المقداد ابن الاسود الکندی اول فارس فی الاسلام

اشارة

المقداد ابن الاسود الکندی اول فارس فی الاسلام

تالیف: شیخ محمد جواد آل الفقیه

دارالتعارف للمطبوعات

بیروت - لبنان

زبان: عربی

تعداد صفحات : 188ص

ص: 1

اشارة

المقداد ابن الاسود الکندی اول فارس فی الاسلام

تالیف: شیخ محمد جواد آل الفقیه

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدمه الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وبعد

فإن من حسن توفيق « دار الفنون » أن قامت بالتعاون مع « مؤسسة الأعلمي » بانتاج سلسلة الأركان الأربعة ( ابو ذر الغفاري وعمار وسلمان والمقداد ) وهذه السلسلة هي باكورة نشاطهما في حقلي الثقافة العامة والتراث الإسلامي.

والآن نضع بين يدي القارئ الكتاب الثالث من السلسلة ( المقداد ) آملين من الله أن نكمل السلسلة عما قريب.

هذا وإننا نعلن بأننا قد عقدنا العزم على السير قدماً في مسيرتنا الثقافية هذه آملين من الله سبحانه مزيداً من التوفيق والبركات هو حسبنا ونعم الوكيل.

الناشر

ص: 5

ص: 6

التقدیم

بسم الله الرحمن الرحيم

* بين يدي القارئ :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأعزهم عليه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحبه الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :

بين يديك صحائف تحمل شيئاً من سيرة الصحابي العظيم « المقداد بن عمرو » أحد الأركان الأربعة وأحد السابقين ، كما تحمل في نفس الوقت شيئاً من تأريخ تلك الفترة المشرقة التي عاشها والتي أعطى فيها من فكره وعرقه ودمه ما يعطيه العظماء لأممهم وأمجادهم وتواريخهم ، حيث كان له شرف المشاركة في تأسيس وتثبيت دعائم الإسلام وهو بعد في نأنأَتِه وضعفه.

والتاريخ قد يظلم بعض العظماء ، ويجحف في حقهم - على عادته - فقد فوجئت بسيرة هذا الصحابي البطل متناثرةً هنا وهناك في بطون الكتب مما يعني أن ثمة إهمال قد امتدت يده إليها - لا أدري إن جاء عن قصد ، أو هو من صنع السنين ! - فكان لي شرف لملمتها وصوغوها بالشكل الذي أرجو أن يكون مناسباً ، ولقد واجهت شيئاً من المصاعب والمتاعب في هذا السبيل ، إلا أن غبطتي في إتمامها وانجازها توازي في أثرها ما واجهت.

لقد إمتاز هذا الصحابي العظيم بصفة تفرد بها دون من سواه من الصحابة ، تلك هي صفة « الفروسية » وهي صفة غير عزيزة ولا نادرة لولا أنها كانت محكومةً لظروف صعبة حرجة ، فهي مبتذلة إذا لوحظت مجردةً عنها ، وعزيزة نادرة ذات بال

ص: 7

وإهمية إذا لوحظت من خلال الظروف الصعبة التي عاناها المسلمون الأوائل ؛ ومن هنا جاءت أهميتها فقد شاءت المقادير أن تقع أول حرب بين المسلمين ومناهضيهم من المشركين وليس في المسلمين فارس غير المقداد بن عمرو ، وبذلك نال وسام « أول فارس في الإسلام » ناله بجدارة واستحقاق.

روي عن علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن عمرو. » وعن القاسم بن عبد الرحمن قاله : « أول من عدا به فرسه في سبيل الله المقداد .. » (1).

وظلت هذه الصفة المميزة ملازمة له طيلة حياته ، فما دعي الى جهاد قط إلا وأجاب ، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما شهدها من بعده وهكذا ، قضى عمره فارساً في ميادين الجهاد حتى وافاه أجله ، وكانت العقيدة بالنسبة له ، خبزه اليومي الذي به ومن أجله يعيش.

من هنا ، فإن تاريخ المقداد ، يعني تاريخ تلك الحقبة وما جرى فيها من الوقائع والحروب » نظراً لموقعه منها ومواقفه البطولية فيها ، وهذا ما دعاني إلى سرد بعضها سرداً كاملاً ، فلكي نفهم هذا الرجل على حقيقته ، علينا أن نتناول أهم جانب في حياته نحدد به شخصيته وطموحه وأهدافه ، أما بدون ذلك فإن سيرته تصبح مبتورةً شوهاء لا رونق فيها ولا حياة ، ويصبح مثلنا في ذلك مثل من ينقل حادثةً او منقبةً لإِنسان ما دون أن يعرف عن شخصيته وظروفه شيئاً.

وأنت حين تبدأ قراءة المقداد ، فإنك ستقرأه اكثر كما ستقرأ غيره من معاصريه من خلال قراءتك لتلك « الغزوات والوقائع » وسوف تشعر وكأنك معه في رحلاته الجهادية الطويلة وهو يملي عليك حكاية أروع ملحمة حضارية في تاريخ الإنسان كان هو أحد روادها ومسطريها ، وبذلك - أيضاً - سوف تدرك عظمة هذا الرجل ومدى بلائه في الإسلام.

ص: 8


1- الطبقات الكبرى 3 / 162.

وسوف لا ينقضي تعجبك من خصلة هي واحدة من مئات ! إمتاز بها الإسلام دون غيره وكانت شاهداً من شواهد عظمته ، تلك هي قلب العقليات والعادات التي أفرزتها الجاهلية المقيتة ، وتسييسها من جديد على ضوء تعاليم الله سبحانه ، وقولبتها بشكل يعيد للإنسانية شرفها ومجدها.

فمن كان يصدق أن حليفاً طريداً مشرداً عن أهله وقومه يصبح يوماً ما محط أنظارهم ومعقد آمالهم ؟!

أجل ، كان هذا أمراً مستبعداً لولا الإسلام ، فقد استطاع بفترةٍ وجيزة أن يقضي على جل المظاهر الزائفة ، وأستطاع ان يعيد الحق الى نصابه.

والمقداد كان واحداً من المشردين ، نشأ حليفاً لكندة بادئ الأمر - تابعاً لأبيه - ثم حليفاً لبني مخزوم ، حتى قيّض له الإلتحاق بركب الإسلام وهو في عقد الرابع ليبدأ مسيرة الحياة الحرة الكريمة تاركاً وراءه كل قيود الجاهلية وأحكامها مسلماً وجهه لله وحده باذلاً نفسه لدين الله ، وحين استقر الأمر بالمسلمين ، ونصر الله نبيه ، أقبلت الوفود تترى على رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مبايعةً له ومسلّمةً أمرها إلى الله ورسوله ، وكان منها وفد « بهراء » قبيلة المقداد ، فكان نزولهم عليه في داره. (1)

رحم الله أبا معبد ، فلقد كان واحداً من العظماء الذين يفخر التاريخ بهم وبمآثرهم.

ص: 9


1- راجع الكامل 2 / 290.

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

« أَمَرني رَبيّ بحُبَّ أربَعَةٍ مِنْ أصحَابي ، وأَخَبَرني أنُه يُحبُّهم ! ».

فقيل : يا رسول الله ، من هم ؟

قال : « عليٌّ ، والمقداد وسلمان وأبو ذر ».

« الجنة تشتاق إليك يا عليّ ، وإلى عمارٍ ، وسلمان والمقداد ».

الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله)

« ما رأيتُ مثل ما أُتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم .. إني والله أحبُّهم لحُبّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) لهم ، ويعتريني والله وجدٌ لتشرف قريش على الناس بشرفهم ، واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله من أيديهم .. ».

المقداد بن عمرو

ص: 11

ص: 12

* المقداد بن عمرو .. لماذا سمي بابن الأسود الكندي

* صفاته وأخلاقه

* إسلامه

ص: 13

ص: 14

المقداد بن عمرو البهرائي

هذا هو اسمه الحقيقي ، واسم أبيه وقبيلته.

فهو المقداد بن عمرو ، بن ثعلبة ، بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود (1) البهرائي (2).

ولكن ، له إسم آخر إشتهر به ، وهو : « المقداد بن الأسود الكندي ». فما هي حكاية هذا الإسم وهذه الشهرة .. ؟

كان عمرو بن ثعلبة من شجعان بني قومه ، يتمتع بجرأة عالية ربما لم تتهيأ لأحد غيره منهم ، دفعته لأن ينال فيهم دماً ، فاضطر إلى الجلاء عنهم حفاظاً على نفسه ، وحمايةً لها من طلب الثأر ، فلحق بحَضرَمَوْت (3).

ص: 15


1- الإصابة 3 / 454 - 455.
2- على الأشهر ، نسبة إلى بهراء بن عمرو ، بطن من قضاعة ، كانت منازلهم شمالي « بلي » من الينبع إلى عقبة أيله ، ثم جاوروا بحر القلزم ، واشتروا ما بين بلاد الحبشة وصعيد مصر وكثروا هناك ، وغلبوا على بلاد النوبة .. وقدم وفد من بهراء على الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سنة9 ه : راجع معجم قبائل العرب 1 / 110.
3- حضرموت : ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف وبها قبر هود(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). قال ابن الكلبي : إسم حضرموت في التوارة ، حاضرميت ... وقيل : حضرموت ، إسم لعامر بن قحطان ، وانما سمي كذلك ، لأنه كان إذا حضر حرباً أكثر فيها من القتل ، فلقب بذلك .. وقال أبو عبيدة : حضرموت بن قحطان نزل هذا المكان فسمي به. « معجم البلدان 2 / 270 ».

وحالف قبيلة كندة التي كانت تتمتع بهيبةٍ مميزة من بين القبائل.

وهناك تزوج إمرأةً منهم ، فولدت له المقداد (1).

نشأ الفتى في ظل أبيه ورعايته ، وحنان أمه وعطفها ، ضمن مجتمع ألِفَ مقارعة السيوف ، ومطاعنة الرمح ، فكانت الشجاعة احدى سجاياه التي إتصف بها فيما بعد ، حتى إذا بلغ سن الشباب أخذت نوازع الشوق إلى أرومته ومضارب قومه في بهراء تدب في نفسه فتدفعه إلى تخطي آداب « الحلف » غير مكترثٍ ولا مبالٍ.

فقد أحس أن اغترابه هذا ، وبعده عن الأهل والوطن إنما حدث نتيجة لذنبٍ إقترفه أبوه حيال قومه ، وأن الحلف لا يعني أكثر من قيدٍ « مهذب » يضعه الحليف في عنقه ، وأعناق بنيه !. بالرغم من براءة ساحتهم .. كان هذا الشعور يراوده بين الفينة والفينة فتستيقظ في نفسه رغبة الإنتقام من حلفائه والتمرد على تقاليدهم ، لذا ، فلم يكن هو الآخر اسعد حظاً من أبيه ، حيث اقترف ذنباً مع مضيفيه « وأخواله » فاضطر إلى الجلاء عنهم أيضاً.

فقد ذكروا أنه : حين كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي - أحد زعماء كندة - خلافٌ ، فما كان من المقداد إلا أن تناوله بسيفه ، فضرب رجله وهرب إلى مكة (2).

حين وصل إلى مكة ، كان عليه أن يحالف بعض ساداتها كي يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ، لكن طموحه كان يدفعه إلى إختيار الرجل القوي المرهوب الجانب ، فكان يتريث في ذلك ، وكان يقول : لأحالفنَّ أعزّ

ص: 16


1- الإصابة 3 / 454 - 455.
2- نفس المصدر.

أهلها ! ولم يخنع ولم يضعف فحالف الأسود (1) بن عبد يغوث الزهري (2) فتبناه ، وكتب إلى أبيه بذلك ، فقدم عليه مكة.

منذ ذلك اليوم صار إسمه المقداد بن الأسود ، نسبة لحليفة ، والكندي ، نسبةً لحلفاء أبيه.

وقد غلب عليه هذا الإسم ، واشتهر به ، حتى إذا نزلت الآية الكريمة : ( أدعُوهُم لآبائِهم ) قيل له : المقداد بن عمرو.

وكان يكنى أبا الأسود ، وقيل : أبو عمرو ، وأبو سعيد (3) وأبو معبد.

ومن أهم ألقابه : « حارس رسول الله » (4).

ص: 17


1- الأسود بن عبد يغوث الزهري : كان من جبابرة قريش ، وأحد كبار المستهزئين برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكانوا خمسة ، وقد كفى الله نبيه إياهم ، فحين نزلت الآية « أنا كفيناك المستهزئين » أصيب الأسود هذا بالاستسقاء حتى هلك ، أما الأربعة الباقية ، فهم : الأسود بن المطلب ، أصيب بالعمى ، والوليد بن المغيرة كان قد جرح بأسفل قدمه جرحاً قديماً فانتقض عليه ومات. والعاص بن وائل ، اصيب بشوكة في رجله فقتلته والحارث بن طلالة امتخض رأسه قيحاً فقتله. راجع السيرة لإبن هشام 2 / 41.
2- المستدرك 3 / 348.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر ، كما يستفاد ذلك من مطاوي الحديث.

صفاته وأخلاقه

كان فارع الطول ، أبيض اللون ، صبيح الوجه ، يصفّر لحيته ، كثير شعر الرأس ، أبطن ، ضخم الجثة ، واسع العينين ، مقرون الحاجبين ، أقنى الأنف ، جميل الهيئة ، كما يستفاد ذلك من وصف إبنته له (1).

وكان فارساً شجاعاً « يقوم مقام ألف رجل » على حد تعبير عمرو بن العاص (2) وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (3) وهو أول فارس في الإسلام وكان من الفضلاء النجباء ، الكبار ، الخيار من أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (4) سريع الإجابة إذا دعي إلى الجهاد حتى حينما تقدمت به سنه ، وكان يقول في ذلك : أبت علينا سورة البحوث (5) انفروا خفافاً وثقالاً.

وكان إلى جانب ذلك رفيع الخلق ، عالي الهمة ، طويل الأناة ، طيب

ص: 18


1- قالت ابنته كريمة : كان رجلاً طوالاً ، آدم ( أبيض ) أبطن ، كثير شعر الرأس يصفّر لحيته وهي حسنة ، ليست بالعظيمة ولا بالخفيفة ، أعين ، مقرون الحاجبين أقنى ، المستدرك 3 / 348.
2- اليعقوبي 1 / 148.
3- الإستيعاب 3 / 473.
4- المستدرك 3 / 348.
5- هي سورة التوبة ، ولها عشر أسماء ، منها سورة البحوث ، سميت بذلك لأنها تتضمن ذكر المنافقين والبحث عن سرائرهم ، ومن اسمائها : الفاضحة ، الخ - راجع مجمع البيان 5 / 1.

القلب صبوراً على الشدائد ، يحسن إلى ألدّ أعدائه طمعاً في استخلاصه نحو الخير ، صلب الإرادة ، ثابت اليقين ، لا يزعزعه شيء ، ويكفي في ذلك ما ورد في الأثر :

« ما بقي أحدٌ إلا وقد جال جولة إلا المقداد بن الأسود فإن قلبه كان مثل زبر الحديد » (1) وهو من الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيروا ولم يبدلوا (2).

عظيم القدر ، شريف المنزلة ، هاجر الهجرتين ، وشهد بدراً وما بعدها من المشاهد ، تجمعت فيه 2 أنواع الفضائل ، وأخذ بمجامع المناقب من السبق ، والهجرة ، والعلم ، والنجدة ، والثبات ، والأستقامة ، والشرف والنجابة (3).

ص: 19


1- معجم رجال الحديث 18 / 360 و 363.
2- معجم رجال الحديث 18 / 360 و 363.
3- رجال بحر العلوم 3 / 345.

إسلامه

الذي يظهر من مجمل النصوص أن المقداد كان من المبادرين الأُول لاعتناق الإسلام ، فقد ورد فيه : أنه أسلم قديماً. (1) وذكر ابن مسعود أن أول من أظهر إسلامه سبعة ، وعدّ المقداد واحداً منهم.

إلا أنه كان يكتم إسلامه عن سيده الأسود بن عبد يغوث خوفاً منه على دمه شأنه في ذلك شأن بقية المستضعفين من المسلمين الذين كانوا تحت قبضة قريش عامة ، وحلفائهم وساداتهم خاصة ، أمثال عمار وأبيه وبلالٍ وغيرهم ممن كانوا يتجرعون غصص المحنة ؛ فما الذي يمنع الأسود بن عبد يغوث من أن يُنزل أشد العقوبة بحليفه إن هو أحس منه أنه قد صبأ إلى دين محمد ؟؟ سيما وأن الأسود هذا كان أحد طواغيت قريش وجباريهم ، وأحد المعاندين لمحمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمستهزئين به وبما جاء ، إنه - ولا شك - في هذا الحال لن يكون أقل عنفاً مع حليفه من مخزوم مع حلفائها.

لأجل هذا كان المقداد يتحين الفرص لإنفلاته من ربقة « الحلف » الذي أصبح فيما بعد ضرباً من العبودية المقيتة ، ولوناً من ألوان التسخير المطلق للمحالف يجرده عن كل قيمة ، ويُحرم معه من أبسط الحقوق.

وفي السنة الأولى للهجرة قُيّضت له الفرصة لأن يلتحق بركب النبي محمد(صلی الله علیه و آله) وأن يكون واحداً من كبار صحابته المخلصين.

ص: 20


1- الإصابة 3 / 454 وكذلك في أسد الغابة 3 / 410.

« فقد عقد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لعمه حمزة لواءً أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعرضوا عِير قريش ، وكان هو وصاحب له ، يقال له : عمرو بن غزوان لا زالا في صفوف المشركين ، فخرجا معهم يتوصلان بذلك ، فلما لقيهم المسلمون إنحازا إليهم » (1) فكانت بداية الجهاد الطويل !.

ص: 21


1- الكامل 2 / 111 وقيل : التحقا بالمسلمين في شوال حين بعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سريةً بقيادة عبيدة بن الحارث. راجع نور اليقين / 108.

ص: 22

مع الرسول الأعظم في دار هجرته

اشارة

* عام الحزن

* اول هجرة للرسول

* خروجه إلى الطائف

* النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعرض نفسه على القبائل

* دخول الإسلام يثرب

* الإعداد للهجرة

* مبيت علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فراش النبي(صلی الله علیه و آله)

* الهجرة

* النبي الإعظم في المدينة

* بين الرسول الأعظم والمقداد

ص: 23

ص: 24

مع الرسول الأعظم في دار هجرته

عام الحزن

قال الشيخ الأبطح(1) لعائديه من قريش :

« لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمدٍ واتبعتم أمره ، فأطيعوه تنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم » ..

كانت هذه الكلمات الرحيمة تتهدل بين شفتي أبي طالب - عمّ الرسول وكافله - وهو يُزمعُ الرحيل عن هذه الدنيا ، فقد إشتد به المرض بعد أن تخطّى الثمانين من عمره واثقلت الهموم كاهله ، وبينما كان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خارجاً لبعض حوائجه ، إذا بالناعي ينعى له عمه.

أقبل النبي(صلی الله علیه و آله) مسرعاً نحو البيت الذي فيه عمه أبو طالب حتى إذا وصل إليه مسح جبينه الأيمن ثم مسح الأيسر - كما كان هو يمسح جبين النبي - ثم رثاه بهذه الكلمات :

« رحمك الله يا عم ، ربيت صغيراً وكفلتَ يتيماً ، ونصرتَ كبيراً ، فجزاك الله عني وعن الإسلام خير جزاء العاملين المجاهدينَ في سبيله بأموالهم وأنفسهم ». ثم بكى(صلی الله علیه و آله) وأبكى من كان حول عمه أبي طالب.

ص: 25


1- لقب أبي طالب.

أبو طالب ، هذا الذي لم يترك النصح والنصرة لابن أخيه حتى آخر لحظةٍ من لحظات حياته ، ترك غيابه فراغاً في حياة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ترجمته لنا دموع النبي ، وأفصح عنه حزنه وأساه عليه.

وما مضت أيام على موت أبي طالب ، حتى واجه النبي مصيبةً أخرى ليست بأقل من مصابه بعمه ، فها هي خديجة أيضاً تحتظر ! خديجة التي بذلت مالها وحياتها في نصرة محمد(صلی الله علیه و آله) وانجاح رسالته .. صاحبة اليد الكريمة التي كانت تمسح دموع محمد وآلامه وأحزانه .. هذه اليد بدأت ترتعد من وطأة المرض أيضاً .. وماتت خديجة ! بذلك فقد محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عمه الذي رباه ونصره وضحى لأجله خلال أربعين عاماً أو تزيد ، كما فقد زوجته التي بذلت له مالها وواسته في جميع الخطوب ، والتي كانت تود أن تتحمل عن كل شيء ليسلم لرسالته.

هاتان الفاجعتان الأليمتان في أيام معدودات ، كل واحدة منهما على انفرادها تكفي لأن تترك أقوى النفوس كليمة مضعضعة ! فكيف وقد اجتمعتا على محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في عام واحد ! لذلك ، فقد سمي هذا العام بعام « الحزن ».

ووجدت قريش في موت أبي طالبٍ وخديجة ثغرةً واسعة يمكن معها النيل من محمد ومضايقته ومطاردته ، فأبو طالب كان الدرع الواقي والحصن الحصين للنبي ، وقريش مهما بلغ بها التعسف والحقد فإنها لن تستطيع الوصول إلى محمدٍ وأبو طالب حيّ ، أما الآن فقد هوى ذلك الحصن ، بل بالأحرى ذلك العملاق ، وبقي محمدّ وحده في الساحة معه لفيف من الدهماء وبعض العبيد ، وقليل من بني هاشم ليسوا بذات أثر في نظر قريش ! لذلك فقد جدت قريش في إيذائه والتنكيل بأصحابه ، وكان من أيسر أنواع الأذى الذي أنزلته به - بعد فقد عمه - أن مر عليه أحد سفهاء قريش ، فاغترف بكلتا يديه من التراب والأوساخ ، وألقاها على

ص: 26

وجهه ورأسه.

فدخل بيته وهو بهذه الحالة ، فقامت إليه ابنته فاطمة وكانت أصغر بناته - وهي حديثة عهد بفاجعة أمها خديجة - فجعلت تغسل رأسه وتميط عنه التراب وتبكي ، فالتفت اليها(صلی الله علیه و آله) ومسح رأسها بكلتا يديه وقال لها : لا تبكي يا بنية فإن الله مانع آباك وناصره على أعداء دينه ورسالته.

لقد كان هذا العام عام الحزن والأذى والأسى ، إلا أنه كان إيذاناً بمرحلةٍ انتقالية جديدة في حياة الرسول والرسالة. تلك هي مرحلة الإنتقال من الدعوة إلى الدولة.

ص: 27

أول هجرةٍ للرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

جاء في شرح النهج :

أن أول هجرة له كانت إلى بني عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عَيلان ، ولم يكن إلا عليٌّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وحده ، وذلك عقيب وفاة أبي طالب.

فقد أوحي إليه(صلی الله علیه و آله) : أُخرج منها ، فقد ماتَ ناصرُك ! فخرج إلى بني عامر بن صعصعة ، فعرض نفسه عليهم وسألهم النُصرة َ ، وتلا عليهم القرآن ، فلم يجيبوه ! فعادا 8 إلى مكة. وكانت مدّة غيبته في هذه الهجرة عشرة ايام ، وهي أول هجرةٍ هاجرها(صلی الله علیه و آله) بنفسه (1).

ص: 28


1- راجع شرح النهج 4 / 128.

خروجه إلى الطائف

وحين اشتد ايذاء قريش للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خرج متخفياً في مكة ومعه ابن عمه علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة ، وقصد الطائف ليعرض نفسه على ساداتها من ثقيف ، وكانوا ثلاثة إخوة : عبد ياليل ، ومسعود بن عمرو ، واخوهما حبيب بن عمرو ، فدعاهم إلى نصرته والقيام معه على من خالفه.

فقال أحدهم : ما رد يمرطُ ثيابَ الكعبةِ إن كان الله أرسلك !

وقال آخر : أما وجَدَ الله من يرسلُهُ غيركَ ؟!

وقال الثالث : والله لا أكلّمُكَ كلمةً أبدا : لئن كنت نبياً كما تقول ، فأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ؛ ولئن كنت كاذباً على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقد يئس منهم ، وقال لهم : إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك ، وقد كره أن يبلغ قريشاً ذلك فيجرأون عليه.

وبقي(صلی الله علیه و آله) في الطائف عشرة أيام يدعو أهلها للإسلام فلم يسمعوا منهم ، وأغروا به سفهائهم وعبيدهم حتى اجتمع عليه الناس وقذفوه بالحجارة.

فالتجأ إلى حائط - بستان - لِعُتبةَ وشيبة إبنا ربيعة - وكانا فيه - والدماء تسيل من ساقيه ، فجلس في ظل شجرة وجعل يدعو بهذا الدعاء :

ص: 29

« اللهم إني أشكو إليكَ ضَعفي وقِلّةَ حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعَفِينَ وربيّ إلى من تكلني إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عَدّوٍ ملّكته أمري ، إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزلَّ فييَّ غضبَكَ أو يَحلّ عليّ سخطُك ، لك العُتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ».

جعل يدعو بهذا الدعاء وابنا ربيعة ينظران إليه ، فأشفقا عليه ، وتحركت له رحِمَهُما ، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً إسمه : عدّاس ، وقالا له : خذ قطفاً من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل.

ففعل فلما وضعه بين يدي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وضع يده فيه وقال : بسم الله.

فقال عداس : والله أن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة !!

فقال له النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من أي البلاد أنت ؟ وما دينك يا عداس ؟

قال : أنا نصراني من أهل نينوى !

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متّى ؟

فقال : وما يدريك ما يونس بن متّى !

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبيٌّ !

فاكبَّ عداس على يدي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ورجليه يقبلهما ، هذا وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويقول أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك.

ولما رجع إليهما عداس قالا له : ويحك يا عداس ، ما الذي أعجبك من هذا الرجل حتى قبّلت رأسه وقَدَميه ! إحذر أن يصرفك عن دينك.

ص: 30

فقال عداس : يا سيديَّ ، ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل ، لقد اخبرني بأمرٍ لا يعلمه إلا نبي.

وانصرف رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) راجعاً إلى مكة بعد أن يئس من أهل الطائف وسادتهم ، لكن أنباء رحلته هذه كانت قد تناهت الى قريش ، فاستعدوا لآذاه ، لذلك فإنه صلوات الله عليه قبل أن يدخل مكة أرسل إلى بعض ساداتها يطلب منهم : أن يجيروه فامتنعوا عن إجارته إلا المُطعِمُ بن عدي فإنه قبل إجارته ، وقال للرسول : نعم فلِيدخل ! وأصبح المطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه ، فدخل المسجد ، فرآه ابو جهل وقال له : أمجيرٌ أنت ، أم متابع ؟

قال : بل مجير ! فقال أبو جهل : قد أجرنا من أجرت.

عند ذلك مضى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى دخل مكة ، وجعل يتابع تبليغ رسالته في جوار المعطم بن عدي.

ص: 31

النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعرض نفسه على القبائل

وكان النبي(صلی الله علیه و آله) يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب.

فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيّدٌ لهم يقال له : مليح ، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم ، فأبوا عليه !

ثم أتى قبيلة ( كلب ) إلى بطن منهم يقال لهم ، بنو عبدالله ، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم ، فأبوا عليه ، ولم يقبلوا ما عرضه عليهم.

ثم أتى ( بني عامر ) فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ! فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك ؛ أيكون لنا الأمر على من بعدك ؟!

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : الأمر إلى الله ، يضعه حيث يشاء !

قال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا !؟ لا حاجة لنا بأمرك.

فلما صدر الناس عن الموسم ، رجع بنو عامر إلى شيخ لهم مسن كانوا يحدثونه بما يجري معهم في الموسم ، فسألهم عما جرى لهم ، فقالوا : جاءنا رجل من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي ! يدعونا

ص: 32

إلى أن نمنعه ، ونقوم معه ، ونخرج به الى بلادنا !

حين سمع الشيخ ذلك ، وضع يديه على رأسه ، ثم قال : يا بني عامر ؛ هل لها من تلافٍ ، هل لذناباها من مطّلِب ؟ والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوّلها إسماعيلي قط ، وإنها لحق ! فأين كان رأيكم عنكم ؟

ثم أتى (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بني حنيفة وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم. وفي هذه الفترة كان عمه أبو لهب يسير خلفه ويصد الناس عنه (1).

ص: 33


1- مقتضب من السيرة النبوية لإبن هشام 2 / 50 إلى 52.

دخول الإسلام يثرب

وكان أهل المدينة يحجون إلى البيت كغيرهم من العرب ، فقدم منهم جماعة إلى مكة والتقوا برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فسألهم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى أي القبائل ينتمون ؟ فقالوا له من الخزرج. فقال لهم : أمن موالي يهود أنتم ؟ قالوا : نعم : فجلس إليهم(صلی الله علیه و آله) وعرض عليهم الإسلام ودعاهم إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم شيئاً من القرآن ، فقال بعضهم لبعض : إنه والله النبي الذي كان اليهود يتوعدونكم به ، فلا يسبقونكم إليه ، فأجابوه فيما دعاهم إليه ، وكان عددهم ستة ، (1) ثم أخبروه أن العداء بين قومهم - الأوس والخزرج - مستشرٍ ، والقتل بينهم مستمر ، وانهم سيقدمون عليهم ويدعونهم للإسلام عسى الله أن يجمعهم على يده ويجيبون دعوته.

فانصرفوا راجعين إلى بلادهم ، فلما قدموا على قومهم ذكروا لهم ما جرى بينهم وبين النبي(صلی الله علیه و آله) ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا بينهم ، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذِكرٌ لرسول الله(صلی الله علیه و آله).

فلما كان العام الثاني ، وفد من أهل يثرب إلى مكة إثنا عشر رجلاً ، فإلتقوا بالنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في مكان يقال له : العقبة ، فبايعوه على بيعة

ص: 34


1- وهم : عبّادة بن الصامت ، وأسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ ابنا الحارث بن رفاعة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وذكوان بن عبد قيس. راجع السيرة 2 / 56.

النساء ، وكان من بينهم عبادة بن الصامت ، قال : بايعنا رسول الله على أن لا نُشركَ بالله شيئاً ، ولا نَسرق ، ولا نزني. ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببُهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه بمعروف.

وبعث رسول الله معهم مصعب بن عمير ، وأمره أن يُقرئهم القرآن ، ويعلِّمهم الإِسلام ، ويفقِّههم في الدين ، فأقبل معهم ونزل ضيفاً على أسعد بن زرارة.

وقد أسلم بعد ذلك سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وأسلم معهما قومهما. في حديث يطول.

وفي السنة التالية أقبل مصعب بن عمير ومعه جماعة من المشركين والمسلمين من أهل المدينة قاصدين مكة لأداء المناسك والإِجتماع برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فالتقوا به سراً ، وتواعدوا أن يجتمعوا مه بالعقبة ليلاً بعد أن ينام الناس ليتذاكروا أمر الدعوة وليعرضوا إسلامهم عليه.

قال كعب بن مالك في حديث له : وجاءت الليلة التي واعدنا رسول الله فيها ومعنا عبدالله بن عمر بن حزام - وهو من ساداتنا - أخذناه معنا ونحن نتكتم عمن معنا من المشركين فتكلمنا معه في الإسلام ، ودعوناه إليه ، وأخبرناه بإجتماعنا بالرسول ، فأسلم وحضر معنا بيعة العقبة ، ونمنا تلك الليلة حتى إذا مضى من الليل الثلث ، خرجنا من رحالنا نتسلل تسلل القطا حتى لا يحس بنا أحد ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ، ومعنا امرأتان لا غيرهما ، نسيبة بنت كعب ، واسماء بنت عمرو بن عدي ، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب - وهو على دين قريش - وقد أحب أن يرى موقفنا من النبي ويتوثق منه ، فلما جلس النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجلسنا حوله كان العباس أول المتكلمين.

