سرشناسه:بیاتی، جعفر، 1332-
عنوان و نام پديدآور:العفو / جعفر البیاتی
مشخصات نشر:مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه 1427ق.=1385.
مشخصات ظاهری:239ص.
شابک:964-444-953-3
وضعیت فهرست نویسی:فاپا
يادداشت:چاپ قبلی: شرف: 1414ق. = 1372
یادداشت:کتابنامه : ص. 231-239؛ همچنين به صورت زیرنویس
موضوع:گذشت -- جنبه های مذهبی -- اسلام
موضوع:اخلاق اسلامی
موضوع:احادیث اخلاقی
شناسه افزوده:بنیاد پژوهشهای اسلامی
رده بندی کنگره:BP250/2/ب 9ع 7 1384
رده بندی دیویی:297/632
شماره کتابشناسی ملی:م 84-37482
ص: 1
ص: 2
العفو
جعفر البیاتی
ص: 3
ص: 4
تمهيد··· 7
حُسن الخُلق، وسوء الخُلق··· 11
ما هو حُسن الخُلق؟··· 11
ثمار مُرّة لسوءالخُلق··· 13
ماذا أراد الإسلام؟··· 15
صور من السيرة المحمّديّة··· 16
مشكلة.. و علاج··· 20
ضرورة العفو··· 25
حقيقة.. و ضرورة··· 25
افتراض..ونتيجة··· 27
خصائص العفو··· 33
العفو الحقيقيّ··· 33
نفحات.. من السيرة العاطرة··· 36
روابط العفو··· 41
فَهْم أعمق··· 41
لِنقفْ على الواقع··· 46
متى يكون العفو؟··· 51
تساؤل.. وجواب··· 51
محاذير··· 55
ص: 5
شواهد.. من مشاهد··· 57
شرف العفو··· 59
حقيقتان من الواقع··· 69
الثناء على العفو··· 121
أقرب للتقوى··· 121
آفاق سامية··· 123
حقوق.. وعوائد··· 128
الأمر بالعفو··· 135
بين الأنانيّة والغَيريّة··· 135
بين التكليف والاقتداء··· 137
مذمّة ترك العفو··· 143
مخاطر معنويّة··· 143
رُبّ يومٍ نطلب العفو!··· 146
غفلة.. أو تغافل!··· 148
ثمار العفو··· 151
«العفو» في الأدب والحكمة··· 205
الخاتمة··· 223
المصادر··· 231
ص: 6
بِسْمِ اللّه ِ الرَّحمن الرَّحيم: «خُذِ العَفْوَ و أْمُرْ بالعُرْفِ و أعْرِضْ عنِ الْجاهِلين* وإمّا يَنْزَغَنَّك مِنَ الشيطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّه ِ إنّه سَميعٌ عَليم»(1). صدق اللّه العليّ العظيم.
الأخذ بالشيء هو لزومه، أو عدمُ تركه، فأخذُ العفو هو مُلازمة السَّتر على إساءةِ مَن أساء، والإغماض عن حقّ الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعيّ لبعضهم على بعض.
قوله تعالى: «خُذِ العَفْو» يُراد به السَّتر بالعفو فيما يَرجِع إلى شخص النبيّ صلى الله عليه و آله، و على ذلك كان يسير رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله، فهو لم ينتقم مِن أحدٍ لنفسه قطّ، ولم يَجْزِ بالسيّئةِ السيّئة، ولكن كان يعفو و يصفح(2)، و ما انتصر لنفسه مِن مَظْلَمةٍ حتّى تُنتَهك محارم اللّه، فيكون غضبه حينئذٍ للّه تبارك وتعالى(3).
«وأْمُرْ بالعُرْف» العُرف هو ما يعرفه عقلاءُ الناس، من السنن الحسنة و السِّيَر الجميلة الجارية بينهم، بخلاف ما يُنكره العقل الاجتماعيّ من
ص: 7
الأعمال الشاذّة القبيحة.. فمقتضى الآية الكريمة أنْ يأمُرَ بكلّ معروف.
«و أعْرِضْ عنِ الجاهِلين» أمرٌ آخَر بالمداراة، وهو أقرب طريقٍ وأسلمه لإبطال آثار جهل الجاهلين، والحدّ من فساد أعمالهم؛ لأنّ في مقابلة الجاهل بما يعادل جهله إغراءً له بالجهل والتمادي في الغيّ والضلال.
«و إمّا يَنْزَغَنّكَ مِن الشيطانِ نَزْغفاستَعِذْ باللّه ِ إنّه سميعٌ عليم» النَّزْغ هو الدخول في أمرٍ لأجل الإفساد، وقيل: هو الإزعاج والإغراء، وأكثرُ مايكون في حالة الغضب، وقيل: هو مِن الشيطان أدنى الوسوسة. وهذه المعاني تكاد تكون متقاربة، أمّا أنسبُها للآية الكريمة فهو الإزعاج والإغراء في حالة الغضب؛ لمناسبة ذلك لسياقها.
«و أعْرِضْ عنِ الجاهلين» فإنّ مماسّة الجاهلين بالجهالة نوعُ مداخلةٍ من الشيطان لإثارة الغضب والعداوة، ولسَوق الإنسان إلى جهالة مثله. والمعنى أ نّه لو نزغ الشيطان بأعمال الجاهلين المبنيّة على الجهالة والإساءة إليك، ليؤدّيَ بذلك إلى غضبك والانتقام، فاستعذْ باللّه إنّه سميعٌ عليم. أو قيل: إنْ عرض في قلبك شيء من الغضب والأذى، فاستعذْ باللّه إنّه سميعٌ عليم.
والآية الشريفة عامّة، خُوطِب بها النبيُّ صلى الله عليه و آله و قُصِد بها أُمّته؛ لعصمته صلوات اللّه عليه و آله.
ثمّ قال تعالى: «إنّ الذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُم طائفٌ مِنَ الشيطان تَذكّروا فإذا هُم مُبْصِرون»(1) ، وهذا على نحوِ تعليلٍ للأمر في الآية المباركة السابقة.والطائف من الشيطان هو الذي يطوف حول القلب ليُلقيَ فيه الوسوسة،
ص: 8
أو الطائف هو وسوسة الشيطان التي تطوف حول القلب لتقعَ فيه و تستقرّ عليه. أمّا التذكّر فهو تفكّرُ الإنسان في أُمورٍ تهديه إلى نتيجةٍ مغفولٍ عنها، أو نتيجةٍ مجهولةٍ قبله. والمعنى: استعذْ باللّه تعالى عند نزغة الشيطان؛ فإنّ هذا طريق المتّقين، فالمتّقون إذا مسّهم طائفٌ مِن الشيطان تذكّروا أنّ اللّه تبارك و تعالى هو ربّهمُ الذي يملكهم و يربّيهم، وإليه يَرجِع أمرهم، فأرجَعُوا إليه الأمر فكفاهُم مؤونتَه، ودفعَ عنهم كيدَ الشيطان، ورفع عنهم حجابَ الغفلة فإذا هم مُبصِرون، غير مضروبٍ على أبصارهم بحجابِ الغفلة(1).
* سأل أبوبصير أبا عبداللّه الصادق عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ: «إذا مَسَّهم طائفٌ مِن الشيطانِ تَذكّروا فإذا هُم مُبْصِرون»، فقال: هو العبدُ يَهِمّ بالذَّنْب، ثمّ يتذكّر فيُمسك(2). وفي رواية أخرى: هوالرجل يَهمّ بالذنب، فيتذكّر فيَدَعُه(3). و في رواية ثالثة: هوالذنب يهمّ به العبد، فيتذكّر فيَدعُه(4).
يُستفاد من أشعة نور الآيات الكريمة في سورة الأعراف، أنّ اللّه جلّت رحمته يأمر: بالأخذ بالعفو، والأمرِ بالعُرف، والإعراضِ عن الجاهلين، و إذا حاول الشيطان أن يَنزَغَ بيننا فعلينا بالاستعاذة باللّه تبارك و تعالى؛ إذ صفة المتّقين أ نّهم يذكرون اللّه َ عزّوجلّ في هذه المواقف فيرتدعون عنالذنب، ويرجعون عن الهمّة في ارتكاب المعصية.
*عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: ثلاثٌ مِن أشدّ ما عمل العباد: إنصافُ المؤمن مِن نفسه، ومواساة المرء أخاه، و ذِكْر اللّه على كلّ حال.. وهو أن
ص: 9
يذكر اللّه َ عزّوجلّ عند المعصية يهمّ بها، فيَحول ذِكرُ اللّه بينه و بين تلك المعصية، وهو قول اللّه عزّوجلّ: «إنّ الذينَ اتّقَوا إذا مَسّهم طائفٌ مِن الشيطانِ تَذكّروا فإذا هم مُبصِرون»(1).
والمدار في الآيات هو: تركُ الذنبِ و مقدّماتِه، و ترك مُلاحاة الناس لاسيّما الجاهلين، وذلك بالعفو. أمّا مستلزمات العفو فهي: الإيمان باللّه جلّ و علا و تذكّرُه في كلّ حال، والتقوى التي تردع صاحبَها إذا همّ بالذنب و تعيده إلى رُشْده، أو إذا غضب واستفزّه الشيطان نحو الانتقام. ثمّ مِن مستلزمات العفو مداراةُ الناس التي تمنع العداوة و تجلب الأُلفة والمحبّة.
وكلُّ ذلك يصبّ في حُسْن الخُلق.. فما هو - يا تُرى - حسن الخلق، و كيف السبيل إلى تحصيله؟
ص: 10
قال الفيض الكاشانيّ: الخُلق الحسن هو صفة سيّد المرسلين، و أفضل أعمال الصدّيقين، وهو على التحقيق شطرُ الدِّين، وهو ثمرة مجاهدة المتّقين، و رياضةُ المتعبّدين. والأخلاق السيّئة هي السُّموم القاتلة، والمُهلِكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعِّدة مِن جِوار ربّ العالمين، والمنخرطةُ بصاحبها في سلك الشيطان اللّعين، وهي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نار اللّه الموقَدة، التي تَطّلع على الأفئدة.. كما أ نّ الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة مِن القلب إلى نعيم الجِنان، و جِوار الرحمان(1).
وفي بيان فضيلة حُسن الخُلق والترغيب فيه، و مذمّة سوء الخلق والتنفير منه.. قال تبارك و تعالى لنبيّه و حبيبه صلى الله عليه و آله مثنيا عليه، و مُظْهِرا لنعمته لديه: «وإنّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظِيم»(2)، و جاء في وصايا المصطفى صلى الله عليه و آله قوله:
*ما يُوضَع في ميزانِ امرىٍٔيومَ القيامة أفضلُ مِن حُسن الخُلق(3).
ص: 11
*إنّ أحبَّكم إليّ، و أقربَكم منّي يومَ القيامة مجلسا، أحسنُكم خُلُقا، وأشدُّكم تواضعا..(1).
*ثلاث مَن لم تكن فيه فليس منّي ولا مِن اللّه عزّوجلّ: حلمٌ يَردّ به جهلَ الجاهل، و حُسن خلقٍ يعيش به في الناس، و ورع يحجزه عن معاصي اللّه عزّوجلّ(2).
*ثلاث مَن لم تكن فيه، أو واحدةٌ منهنّ، فلا يعتَدّنّ بشيءٍ مِن عمله: تقوى تحجزه عن معاصي اللّه عزّوجلّ، أو حلمٌ يكفّ به السفيه، أو خُلقٌ يعيش به في الناس(3).
*وفي الرواية: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله مِن بين يديه فقال: يا رسول اللّه، ما الدِّين؟ قال: حُسن الخُلق. ثمّ أتاه عن يمينه فقال: ما الدِّين؟ قال: حُسن الخُلق. ثمّ أتاه مِن قِبل شماله فقال: ما الدِّين؟ قال: حُسن الخُلق. ثمّ أتاه من ورائه فقال: ما الدِّين؟ فالتفتَ صلى الله عليه و آلهإليه وقال له: أما تَفقهُ الدِّين؟! هو أن لا تَغضَب(4).
* وقال رجلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله: أوصِني، فقال: اتَّقِ اللّه َ حيث كنت. قال: زِدْني، قال: اَتْبعِ السيّئةَ الحسنةَ تَمحُها. قال: زِدْني، قال صلى الله عليه و آله: خالطِ الناسَ بحُسْن الخُلق(5).* وسُئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما حدُّ حُسنِ الخُلق؟ فأجاب: تُلين
ص: 12
جانبَك، و تُطيب كلامَك، و تَلقى أخاك بِبِشرٍ حَسَن(1).
أخي القارئ الكريم.. ليس حسن الخلق مظهرا يتباهى به المرء بين الناس، و إنّما هو استجابة لأمر اللّه تعالى وطاعة له عزّ وجلّ إنْ أخلص العبد ونوى بحُسن الخُلق اتّباعا لأوامر ربّه جلّ وعلا، وهو إلى ذلك تقوى تعبّر عن خشية العبد مِن سخط اللّه عزّ وجلّ وعذابه.. قيل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم اللّيل، وهي سيّئة الخُلق، تُؤذي جيرانها بلسانها. فقال صلى الله عليه و آله: لاخيرَ فيها، هيَ مِن أهل النار!(2)
حُسن الخلق مدعاة للعيش الهنيء، والمعاشرةِ الطيّبة مع الأهل والأقرباء و الإخوان والجيران، و حتّى مع الغرباء. بينما سوء الخُلق تنغيص لحياة المرء، و إحباط لعمله، و إغلاق لباب الرحمة عليه.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أبى اللّه ُ لصاحبِ الخُلق السيّئ بالتوبة، فقيل: يا رسول اللّه، و كيف ذلك؟ قال: لأنّه إذا تاب مِن ذنبٍ وقع في أعظمَ مِن الذنب الذي تاب منه(3).
وفي رواية الإمام الصادق عليه السلام قال معلّلاً أيضا: لأنّه لا يخرج مِن ذنبٍ حتّى يقع فيما هو أعظم منه(4).*وسُئل أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلام عن أدومِ الناس غمّا، فقال:أسوأُهم خُلُقا(5).
ص: 13
*وفي غُرر حِكمه، و دُرر كلمه.. قال عليه السلام:
سوء الخُلق نكَدُ العيش، و عذاب النفس(1).
سوء الخُلق يوحش القريب، و يُنفّر البعيد(2).
الخُلق السيّئ أحدُ العذابَين(3).
مَن ساء خُلقُه، مَلّه أهلُه(4).
مَن ضاقت ساحتُه، قلّتْ راحتُه(5).
مَن ساء خُلقُه، ضاق رزقُه(6).
والمرء في حياته يرى الناسَ: مختلِفينَ في عقولهم، متباينين في نفوسهم، متعارضين في طباعهم و أمزجتهم، متقلّبين في أهوائهم و رغباتهم، متفاوتين في ضمائرهم و أخلاقهم.. ثمّ إنّه لابدّ من معايشتهم و معاشرتهم! ولكنْ: كيف يكون ذلك ممكنا و الأخلاق فيما بينهم متضاربةمتنافرة، والأجواء مضطربة، فيها ما فيها من سوء الخُلق.. كالحسد والغضب والضغينة؟! و كيف يستطيع أن يتعايش مع أهله و ذوي رحمه و جيرانه و أصدقائه و عامّة الناس، وهو يرى الأمزجة والعقول مختلفةً و متعارضة، بل و متنافرةً أحيانا؟! هل يتسنّى له أن يتعايش معهم إذا كان سيّئَ الخُلق، و (السيّئ الخُلق كثير الطَّيش، منغَّصُ العيش) كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام(7).
ص: 14
إنّ أخلاق الإسلام تَدلّنا على ما فيه سلامة ديننا و مرضاة ربّنا، و ضمانِ سعادتنا وهناء عيشنا، و محبة أقراننا.. فهي تقول بضرورة تهذيب طباع النفس و تعويدها على حسن الخُلق وحميد الصفات و طيّب السجايا، و منها: الصبرُ على الأذى، والصفح عن الآخرين، والعفو عن المسيئين، والتسامح والتغافل عن أخطاء الناس، و حبُّ الخير لهم، و التحلّي بمكارم الإخلاق ومحاسنها.
ولا يكفي - أخي القارئ العزيز - أن نحفظ علما في الإخلاق، بل لابدّ لنا من أن نجاهد أنفسنا حتّى نترجم العلم إلى عملٍ و سلوك، و حتّى نروّض قلوبَنا و نزكّيها. و يُخطئ مَن يظنّ أنّ الأخلاق التي ينشأ عليها المرء لاتقبل التغيير، إذ لو كان ذلك كذلك إذن لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، و الإرشادات والتوجيهات، و لَما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: حَسِّنُوا أخلاقَكم.
ثمّ لا ينبغي أن نغفل عن أنّ أخلاق الإسلام تريد منّا أن نُربّي أبناءَنا و نُرشدَ ذَوينا وإخواننا.. لا بالموعظة الحسنة فحَسْب، بل بالروحيّة الأخلاقيّة الواقعيّة، مِن خلال المعايشات الطيّبة والمواقف الكريمة.. و منها العفو.
* قال أميرالمؤمنين عليه السلام:مَن نصَبَ نفسَه للناس إماما فَلْيبدأْ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكنْ تأديبُه بسيرته قبلَ تأديبه بلسانه؛ و معلّمُ نفسه و مؤدّبها أحقُّ بالإجلال مِن معلِّم الناس ومؤدّبهم(1).
فيتعلّم الناسُ الصبرَ ممّن يصبر على أذاهم و جهلهم و إساءتهم إليه،ويتعلّمون العفوَ ممّن يعفو عنهم ويصفح.
ص: 15
نسأل اللّه َ تعالى أن يجعَلَنا مستنيرين بنور القرآن الكريم والسنّة النبويّة الطاهرة، و أن يوفّقنا للتأسّي بالنبيّ و آله الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
قال تعالى في محكم تنزيله العظيم، مخاطبا نبيَّه الكريم، بسم اللّه الرحمن الرحيم: «ولَو كنتَ فَظّا غليظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِن حَولِك، فاعْفُ عَنْهم و استَغفِرْ لَهُم وشاوِرْهُم في الأمر»(1).
أجل - أخي القارئ الفاضل - إنّ الناس، كما هو بيّن، مختلفو العقول والأمزجة، ومتفاوتو الآداب والأخلاق والمشاعر، فلا بدّ أن يحصل الاختلاف والتعارض، ولا سبيلَ إلى الخلاص من تبعات هذا الاختلاف إلاّ: بالصبر والمداراة، والعفو عن المسيء والتغافل عن إساءته، وغضّ النظر عنه.أمّا الفظاظة وغلظة القلب، فإنّهما مَدْعاةٌ للتنافر والحقد والانتقام، وقد نُفيت هاتان الصفتان عن أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فخاطبه الباري تعالى: «فَبِما رحمةٍ مِن اللّه ِ لِنْتَ لهم، ولو كنتَ فَظّا غليظَ القلبِ لاَنْفَضُّوا مِن حَولِك..»(2)، والفظّ هو قاسي القلب، وغلظة القلب كنايةٌ عن عدم الرقّة وعدم الرأفة، أمّا الانفضاض فهو التفرّق والانصراف.
ذكرتْ لنا السِّيَر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يحظى بمحبّةٍ عجيبةٍ مِن قِبل أصحابه، و إعجابٍ و إجلال مِن قِبل أعدائه.. لِنفتحْ كتب السيرة ونقرأ ما جاء فيها مِن ذلك:
* عن جرير بن عبداللّه، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله دخل بعض بيوته (أي بعض
ص: 16
حجراته)، فامتلأ البيت، ودخل جرير فقعد خارج البيت، فأبصره النبيّ صلى الله عليه و آله فأخذ ثوبَه فلفّه و رمى به إليه وقال صلى الله عليه و آله له: اجلسْ على هذا. فأخذ جرير ثوبَ النبيّ صلى الله عليه و آله فوضعه على وجهه، فقبّله(1).
* ويوم وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله في خطبة الوداع فقال: ناشدتُكم باللّه.. أيُّ رجلٍ منكم كانت له قِبل محمّدٍ مَظْلمةٌ إلاّ قام فَلْيقتصَّ منه في دار الدنيا؛ فهو أحبُّ إليّ مِن القصاص في دار الآخرة. قام إليه رجلٌ مِن أقصى القوم يُقال له «سوادة بن قيس» قائلاً له: فداك أبي و أمّي يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلتَ مِن الطائف استقبلتُك و أنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق، فرفعتَه و أنت تريد الراحلة فأصاب بطني، ولا أدري عمدا أو خطأً. فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: مَعاذَ اللّه أن أكون تعمّدت! ثمّ أرسل صلى الله عليه و آله بلالاً إلى بيت فاطمة عليهاالسلام فأتى بالقضيب و ناوله رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله، و قال: أين الشيخ؟ فقال سوادة:ها أنا يا رسول اللّه بأبي أنت و أمّي، قال: فاقتصَّ منّي حتّى ترضى. فقال الشيخ: فاكشفْ لي عن بطنك يا رسول اللّه. فكشف له عن بطنه، فقال الشيخ: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذِن له، فقال سوادة: أعوذ بموضع القصاص مِن بطن رسول اللّه من النار يومَ النار! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يا سوادة، أتعفو أم تقتصّ؟ قال:بل أعفو يا رسول اللّه، فقال صلى الله عليه و آله: اللّهمّ اعفُ عن سوادةَ كما عفا عن نبيّك محمّد.
* وبلغ الناس مِن محبّتهم لرسول اللّه المصطفى صلى الله عليه و آله أنِ امتلأت قلوبهم ودّا له، حتّى أنّ امرأةً مؤمنة نُعيَ لها خاصّةُ أهلها بعد إحدى المعارك،فأعرضتْ عن كلّ خبر يبلغها قائلة: أين رسول اللّه؟ حتّى إذا رأته قالت:
ص: 17
الحمد للّه، كلّ مصيبةٍ دونك يا رسول اللّه جَلَل - أي هيّنة يسيرة.
* وأقبل على النبيّ صلى الله عليه و آله رجلٌ فظّ، سَمِع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذكر آلهةَ قريشٍ بسوء، وسفّه أحلام الوثنيّين، فحمَلَ الرجل سيفه و عزم على أن يَقْدم عليه، وكان حديثه مع رسول اللّه صلى الله عليه و آلهحادّا خشنا، لكنّ الرجل لم يرَ من النبيّ صلى الله عليه و آله إلاّ ابتسامةً هادئة، و أخلاقا صافية، فلم يتمالك الرجل نفسه حتّى انكبّ على يَدَي رسول اللّه صلى الله عليه و آلهيقبّلهما و دموعه تنهال على خدَّيه، فإذا هدأ قليلاً قال: يا محمّد، واللّه ِ لقد سعيتُ إليك وما على وجه الأرض أبغضُ إليّ منك، و إنّي لَذاهبٌ الآن عنك و ما على وجه الأرض أحبُّ إليّ منك.
* ويُروى أنّ رجلاً اسمه «فضالة» كان مشركا، فنوى في نفسه بعد فتح مكّة: لَأَدخلنّ المسجد، ولأطوفنّ بالبيت.. فإذا وقعتْ عينايَ على محمّدٍ ضربتُه بسيفي هذا وهو يطوف بالبيت.
ودخل فضالة ليطوف، ودخل نبيُّنا صلى الله عليه و آله ليطوف، وأخذ المسلمون يطوفون بالبيت الحرام في تهليلٍ و تكبير.. فلمّا التقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك المشرك وجها لوجه، قال له: يا فضالة، بِمَ كانت تحدّثك نفسُك؟! قال: كانت تحدّثني بذِكْر اللّه، قال صلى الله عليه و آله: بل كانت نفسُك تحدّثك بقتل محمّد بن عبداللّه!
قال فضالة نفسه: فضرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله بيده على صدري، فشعرتُ ببَرْد السَّكينة في قلبي، فما رفع يدَه عن صدري إلاّ كان أحبَّ الناس إليّ محمّدُ بن عبداللّه !
* وذاك زيد بن الدثنّة يُؤسَر، فيشتريه صفوانُ بن أُميّة ليقتله حقدا، و ينصبه للقتل، فيمرّ به أبو سفيان حينها فيسأله مستهزئا: أنشدك اللّه َ يا
ص: 18
زيد.. أ تُحبّ أنّ محمّدا الآن عندنا في مكانك تُضرَب عنقه، وأنت في أهلك؟ فيجيبه زيد: واللّه ِ ما أُحبّ أنّ محمّدا الآنَ في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شوكةٌ تؤذيه.. و أنا جالس في أهلي! فما كان مِن أبي سفيان إلاّ أن يصيح دَهِشا: ما رأيتُ مِن الناس أحدا يُحبّه أصحابه.. ما يُحبّ أصحابُ محمّدٍ محمّدا!
* وقد وصف عروةُ بن مسعود الثقفيّ شدّة حبّ المسلمين لرسول اللّه صلى الله عليه و آله، و تفانيهم فيه وطاعتهم له، حين أوفدَتْه قريشٌ إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في صلح الحديبيّة، فقال مخاطبا قريشا بعد عودته:
أيْ قوم! واللّه ِ لقد وفدتُ على الملوك، وفدتُ على قيصرَ و كسرى والنجاشيّ.. واللّه ِ ما رأيتُ مَلِكا يُعظّمه أصحابُه ما يُعظّم أصحابُ محمّدٍ محمّدا! إذا أمَرَهم ابتدروا أمرَه، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتَهم عنده، و ما يَحُدّون إليه النظر؛ تعظيما له(1).
والى هذه الحقيقة.. يشير «هيل» أحد المستشرقين والباحثين في
شؤون التاريخ، حيث يقول: لا نعرف في تاريخ دعوة، كان صاحبها سيّدا مالكا لزمانه و لقومه، كما كان محمّد. و ذاك «لورد هدلي» يقول في رسالة له بمناسبة مولد النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله و قد أعلن إسلامه: لقد نال محمّد نبيّ الاسلام عليه السلام حبَّ العالم أجمع، و حبَّ أعدائه بوجهٍ خاصّ، وذلك عندما ضرب مثلاً في مكارم الأخلاق بإطلاق سراح عشرة آلاف أسير كانوا في يومٍ مِن الأيّام يعملون على قتلِه والفتك به، و إيرادِه وأصحابهمواردَ الهلاك..(2).
ص: 19
أجَل، فلم ينفضَّ الناس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، بل زحفوا نحوه و تعلّقوا بشخصه الشريف، و أحبّوه و ودّوه؛ لأنّه لانَ لهم برحمة اللّه عزّوجلّ، ولم يكن - حاشاه - فظّا ولا غليظَ القلب، حاشاه صلى الله عليه و آله، فهو الذي أدّبه ربُّه جلّ و علا فأحسنَ تأديبه، و تَوَّجَه بخطابه الكريم: «وإنّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظيم».
إنّ الحياة - أخي القارئ العزيز - بلا صبرٍ ولا تَرَوٍّ و لا حِلْم، وبلا تسامحٍ و مداراة، وبلا عفوٍ وصفح.. حياةٌ ضيّقة خانقة مكدَّرة، لاتخلو من الأحقاد والخصومات، ولا تُعقّب إلاّ المعاصي والآثام.. فسوء الخُلق الذي يُعرَّف بالتضجّر وانقباض الوجه والنفس و سوء الكلام، يخلق أجواءً منغِّصة للمرء نفسه ولمَن يعيش معه، حتّى يُبعدَه عن الخالق وعن الخَلْق، والتجارب شاهدة على أنّ الطباع متنفّرةٌ عن سيّئ الخُلق، وأنّ سيّئ الخُلق في حالٍ وخيمة، وكأ نّه يحارب نفسَه ويأتي لها بما يؤذيها؛ ولذا يقول الإمام الصادق عليه السلام: مَن ساء خُلقُه، عذّبَ نفسَه(1).
ورُبّ ساعٍ في إصلاح خُلقه يتساءل: كيف يُدفَع سوء الخُلق عن طبع المرء، و كيف يُكتسب حُسن الخُلق؟ ولأهل الأخلاق جوابهم:
إنّ طرق العلاج في إزالة سوء الخُلق: أن يتذكّر المرءُ أوّلاً أنّ سوء الخُلق يُفسد دنياه و آخرته، و يجعله ممقوتا عند الخالق والخَلق، فينبغي أن يجدّ في إزالته عن نفسه، فيُقدّمَ التروّيَ والتفكّر عند كلّ عملٍ أو كلام، فيحفظقلبه و لسانه معا - ولو على نحو التكلّف والتحمّل - مِن أن يصدر عنه سوء
ص: 20
خُلق، متذكّرا ماورد في مدح حسن الخلق و شرفه، ومواظبا على التحلّي به في منطقه و سلوكه، و متشوقّا إلى التعرّف على رواياته، مِن ذلك:
* قول النبيّ صلى الله عليه و آله:
- حُسن الخُلق نصف الدِّين(1).
- ما يُوضَع في ميزان امرئٍ يومَ القيامة أفضلُ مِن حُسن الخُلق(2).
- أكثر ما تلج به أُمّتي الجنّة: تقوى اللّه، و حُسن الخُلق(3).
* و قول أميرالمؤمنين عليه السلام:
- حُسن الخُلق أفضلُ الدِّين(4).
- حُسن الخُلق مِن أفضل القِسَم، و أحسنِ الشِّيَم(5).
- مَن حَسُنتْ خليقتُه، طابت عشرتُه(6).
* وقول الإمام الحسن المجتبى عليه السلام:
- إنّ أحسن الحسن، الخُلقُ الحسن(7).* وقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
- إنّ اللّه تبارك و تعالى لَيُعطي العبدَ مِن الثواب على حُسن الخُلق، كما يُعطي المجاهدَ في سبيل اللّه، يغدو عليه و يروح(8).
- ما يَقْدمُ المؤمنُ على اللّه عزّوجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبَّ إلى اللّه تعالى مِن أن يَسعَ الناسَ بخُلُقِه(9).
ص: 21
- البِرُّ و حسن الخلق: يَعْمرانِ الديار، و يَزيدانِ في الأعمار(1).
إنّ كلّ امرىٍٔحَسنِ الخُلق محبوبٌ عنداللّه تعالى وعند الناس، ولايزال محلاًّ لرحمة الباري الرحيم تبارك شأنه، و مرجعا للمؤمنين ينتظرون خيره و لطفه، و يتوقّعون منه أن يُنجِح مطالبهم، فتُفتَح عليه أبواب الأجر و منافذ الثواب.. قيل للإمام الحسن عليه السلام: لأيّ شيءٍ نراك لا تَردّ سائلاً و إن كنتَ على فاقة؟ فقال:
إنّي للّه سائل، و فيه راغب، و أنا أستحيي أن أكون سائلاً و أردّ سائلاً، و إنّ اللّه تعالى عوّدني عادة.. عوّدني أن يُفيضَ نِعمَه علَيّ، و عوّدتُه أن أُفيضَ نِعمَه على الناس، فأخشى إنْ قطعتُ العادة، أن يمنعني العادة. و أنشأ عليه السلام يقول:
إذا ما أتاني سائلٌ قلتُ: مرحبا***بمَن فضلُه فرضٌ علَيّ مُعجَّلُ
ومَن فضلُه فضلٌ على كلّ فاضلٍ ***وأفضلُ أيّام الفتى حين يُسألُ(2)
والحسن المجتبى صلوات اللّه عليه هو وريث جدّه المصطفى صلى الله عليه و آله المبعوث ليتمّم مكارم الأخلاق، وقد بلغ فيها ما بلغ من الشرف الأسمى، حتّى ورد في سيرته المباركة أ نّه صلى الله عليه و آله كان ذات يوم جالسا فيالمسجد، إذ جاءته جارية لبعض الأنصار، فأخذت بطرف ثوبه صلى الله عليه و آله، فقام لها النبيّ صلى الله عليه و آله
فلم تقل شيئا ولم يقل لها النبيُّ صلى الله عليه و آله شيئا.. حتّى فعلتْ ذلك ثلاث مرّات، فقام لها النبيّ صلى الله عليه و آله في الرابعة و هي خلفَه، فأخذت هُدْبةً مِن ثوبه، ثمّرجعت.
فقال لها الناس: فعَلَ اللّه ُ بك و فعل (توبيخا)، حَبستِ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله
ص: 22
ثلاث مرّات لا تقولين له شيئا ولا هو يقول لكِ شيئا ! ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إنّ لنا مريضا، فأرسلني أهلي لآخذَ هُدبةً من ثوبه؛ ليستشفيَ بها، فلمّا أردتُ أخْذَها رآني فقام، فاستحييتُ منه أن آخذَها وهو يراني، و أكره أن أستأمره في أخذِها، فأخذتُها(1).
وفي كتاب اللّه العزيز نقرأ قوله تعالى: «لَقدْ كانَ لكُم في رسولِ اللّه ِ أُسْوةٌ حَسَنةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللّه َ واليومَ الآخِرَ وذَكَرَ اللّه َ كثيرا»(2).
ص: 23
ص: 24
مَن يَعشْ بين الناس يَجِدْ: أفهاما متغايرة، و أمزجةً متباينة، و طباعا متضادّة. هنا نسأل أنفسَنا: كيف لنا أن نعيش في وسطٍ كهذا ما لم نمتلك حُسن الخُلق والمداراة؟ و كيف تمضي الحياة بلا صبرٍ ولا حلم ولا عفوٍ ولا صفحٍ عن الآخرين إذا أساءوا؟ أبالعتاب؟ والشاعر يقول:
إذا كنتَ في كلِّ الأمور مُعاتِبا***صديقَك.. لم تَلقَ الذي لا تُعاتبُهْ
فعِشْ واحدا، أو صِلْ أخاك فإنّه***مُقارفُ ذَنْبٍ مَرّةً، و مُجانبُهْ
ثمّ لنسألْ أنفسنا مصارحين، غير مخادعين: مَن منّا مَن يخلو من المساوئ والعيوب، ولم تصدر منه قبال الآخرين إساءات وذنوب؟ أليس يقول الشاعر:
إذا أُخبِرتَ عن رجلٍ بريءٍ***مِن الأخطاء.. ظاهرُه صحيحُ
فسَلْهم عنه: هل هو آدميٌّ؟***فإن قالوا: نعم، فالقولُ ريح
ولكنْ بعضُنا أهلُ استتارٍ***وعند اللّه ِ أجمعُنا جريحُ
ومِن إنعامِ بارئِنا علينا***بأنّ ذنوبَنا ليستْ تفوحُ
فلو فاحتْ لَولّينا فرارا***فُرادى في الفَلا ما نستريحُ
ثمّ مَن منّا يحبّ العتاب، ولا يُحبّ السَّتر على معايبه و عثراته؟ و ربّما
ص: 25
جرّ العتاب إلى افتراق الأحبّة و الأصحاب! وتلك كلمات أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام:
- كثرةُ العتاب، تُؤْذِن بالارتياب(1).
- الإفراطُ في المَلامة، يَشُبُّ نارَ اللَّجاجة(2).
- لا تُكْثِرنّ العِتاب؛ فإنّه يورث الضَّغينة، ويدعو إلى البغضاء..(3).
ثمّ مَن منّا مَن لم يُؤذِ الآخرين، ولا يُحبّ أن يُعفى عنه؟ ومَن منّا مَن لم يُسئْ ولا يريد أن يُصفَح عنه؟ كلُّنا نُخطئ، و كلّنا نحتاج إلى الحلم والعفو؛ لتعود إخوّتنا عزيزةً لا يُفرَّط بها لزلّةٍ صدرت، أو نزغٍ شيطانيٍّ طرأ.. و كذا لتستمرّ الحياة في إنسانيّةٍ يُتعامَل بها مع الجار والغريب و رفيق السفر، و كلّ مَن يلتقي بنا أو نلتقي به.
* عن الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا صلوات اللّه عليه، أنّ المأمون العبّاسيّ قال له: هل رويتَ مِن الشعر شيئا ؟ قال: قد رويتُ منه الكثير، فقال: أنشِدْني أحسنَ ما رويتَه في الحِلْم، فقال عليه السلام:
إذا كان دوني مَن بُليتُ بجهلِهِ***أبَيتُ لنفسي أن تُقابِلَ بالجهلِ
وإن كان مِثْلي في محلّي مِن النُّهى***أخذتُ بحلمي، كي أُجَلَّ عنِ المِثْلِ
وإن كنتُ أدنى منه في الفضل والحجى***عَرَفتُ له حقَّ التقدّمِ والفضلِ
فقال له المأمون: ما أحسنَ هذا ! مَن قاله؟ فقال: بعض فتياننا. قال: فأنشِدْني أحسنَ مارويته في السكوت عن الجاهل و ترك عتاب الصديق، فقال عليه السلام:
إنّي لَيهجرُني الصديقُ تجنُّبا***فأُريه أنّ لهجرِه أسبابا
ص: 26
وأراه إن عاتبتُه أغريتُه***فأرى له تركَ العتابِ عتابا
و إذا بُليتُ بجاهلٍ متحكِّمٍ***يجدُ المَحالَ مِن الأمور صوابا
أولَيتُه منّي السكوت.. وربّما***كان السكوتُ عن الجوابِ جوابا
فقال المأمون: ما أحسنَ هذا ! مَن قاله؟ قال: لبعض فتياننا. قال: فأنشدْني عن أحسنِ ما رويتَه في استجلاب العدوّ حتّى يكون صديقا، فقال عليه السلام:
و ذي غِلّة سالمتُه فقهرتُه***فأوقرتُه منّي لعفوِ التحمّلِ
ومَن لا يُدافعْ سيّئاتِ عدوِّهِ***بإحسانه لم يأخذ الطَّول مِن عَلِ
ولم أرَ في الأشياء أسرعَ مَهْلَكا***لغَمْرٍ قديمٍ مِن ودادٍ مُعجَّلِ(1)ثمّ نعود فنتساءل: مَن منّا مَن لم يعصِ اللّه تبارك و تعالى، ولا يُحبّ أن يغفر اللّه ُ جلّتْ رحمتُه معاصيه؟ إذن كيف السبيل؟ لِنعفُ عن إخواننا كما نُحبّ أن يعفوا هم عنّا، ولْنُغضِ عن أخطائهم كما نحبّ أن يُغضى عن أخطائنا، ولنغفرْ لهم كما نحبّ أن يغفر اللّه ُ لنا، وهو القائل عزّ مِن قائل: «ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحوا، ألاَ تُحبّونَ أن يَغفرَ اللّه ُ لكم، واللّه غفورٌ رحيم»(2).
لو فرضنا - أيّها الإخوة الأعزّة - أ نّنا لانصبر على إساءات الآخرين، ولا نصفح عنهم ولا نعفو عن أحد، فماذا سيكون؟ لا بدّ أنّ الحال سيؤول إلى: الخرق.. بدلَ الرِّفق، وإلى الأحقاد.. بدل المحبّة والوداد، و إلى الانتقام.. بدل الأُلفة والوئام، أليس كذلك؟
ص: 27
دَعُونا نتأملْ ما سيجرّنا إليه عدمُ العفو، و تركُ كظم الغيظ، والبعدُ عن الصبر على الآخرين.. أليس الأمر سيؤول إلى: الغضب والحقد والسَّفه والطيش والخَرْق؟! وهذه معالم و آثار تلك المساوئ:
* قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقّد في قلب ابن آدم، و إنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه و دخل الشيطان فيه(1).
* وقال الإمام عليّ عليه السلام: بكثرة الغضب يكون الطيش(2). إيّاك و الغضب؛فأوّله جنون وآخِرُه ندم(3).
* وعن الإمام الباقر عليه السلام: أيُّ شيءٍ أشدُّ مِن الغضب! إنّ الرجل لَيغضب فيقتل النفسَ التي حرّم اللّه ُ و يَقذف المُحصَنة!(4)
* وعن الإمام الصادق عليه السلام: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرّ(5).
* وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: الغضب يُفسِد الإيمان، كما يُفسِد الخَلُّ العسلَ(6).* وقال أميرالمؤمنين سلام اللّه عليه: رأسُ العيوب الحقد(7). الحقد مَثارالغضب(8). سببُ الفتن الحقد(9). سلاحُ الشرّ الحقد(10). الحقودُ معذَّب النفس،
ص: 28
متضاعِف الهمّ(1). أشدُّ القلوب غِلاًّ، قلب الحقود(2).
* وعن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام: أقلُّ الناس راحةً الحقود(3).
* وفي غرر حِكمه و دُرر كلمه، قال الإمام عليّ عليه السلام: السَّفَهُ خُرْق(4). السَّفهُ مفتاح السِّباب(5). السَّفهُ يجلب الشرّ.(6) دع السَّفه؛ فإنّه يُزْري بالمرء و يَشينُه(7).
* وعن الإمام عليٍّ الهادي عليه السلام قال: إنّ المُحِقّ السفيه يكاد يُطفئ نورَ حقّه بسفهه!(8)
* و رُويَ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قولُه: لو كان الخُرْقُ خَلْقا يُرى، ما كان شيءٌ ممّا خَلَق اللّه ُ أقبحَ منه!(9)
{وعن الإمام محمّد الباقر عليه السلام رُويَ أ نّه قال: مَن قُسِم له الخُرْق،حُجِب عنه الإيمان(10).
* وجاء عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قوله في رجلين يتسابّان: البادي منهما أظلم، و وِزْرُه و وِزْر صاحبهِ عليه ما لم يتعدَّ المظلوم(11).أما الانتقام - إخوتنا الأكارم - فأمرٌ مذموم، فهو إفرازٌ عن الحقد، و مآله إلى العداوات و مالا تُحمد عُقباه. وللتعرّف على هذا الخُلق السيّئ تعالوا نذهب إلى الشيخ محمّد مهديّ النراقيّ؛ ليحدّثنا حوله قائلاً:
الانتقام بِمثْل ما فُعِل به، أو بالأزيد منه، و إن كان محرَّما ممنوعا في
ص: 29
الشريعة، هو مِن نتائج الغضب؛ إذ ليس كلُّ انتقامٍ جائزا، فلا يجوز مقابلة الغِيبة بالغيبة، والفُحشِ بالفحش، والبهتان بالبهتان، والسعاية إلى الظَّلَمة بمِثْلها.. و هكذا في سائر المحرَّمات. قال سيّدُ الرُّسل صلى الله عليه و آله : إنِ امرؤٌ عيّرك بما فيك، فلا تُعيّره بما فيه. و قال صلى الله عليه و آله: المستبّانِ(1) شيطانانِ يتهاتران. و قد ورد أنّ رجلاً شتم أبابكر بحضرة النبيّ صلى الله عليه و آله وهو ساكت، فلمّا ابتدأ (أبوبكر) لينتصر منه، قام رسول صلى الله عليه و آلهو قال مخاطبا له: إنّ المَلَك كان يُجيب عنك، فلمّا تكلّمتَ ذهب المَلَك و جاء الشيطان، فلم أكن لأجلس في مجلسٍ فيه الشيطان.
(2).
فكلُّ فعلٍ أو قول يصدر مِن شخص بالنسبة إلى غيره ظلما، إن كان له في الشرع قِصاصٌ و غرامة، فيجب ألاّ يتعدّى عنه (أي عن الشرع أو القصاص)، و إن كان العفو عن الجائر أيضا أفضلَ و أولى، و أقربَ إلى الورع والتقوى. و إن لم يرد بخصوصه في الشرع حكمٌ معيّن، وجب أن يقتصر في الانتقام و ما يحصل به التشفّي على ماليس فيه حُرمةٌ ولا كذب،مثل أن يقابل الفحشَ والذمّ وغيرهما من الإيذاء الذي لم يُقَدَّر له في الشرع حكم معيّن، بقوله: يا قليلَ الحياء، و يا سيّئَ الخُلق.. و أمثال ذلك إذا كان متّصفا بذلك. ومثل قوله: جزاك اللّه و انتقم منك!
إلى أن يقول الشيخ النراقي: ولاريب في أنّ الاقتصار على مجرّد
ص: 30
ماوردت به الرخصةُ بعد الشروع في الجواب مُشْكِل!(1)، ولعلّ السكوت
عن أصل الجواب، و إحالة الانتقام إلى ربّ الأرباب أيسر و أفضل، ما لم يُؤدِّ إلى فتور الحميّة والغَيرة؛ إذ أكثرُ الناس لا يَقْدر على ضبط نفسه عند فورة الغضب؛ لاختلاف حالهم في حدوث الغضب و زواله..
إلى أن يقول: ثمّ طريق العلاج في ترك الانتقام: أن يتنبّه المرء إلى سوء عاقبة الانتقام في العاجل و الآجل، و يتذكّرَ فوائد تركه، و يعلم أنّ الإحالة إلى المنتقم الحقيقي (تبارك و تعالى) أحسنُ و أَولى، و أنّ انتقامه (سبحانه) أشدُّ و أقوى، ثمّ يتأمّل في فوائد العفو و فضيلته(2).
وهنا - إخوتنا الأعزّة - نصل إلى أهميّة العفو و ضرورته في معايشاتنا
اليوميّة مع الناس، باعتباره ضامنا للمعاشرة السليمة والروابط الإنسانيّة الطيّبة، فإذا رُفع العفو والتسامح والتغافل عن الإساءة و إعذار الآخرين.. هُدّدت علاقات الناس بالقطيعة والعداوة والانتقام، و حلّ الغضب والحقد والخُرق بدلَ الأُخوّة والمحبّة والوئام، و انجرّت الأمور إلى البغضاء والخصام، وجرّت على المتخاصمين الآثام، و ما يُحرِج العبادَ يومَ القيام.
فالحلّ الأسلم.. وفيه خيرُ الدنيا و الآخرة، هو العفو، و كفى هدايةً في ذلك قولُ المصطفى صلى الله عليه و آلهو هو متمّم مكارم الأخلاق و مجسّدها في سيرته العاطرة: إذا عنّتْ لكم غضبة، فأدْرأوها بالعفو.. إنّه ينادي مُنادٍ يومَ القيامة:مَن كان له على اللّه أجرٌ فَلْيَقُم. فلايقوم إلاّ العافون، ألم تسمعوا قولَه تعالى: «فمَن عَفا و أصْلَحَ فأجْرُه علَى اللّه»؟!(3)
ص: 31
ص: 32
في تعريف العفو.. قال علماء الأخلاق:
العفو هو أن تستحقّ حقّا فتُسقطه و تبرأ عنه، مِن قصاصٍ أو غرامة(1). وهو ضدّ الانتقام(2)، وقيل: هو تركُ عقوبةِ الذنب(3).
وأمّا العفو الحقيقيّ الكامل والصادق.. فله خصائصه، وهي:
أوّلاً: أن يكون عند التمكّن والمقدرة، فإنّما يعفو المرء عن أخيه إذا كان قادرا على عقوبته و الانتقام منه والاقتصاص لنفسه، وليس حينما يعجز عن ذلك.. يقول النبيّ المصطفى صلى الله عليه و آله: أَولى الناس بالعفو، أقدرُهم على العقوبة(4).
أجل.. عند ذلك يكون للعفو فضلُه، وبذلك أوصى أميرالمؤمنين عليه السلام
قائلاً: كُنْ عَفُوّا في قدرتِك، جوادا في عُسرتِك، مُؤثِرا في فاقتك.. تَكمُلْ
ص: 33
لك الفضائل(1). و قال عليه السلام: عندَ كمالِ القدرة، تظهر فضيلةُ العفو(2).
و هكذا تكون خصيصة العفو أنّ العافي يعفو وهو مقتدر، ترفّعا عن الانتقام، أو حفاظا على الرابطة الأخويّة أو الإنسانيّة، أو طمعا في الأجر والثواب، أو شكرا للّه تعالى و أداءً لزكاةِ القدرة على الآخرين، أو تخلّقا بأخلاق بارئه جلّت رحمته.. و هو بذلك يتحلّى بمكرمةٍ رفيعة مِن مكارم الأخلاق و معاليها. تعالوا نقف - أيّها الإخوة - على هذه المعاني السامقة في كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يعرّف لنا العفو في صورته الفاخرة، حيث يقول:
العفوُ زَينُ القُدرة(3). العفو زكاةُ القدرة(4). العفو زكاة الظَّفَر(5). العفو مع القدرة جُنّةٌ مِن عذابِ اللّه سبحانه(6).
* و يقول أيضا - و ما أحلى أقواله صلوات اللّه عليه - :
أحسنُ أفعالِ المُقتدر، العفو(7). أحسنُ العفو ماكان عند قدرة(8).أحسنُ المكارم: عفوُ المُقتدِر، وجُود المُفتقِر(9). إذا قدَرتَ على عدوِّك، فاجعلِ العفوَ عنه شكرا للقدرةِ عليه(10).
* وأمّا الإمام الحسين عليه السلام فيقول: إنّ أعفى الناس مَن عفا عند قدرته(11).
ص: 34
ثانيا: من خصائص العفو الرفيع.. أن يترك المستحقّ حقَّه في تأنيب المسيء إليه؛ لأنّ التأنيب نوعٌ من التوبيخ أحيانا، كما أ نّ الملامة الشديدة والعتاب المُرّ من أنواع القِصاص المعنويّ والعقوبة الأدبيّة، لاسيّما إذا كان ذلك أمام الناس و إن كان على نحو النصيحة.. يقول الشاعر:
تَعمّدْني بنُصْحِك في انفرادي***وجنِّبْني النصيحةَ في الجماعةْ
فإنّ النُّصْحَ بين الناس نوعٌ***مِن التوبيخ.. لا أرضَى استماعَه
فإن خالفتَني و عصَيتَ أمري***فلا تغضبْ إذا لم تُعْطَ طاعة!
و قد أمر اللّه جلّ و علا في شأن الصَّفْح أن يكون جميلاً، فقال عزّ و جلّ: «فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجميل»(1)، قال الإمام الرضا عليه السلام في بيانه: عَفْوا مِن غيرِ: عقوبةٍ، ولا تعنيفٍ، ولا عَتَب(2). وقال الإمام الرضا عليه السلام أيضا في ظلّ الآية المباركة: العفو مِن غير عتاب(3). ولذا يقول الإمام عليّ عليه السلام: ما عفا عن الذَّنْب مَن قرّعَ به(4). التقريع أحد العقوبتَين!(5).
ثالثا: قد يتسامى المؤمن في عفوه.. فلا يكتفي بترك الملامة والعتاب والتقريع، إنّما يقابل إساءة الآخرين وظلمهم إيّاه بالدعاء لهم والإحسان إليهم. وهذا هو الذي كان في أخلاق المصطفى صلى الله عليه و آله.. فقد آذاه المشركون و كذّبوه و شرّدوه، وحصبوه، فأوحى اللّه تبارك و تعالى إلى «جابيل» مَلَك الجبال أن شُقَّ الجبالَ وانتَهِ إلى أمر محمّد. فأتاه فقال: إنّي أُمِرتُ لك بالطاعة، فإن أمرتَ أن أطبقَ عليهم الجبالَ فأهلكتُهم بها، قال صلى الله عليه و آله: إنّما
ص: 35
بُعِثتُ رحمة، ربِّ اهدِ أُمّتي؛ فإنّهم لايعلمون(1).
كتب لين بول: إننّا إذا رجعنا إلى التاريخ و حكّمناه في مسألة القسوة، لَتبيّن أنّها لم تكن قطُّ مِن أخلاق محمّد صلى الله عليه و آله ؛ و ذلك بدليل معاملتِه للأسرى بعد غزوة بدر و تسامحه مع أعدائه، و صبرِه على أذاهم، و عطفه على الأطفال والمرضى، و حقنه للدماء، وعفوِه عن أولئك الذين قَضَوا في محاربته ثمانية عشر عاما و أظهروا له فيها كلَّ صنوف العداء، وأذاقوه مِن خلالها كلَّ أنواع الجور والاضطهاد والظلم(2).
و كتب لورد هدلي: لقد نال محمّد نبيّ الاسلام عليه السلام حبَّ العالم أجمع، وحبَّ أعدائه بوجهٍ خاصّ، وذلك عندما ضرب مثلاً في مكارم الأخلاق بإطلاق سراح عشرة آلاف أسير (أي بعد فتح مكّة) كانوا في يومٍ من الأيّام يعملون على قتله والفتك به، و إيرادِه و أصحابه موارد الهلكة..(3).
أجل.. كان الفتح المظفّر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله في مكّة، وقد دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يُرفَع عنهم، فأتى رسولُ صلى الله عليه و آله البيتَ الحرام وأخذ بعُضادَتَي الباب،(4) ثمّ قال: لا إله إلاّ اللّه، أنجز وعدَه، و نصَرَعبدَه، وغلب الأحزابَ وحده. ثمّ قال: ما تظنّون؟ و ما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرا ونظنّ خيرا، أخٌ كريم وابن عمّ، قال صلى الله عليه و آله: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: «لا تَثريبَ عليكمُ اليومَ يَغفِرُ اللّه لَكُم، و هو
ص: 36
أرحمُ الراحمين»، ألا إنّ كلَّ دمٍ و مالٍ ومأثرةٍ كان في الجاهليّة فإنّه موضوعٌ تحت قدمي، إلاّ سدانةَ الكعبة(1) و سقايةَ الحاجّ؛ فإنّهما مردودتانِ
إلى أهليهما. ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم اللّه، لم تَحلَّ لأحدٍ كان قبلي، ولم تحلّ لي إلاّ ساعةً مِن نهار، فهي محرّمةٌ إلى أن تقوم الساعة، لا يُختلى خلاها، ولا يُقطع شجرها، ولا يُنفَّر صيدها، ولا تحلّ لُقطتُها إلاّ لمُنشد. ثمّ قال:
ألا لَبئس جيرانُ النبيِّ كنتم! لقد كَذّبتم وطَردتم، وأَخرجتم و فللتم، ثمّ مارضيتُم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتمُ الطُّلَقاء ! فخرج القوم كأ نّما أُنشِروا من القبور، و دخلوا في الإسلام(2).
* و على سيرته الرحيمة سار أهل بيته و أوصياؤه صلوات اللّه عليهم.. فقد جاء رجلٌ إلى الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام فقال له: إنّ فلانا قد وقع فيك بحضوري، فقال عليه السلامله: انطلقْ بنا إليه.. فانطلق معه والرجل يظنّ أ نّه عليه السلامسينتصر لنفسه منه، فلمّا أتاه قال عليه السلام لذلك الرجل الذي وقع فيه: يا هذا ! إنْ كان ما قلتَه فِيّ حقّا، فأنا أسأل اللّه َ أن يغفرَ لي،
وإن كان ما قلتَ فِيّ باطلاً، فاللّه ُ تعالى يغفره لك. ثمّ ذهب عنه(3).
{و يُروى أنّ رجلاً مِن نسل عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يُؤذي أباالحسن موسى الكاظم عليه السلام و يسبّه إذا رآه ويشتم الإمامَ عليّا عليه السلام، فقال لهبعض جلسائه يوما: دَعْنا نقتلْ هذا الفاجر! فنهاهم عليه السلام عن ذلك أشدَّ النهي، و زجرهم أشدّ الزجر، ثمّ سأل عليه السلام عن العُمَريّ فذُكر له أ نّه يزرع بناحية من
ص: 37
نواحي المدينة.
فركب عليه السلام إليه.. فوجده في مزرعةٍ له، فدخل المزرعةَ بحماره، فصاح به العمريّ: لا تُوطئْ زرعَنا. فتوطّأه أبوالحسن عليه السلامبالحمار.. حتّى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسَطَه وضاحكه، ثمّ سأله:
- كم غرمتَ في زرعك هذا؟
- مائة دينار.
- وكم ترجو أن تصيب؟
- لستُ أعلم الغيب!
- إنّما قلتُ لك: كم ترجو؟
- أرجو أن يجيئني مائتا دينار.
فأخرج أبوالحسن الكاظم عليه السلام صُرّةً فيها ثلاثمائة دينار وقال له:
- هذا زرعك على حاله، واللّه ُ يرزقك فيه ما ترجو.
فقام العُمَريّ فقبّل رأس الإمام موسى الكاظم عليه السلام، و سأله أن يصفح عن فارطه(1)، فتبسّم أبوالحسن عليه السلام و انصرف. ثمّ راح إلى المسجد فوجد
العمريَّ جالسا، فلمّا نظر إلى الإمام قال: اللّه ُ أعلمُ حيث يجعل رسالته. فوثب إليه أصحاب الإمام وقالوا له: ما قصّتُك؟! فقد كنتَ تقول غيرَ هذا ! فقال لهم: قد سمعتم ماقلتُ الآن.. وجعل يدعو لأبي الحسن الكاظم عليه السلام، فخاصموه وخاصمهم.
فلمّا رجع أبو الحسن عليه السلام إلى داره، قال لمن سألوه قتلَ العُمريّ: أيُّما كان خيرا.. ما أردتُم أو ما أردت؟ إنّني أصلحتُ أمرَه بالمقدار الذي عرفتم،
ص: 38
و كُفيتُ به شرَّه(1).
رابعا: من خصائص العفو أيضا.. أ نّه يضمّ إلى صدره جملةً من مكارم الأخلاق و محاسنها و فضائلها: كالرحمة والشفقة والرأفة، والصبر والحلم والأناة، والرفق وكظم الغيظ.. و كلّ هذه السجايا تترابط فتأتي بالعفو خُلقا كريما لاينفكّ عنها في سببٍ أو نسبة.
قال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ خصال المكارم، بعضُها مقيَّد ببعض..(2).
