بهذه العقول».

و في الإصبع الزائدة ثلث دية الأصلية.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف قال الإمام الصادق عليه السّلام:في الإصبع الزائدة إذا قطعت ثلث دية الصحيحة».

12-الظهر:

إذا كسر الظهر،و لم يصلح فعلى الجاني تمام الدية.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يكسر ظهره؟قال:فيه الدية كاملة.و في العينين الدية، و في إحديهما النصف،و في الأذنين الدية،و في إحديهما النصف،و لو قطعت الحشفة فقط من الذكر فنصف الدية،و إذا قطع ما فوقها فالدية،و في الأنف إذا

ص:353

قطع المارن الدية كاملة،و في الشفتين الدية.

13-النخاع:

و في النخاع الدية كاملة.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،لأنه عضو واحد في البدن،فيعمه الضابط».

و النخاع هو الخيط الأبيض في وسط سلسلة الظهر،و لا قوام للإنسان إلاّ به.

14-الثديان:

في ثديي المرأة معا ديتها،أي نصف دية الرجل،و في إحديهما نصف ديتها،و في انقطاع اللبن عنهما العطل و الضرر.

و في ثديي الرجل ديته،و في واحدهما النصف،و الدليل ما أشرنا إليه أكثر من مرة من أن ما في الإنسان منه اثنان ففي كل واحد نصف الدية.أما الدليل على العطل و الضرر إذا انقطع لبن المرأة فلأن كل ما لا تقدير له شرعا ففيه الحكومة.

15-القضيب و الخصيتان:

إذا قطع القضيب من الأصل،أو قطعت الحشفة بكاملها فعلى الجاني الدية كاملة،لأنه واحد في الإنسان فتثبت فيه الدية،و لا فرق بين قضيب الشيخ و الشاب و الطفل الصغير.

و في الخصيتين تمام الدية،و في إحديهما النصف،لأنهما اثنتان في الإنسان:و في رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام:أن في الخصية اليسرى ثلثي الدية، و في اليمنى الثلث،لأن الولد يخلق من اليسرى لا من اليمنى.و عمل بهذه الرواية

ص:354

البعض،و أهملها البعض الآخر.و قال الشهيد الثاني:و قد أنكر ذلك بعض الأطباء.

16-الشفرتان:

الشفرتان هما اللحم المحيط بفرج المرأة إحاطة الشفتين بالفم،و فيهما معا دية المرأة،و في إحديهما نصف ديتها للقاعدة المعروفة،و لا فرق في ذلك بين البكر و الثيب،و الصغيرة و الكبيرة،و الجميلة و القبيحة.

17-الأليتان و الرجلان:

في كل من الأليتين معا،و الرجلين معا تمام الدية،و في واحدة منها نصف الدية،لقاعدة:كل ما في الإنسان منه اثنان ففيهما الدية،و في إحديهما نصف الدية.

و قال صاحب الجواهر:لا خلاف في أن حد الرجل هو مفصل الساق،لأنه الذي يدل عليه العرف و اللغة.

18-الإفضاء:

المراد بالإفضاء هنا،كما في شرح اللمعة للشهيد الثاني،و القواعد للعلامة الحلي:و جامع المقاصد للمحقق الكركي.المراد به أن يصير مسلك البول و الحيض،أو مسلك البول و الغائط واحدا من فرج الأنثى،فإذا حصل الإفضاء بأحد هذين فعلى الفاعل الغرامة على التفصيل التالي:

1-أن يكون الفاعل زوجا،أو ما في حكمه كالواطئ بشبهة،و الموطوءة

ص:355

دون التاسعة،فيثبت عليه المهر و الدية معا.أما المهر فلاستقراره بالدخول،و أمّا الدية فلذهاب منفعة الوطء،و للإجماع و النص.

و تحرم عليه مؤبدا بالإضافة إلى وجوب المهر و الدية،و تجب عليه نفقتها، حتى يموت أحدهما،و مع ذلك كله لا يجوز لها الزواج بغيره إلاّ بالطلاق أو بموته،و إذا طلقها و تزوجت سقطت عنه نفقتها،و قيل:لا تسقط بالزواج من غيره.

2-أن يدخل الزوج بها بعد بلوغها،و يحصل الإفضاء بسبب الدخول، و لا شيء عليه سوى المهر و النفقة،كسائر الزوجات،لأنه فعل مأذون به شرعا، إلاّ إذا تعدى و تجاوز المألوف بين الزوجين.

