مهيّج الأحزان وموقد النيران في قلوب أهل الإيمان

اشارة

مهيّج الأحزان وموقد النيران في قلوب أهل الإيمان

آية اللّه الشيخ حسن اليزدي الحائري

ترجمة وتحقيق سيد علي جمال أشرف

تعداد صفحات: 552 ص

زبان: عربی

ص:1

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

اشارة

ص: 1

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

مقدّمة المترجم

الحمد للّه الذي لا إله إلاّ هو الملك الحقّ المبين ، المدبّر بلا وزير ، ولا خلق من عباده يستشير ، الأوّل غير موصوف ، والباقي بعد فناء الخلق ، العظيم الربوبية ، نور

السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما ، بغير عمد خلقهما ، فاستقرت الأرضون بأوتادها فوق الماء ، ثم علا ربّنا في السَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ، فأنا أشهد بأنّك أنت اللّه ، لا رافع لما وضعت ، ولا واضع لما رفعت ، ولا معزّ لمن أذللت ، ولا مذلّ لمن أعززت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت(1) .

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك ، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ ، كَمَا حُمِّلَ ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك ،َ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ ، وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الَْمخْزُونِ ، وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ(2).

ص: 5


1- بحار الأنوار : 83/332 باب 45 .
2- نهج البلاغة : 101 خ72 .

اللّهم وضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك العترة الضائعة الخائفة المستذلة ، بقية الشجرة الطيبة الزاكية المباركة ، وأعل - اللّهم - كلمتهم ،

وأفلج حجّتهم ، واكشف البلاء واللأواء ، وحنادس الأباطيل والعمى عنهم ، وثبّت قلوب شيعتهم وحزبك على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم ، وأعنهم وامنحهم الصبر على الأذى فيك ، واجعل لهم أياما مشهودة ، وأوقاتا محمودة مسعودة ، توشك فيها فرجهم ، وتوجب فيها تمكينهم ونصرهم ، كما ضمنت لأوليائك في كتابك المنزل ، فإنك قلت - وقولك الحقّ - : « وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً »(1) .

والعن اللّهم أوّل ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد ، وآخر تابع له على ذلك ، اللّهم وأهلك من جعل يوم قتل ابن نبيك وخيرتك عيدا ، واستهلّ به فرحا ومرحا ، وخذ آخرهم كما أخذت أولهم ، وأضعف اللّهم العذاب والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيك ، وأهلك أشياعهم وقادتهم ، وأبر حماتهم وجماعتهم(2) .

وصلّى اللّهم على الشهيد السعيد ، والسبط الثاني ، والإمام الثالث ، والمبارك ، والتابع لمرضاة اللّه ، المتحقّق بصفات اللّه ، والدليل على ذات اللّه ، أفضل ثقاة اللّه ، المشغول ليلاً ونهارا بطاعة اللّه ، الناصر لأولياء اللّه ، المنتقم من أعداء اللّه ، الإمام المظلوم ، الأسير المحروم ، الشهيد المرحوم ، القتيل المرجوم ، الإمام الشهيد ، الولي الرشيد ، الوصي السديد ، الطريد الفريد ، البطل الشديد ، الطيب الوفي ، الإمام الرضي ، ذو النسب العلي ، المنفق الملي ، أبو عبد اللّه الحسين بن علي ،منبع الأئمة ، شافع الأمّة ، سيد شباب أهل الجنة ، وعبرة كلّ مؤن ومؤنة ،

ص: 6


1- مصباح المتهجد : 785 .
2- مصباح المتهجد : 785 .

صاحب المحنة الكبرى ، والواقعة العظمى ، وعبرة المؤنين في دار البلوى ، ومن كان بالإمامة أحقّ وأولى ، المقتول بكربلاء ، ثاني السيد الحصور يحيى ابن النبي الشهيد زكريا ، الحسين بن علي المرتضى ، زين المجتهدين ، وسراج المتوكّلين ، مفخر أئمة المهتدين ، وبضعة كبد سيد المرسلين ، نور العترة الفاطمية ، وسراج الأنساب العلوية ، وشرف غرس الأحساب الرضوية ، المقتول بأيدي شرّ البرية ، سبط الأسباط ، وطالب الثأر يوم الصراط ، أكرم العتر ، وأجلّ الأسر ، وأثمر الشجر ، وأزهر البدر ، معظم مكرم موقر ، منظف مطهّر ، أكبر الخلائق في زمانه في النفس ، وأعزّهم في الجنس ، أذكاهم في العرف ، وأوفاهم في العرف ، أطيب العرق ، وأجمل الخلق ، وأحسن الخلق ، قطعة النور ، ولقلب النبي سرور ، المنزّه عن الإفك والزور ، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور ، مع القلب المشروح حسور ، مجتبى الملك الغالب ، الحسين بن علي بن أبي طالب(1) . .