من هنا.. فَلْننتقلْ معا - إخوتنا الأكارم - إلى روابط العفو.
ص: 39
ص: 40
الأخلاق في الدين، ليست مجرّدَ تعامل أدبيّ ظاهريٍّ مع الناس، وليست صيغا كماليّة من الارتباطات مع الإخوان والمقرّبين.. إنّما هي سلوك مسبوق بنيّة صالحة، يتجسّد فيها: الإيمان، والتقوى، وطاعة اللّه تبارك و تعالى، والاقتداء بسيرة الأنبياء والأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين. والأخلاق الدينيّة - إضافة إلى ذلك - أحكام شرعيّة، عناوينها: الحرام والواجب والمكروه والمستحبّ.. وبعد، هي تلبيةٌ لأوامراللّه عزّوجلّ، وطلبٌ لمرضاته، وسلوك إلى سعادة الدارَين. ومن أجل ذلك لابدّ من نيّة الائتمار بما أمر الباري جلّ وعلا، والانتهاء عمّا نهى سبحانه و تعالى، والقربة إلى وجهه عزّ شأنه. ومِن هنا عبّرت الأخلاق عن الإيمان بما جاء في كتاب اللّه العزيز، و بما جاء في سيرة النبيّ الهادي الكريم وسنّته الشريفة صلى الله عليه و آله، و بما جسّده أهل البيت عليهم السلام من نصوص القرآن الكريم وسُنّة المصطفى صلى الله عليه و آلهو ترجموه إلى واقع الحياة الإنسانيّة.
وفي بيان معنى العفو، والتعريف بهذا الخُلق الفاضل الكريم، لانستطيع أن نكتفي بالقول: إنّ العفو هو إسقاط مايستحقّه مِن قصاصٍ أو غرامة.. فهذا ظاهر الأمر، و أمّا باطنه فهو ينطوي على معانٍ سامية، ونوازع شريفة،
ص: 41
ودواعٍ نبيلة، و خصال حميدة..
* عن الإمام أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال: ثلاثُ خصال مَن كُنّ فيه استكمل خصال الإيمان: مَن صبر على الظلم، وكظَمَ غيظَه واحتسب، و عفا وغفر.. كان ممّن يُدخله اللّه ُ عزّوجلّ الجنّةَ بغير حساب، و يشفّعه في مِثْل ربيعةَ و مُضَر(1).
* و عن الإمام الصادق عليه السلام أيضا في بيان العفو، قال:
العفو عند القدرة مِن سنن المرسلين والمتّقين، و تفسيرالعفو أن لا تُلزِم صاحبك فيما أجرم ظاهرا، و تنسى مِن الأصل ما أُصِبتَ منه باطنا، و تزيد على الاختيارات إحسانا، ولن يجدَ إلى ذلك سبيلاً إلاّ مَن قد عفا اللّه عنه، و غفر له ما تقدّم مِن ذنبه و ما تأخّر، و زيّنَه بكرامته، و ألبسه مِن نور بهائه..
والعفو سرُّ اللّه في القلوب، قلوبِ خواصّه ممّن يُسرّ له سرَّه..(2).
وبعد.. فللعفو علاقاته و وشائجه العديدة مع خصال أخرى: كالحِلم وكظم الغيظ مِن جهة، والصبرِ والشكر من جهة أخرى، والرِّفق والمداراة مِن جهةٍ ثالثة.. وله روابطه مع الصفح و حُسن البِشْر، وله لوازمه: كالترفّعِ عن الغضب والحقد، والاتّصافِ بالصفاء والطِّيبة، و تجنّب الانتقام والوقيعة، و بذل العطف والإحسان إلى المسيء حتّى ينصرفَ عن خطأه ويؤوبَ تائبا إلى بارئه.
هذا هو العفو، لانستطيع أن نُفرِده عن الأخلاق الأخرى، وقد جاء عن أميرالمؤمنين عليٍّ عليه السلامقوله: إذا كان في رجلٍ خَلّةٌ رائقة، فانتظرواأخواتِها(3). فمَن تصدّق على مسكين، توقّعنا منه الرحمة والعطف والكرم..
ص: 42
و مَن عفا عن إخوانه إذا أساءوا إليه أو ظلموه، توقّعنا منه الحلمَ والطيبة وحسنَ المعاشرة و الإخاء..
و مِن هنا، كان للعفو صِلاته و و شائجه مع خصال عديدة، و إن افترق معها في بعض الخواصّ، فهو غيرالحلم - مع علاقته معه - و هو غيرُ كظم الغيظ - مع صلته به - كما أنّ الحِلْم غيرُ الصبر، قيل:
إنّ الحِلْم هو الإمهال بتأخير العقاب المستحقّ، والحِلْم مِن اللّه تعالى عن العصاة في الدنيا فعلٌ ينافي تعجيلَ العقوبة.. من النعمة والعافية. وليس الحلم هو الترك لتعجيل العقاب، لأنّ الترك لايجوز على اللّه تعالى؛ لأنّه فعلٌ يقع في محلّ القدرة يُضادّ المتروك، ولا يصحّ الحلم إلاّ ممّن يَقْدر على العقوبة وما يجري مجراها مِن التأديب. وقال بعضهم: ضدُّ الحِلْم، السَّفَه؛ لأنّ السفه خِفّةٌ و عجلة، وفي الحلم أناةٌ وإمهال(1).
وقيل: الفرق بين الصبر والاحتمال (أي التحمّل)، أنّ الاحتمال للشيء يفيد كظمَ الغيظ فيه، و الصبر على الشدّة يفيد حبسَ النفس عن المقابلة عليه بالقول والفعل. والصبر عن الشيء يفيد حبس النفس عن فعله، و صبرتُ على خطوب الدهر: أي حبستُ النفس عن الجزع عندها. ولا يُستعمل الاحتمال في ذلك؛ لأنّك لاتغتاظ منه. والفرق بين الحِلْم والإمهال، أنّ كلَّ حِلْمٍ إمهال، وليس كلُّ إمهالٍ حِلْما..(2).
ومن هنا يتبين لنا - أيّها الإخوة - أنّ العفو غيرُ الحلم، فالحلمُ تأجيلالعقوبة، والعفو إسقاط العقوبة، وهما (العفو والحلم) غيرُ الصبر؛ إذ قد يصبر المرء على أمرٍ لايقدر على دفعه، أمّا العفو فهو صبرٌ مع إبراءٍ للمسيء و إسقاطِ عقوبته في وقت تتوفّر القدرة للعافي على معاقبة المسيء أو
ص: 43
الانتقام منه.
وقد يكظم المرء غيظه، و لكنّ ذلك لايعني بالضرورة أ نّه سيعفو، بل قد يؤجّل العقوبة إلى وقتٍ آخر، أو موقعٍ آخر. أمّا العفو فهو إلغاء الغرامة تماما؛ لذا يُعرَّف العفو بأنّه ضدُّ الانتقام، و أ نّه إسقاط القصاص. بينما الحِلم هو طمأنينة النفس بحيث لايحرّكها الغضب بسهولة، ولا يستفزّها المكروه بسرعة، فالحلم هو ضدُّ الغضب، وكظمُ الغيظ هو الآخر ضدُّ الغضب مِن جهةٍ أخرى؛ لأنّه يضعفه و يدفعه أو يكبته.
نعم.. يكون الحِلْم من مستلزمات العفو، ولكنْ ليس كلُّ حِلمٍ عفوا؛ لأنّ الحِلْم وكظم الغيظ كلاهما حالةٌ من الهدوء والتماسك عن الغضب و آثاره، وليسا بالضرورة أنّهما سيُعْقِبان عفوا عن المسيء، فقد يكون التماسك في حينها صبرا إلى وقتٍ آخر تُنفَّذ فيه العقوبة، أو يُفرَغ فيه الانتقام! أمّا العفو فهو إسقاط الحقّ عن المسيء تماما، حاضرا و مستقبلاً..
مثال ذلك أن يسرق سارقٌ من رجلٍ حليمٍ مبلغا من المال، فيحلم عليه الرجل، فلا يغضب و لايتهوّر و لا يُخاصِم، و قد يصبر عليه إلى مدّة لعلّ ذاك السارق يؤوب إلى رشده فيُرجِع المال، و إلاّ أمسكه و اقتصّ منه. بينما العفو يعني غضَّ النظر عن فعل السارق، و هبةَ ما سرقه إليه.
رُويَ أنَّ سارقا دخل على خبأ عمّار بن ياسر (خيمته)، فقيل له:اقطعْه، فقال: بل أستر عليه؛ لعلّ اللّه أن يستر علَيّ يومَ القيامة(1).
فالحلم فيه صبر و أناة، و فيه ضبط النفس عن هيجان الغضب، و فيه تثبّت في الأمور و اعتدال في القوّه الغضبيّة، و لكنّه لا يعني أ نّه سيؤدّي إلى عفوٍ عن المسيء، بل هو حالة تمنع النفس في حينها من الانفعال عن
ص: 44
الواردات المكروهة المؤذية. و من آثار الحلم: عدمُ جزع النفس عند الأمور الهائلة، و عدم طيشها في المؤاخذة، و عدم صدور حركاتٍ غير منتظمة منها، و عدم إظهار المزيّة على الغير، و عدم التهوّر في الأمور. و هو ضدّ السَّفه و ضدّ الغضب في موقع الغضب؛ و لذا يقول الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهماالسلام: إنّه لَيُعجبني الرجلُ أن يُدرِكَه حِلْمُه عند غضبه(1).
والحلم هو صبر في بعض جهاته، و قد يصبر الحليم.. ولكنّ صبره لا يعني بالضرورة أ نّه تنازلَ عن حقّه أو عفا، إنّما قد يحلم مترفّعا عن مسيئه أو مُمْهِلاً إيّاه إلى وقتٍ آخر حتّى يلزمه الحُجّة، أو يُرجئه إلى موقعٍ آخر ليعاقبه. بينما العفو صبر و حلم و تنازل عن العقوبة في الوقت ذاته، وقد يضيف العفوُ إلى ذلك كظمَ الغيظ، مع أنّ كظم الغيظ لوحده لايعني العفو، فقد يكون صبرا موقّتا يعقبه ردٌّ بعد حين.
ولا شكّ أ نّ هنالك صلةً وثيقةً بين العفو وكظم الغيظ، و كلاهما يجمعهما الصبر على إساءة الآخرين وجهلهم، لكنّ كظم الغيظ من لوازم العفو غالبا، وليس العفو من لوازم كظم الغيظ. كذا هنالك صلةٌ وثيقة بين الحلم و كظم الغيظ، فكلاهما إمساك النفس عن الهيجان والغضب، و هما مِن الكمالات النفسيّة، والصفات الفاضلة التي يتّصف بها العبد بعد ترويضٍ لنفسه وتهذيبٍ لطباعه و تربيةٍ لقلبه و ضميره.. لكنّ كظم الغيظ تحلّم، أي تمثّل للحِلْم و تكلّف له، إذا واظب عليه العبد صار فيه مَلَكةً ثمّ صار صفةً طبيعيّة، بحيث لايهيج الغيظُ عنده كي يحتاج إلى كظمه.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّما العِلْم بالتعلّم، والحِلْم بالتحلّم(2).
ص: 45
وهناك - إخواتنا الأعزّة - تلازم بين الحلم وكظم الغيظ، و بينهما و بين الصبر، و بين ثلاثتِهم جميعا و بين العفو.. حيث هو سبيل الإحسان، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما مِن عبدٍ كظَمَ غَيظا إلاّ زاده اللّه ُ عزّوجلّ عِزّا في الدنيا والآخرة، وقد قال اللّه عزّوجلّ: «والكاظمينَ الغَيظَ والعافينَ عن الناسِ واللّه ُ يُحبّ المحسنين»، و أثابه اللّه ُ مكانَ غيظه ذلك(1). وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ العفو يزيد صاحبَه عِزّا، فاعفوا يُعزَّكمُ اللّه (2). وقال الإمام الصادق عليه السلام أيضا: ما مِن جُرعةٍ يتجرّعها العبدُ أحبُّ إلى اللّه عزّوجلّ مِن جرعةِ غَيظٍ يتجرّعها عند تردّدها في قلبه: إمّا بصبر، و إمّا بحِلْم(3).
فالغيظ - مِن أجل أن يُكظَم - يُراد له صبرٌ أو حلم، و العفو - مِن أجل أن يتحقّق - يُراد له حلم وكظم غيظ.. وإلاّ تحكّم الغضب في الموقف وانجرّ الأمر إلى الانتقام، أو تغلّب الجزع و تحكّم الإصرار على العقوبة، فلا بدّ من الصبر حتّى يكون العفو، وقد قال تعالى: «وَ لَمَنْ صَبَر وغفَرَ إنّ ذلك لَمِنْ عَزمِ
الأُمور»(4).
إذن هناك صلةٌ واضحة بين العفو وكظم الغيظ والحلْم، ولكنْ ليس كلُّ كظمٍ للغيظ عفوا، و كذا الحِلم.. و بيان ذلك في هاتين الروايتين:
الأولى: سمع أميرُالمؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم قنبرا (خادمَه)، و قد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أميرالمؤمنين عليه السلام: مَهْلاً يا قنبر! دَعْ شاتمَك مُهانا تُرضي
ص: 46
الرحمان، و تُسخط الشيطان، و تعاقب عدوّك.. فوَالذي فلَقَ الحبّة و برأ النَّسَمة، ما أرضى المؤمنُ ربَّه بمِثْل الحِلْم، ولا أسخط الشيطانَ بمِثْل الصمت، ولا عُوقِب الأحمق بمِثْل السكوت عنه(1).
الثانية: عن الإمام أبي عبداللّه الصادق عليه السلامقال: كان بالمدينة رجلٌ بطّال يضحك أهل المدينة مِن كلامه، فقال يوما لهم: قد أعياني هذا الرجل - يعني عليَّ بن الحسين عليهماالسلام - فما يُضحكه منّي شيء! ولا بدّ أن أحتال في أن أُضحكه.
قال: فمرّ عليُّ بن الحسين عليهماالسلام ذات يوم ومعه مَوليان له، فجاء ذلك البطّال حتّى انتزع رداءَه مِن ظهره، واتّبعه الموليانِ فاسترجعا الرداء منه و ألقياه عليه وهو مُحْتبٍ لايرفع طَرْفَه من الأرض، ثمّ قال عليه السلام لمَولييه: ما هذا؟! فقالا له: رجلٌ بطّال يُضحِك أهلَ المدينة ويستطعم منهم بذلك، قال: فقولا له: ياوَيْحك! إنّ للّه ِ يوما يخسر فيه البطّالون!(2)
ونشعر هنا - أيُّها الإخوة - أ نّ كظم الغيظ والحِلْم - وكلاهما في موقعه، لم يُشيرا إلى العفو، لأنّ المسيء لم يكن يستحقّه، فقُوبل بالحِلْم والصمت أو التوبيخ لا العفو، و أُرجئ إلى عقوبة اللّه تعالى لا إلى المغفرة. و هنالك حالة أخرى يكون العبد فيها بالاختيار، فعن أميرالمؤمنين عليه السلام ورد أ نّه قال:
و أمّا الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار؛ فإنّ اللّه تبارك و تعالى رخّص أن يعاقبَ العبد على ظلمه، فقال اللّه تعالى: «وجزاءُ سيّئةٍ سيّئةٌ مِثْلُها، فمَن عفا و أصلَحَ فأجرُه علَى اللّه»، وهذا هو فيه بالخيار: إنْ شاء عفا، و إن شاء
ص: 47
عاقب(1).
اعتذر.. قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: ألا و إنّ مكارم الدنيا والآخرة في ثلاثة أحرفٍ مِن كتاب اللّه: «خُذِ العفو، و أْمُرْ بالعُرْف، و أعرِضْ عنِ الجاهلين».. و تفسيرُه: أن تَصِلَ مَن قطَعَك، و تعفوَ عمّن ظلَمَك، و تُعطيَ مَن حرَمَك.(2)
وهنالك صلةٌ وثيقة بين العفو والصفح، و إن تفاوتا قليلاً؛ ولذا قال تعالى: «فاعْفُوا و اصْفَحوا»(3)، إذن فكلٌّ غير الآخر.. قيل: العفو ترك عقوبة الذنب، والصفح ترك الملامة عليه فضلاً عن العقوبة، وفي اللّغة: ثرّب عليه: لامه و عيّره بذنبه و ذكّره به على نحو الإخزاء والتقبيح والاستهانة والتحقير(4).
و في التنزيل الحكيم على لسان يوسف عليه السلام: «قالَ لا تَثْريبَ عليكمُ اليومَ»(5).. يُقال: ثرّب عليهم فعلَهم، أي قبّحه. وقال تعالى في الصفح: «وإنْ تَعفُوا و تَصفحوا وتَغفِروا فإنّ اللّه َ غفورٌ رحيم»(6)، وقال جلّ وعلا: «فاصْفَحِالصَّفْحَ الجميل»(7).. قيل. الصفح ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو وأعلىو أسمى إذا جاء في موقعه، فربّما اقتضت الحكمة العفو دون الصفح إذا كان أنسبَ للمقابل، بأن يُلام أو يعاتب أو يقرّع ثمّ يُعفى عنه و يكون في ذلك ردعه عن الإساءة، و قد تقتضي الحكمة أن يكون الأنسبُ هو الصفح، بما يتلاءم مع شخصيّة المقابل، إذ الصفح يردعه و يُخجله فيتراجع عن
ص: 48
الإساءة دون ملامة أو تقريع، بل ربّما كان التقريع في بعض المواقع يجرّ إلى أن تأخدَ المقرَّعَ العزّةُ بالإثم والمعاندة و المكابرة، فيكون الصفح إشارةً مِن بعيد لأنّ المقابل ذكيّ و عزيز نفس، و قد قال الشاعر:
أشِرْ للحرِّ عن بُعْدٍ وسلِّمْ***فإنّ الحرَّ تَكفيه الإشارةْ
وقد يصحب الصفحَ لطفٌ يُربّي في المقابل تنبّها إلى الأمور.. تعالوا - أيّها الإخوة الأكارم - نقف عند هاتين الروايتين:
الأولى: بعث أبو عبداللّه الصادق عليه السلام غلاما له في حاجة.. فأبطأ، فخرج عليه السلامعلى أثَره لمّا أبطأ، فوجده نائما، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه، فلمّا انتبه قال له أبو عبداللّه عليه السلام: يا فلان! واللّه ِ ما ذلك لك، تنام الليلَ والنهار! لك اللّيل ولنا منك النهار.(1)
الثانية: عن معتِّب: كان أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام في حائط له (أي بستان) يَصرم (أي يجزّ الزرع)، فنظرتُ إلى غلامٍ له قد أخذ كارةً مِن تمر (مقدار ما يُحمَل على الظهر) فرمى بها وراء الحائط، فأتيتُه و أخذته، و ذهبتُ به إليه عليه السلام، فقلت: جُعِلتُ فداك، إنّي وجدتُ هذا وهذه الكارة،فقال للغلام: يا فلان! قال: لبّيك، قال: أتجوع؟ قال: لا يا سيّدي، قال: فتَعرى؟ قال: لا يا سيّدي، قال: فلأيّ شيءٍ أخذتَ هذه؟ قال: اشتهيتُ ذلك، قال: اذهبْ فهي لك، وقال: خَلُّوا عنه.(2)
إذن، فالصفح من ضروراته العفو،و من مستلزماته الرفق والرحمه والستر.
ص: 49
ص: 50
«وأنْ تَعْفوا أقربُ لِلتَّقوى»
رُبّ سائل يقول: أيَصحّ العفو على كلّ حال؟ و هل يُتسامَح مع المسيء بلا شرطٍ ولا اعتبار؟ و متى يكون العفو و متى لا يكون؟
إنّ الشريعة المقدّسة لم تضع الأخلاق للتشريفات الاجتماعيّة، أو لمظاهر جوفاءَ خاليةٍ من المحتوى أو مقتصرةٍ على الشكل دون المضمون أو منحصرةٍ في المجاملات و المباهاة والرياء. إنّما الأخلاق في الدِّين سلوك مبنيٌّ على نيّة الطاعة للّه جلّ و علا، والتزامٌ ينمّ عن الإيمان والتقوى والخشية من اللّه تبارك وتعالى.. والأخلاق - بعد ذلك - تهذيب للنفس وإصلاح لها، و تربية للناس و تحذير لهم من المُهلكات، و أخذٌ بأيديهم نحو المنجيات، و هي - إضافة إلى كلّ ذلك - أحكامٌ شرعيّة فقهيّة مقدّسة، تُعَنْون ب- : الحلال والحرام، والواجب والمستحبّ والمكروه، و تُقيَّد ب- : يجوز ولا يجوز، و ينبغي ولا ينبغي.. و تُراعى فيها الضوابط الشرعيّة، من الآداب القرآنيّة والسنن النبويّة الشريفة.
إذن، فالأخلاق ليست مزاجاتٍ ولا أهواءَ يتبنّاها المرء و يصوغها كيفما يشاء و يشتهي، ولا هي أذواق أو أمزجة أو حالات شخصيّة
ص: 51
واجتماعيّة يسايرها المرء و يستجيب لها، بل هي - كسائر الأحكام الشرعيّة - فيها الالتزامات مشْفوعةً بالعواطف والمشاعر والجوانب النفسيّة والروحيّة المائلة باتّجاه طاعة اللّه تعالى وطلب مرضاته.
و «العفو» هو الآخر من الأخلاق المقيَّدة بالشرع، ففيه ما يجوز و مالا يجوز، فليس الأمر تابعا للهوى، فإذا كان المرء في حالةٍ من الارتياح والانبساط عفا عن كلّ أحد و عن كل خطأ بلا قيدٍ ولا شرط ولاضابطة، أمّا إذا كان في حالة غضب لم يَعفُ عن أيّ أحد ولا عن أيّ سيّئة و إن كانت لمَما!
بعد هذا نجد أنّ العفو يكون على ثلاثة مواقع تقريبا، هي:
أوّلاً: يجوز العفو إذا كان الأمر خارجا عن إطار الحد الشرعيّ والقصاص على الجرائم الكبرى، فيجوز في حالات كأنْ يسيء شخص إلى أحدٍ بكلمة نابية، أمّا حين يكون الأمر سرقةً هاتكة أو قتلاً عامدا، أو هتكا للحُرمات والمقدّسات؛ فإنّ العفو يقع في موقعٍ مضرٍّ لا يُتجاوَز عنه؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: تجاوزوا عن الذَّنْب ما لم يكن حَدّا(1). وقول أميرالمؤمنين عليه السلام: جازِ بالحسنة، و تَجاوزْ عن السيّئةِ ما لم يكن ثَلْما في الدِّين، أو وَ هْنا في سلطانِ الإسلام(2).
و يتبيّن هنا أنّ الشرع المقدّس حدّد لنا العفو في إطار الإساءات التي لا تُخلّف في الدين ثلمة، ولا تترك في سلطان الإسلام ضَعفا.
ثانيا: يجوز العفو منّا إذا كان الأمر متعلّقا بنا، لا بالآخرين، كأنْ يعفو
ص: 52
المؤمن عن إساءة أخيه معه و ظلمه له، وليس مخوَّلاً أن يعفوَ عن إساءة الظالمين و الجائرين والمسيئين إلى غيره، خاصّة عن المتجاوزين على كرامة المسلمين و حقوقهم. وصف الإمام عليٌّ عليه السلام يوما جملةً من أحوال النبيّ صلى الله عليه و آله و أخلاقه الشريفة فقال:
ما فاوضه أحدٌ قطُّ في حاجةٍ أو حديثٍ فانصرف، حتّى يكون الرجل هو الذي ينصرف، و ما نازعه أحدٌ الحديثَ فيسكت، حتّى يكون هو الذي يسكت.. و ما انتصر لنفسه مِن مَظْلمةٍ حتّى يُنتهَك محارمُ اللّه، فيكون حينئذ غضَبُه للّه تبارك و تعالى..(1)
وفي سيرته صلى الله عليه و آله نقرأ أ نّه كان يتنازل عن حقوق نفسه المقدّسة، ويصفح عن جفاوة الآخرين و إساءتهم وتقصيرهم معه، ما لم يُؤدِّ ذلك إلى الإساءة للدين، و ما لم يكن فيه غَبْنٌ لحقوق الناس والمظلومين.
* عن أبي الحميساء قال: تابعتُ النبيَّ صلى الله عليه و آله قبل أن يُبعَث، فواعدتُه مكانا فنسِيتُه يومي والغد، فأتيته اليوم الثالث، فقال عليه السلام: يافتى! لقد شقَقْتَ علَيّ، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيّام.(2)
* و عن أنس بن مالك قال: خدمتُ النبيَّ صلى الله عليه و آله تسعَ سنين، فما أعلمُه قال لي قطّ: هلاّ فعلتَ كذا و كذا، ولا عابَ علَيّ شيئا قطّ.(3)
فهل من المعقول أنّ أنسا لم يقصّر في خدمته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله خلال تسع سنوات - أو عشر سنوات كما في بعض الأخبار -؟! إنّما لم يكن منه صلى الله عليه و آلهعتاب لأنّه كان عَفُوّا يصفح و يُغضي، بل ويستر، وقد شمل أنَسا ذلك كلُّه.
ص: 53
وليس أنسٌ وحده الذي قصّر أو أساء مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله، بل غيره كثير، إلاّ أ نّه صلى الله عليه و آله كان يغمر المسيئين بعطفه، و عفوه ولطفه.. و يحنو عليهم، و يعفو عنهم، ويطيّب بالمغفرة قلوبهم، و يُنير بالحكمة والموعظة الحسنة عقولهم، ولا يعاقبهم، ولا يوبّخهم وإن بدرَتْ منهم عباراتٌ جافّة؛ لأنّه صلى الله عليه و آلهلم يَرَ في ذلك ثُلمةً في الدين، و لا هضما لحقوق المسلمين.
* عن أنس بن مالك، قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أدركه أعرابيّ فأخذ بردائه فجبذه (أي جذبه) جبذةً شديدة، حتّى نظرتُ إلى صفحة عنق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و قد أثّرت بها حاشية الرداء مِن شدّة جبذته، ثمّ قال له: يا محمّد، مُرْ لي مِن مال اللّه الذي عندك. فالتفت إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فضحك، و أمر له بعطاء.(1)
وهكذا يكون العفو قبالَ إساءة الغير مع المُساء إليه، لا مع غيره.. و في الخطاب الإلهيّ: «خُذِ العفو، و أْمُرْ بالعُرف، و أعرِضْ عن الجاهلين»(2)، قال بعض المفسّرين: الأخذ بالشيء هو لزومه و عدمُ تركه، فأخذُ العفو ملازمة السَّتر على إساءةِ مَن أساء إليه، و غضّ النظر عن حقّ الانتقام الذي يُعطيه العقل الاجتماعيّ لبعضهم على بعض. هذا بالنسبة إلى إساءة الغير إلى نفسه، والتضييعِ لحقّ شخصه، أمّا ما أُضيع فيه حقُّ الغير بالإساءةِ إليه فليس ممّا يسوغ العفوُ فيه؛ لأنّه إغراءٌ بالإثم، و تضييعٌ لحقّ الغير بنحوٍ أشدّ، و إبطال للنواميس الحافظة للمجتمع، و تمنع عنه جميعُ الآيات الناهية عن الظلم والإفساد و إعانة الظالمين و الركون إليهم، بل جميعالآيات المعطية لأصول الشرائع والقوانين. فالمراد بقوله تعالى: «خُذِ العفو»
ص: 54
هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصه صلى الله عليه و آله، و على ذلك كان يسير صلى الله عليه و آله.(1)
وقد وُصف صلى الله عليه و آله بأنّه كان أرأفَ الناس بالناس، وكان رقيق القلب، رحيما بكلّ مسلم، ولم ينتقمْ لنفسه مِن أحدٍ قطّ، بل كان يعفو ويصفح. قال أنس: والذي بعثه بالحقّ، ما قال لي في شيءٍ قطُّ كَرِهه: لِمَ فعلتَه؟ ولا لامَني نساؤُه إلاّ قال: دَعُوه؛ إنّما كان هذا بكتابٍ وقَدَر.(2)
ثالثا: يكون العفو جائزا إذا لم يُؤدِّ إلى مفسدة، كأن يُغري المتجاوزَ في تكرار تجاوزه، و المسيءَ في ارتكاب إساءةٍ أكبر و أفظع، ويفسح المجال للظالمين أن يعمّ ظلمُهم ساحة الآخرين..
الناس أصناف: منهم مَن يردعه ذِكْرُ اللّه جلّ وعلا، و تردّه التقوى والخشية مِن سخط اللّه سبحانه و تعالى، الذي يقول: «ونعلمُ ماتوسوسُ به نفسُه»(3).
ومنهم مَن يردعه العُرف الاجتماعيّ و رقابة الناس؛ إذ يمنعه الحياء من الإساءة اتّقاءَ ملامة الناس وسوء نظرتهم إليه.
ومنهم لايصدّه عن العدوان إلاّ وجود الحكم والقضاء، والمحاكم والقضاة، وحضور الجزاء العادل، فيرتدع و ينصرف عن تجاوزه، متناسيا أنّ للّه عزّ وجلّ جزاءً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة، حين يأتي الخَلْق غدا في
ص: 55
عرصات القيامة و كلٌّ كتابه في يمينه أو شماله.
* عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: كُلٌّ محاسَبٌ معذَّب. قيل: يارسول اللّه، فأين قول اللّه عزّوجلّ: «فَسَوفَ يُحاسَبُ حسابايسيرا»(1)؟ قال: ذلك العَرض - يعني التصفّح(2).
ومنهم مَن يُصلحه العفو و يُخجله، ويعطيه فرصةً غنيمةً للتراجع عن الخطأ و استدراك ما فات، بعد حفظ كرامته من العقوبة والتوبيخ، فيكون الصفح عنه سببا لإصلاحه و أوبته إلى الحقّ، و عذرا يرجع به عن خطيئته.
ولكن.. مِن الناس مَن يُغريه العفو، و يستغلّ الصفحَ عنه فيكرّر إساءته ويتمادى في تجاوزه، ويزداد في اعتدائه، مغترّا بقدرته، و مطمئنّا أن لا عقوبة - و مَن أمِنَ العقوبة أساء الأدب - ، ثمّ لايكتفي بمَن عفا عنه أن أساء المغترّ إليه ولم يعتذر منه، بل يحاول التجاوز على غيره، فيكون الذي عفا عنه قد أغراه بالتمادي، وكان سببا في إفساده..
* يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: العفو يُفسد مِن اللئيم، بقَدْر ما يُصلح مِن الكريم(3).
* وفي رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: وحقُّ مَن ساءك أن تعفوَ عنه، و إن علمتَ أنّ العفوَ يضرّ انتصَرْتَ، قال اللّه تبارك وتعالى:
«ولَمَنِ انتصَرَ مِن بَعدِ ظُلمِه فأُولئك ما عليهِم مِن سبيل * إنّما السبيلُ على الذين يظلمونَ النّاسَ و يَبغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقّ، أولئك لهم عذابٌأليم»(4). فربّما أدّبَ العفوُ المسيء، و ربّما أدّبته العقوبة.. كيف؟
ص: 56
بعد إحدى المعارك خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و قد وضع سلاحه، فأتى السيل في الوادي فحال بينه و بين أصحابه، و جلس في ظلّ شجرة، فبصر به «غورث بن الحارث المحاربيّ» فقال له أصحابه: يا غورث، هذا محمّدٌ قد انقطع من أصحابه، فقال: قتلني اللّه إن لم أقتله.
و انحدر غورث من الجبل ومعه سيفه، فلم يَرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله إلاّ و غورث قائمٌ على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده، و هو يقول: يا محمّد، مَن يمنعك منّي الآن؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اللّه. فانكبّ غورث لوجهه، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آلهفأخذ سيف غورث و قال له: يا غورث! مَن يمنعك منّي الآن؟ قال: لا أحد. قال: أتشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّي عبد اللّه
ورسوله؟ قال: لا، و لكنّي أعهد أن لا أُقاتلَك أبدا، و لا أُعين عليك عدوّا.
فأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه و آلهسيفَه، فقال له غورث: و اللّه ِ لأنت خيرٌ منّي.(1)
* و عن الإمام أبي عبداللّه الصادق عليه السلام، قال:
نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آلهفي غزوة ذات الرقاع تحت شجرةٍ على شفير وادٍ، فأقبل سيل فحال بينه و بين أصحابه، فرآه رجلٌ من المشركين و المسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل، فقال رجلٌ من المشركين لقومه: أنا أقتل محمّدا !
فجاء و شدّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالسيف، ثمّ قال: مَن يُنجيك منّي يامحمّد؟! فقال: ربّي و ربُّك. فنسفه جبرئيل عليه السلامعن فرسه، فسقط على
ص: 57
ظهره، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و أخذ السيفَ وجلس على صدره وقال: مَن يُنجيك منّي يا غورث؟ فقال: جودُك و كرمك يا محمّد.
فتركه، فقام (أي غورث) وهو يقول: واللّه ِ لَأنت خيرٌ منّي وأكرم !(1)
* وكان أبو عزّة الشاعر قد حضر مع قريشٍ يوم بدر يحرّض قريشا بشِعْره على القتال، فأُسِر في السبعين الذين أُسِروا، فلّما وقع الفداء على القوم قال أبو عزّة: يا أبا القاسم، تعلم أنّي رجلٌ فقير، فامنُنْ على بناتي. فقال صلى الله عليه و آله: أُطلقك بغير فداء ألاّ تُكثر علينا بعدها (أي لا تحرّض الناس و تحشّدهم ضدّنا)، قال أبو عزّة: لا واللّه. فعاهده على أن لايعود.
فلمّا كانت حرب أُحد، دعَتْه قريشٌ إلى الخروج معها ليحرّض الناس بشعره على القتال، فقال: إنّي عاهدت محمّدا أن لا أُكثر عليه بعدَ ما مَنّ علَيّ، قالوا: ليس هذا من ذلك؛ إنّ محمّدا لايَسْلم مِنّا في هذه الدفعة. فغلبوه على رأيه.
فلم يُؤسَر يومَ أُحد مِن قريش غيرُ أبي عزّة، قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ألم تعاهدني؟! قال: إنّهم غلبوني على رأييي، فامنُنْ على بناتي. قال صلى الله عليه و آله: لا، تمشي بمكّة و تُحرك كَتِفَيك و تقول: سَخِرتُ مِن محمّدٍ مرّتين! المؤمن لا يُلسَع مِن جُحْرٍ مرّتين، يا عليّ، اضربْ عُنقَه.(2)
ص: 58
إذا كانت الأخلاق التي دعا اللّه ُ تبارك و تعالى إليها.. كلُّها تحمل حِكَما و مصالح للإنسان، ولا تعود عليه إلاّ بالخيرات و المنافع، ثمّ هي تدرأ عنه الشرور و المضرّات، و تخلّف له سعادة الدنيا والآخرة، فإنّ «العفو» مِن بين تلك الأخلاق التي تحظى بخصائص كريمة، و تمتاز بميّزاتٍ شريفةٍ جليلة.. منها :
أوّلاً: العفو من أخلاق اللّه تبارك و تعالى: فهو العَفُوّ الغفور، البَرّ الرحيم، الرؤوف العطوف.. وكان الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليه السلاميناجي ربَّه عزّوجلّ فيقول له: «أنتَ الذي سمّيتَ نفسَك ب «العَفْو»؛ فاعفُ عنّي».(1)
وفي بيانٍ لمعاني العفو، قال الإمام الصادق عليه السلام:.. لأنّ العفوَ والغفران صفتانِ مِن صفات اللّه عزّ وجلّ..».(2)
أمّا في كتاب اللّه العزيز، فإنّ الآيات الكريمة وافرة في ذِكْر أنّ اللّه جلّ وعلا عفوٌّ غفور، منها:
ص: 59
* قوله عزّوجلّ: «..إنّ اللّه َ كانَ عَفُوّا غَفُورا»(1)، بعد آية التيمّم.
* وقوله جلّ شأنه: «فأولئك عسَى اللّه ُ أن يَعفوَ عنهم، وكان اللّه ُ عَفُوّا غَفُورا»(2)، في شأن المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً.
* وقوله سبحانه: «إن تُبدوا خيرا أو تُخْفوه أو تَعفُوا عن سُوءٍ فإنّ اللّه َ كانَ عَفُوّا قديرا»(3)، بعد قوله تعالى: «لا يُحبّ اللّه ُ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِن القولِ إلاّ مَن ظُلِم، و كان اللّه ُ سميعا عليما».(4) والعفو عن السوء هو السَّتر عليه قولاً، بأن لايذكرَ المرءُ ظالمَه بظُلمه، ولا يَذهبَ بماء وجهه عند الناس، ولا يجهرَ عليه بالسوء من القول. أمّا السَّتر عليه عملاً، فأن لا يُواجِهَه بما يُقابل ما أساء به، ولا ينتقمَ منه فيما يجوز له ذلك، لذا جاء في تتمّة الآية المباركة قولُ الحقّ تبارك و تعالى: «أو تَعفُوا عن سُوءٍ فإنّ اللّه كانَ عَفُوّا قديرا» ،فعَنتِ الآية: إن تعفوا عن سوءٍ فقد اتّصفتم بصفةٍ من صفات اللّه الكمالية، وهي العفو مع القدرة على الانتقام ؛ فإنّ اللّه عزّ شأنه هو العفوّ مع قدرته.(5)وقد رُوي أنّ في العرش تمثالاً لكلّ عبد، فإذا اشتغل العبد بالعبادة رأت الملائكة تمثاله، و اذا اشتغل العبد بالمعصية أمرَ اللّه ُ بعض الملائكة حتّى يحجبوه بأجنحتهم؛ لئلاّ تراه الملائكة، فذلك معنى قوله صلى الله عليه و آله: «يا مَن أظْهرَالجميل، و سَتَر القبيح».(6)
* وقال تعالى: «و إنّهم لَيقولونَ مُنكَرا مِن القولِ و زُورا، و إنّ اللّه َ لَعَفُوٌّ
ص: 60
غَفُور»(1)، في آية الظِّهار، والذين يقولون لزوجاتهم - تحريما عليهم - : أنتِ علَيّ كظَهْر أُمّي. ثمّ بيّن سبحانه كفّارةَ الظِّهار في الآية التالية، فيتجلّى في ذلك عفوُ اللّه جلّ وعلا و غفرانه في تشريع سُبل التوبة والاستغفار.
واللّه تبارك وتعالى غفُور.. يغفر ذنوب عباده، و يُسقط عنهم كثيرا من ذنوبهم برحمته وعطفه ولطفه، وهوالقائل عزّ مِن قائل: «والذينَ إذا فَعلُوافاحشةً أو ظَلَموا أنفسَهم ذكروا اللّه َ فاستغفروا لِذُنوبِهم و مَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إلاَّ اللّه ُ ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهُم يَعلمون * أولئك جَزاؤُهم مَغفرةٌ مِن ربِّهم وجنّاتٌ تجري مِن تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها، و نِعْمَ أجرُ العاملين».(2)
وفي ذلك تشويق للعبد بأن يؤوبَ إلى ربِّه الغفور الرحيم، ويتوب إلى ربِّه الرؤوف الكريم، و إنّما ينال العبد مُناه في توبته و استغفاره وعفو اللّه تعالى عنه إذا كان من العاملين حقّا في طريق التوبة، وكان من المحسنين إلى الناس.. و مِن إحسانه أن يتخلّق معهم بأخلاق اللّه جلّت رحمته، فيعفو عنهم ويغفر لهم.
* يُروى أنّ جاريةً لعليّ بن الحسين عليه السلام جعلَتْ تسكب الماء له، فسقط الإبريق مِن يدها على وجهه فشجّه، فرفع عليه السلامرأسه إليها فقالت: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: «والكاظمينَ الغيظ»، فقال لها: قد كظمتُ غيظي. قالت: «والعافينَ عنِ الناس»، قال: قد عفا اللّه ُ عنكِ. قالت: «واللّه ُ يُحبُّالمحسنين»، قال: إذهبي؛ فأنتِ حُرّة.(3)
* وقال جلّت عظمتُه، و وسعتْ كلَّ شيءٍ رحمتُه: «و ربُّك الغفورُ ذو
ص: 61
الرحمةِ لو يُؤاخِذُهم بما كَسَبوا لَعَجّلَ لهمُ العذاب..»(1)، فلم يُعجّل لهم العذاب.. لماذا؟ لأنّه الغفور ذو الرحمة، أي كثيرالمغفرة، وقد شملتْ رحمتُه كلَّ شيء، وسبقت انتقامَه و نقمتَه.. نقرأ في دعاء الجوشن الكبير:
«يا مَن لا يُرجى إلاّ فضلُه، يا مَن لا يُسأل إلاّ عفوُه، يا مَن لا يُنظَر إلاّ بِرُّه، يامَن لا يُخاف إلاّ عدلُه، يا مَن لا يدومُ إلاّ مُلْكُه، يا مَن لا سلطانَ إلاّ سلطانُه، يامَن وَسِعتْ كلَّ شيءٍ رحمتُه، يا مَن سبقَتْ رحمتُه غضبَه..»(2).
* وقال جلّت قدرته: «قُلْ يا عِباديَ الذينَ أسرَفُوا على أنفُسِهِم لا تَقْنَطوا مِن رحمة اللّه ِ إنّ اللّه َ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعا، إنّهُ هو الغَفورُ الرحيم»(3)، و قال تعالى: «إنّ اللّه َ لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ بهِ ويَغفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَن يشاء..»(4). في الرواية: عن أبي عبيدة قال: قلت له (لعلّه للإمام الباقر عليه السلام): جُعِلتُ فداك،
ادعُ اللّه َ لي؛ فإنّ لي ذنوبا كثيرة! فقال: مَه يا أبا عبيدة، لايكون الشيطانعونا على نفسِك؛ إنّ عفو اللّه لا يُشبهه شيء !(5)
* وقال عزّ اسمه: «عسَى اللّه ُ أن يَجعلَ بينَكُم و بينَ الذينَ عادَيتُم مِنهُم مَودَّة، واللّه ُ قدير، واللّه ُ غفورٌ رحيم»(6)، الضمير في «منهم» عائد على الكفّارالذين أُمِر المؤمنون بمعاداتهم، و هم كفّار مكة، والمراد بجعل المودّة بين المؤمنين وبين الكفّار جعلُها بتوفيقهم للإسلام، كما وقع ذلك لمّا فتحَ اللّه ُ لهم مكّة، وليس المراد به نَسخَ حكم المعاداة والتبرّي. والمعنى: مَرْجوٌّ مِن
ص: 62
اللّه تعالى أن يجعل بينكم - معشرَ المؤمنين - و بين الذين عاديتُم من الكفّار، وهم كفّار مكّة، مودّةً بتوفيقهم للإسلام، فتنقلب المعاداة إلى مودّة، واللّه ُ قدير، واللّه غفورٌ لذنوب عباده، رحيمٌ بهم إذا تابوا و أسلموا، فعلى المؤمنين أن يرجوا من اللّه أن يبدّل معاداتَهم مودةً؛ بقدرته و مغفرته ورحمته.(1)
* وقال جلّ جلاله: «يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إنّ مِن أزواجِكم و أولادِكم عَدُوّا لكم فاحذَرُوهم، و إن تَعفوا و تَصفحوا و تغفروا فإنّ اللّه غفورٌ رحيم»(2)، «من» هنا للتبعيض، فبعض أزواج المؤمنين و بعض أولادهم يُعادونهم بما أنّهم مؤمنون، بأن يحاولوا صَرفَهم عن الإيمان أو عن الأعمال الصالحة، و قد ندب الباري سبحانه و تعالى المؤمنين إلى كمال الإغماض عن الأزواج والأولاد إذا ظهر منهم شيءٌ مِن آثار المعاداة، مع الحذر من الافتتان بهم «فإنّ اللّه َ غَفورٌ رحيم»، فالمغفرة والرحمة مِن صفات اللّه عزّوجلّ، فإن عَفَوا وصفحوا و غفروا؛ فقد تخلّقوا بأخلاق اللّه جلّ وعلا.(3)
تساؤلات إذا كان اللّه سبحانه و تعالى - مع قدرته العظيمة - يعفو عنعباده مع ذنوبهم العظيمة، فلماذا نحن - مع ضعفنا - لا نعفو عن أخطاء إخواننا و إن كانت بسيطة؟!
وإذا كان اللّه عزّ شأنه يغفر ذنوبَ عباده - وإن كانت كبيرةً و كثيرة - وهو المنعم عليهم و بارئهم، فلماذا لا نعفو عن إساءات الآخرين - وهي صغيرة وقليلة - ونحن عبيدٌ مثلُهم؟!
وإذا كان اللّه عزّوجلّ يعلم بكلّ شيء، ولا يخفى عليه شيء: لا مِن
ص: 63
الظواهر، ولا من السرائر.. و مع ذلك يستر العيوب، و يتجاوز عن الذنوب، فلماذا لانستر شيئا عَلِمناه - ربّما له عذرُه - فنلوم عليه، و نوبّخ عليه؟!
لماذا لانتأمّل في ستر اللّه علينا، و غفرانه لذنوبنا، و تأخير عقوبته علينا.. فنتعلّم منه تعالى هذا الخُلق مع الناس؟
لماذا لا نحبُّ لهم من العفو عنهم كما نحبّ العفو لأنفسنا؟ و قد خاطب الباري عباده بقوله: «ولْيَعفُوا ولْيَصْفَحوا، ألا تُحبّون أن يَغفرَ اللّه لكُم، واللّه ُ غفورٌ رحيم»(1). ولم يكن اللّه تبارك و تعالى ليعفوَ عن أُمورٍ هيّنة، بل هو سبحانه يعفو عن: أمورٍ عظيمة، و عن ذنوب كثيرة، وسيّئاتٍ غفيرة، وعيوبٍ خطيرة!
* وقال عزّ اسمه: «وهُوَ الذي يَقبلُ التوبةَ عن عبادِه ويَعفُو عنِ السيّئاتِ و يعلمُ ما تفعلون»(2)، فهو عزّوجلّ يعزل عن عباده ذنوبهم، و يحثّهم على التوبة، ويحذّرهم من اقتراف السيّئات، و يعفو عمّا صدر منهم.
* و قال عزّ مِن قائل: «و ما أصابَكم مِن مُصيبةٍ فبِما كسبتْ أيديكُم و يَعفُو عن كثير»(3)، فيذكّرنا اللّه تعالى و ينبّهنا إلى مصائب كسبَتْها أيدينا، و لكنّه يعفو عن الكثير من السيّئات؛ برحتمه، و لطف عنايته، فيصفح ويعفو، فلايُؤاخذُنا بها. جاء عن أميرالمؤمنين عليه السلامقوله: ما مِن مسلمٍ يُذنب ذنبا فيعفو اللّه ُعنه في الدنيا، إلاّكان أجَلَّ و أكرم مِن أن يعود عليه بعقوبةٍ في
الآخرة وقد أجّلَه في الدنيا. ثمّ تلا عليه السلام هذه الآية المباركة: «و ما أصابَكممِن مُصيبةٍ فبِما كسبَتْ أيديكُم ويَعفُو عن كثير».(4)
ص: 64
* وقال عزّوجلّ: «و مِن آياتِه الجَوارِ في البحرِ كالأعلام * إن يَشَأْ يُسكنِ الريحَ فيَظْلَلْنَ رواكِدَ على ظَهْرِه، إنّ في ذلك لاَياتٍ لكلِّ صَبّارٍ شَكُور *أو يُوبِقْهُنّ بما كسَبُوا و يَعْفُ عن كثير»(1)، الإيباق هو الإهلاك، والضمير في
«يُوبقْهنّ» عائدٌ على الجواري - و هي السفن - ، فيكون المعنى: إن يشأ اللّه ُ يُهلِكِ الجواري بإغراقها، بسبب ماكسبَ أهلها من السيّئات، ويعفو عن كثيرٍ منها.
وهكذا يتبيّن أنّ العفو يحظى بشرفٍ عظيم؛ لأنّه خُلقٌ مِن أخلاق اللّه تبارك وتعالى، وقد قرأنا في ذلك آياتٍ بيّنات، والآن نذهب إلى الأحاديث؛ لنرى كيف تنسب العفوَ إلى اللّه جلّ جلاله، حتّى لَتُحْيي النفوسَ بالأمل والرجاء؛ فالعباد قادمون على عَفوٍّ غفور، رحيمٍ ودود، يُغدق عليهم فيوضات رحمته، ويُعدّ لهم نِعَم جنّته، بعد أن يدعوَهم إلى طاعته، و التعجيل بطلب مغفرته.. فأعظِمْ به مِن أملٍ نرجوه.
* رُويَ أنّ أعرابيّا سأل النبيّ صلى الله عليه و آله: يا رسول اللّه، مَن يحاسب الخَلْقَ يوم القيامة؟ قال: اللّه ُ عزّوجلّ، فقال الأعرابيّ: نَجَونا و ربِّ الكعبة! سأله صلى الله عليه و آله:و كيف ذلك؟! قال الأعرابيّ: لأنّ الكريم إذا قدر عفا.(2)
* وجاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قوله: واللّه عفُوّ، يُحبّ العفو. ثمّ قرأ: «وَلْيَعفُوا ولْيَصْفَحوا»الآية.(3)
وهذا الحديث الشريف يخبرنا برحمة اللّه تعالى بعباده، و عفوه عنسيّئاتهم إذا تابوا و أصلحوا و استغفروا لسانا وقلبا. و يُخبرنا بأنّ اللّه تعالى يحبّ عباده، فإذا كنّا نُحبّه حقّا أحبَبْنا ما يُحبّه، و تخلّقْنا بأخلاقه تعالى
ص: 65
و بما يرتضيه منّا.. و من أخلاقه جلّ و علا: «يقضي بعِلْم، و يَعفو بحِلْم» كما يقول الإمام عليّ عليه السلام.(1)
وهو القادر العليم، والغفور الحليم، يعفو عن سيّئات عباده وهم يعيشون برحمته، ويسعدون بنعمته، وهو سبحانه يُمهلهم، ويدعوهم إلى خيره، و يواصل عليهم خيراته، و يرغّبهُم في أسباب عفوه و توبته.
يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام لابن جندب: صِلْ مَن قطَعَك، وأعطِ مَن حرَمَك، و أحسِنْ إلى مَن أساء إليك، و سَلِّمْ على مَن سبّك، و أنصِفْ مَن خاصَمَك، واعفُ عمّن ظلَمَك كما أنّك تحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبِرْ بعفو اللّه عنك، ألا ترى أنّ شمسَه أشرقَتْ على الأبرار والفُجّار، و أنّ مطرَه يَنزل على الصالحين والخاطئين؟!(2)
وقال عليه السلام أيضا: .. ليتخلّقوا مع الخَلْق بأخلاق خالقهم، و جعَلَهم كذلك، قال اللّه عزّ و جلّ: «و لْيَعفُوا و لْيَصفحوا، ألا تُحبّونَ أن يَغفر اللّه ُ لكم و اللّه ُ غفورٌ رحيم»، و مَن لا يعفو عن بَشرٍ مِثْلِه كيف يرجو عفوَ مَلِكٍ جبّار؟!(3)
إذن.. لعفو اللّه تعالى موجباتُه، منها: الطاعات، و من الطاعات الموجبة لعفو الباري عزّ و جلّ: العفو عن الناس، فإذا أحببنا أن يعفوَ اللّه عنّا، وسَعَينا نحو ذلك بالاستغفار، كان علينا أن نحبَّ العفو عن الناس، فنكون بذلك قد استجبنا لقوله تعالى: «و لْيَعفُوا و لْيَصفحُوا، ألا تُحبّون أن يغفرَ اللّه ُ لكم، و اللّه ُ غفورٌ رحيم»، و نكون قد امتثَلْنا لوصيّة أمير المؤمنين عليه السلامفي رسالتهالشريفة إلى ولده وحبيبه الحسن المجتبى عليه السلام، حيث كتب إليه:
يا بُنَيَّ اجعَلْ نفسَك ميزانا فيما بينَك و بينَ غيرِك، فأحْبِبْ لِغيرِك ما
ص: 66
تُحبّ لنفسِك، و اكْرَهْ له ما تكرهُ لها، و لا تَظلِمْ كما لا تُحبّ أن تُظلَم، و أحسِنْ كما تُحبّ أن يُحسَنَ إليك..(1).
إنّ أخلاق اللّه جلّ و علا: الغفران، و الرحمة و الاحسان، و العفو و الصفح.. فهنيئا لمَن تخلّق بأخلاق ربّه تعالى، فعفا عن إخوانه كما يُحبّ أن يعفو اللّه ُ عنه، و قَبِل اعتذارهم كما يُحبّ أن يستجيب اللّه ُ له دعاءه و استغفاره:
«ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أو أخطَأْنا، ربَّنا و لا تَحْمِلْ علينا إصْرا كما حَمَلْتَه
عَلَى الذينَ مِن قَبلِنا، ربَّنا و لا تُحمِّلْنا ما لا طاقةَ لنا به، و اعْفُ عنّا، و اغْفرْ لنا، و ارحَمْنا، أنتَ مَوْلانا..»(2).
وهكذا يدعو المؤمنون ربَّهم تبارك و تعالى ألاّ يُؤخِذَهم إن نَسَوا أو أخطأوا؛ استدراكا لما عليه وجودُهم من الضَّعف والفتور، والتفاتا إلى ما آلَ إليه أمرُ الذين مِن قَبلِهم! ثمّ قالوا: «واعفُ عنّا، واغفرْ لنا، و ارحَمْنا»،
والعفو: هو مَحو أثر الشيء، والمغفرة: هي السَّتر، والرحمة أمرٌ معروف.. فتدرّجوا من الفرع إلى الأصل، أو مِن الأخصّ إلى الأعمّ، فأرادوا: أن يُذهِبَ اللّه ُ أثرَ الذنب و يمحوَه؛ فلا يعاقبهم عليه، و هذا هو العفو. و أرادوا منه تبارك و تعالى أن يُذهِب ما في نفوسهم من هيئة الذنب، و هذه هي المغفرة. ثمّ أرادوا منه جلّ وعلا أن يَهبَهم عطاءَه الساترَ على الذَّنْب و هيئته، و تلك هي الرحمة.(3)
ويدعو المؤمنون ربَّهم عزّ وجلّ لحُسنِ ظنّهم به و رجائهم فيه،فيقولون: «ربَّنا إنّنا سَمِعنا مُناديا يُنادي للإيمانِ أن آمِنُوا بِربِّكم فامَنّا، ربَّنا
ص: 67
فاغفِرْ لنا ذُنوبَنا، و كفِّرْ عنّا سيّئاتِنا، و تَوَفَّنا معَ الأبرار * ربَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا على رُسُلِكَ، ولا تُخْزِنا يومَ القيامةِ إنّك لا تُخْلِفُ الميعاد»(1). لقد سألوا ربَّهم سبحانه: أن يغفر لهم، و يكفّر عنهم سيّئاتهم، ويتوفّاهم مع الأبرار. وسألوه أن يُنجزَهم ما وعَدَهم من الجنّة والرحمة على ما ضَمِنَه لهم رسلُ اللّه صلوات اللّه عليهم بإذن اللّه تبارك شأنه. كما سألوه ألاّ يُخزيَهم في ذلك الموقف الصعب العصيب.(2)الدرس هو أنّ اللّه القادر العليم يعفو عن خَلْقه العصاة الضعفاء، و قد دَعَوه مستغفرين، فأجابهم ليكونوا مطمئنّين مسرورين: «فاستجابَ لَهُم ربُّهم أنّي لا أُضِيعُ عملَ عاملٍ مِنكم مِن ذَكَرٍ أو أُثنى، بعضُكم مِن بعض..»(3)، إذن لماذا لانعفو عن إخواننا و نحن خطّاؤن مثلُهم؟ ولماذا نطلب العفوَ من اللّه عزّ شأنه و نرجوه منه، و نحن نحرمه الناسَ فلا يصدر العفوُ منّا عنهم؟ ولماذا نتوسّلُ إلى اللّه جلّ وعزّ بأن يغفرَ لنا ذنوبَنا ويسترَ علينا عيوبَنا ويقبل منا توبتَنا واستغفارنا، ثمّ لا نحبّ أن نغفرَ للمؤمنين ولا نعفو عنهم ولا نسترَ على أخطائهم ولا نقبل أعذارهم؟ ولعلّنا إلى أن نَعفوَ عنهم، أحوجُ منهم إلى عفونا عنهم! كيف؟
يقول الإمام محمّد الجوادعليه الصلاة والسلام: أهلُ المعروف إلى اصطناعه أحوجُ مِن أهل الحاجة إليه؛ لأنّ لهم: أجْرَه، و فَخْرَه، و ذِكْرَه.. فمهما اصطنع الرجلُ من معروفٍ فإنمّا يبتدئ فيه بنفسه(4).وما يُدرينا - أيّها الإخوة الأحبّة - فلعلّ عفوا، و هو من المعروف، يقع
ص: 68
في موقعٍ يُحسَب في صحيفة العبد من المنجيات، أو من أعماله الصالحات، و طاعاته المقبولات !