3-أن يكون الواطئ أجنبيا لا زوجا،و حينئذ ينظر:فان كانت صغيرة فعليه ديتها و مهر أمثالها،مكرهة كانت،أو مطاوعة،إذ لا أثر لإذن الصغير،و ان كانت كبيرة و مطاوعة،فلا مهر لها،لأنها بغي،و لكن عليه ديتها،لأن الإذن بالجماع ليس إذنا بالإفضاء،على أن الاذن به لا اثر له من حيث الجواز الشرعي.

و بالإجمال ان المهر يثبت بمجرد الدخول بالكبيرة غير البغي،و بالصغيرة مطلقا زوجة كانت،أو أجنبية،أذنت،أو لم تأذن.أما الدية فتجب للأجنبية،حتى و لو كانت بغيا،و للزوجة الصغيرة،و لا تجب للزوجة البالغة.قال صاحب الجواهر في المجلد الخامس،باب الزواج،المسألة السادسة في تحريم وطء الزوجة غير البالغة.

«لا إشكال في وجوب المهر بإفضائها مطلقا صغيرة كانت أو كبيرة،زوجة أو أجنبية إلاّ إذا كانت مملوكة أو بغيا.و لا خلاف معتد به في وجوب الدية بإفضاء الزوجة قبل بلوغها التسع.و الظاهر ثبوت الدية بإفضاء الأجنبية،صغيرة كانت أو

ص:356

كبيرة،مملوكة أو حرة،موطوءة بشبهة،أو بزنا،مطاوعة أو مكرهة».

19 الأضلاع:

جاء في مفتاح الكرامة أن الأضلاع قسمان:قسم يخالط القلب و فيه لكل ضلع إذا كسر 25 دينارا،و قسم لا يخالطه،و يلي العضدين،و فيه لكل ضلع إذا كسر 10 دنانير.

20-كسر العظام:

ما ذكرناه من الدية هو لقطع العضو،فإذا لم يقطع،و كان فيه عظم،و كسر العظم فإن في كسر كل عظم من عضو له دية مقدرة خمس دية ذلك العضو،كما جاء في قواعد العلامة الحلي.

أشياء أخرى:

و هناك ديات و غرامات كثيرة غير ما ذكرنا جاءت في كتب الفقه و الحديث.منها ما جاء في كتاب الوسائل عن الإمام الصادق عليه السّلام:أن أمير المؤمنين عليا قضى في الظفر إذا قطع و لم ينبت،أو خرج أسود فاسدا عشرة دنانير،فإن خرج أبيض فخمسة دنانير.

و«منها»ما جاء في الجواهر:أن الترقوة إذا كسرت،و جبرت من غير عيب فيها أربعون دينارا،و الترقوة هي العظم بين ثغرة النحر و العاتق.

إلى غير ذلك،و قد جاء في الوسائل و غيرها:ان الإمام الصادق عليه السّلام قال:

عندنا كل ما يحتاج إليه الناس-من أحكام-حتى الأرش في الخدش.

ص:357

المنافع:
اشارة

المراد بالمنافع قوى النفس و غرائزها،كالادراك،و الإبصار،و السمع، و الشم و الذوق و ما إليه،و ذكر الفقهاء لجملة من دياتها،و تجدر الإشارة إلى أنّه لا قصاص فيها،حتى مع العمد،لتعذر المماثلة.

1 العقل:

العقل،من جنى على آخر بجناية ذهب عقله بسببها فعليه دية كاملة لأنه واحد في الإنسان،و كل ما كان واحد منه ففيه الدية.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف.قال الإمام الصادق عليه السّلام قضى علي عليه السّلام في رجل ضرب رجلا بعصا فذهب سمعه و بصره و لسانه و عقله و فرجه و انقطع جماعه،و هو حي،قضى بست ديات».

و تسأل:إذا رجع للمضروب عقله و رشده بعد أن أخذ الدية من الجاني فهل يجب أن يردها إليه؟ الجواب:لا فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن ذلك؟ فقال:لا يردها،قد مضت الدية بما فيها.

2 السمع:

إذا جنى عليه جناية ذهب بها سمعه من الأذنين فعليه الدية كاملة مع اليأس من الشفاء،و ان ذهب السمع من اذن واحدة فنصف الدية،و مع عدم اليأس، و رجاء الشفاء ينتظر فإن عاد السمع فالحكومة بتدارك العطل و الضرر،و ان لم يعد فالدية بتمامها.

ص:358

و المرجع في إمكان الشفاء،و مدّة الانتظار أهل الخبرة.