الذي حمله ميكائيل ، وناغاه في المهد جبرائيل ، الإمام القتيل ، الذي اسمه مكتوب على سرادق عرش الجليل ، الحسين مصباح الهدى ، وسفينة النجاة ، الشافع في يوم الجزاء ، سيدنا ومولانا سيد الشهداء(2) عليه السلام .

الذي ذكره اللّه في اللوح الأخضر فقال : . . وجعلت حسينا خازن وحيي ، وأكرمته بالشهادة ، وختمت له بالسعادة ، فهو أفضل من استشهد ، وأرفع الشهداء درجة ، جعلت كلمتي التامّة معه ، والحجة البالغة عنده ، وبعترته أثيبوأعاقب(3) . .

ص: 7


1- المناقب : 4/79 .
2- معالي السبطين : 61 .
3- كمال الدين : 2/290 ح1 .

الذي قال فيه جدّه المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه و آله : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ اللّه من أحبّ حسينا(1) ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو الصادق الأمين : إنّ حبّ علي قذف في قلوب المؤنين ، فلا يحبّه إلاّ مؤن ، ولا يبغضه إلاّ منافق ، وإنّ حبّ الحسن والحسين قذف في قلوب المؤنين والمنافقين والكافرين ، فلا ترى لهم ذاما(2) .

فمن أيّ المخلوقات كان أولئك المردة العتاة ، وأبناء البغايا الرخيصات ، الذين قاتلوه بغضا لأبيه ، وسبوا الفاطميات ، ولم يحفظوا النبي صلى الله عليه و آله في ذراريه ، قال الإمام سيد الساجدين عليه السلام : . . أيّها الناس ، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم إجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلاّ إختلاق .

فواللّه لو أنّ النبي صلى الله عليه و آله تقدّم في قتالنا كما تقدّم اليهم في الوصاية بنا لما إزدادوا على

ما فعلوا بنا ، فإنّا للّه وإنّا اليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأوجعها ، وأفجعها ، وأكظّها ، وأقطعها ، وأمرّها ، وأفدحها ، فعند اللّه نحتسبه فيما أصابنا ، وما بلغ بنا ، إنّه عزيز ذو إنتقام(3) .

ولكنّ اللّه لهم بالمرصاد ، فإنّ دمه الزاكي الذي سكن في الخلد ، واقشعرت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، ومن يتقلّب في الجنة والنار من خلق ربّنا ، وما يرى وما لا يرى ، سوف لا ولم ولن يسكن لأنّه قتيل اللّه وابن قتيله ، وثار اللّه وابن ثاره ، ووتر اللّه الموتور في السماوات والأرض(4) حتى « يبعث اللّه قائما

ص: 8


1- بحار الأنوار : 45/314 .
2- المناقب : 3/383 ، بحار الأنوار : 43/281 باب 12 .
3- بحار الأنوار : 45/147 .
4- انظر بحار الأنوار : 98/151 باب 18 .

يفرج عنها الهم والكربات » ، قال الحسين عليه السلام : يا ولدي ، يا علي ، واللّه لا يسكن دمي حتى يبعث اللّه المهدي(1) . .

فذلك قائم آل محمد عليهم السلام يخرج فيقتل بدم الحسين عليه السلام بن علي . . وإذا قام - قائمنا - انتقم للّه ولرسوله ولنا أجمعين(2) . .

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين صلى الله عليه و آله فقال : لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي - جلّ

جلاله - فقال : يا محمد ، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها ، فجعلتك نبيا ، وشققت لك من اسمي اسما ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها عليا ، وجعلته وصيّك وخليفتك ، وزوج ابنتك ، وأبا ذريّتك ، وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا العلي الأعلى ، وهو علي ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما ، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة ، فمن قبلها كان عندي من المقرّبين .

يا محمد ، لو أنّ عبدا عبدني حتى ينقطع ، ويصير كالشن البالي ، ثم أتاني جاحدا لولايتهم ، فما أسكنته جنّتي ، ولا أظللته تحت عرشي .