جاء عن الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
إنّ اللّه تبارك و تعالى أخفى أربعةً في أربعة: أخفى رِضاه في طاعته، فلا تستَصْغِرنّ شيئا مِن طاعتِه؛ فربّما وافق رضاه و أنت لاتعلم!..(1)
والمؤمنون - إلى عفوهم عن إخوانهم - يتمنّون أن يُغفَر لهم كما يتمنّون أن يُغفَر لأنفسهم، بل و يدعون لهم بذلك مِن قلوبهم: «والذين جاؤوا مِن بَعدهِم يقولونَ ربَّنا اغفرْ لنا و لإخوانِنا الذينَ سَبَقُونا بالإيمانِ، ولا تَجعَلْ في قلوبِنا غِلاًّ للذينَ آمَنُوا، ربَّنا إنّك رؤوفٌ رحيم»(2).. و أيّ خاتمةٍ أنسبُ مِن قوله تعالى: «ربَّنا إنّك رؤوفٌ رحيم»؟! إنّه الدرس الذي ينبغي أن نحظى بالتأمّل و التفكّر فيه، فنتعلّم الرأفة والرحمة من اللّه تعالى، تخلّقا بأخلاقه، و مِن ثمار ذلك يكون العفو.. وهو مسبوق بحبّ الناس والعطف عليهم و تمنّي المغفرة لهم.
في دعائه المبارك.. يقول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهاالسلام:
اللّهمّ صَلِّ على محمّدٍ و آلِ محمّد، واغفرْ لي ولِوالِدَيَّ و ما وَلدا، و مَن وَلَدْتُ و ما تَوالَدوا، ولأهلي و وُلْدي و أقاربي، و إخواني فيك، و جيراني، من المؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأموات، و لإخوانِنا الذينَ سبقونا بالإيمان، و لا تجعلْ في قلوبِنا غِلاًّ للذين آمَنُوا، ربَّنا إنّك رؤوفٌ رحيم»(3).
ص: 69
إذا عَلِمْنا أنّ اللّه تعالى عفوٌّ غفور، ورؤوفٌ رحيم، أصبحنا أمام هاتين الحقيقتين:
الأولى: حقيقة الرجاء بعفو اللّه سبحانه و مغفرته، و قد وسعتْ رحمتُه كلَّ شيء.. قيل للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: إنّ الحسن البصريّ قال: ليس العجَبُ مِمّن هلك كيف هلك، و إنّما العَجَب ممّن نجا كيف نجا! فقال عليه السلام: أنا أقول: ليس العَجَبُ ممّن نجا كيف نجا، و إنّما العَجَب ممّن هلك كيف هلَك مع سعة رحمة اللّه تعالى!(1)
الحقيقة الثانية: أنّ عفو اللّه تعالى إنّما يُنال بالتقوى والطاعة والتوبة، والرحمة بالناس، و منها العفو عن مسيئيهم، وهو القائل عزّ مِن قائل: «و رحمتي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ فسأكتبُها للذينَ يَتّقون..»(2)، والقائل:«إنّ رحمةَ اللّه ِ قريبٌ مِن المحسنين»(3).
وقد رُويَ أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال له: أُحبُّ أن يرحمَني ربّي، فقال صلى الله عليه و آله: ارحمْ نفسَك، وارحمْ خَلْقَ اللّه، يَرحمْك اللّه (4).
وجاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام في غرر حكمه و درر كلمه، قوله:
ببذلِ الرحمة، تُستنزَل الرحمة(5).أبلغُ ما تُستَدرُّ به الرحمة، أن تُضْمر لجميع الناسِ الرحمة(6). بالعفو، تَنْزلُ الرحمة(7).
و بديهيّ - أيّها الإخوة الأعزّة - أنّ من الرحمة واللُّطف والعطف، أن
ص: 70
يعفوَ المؤمن عن إخوانه، و لا ينتقم منهم إذا أساؤوا، بل يحفظ لهم كرامتهم، ولا يبخل عن نصيحتهم والدعاء لهم..
{يُروى أ نّه كان بين الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام و بين ابن عمّه حسن بن الحسن شيء من المنافرة، فجاء حسنٌ إلى عليّ بن الحسين عليه السلاموهو في المسجد مع أصحابه، فما ترك شيئا إلاّ قاله من الأذى، والإمام ساكت. ثمّ انصرف حسن.
فلمّا كان اللّيل، أتاه في منزله فقرع عليه الباب، فخرج حسنٌ إليه، فقال له الإمام عليه السلام: يا أخي، إن كنتَ صادقا فيما قلتَ لي فغَفرَ اللّه ُ لي، و إن كنتَ كاذبا فغَفَراللّه ُ لك، والسلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.
ثمّ ذهب عليه السلام، فأتبعه حسن والتزمه مِن خلفه و بكى.. حتّى رقّ له الإمام، ثمّ قال حسن: واللّه ِ لا عُدتُ إلى أمرٍ تكرهه. فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام: وأنت في حِلٍّ ممّا قُلتَه(1).
وهذا هو الخلُق الذي يحبّه اللّه تعالى و يرتضيه، ويدعو عباده إليه، و هو مِن أخلاقه تبارك شأنه.. حتّى أنّ عائشة سألت رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله عمّا تدعو في ليلة القدر، فأجابها صلى الله عليه و آله: تقولين: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تُحبّ العفو، فاعفُ عنّي(2).
وفي مناجاةٍ للإمام أمير المؤمنين عليه السلاميقول فيها: «إلهي، أفكّرُ في عفوِك فتهون علَيّ خطيئتي..»(3).وهذا الخلُق الإلهيّ باعثٌ على الرجاء والأمل، فنسارع بالتوبة
ص: 71
والاستغفار وطلب العفو ممّن يُرجى منه العفو، وهو اللّه العفوّ الغفور الرحيم. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى مناجاته:
«إلهي، إن كان صَغُر في جَنْب طاعتك عملي، فقد كَبُر في جَنْب رجائك أملي. إلهي، كيف أنقلب بالخيبة مِن عندك محروما، و كان ظنّي بك و بجودك أن تُقلبي بالنجاة مرحوما. إلهي، لم أُسلِّط على حُسنِ ظنّي قنوط الآيسين، فلا تُبطلْ صدقَ رجائي لك بين الآملين. الهي عَظُم جُرمي إذ كنتَ المبارَزَ به، و كَبُر ذنبي اِذ كنتَ المطالِبَ به، إلاّ أنّي إذا ذكرتُ كبيرَ
جرمي و عظيمَ غفرانك، و جدتُ الحاصلَ لي مِن بينهما عفوَ رضوانك..»(1). وكان من دعاء الإمام السجّاد عليه السلام إذا استقال من ذنوبه، أو تضرّع في طلب العفو عن عيوبه.. قوله:
«سبحانك ما أعجبَ ما أشهدُ به على نفسي، و أُعدّده مِن مكتومِ أمري! و أعجَبُ مِن ذلك أناتُك عنّي، و إبطاؤك عن معاجلتي! وليس ذلك مِن كرمي عليك، بل تأنّيا منك لي، و تفضّلاً منك علَيّ؛ لأنْ أرتدعَ عن معصيتك المُسخِطة، و أُقلعَ عن سيّئاتي المُخلِقة؛ ولأنّ عفوك عنّي أحبُّ إليك مِن عقوبتي. بل أنا ياإلهي أكثرُ ذنوبا، و أقبحُ آثارا، و أشنعُ أفعالاً، و أشدُّ في الباطل تهوّرا، و أضعفُ عند طاعتك تيقّظا، و أقلُّ لوعيدك انتباها و ارتقابا مِن أن أُحصيَ لك عيوبي، أو أقْدرَ على ذِكْرِ ذنوبي، و إنّما أُوبِّخ بهذا نفسي؛ طمعا في رأفتك التي بها صلاحُ أمر المذنبين، و رجاءً لرحمتك التي بها فَكاكُ رِقابِ الخاطئين.
اللّهمّ وهذه رقبتي قد أرّقَتْها الذنوب، فصَلِّ على محمّدٍ و آله وأعتقْهابعفوِك، و هذا ظهري قد أثقلَتْه الخطايا، فصلِّ على محمّدٍ و آله و خفِّفْ عنه
ص: 72
بمَنّك..»(1).
و هكذا تنتعش الآمال في قلوب العباد إذا أحسّوا أنّ الربّ الذي يرجونه عفوٌّ كريم، غفورٌ رحيم، تُرجى رحمتُه، و تتأخّر عن رأفته نقمتُه.. فإذا حَسُن الظنّ تفتّحتْ آفاق الرجاء. يناجي الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام ربَّه تبارك وتعالى فيقول له:
«إذا رأيتُ - مولايَ - ذنوبي فَزِعتُ، و إذا رأيتُ كرمَك طمِعتُ، فإنْ عفوتَ فخيرُ راحم، و إن عذّبتَ فغيرُ ظالم. حُجّتي يا أللّه ُ في جُرأتي على مسألتك - مع إتياني ما تكره - جودُك و كرمك، و عُدّتي في شدّتي - مع قلّة حيائي - رأفتُك و رحمتك، و قد رجوتُ أن لا تَخيبَ بينَ ذَينِ وذَينِ مُنْيتي، فحقِّقْ رجائي، و اسمعْ دعائي، يا خيرَ مَن دَعاه داعٍ، و أفضلَ مَن رجاه راجٍ.
عَظُم - يا سيّدي - أملي، و ساء عملي، فأعطِني مِن عفوِك بمقدارِ أملي، ولا تُؤاخذْني بأسوأ عملي؛ فإنّ كرمك يَجِلُّ عن مُجازاةِ المذنبين، و حِلْمَك يَكبُر عن مكافاةِ المقصّرين. و أنا - يا سيّدي - عائذٌ بفضلِك، هاربٌ منك إليك، مُتنجِّزٌ ما وعَدْتَ مِن الصَّفْحِ عمّن أحسَنَ بك ظنّا، و ما أنا - يا ربِّ - و ماخطري؟! هَبْني بفضلِك، و تصدّقْ علَيّ بعفوِك، أيْ ربِّ جلِّلْني بسَتْرِك، و اعْفُ عن توبيخي بكرمِ وجهِك..»(2).
والآن، لو تخلّقْنا بأخلاق اللّه جلّ و علا في صفة العفو، لكنّا في أنفسنا: أوّلاً - مترفّعين متسامين، و ثانيا - مُثابين مأجورين، و ثالثا - مرجوّينمحبوبين.. فكم مِن إخواننا مَن يخطأ معنا، أو يقصّر في حقّنا، أو يُسيء
ص: 73
إلينا، ثمّ يتمنّى لو يُصلح موقفَه، فإذا عَرَف منّا الحِلْمَ والسماحة والعفو و قبول العذر، عاد نادما معتذرا، منطويا قلبُه على زيادة المحبّة والنيّة على عدم العودة لِما بدر منه.
إن مكرمة العفو الأخلاقيّة تحظى بشرفٍ رفيع؛ لأنّها مِن أخلاق اللّه سبحانه و تعالى؛ إذ هو العفوّ الحليم، و كذا يريد عباده أن يكونوا، فيقول عزّوجلّ في محكم تنزيله: «لا يُحِبُّ اللّه ُ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القولِ إلاّ مَن ظُلِم، و كانَ اللّه ُ سميعا عليما * إنْ تُبدوا خيرا أو تُخْفوه أو تَعفُوا عن سوءٍ فإنّ اللّه َ كانَ عَفُوّا قديرا»(1).
يقول المفسِّرون: السُّوء من القول هو كلُّ كلامٍ يَسوء مَن قيل فيه، كالدعاء عليه وشتمِه بما فيه مِن المساوئ والعيوب، و بما ليس فيه، فكلُّ ذلك لا يُحبّ اللّه الجهرَ به و إظهارَه، و قوله تعالى «لا يُحبّ» هناكناية عن الكراهة التشريعيّة. ثمّ جاء الاستثناء المنقطع «إلاّ مَن ظُلِم» أي لا بأس على مَن ظُلِم أن يجهر بالسوء من القول فيمن ظَلَمه مِن حيث ظَلَم، و أمّا التعدّي إلى غيره ممّا ليس في الظالم أو ما لايرتبط بظلمه، فلا دليلَ على جواز الجهر به. «وكانَ اللّه ُ سميعا عليما» أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول مِن غير المظلوم فإنّ اللّه تعالى يسمع القول و يعلم به.
ثمّ قال عزّ مِن قائل: «إنْ تُبدوا خيرا أو تُخفُوه أو تَعفوا عن سُوءٍ فإنّ اللّه َ كانَ عَفُوَّا قديرا»، وهذه الآية ترتبط بالتي قبلها، فإنّها تشمل إظهارَ الخير مِن القول شكرا لنعمةٍ أنعَمَها منعمٌ على الإنسان، و تشمل العفوَ عن السوء والظلم فلا يُجهَر على الظالم بالسوء من القول. والعفو عن السوء هو الستر عليه قولاً.. بأن لا يذكرَ ظالمَه بظلمه، ولايَذهبَ بماء وجهه عند الناس،
ص: 74
ولا يجهرَ عليه بالسوء من القول، و فعلاً.. بأن لايواجهَه بما يقابل ما أساء به، ولا ينتقمَ منه فيما يجوز ذلك..
ثمّ خُتمت الآية الشريفة بقوله عزّوجلّ: «فإنّ اللّه َ كانَ عَفُوّا قديرا»، وهذا سببٌ أُقيم مَقامَ المسبِّب، والتقدير: أن تعفوا عن سوءٍ فقد اتّصفتُم بصفةٍ من صفات اللّه الكماليّة، و هي صفة العفو عند المقدرة؛ فإنّ اللّه - وهو القادر - ذو عَفْوٍ على عباده(1).
ربّما يتساءل هنا متحيّر: كيف يأمر اللّه تعالى بالعفو عن الظالم و لا يحبّ الجهرَ بالسوء عليه، وهو جلّ و علا لايحبّ الظلم ولا أهله، و ينهى عن الظلم و يأمر بردّه؟
والجواب: أنّ المَقام هنا مقامُ إصلاحِ ذاتِ البين بين المؤمنين الذين قد يقع الظلم بينهم في تعاملٍ أو معاملة، فيُستحبّ للمظلوم أن يعفوَ عن أخيه الظالم، و ألاّ يجهر عليه بالسوء؛ لأنّ في الجهر هتكا و إخزاءً يُحرِجان الظالم و يسدّانِ عليه طريقَ التراجع والاعتذار، وربّما يستفزّانِه إلى أن تأخذه العِزّة بالإثم، و أن يغلبه العنادُ أو التبريرُ المجانب للحقّ والمنطق السليم.
والعفو - وهو ستر - يهيّئ للظالم المسلم فرصةً يُعيد فيها النظر حول موقفه، فيتراجع ويعتذر، وربّما جاء العفو ليبدّل البغض إلى محبّة، والخصومة إلى صداقة، والحقد إلى مصالحة.. إذا صبر المظلوم و عفا، قال تعالى: «ولا تَستوي الحسَنةُ ولا السيّئةُ ادفَعْ بالّتي هيَ أحسنُ فإذا الّذي بينَك و بينَه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم * وما يُلقّاها إلاَّ الّذينَ صَبَروا و ما يُلقّاها إلاّ ذُو حَظٍّ
ص: 75
عظيم»(1).
فالعفو عن الإخوة المؤمنين يحظى بالشرف الرفيع؛ إذ : هو خُلُقٌ إلهيٌّ يتشرّف العبدُ بالتخلّق به، و خلُقٌ إنسانيّ يُعزّ المرءَ و يُحبّبه إلى الناس، و يوفّقه للستر على المسيئين و إصلاحهم. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: علكيم بالعفو؛ فإنّ العفو لايزيد العبدَ إلاّ عِزّا، فتعافُوا يُعِزَّكمُ اللّه.(2) وللشيخ المجلسيّ هنا بيان جدير بالاستفادة منه، حيث يقول: «لا يَزيدُ العبدَ إلاّ عِزّا» أي في الدنيا؛ ردّا على ما يُسوِّل الشيطانُ للإنسان بأنّ ترك الانتقام يوجب المذلّةَ بين الناس و جرأتَهم عليه. وليس كذلك، بل يصير (العفو) سببا لرفعة قَدْره و علوّ أمره عند الناس، لاسيّما إذا عفا مع القدرة. و تركُ العفو ينجرّ إلى المعارضات والمجادلات، و المرافعة إلى الحكّام، أو إلى إثارة الفتنة الموجبة لتلف النفوس والأموال، و كلُّ ذلك مورِثٌ للمذلّة، والعزّةُ الأُخروية (للعفو) ظاهرة - كما مرّ (في الروايات) - ، والتعافي عفوُ كلٍّ عن صاحبه(3).
* ورُوي عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: ثلاث لايزيد اللّه ُ بهنّ المرءَ المسلم إلاّ عِزّا: الصفحُ عمّن ظلَمه، وإعطاء مَن حَرَمه، و الصلة لمَن قطَعَه.(4)
* وروى الآبيّ قال: أُدخِل رجلٌ إلى المأمون أراد ضربَ رقبته، والرضا عليه السلامحاضر، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال عليه السلام: أقول:إنّ اللّه لا يَزيدك بحُسن العفو إلاّ عزّا. فعفا عنه(5).
* وروى محمّد بن سنان، قال: كنتُ عند مولاي الرضا عليه السلام بخراسان،
ص: 76
وكان المأمون يُقعده على يمينه إذا قعد للناس يوم الإثنين ويوم الخميس، فرُفع إلى المأمون أنّ رجلاً من الصوفيّة سرق، فأمر بإحضاره، فلمّا نظر إليه وَجَده متقشّفا بين عينيه أثرُ السجود، فقال له: سَوءةً لهذه الآثار الجميلة ولهذا الفعل القبيح! أ تُنسَب إلى السرقة مع ما أرى مِن جميل آثارك و ظاهرك؟! قال: فعلتُ ذلك اضطرارا لا اختيارا، حين منعتَني حقّي مِن الخُمس والفيء، فقال المأمون: أيُّ حقٍّ لك في الخُمس والفيء؟ قال: إنّ اللّه تعالى قسّم الخمس ستّةَ أقسام، فقال: «واعلَمُوا أَنّما غَنِمتُم مِن شيءٍ فأنّ للّه ِ خُمُسَه و للرسولِ ولِذي القُربى واليتامى والمساكينِ و ابنِ السبيلِ إنْ كنتُم آمنتُم
باللّه ِ و ما أنْزَلْنا على عبدِنا يومَ الفُرقانِ يومَ التَقَى الجمعان»(1)، و قسمّ الفيء على ستّة أقسام، فقال اللّه تعالى: «ما أفاءَ اللّه ُ على رسولهِ مِن أهلِ القُرى فلِلّهِ وللرسولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكينِ و ابنِ السبيلِ كي لايكونَ دُولةً بينَ الأغنياءِ منكم»(2)، فمنعتَني حقّي و أنا ابن السبيل منقطعٌ بي، و مسكين لا أرجع على شيء، و من حملة القرآن. فقال له المأمون: أُعطّل حدّا من حدود اللّه، وحكما من أحكامه في السارق، مِن أجل أساطيرك هذه؟! فقال الصوفيّ: إبدأْ بنفسك تطهّرها ثمّ طهّرْ غيرَك، و أقِمْ حدَّ اللّه عليها ثمّ على غيرك!
فالتفت المأمون إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: ما يقول؟! فقال: إنّه يقول سُرِقَ فسَرَق! فغضب المأمون غضبا شديدا، ثمّ قال للصوفيّ: واللّه ِ لأقطعنّك، فقال الصوفيّ: أتقطعني وأنت عبدٌ لي؟! فقال المأمون: ويلك ! ومِن أين صِرتُ عبدا لك؟! قال: لأنّ أمّك اشتُريتْ مِن مال المسلمين،فأنت عبدٌ لمَن في المشرق والمغرب حتّى يعتقوك، و أنا لم أعتقك، ثمّ
ص: 77
بلعتَ الخُمس، و بعد ذلك فلا أعطيتَ آلَ الرسول حقّا ولا أعطيتَني ونظرائي حقَّنا، و الأُخرى أنّ الخبيث لا يُطهِّر خبيثا مِثْلَه، إنّما يطهّره طاهر،
و مَن في جنبه الحدّ لايقيم الحدودَ على غيره حتّى يبدأ بنفسه، أما سمعتَ اللّه تعالى يقول: «أ تَأمُرونَ الناسَ بالبِرِّ و تَنسَونَ أنفسَكم و أنتُم تَتلُونَ الكتاب، أفَلا تَعقِلون؟!»(1).
فالتفت المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال: ما ترى في أمره؟ فقال عليه السلام: إنّ اللّه تعالى قال لمحمّدٍ صلى الله عليه و آله: «قُلْ فلِلّهِ الحُجّةُ البالغة»(2)، و هي التي لم تبلغ الجاهلَ فيعلمها على جهله كما يعلُمها العالم بعلمه، والدنيا و الآخرة قائمتانِ بالحُجّة، وقد احتجّ الرجل.
فأمر المأمون عند ذلك (مُحرَجا!) بإطلاق الصوفيّ، و احتجبَ عن الناس، واشتغل بالرضا عليه السلام حتّى سمَّه فقتَلَه!(3)
* * *
ثانيا: الشرف الآخر للعفو هو أ نّه من سُنن الأنبياء والمرسلين صلوات اللّه على نبيّنا و آله وعليهم أجمعين، و من أخلاقهم و سجاياهم، وكذلك هو من صفات الصالحين والأبرار والمتّقين.
* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في بيان العفو:
العفو عند القدرة مِن سُنن المرسَلين و المتّقين. وتفسير العفو أن تُلزِمَ صاحبَك فيما أجرم ظاهرا، و تنسى من الأصل ما أصبتَ منه باطنا، و تَزيدعلى الاختيارات إحسانا. ولن يَجدَ إلى ذلك سبيلاً إلاّ مَن عفا اللّه ُ عنه، و غفَرَ له ما تقدّم مِن ذنبه و ما تأخّر، و زيّنه بكرامته، و ألبَسَه مِن نور بهائه؛
ص: 78
لأنّ العفو والغفران صفتان مِن صفات اللّه عزّوجلّ، أودَعَهما في أسرار أصفيائه، ليتخلّقوا مع الخَلق بأخلاق خالقهم، و جعَلَهم كذلك، قال اللّه عزّوجلّ: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، ألاَ تُحِبُّونَ أن يَغفِرَ اللّه ُ لكُم، واللّه ُ غَفورٌ رَحيمٌ».(1)
ومَن لايعفو عن بَشَرٍ مِثله، كيف يرجو عفوَ مَلِكٍ جبّار؟!
قال النبيّ صلى الله عليه و آله حاكيا عن ربّه يأمره بهذه الخصال، قال: صِلْ مَن قطَعَك، و اعْفُ عمّن ظَلَمك، وأعطِ مَن حرَمَك، و أحسِنْ إلى مَن أساء إليك. ثمّ قال الإمام الصادق عليه السلام:
وقد أُمِرنا بمتابعته، يقول اللّه عزّوجلّ: «ما آتاكُمُ الرسولُ فَخُذوه و مانَهاكُم عنه فانتَهُوا»(2). و أضاف عليه السلام قائلاً:
والعفو سرّ اللّه في القلوب، قلوبِ خواصّه، مِمّن يُسِرّ له سرَّه، و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آلهيقول: أيَعجَز أحدكم أن يكون كأبي ضَمْضَم؟!
قالوا: يا رسول اللّه، و ما أبو ضمضم؟ قال: رجلٌ كان ممّن قبلكم، كان إذا أصبح يقول: اللّهمّ إنّي أتصدّق بعِرضي على الناس عامّة(3).
إخوتَنا الأعزّة.. لضرورة العفو و أهمّيّته، ولآثاره الحسنة في إصلاح النفوس وشدّ الوشائج الإنسانيّة الطيّبة، واستدراك الأخطاء والمساءات، أمَرَ اللّه تبارك وتعالى عبادَه المقرّبين، من الأنبياء والمرسَلين صلوات اللّه عليهم أجمعين، أن يعاملوا الناسَ بالرِّفق، ويقابلوهم بالصبر والحِلموالإحسان، و أن يعفوا عنهم فيما يبدر منهم مِن بوادر سيّئة تنمّ عن عصبيّةٍ عمياء أو جهل أو غرور.
ص: 79
والأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام هُم أَولى مِن غيرهم بالتخلّق بأخلاق اللّه جلّ وعلا، فهُم أصفياء اللّه، و حَمَلة الحقّ والخير والفضيلة إلى عباد اللّه، و هم الهداة الدعاة إلى دين اللّه، و إلى أخلاق اللّه،
فكانوا الأجدر بالتحلّي بأخلاق ربّهم تبارك و تعالى قبل أن يدعوا إلى اللّه.. فعفَوا، و صفحوا، و حلموا.. ثمّ دَعَوُا الملأ إلى ذلك، حتّى قال عيسى ابن مريم عليهماالسلام:
صِلُوا مَن قطَعَكم، و أعطوا مَن منَعَكم، و أحسِنوا إلى مَن أساء إليكم، و سَلِّموا على مَن سَبّكم، و أنصِفُوا مَن خاصَمَكم، و اعفوا عمّن ظلَمَكم كما أنّكم تُحبّون أن يُعفى عن إساءتكم، فاعتبِروا بعفو اللّه عنكم، ألاَ تَرَون أن شمسه أشرقَتْ علَى الأبرار و الفُجّار منكم، و أنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين منكم؟! فإن كنتُم لا تحبّون إلاّ مَن أحبّكم، ولا تُحسنون إلاّ إلى مَن أحسَنَ إليكم، ولا تكافئون إلاّ مَن أعطاكم، فما فضلُكم إذا على غيركم؟! وقد يصنع هذا السفهاءُ الذين ليست عندهم فضولٌ ولا لهم أحلام.
ولكنْ إن أردتُم أن تكونوا أحبّاءَ اللّه و أصفياءَ اللّه، فأحسِنُوا إلى مَن أساءَ إليكم، و اعفوا عمّن ظلَمَكم، و سَلِّموا على مَن أعرض عنكم. اسمعوا قولي، و احفَظوا وصيّتي، وارعَوا عهدي؛ كيما تكونوا علماءَ فقهاء..(1).
وكما أمر اللّه تبارك و تعالى أنبياءَه ورسلَه مِن قبل، كذلك أمر نبيَّه المصطفى محمّدا صلى الله عليه و آلهأن يتحلّى بالعفو، و أن يواجه تلك البداوة الخشنة والجفوة الصحراوية والمجتمع المعاند الجاهل، بالخُلُق العظيم، و دعاه سبحانه إلى أن يعفو عن المسيئين و المخطئين، و أن يغضّ نظرَه الشريفعمّا يصدر منهم ممّا لايليق، فخاطبه جلّ وعلا ممتنّا: «فَبِما رحمةٍ مِن اللّه
ص: 80
لِنْتَ لَهُم، ولو كنتَ فَظّا غليظَ القلبِ لاَنْفَضُّوا مِن حَولِك، فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم و شاوِرْهم في الأمرِ..»(1).
قيل في تفسير ذلك: في الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله، و أصل المعنى: قد لانَ لكم رسولُنا برحمةٍ منّا؛ ولذلك أمَرْناه أن يعفوَ عنكم و يستغفر لكم ويُشاورَكم في الأمر..
فأعرض اللّه تعالى عن مخاطبتهم والتفتَ إلى نبيّه صلى الله عليه و آله، فخاطبه بقوله: «فبما رحمةٍ مِن اللّه لِنْتَ لَهُم»، و أمَرَه عزّوجلّ بقوله: «فاعفُ عنهم واستَغْفِرْ
لَهُم وشاوِرْهم في الأمر»؛ ليكون ذلك إمضاءً لسيرة النبيّ صلى الله عليه و آله، فإنّه كذلك كان يفعل، و قد أمرَه أن يعفو عنهم، فلا يُرتَّبَ على فعالهم أثرُ المعصية، و أن يستغفرَ لهم - وهو تعالى فاعلُه لا محالة -(2).
وقد سبقَ الأمْرَ بالعفو ذِكْرُ الرحمة واللِّين، ونفيُ الفظاظة وغلظة القلب عن أخلاق المصطفى صلى الله عليه و آله. و كأنّ ذلك كلَّه يُهيّئ للمؤمن خُلقَ العفو، كما تهيّأ للمرسلين والنبيّين سلام اللّه عليهم أجمعين. و كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله عَفُوّا رحيما، يكفي في ذلك وصفُ الباري له في كتابه الحكيم: «لَقَدْ جاءَكُم رسُولٌ مِن أنفسِكُم عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّم حريصٌ عليكُم بالمؤمنينَ رؤوفٌرحيم»(3)، فهو صلى الله عليه و آله من رحمته يَشقّ عليه ضُرُّهم و هلاكهم، و كان حريصا عليهم جميعا: مؤمنهم و كافرهم؛ إذ يحبّ الخير لهم جميعا، و إن خصَّ المؤمنين بالرأفة والرحمة، و ذلك هو الحقّ والعدل. وكان مِن أمر اللّه تعالى له أن يعفوَ عمّن بقيَ مِن بني إسرائيل، فخاطبه بقوله: «فَبِما نَقْضِهم ميثاقَهم
لَعَنّاهُم و جَعَلْنا قلوبَهم قاسيةً يُحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضعِه ونَسُوا حَظّا ممّا ذُكِّروا
ص: 81
به، و لا تَزالُ تَطَّلعُ على خائنةٍ مِنهم إلاّ قليلاً مِنهم، فاعْفُ عنهم واصْفَحْ، إنّ اللّه َ يُحبّ المحسنين»(1).
وإنّما يستفيد مِن العفو العاقل، كما يستفيد المحسنُ من إحسانه، فلكلِّ خلُقٍ ثمرُه، وقد قال تعالى: «إنْ أحسَنْتُم أحسَنتُم لأنفسِكم، وإنْ أسَأْتُم فَلَها»،(2) وقد أحسن رسول اللّه صلى الله عليه و آلهإلى البشريّة؛ إذْ دعا إلى الهدى والخير والصلاح، وصبر على ذلك وعفا عمّن أساء إليه، فماذا استفاد الناس مِن ذلك وقد سبقَتْ لهم من اللّه الحسنى؟!
قال تعالى: «و لَقد كُذِّبتْ رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فصَبَروا على ما كُذِّبوا و أُوذُوا..»(3).
وقال جلّ وعلا: «وجعَلْنا منهم أئمّةً يَهْدُونَ بأمرِنا لمّا صَبَروا..»(4).
{أوصى الإمام الصادق عليه السلام أحدَ أصحابه، فقال له:
عليك بالصبر في جميع أمورك ؛ فإنّ اللّه عزّوجلّ بعَثَ محمّدا صلى الله عليه و آله فأمرَه بالصبر والرِّفْق فقال: «واصْبِرْ على ما يقولونَ واهْجُرْهُم هَجْرا جميلاً * وذَرْني والمُكذِّبين أُولي النِّعْمة»(5)، وقال تبارك وتعالى: «إدفعْ بالّتي هيَ أحسَنُ [السيّئةَ(6)] فإذا الذي بينَك وبينَه عَداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم * و ما يُلقّاها إلاَّ الّذينَ صَبَروا و ما يُلقّاها إلاّ ذُو حَظٍّ عظيم»(7)، فصَبَر رسول اللّه صلى الله عليه و آلهحتّىنالوه بالعظائم و رَمَوه بها،(8) فضاق صدره، فأنزل اللّه عزّوجلّ عليه: «ولَقَد نَعلَمُ أنّك يَضيقُ صدرُك بِما يَقولُون * فَسَبِّحْ بحَمْدِ ربِّكَ وكُن مِن
ص: 82
الساجِدين»(1). ثمّ كذّبوه ورَمَوه، فحزَنَ لذلك، فأنزل اللّه عزّوجلّ: «قَدْ نَعلمُ
إنّه لَيَحْزُنُك الّذي يقولون فإنّهم لا يُكَذِّبونَك و لكنّ الظالمينَ بآياتِ اللّه ِ يَجحَدُون * ولَقَد كُذِّبتْ رسُلٌ مِنْ قَبلِكَ فصَبَروا على ما كُذِّبوا و أُوذُوا حتّى أتاهُم
نصرُنا»(2)، فألزمَ النبيُّ صلى الله عليه و آله نفسَه الصبر، فَتَعَدَّوا فذكروا اللّه َ تبارك وتعالى و كذّبوه، فقال: قد صبرتُ في نفسي و أهلي و عِرضي، و لا صبرَ لي على ذِكْر إلهي، فأنزل اللّه عزّوجلّ: «ولَقَد خَلَقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بينَهُما في ستّةِ أيّامٍ و ما مَسَّنا مِن لُغُوب * فاصبرْ على ما يقولون»(3)، فصَبرَ النبيُّ صلى الله عليه و آله في جميع أحواله، ثمّ بُشِّر في عترته بالأ ئمّة و وُصِفُوا بالصبر، فقال جلّ ثناؤه: «وجَعَلْنا مِنْهم أئمّةً يَهْدُونَ بأمرِنا لَمّا صَبَروا و كانُوا بآياتِنا يُوقِنون»(4)، فعند ذلك قال صلى الله عليه و آله: الصبرُ مِن الإيمان، كالرأسِ مِن الجسد. فشكَرَ اللّه ُ عزّوجلّ ذلك له، فأنزل اللّه ُ عزّوجلّ: «وتَمّتْ كلمةُ ربِّك الحُسنى على بَني إسرائيلَ بما صَبَروا، و دَمَّرْنا ما كانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وقومُه و ما كانُوا يَعرِشُون»(5)، فقال صلى الله عليه و آله: إنّه بشرى وانتقام. فأباح اللّه ُ عزّوجلّ له قتالَ المشركين، فأنزل اللّه: «فاقتُلُوا المشركينَ حيثُ وَجَدتُموهُم، و خُذوهُم واحصُروهم واقْعُدوا لَهُم كلَّ مَرْصَد»(6)، «واقْتُلُواهم حيثُ ثَقِفْتُموهُم»(7)، فقتَلَهم اللّه على يَدَي رسولاللّه صلى الله عليه و آله و أحبّائه، وجعَلَ له ثوابَ صبرِه مع ما ادّخر له في الآخرة. فمَن صَبَر و احتسب لم يَخرجْ مِن الدنيا حتّى يقِرَّ اللّه له عينَه في أعدائه، مع مايدّخر له في الآخرة.(8)
ص: 83
وكذلك - إخوتنا الأعزّة - مَن عفا، لم يخرج من الدنيا حتّى يرى الرحمة مع ما يُدَّخَر له هنالك في الآخرة، فالعفو صلاح وإصلاح، وهو خير الدارَين و سعادتهما، و هو خُلُق اللّه تعالى و خلق أنبيائه عليهم السلام، و كفى بالعافي ذلك له شرفا و عزّةً و كرامة، وقد تخلّق بأخلاق بارئه و أخلاق أنبيائه.
* يناجي الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام ربَّه سبحانه فيقول: إلهي، لوسألتَني حسناتي لَوهبتُها لك، مع فَقري إليها و أنا عبد، فكيف لاتَهَبُ لي سيّئاتي مع غِناكَ عنها و أنت ربّ. إلهي أمَرْتَنا أن نعفوَ عمّن ظَلَمنا، و قد ظَلَمْنا أنفسَنا، فاعفُ عنا، و أمَرْتَنا أن نتصدّق على فقرائنا، و نحن فقراؤُك، فتصدّقْ علينا، و أمَرْتَنا أن لا نَرُدَّ السائلين عن أبوابِنا، و نحنُ مَساكينُك، فلا تَرُدَّنا عن أبوابِك. إلهي أمَرْتَنا أن نُعتِقَ مِن مماليكِنا مَن قد شابَ في مُلْكِنا، وقد شِبْنا في مُلْكِك، فأعتِقْنا مِن النار(1).
فالعفو مِن أخلاق اللّه جلّت رحمته، وقد تمثّل في أخلاق الأنبياء
والمرسلين سلام اللّه عليهم أجمعين، و تجلّى في أخلاق سيّدهم و خاتمهم رسول اللّه المصطفى الصادق الأمين صلوات اللّه عليه وعلى آله الطيّبين.وقد وُصف النبيّ صلى الله عليه و آله بالعفو والحلم، و الصبر والصفح، حيث رُوي أ نّه صلى الله عليه و آله كان أحلمَ الناس، و أرغبَهم في العفو مع القدرة(2)، و أ نّه كان صلى الله عليه و آلهأحكمَ
الناس و أحلمَهم، و أعدلَهم وأعطفهم.. لايَجزي بالسيّئة السيّئة، ولكنْ يغفرو يصفح(3)، وكان لا يجفو على أحد، و يقبل معذرةَ المعتذر(4). ولم ينقل ذلك
ص: 84
أهلُ الأخبار من علماء المسلمين فحسب، بل ورد أيضا على لسان المنصفين كذلك، منهم «لورد هدلي» حيث كتب في رسالةٍ له بمناسبة مولد النبيّ محمّدٍ صلى الله عليه و آله هذه العبارات :
لمّا جاء محمّد عليه السلام، كان داعيا إلى الرحمة والعدل والكرم، و الشجاعة والصبر على المكاره، و غيرِ ذلك من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة.. إنّ كثيرا مِن كتّاب التراجم والسِّيَر الأُوربيّين الذين تناولوا سيرة نبيّ الإسلام، لم يتعفّفوا عن أن يشوّهوا هذه السيرة.. ولو رجعنا إلى التاريخ و حكّمناه في هذه المسألة، لَتبيّن لنا أنّ القسوة لم تكن قطُّ مِن أخلاق محمّد صلى الله عليه و آله ؛ و ذلك بدليل معاملته للأسرى بعد معركة «بدر»، و مسامحته لأعدائه وصبرِه على أذاهم، و عطفِه على الأطفال والمرضى، و حقنه للدماء، وعفوِه عن أُولئك الذين قَضَوا في محاربته ثمانيةَ عشر عاما، و أظهروا له فيها كلَّ صنوف العداء، و أذاقوه مِن خلالها كلَّ أنواع الجور والظلم والاضطهاد..
إلى أن قال «هدلي»: أفَلا يُعتبَر هذا كلُّه دليلاً على أنّ محمّدا صلى الله عليه و آله لم يكن متّصفا بالقسوة.. وقد نال نبيُّ الإسلام عليه السلام حبَّ العالم أجمع، و حبَّ أعدائه بوجهٍ خاصّ؛ و ذلك عندما ضرب مثلاً في مكارم الأخلاق بإطلاق عشرة آلاف أسير كانوا في يومٍ من الأيّام يعملون على قتله و الفتك به،و إيرادِه و أصحابِه مواردَ الهلاك..(1)و مصاديق ماكتبه «هدلي» في أسطره القليلة، كثيرة جدا.. ففي الروايات أ نّه لمّا أنزل اللّه تعالى: «فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ و أعرِضْ عنِ
ص: 85
المشركين»(1)، قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله على الصفا و نادى في أيّام الموسم: أيُّها الناس، إنّي رسول اللّه ربِّ العالمين. فرمقه الناس بأبصارهم - قالها ثلاثا - ثمّ انطلق حتّى أتى المَرْوة، ثمّ وضع يده في أُذُنه ثمّ نادى ثلاثا بأعلى صوته: ياأيُّها الناس، إنّي رسول اللّه - ثلاثا - ، فرمقه الناس بأبصارهم، و رماه أبو جهل قبّحه اللّه بحجرٍ فشجّ بين عينَيه، و تَبِعه المشركون بالحجارة، فأتى الجبل فاستند إلى موضع يُقال له «المتّكأ»، و جاء المشركون في طلبه. وجاء رجلٌ إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلاموقال: يا عليّ، قد قُتِل محمّد! فانطلق إلى منزل خديجة رضي اللّه عنها، فدقّ الباب، فقالت خديجة: مَن هذا؟ قال: أنا عليّ، قالت: يا علي، ما فعل محمّد؟ قال: لا أدري، إلاّ أنّ المشركين قد رَمَوه بالحجارة، فأعطيني شيئا فيه ماء، و خذي معكِ شيئا مِن حِيس(2).
وانطلقا يبحثانِ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الوادي.. عليّ سلام اللّه عليه ينادي: يا محمّدُ يا رسولَ اللّه، نفسي لك الفداء، في أيّ وادٍ أنت مُلقى؟ و خديجة رضوان اللّه عليها تنادي: مَن أحسَّ ليَ النبيَّ المصطفى، مَن أحسّ ليَ الربيع المرتضى، مَن أحسّ ليَ المطرودَ في اللّه، مَن أحسّ لي أبا القاسم؟ و كان جبرئيل عليه السلام قد هبط على النبيّ صلى الله عليه و آله و قال له: يا محمّد، أتُريدأن تعلم كرامتَك على اللّه؟ قال: نعم، قال: فادعُ إليك الشجرةَ تُجِبْك. فدعاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فأقبلَتْ حتّى خرّت بين يديه ساجدة، فقال جبرئيل: يا محمّد، مُرْها ترجع. فأمَرَها، فرجعَتْ إلى مكانها. وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا، فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، قد أمَرَني ربّي أن أُطيعك، أفتأمرُني أن أنثر عليهم النجومَ فأُحرِقَهم؟ و أقبل عليه مَلَك
ص: 86
الشمس فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، أتأمرني أن آخُذَ عليهم الشمس فأجمعَها على رؤوسهم فتُحرقَهم؟ و أقبلَ مَلَكُ الأرض فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، إنّ اللّه عزّوجلّ قد أمرني أن أُطيعك، أفتأمرُني أن آمُرَ الأرضَ
فتجعلَهم في بطنها كما هم على ظهرها؟ و أقبل مَلَكُ الجبال فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، إنّ اللّه قد أمرَني أن أُطيعك، أفتأمرُني أن آمُرَ الجبالَ فتنقلبَ عليهم فتُحطِّمَهم؟ و أقبل مَلَك البحار فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، قد أمرني ربّي أن أُطيعك، أفتأمرُني أن آمُرَ البحار فتُغرِقَهم؟
فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: قد أُمِرتُم بطاعتي؟ قالوا: نعم. فرفَع رأسه إلى السماء و نادى: إنّي لم أُبعَثْ عذابا، إنّما بُعِثتُ رحمةً للعالمين، دَعُوني وقومي؛ فإنّهم لايعلمون(1).
ويوم تمكّن مِن أعدائه، قابل صلى الله عليه و آلهإساءاتِهم بإحسانه، وصفح وعفا عنهم، و أطلَقَهم دون أن يقتصَّ منهم، ولمّا نُقل إليه أنّ رايته نُودِيَ بها لدى دخول مكّة:
اليومَ يوم الملحمة***اليومَ تُسبى الحُرَمة
نادى على الإمام عليٍّ عليه السلام أنْ يسحب الرايةَ مِن حاملها، قائلاً له: أدْرِكْه فَخُذِ الرايةَ منه، و كنْ أنت الذي يدخل بها، و أدخِلْها إدخالاً رفيقا. فأدخَلَها الإمام عليّ عليه السلام كما أمره المصطفى صلى الله عليه و آله. ودخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله
مكّة، و ظنّ صناديد قريش أنّ السيف سينالهم ولا يُرفع عنهم، فدخلوا الكعبة، فوقف رسول اللّه صلى الله عليه و آلهعلى باب الكعبة، فقال: لا إله إلاَّ اللّه ُ وحدَه وحدَه، أنجَزَ وَعْدَه، و نصَرَ عبدَه، و هزمَ الأحزابَ وحدَه. ثمّ قال: ألا لَبِئس
ص: 87
جيرانُ النبيّ كنتم! لقد كذّبتم وطردتم، و أخرجتُم و آذيتم، ثمّ مارضيتُم حتّى جئتموني في بلادي تقاتلونني، فاذهبوا فأنتمُ الطلقاء!
فخرج القومُ و كأنّما نُشِروا من القبور، ودخلوا الإسلام(1).
وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لعمّه العبّاس - في أبي سفيان - : خُذْه فأقعِدْه هناك، ليراه الناسُ جنودُ اللّه ويراها(2). وقد رأى أبو سفيان سيل المسلمين، فقال للعبّاس: ما أعظمَ مُلْكَ ابن أخيك! فقال له العبّاس: يا أبا سفيان ! هي نبوّة.
ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: تقدّمْ إلى مكّة فأعلِمْهم بالأمان(3). و كان صلى الله عليه و آله عَهِد إلى المسلمين ألاّ يقتلوا بمكّة إلاّ مَن قاتَلَهم، سوى نفر(4). و قد تبرّأ
النبيّ صلى الله عليه و آله مِن فعلة خالد بن الوليد - و كان قتَلَ اثنين في طريقه - .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لمّا قَدِم رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكّةَ يوم افتتحها،فتحَ باب الكعبة فأمر بصُوَرٍ في الكعبة فطُمستْ، ثمّ أخذ بعضادتَيِ الباب فقال: لا إله إلاّ اللّه ُ وحدَه لاشريك له، صدَقَ وعدَه، و نصَرَ عبدَه، و هزَمَ الأحزابَ وحدَه.. ماذا تقولون، و ماذا تظنّون؟ فقالوا: نظنّ خيرا، ونقول خيرا، أخٌ كريم، و ابن أخٍ كريم، و قد قدرتَ، فقال صلى الله عليه و آله: فإنّي أقول كما قال أخي يُوسُف: «لا تَثْريبَ عليكمُ اليومَ يَغفِرُ اللّه ُ لكُم، وهو أرحمُ الراحمين».
هكذا عُرِف العفو في أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله سجيّةً بارزةً يُرجى منهاترك العقوبة، ليس مع إخوانه و أصحابه فحَسْب، بل حتّى مع شانئيه
و أعدائه والمقبلين على قتله..
ص: 88
* عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أُتيَ باليهوديّة التي سَمّتِ الشاةَ للنبيّ صلى الله عليه و آله، فقال لها: ما حمَلَكِ على ما صنعتِ؟! فقالت: قلتُ: إنْ كان نبيّا لم يَضُرَّه، و إن كان مَلِكا أرحتُ الناسَ منه. قال: فعفا رسولُ اللّه صلى الله عليه و آلهعنها(1).
* وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لليهوديّ الذي سَحَره:
ماحَمَلك على ما صنعت؟ قال: علمتُ أ نّه لايضرُّك و أنت نبيّ.(2) قال: فعفا
عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله(3).
* وعن أميرالمؤمنين عليٍّ عليه السلام قال: إنّ يهوديّا كان له على رسول اللّه صلى الله عليه و آلهدنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ، ما عندي ما أُعطيك. فقال: فإنّي لا أُفارقك يامحمّدُ حتّى تقضيَني. فقال: إذنْ أجلسُ معك. فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهرَ والعصر و المغرب والعشاء الآخرة والغداة.. و كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله يهدّدونه و يتوعّدونه، فنظر رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟! فقالوا: يا رسولَ اللّه، يهوديٌّ يَحبسُك؟! فقال صلى الله عليه و آله: لم يبعثني ربّي عزّوجلّ بأن أظلمَ معاهِدا ولا غيرَه. فلمّا علا النهارُ قال اليهوديّ: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أشهد أنّ محمّدا عبدُه و رسوله، وشطرُ مالي في سبيل اللّه.. أما واللّه ِ ما فعلتُ بك الذي فعلتُ إلاّ لأنظرَ إلى نعتك في التوراة؛ فإنّي قرأتُ نعتَك في التوراة: محمّدُ بن عبداللّه، مولدُه بمكّة و مهاجره بطِيبة، وليس بفَظٍّ ولا غليظٍ ولا سَخّاب، ولا متزيّنٍبالفُحش ولا قول الخَناء.. وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّك رسول اللّه، وهذا
ص: 89
مالي فاحكُم فيه بما أنزل اللّه.(1)
إنّه الرحمة المهداة إلى البشر جميعا، فجاء بالخيرات و الفضائل و المكارم، حتّى تجسّدتْ في سيرته الطيّبة وأخلاقه الشريفة، ثمّ كان يسألُ اللّه َ تعالى للناس الرحمةَ والهداية والنجاة، والمغفرة والأمان، فقال تبارك شأنُه: «وما أرسَلْناك إلاّ رحمةً للعالَمين»(2)، وقال عزّ مِن قائل: «و ما كانَ اللّه ُ لِيَعذِّبَهم و أنتَ فيهم، و ما كانَ اللّه ُ مُعذِّبَهم و هُم يَستغفِرون»(3)، و قال جلّت رحمته: «ولَو أنّهم إذ ظَلَمُوا أنفسَهم جاؤوكَ فاستغفروا اللّه َ واستَغْفَرَ لَهمُ الرسولُ لَوجَدوا اللّه َ تَوّابا رحيما»(4). فكان أن حَباه الخلُقَ العظيم.. و فيه العفو و الصفح والحلم والسماحة، و حباه الوسيلة إلى اللّه.. فإذا استغفر للآئبين والنادمين غُفِر لهم وفازوا، و حباه الشفاعة للمذنبين.. وشفاعته عنداللّه تعالى أعظم كلّ الشفاعات، و بها النجاة. وقد قال صلى الله عليه و آله: حياتي خيرٌ لكم، و مماتي خيرٌ لكم.. أمّا حياتي فتحدّثوني و أحدّثكم، و أمّا موتي فتُعرَض علَيّ أعمالُكم عشيّةَ الإثنين والخميس، فما كان مِن عملٍ صالحٍ حَمِدتُ اللّه عليه، و ما كان مِن عملٍ سيّئٍ استغفرتُ اللّه َ لكم(5).
ولقد واجَهَ صلى الله عليه و آله جُفاةً أهلَ جلافة و خشونة، فقابلهم بالرفق والحلموالعفو، يُؤتى له مرّةً بقلائدَ مِن ذهبٍ و فضّة، فيُقسّمها بين أصحابه، وهناك يقوم رجلٌ مِن أهل البادية ليقول: و اللّه ِ - يا محمّد - لئن أمَرَك اللّه ُ أن تعدل،فما أراك تعدل! فقال له: وَيحَك! فمَن يعدل عليك بعدي؟! فلمّا ولّى
ص: 90
قال صلى الله عليه و آله: رُدُّوه علَيّ رويدا(1).
* وروى جابر الأنصاريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يقبض للناس يومَ حُنَين مِن فضّة كانت في ثوب بلال، فقال له رجل: يا نبيَّ اللّه اعدل، فقال صلى الله عليه و آله: وَيْحك! فمَن يعدلُ إذا لم أعدلْ؟! فقد خبتَ - إذن - و خَسِرتَ إنْ كنتُ لا أعدل. فقام عمر فقال: ألا أضرب عنقَه فإنّه منافق، فقال صلى الله عليه و آله: مَعاذَ اللّه أن يتحدّث الناس أنّي أقتلُ أصحابي!(2)
* وجاءه أعرابيٌّ يوما يطلب منه شيئا صلى الله عليه و آله، فأعطاه صلى الله عليه و آله ثمّ قال له: أحسنتُ إليك؟ فقال الأعرابيّ: لا ولا أجْمَلْتَ. فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كُفُّوا، ثمّ قام صلى الله عليه و آلهودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابيّ و زاده شيئا ثمّ قال له: أحسنتُ إليك؟ فقال الأعرابيّ: نعم، فجزاك اللّه مِن أهلٍ وعشيرةٍ خيرا..(3)
*وعن أنس بن مالك قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أدركه أعرابيّ فأخذ بردائه، فجذبه جَذْبةً شديدة.. حتّى نظرتُ إلى صفحة عنق رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقد أثّرت به حاشية الرداء مِن شدّة الجذبة، ثمّ قال الأعرابيّ: يا محمّد، مُرْ ليمِن مالِ اللّه الذي عندك! فالتفت إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فضحك، و أمَرَ له بعطاء.(4)ومع أهله و خدمه و أصحابه.. كان النبيّ صلى الله عليه و آله رحيما رؤوفا، عَفُوّا، يغضّ طَرْفَه الشريف عن التقصير معه والإساءة إليه، و يعفو عمّن أهمل حقَّه أو تماهل في خدمته، و يسامح المخطئ، فإذا عاتب كان منه التنبيه
ص: 91
والإشارة اللّطيفة والتلميح الشفّاف و التلويح البعيد.. حتّى قيل: إنّه صلى الله عليه و آله ما نهَرَ خادما، ولا ضرب أحدا، ولا عاتب على تقصير..
* أرسل مرّةً خادما له في حاجة، فغاب ذلك الخادمُ نصفَ اليوم
أو قرابةَ ذلك، فإذا عاد الغلام لوّح له النبيّ صلى الله عليه و آله في وجهه بالسُّواك يهدّده به بلطف.
* و ذاك أنس خادمه، يقرّ قائلاً: أرسلني النبيّ في حاجةٍ فانحرفتُ إلى صبيانٍ يلعبون في السوق، فإذا برسول اللّه صلى الله عليه و آله قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحك ويقول: يا أنس! إذهبْ حيث أمَرتُك.
ويقول أنس أيضا: خدمتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله عشر سنين.. فما سبّني قطّ، ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمرٍ فتوانيتُ فيه فعاتبني عليه.
* وتلك عائشة شاهد آخر، تقول: ما ضرَبَ النبيُّ امرأةً قطّ، ولا ضرب خادما قطّ، ولا ضرب بيده شيئا قطُّ إلاّ أن يجاهد في سبيل اللّه، ولا نِيلَ منه فانتقم مِن صاحبه، إلاّ أن تُنتهك محارمُه فينتقم(1). فالعفو النبويّ سَتَر الجميع، والرحمة النبويّة شَمِلت الجميع.. و إلاّ هل يُعقَل أنّ أولئك الذين كانوا حوله لم يُسيئوا إليه!
* لقد أُغمي على النبيّ صلى الله عليه و آله عندما اقتربت منه الوفاة، فبكى المسلمون وارتفع النحيب من النساء و جميع مَن حضر، فأفاق صلى الله عليه و آله ونظر إليهم.. ثمّ قال: آتوني بدواةٍ و كَتِف؛ لأكتبَ لكم كتابا لا تَضِلّوا بعده أبدا. ثمّ أُغميَ عليه، فقام بعضُ مَن حضر يلتمس دواةً و كتفا، فقال له عمر: ارجعْ، فإنّه يهجر! فرجع، وندم مَن حضر على ما كان منهم من التضييع في إحضار
ص: 92
الدواة والكتف، وتلاوموا فيما بينهم وقالوا: إنّا للّه ِ و إنّا إليه راجعون! لقد أشفقنا مِن خلاف رسول اللّه صلى الله عليه و آله.
فلمّا أفاق صلى الله عليه و آله قالوا: ألا نأتيك بدواةٍ و كتف يا رسولَ اللّه؟ فقال: أبعدَ الذي قلتُم؟! لا ولكنيّ أُوصيكم بأهل بيتي خيرا..»(1).
وفي رواية: لا، ولكنِ احفَظُوني في أهل بيتي، و استوصوا بأهل الذمّة خيرا، و أطعموا المساكين و ما ملكَتْ أيمانُكم(2).
وهكذا يغضّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عمّا بدر مِن إساءة الأدب في شخصه الكريم، وهو الذي لاينطقُ عن الهوى، ولا يصيبه ما يصيب عامّةَ الناس - حاشاه - من اللَّغط والهذيان و شرود الذهن، وقد كُلِّف بتبليغ خاتم الأديان.
وكان من آخر وصايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله مودّعا: أيُّها الناس، إنّي قد دُعِيتُ و إنّي مُجيب دعوة الداعي، قد اشتقتُ إلى لقاء ربّي واللّحوقِ بإخواني من الأنبياء، و إنّي أُعْلِمُكم أنّي أوصيتُ إلى وصيّي ولم أُهمِلْكم إهمالَ البهائم، ولم أتركْ مِن أموركم شيئا. فقام إليه عمر فقال: يا رسول اللّه، أوصيتَ بما أوصى به الأنبياءُ مِن قبلك؟ قال صلى الله عليه و آله: نعم. فقال له عمر مرّةً أخرى: فبأمرٍ مِن اللّه أوصيتَ أم بأمرِك؟ قال له: إجلسْ يا عمر! أوصيتُ بأمراللّه، و أمرُه طاعته، و أوصيتُ بأمري و أمري طاعة اللّه، و مَن عصاني فقد عصى اللّه، و مَن عصى وصيّي(3) فقد عصاني، و مَن أطاع وصيّي فقد أطاعني، و مَنأطاعني فقد أطاع اللّه، لا ما تُريد أنت وصاحبُك !
ص: 93
ثمّ التفتَ صلى الله عليه و آله إلى الناس وهو مغضبٌ فقال: أيُّها الناس، إسمعوا وصيّتي، مَن آمنَ بي وصدّقني بالنبوّة و أنّي رسول اللّه، فأُوصيه بولاية عليّ بن أبي طالبٍ وطاعتِه والتصديقِ له؛ فإنّ ولايتَه ولايتي و ولاية ربيّ، فقد أبلغتُكم، فلْيُبلّغِ الشاهدُ الغائبَ أنّ عليّ بن أبي طالب هو العَلَم، فمَن قصر دون العَلَم فقد ضلّ، و مَن تقدّمه تقدّمَ إلى النار، و مَن تأخّر عن العَلَم يمينا هلك، و مَن أخذ يسارا غوى، و ما توفيقي إلاّ باللّه، فهل سمعتُم؟ قالوا: نعم(1).
وغضّ نظره الشريف عن كثيرٍ من الاعتراضات و المخالفات، و الجسارات.. فهو صلى الله عليه و آلهذلك الوقور الذي صدَعَ بالحقّ و أعرَضَ عن الجاهلين(2).