و إذا ذهب السمع بقطع الأذنين فعليه ديتان كاملتان:واحدة للسمع، و أخرى للاذنين.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف،و لا إشكال للأصل،و إذا ذهب السمع كله بقطع إحدى الأذنين فدية و نصف».

3 ضوء العين:

في ضوء العينين معا الدية،و في ضوء إحداهما النصف.قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك مضافا إلى النصوص عموما و خصوصا من غير فرق بين أفراده شدة و ضعفا،حتى الأعشى-يبصر بالنهار دون الليل-بل و الذي على عينيه بياض لا يمنعه من الأبصار».

4 الشم:

في إبطال الشم من المنخرين الدية،و من أحدهما نصفها،و ان ادعى المجني عليه ذهاب الشم منه امتحن بالروائح الطيبة و الكريهة،و حكم بما يثبت.

5 الذوق:

قال العلامة الحلي في القواعد:«في الذوق الدية».للقاعدة المعروفة كل ما في الإنسان منه واحد ففيه الدية.قال صاحب مفتاح الكرامة:«و يمكن أن يستدل عليه زيادة على ذلك أن الذوق منفعة الإنسان.و قد أبطله الجاني،و تقرر أن في اللسان الدية،و أنه إحدى المنافع،كالسمع و الشم ففيه الدية مثلها،بل هو أعظم من الشم».

ص:359

6-ذهاب المني:

إذا جنى عليه فتعذر إنزال المني حين الجماع فعليه الدية كاملة.قال الشهيد الثاني:«لفوات الماء المقصود للنسل،و في معناه تعذر الاحبال في الرجل، و الحبل في المرأة،و ان انزل المني لفوات النسل،لكن في تعذر الحبل دية المرأة إذا ثبت استناد ذلك إلى الجناية».

7 النطق:

إذا ذهب نطقه،و بقي لسانه فعليه الدية كاملة،و إذا عجز بسبب الجناية عن النطق ببعض حروف المعجم اعطي كل حرف واحد من 28 من الدية،لأنها عدد حروف المعجم.قال الإمام الصادق عليه السّلام جيء إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام برجل ضرب،فذهب بعض كلامه،و بقي البعض،فجعل ديته على حرف المعجم،ثم قال:تكلم بالمعجم،فما نقص من كلامه فبحساب ذلك،و المعجم 28 جزءا.

و بعد أن نقل صاحب الوسائل هذه الرواية قال:هذا أقوى و أشهر.

8 سلس البول:

سلس البول هو رشحه،لعدم القوة الماسكة له،و ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن فيه الدية،لأن هذه القوة واحدة في الإنسان.و فيه رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام ضعيفة السند،و لكن عمل الفقهاء بها جابر لضعفها،كما قال صاحب الجواهر.

ص:360

الشجاج:

تقدم أن القتل عمدا يوجب القصاص،و تجوز المصالحة على مبلغ يتراضى عليه الطرفان،و ان القطع و الجرح مع إمكان المماثلة،و مع عدم إمكانها أو الجناية خطأ فالدية.و تقدم أن المنافع كالادراك و السمع و ضوء العين لا قصاص فيها لعدم إمكان المماثلة،و ان الدية هي المتعينة.

و نتكلم الآن عن الشجاج،و تجمع على شجّة،و هي الجرح المختص بالرأس،أو الوجه فقط،و قسم الفقهاء الشجاج إلى ثمانية أصناف تبعا للنص، و كل صنف منها إذا وقع عمدا،و كان القصاص ممكنا مثلا بمثل ففيه القصاص أو الصلح بين الجاني و المجني عليه،و إلاّ فالدية،تماما كغيرها،و الأصناف الثمانية هي:

1-الحارصة،و هي التي تقشر الجلد و تخدشه،و فيها بعير.

2-الدامية،و هي التي تقطع الجلد،و تأخذ في الحكم يسيرا،و فيها بعيران،و وجه التسمية بالدامية أن الدم يسيل معها.

3-الباضعة،و هي تأخذ في اللحم كثيرا،و لا تبلغ العظم،و فيها ثلاثة أبعرة،و وجه التسمية أنّها تبعض اللحم و تقطعه.

4-السمحاق،و هي الجلدة الرقيقة على العظم،فمتى بلغها الجرح فديته أربعة أبعرة.

5-الموضحة،و هي تكشف عن العظم،و توضحه،و لكن لا تهشمه، و فيها خمسة أبعرة.