يا محمد ، تحبّ أن تراهم ؟ قلت : نعم يا ربّ ، فقال عزّ وجلّ : ارفع رأسك ، فرفعت رأسي ، وإذا أنا بأنوار علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، و« م ح م د » بن الحسن القائم في وسطهم ، كأنّه كوكب درّي .

قلت : يا ربّ ، ومن هؤاء ؟ قال : هؤاء الأئمة ، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي ، ويحرّم حرامي ، وبه أنتقم من أعدائي ، وهو راحة لأوليائي ، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين ، فيخرج اللاّت والعزى طريينفيحرقهما ، فلفتنة الناس - يومئذ - بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري(3) .

ص: 9


1- المناقب : 4/93 .
2- بحار الأنوار : 52/376 .
3- كمال الدين : 1/252 باب 23 ح2 ، بحار الأنوار : 52/379 ح185 .

وروى عبد اللّه بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام في يوم عاشوراء ، فألفيته كاسف اللّون ، ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤؤالمتساقط ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ، ممّ بكاؤ ؟ لا أبكى اللّه عينيك ، فقال لي : أو في غفلة أنت ؟ أما علمت أنّ الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم ؟ ! فقلت : يا سيدي فما قولك في صومه ؟ فقال لي : صمه من غير تبييت ، وأفطره من غير تشميت ، ولا تجعله يوم صوم كملاً ، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء ، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول اللّه ، وانكشفت الملحمة عنهم ، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعا في مواليهم ، يعزّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله مصرعهم ، ولو كان في الدنيا - يومئذ - حيّا لكان صلى الله عليه و آله هو المعزّى بهم .

قال : وبكى أبو عبد اللّه عليه السلام حتى اخضلّت لحيته بدموعه . . ثم علّمه آداب يوم عاشوراء ، وآداب الزيارة في ذلك اليوم الى أن قال : ثم قل : اللّهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك ، وحاربوا أولياءك ، وعبدوا غيرك ، واستحلّوا محارمك ، والعن القادة والأتباع ، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم ، أو رضي بفعلهم لعنا كثيرا .

اللّهم وعجّل فرج آل محمد ، واجعل صلواتك عليه وعليهم ، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين ، والكفرة الجاحدين ، وافتح لهم فتحا يسيرا ، وأتح لهم روحا وفرجا قريبا ، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطانا نصيرا . .

اللّهم إنّ كثيرا من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمة ، وكفرت بالكلمة ،وعكفت على القادة الظلمة ، وهجرت الكتاب والسنة ، وعدلت عن الحبلين اللّذين أمرت بطاعتهما ، والتمسك بهما ، فأماتت الحقّ ، وجارت عن القصد ،

ص: 10

ومالأت الأحزاب ، وحرّفت الكتاب ، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها ، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها ، وضيّعت حقّك ، وأضلّت خلقك ، وقتلت أولاد نبيك ، وخيرة عبادك ، وحملة علمك ، وورثة حكمتك ووحيك .

اللّهم فزلزل أقدام أعدائك ، وأعداء رسولك ، وأهل بيت رسولك ، اللّهم وأخرب ديارهم ، وافلل سلاحهم ، وخالف بين كلمتهم ، وفتّ في أعضادهم ، وأوهن كيدهم ، واضربهم بسيفك القاطع ، وارمهم بحجرك الدامغ ، وطمّهم بالبلاء طمّا ، وقمّهم بالعذاب قمّا ، وعذبهم عذابا نكرا ، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكت بها أعداءك ، إنّك ذو نقمة من المجرمين .

اللّهم إنّ سنتك ضائعة ، وأحكامك معطلة ، وعترة نبيك في الأرض هائمة ، اللّهم فأعن الحقّ وأهله ، واقمع الباطل وأهله ، ومنّ علينا بالنجاة ، واهدنا إلى الإيمان ،

وعجّل فرجنا ، وانظمه بفرج أوليائك ، واجعلهم لنا ودّا ، واجعلنا لهم وفدا(1) .

المؤلف والكتاب :

قال الشيخ أقا بزرگ الطهراني رحمه الله : هو الشيخ المولى حسن بن محمد علي اليزدي الحائري من أعاظم علماء عصره ، ترجمه التنكابني في قصص العلماء مفصلاً ، وأثنى على فضله وورعه كثيرا ، حتى قال ما ترجمته : أنّه امتنع من تزويج « ضياء السلطنة » كريمة السلطان فتح علي شاه لولده ، مع إصرار السلطان عليه .