* * *
ثالثا: تستمرّ سجيّة العفو خلُقا شريفا في سيرة أوصياء رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهم أئمّةُ الهدى، و أعلام التُّقى، و أولو الحِجى، و كهف الورى.. وقد ظُلِموا حتّى دُفِعوا عن مقاماتهم، و أُزيلوا عن مراتبهم التي رتّبهم اللّه فيها، و مع ذلك تعاملوا مع الأُمّة بالرحمة واللّطف والرفق واللِّين، فعَفَوا عمّن أساء إليهم، و غضّوا الطَّرْف عمّن نال منهم، و أوكلوا أمورهم كلَّها إلى اللّه عزّ وجلّ، فهو حَسْبُهم و نعم الوكيل. جاء في زيارة أئمّة البقيع: الحسن و السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام هذه العبارات الشريفة:
السلامُ عليكُم أئمّةَ الهدى، السلامُ عليكُم أهلَ التقوى، السلامُ عليكم
ص: 94
أيُّها الحُججُ على أهل الدنيا، السلامُ عليكُم أيُّها القُوّامُ في البَريّةِ بالقِسْط، السلامُ عليكُم أهلَ الصفوة، السلامُ عليكُم آلَ رسولِ اللّه، السلامُ عليكُم أهلَ النجوى. أشهدُ أنّكم قد بلّغْتُم ونصحتُم، وصبرتُم في ذاتِ اللّه، و كُذِّبتُم وأُسِيءَ إليكُم فغفرتُم. وأشهدُ أنّكُمُ الأئمّةُ الراشدون المُهتدون، و أنّ طاعتَكم مفروضة، و أنّ قولَكُم الصِّدْق، و أنّكم دَعَوتُم فلم تُجابوا، و أمَرْتُم فلم تُطاعُوا، و أنّكم دعائمُ الدِّينِ وأركانُ الأرض..»(1).
ولقد كان مِن أهل البيت عليهم السلام ما كان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله من العفو والصفح، حتّى أغرقوا الناسَ بالرحمة والشفقة، و كلّموهم بلسان العدل والحقّ، ولم يقسوا على أحدٍ منهم؛ لأنّهم سلام اللّه عليهم آباء الأمّة وهُداتها.. في قوله تعالى: «إنّما أنتَ مُنذِرٌ ولِكُلِّ قَومٍ هادٍ»(2)، قال الإمام الباقر عليه السلام: رسول اللّه صلى الله عليه و آله المنذر، وفي كلّ زمانٍ منّا هاديا يهديهم إلى ماجاء به نبيُّ اللّه، ثمّ الهُداة مِن بعدُ عليّ، ثمّ الأوصياء واحدٌ بعد واحد(3).
وكيف هم آباء الأمّة؟ يقول أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلام: إنّي كنت مع النبيّ في صلاةٍ صلاّها، فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى، فاجتذبها فضمّها إلى صدره ضَمّا شديدا، ثمّ قال: يا عليّ، فقلت: لبيك يا رسول اللّه، قال: أنا و أنت أبَوا هذه الأمّة(4).
* وجاء عن الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليهاالسلام قولها: أبَوا هذه الأُمّة:محمّدٌ وعليّ، يُقيمان أوَدَهم، و يُنقذانِهم من العذاب الدائم إن أطاعوهما،
ص: 95
ويُبيحانِهمُ النعيمَ الدائم إن وافقوهما(1).
* و عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: محمّدٌ و عليٌّ أبوا هذه الأُمّة،
فطُوبى لمَن كان بحقّهما عارفا، و لهما في كلّ أحواله مطيعا(2).
ولكن لم يكن من الأمّة - وللأسف البالغ - معرفةٌ بحقّهما ولا حقِّ أهل بيتهما، كما لم يكن من الأمّة طاعةٌ لهما ولا لأهل بيتهما.. بينما كان من النبيّ و آله صلوات اللّه عليه و عليهم في مقابل ذلك العفوُ والسماحة.. حتّى يعلم الجاهل، و يهدأ الحاقد، و يُفيقَ الغافل، ويكونوا سلام اللّه عليهم حقّا حججَ اللّه على خَلْقه، «فلِلّهِ الحُجّةُ البالغة»(3)، كما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهذه سيرته المباركة في تعامله مع أعدائه و مخالفيه و محاربيه، و مع أهله وإخوانه و ذويه، مع الأقرباء والغرباء، مع الخدم و الأصحاب والأعراب، و كلِّ مَن اتّصل به و كثيرٌ منهم كان جاهلاً بمقام نبوّته، أو مسيئا إلى علوّ شأنه و جلالته، فبادلَهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله جميعا محبّةً وعطفا، و عفوا و صفحا، ولينا ورفقا ورحمة.. هذه سيرته التي نقلها التاريخ في أخبارٍ كثيرةٍ طويلة، يتأمّلها أحدهم فيخاطبُه صلى الله عليه و آله في يوم ذكرى مولده الأغرّ:
أكرمتَ يومَك هيبةً و بَهاءا***وكشَفْتَ فَجْرا عابقا و ضّاءا
ونشرتَ مِسْكا ساحَ في أفُقِ الرُّبى****وسكبتَ في اللّيل البهيمِ ضياءا
وبسطتَ مِن يدك الكريمةِ مَنهلاً***نِعْمتْ يدا مبرورةً مِعطاءا
ونشرتَ بِشرا في قلوبٍ خُيِّبتْ***وأزَحتَ عن صدرِ الأنامِ شَقاءا
ومسحتَ أدمُعَ يُتّمٍ متلطِّفا***فرويتَهم حُبّا يَفيضُ ولاءا
ص: 96
ودعوتَ للودِّ المبارَكِ يومَها***قوما أغاضوا الأبطُحَ الغَبراءا
فتركتَهم يتطلّعونَ إلى الهدى ***وإلى الرُّقيِّ ليبلغوا الجَوزاءا
وتعانَقَ الكلُّ المُحِبُّ تَحنُّنا***بالأمسِ كانوا نُثَّرا غُرَباءا
وتمازجَ الشملُ الخليطُ ببعضِه ***فغدا الغنيُّ مع الفقيرِ سواءا
وتمايلتْ فوق الرُّبى راياتُنا***تَزهو تُقىً.. و سماحةً.. ووفاءا
فشفَيتَ سُقمةَ أُمّةٍ مِن بعدِما***مَلّتْ وصايا الطبِّ، والحكماءا
وغدا ستعترف الشعوبُ بعَجزِها***فتَجيء تطلبُ مالديك دواءا
ولا يُطيق «برناردشو» أن يكتم هذه الحقيقة حتّى قال: ما أحوجَ العالَم إلى رجلٍ كمحمّد صلى الله عليه و آلهلحلّ مشاكله، ولو أ نّه قام مِن قبره لَحلَّ مشاكلَ العالَم وهو يشرب فنجانا من القهوة. وحتّى قالها «برناردشو» صريحةً بيّنة: لقد درستُ هذا الإنسان العجيب «محمّدا» صلى الله عليه و آله، وهو يستحقّ - بكلّ جدارةٍ - أن يُسمّى «منقذَ البشريّة».. ثمّ يضيف قائلاً: لو تمكّن إنسانٌ مِثْله مِن حكم العالَم المعاصر، لَنجحَ في حلّ مشاكل الدنيا بطريقةٍ تمنحه السِّلْمَ والسعادة.. وهما أكثرُ مايحتاجه عالَمُنا المعاصر(1).
ذلك بأخلاقه الطيّبة الكريمة، و منها عفوه و سماحته، حيث يقولالشاعر يخاطبه:
طبعَتْك كفُّ اللّه ِ سيفَ أمانِ***كمَنِ الردى في حدِّه للجاني
ما كنتَ سفّاحا ولم تَسفكْ دَما***إلاّ بحقِّ العادلِ الديّانِ
لولا اعتداؤهمُ عليك وجَورُهم***ما خُضتَ حربا طاعنا بِسِنانِ
قد أحر جوك، و أخرجوك، فنِلْتَهم***ومُذِ ارعَوَوا عن ذلك الطغيانِ
ص: 97
فسمحتَ ثمّ صفحتَ عن آثامِهم***وغمرتَهم بالفَيء والإحسانِ(1)
و يمضي العفو خلُقا فاضلاً كريما في سيرة النبيّ الهادي صلى الله عليه و آله، ليستمرّبعده في سيرة أهل بيته الأطهار صلوات اللّه عليه وعليهم ما اختلف اللّيل والنهار، حيث يجسّدون ذلك الخلُقَ الرفيع في تعاملهم مع الناس، وفي مواقفهم حتّى مع مخالفيهم و مناوئيهم، فعَفَوا عفوا لايتوقّعه أحد.. وهذا هو الشرف الثالث للعفو؛ إذْ هو سمةٌ ظاهرة في أخلاق أهل البيت وأئمّة الحقّ و أوصياء رسول اللّه صلى الله عليه و آله،حتّى قال الإمام الصادق عليه السلام: إنّا أهل بيتٍ مُروّتُنا العفوُ عمّن ظَلَمنا(2).
وهذه سيرتهم تحكي ذلك:
عفو أميرالمؤمنين عليه السلام فصّل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة حديثا حول بيعة الإمام عليٍّ عليه السلامو أمرِ المتخلّفين عنها(3)، و منهم :محمّد بن مَسلمة، و عبداللّه بن عمر بن الخطّاب، و أُسامة بن زيد، و سعد بن أبي وقّاص، و كعب بن مالك، و حسّان بن ثابت، و عبداللّه بن سلام. وقد أُحضر عبداللّه بن عمر، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام:بايع، قال: لا أُبايع حتّى يبايع جميع الناس، فقال له: فأعطني حَمِيلاً ألاّ تبرح، قال: ولا أُعطيك حَميلاً. فقال الأشتر: يا أميرالمؤمنين، إنّ هذا قد أمِنَ سوطك و سيفك، فدَعْني أضرب عنقه! فقال عليه السلام: لستُ أريد ذلك منه على كُرْه، خَلُّوا سبيله..ثمّ أُتي بسعد بن أبي وقّاص، فقال له: بايع، فقال: يا أبا الحسن، خَلِّني، فإذا لم يبقَ غيري بايَعْتك، فوَاللّه لا يأتيك مِن قِبلي أمرٌ تكرهه أبدا، فقال:
ص: 98
صدق، خَلُّوا سبيله.. وهكذا بقيّة المخالفين، أبَوُا البيعة بين معترضٍ و مُنزَوٍ و مسالمٍ و مُرجئٍ أمرَ البيعة إلى حين، فخلّى أميرالمؤمنين سلام اللّه عليه سبيلَهم، و تركَهم وحالهم، و إنّما طلب منهم ألاّ يُسيئوا إلى المسلمين أو يُحْدثوا فتنا تنغّص على الناس عيشَهم أو تحرفهم عن دينهم. وكلُّ مَن تخلّف عن البيعة أو رفضها كان له عذره المُصطنَع أو اعتذاره، عن تجنّبٍ أو نفاقٍ أو هروبٍ من المسؤوليّة الشرعيّة و التكليف الإلهيّ.
وقد روى الشيخ أبو الحسين في كتاب (الغُرَر) أنّهم لمّا اعتذروا إليه عليه السلام
بهذه الأعذار، قال لهم: ما كلُّ مفتونٍ يُعاتَب، أعندَكم شكٌّ في بيعتي؟ قالوا: لا، قال: فإذا بايعتم فقد قاتلتُم. و أعفاهم مِن حضور الحرب(1).ولم يجبرْ أميرُالمؤمنين عليه السلامأحدا على بيعته، ولو أراكان مستطيعا ذلك، بل كان قادرا على الانتقام مِن مخالفيه و مناوئيه و المحرّضين عليه خاصّة بعد أن تمّت له البيعة، أو على تعبير ابن عبّاس: فلم يتكلّم أحدٌ حتّى بايَعَه الناسُ كلُّهم راضين مسلِّمين غيرَ مُكرَهين(2).
ولكنّه عليه السلام عفا عن بعض وصفح عن بعض، و نبّه بعضا و حذّر بعضا، و أرشد آخرين، و نصح الناكثين والمنافقين، و أهلَ الدسائس والمارقين، و أصحاب المؤامرات والمحرّضين، و ذوي الروح الجاهليّة الحاقدين..و كان منهم: الأشعث ابن قيس الكِنْديّ، و جرير بن عبداللّه البَجَليّ، و أبو مسعود الأنصاريّ، و سَمُرة بن جُندب، وعبداللّه بن الزبير، والمُغيرة بن شعبة، والوليد بن أبي مُعَيط، ويزيد بن حُجَيّة التّيميّ، والأسود بن يزيد، و أبو بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ، و زيد بن ثابت، و عمرو بن ثابت،
ص: 99
و مكحول.. وغيرهم. وماجابَهَهم سلام اللّه عليه إلاّ بالحسنى والنُّصْح، فأبى بعضهم إلاّ القتال، رافضا سماحةَ الإمام وعفوه. وهذه مشاهد لأهل الإنصاف والضمير، فليحكموا بعد أن يحكّموا العقل والدِّين والإنسانية والأخلاق الفطريّة السليمة:
* بعث أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام إلى لبيد بن العطارد التيميّ في كلامٍ بلَغَه، فمرّ به أميرالمؤمنين عليه السلام في بني أسد، فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسديّ فأفلتَه، فبعثَ إليه أميرالمؤمنين عليه السلامفأتَوه به، و أمر به أن يُضرب، فقال له نعيم: نعم واللّه، إنّ المُقام معك لَذُلّ، و إنّ فراقك لَكفر. فلمّا
سمع عليه السلام ذلك منه قال له: قد عَفَونا عنك، إن اللّه عزّوجلّ يقول: «إدفعْ بالّتي هيَ أحسنُ السيّئةَ»(1)، أمّا قولك: إنّ المُقام معك لَذُلّ، فسيّئةٌ اكتسبتَها، و أمّا قولك: إنّ فراقك لَكفر، فحسنة اكتسبتَها، فهذه بهذه(2).
وقال فيه رجلٌ من الخوارج: قاتَلَه اللّه كافرا ما أفقهَه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام لهم: رويدا، إنّما هو سَبٌّ بِسَبّ، أو عفوٌ عن ذَنْب(3).
وكان أبو هريرة قد تكلّم في الإمام عليٍّ عليه السلام و أسمعه، ثمّ جاء في اليوم الثاني و سأله حوائجَه، فقضاها الإمامُ عليه السلام له، فسألَه أصحابه في ذلك فقال: إنّي لَأستَحْيي أن يغلبَ جهلُه علمي، و ذنبُه عفوي، و مسألتُه جودي.
وكان من كلامه عليه السلام: إلى كم أُغضي الجفونَ علَى القَذى، و أسحبُ ذَيلي
ص: 100
علَى الأذى، و أقولُ لعلّ و عسى؟!(1)
وفي الروايات: أسَرَ مالكُ بن الأشتر مروانَ بن الحكم، فلم يكن مِن الإمام عليٍّ عليه السلام إلاّ أن عاتبه و أطلَقَه.
وقالت له عائشة يومَ الجمل: مَلكْتَ فاسجَحْ. أيْ قدرتَ فأحسنِ العفو، وهو مَثَلٌ سائر..(2) فجهّزها الإمام عليٌّ عليه السلامأحسنَالجهاز، و بعث معها بتسعين امرأةً، أو سبعين. واستأمنَتْ لعبد اللّه بن الزبير على لسان محمّد بن أبي بكر - أخيها - فآمَنَه عليه السلام و آمنَ معه سائرَ الناس.
وجيء بموسى بن طلحة بن عبيداللّه، فقال عليه السلام له: قل: أستغفر اللّه َ و أتوب إليه ثلاثَ مرّات. وخلّى سبيلَه وقال له: إذهبْ حيث شئت، وما وجدتَ لك في عسكرنا من سلاحٍ أو كراعٍ فَخُذْه، واتّقِ اللّه َ فيما تستقبلُه مِن أمرك، و اجلسْ في بيتك(3).
قال الإمام الباقر عليه السلام: كان عليٌّ عليه السلام إذا أخذ أسيرا في حروب الشام، أخذ سلاحَه و دابّته، و استحلَفَه أن لايُعينَ عليه.
و عن الطبريّ: لمّا ضرَبَ عليٌّ طلحةَ العبدريّ، فكبّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله،
و سأل عليّا عليه السلامبعدها: ما مَنَعك أن تُجهِز عليه؟ قال: إنّ ابن عمّي ناشدني اللّه َ والرَّحِم حين انكشفَتْ عورتُه، فاستَحْيَيتُه(4).و مِن هنا عُرِف أميرالمؤمنين عليه السلام بعفوه في حال قدرته، بل اختار العفو
ص: 101
في أسمى صوره، وهو القائل: أَولى الناس بالعفو، أقدرُهم على العقوبة(1).
أمّا ابن أبي الحديد، فيقول لدى عرضه شيئا مِن أخلاق أميرالمؤمنين عليه السلام:
وأمّا الحِلْم والصفح، فكان عليه السلام أحلمَ الناس عن ذنب، و أصفحَهم عن مُسيء. وقد ظهر صحّة ماقلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم - و كان أعدى الناس له و أشدَّهم بغضا - فصفح عنه. و كان عبداللّه بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وقد خطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم..(2) عليّ بن أبي طالب. وكان عليٌّ عليه السلام يقول: مازال الزبير رجلاً منّا أهلَ البيت، حتّى شبّ عبداللّه. فظفر به عليه السلام يوم الجمل وأخذه أسيرا، ثمّ صفح عنه و قال له: إذهبْ، فلا أَرَيَنّك. لم يَزدْه على ذلك.
وظفر عليه السلام بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل، بمكّة، وكان سعيد له عدوّا، فأعرض عليه السلامعنه ولم يقل له شيئا. وقد علمتُم ما كان مِن عائشة في أمره، فلمّا ظفر بها أكرمها، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأةً مِن نساء عبد القيس عمّمهنّ بالعمائم، وقلّدهنّ بالسيوف، فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرَتْه بما لايجوز أن يُذكرَ به، و تأفّفتْ وقالت: هتك ستري برجاله و جُنده الذين وَكلَهم بي! فلمّا وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهنّ وقلن لها: إنّما نحن نسوة.
ويضيف ابن أبي الحديد في بيان حِلم الإمام عليٍّ عليه السلام وعفوه و صفحه عمّن ظَلَمه و أساء إليه و حاربه، فيقول:
ص: 102
وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهَه و وجوه أولاده بالسيوف، وشتموه
ولعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيفَ عنهم، و نادى مُناديه في أقطار العسكر: ألا لايُتْبَع مَولى، ولا يُجهَز على جريح، ولا يُقتَل مستأسَر، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، و مَن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن. ولم يأخذْ عليه السلام أثقالَهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غَنمَ شيئا مِن أموالهم، ولو شاء أن يفعل كلَّ ذلك لَفعل، ولكنّه أبى إلاّ الصفحَ والعفو، و تقبّل سُنّةَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة، فإنّه عفا و الأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تُنْسَ!
ولمّا ملَكَ عسكرُ معاوية عليه الماء، و أحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلْهم بالعطش كما قتلوا عثمانَ عطشا ! سألهم عليٌّ عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شربَ الماء، فقالوا: لا واللّه ِ ولا قطرة، حتّى تموتَ ظمأً كما مات ابن عفّان. فلمّا رأى عليه السلام أ نّه الموتُ لا محالة، تقدّم بأصحابه، و حمل على عساكر معاوية حَمَلاتٍ كثيفة، حتّى أزالَهم عن مراكزهم بعد قتلٍ ذريع، سقطت منه الرؤوسُ والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفَلاة لا ماء لهم، فقال له (أي للإمام عليه السلام) أصحابُه وشيعته: إمنعْهمُ الماءَ يا أميرالمؤمنين كما منعوك، ولا تَسقِهم منه قطرة، واقتلْهم بسيوف العطش، وخُذْهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب، فقال لهم: لا واللّه ِ لا أُكافئهم بِمثْل فعلِهم، أفْسِحُوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يُغني عن ذلك.
ثمّ قال ابن أبي الحديد: فهذه إن نسَبْتَها إلى الحِلْم والصفح، فناهيك بهاجَمالاً و حُسنا، و إن نسبتَها إلى الدِّين والورع، فأخْلِقْ بمِثْلِها أن تَصدُرَ عن مِثْلهِ عليه السلام(1).
ص: 103
وكان للإمام عليٍّ عليه السلام عفوٌ عريض مع مَن جَهِله ولم يعرفه.. روى أبو مُطرّف البصريّ أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام مرّ بأصحاب التمر، فإذا هو بجاريةٍ تبكي، فقال لها: يا جارية، ما يُبكيكِ؟ قالت: بعثني مولاي بدرهمٍ فابتعتُ مِن هذا تمرا، فأتيتُهم به فلم يَرضَوه، فلمّا أتيتُه به أبى أن يقبله. قال عليه السلام (للبائع): يا عبداللّه، إنها خادم وليس لها أمر، فاردُدْ إليها درهمها و خُذ التمر. فقام إليه الرجل فلَكَزَه (واللكز هو الدفع والضرب بجمع الكفّ)، فقال الناس له: هذا أميرالمؤمنين! فربا الرجل (أي اختنق نَفَسُه من الخوف) واصفرّ، و أخذ التمر وردّ للجارية درهمها، ثمّ قال: ياأميرالمؤمنين، إرضَ عنّي، فقال عليه السلام: ما أرضاني عنك إن أصلحتَ أمرك.
وفي رواية أحمد بن حنبل في (مناقب الصحابة): ما أرضاني عنك إذا وفيتَ الناسَ حقوقَهم(1).
ونظر أميرالمؤمنين عليه السلام يوما امرأةً على كَتِفها قربةُ ماء، فأخذ منها القربة فحمَلَها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت: بعَثَ عليُّ بن أبي طالب صاحبي (أي زوجي) إلى بعض الثغور فقُتِل، و ترك علَيّ صبيانا يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتْني الضرورة إلى خدمة الناس.
فانصرف عليه السلام وبات ليلتَه قلقا، فلمّا أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال له بعضُهم: أعطِني أحملْه عنك، قال عليه السلام: مَن يحملُ عنّي وزري يومَ القيامة ؟! فأتى و قرع الباب، فقالت: مَن هذا ؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القِربة، فافتحي، فإنّ معي شيئا للصبيان، فقالت له: رضيَ اللّه عنك، و حكَمَ بينيو بين عليّ بن أبي طالب!
فدخل وقال لها: إنّي أحببتُ اكتسابَ الثواب، فاختاري بين أن تعجني،
ص: 104
و تخبزي، و بين أن تعلّلي الصبيانَ لأخبز أنا. فقالت: أنا بالخبز أبصر، وعليه أقدَر، ولكنْ شأنك الصبيان، فَعلّلْهم حتّى أفرغَ مِن الخبز. قالت: فعمدتُ إلى الدقيق فعجنتُه، وعمَدَ عليّ (وهي لا تعرفه) إلى اللّحم فطبخه، وجعل يُلقم الصبيان مِن اللّحم والتمر وغيره، فكلّما ناول الصبيانَ مِن ذلك شيئا قال: بُنيّ، إجعلْ عليّ بن أبي طالب في حِلٍّ ممّا أُمِر في أمرك (وفي رواية: ممّا مَرّ مِن أمرك).
فلمّا اختمر العجين، قالت: يا عبدَ اللّه، اسجُرِ التنور. فبادر لسجره، فلمّا أشعَلَه ولفح في وجهه جعل يقول: ذُقْ يا عليّ، هذا جزاءُ مَن ضيّع الأرامل و اليتامى. فرأتْه امرأةٌ تعرفه فقالت للمرأة صاحبة البيت: وَيحَكِ هذا أميرالمؤمنين! فبادرت المرأة وهي تقول: وا حيائي منك يا أميرالمؤمنين! فقال: بل وا حيائي منكِ يا أمَةَ اللّه فيما قصّرتُ مِن أمرِكِ(1).
* وعن الإمام الباقر عليه السلام في خبر أ نّه رجع الإمام عليّ عليه السلام إلى داره وقت القيظ (أي شدّة الحَرّ)، فإذا امرأةٌ قائمة تقول: إنّ زوجي ظَلَمني و أخافني و تَعدّى علَيّ، وحلف لَيضربُني. فقال عليه السلام: يا أمَةَ اللّه، اصبري حتّى يبرد النهار ثمّ أذهب معكِ إن شاء اللّه. فقالت: يشتدُّ غضَبُه و حَرَدُه علَيّ(2). فطأطأ رأسَه ثمّ رفعه وهو يقول: لا واللّه، أو يُؤخَذ للمظلوم حقُّه غيرَمُتَعْتَع، أين منزلُكِ؟
فمضى إلى بابه، فوقف فقال: السلام عليكم. فخرج شابّ، فقال عليّ عليه السلام: ياعبداللّه، اتّقِ اللّه؛ فإنّك قد أخَفْتَها و أخرَجْتَها.
فقال الفتى: و ما أنت و ذاك ؟! واللّه ِ لَأُحرقنّها لكلامك! فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: آمرُك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلُني بالمنكر
ص: 105
وتُنكر المعروف؟!
فأقبل الناس من الطُّرُق ويقولون: سلام عليكم يا أميرالمؤمنين. فسقط الرجلُ في يديه، فقال: يا أميرالمؤمنين أقِلْني عثرتي، فوَاللّه ِ لَأكوننّ لها أرضا تطأُني. فأغمدَ عليٌّ سيفَه فقال: يا أمةَ اللّه ادخُلي منزلَكِ، و لا تُلجِئي زوجَكِ إلى مِثْل هذا و شِبْهِه(1).
ودعا عليه السلام غلاما له مِرارا.. فلم يُجِبْه، فخرج فوجدَه على باب البيت، فقال عليه السلام له: ما حمَلَك على ترك إجابتي؟ قال: كَسِلتُ عن إجابتك، و أمِنتُ
عقوبتك. فقال عليه السلام: الحمد للّه الذي جعلني ممّن يأمَنُه خَلْقُه، وقال للغلام: إمضِ فأنت حرٌّ لوجه اللّه (2).
وبلغ مِن عفو أميرالمؤمنين عليه السلام أ نّه لم يعاقبْ حتّى قاتلَه، بل عامَلَه بالرأفة والإحسان.. كتب الشيخ المجلسيّ:
في (محاسن الجوابات) عن الدينوريّ أ نّه قال: رُويَ أ نّه عليه السلام قال (يوصي بقاتله عبدالرحمان بن ملجم): أطعِمُوه واسقوه، و أحسِنوا إسارَه، فإن أصحّ فأنا وليُّ دمي، إنْ شئتُ أعفو وإنْ شئتُ استقدتُ..
وفي وصيّته عليه السلام قبيلَ شهادته، أقبل على ابنه الحسن عليه السلام فقال له: يا بُنيّ، أنت وليُّ الأمر بعدي و وليّ الدم، فإنْ عفوتَ فَلَك، و إن قتلتَ فضربةٌ مكان ضربة، ولا تأثم(3).
وقبل ذلك، وحين ضربه ابن مُلجم لعنه اللّه فقُبض عليه، التفتأميرالمؤمنين عليه السلام إلى ولده الحسن عليه السلام وقال له: إرفقْ يا ولدي بأسيرك وارحمْه، و أحسِنْ إليه و أشفقْ عليه، ألا ترى عينَيه قد طارتا في أُمّ رأسه،
ص: 106
وقلبه يرجف خوفا و رعبا وفزعا ! فقال له الحسن عليه السلام: يا أباه، قد قتَلَك هذا اللّعين الفاجر، و أفجَعَنا فيك، و أنت تأمرُنا بالرفق به؟! فقال له: نعم يابُنيّ، نحن أهل بيتٍ لانزداد على الذَّنْب إلينا إلاّ كرما و عفوا، والرحمة والشفقة مِن شيمتنا لا مِن شيمته، بحقّي عليك فأطعِمْه يا بُنيّ ممّا تأكله، و اسقِه ممّا تشرب، ولا تقيّدْ له قدما، ولا تغلَّ له يدا، فإنْ أنا متُّ فاقتصَّ منه بأن تقتلَه و تضربه ضربةً واحدة.. و إن أنا عشتُ فأنا أَولى بالعفو عنه، و أنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوتُ فنحن أهلُ بيتٍ لانزداد على المذنب إلينا إلاّ عفوا و كرما(1).
هكذا كان أميرالمؤمنين عليه السلام، و كذلك كان أولاده الأئمّة الطاهرون عليهم السلام، إذ العفو سمةٌ ظاهرة في معاشراتهم مع الناس، الغريبِ منهم والقريب، والمؤالف منهم والمخالف.. قال الإمام الصادق عليه السلام: كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول: ما أُحِبُّ أنّ لي بِذُلِّ نفسي حُمْرَ النَّعَم، وما تجرّعتُ جُرعةً أحَبَّ إليَّ مِن جُرعةِ غَيظٍ لا أُكافي بها صاحبَها(2).
قال الشيخ المجلسيّ: ذِلّ النفس سهولتها وانقيادها، وهي ذَلول. وذُلُّ النفس مذلّتها وضعفها، وهي ذليل. والنَّعَم المال الراعي.. و أكثر مايقع على الإبل.. والخبر يحتمل وجهين: الأوّل - لا أُحبّ أن يكون لي مع ذُلّ نفسي أو بسببه نفائسُ أموال الدنيا..الثاني - لا أرضى أن يكون لي عوضَ انقياد نفسي وسهولتها وتواضعها، أو بالضمّ أيضا، أي المذلّة الحاصلة عند إطاعة أمر اللّه بكظم الغيظ والعفو - نفائسُ الأموال..(3).
ص: 107
ونحن إذا عرفنا منزلة الأئمّة الأطهار عليهم السلام، وعلوَّ شأنهم، وكرامتَهم على اللّه تعالى، و عرفنا ضعةَ مخالفيهم قبالهم، أكبَرْنا عفوَهم سلام اللّه عليهم، فقد تحمّلوا ما لم يُطقْه غيرهم، و بادروا غاية الأساءة بغاية الإحسان، فهم آباء الأمّة بحقّ، يَهدونها ويرشدونها، ويؤدّبونها بأخلاق اللّه جلّ وعلا.
* عن المبرّد و ابن عائشة، قالا: إنّ شاميّا رأى الإمامَ الحسن عليه السلام راكبا، فجعل يلعنه، والحسنُ لايردّ، فلمّا فرغ الشاميّ أقبل الحسنُ عليه و ضحك، وقال له: أيُّها الشيخ، أظنُّك غريبا، ولعلّك شبّهت، فلو استَعْتَبتَنا أعتبناك، ولو استحملتَنا حملناك، و إن كنتَ طريدا آويناك، و إن كانت لك حاجةٌ قضيناها لك، فلو حرّكتَ رحلَك إلينا وكنتَ ضيفا إلى وقت ارتحالك، كان أعودَ عليك؛ لأنّ لنا موضعا رَحِبا، و جاها عريضا، و مالاً كثيرا.
فلمّا سمع الرجل كلام الإمام الحسن عليه السلام بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة اللّه في أرضه، اللّه ُ أعلمُ حيث يجعل رسالتَه، و كنتَ أنت و أبوك أبغضَ خَلْق اللّه إليّ، و الآن أنت أحبُّ خَلْق اللّه إليّ. وحوّل الشاميّ رحله إليه، و كان ضيفَه إلى أن ارتحل، و صار معتقدا لمحبّتهم(1).
وذلك بفضل حِلم الإمام الحسن عليه السلام و عفوه و صفحه و صبره، و حُسن خلُقِه في تجرّعه الغيظ و كظمه وهو يسمع رجلاً مخالفا يشتمه، فقابله باستقبالٍ طيّب وقلبٍ سليم، و بضيافةٍ كريمة وغضٍ عن الإساءة، فما كان من الشاميّ إلاّ أن عرف عظمة أخلاق أهل بيت الرسالة صلوات اللّه عليهم، و اكتشف زيفَ ما أُمليَ عليه مِن قِبَل معاوية، فشهد لهم بالخلافة، و أنّ
ص: 108
الرسالة ائتُمنتْ فيهم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ثمّ كان منه الحبّ والولاء لهم، والاعتقاد بإمامتهم.
* و جنى غلامٌ للإمام الحسين عليه السلام جنايةً تُوجب العقاب، فأمر عليه السلام به أن يُضرب، فقال الغلام له: يا مولاي، «والكاظمينَ الغيظ»، قال عليه السلام: خَلُّوا عنه، قال الغلام: يا مولاي، «والعافينَ عنِ الناس»، قال عليه السلام: عفوتُ عنك، قال: يا مولاي، «واللّه ُ يُحبُّ المحسنين»، قال الإمام الحسين عليه السلامله :أنتَ حُرٌّ لوجه اللّه، ولك ضِعفُ ماكنتُ أُعطيك(1).
لقد كان الغلام يستوجب عقابا، فنال من الكريم ثوابا؛ ذلك لأنّه ناشد أخلاق سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام، وسبطِ المصطفى وريحانته والذيقال صلى الله عليه و آله فيه: حسينٌ منّي، و أنا مِن حسين(2). وحقّا كان الحسين عليه السلام
من رسول اللّه صلى الله عليه و آله: نَسَبا و خُلقا، فكان العفو فيه سجيّةً و خُلقا نبويّا محمّديّا، حتّى استغاث غلامُه به منه، فوجدَه كريما عفوّا فصفح عنه، ثمّ أحسنَ إليه وضاعفَ أجرَه. أجَل، فهو مِن بيتٍ أهلُه أصدقُ مصداقٍ لقوله تعالى: «الذينَ يُنفقونَ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ والكاظمينَ الغَيظَ والعافينَ عنِ الناسِ واللّه ُ يُحبُّ المُحسنين»(3).
والكظم - في الأصل - هو شدُّ رأس القِربة بعد ملئها، فاستُعير للإنسان إذا امتلأ حزنا أو غضبا. والغيظ: هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لايرتضيه، بخلاف الغضب، فهو إرادة الانتقام أو المجازاة؛ ولذلك يقال:غَضِب اللّه، ولا يُقال: اغتاظ. والعفو بطبيعة الحال يحتاج إلى كظم الغيظ
ص: 109
و إمساك الغضب، و هُما مِن لوازم الإحسان(1). وقد كان أهل البيت عليهم السلام محسنين حقّا، و ها هي سيرتهم تُخبر بذلك، فلنتعطّرْ بِذِكْرها معرفةً واقتداءً..
* جعلَتْ جاريةٌ للإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام تسكب له الماء، فسقط الإبريق مِن يدها على وجهه الشريف فشجّه، فرفع عليه السلام رأسه إليها، فقالت: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: «والكاظمين الغَيظ»، قال: قد كظمتُ غيظي، قالت: «والعافين عن الناس»، قال: قد عفا اللّه عنكِ، قالت: «واللّه ُ يُحبُّ المُحسنين»، قال: اذهبي؛ فأنتِ حُرّة(2).
* ودعا عليه السلام مملوكَه مرّتين، فلم يُجبه.. و أجابه في الثالثة، فسأله: يا بُنيّ، أما سمعتَ صوتي؟ قال: بلى، قال: فما بالك لم تُجِبْني؟! قال: أمِنْتُك، فقال عليه السلام: الحمدللّه ِ الذي جعل مملوكي يأمَنُني(3).
* وكان عليه السلام لايضرب مملوكا، بل يكتب ذنبه عنده، حتّى إذا كان آخِرُ شهر رمضان جمعهم و قرّرهم بذنوبهم، وطلب منهم أن يستغفروا له اللّه َ كما غفر لهم، ثمّ يعتقهم و يجيزهم بجوائز(4).
هكذا كان الإمام السجّاد عليه السلام كآبائه الكرام، و كذلك كان أبناؤه، صلوات اللّه عليهم أجمعين، يَتَحلَّون بأخلاق اللّه تبارك وتعالى، فيسبق عفوُهم غضبهم، و يُبْدلون غيظَ الانتقام، بالرأفة و الإحسان والإكرام، و يُراعونالمقصّرَ والمسيء حتّى يؤوب إليهم نادما و هو يرى أ نّه قُوبل بالصفح والحلم والعفو والإحسان.
ص: 110
{كان بين الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام و بين ابن عمّه حسن ابن الحسن شيء من المنافرة، فجاء حسن إلى الإمام زين العابدين وهو في المسجد مع أصحابه، فما ترك شيئا إلاّ قاله من الإيذاء، والإمامُ ساكت، ثمّ انصرف حسن.. فلمّا كان اللّيل أتاه في منزله فقرع عليه الباب، فخرج حسن إليه، فقال له الإمام عليه السلام: يا أخي، إنْ كنتَ صادقا فيما قلتَ لي فغفَرَ اللّه لي، و إن كنتَ كاذبا فغَفَر اللّه ُ لك، والسلام عليك و رحمة اللّه.
ثمّ ذهب سلام اللّه عليه، فأتبعه حسن والتزمه مِن خلفه و بكى حتّى رقّ له، ثمّ قال للإمام: واللّه ِ لا عُدتُ إلى أمرٍ تكرهه. فقال له الإمام زين العابدين عليه السلام: و أنت حِلٌّ فيما قُلتَه(1).
وهكذا تأكّد حسن بن الحسن أنّ الإمام كان عافيا عنه لا حاقدا - حاشاه - ، ولم يكن في قلبه ألاّ الرحمة، لا دمُ الانتقام يغلي - حاشاه - فطابت نفسه، و عاد إلى رَحِمه يَصِله و يحبّه.
ولكنْ هل اقتصر ذلك الخلُق من الإمام على ذوي رَحِمه، أم تعدّاهم إلى أعدائه؟ تقول الأخبار والروايات:
* أنّ هشام بن إسماعيل والي المدينة كان يؤذي الإمامَ عليّ بن الحسين عليه السلام إيذاءً شديدا، فلمّا عُزل هشام أمر به الوليد أن يُوقَف للناس، فكان هشام يقول: إنّي لا أخشى إلاّ عليَّ بن الحسين! ولكنّ الإمام عليه السلام مرّ به و سلّم عليه، و أمر خاصّتَه ألاّ يتعرّض له أحدٌ بسوء، و أرسل إليه يقول له: انظرْ إلى ما أعجَزَك مِن مالٍ تُؤخَذ به، فعندَنا ما يَسَعُك، فطِبْ نفسا منّا و مِن كلّ مَن يُطيعنا(2).
ص: 111
* ولمّا خرج بنو أميّة من المدينة إلى الشام في واقعة الحرّة التي أوقعها يزيد ابن معاوية منتهكا حرمة رسول اللّه و مستبيحا مدينته أعراضَها و أموالها ! آوى الإمامُ زين العابدين عليه السلام إليه ثقلَ مروان بن الحكم و امرأته عائشة بنت عثمان بن عفّان، مع أنّ مروان هذا له تاريخ أسود في عدائه و بغضه لأهل البيت عليهم السلام. و كان لمّا أخرج أهلُ المدينة عاملَ يزيد و بني أُميّة مِن المدينة، كلّم عبدَاللّه بن عمر أن يغيّبَ أهله عنده، فأبى عبداللّه بن عمر، فجاء مروان فكلّم عليّ بن الحسين عليه السلام قائلاً له: يا أبا الحسن، إنّ لي رحما، و حرمي تكون مع حرمك. فقال عليه السلام له: أفعل.
فبعث مروان بحرمه إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، فخرج عليه السلام بحرمه و حرم مروان حتّى وضعهم بِيَنْبع بالبُغيبغة.. وهذا منتهى مكارم الأخلاق، والمجازاة على الإساءة بالإحسان(1).
* واستطال رجلٌ على عليّ بن الحسين عليهما، فتغافل عنه.. فقال الرجل: إيّاك أعني، فأجابه عليه السلام: و عنك أُغضي(2).
وهكذا نرى خصال: الحلم و كظم الغيظ، و العفو والإحسان.. تجتمع في أخلاق الأئمّة الأطهار عليهم السلامفتمحو العداوات، و تُصلح النفوس المستعدّة للصلاح، و تخلق أجواءَ المحبّة والإخاء مع الناس، ولولا العفو لكانت الحياة مُرّةً عسيرة، منغَّضةً بالخصومات.
وأمّا الصفح فهو مَجْنبةٌ للسوء وللمسيء.. يقول الشاعر:
ولقد أمرُّ على اللّئيمِ يَسُبُّني***فمضيتُ.. ثَمّةَ قلتُ: لا يَعْنيني
و أهلُ البيت النبويّ الشريف عليهم أفضل الصلاة والسلام.. كانت
ص: 112
أخلاقُهم من أخلاق رسول اللّه صلى الله عليه و آله، الذي كان العفو فيه طبعا شريفا، واضحا و معروفا، فمَضَوا على سيرته.
* رُوي أنّ رجلاً شاميّا كان يتردّد على أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام في المدينة، و كان حين يحضر مجلسَه يقول له: يا محمّد، ألا ترى أَ نّي إنّما أغشى مجلسَك حياءً منّي منك، ولا أقول إنّ أحدا في الأرض أبغضُ إليّ منكم أهلَ البيت ! و أعلم أنّ طاعة اللّه و طاعة رسوله و طاعة أميرالمؤمنين (يقصد الحاكم الأُمويّ) هي في بُغضكم، ولكنْ أراك رجلاً فصيحا لك أدبٌ و حُسنُ لفظ، فإنّما اختلافي إليك لحُسنِ أدبك.
وكان الإمام الباقر عليه السلام يعفو عنه و يقوله له خيرا، ويقول أيضا: لن تخفى على اللّه خافية. فلم يلبث الشاميّ إلاّ قليلاً حتّى مَرِض واشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليَّه وقال له: إذا أنت مَددتَ علَيّ الثوب فائْتِ محمّدَ بن عليّ (أي الباقر عليه السلام) وسَلْه أن يصلّي علَيّ، و أعلِمْه أنّي أنا الذي أمرتك بذلك. فلمّا أن كان في نصف اللّيل ظنّوا أ نّه قد برد، فسَجَّوه، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليُّه إلى المسجد، فلمّا أن صلّى الإمام الباقر عليه السلام و تورّك، و كان إذا صلّى عقّب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر، إنّ فلانا الشاميّ قد هلك، وهو يسألك أن تصلّي عليه. فقال له الإمام عليه السلام: كلاّ، إنّ بلاد الشام بلاد صَرْد (أي برد)، و الحجاز بلاد حَرّ ولهبها شديد، فانطلقْ فلا تعجَلَنّ على صاحبكم حتّى آتيكم.
ثمّ قام عليه السلام مِن مجلسه، فأخذ وضوءا ثمّ عاد فصلّى ركعتين، ثمّ رفع يديه تلقاءَ وجهه ماشاء اللّه، ثمّ خرّ ساجدا حتّى طلعت الشمس، ثمّ نهض فانتهى إلى منزل الشاميّ فدخل عليه، فدعاه فأجابه، ثمّ أجلسه و أسنده، و دعا له بسُويق فسقاه، و قال لأهله: املأوا جوفَه، و برّدوا صدرَه
ص: 113
بالطعام البارد.
ثمّ انصرف عليه السلام، فلم يلبث الشاميّ إلاّ قليلاً حتّى عُوفي، فأتى أبا جعفر (الباقر) عليه السلامقائلاً له: أخْلِني، فأخلاه (أي عفا عنه)، فقال الرجل: أشهدُ أنّك حجّة اللّه على خَلْقه، و بابه الذي يُؤتى منه، فمَنْ أتى مِن غيرك خاب و خَسِر، و ضَلّ ضَلالاً بعيدا !(1)
وهكذا يكون عفو أهل البيت عليهم السلام كرما منهم، و فضلاً منهم على الناس و إصلاحا لنفوسهم وعقولهم و أخلاقهم.
* قال نصرانيّ للإمام الباقر عليه السلام: أنت بقر؟! قال: لا، أنا باقر. هكذا أجابه بكلّ سماحةٍ و تجاوز عن الإساءة الكبرى، فأعاد النصرانيّ: أنت ابن الطبّاخة؟ قال: ذاك حرفتها. قال النصرانيّ مرّة أخرى: أنت ابن السوداء الزنجيّة البذيّة؟ فأجابه الإمام الباقر سلام اللّه عليه: إن كنتَ صدقتَ غفَرَ اللّه لها، و إن كنتَ كذبتَ غفَرَ اللّه ُ لك.قال: فأسلم النصرانيّ(2).
وكان الإمام الباقر عليه السلام قادرا على أن يعاقبه، و لكنّه قابله بالحلم والعفو والصفح، فأوجد ذلك في نفس النصرانيّ انقلابا روحيّا، أدّى به إلى أن يصبح مسلما، فقد رأى الإسلام في شخص.
* و يحدّثنا التاريخ حول سيرة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فيروي أ نّه عليه السلامبعث غلاما له في حاجة، فأبطأ الغلام، فخرج عليه السلام على أثره لمّا أبطأ، فوجده نائما، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه، فلمّا انتبه قال عليه السلام له: يافلان! واللّه ما ذلك لك، تنام اللّيلَ والنهار، لك اللّيل.. والنار منك النهار(3).
ص: 114
* ولمّا أُغميَ على الإمام الصادق عليه السلام عند وفاته و شهادته، أفاق فقال: أَعطُوا الحسن (الأفطس) سبعين دينارا، و أعطوا فلانا كذا. فقيل له: أتُعطي مَن حمَلَ عليك بالشفرة يريد قتلَك؟! فقال عليه السلام: أتُريد ألاّ أكون مِن الذين قال اللّه عزّوجلّ: «والّذين يَصِلُونَ ما أمرَ اللّه ُ بهِ أن يُوصَلَ و يَخشَون ربَّهم و يَخافونَ سوءَ الحساب»؟!(1)
وهكذا لاتقوى الإساءاتُ على أن تجعل أهلَ البيت عليهم السلام منتقمين، بل لاتقوى على أن تنتزع منهم خلّة العفو أو تصرفَهم عن الإحسان إلى مَن أساء إليهم.
نقرأ في سيرة الإمام موسى الكاظم عليه السلام أ نّه كان العفوَّ عن الناس، فهذا معتب يروي قائلاً:
كان أبو الحسن موسى عليه السلام في حائط له (أي بستان) يصرم النخل (أي يجزّه)، فنظرتُ إلى غلامٍ له قد أخذ كارة مِن تمر (وهي مقدار معلوم من الطعام قدر ما يُحمل على الظهر)، فرمى بها و راء البستان. يقول معتب: فأتيته و أخذتُه و ذهبت به إلى (الإمام الكاظم) عليه السلامفقلت له:
جُعلت فداك، إنّي وجدتُ هذا وهذه الكارة.. فسأله الإمام عليه السلام:
- يا فلان!
- لبيك.
- أتجوع؟
- لا يا سيّدي.
- فتَعرى؟
ص: 115
- لا يا سيّدي.
- فلأيّ شيءٍ أخذتَ هذه؟
- اشتهيتُ ذلك.
- إذهبْ؛ فهي لك. وقال عليه السلام: خَلُّوا عنه(1).
فكان عليه السلام بعفوه قد ربّى غلاما خادما على أخذ الحلال و ترك الحرام، و أوجد له فرصةً للاعتذار والتراجع عن الذنب وعن الأُسلوب الملتوي، ثمّ أكرمه الإكرام الماديّ بعد المعنويّ، و أرشده بالنصيحة ليرسم له طريق السعادة، و نحن نزور أئمّة الحقّ والهدى عليهم الصلاة والسلام فنخاطبهم بهذه العبارات: كلامُكم نور، و أمرُكم رُشد، و وصيّتكم التقوى، و فعلُكمُ الخير، و عادتُكمُ الإحسان، و سجيّتكمُ الكرم..(2)
* يروي المسعوديّ في سيرة الإمام عليّ الهادي عليه السلام، فيقول: اتّبعه في خروجه إلى سُرّ مَن رأى بُرَيحة العبّاسيّ صاحبُ الصلاة في الحرمَين مشيّعا، فلمّا صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمتَ و قوفَك على أنّي السبب في حملك (أي إحضارك بالإجبار إلى سامرّاء)، وعلَيّ حلفٌ بأيمانٍ مغلَّظة، لئن شكوتَني إلى أميرالمؤمنين (يقصد الحاكم العبّاسيّ) أو إلى أحدٍ مِن خاصّته و أبنائه، لأجمّرنّ نَخْلَك، ولأقتلنّ مواليك، و لَأغْورنَّ عيونَ ضيعتك، و لأفعلنّ ولأصنعنّ ! فالتفت إليه الإمام الهادي عليه السلام وقاله له: إنّ أقرب عَرضي إيّاك على اللّه البارحة، و ماكنتُلأعرضك عليه ثمّ لأشكوك إلى غيره مِن خَلْقه.
ص: 116
فانكبّ عليه بُريحة وضرع إليه، و استعفاه، فقال له الإمام الهادي عليه السلام:
قد عفوتُ عنك.(1)
* * *
رابعا: من أخلاق الأصحاب، فمن خلال الروايات الوفيرة، نجد العفو سمةً بارزةً في أخلاق أئمّة البيت النبويّ الشريف عليهم السلام، حتّى تعلّم ذلك منهم صحابتهم، فشهد الناس لهم بتساميهم عن الحقد والخرْق والانتقام.
* ممّا يُروى أنّ أبا ذرّ الغفاريّ رضوان اللّه عليه عاد يوما مِن معركة، فلَحِقَه مِن غنائمها شاةٌ و فرس و شيء من المال، فاشترى بالمال علفا للشاة والفرس و أفردهما، و أمر غلامه بإعطاء علفهما كلَّ يوم، لكنّ الغلام أرسل الفرس على علف الشاة فأكله، فسأله أبوذرّ: لِمَ فعلتَ هذا ؟ فأجابه الغلام: أردتُ أن أُغيظك!
وكان أبوذرّ قادرا على توبيخه وعقوبته و تأديبه بالجلد، إلاّ أ نّه عفا عنه و قال له: إذهبْ، فأنت حرٌّ لوجه اللّه.
إنّ المؤمن الحقيقيّ مَن كان مقتديا بمحمّدٍ و آله صلوات اللّه عليهم، الذين تجلّت في سيرتهم أخلاقُ اللّه تبارك وتعالى، و تحقّقت فيها أحكامه جلّ وعلا، فهُم سادة المؤمنين و أُسوتهم، وعنهم تُتلقّى الحِكَم المواعظ و الأخلاق الطيّبة الحميدة، و منهم يستقي المؤمن، يقول أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلام: المؤمنُ إذا وُعِظ ازدجَر، و إذا حُذِّر حَذِر، و إذا عُبِّر اعتبر، و إذا ذُكِّر ذكر..(2)وعن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: إنّما المؤمن الذي إذا رضيَ لم يُدخله رضاه في إثمٍ ولا باطل، و إذا سخط لم يُخرجه سخطه مِن قول الحقّ،
ص: 117
و المؤمن الذي إذا قَدر لم تُخرجه قدرته إلى التعدّي و إلى ما ليس له بحقّ(1).
* رُوي أن سلمان الفارسيّ المحمّديّ كان واليا على المدائن ببغداد، وكان يتفقّد أحوال الرعيّة ليل نهار، فرآه رجلٌ لم يعرفه وهو رضوان اللّه عليه في ملابسه المتواضعة، فظنّه حمّالاً، فنادى على سلمان: أيّها العِلْج، احمل متاعي. فحمله سلمان دون أن يغضب، فلمّا أن صار في منعطفٍ من الطريق سَلّم أحدُهم على سلمان: السلام عليك أيّها الأمير. فتعجّب الرجل و لَحِق ذلك المسلِّمَ يسأله، فأخبره: هذا سلمان المحمّدي صاحب رسول اللّه، والأمير، فارتعدت فرائص الرجل و رمى بنفسه على قدَمي سلمان محاولاً أخذ متاعه منه، إلاّ أنّ سلمانَ أبى ذلك قائلاً: لايحمل هذا إلاّ العلج.ثمّ حمله حتّى أوصله إلى باب دار الرجل و قال له ينصحه: عنك الإهانة.
أيّ حلمٍ ذاك و أيّ عفو، ثمّ أيّ درس للآخرين خُتم بنصيحةِ رجلٍ تعوّد أن يستهين بالناس. وكان سلمان قادرا على معاقبته، إلاّ أ نّه جابهه بالعفو و التوجيه الصحيح، وقد قيل: ليس الحليم مَن ظُلِم فحَلِم، حتّى إذا قدر انتقم.. ولكنّ الحليم مَن ظُلِم فحَلِم، ثمّ قدر فعفا.
* وروي أنّ سارقا دخل على خباء عمّار بن ياسر بصفّين، فقيل له: إقطَعْه؛ فإنّه مِن أعدائنا، فقال: بل أستر عليه؛ لعلّ اللّه أن يستر علَيّ يوم القيامة(2).
* وجلس ابن مسعود في السوق - وهو الصحابيّ المعروف - يبتاع
ص: 118
متاعا، فابتاع ثمّ طلب الدراهم وكانت في عمامته، فوجدها قد حُلّت، فقال: لقد جلستُ وإنّها لَمَعي! فجعلوا يدعون على السارق: اَللّهمّ اقطعْ يدَ السارق الذي أخَذَها، فقال ابن مسعود: اَللّهمّ إن كان حَمَلَه على أخذها حاجةٌ فباركْ له فيها، و إن كان حملَتْه على الذنب جرأةٌ فاجعلْه آخِرَ ذنوبه(1).
* وكان مالك الأشتر رضوان اللّه عليه يمشي ذاتَ يومٍ في سوق الكوفة، و إذا بأحد السَّوَقة تحدّثه نفسه بالازدراء به والاستهزاء بزيّه - و هو لايعرف أ نّه مالك - فرماه ببندقة مستخفّا به، إلاّ أنّ مالك الأشتر لم يُعِرْه التفاتا، بل مضى مواصلاً مسيره حتّى توارى عن الأنظار، عندها قيل للسوقيّ: وَيحك! أتعرف مَن رميت؟ قال: لا، لم أعرفه، عابرٌ مثل آلاف المارّة، فقيل له: إنّه مالك الذي ترتعد فرائص الأسد خوفا منه، و يرتجف العدوّ من اسمه!
فهرول الرجل من ساعته راكضا خلفه؛ ليعتذر إليه عمّا بدر منه، إلاّ أنّ مالكا كان قد دخل أحد المساجد، فلمّا وصل الرجل السوقيّ إليه وجده قائما يصلّي، فما انتهى مِن صلاته حتّى انكبّ الرجل على قدمَي مالك، فسأله مالك: ما هذا؟! قال: أعتذر إليك عمّا صدر منّي، أنا الذي استهزأتُ بك و تجرّأتُ عليك. فقال له مالك رضوان اللّه عليه: لابأسَ عليك، فَوَاللّه ِ ما دخلتُ المسجد إلاّ لأستغفرنّ لك.(2)
ص: 119
ص: 120
قال تعالى:
«وأنْ تَعْفُوا أقربُ للتقوى، ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بينَكم، إنّ اللّه َ بِما تعملونَ بصير»(1).
جاءت الآيةُ المباركة في أحكام الطلاق، فإذا وقع الطلاق قبل الدخول و قد فُرِضتْ للزوجة فريضة و سُمِّيَ المهر، فيجب تأديةُ نصف ما فُرِض مِن المهر، إلاّ أن تعفوَ المطلّقةُ أو يعفوَ الذي بيده عُقدة النكاح مِن وليّها، فيُسقِطَ النصفَ المذكور أيضا. والعفو - على أيّة حال - أقربُ للتقوى؛ لأنّ مَن أعرض عن حقّه الثابت شرعا، فهو على الإعراض عمّا ليس له بحقّ من محارم اللّه تعالى أقوى و أقدر.
ثمّ قال تعالى: «ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بينَكم»، والمراد - هنا - الترغيب في الإحسان والفضل، وذلك: بالعفو عن الحقوق، والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة، و بالعكس.(2)
وفي العفو تطييبٌ للخواطر، كما له آثارٌ حسنة على النفوس، وفيه تقريبٌ بين القلوب، و سدٌّ لأبواب الفتنة والخلاف والضغينة.
ص: 121
وكما في الطلاق و الأموال عَفْو، كذلك في مواقع العقوبة يلوح العفو، بل عندها يُراد و يُرجى ويُطلب، فهو هنا محلّه إذا خلّف صلاحا أو إصلاحا، و هيّأ فرصةً جديدة لاستدراك الأخطاء والتراجع عن مواقع الخطايا، فلا ينبغي التسرّع في العقوبة إذا كان هنالك مجالٌ للعفو وفسحة للمعذرة. فربّما تركت العقوبة أثرا سيّئا و زادت الأمر سوءا، و ربّما كان العفو مُصلحا و مربّيا.. قال أميرالمؤمنين عليه السلام: إيّاك والتسرّعَ إلى العقوبة؛ فإنّه مَمْقَتةٌ عند اللّه، و مُقَرِّبٌ مِن الغير(1). وقد يندم المعاقِب.. قال الإمام الباقر عليه السلام: الندامةُ على العفو أفضلُ و أيسرُ مِن الندامة على العقوبة(2).
وللشيخ المجلسيّ إيضاح لطيف تحت هذا الحديث يقول فيه :
«الندامة على العفو أفضل» يحتمل وجوها:
الأوّل: أنّ صاحب الندامة الأُولى أفضل من صاحب الندامة الثانية، و إن كانت الندامة الأُولى أخسَّ و أرذل.