6-الهاشمة،و هي التي تهشم العظم،و تكسره،و لكنها لا تشقه،و فيها عشرة أبعرة.

ص:361

7-المنقّلة،و هي التي تنقل العظم و تزيله عن محله،و فيها خمسة عشر بعيرا.

8-المأمومة،و هي التي تبلغ أم الرأس،و فيها ثلاثون بعيرا.

و في كل ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام ذكرها صاحب الوسائل و الجواهر في باب الديات،و تجدر الإشارة إلى أن شجاج الرجل و المرأة سواء في الدية إلى أن تبلغ ثلث دية الرجل،و عندها يكون لشجاج المرأة نصف ما لشجاج الرجل،تماما كما هو الحكم في القطع و سائر الجروح،و ذكرنا ذلك مفصلا في فصل الأعضاء و الجروح،فقرة«دين اللّه لا يصاب بهذه العقول».

لواحق
الجنين:

إذا جنى على امرأة حامل فأسقطت حملها ففيه التفصيل التالي:

1-إذا كان قد ولجته الروح فعلى الجاني دية الرجل ان كان الجنين ذكرا، و دية المرأة ان كان أنثى،و مع الاشتباه:هل هو ذكر أو أنثى؟فنصف دية الذكر، و نصف دية الأنثى.

2-إذا كان الجنين تام الخلقة،و لكن لم تلجه الروح فديته مائة دينار،من غير فرق بين الذكر و الأنثى.

3-إذا كان عظما فثمانون دينارا.

4-إذا كان مضغة فستون دينارا.

5-إذا كان علقة فأربعون دينارا.

6-إذا كان نطفة مستقرة في الرحم،و مستعدة لتكوين الجنين فعشرون دينارا.

ص:362

قال الإمام عليه السّلام:دية الجنين خمسة أجزاء:خمس للنطفة 20 دينارا و للعلقة خمسان 40 دينارا،و للمضغة ثلاثة أخماس 60 دينارا،فإذا تم الجنين كان له مائة دينار،فإذا أنشِئ فيه الروح فديته ألف دينار،أو عشرة آلاف درهم ان كان ذكرا، و ان كان أنثى فخمسمئة دينار.و ان قتلت المرأة،و هي حبلى،فلم يدر أذكر كان ولدها،أو أنثى فدية الولد نصفان:نصف دية الذكر و نصف دية الأنثى،أما هي فديتها كاملة.

الجناية على الميت:

جاء في روايات عن أهل البيت عليهم السّلام التشدد في احترام الإنسان الميت، و تحريم الاعتداء عليه،و ان له دية مقدرة بمئة دينار،تماما كدية الجنين التام الخلقة قبل ان يلجه الروح،و معنى جعل الدية له مع العلم بأنه لا روح فيه أن من قطع منه عضوا منفردا في الإنسان كالرأس و اللسان و الذكر فعلى الجاني مائة دينار،و إذا كان للعضو ثان كاليد و الرجل و العين و الأذن ففي كل واحدة 50 دينارا،نصف دية الميت.و هكذا سائر الأعضاء بحسب ديته،فللاصبع 10، و للاثنتين 20 دينارا إلى آخره،و لا فرق بين الذكر و الأنثى،و لا بين الصغير و الكبير،لإطلاق النصوص الشاملة على السواء لأنها جميعا وردت بلفظ الميت.

و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قطع رأس ميت؟قال:عليه مائة دينار.فقال له السائل:و لمن تعطى المائة دينار؟قال الإمام:ليس فيها لورثته شيء، و انما هذا شيء صار إليه في بدنه بعد موته،فيحجّ به عنه،أو يتصدق به عنه،أو يصير في سبيل من سبل الخير.

و من أجل هذا أفتى الفقهاء بأن دية الميت تنفق عنه في وجوه الخير و البر،

ص:363

و لا يعطى الوارث منها شيئا،و لا تقضى منه ديونه إلاّ إذا لم يترك شيئا على الإطلاق.و لكن صاحب الجواهر يميل إلى أن الدين يوزع عليها،و على غيرها مما ترك ان كان قد ترك،و أصر الوارث على التوزيع.

الضرب:

جاء في كتاب الجواهر،باب الديات ما يتلخص بأن الجناية إذا كانت بالضرب بالكف أو بالعصا ففيها التفصيل التالي:

1-أن يضربه على وجهه،و يسود الوجه من أثر الضربة،فيغرم الجاني للمضروب 6 دنانير.

2-أن يخضر الوجه،و لا يسودّ فثلاثة دنانير.