وكان في كربلاء من تلاميذ السيد علي الطباطبائي ، صاحب الرياض ، وولده السيد محمد المجاهد ، وكان له عند الناس على اختلاف طبقاتهم مكانة سامية ، ومقام رفيع .وفي أواخر عمره جاور الحائر الشريف بكربلاء ، وكان له إهتمام بالوعظ والإبكاء وإقامة العزاء ، وكان يستفيد من وعظه الخواص والعوام .

ص: 11


1- مصباح المتهجد : 784 ، بحار الأنوار : 98/305 باب 24 .

وله آثار ، منها :

مهيج الأحزان ، مقتل مطبوع ألّفه في ( 1237 ه- ) ، كما يظهر من مجلسه الثامن عند ذكر شهادة العباس عليه السلام ، وله كرامات ومنامات .

رسالة في الشكوك ، استدلالية موجودة .

رسالة تجويد القرآن ، فارسية في التجويد ، ينقل فيها عن تحفة الأبرار في التجويد للسيد حجّة الاسلام الاصفهاني .

المغتنم في الفروع المأخوذة عن سادة الأمم ، كتاب كبير في الفقه ، رأيت منه مجلّدا ضخما من أول الطهارة الى آخر الوضوء ، فرغ منه في ( 1242 ه- ) ، فتكون وفاته بعد ذلك .

إكمال الاصلاح ، ترجمة بالفارسية لكتاب أستاذه المجاهد « اصلاح العمل »(1) .

وقال رحمه الله في الذريعة : « مهيج الأحزان وموقد النيران في قلوب أهل الإيمان » ، للمولي حسن بن محمد علي اليزدى الحائري ، تلميذ السيد محمد المجاهد ، وأدرك أيضا والده صاحب الرياض ، مرتّب على مقدّمة في آداب التعزية ، وأربعة عشر مجلسا ، من أول الخروج من مكة إلى آخر ورود المدينة ، وقد طبع مكررا .

أوّله : الحمد للّه المتفرّد بالقدم والبقاء . . .

وكان زاهدا ورعا تاركا للدنيا ، حتى أنّ السلطان فتحعلي شاه أراد أن يزوج ابنته « ضياء السلطنة » بابنه ، فلم يقبل .

وهو غير الحاج مولى حسن بن علي ، صاحب « أنوار الشهادة » ، و« أنوار الهداية » ، وغيرهما .وذكر في المجلس الثامن عند ذكر شهادة العباس عليه السلام كرامة في رجب سنة ( 1236 ) ست وثلاثين ومأتين وألف ، وأنّه شاهد الكرامة ، وألّف « المهيج »

ص: 12


1- كرام البررة 1/346 ترجمة 686 .

في سنة ( 1237 ) ، يعنى بعد تاريخ الكرامة بسنة ، وطبع في حاشية « محرق القلوب » سنة ( 1297 ) ، وقبلها في سنة ( 1284 )(1) .

هذا ، وقد إعتمدنا في ترجمتنا للكتاب على النسخة التي حقّقها - مأجورا - الحاج محمد حسين رحيميان ، ويبدو أنّ المحقّق - حفظه اللّه - أضاف عناوين داخل المجالس لم تكن من أصل الكتاب ، ونحن إعتمدناها في الغالب ، وإن لم نلتزم بها دائما ، وقمنا بتخريج الإحاديث والمروّيات بما استطعنا اليه سبيلاً ، وحاولنا التوفيق بين ما نقله المؤلف نصّا ، وما وجدناه في المصادر ، لنكون - إن شاء اللّه - قد أدّينا الأمانة في الترجمة والأمانة في النقل ، وقد أشرنا الى ما أضفناه - في كلّ موضع - إمّا في الهامش ، أو بجعله بين معقوفتين .

ولا يفوتني أن أتقدّم بالشكر الجزيل للاستاذ الحاج محمد صادق الكتبي حفظه اللّه ورعاه ورحم أباه ، ووفقه لخدمة الأئمة الميامين عليهم السلام ، ونشر ما يخدم شريعة سيد المرسلين .