الثاني: أن يكون الكلام مبنيّا على التنزّل، أي لو كان في العفو ندامة فهي أفضل و أيسر؛ إذْ يمكن تداركه غالبا، بخلاف الندامة على العقوبة؛ فإنّه لايمكن تدارك العقوبة بعد وقوعها غالبا، فلا تزول تلك الندامة، فيرجع إلى أنّ العفو أفضل؛ فإنّه يمكن إزالة ندامته بخلاف المبادرة بالعقوبة؛ فإنّه لايمكن إزالة ندامتها و تداركها.
الثالث: أن يُقدَّرَ مُضافٌ فيهما مثل الدفع أو الرفع، أي: رفعُ تلك الندامة أيسر مِن رفع هذه.
الرابع: أن يكون المعنى أنّ مجموعَ تلك الحالتين، أي العفو والندم عليه، أفضلُ مِن مجموع حالتَي العقوبة والندم عليها، فلا ينافي كونُ الندم على
ص: 122
العقوبة ممدوحا، والندم على العفو مذموما؛ إذ العفوُ أفضل من ذلك الندم، والعقوبة أقبح مِن هذا الندم.. وهذا وجةٌ وجيه(1).
والآن.. دَعونا نعترف - أيُّها الإخوة - أنّ الناس عموما سادرون في المعاصي، ولكنّ اللّه تعالى يَحلمُ عليهم، و يترك لهم الفرص الفسيحة للتوبة؛ ليعفوَ عنهم و يُثيبَهم ويُدخلَهم جنّتَه، و يَشملَهُم برحمته التي وَسِعتْ كلَّ شيء. ونحن ندعوه جَلّ وعلا في دعاء الجوشن الكبير، فنقول :
يا مَن هُوَ على عبادِه رحيم، يا مَن هُوَ بكلِّ شيءٍ عليم، يا مَن هُوَ بمَن عَصاهُ حليم، يامَن هُوَ بمَن رَجاهُ كريم، يا مَن هُوَ في صُنْعِه حكيم، يا مَن هُوَ في حكمتِه لطيف، يا مَن هُوَ في لطفهِ قديم.. سُبحانَك يا لا إلهَ إلاّ أنت، الغوث خَلِّصْنا مِن النارِ ياربّ. يا مَن لا يُرجى إلاّ فضلُه، يا مَن لايُسألُ إلاّ عفوُه، يا مَن لايُنظَر إلاّ بِرُّه، يا مَن لا يُخافُ إلاّ عدلُه، يا مَن لايَدومُ إلاّ مُلْكُه، يا مَن لا سلطانَ إلاّ سلطانُه، يا مَن وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ رحمتُه، يا مَن سبقَتْ رحمتُه غضبَه..(2).
هذه هي أخلاق اللّه عزّ و جلّ مع عباده، و هو ذو الفضل العظيم، و هم العصاة ذوو الذَّنب الجسيم، فهل نتعلّم من أخلاق اللّه تبارك و تعالى فنؤجّل العقوبة أو نبدّلها بالعفو، فننالَ رحمةَ الباري جلّ و علا ؟! يقول الإمام عليّ عليه السلام يرشدنا:
لا تُعاجِلِ الذَّنبَ بالعقوبة، و اترُكْ بينَهما للعفو مَوضعا؛ تُحرِزْ به الأجرَ
ص: 123
و المَثوبة(1). ويقول ولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام يعلّمنا: لا تعاجِلِ الذّنبَ بالعقوبة، و اجعلْ بينهما للاعتذار طريقا (2).
و كأ نّنا نفهم من هذا الكلام الشريف، أنّ العقوبة العاجلة تقطع طريق الاعتذار، و تسدّ طريق الانتقال إلى مواقع التصحيح و الصواب، و تؤخّر المخطئ عن تصحيح مواقفهِ و أفعاله.
و في تربية الأولاد.. تحذّر الشريعة المقدّسة من التسرّع في عقوبتهم، و من الخطأ في إيقاعها؛ فإنّ العقوبة إذا شمِلتْ طفلاً بريئا أو ولدا غير مقصِّر تركتْ آثارا سيّئةً على نفسه و قلبه، فأحسّ بمرارة الظلم، و تعلّم الحقد و الكراهية، و مال بعقدته نحو الانتقام، و وجد الالتزام بالآداب لا يُقيَّم، فربّما تمرّد على الأخلاق! فإذا لم يستطع المربّي تشخيص المخطئ، فَلْيحذَرْ مِن أن يُعاقِبَ بريئا فيظلمه مِن جهة، و يغمر المذنب المسيء بفرحةٍ تسوّل له تكرار ذنبه مِن جهةٍ أُخرى، بل على المربّي أن يعفو - أو يتظاهر بالعفو - عن الجميع و يُحذِّر من أن تتكرّر الإساءة، مُوعِدا المقصِّر بالعقوبة ليرتدعَ عنها- و إن لم يشخّصْ ذلك المقصّرَ أو المسيء.
و يكفي العفوَ شرفا في مديحه أ نّه ثمرةُ الإيمان و سنده في جملة الأخلاق الحميدة.. في الرواية، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لمّا خلَقَ اللّه ُ الإيمانَ قال: اَللّهمّ قوِّني، فقوّاه بحُسْن الخُلق والسّخاء. ولمّا خَلقَ اللّه ُ الكفر قال: اَللّهمّ قوِّني، فقوّاه بالبُخل و سوءِ الخُلق(3).و لا يختلف اثنان أنّ العفو مِن حسن الخُلق، و من السخاء المعنويّ، كما أنّ الانتقام من البخل المعنويّ و من سوء الخُلق. و يكفي في شرف العفو أ نّه
ص: 124
من صفات المتّقين و المحسنين، ففي نهج البلاغة لمّا قال همّام- الرجل العابد- يسأل: يا أميرالمؤمنين، صِفْ ليَ المتّقينَ حتّى كأنّي أنظر إليهم.. ثمّ ألحّ عليه، فأجابه عليه السلام فيما أجابه في حديث طويل يصف فيه المتّقي:
يعفو عمّن ظَلَمه، و يُعطي مَن حَرَمَه، و يَصِلُ مَن قَطعَه.. بعيدا فُحشُه، ليّنا قولُه، غائبا مُنكَرُه، حاضرا معروفُه، مُقبِلاً خيرُه، مُدْبِرا شَرُّه..(1).
إنّ العفو عطاء و صِلة، و خلُقٌ و رِفْق، و معروفٌ وخير، و لْنقلْ: هو من التقوى، و أيّ شرفٍ كبير للعبد أن يكون مؤمنا متّقيا ! يُحبّ الناس و يعطف عليهم، و يُسقط حقوقَه لديهم، فيكون ذا مروّةٍ و رحمة.. كذلك كان أهل بيت عليهم السلام؛ إذ يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إنّا أهل بيت.. مروّتُنا العفوُ عمّن ظَلَمَنا(2).
و إنا لَنسمعُ من لسان الروايات مدحا وثناءً على خُلُق العفو ما نظنّ به أنّ الأخلاق الأخرى ستحسده؛ فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في خطبة له: ألا أُخبركم بخير خلائق الدنيا و الآخرة؟!.. العفوُ عمّن ظَلَمَك، و تَصِلُ مَن قطَعَك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاءُ مَن حَرَمك(3). و في رواية أخرى: قال صلى الله عليه و آله: ألا أدلُّكم على خير أخلاق الدنيا و الآخرة؟! تَصِل مَن قطَعَك، و تُعطي مَن حَرَمك، و تعفو عمّن ظَلَمك(4).
وإذا حاولنا فهم هذا الحديث الشريف، أو فهمَ شيءٍ من معانيهالمباركة.. فإنّنا نقول: إنّ العفو خير أخلاق الدنيا؛ لأنّه يُبعد الضغائن والأحقاد، و يُقبر الفتن والمعضلات، و يخلق أجواء المحبّة والوئام، و يزرع بذور الأُخوّة، و يبدّل الحسدَ والعداوة إلى الأُلفة والمودّة، ويصلح
ص: 125
النفوس، و يربّي القلوب على الخير.. هذا فضلاً عمّا في العفو من ثوابٍ عظيم، و عزٍّ ظاهرٍ و باطن، فهو مِن مكارم الأخلاق العالية. أمّا في الآخرة.. فالعفو يرفع الدرجات، و يصفّي ما علق بالمرء مِن أدران الدنيا، و يمهّد للدخول إلى رحمة اللّه سبحانه و تعالى.. جاء في الحديث القدسيّ الشريف:
يا أمّة محمّد( صلى الله عليه و آله)، ما كان لي قِبَلَكم فقد وهبْتُه لكم، و قد بَقِيتِ التبعات بينكم، فتوهّبوا وادخلوا الجنّة برحمتي(1).
* وجاء عن النبيّ صلى الله عليه و آله هذه الروايات الشريفة، قوله:
- ينادي منادٍ يومَ القيامة مِن بطنان العرش: ألاَ فَلْيَقُمْ كلُّ مَن أجرُه علَيّ.. فلا يقوم إلاّ مَن عفا عن أخيه(2).
- إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ يُسمِع آخِرَهم كما يُسمع أوّلَهم، فيقول: أين أهلُ الفضل؟ فيقوم عنُقٌ من الناس، فتستقبلهم الملائكة فيقولون: ما فضلُكم هذا الذي تَردّيتُم به؟! فيقولون: كنّا يُجهَل علينا في الدنيا فنتحمّل، و يُساء إلينا فنعفو. قال: فينادي منادٍ مِن عند اللّه تعالى: صدَقَ عبادي، خَلُّوا سبيلَهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب(3).
- مَن كظمَ غيظا وهو يقدر على أن ينفذه، دعاه اللّه ُ يوم القيامة على رؤوس الخلائق.. حتّى يتخيَّرَ مِن الحور ماشاء !(4){وعن الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام قال: إذا كان يومُ القيامة، جمع اللّه
ص: 126
تبارك و تعالى الأوّلين والآخِرين في صعيدٍ واحد، ثمّ ينادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنُقٌ مِن الناس، فتَلقّاهمُ الملائكة فيقولون: و ما كان فضلُكم؟! فيقولون :كنّا نَصِل مَن قَطَعَنا، و نُعطي مَن حَرَمنا، و نعفو عمّن ظَلَمَنا. قال: فيُقال لهم: صدقتُم، ادخلوا الجنّة(1).
و بعد، فالعفو من المكارم الرفيعة التي لا يُوفَّق لها إلاّ مَن أُوتيَ حظّا كبيرا مِن الإيمان والتقوى، و نال من اللّه تعالى رزقا معنويّا رفيعا، فالأخلاق أرزاق.. و هذا الشاعر يقول:
إنّي لَتُطرِبني الخلالُ كريمةً***طَرَبَ الغريبِ بأوبةٍ وتلاقي
وتَهُزّني نحوَ المروءةِ والندى***بِيضُ الشمائلِ هَزّةَ المشتاقِ
فإذا رُزِقتَ خليقةً محمودةً ***فقدِ اصطفاك مقسِّمُ الأرزاقِ
الناس.. هذا رزقُه مالٌ وذا ***علمٌ، و ذاك مكارمُ الأخلاقِ
وإذا كان للمكارم معالٍ - أيّها الإخوة الأعزّة - فإنّ العفو يسمو فيها.. قال الإمام عليّ عليه السلام: العفو تاجُ المكارم(2). و إذا كانت بعض الصفات ينحصر شرفها في الدنيا، فإنّ العفو يشمل شرفُه الدنيا والآخرة.. يقول الإمام الصادق عليه السلام: ثلاث مِن مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمّن ظَلَمك، و تَصِل مَن قَطَعَك، و تحلمُ إذا جُهِل عليك(3). و إذا كان الناس يفرحون ببعض مفاخر الدنيا، فإنّ في العفو مفاخِرَ دنيويّة أجدر بالفرح بها والشكر عليها؛ فهي تَسامٍ عن الحقد، و إحسانٌ للمسيئين، و إصلاح لمرضى النفوس، و توجيه إلى الخير، و مجانبة للغضب والعداوة والظلم، وانتصار على استفزارات الشيطان و وساوسه التي يزرع فيها الأحقاد في النفوس.. عن
ص: 127
ابن فضّال قال: سمعتُ أبا الحسن عليه السلام يقول: ما التقتْ فئتانِ قطُّ إلاّ نُصِر أعظمُهما عفوا(1).
أما الشاعر فيقول في الانتصار على الظلم بالعفو:
و إنّي لَأسقي الشَّهْدَ صاحبيَ الذي***يكلّفُني أن أشربَ السّمَّ مُنقَعا
وعندي لصلح الجارِ - إن شاء - موضعٌ***و إن جارَ أو لم يُبق للصلح موضعا(2)
إذا كان من عوائد العفو تطييب الخواطر، وتحبيب القلوب، وإصلاح ذات البَين، وكسب مرضاة اللّه سبحانه وتعالى، فإنّ ترك العفو قد يؤدّي إلى الظلم، وتنامي روح الانتقام من الآخرين، ويوسم تاركَ العفو بالجفاء و بلادة العاطفة وقساوة القلب.. يقول الإمام عليّ صلوات اللّه عليه: قلّة العفو أقبحُ العيوب، و التسرّع إلى الانتقام أعظمُ الذنوب(3).
فما لم يُربِّ المرء نفسَه على التسامح والعفو والصفح والتغاضي،و مقابلة الإساءة بالإحسان، فإنّ روح الانتقام ستتفاقم في نفسه، و إنّ الغضب ليلتهب فيريد أن يبلّ غليله حتّى ولو بالظلم والجور، فيعاقب خصمه بأكثر ممّا يستحقّ، و يتعامل مع إخوانه بالجفاء والمداقّة، و هذا من عيوب الأخلاق، وهو مؤدٍّ إلى الخصومة والفُرقة والتنافر، بدل الإخاء والمودّة والتقارب، والمُداقّة محذورٌ يُخاف منه ! عن حمّادبن عثمان، عن أبي عبداللّه (الصادق) عليه السلام أ نّه قال لرجل: يافلان، ما لك و لأخيك؟! قال: جُعِلتُ فداك، كان لي عليه شيء فاستقصيتُ في حقّي، فقال أبو عبداللّه عليه السلام
ص: 128
له: أخبِرْني عن قول اللّه عزّوجلّ: «ويَخافونَ سوءَ الحساب»، أتَراهُم خافوا أن يجورَ عليهم أو يَظلمَهم؟! لا، ولكنّهم خافوا الاستقصاءَ والمُداقّة(1).
وإذا كان المرء تاركا للعفو عن إساءة إخوانه، خلّف أثرا سيّئا في قلوب البعض، ولكنّ هذا الأثر يكون أسوأَ و أكثر ضررا إذا كان هذا المرء مسؤولاً عن الرعيّة، فتركُه للعفو يخلّف حقدا في قلوب الآلاف من الناس؛ فإنّ في الناس الجاهلَ والمتخلّف و مَن عادته الإساءة والمخالفة. و مَن تربّى تربيةً خاطئة فهو يحتاج - كأكثر الناس - إلى المداراة، و فسحِ الفرص لإصلاح حاله والتراجع عن مواقع الرذيلة.. و هذا يحتاج إلى العفو؛ و لذا يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: جمال السياسة: العدلُ في الإمرة، والعفو مع القدرة(2). ويقول سلام اللّه عليه: رأس السياسة استعمال الرِّفْق(3). فرعاية شؤون الرعيّة تستلزم العفو مرّة، والصفح أخرى، والتوجيه الحافظ للكرامة، والتحبّب والتآخي، خاصّة إذا كُلِّف المرء بشؤون شعبٍ أو أمّة، ولقد كتب أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلامكتابا إلى مالك الأشتر رضوان اللّه عليه لمّا ولاّه على مصر و أعمالها، فجاء فيه:
و أشْعِرْ قلبَك الرحمةَ للرعيّة، والمحبّةَ لهم، و اللُّطْفَ بهم، ولا تكونَنّ عليهم سَبُعا ضاريا، تغتنمُ أكْلَهم؛ فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق.. يَفْرطُ مِنهمُ الزَّلل، و تَعرِضُ لهمُ العلل، و يُؤتى علىأيديهم في العَمْد و الخطأ، فأعطِهِم مِن عفوِك وصفحِك مِثْلَ الذي تُحبّ و تَرضى أن يُعطيَك اللّه ُ مِن عفوِه و صَفْحِه؛ فإنّك فوقَهم، و والي الأمرِ عليك
ص: 129
فوقَك، واللّه ُ فوقَ مَن ولاّك..(1).
وفي رسالة الحقوق.. كتب الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام تفصيلاً للحقوق بين الناس و بارئهم تبارك وتعالى، وللحقوق فيما بينهم، جاء فيها:
وأمّا حقُّ رعيتك بالسلطان: فأنْ تعلم أنّهم صاروا رعيّتَك؛ لضعفِهم و قوّتِك، فيجب أن تَعدِلَ فيهم و تكون لهم كالوالد الرحيم، و تَغفرَ لهم جهلَهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكرَ اللّه َ عزّوجلّ على ما آتاك من القوّة عليهم..
وأمّا حقّ الزوجة: فأن تعلم أنّ اللّه عزّوجلّ جعلَها لك سَكَنا و أُنسا، فتعلم أنّ ذلك نعمةٌ من اللّه عليك، فتُكرمها و تَرفق بها، و إنْ كان حقُّك عليها أوجب، فإنّ لها عليك أن ترحمها؛ لأنّها أسيرك، و تُطعمَها و تَكسوَها، فإذا جَهِلتْ عفوتَ عنها..
وأمّا حقّ جليسك: فأن تُلينَ له جانبَك، و تُنصفَه في مجاراة اللَّفظ، و لا تقومَ من مجلسِك إلاّ بإذنه، و مَن يجلس إليك يجوز له القيامُ عنك بغير إذنك، و تنسى زلاّته، وتحفظ خيراتِه، ولا تُسْمعه إلاّ خيرا.
وأمّا حقُّ جارك: فحِفظُه غائبا، و إكرامه شاهدا، و نصرته إن كان مظلوما، ولا تتبعْ له عورة، فإن علمتَ عليه سوءً سترتَه عليه، و إن علمتَ أ نّه يقبل نصيحتَك نصحتَه فيما بينك و بينه، و لاتُسْلِمْه عند شديدة، وتقيل عثرتَه، و تغفر ذنبَه، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا قوّة إلاّ باللّه.
وأمّا حقّ الصاحب: فأنْ تَصحبَه بالتفضّل والإنصاف، و تُكرمَه كمايكرمك، ولا تدعه يسبق إلى ملومة، فإن سبق كافيتَه، وتودّه كما يَوَدُّك،
ص: 130
و تزجره فيما يهمّ مِن معصيته، و كنْ عليه رحمة، ولا تكنْ عليه عذابا، ولا قوّة إلاّ باللّه..
وأمّا حقُّ غريمك الذي يطالبك: فإن كنتَ مُوسرا أعطيتَه، وإن كنتَ مُعسِرا أرضيتَه بحُسْنِ القول، و رددتَه عن نفسك ردّا لطيفا..
وحقُّ الخصم المدّعي عليك: فإن كان ما يدّعي عليك حقّا كنتَ شاهِدَه على نفسِك، ولم تظلمْه، و أوفيتَه حقَّه، و إن كان ما يدّعي باطلاً رَفقتَ به، ولم تأتِ في أمرِه غيرَ الرِّفق، ولم تُسخِطْ ربَّك في أمره، ولا قوّة إلاّ باللّه.
و حقُّ خصمك الذي تدّعي عليه: إنْ كنتَ مُحِقّا في دعوتك أجملتَ مقاولتَه، ولم تجحدْ حقَّه، و إن كنتَ مُبطِلاً في دعوتك اتّقيتَ اللّه َ عزّوجلّ وتُبتَ إليه، و تركتَ الدعوى..
وحقُّ المشير عليك: أن لا تتّهمَه فيما لايوافقك مِن رأيه، فإن وافقك حَمِدتَ اللّه َ عزّوجلّ.
وحقُّ المستنصح:أن تُؤدّيَ إليه النصيحة، وليكنْ مذهبك الرحمةَ له والرفق به.
وحقُّ الناصح: أن تُلين له جَناحَك، و تُصغيَ إليه بسمعك، فإنْ أتى الصوابَ حَمِدتَ اللّه َ عزّوجلّ، و إن لم يوافقْ رَحِمْتَه، ولم تتّهِمْه وعلمتَ أ نّه أخطأ ولم تُؤاخذه بذلك؛ إلاّ أن يكون مستحقّا للتهمة، فلا تعبأْ لشيءٍ من أمره على حال، ولا قوّة إلاّ باللّه.
وحقُّ الكبير: توقيرُه لِسِنّه، و إجلاله لتقدّمه في الإسلام قَبلَك، و تركُ مقابلته عند الخصام، و لا تسبقْه إلى طريق، ولا تتقدّمْه ولا تستجهِلْه، وإن جَهِل عليك احتملتَه و أكرْمتَه؛ لِحقِّ الإسلام و حُرْمته.
وحقُّ الصغير: رحمتُه في تعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرِّفقُ به
ص: 131
والمعونة له..
وحقُّ مَن ساءك: أن تعفوَ عنه، و إن علمتَ أنّ العفوَ عنه يضرُّ انتصرتَ.. قال اللّه ُ تبارك و تعالى: «ولَمَنِ انتصَرَ بعدَ ظُلْمِه فأُولئك ما عليهِم مِن سبيل»(1).
وحقُّ أهل ملّتك: إضمار السلامةِ والرحمة لهم، والرفقُ بمسيئهم، و تألّفُهم واستصلاحهم، و شكرُ مُحسنهم، و كفُّ الأذى عنهم، وتحبُّ لهم ما تحبُّ لنفسك، و تكره لهم ما تكره لنفسك، و أن يكون شيوخُهم بمنزلة أبيك، و شبابهم بمنزلة إخوتك، وعجائزهم بمنزلة أُمّك، و الصغار بمنزلة أولادك.
وحقُّ أهل الذمّة: أن تَقبلَ منهم ما قَبِل اللّه ُ عزّوجلّ، ولا تظلمْهم ما وَفَوا للّه ِ عزّوجلّ بعهده(2).
فَلْننظرْ - أيُّها الإخوة الأعزّة - كم أخذ العفو والصفح والمغفرة والإغضاء والمسامحة والرفق.. مِن مساحةٍ في لائحة الحقوق الإنسانيّة، و كم له مِن موقعٍ يحلّ المشكلات والمعضلات، ويطيّب الأجواء الفرديّة والأُسريّة والاجتماعيّة.
ومع الأرحام أيضا.. يُراد العفو و يُطلَب، وإلاّ فإنّ هذه الصلة المقدّسة الواجبة سرعانما تنقطع، و يحلّ الجفاء عوض المحبّة، والقطيعة بدلَ الصِّلة، والكراهية مكان المحبّة، فمَن الذي لايخطأ أو لايسيء؟! فإذا كنّا أهلَ خطأ و إساءة، كان العفو هوالذي يُصلح حالَنا، وفيه سلامة أنفسنا و سلامة
ص: 132
روابطنا، و سلامة دنيانا و آخرتنا. والعشيرة جناح المرء، به يطير ويقوى.. وقد كان من وصايا أميرالمؤمنين عليه السلام لولده الحسن عليه السلام أن قال له: و أكْرِمْ عشيرتَك؛ فإنّهم جَناحُك الذي به تطير، و أصلُك الذي إليه تصير، و يدُك التي بها تَصول(1).
و من الكرم بمكان.. أن يُحسنَ المرء إلى مَن أساء إليه مِن عشيرته، أو أن يصلَ مَن قطَعَه، و يعفوَ عمّن ظلَمَه منهم، حتّى يَحفظَ صلة الرَّحِم.. وهذا أحد الشعراء يقول مفتخرا:
و إنّ الذي بيني و بين بني أبي***وبين بني أُمّي لمُختلفٌ جِدّا
فإنْ جَزروا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم***وإن هدّموا مجدي بَنيتُ لهم مَجْدا
ولا أحمل الحقدَ القديمَ عليهمُ***وليس كريمُ القوم مَن يحملُ الحقدا
لهم جُلُّ مالي إن تتابعَ لي غِنىً***وإن قلّ مالي لا أُكلّفُهم رِفْدا
وفّقنا اللّه تعالى إلى خلُق العفو مع إخواننا وأرحامنا، و رزَقَنا الصفحَ عن المخطئين والمسيئين، إنّه أرحمُ الراحمين، والحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على حبيبه المصطفى سيّدِ العافين، وعلى آلهِ الطيّبين الطاهرين.
ص: 133
ص: 134
قال تعالى:
«ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكُم والسَّعةِ أن يُؤْتُوا أُولي القُربى والمساكينَ والمهاجرينَ في سبيلِ اللّه ِ وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا، ألاَ تُحبُّونَ أن يَغفِرَ اللّه ُ لكم، واللّه ُ غَفُورٌ رَحيم»(1) صَدَق اللّه العليُّ العظيم.
إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يترك أمرا فيه عائدةٌ طيّبة على العباد، إلاّ و دعاهم إليه و شوّقهم فيه، و كتب لهم به الثوابَ الجزيل، والعطاء الفضيل.. فضلاً عمّا ينالهم من ذلك الأمر مِن منافعَ دُنيويّة وعوائدَ محمودة.
والعفو هو إسقاط ما يستحقّه المرءُ من القِصاص أو الغرامة، وهو خُلُقٌ يعود على صاحبه بمحبّة الناس واحترامهم وإكبارهم. وقد دعا سبحانه وتعالى عبادَه إلى هذا الخُلق الكريم، و أمرَهم به، فقال جَلّ وعلا: «وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا»، يريد عزّوجلّ أن لايقصّر أولو الفضل والسَّعة - أي الأغنياء - في إيتاء أُولي القرابة والمساكين و المهاجرين في سبيل اللّه مِن مالِهم، و أن لايتركوا إيتاءَهم؛ لحلفٍ على خلافٍ ما، بل ليعفوا عنهم ولْيصفحوا.ثمّ حرّضهم سبحانه و تعالى بقوله:«ألاَ تُحبّون أن يَغفرَ اللّه ُ لكُم، واللّه ُ غفورٌ
ص: 135
رحيم»، و هذا تذكير عجيب، فالمرء يريد لنفسه ما لايريد لإخوانه، ويطالب غيرَه بما لا يطالب به نفسه، فمَن مِنّا لا يحبّ أن يغفرَ اللّه له؟! ليس مِن أحدٍ عاقلٍ لايريد مغفرةَ ربِّه، إذن لماذا لانغفرُ لإخواننا ونحن عصَينا اللّه َ تعالى و رَجَونا عفوه، وهم قد أساؤوا إلينا فيرجون عفوَنا و مسامحتَنا؟! لماذا لانطلب عن إخواننا عفوَ اللّه عنّا؟! لماذا لايكون بيننا من التسامح والتصافح والتغافر ما ننال به صفح اللّه تعالى عنا، وعفوَه وغفرانه؟!
ثمّ ذكّرنا سبحانه و تعالى بأمرٍ نتناساه فقال: «واللّه ُ غفورٌ رحيم»، فلْنطمئنَّ إلى أنّ مرجعَنا سيكون إلى الغفور الرحيم، وفي ذلك نجاة للمؤمن. إذن، فلْنُحسِنِ الظنَّ باللّه تبارك وتعالى أوّلاً، وثانيا لنتعلّمْ مِن أخلاق اللّه جلّ و علا ما ننجو به يومَ القيامة ونفوز بعفوه.. يقول الإمام الصادق عليه السلام: اعفُ عمّن ظَلَمك، كما أنّك تُحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبرْ بعفو اللّه عنك(1). اللّهمّ اعفُ عنّا ياربّ، و اجعلْ عفوَنا عن عبادك سبيلاً إلى نَيل عفوك، يا أرحم الراحمين.
إنّ العفو خلُقٌ ممدوح و محمود، و هو من الخصال الكريمة والطباع الطيّبة والصفات الشريفة.. خاصّةً إذا كان مقترنا بالقدرة؛ فإنّ لكلِّ شيءٍ زكاة، فإذا كان على الأموال زكاة معلومة - كما في قوله تعالى: «والذينَ في أموالِهم حقٌّ معلوم * للسائل والمحروم»(2) - ، و على الأبدان زكاة - كما قال تعالى «كُتِب عليكُم الصيامُ كما كُتب على الذين مِن قبلكم»(3)، وكما قالالنبيّ صلى الله عليه و آله: لكلِّ شيءٍ زكاة، و زكاةُ الأبدان الصيام(4) - ، و على العلم زكاة - كما قال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ لكلّ شيءٍ زكاة، و زكاة العلم أن يعلّمه
ص: 136
أهلَه(1) - ، فإنّ على القدرة والتمكّن زكاةً كذلك.. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في عرضه للزكوات: زكاة الجَمال: العفاف(2). زكاة اليسار: بِرُّ الجيران، وصله الأرحام.(3) زكاة الصحّة: السعيُ في طاعة اللّه (4). زكاة النِّعَم: اصطناع المعروف(5). زكاه العلم: بذلُه لمستحِقِّه، و إجهاد النفس في العمل به.(6) لكلِّ شيءٍ زكاة، وز كاة العقل: احتمالُ الجهّال(7). زكاة البدن: الجهاد والصيام(8). زكاة القدرة: الإنصاف(9). زكاة الظفر الإحسان(10). العفو زكاة الظفر(11).
وفي أداء الزكاة تطهير للنفس من الحقد، وإيقاظٌ للعقل والضمير..فالمؤمن ساعٍ إلى الإصلاح لا إلى الانتقام من الآخرين، و إنما يشهر - أحيانا - سيفه ليردع به البغاة والمفسدين، أو ليدافع عن حرمات اللّه و عنالأنفس البريئة، فإذا نكص العدوّ وأراد أن يؤوب إلى رشده، وانصرف عن عدوانه، فالعفو سبيل الإصلاح، وقد يكون مأنسَ النفوس و داعيها إلى المحبّة والأُلفة بدل الخصام والبغضاء.
العفو أمرٌ شرعيّ.. لاندري لماذا نتخلّف عنه و نحن لا نتخلّف عن أمر اللّه تعالى في الصلاةِ والزكاة والصوم والحجّ، وغيرها من الأحكام؟! أليست الأخلاق من الأوامر الشرعيّة، و مِن الواجبات التي أمرَ اللّه سبحانه
ص: 137
عبادَه بأدائها؟! لماذا نُسرع إلى الصلوات و نعتبرها عبادةً واجبة، ونتخلّف عن الوظائف الأخلاقيّة ولا نلتفتُ إلى أنّها عبادات واجبة أيضا؟! ثمّ أين نحن من الآيات التي تأمرنا بالعفو والوصايا الشريفة؟! و أين حكمُ العقل إذا وُجِدت الوصايا الإلهيّة تصدرُ إلى الأنبياء والمرسلين (على نبيّنا و آله وعليهم صلوات اللّه أجمعين) تأمرهم بالعفو، و تدعوهم إلى مداراة الناس، و ترشدهم إلى الصفح والتسامح والتآخي والمودّة؟! أليس في هذا عِبرةٌ لنا ودعوةٌ يؤيّدها العقل، فنأتمر بما ائتُمِر به الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، والأئمة الهادون المهديّون (سلام اللّه عليهم)، و أن نتأسّى و نقتدي بسيرتهم الشريفة (صلوات اللّه عليهم).
قال النبيّ صلى الله عليه و آله: أوصاني ربّي بسبع: أوصاني بالإخلاص في السرّ والعلانية، و أن أعفوَ عمّن ظلَمَني، و أُعطيَ مَن حَرَمني، و أصِلَ مَن قطَعَني، و أن يكون صمتي فِكْرا، و نظري عِبَرا(1).
* و قال صلوات اللّه عليه و آله: عليكم بالعفو؛ فإنّ العفو لايَزيد العبدَ إلاّ عِزّا، فَتعافُوا يُعزَّكمُ اللّه (2).
وهذا أمرٌ نبويٌّ صريح، فإن كنّا نؤمن برسول اللّه صلى الله عليه و آله كان أَولى بنا أن نمتثلَ أمرَه، و هو القائل: عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإنّ ربّي بعثني بها، و إنّ مِن مكارم الأخلاق: أن يعفوَ الرجلُ عمّن ظَلَمه، و يُعطيَ مَن حَرَمه، و يَصِلَ مَن قطَعَه، و أن يعودَ مَن لايعودُه(3).وهذا تشويق لنا؛ حيث العفو مكرمةٌ خُلُقيّة ينال شرفَها العبد إن تحلّى بها، و هي عِزٌّ إلهيّ يتَّصف به العافي، و ليس العفو تنازلاً أو مذلّة - كما
ص: 138
يتوهّمه البعض - .
* مِن كلام للإمام عليٍّ عليه السلام قاله قبل شهادته على سبيل الوصيّة لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه):
أنا بالأمسِ صاحبُكم، و اليومَ عِبرةٌ لكم، و غدا مُفارِقُكم. إن أبْقَ فأنا وليُّ دمي، و إن أفْنَ فالفَناء ميعادي، و إنْ أعفُ فالعفوُ لي قُربة وهو لكم حسنة، فاعفوا.. «ألاَ تُحبّون أن يغفرَ اللّه ُ لكُم» !(1)
والمؤمن يشعر أنّ الآخرين محتاجون إلى العفو كما هو محتاج إلى ذلك العفو يوما ما، و يعلم أ نّه يخطأ كثيرا و يحبّ من الناس أن يعفوا عنه، كذلك ينبغي أن يعفوَ هو عنهم إذا أخطأوا يوما ما معه، و ربّما كان عفوُه عنهم سببا لعفوهم عنه.
وهكذا تمضي الحياة تسامحا و إخاءا، ومحبّةً وصفاءا، فالعِشرة مع الإخوة، والتلاقي مع الناس.. يُراد لهما صبرٌ و تحمّل، فإذا صادَفَنا مسيءٌ عفَوْنا، و إذا قابَلَنا سفيهٌ صَبَرنا، وإذا واجَهَنا مِن الناس مَن يظلمنا و كَلْناه إلى اللّه عزّوجلّ، و صفَحْنا عمّن يُرجى صلاحه.
* جاء في الرواية عن أحمد بن الحسين، عن أبيه قال: أُحضِرنا مجلسَ الرضا عليه السلامفشكا رجلٌ أخاه، فأنشأ عليه السلام يقول:
اعذُرْ أخاك على ذنوبِهْ***واستُرْ وغَطِّ على عُيوبِهْ
واصبرْ على بهتِ السفيه***وللزمانِ على خُطوبِهْ
ودَعِ الجوابَ تفضّلاً***وكِلِ الظلومَ إلى حسيبِهْ(2)
وحتّى الشعراء جرى على ألسنتهم أنّ من لوازم الحفاظ على الأُخوّة أن
ص: 139
يسود العفوُ بين الإخوان، و أن يتذكّروا مابينهم من الصنائع الطيّبة والفضل والمودّة فيما مضى.. يقول أحد الأدباء:
سامحْ أخاكَ إذا خَلَطْ***منه الإصابةَ بالغَلَطْ
و تجافَ عن تعنيفِهِ***إنْ زاغَ يوما أو سَقَطْ
واحفَظْ صنيعَك عندَهُ***شَكَرَ الصنيعةَ أو غَمَطْ
وأطِعْه إنْ عاصى وهُنْ***إنْ عزّ و ادْنُ إذْ شَحَطْ
وأْتِ الوفاءَ ولو أخَلّ***بِما اشترطتَ و مااشترَطْ
واعلم بأنّك إن طَلَبْت***مهذَّبا.. رُمتَ الشَّطَطْ
مَن ذا الذي ما ساء قَطّ***ومَن له الحُسنى فقطْ؟!(1)
و من العفو - أيّها الإخوة - أن نقبل عذرَ مَن جاء إلينا يعتذر عمّا بدا منه من الإساءة والظلم والخطأ، ففي قبول العذر كرامةٌ لنا و شرف و فضيلة، وللمعتذر حفظٌ لكرامته و إيجاد للفرصة المناسبة لأن يتراجع عن خطأه و يؤوب إلى رشده و يُصلح ما كان أفسد، و يُعيد الأُخوّة بعد ذلك إلى مسارها الأوّل.. و إلى ذلك دعا الإسلام:
* قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إقْبَلُوا العذرَ مِن كلّ متنصِّل.. مُحِقّا كان أو مُبطِلاً، و مَن لم يقبلِ العذر منه فلا نالَتْه شفاعتي(2).
وما أحوجَنا - أيُّها الإخوة - إلى شفاعة المصطفى صلى الله عليه و آله في ذلك اليوم العسير!
* وجاء عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام قوله: لايعتذرْ
ص: 140
إليك أحدٌ إلاّ قَبِلتَ عُذرَه، و إن علمتَ أ نّه كاذب(1).
* وقوله سلام اللّه عليه أيضا: إن شتَمَك رجلٌ عن يمينك، ثمّ تحوّلَ إلى يسارك فاعتذرَ إليك.. فاقبلْ منه(2).
وهذا يُراد له: حِلمٌ و صبر، وتمالك للنفس عن الغضب والانتقام، و ترفّعٌ عن مقابلة الشتم بالشتم، و سعةُ صدرٍ عن تقبّل الاعتذار.
* و مثل ذلك أوصى به الإمام موسى الكاظم عليه السلام.. قال عبدالعزيز الجنابذيّ: رُوي أنّ موسى بن جعفر عليهماالسلام أحضر وُلْدَه فقال لهم: يا بَنيّ إنّي مُوصيكم بوصيّة، فمَن حَفِظَها لم يضعْ معها، إن أتاكم آتٍ فأسمَعَكم في الأُذنِ اليمنى مكروها، ثمّ تَحَوّل إلى الأُذُن اليسرى فاعتذر و قال: لم أقُلْ شيئا ! فاقْبلُوا عُذْرَه(3).
وهذا يحتاج إلى قلبٍ خالٍ من الحقد، و ضميرٍ يحبّ الصلاح للناس، و عقلٍ يهتدي بوصايا الرسل والأنبياء والأئمّة (صوات اللّه عليهم أجمعين).. وقد يستدعي العفو السامي مقابلةَ الإساءة بالإحسان، أبِهذا أُمِرْنا أيضا؟!
* قال أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلام موصيا: صافحْ عدوَّك و إن كَرِه؛ فإنّه ممّا أمَرَ اللّه ُ عزّوجلّ به عباده، يقول: «إدفعْ بالّتي هيَ أحسنُ فإذا الّذي بينك و بينَه عداوةٌ كأنّه وَليٌّ حميم * و ما يُلقّاها إلاَّ الّذينَ صَبَروا و ما يُلقّاها إلاّ ذُو حَظٍّ عظيم»(4).وهكذا يترفّع العبد عن الحقد والضغينة، و عن الانتقام الذي يُعرَّف بأنّه
ص: 141
المقابلة بمثل ما فعَلَ المسيء أو بالأزيد منه - وإنْ كان محرَّما ممنوعا من الشريعة - ، وهو من نتائج الغضب؛ إذْ كلُّ انتقام بهذا المعنى ليس جائزا، فلا يجوز مقابلةُ الغِيبةِ بالغيبة، والفحش بالفحش، و البهتانِ بالبهتان، وهكذا في سائر المحرَّمات..(1)قال الإمام الباقر عليه السلام يوصي جابرَ بن يزيد الجُعفيّ: أوصيك بخَمس: إنْ ظُلِمتَ فلا تظلمْ، و إنْ خانوك فلا تَخُن، و إن كُذِّبْتَ فلا تَغضب، و إنْ مُدِحتَ فلا تفرح، و إنْ ذُمِمتَ فلا تجزع. و فكِّرْ فيما قيل فيك.. فإن عَرَفتَ مِن نفسك ما قيل فيك، فسقوطُك مِن عين اللّه جلّ وعزّ عند غضبك من الحقّ أعظمُ عليك مصيبةً ممّا خِفْتَ مِن سقوطك مِن أعين الناس، و إن كنتَ على خلاف ماقيل فيك، فثوابٌ اكتسبتَه مِن غير أن يَتعبَ بدنُك(2).
ص: 142
بِسْمِ اللّه الرَّحمن الرَّحيم: «وسارِعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربِّكُم وجَنّةٍ عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ لِلمتّقين * الّذينَ يُنفِقُونَ في السرَّاءِ والضَّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عنِ الناسِ واللّه ُ يُحبّ المحسنين»(1) صَدَقَ اللّه العليُّالعظيم.
أقلُّ ما يُقال في ترك العفو عن الإخوان أ نّه إذلالٌ لهم، واللّه تعالى حينما يقدّم النموذجَ المثاليّ للمؤمنين يقول في كتابه الحكيم: «يا أيُّها الذينَ آمنوا مَن يرتدَّ منكم عن دِينه فسوف يأتي اللّه ُ بقومٍ يُحبُّهم و يُحبُّونه أذلّةٍ علَى المؤمنينَ أعزّةٍ علَى الكافرين..»(2).
وهاتان الصفتان: أذلّة، و أعزّة.. كنايتان عن خفضهِمُ الجَناحَ للمؤمنين؛ تعظيما للّه الذي هو وليُّهم وهم أولياؤه، و عن ترفّعهم من الاعتناء بما عند الكافرين من العِزّة الكاذبة التي لايَعبأ بأمرِها الدِّين. وقيل: لعلّ تعدية «أذلّة». بحرف الجرّ «على» لتضمينه معنى الحنان أو الحنُوّ(3). فالمؤمن على
ص: 143
أخيه المؤمن عطوفٌ ذليل، وهذا يستدعي أن يكون معه رحيما عفوّا، و في ذلك إعزاز له، و حرصٌ على الارتباط الأخويّ به.
أمّا ترك العفو.. فهو تهديد للأُخوّة المعقودة بين المؤمنين، في حين نقرأ في كتاب اللّه العزيز قولَه تبارك شأنُه: «إنّما المؤمنونَ إخوةٌ فأصلِحُوا بين أخَوَيكُم واتَّقُوا اللّه َ لعلّكم تُرحَمون»(1). و الصلح يستدعي العفو والتنازل بين الإخوة، لترتفع بينهما الكدورة، فلوجودِ الأُخوّة بين المؤمنين يجب أن يكون بينهم صلحٌ وعفو، وفي الصلح والعفو رحماتٌ هابطة من اللّه الغفور الرحيم الذي نرجو عفوه و نخشى عقابه، فلكَيْ نحظى بما نرجو ونأمنَ ممّا نخشى و نحذر، علينا أن نتحلّى بأخلاق اللّه جلّ وعلا في العفو عن إخواننا، وقد نبّهنا تبارك وتعالى بقوله: «سارِعوا إلى مغفرةٍ مِن ربِّكم و جنّةٍ عَرضُها السماواتُ والأرض»، بعدها قال عزّ مِن قائل: «أُعِدّتْ للمتّقين»، ثمّ بيّن اللّه جلّت رحمته بعضَ صفات المتّقين بنصّه الشريف: «الذينَ يُنفقونَ فى السرّاءِ والضرّاءِ والكاظمينَ الغَيظَ والعافينَ عنِ الناس».. فمَن كظمَ غيظه بعد حزنٍ أو غضب و قمَع هيحانَ طبعه للانتقام، وعفا عن الناس، كان قد تخلّق بشيءٍ من أخلاق المتّقين، و اقترب من صفات المحسنين، و اللّه ُ تعالى يُحبّ المحسنين، و كفى بالمؤمن شرفا و كرامةً أن يُحبَّه اللّه جلّت رأفته، فمَن أحبّه اللّه ُ تعالى كان مِن الفائزين، و ذلك يُنال بأسبابٍ منها العفو عن المسيئين.
و إذا كان العفو ممدوحا، و موصوفا بالإحسان، فإنّ تَركَه أمرٌ مذموم، إذهو من العيوب الأخلاقيّة التي تشير إلى حبّ الانتقام و إلى كراهية الناس.. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: قلّة العفوِ أقبحُ العيوب، و التسرّعُ إلى الانتقام أعظم
ص: 144
الذنوب(1). هذه قلّة العفو، فكيف بترك العفو؟! يقول الإمام عليّ سلام اللّه عليه: شرُّ الناس مَن لايعفو عن الزلّة، ولا يَستر العَورة(2).
ونتساءل: مَن مِنّا يرضى لنفسه أن يُوسَم ب- «شرّ الناس»؟! لا أحدَ عاقلاً يرضى بذلك، ولكنّ النفوس إذا طُبعت على بعض الشرور تهمّ بالانتقام قبل أن تفكّر بالصلح، و تحبّ عقاب الآخرين بدلَ العفو عنهم، فما على المؤمن إلاّ أن يجاهد نفسه في ذلك.. يردعها مرّةً عن الشرّ والسُّوء، و يحبّب إلى قلبه العفوَ والصفح والصلح مرّةً أخرى، و يبغّض إليهما الانتقامَ وتَرْكَ العفو، ويرغّبُ روحَه إلى الخُلق الإلهيّ الكريم مرّةً ثالثة. وإلاّ، فإنّ النفس إن تُرِكت وأهواءَها مالتْ إلى الشرور..يقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: تكلّفُوا فعلَ الخير، وجاهدوا نفوسَكم عليه؛ فإنّ الشرَّ مطبوعٌ عليه الإنسان(3)، ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام: الشرُّ كامنٌ في طبيعةِ كلِّ أحد، فإن غَلَبه صاحبُه بَطَن، و إن لم يَغْلِبْه ظَهَر(4)، و يقول صلوات اللّه عليه أيضا: النفسُ مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمورٌ بملازمة حُسنِ الأدب، والنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يَجهد بردِّها عن سوء المُطالبة، فمتى أطلقعنانَها فهو شريكٌ في فسادها، و مَن أعان نفسَه في هوى نفسِه فقد أشرك في قتلِ نفسِه(5).
فإذا كانت النفس تميل إلى سوء الأدب و تجري بطبعها في ميدان المخالفة، فينبغي أن نجهد بِردّ نفوسنا عن السوء، ففي مُماشاتها فسادُها وعونٌ على إهلاكها.
ص: 145
وترك العفو مُخبِرٌ عن عدم الاعتزاز بالأُخوّة الإيمانيّة في اللّه تعالى؛ لأنّه مؤدٍّ يوما ما إلى الفراق لأقلّ اختلاف أو إساءة، بل ترك العفو مُخبِر عن إذلال المؤمن المخطئ، وهذا من الآثام المخيفة؛ لقول الإمام جعفرالصادق عليه السلام: قال اللّه عزّوجلّ: لِيَأْذَنْ بحربٍ منّي مَن أذلّ عبديَ المؤمن(1)، و لقوله عليه السلامأيضا: نزل جبرئيل على النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقول: مَن أهان عبديَ المؤمنَ فقد استقبلني بالمحاربة !(2)
وربّما كانت العقوبة - في بعض الأحيان - إهانةً للمؤمن و كسرا لقلبه، لاسيّما إذا كان في موقعٍ يحتاج إلى مَن ينقذُه مِن حَرَجِه بالعفو، و إلى مَن يُكرمَه بحفظِ ماء وجهه بالصفح، وقد سُئل الإمام الصادق سلام اللّه عليه عن قول اللّه تبارك شأنه: «فاصفَحِ الصَّفْحَ الجميل»، فقال معرّفا له: عفوا مِن غير عقوبةٍ ولا تعنيفٍ ولا عتب(3).
نحن إذْ نرى مَن يحتاج إلى العفو، يجب أن نعلم أنّنا ربّما سنكون أحوجَ مانكون إلى عفو الآخرين، ثمّ سنكون في أمسّ الحاجة إلى عفو ربّنا جلّ وعلا حين نُقْبل عليه بسوء أعمالنا و سيّئات أفعالنا، و كثرة ذنوبنا وخطايانا. إذن، فَلْنَعفُ عن إخواننا، عسى اللّه أن يعفوَ عنّا، و ذاك رجاءٌ عزيز.. يقول الإمام عليّ ابن الحسين زين العابدين عليه السلام في دعاء الاستعاذةمناجيا: يا مَفْزَعي إذا أعْيَتْني الحِيل، يا مَن عفوُه منتهى الأمل، وفّقْني لخيرِ
ص: 146
القول والعمل(1).
والأخلاق العليا ما كانت مقتبَسةً من أخلاق اللّه جلّ جلاله، و من أخلاق رسول اللّه و أهل بيت الرسالة صلوات اللّه عليه و عليهم.. وقد كان من أخلاقهم: العفوُ عند المقدرة؛ يقول أميرالمؤمنين عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: يا بُنيّ، نحن أهلُ بيتٍ لانزداد على الذنب إلينا إلاّ كرما وعفوا(2).
ولو لم يكن ترك العفو مذموما، لما جاءت الأخبار تنهى عن التشدّد مع الإخوان، و عن المُداقّة معهم، وعدمِ التسامح معهم.. يأتي رجلٌ إلى الإمام الصادق عليه السلام، فيسأله الإمام: يا فلان، ما لك ولأخيك؟ فيجيبه: جُعِلتُ فداك، كان لي عليه شيء فاستقصيتُ في حقّي، فيسأله الإمام سلام اللّه عليه: أخبِرْني عن قول اللّه عزّوجلّ «و يَخافونَ سُوءَ الحساب»، أتَراهُم خافوا أن يجورَ عليهم أو يَظلمَهم؟! لا، ولكنّهم خافوا الاستقصاءَ والمُداقّة(3).
نعم، فالتشديد والتعسير والحساب الدقيق.. أمورٌ من شأنها الإحراج والنُّفرة، في حين أنّ مِن أخلاق المؤمن التسامحَ والعفو وقبولَ العذر، وإلاّ كانت النتيجة إهانةَ المسيء وقطعَ صلة الأخوّة، فاذا ساء الأمر خُلِقتْ أجواء الضغينة والحقد والعداوة والبغضاء، فيرجع المعتذر منكسرَ الخاطر مألوم النفس مُهانَ الكرامة، ويرجع الرافضُ لعذر أخيه موسوما بِسِمة «شرّ الناس»؛ لقول النبيّ صلى الله عليه و آله: ألاَ أُنبّئكُم بِشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: مَن أبغَضَ الناس و أبغَضَه الناس. ثمّ قال صلى الله عليه و آله: ألا أُنبّئكُم بشرٍّ مِن هذا ؟قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الذي لا يُقيل عثرة، ولا يقبل معذرة، ولا يغفر
ص: 147
ذَنْبا، ثمّ ألا أُنبّئكُم بشرٍّ مِن هذا ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: مَن لا يُؤمَن شرُّه، ولا يُرجى خيرُه(1). و من الشرّ: المُداقّة و ترك العفو ورفض الاعتذار، كما مِن الخير: العفو و قبول المعذرة وإقالة العثرة و مغفرة أخطاء الإخوان.
لا ندري.. لماذا التدقيق في سلوك الآخرين، حتّى يُصبح البعض لايقبل العذر فيكونَ شرَّ الناس؛ لقول الإمام عليّ عليه السلام: شرُّ الناس مَن لايقبل العذر، ولا يُقيل الذَّنْب.(2) كما لاندري.. لماذا نحاسبُ الناس دائما ولا نحاسب أنفسَنا، أو نحاسب أنفسنا أقلَّ وألين ممّا نحاسب الآخرين، و نحبّ أن يُعفى عنّا ولا نحبُّ لغيرنا أن يُعفى عنهم؟! لنتأمّلْ فيما أوصى به الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ولدَه الحسنَ المجتبى عليه السلام، حيث قال له: يا بُنيّ اجعلْ نفسَك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبِبْ لغيرك ما تُحبّ لنفسِك، و اكرهْ له ما تكره لها، ولا تَظلِمْ كما لاتُحبّ أن تُظلَم، و أحسِنْ كما تُحبّ أن يُحسَنَ إليك، واستقبحْ مِن نفسِك ماتستقبحه مِن غيرك، و ارضَ مِن الناس بما تَرضاه لهم مِن نفسِك، ولا تَقُلْ مالاتعلم وإنْ قَلَّ ما تَعلم، ولا تَقُلْ مالا تُحبّ أن يُقال لك(3). ثمّ لاندري.. لماذا نُحصيعلى الناس عيوبهم و أخطاءهم ونحاسبُهم أشدَّ الحساب عليها، بينما ننسى عيوبَ أنفسنا و أخطاءَها، و كلَّ ما نحتاج إلى العفو منه.. و أميرالمؤمنين عليه السلاميقول: شرُّالناس مَن كان مُتتبّعا لعيوب الناس، عُمْيا لمعائبه(4). كذلك لاندري.. هل ضَمِنّا من أنفسنا أنّها لاتَزِلّ ولاتُسيء إلى الآخرين، فلم نَعفُ عنهم لأنّنا
ص: 148
لانحتاج إلى مَن يعفو عنّا؟!
إنّ العاقل مَن رأى في العفو مرضاةَ ربّه تبارك و تعالى، و تطييبَ نفوس إخوانه، و رأى فيه ضمانَ العفو عنه إذا زلّ أو أخطأ مع إخوانه يوما ما. أمّا تركُ العفو ففيه سخط اللّه تعالى أحيانا، أوّلاً.. وثانيا قد يتربّص الآخَرون به إن لم يعفُ عنهم، حتّى إذا أخطأ فيما بعد لم يعفوا عنه.
و مع الأطفال.. تترك العقوبه- خاصّةً العاجلة و القاسيه- أثرا سيّئا على نفوسهم و قلوبهم، إذا كان هنالك مجالٌ للعفو و استدراك للأمر و الاستغناء عن العقوبة بالموعظة و الإرشاد. فربّما خلّف تركُ العفو عقدةً في أنفسهم، و لكنّ العفو في أغلب الأحيان لايخلّف إلاّ محبّةً و فرصة ذهبيّةً للتصحيح و التراجع عن الخطأ.. يقول الإمام محمّد الباقر عليه السلام: الندامة على العفو أفضل و أيسر من الندامة على العقوبة(1). فإذا أخطأ مُربٍّ مع أولاده أو طلاّبه في العفو عنهم، فإنّه يستطيع تداركَ خطأه، بخلاف العقوبة؛ فإنّ تداركها إذا وقعَتْ خطأً صعبٌ عسير، إذن فالعفو أفضل و أسلم؛ إذ يمكن إزالة ندامته، و ربّما غالبا لا يمكن إزالة الندم على المبادرة بالعقوبة و المعاجلة بالانتقام، و الجنوح إلى ترك العفو.
و العفو- فضلاً عن أفضليّته- يُخبر عن المحبّة الإنسانيّة و التسامح الأخويّ.. هذا في الغالب، بينما يُخبرنا تركُ العفو غالبا عن الحقد و حبِّ الانتقام. كذا يُخبرنا العفو عن حبّ الخير للآخرين كما يحبّه العافي لنفسه، و عن الرحمة بالناس كما يحبّها لنفسه، و عن التسامي عن الأحقاد و الأضغان كما يشتهي ذلك لنفسه من الناس.. يقول الشاعر:
إنّي غفرتُ لظالمي ظُلْمي***و شكرتُ ذاك على عِلْمي
ص: 149
و رأيتُه أسدى إليَّ يَدا***لمّا أبانَ بجهلهِ حِلْمي
رَجعتْ إساءتُه و إحساني إلي***يَ.. فعاد مُضاعَفَ الجُرْمِ
و غدوتُ ذا أجْرٍ و مَحْمدةٍ***و غدا بكسبِ الوِزْرِ و الإثمِ
مازال يظلمُني.. و أرحمُه***حتّى بَكِيتُ له مِنَ الظُّلْمِ
ص: 150
بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمن الرَّحيم: «فَما أُوتِيتُم مِنْ شَيءٍ فمَتاعُ الحياةِ الدّنيا، و ما عِندَ اللّه ِ خيرٌ وأبقى لِلّذينَ آمَنوا و على ربِّهِم يَتوكّلون * والّذينَ يَجتنبونَ كبائرَ الإثمِ والفَواحِشَ وإذا ما غَضِبوا هُم يَغْفِرون * والّذينَ استَجابوا لربِّهِم و أقاموا الصَّلاةَ و أمرُهُم شُورى بينَهم و مِمّا رزَقْناهُم يُنفِقُون * والّذينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتصِرون * وجَزاءُ سَيِّئةٍ سيِّئةٌ مِثْلُها، فمَن عَفا و أصْلحَ فأجرُه علَى اللّه ِ إنّه لايُحِبُّ الظالمين»(1) صَدَقَ اللّه ُ العَليّ العَظيم.
إنّ العبد باتّباعه لأوامر اللّه تبارك و تعالى و منها الأخلاق، إنّما يسلك إلى ربِّه جلّ و علا يطلب مرضاته و القربَ المعنويّ منه، فروحُه متوجّهة إلى رضوان الباري عزّ و جلّ، و قلبه مشغوف بحبيبه سبحانه، فهو لايفرّط في أمرٍ و لا نهي يصدران عن هذا الحبيب؛ لئلاّ يسخط عليه فتنقطع بينهما رابطة الحبّ الإلهيّ، فيرى العبد نفسه حينئذٍ قد خسر كلَّ شيء.. لذا فهو يتعامل مع الأوامر و النواهي الربانيّة باستجابةٍ قلبيّة، مندفعا إلى كلّ خصلةٍ أخلاقيّة شريفة؛ لأنّ اللّه جلّ شأنه يحبّها و يأمر بها، و لأنّه جلّ و علا يتخلّق بها. و من هذه الخصال الشريفة: العفو، فاللّه تعالى هو «العَفُوّ»، و هو الذي يحبّ العفو و يأمر عبادَه بالعفو.