3-أن يحمر،و لا يخضر فدينار و نصف.

قال الإمام الصادق عليه السّلام قضى الإمام علي عليه السّلام في اللطمة بسواد أثرها في الوجه ستة دنانير،و ان لم تسود و اخضرت فثلاثة دنانير،و ان احمرت و لم تخضر فدينار و نصف.

4-أن يكون الضرب في البدن لا في الوجه،فالدية على النصف من الضرب على الوجه،أي ثلاثة دنانير مع الاسوداد،و دينار و نصف مع الاخضرار، و ثلاثة أرباع الدينار مع الاحمرار.قال صاحب الجواهر:«لا أجد خلافا بينهم في ذلك».

ص:364

الاجتهاد

المجتهد:

المجتهد في اللغة الذي يجد و يبالغ في طلب الشيء،أو أي شيء،و في اصطلاح الفقهاء هو الذي يعرف أصول الشريعة بكاملها،و ما تنطوي عليه من أحكام و يملك القدرة التامة على استنباط هذه الأحكام،وردها إلى أصولها،أي يعرف أن الأدلة الشرعية أربعة:الكتاب،و السنة،و الإجماع،و العقل.و أيضا يميز بين آيات الأحكام و غيرها و بين الصحيح و الضعيف من روايات هذا الباب، و بين ما أجمع عليه الفقهاء و ما اختلفوا فيه،و بين القواعد المقررة بحكم العقل و العقلاء جميعا،فإذا أراد أن يعرف حكمها عند اللّه بحث عنه و نقب في مفردات هذه الأصول و مواردها،فإذا رأى بعضها ينطوي على حكم الحادثة استطاع باستيفاء لمؤهلات النظر،و وسائل المعرفة أن يكشف عنه الغموض،و يبرزه بصورة عامة،و يسمى هذا التمحيص الدقيق استنباطا.

فالمجتهد أشبه بمن يعرف أن في هذه الأرض نوعا خاصا من المعدن، و يعرف أيضا الوسيلة إلى استخراجه و تصفيته و الانتفاع به.أما المقلّد فإنه يجهل مصادر الشريعة و أدلتها من الأساس،أو يعرف أسماءها و عددها،و لكنه لا يعرف ما تنطوي عليه من أحكام أو يعرف ذلك على سبيل الإجمال،و يعجز عن

ص:365

التفصيل و عملية الاستنباط من رد الفرع إلى الأصل و استخراج الفرع منه تماما كمن يعرف نوع المعدن في الأرض،و لا يعرف الوسيلة إلى استخراجه و تصفيته، و لذا لا يسأل المقلّد عن كتاب اللّه،و سنة نبيه إذا أراد معرفة حكم من الأحكام، و انما يسأل عن فتوى الإمام الذي يقلّده،و يدين بمذهبه،و يعتبره حجة عليه في أمور دينه.فالفرق بينه و بين المجتهد،تماما كالفرق بين الذي يستقي من النبع بنفسه،و بين من يشرب من إناء غيره.

أقسام الاجتهاد:

اشارة

ينقسم الاجتهاد باعتبار مورده إلى أقسام :

1-أن يجتهد المكلف في مورد النص القطعي ثبوتا و دلالة

،و معنى قطعي الثبوت أن نعلم بوجوده يقينا،لوروده في كتاب اللّه،أو سنة رسول اللّه التي جاءنا بها الخبر المتواتر الذي لا تتطرق إليه الريبة.و معنى قطعي الدلالة أن يكون واضحا وضوحا لا يقبل الشك،و لا يحتمل التأويل.

و قد اجمع المسلمون قولا واحدة،السنة منهم و الشيعة،على منع هذا الاجتهاد و ان جوازه لا يمكن بحال أن يكون محلا للبحث و التساؤل لأن الاجتهاد انما يكون في النظريات لا في البديهيات و لأن هذا الاجتهاد يؤدي إلى محق الدين،و تعطيل النصوص و بالتالي إلى جحود الإسلام،لأن معنى هذا الاجتهاد في حقيقته:قال اللّه و أقول.هذا،إلى أن منع الاجتهاد في مقابل النص و تحريمه مبدأ مقرر في جميع الشرائع الوضعية قديمها و حديثها.