فقال : يا معشر الخزرج ؛ إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من

ص: 35

قومنا وانه أبى إلا الإنحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.

ثم تكلم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فتلا شيئاً من القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع أزرنا (1). فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أبناء الحروب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر.

وتكلم بعده أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالاً ، وانا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا. ؟

فتبسم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم قال : بل الدَمُ الدم ، والهدمُ الهدم (2) أنا منكم وأنتم مني ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم (3).

ثم أمرهم رسول الله أن يختاروا منهم أثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم يتحملون المسؤولية تجاه رسول الله فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً (4) تسعة من

ص: 36


1- الإزار : كناية عن المرأة ، وكناية عن النفس أيضاً.
2- قال ابن قتيبة : كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار : دمي دمُك ، وهدمي هدمك ، أي ما هدمت من الدماء هدمته انا ، وما يجري عليك يجري علينا ؛ وقد يقصد بالهدم ، الجلاء والإرتحال.
3- راجع السيرة لإبن هشام 2 / 64 وما قبلها.
4- واسماءهم كالتالي : سعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك ، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حزام ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، وكلهم من الخزرج. ومن الأوس : أسيد بن حضير وسعد بن خيثمة ، ورفاعة بن عبد المنذر. سيرة بن هشام / 65.

الخزرج ، وثلاثة من الأوس.

ولما اجتمعوا للبيعة - بعد اختيار النقباء - قال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري :

يا معشر الخزرج ، هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم. قال : إنكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا انهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلاً ، أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال (1) وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة.

قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك - يا رسول الله - إن نحن وفينا ؟ قال : الجنة.

قالوا : ابسط يدك ؛ فبسط يده ، فبايعوه على ذلك.

وكان أول من ضرب يده على يد رسول الله سعد بن زرارة ، وقيل : الهيثم بن التيهان ، وتتابع القوم يتسابقون على بيعته.

وتطاير الخبر الى مشركي مكة بما جرى للنبي مع الأوس والخزرج ،

ص: 37


1- نهكة الأموال : نقصها.

فاجتمع وجوه القرشيين ، واقبلوا إلى الأنصار حيث ينزلون ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، لقد بلغنا أنكم جئتم الى صاحبنا محمد لتخرجوه من بين أظهرنا ، وتبايعوه على حربنا ، وانه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم !

فاسرع جماعة من مشركي الأوس والخزرج ممن لم يكونوا قد علموا بشيء مما جرى وحلفوا لهم بالله إنه لم يكن مما يقولون شيء ، فصدقوا وانصرفوا.

ولما انتهى موسم الحج ، ورجع الأنصار ، ايقنت قريش بالأمر ، فخرج جماعة في طلبهم فادركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو - وهما من النقباء الإثني عشر - واستطاع المنذر أن يفلت من أيديهم ، وأمسكوا بسعد وربطوا يديه إلى عنقه وادخلوه مكة مكتوفاً وهم ينهالون عليه بالضرب ، ويقذعون له بالشتم حتى خلصه جبير بن مطعم ، والحارث بن حرب بن أمية.

ص: 38

الإِعداد للهجرة

ولم تكن قريش تتوقع هذا التطور المفاجئ في حركة محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقد كانت حركته بادئ الأمر منحصرةً داخل مكة فكان هو وأصحابه تحت قبضة قريش وسلطانها ! أما بعد مبايعة أهل يثرب له على حرب الأحمر والأسود ، فإن هذا يعني فتح جبهةٍ عسكرية واسعة ضد قريش يمكن أن تلهب معها الحرب في أي لحظة ! كما يعني إنتشار الإِسلام في ارجاء الجزيرة ، وسقوط هيبة قريشٍ من أعين العرب ! وعندها تخسر كل شيء.

لذلك ، بدأ القرشيون يفكرون في فرض مخطط جديد يحول دون ذلك ، ولكن بعد فوات الآوان.

أما رسول الله ، فهو بدوره أيضاً فكر أن يهاجر ، ولكن ما كان ليقطع أمراً دون أمر الله ووحيه ، حتى إذا نزلت الآيات المباركات التي تأذن له بالقتال :

( أُذِنَ للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلِموا وأنَّ الله على نصْرِهم لقَديرٌ * الذين أُخرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَغير حقٍّ إلاّ أنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله ولولا دَفَعُ الله الناسَ بَعضَهُم بِبَعض لَهُدِّمَت صَوامِعُ وبيَعٌ وصَلَوَاتٌ ومَسَاجِدُ يُذكر فيها إسمُ الله كثيراً وليَنصُرَنَّ الله من يَنصُرُهُ إنّ الله لقويٌ عزيزُ * الذينَ إن مَكنَّاهُم في الأرض أقاموا الصلاةَ وآتَوُا الزَكَاةَ وأمرُوا بالمعْرُوفِ ونَهَوا عن المنكَرِ ولله عاقبةُ الأمور ) (1)

ص: 39


1- الحج - آية 39 - 40 - 41.

عند ذلك أمر رسول الله أصحابه أن يلحقوا بالأنصار في يثرب على أن يتركوا مكة متفرقين يتسللون ليلاً ونهارا حتى لا يثيروا قريشاً فتقف في طريقهم ، وهكذا انطلقوا من مكة يتسللون في جوف الليل - كما أمرهم الرسول - أفراداً وجماعات ، وأحست قريش بذلك ، فردت من استطاعت ارجاعه ، وفرقت بين الزوج وزوجته وأخذت تنكل بكل من وقع تحت قبضتها دون القتل لأن المهاجرين اكثرهم من القبائل المكية ، والقتل قد يثير حرباً اهلية تكون لصالح محمد في النهاية.

وأخذ المسلمون يتوافدون إلى المدينة أفواجاً في ظل ضيافة الأنصار وترحابهم ، ولم يبق في مكة إلا نفر يسير من المستضعفين ومعهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعلي ابن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة.

عند ذلك أحست قريش بالخطر الداهم فكان عليها أن تتخذ قراراً حاسماً في حق محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). فاجتمعوا في دار الندوة ، وتشاوروا فيما بينهم في خطةٍ تقضي على حياة محمد !

قال بعضهم قيدوه بالحديد ، وضعوه في بيت وأغلقوه حتى يأتيه الموت !

ورأى آخر أن يطرد من مكة ، وتنفض قريش يدها منه. فلم يتفق الحاضرون على هذين الرأيين.

وارتأى أبو جهل بن هشام أن تختار كل قبيلة فتىً من فتيانها الأشداء ، ويأخذ كل واحد سيفاً قاطعاً ، ويعمدون إليه بأجمعهم ، فيضربونه ضربةً واحدة ، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلا يستطيع بنو هاشم الطلب بدمه ، فيختارون ديته على القتال.

فاستحسن الجميع هذا الرأي ، واستعدوا لتنفيذه ، فاختاروا الفتية ، وعينوا الليلة ، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة : ( وإذ يمكرُ بكَ الذين كفروا ليُثبِتُوكَ أو يَقتُلوكَ أو يُخرِجُوكَ ، ويمكُرونَ ويمكرُ الله والله خَيرُ الماكِرِين ).

ص: 40

مبيت علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في فراش الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

أعظم مفتدٍ لأعظم مفتدىً ، لم يحدثنا التاريخ بأروع من قصة الفداء هذه ، فالملأ من قريش مجمعون على قتل محمد في فراشه ، وعلم محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك وأخبر علياً ، فبكى خوفاً على الرسول ، لكن الرسول حين أمره أن يبيت على فراشه ، قال له علي : اوتسلم يا رسول إن فديتك بنفسي ؟! فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : نعم ، بذلك وعدني ربي. فاستبشر عليٌّ وانفرجت أسارير وجهه ابتهاجاً بسلامة النبي ، وتقدم إلى فراشه مطمئن النفس ثابت الجنان نام فيه متشحاً ببرده اليماني.

فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج النبي من الدار وهو يقرأ : .. ( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فاغشيناهم فهم لا يبصرون .. ) ومر على الملأ من قريش وأخذ حفنة من التراب وجعل ينثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون ، ولما حان الوقت المحدد لهجومهم على الدار إقتحموا ، ! ، فثار علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وجوههم ، فانهزموا منه ، ثم سألوه عن النبي فقال : لا أدري أين ذهب (1).

ص: 41


1- وفي تاريخ اليعقوبي : أن الله تعالى أوحى في تلك الليلة الى ملكين من ملائكته المقربين - وهما جبريل وميكائيل - أني قضيت على أحدكما بالموت ؛ فايكما يفدي صاحبه ؟ فاختار كل منهما الحياة. فاوحى إليهما : هلا كنتما كعلي بن أبي طالب ، لقد آخيت بينه وبين محمد ، وجعلت عمر أحدهما أطول من الآخر ، فاختار علي الموت وآثر محمداً بالحياة ونام في مضجعه ، إهبطا فاحفظاه من عدوه ، فهبطا يحرسانه في تلك الليلة وهو لا يعلم ، وجبريل يقول : بخ لك يا بن أبي طالب من مثلك يباهي به الله ملائكة سبع سموات. راجع سيرة المصطفى / 251 نقلاً عن اليعقوبي 2 / 29 واسد الغابة 4 / 25 والشبلنجي في نور الابصار / 77 والمناوي في كنوز الحقائق / 31 والغزالي في احياء العلوم.

الهجرة

وأوصى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً بحفظ ذمته وأداء أماناته ، وأمره أن يقيم منادياً بالأبطح غدوةً وعشية ينادي : آلا من كانت له قِبلَ محمدٍ أمانة فيأت لتؤدى إليه أمانته ، وأوصاه بالصبر ، وأن يقدم عليه مع ابنته فاطمة وغيرها من النسوة إذا فرغ من آداء المهمّات التي كلفه بها.

وأمر أبا بكر ، وهند بن أبي هالة(1) أن يقعدا له في مكان حدده لهما في طريقه إلى الغار ، فلما خرج (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ظلمة الليل ، إنطلق جنوباً ميمماً غار ثور ، فوجدهما في الطريق ، ورجع هند متخفياً إلى مكة ، ودخل هو (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وابو بكر الغار ، فأرسل الله في تلك الساعة عنكبوتاً نسجت على بابه ، وشاءت قدرته أن تلتجئ إلى باب الغار حمامتان بريتان.

ومضت قريش جادة في طلبه ومعها أهل الخبرة بالقيافة وتتّبع الأثر ، إلى أن بلغوا الغار ، وانقطع الأثر عنهم ، فنظروا ، فرأوا العنكبوت قد غطت بابه بنسيجها ، واذا بالحمامتين على جانب من جوانب بابه مما لا يترك أقل شك في

ص: 42


1- هند بن أبي هالة التميمي : ربيب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، أمه خديجة زوج النبي ، وكان فصيحاً بليغاً ، وصف النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأحسن واتقن. وقد استشهد مع علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حرب الجمل - راجع الإصابة 3 / 611 - 612

انهما ليسا فيه ، فقال بعضهم لبعض : إن عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد ! (1).

وبقي الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وصاحبه في الغار ثلاثة أيام - على رواية - ثم ارتحلا ومعهما غلام لأبي بكر يدعى عامر بن فهيرة ، أردفه ابو بكر خلفه ، وأخذ بهم الدليل على طريق الساحل.

ولم تتوانى قريش في طلب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وجعلت لمن قتله أو أسره مائة ناقة.

ومروا في طريقهم على خيمة أم معبد الخزاعية ، وكانت تقري الضيف ، فسألوها تمراً أو لحماً يشترونه منها ، فلم يجدوا عندها شيئاً ، فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم ، ! فنظر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسلم إلى شاة في جانب الخيمة وقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟

قالت : هي شاة خلّفها الجَهدُ عن الغنم ! فقال لها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : هل بها من لبن ؟

قالت : هي أجهد من ذلك ؟ فقال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟ فقالت : نعم ، فداك أبي وأمي إن رأيت بها حلباً.

فدعا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالشاة ، فمسح ضرعها وذكر اسم الله ، ثم قال : بارك الله في شأنها. فدّرت من ساعتها ، فدعا بإناءٍ كبير فحلب فيه فسقاها وسقى أصحابه حتى رويت ورووا ، وشرب هو آخرهم ، ثم قال :

وساقي القوم آخرهم شرابا

ثم حلب في الإِناء حتى إمتلاء وتركه لها وارتحل. وما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيّلاً عجافاً هُزلاً ، فلما رأى اللبن تعجب وقال : من أين لكم هذا والشاة عازبة ؟ ولا حلوبة في البيت ؟!

ص: 43


1- مقتضب من سيرة المصطفى 250 وما بعدها.

قالت : لا والله ، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك ، وقصت عليه قصته.

فقال : والله أني لأظنه صاحب قريش الذي تطلب ؟ صفيه لي !

قالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة ، مُنبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تُعيهِ ثَلجة (1) ، ولم تُزرِ به صلعَة (2) ، وسيمٌ ، قسيمٌ (3) ، في عينيه دعج (4) ، وفي اشفاره وَطَف (5) ، وفي صوته صَحَل (6) ، أحور ، أكحل ، ازَج ، أقرن (7) ، شديد سواد الشعر ، في لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما ، وعلاه البهاء ، حلو المنطق ، لا نزر ولا هذر ، ومضت تعدد صفاته. فلما انتهت من وصفه قال لها أبو معبد : والله هذا صاحب قريش ، ولو وافقته - يا أم معبد - لإلتمست ان أصحبه ، ولأفعلن إذا وجدت إلى ذلك سبيلا ، وأخيراً هاجر أبو معبد وزوجته إلى يثرب وأسلما.

وبينما النبي في طريقه إلى يثرب إذ عرض له سراقة بن مالك بن خثعم - يريد به شراً - فدعا عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فرسخت قوائم فرسه في الأرض ! فقال : يا محمد ، ادع الله ان يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي ، فدعا له النبي ، فانطلقت الفرس ، فرجع سراقة ووجد الناس يلتمسون رسول الله ، فقال لهم : إرجعوا ، فقد استبرأت لكم خبره فلم أجد له أثراً ، فرجعوا.

ص: 44


1- أي لم يكن شديد البياض.
2- كناية عن جمال شعر رأسه.
3- قسيم وسيم : أي جميل كله.
4- الدعج : سواد العين مع سعتها.
5- الوطف كثرة شعر الحاجبين والعينين.
6- الصحل : بحة في الصوت.
7- هذه الصفات الأربع لجمال العينين. فالحور : هو اشتداد بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ( كعيون الظبي ) وازج : رفيع الحاجبين.

وتابع ركب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) طريقهم يقطعون السهول والجبال والأودية ، ويتحملون حرّ الهاجرة وجهد السير سبعة أيام حتى أمنوامن طلب قريش.

وخرج ابو ذر في قبيلتي غفار وأسلم ، للقاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلما دنا منه الركب ، أسرع إلى ناقة النبي وأخذ بزمامها وهو يكاد يطير فرحاً بلقائه ، فأخبره أن غفاراً قد أسلم أكثرها ، واجتمع عليه بنو غفار فقالوا له : يا رسول الله ، إن أبا ذر قد علمنا ما علمته ، فأسلمنا وشهدنا أنك رسول الله.

واسرع المتخلفون منهم الى الإسلام ، وبايعوا النبي وأعلنوا إسلامهم.

ثم تقدمت أسلم ، فقالوا : إنا قد أسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه إخواننا وحلفاؤنا ، فأشرق وجه النبي سروراً بنصر الله ، ثم قال : غفار ، غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله.

وإستأنف طريقه ، فلما قارب المدينة قال : من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف.

فمشى أمامه جماعة ، فلما بلغ منازلهم ، نزل فيهم بقبا(1) في ربيع الأول ، وأراد أبو بكر منه أن يدخل المدينة ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي - يعني علياً وفاطمة -.

واستقبل رسول الله بالتكبير والتهليل ، وكان في استقباله من بني عوف نحو من خمسمائة.

ثم كتب رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من قبا إلى علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، فلما ورد كتابه الى علي ابتاع ركائب لمن معه من النسوة وتهيأ للخروج ، وأمر من كان قد بقي في مكة

ص: 45


1- قُبا : أصله اسم بئر ، عُرفت القرية باسمه ، وكانت مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار. فيها أيام الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). وبنى رسول الله مسجده المعروف هناك فسمي ( قبا ) وهو اليوم في أجمل منطقة من المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام ، وفي أجمل موقع.

من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً الى ذي طوي ، وخرج(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالفواطم (1) وتبعتهم أم أيمن مولاة رسول الله ، وأبو واقد الليثي ، فجعل ابو واقد يسوق الرواحل سوقا حثيثاً ، فقال له علي : ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، ثم جعل علي يسوق بهن ويقول :

ليس إلا الله فارفع ظنكا* يكفيك رب الناس ما أهمكا

فلما قارب ضجنان (2) أدركه الطلب ، وكانوا ثمانية فرسان ملثمين معهم مولىً لحرب بن أمية ، إسمه : جناح ، فقال علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأيمن وابي واقد : انتحيا الإِبل واعقلاها ، وتقدم وأنزل النسوة ، واستقبل القوم بسيفه ، فقالوا : أظننت يا غدار إنك ناج بالنسوة ؟ إرجع ، لا أبا لك.

فقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : فإن لم أفعل ؟! قالوا : لترجعن راغماً ! ودنوا من المطايا ليثورها ، فحال علي بينهم وبينها ، فأهوى له جناح ، فراغ عليٌّ عن ضربته وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين حتى دخل السيف إلى كتف فرسه. وشد على أصحابه ، فتفرق القوم عنه وقالوا : إحبس نفسك عنّا يا بن أبي طالب !

فقال لهم : إني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله ، فمن سرّهُ أن أفري لحمه ، واريق دمه ، فليدن مني !!

ثم أقبل(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أيمن وأبي واقد ، وقال لهما : أطلقا مطاياكما.

وسار بها ظافراً قاهراً حتى نزل ضجنان ، فلبث بها يومه وليلته تلك هو والفواطم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، حتى طلع الفجر ، فلما

ص: 46


1- الفواطم : هن فاطمة بنت رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفاطمة بنت أسد ام الإمام علي ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وفاطمة بنت حمزة راجع سيرة المصطفى / 259.
2- ضجنان : إسم جبل على اربعة فراسخ من مكة.

صلوا صلاة الفجر سار بهم حتى قدموا المدينة ، وكان قد تفطرت قدماه ، فلما رآه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اعتنقه وبكى رحمةً لما به ، ثم تفل في يديه وأمرهَّما على قدمي علي ودعا له بالعافية ، فلم يعد يشتكي منهما (1).

ص: 47


1- راجع سيرة المصطفى 258 وما بعدها

النبي الأعظم في المدينة

وخرج(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من قبا يوم الجمعة ، فادركته الصلاة في بني سالم بن عوف ، فصلاها عندهم ومعه مائة من المسلمين ، وبعد الصلاة دعا براحلته فركبها ، والتف حوله المسلمون وهم مدججون بالسلاح ، وكان لا يمر بحي من أحياء الانصار إلا تعلقوا به ، يقولون له : انزل على الرحب والسعة يا نبي الله ، إلى القوة والمنعة والثروة ، فيدعو لهم بالخير ويقول : دعوا الراحلة فإنها مأمورة ، وما زالت تسير به ، وكلما مرَّ بحيٍّ أخذوا بزمامها وألحوا على النزول بينهم وهو يرفض ذلك إلى أن انتهت إلى حيث مسجده الآن فبركت عنده.

فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فحط رحله وأدخله منزله ، فقال رسول الله المرء مع رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام ناقة رسول الله وأدخلها داره.

قال زيد بن ثابت : وأول هديةٍ دخلت رسول الله في منزل ابي أيوب ، قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن ، فقلت : أرسلت بهذه القصعة أمي ، يا رسول الله ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : بارك الله فيك وفي أمك ، ودعا أصحابه فأكلوا.

ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة. وما كان من ليلةٍ من الليالي إلا وعلى باب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ، يتناوبون ذلك ، حتى فرغ رسول الله من بناء مسجده ومنازله ، وتحول عن منزل أبي أيوب ، وكان

ص: 48

مقامه فيه سبعة أشهر.

واهتم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بتوكيد الروابط بين المهاجرين والانصار ، وتأصيلها في نفوسهم على أساس التقوى والإيمان ، فآخى بين المهاجرين والأنصار ، وأطفأ بهديه وبراعته نار الحقد بين الأوس والخزرج ، ولم يكتف (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك ، بل حاول جاهداً تحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب من المسلمين والمشركين وأهل الكتاب من اليهود ، مخافة أن تثور بهم البغضاء والعصبيات وتعصف بهم الأحقاد فيصبح حينئذٍ بين خطرين ، خطر من داخل المدينة ، وخطر قريش ، وعندها يصاب هذا الدين الجديد بالنكسة ، لذلك كان(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد أحكم الأمر فعقد معاهدةً بين المسلمين والفئات الأخرى من أهل المدينة ليحفظ وحدتها ويصون اهلها ويغلق الباب على المفسدين ، ولولا هذا التدبير الرائع ، لواجه صلوات الله عليه صعوبات ومشاق لا تقل في حجمها عن تلك التي واجهها من قريش في مكة.

والكلمة الأخيرة : فإن موقف الأنصار من الرسول والمهاجرين معه كان أشرف موقف يسجله تأريخ أمة ، نصروهم بعد أن خذلهم قومهم ، وقاسموهم آموالهم ، وآثروهم على انفسهم ووفروا لهم وسائل العمل حتى أصبح الكثير منهم في مصاف الأثرياء من أهل المدينة ، وقد أجمل الإِمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موقف الأنصار من المهاجرين بقوله مخاطباً مسلمي قريش :

« إن حب الأنصار إيمان ، وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم ، وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة فنقله الى المدينة ، وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار ، ثم قدمنا عليهم دارهم ، فقاسمونا الأموال ، وكفونا العمل ، فصرنا منهم بين بذل الغني وايثار الفقير ، ثم حاربنا الناس فوقوْنا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آيةً من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نِعَم فقال : ( والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم يُحبّون من هاجر

ص: 49

إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةًٍ مَّما أوتوا ويؤثرون على أنفُسِهمَ ولو كان بهم خَصَاصَة ومن يُوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) (1).

ص: 50


1- شرح النهج 6 / 33 - 34.

بين الرسول الأعظم والمقداد

في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال - هو وبعض المستضعفين - في مكة ، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانه حليف للأسود بن عبد يغوث - كما قدمنا - فإنه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك ، لذلك كان يترقب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والإلتحاق بركبه ، حتى كانت سرية حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص ، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنه يريد القتال معهم ، وهكذا إنحاز إلى سرية حمزة ورجع معه الى المدينة.

وكان نزوله في المدينة على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ضيافته ، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة ، ومن الواضح أن وضع المسلمين الإقتصادي - في تلك الفترة - كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة ، بل يظهر أنهم كانوا يعانون الفقر المدقع - لولا مساعدة الأنصار لهم - فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين ، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم ، ورواحلهم ، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر ، أو تسعة ، في وضع إقتصادي مريح على الأقل ، سيما وأن النفقة - الصادر - اكثر من الوارد ، فبناء المسجد ، وبناء الدور - وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين - تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف.

وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة ، هجرة النبي ، بل توالت ، فكان على الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمسلمين أن يستقبلوا

ص: 51

ضيوفهم ، وأن يهيئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضرورية على الأقل.

فكان إذا هاجر بعض المسلمين ، وزّعهم رسول الله ، اثنان اثنان ، أو ثلاثة ثلاثة .. أو .. حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم.

والذي يظهر ، أن المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد ، وكان في عدد لا يستهان به ، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه ، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد ، قال :

لما نزلنا المدينة ، عشرنا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عشرةً عشرةً في كل بيت ! قال : فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (1).

إلا أن هذه الإقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة ، إذ يتخللها بعوثٌ وسرايا وغزوات ، قد يطول أمدها ، وعند العودة يتبدّل المكان ، سيّما إذا اخذنا بعين الإعتبار ما لرسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلموه في النزول عليه وفي ضيافته.

يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد ، حيث قال : أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعُنا وأبصارُنا من الجهد (2) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فليس أحد منهم يقبلنا. » لا لبخل فيهم ، بل لأنهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء ! « فأتينا النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ! ».

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إحتلبوا هذا اللبن بيننا.

ص: 52


1- الإستيعاب ( على هامش الإصابة ) 3 / 476.
2- الجهد : الجوع والتعب والمشقة.

قال: فكنا نحتلب ، فيشرب كل انسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) نصيبه. فيجيء (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليلاً فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان ، ثم يأتي المسجد فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب (1).

وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى ، وهي بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع ، فإنها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ أاو غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادئ مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإذعان والإنقياد ولوم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح ، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على ما جاء في تتمة الرواية.

قال : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ ، وقد شربتُ نصيبي - من اللبن - فقال : محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة.

فأتيتها فشربتها ، فلما أن وغلت (2) في بطني ، وعلمتُ أنه ليس إليها سبيل ، ندَّمني الشيطان ، فقال : ويحك ؟ ما صنعتَ ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده ، فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وآخرتك. !

وعليّ شملة ، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وأذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت.

قال : فجاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فسلّم كما كان يُسلّم ، ثم أتى المسجد ، فصلى

ص: 53


1- للرواية تتمة تأتي.
2- وغلت : أي استقرت وتمكنت في بطنه.

ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيءً ، فرفع رأسه الى السماء.

فقلت : الآن يدعو عليّ فأهلك ، فقال : « اللهم أطعم من أطعمني ، واسقِ من سقاني. » قال : فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة ، فانطلقت الى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فإذا هي حافلة (1) واذا هن حفل كلهن ، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال :

أشربتم شرابكم الليلة ؟

قال : قلت : يا رسول الله ؟ اشرب.

فشرب ، ثم ناولني ، فقلت : يا رسول الله ، إشرب. فشرب ، ثم ناولني.

فلما عرفت أن النبي قد روي ، وأصبتُ دعوته ، ضحكتُ حتى القيت إلى الأرض.

قال : فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إحد سوآتك (2) يا مقداد.

فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا.

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ما هذه إلا رحمةٌ من الله (3) آفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها.

قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك

ص: 54


1- حافلة : أي أن ضرعها ملآن باللبن.
2- احدى سوآتك : أي انك فعلت سوآة من الفعلات ، فما هي ؟
3- اي أن أحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته ، رحمة من الله.

من أصابها من الناس (1).

هذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفة الروح ، بالإضافة إلى إستشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فشربه ، ولاحظنا أن موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلائم مع عقولهم ونفوسهم ، وربما تلاحظ معي أن الرسول الكريم - كما يظهر من الحديث - تمنى لو أن المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب ، شراب ذلك اللبن المبارك.

وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول ، تتجلى فيه عظمة الإسلام ، ونبي الإسلام ، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق ، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب ، بل وغرس الروح الإنضباطية لدى المسلم.

فقد سأله ذات مرة : يا رسول الله ، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار ، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ؛ أفأقتله - يا رسول الله - بعد أن قالها ؟!

قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا تقتله.

قال : فقلت : يا رسول الله ، انه قطع يدي ! ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟

قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا تقتله. فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ! وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال. ! (2)

ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإسلام بالنفس البشرية إلى آعالي قمم الكرامة

ص: 55


1- صحيح مسلم ج 3 ك 36 ص 1625 - 1626 ح 174.
2- صحيح مسلم ج 1 ك 1 ص 96 ح 155 - 156 - 157.

والإنسانية ، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم.

أي عمق هذا في تعزيز الروح الإنسانية ، وأي صيانةٍ لها ؟؟ هكذا الإسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته ، فكلمة صادقة ، كفيلة في أن تقلب الموازين وكلمة صادقة ، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها ، وليس للحقد في دنيا الإسلام مكان.

انه موقفٌ شواهد الحكمة فيه ، ومعه.

ص: 56

من مواقفه البطولية

اشارة

* في سرية « نخلة ». ينقذ أسيراً فيسلم.

* في غزوة بدر الكبرى

* غزوة احد

* غزوة الغابة

* عزوة خيبر

ص: 57

ص: 58

في سرية « نخلة »

في سرية « نخلة »(1)

ينقذ أسيراً ، فيسلم !

بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة ، أراد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يتتبع أخبار قريش ، ويتحسس تنقلاتها ، ويرصد تحركاتها في المنطقة ، فدعا عبدالله بن جحش ، وأمره أن يوافيه مع الصباح بكامل سلاحه.

قال : فوافيت الصبح وعلي سيفي ، وقوسي ، وجعبتي ، ومعي درقتي ، فصلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الصبح بالناس ، ثم انصرف فوجدني قد سبقته واقفاً عند باب داره ومعي نفر من قريش.

فدعا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أبي بن كعب ، فدخل عليه ، فأمره أن يكتب كتاباً.

ثم دعاني (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأعطاني صحيفةً من أديم خولاني فقال : قد استعملتك على هؤلاء النفر ، فامضي حتى إذا سرت ليلتين ، فانشر كتابي ، ثم امضي لما فيه.

قلت : يا رسول الله ، أي ناحية أسير ؟ فقال : اسلك النجدّية ، تؤم رُكيّة ( بئر ).

فانطلق عبدالله ، حتى إذا صار ببئر ضمرة نشر الكتاب فإذا فيه : « سر حتى تأتي بطن نخلة على إسم الله وبركاته ، ولا تكرهنَّ أحداً من

ص: 59


1- : سميت باسم المكان ، وهو بطن نخلة : « قرية قريبة من المدينة ». هكذا قال ياقوت.

أصحابك على المسير معك ، وامضِ لأمري فيمن تبعك حتى تأتي « بطن نخلة » فترصَّد بها عِيرَ قريش ».

فقرأ عبدالله الكتاب على أصحابه ، ثم قال : لست مستكرهاً منكم أحداً ، فمن كان يريد الشهادة ، فليمضِ لأمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن أراد الرجعة ، فمن الآن. !

فقالوا جميعاً : نحن سامعون ومطيعون لله ولرسوله ولك ، فسر على بركة الله حيث شئت.

فسار حتى جاء نخلة ، فوجد عيراً لقريش فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، ونوفل بن عبدالله وهم من بني مخزوم.

وكان ذلك اليوم مشتبها في أنه آخر يوم من رجب ، أو اول يوم من شعبان. ورجب من الأشهر الحرم ، فقال قائل : لا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم ، أم لا ؟

وقائل يقول : إن اخرتم عنهم هذا اليوم ، دخلو في الحرم - حرم مكة - وإن أصبتموهم ، ففي الشهر الحرام.

هذا ، مع أن النبي صلوات الله عليه لم يأمرهم بالقتال ، وانما أمرهم بمراقبة تحركاتهم.

وكان رأي واقد بن عبدالله ، وعكاشة بن محصن مقاتلتهم ، وأخيراً غلب رأيهم على رأي من سواهم ، فشجُعَ القوم ، فقاتلوهم.

فخرج واقد بن عبدالله يقدم القوم ، قد أنبض قوسه وفوّق بسهمه - وكان لا يخطئ رميته - فرمى عمرو بن الحضرمي بسهم ، فقتله.

وأسِرَ عثمان بن عبدالله ، وحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله.

ص: 60

واستاق المسلمون العِير - وكانت تحمل خمراً وزبيباً وجلوداً - إلى رسول الله فوقّفها ولم يأخذ منها شيئاً. وقال لهم : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام.