ص: 151
{يدعو الإمام جعفر الصادق عليه السلام في ليلة النصف من شعبان فيقول مخاطبا ربَّه جلّ وعلا : سيّدي، إليك يلجأ الهارب، و منك يلتمس الطالب، و على كرمِك يُعوِّل المستقيلُ التائب. أدّبتَ عبادَك بالتكرّمِ و أنت أكرمُ الأكرمين، و أمرتَ بالعفو عبادَك و أنت الغفورُ الرحيم(1). و في أسحار شهر رمضان يدعو الإمام السجّاد عليه السلام فيقول: اللّهمّ إنك أنزلتَ في كتابك العفو، و أمَرْتَنا أن نعفوَ عمّن ظَلَمَنا، و قد ظَلَمْنا أنفسَنا، فاعفُ عنّا؛ فإنّك أَولى بذلك مِنّا(2).
والعباد مختلفون في درجات الإيمان، متفاوتون في مراقي التقوى؛ و لذلك تختلف مقاصدهم وحالاتهم: فمنهم مَن يقصد في طاعة اللّه جلّ جلاله عوضَ الآخرة من النعيم الدائم والهناء الأبديّ في جِنان الخُلْد، ومنهم مَن يرى الفوز قبل ذلك بالنجاة مِن عذابِ جهنّم، وهو عذابٌ مقيم، و ذلك في الواقع فوزٌ إنْ نجا العبد مِن أهوال النيران.. قال تعالى: «كلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموتِ وإنّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يومَ القيامة، فمَن زُحْزِحَ عنِ النارِ و أُدخِلَ الجنّةَ فقد فاز، و ما الحياةُ الدنيا إلاّ متاعُ الغُرور»(3)، والزَّحْزحة هي الإبعاد، والفَوز هو الظَّفَر بالبُغْية. ولكنّ قصد العاشقين للّه تبارك و تعالى، العارفين به، ليس الجنّةَ فحسب، ولا الخلاص من النار فحسب، إنّما هم يلبّون أوامر اللّه تبارك و تعالى حبّا له، و سعيا لنوال رضاه، و تجنّبا و حذرا مِن سخطه، ويستجيبون لكلّ نهي؛ لأنّه سبحانه أهلٌ أن يُطاعَ فلا يعصى، لذا لايقتصرون في تلبيتهم على نيّة الثواب ليجنوا ثماره، ولا على نيّة تجنّب
ص: 152
العقاب ليسلموا مِن آثاره، إنّما يَرَون أنّ اللّه َ المنعم المُكرم العظيم أهلٌ أن يُطاع و يُعبَد في كلِّ ما أراد. و في تقسيم العباد بشأن ذلك قال أميرالمؤمنين عليه السلام: إنّ قوما عبدوا اللّه َ رغبة، فتلك عبادة التجّار. وإنّ قوما عبدوا اللّه َ رهبة، فتلك عبادةُ العبيد. و إنّ قوما عبدوه شكرا، فتلك عبادة الأحرار(1).
* وقال مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام: إنّي أكره أن أعبد اللّه َ ولا غرضَ لي إلاّ ثوابُه! فأكونَ كالعبد الطَّمِع المُطمِع.. إن طَمِع عَمِل، و إلاّ لم يعمل.
و أكره ألاّ أعبده إلاّ لخوف عقابه؛ فأكون كالعبد السُّوء.. إن لم يَخَفْ لم يعمل. قيل له: فَلِمَ تعبدُه؟ قال: لما هو أهله بأياديه علَيّ و إنعامه(2).
* وجاء عن الإمام الصادق سلام اللّه عليه أ نّه قال: إنّ العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه َ عزّوجلّ خوفا؛ فتلك عبادة العبيد. وقومٌ عبدوا اللّه َ تبارك و تعالى طلبَ الثواب؛ فتلك عبادة الأُجَراء. وقوم عبدوا اللّه َ عزّوجلّ حبّا له؛ فتلك عبادة الأحرار.. وهي أفضل العبادة(3).
* و رُويَ عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام أ نّه قال: لو لم يُخوِّفِ اللّه ُ الناسَ بجنّةٍ ونار، لَكان الواجب عليهم أن يُطيعوه ولا يعصوه؛ لتفضّله عليهم، و إحسانه إليهم، و ما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقُّوه(4).
ومهما تفاوتت المقاصد، فإنّ اللّه الكريم الحنّان يُثيب عباده علىالطاعات إن سلمت النيّات و حَسُنت المقاصد، و بذلك يتفاوت العباد في الدرجات و في طاعة اللّه عزّوجلّ فيما يحبّ.. و من الطاعة له سبحانه أن
ص: 153
يَعفوَ المؤمن عن أخيه المؤمن؛ لأنّ اللّه عزّ اسمه هو الذي أمر بذلك، فاتّباع أمره طاعة، و طاعته غنيمة، و أفضلُ الغنائم مرضاته عزّوجلّ.. روى جابر بن عبداللّه الأنصاريّ قائلاً: سمع أميرالمؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم قنبرا، و قد رام قنبر أن يَرُدّ عليه، فناداه أميرالمؤمنين عليه السلام: مهلاً يا قنبر ! دَعْ شاتمك مُهانا تُرضي الرحمان، و تُسخط الشيطان، و تعاقب عدوَّك، فوَالذي فَلَق الحبّة و برأ النَّسَمة، ما أرضى المؤمنُ ربَّه بمِثْل الحِلْم، ولا أسخَطَ الشيطانَ بمِثْل الصمت، و لا عُوقب الأحمقُ بمِثْل السكوتِ عنه(1).
مِن العباد مَن يصبر على طاعة اللّه عزّوجلّ، و يصبر عن معصيته، حتّى يلقى ربَّه جلّ وعلا و هو راضٍ عنه، فيُثيبه الثوابَ الأوفى. ولكنْ مِن العباد مَن لايصبر إلاّ أن يَحظى بشيءٍ من الثواب في الدنيا، و نحن نعتقد أنّ الطاعات كلَّها تعود على العبد بعوائد خير: دنيويّة و أُخرويّة، فالأُخرويّة هي ما وعد اللّه ُ تعالى عباده من النعيم الدائم و الجِنان التي وصفَها في كتابه المجيد، و ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعت ولا خَطَر على قلبِ بشر. أمّا العوائد الدنيويّة للطاعات فهي كثيرة: تبصرها بعض القلوب، و تعشو عنها قلوبُ الكثير مِن الناس. والعفو هو من الطاعات التي يُعطي اللّه تعالى عليها ثوابا في الدنيا و ثوابا في الآخرة. بيان ذلك فيما يلي:
أوّلاً: إنّ ممّا يُخفّف مِن آلام العبد أن يعتقد أنّ اللّه تعالى يؤجره على الطاعة، و يخفّف بها عنه ذنوبه و يغفر له ما سلف منه من المعاصي والآثام.
والعفو يأتي بهذا كلِّه، فلو أساء إلينا أحدُ إخواننا، ثمّ لم يكن منّا مقابلةٌ بالمِثْل، بل كان منّا العفو و الإقبال عليه بالسلام و مدّ اليد بالمصافحة، فماسنحصل بهذا ؟ الجواب يكون في حديث الإمام جعفرالصادق سلام اللّه عليه:
ص: 154
أنتم في تصافحِكم في مِثْل أجور المجاهدين(1).
وقد يعجب المرء لهذا ويقول: أين التصافح من الجهاد؟ و مايدري البعض أنّ في العفو جهادا أيضا، وهو أعلى مِن جهاد اليد، ذلك هو جهاد النفس الذي بدونه لا يستطيع المرء أن يجاهد ببدنه في سبيل اللّه عزّوجلّ. ثمّ إنّ في العفو إيثارا لرضى اللّه جلّ وعلا على رضى النفس، فالنفس تميل إلى الانتقام وعقابِ المسيء إليها؛ لتشفيَ غليلها، فيميل العبد بها إلى الحلم والعفو و السماح و الصفح؛ طلبا لمرضاة ربّه عزّ شأنه واستجابةً لأمر مولاه، و مخالفةً لهوى نفسه، و في ذلك تيسيرٌ إلى سبيل الخير والرحمة و الوئام.
* قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام: إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: و عِزّتي و عظمتي و جلالي و بهائي وعلوّي وارتفاعِ مكاني، لايُؤْثِر عبدٌ هوايَ على هواه، إلاّ جعلتُ همَّه في آخرته، و غِناه في قلبه، و كففتُ عليه صنيعتَه، و ضمّنتُ السماواتِ والأرضَ رِزقَه، و آتيه الدنيا و هي راغمة(2).
* * *
ثانيا: في العفو زيادة في العمر، و وقاية من سوء الأقدار، وهذا ماصرّحت به النصوص الشريفة، مِن ذلك قول النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله: مَن كَثُر عفوُه، مُدَّ فيعُمرِه(3). و قوله صلى الله عليه و آله أيضا: تجاوزوا عن عثرات الخاطئين، يَقيكمُ اللّه ُ بذلك سُوءَ الأقدار(4).
وهذه من السنن الإلهيّة، فمَن وَصَلَ رحمَه طال عمرُه، و زاد رزقُه،
ص: 155
و عَمرُ دارُه، و وُقيَ مِيتةَ السُّوء، و زِيد في عدده.. كما ورد ذلك في الأخبار الصحيحة عن أهل بيت النبوّة والعصمة صلوات اللّه عليهم، من ذلك:
* قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: صلة الرَّحِم تزيد في العمر، و تنفي الفقر(1). صلة الرَّحِم تُهوّن الحساب، و تقي مِيتةَ السوء(2).
* و عن فاطمة الزهراء عليها السلام أنّها قالت: فرَضَ اللّه ُ.. صلةَ الأرحام، مَنْماةً للعدد(3).
* فيما كلّم اللّه ُ تعالى به موسى عليه السلام، قال موسى: فما جزاءُ مَن وصل رَحِمَه؟ قال: ياموسى، أُنسئ له أجَلَه، و أُهوّن عليه سكرات الموت..(4).تلك هي الآثار الوضعيّة المترتّبة على بعض الأعمال والطاعات، و هي من العوائد الدنيويّة الطيّبة يجنيها العبد في بعض الأحيان: متّقيا كان أم فاسقا، و قد يُؤدّي بعضُها إلى خيره و حُسن عاقبته. و من هذه الطاعات التي تزيد في العمر و تقي سوء الأقدار: العفو، حيث يجني العبد بعضَ ثماره هنا في الدنيا.. «و ما عندَ اللّه ِ خيرٌ و أبقى»(5).
* * *ثالثا: من ثمار العفو في الدنيا أيضا أنّ العبد يكون به عزيزا، و كيف لا يكون كذلك و قد كان عند اللّه تعالى عزيزا؟ ! فقد قال رسول صلى الله عليه و آله: قال موسى: ياربّ، أيُّ عبادِك أعزُّ عليك؟ قال: الذي إذا قَدَر عفا(6). و كأنّ اللّه سبحانه و تعالى قد أخذ على نفسه أن يؤيّد أهلَ العفو بالعزّة و الكرامة؛ لِما تخلّقوا به مِن أخلاقه الشريفة، و منها العفو عن المسيء والصفح عنه عند القدرة.
ص: 156
هذه من الثوابات الدنيويّة.. يشعر بآثارها العبد إذا تحلّى بصفة العفو. قال النبيّ صلى الله عليه و آله: عليكم بالعفو؛ فإنّ العفو لا يزيد العبدَ إلاّ عِزّا، فتعافُوا يُعزَّكمُ اللّه (1).
و جاء عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: ثلاثٌ لا يزيد اللّه ُ بهنّ المرءَ المسلم إلاّ عِزّا: الصفحُ عمّن ظَلَمه، و إعطاءُ مَن حرَمَه، والصلةُ لمَن قَطَعه(2).فكلّ طاعةٍ للّه جلّ وعزّ تُوجب للعبد شرفا، و كلُّ عبادةٍ له سبحانه توجب للعبد عِزّا، و العفو من العبادات والطاعات، ألم يقل الإمام السجّاد عليه السلام في صحيفته المباركة:.. فإنّ الشريفَ مَن شرّفَتْه طاعتُك، والعزيزَ مَن أعزّتْه عبادتُك(3).
* * *
ويكفي في شرف العافي أ نّه يتسامى عمّا يتسافل إليه المسيء، و يترفّع
عن أن ينزل إليه في مخاصمة أو مشاتَمة.. في الرواية أن المأمون العبّاسيّ قال لءلامام الرضا عليه السلام: أنشِدْني أحسنَ ما رويتَه في الحِلْم، فقال الإمام عليه السلام:
إذا كان دُوني مَن بُلِيتُ بجهلِهِ***أَبيتُ لنفسي أن تُقابِلَ بالجهلِ
وإن كان مِثْلي في محلّي مِن النُّهى***أخذتُ بحِلْمي كي أُجَلَّ عنِ المِثْلِ
وإن كنتُ أدنى منه فيالفضلِ والحِجى***عَرَفْتُ له حقَّ التقدّمِ والفضلِ(4)
ونُقل عن أحد الشعراء أ نّه قال :
أُصِمُّ عن الكَلِمِ المُفْضِحات***وأحلمُ.. والحُلْمُ بي أشْبهُ
وإنّي لَأتركُ جُلَّ الكلام ***لِئلاّ أُجابَ بما أكرهُ
ص: 157
إذا ما احترزْتُ سفاهَ السفي***عَلَيّ فإنّي أنا الأسْفَهُ
فلا تَغتررْ برواة الرجال***وما زخرفوا لك أو مَوَّهوا
فكم مِن فتىً يُعجِبُ الناظرين***له ألسنٌ وله أوجُهُ
ينام إذا حضَرَ المَكْرُمات***وعندَ الدناءاتِ يستَنْبِهُ(1)
إنّ العَفُوّ عن إخوانه عبدٌ غلَبَ هواه، و غلّبَ الصفاتِ الحسنةَ في قلبه على الصفات السيّئة الذميمة، فمَن حُرِم مِن خُلُق العفو مالت به نفسه إلى العنف، والعنفُ غِلْظةٌ و فضاضة في الأقوال و الحركات، و هو من نتائج الغضب، وضدُّ الغضب الرِّفْق، أي اللِّين في الأقوال والحركات، والرفق مِن نتائج الحِلْم. ولاريبَ أنّ الغلظة في القول والفعل تُنفّر الطباع، و تؤدّي إلى اختلال أمر الحياة؛ ولذلك نهى اللّه ُ سبحانه و تعالى نبيَّه صلَّى اللّه عليه و آلعن العنف في مقام الإرشاد، فقال جلّ و علا: «ولَو كنتَ فَظّا غَليظَ القلبِ لآنْفضُّوا مِن حَوْلِك، فاعفُ عنهم واستغفرْ لَهُم وشاوِرْهُم في الأمر..»(2). رُوي عن سلمان الفارسيّ أ نّه قال: إذا أراد اللّه ُ تعالى هلاكَ عبدٍ نزَعَ منه الحياء،فإذا نزع منه الحياء لم يَلقَه إلاّ خائنا مخوّنا، و إذا كان خائنا مخوّنا نُزِعتْ منه الأمانة، فإذا نُزِعت منه الأمانة لم يلقه إلاّ فضّا غليظا، فإذا كان فظّا غليظا نُزِعتْ منه رِبْقةُ الإيمان، فإذا نُزِعت منه ربقة الإيمان لم يَلْقَه إلاّشيطانا ملعونا !(3) ويظهر من هذا الكلام أنّ مَن كان مِن أهل الغِلظة والفضاضة - كما يقول الشيخ النراقيّ - فهو الشيطان حقيقةً، فيجب على كلّ عاقل أن يجتنبَ ذلك كلَّ الاجتناب، ويقدّم التروّيَ على كلِّ ما يصدر عنه من القول والفعل، ليحافظ على نفسه من التعنّف والغلظة فيه، و يتذكّر
ص: 158
ماورد في فضيلة الرفق، و يرتكبه في حياته، ولو بالتكلّف، إلى أن يصيرَ الرفق مَلَكة، و تزولَ عن نفسه آثار العنف بالكلّيّة(1).
وهنا يُقال: إنّ المرء العافي عن إخوانه لابدّ أن يكون متساميا عن الغلظة والفضاضة والعنف، فهو إلى فضيلة «العفو» يضمّ فضيلة «الرفق»، و هو خُلقٌ محمود ممدوح على لسان الآيات الشريفة والأحاديث المنيفة، من ذلك:
* قولُه تعالى: «فبِما رحمةٍ مِنَ اللّه ِ لِنْتَ لَهُم..»(2)، فاللّين والرفق متأتّيانِ عن الرحمة الإلهيّة، وهما ينعكسان على الإخوان رأفةً و محبّة، فيخلقان جوّا ملائما للعفو والصفح.
والرفق من شرفه.. أ نّه مِن أخلاق اللّه تبارك وتعالى و قد أمر به، وهو قرين الإيمان، و عائد على أهله بالبركة والمحبّة والأمان.. وهذا ما حكته الأحاديث الكريمة التالية:
* قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الرفق لم يُوضَع على شيءٍ إلاّ زانَه، و لا نُزِع مِن شيءٍ إلاّ شانه(3).
{وقال صلى الله عليه و آله أيضا: ما اصطحبَ اثنانِ إلاّ كان أعظمَها أجرا عند اللّه تعالى و أحبَّهما عند اللّه تعالى أرفقُهما بصاحبه(4).
{وقال صلى الله عليه و آله كذلك: مَن أُعطيَ حظَّه مِن الرفق، أُعطيَ حظَّه مِن خيرالدنيا والآخرة(5).
ص: 159
{وقال أميرالمؤمنين عليه السلام فيمواضع عدّة:
- الرِّفق يؤدّي إلى السِّلْم(1).
- الرفق مفتاح الصواب، و شيمةُ ذوي الألباب(2).
- الرفق يُيسِّر الصِّعاب، و يُسهِّل شديدَ الأسباب(3).
- الرفقُ لِقاحُ الصلاح، و عُنوانُ النجاح.(4)
* وعن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ اللّه عزّوجلّ رفيق يحبّ الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي عن العنف(5).
* وجاء في ثمرات الرفق قول النبيّ المصطفى صلى الله عليه و آله: إنّ في الرفق الزيادةَ والبركة، و مَن يُحرَمِ الرفقَ يُحرَمِ الخير(6).
قيل في بيان ذلك: (إنّ في الرفق الزيادة)، أي في الرزق أو في جميع الخيرات، (والبركة) والثبات فيها، (و مَن يُحرم الرفق) أي مُنع منه ولم يُوفَّق له حُرِم خيراتِ الدنيا والآخرة(7).
* وجاء عن الإمام الحسين عليه السلام أ نّه قال: مَن أُحجِم عن الرأي، و عَيِيتبه الحِيل، كان الرفقُ مفتاحَه(8).* و رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: مَن كان رفيقا في أمره، نال ما يريد من الناس(9).
و من مقتضيات الرفق أن يعفو العبدُ المؤمن عمّن جَهِله أو أساء إليه،
ص: 160
و في ذلك كرامةٌ لنفسه، و مَكسبةٌ لِعزِّ الدنيا و حُسن ثواب الآخرة.
والصفة السامية الأخرى التي يتحلّى بها العبد العافي هي: المُداراة، وهي مُلائمة الناس و حُسن صحبتهم، و احتمال أذاهم.. و قد وردت في هذه الخصلة الحميدة أحاديثُ كثيرة، منها:
* قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم اللّه على خَلْقه؛ لشدّة مُداراتهم لأعداء دِين اللّه، و حُسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في اللّه (1).
* وقوله صلى الله عليه و آله: ثلاث.. مَن لم يكن فيه لم يتمّ له عمل: ورعٌ يحجزه عن معاصي اللّه، و خُلقٌ يداري به الناس، و حِلمٌ يَردّ به جهلَ الجاهل(2).
* وقوله صلى الله عليه و آله: أمَرَني ربّي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض(3).
* وقوله صلى الله عليه و آله كذلك: مُداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش(4).
* وقول أميرالمؤمنين عليه السلام: المداراة أحمَدُ الخلال(5).ثمرة العقل مداراة الناس(6). رأس الحكمة مداراة الناس(7).
* وفي قوله تعالى: (وقُولُوا لِلناسِ حُسْنا».. قال الإمام الصادق عليه السلام: أيْ للناس كلِّهم: مؤمِنهم ومخالفهم. أمّا المؤمنون، فيبسط لهم وجهه.. و أمّا المخالفون، فيكلّمُهُم بالمداراة؛ لاجتذابِهم إلى الإيمان، فإنّه بأيسر مِن ذلك يَكُفّ شرورَهم عن نفسه و عن إخوانه المؤمنين(8).
ص: 161
ومن ثمار المداراة مايبيّنه الإمام عليّ عليه السلام بقوله: دارِ الناسَ تَستَمتعْ بإخائهم، و الْقِهِم بالبِشْر تَمُتْ أضغانُهم(1). دارِ الناسَ تأمَنْ غوائلَهم، و تَسْلَمْ مِن مكائدهم(2).
سلامة الدِّين والدنيا في مُداراة الناس.(3)
ولاريبَ أنّ المداراة تستدعي في كثيرٍ من الأحيان أن يعفو المرء عن الآخَرين، و يسامحهم عمّا يبدر منهم من الأخطاء، و يصفح عنهم ويتغاضى و يتغافل.. و في ذلك عزّةٌ لصاحب العفو و كرامة، لأنّه يتجنّب العداء والخصام وماينتج عنهما من الإهانة والتعريض؛ و ما يجرّانِ إلى الغضب والعصبيّة والحقد والانتقام.
ومَن عفا نجا ممّا يُردي كرامتَه و عزّته في أوحال الحقد والضغينة والبغضاء والعداوة والانتقام، و ما يجرُّ المرءَ إلى المقابلة بالمثل، فيعالج الخطأَ بالخطأ، كأن يقابل: الغِيبةَ بالغيبة، والفحشَ بالفحش، و البهتان بالبهتان.. وهكذا في سائر المحرَّمات. وذلك ما نُهينا عنه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنِ امرؤٌ عيّرك بما فيك، فلا تُعيّره بما فيه..(4). وقال صلى الله عليه و آله: المستبّانِ شيطانانِ يتهاتران(5).
ومن هنا نعلم: أنّ الحقد والانتقام يجرّانِ إلى المعصية، و في المعصيةإهانة العبد لنفسه، بينما في العفو طاعة، و في الطاعة إكرام العبد لنفسه. و يكفي أن نعرف أنّ ترك العفو يؤدّي في الكثير من الأحيان إلى الحقد، وهو إضمار العداوة في القلب، فيدّخرها المرء إلى يوم يتشفّى فيه مِن
ص: 162
عدوِّه، وقد قيل في الحقد أ نّه من المهلكات العظيمة، وهو مخالف للإيمان..
* قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: المؤمن ليس بحقود(1). والغالب أنّ الحقد يلزمه من الآفات الأخلاقيّة: الحسد والهجرة، والانقطاع عن المحقود، والإيذاء بالضرب، والتكلّم بما لايحلّ من: الكذب والغِيبة والبهتان وإفشاء السرّ، وهتك الستر، و إظهار العيوب، والشماتة بما يصيب صاحبَه من البلاء، والسرور به والانبساط بظهور عثراته وهفواته، والمحاكاة عنه والاستهزاء والسخرية، والإعراض عنه استصغارا له، ومنع حقوقه.. وكلُّ ذلك محرَّمٌ يؤدّي إلى فساد الدين والدنيا(2).
وفضلاً عن أنّ الحقد من الأمراض المؤلمة للنفس.. فإنّه يمنع من القربِ إلى اللّه تعالى، وكذايمنعه ممّا ينبغي أن يصدر عن المرء بالنسبة إلى أهل الإيمان: من الهشاشة والرفق والتواضع، و القيام بحوائج الآخرين، والمجالسة معهم، و الرغبة في إعانتهم و مواساتهم.. وغير ذلك. وهذا كلّه ممّا ينقص درجتَه في الدين، و يحول بينه و بين مرافقة المقرّبين(3).
ويجرّ الحقد إلى العداوة، والعداوة تكون مرّة باطنيّة.. فتُسعر القلب وتفسد الروح، و مرّة ظاهريّة.. فتبدو على صور الضرب والفحش و اللّعن والطعن والظلم. أمّا العفو فإنّه يُدخل على النفس الهدوء ؛ لأنه يزيح العداوة، ويُدخل على القلب السرور؛ إذ في العفو مرضاةُ الربّ جلّ وعلا،والعِزّةُ والكرامة.. لأنّ العَفُوّ مُتسامٍ عن الرذائل، و محبوب مِن قِبل الناس.
ص: 163
* * *رابعا: من ثمار العفو وثواباتِه الدنيوية والأُخرويّة.. النصر، وبقاء المُلْك، فأوّله: انتصارٌ على هيجان النفس و ما يجرّها إلى الحقد والانتقام، و ثانيه: كسبٌ لمرضاة اللّه عزّوجلّ لردّ الغضب وكظم الغيظ و تجنّب الفضاضة والغِلظة، و ثالثه: كسبُ قلوب الناس وإبعاد شرّ البعض منهم. و بذلك يعيش صاحب العفو حياةً هانئةً هادئةً سعيدة.. يُحبّه الناس و ينتصرون له، يُعينونه ولا يمسّونه بسوء. فالعفو انتصار على الحقد، وانتصار على الجهّال و الحمقى و أهل الشرّ والعداوة والبغضاء، و سبب للنصر على أعداء اللّه عزّوجلّ.. عن أبي الحسن عليه السلام قال:
ما التقَتْ فئتانِ قطُّ إلاّ نُصِر أعظمُهما عفوا(1).
وإذا كان الحاكم أو المتولّي شؤونَ الرعيّة عَفُوّا رحيما برعيّته، انجذبت إليه النفوس، و تألّفت حوله القلوب، و حَظِيَ بالعزّة والقدرة والمَنَعة.. وقد مَلَك ذو القَرنَين فَعَزّ وقوي، قيل لراهب: أرأيتَ ذا القرنَين أكان نبيّا؟ قال: لا، و لكنّه إنّما أُعطيَ ما أُعطي بأربع خصالٍ كُنّ فيه: كان إذا قَدَر عفا، و إذا وعَدَ وفى، و إذا حَدّث صَدَق، ولا يجمع اليومَ لغد(2).
وقد ورد في كلمات رسول اللّه صلى الله عليه و آله: عفوُ المَلِك أبقى لِلمُلْك.(3)
هذا شيء من الثوابات الدنيويّة للعفو.. يكسبها المرء، والعاقل لايقتصر عليها، إذِ المعوَّل على الثوابات الأُخروية، فمَن عَمِل للدنيا كسب شيئاموقّتا، و بقي عليه أن يسعى إلى ما يخلد من نعيم الأبد و مرضاة اللّه عزّوجلّ.. جاء في كتاب اللّه الحكيم قولُه تعالى: «فمِنَ النّاسِ مَن يقول: ربَّنا
ص: 164
آتِنا في الدُّنيا حسنةً، و ما له في الآخرةِ مِن خَلاق»(1)، ذلك ممّن يريد الدنيا، فلا يعبأ أن يكون ذِكرُه أو عمله حسَنا أو سيّئا عند اللّه تبارك و تعالى، بل مقصوده الدنيا يتمتّع فيها و يجاري منها ما يوافق هوى نفسه، وليس له بعد الدنيا نصيبٌ في الآخرة. أمّا المؤمن، فإنّه يريد ما عند ربّه جلّ و علا ممّا يرتضيه منه، فيكون له بذلك حسنةُ الدنيا وحسنة الآخرة.
ومن عوائد العفو و ثماره ما بيّنتْه الآيةُ القرآنيّة الشريفة: «ومِنْهم مَن يقولُ: ربَّنا آتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخرةِ حسَنةً وقِنا عذابَ النار * أُولئك لهم نصيبٌ ممّا كَسَبوا، واللّه ُ سريعُ الحساب»(2).
فمكارم الأخلاق تعود على العبد: بثوابات دنيويّة، وثواباتٍ أُخروية. و يكفي أن نعرف أنّ المعطي هو اللّه تبارك وتعالى، و كفى به رحيما كريما، يعامل عباده باللّطف و الرأفة، يدعوهم إلى كلّ خير، و يُثيبهم على ما أحسنوا لأنفسهم ثوابا عظيما، ويعطيهم بفضله و إحسانه لا باستحقاقهم، و يُعدّ على الصالحات جنّاتٍ تجري مِن تحتها الأنهار.
وفي خصوص العفو - لاسيّما في حالة الغضب والانفعال - وعَدَ اللّه جلّ و علا عبادَه خيرا كثيرا، ودعاهم إلى الالتفات نحو الآخرة والحذر من تقطّع القلوب على أمور الدنيا، فقال عزّ مِن قائل في محكم كتابه المجيد: «فما أُوتيتُم مِن شيءٍ فمَتاعُ الحياةِ الدنيا و ما عندَ اللّه ِ خيرٌ و أبقى لِلّذينَ آمَنُواوعلى ربِّهِم يتوكّلون * والّذينَ يَجْتنِبُونَ كبائرَ الإثْمِ والفواحشَ وإذا ما غَضِبوا هم يَغْفِرون * والذينَ استجابوا لِربِّهم وأقامُوا الصلاةَ وأمرُهُم شُورى بينَهم و ممّا رزَقْناهُم يُنفقون * والّذينَ إذا أصابَهمُ البغيُ هُم ينتصرون * و جَزاءُ سيّئةٍ سيّئةٌ مِثْلُها، فمَن عفا و أصلحَ فأجرُه علَى اللّه، إنّه لا يُحبّ الظالمين * وَلَمَنِ
ص: 165
انتصَر بعدَ ظُلْمِه فأُولئك ما عليهم مِن سبيل * إنّما السبيلُ علَى الّذينَ يَظلِمُونَ الناسَ و يَبغونَ في الأرضِ بغيرِ الحقّ، أُولئك لَهُم عذابٌ أليم * ولَمَنْ صبَرَ و غفَرَ إنّ ذلك لَمِن عَزْمِ الأمور»(1) صدق اللّه العليّ العظيم.
فالأرزاق في الدنيا تشمل المؤمنَ والكافر، و لكنّ ما عند اللّه تعالى من الرزق الطيّب الباقي هو مختصّ بالمؤمنين، الذين وصفهم سبحانه و تعالى بصفاتٍ يُثيبُهم اللّه ُ تعالى عليها بما عنده، وهي:
أوّلاً: أنّهم على ربّهم يتوكّلون، و مَن توكّل على اللّه عزّوجلّ رجا ثوابه ممّا يلقى من الظلم والإساءة، و استعدّت نفسه للعفو عن إخوانه المخطئين معه؛ لأنّه ينتظر - بعفوه عنهم - عفوَ ربّه جلّ وعلا.. الذي يقول للمؤمنين: «ولْيَعفوا ولْيَصفحوا، ألا تُحبّونَ أن يَغفرَ اللّه ُ لكم، و اللّه ُ غفورٌ رحيم»(2).
وثانيا: أنّهم يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش، و هي المعاصي الكبيرة التي لها آثارٌ سيّئة خطيرة. وقد عدّد تبارك وتعالى بعضا منها، ولا يخفى أنّ من المعاصي: الانتقام والظلم، وقد يقع فيهما العبد إذا ترك العفو، ولم يوطّنْ نفسه على الصفح عن المؤمنين.
وثالثا: أنّهم إذا ما غَضِبوا يغفرون، وهذه هي صفة العفوّ عند الغضب، وهي مِن أخصّ صفات المؤمنين، فقد يعفو من لايتملّكه الغضب، ولكنّ المُغضِب قلّما يقوى على كظم غيظه وإمساك نفسه عن الانتقام والمقابلة..فلا يُنتظَر منه عفو!
ثمّ قال سبحانه و تعالى معدّدا صفات المؤمنين الذين لهم ما عند اللّه تعالى ماهو خيرٌ و أبقى: «والذينَ استجابُوا لِربِّهم وأقاموا الصَّلاةَ وأمرُهم شُورى بينهم و ممّا رزَقْناهم يُنفقون».
ص: 166
فالصفة الرابعة: التي يتحلّى بها هؤلاء المؤمنون هي: استجابتهم لربّهم جلّ شأنه فيما يكلّفُهم مِن الأعمال الصالحة. و إذا كان اللّه عزّ اسمه قد ذكَرَ الخاصَّ بعد العامّ من الأعمال الصالحة فقال: «وأقامُوا الصلاة»؛ لشرف هذا العمل الصالح، فإنّه لايخفى على المؤمن أنّ من الصالحات أيضا: العفوَ عن المخطئ المذنب. ثمّ إنّ الصلاة الحقيقيّة هي ماردعتِ العبدَ عن الأعمال الطالحة، ودعَتْه إلى الأعمال الصالحة، والأخلاق الطيّبة.. قال تعالى: «إنّ الصَّلاةَ تَنْهى عنِ الفحشاءِ والمُنكَرِ، ولَذِكْرُ اللّه ِ أكبر، واللّه ُ يعلمُ ما تصنعون»(1).
ولا يشكّ أحدٌ أنّ محاسن الأخلاق، و منها العفو، هي من الصالحات، كما أنّ مساوئ الأخلاق، و منها الانتقام، هي من الطالحات والمنكَرات.
أمّا الصفة الخامسة: التي يتّصف بها المؤمنون فهي الإنفاق ممّا رُزِقوا، وقد يتساءل أحدُنا: اذا كان الغنيّ يُنفق من أمواله على المساكين والفقراء فينال ثوابا بذلك، فماذا يُنفق مَن لا يكون في أمواله فضلة؟!
الجواب: يُنفق ممّا يستطيع التحلّي به من الأخلاق الفاضلة، فهي الأرزاق العظيمة التي ينال بها العبد خيرَ الدنيا و الآخرة.. يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: حُسْنُ الخُلُق مِن أفضل القِسَم، و أحسنِ الشِّيَم(2). و من الأخلاق الحسنة: العفو، و الصبر على أذى الإخوان، والحِلْم عليهم، والصفح عنهم، والمغفرة لهم، لاسيّما في حالة الغضب.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: عليكم بمكارم الأخلاق؛ فإنّ اللّه عزّوجلّ بعثني بها، و إنّ مِن مكارم الأخلاق: أن يَعفوَ الرجلُ عمّن ظَلَمه، ويُعطيَ مَن حَرَمه، ويَصِلَ مَن قَطعَه،و أن يعودَ مَن لايعوده(3). وقال الإمام عليٌّ عليه السلام: إنّ مِن مكارم الأخلاق: أن
ص: 167
تَصِل مَن قَطعَك، و تُعطيَ مَن حَرَمَك، و تَعفوَ عمّن ظَلَمك(1). و عن جرّاح المدائنيّ قال: قال لي أبو عبداللّه (الصادق) عليه السلام: ألا أُحدّثك بمكارم الأخلاق؟ الصفح عن الناس، و مواساة الرجل أخاه في ماله، و ذِكرُ اللّه ِ كثيرا(2). وجاء رجلٌ إلى الصادق جعفر بن محمد عليهماالسلام فقال: يا ابنَ رسول اللّه، أخبِرْني بمكارم الأخلاق. فقال: العفوُ عمّن ظلَمَك، و صلةُ مَن قطَعَك، و إعطاء مَن حَرَمَك، وقولُ الحقّ ولو على نفسِك(3).
فمَن لم يُوفَّق للأرزاق المادّية، فليجدّ في كسب الأرزاق المعنويّة؛لينفقَها في طاعة اللّه سبحانه وتعالى، والأخلاق من الأرزاق المعنويّة.. و منها: الصبر والحِلْم والعفو، وسلامة القلب وسعة الصدر، قال المصطفى صلى الله عليه و آله: الصبرُ خير مركب، مارزق اللّه عبدا خيرا له ولا أوسعَ مِن الصبر(4). و جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أ نّه قال: إذا أحبَّ اللّه ُ عبدا رزَقَه قلبا سليما، و خُلُقا قويما(5). و نقرأ في الصحيفة السجّاديّة المباركة دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام عند الشدّة والجهد: اللّهمّ صَلِّ على محمّدٍ و آله، و خلّصْني من الحسد، واحصُرْني عن الذنوب، و ورّعْني عن المحارم، و لا تُجرّئْني على المعاصي.. اللّهمّ صَلِّ على محمّدٍ و آله، و ارزقني التحفّظَ من الخطايا، و الاحتراسَ مِن الزلل في الدنيا والآخرة في حال الرضىوالغضب، حتّى أكون بما يَرِد علَيّ منهما بمنزلةٍ سواء، عاملاً بطاعتك، مُؤْثِرا لرضاك على ما سواهما في الأولياء والأعداء، حتى يأمنَ عدوّي مِن ظُلمي و جوري، و ييأس وليّي مِن مَيلي وانحطاطِ هواي..(6).
ص: 168
إذن.. فمِمّن أعدّ اللّه تبارك و تعالى لهم ماهو خيرٌ و أبقى: المنفقون في سبيل اللّه ممّا رزقَهُم عزّوجلّ، وقد يُرزَق العبد خُلُقا رفيعا فيُنفق منه ماينال به ثوابَ الدنيا وحُسنَ ثواب الآخرة.
أمّا الصفة السادسة: مِن صفات المؤمنين النائلين لما عند اللّه عزّوجلّ ما هو خيرٌ و أبقى، فهي المشورة فيما بينهم، و هي استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، و أهل المشورة هم أهل الرشد الذين يتحلَّون بالصبر والحلم والعفو، وإلاّ فإنّ الخلاف مع الغضب و الخُرق وضيق الصدر مدعاةٌ للخصومة والعداء.. وهذه الحالة لاتترك فرصةً لحلّ المشاكل والمعضلات، و لاتُعين على استخراج الرأي السليم والفكرة الراشدة والتوجيه المعقول، فالتشاور يحتاج إلى الصبر والتواضع، وقد ضرب النبيُّ الأكرم صلى الله عليه و آله في تعامله مع أصحابه في هذا المجال مثلاً رائعا كما أمره الباري تبارك و تعالى: «فبِما رحمةٍ مِن اللّه ِ لِنْتَ لهم ولو كنتَ فظّا غليظَ القلبِ لاَنْفضُّوا مِن حولِك، فاعفُ عنهم واستغفِرْ لهم وشاوِرْهُم في الأمر، فإذا عَزَمتَ فتوكّلْ علَى اللّه، إنّ اللّه َ يُحبّ المتوكّلين»(1).
وقد أثاب اللّه ُ تعالى على الصبر والتواضع واللّين ثوابا جزيلاً.. قال الإمام أبوجعفر الباقر عليه السلام: مَن كَظَم غيظا و هو يَقْدر على إمضائه، حشا اللّه ُقلبَه أمنا و إيمانا يومَ القيامة. قال: و مَن مَلَك نفسَه: إذا رغب، و إذا رهب، وإذا غَضِب..حرّم اللّه ُ جسدَه على النار(2).وأمّا الصفة السابعة: فهي العفو، حيث قال تعالى: «وجَزاءُ سيّئةٍ سيّئةٌ مِثْلُها، فمَن عفا و أصلحَ فأجرُه علَى اللّه، إنّه لايُحبّ الظالمين»، و قال عزّوجلّ: «ولَمَنْ صَبَرَ و غَفَر إنّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأمور».
ص: 169
ولكي لايتوهّمَ بعضُنا.. فيرى أن العفو مَدْعاةٌ للتخاذل و تركٌ للحقّ، علينا أن نعلم أنّ مِن صفات المؤمنين - فضلاً عن العفو عن إخوانهم - التناصرَ فيما بينهم ؛ لمعاقبة أعدائهم البُغاة.. قال تعالى: «والّذينَ إذا أصابَهمُ البغيُ هم يَنتصِرُون»، وهذه الصفة الثامنة مِن صفاتِهم التي تُهيّئ ما عند اللّه تعالى ما هو خير و أبقى، فإذا أصابَ الظلمُ بعضَهم تناصروا واتّفقوا على الحقّ كنَفْسٍ واحدة، وكأنّ الظلم أصابَهم جميعا، و مقاومتُهم هنا لرفع الظلم لاتُنافي المغفرةَ عن الغضب، فسَدُّ باب الظلم، والانتصار للمظلومين.. هما من الواجبات الفطرية، و قد قال تعالى: «وجَراءُ سيّئةٍ سيّئةٌ مِثْلُها»، و سَمّى اللّه ُ جلّ و علا ما يأتي به المنتصِرُ سيّئةً؛ لأنّها في مقابلة الأُولى وهي الاعتداء، نظيرَقوله تعالى: «فمَن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمِثْلِ ما اعتدى عليكم»(1).. قيل في تفسير جزاء السيّئة بالسيّئة: كلتا الفعلتين: الأُولى - وجزاؤها سيّئة؛ لأنّها تسوءُ مَن تنزل به، وفي ذلك رعاية لحقيقة معنى اللّفظ، وإشارةٌ إلى أنّ مُجازاة السيّئة بمِثْلِها إنّما تُحمَد بشرط المماثلة مِن غير زيادة(2).
ثمّ قال تعالى : «فَمَن عفا و أصلَحَ فأجرُه علَى اللّه»، وهذا وعدٌ جميلعلى العفو والإصلاح. وقيل: إنّ المراد بالإصلاح إصلاحُه أمرَه فيما بينه و بين ربّه، كما قيل: المراد إصلاحه ما بينه و بين ظالمه بالعفو والإغضاء. أمّا قوله: «إنّه لا يُحبُّ الظالمين» فقيل فيه: بيانٌ أ نّه عزّوجلّ لم يُرغّب المظلومَ في العفو لميله إلى الظالم أو لحبّه إيّاه؛ ولكنْ ليعرّض المظلوم بذلك لجزيل الثواب، و لأنّ اللّه تعالى يحبّ الإحسان والفضل، فالدعوة إلى
ص: 170
الصبر والعفو ليست إبطالاً لحقّ الانتصار، و إنّما هي إرشادٌ إلى فضيلةٍ هي مِن أعظم الفضائل، فإنّ في المغفرة الصبرَ الذي هو مِن عزم الأمور، و هو الذي به ينال العبدُ كلَّ خيرٍ و أُمنيّة..
قال أميرالمؤمنين عليه السلام: بالصبر تُدرَك معالي الأمور(1). بالصبر تُدرَك الرغائب.(2)
وقد يرغب العبد في ثواب الآخرة، فيسعى له بالصبر الذي يُعينه على العفو. ولكي لايتوهّم متوهّم أنّ في العفو إلغاءً لحقّ الانتصار.. قال تعالى: «ولَمَنِ انتصرَ بعدَ ظُلْمِه فأُولئك ما عليهم مِن سبيل»، فلا سبيلَ على المظلومين، ولا مُجوِّزَ لإبطال حقّهم في الشرع الإلهيّ.. ثمّ قال تعالى: «إنَّما السبيلُ علَى الّذينَ يظلمونَ الناسَ ويَبْغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقّ، أُولئك لَهُم عذابٌ أليم». فإذا اتّصف المؤمنون بهذه الصفات كان لهم ما عند اللّه سبحانه وتعالى ، وهو ما ادّخره لهم مِن ثواب - ، و قد وصفه عزّوجلّ بأنّه «خير»؛ لكونه خالصا مِن الألم والكَدَر، و أ نّه «أبقى»؛ لكونه أدومَ غيرَ منقطعِ الآخِر(3).
إنّ اللّه جلّ شأنه رتّب على الطاعات آثارا مباركة، وكان مِن لطفه أن جعل للعبد الملبّي لأمره، المنتهي عن نهيه.. ثواباتٍ دنيويّة و أُخرويّة، فيحسن بالعبد أوّلاً أن يُحسن ظنَّه باللّه عزّ شأنه، فينتظر خيرَ الدنيا والآخرة من ربّه تعالى إذا أطاعه.{جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في ظلّ قوله عزّوجلّ: «ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً..»، قال: رضوانُ اللّه ِ والجنّةُ في الآخرة،
ص: 171
والسَّعةُ في الرزق والمعاش و حسنُ الخُلُق في الدنيا(1). وفي الرواية عن أميرالمؤمنين عليه السلامقال: بينما رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله جالس إذ سأل عن رجلٍ من أصحابه، فقالوا: يارسول اللّه، إنّه قد صار في البلاء كهيئة الفرخ لا ريشَ عليه! فأتاه عليه السلام فإذا هو كهيئة الفرخ لا ريش عليه مِن شدّة البلاء، فقال له: قد كنتَ تدعو في صحّتك دعاءً؟ قال: نعم، كنتُ أقول: ياربِّ، أيّما عقوبةٍ أنت معاقبي بها في الآخرة فاجعلْها لي في الدنيا ! فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: ألا قلتَ: اللّهمّ آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذابَ النار؟! فقال: فكأنّما نشط مِن عُقال، وقام صحيحا، وخرج معنا(2).فَلْيَرجُ العبد - بعد الدعاء - أن ينال من اللّه تعالى خيرَ الدنيا و خير الآخرة، و أن ينجوَ - لابأعماله - بل بلطف اللّه عزّوجلّ من عذاب النار، و يفوزَ برضوان اللّه والجنّة.
ومن حُسن ظنّ العبد بربّه جلّ وعلا ، أن يمدّ يدَيه إليه ظانّا به العطاء، منتظرا منه النوال، و معتقدا أ نّه وافدٌ على أكرم الأكرمين، على مَن يجزي لا عن استحقاق، و يَهَب الخير لعبده إذْ هو الرحيم الوهّاب. وإذا رجا العبد من اللّه عزّ شأنه، فما باله في أجرٍ هو مِن خير الرازقين، و أكرم الأكرمين تبارك وتعالى ، و ماظنُّه في مَن لا يَنفد ما عنده و لا ينقص من خزائنه شيء، و لا يضرّه أن يعفوَ عن المذنبين الخاطئين إذا تابوا و ندموا؛ لأنّه الرؤوف الكريم، الرحمان الرحيم؟! فما أحرى بالعبد أن يُحسِن ظنَّه بربّه جلّ و علا.
سأل أعرابيّ: يا رسول اللّه، مَن يحاسب الخَلْقَ يومَ القيامة؟
ص: 172
قال صلى الله عليه و آله: اللّه ُ عزّ و جلّ. قال الأعرابيّ: نَجَونا و ربِّ الكعبة! سأله صلى الله عليه و آله:و كيف ذاك يا أعرابيّ؟! أجاب: لأنّ الكريمَ إذا قَدَر عفا(1).
و لكنْ.. لعفو اللّه تعالى موجِبات، و منها العفوُ عن المؤمنين، قال تعالى : «و لْيَعفوا و لْيصفحوا ألا تُحبّون أن يغفرَ اللّه لكم و اللّه ُ غفورٌ رحيم»..(2) و قد جاء عن الإمام الصادق عليه السلامقوله:.. واعفُ عمّن ظلَمَك كما أنّك تحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبرْ بعفو اللّه عنك(3).
فإذا عَفَونا عن إخواننا الذين يخطأون معنا و يسيئون إلينا، و يظلموننا أحيانا.. كنّا مؤهَّلين لأن نرجوَ عفوَ ربّنا جلّ شأنه، و ما بالُنا إذا حرَصْنا على طاعته، و أحسنّا الظنَّ برحمته، وهوالمعطي الكريم؟! و قد قال عن نفسه على لسان سليمان عليه السلام: «و مَن كفَرَ فإنّ ربّي غنيٌّ كريم»(4)، و قال تعالى يخاطب سيّدَ خلائقه الانسان: «يا أيُّها الإنسانُ ما غَرَّكَ بربِّكَ الكريم * الّذي خَلَقك فَسوّاكَ فَعَدلَك؟!»(5)، و الكريم إنّما يصدُر عنه الكرم.. فرزقُه كريم، و أجرُه كريم، والمَقام الذي يَهَبُه كريم، وهو القائل في محكم كتابه الكريم: «أُولئك همُ المؤمنونَ حقّا لهم درجاتٌ عند ربِّهم و مغفرةٌ و رزقٌ كريم»(6)، و هو القائل عزّ مِن قائل: «إن تَجتنبوا كبائرَ ما تُنهَونَ عنه نُكفِّرْعنكم سيّئاتِكم و نُدخِلْكُم مُدخَلاً كريما»(7)، و القائل جلّ من قائل: «مَن ذَا الّذي يُقْرِضُ اللّه َ قَرْضا حسَنا فيُضاعِفَه له وله أجرٌ كريم»(8).
فإذا أحسَنَ العبدُ ظنَّه باللّه تبارك شأنه رجا، و إذا رجا غَنِم، و إذا غنم نجا.. ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله: يُوقَف عبدٌ بين يدَيِ اللّه تعالى يومَ
ص: 173
القيامة، فيأمر به إلى النار، فيقول: لا و عزّتِك، ما كان هذا ظنّي بك! فيقول: ماكان ظنُّك بي؟! فيقول: كان ظنّي بك أن تغفر لي، فيقول: قد غفرتُ لك..(1).وإذا عَلِمنا أنّ للّه تعالى ثواباتٍ دنيويّة، و ثواباتٍ أُخرويّة، فإنّ المؤمن العاقل يعوّل على الثوابات الأُخرويّة ؛ لأنّ فيها مرضاة اللّه - أوّلاً، و النعيمَالأبديَّ - ثانيا، والنجاة من النار - ثالثا.. وقد قال تعالى: «فمَن زُحْزِحَ عن النارِ و أُدخِل الجنّةَ فقد فاز، و ما الحياةُ الدنيا إلاّ مَتاعُ الغُرور»(2). ولكن لا ينبغي أن يكون الهدف الوحيد من الطاعة هو نوال الرحمة، إنّما ينظر العبد المؤمن إلى اللّه تعالى فيجده وليَّ العطاء، و يتعرّف عليه فيُحبّه، وإذا أحبّه طلب مرضاته، و نوالُ مرضاته أعظمُ من نوال نعيمه، وهو القائل جلّ و عزّ: «وَعَد اللّه ُ المؤمنينَ والمؤمناتِ جنّاتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها و مساكنَ طيّبةً في جَنّاتِ عَدْنٍ، و رضوانٌ مِن اللّه ِ أكبرُ ، ذلك هو الفوزُ العظيم»(3).
و من دواعي الحبّ و مقتضياته: الطاعة، كما يرى الشاعر ذلك قائلاً:
لو كان حبُّك صادقا لأطَعْتَه***إنّ المُحِبَّ لِمَن يُحبّ مطيعُ
والطاعة الخالصة ما كانت حبّا و شوقا واعتقادا، لا مطمعَ فيها في نعيم، ولاخوفَ فيها مِن جحيم..
* قال الإمام الحسين عليه السلام: إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة، فتلك عبادة التجّار، و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماعبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضلُ العبادة(4).
ص: 174
* وقال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ العبّاد ثلاثة: قومٌ عبدوا اللّه عزّوجلّ خوفا، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا اللّه َ عزّوجلّ طلَبَ الثواب، فتلك عبادة الأُجراء. وقوم عبدوا اللّه عزّوجلّ حبّا له، فتلك عبادة الأحرار.. وهي أفضل العبادة(1).
* وكان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول في مناجاته: ما عبدتُك خوفا من نارك، و لاطمعا فيجنّتك، لكنْ وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك..(2). و من بعدُ ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: إنّ الناس يعبدون اللّه عزّوجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقةٌ يعبدونه رغبةً في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع، و آخرون يعبدونه فَرَقا من النار، فتلك عبادة العبيد، و هي رهبة. و لكنّي أعبدُه حبّا له عزّوجلّ، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن؛ لقوله عزّوجلّ: «وهُم مِن فَزَعٍ يومئذٍ آمنون»(3)؛ ولقوله عزّوجلّ: «قُلْ إن كنتُم تُحبّونَ اللّه َ فاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللّه ُ ويَغْفرْ لكُم ذنوبَكم»(4)، فمَن أحبَّ اللّه َ أحبَّه اللّه، ومَن أحبّه اللّه عزّوجلّ كان مِن الآمنين(5).
* * *
خامسا: ومن ثمار العفو أيضا أ نّه موجب لنوال الحسنات في الدنيا، ما بها يغفر اللّه تعالى لنا و يُدخلنا في رحمته.. و ربّما قيل: كيف يحصل العبد علىحسنةٍ إذا لم ينهضْ بعمل؟ قيل: يكون ذلك بالعفو، وهو الانصراف عن المعاقبة، فعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال:
قال عيسى ابن مريم عليهماالسلام ليحيى بن زكريّا عليه السلام: إذا قيل فيك مافيك،
ص: 175
فاعلمْ أ نّه ذَنْبٌ ذُكِّرتَه، فاستغفرِ اللّه َ منه، و إن قيل فيك ما ليس فيك، فاعلمْ أ نّه حسنةٌ كُتبتْ لك لم تَتعب فيها(1).
* و رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام أ نّه قال لجابر الجُعفيّ: فكّرْ فيما قيل فيك، فإن عرفتَ مِن نفسك ما قيل فيك، فسقوطُك مِن عين اللّه عزّوجلّ عند غضبك من الحقّ أعظمُ عليك مصيبةً ممّا خِفتَ مِن سقوطك مِن أعين الناس. و إن كنتَ على خلاف ماقيل فيك، فثوابٌ اكتسبتَه مِن غير أن يتعب بدنُك(2).
وربّما يتساءل البعض: كيف نعفو عمّن ظلَمَنا؟! أليس من العدل أن نعاقب الظالم والمسيء؟! وجواب ذلك هو: أنّ مَن استحقّ العقاب أحدُ شخصين: إمّا أن نكون مخيَّرين بين عقابه والعفو عنه، أو غيرَ مخيَّرين.. فإن كنّا مخيَّرين، فأن نختارَ العفوَ عمّن ظَلَمنا أقربُ للتقوى أوّلاً، و ثانيا أكرمُ لأنفسنا، فننال بذلك خيرَ دنيانا و آخرتنا. و إذا عفَوْنا و نحن مظلومون، كان اللّه ُ تعالى في عوننا والدفاع عنّا، و قَبِل القليلَ من طاعتنا.
* روى الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّ رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ لي أهلاً قد كنتُ أصِلُهم وهُم يُؤذونني، و قد أردتُ رفضَهم! فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذنْ يرفضكمُ اللّه ُ جميعا ! قال: و كيف أصنع؟! قال: تُعطي مَن حَرَمك، و تَصِل مَن قطعك، و تعفو عمّن ظَلَمك، فإذا فعلت ذلك كان اللّه عزّوجلّ لك عليهم ظهيرا(3).وربّما جرّ العفوُ المعفوَّ عنه إلى الحياء والندم، والاعتذار و المحبّة.. ما
ص: 176
يُدرينا ! يقول عصام بن المصطلق: دخلتُ المدينةَ فرأيتُ الحسينَ بن عليّ فأعجَبَني سَمتُه و رواؤه، و أثار من الحسد ما كان يُخفيه صدري لأبيه من البُغْض، فقلت له: أنت ابنُ أبي تراب؟! فقال: نعم. فبالغتُ في شتمه و شتم أبيه، فنظر إليَّ نظرةَ عاطفٍ رؤوف، ثمّ قال: أعوذُ باللّه من الشيطان الرجيم، بسم اللّه الرحمن الرحيم: «خُذِ العفوَ و أْمُرْ بالعُرْفِ و أعْرِضْ عنِ الجاهلين *و إمّا يَنزَغَنّك مِنَ الشيطانِ نَزْغٌ فاستعذْ باللّه ِ إنّه سميعٌ عليم * إنّ الذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُم طائفٌ مِنَ الشيطانِ تَذكّروا فإذا هُم مُبصِرون * و إخوانُهم يَمُدّونَهم في الغَيِّ ثمّ لايُقْصِرون»(1). ثمّ قال لي: خَفِّضْ عليك، أستغفر اللّه َ لي ولك، إنّك لو استعَنْتَنا لَأعنّاك، ولو استرفدتَنا لَرفدناك، و لو استرشدتَنا لَرشدناك.
قال عصام: فتوسّم منّي الندم على ما فرط منيّ، فقال: «لا تَثريبَ عليكمُ اليومَ يَغفرُ اللّه ُ لكم وهُوَ أرحمُ الراحمين»(2)، أمِنْ أهل الشام أنت؟! قلت: نعم، فقال: شنشنةٌ أعرفُها مِن أخْزَمِ ! حيّانا اللّه ُ و إيّاك، إنبسِطْ إلينا في حوائجك و مايعرض لك، تَجِدْني عند أفضل ظنّك إن شاء اللّه تعالى.
قال عصام: فضاقتْ علَيّ الأرضُ بما رَحُبت، و وددتُ لو ساخت بي! ثمّ سللتُ منه لواذا و ما على الأرض أحبُّ إليّ منه و مِن أبيه(3).