2-أن يجتهد في مورد لا إجماع و لا نص فيه من كتاب أو سنة

،و هذا

ص:366

الاجتهاد على قسمين:

القسم الأول:أن يعتمد المكلف في ثبوت الحكم على ما ينقدح في نفسه من مناسبات بين الحكم و الموضوع و مشابهات مستنبطة بين موضوع نص الشارع على حكمه،و آخر غير منصوص عليه،مثل أن يبطل عقد الزواج مع الجهل بالمهر إلحاقا له بالبيع مع الجهل بالثمن متخيلا أن المهر عوض عن بضع المرأة كما أن الثمن عوض عن المبيع،و مثل أن يرد شهادة ماسح الأحذية،لأن مهنته بزعمه لا تناسب أرباب المروءات.

و يدخل في هذا الاجتهاد القياس و الاستحسان الظنيّين و ما إليهما من الترجيحات التي تعتمد على مجرد الحدس.و هذا الاجتهاد هو المعروف بالرأي إشارة إلى أنّه ذاتي محض،و ان المكلف قد أقام رأيه الخاص،و ظنونه الشخصية مقام النص،و اتخذ منه أصلا و مصدرا لاحكام الدين و الشريعة.

و قد حرمه الشيعة،و أوصدوا بابه منذ البداية،تماما كما حرموا الاجتهاد في مورد النص،لأن كلا منهما-في رأيهم-يعتمد على ما يقرره المكلف من عنده، و يرتئيه بظنه،مع العلم بأن أحكام اللّه لا تناط بالظنون،و لا تصاب بالأوهام،بل لا شيء في الكون يكتشف بالظن و الحدس فكيف بدين اللّه،و أحكام شريعته.و قد أجاز السنة هذا الاجتهاد من قبل،ثم منعوه بعد أن أقفلوا كل باب و نافذة للاجتهاد في القرن الرابع الهجري،و لكنهم فرضوا على العالم و الجاهل تقليد من أخذ بهذا الاجتهاد،و عمل به فيما مضى كأبي حنيفة.

القسم الثاني من الاجتهاد مع عدم النص أن يعتمد المكلف في ثبوت الحكم على مبدأ عام يحكم العقل بصحته،و يجزم بصوابه،مثل الأهم مقدم على المهم عند التزاحم،و ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب،و اختيار أهون الشرين

ص:367

اللذين لا مناص من أحدهما،و الضرورات تبيح المحضورات،و الضرورة تقدّر بقدرها،و قبح العقاب بلا بيان،و درء المفسدة أولى من جلب المصلحة،و العلم بوجود التكليف يستدعي العلم بطاعته و امتثاله،و أصل المشروط عدم شرطه، و الاذن بالشيء اذن بلوازمه،و الأصل براءة كل انسان حتى تثبت ادانته،و إذا وجدت العلة وجد معلولها،و ما إلى ذلك من المبادئ التي يقتنع بها كل عاقل، و يقطع العقل بصحتها،و يستكشف منها وجود الحكم الشرعي،كما يستكشف وجود المسبب من وجود السبب.

و أجاز الشيعة هذا الاجتهاد،و فتحوا بابه لكل كفء،لأنه يعتمد على العقل الذي يقدسه الإسلام،و يطلق له العنان في جميع الآفاق و المجالات الدينية و الزمنية.و إذا نعي الإسلام على أهل التقليد،و طالب كل إنسان أن يخلد الى العقل السليم و ان يثبت به وجود اللّه،و نبوة الأنبياء فبالأولى أن يبيح له الاعتماد عليه لإثبات حكم من أحكام دينه و شريعته.و كان هذا الاجتهاد جائزا من قبل عند السنة،ثم منعوه بعد أن أوصدوا باب الاجتهاد بشتى صوره و أنواعه.

3-أن يجتهد في فهم النص الموجود في كتاب اللّه

.أو سنة نبيه الثابتة بالخبر المتواتر و غيره.و قد أجاز الشيعة هذا الاجتهاد على شريطة أن يكون النص ظني الدلالة،و ان لا يتجاوز التفسير الحدود المقررة.و مثال ذلك الآية 228 من سورة البقرة وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فإن الدلالة على القرء ظنية،لأنه ينطبق على الحيضة و الطهر،و على الفقيه أن يبحث عن الدلائل و القرائن التي تهديه إلى أحد المعنيين،فإذا أدى به النظر إلى الطهر أو الحيضة عمل به،حتى و لو خالف السلف بكاملهم،و حرم عليه متابعتهم ما دام على يقين من خطأهم.