أما الأسيران ، فحبسهما عنده ، لأن اثنين من المسلمين كانا قد ضلا وتأخرا عن أصحابهم ، فظن الناس أن قريشاً قد حبستهما أو قتلتهما.

وأرسلت قريش إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في فداء أصحابهم ، فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لن نفديهما حتى يقدما صاحبانا.

وكان المقداد رضی الله عنه هو الذي قد أسر الحكم بن كيسان ، وأنقذه من القتل ، وذلك كما يحدثنا هو فيقول :

أراد أمير الجيش أن يضرب عنقه ، فقلت : دعه نقدم به على رسول الله.

فقدمنا به على رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فجعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعوه إلى الإسلام ، فأطال رسول الله كلامه.

فقال عمر بن الخطاب : تكلم هذا يا رسول الله ؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد ! دعني اضرب عنقه ، ويقدم الى أمه الهاوية. ! فجعل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يقبل على عمر.

قال الحكم : وما الإسلام ؟

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : تعبد الله وحده لا شريك له ، وتشهد أن محمداً عبد ورسوله.

قال : قد أسلمت.

فالتفت النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى أصحابه ، فقال : لو أطعتكم فيه آنفاً فقتلته. دخل النار.

قال عمر : فما هو إلا أن رأيته قد أسلم ، وأخذني ما تقدم وتأخر وقلت :

ص: 61

كيف أرد على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أمراً هو أعلم به مني ، ثم أقول : إنما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله.

قال عمر : فأسلم والله ، فحُسن إسلامه ، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً يوم بئر معونة ، ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) راضٍ عنه. (1)

ص: 62


1- المغازي : 15.

في غزوة بدر الكبرى

في غزوة بدر الكبرى(1)

لم ينس المسلمون المواقف الآثمة التي وقفتها منهم قريش وباقي المشركين في « البلد الامين » مكة. حيث عذبت قسماً منهم أشد التعذيب ، وحاصرت محمداً ومن معه في « الشعب » قرابة ثلاث سنين ، بالإضافة الى مصادرة أموالهم ، مما ترك أسوأ الأثر في نفوسهم ، وجعلهم يتحينون الفرصة للثأر من جلاديهم.

وفي السنة الثانية للهجرة ، خرج أبو سفيان بن حرب بقافلة عظيمة للإتجار بها في بلاد الشام ، كانت قد إحتوت على ألف بعير ، وسبعة آلاف مثقال من الذهب حيث لم يبق قرشي ولا قرشية في مكة ممن يمتلك مالاً إلا وبعث به في تلك القافلة.

حين علم النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك ، ندب أصحابه لإعتراضها موقظاً في أعينهم الثأر الذي نام طويلاً لكنه لم يعزم على أحد منهم بالخروج ، بل ترك لهم الخيار في ذلك ، فقال لهم :

« هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلَّ الله أن ينفَّلكموها .. »

ص: 63


1- وهي أول حرب خاضها المسلمون ضد عدوهم ، وكانت في 17 أو 19 رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وبها تمهدت قواعد الدين ، وأعز الله الإسلام ، وأذل جبابرة قريش بقتل زعمائهم. وبدر : اسم لبئر كانت لرجل اسمه بدر.

وكان المسلمون قلّةً ضئيلة في قبال خصمهم ، ولم يكونوا ليخوضوا تجربة الحرب بعد ، ومع ذلك فقد خفَّ البعض منهم سِراعاً ، بينما تثاقل البعض الآخر ظناً منهم بأن النبي لا يلقى حرباً. فكان عدد المقاتلين من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة ، أو يزيدون قليلاً.

أما أبو سفيان ، فحين بلغه تأهب المسلمين للقائه دبَّ الذعر في قلبه ، وساوره قلق شديد على مصير القافلة ، حتى إذا وصل إلى مكان يقال له : « الروحاء » وجد فيه رجلاً إسمه : مجدي بن عمر ، فسأله عن أخبار محمد ؟ فقال : « ما رأيتُ أحداً انكره ، غير اني رأيت راكبين أناخا في هذا التل ، ثم استقيا في شنٍ (1) لهما وانطلقا .. ».

أقبل أبو سفيان نحو التل وتناول بعراتٍ من فضلات الراحلتين ففتَّهما ، فإذا فيها النوى ، فقال : « هذه والله علائف يثرب ! وأدرك أن الرجلين من اصحاب محمد وانه قريب من الماء. ».

فرجع بالعير يضرب وجهها عن الطريق متجهاً بها نحو السحل ، تاركاً بدراً الى يساره إلى أن نجا بالقافلة بعد أن كاد أن يسقط في أيدي المسلمين.

ضمضم يدخل مكة مستصرخاً

وكان أبو سفيان قد انفذ ضمضم بن عمرو الغفاري الى مكة ، يستصرخ قريشاً كي يهبُّوا لنجدة القافلة من مصير محتم ، فدخل مكة وقد جدع أنف بعيره ، وأدار رحله وشق قميصه وصاح بأعلى صوته :

« يا معشر قريش ، اللطيمة .. اللطيمة .. (2) أموالكم مع أبي سفيان ، قد تعرَّض لها محمدٌ وأصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ».

ص: 64


1- الشن : القربة الصغيرة.
2- اللطيمة : التجارة. وقيل : العطر خاصة.

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت - قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال - رؤياً أفزعتها فقصتها على أخيها العباس واستكتمه خبرها.

قالت : رأيت راكباً على بعير له وقف بالأبطح(1) ثم صرخ بأعلى صوته : أن أنفروا يا آل غُدر إلى مصارعكم في ثلاث ، قالت : فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد فمَثُلَ بعيره على الكعبة ، ثم صرخ مثلها ، ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ مثلها ، ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها ، فلما كانت بأسفل الوادي إرفَضّت فما بقي بيت من مكة إلا دخله فِلقةٌ منها !

لكن العباس قصّ هذه الرؤيا على صديقه الوليد بن عتبة ، وقصها الوليد على أبيه عتبة ، فشاعت في أحياء قريش.

وبينما العباس يطوف إذ لقيه أبو جهل ، فقال له : يا ابا الفضل أقبل إلينا.

قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه ، فقال لي : متى حدثت فيكم هذه النبيّةُ ؟ ! وذكر رؤيا عاتكة. ثم قال : أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم ، حتى تتنبأ نساؤكم ؟! فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يكن حقاً ؛ وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب .. ».

قال العباس : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركَهُ فرأيته في المسجد فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به ، فخرج نحو باب المسجد يشتد. فقلت : ما باله ، قاتله الله ، أكلُّ هذا فرقاً من أن اشتمه ؟!

وإذا هو قد سمع مالم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن

ص: 65


1- كل مسيل فيه دقاق الحصى والمراد به هنا : المحصب وهو مكان قريب من منى تارةً يضاف إلى مكة واخرى إلى منى لقربه منهما.

الوادي ..

قال فشغلني عنه ، وشغله عني (1).

قريش تتجهز للخروج

ألهب ضمضم مشاعر القرشيين بندائه ، فتجهز الناس سراعاً ، وأقامت قريش ثلاثاً تتجهز ، وأخرجت اسلحتها ، وأعان قويُّهم ضعيفهم « ولم يتخلف عن الخروج من أشرافهم أحد إلا أبا لهب ، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ».

وعزم أمية بن خلف الجمحي على القعود - لأنه كان شيخاً ثقيلاً ، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرةٍ فيها نارٌ وبخور وقال : يا ابا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء !

فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، وتجهز وخرج معهم (2).

ولما أتمت قريش تجهيزها ، خرجت بالقيان والدفوف ، وكانوا تسعماية وخمسون مقاتلاً ، وقادوا معهم مائة فرس بَطَراً وتجبُّراً ، وسبعمائة من الإبل ، وأبو جهل يقول : « أيظن محمدٌ أن يصيب منّا ؟ سيعلم أنمنع عِيرنَا أم لا ».

ومضت قريش في طريقها ينحرون ويطعمون الطعام لكل من وفد عليهم.

لكن يبدو أن أكثرهم كان متشائماً من تلك الرحلة بالرغم من كثرتهم عدةً وعدداً ، إلا أن الكبرياء والجبروت طالما دفعا بأهلهما نحو المصير الأسود.

ص: 66


1- الكامل 2 / 117 والسيرة النبوية 2 / 182 - 183 والطبري 2 / 270 - 271 بعبارات مختلفة.
2- الكامل 2 / 118 - 119.

جاء في حديث حكيم بن حزام قوله : ما توجهت وجهاً قط كان اكَرهَ إليَّ من مسيري إلى بدر ، ولا بان لي في وجهٍ قط ما بان لي قبل أن اخرج ، وخرجت على ذلك حتى نزلنا « مرَّ الظهران » فنحر ابن الحنظلية جزوراً منها بها حياة ، فما بقي خِباء من أخبية العسكر أصابه من دمها ، وتشاءمت من ذلك وهممت أن أرجع.

ثم قال : ولقد رأيت حين بلغنا الثنية البيضاء (1) وإذا عدّاس (2) جالس عليها والناس يمرون ، إذ مر علينا ابنا ربيعة - عتبة وشيبة - فوثب إليهما وأخذ بأرجلهما وهو يقول : بأبي أنتما وأمي ، والله إنه لرسول الله ، وما تساقان إلا مصارعكما - وان عينيه لتسيل دمعاً على خديه.

أبو سفيان ينجو بالقافلة ويأمر قريشاً بالرجوع وقريش ترفض

واتجه ابو سفيان بالعير نحو الساحل تاركاً بدراً إلى يساره حتى نجا بها ، عند ذلك أرسل قيس بن أمرؤ القيس إلى القرشيين يأمرهم بالرجوع ، ويقول لهم : « قد نجت عيركم وأموالكم فلا تحرزوا انفسكم أهل يثرب فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك ، إنما خرجتم لتمنعوا عيركم واموالكم وقد نجاها الله !! ».

وقال له : فإن أبوأ عليك ، فلا يأبون خصلةً واحدةً. يردون القيان.

وذهب قيس إلى قريش ، وابلغهم قول ابي سفيان ، فأبوا الرجوع ، قالوا : وأما القيان ، فسنردهن.

ص: 67


1- * عقبة قرب مكة تهبطك الى فخ وانت مقبل من المدينة تريد مكة ؛ اسفل مكة من قبل ذي طوى.
2- * عداس : رجل نصراني كان يعمل عند عتبة وشيبة في بستان لهما في الطائف ، وله مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حوارٌ حين ذهب (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؛ الى الطائف. - شرح النهج 14 / 99.

ولحق قيس أبا سفيان بالهدة ، قبل دخوله لمكة بنحو من تسعة وثلاثين ميلاً فأخبره بمضي قريش.

فقال أبو سفيان : واقوماه ، هذا عمل عمرو بن هشام يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، والله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا.

وكان أبو جهل قد أصر على المضي في طريقه ، وقال : « والله لا نرجع حتى نرد بدراً - وكانت يومذاك موسماً من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون فيها وفيها سوق - تسمع العرب بنا وبمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثاً ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان فلن تزال العرب تهابنا أبداً.

« رجوع بني زهرة الى مكة »

وكان الأخنس بن شراق حليفاً لبني زهرة ، فقال لهم : « يا بني زهرة ، قد نجى الله عيركم ، وخلّص أموالكم ، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما خرجتم لتمنعوه وماله ، وانما محمد رجل منكم وابن اختكم ، فإن يك نبياً فأنتم أسعد به ، وان يك كاذباً يلي قتله غيركم خير من أن تلو أنتم قتل ابن أختكم ، فارجعوا وأجعلوا خبثها لي ، فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم ، ودعوا ما يقوله أبو جهل ، فإنه مهلك قومه ، سريع في فسادهم.

فاطاعته بنو زهرة .. ولم يشهد هذه الحرب زهري البتة. (1)

فقدان التوازن بين الفريقين

وكان أبرز مظاهر هذه الحرب فقدان التوازن العسكري والمادي بين

ص: 68


1- شرح النهج 14 - 106 - الى 109.

الفريقين ، فقد كان عدد المسلمين ثلاثمائة او يزيدون قيلاً ، بينما كان عدد المشركين يتراوح بين التسعمائة والألف.

وقاد المشركون معهم مائة فرس وسبعمائة من الابل.

بينما قاد المسلمون معهم فرساً واحدة يقال لها : سبحة ، كانت للمقداد بن عمرو ، وسبعون رأساً من الإبل يتعاقب على كل واحد منها الأثنان والثلاثة والأربعة ، حتى أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان هو وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة يتعاقبون بعيراً واحداً.

وكانت قريش تنحر الجزر وتطعم الطعام لكل من وفد عليها ، بينما كان المسلمون في غاية الفقر والحاجة ، إلى ما هنالك من عوامل أبرزت هذا التمايز الواضح بين الفريقين ، لكن ارادة الله سبحانه كانت فوق الظنون والإِحتمالات واستباق النتائج.

النبي في طريقه الى بدر

قال الواقدي :

وسار رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى بلغ الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان فقال لأصحابه :

هذا سجاسج - يعني وادي الروحاء - هذا أفضل أودية العرب ، وصلى هناك فلما فرغ من صلاته لعن الكفرة ، ودعا عليهم وقال :

اللهم لا تفلتني أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة ، اللهم لا تفلتني زمعة ابن الأسود ، اللهم أسخن عين أبي زمعة ، اللهم أعم بصر أبي دبيلة ، اللهم لا تفلتني سهيل بن عمرو (1).

ص: 69


1- المصدر السابق - 110.

ثم دعا لقوم من قريش كانوا قد أسروا الإسلام وكانوا من المستضعفين فخرجوا مع القوم مكرهين ، كسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة.

ولما وصل قريباً من بدر ، أخبر بمسير قريش ، فأخبر أصاحبه بذلك واستشارهم في الأمر ليكونوا على بصيرة من ذلك ، وخشي أن لا يكون للأنصار رغبة في القتال لأنهم عاهدوه على أن يدافعوا عنه في بلدهم فيمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم.

فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله انها قريش وغدرها ، والله ما ذلت منذ عزَّت ، ولا آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزها أبداً ، ولتقاتلنك ، فاتهب لذلك أهبته ، واعد لذلك عدته (1).

موقف المقداد

ومن الواضح أن الوضع كان غايةً في الدقة والحرج نظراً لفقدان التوازن كما أسلفنا ، لذا فإنه كان يتطلب مزيداً من الثبات والإصرار وبث الروح الجهادية بين الصفوف والتسليم المطلق بما يقوله النبي.

قام المقداد فقال : يا رسول الله ، امض لأمر الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى : إذهب انت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب انت وربك فقاتلا انا معكم مقاتلون.

والذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد(2) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .. ».

فقال له رسول الله خيراً ودعا له

ص: 70


1- سيرة المصطفى 339.
2- بِركُ الغِماد : موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر ، وقيل : بلد باليمن ..

ثم قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أشيروا علي أيها الناس.

فقام سعد بن معاذ ، فقال : كأنك تريدنا يا رسول الله ؟

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : نعم.

قال سعد : قد آمنا بك - يا رسول الله - وصدقناك واعطيناك عهودنا فامضى - يا رسول الله - لما أمرت ، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك ، وما نكره أن تلقى العدو بنا غداً ، وانا لصبرٌ عند الحرب ، صدقٌ عند اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله. (1)

كانت هذه الكلمات من المقداد - المهاجري - وسعد - سيد الأوس - تبعث في نفوس المسلمين الأمل بالنصر على عدوهم ، وتزرع في قلوبهم الصبر على مكاره الحرب ،

لكن يبدوا أن كلمات المقداد كان لها وقع خاص في نفس النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فإنه حين سمعها انفرجت اسارير وجهه ابتهاجاً كما يظهر من حديث ابن مسعود حيث قال :

« لقد شهدت مع المقداد مشهداً لئن أكون صاحبه أحب الي مما طلعت عليه الشمس ! - ثم ذكر كلمة المقداد - ثم قال : فرأيت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يشرق وجهه بذلك وسرّه وأعجبه.(2)

النبي(صلی الله علیه و آله) في وادي بدر

بعد ذلك ، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : سيروا بنا على بركة الله ، فإن الله قد وعدني احدى الطائفتين ، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم.

ص: 71


1- الكامل 2 / 120.
2- الإستيعاب 3 - 474.

ثم مضى في مسيره حتى نزل وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان.

فجاءه سعد بن معاذ ، فقال : يا رسول الله ، نبني لك عريشاً من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا ، فإن اعزنا الله وأظهرنا عليهم ، كان ذلك مما أحببناه ، وان كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويحاربون معك.

فأثنى عليه رسول الله خيراً ودعا له. (1)

قريش تنزل الوادي

وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها ، فلما رآها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة (2).

استعداد المسلمين للحرب

ودفع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) رايته إلى علي بن أبي طالب ، وكانت تسمى « العُقاب » وأعطى لواء المهاجرين إلى مصعب بن عمير ، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر ولواء الأوس الى سعد بن معاذ.

ص: 72


1- الكامل : 2 - 122.
2- الكامل : 123.

غرور أبي جهل

ونظرت قريش إلى قلة المسلمين ، فقال أبو جهل : ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم باليد.

فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمين أو مدد ؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً ، فجال بفرسه حول عسكر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم رجع إليهم فقال : القوم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا او ينقصون قليلاً. ولكن أمهلوني حتى أنظر إذا كان لهم كمين أو مدد.

فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم يرَ شيئاً ، فرجع اليهم وقال :

ما رأيت شيئاً ، ولكن وجدت - يا معشر قريش - البلايا ( البراذع ) تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك الا ترون انهم خرس لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي ما أرى انهم يولون حتى يقتلوا بعددهم !

فقال له أبو جهل : كذبت وجبنت.

وأرسل إليهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن أرجعوا من حيث أتيتم ، فلئن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه أنتم.

فقال عتبة : ما رد هذا قوم قط ، وأفلحوا. ثم ركب جمله الأحمر ، فنظر إليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال ، فقال : إن يكن بأحد منهم خير فعند صاحب ذلك الجمل وان يطيعوه يرشدوا.

ووقف عتبة يخطب في أصحابه ، فقال : يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ! إن محمداً له إلُّ وذمه ، وهو ابن عمكم فخلوه والعرب ، فإن يكن صادقاً فأنتم أعلى عيناً ، وان يكن كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.

ص: 73

قال حكيم بن حزام : فانطلقت إلى أبي جهل ، فوجدته قد نثل درعاً وهو يهيؤها فاعلمته ما قال عتبة. فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم وقد خافكم عليه.

وبلغ ذلك عتبة ، فقال : سيعلم المصفّر أسته من انتفخ سحره ، أنا ، أم هو ؟ ثم إلتمس بيضةً يدخلها رأسه. فما وجد في الجيش بيضةً تسعه من عظم هامته ، فاعتجر ببرد له (1).

بدء القتال

وكان عتبة قد قال أنه يتحمل دم حليفه عمرو بن الحضرمي الذي قتله المسلمون في مكان يقال له نخلة ، وذلك في غزوة العشيرة ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فخاف أن ينجح عتبة في خطته ويرجع الناس بدون قتال ، فجاء إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو وقال له : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.

فقام عامر فاكتشف ، ثم صرخ ، واعمراه .. واعمراه .. فحميت الحرب ، وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر.

وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان سيئ الخلق - فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه.

فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض ثم حبا إلى الحوض ، فاقتحم فيه ليبر يمينه ، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

ص: 74


1- الطبري 2 - 279 والكامل 2 - 124.

مقتل عتبة وشيبة والوليد

ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة.

فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحة وهم من الأنصار.

فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار. فقالوا : أكفاءٌ كرام وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا.

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قم يا حمزة ، قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا علي فقاموا ، ودنا بعضهم من بعض ، وانتسبوا لهم.

فقال عتبة : أكفاءٌ كرام.

فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبةً.

وبارز حمزة شيبة.

وبارز علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الوليد. (1)

أما حمزة فلم يمهل شيبه حتى قضى عليه في الضربة الأولى.

وكذلك فعل علي بن أبي طالب ، فإنه لم يمهل الوليد حتى قتله.

وأما عبيدة وعتبة ، فكل منهما قد ضرب صاحبه وأصابه بجروح لا يرجى منها الشفاء. فكرَّ الحمزة حينئذٍ على عتبة يبارزه ، فصاح المسلمون : يا علي ، أما ترى الكلب قد بهر عمك ؟ - وكان الحمزة وعتبة قد اعتنقا بعد أن تكسر سيفهما ، والحمزة أطول من عتبة - فقال له علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : يا عم طأطأ رأسك ، فادخل الحمزة رأسه في صدر عتبة ، فضرب علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عتبة ،

ص: 75


1- الكامل 2 / 124 / 125.

فقدَّه نصفين (1).

ثم حملا عبيدة بن الحارث ، وكانت قد قطعت ساقه ، فألقياه بين يدي رسول الله(صلی الله علیه و آله) فاستعبر عبيدة وقال ألستُ يا رسول الله شهيداً ؟

قال(صلی الله علیه و آله) : بلى.

قال : لو كان أبو طالب حياً لعلم أني أحق بما قال :

كذبتم وبيت الله نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضلِ

وننصره حتى نُصرّع حوله * ونذهَل عن أبنائنا والحلائل

ثم مات رضی الله عنه ، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض ، وكان شعار النبي في هذه الغزوة : يا منصور أمت (2).

وكان من دعاء النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في ذلك اليوم قوله : « اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، اللهم انجز لي ما وعدتني .. ».

وبرز بعد ذلك حنظلة بن أبي سفيان إلى علي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فلما دنا منه ، ضربه علي بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض (3).

وبرز بعد ذلك العاص بن سعيد بن العاص (4) فبرز إليه علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقتله.

ص: 76


1- سيرة المصطفى 347.
2- شرح النهج 14 / 130 / 133.
3- والى ذلك يشير امير المؤمنين بقوله : - مخاطباً معاوية - « وعندي السيف الذي اعضضت به أخاك وخالك وجدك يوم بدر » ( شرح النهج 14 - 131 ).
4- وقد وصف عمر بن الخطاب العاص لولده سعيد بقوله : « مررت به يوم بدر فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فهبته وزغت عنه ، فقال : إلي يا بن الخطاب ! فصمد له علي وتناوله ، فوالله ما رمت مكاني حتى قتله ». سيرة المصطفى - 347 وفي شرح النهج ، قول عمر لسعيد : مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ! إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ، - وكان علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حاضراً - فقال : اللهم غَفراً ! ذهب الشرك بما فيه ، ومحا الإسلام ما قبله ، فلماذا تَهاجَ القلوب ؟! فسكت عمر. وقال سعيد : لقد قتله كُفءٌ كريم ، وهو أحب الي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف - 14 - 144 - 145.

قال الواقدي وابن اسحاق : وأخذ رسول الله(صلی الله علیه و آله) كفاً من البطحاء فرماهم بها ، وقال : شاهت الوجوه ! اللهم ارعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم ، فانهزم المشركون لا يلوون على شيء ، والمسلمون يتبعونهم يقتلون ويأسرون. (1)

وكان بلال بن رباح الحبشي يعجن عجيناً ، فبصر بأمية بن خلف (2) فترك العجين وصاح بأعلى صوته : يا أنصار الله هذا أمية بن خلف رأس الكفر ، لا نجوت إن نجا. فاحاطوا به حتى جعلوه في مثل المسكة (3) وقتلوه مع ولده علي بن أمية.

وكان المقداد قد أسر النضر بن الحارث ، فلما خرج النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من بدر وكان بالأثيل (4) عرض عليه الأسرى ، فنظر إلى النضر بن الحارث فأبدَّه البصر ، فقال لرجل إلى جنبه : محمد والله قاتلي ! لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت ! فقال الذي إلى جنبه : والله ما هذا منك إلا رعب !

فقال النضر لمصعب بن عمير : يا مصعب ، أنت اقرب من ههنا بي

ص: 77


1- شرح النهج 14 - 146.
2- كان أمية بن خلف من جبابرة قريش وعتاتهم ، وكان يعذب بلالاً في مكة ، يخرج به إلى الرمضاء إذا حميت فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فيضعها على ظهره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا ، أو تفارق دين محمد. فيقول بلال : أحد .. أحد .. كما في شرح النهج 14 - 138.
3- المسكة : السوار.
4- الأُثيل : تصغير الأثل ، موضع قرب المدينة.

رحماً. كلم صاحبك أن يجعلني كرحل من أصحابي ، هو والله قاتلي إن لم تفعل.

قال مصعب : إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا ، وتقول في نبيّه كذا وكذا.

قال : يا مصعب ؛ فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت ، وان منَّ عليهم منَّ علي.

قال مصعب : إنك كنت تعذب أصحابه.

قال : أما والله لو اسرتك قريش ما قتلت أبداً وأنا حي.

قال مصعب : والله اني لأراك صادقاً ، ولكن لست مثلك ، قطع الإسلام العهود.

وأمر النبي(صلی الله علیه و آله) علياً أن يضرب عنقه. (1)

كان المقداد يستمع - في هذا الحال - إلى الحوار الذي جرى بين النضر بن الحارث ومصعب بن عمير وكأنه ينتظر فرصةً تسمح للصفح والعفو عنه عسى أن يجعل الله في ذلك خيراً ، فلما أمر النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علياً بضرب عنقه ، صاح المقداد بأعلى صوته :

يا رسول الله ، أسيري ؟! (2)

فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله) : اللهم اغن المقداد من فضلك. ثم ضرب علي عنقه.(3)

وبدأ تقسيم الغنائم ، فكان لكل مسلم سهم ما عدا المقداد ، فكان له

ص: 78


1- شرح النهج 14 - 171.
2- یستفاد هذا المعنی من موقف آخر لمقداد کما تقدم فی سریه«نخله»
3- المصدر السابق

سهمان سهم له ، وسهم لفرسه « سبحة »(1) وكان يتفاخر بذلك ويقول :

« ضرب لي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يومئذٍ بسهم ، ولفرسي بسهم ! وقائل يقول : ضرب رسول الله يومئذٍ للفرس بسهمين ، ولصاحبه بسهم » (2).

ص: 79


1- سبحة : أول فرس لأول فارس في الإسلام ، ( فعن القاسم بن عبد الرحمن قال : أول من عدا به فرسه في سبيل الله ، المقداد بن الأسود. وعن علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن عمرو - الطبقات الكبرى 3 - 162 وكانت في فترة ما من التاريخ حديث المجالس في المدينة وفي مكة وفي جوارهما ، وكان المقداد يتفاخر بذكرها وتعداد مآثرها ومن ذلك قوله : « شهدت بدراً على فرسٍ لي يقال لها : سبحة » الإصابة 3 - 454 - 455 وكان يقول : « شهدت بدر الموعد على فرسي سبحة اركب ظهرها ذاهباً وراجعاً ، فلم يلق كيداً » المغازي 387. ويحكى : أن عبيد بن ياسر كان « قد أهدى للنبي فرساعتيقاً يقال له : مراوح وقال : يا رسول الله : سابق ، - أي هذا سابق غيره - فأجرى رسول الله الخيل بتبوك ، فسبق الفرس ، فأخذه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منه ، فسأله المقداد بن عمرو الفرس. فقال رسول الله : أين سبحة ؟! فقال : يا رسول الله ، عندي ، وقد كبرت. وأنا أظنُّ بها للمواطن التي شهدتُ عليها ، وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها ، فأردت أن أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتي بمهر ! فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : فذاك ، إذن. فقبضه المقداد ، فخبر منه صِدقاً ثم حمله على سبحة ، فنتجت له مهراً كان سابقاً ، يقال له : الذيّال. سبق في عهد عمر وعثمان ، فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفا. المغازي 1033.
2- المغازي 102 - 103.

النضر بن الحارث

النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة .. كان أشد قريش في تكذيب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأذى له ولأصحابه. وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى وسمع بذكر النبي وقرب مبعثه فقال : إن جاءنا نذير لنكونَنَّ أهدى من احدى الأمم فنزلت الآية : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ... ) 6 - 109 وكان يقول : إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين. فنزل فيه عدة آيات.

وأتى النضر وعقبة بعض أهل الكتاب فقالوا : اعطونا شيئاً نسأل عنه محمداً. فقالوا : سلوه عن فتيةٍ هلكوا قديماً ، وعن رجل طاف حتى بلغ المشرق والمغرب ، فسألوه عن أهل الكهف وذي القرنين ، فانزل الله عز وجل في أمرهم ما أنزل.

وقال النضر وأمية بن خلف وأبو جهل للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ان كان قرآنك من عند الله فأحيي لنا آبائنا ، وأوسع لنا بلدنا بأن تسير هذا الجبال عنا فقد ضيَّقت مكة علينا ، أو أجعل لنا الصفا ذهباً نستغني عن الرحلة ( رحلة الشتاء والصيف ) فإن فعلت ذلك ، آمنا بك : وكان النضر خطيب القوم ، فانزل الله سبحانه : ( ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال أو قُطعت به الأرضُ أو كُلّم به الموتى - الى قول تعالى - فكيف كان عقاب ) ( الرعد 13 - 31 ).

وأخذ النضر عظماً نخراً فسحقه ونفخه ، وقال : من يحي هذا يا محمد ؟

فنزلت فيه الآية : ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم .. ) أنساب الأشراف 1 / 142 - 143.

اسر في بدر أسره المقداد بن عمرو ، وقتل صبراً بالأثيل فقالت أخته :

يا راكباً إن الأُثيل مظنةٌ * من صبح خامسةٍ وانت موفق

بلغ به ميتاً فإن تحيةً * ما إن تزال بها الركائب تخفق

مني إليه وعبرةً مسفوحةً * جادت لما تحها واخرى تخنق

فليسمعن النضر إن ناديته * إن كان يسمع ميت أو ينطق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هناك تمزق

صبراً يقاد الى المدينة راغماً * رسف المقيد وهو عانٍ موثقُ

أمحمد ولأنت نجل نجيبةٍ * في قومها والفحل فحلّ معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما * منَّ الفتى وهو المغيظُ المحنَقُ

والنضر اقرب من قتلتَ وسيلةً * واحقهم إن كان عتق يعتق

قال الواقدي : وروي أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لما وصل إليه شعرها رقَّ له ، وقال : لو كنت سمعتُ شعرها قبل أن أقتله لما قتلته. شرح النهج 14 - 171 - 172.

ص: 80

غزوة أُحد

وقعت في السنة الثالثة للهجرة ، لسبع ليالٍ خلون من شوال فقد حشدت قريش ومعها المشركون ، جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أو يزيد ، بينهم سبعمائة دارع ، وقادوا معهم مائتي فرس ، وثلاثة آلاف بعير (1) وقصدوا المدينة طلباً بالثأر لقتلاهم في بدر. (2)

وفي خلال الفترة التي كانوا يستعدون بها للخروج ، كان العباس بن عبد المطلب يطلع على كل صغيرة وكبيرة من أمرهم ، فكتب إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كتاباً يعلمه فيه بتحركاتهم واستعداداتهم ، وعددهم وعدتهم ، وأرسله سرّأً مع رجل من غفار وأوصاه بالكتمان ، وأن يجدّ السير.

مضى الغفاري بالكتاب لا همَّ له إلا إيصاله إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). (3)

ومضت قريش في طريقها إلى أحد ، فمروا بالأبواء حيث يوجد قبر أمنة أم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأشارت هندُ على المشركين بنبش القبر ، وقالت : « لو نجشتم قبر أم محمد فإن أسِرَ منكم أحد فديتم كل إنسان بإربٍ من إربها !! فقال بعض قريش لا يفتح هذا الباب. » (4).