كان الرجل الشاميّ متأثِّرا بالافتراءات الأمويّة، فتعرّف على الحقائق من خلال العفو الحسينيّ الكريم. و من الخطورة بمكان أن يترك العبدُ عفوَه فينجرّ إلى ظُلْم ظالمه و خصمه، حيث يعاقبه بأكثرَ ممّا يستحقُّه من العقوبة، فيكون بذلك ظالما له، و متأسّيا بأخلاق ظالمه لا بأخلاق اللّه التي تدعوإلى العفو. فإذا خُيِّر المومنُ بين العقوبة والعفو، أو بين العقوبة الظالمة و العفو
ص: 177
المظلوم.. اختار أن يكون مظلوما وهو عافٍ عن ظالمه.. وتلك وصيّةُ أميرالمؤمنين سلام اللّه عليه حيث يُوصي: و اقْدَموا على اللّه مظلومين، ولاتَقْدَموا عليه ظالمين»(1).
ثمّ إنّ العبد - إذا كان مظلوما - و كَلَ أمرَه إلى بارئه تبارك و تعالى و فوّضَ إليه جميع شؤونه، و انتصر باللّه جلّ و علا.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أوحى اللّه ُ إلى نبيٍّ مِن أنبيائه: ابنَ آدم، اذكُرْني عند غضبك أذكُرْك عند غضبي فلا أمحقُك فيمَن أمحق. واذا ظُلِمتَ بمظلمةٍ فارضَ بانتصاري لك؛ فإنّ انتصاري لك خيرٌ مِن انتصارك لنفسك(2).
ثمّ إنّ في ظُلْم الآخرين لنا نفعا يعود علينا، فظلمُهم يُربّي فينا مَلَكةَ الصبر و الحِلْم و خُلقَ العفو، و يزيد بذلك في ثوابنا و يكفّر عنّا سيّئاتنا، و تلك كلمة أمير المؤمنين سلام اللّه عليه تهتف في ضمائرنا: مَن ظَلَمك فقد نفعك، و أضرّ بنفسه!(3). و كلمته صلوات اللّه عليه موصيةً لنا: لايَكبرنّ عليك ظلمُ مَن ظلَمَك؛ فإنّه يسعى في مضرّته و نفعِك، وليس جزاءُ مَن سرَّك أن تَسُوءَه(4). و كلمته الأخرى في توجيه القلوب إلى أُفق آخر: إذكرْ عند الظلم عدلَ اللّه فيك، و عند القدرة قدرةَ اللّه عليك(5).
والعفو عن الناس بعد ذلك - أيّها الإخوة - مسلك إلى عفو اللّه تعالى،و كيف لا و قد صدرت منه دعوة صريحةٌ إلى رحمته.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يعفو بعضُكم عن بعض، و يصفح بعضكم عن بعض، فإذا فعلتم كانت رحمةٌ
ص: 178
مِن اللّه لكم، يقول اللّه عزّوجلّ: «ألاَ تُحبّونَ أن يغفرَ اللّه ُ لكم و اللّه ُ غفورٌ رحيم»(1).
و من رحمة اللّه تعالى بنا أن يغفر اللّه ُ لنا ويعفوَ عنّا، و مِن موجبات مغفرته لنا أن نغفر لإخواننا.. جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: إذا وقعَ بين رَجُلَين منازعةٌ نزل مَلَكان.. فيقولانِ للسفيه منهما: قلتَ وقلت، وأنت أهلٌ لِما قلت، ستُجزى بما قلت. ويقولانِ للحليم منهما: صبرتَ و حَلُمت، سيغفر اللّه ُ لك إن أتممتَ ذلك..(2).
وفي العفو رحمة بالذي أساء و أخطأ، وثوابٌ للذي حَلُم وصفح وعفا.. و أيُّ ثوابٍ هو ياتُرى؟! يكفي ما رُوي عن أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه قوله: شيئانِ لا يُوزَن ثوابُهما: العفو، و العدل!(3). و إذا كان العفو معقولاً و في محلِّه و مع من يستحقّه.. فإنّه لاينافي العدل، كما لايتعارض مع العقل. لكنّ العقوبة.. خاصّةً إذا استعجلها المظلوم، فإنّها قد تؤدّي إلى التضحية بالروابط الإنسانيّة والأخويّة، بل قد تجرّ إلى الظلم والحقد و الخصومة والانتقام! ولذا أوصى أمير المؤمنين سلام اللّه عليه قائلاً: لا تعاجلِ الذَّنْبَ بالعقوبة، و اتركْ (واجعل خ ل) بينَهما للعفو موضعا، تَحْرِزْ به الأجرَ والمَثوبة(4).
كما أوصى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام مِن بعده قائلاً: لا تعاجلِ الذَّنْبَبالعقوبة، و اجعلْ بينَهما للاعتذار طريقا(5).
وهنا قد يوسوس الشيطان.. بأنّ ترك العقوبة مُوجِب للمذلّة، و أمارةٌ
ص: 179
على ضعف المظلوم وجُبنه و سكوته عن حقّه، و بذلك يخلق حالةً من الحقد و حافزا للانتقام، و ذاك دَورُه هنا، واللّه تعالى ينبّه قائلاً: «إنّما يُريدُ الشيطانُ أن يُوقِعَ بينَكمُ العداوةَ والبغضاء..»(1)، وله إليهما وسائلُ عديدة، واستفزازات متعدّدة، منها في قلب العفو إلى ذُلّ في نظر العبد، فينجرّ إلى مخاصمة أخيه و معاداته، بل و إلى ظُلمه و إهانته، بدل أن يعفوَ عنه و يُعيدَ الرابطة الأخويّة إلى حياتها الأُولى و أفضل. و ليس العفو ذُلاًّ أبدا، لأنّنا نحتكمُ فيه إلى الرواية فنجده عزّةً للعافي، وحفظا لماء وجه المعفوِّ عنه، وهو في الآخرة كرامة من اللّه تبارك و تعالى و تكريم.. وهذه الروايات الشريفة بين أيدينا:
* قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ثلاثٌ - والذي نَفْسي بيده - إن كنتُ حالفا لحلفتُ عليهنّ: ما نقصَتْ صدقةٌ مِن مال، فتصدَّقوا. ولا عفا رجلٌ مِن مَظْلمةٍ يبتغي بها وجهَ اللّه، إلاّ زاده اللّه ُ بها عِزّا يومَ القيامة. ولا فتحَ رجلٌ على نفسه باب مسألة، إلاّ فتحَ اللّه ُ عليه بابَ فَقْر(2).
- العفو لايزيد العبدَ إلاّ عِزّا، فاعفُوا يُعِزَّكمُ اللّه (3).
- مَن عفا عن مظلمة، أبدَلَه اللّه ُ بها عِزّا في الدنيا والآخرة.(4)
- عليكم بمكارم الأخلاق ؛ فإنّ اللّه عزّوجلّ بعثني بها.. و إنّ مِن مكارم الإخلاق: أن يَعفوَ الرجلُ عمّن ظلَمَه، و يُعطيَ مَن حَرَمه، و يَصِلَ مَن قطَعَه،و أن يعودَ مَن لايعودُه(5).
* و رُويَ عن أميرالمؤمنين عليه السلام أ نّه قال: العفوُ تاج المكارم(6).
ص: 180
* و قد جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله يشكو مَظْلمة، فأمره النبيُّ صلى الله عليه و آله أن يجلس، و أراد أن يأخذ له بمَظلمته إلاّ أ نّه سبق ذلك بأن قال: إنّ المظلومين همُ المفلحونَ يومَ القيامة. فأبى الرجل أن يأخذ بمظلمته حين سَمِع ذلك(1).
* * *
سادسا: ثم مِن ثمار العفو ما تحكيه هذه الآية الشريفة: بسم اللّه الرحمن الرحيم: «ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحاتِ مِن ذَكَرٍ و أُنثى و هُوَ مؤمنٌ فأولئك يَدْخُلون الجَنّةَ ولا يُظلَمونَ نَقيرا»(2). ولا شكَّ أنّ خُلقَ العفو من الأعمال الصالحة، وقد شرط اللّه ُ تبارك وتعالى في المجازاة بالجنّة أن يكون العاملُ للصالحات مؤمنا، فالجنّةُ لمَن آمنَ و عَمِل صالحا، واتّقى اللّه َ سبحانَه في حركاته و سكناته، و في أقواله و أفعاله ونيّاته، و في مشاعره وعقائده و أخلاقيّاته.. قال عزّوجلّ في محكم كتابه: «تلك الجنّةُ التّي نُورِثُ مِن عبادِنا مَن كانَ تَقيّا»(3).
* وجاء عن الرسول المصطفى الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: أكثرُ ما تَلِجُ به أُمّتي
الجنّة: تقوى اللّه، و حُسنُ الخُلق(4). ثلاثٌ مَن لَقِيَ اللّه َ عزّوجلّ بهنّ دخَلَ الجنّةَ مِن أيِّ بابٍ شاء: مَن حَسُن خلُقُه، و خشِيَ اللّه َ في الغَيب والمحضر، و تَرَك المِراءَ وإن كان مُحِقّا(5).* وجاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام أ نّه قال: قال رجلٌ للنبيّ صلى الله عليه و آله: يا رسولَ اللّه، علِّمْني عملاً لا يُحال بينَه و بين الجنّة. قال: لا تغضب، ولا تسألِ
ص: 181
الناسَ شيئا، و ارضَ للناس ما ترضى لنفسك(1).
ولا يخفى علينا - أيّها الإخوة الأحبّة - أنّ العفو مِن حُسن الخُلق، كما أ نّه يتطلّب مِن صاحبه ألاّ يغضب؛ لئلاّ يعاقبَ مَن غَضِب عليه، و يتطلّب منه كذلك ألاّ يسخطَ على الناس ممّا يرضاه هو لنفسه، فتلك حالةُ تناقض.. أن يستنكرَ من الآخَرين ما يُبرّره لنفسه ولمَن يُحبّ.
فمَن عَلِم أ نّه يُخطئ و يُسيء، ثمّ يُحبّ أن يُسامَحَ و يُعفى عنه، فلْيُحبَّ لأخيه من العفو ما يُحبّه لنفسه، و بذلك يُمسِك بأحد أسباب الدخول إلى الجنّة و هو مكرَّمٌ مشرَّف معزَّز..
* قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ يُسمِع آخِرَهم كما يُسمِع أوّلَهم.. فيقول: أين أهلُ الفضل؟ فيقوم عُنُقٌ من الناس، فتستقبلهمُ الملائكة فيقولون: ما فضلُكُم هذا الذي تردّيتم به؟!
فيقولون: كنّا يُجهَل علينا في الدنيا فنتحمّل، و يُساء إلينا فنعفو.
قال: فيُنادي منادٍ من اللّه تعالى : صدقَ عبادي، خَلُّوا سبيلهم ليدخلوا الجنّةَ بغير حساب(2).
* و عن أبي حمزة الثُّماليّ، عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام قال: إذا كان يومُ القيامة، جمَعَ اللّه تبارك وتعالى الأوّلين والآخِرين في صعيدٍ واحد، ثمّينادي مُنادٍ: أين أهل الفضل؟ فيقوم عنُقٌ من الناس، فتلقّاهمُ الملائكة فيقولون: و ماكان فضلُكم؟ فيقولون: كنّا نَصِل مَن قَطَعَنا، و نُعطي مَن حرَمَنا، و نعفو عمّن ظلَمَنا، فيُقال لهم: صدقتُم، ادخلُوا الجنّة(3).
* وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا عنّتْ لكم غضبة فادْرَؤوها بالعفو، إنّه ينادي
ص: 182
منادٍ يومَ القيامة: مَن كان له على اللّه أجرٌ فَلْيَقُم. فلا يقوم إلاّ العافون، ألم تسمعوا قولَه تعالى: «فمَن عفا و أصلحَ فأجرُه على اللّه»؟!(1).
* و رُوي عنه صلى الله عليه و آله أيضا أ نّه رُئيَ ضاحكا حتّى بدت ثناياه، فقيل له: يارسول اللّه، ممّا ضَحِكتَ؟ فقال: رجلانِ مِن أُمّتي جَثَيا بين يَدَي ربيّ، فقال أحدهما: ياربّ، خُذْ لي بمظلمتي من أخي، فقال اللّه تعالى : أعطِ أخاك مظلمتَه، فقال: ياربّ، لم يبقَ من حسناتي شيء، فقال: ياربّ، فليحملْ عنّي من أوزاري.
ثمّ فاضتْ عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال: إنّ ذلك اليومَ لَيومٌ يحتاج الناس فيه إلى مَن يحمل عنهم مِن أوزارهم. ثمّ قال اللّه تعالى للطالب بحقِّه: ارفعْ بصرَك إلى الجنّة، فانظرْ ماذا ترى؟! فرفع رأسه فرأى ما أعجَبَه من الخير والنعمة، فقال: ياربّ، لمَن هذا؟! فقال: لمَن أعطاني ثَمنَه، فقال: يا ربّ، و مَن يملك ثَمنَ ذلك؟! فقال: أنت، فقال: كيف لي بذلك؟! فقال: بعفوك عن أخيك، فقال: ياربِّ قد عفوتُ، فقال اللّه ُ تعالى : فَخُذْ بيد أخيك فادخلا الجنّة.
ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: فاتّقُوا اللّه َ و أصلِحُوا ذاتَ بينِكم(2).
وقد يقول قائل: إنّ أمام العبد لَأهوالاً و مواقفَ شديدةً يُحاسَب فيها حسابا دقيقا حتّى يعرف بعد ذلك مآله و مصيره، ففي ظلّ قوله تعالى : «و يخافون سُوءَ الحساب» قال الإمام الصادق عليه السلام: يُحسَب عليهمالسيّئات، و يُحسَب عليهم الحسنات، وهو الاستقصاء..(3).
ص: 183
فأين نحن - أيّها الإخوة المؤمنون - من هذا؟!
أجل، إنّ أمامَ العبد حسابا، يهوّنه حسنُ الخلق؛ لقول أميرالمؤمنين عليه السلام لنوف: يانوف، صِلْ رَحِمَك يزيد اللّه في عُمرك، حَسِّنْ خُلُقَك يُخفّف اللّه ُ حسابَك.(1) وصلة الرحم قد تتطلّب من المؤمن أن يعفو عن أرحامه، ليبقى معهم على رابطة حسن القُربى. والعفو هو من الخلُقِ الحسَن الذي يخفّف اللّه ُ تعالى به حسابَ العبد واستقصاءه.. قال الشيخ الطبرسيّ في ظلّ الآية المباركة: «فسَوفَ يُحاسَبُ حسابا يسيرا»:
يريد أ نّه لا يُناقَش في الحساب، أو يُوقَف على ماعمل من الحسنات و ما له عليها من الثواب، و ما حُطّ عنه من الأوزار.. إمّا بالتوبة أو بالعفو. وقيل: الحساب اليسير هو التجاوز عن السيّئات، والإثابة على الحسنات، و مَن نُوقش الحسابَ عُذِّب(2).
* و في الحديث النبويّ الشريف: ثلاث مَن كنّ فيه حاسَبَه اللّه ُ حسابا يسيرا، وأدخله الجنّة برحمته: تُعطي مَن حَرَمك، و تَصِل مَن قَطَعَك، و تعفو عمّن ظَلَمك(3).
و أهل العفو هم أهل سلامة الصدر و محبّة الناس والعطف عليهم، وهم أهلُ الغضّ عن الإساءات، و التجاوز عن التجاوزات، حتى يكونوا مؤهّلين لأن يتجاوزَ اللّه ُ تعالى عن سيئاتِهم، و يخفّفَ عنهم حساباتِهم؛ لأنّهم خفّفوا حسابَ إخوانهم و أدخلوا السرورَ على قلوبهم بالعفووالصفح.. عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إذا بعَثَ اللّه عزّوجلّ المؤمنَ مِن
ص: 184
قبره خرَجَ معه «مثال» يَقْدِمه أمامه، كلّما رأى المؤمنُ هَولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزَعْ ولاتحزن، و أبشِرْ بالسرور و الكرامة من اللّه عزّوجلّ.. حتّى يقفَ بين يدَي اللّه عزّوجلّ فيحاسبه حسابا يسيرا، ويأمر به إلى الجنّة والمثالُ معه، فيقول له المؤمن: رَحِمَك اللّه، نِعمَ الخارجُ خرجتَ معي من قبري، و مازلتَ تُبشّرني بالسرور والكرامة مِن ربيّ..حتّى رأيت ذلك! فيقول: مَن أنت؟! فيقول (أي المثال): أنا السرور الذي أدخلتَه على أخيك المؤمنِ في الدنيا، خلَقَني اللّه عزّ وجلّ منه لأُبشِّرَك(1).
وأهل العفو هم أهل المحبّة والأُلفة والإخاء، ومن تكريم اللّه جلّ وعلا لهم أ نّه يخفّف الحساب عليهم، بل يمنحهم درجاتٍ تُدخلهم في رحمته، و فسيح جنّته.. بغير حساب.هذا إذا تعاملوا على حبّ اللّه، و حسن الخُلقِ الذي يحبّه اللّه، فإنّ ذلك من موجبات الرحمة الإلهيّة:
* قال النبيّ صلى الله عليه و آله: عليكم بحُسْنِ الخُلق؛ فإنّ حُسْن الخُلق في الجنّة لامحالة(2).
ومِن حُسن الخُلق: العفو، وهو مُدخِلٌ صاحبَه - بلطف اللّه - في الجنّة و بغير حساب؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ: مَن كان أجرُه على اللّه فَلْيَدخل الجنّة، فيُقال: مَن هُم؟ فيُقال: العافونَ عن الناس يدخلون الجنّة بلاحساب(3).
* و عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ثلاثٌ مَن كنّ فيه استكمل خصالالإيمان: مَن صبَرَ على الظلم، و كظَمَ غيظَه واحتسب، و عفا وغفر.. كان
ص: 185
ممّن يُدخله اللّه ُ الجنّةَ بغير حساب، و يشفّعه في مِثْل ربيعةَ و مُضَر(1).
وهذه الحالات.. يفتقر العفو إليها، فإذا تكاملت في القلب أقدَمَ العبد على أخيه يغفر له إساءتَه، و يسامحه على ما بدر منه، و يكظم غيظه حتّى يؤوب صاحبُه إلى رُشْده، ويصبر عليه حتّى تعود المحبّة في اللّه إلى حالها، فإذا كان التحاببُ في اللّه تعالى كان الدخولُ إلى الجنّة بغير حساب.. عن أبي حمزة الثُّماليّ قال: قال عليُّ بن الحسين عليهماالسلام: إذا جمَعَ اللّه ُ عزّوجلّ الأوّلينَ والآخرين قام منادٍ فنادى، يُسمِع الناس، فيقول: أين المتحابّون في اللّه؟ فيقوم عنقٌ من الناس فيُقال لهم: إذهبوا إلى الجنّة بغير حساب. فتَلقّاهمُ الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب. قال: فيقولون: فأيُّ ضربٍ أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في اللّه. فيقولون: وأيّ شيءٍ كانت أعمالُكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في اللّه، و نُبغض في اللّه. قال: فيقولون: نِعمَ أجرُ العاملين(2).
وإذا كان بالعفو الجنّة، فما أدرانا ما الجنّة؟! يكفي أنّها: موضعُ رضوان اللّه تعالى، و أنّها أجرُ العاملين، و محلُّ الأمان، و موقع الرحمة الإلهيّة، و فيها ما تَلَذّ الأعينُ و تشتهي الأنفس؛ جزاءً بما كان من العبد من: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، و ما تحلّى به من الحِلْم والصَّفح، وكظم الغيظ، و العفو؛ طاعةً للّه جلّ وعلا، و صبرا عن معصيته، و اتّقاءً من متابعةِ الهوى.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مَن كظَمَ غيظا وهو يَقْدر على أن ينفذه، دعاه اللّه يومَ القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يتخيَّر مِن الحُور ماشاء(3). فهناك الأمان
ص: 186
الحقيقيّ وطمأنينة القلب، والسُّكنى في مساكن الشرف والرِّفعة والكرامة.. جاء عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آلهأ نّه قال: رأيتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي قصورا مستويةً مُشرِفةً على الجنّة، فقلتُ: يا جبريل، لمَن هذا؟ فقال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه ُ يحبُّ المحسنين(1).
وإنّ في الجنّة ما لاعينٌ رأت، و لا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، و يكفي أن يقول تعالى في كتابه العزيز بشأنها: «فلا تَعلمُ نَفْسٌ ما أُخفِيَ لَهُم مِن قُرّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون»(2)، فجاءت كلمة «نفس» هنا نكرةً في سياق النفي لتفيد العموم، أمّا إضافة «قُرّة» إلى «أعْيُن» لا إلى: أعينهِم، فتفيد أنّ فيماأُخفيَ لهم قرّة عينِ كلِّ ذي عين، والمعنى: فلا تعلم نفسٌ من النفوس ما أخفاه اللّه ُ لهم ممّا تَقَرّ به عينُ كلِّ ذي عين، أي هو فوقَ علمهم و تصوّرهم؛ جزاءً بما كانوا يعملون في الدنيا(3).
وفي الرواية: عن عاصم بن حميد: قال أبو عبداللّه الصادق عليه السلام: إنّ اللّه تعالى خلَقَ جَنّةً بيده، ولم تَرَها عين ولم يطّلعْ عليها مخلوق، يفتحها الربُّ كلَّ صباح، فيقول: إزدادي ريحا، إزدادي طِيبا.. وهو قول اللّه: «فلا تَعلمُ نفسٌ ما أُخفِيَ لهم مِن قُرّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون»(4).
و إنّما أُعِدّ ذلك للمؤمنين العاملين بالطاعات، المتّقين الحذرين من الوقوع في المعاصي والموبقات، المسارعين في الخيرات والباقياتالصالحات.. يقول النبيّ صلى الله عليه و آله: مَن اشتاق إلى الجنّة سارع إلى الخيرات(5). فالجنّة لمَن صحّت عقيدته و عمل خيرا و تجنّب شرّا، وسَلِم قلبا و صدرا،
ص: 187
وحَسُن خلُقُه و تحلّى بالفضائل و منها: العفو عن الإخوان.. ولقد كان الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهماالسلام يدعو ربَّه عزّ وجلّ ويطلب منه العفوَ عن الناس فيما كان منهم من الإساءة إليه، فيقول ضمن دعائه المبارك:
اللّهمّ و أيُّما عبدٍ نال منّي ما حَظَرْتَ عليه، وانتهك مني ما حجَرَتَ عليه (أي حرّمتَ عليه)، فمضى بظُلامتي ميّتا، أو حصلتْ لي قِبَلَه حيّا، فاغفرْ له ما ألَمّ به عنّي، ولا تَقِفْه على ما ارتكب فيّ، ولا تكشفْه عمّا اكتسب بي. واجعلْ ماسمحتُ به من العفو عنهم، وتبرّعتُ به من الصدقة عليهم.. أزكى صدقاتِ المتصدّقين، و أعلى صِلاتِ المتقرّبين، و عوِّضْني مِن عَفْوي عنهم عفوَك، و مِن دعائي لهم رحمتَك، حتّى يَسْعَدَ كلُّ واحدٍ منّا بفضلِك، و يَنجوَ كلٌّ مِنّا بمَنِّك..(1).
وكان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام إذا دخل شهر رمضان لايضرب عبدا ولا أمَة، و كان إذا أذنب العبدُ أو الأمة يكتب عنده: أذْنَبَ فلان، أذنَبَتْ فلانة يومَ كذا و كذا، ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب.. حتّى إذا كان آخِرُ ليلةٍ من شهر رمضان دعاهم و جمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتابَ ثمّ قال: يا فلان، فعلتَ كذا و كذا ولم أؤدّبك، أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا ابن رسول اللّه.. حتّى يأتيَ على آخِرهم و يُقرّرهم جميعا، ثمّ يقوم وسطَهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتَكم وقولوا:
يا عليَّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلَّ ما عمِلتَ كما أحصيتَ علينا كلَّ ما عَمِلْنا، ولديهِ كتابٌ ينطقُ عليك بالحقّ لايغادر صغيرةً ولا كبيرةً ممّا أتيتَ إلاّ أحصاها، وتَجِدُ كلَّ ما عملتَ لديه حاضراكما وجَدْنا كلَّ ما عَمِلْنا لديك حاضرا، فاعفُ واصفحْ كما ترجو من المليك
ص: 188
العفو، و كما تحبّ أن يَعفُوَ المليك عنك، فاعفُ عنّا تَجِدْه عفوّا، وبك رحيما ولك غفورا، ولا يظلمُ ربُّك أحدا.. فاذكرْ يا عليّ بن الحسين ذُلَّ مقامك بين يَدَي ربِّك الحَكَمِ العدل..
والإمام زينُ العابدين ينادي بذلك على نفسه و يُلقّنُهم، وهم ينادون معه، وهو واقفٌ بينهم يبكي و ينوح ويقول: ربِّ إنّك أمَرْتَنا أن نعفوَ عمّن ظَلَمنا.. الدعاء. ثمّ يُقْبِل عليهم ويقول: قد عفوتُ عنكم، فهل عفوتُم عنّي و عمّا كان منيّ إليكم مِن سُوء مِلْكة؟ فيقولون: قد عفَونا عنك يا سيّدنا، و ما أسأتَ. فيقول عليه السلام لهم: قولوا: اللّهمّ اعفُ عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، و أعتِقْه من النار كما أعتقَ رقابَنا مِن الرِّقّ. فيقولون ذلك، فيقول: اللّهمّ آمين يا ربّ العالمين، إذهبوا فقد عفوتُ عنكم، و أعتقتُ رقابَكم رجاءً للعفو عنّي و عتقِ رقبتي. فيعتقهم، فإذا كان يومُ الفطر أجازهم بجوائز تصونُهم و تُغنيهم عمّا في أيدي الناس(1).
أجل، فأولى بمَن يُحبّ العفوَ لنفسه، و يدعو به لإخوانه.. أن يعفوَ هو أوّلاً عنهم، طالبا بذلك مرضاةَ اللّه تبارك و تعالى ، و مُحْرِزا سلامةَ قلبه من الأحقاد، و متخلِّقا بأخلاق اللّه جلّ وعلا، و منها: العفو عن العباد؛ لينال بهذا من اللّه تعالى جميلَ العفو، فهو أهل العفو والرحمة والمغفرة، حيث ندعوه بدعاء الإمام المهديّ عليه السلام في كلّ ليلةٍ من ليالي شهر رمضان (وهو دعاء الافتتاح) فنخاطبه في مستهلّ الدعاء: اَللّهمّ إنّي أفتتحُ الثناءَ بحمدِك، و أنت مسدِّد للصواب بمَنّك، و أيقنتُ أنّك أنت أرحمُ الراحمينَ في موضع العفوِ والرحمة..»(2)، و ندعوه جلّ وعلا بالمناجاة الشعبانيّة لأمير المؤمنين عليه السلام
ص: 189
فنخاطبه: إلهي، إن كنتُ غيرَ مستأهِلٍ لرحمتِك، فأنت أهلٌ أن تَجودَ علَيّ بفضلِ سَعَتِك. إلهي، كأنّي بنفسي واقفةٌ بين يدَيك، و قد أظَلَّها حُسنُ توكّلي عليك، فقلتَ ما أنت أهلُه و تغمدّتَني بعفوك. إلهي، إنْ عفوتَ فمَن أَولى بذلك؟!.. إلى أن يقول عليه السلام: إلهي، أنَا عبدٌ أتنصّلُ إليك ممّا كنتُ أُواجهك به مِن قلّة استحيائي مِن نَظَرِك، و أطلبُ العفوَ منك إذِ العفوُ نعتٌ لكرمِك..»(1).
* * *
سابعا: و من ثمار العفو ما تُفصح به الآياتُ الكريمة التالية:
بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم: «و مَن أحسَنُ قَولاً ممّن دعا إلَى اللّه ِ و عَمِل صالحا و قال إنّني من المسلمين * ولا تستوي الحسنةُ ولاَ السيّئةُ ادفعْ بالّتي هيَ أحسنُ فإذا الّذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم * و ما يُلقّاها إلاَّ الّذينَ صبروا و مايُلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم»(2).
فالعفو يُثمر عن إصلاح ذات البَين، وعن خلُق المودّة والإخاء والمحبّة بين الناس، و به تُزال الضغائن و الأحقاد؛ ولذا أُمِرنا به لكي نعيش متحابّين متآخين في الدنيا، ثمّ نمضي إلى ربِّنا تعالى مغفورا لنا مَرْضيّين عند بارئنا جلّ وعلا. أُمِرنا بالدفع بالتي هي أحسن، و قد يكون العفو في مواقعَ كثيرة و حالاتٍ عديدة هو الدافعَ بالتي هي أحسن مِن بين المواقف،و بالتي هي أسلم للروابط والأفضلَ عاقبةً.
والعفو سبيل من سبل الدعوة إلى اللّه تبارك وتعالى ، وهو من الحسنةالتي لاتستوي مع السيئة، ومن صالح الأعمال الذي يصدّق الادّعاءَ بالإسلام، فإذا عفا المرء عن مسيءٍ أو مقصّرٍ فإنّما يعبّر عن تساميه على
ص: 190
الحقد و عطفه على الخاطئين، وامتثاله و طاعته لأمر ربِّ العالمين، فكان أهلاً للدعوة إلى اللّه جلّ شأنه، و كان موفّقا في: التأثير على النفوس، و خَلْق أجواء المحبّة، ورفع حالة الحقد والعداوة والخصومة.. «فإذا الذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنّه وليٌ حميم»(1)، فإذا العدوّ يصبح كأنّه وليٌّ شفيق، فعشتَ معه رابطةً يرتاح لها القلب وتهدأ بها النفس، ثمّ عُدتَ إلى اللّه عزّوجلّ راضيا وممدوحا بقوله تعالى: «و ما يُلقّاها إلاّ الذينَ صبروا و ما يُلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم».. ذو نصيبٍ وافرٍ من كمال الإنسانيّة و خصال الخير التي يُثاب العبد عليها؛ رضوانا من اللّه جلّ جلاله، وجناتٍ و نعيما دائما.
إذن، فالعفو منّا يؤدّي إلى الإصلاح والمودّة، بدل إفسادِ العلائق وإحلال العداوة والأحقاد.. وَفَد العُلا بن الحضرميّ على النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ لي أهلَ بيتٍ أُحسن إليهم فيُسيئون، و أصِلُهم فيقطعون.فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إدفَعْ بالّتي هيَ أحسَنُ فإذا الذي بَينَكَ وبَينَهُ عَداوةٌ كأنَّهُ وَليٌّ حَميمٌ * و ما يُلقّاها إلاَّ الّذينَ صَبَروا و ما يُلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم»، فقال العلا
بن الحضرمي: إنّي قلت شعرا، قال: و ما قلت؟ قال:
فإنْ أظهروا خيرا فجازِ بمِثْلِه***وإن خَنَسوا عنك الحديثَ فلا تَسَلْ
فإنّ الذي يُؤذيك منك سماعُه***وإنّ الذي قالوا وراءَك لم يُقَلْ
فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ مِن الشعر لَحِكَما، و إنّ من البيان لَسِحْرا، و إنّ شِعرَك لحَسَن، وإنّ كتاب اللّه أحسن(2).
فالأحسن يكون بالعفو، و بالعفو يُجمِّل العافي صاحبَه المعفوَّ عنه،
ص: 191
ويدفع سوءَه و شرَّه إذا كان ذا سُوءٍ و شرّ، ويكسب قلبه إذا كان مستعدّا للإخاء، و يزيل عنه الحقد ويزرع مكانه الوئامَ والمحبّة، و يُصلح الأمر ويقبر الفتنة. وفي تفسير الآية الشريفة قيل: لقد أدّب اللّه ُ عزّوجلّ نبيَّه صلى الله عليه و آله فقال: «ولا تستوي الحسنةُ ولاالسيّئةُ ادفعْ بالّتي هيَ أحسن»، قال: ادفعْ سيّئةَ مَن أساء إليك بحسَنتِك، حتّى يكون الذي بينك وبينَه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم(1).
ودفعُ السيّئة بالحسنة، وإبدالُ العداوة إلى أخاء.. هما ممّا يجلب للعبد المؤمن الراحةَ في الدنيا، و حسنَ الثواب في الآخرة؛ لأنّ في ذلك طاعةً للّه جلّ وعلا.. في كتاب (الخصال) للشيخ الصدوق فيما علّم أميرالمؤمنين عليه السلام أصحابه من الأربعمائة بابٍ ممّا يُصلح المسلمَ في دينه و دنياه، قال: صافحْ عدوَّك و إنْ كرِه؛ فإنّه ممّا أمرَ اللّه ُ عزّوجلّ به عبادَه، يقول: «إدفعْ بالّتي هيَ أحسنُ فإذا الذي بينَك و بينَه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم * و ما يُلقّاها إلاَّ الّذين صبروا و ما يُلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم»، ما يكافي عدوَّك بشيءٍ أشدُّ مِن أن تُطيعَ اللّه َ فيه، و حَسْبُك أن ترى عدوَّك يعملُ بمعاصي اللّه عزّوجلّ(2).
ودَيدنُ العبد المؤمن أن يطيع اللّه َ عزّوجلّ، وليس قادرا على ذلك إلاّ بتنمية التقوى في القلب، و تربية مكارم الأخلاق في النفس، والتجرّد عن مساوئ الصفات و مذامّها، لذا نرى الإمام السجّاد زين العابدين عليَّ بين الحسين عليهماالسلاميدعو في صحيفته المباركة فيقول:
اَللّهمّ إنّي أعوذُ بك من: هيجانِ الحِرص، وسَورةِ الغضب، وغَلَبةِ الحسد،
ص: 192
وضَعفِ الصبر، وقلّةِ القناعة، وشكاسةِ الخُلق، وإلحاحِ الشهوة، ومَلَكةِ الحميّة، و متابعةِ الهوى، ومخالفةِ الهدى، وسِنةِ الغفلة، وتعاطي الكُلْفة، وإيثارِ الباطلِ علَى الحقّ، و الإصرارِ على المأثم، و استصغار المعصية، واستكبارِ الطاعة..»(1).
ويقول سلام اللّه عليه أيضا: اللّهمّ صَلِّ على محمّدٍ و آلِ محمّد، و أبْدِلني مِن بِغْضة أهلِ الشَّنَآنِ المحبّة، ومِن حَسَدِ أهلِ البغيِ المودّة، ومِن ظِنّةِ أهلِ الصلاحِ الثقة، و مِن عداوةِ الأدنَينَ الوَلاية، و مِن عقوق ذوي الأرحامِ المَبرّة، و مِن خِذْلانِ الأقربينَ النُّصْرة، ومِن حُبِّ المُدارِينَ تصحيحَ المِقة،
و مِن رَدِّ المُلابِسين كرَمَ العِشرة..»، ثمّ يمضي في دعائه الشريف هذا حتّى يقول صلوات اللّه عليه: اللّهمّ صَلِّ على محمّدٍ وآله، وسَدّدْني لِأن أُعارِضَ مَن غَشّني بالنُّصْح، و أجزيَ مَن هَجَرني بالبِرّ، و أُثيبَ مَن حَرَمني بالبَذل، وأُكافيَ مَن قطَعَني بالصِّلة، و أُخالفَ مَنِ اغتابني إلى حُسْنِ الذِّكر، و أن أشكر الحسنة و أُغْضِيَ عن السيّئة. اللّهمَّ صَلِّ على محمّدٍ وآله، و حَلِّني بحِلْيةِ الصالحين، و ألْبِسْني زينةَ المتّقين.. في بَسطِ العدل، و كظمِ الغَيظ، و إطفاءِ النائرة، و ضمِّ أهلِ الفُرقة، و إصلاحِ ذاتِ البَين، وإفشاءِ العارفة، و سَترِ العائبة، و لِينِ العريكة، و خَفضِ الجَناح، و حُسنِ السِّيرة، و سكونِ الرِّيح، و طِيبِ المخالقة، والسَّبقِ إلى الفضيلة، وإيثارِ التفضّل..(2)
و ممّا مرّ علينا - أيُّها الإخوة الأكارم - يُوصل إلى هذه الحقيقة، وهي:أنّ العفو يأتي بالثمار الدنيويّة، وبالثمار الأُخرويّة.. إذا أصبح سببا:
ص: 193
لإصلاح ذات البَين، و دفعِ السُّوء والشرِّ والخصومة والعداوة، وإحلال الأُلفة والمحبّة والمودّة. أو كان العفو سببا: لنشر خلُق خفض الجَناح، و سكونِ الغضب، و طِيب المخالقة.. فربّما عفونا عن أخٍ لنا في اللّه تعالى، ثمّ دارت الأيّام دورتها فأصلح نفسه و ترك خطأه، فإذا بنا وقد صدر منّا معه خطأٌ أو إساءة، فما يُنتظَر هنا؟ إنّ الذي يُنتَظَر هو أن يعفوَ ذلك الأخُ في اللّه عنّا، كما عفونا عنه فيما مضى.
فالعفو صفةٌ محمودة، وهو في الآخرة ثواب و مغفرة وجَنّة «و رضوانٌ مِنَ اللّه ِ أكبرُ ذلك هو الفوزُ العظيم»(1)؛ لأنّ في العفو دعوةً إلى اللّه جلّ و علا، و تخلّقا بأخلاق اللّه تعالى، و سلوكا إلى مرضاته، و تأسّيا برسوله صلى الله عليه و آله و بأهل بيته الأطهار صلوات اللّه عليهم أجمعين.
* شكا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آلهرجلٌ مِن خدمه، فقال صلى الله عليه و آله له: اعفُ عنهم تستصلحْ به قلوبَهم.فقال الرجل: يا رسول اللّه، إنّهم يتفاوتون في سوء الأدب، فقال صلى الله عليه و آله:اعفُ عنهم. ففعل(2).
* و رُويَ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّا فتح مكّة.. طاف بالبيت و سعى، فصلّى ركعتين ثمّ أتى الكعبة فأخذ بِعُضادَتَي الباب فقال لأهل مكّة: ما تقولون، و ما تظنّون؟! قالوا: نقول: أخٌ و ابن عمّ، حليمٌ رحيم - قالوا ذلك ثلاثا - فقال صلى الله عليه و آله: أقول كما قال أخي يوسُف: «لا تَثريبَ عليكمُ اليومَ يَغفِرُ اللّه ُ لكُم وهو أرحمُ الراحمين».. فخرجوا كأنّما نُشِروا من القبور، فدخلوا فيالإسلام(3).
ص: 194
فكان العفو إصلاحا لهم ولأُمورهم، ودعوةً إلى الحقّ، وفسحا للطريق إلى اللّه عزّوجلّ، ولقد صدق أميرالمؤمنين عليٌّ عليه السلام إذْ قال: الاستصلاح للأعداء بحُسنِ المقال، و جميلِ الأفعال، أهونُ مِن ملاقاتهم و مُغالبتِهم بمضيضِ القتال(1).
* ويروي أميرالمؤمنين عليه السلام فيقول: إنّ يهوديّا كان له على رسول اللّه صلى الله عليه و آلهدنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ، ماعندي ما أُعطيك.فقال: فإنّي لا أُفارقك - يا محمّد - حتّى تقضيَني. فقال: إذنْ أجلسُ معك. فجلس حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهرَ والعصر والمغرب والعشاء الآخرةَ والغداة.. و كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله يتهدّدونه و يتواعدونه، فنظر رسولُ اللّه إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟! فقالوا: يا رسول اللّه، يهوديٌّ يحبسك؟! فقال صلى الله عليه و آله: لم يبعثْني ربّي عزّوجلّ بأن أظلمَ معاهدا ولا غيرَه. فلمّا علا النهار قال اليهوديّ: أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللّه، و أشهد أنّ محمّدا عبدُه و رسوله، و شطرُ مالي في سبيل اللّه، أما واللّه ِ ما فعلتُ بك الذي فعلتُ إلاّ لأنظر نعتَك في التوراة؛ فإنّي قرأتُ نعتَك في التوراة: محمّدُ بنُ عبداللّه مولدُه بمكّة، و مهاجرُه طَيبة، وليس بفَظٍّ ولا غليظ، ولا سَخّاب ولامُتزيّن بالفحش ولا قولِ الخَنا، و أنا أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه، و أنّك رسول اللّه، وهذا مالي فاحكُم فيه بما أنزل اللّه (2).
فكان العفو هنا دعوةً صادقة موفِّقةً للإسلام، جعلتْ من يهوديٍّ وليّا حميما للإسلام و لنبيّه وللمؤمنين، كما جعلت من قريش الحاقدة علىالدين الجديد متنعّمةً بنعمة الإسلام تتعرّف عليه عن قُرْبٍ و معايشة..
ص: 195
فبأخلاق النبيّ المصطفى صلى الله عليه و آله، و منها العفو، كان انتشار الإسلام، و كانت الأُلفة والمحبّة بينه و بين الناس، من أهله و ذويه وعشيرته، و حتّى مِن أعدائه.. يقول لورد هدلي: لقد نال محمّد نبيّ الإسلام عليه السلام حُبَّ العالَم أجمع، و حبَّ أعدائه بوجهٍ خاصّ، و ذلك عندما ضرب مثلاً في مكارم الأخلاق بإطلاق سراح عشرة آلاف أسير كانوا في يومٍ مِن الأيّام يعملون على قتله و الفتكِ به، و إيراده و أصحابِه مواردَ الهلاك !(1)
إنّ العفو إذا كان في موقعٍ يجعل العدوَّ وليّا حميما، ويبدّل مِن بعضة أهل الشنآنِ المحبّة و مِن حسدِ أهل البغي المودّة، و مِن ظنّة أهل الصلاح الثقة، و مِن عداوة الأدنَينَ الوَلاية، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرّة، و مِن ردّ الملابسين كرمَ العشرة - كما هو في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام في مكارم الأخلاق و مرضيّ الأفعال في صحيفته المباركة - فإنّ عفوا هكذا سيأتي بخير الدنيا و الآخرة، حيث يدفع عدوّا و يأتي بدلَه بصديق، و يجعل البال هادئا، والنفس هانئةً بالأمان و حسنِ الجوار و طِيب المعاشرة مع الآخرين.. وهو مع هذا يأتي بالثواب الجزيل ينفع يوم يتلهّف العبد إلى شيءٍ يُنجيه من عذاب اللّه جلّ وعلا، و يأتي له برضوان اللّه و النعيم المقيم. إذن، فأين نحن عن العفو؟!
هذه بين أيدينا - أيّها الإخوة الأحبّة - أمثلة جليلةٌ؛ للاقتداء والتأسّي..
* ففي سيرة الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهماالسلام مواقفُ عفوٍ كثيرة.. جعلت المسيئين نادمين على ماصدر منهم، و متراجعين عن أخطائهم وإساءاتهم، و معترفين بالحقّ مُقلعين عن الباطل، محبّين للإماممقتدين بأخلاقه. من ذلك مايُروى أ نّه عليه السلام كان خارجا فلَقِيَه رجلٌ فسبّه
ص: 196
فثارتْ إليه العبيد والمَوالي، فقال عليه السلاملهم: مهلاً! ثمّ أقبل على ذلك الرجل و قال له:
- ما سُتِر عنك مِن أمرنا أكثر، ألَكَ حاجةٌ نُعينك عليها؟
فاستحى الرجل، فألقى إليه الإمام عليه السلام خميصةً كانت عليه (وهي كساء أسود له عَلَمان)، و أمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرسول(1).وهنا نلتفت إلى أمرين يجعلانِ البعضَ يتجرّأون على الأولياء، و هما: الجهل، والحاجة..فقد دأب أعداء أهل البيت النبويّ أن يبثّوا الدعايات السيّئة ضدَّ هذا البيت المطهّر، ويشوّهوا سمعته في أذهان الأُمّة. هذا من جهة، و من جهةٍ أُخرى كان البعض يعيش حالات الفاقة والعِوَز و نكد العيش، و يظنّ أنّ أهل البيت عليهم السلاميستأثرون بالأموال لأنفسهم، فإذا أقبل الواهمون وجدوا الأئمّة عليهم السلامأكرمَ الناس و أعطفَهم على الناس، و في الوقت ذاته و جدوهم أزهدَ الناس، و أعبدَهم وأتقاهم للّه تعالى.
وقبل أن يفهم الواهمونَ الحقيقة، صدرت منهمُ الإساءات، فكان الأئمّة عليهم السلاملايُقابلونهم بالعقوبة بل بالعفو والصفح والرحمة، فإذا هدأت النفوس كانت الفرصةُ سانحةً للهداية والإرشاد. فكان منهم العفوُ والدعاء للمسيء بالمغفرة سببا لندم المسيئين على الذَّنْب و وسيلةً لإبدال البُغض بالمحبّة، و دفعِ الشرِّ والعداوة واسقاط الضعينة، ولقد أرشد إلى ذلك رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله حين قال: تَعافُوا تسقطِ الضغائنُ بينكم(2).وكان من شأن الأئمّة الأطهار عليهم السلام أنّهم يَجهدون في إصلاح الأمّة..
ص: 197
و مِن سُبل الإصلاح: العفو، فكثيرٌ مِن النفوس الحاقدة لا يُصلحها إلاّ العفو عنها، ولايُهدِّئُها إلاّ الرحمة بها، والعفوُ رحمة وعطفٌ و إحسان، وتعبيرٌ عن سلامة القلب.
والعفو قد يكون سببا: لصلة الرَّحِم، و زوال العقوق، حيث تعود الروابط الرّحِميّة بين المؤمنين، و تزول القطيعة فيما بينهم، فتكون السعادة بالصّلات في الدنيا، و يكون الثواب العظيم في الآخرة.. بعد إصلاح النفوس بالعفو، و جرِّها إلى الندم على الإساءة، و إصلاح الآخرة بطاعة اللّه عزّوجلّ الذي أمر عباده بالعفو عن إخوانِهم ليعفوَ عنهم، حيث قال: «ولْيَعْفُوا ولْيَصفَحُوا، ألاَ تحبّون أن يغفرَ اللّه ُ لكم؟!»(1).
فمع أنّ العفو مُؤدٍّ إلى إصلاح المعفيّ عنه، يكون سببا لمغفرة اللّه عزّوجلّ لنا، و مغفرتُه سبحانه و تعالى تُنجينا مِن النار و تأخذ بأيدينا إلى الجنّة، وهذا هو الفوز الحقيقيّ. قال عزّ مِن قائل: «كلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموتِ، وإنّما تُوفَّونَ أُجورَكم يومَ القيامةِ، فمَن زُحْزِحَ عنِ النارِ و أُدخِلَ الجنّةَ فقد فاز»(2).
* رُويَ أنّ رجلاً كان بالمدينة يُؤذي أبا الحسن موسى بنَ جعفرٍ عليه السلام
ويسبُّه إذا رآه، و يشتم عليّا أميرالمؤمنين عليه السلام، فقال له أصحابه: دَعْنا نقتلْ هذا الفاجر! فنهاهُم عن ذلك و زجرهم أشدَّ الزَّجْر، وسأل عن الرجل فأُخبر أ نّه خرج إلى زرعٍ له، فخرج إليه و دخل المزرعة بدابّته..فصاح به الرجل: لا تَطأْ زرعَنا. فتوطّاه أبوالحسن عليه السلام حتّى وصل إليه، فنزل وجلس عنده، و باسَطَه و ضاحَكَه، و قال له:
- كم غرمتَ على زرعك هذا؟ فقال :
ص: 198
- مئةَ دينار. قال عليه السلام:
- كم ترجو أن تحصل منه؟ قال الرجل: لستُ أعلم الغَيب! قال عليه السلام:
- إنّما قلت: كم ترجو أن يجيئَك فيه؟ قال الرجل:
- أرتجي فيه مِئتَي دينار.
فأخرج أبوالحسن الكاظم عليه السلام صرّةً فيها ثلاثُمائةِ دينار و قال له: هذا زرعك على حاله، واللّه ُ يرزقك ما ترجو. فقام الرجل فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطِه، فتبسّم إليه أبوالحسن عليه السلامو انصرف..
وراح إلى المسجد، فوجدَ الرجلَ جالسا، فلمّا نظر إلى الإمام الكاظم عليه السلامقال: اللّه ُ أعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتَه. فوثب أصحاب الإمام إلى الرجل وقالوا له: ماقصّتُك؟! قد كنتَ تقول غيرَ هذا ! فقال لهم: قد سمعتُم ما قلتُ الآن.. و جعل يدعو لأبي الحسن الكاظم عليه السلام، فلمّا رجع الإمام أبوالحسن عليه السلام إلى داره قال لأصحابه الذين أشاروا بقتل الرجل: كيف رأيتُم؟! أصلحتُ أمرَه، و كُفِيتُ شرَّه(1).
فبالعفو يُحقَن دمُ المسيء و يُصلَح شأ نُه ويُكفى سوؤُه، و بالعفو تكون الأُلفة والمحبّة وتُبعَد الخصومة والضغينة، وبالعفو تهدأ النفوس بالأُخوّة وتأمن الشرّ، و بالعفو تُنال الرحمة الإلهيّة وثواباتُ اللّه الدنيويّة والأخرويّة.و إذا افترضْنا أنّنا تركنا العفو، فماذا سيكون يا تُرى؟! لاشكّ أنّ العلائقَ والوشائج ستتقطّع، و أنّ المحبّة ستتحوّل إلى بُغض، والمودّة إلى ضغينة، والأمان سيكون قلقا، والتوجّه إلى اللّه بالطاعات سيُصبح انشغالاً بالكلام والعداوة، وحديثا بالمعصية.. حيث ستنشب الخصومةُ بين الأخلاّءوالأصدقاء، و تتغيّر الأخلاق الفاضلة إلى مَساوئ، و ستكون التقوى جرأةً
ص: 199
على الموبقات والآثام !
وإذا كان للعفو آثارُه الطيّبة، فإنّ للخصومة آثارَها السيّئة.. فهي تُحبط الأعمال، و تُشغل القلوب، وتُورث الأحقاد. يقول الإمام الصادق عليه السلام محذِّرا: أيّاكُم والخصومة؛ فإنّها تُشغل القلب، وتُورِث النفاق، و تكسب الضغائن(1).
وإذا كان العفو يُخبِر عن سلامة الصدر و طِيب النفس و رزانة العقل، فإنّ الخصومة تفضح صاحبها إذ تسلبُ منه عقله. يقول أميرالمومنين عليه السلام: الخصومة تُبدي سَفَهَ الرجل! الخصومة تَمحق الدِّين(2).
ويجرّ الحقد إلى العداوة، والعداوة تكون: مرّةً باطنيّة.. فتُسعر القلب و تُفسد الروح، ومرّة ظاهريّة.. فتبدو على صور الضرب والشتم والفحش و اللّعن والطعن. وعلى أيّة حال، فانّ المرء بالعفو يسلم على كرامته و كرامة أخيه المؤمن، و يأمن به على سعادتَيه الدنيويّة والأُخرويّة، و بالعفو يُطيع اللّه َ تبارك و تعالى ولا ينصرف إلى مشغلة البال بالخصومات.
* * *
ثامنا: كذلك من ثمار العفو ما يُستفاد من الآية الشريفة: بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم «و ما خَلَقْنا السماواتِ والأرضَ و ما بينَهما إلاّ بالحقِّ و إنّ الساعةَ لاَتيةٌ فاصفَحِ الصفحَ الجميل»(3)، فإنّ كثيرا من الآيات الشريفة و الأحاديث المنيفة تشير إلى أنّ إصلاح الأمور، وبلوغ المراد، و دفع الأعداءوالأشرار، ونوال النصر.. يكون بالعفو في أحايينَ كثيرة و مواقع عديدة،
ص: 200
فليس كلُّ خطأٍ ينبغي أن يُقابَل بالزجر و العقوبة؛ لأنّ عقول الناس لاتُدرك أحيانا المصالح و العوائد، و لأنّ نفوسهم لا تجنح أحيانا إلى الخير أو لا تتقبّل العقوبة، إلاّ أنّ العفو قد يكون سبيلاً سهلةً من أجل الوصول إلى الهدف السامي الذي فيه: مجلبة الخير، ودفع الشرّ والسوء، و إحلال الأمان، و نوال مرضاة اللّه جلّ شأنه.
ولهذا نجد القرآن الكريم يدعونا - من خلال آياته الكريمة - إلى استخدام أُسلوب العفو بدل سلاح السيف، واستخدام هديّة الصفح بدل يد العقوبة، و عطف المغفرة بدل توبيخ الضرب والإهانة.. يقول الباري عزّوجلّ في محكم كتابه المجيد: «وعبادُ الرحمنِ الّذينَ يَمشُونَ علَى الأرضِ هَوْنا و إذا خاطبَهُمُ الجاهلونَ قالوا سلاما»(1)، فهُم يمشون مشيا هيّنا، أي بسكينة، ثمّ إنّهم إذا خاطبهم الجاهلون بما يكرهونه قالوا: سلاما، تسلّما منهم و مُتاركةً لهم، أو قولاً يسلمون فيه من الإثم والإيذاء(2).
وقد يؤدّي العفو والصفح إلى إصلاح الخصم، فيكون العفو أيسرَ سبيلاً و أحمَدَ عاقبةً.. و لاشكّ أنّ العفو - فعلاً و مقالاً - هو مِن جميل الأفعال، و حسن المقال، فإذا صلح شأن العدوّ خفّ الوط ء، و نِيل رضى الربّ جلّ جلاله، وقَوِيتْ شوكةُ العافي و نال مراده.. قال الإمام عليّ سلام اللّه عليه: مَنِ استصلح عدوَّه، زاد في عدده(3). وقال عليه السلام أيضا: مَنِ استصلح الأضداد،بلغ المراد(4).
وقال سبحانه و تعالى في سورة التغابن: «يا أيُّها الذين آمنوا إنّ مِن أزواجِكم وأولادِكم عَدُوّا لكم فاحذَرُوهم، و إن تَعفُوا و تَصفَحُوا و تَغفروا فإنّ
ص: 201
اللّه َ غفورٌ رحيم»(1).
فالزوجات والأولاد قد يحملون المرءَ على معاصي اللّه سبحانه و تعالى ، أو يَسعَون فيما يضرّ بدينه و دنياه، أو قد يتمنَّون موتَه ليرثوه، ولا يكون لهم في كثير من الأحيان إصلاحٌ ناجحٌ إلاّ بالعفو، وهنا قال تعالى : «فاحذَرُوهم» أي احذروا مِن أن يورّطوكم في دِينكم و دنياكم، ثمّ قال عزّ مِن قائل: «و إن تَعفوا» أي عنهم بترك عقابهم، «و تَصفحوا» أي تُعرِضوا عن توبيخهم، «و تغفروا» مافرط منهم، «فإنّ اللّه َ غفورٌ رحيم» أي يغفر لكم و يُنعم عليكم(2).
وفي العفو فرصةٌ للرجوع إلى الرشد، و إصلاحٌ للمخطئ، وثوابٌ للعافي عن أهله. وقد يتعجّب المرء كيف يكون العفو سببا للإصلاح و نحن نرى أنّ مَن يُعفى عنه يتمادى في غيّه، و مَن يأمنُ العقوبة يكرّر خطأَه و إساءتَه للأدب! و رفعا لهذا الإشكال سبق أن بيّنّا أنّ هناك مواقعَ لايجوز فيها العفو، ذلك إذا ترتّب على العفو ضَياعُ حقوق الآخرين أو هتكُ الحرمات مثلاً، أو كان العفو مشجِّعا للجاني على تكرار جناياته، لكنّ الأهل - والولد خاصّة - يحتاج إلى العفو أكثرَ من حاجته إلى العقوبة، ففي العفو فسحة من الوقت حتّى يبلغَ رُشدَه و تُروى عاطفتُه. وفي العفو إعانةٌ له على إعادة التجربة بنجاح.. قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: رَحِمَ اللّه ُ مَن أعانَ ولدَه على بِرِّه، وهو: أن يعفوَ عن سيّئتِه، ويَدعُوَ له في مابينَه و بين اللّه (3).يقول الشيخ محمّد مهدي النراقيّ في كتابه القيّم (جامع السعادات - باب الغَيرة): إذا بلغ (الولد) سِنَّ التمييز يُؤمَر بالطهارة و الصلاة و بالصوم
ص: 202
في بعض الأيّام من شهر رمضان، و يُعلَّم أصول العقائد و ما يحتاج إليه من حدود الشرع. و مهما ظهر منه خُلقٌ جميل أو فعلٌ محمود، فينبغي أن يُكرَم عليه و يُجازى لأجله بما يفرح به، و يُمدَح بين أظْهُر الناس. وإن ظهر منه فعلٌ قبيح مرّةً واحدة، ينبغي أن يُتغافَلَ عنه ولا يُهتَك سترُه، ولا يُظهَرَ له أن يتصوَّر أن يتجاسرَ أحدٌ على مِثْله، لا سيّما إذا سَتَره الصبيُّ واجتهد في إخفائه، فإنّ إظهار ذلك ربّما يفيده جسارةً حتّى لايبالي بالمكاشفة بعد ذلك، فإنْ عاد ثانيا إلى مثله فينبغي أن يُعاتَبَ عليه سِرّا، و يُعظَّم الأمر فيه، ويقال له: إيّاك أن يطّلع على فعلك هذا أحد فتفتضحَ عند الناس، و لا يُكثَر العتاب عليه حتّى يسقطَ وقعُ الكلام مِن قلبه(1).
وليس فقط مع الأولاد ينفع العفو في الإصلاح والتربية.. إنما هو وسيلة لتربية العبيد والخدم أيضا، ففي العفو فرصةٌ لا ستدراك الأمور، وللرجوع إلى مواقع الحقّ والخير والفضيلة. وفي العفو صيانة للكرامة، و جبرٌ لانكسار النفس وذلّتها وقلقها بسبب الرقّ، فاذا جُبِر كسر العبيد و بُنيت ثلمة الذلّة في أنفسهم و أحسُّوا بالكرامة، عادوا إلى سلامة شخصيّتهم، و نشأوا من جديد بلا عقدة تجعلُهم حانقين على الناس.