ص:368

و قد كان الأمر كذلك عند السنة قبل أن يقفلوا باب الاجتهاد،و بعده ألزموا الفقيه بأن لا يتجاوز في تفسيره رأي إمام من أئمة السلف،و أوجبوا عليه أن يعتقد أولا بما قال الأولون،ثم يستدل لرأيهم،لا لرأيه.و قد عبّر عن هذه الحقيقة بصراحة أحد أئمة الأحناف المعروف بالكرخي(ت 340 ه)حيث قال:«كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ».

أمّا إذا كان النص قطعي الدلالة كما هو قطعي الثبوت فقد حرّم السنة و الشيعة الاجتهاد في تفسيره،و أي عاقل يجيز أن يفسر قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ بالنهي عن التأفيف فقط،دون النهي عن الشتم و الضرب؟

4-أن يجتهد في ثبوت السنة،أو نفيها إذا رويت عن الرسول الأعظم

بالخبر الواحد،لا بالخبر المتواتر

،و أجاز الشيعة هذا الاجتهاد و منعه السنة حين أوصدوا باب الاجتهاد على الإطلاق.

و الخلاصة انّه لا اجتهاد عند الجميع في مقابل النص أما الاجتهاد في تفسير النص الغير قطعي الدلالة-و في ثبوت النص-غير قطعي الثبوت-و فيما يعتمد على العلم و اليقين من حكم العقل و اقتناع العقلاء.أما هذا الاجتهاد فجائز عند الشيعة من قبل،و من بعد و قد أجازه لهم،و أمرهم باتباعه أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:«علينا أن نلقي إليكم الأصول،و عليكم أن تفرعوا».

و قوله:«لا يكون الفقيه فقيها حتى تلحن له،فيعرف ما تلحن له»و المراد باللحن هنا الفطنة.قال الشاعر العربي:و اللحن يعرفه ذوو الألباب.

و كان هذا الاجتهاد جائزا عند السنة،ثم منعوه،و لكن منذ الشيخ محمد عبده،حتى اليوم و الأصوات ترتفع من كبار علماء الأزهر و غيرهم من أعلام السنة و تنادي بفتح باب الاجتهاد و تحطيم القيود،بخاصة المرحوم شلتوت شيخ الأزهر

ص:369

الأسبق.فقد كان أصرح و أجرأ من عرفنا في الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد على أوسع نطاق،حتى و لو خالف المذاهب الأربعة.و بالفعل استجاب المسؤولون في الجمهورية العربية المتحدة لدعوته،و أقروا العديد من الاجتهادات الحديثة،منها ان الطلاق ثلاثا يقع واحدا،و منها ان الوصية تجوز للوارث و غير الوارث،الى غير ذلك مما يتفق مع مذهب الشيعة الإمامية و غيرهم،و يختلف مع المذاهب الأربعة.بل أجاز شلتوت تقليد المذهب الجعفري بوجه عام.

المطلق المجتزي:

سبق ان المجتهد من كان كفؤا لاستنباط الأحكام.و قد تكون كفاءته عامة لاستنباط جميع الأحكام و في كل مسألة من مسائل الفقه،و في كل باب من أبوابه دون استثناء،و هذا ما يسمونه بالمجتهد المطلق.أما إذا كان كفؤا لاستنباط بعض الأحكام دون بعض فهو المجتهد المجتزي اصطلاحهم.

و قد اتفق فقهاء الشيعة على إمكان الاجتهاد المطلق،و وجوده بالفعل،و اختلفوا في إمكان التجزي،و هل يجيز العقل وجود من له ملكة يقتدر بها على الاستنباط في بعض مسائل العلم دون بعض؟فمنهم من قال بجواز ذلك و وقوعه أيضا.و قال آخرون:من الممكن ان يكون الإنسان مجتهدا في فن دون فن.اما ان يجتهد في بعض مسائل الفن الواحد دون بعض فمحال،لأن ملكة الاجتهاد تماما كملكة العدالة لا تتجزأ.

و هذا الخلاف بعينه قولا و دليلا موجود بين فقهاء السنة.

التصويب و التخطئة:

قال الشيعة و كثير من فقهاء السنة:ان للّه حكما معينا في كل حادثة وقعت،أو تقع،و انه نصب الدليل عليها بالخصوص أو بالعلوم،فمن ظفر به،و تفهمه على حقيقته فهو المصيب و له أجران:أجر على ما بذل من جهد،و أجر على الإصابة تفضلا من اللّه سبحانه،و من أخطأه أو أخطأ في فهم المراد منه فلا وزر عليه،و له أجر على جهده.و مما

ص:370

استدلوا به على ذلك الحديث المشهور عند السنة و الشيعة:«حلال محمد حلال إلى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة»و بحديث:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،و ان أخطأ فله أجر»،و قال الخليفة الأول:«أقول في الكلالة برأيي،فإن كان صوابا فمن اللّه و ان كان خطأ فمن الشيطان».