ومضى الغفاري حتى وصل إلى المدينة في ثلاثة أيام ، فوجد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)

ص: 81


1- كما في شرح النهج 14 / 217.
2- مقتضب.
3- مقتضب.
4- النصائح الكافية / 112.

في قبا ، على باب مسجدها ، فدفع إليه كتاب العباس ، فدفعه النبي إلى أبي بن كعب فقرأه عليه ، فأمره النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يكتم الخبر ولا يحدث أحداً بما فيه.

وعاد النبي إلى المدينة ، وقصد دار سعد بن الربيع ، وقص له ما بعث به العباس ، وأمره بالكتمان ، فقال سعد : والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير.

نزول قريش قرب المدينة

أما قريش ، فقد تابعت سيرها حتى بلغت العقيق ، ونزلت في سفح جبل على خمسة أميال من المدينة ، ثم ساروا حتى نزلوا في مقابل المدينة بمكان يدعى : « ذو الحليفة » فتركوا خيلهم وإبلهم ترعى في زروع المدينة المحيطة بها.

وبعث النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنس ومؤنس ابني فضال يستطلعان له الخبر ، فألفياهم قد قاربوا المدينة واطلقوا الخيل والإبل في الزروع المحيطة بها.

وبعث رسول الله بعدهما الحباب بن المنذر سراً ، وقال له : إذا رجعت فلا تخبرني بخبرهم بين الناس ، إلا ان ترى فيهم قلة ! فذهب حتى دخل بينهم ، ووقف على عددهم وعدتهم ، فرجع وأخبره بحالهم. (1)

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لا تذكر من أمرهم شيئاً ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم بك أصول وبك أجول.

النبي يستشير أصحابه

واستشار النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أصحابه بشأن الخروج لملاقاة العدو ، فأشار عليه

ص: 82


1- سيرة المصطفى 393 - 394.

عبد الله ابن أبي سلول وبعض شيوخ الصحابة أن لا يخرج من المدينة.

لكن فتيان المهاجرين والأنصار والبعض الآخر من شيوخ الصحابة أحبوا الخروج إلى عدوهم وملاقاته حيث نزل بأرضهم.

فقال : أياس بن أبي أوس : إني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها لتقول : حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها ، فتكون هذه جرأة لقريش ، وها هم قد وطئوا سعفنا ، فإذا لم نذب عن عرضنا وزرعنا ، فلم نزرع ؟ وقد كنا - يا رسول الله - في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا ، فنحن اليوم أحق إذ أمدّنا الله بك ، وعرفنا مصيرنا ، فلا نحصر أنفسنا في بيوتنا.

وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة ، فقال في جملة ما قال : .. وعسى الله أن يظفرنا بهم ، فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الأخرى ، فهي الشهادة ، لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت عليها حريصاً ، ولقد بلغ من حرصي أني ساهمت ابني في الخروج فرزق الشهادة .. وقد رأيت إبني البارحة في النوم في أحسن صورة ، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : إلحق بنا ، ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا ، وقد - والله - أصبحت يا رسول الله مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ، ودق عظمي ، وأحببت لقاء ربي فادع الله - يا رسول الله - أن يرزقني مرافقة سعدٍ في الجنة !

فدعا له رسول الله بذلك ، فقتل مع من قتل في تلك المعركة.

وقال الحمزة بن عبد المطلب : والذي أنزل عليك الكتاب ، لا أطعَم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة.

وتتابع الناس ، كلٌّ يدلي برأيه وبما عنده ، ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يبدو كارهاً للخروج ، فلم يزالوا به حتى أظهر موافقته لهم.

فلما جاء وقت الصلاة من يوم الجمعة ، صلى بالناس وصعد المنبر ،

ص: 83

فوعظهم وحثهم على الجد والإجتهاد والصبر ، وأخبرهم بأن النصر سيكون حليفهم إذا هم صبروا وأخلصوا في جهاد أعداء الله وأعداء رسوله ، ثم أمرهم أن يتجهزوا للقاء العدو.

النبي يتجهز للحرب

ولما حان وقت العصر ، صلى بهم ، وكانوا قد احتشدوا حول النبي ليعرفوا رأيه النهائي ، وحضر أهل العوالي ، ولما فرغ من صلاته ، دخل منزله ، ووقف الناس ينتظرون خروجه ، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : لقد إستكرهتم رسول الله على الخروج فاتركوا الأمر اليه.

وخرج عليهم(صلی الله علیه و آله) لابساً لامته ، وقد تعمم ولبس الدرع وتقلد سيفه ، وتنكب القوس ، ووضع الترس في ظهره ، فلما رأوه بتلك الحال أقبل عليه جمع ممن كانوا قد تحمسوا للخروج ، وقد ندموا على موقفهم مخافة أن تنزل فيهم آية من عند الله ، فقالوا : يا رسول الله ، ما كان لنا أن نخالفك ؟ فاصنع ما بدا لك ، والأمر إلى الله وإليك ! فإن خرجت ، خرجنا ، وأن أقمت أقمنا.

فرد عليهم النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بقوله : لقد دعوتكم لذلك فأبيتم ، وما ينبغي لِنَبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ؛ أنظروا ما آمركم به فاتبعوه ، والنصر لكم ما صبرتم. (1)

ثم استخلف على المدينة ابن ام مكتوم ليصلي بالناس ، وعقد ثلاثة ألوية ، فأعطى لواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ، ولواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج الى الحباب بن المنذر ، وقيل أعطاه إلى سعد بن عبادة ، وجعل على الخيل الزبير ، ومعه المقداد بن الأسود ، وخرج الحمزة بالجيش بين

ص: 84


1- المصدر السابق.

يديه. (1) وركب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فرسه ، وكان عدد المقاتلين ألفاً بينهم مائة دارع.

فلما كان بين المدينة وأحد ، عاد عبدالله بن أبي بثلث الناس ، فقال : أطاعهم محمد وعصاني ، وكان أتباعه من أهل النفاق والريب.

ومضى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مع الصبح حتى بلغ أحداً ، فاجتازوا مسالكها ، وجعلوها بين أظهرهم وجعل الرماة وراءه وهم خمسون رجلاً ، وكان من جملتهم المقداد بن الأسود ، وأقر عليهم عبدالله بن جبير ، وقال له : إنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، واكد عليهم أن يلزموا مكانهم حتى ولو قتل المسلمون عن آخرهم.

وجعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف ، ويبوئ أصحابه للقتال ، يقول : تقدم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى انه ليرى منكب الرجل خارجاً فيؤخره .. حتى إذا استوت الصفوف ، سأل : من يحمل لواء المشركين ؟ قيل : بنو عبد الدار. قال : نحن أحق بالوفاء منهم. أين مصعب بن عمير ؟ قال : ها أنذا ! قال. خذ اللواء ، فأخذه مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله.

ثم نهى المسلمين أن يقاتلوا القوم حتى يأمرهم بالقتال.

خطبة النبي في أصحابه

ثم قام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فخطب الناس ، فقال : يا أيها الناس ، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه ، من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ، ثم أنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط فإن جهاد العدو شديد ، شديد كْربُه ، قليل من يصبر

ص: 85


1- هكذا في الطبري وفي الكامل 2 / 152.

عليه إلاّ من عزَمَ الله رُشده ، فإن الله مع من أطاعه ، وان الشيطان مع من عصاه ، فإفتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله ، وعليكم بالذي آمرُكم به ، فإني حريص على رَشَدِكم ، فإن الإختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يُحبُّ الله ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس ، جُدّد في صدري أن من كان على حرام فرق الله بينه وبينه ، ومن رغب له عنه ، غفر الله ذنبه ، ومن صلى عليَّ صلى الله عليه وملائكته عشرا ، ومن أحسن من مسلم أو كافرٍ ، وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فعليه الجُمُعة يوم الجمعة إلا صبياً أو إمرأة أو مريضاً ، أو عبداً مملوكاً ؛ ومن استغنى عنها استغنى الله عنه ، والله غني حميد.

ما أعلم من عمل يُقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به ، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإني قد نَفثَ في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رِزقها ، لا يُنقصُ منه شيء وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله رَبَّكم وأجملوا في طلب الرزق ، ولا يحملنكم إستبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم ، فإنه لا يُقدرُ على ما عنده إلا بطاعته.

لقد بُيِّن لكم الحلال والحرام غير أن بينهما شُبَهاً من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عَصَم ، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ، ومن وقع فيها ، كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه. وليس ملك إلا وله حمى ، آلا وإن حمى الله مَحارمُه. والمؤمن من المؤمنين ، كالرأس من الجسد ، إذا اشتكى تداعى عليه سائُر الجسد ، والسلام عليكم ! (1)

ص: 86


1- مغازي الواقدي 1 / 221 - 223.

المشركون يُسوون صفوفهم

أما المشركون فقد استدبروا المدينة واستقبلوا أُحداً ، وصفوا صفوفهم ، فأستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل ، وعلى الخيل صفوان بن أمية ، وعلى الرماة ، عبيد الله بن أبي ربيعة ، وأعطوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار.

وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول : خلّوا بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم ، فلا حاجة بنا إلى قتالكم. فرد عليه المسلمون بما يكره !

وصاح ابو سفيان يُحرض بني عبد الدار ويقول : يا بني عبد الدار ، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تُخلوا بيننا وبينه نكفيكموه ، فإنا قوم مستميتون موتورون نطلب ثأراً حديث العهد. فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نُسلّم لواءنا ؟! لا كان هذا أبداً ، وأغلظوا القول لأبي سفيان.

بدء القتال

ثم أخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سيفاً وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم ، وما زال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يردد قوله حتى قام أبو دجانة الأنصاري واسمه ، سماك بن خرشة ، من بني ساعدة ، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، حقه أن تضرب به العدو حتى ينحني ! قال : أنا آخذه - يا رسول الله - ، فأعطاه إياه.

وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، ويعتصب بعصابةٍ له حمراء ، فإذا إعتصب بها عرف الناس أنه عازم على الحرب.

ص: 87

ثم بدأت المعركة ، وقام الرماة يرمون خيل المشركين بالنبل ، فولّت هاربةً ، ودنا القوم بعضهم من بعض. « وأقبل خالد بن الوليد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين » (1).

وتقدم طلحة - حامل لواء المشركين - وصار النسوة خلف الرجال يضربن بين أكنافهم بالطبول والدفوف ، وهند ومن معها يحرضن الرجال ، ويذكرن قتلى بدر ويقلن :

نحن بنات طارق * تمشي على النمارق

مشي القطا البوارق * المسك في المفارق

والدر في المخانق * إن تقبل-وا نعانق

أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق

وتقدم طلحة صاحب اللواء ، وصاح : هل من مبارز ؟

فقال له علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : هل لك في مبارزتي ؟ قال : نعم.

فبرزا بين الصفين ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جالس تحت الراية وعليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا بسيفيهما ، فضربه عليٌّ ضربةً على رأسه ، فمضى السيف حتى فلق هامته وانتهى إلى لحيته ، فوقع كالثور يخور بدمه ، وانصرف عنه علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، فلما قتل طلحة ، كبر رسول الله تكبيراً عالياً ، وكبر معه المسلمون ، فقيل لعلي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) هلاَّ ذَفَفتَ ( أجهزت ) عليه ؟ فقال : لما صُرع ، استقبلني بعورته ، وسألني الرَحِم.

ثم شد أصحاب رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على كتائب قريش يضربون وجوههم ، حتى انتقضت صفوفهم ، وقد حمل اللواء بعد طلحة أخوه

ص: 88


1- راجع الكامل 2 / 152 وكذلك في الطبري.

عثمان بن أبي طلحة ، فتقدم وأنشد :

إن على ربّ اللواء حقا * أن يخضب الصعدة أو ينقدّا

فتقدم باللواء والنسوة خلفه يُحرّضْنَ ويضربن الدفوف. فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب ، فضربه بالسيف على كاهله ؛ فقطع يده وكتفه حتى إنتهى إلى مئزره ، فبدا سحره ، ثم رجع عنه وهو يقول أنا ابن ساقي الحجيج !

وحمل اللواء بعدهما أخوهما أبو سعيد ابن أبي طلحة ، فحمل عليه علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقتله.

ثم حمل اللواء بعده مسافع بن طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله ! فنذرت أمه - وأسمها سلافة - أن تشرب الخمر في قحف رأس عاصم ، وجعلت لمن جاءها برأسه مائةً من الإبل. (1)

ثم حمل اللواء أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ، فقتله الزبير بن العوام.

ثم أخذ اللواء اخوه الجلاس بن طلحة ، فقتله طلحة بن عبيد.

ثم حمله أرطاة بن شرحبيل ، فقتله علي بن أبي طالب.

ثم حمله غلام لبني عبد الدار ، فقتله علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وتعاقب حملة اللواء من بني عبد الدار ، حتى قتل منهم تسعة من أشد أبطال المشركين. (2)

ص: 89


1- فلما قتل عاصم ; في غزوة الرجيع ، جاء الوادي بسيل فحمله ، ولم يجدوا له أثراً.
2- سيرة المصطفى 405 - 406.

سبب هزيمة المسلمين

قالوا : ماظفّر الله نبيه في موطن قط ، مثل ما ظفّره وأصحابه يوم أُحد ، حتى عصوا الرسول وتنازعوا في الأمر ! لقد قتل أصحاب اللواء وانكشف المشركون منهزمين لا يلوون ونساؤهم يدعون بالويل .. قال الواقدي : وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحداً ، قال كل واحد منهم : والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات ، ما دون أخذهن شيء لمن أراد ذلك ، وكلما أتى خالدٌ من قِبل ميسرة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليجوز حتى يأتي من قبل السفح فيرده الرماة ، حتى فعلوا ذلك مراراً ، ولكن المسلمين أوتوا من قبل الرماة ، إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أوعز إليهم فقال : قوموا على مصافكم هذا ، فاحموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وأن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، ! فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤا حتى أجهضوهم عن العسكر ، ووقعوا ينتهبون العسكر ؛ قال بعض الرماة لبعض : لِمَ تُقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم الله العدو وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم ، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم.

فقال بعض الرماة لبعض : ألم تعلموا أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال لكم : إحموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وان رأيتمونا غَنِمنا فلا تشركونا ، أحموا ظهورنا » ؟ فقال الآخرون : لم يرد رسول الله هذا ، وقد أذل الله المشركين وهزمهم ، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم. فلما إختلفوا خطبهم أميرهم عبدالله بن جبير ، وكان يومئذٍ مُعلماً بثياب بيض ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وألاّ يُخَالَفَ لرسول الله أمر.

فعصوا ، وانطلقوا ، فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبدالله إلا نفرٌ ما يبلغون العشرة ، فيهم الحارث بن أنس بن رافع ، يقول : يا قوم ، إذكروا عهد نبيكم إليكم ، وأطيعوا أميركم.

ص: 90

قال : فأبوا ، وذهبوا الى عسكر المشركين ينتهبون. (1)

وكان خالد بن الوليد قد فرّ فيمن فر ، فولى بخيله هارباً ، لكنه نظر إلى الجبل - الذي كان حريصاً على أن يجد منه منفذاً لمهاجمته المسلمين من ورائهم - فوجده خالياً ، إلا من أولئك النفر القلائل الذين ظلوا متمسكين بأمر الرسول فحانت الفرصة له ، فما كان منه إلا أن رجع واصطدم بهم يقاتلهم ، فرموه بالنبل حتى لم يبق معهم من النبال شيء ، فسلّوا سيوفهم وأقبلوا على تلك الخيل يضربون وجوهها ودافعوا حتى النفس الأخير ، بقيادة عبدالله بن جبير.

عند ذلك نظر المنهزمون من المشركين إلى خيلهم ، فوجدوها قد رجعت لتهاجم المسلمين من الوراء ، فانكفؤا عائدين ، وكان خالد بن الوليد ومن معه قد عاد من ناحية الجبل بعد أن أباد تلك الفئة القليلة من المسلمين ، ولم يشعر المسلمون إلا والعدو قد تغلغل في أوساطهم وأصبحوا كالمدهوشين ، يتعرضون لضرب السيوف وطعن الرماح أينما اتجهوا ، واشتد الأمر عليهم حتى ضرب بعضهم بعضاً وهم يحسبون أنهم يضربون أعدائهم.

قصة قزمان

ومن طريف ما يروى :

أن قزمان - وهو من منافقي المدينة - قد تخلف عن أُحد ، فلما أصبح عيّره - نساء بني ظفر وقلن له : يا قزمان ، لقد خرج النساء وبقيت ! أما تستحي بما صنعت ؟! ما أنت إلا إمرأة. وما زلن به حتى دخل بيته ولبس لأمته وخرج يعدو حتى إنتهى إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يسوي صفوف المسلمين ، فحين بدأت المعركة كان أول من رمى بسهم من المسلمين وجعل يرسل النبال كأنها الرماح ، ثم أخذ السيف وأمعن في القوم يقاتلهم أشد قتال.

ص: 91


1- المغازي للواقدي / 229 - 230.

فلما غلب المسلمون ؛ كسر جفن سيفه وجعل يقول : الموت أحسن من الفرار ! يا للأوس ؛ قاتلوا عن الأحساب واصنعوا مثل ما أصنع. فكان يدخل بالسيف في وسط المشركين حتى يقال لقد قُتل ! ثم يخرج من بينهم ويقول : أنا الغلام الظفري ، حتى قتل منهم سبعة رجال ، وأصابته جراحات كثيرة فضعف عن القتال وهوى الى الأرض ، فمر به قتادة بن النعمان ، فقال له : يا أبا الغيداق ، قال قزمان : لبيك !

قال : هنيئاً لك الشهادة.

قال قزمان : والله ما قاتلت - يا أبا عمرو - إلا على الحفاظ حتى لا تسير قريش فتطأ سعفنا !

ثم إشتد عليه جرحه ، فأخذ سهماً فقطع به رواهشه ، فنزف الدم فمات.

وكان رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول فيه : إنه من أهل النار ! (1)

مقتل اليمان وثابت بن قيس

وفي هذه الفوضى الحادة قتل اليمان - والد حذيفة - وثابت بن قيس ، وكانا قد تخلفا في المدينة بأمر من الرسول(صلی الله علیه و آله) لأنهما شيخان كبيران ، فقال أحدهما للآخر : آلا نأخذ أسيافنا ونلحق برسول الله ؟ فاتفقا على هذا الرأي ، وأقبلا مسرعين نحو المعركة وقد اشتبه عليهما موقع أصحابهما فدخلا من جهة المشركين ، فإلتفّت جماعة بثابت بن قيس فقتلوه ، واستطاع أبو حذيفة أن ينفذ حتى صار بين المسلمين - وهم لا يعرفون المسلم من غيره - فإتجه إليه بعض المسلمين وضربه بالسيف ، وابنه حذيفة يصيح :

ص: 92


1- شرح النهج 14 / 260 - 261 وغيره.

إنه أبي يا قوم ! لكن شدة الزحام وقعقعة الحديد حالا دون وصول صوته إلى سمع القاتل ، فخر قتيلاً ، فدفع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد ذلك ديته ، فتصدق بها ولده حذيفة على المسلمين.

هذا ، وعلي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع جماعةٍ من المسلمين قد أحاطوا برسول الله يدرأون عنه السهام والنبال والسيوف ، ويجالدون بين يديه ، حتى قتل حامل اللواء مصعب بن عمير ، فدفع النبي(صلی الله علیه و آله) اللواء إلى علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وتفرق عنه اكثر أصحابه ، وحمل عليه المشركون وكان كل همهم أن يقتل النبي ، لكن علياً والحمزة وأبا دُجانة وسهل بن حنيف ونفراً غيرهم جالدوا وكافحوا كفاحاً لم يشهد له التاريخ مثيلاً.

قتال الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ودفاع علي

هذا ، ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثابت في مكانه ، يرميهم بقوسه ، ويطعن كل من دنا منه حتى نفد نبله وانقطع وتر قوسه ، وأصابته بعض الجراحات ، وأغمي عليه.

ولما أفاق الرسول من غشيته وفتح عينيه ، قال لعليّ : ما فعل الناس ؟

فقال علي : لقد نقضوا العهد وولوا الدُبُر ! وفيما هو يخاطبه ويقص عليه أخبار المنهزمين ، وإذا بكتيبةٍ من المشركين أتجهت صوب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : يا علي ؛ إكفني هؤلاء ، فانقض عليهم كالصقر فانهزموا بين يديه ، ... يطاردهم وإذا بكتيبةٍ اخرى قد اتجهت نحو النبي وكادت ان تبلغ منه غايتها لولا أن عليّاً سمع النبي ثانيةً يقول : يا علي ، إكفني هؤلاء ، فانقض عليهم وفرقهم.

« وكانت الكتيبة تقارب خمسين فارساً ، وهو(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) راجل ، فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه ، هكذا مراراً حتى قتل تمام

ص: 93

الأربعة عشر - كما في شرح النهج - فقال جبرئيل(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : يا محمد ، إن هذه المواساة ! لقد عجبت الملائكة من مؤاساة هذا الفتى.

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : وما يمنعه ، وهو مني وأنا منه ! فقال جبرئيل : وأنا منكما. وسُمِعَ ذلك اليوم صوت من قِبل السماء لا يُرى شخص الصارخ به ، ينادي مراراً :

لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي

فسئل رسول الله عنه ، فقال : هذا جبرئيل. (1)

وكان الرماة من أصحاب النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المذكور منهم : سعد بن أبي وقاص ، والسائب بن عثمان ابن مضعون ، والمقداد بن عمرو ، وزيد بن حارثة الخ .. (2).

جراح الرسول(صلی الله علیه و آله)

وكسرت رباعية النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) السفلى ، وشقت شفته ، وكُلِمَ في وجنته وجبهته في أصول شعره ، وعلاه بن قمئة بالسيف - وكان هو الذي أصابه وكان قد تعاقد هو وجماعة من المشركين على قتل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، وقد حال الله بينهم وبين ذلك -

ص: 94


1- راجع شرح النهج 14 / 250 - 251 وفي الكامل 2 / 154 ذكر الأبيات وأن المنادي جبرئيل قال العلامة السيد هاشم معروف حفظه الله وعافاه : وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين ، ورواه الطبري في تاريخه م 2 / 17 ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة 2 / 172 وعلي بن سلطان في ( مرماته ) 5 / 568 وأخرجه أحمد في ( المناقب ) والهيثمي في ( مجمع الزوائد ) والطبراني وغيرهم.
2- المغازي : 1 / 243.

ولما جرح رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جعل الدم يسيل على وجهه ، وهو يمسحه ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله !؟ (1) وجعل علي ينقل له الماء في درقته من المهراس ( ماء بجبل أحد ) ويغسله ، فلم ينقطع الدم ، فأتت فاطمة وجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت حصيراً وجعلت على الجرح من رماده ، فانقطع الدم (2).

وفي رواية الطبري : أنه قد تفرق عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أصحابه من المهاجرين والأنصار ، وفرّ عثمان بن عفان حتى إنتهى إلى مكان بعيد عن المعركة (3) وكان ممن تفرق عنه عمر بن الخطاب وأن أنس بن النضر قال لعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم في ناحية : ما يجلسكم هنا ؟ - وكان قد شاع بين الناس أن رسول الله قد قتل -

فقالوا : لقد قتل محمد رسول الله.

فقال : وما تصنعون بالحياة من بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، ثم تركهم واستقبل القوم ، فقاتل حتى قتل. (4)

ومضى الطبري يقول : انه قد فشا في الناس أن محمداً قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة - ممن فروا عن النبي والتجأوا اليها - ليت لنا رسولاً إلى عبدالله بن أبي ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم .. ألخ.

ص: 95


1- الكامل 2 / 155.
2- الكامل 157 / 158.
3- راجع الطبري 2 / 21.
4- راجع الطبري 2 / 20.

النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعو المسلمين

وجعل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يدعو الناس ويقول : إلي عباد الله - يكررها ثلاثاً - فلم يستجب له إلا نفر قليل من المسلمين ، حتى إذا انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما كان قريباً منهم وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرمي النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو يظنه أحد المشركين - على زعم الراوي - فصاح النبي به : أنا رسول الله ! ففرحوا بذلك وكانوا يظنون أن الرسول قد قتل.

وأقبل أبو سفيان ومعه جماعة ، حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه نسوا الذي كانوا عليه من الفرح بسلامة النبي ، وخافوا منه ومن جماعته. فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليس لهم أن يعلونا. اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد أبداً. ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.

فنادى أبو سفيان : اعل هبل.

فأمر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يرد عليه : الله أعلى وأجل.

فقال أبو سفيان : إن لنا العُزى ولا عُزى لكم.

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قولوا له : الله مولانا ، ولا مولىً لكم.

وانتهت الهزيمة بجماعة من المسلمين فيهم عثمان بن عفان وغيره إلى الأعوص ( مكان ) فأقاموا به ثلاثاً ثم أتوا النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضةً. (1)

مقتل الحمزة بن عبد المطلب

كان حمزة بن عبد المطلب من أعظم أبطال العرب المسلمين وشجعانهم ، وكان قد قتل يوم بدر عتبة - أبا هند - كما قتل اخاها ، وكان يوم أحد كما كان

ص: 96


1- الطبري : 2 / 21.

يوم بدر أسد الله وأسد رسوله ، وسيف الله البتار ، يخوض وسط المشركين ، لا يدنو منه أحداً إلا بعجه بسيفه. قال ابن كثير في البداية : انه كان كالجمل الأورق (1) يهد الناس بسيفه هدّاً.

فأقبلت هند إلى غلام حبشي فتاك يدعى وحشي وأغرته بالمال على أن يغتال أحد ثلاثة ! إما محمداً ، أو علياً ، أو حمزة. وكانت تقول كلما مرت بوحشي أو مرّ بها : إيه أبا دُسمة ! إشفي واشتفي.

فقال لها : أما محمد فلا حيلة لي به ! فقد أحدق به قومه كالحلقة. وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الغراب ، وأما حمزة فإني أطمع أن أجيبه ، لأنه إذا غضب لم يعد يبصر ما بين يديه.

قال وحشي : إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يلقى أحداً به إلا قتله ، وقتل سباع بن عبد العزى. قال : فهززت حربتي ودفعتها عليه ، فوقعت في ثُنّتِه حتى خرجت من بين رجليه ، وأقبل نحوي فغُلِب ، فوقع. (2)

ولما علمت هند بمصرع حمزة ، لم تكتف بذلك ، بل أقبلت إليه فبقرت بطنه ، وجذبت بيديها كبده وقطعت منها قطعة ووضعتها في فمها وجعلت تلوكها بأسنانها ولكن لم تستطع أن تبتلعها. وقيل : أنها قطعت مذاكيره وأنفه وأذنيه ثم جعلت ذلك مسكتين ومعضدتين (3). حتى قدمت بذلك مكة ، وقدمت بكبده أيضاً معها (4). ولم يقف هذا الحقد الأعمى عند هند فقط بل تخطاها إلى زوجها ابي سفيان ، فإنه حين مر بحمزة طعنه في شدقه برأس الرمح وهو يقول : ذق عَقَقْ (5).

ص: 97


1- الجمل الأورق : ما في لونه بياض الى سواد.
2- الكامل 2 / 156.
3- المَسَكَة : السوار.
4- كما جاء في شرح النهج 15 / 12 والمغازي أيضاً بلفظ آخر.
5- الكامل 2 / 160 وغيره.

حزن النبي على عمه حمزة

وبعد أن انتهت المعركة ، وتفرغ الناس لدفن القتلى ، قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : من له علم بعمي حمزة ؟ فقال الحارث بن الصمّة : أنا أعرف موضعه يا رسول الله ! فجاء فوقف عليه فرآه بتلك الحالة التي تركته عليها هند ، فكره أن يرجع الى النبي ويخبره.

فالتفت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى علي ، وقال له : أطلب عمك الحمزة. وأقبل علي نحو عمه ، فلما وقف عليه كره أن يخبر النبي بحاله.

فخرج رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بنفسه حتى وقف عليه ، فلما رآه بتلك الحال بكى ، وقال : والله لن أصاب بمثلك أبدا ، وما وقفت موقفاً قط أغيظ علي من هذا الموقف (1).

قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله باكياً أشد من بكائه على حمزة ، لقد وقف عليه وأنتحب حتى نشغ (2) من البكاء وهو يقول :

يا عم رسول الله ، وأسد الله وأسد رسوله ، يا حمزة ، يا فاعل الخيرات ! يا حمزة ، يا كاشف الكربات ، يا حمزة ، يا ذاب عن وجه رسول الله ، وطال بكائه (3).

ثم ألقى عليه بردةً كانت عليه ، وكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه ، وإذا مدّها على رجليه بدا رأسه ، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش. ثم قال : لولا اني أخاف أن تراه صفيّة بتلك الحالة فتجزع ، ويصبح ذلك سُنّةً من بعدي ، لتركته يحشر من أجواف السباع ، وحواصل الطير. ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين من رجالهم ! وفي رواية :

ص: 98


1- سيرة المصطفى / 427.
2- نشغ : شهق حتى كاد أن يغشى عليه.
3- ذخائر العقبى 181.

بسبعين من خيارهم.

وقال المسلمون - لما سمعوا ذلك - : لنمثلن بهم مُثلةً لم يُمثلها أحد من العرب ! فانزل الله تعالى هذه الآية : ( وإن عَاقبتُم فعَاقِبُوا بمِثلِ ما عُوقِبتُم ولئِن صبَرتُم لُهوَ خيرٌ للصابِرين ). فعفى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وصبر ونهى عن المثلة. (1)

وأقبلت صفية بنت عبد المطلب - أخت حمزة - فالتقت بعلي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال لها : إرجعي يا عمة ؛ فإن في الناس تكشفا !

فقالت له : أخبرني عن رسول الله ؟! قال : إنه بخير. فقالت دلني عليه ، فأشار إليه إشارةً خفيفة ، فاتجهت صفية نحوه ، ولما طلعت عليه قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للزبير : يا زبير ؛ أغني عني أمك.

في هذه الحالة كان المسلمون يحفرون لحمزة ، وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كارهاً لأن تراه على هذه الحال ، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي ، فقالت : إنه بلغني أنه مُثل بأخي ؛ وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان في ذلك ؛ لأحتسبنّ ولأصبرن !

فاعلم الزبير النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذلك ، فقال : خلّ سبيلها. فأتته حتى جلست عنده.

وفي رواية : أنها أقبلت حتى جلست عنده ، فجعلت تبكي والنبي يبكي لبكائها ، وكان معها فاطمة سيدة النساء ، ثم قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لصفية وفاطمة : أبشرا ! فإن جبرئيل أخبرني أن حَمزة مكتوب في أهل السموات : أسد الله وأسد رسوله.

ثم إن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان كلما أتى بشهيد ليصلي عليه ، ضمّ إليه الحمزة

ص: 99


1- سيرة المصطفى 427.

وصلى عليهما ! (1)

ولما عاد النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) راجعاً إلى المدينة ، مر في طريقه على بني حارثة ، وبني عبد الأشهل وهم يبكون قتلاهم ، فقال : (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لكن حمزة لا بواكي له !! (2) فأخذت هذه الكلمة الحزينة مأخذاً من نفوس بعض الصحابة وتركت أثراً عميقاً في قلوبهم ، فمضى سعد بن معاذ مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى بيته ، ثم رجع الى نسائه فساقهُن فلم تبق إمرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ، يبكين بين المغرب والعشاء !!

وقام رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد أن مضى من الليل الثلث ، فسمع البكاء ، فقال : ما هذا !؟

قيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة !

فقال : رضي الله عنكن وعن أولادكن ، وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن.