وفي السفر يحتاج المرء الكيّس إلى العفو؛ فإنّه يقضي أيّاما مع أُناسٍ يختلفون عنه في الأخلاق والأمزجة والتفكير، فما لم يسامحهم ويغضَّ النظر عن كثيرٍ من أقوالهم و أفعالهم، فإنّه سيتجرّع منهم إساءاتٍ كثيرة، و قد يتعذّر عليه إكمال سفره معهم، والسفرُ عناءٌ و مشقّة، فهو يحتاج إلى الصبر. يصفُ السفرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله فيقول: السفر قطعةٌ من العذاب، وإذا قضى
ص: 203
أحدُكم سفرَه فليُسرعِ الإيابَ إلى أهله(1). و يصفه الإمام عليّ عليه السلامفيقول: السفرُ أحد العذابيَن(2). السفر قطعة من العذاب، والرفيق السُّوء قطعةٌ من النار(3). وكلاهما صلوات اللّه عليهما و آلهما يدعوانِ إلى التعرّف على المسافر قبل السفر، فيقول النبيّ صلى الله عليه و آله: الرفيق.. ثمّ السفر(4). و يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: سَلْ عن الرفيق.. قبل الطريق(5). و لكن قد لايتسنّى للمسافر اختيار الرفيق، إنّما يُفرَض عليه، فما له من حيلةٍ إلاّ الصبر، و من الصبر أن يعفوَ عن إساءات صاحبه في طريقه.
* عن محمّد بن مسلم: قال أبو جعفر (الباقر) عليه السلام: ما يعبأ مَن يسلك هذا الطريق (أي طريق الحجّ) إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، وحِلْمٌ يملك به غضبَه، و حسنُ الصحبة لِمَن صَحِبه(6).
* و عن عمّار بن معاوية: قال أبو عبداللّه (الصادق) عليه السلام: وطِّنْ نفسَك على حُسن الصحابة لمَن صَحِبتَه في حُسن خُلُقِك، و كُفَّ لسانك، واكظمْ غيظَك، و أقِلَّ لَغْوَك، و تفرش عفوَك، و تسخو نفسك(7).
* و عن أبي ربيع الشاميّ قال: كنّا عند أبي عبداللّه (الصادق) عليه السلاموالبيت غاصٌّ بأهله، فقال: ليس منّا مَن لم يُحسِنْ: صُحبةَ مَن صَحِبه، و مرافقةَ مَن رافَقَه، و مُمالحةَ مَن مالَحَه، و مخالقةَ مَن خالَقَه(8).
ص: 204
ترويحا عن النفس، و جولةً أخرى في مشاعر الناس - خاصّةً الشعراء و الحكماء و أصحاب الذوق الاجتماعيّ - أحببنا أن نُورد في هذا الفصل جملةً من الحِكَم والأشعار التي تناقلها الناس في حقلَي: الأدب والحكمة حول «العفو».
وقد أوردنا ذلك - منتخبا ومختارا - من كتاب (محاضرات الأدباء، و محاورات الشعراء والبلغاء) لأبي القاسم حسين بن محمّد المعروف ب- «الراغب الإصفهانيّ» (المتوفّى في حدود سنة 425 هجريّة)؛ لنتعرّف على أنّ الأذواق والعقول والمشاعر والضمائر والأنفس.. كلّها ميّالة إلى حُسن العفو و ضرورته، وطِيب عوائده وفضائل نتائجه.
فإلى ذلك:
يأتيَ اللّه ُ بأمرِه»(1) و أدّب نبيَّه صلى الله عليه و آلهفقال: «خُذِ اِلعفوَ و أْمُرْ بالعُرفِ وأَعرِضْ عنِ الجاهلين»(2)، فلما علم أن قد قَبِل أدبَه قال: «و إنّكَ لَعلى خُلُقٍ عظيم»(3). وقال الأحنف: إيّاكم وحميّةَ الأوغاد، قيل: و ما حميّتهم؟ قال: يرَون العفوَ مَغرما، والبخلَ مغنما. وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف أو ما هو خير مِن الإنصاف؟ قال: وأيّ شيء خير من الإنصاف؟ قال: العفو، فالإنصاف ثقيل. وسُئل الجنيد عن الفتوّة فقال: العفو؛ بدلالة قوله تعالى : «ولْيعفوا ولْيصفحوا». وقيل: العفو عن المذنب زكاة النفس، وقيل: مِن كرم الأخلاق أن تغفر الذنب. من الموهوب، العفو عن الذنوب. الاحتمال قبر العيوب.
البحتريّ:
إذا أنتَ لم تضربْ عن الحقدِ لم تفُزْ***بشكرٍ، ولم تَسعدْ بتقريظِ مادحِ
قيل: لذّة العفو أَطيب من لذّة التشفّي؛ لأنّ لذّة العفو يَتْبعها حمد العاقبة، ولذّة التشفّي يتبعها الندامة. وقيل للإسكندر: أيّ شيء أَنت به أَسرُّ ممّا ملكت؟ قال: مكافاة مَن أَحسن إليّ فأُكثِر من إحسانه، و عفوي عمّن أساء بعد قدرتي عليه.
قال النبيّ صلى الله عليه و آله أَدرؤوا الحدودَ بالشُّبُهات.
ص: 206
قال أميرالمؤمنين عليّ كرّم اللّه وجهه: إذا قدرتَ على العدوّ فاجعل العفوَ شُكرَ قدرتك.
ظفر الإسكندر ببعض الملوك فقال له: ما أصنع بك؟ قال: ما يُجمِل بالكرام أن يصنعوه إذا ظفروا ! فخلّى سبيله وردّه إلى مملكته. ولمّا ظفر أنوشروان ببزرجمهر قال: الحمد للّه الذي أظفرني بك! فقال: كافئْ مَن أعطاك ما تحبّ بما يحبّ. و قيل ليوسف عليه السلام: بعفوك عن إخوتك عندَ قدرتك رُفع قَدرُك.
ذمّ المتشفّي من الغيظ
متى تُردِ الشفاءَ لكلِّ غيظٍ***تكنْ ممّا يُغيظك في ازديادِ
متى لم تتّسعْ أخلاقُ قومٍ***يضيقُ بها الفسيحُ مِن البلادِ
شاعر: ما أعظمَ الناسَ أحلاما إذا قدروا !
وقيل: عفوُ العزيز أعزُّ له.
آخر:
ما أحسنَ العفوَ من القادرِ***لاسيّما عن غيرِ ذي ناصرِ
أشجع:
يعفو عن الذنبِ العظيمُ***وليس يُعجِزهُ انتصارُه
صفحا عن الباغي عليه***وقد أَحاط به اقتدارُه
ص: 207
المتنبّي:
فتىً لا تسلبُ القتلى يَداهُ***ويسلبُ عفوُه الأسرى الوِثاقا
الممدوح بأنّه إن شاء صفح و إن شاء انتقم
الأعشى:
يقوم على الرغم في قومِهِ***فيعفو إذا شاءَ أو ينتقمْ
كثير:
حليمٌ إذا ما نال عاقبَ مُجمِلاً***أشدَّ العقابِ أو عفا لم يثربِ
عليّ بن الجهم:
يعاقب تأديبا ويعفو تطوّلاً***ويَجزي على الحسنى ويُعطي فيُجزِلُ
و قال آخر :
تسطو بعدلٍ و تعفو إن عفوتَ به***فلا عدِمْناك مِن عافٍ و مُنتقمِ
الحث على إقالة مَن سلم ظاهرُه
قال بعض الملوك: إنّما نملك الأجساد دون النيّات، و نحكم بالعدل لابالهوى، و نفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
البحتريّ:
إذا عدوُّك لم يُظهِرْ عداوَتَه***فما يَضرُّكَ إن عاداك إسرارا ؟!
و قال آخر:
إذا دحسُوا بالكرهِ فاعفُ تكرّما***وإن حبسوا عنك الحديثَ فلا تَسَلْ فإِنّ الذي يُؤذيك منه استماعُه***وإنّ الذي قالوا و راءك لم يُقَلْ
ص: 208
قد يهفو المرء ونيّته سليمة، ويزلّ و طريقته مستقيمة.
إبراهيم بن المهديّ:
ما إن عصيتُك والغواة تمدُّني***أسبابَها إلاّ بنيّةِ طائعِ!
ابن طباطبا:
أرى زلّتي كفرا فهل ليَ توبةٌ***وكم كافرٍ باللّه راجٍ لغفرانِهِ
فإن كنتُ فيالكفر الذي جئتُ مُكرَها***فما زال قلبي مطمئنّا بإيمانِهِ
الفرزدق:
فلستُ بمأخوذٍ بلَغْوٍ تقولُه***إذا لم تُعمِّده عاقداتِ العزائِمِ
قال النبيّ صلى الله عليه و آله: ألا أُخبركم بشراركم؟ مَن أَكل وحده، و ضرب عبدَه، و منع رِفده. ألا أخبركم بشرٍّ من ذلكم؟ مَن لا يقبل معذرة، ولا يُقيل عثرة.
شاعر:
موقحُ الوجه قليلُ الصفحِ***كلامُه مِثل عصيِّ الطَّلْحِ
البحتريّ:
تناسَ ذنوبَ قومِك إنّ حفظ الذْ***نوب إذا قَدِمَن مِن الذنوب
ِوقيل: الآثام، تدرسها الأيّام.
ص: 209
الاعتراف، يزول به الاقتراف. لا عتَبَ مع أقرار، ولا ذنبَ مع استغفار. المعترف بالجريرة، مستحقّ للغفيرة.
محمّد بن جابر :
إذا ما امرؤ مِن ذنبه جاء تائبا***إليك فلم تغفر له، فله الذنبُ
و قيل: التوبة، تغسل الحوبة.
قال كلثوم بن عمرو لصديق له أنكر ذنبا: إمّا أن تقرّ بذنبك فيكون إقرارك حجّة لنا إلى العفو، وإلاّ فطِبْ نفسا بالانتصار منك؛ فإنّ الشاعر يقول:
أقررْ بذنبك ثمّ اطلبْ تجاوزَنا***عنه، فإنّ جحود الذنبِ ذَنبانِ
قيل: يجب للحازم أن لا يتقدّم غفرانَه تعريفُ الجاني ما جنى، لئلاّ ينسب عفوه إلى الغفر و كلال حدّ الفطنة.
سوء الاعتذار، دليل على الإصرار
قال الشاعر:
لا ترجُ رجعةَ مُذنبٍ***خلطَ احتجاجا باعتذارِ
و قال آخر :
فلا أَنتَ أعتبتَ في زلّةٍ***ولا أَنتَ أغليتَ في المعذرةْ
ابن المعتزّ في كلام له: تجاوزْ عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقا؛ حتّى
ص: 210
اتّخذ من رجائك رفيقا. وقال الفضل بن مروان لرجل عاتبه: بلغني أنّك تبغضني! فلم ينكر الرجل وقال: أنت كما قال الشاعر :
فإنّك كالدنيا نذمُّ صروفَها***ونُوسِعُها ذمّا و نحن عبيدُها
أبو فراس:
إن لم تجافِ عن الذنو***بِ وجَدْتَها فينا كثيرةْ
لكنّ عادتك الجمي***لةَ أن تغضَّ على الجريرةْ
شاعر:
إن للاعتذارِ حظّا من العفو***يراه المقرُّ بالإنصافِ
ولَعَمْري لقد أَجلَّك مَن جا***ءَ مُقِرّا بذلّةِ الإعترافِ
الرّفاء:
فإن تعفُ عنّي تَعفُ عن غيرِ جاحدٍ***لِما كان، والإقرارُ بالذنبِ أروحُ
و قال آخر :
صفحا فلو شُقّ قلبي عن صفيحتهِ***لظلّ يُقرأ منه الخوفُ والندمُ
و قال آخر:
فلستُ بأوّلِ عبدٍ هفا***ولستَ بأوّلِ مولىً عفا
ما أعرف تقصيرا فأبلغ، ولا ذنبا فأعتب، ولكنّي أقول:
هَبْني أسأتَ كما زعمتَ***فأين عاقبة الأُخوّةْ ؟!
وإذا أسأتَ كما أسأ***تُ فأين فضلُكَ والمروّةْ ؟!
ابن نوقة:
وهَبْني، وما أجرمتُ، أجرمتُ كَلَّ***-ما أَتاك به الواشي فجُدْ باحتمالِهِ
ص: 211
ابن باذان:
إن أسأتُ فأين إحسانُكْ***وإن أفرطتُ فأين أفضالُكْ ؟!
و قال الشعبيّ لابن بسرة وقد كلّمه في قوم حبسهم: إن حبستَهم بالباطل فالحقّ يُخرجهم، و إن حبستهم بحقٍّ فالعفوُ يَسَعهم ! فأمر بإطلاقهم.
قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع، فهل على مَن لم يُذنب أكثر من الاعتذار؟
التنوخيّ:
إن كان إقراري بما لم أَجنِهِ***يُرضيك عنّي قلت: إنّي ظالمُ !
ابن الروميّ:
فسامحْ وليَّك إنّ الكريم***قد يتخادعُ للخادعِ
و قال :
و ما بك مِن غفلة إنّما***لفرطِ الحياءِ و فرطِ الكرَمْ
و بلغني أ نّ ركن الدولة كان يوما في الدار بحيث لا يُرى، فدخل فرّاش فرأى طاسا من ذهب ولم يكن بقربه أحد، فتناوله و خرج، فرآه ركنالدولة ولم يُعلِم به، فلمّا استقصى عليه الخدمُ قال: دَعُوه؛ فإنّ مَن أخذه لم يأخذه على أن يردّه، ورائيه لا يريد أن يذكره. فبعد ذلك كان الفرّاش يصبّ ماءً على يديه و عليه ثياب فاخرة، فقال ركن الدولة: هذه الثياب
ص: 212
من ذلك الطاس ! و كان الفرّاش جَلِدا فقال: نِعمَ أجرُ الأمير، و غير ذلك من أثر النعم. فعفا عنه.
الحثّ على استبقاء نعمة بإقالة عثرة
لا تطيّرْ وَسَنا عن مقلةٍ***أنتَ أَهديتَ لها حُلوَ الوَسَنْ
ابن نوقة:
أترضى بإلزام الدنيئة خادما***رجا في ذُراكم أن ينالَ المَعاليا
و قال روح بن زنباع: لاتُشمتنّ بي عدوّا أنت رقمتَه، ولاتسوءنّ بي صديقا أنت سررتَه، ولا تهد مَنّ ركنا أنت بَنيتَه.
استعفاء مَن زعم أنّ ذنبه كان خطأً أو نسيانا
قال النبيّ صلى الله عليه و آله: رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان. وقال غلام هاشميّ أراد عمُّه أن يجازيه بسهو منه: يا عمّ، إنّي قد أسأتُ وليس معي عقلي، فلا تُسئْ و معك عقلك!
أبو تمّام:
فإن يكُ سخطٌ عمَّ أو تَكُ هفوةٌ***على خطأمنّي فعُذري على عَمْدِ!
عليّ بن الجهم:
ألم ترَ عبدا عدا طورَه***و مولىً عفا و رشيدا هدى
ومُفسدَ أَمرٍ تلافيتَهُ***فعادَ وأَصلحَ ما أفسدا
المتنبّي:
وعين المخطئين همُ وليسوا***بأوّلِ معشرٍ خطأوا وتابوا
و ما جَهِلَتْ أياديكَ البوادي***ولكنْ ربّما جُهِل الصوابُ
ص: 213
اعتذر رجل إلى المنتصر فقال: أتراني أتجاوز بك حُكَم اللّه حيث يقول: «وليس عليكم جُناحٌ فيما أخطاتُم به ولكنْ ما تَعمّدتْ قلوبُكم و كان اللّه ُ غفورا رحيما»؟!(1)
الحسن بن وهب:
و عنديَ إغضاءٌ وعفوٌ عن الذي***يَزِلُّ إذا ما لم يكن ذاكَ عن عَمْدِ
أحمد بن أبي فنن:
أحينَ كثّرت حسّادي وساءهمُ***جميلُ فعلِك بي أَشْمتَّ حسّادي؟
فإن تكن هفوةٌ أو زلةٌ سلفتْ***فأنت أَولى بتقويمي و إرشادي!
عليّ بن الجهم:
فعفوُكَ عن مذنبٍ خاضعٍ***قرنتَ المقيمَ به المُقعَدا
إذا ادّرع اللّيلُ أَفضى به***إلى الصبحِ من قبلِ أَن يَرقُدا
قال هاشميّ للمأمون: مَن حصل له مثل دالّتي، و لَبِس ثوب حرمتي، ومَتّ بِمِثل قرابتي، و أَسلف مثل مودّتي، أُقيل له أعظمُ مِن عثرتي، و غُفر له فوق زلّتي، فقال: صدقت ! وعفا عنه.
ص: 214
شاعر:
أَيذهب يومٌ واحدٌ إن أَسأتُه***بصالحِ أَيّامي وحسنِ بلائيا؟!
و كفى بالحثّ على ذلك قولُ اللّه تعالى : «إنْ تجتنبوا كبائرَ ما تُنهَون عنه نُكفِّرْ عنكم سيّئاتِكم»(1).
إبراهيم الصوليّ:
أساؤوا وفيهم محسنونَ، فإِن تَهَبْ***لمحسنهم أهلَ الإساءة يَصلُحوا
أُتي معن بن زائدة بأسرى، فأمر بضرب أعناقهم، فقام غلام منهم فقال: أَنشدُك اللّه أيّها الأمير أن لا تقتلنا و نحن عطاش! فقال: اسقوهم. فلما شربوا قال: ناشدتك اللّه َ أن قتلتَ ضِيفانَك! قال: أحسنت! فخلّى سبيلهم.
همّ الأزارقة بقتل رجل فقال: أمهلوني لأركع! فنزع ثوبه و اتّزر ولبّى و أَظهر الإحرام، فخلَّوا سبيله، لقوله تعالى : «يا أيُّها الذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائرَ اللّه ِ ولاالشهرَ الحرام»(2).
ولمّا غشيَ أميرُ المؤمنين عليٌّ كرّم اللّه وجهَه عمرَو بن العاص طرح عمرو نفسه على الدابّة وتلقّاه بعورته، فأعرض عليٌّ عنه و قال: قبّحك اللّه!
ص: 215
شاعر :
لئن أُخفي حذاري عنك شخصي***لِما أرسلتُ مِن كفَّيَّ خيلَكْ
ولم أهرب على ثقةٍ وعلمٍ***بأنّي إن رميتُ أَفوت نَبلَكْ
ولكنيّ هربتُ على يقينٍ***بأنّك مُعمِلٌ في الحُكْم فضلَكْ!
أُتي محرّق بنساء فطلبن أن يعفوَ عنهنّ، فأبى، فقالت امرأة منهنّ: أطال اللّه سهادك، و أخمد رمادَك، فما قتلتَ إلاّ نساءً أعلاهُن ندى وأسفلُهن دِما، و ماأَدركتَ مَن قَتْلنا ثأرا، ولا محوتَ عن نفسك به عارا! فأمر بتخلية سبيلهنّ غيرَها وقال: إنّي لَأخشى أَن تلد مثلها!
غضب رجل على مولاه فقال: أَسألك باللّه إن علمتَ أنّي لَأطوعُ لك منك للّه، فاعفُ عنّي عفا عنك! فعفا عنه. وقال رجل لأمير غضب عليه: أَسألك بالذي أَنت أَذلّ بين يديه غدا منّي بين يديك إلاّ ماعفوتَ عني! فعفا عنه. وقال آخر لأمير يضربه: اضربْ بقدر ما تعلم أنّك تجثو عند القصاص يوم الجزاء! فعفا عنه.
جنى غلام للحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما، فأمر بعقابه، فقال: يامولاي، إنّ اللّه تعالى قد مدح قوما فكنْ منهم، فإنّه يقول: «والكاظمينَ
ص: 216
الغَيظ»! فقال: خلّوا سبيله. قال: وقد قال: «واللّه ُ يُحبُّ المحسنين!»(1)، قال: أنت حرُّ لوجه اللّه، ولك من المال كذا.
المتنبّي:
فاغفرْ فديتُك واحْبُني مِن بعدِها***لتخصَّني بهديةٍ منها أَنا
وقال:
رددتَ مالاً ولم تمنُنْ علَيّ به***وقبلَ ماليَ قِدما قد حقنتَ دمي!
المتوصّل إلى ذلك بالتثبّت إلى حين التبيّن
قال اللّه تعالى : «إنْ جاءَكم فاسقٌ بنبأفتَبيّنوا أن تُصيبوا قوما بجَهالةٍ فتُصبِحوا على فَعلتُم نادمين»(2).
وقيل لوالٍ: تأنّ؛ فإن التأنّي من الوالي صدقة.
وقال الشعبيّ لعبد الملك: إنّك على إيقاع ما لم تُوقع أقدرُ منك على ردِّ ما أوقعت. فأخذ هذا المعنى شاعرٌ فقال :
فداويتهُ بالحلمِ والمرءُ قادرٌ***على سهمهِ ما دام في يدِه السهمُ
المتنبّي:
ترفَّقْ أيُّها المولى عليهِم***فإنّ الرفقَ بالجاني عتابُ
رضي بعض الملوك عن رجل ثمّ أخذ يوبّخه، فقال: إن رأيتَ أن لا
ص: 217
تخدش وجه رضاك بالتثريب فافعل. وقيل: ماعفا عن الذنب من قرّع به! وقيل: العفو مع العَذل، أشدُّ من الضرب على ذي العقل، فرُبَّ قول، أنفذ من صَول، وعفوٍ أشدُّ من انتقام!
ابن نوقة:
إن كنتَ تعفو فاعفُ عفوَ مهنّئٍ***إحسانَه، إنّ الكريم وَهُوبُ
قلْ قولَ يوسُفَ حينَ قالَ لإخوةٍ***جاؤوه معتذرينَ: لا تثريبُ!
أوَ لا فعاقِبْني فليس بمنكَرٍ***مِن مثلِك التقويمُ والتأديبُ
وفيمن يعاقب ثمّ يعاتب قال شاعر :
إذا عُوقب الجاني على قَدْر جُرمِهِ***فتَعنيفُه بعدَ العقابِ مِن الرِّبا!
قال ابن طباطبا: كان جرى بيني و بين رجل كلام واحتملتُ عنه، ثمّ ندمتُ، فرأيت في المنام كأنّ شيخا أتاني فأنشدني:
أَنَدِمتَ حين صفحْتَ***عمّن قد أَساءَ وقد ظَلَمْ؟!
لا تندمَنّ فشرُّنا***مَن أتْبعَ الخيرَ الندَمْ
قيل في المثل: عذرُه أشدُّ مِن جرمه! ربُّ إصْرار، أحسن من اعتذار!
وقال آخر: أنْسَيْتَنا باعتذارك كلَّ عثارِك!
الخبزأرزيّ:
وكم مذنبٍ لمّا أتى باعتذارِه***جنى عذرُه ذَنْبا من الذَّنبِ أَعظما!
عليّ بن عبدالعزيز الجرجانيّ:
ص: 218
رُبَّ ذنبٍ يَنمى على العذر حتّى***يُبصِرَ الاحتجاجُ عنهُ يَشينُه
كمقالِ الجريء يزداد قُبحا *** كلّما ازدادَ منهمُ تحسينُه
قيل: إيّاك و ما يَسبق إلى القلوب إنكارُه، و إن كان عندك اعتذارُه، فما كلّ مَن يحكي عنك ينكر تطيق أن تُوسعه عذرا. وقيل: مَن وَثِق بحسن العذر وقع في الذنب.
الموسويّ:
و مَن قيّد الألفاظَ عند نزاعِها*** بقيدِ النُّهى أغنَتْه عن طلبِ العُذْرِ
صعوبة الاعتذار والحثّ على تركه***عليّ بن الجهم :
إنّ دون السؤالِ والإعتذارِ***خطّةً صعبةً على الأحرارِ
فارضَ للمذنبِ الخَضوعِ وللقا***رفِ ذَنْبا مَضاضةَ الإعتذارِ
الزبير:
تعالَوا نصطلحْ و تكون منّا *** معاودةٌ بلا عدِّ الذنوبِ
فإن أَحببتمُ قلتُم وقلنا *** فإنّ القلبَ أشفى للقلوبِ
إيّاك والعذر عمّا لم تَجْنِه، فالمعتذر من غير ذنب يُوجب على نفسهالذنب. وقيل: أحقُّ منزلةً بالاجتناب منزلة العذر؛ لأنّه يقف مواقف تهمة، وقلّما سَلِم مِن ظنّه. وقيل: الإغراق في العذر يحقّق التهمة، كما أنّ الإفراط في النصيحة يوجب الظِّنّة.
ص: 219
قال بعضهم: سكوتي عن التفسير، لاعترافي بالتقصير. وقال آخر: لستُ أعتذر إليك مِن الذنب إلاّ بإقلاعٍ عنه. و كتب كاتب: إن تركتُ الاعتذار فلِما قال الشاعر:
إذا لم يكن للعذر وجهٌ مبيَّنٌ *** فإنّ اطّراحَ العذرِ خيرٌ من العذرِ
شاعر :
قد يُلامُ البريءُ من غيرِ ذنبٍ *** وتُغطّى من المسيء الذنوبُ
البحتريّ:
إذا محاسني اللاّتي أدلُّ بها *** كانت ذنوبي، فقل لي: كيف
أعتذرُ؟!
و في المَثَل: رُبَّ ملومٍ لا ذَنْبَ له.
شاعر :
و كم من موقفٍ حَسَنٍ أُحيلتْ *** محاسنُه فعُدَّ مِن الذنوبِ
قيل: من لا يصلحه الطالي أصلحه الكاوي. مَن كان الإكرام له مفسدة،لم تكن الزيادة فيما يفسده له مصلحة. جنِّبْ كرامتك اللِّئام، فإنّك إن أحسنتَ إليهم لم يشكروا، و إن نزلَتْ بهم شدّة لم يصبروا.
آخر :
إن اللّئيمَ إذا رأى *** لِينا تزايد في حِرانِهْ
ص: 220
لا تكذِبنْ فصلاحُ مَن *** جهِلَ الكرامةَ في هوانِهْ
قال اللّه تعالى : «ولكُم في القِصاصِ حياةٌ يا أُولي الألباب»(1). و قال:«فَمَنِ اعتذى عليكُم فاعتدوا عليه بمِثْلِ ما اعتدى عليكم»(2). و جاء أعرابيّ إلى ابن عبّاس فقال: أتخاف علَيّ جناحا إن ظلمني رجل فظلمتُه؟ فقال ابن عبّاس: «و أَن تَعفُوا أقربُ للتقوى»(3)، «وَلَمَنِ انتَصَر بعدَ ظُلمِه فأولئك ماعليهم مِن سبيل»(4).
ص: 222
و أخيرا.. و نحن عند آخر وقفةٍ أمام موضوع العفو، نعود مرّةً أخرى إلى الآية الشريفة، وهي قوله تعالى : «ولْيَعفُوا ولْيَصْفَحُوا، ألاَ تُحبّون أن يغفِرَ اللّه ُ لكُم واللّه ُ غفورٌ رحيم؟!»(1).
حيث دعانا الباري جلّ وعلا إلى العفو عن إخواننا المؤمنين، والصفح عنهم بترك الملامة والعتاب والتوبيخ، حتّى يُدركوا إساءتهم ويؤوبوا إلى حُسن أخلاقهم. ثمّ ذكّرنا سبحانه وتعالى بهذا الأسلوب المُنبِّه المشوِّق: «ألاَ تُحبّون أن يَغفِرَ اللّه ُ لكم؟!»، فمَن منّا مَن لم يَعصِ و يُذنبْ؟ و مَن مِنّا بعد ذلك مَن لايُحبّ أن يُغفرَ له عن ذنوبه و معاصيه؟!
إذن.. لماذا لا نحبّ لإخواننا - من العفو عنهم - ما نحبُّه لأنفسنا - من عفوِ ربّنا عنّا؟! ولماذا لانعفو عنهم كي يعفوَ اللّه ُ سبحانه عنّا؟! أجل.. لماذا لانرجو عفوَ اللّه جلّ وعلا بالعفو عن عباده المساكين، وهو العفوُّ الكريم، والغفورُ الرحيم، وهو الأَولى بالعفو، و أهل المغفرة والرحمة، و العفو مرجوٌّ منه.. وهو المنعوتُ به:
* جاء في المناجاة الشعبانيّة لأميرالمؤمنين عليه السلام قولُه: إلهي، أنَا عبدٌ أتنصّلُ إليك ممّا كنتُ أُواجِهُك به مِن قلّةِ استحيائي من نظرِك، و أطلب
ص: 223
العفوَ منك إذ العفوُ نعتٌ لكَرَمِك..(1)
*وفي صحيفته السجّاديّة المباركة.. يدعو الإمام عليُّ بن الحسين عليه السلام في تضرّعه وطلب العفو مِن ربّه تبارك و تعالى فيقول :
أنت الذي وَسِعتَ كلَّ شيءٍ رحمةً و عِلْما، و أنت الذي جعلتَ لكلِّ مخلوقٍ في نعمتِك سَهما، و أنت الذي عفوُه أعلى مِن عقابه، وأنت الذي تسعى رحمتُه أمامَ غضبهِ.. أنت الذي وصفتَ نفسَك بالرحمة، فصلِّ على محمّدٍ و آله وارحمْني، و أنت الذي سمّيتَ نفسَك بالعفو، فاعفُ عنّي..(2)
أجل ياربّ.. أنت دعوتَنا إلى العفو، و أنت أهلٌ له و أَولى به، وقد كان ما كان منّا من الخطايا و الآثام، و كان ما كان منك مِن العفو والغفران؛ لذا نحن ندعو بدعاء الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهماالسلام فيخاطبُك كلُّنا بلسانه الشريف: اللّهمَّ إنّك طالبي إنْ أنَا هربتُ، و مُدرِكي إن أنَا فررتُ، فها أنَا ذا بين يَديْك، خاضعٌ ذليل راغم، إنْ تُعذِّبني فإنّي لذلك أهل، وهُو ياربِّ منك عَدْل، و إن تَعفُ عنّي فقديما شمَلَني عفوك و ألْبَسْتَني عافيتَك..(3)
يا إلهَنا وسيّدَنا ومولانا.. أنت دعوتَنا إلى أن يعفوَ بعضُنا عن بعض، و أنت المرجوُّ لأن تعفوَ عنّا جميعا.. نسألك ذلك بما دعاك به زينُ العابدين و سيّد الساجدين عليُّ بن الحسين صلواتك اللّه عليه حيث قال: إلهي، لو سألتَني حسناتي لَوهَبتُها لك مع فَقري إليها و أنا عبد، فكيف لاتَهبُ لي سيّئاتي مع غِناك عنها وأنت ربّ! إلهي أمرتَنا أن نعفوَ عمّن ظَلَمَنا، وقدظَلَمْنا أنفسَنا، فاعفُ عنّا..(4) وندعوك بما دعاك سلامك عليه في أسحار
ص: 224
شهر رمضان حيث ناجاك يقول: اللّهمّ إنّك أنزلتَ في كتابك العفو و أمَرْتَنا أن نعفوَ عمّن ظَلَمَنا، وقد ظَلَمْنا أنفسَنا فاعفُ عنّا، فإنّك أَولى بذلك منّا، و أمَرتَنا أن لا نَرُدَّ سائلاً عن أبوابنا، و قد جئتُك سائلاً فلا تَرُدَّني إلاّ بقضاء حاجتي، و أمَرْتَنا بالإحسانِ إلى ما ملكَتْ أيمانُنا، و نحن أرقّاؤُك، فأعتِقْ رقابَنا من النار..(1).
وندعوك سيّدَنا ومولانا بما دعاك الإمام عليُّ بن الحسين عليه السلام مرّة أخرى لدى كلِّ يوم سبت فقال: الحمدُ للّه الذي قَرَن رجائي بعفوِه، وفسَحَ أملي بحُسنِ تجاوزه و صفحِه.. اللّهمّ إنّي أسألك سؤالَ معترفٍ بذنبه، نادمٍ على اقترافِ تَبِعتِه، و أنت أَولى مَن اعتُمِد و عفا، و جاد بالمغفرةِ على مَن ظَلَم و أساء، فقد أوبقَتْني الذنوبُ في مَهاوي الهلَكة، و أحاطتْ بيَ الآثام، و بَقِيتُ غيرَ مُستَقِلٍّ بها، و أنت المرتجى وعليك المُعَوَّلُ في الشدّة والرجاء،و أنت ملجأُ الخائفِ الغريق، و أرأفُ مِن كلِّ شفيق.. فلا تَرُدّ - سيّدي - توجّهي بمَن توجّهت، أتخذُلُني ربّي و أنت أملي، أم تَرُدُّني صِفرا من العفو و أنت منتهى رغبتي؟!(2).
* وتلك أبياتٌ نُسِبت إلى الإمام زين العابدين عليه السلام قد أنشدها وهو متعلّق بأستار الكعبة، يخاطب بها ربَّه الجليل سبحانه تبارك وتعالى:
يا من يُجيب دُعا المُضطرِّ في الظُّلَمِ***يا كاشفَ الضُّرِّ والبلوى مع السَّقَمِ
قد نامَ وفدُك حولَ البيتِ قاطبةً***وأنت وحدَك يا قيّومُ لم تَنَمِ
أدعوك ربِّ دعاءً قد أُمِرتُ بهِ***فارحمْ بكائي بحقِّ البيتِ والحَرَمِ
ص: 225
إن كان عفوُك لا يَرجوهُ ذو سَرَفٍ***فمَن يجودُ على العاصينَ بالنِّعَمِ؟!(1)أجلْ يا إلهَنا و سيّدنا، فإنْ لم تعفُ عنّا ونحن العاصون، فمَن يعفو عنّا؟! و إلى أين نُيمّم وجوهنا؟! و مَن نرجو غيرَك يا سيّدنا؟! وإلى أين نذهب بخطيئاتِنا؟! وهل غيرك يا إلهنا يغفرُها و أنت الذي سميّتَ نفسَك بالعفوِّ الغفورِ الرحيم؟! و أنت الذي عفوُك أسبقُ مِن عقابك، و حلمُك أغلبُ مِن غضبِك، ورحمتُك أعلى مِن نقمتِك.. و نحن المذنبون، و لعفوك راجون، و مِن عذابِك وَجِلون، وإليك مِن سخطك لاجئون، ولمحوِ ذنوبنا بصفحك طالبون.. وكلُّنا مقرٌّ قائل بلسان الاعتراف:
أنا مذنبٌ.. أنا مخطئٌ.. أنا عاصي***هو راحمٌ.. هو غافرٌ.. هو كافي
قابلتُهنّ ثلاثةً بثلاثةٍ *** ولَتَغلِبَنْ أوصافُه أوصافي
* ولقد رُئي أبو نؤاس الحقّ(2) في المنام بعد وفاته، فقيل له: ما فعَلَ اللّه ُ بك؟! فقال: غفرَ لي و تجاوزَ عنّي؛ لبيتين قلتُهما قبل موتي، و هما :
مَن أنَا عندَ اللّه ِ حتّى إذا***أذنبتُ لايغفرُ لي ذَنْبي؟!
العفوُ يُرجى مِن بني آدمٍ***فكيف لا أرجوه مِن ربّي؟!(3)
* وحدّث محمّدُ بن رافع الناسك قال: كنت صديقا لأبي نؤاس، فلمّا تُوفّي جزعتُ عليه مِن عذاب اللّه، فرأيتُه في المنام على هيئهٍ حسنة، فقلت له: ما فعَلَ اللّه ُ بك؟! فقال: غفرَ لي لأبياتٍ قلتُها، قلت: و ماهي؟ قال: هي عند أُمّي.
ص: 226
فلمّا أصبحتُ.. مضيتُ إلى أُمّه فأخبرتُها بما رأيت، وسألتها عن الأبيات، فأحضرتْ كتابا مكتوبا فيه بخطّه:
ياربِّ إن عظُمتْ ذنوبي كثرةً ***فلقد علمتُ بأنّ عفوَك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلاّ محسنٌ *** فبِمَن يلوذ ويستجيرُ المجرمُ؟!
أدعوك ربِّ - كما أمرتَ - تضرّعا *** فإذا رددتَ يدي.. فمَن ذا يَرحَمُ؟!
مالي إليك وسيلةٌ إلاَّ الرَّجا***وجميلُ عفوِك ثمّ إنّي مسلمُ(1)
إلهنا، إنّما المعوّل على رحمتك، فليس عندنا من العمل ما نستحقّ به نعمتَك، إنّما لدينا من الرجاء بك ما يُنعش الأملَ في قلوبنا، إذ عَلِمْنا أنّك أنت العفوّ، و نحن تائبون إليك، وراجون العفو منك نعوِّله عليك، و نناجيك بما ناجاك حبيبُك أمير المؤمنين عليه السلام: إلهي إنْ أخَذْتَني بجُرمي أخَذْتُك بعفوِك، و إن أخَذْتَني بذنوبي أخذتُك بمغفرتِك..(2).
ويحقّ للشاعر أن يخاطبَ اللّه َ جلّ وعلا فيقول له:
ولمّا قسا قلبي و ضاقت مذاهبي***جعلتُ الرَّجا منّي لعفوِك سُلَّما
تعاظَمَني ذنبي.. فلمّا قَرنْتُه***بِعفوِك ربيّ كان عفوُك أعظما
و ما أفخر ما نُسِب إلى أمير المؤمنين عليه السلام في مناجاته للّه تبارك و تعالى على هيئة أبيات رائقة الشعر، منها :
إلهي وخلاّقي و حِرْزي و مَوئلي *** إليك لدى الإعسار واليُسْرِ أفزعُ
إلهي لئنْ جلّتْ و جمّتْ خطيئتي *** فعفوُك عن ذنبي أجلُّ و أوسعُ
ص: 227
إلهي لئن أعطيتُ نفسيَ سُؤْلَها***فها أنا في أرض الندامةِ أرتعُ
إلهي ترى حالي و فقري وفاقتي***وأنتَ مناجاتي الخفيّةَ تسمعُ
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تُزِغْ***فؤادي.. فلي في سَيبِ جودِك
مَطْمعُ***إلهي لئن خيّبتَني أو طردتني
فمَن ذا الذي أرجو و مَن ليَ يَشفَعُ؟!***إلهي لئن عذّبتَني ألفَ حِجّةٍ
فحبلُ رجائي منك لا يتقطّعُ***إلهي أذِقْني طعمَ عفوِك يومَ لا
بنونَ ولا مالٌ هنالك ينفعُ***إلهي إذا لم تعفُ عن غيرِ محسنٍ
فمَن لمُسيءٍ بالهوى يتمتّعُ***إلهي لئن فرّطتُ في طلب التُّقى
فها أنا إثْرَ العفوِ أقفو و أتْبعُ***إلهي لئن أخطأتُ جهلاً فطالما
رجوتُكَ حتّى قيل: هاهو يَجزَعُ!***إلهي ذنوبي جازتِ الطَّودَ واعتلَتْ
وصفحُك عن ذنبي أجلُّ و أرفعُ***إلهي أنِلْني منك رَوحا ورحمةً
فلستُ سوى أبواب فضلِك أقرعُ***إلهي لئن أقصَيتَني أو طردتَني
فما حيلتي ياربِّ أم كيف أصنعُ؟!***إلهي حليفُ الحبِّ باللّيل ساهرٌ
ينادي ويدعو.. والمغفَّل يهجعُ***وكلُّهمُ يرجو نوالَك راجيا
لرحمتك العظمى و في الخُلدِ يَطْمَعُ***إلهي يُمنّيني رجائي سلامةً
وقبحُ خطيئاتي علَيّ يُشنِّعُ***إلهي فإن تعفو فعفوُك منقذي
وإلاّ فبالذنبِ المُدَمِّرِ أُصرَعُ!***إلهي بحقّ الهاشميِّ و آلِه
وحرمةِ إبراهيمٍ خليلِك أضرعُ***إلهي فأنشرْني على دينِ أحمدٍ
تقيّا.. نقيّا.. قانتا لك أخشعُ***ولا تَحرِمَنّي يا إلهي و سيّدي
شفاعتَه الكبرى.. فذاك المُشفَّعُ!***وصلِّ عليه مادعاك موحِّدٌ
وناجاك أخيارٌ ببابِك رُكَّعُ(1)
ص: 228
ونبقى - سيّدَنا و مولانا، و ربَّنا وإلهنا - ندعوك بكلِّ دعاءٍ يطلب العفوَ منك، ولانيأس من رحمتك، ونقول ما دعاك به الصالحون أولياؤك المخلصون: إلهي، إن عفوتَ فمَن أَولى منك بذلك، و إن كان قد دنا أجلي، ولم يُدْنِني منك عملي، فقد جعلتُ الإقرارَ بالذَّنْبِ إليك وسيلتي..
إلهي كيف آيَسُ مِن حُسْن نظرِك لي بعد مماتي، و أنت لم تُولِني إلاّ الجميل في حياتي؟.. إلهي اعتذاري إليك اعتذارُ مَن لم يستغنِ عن قَبولِ عذره، فاقبلْ عُذْرِي يا أكرمَ مَنِ اعتذر إليه المُسيئون..»(1).
«عَظُم يا سيّدي أملي، وساءني عملي، فأعطِني مِن عفوِك بمقدارِ أملي، ولا تُؤاخِذْني بأسوأ عملي؛ فإنّ كرمك يَجِلُّ عن مجازاة المذنبين، و حِلْمَك يَكبُرُ عن مكافاة المقصّرين... يَحمِلُني و يُجرّئُني على معصيتِك حِلمُك عنّي، ويدعوني إلى قلّة الحياءِ سَترُك علَيّ، ويُسرعُني إلى التوثّبِ على محارمك معرفتي بسَعةِ رحمتِك و عظيم عفوِك، يا حليمُ يا كريم، يا حيُّ يا قيّوم، يا غافرَ الذَّنْب، يا قابلَ التَّوْب، يا عظيمَ المَنّ يا قديمَ الإحسان، أين سَترُك الجميل، أين عفوُك الجليل؟!..(2).
اللّهمَّ صلِّ على محمّدٍ و آله، و اكسرْ شهوتي عن كلِّ مَحْرم، وازْوِ حرصي عن كلِّ مَأثم، و امنعني من أذى كلِّ مؤمنٍ و مؤمنة، و مسلمٍ و مسلمة. اللّهمَّ و أيُّما عبدٍ نال مني ما حَظَرْتَ عليه، و انتهكَ منّي ما حَجَرْتَ عليه، فمضى بظُلامتي ميّتا، أو حصلَتْ لي قِبَلَه حيّا، فاغفرْ له ماألمَّ به منّي، و اعفُ له عمّا أدبرَ به عنّي، ولا تَقِفْه على ما ارتكب فِيّ، ولا تكشِفْه عمّا اكتسبَ بي. واجعلْ ما سمحتُ به مِن العفو عنهم، و تبرّعتُ به
ص: 229
من الصدقة عليهم، أزكى صدقاتِ المتصدّقين، و أعلى صِلاتِ المتقرّبين، و عوِّضْني عن عفوي عنهم عفوَك، و مِن دعائي لهم رحمتَك، حتّى يَسْعَدَ كلُّ واحدٍ منّا بفضلِك، وينجوَ كلٌّ منّا بمَنِّك..».(1)
عفا اللّه عنكم وعنّا؛ بعفونا عن بعضنا، اللّهمّ اغفر لنا وارحَمْنا، و عافِنا واعفُ عنّا، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، و صلِّ اللّهمَّ على محمّدٍ الصادقِ المصطفى الأمين، وعلى آله الطيّبينَ الطاهرينَ الميامين.
ص: 230
- القرآن الكريم.
- آداب النفس: السيّد محمّد العيثانيّ (ق11 ه)، تحقيق: السيّد كاظم الموسويّ الميامويّ، نشر: المكتبة الرضوية - طهران 1380ه .
- الإرشاد: الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغداديّ (ت413ه)، منشورات مكتبة بصيرتى - قمّ.
- إعلام الدين في صفات المؤمنين: الحسن بن أبي الحسن الديلميّ (ق8ه)، تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلاملإحياء التراث - قمّ 1414ه
- إعلام الورى بأعلام الهدى: الشيخ الطبرسيّ أبو عليّ الفضل بن الحسن (ق6ه)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قمّ 1417ه
- أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين العامليّ (ت 1371ه)، مطبعة ابن زيدون - دمشق ط 3 سنة 1370ه
- إقبال الأعمال: رضيّ الدين أبوالقاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس (ت 664ه)، دارالكتب الإسلاميّة - طهران ط 2 سنة 1390ه
- أمالي الشيخ المفيد: محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغداديّ (ت1413ه)، منشورات المطبعة الحيدريّة - النجف الأشرف.
ص: 231
- أمالي الصدوق: أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ(ت381ه)، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت 1400ه / 1980م.
- أمالي الطوسيّ: أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت460ه)، مؤسّسة الوفاء - بيروت 1401ه / 1981م.
- بحارالأنوار: الشيخ محمّد باقر المجلسيّ (ت1111ه)، دار إحياء التراث العربيّ - بيروت 1403ه / 1983م.
- بصائرالدرجات: أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار القمّيّ (ت290ه)، منشورات مكتبة السيّد المرعشيّ النجفيّ - قمّ المقدّسة 1404ه
- البلد الأمين: الشيخ تقيّ الدين إبراهيم بن زين الدين عليّ الحارثيّ الهمدانيّ العامليّ الكفعميّ (ت905 ه) قمّ.
- تاريخ بغداد: أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ (ت463ه)، مكتبة الخانجيّ بالقاهرة، والمكتبة العربيّة ببغداد، و مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر ط1سنة 1349ه / 1931م.
- تاريخ الطبريّ (تاريخ الأمم و الملوك): أبو جعفر محمّد بن جرير بن يزيد الطبريّ (ت310ه)، دارالتراث - بيروت.
- تحف العقول عن آل الرسول: الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّانيّ (ق4 ه)، منشورات مؤسّسة الأعلميّ - بيروت 1394ه/ 1974م.
- تفسيرالإمام العسكريّ عليه السلام: الامام الحسن بن عليّ العسكريّ (ت260ه)، تحقيق و نشر: مدرسة الإمام المهديّ عليه السلام - قمّ 1409ه
- تفسير شُبّر: السيّد عبداللّه شبّر (ت1242ه)، مؤسّسة دارالهجرة - قمّ
ص: 232
ط 2 سنة 1412ه
- تفسير العيّاشيّ: أبو النضر محمّد بن مسعود بن عيّاش السَّلَميّ السمرقنديّ (ق3ه)، تحقيق: السيّد هاشم الرسوليّ المحلاّتيّ، نشر: المكتبة العلميّة الإسلاميّة - طهران 1380ه
- تنبيه الخواطر و نزهة النواظر (مجموعة ورّام): أبو الحسين ورّام بن أبي فراس المالكيّ الأشتريّ (ت605ه)، دار صعب و دار التعارف - بيروت.
- ثواب الأعمال و عقاب الأعمال: الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ (ت381ه)، دار نشر الرضيّ - قم 1986م.
- جامع الأخبار: محمّد بن محمّد السبزواريّ (ق7ه)، تحقيق علاء آل جعفر، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم 1414ه
- جامع السعادات: محمّد مهدي النراقي (ت1209ه)، منشورات جامعة النجف الدينيّة ط3 - مطبعة النجف الأشرف 1383ه/ 1963م.
- الخرائج و الجرائح: أبو الحسين قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراونديّ (ت573ه)، دار نشر مصطفويّ - قمّ.
- الخصال: الشيخ الصدوق، منشورات جماعة المدرّسين التابعة للحوزه العلميّة، بقمّ 1403ه
- الدرّة الباهرة من الأصداف الطاهرة: أبو عبداللّه محمّد بن الشيخ جمال الدين مكّي بن محمّد العامليّ النبطيّ الجزّينيّ (الشهيد الأوّل) (786ه)، تحقيق: داود صابري، نشر: مؤسّسة طبع ونشر الآستانة الرضويّة المقدّسة - مشهد المقدّسة 1985م.
ص: 233
- دلائل الإمامة: أبو جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبريّ الإماميّ (ق4ه)، طبع منشورات الشريف الرضي - قم، بالأوفسيت عن طبعة المطبعة الحيدرية - النجف الإشرف 1383ه/ 1963م.
- سفينة البحار و مدينة الحِكَم والآثار: المحدّث الشيخ عبّاس القمّيّ (ت1359ه)، تحقيق: مجمع البحوث الإسلاميّة، طبع: مؤسّسة الطبع والنشر فيالآستانة الرضويّة المقدّسة - مشهد المقدّسة، ط 1 سنة 1416ه
- سنن ابن ماجة: أبو عبداللّه محمّد بن يزيد القزوينيّ (ت275ه)، دار الفكر - بيروت.
- سنن الترمذيّ: أبو عيسى محمّد بن سَورة الترمذيّ (ت279ه)، دار الفكر - بيروت 1400ه/ 1980م.
- سِيَر أعلام النبلاء: محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ (ت748 ه)، مؤسّسة الرسالة - بيروت ط2سنة 1402ه
- السيرة النبويّة (سيرة ابن هشام): أبو محمّد عبد الملك بن هشام الحِمْيريّ (ت213 أو 218ه)، طبع دار إحياء التراث العربيّ - بيروت 1985م.
- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزليّ، أبو حامد عبدالحميد بن هبة اللّه (ت655ه)، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربيّة - مصر ط 1سنة 1378ه/ 1959م.
- الصحيفة السجّاديّة الجامعة: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام (ش90ه)، جمع: السيّد محمّد باقر الأبطحيّ، نشر و تحقيق: مؤسّسة الإمام المهديّ(عج) - قمّ 1411ه
- الصحيفة السجّاديّة الخامسة: الإمام السجّاد عليّ بن الحسين
ص: 234
عليهما السلام (ش95ه)، جمع: السيّد محسن الإمين العامليّ (ت1371ه)، منشورات مكتبة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام العامّة - أصفهان 1330ه
- الصحيفة السجّاديّة المباركة: الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام (ش 95ه)، دار الجيل المسلم - قمّ.
- صفة الصفوة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ (ابن الجوزيّ) (ت597ه)، دار المعرفة - بيروت ط 4سنة 1406ه/ 1986م.
- عُدّة الداعي و نجاح الساعي: أحمد بن فهد الحلّيّ (ت841ه)، دار الكتاب الإسلاميّ - إيران ط 1 سنة 1407ه/ 1987م.
- العُدد القويّة لدفع المخاوف اليوميّة: الشيخ رضيّ الدين عليّ بن سديد الدين يوسف بن عليّ بن مطهَّر الحلّيّ (ق8ه)، مكتبة السيّد المرعشي - قمّ 1408ه
- علل الشرائع: أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين (الشيخ الصدوق) (ت381ه)، طبع: المكتبة الحيدريّة في النجف الأشرف.
- عيون أخبار الرضا عليه السلام: الشيخ الصدوق، طبع المكتبة الحيدريّة، في النجف الأشرف 1390ه/ 1970م.
- غرر الحِكَم و درر الكَلم: جمع: عبدالواحد محمّد التميميّ الآمديّ (ت510ه)، مكتب الإعلام الإسلاميّ في الحوزة العلميّة - قمّ 1988م.
- الفروق اللّغويّة: أبو هلال العسكريّ (ق4 ه)، مكتبة القدسيّ - القاهرة 1353ه
- قرب الإسناد: أبو العبّاس عبداللّه بن جعفر الحِميريّ القمّيّ (من أصحاب الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام)، إصدار: مكتبة نينوى
ص: 235
الحديثة - طهران.
- الكافي: أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ الرازيّ (ت329ه)، منشورات المكتبة الإسلاميّة - طهران 1388ه
- الكامل في التاريخ: ابن الأثير عزّ الدين عليّ بن أبي الكرم الشيبانيّ، طبعة دار صادر ودار بيروت - لبنان 1385ه/ 1965م.
- كتاب المؤمن: الحسين بن سعيد الكوفيّ الأهوازيّ (من أصحاب: الرضا والجواد والهادي عليهم السلام)، تحقيق و نشر: مدرسة الإمام المهديّ عليه السلام - قم المقدّسة 1404ه
- كشكول الشيخ البهائيّ: الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين المعروف ب (الشيخ البهائيّ) (ت 1030ه)، مطبعة الحكمة - قمّ 1377ه
- كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: أبوالحسن عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الإربليّ (ت693ه)، نشر: مكتبة بني هاشم - تبريز (إيران) 1381ه
- كنزالعمّال في شتّى الأقوال والأفعال: علاءالدين المتّقي بن حسام الدين الهنديّ (ت975 ه)، مؤسّسة الرسالة - بيروت ط 5 سنة 1405ه/1985م.
- كنزالفوائد: أبوالفتح محمّد بن عليّ بن عثمان الكراجكيّ الطرابلسيّ (ت449ه)، دارالأضواء - بيروت 1405ه/ 1985م.
- مجمع البيان في تفسير القرآن: الشيخ أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ (ت548ه)، منشورات مكتبة السيّد المرعشيّ - قمّ 1403ه
- المحاسن: أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ (ت274ه)، دار الكتب الإسلاميّة - قمّ 1371ه
- محاضرات الأدباء و محاورات الشعراء والبلغاء: أبو القاسم حسين
ص: 236
بن محمّد (الراغب الأصفهانيّ) (ت حدود 425ه) انتشارات مكتبة الحيدريّة - قمّ ط 1 سنة 1416ه
- محمّد رسول الإسلام في نظر فلاسفة الغرب و مشاهير علمائه و كتّابه: محمّد فهمي عبدالوهّاب، دارالاعتصام، دار العلوام للطباعة - القاهرة ط 2 سنة 1399ه/ 1979م.
- المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء: محمّد بن المرتضى الموعوّ بالمولى محسن الكاشانيّ (ت1091ه)، جماعه المدرّسين في الحوزة العلميّة - قمّ ط 2 سنة 1383ه
- مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل: الميزرا حسين النوريّ، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام - قمّ 1407ه
- مسكّن الفؤاد: الشهيد الثاني زين الدين عليّ بن أحمد الجبعيّ العامليّ (965ه)، تحقيق و نشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قمّ ط 1 سنة 1407ه
- مسند أحمد بن حنبل: أحمد بن محمّد بن حنبل الشيبانيّ (ت241ه)، دار إحياء التراث العربيّ - بيروت 1412ه/ 1991م.
- مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: أبو الفضل عليّ الطبرسي (ت ق 7 ه)، منشورات المكتبة الحيدريّة - النجف الأشرف ط 2 سنة 1385ه/ 1965م.
- مصباح الشريعة: الإمام جعفر الصادق عليه السلام (ش 148ه)، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت 1400ه
- مصباح المتهجّد و سلاح المتعبّد: الشيخ الطوسيّ محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت460ه)، مؤسّسة فقه الشيعة - بيروت ط 1 سنة 1411ه/
ص: 237
1991م.
- مطالب السَّؤول في مناقب آل الرسول: كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعيّ (654ه)، الطبعة الحجريّة - طهران.
- معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين - قم 1379ه
- مكارم الأخلاق: الشيخ رضيّ الدين أبو النصر الحسن بن الفضل الطبرسيّ (ق 6ه)، مؤسّسة الأعلميّ - بيروت ط 6 سنة 1392 ه/ 1972م.
- مَن لايحضره الفقيه: الشيخ الصدوق، ط 5 لدار الكتب الإسلامية - طهران 1390ه، بتحقيق و تعليق السيّد حسن الموسويّ الخرسان.
- مناقب آل أبي طالب: أبو جعفر رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندرانيّ (ت 588ه)، دار الإضواء - بيروت ط 2 سنة 1412ه/ 1991م.
- الميزان في تفسير القرآن: السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، (ت1402ه)، مؤسّسة إسماعيليان - قمّ 1393ه/ 1973م.
- النصّ والاجتهاد: السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسويّ (ت 1377ه)، قسم الدرسات الإسلاميّة - طهران ط 2 سنة 1408ه
- النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير أبو الحسن عليّ بن أبي الكرم الشيبانيّ (ت 630ه)، منشورات إسماعيليان - قمّ ط 4 سنة 1986م.
- نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار: مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجيّ (ق13ه)، منشورات الشريف الرضيّ - قمّ.
- نهج البلاغة: مجموع ما اختاره الشريف الرضيّ (ت 404ه) من كلام
ص: 238
أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام (ش40ه)، ضبط: صبحي الصالح، دار
الكتاب اللبنانيّ - بيروت 1387ه
- نوادر الراونديّ: السيّد أبو الرضا فضل اللّه بن عليّ بن هبة اللّه الروانديّ الحسينيّ (ت547ه)، منشورات المطبعة الحيدريّة - النجف الإشرف ط 1 سنة 1370ه/ 1951م.
- وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة: الشيخ الحرّ العامليّ محمّد بن الحسن (ت1104ه)، طبع و تحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام- قمّ 1416ه
ص: 239