و ذهب جماعة من أئمة السنة،منهم أبو حنيفة،إلى انه ليس للّه أحكام في الوقائع و الحوادث و انما أحكامه جل و علا تبع لظنون المجتهدين.

علوم الاجتهاد:

نريد بعلوم الاجتهاد المعارف التي يبني الاجتهاد عليها،و يتوصل بها اليه،و لا يمكن ان يحصل الاجتهاد بدونها،تماما كما لا يمكن الاختصاص بأي علم أو فن إلا بعد الدراسة الثانوية.

و هذه المعارف هي العلوم العربية ألفاظا و معاني،لأن الشريعة عربية،و المطلوب ان يبلغ في معرفتها درجة يفهم معها كلام الفصحاء،كما يفهمه العربي الأصيل بفطرته.

و المنطق،كي يعرف شروط الدليل،و كيفية تركيب البرهان و القياس من المقدمات الصحيحة.

و العلم بآيات الأحكام و روايتها،و أحوال الرواة من الجرح و التعديل،و موارد إجماعات الفقهاء.و لا بد مع هذه من ذوق معتدل سليم،و ذهن حاذق متحرك،و عقل فاحص ناقد،و ملكة قوية يقتدر بها على اقامة الدليل على الحكم و الذب عنه بالبرهان و المنطق،تم تطبيق الفرع على مورد الأصل.

فإذا تم له جمع ذلك كان مجتهدا حقا،و وجب عليه ان يعمل بما يراه بعد التمحيص و التدقيق،و حرم عليه ان يقلد سواه.

عدالة المجتهد:

ليست العدالة شرطا لوجود الاجتهاد،و لا لعمل المجتهد برأيه،فإن المجتهد يحرم

ص:371

عليه الرجوع الى غيره عادلا كان أو فاسقا.و انما هي شرط أساسي لتنفيذ حكمه في حق الغير و أخذ الفتوى عنه و لو ان إنسانا بلغ من العلم كل مبلغ،و عرف أحكام اللّه على حقيقتها لا يجوز الرجوع إليه في القضاء و الإفتاء،على الرغم من صدقه و اصابته في أقواله،لأن العدالة شرط تعبدي غير منوط بإصابة الواقع و موافقته،تماما كعدالة إمام الجماعة في الصلاة التي لا تناط بحسن التجويد،و معرفة الشروط و الأجزاء.و إذا وجد مجتهدان أحدهما أعلم من الآخر،و لكنه غير عادل،و الآخر عادل تعين الرجوع الى العادل ترجيحا لجانب العدالة على العلم،و لا نعرف أحدا تشدد في شرط العدالة و اعتبارها كما تشدد الشيعة.و لهم في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت،منها قول الإمام جعفر الصادق:«اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه،حافظا لدينه،مخالفا لهواه،مطيعا لأمر مولاه،فللعوام ان يقلدوه».

فصيانة النفس،و المحافظة على الدين،و مخالفة الهوى،و طاعة المولى جل و علا شرط جوهري لجواز المتابعة،و تنفيذ الحكم و الفتوى.و قد فرغ الشيعة على ذلك فروعا، منها ان صاحب الحق لا يجوز له ان يرفع دعواه لغير العادل إذا استطاع الحصول على حقه بدون ذلك و إذا رجع الى غير العادل،و الحال هذي،و حكم له بالحق فلا يجوز له ان يأخذ الشيء المحكوم،و ان كان حقا،لقول الإمام جعفر الصادق:«فإنما يأخذ سحتا،و ان كان حقا ثابتا له».

و هناك مسائل أخرى تتصل بالبحث،مثل الاجتهاد بأصول الدين،و تبدل رأي المجتهد،و ذهوله عن الدليل الذي كان قد اعتمد عليه من قبل،و ما الى ذلك مما تكلم عنه علماء الشيعة بإسهاب في كتب الأصول،و تركنا التعرض له رغبة في الاختصار،و لأن غرضنا الأول بيان أقسام الاجتهاد.و الجائز منه و غير الجائز عند الشيعة،لتصحيح الخطأ الشائع من ان باب الاجتهاد موصد عند السنة قديما و حديثا،و مفتوح عند الشيعة بشتى أنواعه.

ص:372

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.