قالت أم سعد : فرجعنا إلى بيوتنا بعد ثلث الليل ومعنا رجالنا ، فما بكت منا أمرأةُ قط إلا بدأت بالحمزة ! (3)

أبطال خالدون

وفي هذه المعركة ، أبدى بعض المسلمين بطولات خارقة تفوق حد الوصف ، كما أبدى البعض الآخر خوفه وجبنه وارتيابه ! فكأن هذه الحرب كانت محكاً لأختبار مدى الإيمان واعتماله في نفوس المسلمين ، ومدى عمق

ص: 100


1- راجع شرح النهج 15 / ص 16 - 17 والمستدرك على الصحيحين 3 / 194 والكامل 2 / 163.
2- الكامل 2 / 163.
3- شرح النهج 15 / 42 إلى يومنا هذا. ( تتمة الرواية ).

التزامهم بأوامر الرسول الكريم (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) واتباع رأيه. فكشفت لنا حقيقة الأمر ، فأفرزت أبطالاً اشداء مؤمنين بالله ورسوله تعاقدوا على الموت دفاعاً عن الرسول والرسالة ، أمثال أمير المؤمنين علي وعمه الحمزة 8 ، وأمثال مصعب بن عمير الذي استشهد دون لواء الإسلام ، وأبي دجانة الأنصاري وغيرهم رضوان الله عليهم.

كما أفرزت لنا هياكل خاوية انطوت على نفوس متزلزلة وقلوب ضعيفة ونوايا كاذبة ، نربأ بأنفسنا أن نذكر اسماء بعضهم هنا ، لأن ذلك لا يكون الا سبّة عار في تاريخنا الإسلامي.

وجميل بنا أن نذكر بعض أولئك الخالدين من أبطال الإسلام الذين استشهدوا يوم أحد ، فنشير إلى بعض مواقفهم الخالدة ، ومواقف أسرهم وذويهم. ولا ننسى هنا دور المرأة المسلمة في هذه الحرب ، أمثال سيدة النساء فاطمة ، والسيدة صفية بنت عبد المطلب ، والسيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنهم ، ونذكر الآن فيما يلي نبذاً من مواقفهم.

سعد بن الربيع

بعد أن انتهت المعركة ، قال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من ينظر إلي ما فعل سعد بن الربيع ؟

فقال رجل من الأنصار : أنا أنظر إليك - يا رسول الله - فذهب يبحث عنه ، فوجده بين القتلى ، وبه رمق ! فقال له : إن رسول الله أمرني أن أنظر له في الأحياء انت ام في الأموات !

قال سعد : أنا في الأموات !! فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمّته !. وأبلغ عني قومك السلام وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله - إن خَلُصَ إلى نبيكم - وفيكم عين تطرف !

ص: 101

ثم تنفس ، فخرج منه مثل دم الجزور ومات ، ;. فرجع الأنصاري الى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأخبره بحاله.

فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : رحم الله سعداً ، نصرنا حيّاً وأوصى بنا ميتا !. (1)

عمرو بن الجموح

ومن اولئك الخالدين ، عمرو بن الجموح.

وكان عمرو هذا رجلاً أعرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأُسد يشهدون مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المشاهد ، فلما كان يوم أحد وقد خرج بنوه الأربعة مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، أراد هو أن يخرج أيضاً ؛ فحبسه قومه ، وقالوا له : لقد ذهب بنوك مع النبي ؛ وأنت رجل أعرج ، ولا حرج عليك !

فقال : بخ !! يذهبون الى الجنة ، وأجلس أنا عندكم !؟

قالت زوجته - هند بنت عمرو بن حزام - : كأني أنظر إليه موليّاً قد أخذ دِرقَته ، وهو يقول : اللهم لا تردني إلى أهلي !. فخرج ، ولحقه بعض قومه يكلمونه في القعود ، فأبى وجاء الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقال : يا رسول الله ، إن قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك ، واني لأرجو الله أن أطأ بعرجتي هذه الجنة !!

فقال له النبي : أما أنت ، فقد عذرك الله ولا جهاد عليك ! فأبى.

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لقومه وبنيه : لا عليكم أن تمنعوه ، لعل الله يرزقه الشهادة ! فخلوا عنه.

قال بعضهم : لقد نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم ثابوا ، وهو في الرعيل الأول ، لكأني أنظر إلى خلفه - وهو

ص: 102


1- سيرة المصطفى 426.

يعرج في مشيته - وهو يقول : أنا والله مشتاق إلى الجنة !! وابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً (1).

ولا ننسى هنا موقف زوجته السيدة هند بنت عمرو ، فإنها فقدت زوجها عَمراً وابنها خِلاد ، واخاها عبدالله ، وقد حملتهم جميعاً على بعير لتدفنهم في المدينة.

فقيل لها : ما وراءك ؟

فقالت : أما رسول الله ، فهو بخير. وكل مصيبةٍ بعده جَلَل ؛ واتخذ الله من المؤمنين شهداء ! وبينما هي تسوق بعيرها وإذا به يبرك بهم ، فلما زجرته ، وقف ! فوجهته إلى المدينة ، فعاد وبرك ! فرجعت به إلى أحد ، فأسرع ، وكأنه لم يحمل شيئاً !!

فرجعت إلى النبي - وكان لا يزال في أحد - وأخبرته بما جرى ! فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إنه لمأمور ! هل قال زوجك - حينما خرج - شيئاً ؟

قالت : نعم ، إنه لما توجه إلى أحد ، استقبل القبلة ، ثم قال : اللهم لا تردني إلى اهلي.

فقال لها (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إن منكم - يا معشر الأنصار - من لو أقسم على الله ، لأبره ! منهم زوجك : عمرو بن الجموح. ثم دفنهم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وقال لهند : يا هند ، لقد ترافقوا في الجنة ثلاثتهم.

فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني معهم ، فدعا لها بالخير (2).

ص: 103


1- شرح النهج 14 / 161.
2- شرح النهج 14 / 262.

حنظلة بن أبي عامر « غسيل الملائكة »

كان أبوه يدعى ب « أبو عامر الراهب » وكان مع المشركين ، وقد خرج إلى مكة مباعداً لرسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومعه خمسون غلاماً من الأوس ، فلما إلتقى الناس بأُحد ، كان أبو عامر أول من لقي المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة.

فنادى : يا معشر الأوس ؛ أنا أبو عامر !

قالوا : فلا أنعم الله بك عيناً ، يا فاسق. !!

فقال : لقد أصاب قومي بعدي شرُّ ! ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً حتى راضخهم بالحجارة .. (1)

أما حنظلة « ابن ابي عامر » فقد كان في صف النبي محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان حديث عهدٍ بالزواج فقد تزوج من جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول ، فأُدخلت عليه في الليلة التي كان في صبيحتها قتال أُحد. وكان قد إستأذن رسول الله أن يبيت عندها فأذن له ، فلما صلى الصبح ، غدا يريد رسول الله ، فلزمته جميلة ، فعاد إليها فكان معها ، وخرج إلى رسول الله مسرعاً ، ولم يغتسل من جنابته ! - وكانت جميلة قبل خروجه قد أشهدت عليه أربعة بأنه قد دخل بها ، فقيل لها بعد ذلك لما أشهدت عليه ؟! - فقالت : رأيت في الطيف كأن السماء قد انفجرت فدخل بها ، ثم أطبقت عليه ! فعلمت أنه سيقتل ، وقد حملت منه جميلة بعبد الله ابن حنظلة.

ولما استشهد حنظلة ، قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة ابن أبي عامر ، بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة !.

قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا ، فنظرنا إليه ، فإذا رأسه يقطر

ص: 104


1- الكامل 2 / 149 - 150.

ماءً فرجعت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأخبرته ، فأرسل إلى إمرأته فسألها ، فأخبرته انه خرج وهو جنب.

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لذلك غسلته الملائكة.

وحنظلة هذا ، هو الوحيد الذي لم يمثِّل به المشركون ، لأن أباه نهاهم عن ذلك ، وقال : يا معشر قريش ؛ حنظلة لا يمثل به ، وان كان خالفني وخالفكم. (1)

السمداءُ بنتً قيس

وهي إحدى نساء بني دينار ، قتل ولداها بأحد مع النبي ، وهما : النعمان بن عبد عمرو ، وسليم بن الحارث ، فلما نُعيا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ؟ قالوا : بخير هو بحمد الله صالح على ما تحبين. فقالت : أرونيه ، أنظر اليه ! فأشاروا لها إليه ، فقالت :

كل مصيبةٍ بعدك جَلَلٌ - يا رسول الله -.

وخرجت تسوق بابنيها بعيراً ، تردهما إلى المدينة ، فلقيتها عائشة ، فقالت لها : ما وراءك ؟ فأخبرتها. قالت : فمن هؤلاء معك ؟

قالت : إبناي - حِلْ ! حِلْ !! (2) - تحملهما الى القبر (3).

صفية بنت عبد المطلب

وقد ذكرنا عنها شيئاً حين وقوفها على مصرع أخيها الحمزة.

ولها موقف بطولي آخر يوم أحد ، حيث قتلت رجلاً يهودياً في حين

ص: 105


1- راجع شرح النهج 14 / 269 - 271.
2- حِل حِل : زجر البعير ، وهو دليل على عدم مبالاتها بمقتل ولديها لأنها مطمئنة أن مصيرهما إلى الجنة.
3- شرح النهج 15 / 37.

جبن أحد الرجال المسلمين عن قتله. فهي تحدثنا بذلك فتقول :

لقد صعدنا يوم أحد على الآطام - رؤوس التلال - وكان معنا حسان بن ثابت وكان من أجبن الناس ! ونحن في فارع ، فجاء نفر من يهود يرومون الأطم ، فقلت : دونك يا بن الفُرَيَعة - تعني حسانا - فقال : لا والله لا أستطيع القتال ، ويصعد يهودي إلى الأطم فقلت : شدَّ على يدي السيف ، ففعل فضربت عنق اليهودي ورميت برأسه إليهم ، فلما رأوه إنكشفوا ! (1)

مخيرق

قال الواقدي : وكان مخيرق اليهودي من أحبار اليهود فقال يوم السبت - ورسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في احد - يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي ، وان نصره عليكم حق.

فقالوا : ويحك ! اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبْت ، ثم أخذ سلاحه وحضر مع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأصيب ، فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : مخيرق خير يهود.

وكان مخيرق قال حين خرج إلى أُحد : إن أصبتُ ، فأموالي لمحمّد يضعها حيث أراه الله فيه (2).

نسيبة بنت كعب

وتكنى أم عمارة ، وهي من اللواتي شهدن أحداً مع رسول الله وأبلين بلاءً حسناً.

وكانت هذه المرأة البطلة قد خرجت في أول النهار ومعها شن تريد أن تسقي الجرحى ، فقاتلت يومئذٍ وأبلت بلاءً حسناً ، وجُرحت اثني عشر جرحاً

ص: 106


1- المصدر السابق 15 / 15 و 16.
2- نفس المصدر 14 / 260.

بين طعنة برمح وضربةٍ بسيف.

وقد طلبت أم سعد منها أن تروي لها ما جرى عليها في أحد ، فقالت : خرجت أول النهار إلى أُحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الصحابة والدُوَلَة للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون ، إنحزت إلى رسول فجعلت أباشر القتال ، وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس ، حتى أصابتني الجراحات.

تقول أم سعد : فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور ، فقلت : يا أم عمارة ، من أصابك بهذا الجرح ؟

قالت : لقد أقبل أبن قمئة - وقد ولى الناس عن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - وهو يصيح : دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ! فاعترضه مصعب بن عمير وناس معه كنت فيهم ، فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان. (1)

وهذه المرأة ، هي التي أعطاها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسام شرفٍ حين قال : « لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان ». (2)

لقد وقف أولئك الأبطال الأشاوس أعظم موقف في سبيل الدفاع عن الحق وعن العقيدة ، فسطروا بدمائهم أروع ملحمةٍ تاريخية كان رائدهم فيها الصدق والإخلاص ، صدق الإيمان وصدق العقيدة ، والإخلاص فيما عاهدوا الله عليه ، وقد بلغ عدد الذين استشهدوا من المسلمين نحواً من سبعين رجلاً.

أما الذين ثبتوا مع رسول الله في ساعة العسرة فإنهم لم يتجاوزوا السبعة نفر فإن جمهور المؤرخين يروي : انه لم يبق مع النبي(صلی الله علیه و آله) إلا علي

ص: 107


1- شرح النهج 14 / 266.
2- شرح النهج 5 / 54.

علیه السلام وطلحة والزبير وأبو دجانة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ولهم خامس وهو عبدالله بن مسعود ، ومنهم من أثبت لهم سادساً ، وهو : المقداد بن عمرو (1).

ولما رجع النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى المدينة إستقبلته فاطمة (2) ومعها إناءٌ فيه ماء فغسل وجهه الكريم ، ثم لحقه أمير المؤمنين علي وقد خضب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار ، فناوله فاطمة ، وقال : خذي هذا السيف ، فلقد صدقني هذا اليوم ، وأنشد :

أفاطم هاك السيف غير ذميم * فلست برعديد ولا بلئيم

لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد * وطاعة ربٍ بالعباد عليم

اميطي دماء القوم عنه فإنه * سقى آل عبد الدار كاس حميم

وقال لها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لقد أدى بعلك ما عليه ، وقتل الله بسيفه صناديد قريش (3).

ص: 108


1- البحار 20 / 141.
2- لا يمنع أن تكون فاطمة قد حضرت أحداً ثم سبقت رسول الله الى المدينة.
3- سيرة المصطفى / 430 ورواه في فرائد السمطين قريباً من ذلك 1 / 252 وفي شرح النهج ايضاً 15 / 35.

غزوة الغابة

* غزوة الغابة(1)

الغابة : موضع قرب المدينة من ناحية الشام ، فيه شجر كثيف ومرعىَّ خصب للإِبل ، وكان للنبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عشرون لقحة (2) ترعى في مكان يقال له : البيضاء. (3) فلما أجدب قربوها للغابة تصيب من أثلها وطرفائها. فكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب.

وفي ذات يوم استأذن أبو ذر رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يذهب إلى تلك الإِبل ليحتلبها ويغدو بلبنها إليه ، فقال له (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : اني اخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير عليك - ونحن لا نأمن من عيينة بن حصن وذويه ! هي في طرف من أطرافهم.

فألح عليه أبو ذر فقال : يا رسول الله إإذن لي.

فلما ألح عليه قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : لكاني بك قد قتل إبنك ، وأخذت إمرأتك ، وجئت تتوكأ على عصاك (4).

يقول ابو ذر : والله انا لفي منزلنا ، ولقاح رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد

ص: 109


1- وقعت في السنة السادسة للهجرة ، وتسمى أيضاً : غزوة ذي قرد.
2- * اللقحة : الواحدة من الإبل الحامل ، ذات اللبن ، جمعها : لقاح.
3- * البيضاء : موضع تلقاء حمى الربذة.
4- * وكان أبو ذر يقول في ذلك : عجباً لي ! إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يقول « لكأني بك » وأنا ألح عليه ، فكان والله على ما قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

رُوِّحت ، وعطنت وحلبت عتمتها (1) ونمنا ، فلما كان الليل أحدق بنا عُيينة في أربعين فارساً ، فصاحوا بنا وهم قيام على رؤوسنا فأشرف لهم ابني فقتلوه ، وكانت معه إمرأته وثلاثة نفر فنجوا ، وتنحيت عنهم ، وشغلهم عني إطلاق عُقل اللقاح ، ثم صاحوا في أدبارها فكان آخر العهد بها. ونترك لأبي معبد يكمل القصة :

قال المقداد بن عمرو : لما كانت ليلة السَّرح ، جعلت فرسي سبحة لا تقر ضرباً بأيديها وصهيلاً ، فيقول أبو معبد (2) : والله إن لها شأناً ! فننظر آريَّها (3) فإذا هو مملؤ علفاً ! فيقول : عطشى ! فيعرض الماء عليها فلا تريده ، فلما طلع الفجر اسرجها ولبس سلاحه ، وخرج حتى صلى الصبح مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلم يرَ شيئاً ، ودخل النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيته ، ورجع المقداد إلى بيته ، وفرسه لا تقر ، فوضع سرجها وسلاحه واضطجع ، وجعل إحدى رجليه على الأخرى ، فأتاه آتٍ فقال : إن الخيل قد صيح بها.

وكان سلمة بن الأكوع قد غدا قاصداً الغابة ليأتي بلبن اللقاح إلى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلقي غلاماً في ابل لعبد الرحمن بن عوف ، فأخبره أن عيينة بن حصن قد اغار في اربعين فارساً على لقاح رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وأنه قد رأى مدداً بعد ذلك أمد به عيينة.

قال سلمة : فاحضرت فرسي راجعاً إلى المدينة حتى وافيت على ثنية الوداع (4) فصرخت بأعلى صوتي : يا صباحاه ! ثلاثاً ، أسمِعُ من بين

ص: 110


1- العتمة : ظلمة الليل ، وكانت العرب تسمي الحلاب باسم الوقت.
2- هو نفسه المقداد ، وهنا انتقل بحديثه من صيغة المتكلم الى الغائب مبالغةً في الأهمية.
3- الآري : حبل تشد به الدابة في محبسها.
4- ثنية الوداع : عن يمين المدينة ودونها ، وهي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة.

لابَتْيها. (1)

ثم نادى : الفَزَع ! الفَزَع ! ثلاثاً (2) ثم وقف واقفاً على فرسه حتى طلع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الحديد مُقَنّعاً فوقف واقفاً. فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو ، عليه الدرع والمغفر شاهراً سيفه. فعقد له رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لواءً في رمحه ، وقال :

امضِ حتى تلحقك الخيول ، ونحن على أثَرِك.

قال المقداد : فخرجت وأنا أسال الله الشهادة حتى أدرك اخريات العدو ، وقد أذمَّ (3) بهم فرس لهم فاقتحم فارسه وردف أحد أصحابه ، فأخذُ الفرس المذّم فإذا هو ضَرع (4) أشقر ، عتيق ، لم يقوَ على العدو ، وقد غدوا عليه من أقصى الغابة فحسِر (5) فأربط في عنقه قطعة وترٍ وأخليّه ، وقلت : إن مرَّ به أحد فأخذه جئته بعلامتي فيه ، فأدرك مسعدةَ فأطعنه برمح فيه اللواء ، فزلَّ الرمح وعطف علي بوجهه فطعنني ، وآخذُ المرحَ بعضدي فكسرته ، وأعجزني هرباً ، وأنصبُ لوائي ، فقلت : يراه أصحابي ! ويلحقني أبو قتادة معلماً بعمامةٍ صفراء على فرس له ، فسايرته ساعةً ونحن ننظر إلى دبر (6) مسعدة فاستحث فرسه ، يعني أبو قتادة - فتقدم على فرسي ، فبان سبقه ، فكان أجود من فرسي حتى غاب عني فلا أراه. ثم ألحقه فإذا هو ينزع بردته ، فصحت : ما تصنع ؟ قال : خيراً ، أصنعُ كما

ص: 111


1- يا صباحاه : كلمة كان العرب يستعملونها لإِستنفار الناس فيما إذا دهمتهم غارةٌ. و « لابتيها » كناية عن انه اسمع جميع من في المدينة.
2- في السيرة النبوية : وبلغ رسول الله صياح ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع ! الفزع إلخ ( 3 - 76 ) وأظنه أشتباه ، لأن مثل هذا بعيد على النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).
3- أذّم : أعيى وتأخر.
4- الضرع : الضعيف.
5- حسرْ : تعب وأعيا.
6- الدبر : من الأدبار وهو الهرب.

صنعت بالفرس. فإذا هو قد قتل مسعدة وسجاه ببردِه.

ورجعنا ، فإذا فرس في يد عُلبةَ بن زيد الحارثي ، فقلت : فرسي هذا ، وعلامتي فيه !

فقال : تعال إلى النبي ، فجعله مغنماً.

وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ليسبق الخيل مثل السبع.

قال سلمة : حتى لحقت القوم ، فجعلت أرميهم بالنبل واقول حين أرمي : خذها مني وأنا ابن الأكوع ، فتكر علي خيل من خيلهم ، فإذا وجَّهت نحوي انطلقت هارباً فاسبقها واعمد إلى المكان المعور (1) فاشرف عليه وأرمي بالنبل إذا امكنني الرمي وأقول :

خذها ، وأنا ابن الأكوع * واليوم يوم الرُّضع

فما زلت أكافحهم وأقول : قفوا قليلاً يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار ، فيزدادون علي حنقاً فيكرون علي ، فاعجزهم هرباً حتى انتهيت بهم إلى ذي قَرَد (2).

ولحِقَنَا رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والخيول عشاءً ، فقلت : يا رسول الله ، إن القوم عطاش وليس لهم ماءٌ دون أحساء كذا وكذا (3) فلو بعثتني في مائة رجل ، استنقذت ما بأيديهم من السرح ، وأخذت باعناق القوم.

فقال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : ملكت ، فأسجح (4) ، ثم قال النبي

ص: 112


1- * المعور : المكمن للستر.
2- * ذي قرد : مكان يبعد عن المدينة مسيرة يوم وقيل يومين.
3- * دون أحساء كذا وكذا : أي دون بلوغهم مكان كذا وكذا.
4- * ملكت فاسجح : أي قدرت ، فسهل ، وأحسن العفو. وهو مثل معروف.

(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إنهم ليُقرَونَ في غطفان (1).

قال : ثم توافت الخيل وهم ثمانية : المقداد وأبو قَتَادة ، ومُعاذ بن ماعِص وسعد بن زيد ، وأبو عيَّاش الزُرَقي ، ومُحرِز بن نَضلَة ، وعُكاشة بن مِحصَن ، وربيعة بن أكثَم.

ولم تزل الأمداد تترى ، حتى إنتهوا إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بذي قرد ، فاستنقذوا عشر لقائح ، وافلت القوم بما بقي ، وهي عشر.

وقتل في هذه المعركة من المسلمين واحد ، وهو محرز بن نضلة. قتله مسعدة.

وقتل من المغيرين خمسة مسعدة بن حكمة ، قتله أبو قتادة ، وأوثار وابنه عمرو بن أوثار ، قتلهما عكاشة بن محصن ، وحبيب بن عيينة كان على فرس له ، قتله المقداد بن عمرو ، وكذلك فَرقَة بن مالك قتله المقداد أيضاً.

وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة ، قول حسان بن ثابت.

لولا الذي لاقت ومسَّ نسورها * بجنوب ساية أمس ف-ي التقواد (2)

للقينكم يحملن كل مدجَّج * حامي الحقيقة ماجد الأجداد (3)

ولسر أولاد اللقيطة أننا * سلم غداة فوارس المقداد (4)

كنا ثمانيةً وكانوا جَحفلاً * لجباً فشكوا بالرماح بداد (5)

ص: 113


1- يقرَون : يُضيفون.
2- ساية : اسم وادٍ بالحجاز.
3- الحقيقة : ما يحق عليك أن تحميه.
4- وقد اعترض سعيد بن زيد على حسان حيث جعل المقداد هو القائد - وسعيد هذا أنصاري - والمقداد مهاجري ، فاعتذر إليه حسان. راجع السيرة 3 / 180 والمغازي / 548.
5- اللجب : الجلبة والصياح. وبداد : يقال جاءت الخيل بَدادِ بَدادِ أي متفرقة.

كنا من القوم الذين يلونهم * وَيُقدمون عِنان كلِ جوادِ

كلا ورب الراقصات إلى منىً * يقطعن عرض مخارم الأطواد (1)

حتى نبيل الخيل في عرصاتكم * ونؤوب بالملكات والأولاد (2)

رهواً بكل مقلصٍ وطمرة * في كل معترك عطفن روادي (3)

أفنى دوابرها ولاح متونها * يوم تقاد به ويوم طِرِاد

فكذاك إن جيادنا ملبونة * والحرب مشعلة بريح غواد (4)

وسيوفنا بيض الحدائد تجتلي * جُنَنَ الحديد وهامةَ المرتادِ(5)

ص: 114


1- الراقصات : يقصد بها الإبل. ومخارم الأطواد : شقوق الجبال ، ويقصد بها الطرق.
2- نبيل الخيل : نجعلها تبول في دياركم.
3- الرهو : المشي الهادئ. المقلَّص : المشمر. والطِّمرة : الفرس الجواد. وروادي : سريعة.
4- ملبونة : الملبون : من به كالسِّكر من شرب اللبن. وغواد : من الغادية وهي السحابة.
5- تجتلي : تقطع. جنن الحديد : ما ستره الحديد ، أو المقصود به الترس خاصة. راجع المغازي للواقدي من صفحة 537 إلى 549 للتفصيل ، وكذا السيرة لإبن هشام 3 / 175 الى 181 والكامل 2 / 188 - 190.

غزوة خيبر

غزوة خيبر(1)

وقد وقعت في السنة السادسة للهجرة أيضاً. وذلك :

إن النبي(صلی الله علیه و آله) كان قد قصد مكة في أوائل شهر ذي القعدة من نفس هذه السنة لأداء مناسك الحج ، فصدته قريش عن دخولها ، فكان أن أبرمت وثيقة الصلح المسمى بصلح « الحديبية » بعد مشاورات طويلة بين وفود الطرفين.

ورجع النبي إلى المدينة ، وفي طريقه أنزل الله عليه سورة الفتح ، فتلاها على المسلمين مستبشراً بالنصر.

وكان(صلی الله علیه و آله) قد إطمأن بعد صلح الحديبية إلى حدّ ما من ناحية قريش والعرب الذين كانوا لا يزالون على الشرك ، إلا إنه ظل يراقب اليهود الذين كانوا خارج المدينة ، ويخشى غدرهم لأنه لمس منهم انهم لا يلتزمون بعهدٍ ولا بحلف ، لذلك صمم على غزوهم ومحاربتهم ، فلم يلبث في المدينة اكثر من شهر حتى أعلن رأيه هذا لأصحابه ، وأمرهم ان يتجهزوا لغزو خيبر.

ص: 115


1- قال في معجم البلدان : وتشتمل خيبر - هذه الولاية - على سبعة حصون ، ومزارع ، ونخل كثير. واسماء حصونها : حصن ناعم. وعنده قتل محمود بن مسلمة ، والقموص ، وحصن الشق ، وحصن النطاة. وحصن السلالم وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة ، وأما لفظ خيبر ، فهو بلسان اليهود : يعني الحصن. ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سميت خيابر 2 / 409.

فخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل ، ومضى في طريقه الى خيبر ، وقطع المسافة التي بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ، ودخل إلى مشارفها ليلاً ، وكانت خيبر تترائ للمسلمين واحةً تمتد بين تلال الحرّة وصخورها السوداء ، وكأنها بحيرة من الزمرد الأخضر .. وأقام المسلمون تلك الليلة على مشارفها مخيمين هناك يستريحون من عناء الرحلة ، حتى إذا تمطى الليل عن الصبح ، وانتشرت أشعة الشمس المشرقة تكسو آعالي النخيل بلون ذهبي جميل ، انتشر عمال خيبر - كعادتهم - خارجين من قلاعهم الى بساتينهم يحملون محافرهم وفؤوسهم ، وقد علقوا السلال باكتافهم ، فبصروا بجند المسلمين الآتين من الحرّة ، ومعهم الرماح والسيوف المتوهجة في أشعة الشمس ، فصاحوا : « محمد ، والخميس (1) معه ! » وأدبروا هاربين مخلفين المحافر ، والفؤوس والسلال.

فقال النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : « الله اكبر ؛ خربت خيبر ؛ إنا إذا نزلنا بساحةِ قوم فساءَ صباح المنذرين. ».

ووقف العرب عامة ، وبخاصة قريش ، يتطلعون بشوق ولهفة إلى نتائج هذه الغزوة ، وفي حسابهم أن الدائرة ستدور على محمد وأصحابه.

أما اليهود ، فقد تشاوروا فيما بينهم ، واتفقوا أخيراً على القتال ، فأدخلوا نساءهم وذراريهم وأموالهم حصن « الوطيح والسلالم » وأدخلوا ذخائرهم حصن « ناعم » ودخلت المقاتلة في حصن « نطاة » والتقى الجمعان حول هذا الحصن ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتى جرح عدد كبير من المسلمين ، واستبسل الفريقان ، وظلوا على ذلك شطراً من النهار.

ص: 116


1- الخميس : الجيش.

وقتل في ذلك اليوم محمود بن مسلمة ، كان حين أنهكه التعب قد استظل بجدار الحصن فالقى عليه يهودي رحى من أعلى الحصن فقتله.

وأظهرت قلاع « النطاة » وناعم صموداً أمام معسكر المسلمين ما لبث أن إنهار بعد أيام أمام ضرباتهم واصرارهم العنيد ، ولكن خيبر لم تفتح ، فقد بقي من قلاعها قلعة « القموص » وهي أهم قلاعها ، كانت قائمة على قمة تل صخري أملس رأسي الحواف ، محاطة بجدار ضخم مرتفع ، وقد اشتهرت بالقوة والمناعة ، وكان يدافع عنها « مرحب » البطل الشهير.

وطال الحصار ، ودبت المجاعة بالجيش ، ففترت همة الجند ، وكان النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كلما أعطى الراية لبعض أصحابه يرجع منهزماً كاسفاً. فرأى النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أن يحشد كل قواه الضاربة لفتح هذا الحصن ، فاجتماع اليهود فيه يجعلهم أقدر على الفتك بالمسلمين.

وجمع محمد جيشه ، وأمرهم أن يقتحموا الحصن ، وسلم أبا بكر راية الجيش ، ولكن أبا بكر لم يستطع أن يصنع شيئاً ولا أن يقتحم الحصن ، فبعث في اليوم الثاني عمر ابن الخطاب ، فكان نصيبه كنصيب صاحبه. « فقد انكشف عمر وأصحابه ورجعوا إلى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما في رواية الطبري : يجبنه أصحابه ويجبنهم » وظل القتال مستمراً وكلما أعطى الراية إلى أحد ، رجع خائباً ، أو فاراً. (1)

ولما بلغ الجهد بالمسلمين مبلغاً تخشى عواقبه وساء رسول الله ذلك. فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً ، كرّاراً غير فرّاراً ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ولا يرجع حتى يفتح الله على يده » (2) فتطاولت لها

ص: 117


1- راجع سيرة المصطفى / 549.
2- إعلام الورى / 107 وغيره.

قريش ، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب الراية وكان علي في تلك الحال أرمد لا يكاد يبصر أمامه ، ولما سمع مقالة النبي(صلی الله علیه و آله) قال : اللهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ».

فأصبح رسول الله واجتمع إليه الناس كل يرجوها له ، حتى روي عن عمر أنه قال : إني ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم ، وتمنيت أن أعطى الراية بعد أن سمعت ذلك من رسول الله.

قال سعد بن أبي وقاص : جلست نصب عينيه ، ثم جثوت على ركبتي ثم قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني ! فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إدعوا لي عليّاً. فصاح الناس من كل جانب : إنه أرمد رمداً لا يبصر موضع قدمه. فقال : إرسلوا إليه وادعوه ! فأتي به يُقاد. فوضع رأسه على فخذه ، ثم تفل في عينيه ، فقام وكأن عينيه جزعتان. وبرء من ساعته ، وقال له : خذ الراية ، ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك.

فقال له عليّ : على ماذا أقاتلهم يا رسول الله.

قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأني رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم. ثم دعا له.

قال سلمة بن الأكوع ، فانطلق عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يهرول هرولةً ونحن خلفه نتتبع أثره ، حتى ركز الراية بين حجارة مجتمعة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من أعلى الحصن وقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب. قال اليهودي : « عَلوتم ! وما أنزل على موسى !! » (1) وخرج إليه اليهود يتقدمهم أبطالهم ، وفيهم الحارث أخو

ص: 118


1- وفي الكامل 2 / 220 : فاشرف عليه رجل من يهود فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي غُلبتم يا معشر اليهود. وفي بقية المصادر والمراجع بمضمون واحد. وقوله : وما انزل على موسى : أي قسماً بما أنزل على موسى.

مرحب وكان من شجعانهم المعروفين ، فحمل بمن معه على المسلمين ، فوثب علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وضربه بسيفه ، فخر صريعاً ، ثم كر بأصحابه على اليهود ، فتفرقوا بين يديه وانخذلوا بعد مقتل الحارث وجماعة منهم ، وولوا منهزمين الى داخل الحصن.

فاستعظم ذلك قائدهم « مرحب » بعد أن شهد مصرع أخيه وهزيمة من معه. فخرج يطلب الثأر « وكان هو حقاً سيد فرسان خيبر ، ولكنه خرج إلى علي بطيئاً ، في كبرياءٍ وثقةٍ مطمئنة ، مهيباً ضخماً ، بيده حربة ذات ثلاث رؤوس ، وكل جسده الفارع الشاهق ، في الزرد ، والحديد يغطي رأسه وساقيه ، وليس في كل بدنه ثغرة ينفذ منها سيف ». فجعل يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

إذا السيوف أقبلت تلتهب * أطعن أحياناً وحيناً أضرب

يقول :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة * كليث غابات شديد قسورة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

وتقدم إليه علي بقامته المعتدلة ، وهو بلا درع ، وفي يده السيف وحده ، وتوقع المسلمون واليهود جميعاً أنها نهاية علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ولكن علياً إستطاع أن يحسن الإستفادة من تخففه من الدرع والزرد ، وترك مرحباً يتقدم بدرعه وزرده وحربته ، حتى إذا أوشك سِن الحربة أن يمس صدر علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تراجع على فجأةً ثم قفز في الهواء متفادياً حربة مرحب ، ثم إقتحم وأهوى بكل قوته على رأس مرحب بالسيف ، فانفلق الحديد من على رأس مرحب ، وسقط سيف علي على الجمجمة

ص: 119

فشقها نصفين وهوى مرحب وسط ذعر اليهود وعجبهم ، وصيحات النصر ترتفع من معسكر المسلمين.

ثم إقتلع علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) باب الحصن - وكان حجراً طوله أربعة أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع - فرمى به الى خلفه ، ودخل الحصن هو والمسلمون. (1)

وبعد فتح حصن « القموص ». أيقن سكان خيبر بالهلكة ، وكانت قلاع « الوطيح والسلالم » لم تسقط بعد ، فأرسلوا الى رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يطلبون الصلح - بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشق ونطاة ، والكتيبة. - على أن يحقن دماءهم. فقبل النبي بذلك ، وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم.

وقسم رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أموال خيبر ونتاجها الزراعي على المسلمين. « فأطعم كل إمرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً (2) من تمر وعشرين وسقاً شعيراً. وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق ، ولفاطمة وعلي 8 من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق ... وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً. » (3)

وفي السيرة لإبن هشام : قسم لنسائه من القمح مائة وثمانين وسقاً ، ولفاطمة بنت رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خمسة وثمانين وسقاً ، ولأسامة بن زيد أربعين وسقاً ، ولمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً ولأم رميثة خمسة أوسق. (4)

ص: 120


1- اليعقوبي 2 / 56 وغيره.
2- الوسق : ستون صاعاً أو حمل البعير.
3- الواقدي : 693.
4- السيرة النبوية لإبن هشام 3 / 229.

قال الواقدي : وحدثني موسى بن يعقوب ، عن عمته ، عن أمها ، قالت :

بعنا طعمة المقداد بن عمرو من خيبر « خمسة عشر وسقاً شعيراً » من معاوية ابن أبي سفيان بمائة ألف درهم. (1)

ص: 121


1- المغازي / 694.

ص: 122

زوجته وأولاده

اشارة

* موقف الإسلام من الزواج.

* قصة : جويبر ، وجُلبيب ، وتزويجهما.

* تزويج المقداد.

* بين الأشعث بن قيس والإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

ص: 123

ص: 124

موقف الإسلام من الزواج

كانت مشكلة الشعور بالتفوق العرقي لدى العرب تحول دون شد الأواصر فيما بينهم فضلاً عن تثبيتها بينهم وبين القوميات الأخرى ، فكان العربي الذي ينتمي الى قبيلةٍ ما ، يأنف من تزويج كريمته إلى عربي آخر من جنسه ينتمي إلى قبيلةٍ أخرى يراها دونه في الحسب والنسب والمحتد ، فضلاً عن أن يزوجها إلى رجل حليف ، أو غير عربي ، فإنه يرى في ذلك مجلبةً للمهانة عليه ، بل ومدعاة للصغار والذلة بين القبائل الآخرى.

فكانوا يطلقون على سلالة العربي إذا تزوج من غير العرب : الهجناء ! ولم تكن هذه المشكلة الإنسانية قائمة لدى المجتمع العربي فقط ، بل عند الفرس أيضاً ، وما ذلك إلا إمعاناً في الغيّ. وتجريحاً في نقاء الإنسانية.

فكانت العرب في الجاهلية لا تُورث الهجين ، كما كانت الفُرسُ تطرحه ولا تعده ، ولو وجدوا له أمّا أمةً على رأس ثلاثين أمّاً حرة ، ما أفلح عندهم ! (1) فالمأساة إذن كانت عامة وغير مختصة بالعرب.(2)

ص: 125


1- راجع العقد الفريد 6 / 130.
2- كانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء .. وكانوا يتحرون أن يكون من تقلد الخلافة منهم من أم عربيةٍ ، وكان أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك من رجالهم المعدودين ، إلا أن كونه ابن أمة حال بينه وبين الخلافة. وعرض مسلمة على عَمرَة بنت الحارس أن يتزوج منها ، فقالت : يا بن التي تعلم ! وانك لهناك ؟ تعني أن امه أمة. ( بلاغات النساء - 190 ) وسابق عبد الملك بين مسلمة وأخيه سليمان ، فسبق سليمان ، فقال عبد الملك : ألم أنهكم ان تحملوا هجناءكم على خيلكم يوم الرهان فتدركُ وما يستوي المرآن هذا بن حرة وهذا بن أخرى ظهرها متشركُ فأجابه ابنه مسلمة بقول حاتم الطائي : وما انكحونا طائعين بناتهم ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا فما زادها فينا السباء مذلةً ولا كُلّفت خبزاً ولا طبخت قدراً ولكن خلطناها بخير نساءنا فجاءت بهم بيضاً وجوههم زهرا .. الأبيات / العقد الفريد 6 / 130. ولما تنقص هشام بن عبد الملك ، الإمام زيد بن علي بن الحسين : ، لم يجد ما يعيره فيه إلا قوله : أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة ، وأنت ابن أمة ( مروج الذهب 2 / 162 ) ثم أختلف الحال في آخر أيام الأمويين ، فإن آخر من تقلد الخلافة منهم ابراهيم بن الوليد ، ومروان بن محمد ، كانا من أبناء الإماء ( خلاصة الذهب المسبوك 46 و 47 ). أما الخلفاء في الدولة العباسية ، وعددهم سبعة وثلاثون ، فلم يكن فيهم من هو عربي الأم الا ثلاثة ، الأول : ابو العباس السفاح ، أمه ريطة بنت عبد المدان الحارثي ( خلاصة الذهب 53 ) وكان يدعى ابن الحارثية ، وكانت عروبة امه السبب في تقدمه على أخيه المنصور الذي يكبره في السن فإن أم المنصور بربرية اسمها : سلامة ، ( خلاصة الذهب 59 ) والثاني : المهدي بن المنصور ، وأمه أم موسى بنت منصور بن عبدالله الحميري ( خلاصة الذهب 90 ) والثالث : محمد الأمين بن هارون الرشيد ، أمه : زبيدة بنت جعفر بن المنصور ، قالوا : لم يلي الخلافة هاشمي من هاشميين الا ثلاثة : الإمام علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، ومحمد الأمين ، ( خلاصة الذهب 171 ) أما بقية الخلفاء العباسيين فكلهم أبناء امهات أولاد. راجع الفرج بعد الشدة ج 1 / 245 تحقيق عبود الشالجي.

وجاء الإسلام ، فكان لا بد له من كلمة فصل تخفف من مآسي الإنسانية في شتى المجالات ، فكان له في هذا الأمر دور كبير ابتدأه

ص: 126

صاحب الرسالة(صلی الله علیه و آله) بنفسه ليكون عبرةً للآخرين وسُنَّةً يقتدى بها المسلمون عبر العصور.

وقد أوضح الإمام زين العابدين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ذلك في كتاب بعثه إلى هشام بن عبد الملك حين لامه على زواجه من أمته ، كتب يقول :

« ولنا برسول الله أسوة ، زوّج زينب بنت عمه زيداً مولاه ، وتزوج مولاته بنت حيي بن أخطب. » (1) وكتب إليه أيضاً : « إنه ليس فوق رسول الله(صلی الله علیه و آله) مرتقىً في مجدٍ ، ولا مستزادٌ في كرم .. » (2).

ص: 127


1- الوسائل 14 ب 27 من أبواب النكاح ح 10 / ص 50.
2- الوسائل 14 ب 27 من أبواب النكاح ح 2 / 48.

« قصة جويبر وجلبيب »

وكان رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قد استعمل نفوذه في تطبيق هذه الخطة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، غنيهم وفقيرهم امعاناً منه صلوات الله عليه في دفن هذه الصرعة الجاهلية المقيتة التي لا تزيد الإنسان إلا بُعداً عن أخيه الإنسان ، بل التي تخلق فجوات بين المسلمين لا تحمد عقباها ، هم في غنىً عنها وعن أمثالها ، انطلاقاً من المقهوم السهل البسيط للإنسانية والرحم : « كلكم لآدم ، وآدم من تراب » وانطلاقاً من المفهوم القرآني السمح : ( إن اكرمكم عند الله أتقاكم ).

إستعمل(صلی الله علیه و آله) نفوذه في تطبيق هذه الخطة مع نفسه أولاً ، فتزوج صفية بنت حُييّ بن أخطب بعد أن أعتقها ، وتزوج ابنة عمه زينب بعد أن زوجها من مولاه زيدٍ ، وطلقها زيد. ثم طبقها ثانياً مع المسلمين. ومنهم جويبر.

وكان جويبر هذا من أهل اليمامة وكان قصيراً دميماً محتاجاً عارياً ، وكان من قباح السودان ، إلا أنه كان قد أسلم وحسن إسلامه. وفي ذات يوم ، نظر رسول الله إليه بعطف ورقة ، وقال له :

« يا جويبر ، لو تزوجت إمرأة » فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ؟

ص: 128

فقال له جويبر : يا رسول الله ؛ بأبي أنت وأمي ، من يرغب فيّ ؟! فوالله ما من حسب ولا نسب ، ولا مال ، ولا جمال ، فأيّة إمرأة ترغب فيّ ؟

فقال له رسول الله(صلی الله علیه و آله) : يا جويبر ، إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم ، وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم ، وان آدم خلقه الله من طين ، وان أحب الناس إلى الله ، اطوعهم له وأتقاهم ، وما أعلم - يا جويبر - لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً ؟ إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع.

ثم قال له : إنطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه أشرف بني بياضة حسباً فيهم ، فقل له : إني رسول رسول الله إليك ، وهو يقول لك : زوج جويبراً بنتك الدلفاء. (1) الحديث ، فزوجه إياها.

ومرة ثانية يأتي رجل من الأنصار إلى النبي(صلی الله علیه و آله) فيقول له :

يا رسول الله ، عندي مهيرة العرب ، وأنا أحب أن تقبلها ، وهي ابنتي.

قال : فقال(صلی الله علیه و آله) : قد قبلتها.

قال : وأخرى ، يا رسول الله ، قال : وما هي ؟ قال : لم يضرب عليها صدع قَط !

قال(صلی الله علیه و آله) : لا حاجة لي فيها ، ولكن زوجها من « جلبيب » ! قال : فسقط رجلا الرجل مما دخله - أي اسقط ما في يديه لشدة

ص: 129


1- الوسائل 14 / ب 25 ح 1 ص 43 - 44.

الصدمة لأن جلبيب هذا كان قصيراً دميماً. - ثم أتى أمها فأخبرها الخبر ، فدخلها مثل ما دخله (1) فسمعت الجارية مقالته ورأت ما دخل أباها ( وأمها ) فقالت لهما : ارضيا لي ما رضي الله ورسوله.

قال : فتسلى ذلك عنهما ، وأتى أبوها النبيَّ(صلی الله علیه و آله) وأخبره الخبر. فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله) : قد جعلت مهرها الجنة. (2)

ص: 130


1- وقال في الإستيعاب : وكانت فيه دمامة وقصر ، فكأن الأنصاري وامرأته كرها ذلك ، فسمعت ابنتهما بما أراد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) من ذلك ، فتَلَت قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخَيرةُ من أمرهم ) وقالت : رضيتُ وسلّمت لما يرضى لي به رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ، فدعا لها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : اللهم أصبب عليها الخير صبّاً ولا تجعل عيشها نكدا. ثم قتل عنها جلبيبها فلم يكن في الأنصار أيم انفق منها. ( الإستيعاب 1 / 256 ) وفي الوسائل : فمات عنها جلبيب ، فبلغ مهرها بعده مائة ألف درهم ( تتمة زيادة الحديث ). ومن حديث أنس بن مالك ، عن جلبيب : قال : فعرض عليه رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) التزويج. فقال : إذن تجدني - يا رسول الله - كاسداً ! فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : انك عند الله لست بكاسد. وفي حديث عن ابي برزة الأسلمي : ان رسول الله كان في مغزاه ، فأفاء الله عليه ، فقال لأصحابه : هل تفقدون أحداً ؟ قالوا : نعم ، فلاناً وفلاناً ، ثم قال : هل تفقدون أحداً ؟ قالوا : لا ! قال : لكني أفقد جلبيباً ، فاطلبوه. قال فوجدوه الى جنب سبعة قد قتلهم ، ثم قُتل ، فأتاه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فوقف عليه وقال : قَتَل سبعة ثم قُتِل ، هذا مني وأنا منه .. ثم أحتمله النبي على ساعديه ، ماله سريرٌ غير ساعدي رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ثم حفروا له ، فوضعه في قبره ( الإستيعاب 1 / 257 - 258 ).
2- الوسائل 14 ب 5 من ابواب النكاح ح 2 ص 44 - 45.

تزويج المقداد بن الأسود

ومن هنا ، من هذا المنطلق الإيماني ، زوج رسول الله(صلی الله علیه و آله) المقداد بن الأسود.

وذلك : أن المقداد وعبد الرحمن بن عوف كانا جالسين ، فقال عبد الرحمن للمقداد :

مالك لا تتزوج ؟

قال : زوجني ابنتك.

فغضب عبد الرحمن وأغلظ له ! (1)

قام المقداد من عنده منكسفاً ، يتعثر بأذيال الفشل ، فلم يكن يتوقع من صحابي كعبد الرحمن أن يرده هذا الرد القاسي ويغلظ له في القول ، وشعر في قرارة نفسه أن طلبه هذا قد جرَّ عليه مهانةً كان في غنى عنها ، وان عبد الرحمن الزهري نظر إليه نظرةً قَبليّةً ؛ فبنو زهرة من صميم قريش ، وأنى لحليف لهم من بهراء لاجئ ان يتطاول على هذا البيت العريق يريد مصاهرته ! ومن يكون المقداد في جنب عبد الرحمن ، وابنة عبد الرحمن !!

غضب عبد الرحمن وأغلظ له ، فما كان من المقداد إلا أن يمم قاصداً رحاب الرسول الكريم(صلی الله علیه و آله) حيث يجد المؤمن فيض الرحمة والحنان

ص: 131


1- الإصابة 3 / 454 - 455.

والعطف ، وحيث تجد الإِنسانية المعذبة من يلم جراحها ويمسح آلامها ، مشى نحو النبي فشكا ذلك إليه.

« فقال(صلی الله علیه و آله) » : أنا أزوجك ! (1)

محمدٌ ومن مثل محمد !؟ وهبّت في تلك اللحظات نسمةٌ كأنها أتت من الجنة ، هدأت لها نفس المقداد وارتاحت بعد عناء ، وأطرق يفكر في جوٍّ مفعم بالنشوة ، من يا ترى ؟ من تكون هذه التي سيختارها له محمد ؟

وربما خطر على باله أنه سيختار له واحدةً من بنات المهاجرين والأنصار كما فعل مع جويبر وجلبيب رضي الله عنهما ؛ ولا أظن أن تصوره ذهب إلى أبعد من ذلك ؛ وفي ذلك الهناء والسعادة ، ولكن كانت المفاجأة أعظم وأكبر من التصور !!

فقد اختار له النبي(صلی الله علیه و آله) كريمة درجت في أعز بيت من قريش والعرب ، وأعز بيت في الإِسلام ؛ اختار له ابنة عمه « ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ». وإنما فعل ذلك ، - كما ورد عن أبي عبدالله الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - « للتتضع المناكح ، وليتأسوا برسول الله(صلی الله علیه و آله) وليعلموا أن اكرمهم عند الله أتقاهم. » (2) وليعلموا أن اشرف الشرف الإسلام. (3) كما في حديث آخر.

ص: 132


1- تتمة رواية الإصابة.
2- راجع الوسائل 14 ب 26 ح 1 ص 45.
3- مكارم الأخلاق / 207 : قال رسول الله الخ ..

« بين الأشعث بن قيس والإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) »

ثمة رواية تقول : أن الأشعث بن قيس الكندي « دخل على علي بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فوجد بين يديه صبّية تدرج ، فقال : من هذه يا أمير المؤمنين ؟

قال هذه زينب بنت أمير المؤمنين !

قال : زوجنيها - يا أمير المؤمنين.

قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : أعزب ، بفيك الكثكث (1) ، ولك الأَثلب ، أغَرك ابن أبي قحافة حين زوَّجك ام فروة ؟! إنها لم تكن من الفواطم ، ولا العواتك من سُليم !

فقال : قد زوجتم أخمل مني حسباً ، وأوضع مني نسباً ، المقداد بن عمرو ، وإن شئتَ فالمقداد بن الأسود ؟!

قال علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : ذلك رسول الله فعله ، وهو أعلم بما فعل ، ولئن عُدَتَ إلى مثلها لأَسؤَنّك (2) !

ورُبَّ معترضٍ على مضمون كلام الإِمام مع الأشعث ، حيث يُستشمُّ منه رائحة التعصيب والمنطق القبلي - حاشا الإمام ذلك - فيؤخذ بالوهم والتباس

ص: 133


1- الكثكث التراب والحجارة. والأثلب : التراب والحجارة. أو مطلق ما يعاب به الإنسان.
2- العقد الفريد 6 / 136.

الحقيقة. فالإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أبعد ما يكون عن هذا التفكير العشائري لو وجد خصمه أهلاً وكفؤاً لزينب ، حسب الموازين الإسلامية.

لقد كان الأشعث بن قيس يرى في نفسه كبراً تظهر آثاره بين الفينة والفينة سيما مع الإمام علي ، فقد كان جريئاً عليه ، وجرأته تلك تنم عن وقاحة وسوء ظن ، وغلظة ، فكان يعترض الإمام في أحرج المواطن وأشدها(1) وكان ينهج في

ص: 134


1- فيما كان الإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يخطب ذات يوم ، إذ اعترض عليه الأشعث بشأن التحكيم ، فكان من جملة ما قاله الإمام له : « ما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك بن حائك ، منافق بن كافر ، والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى ، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك ، وإن إمرءً دل على قومه السيف ، وساق إليهم الحتف لحريٌ أن يمقته الأقرب ، ولا يأمنه الأبعد ». تصنيف نهج البلاغة / 222. واسم الأشعث : معدي كرب ، وأبوه قيس الأشج ، وكان الأشعث أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث وغلب عليه حتى نُسي إسمُهُ وقد تزوج رسول الله أخته قتيلة ، فتوفي قبل أن تصل إليه. وأما الأسر الذي أشار إليه امير المؤمنين هنا في الجاهلية ، فهو انه حين قتل أبوه خرج يطلب الثأر فأسر ، وفدي بثلاثة آلاف بعير ، لم يفد بها عربي قبله ولا بعده ، وفي ذلك يقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي. فكان فداؤه ألفي بعيرٍ * وألفا من طريفاتٍ وتُلدِ وأما الأسر الثاني في الإسلام ، فقد كان في عهد أبي بكر ، وذلك أن بني وليعة ارتدوا بعد رسول الله ، وملكوا عليهم الأشعث ، فحاصره المسلمون وكان في حصن ، فاستسلم بعد أن شرط عليهم أن يبعثوا به الى ابي بكر ، ثم فتح لهم الحصن ، فدخلوه واستنزلوا كل من فيه وأخذوا أسلحتهم وقتلوهم وكانوا ثمانمائة ، ! وقيل : أمنوه مع عشرة من أهل بيته فقط ، ثم أخذ موثقاً بالحديد. قال الطبري : وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضاً وسبايا قومه ، وسماه نساء قومه عرف النار - وهو اسم للغادر عندهم. وقال ابن أبي الحديد : كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وهو في أصحاب امير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) كما كان عبدالله بن أبي بن سلول في اصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله) ، كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه - راجع شرح النهج 1 / من ص 292 - 927.

ذلك منهج : خالف تُعرف ! وكان الإِمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يعامله بالمثل ، وقد انكشفت حقيقته لديه فيما بعد.

إن هذا الرجل كان بعيداً عن الإيمان وعن مبدأ علي ، فلم يبق له شيءٌ يفتخر فيه أمام عليّ إلا النسب والعشيرة حيث قال : قد زوجتم اخمل مني حسباً !

بيد أن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تناوله من حيث بدأ. فأفهمه أنه ليس كفؤاً لزينب ، ولا لواحدة من الفواطم والعواتك ، وأن كندة التي يفتخر بها الأشعث ، ليست كفؤاً لهاشم وسُلَيم ، قرعاً للحجة بالحجة ، وفلاًّ للحديد بالحديد.

وحين ضرب له الأشعث مثلاً بالمقداد ، لم يُطل معه الإمام الشرح ، بل أجابه بقوله : ذاك رسول الله فعله.

جواب مسكتٌ لا يمكن معه رَدٌّ ، أو اعتراض من مسلم ! فهل يفعل الرسول إلا ما فيه المصلحة والرجحان ؟ وهل كان ليزوج المقداد من ابنة عمه ضباعة لو لم يكن كفؤاً لها ؟

ص: 135

زوجة المقداد وأولاده

وضباعة كنيتها أم حكيم وقد ولدت للمقداد عبدالله ، وكريمة.

وكانت تروي عن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وعن زوجها المقداد. وروى عنها ابن عباس ، وعائشة ، وبنتها كريمة بنت المقداد ، وابن المسيب وعروة ، والأعرج وغيرهم. (1)

وقتل عبدالله بن المقداد في حرب الجمل مع عائشة « سنة ست وثلاثين » فمر به علي بن أبي طالب ، فقال : بئس ابن الأخت أنت. (2) ولم أجد لعبد الله ترجمةً أوسع مما ذكرت. وأما معبد فقد ذكر في « الإصابة ». وأظن أن أمره قد التبس على ابن حجر ، فتارةً يقول : مرت ترجمته في ترجمة والده. وتارةً يذكر : معبد بن المقدام بدل المقداد. وأما في غير هذا الكتاب من الكتب التي بين يدي فإنها لا تتعرض لذلك. والله أعلم.

واليوم ، هناك عائلة واسعة الانتشار تسمى : ( بآل المقداد ) وهم يسكنون في سوريا ولبنان وغيرهما من البلاد العربية.

وقد سألت السيد حسن محمد المقداد عن سبب التسمية ، فأجابني أنهم ينتمون إلى ( المقداد ) وأن هذا أمر توارثه الأبناء عن الآباء ، وقال فيما قال : أن النزوح الأساسي كان إلى الشام قبل مئات السنين بسبب

ص: 136


1- الإصابة 4 / 352.
2- الإصابة 3 / 65 كما عن طبقات بن سعد.

الإضطهاد الديني ، ثم توزعوا بين الشام وجهات بعلبك.

وأخبرني الحاج كاظم المقداد : أن شجرة النسب ( نسبهم ) توجد عند آل المقداد الموجودين في « بصرى الشام » وهم وإياهم ابناء العم ، وذلك : أن إثنين من ابناء المقداد كانوا في قلعة السويداء ، فنزحوا الى منطقة ( حجولا - كسروان ) ثم رجع أحدهم فسكن بصرى الشام.

وحدثني بعض الثقات بما يقرب من هذه المضامين ، وهو ليس ببعيد ، والله أعلم.

ص: 137

ص: 138

الشورى ، وموقف المقداد منها

اشارة

* شبح المؤامرة !

* فكرة الشورى وأبعادها.

* سير عملية الشورى. وما افرزت من تناقضات.

* خلفيات الشورى.

* بدء المعارضة وقصة عبدالله بن عمر مع الهرمزان.

ص: 139

ص: 140

شبح المؤامرة

قال الإِمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يصف عملية الشورى ، وموقفه منها :

« حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في ستةٍ زعم أني أحدهم ، فيالله وللشورى ! متى إعترض الريبُ فيّ مع الأول منهم حتى صرتُ أُقرنَ إلى هذه النظائر ! لكني أسفَفتُ إذ أسفوّا وطرتُ إذْ طاروا ، فَصَغا رجلٌ منهم لضِغْنِهِ ، ومالَ الآخَرُ لصِهرِهِ مع هَنٍ وهن .. ».

نهج البلاغة / ج 1 / 41 - 42

ص: 141

ص: 142

فكرة الشورى وابعادها

أرسل المغيرة بن شعبة(1) إلى عمر يقول : « إن عندي غلاماً نقاشاً نجاراً حداداً فيه منافع لأهل المدينة ، فإن رأيت أن تأذن لي في الإِرسال به ، فعلتُ. » فإذن له. (2) فبعث بغلامه أبي لؤلؤة فيروز الفارسي.

وكان عمر لا يأذن لسبيىٍّ قد احتلم في دخوله المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة. (3)

مكث أبو لؤلؤة في المدينة فترة غير طويلة لا تتعدى الأشهر كان سيده المغيرة قد فرض عليه في خلالها ضريبةً قدرها مائة درهم لكل شهر.

في هذه الفترة كانت أقبية المدينة تشهد لوناً من ألوان الصراع الحزبي كشفت عنه الأيام فيما بعد وكان للأمويين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين دور كبير فيه ، وفي هذه الفترة أيضاً ومن خلال ذلك الصراع العنيف يبدو للمتتبع أن مؤامرة ما كانت تحاك في الظلام ، وربما استهدف فيها الخليفة نفسه ! سيما إذا أخذنا بعين الإِعتبار السياسة الخشنة التي انتهجها عمر والتي لا ترضي أقطاب قريش ..

ومرت الأيام تتوالى سراعاً حتى إذا كان الظرف مؤاتياً والأمر مستوسقاً بدأ

ص: 143


1- المغيرة بن شعبة ، قال عنه الشعبي : كان من دهاة العرب. وقال قبيصة بن جابر : صحبت المغيرة ، فلو أن مدينةً لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر ، لخرج المغيرة من أبوابها كلها ( الإصابة 3 / 452 ).
2- مروج الذهب 2 / 320.
3- تاريخ الخلفاء 152.

التنفيذ لهذه المؤامرة على أدق ما يتصور ، فقبل مقتل عمر بثلاثة أيام أقبل إليه كعب الأحبار(1) ليزُفّ إليه بشارةً ما أظن أن أبعادها خفيت على الخليفة ، فقال : أجدك في التوارة تقتل شهيداً !

فقال عمر : وأنى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟! (2) وكأنه بجوابه هذا يقرأ سراً إنطوى عليه قلب كعب !!

وكأن كعباً بقولته تلك يحاول تضليل الخليفة عن تلك المؤامرة والتي يظهر أن لكعب ضلعاً فيها ، فليست قولته هذه إلا « شاهد من شواهد ذلك الصراع الحزبي العنيف الأخرس ، وفلتة ربما دانت كعباً بالإنتماء الى الحزب الأموي والتجسس على عمر في ثوب المخلص له المقرب إليه ، فقد كان كعب بعد ذلك ركناً في بلاط معاوية يدير فيه الدعاية ويعلم فيه الدس عن طريق القصص والوضع ... (3)

وفي ذات يوم أقبل أبو لؤلؤة إلى عمر يشكو إليه ثقل خراجه الذي فرضه عليه المغيرة. فقال له عمر : وما تحسن من الأعمال ؟

قال : نقاش ، نجار ، حداد.

ص: 144


1- كعب بن مانع ، قدم من اليمن في خلافة عمر بن الخطاب فأخذ عنه الصحابة وغيرهم ! ومات بحمص بعدما ملأ الشام وغيرها بخرافاته اليهودية .. ومن خرافاته : أن الأرضون السبع على صخرة ، والصخرة في كف ملك ، والملك على جناح الحوت ، والحوت في الماء ، والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح ، وان قرونها معلقة في العرش .. الخ - كما جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي. وجاء في الطبقات الكبرى : أنه ظل بعد اسلامه يحرص على قراءة أسفار التوراة. وهو الذي أخبر عمر بن الخطاب بأنه سيقتل وذلك قبل مقتله بثلاثة أيام مدعياً أنه وجد ذلك في التوراة ... وكعب هذا يهودي من اليمن وهو من اكثر من تسربت منهم أخبار اليهود الى المسلمين - راجع الموضوعات في الآثار والأخبار - 105 وما بعدها.
2- نفس المصدر 124.
3- حليف مخزوم - 160.

فقال له عمر : ما خراجك بكثير في كنه ما تحسن من الأعمال. فمضى عنه وهو يتذمر.

ومر بعمر يوماً وهو قاعد ، فقال له عمر : الم أحدَّث عنك أنك تقول : لو شئتُ أن أصنع رحاً تطحن بالريح ، لفعلتُ ؟!

فقال ابو لؤلؤة : لأصنعن لك رحاً يتحدث الناس بها ! ثم ولى عنه.

فقال عمر : أما العلج فقد توعدني آنفاً ! (1)

وأخذ أبو لؤلؤة خنجراً ذا رأسين ، وشحذه وسمّه « فاشتمل عليه ، ثم قعد لعمر في زاوية من زوايا المسجد في الغلس ، فلم يزل هناك حتى خرج عمر ، فلما مرّ به طعنه ثلاث طعنات ، إحداهن تحت سرته ، وهي التي قتلته. وطعن إثني عشر رجلاً من أهل المسجد ، فمات منهم ستة وبقي ستة ، ثم نحر نفسه بخنجره فمات.

ونقل الخليفة إلى داره مضرجاً بدمائه ، وأحب في تلك اللحظات الصعبة أن يكتشف ما إذا كانت عملية الإغتيال هذه قد أتت عن أمر دُبّر بليل ، أو أنها كانت مجرد حقد شخصي من أبي لؤلؤة. فأمر مناديه ، فنادى بالناس.

« أعن ملأٍ ورضىً منكم كان هذا ؟

فقالوا : معاذ الله ، ما علمنا ولا إطلعنا ! » (2)

وأقبل الطبيب ينظر جراح الخليفة التي أخذت تنزف ، علّه يجد بلاًّ لها أو شفاء ، فأراد أن يعرف ما إذا كانت الطعنات قد نفذت في أمعائه وأحشائه ، أو أنها كانت دون الصفاق (3) ، فنظر الى عمر وقال :

ص: 145


1- مروج الذهب 2 / 320.
2- الإمامة والسياسة 1 / 26.
3- الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر.

أيَّ الشراب أحب اليك ؟

فقال : النبيذ ! فسقوه نبيذاً ، فخرج من بعض طعناته !

وذهل الطبيب لما رأى ، لكن الناس اشتبه عليهم الأمر ، فقالوا : صديد ! صديد ! اسقوه لبناً ، وكأنهم أرادوا أن يثبتوا للطبيب خطأ تقديره.

فسقوه لبناً ، فخرج اللبن أبيض صريحاً !

وذُهل الناس ! أما الطبيب ، فالتفت إلى الخليفة قائلاً : لا أرى أن تمسي ؛ فما كنت فاعلاً فافعل.

بعد هنيهة جاء كعب الأحبار ، فدخل عليه وقال له معزياً ومسلياً : قد أنبأتك أنك شهيد !

لكن الخليفة نظر إليه نظرة استرخاء ، فيها شيء من السخرية والاستهزاء ، مفهماً إياه أن الامر أدق مما يحاول تصويره ، وأنه ليس هناك حيث يظن ، معيداً إلى ذاكرته ما كان اجابه به قبل ثلاثة أيام ، فقال له : وانى لي بالشهادة ، وأنا في جزيرة العرب ؟! وما ضرّ كعباً أن لا يعلق على جوابه هذا ، فلم يبق من عمره إلا ساعات من نهار ، وفي ذلك أمانٌ له من الدِرّة ، لكنه فهم أن عمر ليس بالإنسان الساذج البسيط الذي تنطوي عليه هذه العبارات الفارغة ، دون أن يفهم أبعادها.

وخرج كعب من عنده : ليترك المجال للناس يثنون على الخليفة وهو في آخر ساعات من حياته. « فجعل الناس يثنون عليه ويذكرون فضله ». فوجدوا منه غير ما كانوا يتوقعون ، حيث إلتفت إليهم قائلاً : « إن من غررتموه لمغرور ، إني والله وددت أن أخرج منها كفافاً كما دخلت فيها ، والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطَلَع. ! » (1)

ثم أقبل إليه المتزلفون يستثيرون منه مكمن العاطفة ، يتقربون إليه

ص: 146


1- الإمامة والسياسة 1 / 26.

بذلك ، ويظهرون له وّدهم وإخلاصهم ، فأشاروا عليه بأن يولي ولده عبدالله !

فقال لهم : « لا هالله ، إذن لا يليها رجلان من ولد الخطاب ، حسبُ عمر ما حمل ، حسب عمر ما احتقب ، لا هالله ، لا أتحملها حياً وميتاً ! ».

ومرة ثانية يأتيه الناس ، فيقولون له : يا أمير المؤمنين لو عهدتَ ؟

فيقول لهم : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم ، أن أولي رجلاً أمركم ، أرجو أن يحملكم على الحق - وأشار الى علي - ثم رأيت أن لا أتحملها حيّاً وميتاً.

ومرةً أخرى يتأوه ويتذمر فيقول : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ... ! لو كان معاذ بن جبل حياً لإستخلفته .. لو كان خالد بن الوليد حياً لإستخلفته !! ثم يعلل ذلك بأن : أبو عبيدة أمين هذه الأمة ، ومعاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة ! وخالد بن الوليد سيف من سيوف الله .. ! كما سمع هو من النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حقهم .. (1)

ثم أرتأى أن يجعلها في ستةٍ من المسلمين ، وهم : علي ، وطلحة ، وعثمان ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، موهماً أنه بذلك يخرج عن تحمل تبعاتها ومسؤولياتها ، وفي غمرة المسؤولية وقع حين حصرها في هؤلاء الستة حصراً لا يمكن فكه حسبما خطط. !

المهم ، أنه استدعى هؤلاء الستة ، فدخلوا عليه وهو ملقىً على فراشه يجود بنفسه ، فنظر إليهم فقال : أَكُلَكُمْ يَطمَعُ في الخلافة بعدي ؟! فوجموا. فقال لهم ثانيةً.

فأجابه الزبير ، وكأن استشعر السخرية في سؤاله ، فقال :

ص: 147


1- راجع الإمامة والسياسة 1 / 28.

« وما الذي يبعدنا منها !؟ وُليتها أنتَ فقمتَ بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ، ولا في القرابة ! ».

فقال عمر : أفلا أخبركم عن أنفسكم ؟

قال : قل ، فأنا لو استعفيناك لم تعفنا.

فقال : أما أنت يا زبير ، فوعِق لقِسْ (1) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ، ويوماً شيطان ، ولعلها لو افضت إليك ظلتَ يومك تلاطم بالبطحاء على مدٍّ من شعير ! أفرأيت إن افضت إليك ؛ فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ، ومن يكون يوم تغضب ! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة وأنت على هذه الصفة.

ثم أقبل على طلحة ، وكان له مبغضاً - منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر - (2) ، فقال له : أقول ، أم أسكت ؟

قال : قل ، فإنك لا تقول من الخير شيئاً.

قال : أما اني أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أُحد ، والبأو (3) الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله(صلی الله علیه و آله) ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب (4).

ص: 148


1- الوعق : الضجر المتبرم. واللقس : من لا يستقيم على وجه.
2- الكلمة التي قالها طلحة لأبي بكر هي : ما أنت قائل لربك غداً ، وقد وليت علينا فظاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب ! ( شرح النهج 1 / 164 ).
3- البأو : الكبر والفخر.
4- قال الجاحظ : الكلمة المذكورة ، ان طلحة لما أنزلت آية الحجاب ، قال بمحضرٍ ممن نقل عنه الى رسول الله ، : ما الذي يغنيه حجابهن اليوم ، وسيموت غداً فننكحهن !! وقال الجاحظ أيضاً : لو قال لعمر قائل : أنت قلت أن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه ! والمشقص : فصل السهم إذا كان طويلاً. ( نفس المصدر ).

ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص ، فقال : إنما أنت صاحب مِقنَب (1) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنصٍ ، وقوس ، وأسهم ، وما زُهرة (2) والخلافة وأمور الناس ؟!

ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف ، فقال : وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وُزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك ، لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعفٌ كضعفِك ، وما زُهرة وهذا الأمر. !

ثم أقبل على عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال : لله أنت لولا دعابة فيك .. ! أما والله لئن وُلّيتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والحجة البيضاء.

ثم أقبل على عثمان - وكأنه يناوله الخلافة - فقال له :

هيهاً إليك ؛ كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبّها إياك ، فحملت بني أمية ، وبني أبي مُعيط على رقاب الناس ، وآثرتهم الفيئ ، فسارت إليك عصابةً من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلنّ ، ولئن فعلتَ ليفعَلُنّ ، ثم أخذ بناصيته فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي ، فإنه كائن !! (3).

بعد هذا ، أراد أن يبرم الأمر إبراماً تصدق معه فراسته في تسليم الأمر لعثمان ، فاستدعى أبا طلحة الأنصاري ، فقال له :

« انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بامضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم.

ص: 149


1- المِقنَب : جماعة الخيل.
2- زهرة : قبيلة سعد بن أبي وقاص.
3- شرح النهج 1 / 186 - 187.

فإن اتفق خمسة ، وأبى واحد فاضرب عنقه.

وان اتفق اربعة وأبى إثنان فاضرب اعناقهما.

وان اتفق ثلاثة ، وخالف ثلاثة ، فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع الى ما قد اتفقت عليه ! فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها ، فاضرب أعناقها وان مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر ، فاضرب أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم (1).

وقال للمقداد الكندي : إذا وضعتموني في حفرتي ، فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم (2). ولعله إنما أشار على المقداد بذلك ليكون ممثلاً للمهاجرين في مراقبة هذه الشورى.

تخطيط دقيق محكم لولا أنه لم يكن ساتراً لبعض المتناقضات التي وقع فيها الخليفة ، كما لم يكن ساتراً لرغبته في عثمان حين جعل صوت عبد الرحمن - صهر عُثمان - بصوتين ، وما ذلك إلا إضعافاً لجانب علي.

ثمّة أمر آخر هو أهم ما انطوت عليه عملية الشورى هذه حيث استقام له فيها « وضع نظام يجمع بين التعيين والإنتخاب ، وحسبه من الإنتخاب صورته ، وان كانت هذه الصورة قلقة لا تكاد تستقر على قاعدة دينيةٍ صريحة ، ولا على مبدأ شعبي معترف به ، فالحقيقة أنه إنما صنع الإنتخاب ليتجنب التعيين ، لا أكثر (3). وبذلك يسلم من سخط أحد الفريقين المتخاصمين ، اتباع علي ، وأتبع عثمان.

عمر ، يعرف جيداً أن عليّاً هو صاحب الحق ، ولم تكن لتخفى عليه مؤهلاته للخلافة وسابقته وجهاده ، وقد أفصح للناس عن مسلك علي بقوله

ص: 150


1- شرح النهج 1 / 186 و 187.
2- العقد الفريد 4 / 275 والكامل 3 / 67.
3- حليف مخزوم.

لهم : « يحملكم على الحق .. » لكن هناك قوة ثانية ترفض علياً وتأباه ، وهي قريش وحلفاؤها. إنها ترى فيه الشبح المرعب الذي يبدد كل آمالها وأحلامها ، فبالأمس القريب « في بدر وأحد » كانت هامات صناديدها من بني أمية وبني عبد الدار طعاماً هشاً لسيف علي ، ومع ضرباته كانت ألويتهم تتهاوى لواءً بعد لواء ، ويتهاوى معها الشرف الجاهلي ، وليست قريش وحدها كانت تحذر علياً وتخشاه ، بل المنافقون واليهود أيضاً يشاركونهم هذا الشعور ، فهم لا ينسون أبداً ضربته يوم ( الخندق ) وثبات سيفه في جمجمة عمرو بن ود دون أن يلتوي في يده أو يُفل ، ويوم ( خيبر ) لا زالوا يذكرون كيف كان سيفه يقعقع في أضراس ( مرحب ) وأخيه ( الحارث ) ولم يكتف بذلك حتى امسك بباب الحصن وجعلها ترساً له حتى فتح الله على يديه ، حين يذكرون ذلك تنخلع قلوبهم خوفاً وفرقاً ، لذلك هم يرفضونه .. ويرفضونه .. يرون فيه المارد الذي يلاحقهم يلوّح لهم بالموت الأحمر إن لم يفيئوا إلى الحق. وهم يهربون من الحق.

وعثمان ، يعرفه عمر جيداً ، ويعرف مدى ضعفه عن أمر الخلافة ، وكيف أنه إن وَلِيَها سيؤثر أهله وذوي قرابته على سائر المسلمين ، وأنه « سيحمل بني أمية وبني أبي مُعَيط على رقاب الناس. » كما أنبأه بذلك ؛ ولكن ! قريش تريد عثمان.

الناس تريد عدل علي واستقامته ، وقريش تحذر عدل علي واستقامته ، وأبو حفص كان يعلم هذا وذاك. مأزق حرج لا يمكنه معه الاختيار صراحة.

أيعلن للناس استخلاف علي دون غيره صراحة ؟ فيخسر بذلك قريشاً ، فلا يسلم من سخطها وإنتقامها بعد موته ويصبح مضغةً في أفواه شعرائها وخطبائها ، ونهشةً لرواة السوء - كما فعلوا بعلي فيما بعد -. أم يعلن استخلاف عثمان صراحةً ، وهو يعلم ما لعلي من مكانةٍ في نفوس المسلمين ، فلن يسلم أيضاً من سبّه التاريخ ! ودفعاً لهذا وذاك ، تركها حرةً طليقة ، ولكن بعد أن

ص: 151

امسك بزمامها ، تروح ثم تغدو إليه آخر الأمر.

وأدرك عليٌّ أبعاد هذه الشورى وما انطوت عليه من تدبير ، فلقي عمه العباس وقال له : « عُدِلتْ عنا ! » يعني الخلافة.

قال له : وما أعلمك ؟

قال : قرن بي عثمان ثم قال إن رضي ثلاثةٌ رجلاً ، ورضي ثلاثةٌ رجلاً ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ! فسعدٌ لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فلو كان الآخران معي ما نفعاني. (1)

وكان عمه العباس قبل ذلك قد أشار عليه باعتزال هذه الشورى والترفع عن جلساتها محذراً إياه بأنه سيلقى ما يكره. فكان جواب علي له : « انني أكره الخلاف ! »

والحق أن بغضه للخلاف ليس وحده هو الدافع لمشاركته لهم في هذا الأمر ، سيما بعد أن استبق النتيجة وعلم الأمر سيكون لغيره ، بل هناك دافع آخر للمشاركة معهم ، وهو يتلخص : « في أن لعلي مذهباً في السياسة ؛ مثاليّاً واقعيّ المثالية ، لا يتنازل عنه إلا أن يتنازل عن نفسه وشخصيته ؛ وما أظنك مغالياً إذا ظننت أن مذهبه هذا أعان خطة الشورى المكشوفة المقنّعة على النجاح ، كما اعان على علي نفسه قبل الشورى وبعدها مراتٍ عديدة. (2)

ص: 152


1- العقد الفريد 4 / 276 وغيره.
2- حليف مخزوم 172 - 173.

سير عملية الشورى وما أفرزت من تناقضات

جمع المقداد أعضاء الشورى الستة في بيت ، بينما وقف أبو طلحة الأنصاري على الباب ومعه خمسون رجلاً متقلدي سيوفهم تنفيذاً لوصية عمر. أما عبد الرحمن بن عوف فقد أمضى أياماً ثلاثة يشاور الناس في أمر الخلافة.

وأقبل الناس نحو المسجد يتدافعون إلى جهة الباب ، وهم لا يشكون في مبايعة علي بن أبي طالب.

وكان هوى قريش كافة - ما عدا بني هاشم - في عثمان ، وهوى طائفة من الأنصار مع علي ، وهوى طائفةٍ أخرى مع عثمان - وهي أقل الطائفتين - وطائفة لا يبالون أيهما يبايع. (1)

وقام كل واحد من الستة يدلي برأيه على مسمع الآخرين - كما ذكر الطبري - في خطبة يستهلها بالحمد والثناء على الله ، حتى قام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فقال :

الحمد لله الذي إختار محمداً منا نبيّا ، وإبتعثه إلينا رسولا ، فنحن أهلُ بيت النبوّة ، ومعدنُ الحكمةِ ، أمانٌ لأهل الأرض ، ونجاةٌ لمن طلب ، إنّ لنا حقاً إن نُعطَهُ نأخذه ، وان نمنعه نركب أعجاز الإِبل (2) وإن طال السرى ! لو

ص: 153


1- شرح النهج 9 / 52.
2- قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : نركب أعجاز الإِبل ، كناية عن المعاناة والمشقة ، فهو يحتمل أحد تفسيرين ، الأول : إن نُمنعه : نصبر على المشقة كما يصبرعليها راكب عجز البعير. والثاني أن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير عن مردفه.

عهد إلينا رسول الله(صلی الله علیه و آله) عهداً لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً لجالدنا عليه حتى نموت. لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1).

إسمعوا كلامي ، وعوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتظى فيه السيوف ، وتخانُ فيه العهود ، حتى لا يكون لكم جماعة ، وحتى يكون بعضكم أئمةً لأهل الضلالة ، وشيعةً لأهل الجهالة.

إنتهى كل واحد من كلامه ، وخيّم سكون مملٍ ، بينما كان الصخب يملأ أرجاء المسجد ، والهتاف يتعالى معلناً إسم علي تارةً واسم عثمان أخرى ، مما دفع بالأربعة الباقين أن يتخذوا القرار المناسب في حق أنفسهم فيدلي كل واحد منهم بصوته إلى عثمان أو علي ؛ لأنهم علموا أن الناس لا يعدلوهم بهما ، ولأن عبد الرحمن فرض نفسه من أول الأمر كمنظم لهذه الشورى ومدير لها ، سيما وأن عمر ألمح إليه بأن الخلافة لا تصلح له ، حين قال له : « وما زهرة وهذا الأمر ! ».

إذن ، كان الناس فريقان ، فريق يريدها لعلي ، وهو الفريق الممثل بالمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر. وفريق يريدها لعثمان ، وهو الفريق الممثل بابن أبي سرح وابن أبي المغيرة ؛ وتعالت الأصوات في هذا الحال ، كل فريق ينادي باسم صاحبه.

أقبل المقداد بن الأسود على الناس ، فقال : أيها الناس ، إسمعوا ما أقول ، أنا المقداد بن عمرو ، إنكم إن بايعتم عليّاً سمعنا وأطعنا. وان بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ! ».

فقام عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي ، وقال : « ايها الناس ، إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا ، وان بايعتم عليّاً سمعنا وعصينا. ».

ص: 154


1- شرح النهج 1 / 195.

فانتفض المقداد ورد عليه فقال : « يا عدُوّ الله ، وعُدوّ رسوله ، وعدُوّ كتابه ، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون ! » ؟

فقال له عبدالله : يابن الحليف العسيف ، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش !

وصاح عبدالله بن أبي سرح : « أيها الملأ ، إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها ، فبايعوا عثمان. ».

فنهض عمار بن ياسر وقال : « إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليّاً ». ثم أقبل على ابن أبي سرح وقال له : يا فاسق يا ابن الفاسق ، أأنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم ! ».

فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، فقام عمار فقال : أيها الناس ، إن الله اكرمكم بنبيه وأعزكم بدينه ، فالى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ! » (1).

كانت أصوات الفريقين تعجل في حسم الأمر خوفاً من وقوع الفتنة ، فتقدم طلحة فأشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان.

فقال الزبير : وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي.

فقال سعد بن أبي وقاص : وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن. (2)

وسكت عليٌّ وظل عثمان ساكتاً ، وأسفرت الجولة الأولى عن رجحان بين لعبد الرحمن ، لقد ملك صوتين كعلي وعثمان ، وزاد عليهما بأن صوته يعادل

ص: 155


1- شرح النهج 9 / 52.
2- شرح النهج 1 / 187 - 188.

صوتين ، فهو حتى الآن مركز الثقل حقاً.

ترى ، أيضم صوته لنفسه فيخرج على خطة عمر القائلة : « وما زهرة وهذا الأمر ؟ » أم يمضي الى أمر عمر وخدمة صهره ؟ أم يعدل عن هذا كله ويتجه الى علي صاحب الأمر في عقيدة الكل ؟

كان الرجل ساكتاً أيضاً ، وكان يدير في فكره لفتةً بارعةً ، لا ندري أهي من بناته أم من محفوظاته ؟ ولكنها بارعةٌ في كل حال. (1) فقد التفت إليهما وقال :

أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الإثنين الباقيين ؟ فلم يتكلم منهما أحد. فقال عبد الرحمن : أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما (2).

ومن براعة لفتته أنه لم يلتفت إلى عثمان ، بل التفت الى علي فقال له : أمدد يدك أبايعك على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين.

فيقول علي : بل على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، وأجتهاد رأيي.

فيلتفت آنذاك عبد الرحمن إلى عثمان فيذكر له شروطه الثلاثة ، فيقرها عثمان.

ثم لا يعجل عبد الرحمن ، فيسرع إلى بيعة أخي زوجه من أول مرة ، فهو مطمئن إلى ان علياً يرفض الخلافة بغير شرطه هو ، لأنه لا يناقض نفسه ، ولا يسر حسواً في إرتغاء. ومن أجل هذا إستأنى عبد الرحمن وكرّرَ عرضه على عليّ الذي أباه ثلاث مرات ! ثم نهض وعبد الرحمن يَصفِق على يد عثمان

ص: 156


1- حليف مخزوم 175.
2- شرح النهج 1 / 188.

بالبيعة. (1) ويقول له : السلام عليك يا أمير المؤمنين.

وهنا يلتفت علي إلى عبد الرحمن ، فيقول له : والله ما فعلتها إلا لأنك رجوتَ منه ما رجا صاحبكما من صاحبه. دَقّ الله بينكما عِطر مَنشِم. » (2)

وقد عبر علي بن أبي طالب عن عدم رضاه عن هذه النتيجة ، وتسليمه بالأمر الواقع ، قائلاً.

« لأُسَلِمّنَّ ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة » (3).

وفي رواية الطبري : أن علياً(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال حين بويع عثمان : ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ؟ والله ما وليته الأمر إلا ليردّهُ إليك ، والله كل يوم في شأن.

فقال عبد الرحمن : لا تجعل على نفسك سبيلاً يا عليّ - يعني أمرَ عُمر أبا طلحة أن يضرب عُنق المخالف - فقام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فخرج ، وقال :

ص: 157


1- حليف مخزوم 175.
2- شرح النهج 1 / 188. قال الأصمعي : منشم إسم امرأة كانت بمكة عطارة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال : أشأم من عطر منشم ، فصار مثلاً. وقال أبو هلال العسكري في كتاب ( الأوائل ) ، استجيبت دعوة علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عثمان وعبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين .. ولما بنى عثمان قصر طمار بالزوراء وصنع طعاماً كثيراً ودعا الناس إليه ، كان فيهم عبد الرحمن. فلما نظر للبناء والطعام قال : يابن عفان ، لقد صدّقنا عليك ما كنا نُكذّب فيك ، واني استعيذ الله من بيعتك ، فغضب عثمان وقال : اخرجه عني يا غلام ، فاخرجوه وأمر الناس أن لا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض ، ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان وكلمه ، فلم يكلّمه حتى مات. شرح النهج 1 / 196.
3- ثورة الحسين / 34.

سيبلغ الكتاب أجلَهُ.

فقال عمار : يا عبد الرحمن ، أما والله لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون.

وقال المقداد : تالله ما رأيت مثل ما أُوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ، واعجباً لقريش ! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل ، ولا أعلم ، ولا أتقى منه ! أما والله لو أجد أعواناً.

فقال عبد الرحمن : إتق الله يا مقداد ، فإني خائف عليك الفتنة.

لكن عليّاً(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إلتفت نحو المقداد وعمار ، وقال ، مسلياً ومهدئاً لهما :

« اني لأعلم ما في أنفسهم ، إن الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر في صلاح شأنها ، فتقول : إن وليَ الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً ، وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش » (1).

ص: 158


1- شرح النهج 1 / 194.

خلفيات الشورى

ذكروا : أن معاوية بعث إلى ابن الحصين(1) ليلاً فخلا به وقال له : يا بن الحصين ؛ بلغني أن عندك ذهناً وعقلاً ، فأخبرني عن شيءٍ أسألك عنه.

قال : سلني عما بدا لك.

قال : اخبرني مالذي شتت أمر المسلمين وفرّق أهوائهم ؟

قال : قتل الناس عثمان ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير علي إليك وقتاله إياك ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتال عليّ إياهم ! قال : ما صنعت شيئاً.

قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين.

قال : فأنا أخبرك ، إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهوائهم ، ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر .. فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف ابو بكر ، ما كان في ذلك إختلاف. (2)

ص: 159


1- ابن الحصين : هو عمران بن حصين الخزاعي ، أسلم عام خيبر وغزا عدة غزوات وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح - كذا في الإصابة. واعتزل حرب الجمل ، وكان قد نزل البصرة ، وفي سنة 45 للهجرة ولاه زياد قضاء البصرة ، وتوفي في سنة 52. كما في الكامل.
2- العقد الفريد : 4 - 281.

تحليل رائع من سياسي بارع خاض تجارب كثيرة في مضماري الملك والزعامة ، فمعاوية وان كان قد باع شرفه وآخرته بدنياه في خوضه حرباً ظالمةً ضد ثاني رجل في الدولة الإسلامية ، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون له نظرة صائبة وعميقة حول بعض المفاهيم السياسية ! إنه هنا يكشف - في الحقيقة - سراً من الأسرار التي أودت إلى تمزق الأمة وتفككها ، فالشورى كانت واحدة من الأسباب التي ساهمت في ذلك ، وليست هي السبب الرئيسي.

هو هنا يطرح لمحدثه سبباً واحداً كان يراه علة الكل ، وعلة العلل في تفرق شمل الأمة ، يرى الشورى - بما زرعت في قلوب أعضائها من طموح للخلافة دفعهم للتهيؤ لها - هي السبب الوحيد في ذلك !

وربما كان معاوية يلمز من حديثه هذا إلى علي ، وكأنه يريد أن يجعله في عداد هؤلاء الطامحين ، كما تكشف عن ذلك مواقفه من علي.

لكن الشيء الواضح من أخطاء هذه الشورى ، أنها بالإضافة إلى كونها حفزت أعضائها على التهيوء للخلافة وأوجدت تكتلات حزبية مختلفة ومتناحرة ، فقد جعلت في نفس الوقت أناساً آخرين ليسوا من أعضائها ينحون هذا المنحى. « فقد طمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشورى من قريش ، لأنهم رأوا أن بعض من رشحهم عمر لا يفضلونهم في شيء ، بل ربما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة. » (1) ولعل معاوية واحد منهم.

ص: 160


1- ثورة الحسين / 33.

بدء المعارضة

فوجئ الناس - في اليوم الأول لبيعة عثمان - بأمور ما عهدوها من سيرة الشيخين أبي بكر وعمر ، وانما تفرد بها عثمان ، مما دفعهم لإِعلان الاستياء والاستنكار ، جاعلين في حسابهم أنه بذلك يخرق العهد الذي اخذه عليه عبد الرحمن.

قال اليعقوبي : وخرج عثمان والناس يهنئونه ، فصعد المنبر ، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : اليوم ولد الشر.

وروي : أنه خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة وبين يديه شمعة ، فلقيه المقداد بن عمرو ، فقال ما هذه البدعة ! (1)

ولم تكن حكاية المنبر والشمعة هذه بذات بال لولا أنها خارجة على سيرة الشيخين ، وأنها مؤشر لإِرتكاب أمور أفضع وأخطر بكثير !.

لكن أمراً آخر حصل في ذلك اليوم أثار حفيظة المخلصين ، فدفعهم إلى الجهر بالمعارضة ، فقد تناهى إلى سمعهم قول لأبي سفيان في محضر الخليفة تستشم منه رائحة الإِلحاد في دين الله ، وبداية التفكير في تحويل الخلافة الى ملك ، وذلك.

ص: 161


1- اليعقوبي 2 / 162 - 163.

أن عثمان - بعد البيعة - دخل رحله ، فدخل اليه بنو أمية حتى إمتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا.

قال : تلقّفوها يا بني أميّة تلقُّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنّةٍ ، ولا نار ، ولا بعث ، ولا قيامة ! » فانتهره عثمان وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه.

فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان ، فقال له : ما صنعت ! فوالله ما وُفقت حيث تدخل رحلك قبل ان تصعد المنبر ، فتحمد الله وتثني عليه ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعدَ الناس خيراً.

فخرج عثمان ، فصعد المنبر ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال : هذا مقام لم نكن نقومه ، ولم نُعدّ له من الكلام الذي يقام به في مثله ، وسأهيء ذلك ان شاء الله .. (1)

وشاعت مقالة أبي سفيان بين المسلمين ، فساءهم ذلك ، فكان أول من أعلن استنكاره وغضبه ، عمار بن ياسر ، فأقبل في اليوم التالي حتى دخل المسجد والناس مجتمعون فيه ، فقام وقال :

« يا معشر قريش ؛ أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة ، وههنا مرة ، فما أنا بآمنٍ من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله. (2)

وخرج المقداد في ذلك اليوم ، فلقي عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيده وقال :

ص: 162


1- شرح النهج 9 / 53 - 54.
2- مروج الذهب 2 / 343.

إن كنت أردت - بما صنعت - وجه الله ، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإن كنت إنما أردت الدنيا ، فاكثر الله مالك !

فقال عبد الرحمن : إسمع ، رحمك الله ، إسمع ! قال : لا أسمع والله. وجذب يده من يده ، ومضى حتى دخل على علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، فقال :

قم ، فقاتل حتى نقاتل معك. قال علي : فبمن أقاتل ؛ رحمك الله ؟!

وأقبل عمار بن ياسر ينادي :

يا ناعي الإِسلام قم فإنعه * قد مات عرفٌ وبدا نُكرُ

أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم ! والله لئن قاتلهم واحد ، لأكونن له ثانياً !

فقال علي : يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعواناً ، ولا احب أن أعرضكم لما لا تطيقون. (1) وجاءت حادثة العفو عن عبيد الله بن عمر « قاتل الهرمزان » فزادت الطين بلة.

قال اليعقوبي : واكثر الناس في دم الهرمزان ، وإمساك عبيد الله بن عمر ! وصعد عثمان المنبر ، فخطب الناس ، ثم قال :

آلا إني ولي دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر !

فقام المقداد بن عمرو ، فقال : إن الهرمزان مولىً لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله.

قال : فننظر ، وتنظرون. ثم اخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً فنسب الموضع إليه فقيل : « كويفة ابن عمر .. » (2)

ص: 163


1- شرح النهج 9 / 55 - 56 - 57.
2- اليعقوبي 2 / 163 - 164.

قصة الهرمزان ، ومقتله على يد بن عمر

كان الهرمزان أحد ملوك فارس ، وكان قد عقد صلحاً مع المسلمين في السنة السادسة عشرة للهجرة ، ما لبث أن نقضه فيما بعد بتحريض من يزدجرد ، وعلم المسلمون بذلك فجهزوا جيشاً لمحاربته ومحاربة من تعاقد معه على ذلك. فأسر ، وأقبلوا به الى المدينة مكتوفاً وعليه تاجه وحليته ، فأراد عمر أن يضرب عنقه ، فأعلن إسلامه في قصة طريفة.

فقد روي : أن عمر قال له : « يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر » ؟

فقال : يا عمر ، إنا وإياكم في الجاهلية كنا نغلبكم ، إذ لم يكن الله معكم ، ولا معنا ! فلما كان الله معكم غلبتمونا.

قال : فما عذرك في انتقاضك مرةً بعد مرة ؟!

قال : أخاف إن قلتُ أن تقتلني. قال : لا بأس عليك ، فاخبرني.

فاستسقى ماءً ، فأخذه ، وجعلت يده تُرعَد. قال : مالك ؟ قال : أخاف أن تقتلني وأنا اشرب.

قال : لا بأس عليك حتى تشربه. فألقاه من يده ، فقال : ما بالك ! أعيدوا عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش.

قال : كيف تقتلني ، وقد أمنتني !؟

قال : كذبت ! قال : لم أكذب.

ص: 164

فقال أنس : صدق يا أمير المؤمنين. قال : ويحك يا أنس ! أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك ! والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنّك !

قال : إنك قلت : « لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشرب » ! وقال له ناس من المسلمين مثل قول أنس.

فأقبل على الهرمزان ، فقال : تخدعني ! والله لا تخدعني إلا أن تُسلم ، فأسلم ، ففرض له الفين وأنزله المدينة ». (1)

فلما قُتل عمر ، ظن ابنه عبيد الله أن الهرمزان كان شريكاً لأبي لؤلؤة في قتل والده ، فعمد إلى الهرمزان فقتله ، وقتل معه جفينة ابنة ابي لؤلؤة.

« وأراد عبيد الله أن لا يترك سبيّاً بالمدينة يومئذٍ إلا قتله ، فاجتمع المهاجرون الأولون ، فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء ، واشتدوا عليه وزجروه عن السبي.

فقال : والله لأقتلنهم وغيرهم - يعرض ببعض المهاجرين - فلم يزل عمرو بن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه .. (2) - »

فلما استخلف عثمان ، دعا المهاجرين والأنصار ، فقال : اشيروا علي في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق ! فاجمع راي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله. وقال جل الناس : أبعد الله الهرمزان وجفينة ، يريدون يتبعون عبيد الله أباه !!.

وعن المطلب بن عبدالله قال : قال علي لعبيد الله بن عمر : ما كان ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها ؟ فكان رأي علي حين إستشاره عثمان ، ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان

ص: 165


1- شرح النهج 12 / 114.
2- الغدير 8 / 132.

حتى تركه. فكان علي يقول : لو قدرت على عبيد الله بن عمر وليَ سلطانٌ لإقتصصتُ منه. (1)

أما عثمان ، فحين بلغه مقالة علي تلك ، قام فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

« أيها الناس ، إنه كان من قضاء الله ان عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، أصاب الهرمزان وهو رجل من المسلمين ليس له وارثٌ إلا الله والمسلمون ؟ وأنا إمامكم ، وقد عفوت ، أفتعفون عن عبيد الله بن خليفتكم بالأمس ؟ قالوا نعم. فعفا عنه. (2)

وفي ذلك اليوم قال المقداد مقالته الآنفة.

فلما بلغ علياً - ما قاله عثمان - تضاحك ، وقال : سبحان الله ! لقد بدأ بها عثمان ! أيعفو عن حق إمرئ ليس بواليه ! تالله إن هذا لهو العجب ! (2)

وكان عبيد الله قد حبس في بيت ، وقيل في السجن ، فأطلقه عثمان وكان رجلٌ من الأنصار يقال له : زياد بن لبيد البياضي ، إذا رأى عبيد الله بن عمر قال :

ألا يا عبيد الله مالك مهربٌ * ولا ملجأٌ من ابن أروى (3) ولا خفرْ

أصبت دماً والله في غير حِلّهِ * حراماً وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيهٌ والحوادث جمّة * نعم ، أتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبه والأمر بالأمر يعتبر

ص: 166


1- راجع الغدير 8 / 132 إلى 135.
2- راجع شرح النهج 9 / 54 - 55.
3- ابن أروى : هو عثمان.

فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره ، فدعا عثمان زياداً فنهاه ، فقال زياد في عثمان :

أبا عمرو عبيد الله رهنٌ * فلا تشكك بقتل الهرمزان

فإنك إن غفرت الجرم عنه * واسباب الخطا فرسا رهانِ

أتعفو ، إذ عفوتَ بغير حقٍ * فما لك بالذي تحكي يدانَ

فدعا عثمان زياداً ، فنهاه وشذ به. (1)

ولما اكثر الناس التحدث في دم الهرمزان ، أمر عثمان عبيد الله بالرحيل إلى الكوفة وأقطعه فيها داراً وأرضاً فسمي ذلك الموضع ب « كويفية بن عمر » وحين ولي الإمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الخلافة ، طلب عبيد الله فهرب إلى معاوية ، فقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) : لئن فاتني في هذا اليوم لا يفوتني في غيره !

فلما كانت حرب صفين قتل فيها. وقيل : إن علياً هو الذي قتله ، ضربه ضربةً فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفُه حشوة جوفه. (2)

ص: 167


1- راجع الكامل 3 / 75 - 76. وشذ به : إذا قُرئت كلمة واحدة يكون معناها : طرده. واذا قرئت كلمتين ، هكذا : شذ به : يكون المعنى عزله عن الناس.
2- راجع مروج الذهب 2 / 385.

بين المقداد وعثمان

المصادر التاريخية لا تشير إلى أي لون من ألوان الخلاف بين عثمان والمقداد قبل حادثة الشورى ، لا من قريب ولا من بعيد ، حتى إذا بدأت الشورى بدأ معها الخلاف بينهما ! وكان خلافاً يحسبه الغافل أنه ناجم عن عداء قديم مستشرٍ بينهما ، سيما إذا أخذنا بعين الإعتبار مواقف المقداد الصلبة من عثمان في تلك الفترة ، غير أن نظرة تأمل منا في نوعية هذا الخلاف كافية في إيقافنا على حقيقة الأمر ، من أن ما جرى بينهما لم يكن مرده لعداءٍ شخصي ، بل هو خلاف مبدئي تطور فيما بعد ليأخذ صفة العداء والجفوة بين الطرفين.

واضحٌ أن الخلافة أمانة عظمى في عنق متقلدها ، ومسؤولية كبرى في عاتقه عليه أن ينهض بأعبائها ، وإلا فهي الخيانة ! وبيعة عثمان ؛ أخذ فيها عليه شرطان صريحان غير كتاب الله ، هما : « سنة رسول الله وسيرة الشيخين ابي بكر وعمر (رض) بهما تصح بيعته وبدونهما لا بيعة قائمة ولا خلافة.

تُرى ! أيطوي الصحابة كشحاً عن بعض التصرفات المخالفة - صراحةً - لسنة الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو لسيرة الشيخين. يرون الخليفة متلبساً بها ؟! بالطبع ، لا ! إذا كانوا مخلصين لدينهم ، صادقين في تدينهم ؛ وهنا تكمن نقطة الخلاف بينه وبينهم بشكل عام. والمقداد واحد من الصحابة المخلصين لا يمكنه بحال السكوت أزاء حالات كهذه ، لذا ،

ص: 168

فإنه كان لا يتوانى في توجيه النقد له وإيقافه على الأخطاء التي يرتكبها ، أو التي تُرتكب في حضرته.

من ذلك : أن عثمان بينما كان جالساً ذات يوم وحوله بعض وجوه قريش ، إذ أقبل رجلٌ أحسبه كان شاعراً يتكفف اعطيات الملوك ، فجعل يمدح عثمان ، وكان المقداد حاضراً ، فجثا على ركبتيه وجعل يحثو الحصباء في وجه ذالك الرجل ! وتعجب عثمان من تصرف المقداد هذا ، والتفت إليه قائلاً : ما شأنك ؟

فقال : قال رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ! (1)

إن حادثة بسيطة من هذا النوع - في نظري ونظرك - هي غاية في الخطورة إذا صدرت في مجلس كمجلس الخليفة ، لأنها خرق واضح للسنة ، لا يمكن لصحابي كالمقداد أن يسكت عليها ، فما ظنك إذن بما هو أعظم من هذا وأفظع ؟! كتعطيل الحدود ، واقرار الأيدي العادية. والإِسراف في مال الله ووضعه في غير مستحقيه ، كإعطاء مروان خمس خراج إرمينية ! واقطاعه فدك(2) وكانت فاطمة بنت الرسول قد

ص: 169


1- كما جاء في صحيح مسلم ج 4 ك 53 ح 69 عن همام بن الحارث قال : إن رجلاً جعل يمدح عثمان ، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه - وكان رجلاً ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصباء ، فقال له عثمان : ما شأنك ؟ قال : إن رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال : إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب.
2- فدك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، أفاءها الله على رسوله ، فكانت خالصةً له لأنه لم يُوجَف عليها بخيل ولا ركاب. وذلك : أن النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بعد فراغه من غزوة خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا الى الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) انهم مستعدون لتسليمه الأرض وما يملكونه على أن يحقن دماءهم ، وعرضوا عليه ان يعملوا في الأرض بنصف الناتج ، فصالحهم على ذلك. ( راجع معجم البلدان 4 / 238 إلى 240 ) وغيره. وهذا الصنف من الأراضي يسمى ( الأنفال ) وسماه الفقهاء ( فيئا ) ويعد من الأنفال بالمفهوم الفقهي : كل ما أُخذ من دار الحرب بغير قتال : وكل أرض جلا عنها أهلها بغير قتال أيضاً ، والأرض الموات ، والآجام ، وبطون الأودية ، وقطايع الملوك ، وميراث من لا وارث له والأنفال في الكتاب العزيز هي لله وللرسول خالصة ، قال تعالى : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) وعلى هذا فإن فدك مما يملكه النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خاصة وله أن يقطعها لمن يشاء ، وقد وهبها النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لإِبنته فاطمة 3 حين نزلت الآية الكريمة : وآت ذا القربى حقه ؛ كما عن تفسير « الدر المنثور - للسيوطي » فتصرفت بها في حياة أبيها ؛ ( الميزان في تفسير القرآن 9 ص 5 وما بعدها ) و ( سيرة المصطفى 559 ) ولما توفي الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) منعت الزهراء فدكاً ، وكان لها مع الخليفة أبي بكر موقف مشهود معروف ، حيث احتجت عليه تارة بالنحلة ، واخرى بالميراث ، وثالثة بسهم ذوي القربى. وكان الخليفة ابو بكر يأخذ غلتها فيدفع لآل النبي ما يكفيهم ، وكان عمر بعده يفعل مثل ذلك ، فلما جاء عثمان « أقطعها لمروان بن الحكم ». كما يستفاد ذلك من « العقد الفريد 4 / 283 وشرح النهج 1 / 198. ولما ولي معاوية جعلها ثلاثة أثلاث ، بين مروان وعمرو بن عثمان ويزيد بن معاوية ، وذلك بعد وفاة الإمام الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ولم يزالوا يتداولونها إلى أن خلصت كلها لمروان أيام حكمه ، فوهبها لعبد العزيز إبنه ، وعبد العزيز بدوره وهبها لإبنه عمر ، ولما ولي عمر بن عبد العزيز كانت أول ظلامةٍ ردها ، حيث دعا الحسن بن الحسن بن علي ، وقيل بل دعا علي بن الحسين زين العابدين ، فردها عليه وكان يقول في ذلك : « أشهدكم إني قد رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) » العقد الفريد 4 / 435 فكانت بيد ابناء فاطمة مدة حكمه. فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم ، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت من قبل. فلما ولي أبو العباس السفاح ، ردها على عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي. ثم أخذها المنصور ، ثم ردها إبنه المهدي. ثم أخذها موسى بن المهدي وهارون أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون ، فردها على الفاطميين. وذلك : أن المأمون جلس يوماً للمظالم ، فأول رقعةٍ وقعت في يده نظر فيها وبكى وقال للذي على رأسه : نادِ : أين وكيل فاطمة ؟ فقام شيخ عليه دُراعة وعمامة ، وخُف تعزي ، فتقدم ؛ فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون ! ، ثم أمر المأمون أن يسجل لهم بها ، فكُتب السجل وقرئ عليه ، فأنفذه ! فقام دعبل الخزاعي وانشد الأبيات التي أولها : أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشم فدكا فلم تزل في أيديهم حتى حكم المتوكل فأقطعها عبدالله بن عمر البازيار ، وكان فيها آنذاك إحدى عشر نخلة غرسها رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بيده ، وكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها ، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم فيصير اليهم من ذلك مال جزيل ؛ فوجه عبدالله البازيار رجلاً يقال له : بشران بن أمية الثقفي الى المدينة ، فقطع ذلك النخل ،فرجع الى البصرة فَفُلِج !! راجع ( شرح النهج 16 / 207 إلى 217 ).

ص: 170

طلبتها من أبي بكر بدعوى النحلة او الميراث ، فدفعت عنها ، وإعطاء ابن أبي سرح جميع ما أفاء الله على المسلمين من فتح افريقية. (1) إلى غير ذلك مما يضيق به المقام والتي كان آخرها إرساله إلى ابن أبي سرح - واليه على مصر - كتاباً يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين ! (2) مما لم يدع مجالاً للسكوت أو الإِغضاء ، فكان آخر ما قام به المقداد في هذا المضمار - هو وتسعة نفر من الصحابة - أن وجهوا الى عثمان كتاباً يحتوي على سرد بعض الأمور التي خالف بها سنّة رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وسنّة صاحبيه - كما يقول ابن قتيبة -. وتعاهدوا ليدفعن الكتاب في يد عثمان ! ومضى عمار بن ياسر بالكتاب ، فكان الرد أن ضُرب وفتقت بطنه (3).

إن هذه المواقف من المقداد حيال تصرفات الخليفة ، تركت ولا شك أسوأ الأثر في نفسه وعرضته لغضبه وسخطه ، وحقد بني أمية حتى مات وعثمان ساخط عليه ، أو بالاحرى هو ساخط على عثمان كما روي ذلك

ص: 171


1- للتفصيل ، راجع كتاب ( ابو ذر الغفاري ) من ص 107 إلى 114 وشرح النهج 1 / 198 وما بعدها.
2- مروج الذهب 2 / 344 وغيره من المصادر.
3- راجع الإمامة والسياسة 1 / 35.

عنه حيث قال للزبير :

« أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو عليّ ساخط ! » (1).

ص: 172


1- سفينة البحار ، مادة : قدد.

تَشيُّع المقداد ودعوته الناس لعليّ

في قبال هذه المواجهة الصريحة ، كان للمقداد مع الخليفة مواجهة مبطنة - إذا صح التعبير - إعتمد فيها اسلوب الدعوة لعلي بكل صراحة ووضوح ، وهو الأسلوب الأشد تأثيراً في تهييج مشاعر المسلمين وإثارة عواطفهم ، فقد كان يرى أن الخلافة حق مشروع لعليٍّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وثابت له دون غيره وعلى هذا الأساس إنطلق في دعوته له ، وكان جريئاً في ذلك غير متكتم ولا مبالٍ بالنتائج مهما كانت ؛ وكان يتخذ من مسجد الرسول(صلی الله علیه و آله) في المدينة مقراً لبَثِّ دعوته تلك ، مبتدأً بعرض ظلامة الإِمام علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) حول هذا الأمر ثم يطرح أمام الجمهور فضائله وكراماته وسابقته منتهياً ببيان أحقيته في الخلافة بأسلوب فريد وكأنه محام بارع أسند إليه القيام بهذا الدور.

روى بعضهم ، فقال : دخلت مسجد رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهّفُ تلهُّفَ من كأن الدنيا كانت له فسُلبها ، وهو يقول :

واعجباً لقريش ! ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين وابن عم رسول الله ، أعلم الناس وافقههم في دين الله وأعظمهم فناءً في الإِسلام وأبصرهم بالطريق وأهداهم للصراط المستقيم !

والله لقد زوُوها عن الهادي المهتدي ، الطاهر النقي ، وما أرادوا

ص: 173

إصلاحاً للأمة ، ولا صواباً في المذهب ، ولكن آثروا الدنيا على الآخرة فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين.

قال : فدنوت منه وقلت : من أنت يرحمك الله ، ومن هذا الرجل ؟

فقال : أنا المقداد بن عمرو ، وهذا الرجل علي بن أبي طالب !

قال : فقلت : آلا تقوم بهذا الأمر ، فاعينك عليه ؟!

فقال : يا بن أخي ، إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل والرجلان !! (1)

وكان يشاركه في هذا الرأي جماعة ، منهم : أبو ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وغيرهم.

قال : ثم خرجت فلقيتُ أبا ذر فذكرتُ له ذلك ، فقال : صدق أخي المقداد ! ثم أتيتُ عبدالله بن مسعود ، فذكرت ذلك له ، فقال : لقد أُخبرنا ، فلم نألُ. (1)

وكان هذا الموقف يتكرر منه أكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة بلهجةٍ تختلف ليناً وشدةً باختلاف الظروف.

روى أحمد بن عبد العزيز الجواهري .. عن المعروف بن سويد ، قال :

كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلاً في المسجد جالساً وهو يصفق باحدى يديه على الأخرى والناس حوله ، ويقول :

ص: 174


1- اليعقوبي 2 / 163.

واعجباً من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الأرض ، ونور البلاد ! والله إن فيهم لرجلاً ما رأيت رجلاً بعد رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر !

فسألت عنه ، فقيل : هذا المقداد. فتقدمت إليه وقلت : أصلحك الله ؛ من الرجل الذي تذكر !؟

فقال : ابن عم نبيك رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) علي بن أبي طالب.

قال : فلبثت ما شاء الله ، ثم لقيت أبا ذر ; فحدثته بما قال المقداد. فقال : صدق ؛ قلت : فما يمنعكم أن تجعلو هذا الأمر فيهم ؟!

قال : أبى ذلك قومهم :

قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم ؟!

قال : مَهْ (1) ؟ لا تقل هذا ، إياكم والفرقة والإِختلاف (2) !!

ومرةً ثالثةً نراه ينهج نهجاً أشد لا يخلو من القسوة ؛ والصراحة الزائدة في التعبير عما يجول في نفسه ، أزاء هذا الأمر ، واضعاً خصمه أمام الأمر الواقع غير متحرج ولا مداهن كما حدث ذلك بينه وبين عبد الرحمن بن عوف - على ما جاء في شرح النهج -.

قال جندب(3) بن عبدالله الأزدي : كنت جالساً بالمدينة حيث بويع

ص: 175


1- مَهْ : اكفف.
2- شرح النهج 9 / 21.
3- جندب : بن عبدالله بن الأرقم الأزدي الغامدي .. يقال له جندب الخير ( الإصابة / 248 ) وكان جندب بعد لقائه هذا قد ذهب الى العراق واقام فيها وكان ينشر فضائل علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، يقول « فكنت أذكر فضل علي فلا أعدم رجلاً يقول لي ما اكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ ما ينفعك ؟ فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ؟ فيقوم عني ويدعني الخ .. راجع النهج 9 / 58.

عثمان فجئت ، فجلست الى المقداد بن عمرو فسمعته يقول : والله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت ! - وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً - فقال : وما أنت وذاك يا مقداد ؟!

قال المقداد : والله إني أحبهم لحب رسول الله(صلی الله علیه و آله) واني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ثم انتزاعهم من أهله !

قال عبد الرحمن : أما والله ، لقد أجهدتُ نفسي لكم.

قال المقداد : أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ؛ أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدرٍ وأُحد !!

فقال عبد الرحمن : ثكلتك أُمك ! لا يسمعن هذا الكلام الناس ؛ فإني أخاف أن تكون صاحب فتنةٍ وفرقةٍ.

قال : المقداد : إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنةٍ ، ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة ! - يعرّض بعبد الرحمن -.

قال : فتربّدَ وجه عبد الرحمن ، ثم قال : لو أعلم أنك إياي تعني ، لكان لي ولك شأن !.

قال : المقداد إياي تهدد ، يابن أم عبد الرحمن ؟ ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف.

ص: 176

قال جندب : فاتبعته ، وقلت له : يا عبدالله ، أنا من أعوانك !

فقال : رحمك الله ؛ إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة ! .. (1)

هذه هي بعض مواقف المقداد ، وتلك هي آراؤه !! انها لا تدع مجالاً للشك في أنه كان أحد المبرزين الذين لم يكونوا شيعة فقط ، بل نهضوا بالدعوة الى التشيع أو بالدعوة لعليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - ما شئت فعبر - على أوسع نطاق وبأصرح عبارة ، ولم تكن مواقفه وآراؤه تلك مرهونةً بعهد معين كما ربما يتصور البعض ، بل كان هذا رأيه في علي منذ وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يتغير ولم يتبدل قط. فقد ورد في ذلك قول الشيخ المفيد ; تعالى :

« فاختلفت الأمة في امامته يوم وفاة النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقالت شيعته وهم : بنو هاشم كافة .. وسلمان وعمار .. والمقداد .. (2).

وفي تاريخ اليعقوبي : في ذكر الذين مالوا مع علي بن أبي طالب ، عدّ منهم : « المقداد بن عمرو .. » (3) بل كان أحد الذين أطلق عليهم لفظ شيعة في عهد النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما يقول السجستاني وغيره (4) ولا أرى موجباً للإِطالة في هذا الموضوع لأنه أصبح معروفاً لا يخفى على من « كان له قلب » !

ص: 177


1- شرح النهج 9 / 56 وما بعدها.
2- الارشاد / 10.
3- اليعقوبي 2 / 124.
4- للتفصيل راجع كتاب ( أبو ذر ) للمؤلف / 54 وما بعدها.

على لسان النبي(صلی الله علیه و آله) والأئمة

الأحاديث الواردة حول بيان فضل المقداد - على لسان الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) - جاءت شاملة له ولبعض الصحابة رضي الله عنهم ، وشذ أن تجد حديثاً مختصاً بالمقداد وحده ، لذلك فإني أقتصر في هذا المورد على ذكر الفقرات - من الحديث - التي تخص المقداد.

من ذلك ، ما ورد عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، قال : سألت رسول الله عن سلمان الفارسي .. إلى أن قال قلت : فما تقول في المقداد ؟

قال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : وذاك منا ، أبغض الله من أبغضه ، وأحب من أحبه ! (1)

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنه قال :

حذيفة بن اليمان من أصفياء الرحمن .. إلى أن قال : والمقداد بن الأسود من المجتهدين.

وعن أنس : ان النبي(صلی الله علیه و آله) سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ! فقال (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : أوّاب(2). وسمع آخر يرفع صوته ، فقال : مُرَاءٍ ! فنظرنا ، فإذا الأول المقداد بن عمرو. (3)

ص: 178


1- معجم رجال الحديث 18 / 368.
2- أواب : تائب.
3- الاستيعاب ( على الإصابة 3 / 475 ).

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : الجنة تشتاق إليك يا علي والى عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد.

وعنه (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) : إن الله أمرني بحب أربعة إلى أن قال : والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي (1).

وقد ورد حول قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ). أن الإمام الصادق قال : فوالله ما وفى بها إلا سبعة نفر (2) وعد المقداد واحداً منهم.

وجاء في حديث آخر له(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) :

فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله(صلی الله علیه و آله) حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود ، لم يزل قائماً قابضاً على قائم السيف عيناه في عيني أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، ينتظر متى يأمره فيمضي. (2)

ص: 179


1- هذان حديثان مشهوران.
2- معجم رجال الحديث. والبحار 22 / 322.

وفاته رضی الله عنه

نيف وثلاثون سنة ، قضاها أبو معبد فارساً في ميادين الجهاد ، ابتداءً بغزوة بدر ، وانتهاءً بفتح مصر ! وقد كانت هذه السنين هي سني التأسيس ، لذلك كانت صعبةً ومرّةً قاسيةً كابد فيها المسلمون المصاعب والمتاعب ، فكان نصيب أبي معبد منها الحظ الأوفر والكأس الأوفى حيث لم تخلو منه ساحة جهاد على ما نعهد ، فقد ورد في ذلك أنه « شهد المشاهد كلها مع رسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وبعده إلى أن أدركته الوفاة .. » (1).

وكانت وفاته في سنة 33 للهجرة أو أقل - على اختلاف الروايات - بعد أن شهد فتح مصر ، وقد بلغ من العمر سبعين سنة (2).

فقد كانت له أرض في مكان قريب من المدينة يقال له : الجرف(3) وكان يتعاهدها زراعةً وسقياً يقضي فيها أوقات فراغه مالم يؤذن بجهاد ! وفي ذات يوم تناول جرعةً من زيت « الخروع » فأضرت به ، فمات منها (4). فنقل على أعناق الرجال حيث دفن بالبقيع (5) وكان قد أوصى

ص: 180


1- راجع الإصابة 3 / 454 وتهذيب الأسماء 2 / 112 والغدير 9 / 116.
2- نفس المصدر.
3- الجرف : كل ما جرفته السيول من الأرض يقال له جرف.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 / 163 وقيل : غير ذلك.
5- الإصابة وغيرها.

إلى عمار بن ياسر ، فصلى عليه ولم يؤذن عثمان به ، فلما بلغ عثمان موته ، جاء حتى أتى قبره ، فقال : رحمك الله ، إن كنتَ وإن كنتَ يثني عليه خيراً ! فقال الزبير بن العوام :

لالفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي م زودتني زادي (1)

معرضاً بالعداء الذي كان بينه وبين المقداد ، فقال عثمان :

يا زبير ؛ تقول هذا ؟! أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب محمد (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو عليّ ساخط !! (2)

وكان عمار قد صلى على ابن مسعود من قبل ولم يؤذن به عثمان ، فساءه ذلك واشتد غضبه على عمار ، وقال : « ويلي على ابن السوداء ! أما لقد كنت به عليما » (3).

ص: 181


1- الطبقات 3 / 163 واليعقوبي 2 / 171.
2- سفينة البحار مادة : قدد.
3- اليعقوبي 2 / 171.

أسماء الذين رووا عنه

روى عنه من الصحابة :

علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، وابن عباس ، والمستورد بن شداد ، وطارق بن شهاب ، وغيرهم.

ومن التابعين :

عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وميمون بن أبي شبيب ، وعبد الله بن عدي بن الخيار ، وجبير بن نفير ، وغيرهم. (1)

ص: 182


1- أسد الغابة 3 / 410 وغيره من كتب التراجم.

المصادر والمراجع

أ - القرآن الكريم

1 - الإصابة ( ابن حجر العسقلاني ) ( 852 ه ) أوفست عن ط مصر 1328 ه.

2 - الإستيعاب ( ابن عبد البر ) يوسف بن عبدالله ( 463 ه ) على هامش الإصابة المتقدم.

3 - أسد الغابة ( ابن الأثير ) علي بن محمد ( 630 ه ) اوفست ، طهران.

4 - إعلام الورى ( الطبرسي ) ( الفضل بن الحسين - 600 ه تقريباً ) بيروت - دار التعارف 1399 - 1979.

5 - أبو ذر الغفاري ( للمؤلف ) دار الفنون ، بيروت ، 1980 - 1400.

6 - أنساب الأشراف ( البلاذري ) أحمد بن يحي ، بيروت - دار النشر للجامعيين.

7 - الإمامة والسياسة ( ابن قتيبة الدنيوري ) عبدالله بن مسلم ( 276 ه ) بيروت - مؤسسة الحلبي.

8 - بحار الأنوار ( محمد باقر المجلسي ) دار الكتب الإسلامية ، طهارن 1385 ه.

9 - تاريخ الأمم والملوك ( الطبري ) أوفست ، بيروت.

ص: 183

10 - تاريخ اليعقوبي ( أحمد بن أبي يعقوب ) بيروت - دار صادر - دار بيوت 1379 - 1960.

11 - تاريخ الخلفاء ( السيوطي ) جلال الدين - ( 911 ه ) بيروت - دار الفكر.

12 - تهذيب الأسماء ( النوري ) محي الدين بن شرف - ( 676 ه ) بيروت - دار الكتب العلمية.

13 - تصنيف نهج البلاغة ( لبيب بيضون ) توزيع دار القلم - بيروت.

14 - ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية ( محمد مهدي شمس الدين ) بيروت - دار التعارف 1399 ه - 1979.

15 - حليف مخزوم ( صدر الدين شرف الدين ) بيروت - دار الكتاب الإسلامي 1399 ه - 1979.

16 - ذخائر العقبى ( الطبرسي ) الحسين بن الفضل ( 600 ه تقريباً ) بيروت - مؤسسة الأعلمي 1392 ه - 1973 م.

17 - رجال بحر العلوم ( السيد محمد مهدي بحر العلوم 1212 ه ) - النجف ، الآداب 1385 - 1965.

18 - السيرة النبوية ( ابن هشام ) عبد الملك ( 213 ه ) بيروت - دارالجيل 1975 م.

19 - سيرة المصطفى ( السيد هاشم معروف ) بيروت - دار القلم 1975.

20 - صفينة البحار ( الشيخ عباس القمي ) أوفست / طهران.

21 - شرح نهج البلاغة ( ابن ابي الحديدي عز الدين ) ( 656 ه ) تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم - مصر - دار احياء التراث العربي 1385 ه - 1965.

ص: 184

22 - صحيح مسلم ( مسلم بن الحجاج 261 ه ) بيروت - دار الفكر 1398 - 1978.

23 - الطبقات الكبرى ( ابن سعد ) محمد 230 ه بيروت - دار صادر ودار بيروت ط 1975.

24 - العقد الفيد ( ابن عبد ربه ) أحمد بن محمد ( 327 ه ) ط أو فست - مطبعة لجنة التأليف والترجمة.

25 - الغدير ( الاميني ) عبد الحسين أحمد - بيروت - دار الكتاب العربي 1397 ه - 1977 ط الرابعة.

26 - الفرج بعد الشدة ( القاضي التنوخي ) تحقيق عبود الشالجي - بيروت.

27 - ترتيب القاموس المحيط ( الطاهر أحمد الزاوي ) بيروت - دار الكتب العلمية - دار المعرفة - 1399 - 1979.

28 - الكامل في التاريخ ( ابن الأثير ) علي بن محمد 630 ه / بيروت دار صادر - دار الكتاب.

29 - معجم قبائل العرب دار اعلم للملايين - بيروت - 1388 - 1968.

30 - معجم البلدان ( ياقوت بن عبدالله الحموي 626 ه ) بيروت - دار احياء التراث العربي.

31 - معجم رجال الحديث ( السيد الخوئي ) - النجف - الآداب.

32 - الميزان في تفسير القرآن ( الطباطبائي ) محمد حسين - بيروت - مؤسسة الأعلمي 1393 - 1973.

33 - مجمع البيان ( الطبرسي ) الفضل بن الحسين 561 ه - بيروت - دار احياء التراث العربي.

ص: 185

34 - المستدرك على الصحيحين ( الحاكم النيشابوري ) محمد بن عبدالله ( 405 ه ) الرياض - مكتبة ومطابع النصر.

35 - مروج الذهب ( المسعودي ) علي بن الحسين ( 346 ه ) بيروت - دار الأندلس 1385 ه - 1965 م.

36 - المغازي ( الواقدي ) محمد بن عمر بن واقد ( 207 ه ) بيروت - عالم الكتب.

37 - مختار الصحاح ( الرازي ) محمد بن أبي بكر ( 666 ه ) بيروت - دار الكتب العربية.

38 - مكارم الأخلاق ( الطبرسي - الحسن بن الفضل ) بيروت - مؤسسة الأعلمي.

39 - الموضوعات في الآثار والأخبار ( السيد هاشم معروف ) دار الكتاب اللبناني - 1973.

40 - نهج البلاغة ( الإمام علي ) جمع الشريف الرضي ( 604 ه ) - بيروت - مؤسسة الأعلمي.

41 - النصائح الكافية ( السيد محمد بن عقيل - 1350 ه ) بيروت - دار الزهراء.

42 - نور اليقين ( مجموعة الشيخ عبد الحليم محمود ) بيروت.

43 - وسائل الشيعة ( الحر العاملي ) محمد بن الحسين ( 1104 ه ) بيروت - دار احياء التراث العربي.

ص: 186

الفهرست

مقدمة الناشر..... 5

التقديم..... 7

المقداد بن عمرو .. ولماذا سمي...... 15

صفاته وأخلاقه........ 18

إسلامه... 20

مع الرسول الأعظم في دار هجرته.... 23

عام الحزن....... 25

أول هجرةٍ للرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)..... 28

خروجه إلى الطائف.... 29

النبي (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يعرض نفسه على القبائل....... 32

دخول الإسلام يثرب... 34

الإِعداد للهجرة........ 39

مبيت علي 7 في فراش الرسول (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).... 41

الهجرة.... 42

النبي الأعظم في المدينة........ 48

بين الرسول الأعظم والمقداد... 51

من مواقفه البطولية..... 57

في سرية « نخلة » ينقذ اسيراً فيسلم........ 59

في غزوة بدر الكبرى... 63

ص: 187

غزوة أُحد....... 81

غزوة الغابة.... 109

غزوة خيبر..... 115

زوجته وأولاده....... 123

موقف الإسلام من الزواج... 125

قصة جويبر وجلبيب........ 128

تزويج المقداد بن الأسود.... 131

بين الأشعث بن قيس والإِمام علي 7........ 133

زوجة المقداد وأولاده........ 136

الشورى ، وموقف المقداد منها..... 139

شبح المؤامرة... 141

فكرة الشورى وابعادها...... 143

سير عملية الشورى وما أفرزت من تناقضات.... 153

خلفيات الشورى..... 159

بدء المعارضة........ 161

قصة الهرمزان ، ومقتله على يد بن عمر... 164

بين المقداد وعثمان... 168

تَشيُّع المقداد ودعوته الناس لعليّ... 173

على لسان النبي(صلی الله علیه و آله) والأئمة..... 178

وفاته 2.... 180

أسماء الذين رووا عنه........ 182

المصادر والمراجع 183

الفهرس....187

ص: 188

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.