وأخيرا : نرجو من اللّه السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل ، وينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا خليل ، ولا يحرمنا وذريّاتنا خدمة زين السماوات والأرضين سيد الشهداء الحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة ، ويجعل عملنا وحبّنا وإعتقادنا فيما يرضيه ويرضي النبي الأمين صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام ، وذريّته الطاهرين ، بحقّ سيدنا ومولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف وأخته المعصومة عليهماالسلام .

اللّهم إغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذريّاتنا وإخواننا المؤمنين ، وعجّل فرج ولي أمرنا ، آمين ربّ العالمين .

سيد علي جمال أشرف

جوار السيدة فاطمة المعصومة عليهاالسلام

10/17/1427

ص: 13


1- الذريعة : 23/299 رقم 9057 .

ص: 14

مقدّمة المؤلف

[ سبب تأليف الكتاب ]

الحمد للّه المتفرّد بالقدم والبقاء ، المتوحّد بالعظمة والكبرياء ، الحاكم بما يريد ، والفاعل لما يشاء ، موكّل البلاء للأنبياء ، ثمّ بالأمثل فالأمثل في درجات المحبّة والولاء ، رافع درجات السعداء والشهداء ، ومعوّضهم عن الحياة القليلة الفانية والنعمة الدانية ، حياة دائمة ونعيما باقيا بلا فناء ، فقال : « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي

سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » .

والصلاة والسلام على أشرف أهل الإبتلاء ، وأفضل سكّان الأرض والسماء ، محمد سيد الأنبياء ، وخاتم الأوصياء ، وعلى أهل بيته الذين جلّت مناقبهم عن العدد ، وعلت مراتبهم من أن يقاس بها أحد ، أحد ملوك الدارين ورؤساء العالمين المبعوثين لقيام القسط في إبتداء الوجود الى يوم الجزاء ، ولعنة اللّه على أعدائهم لعنة متصلة ما دامت الأرض والسماء .

وبعد ؛ يقول أقلّ الخلق حسن بن محمد علي اليزدي أصلاً ، والحائري مسكنا ومدفنا إن شاء اللّه تعالى :

لمّا كان التوسّل بالأئمة الطاهرين عليهم السلام ، والعروة الوثقى لربّ العالمين ، وحبله المتين ، الممدود بينه وبين خلقه ، وأعظم الوسائل التي يتقرّب بها العبد الى اللّه ربّه ، نجد كلّ عبد يبحث عن سبيل وليتّخذه منهجا .

ص: 15

ولمّا كانت مودّتهم لازمة نجد كلّ عبد يحاول أن يبرز مودّته وإخلاصه في مقام الإخلاص وإظهار العبودية بأيّة طريقة يتمكّن منها .

ولمّا كان السعي في حفظ الآثار والأخبار الواردة عن أهل البيت الأخيار عليهم السلام مرغوب ومحبوب ، لأنّه يعدّ من حفظ شعائر الإسلام والإيمان ، بل هو عمل مطلوب من كلّ مؤمن ، ولهذا إنبرى العلماء الأخيار في جميع الأعصار والأمصار الى تأليف الكتب وتحرير الرسائل والصحف في هذا المجال .

ولمّا كان ذكر سيد الشهداء عليه السلام ، وحفظ الأخبار المتعلّقة بحادي ظعن السالكين في طريق الرضا مشتملاً على كلّ تلك المزايا المذكورة والآثار ، بالإضافة الى الفوائد

الخاصة بخدمته خاصة ، لذا إهتموا بتحرير الرسائل وتأليف الكتب في هذا المضمار .

ولمّا أعرض الناس - لا سيما العجم - عن كتب العلماء فشاعت الأكاذيب الواضحة ، والأقاصيص الكاذبة الفاضحة في هذا الباب ، وإشتهر نقلها وتداولها في المحافل والمجالس .

لهذا كلّه قررت أن أحرر رسالة في هذا الباب تكون أقرب الى السياق ، وأرتب فيها الأخبار المعتبرة التي أجمعها من كلّ شتات ليتّضح تماما أنّ مع وجود هذه الأخبار المعتبرة لا يحتاج أحد - بعد - الى تلك القصص الموضوعة ، والأكاذيب العامية .

فلمّا تأكّد عندي هذا العزم والتصميم ، ألحّ عليّ بعض الأخيار من الأصدقاء أن أشرع في العمل ، ولكن عاقني عن تنفيذ ذلك - لمدّة مديدة من الزمان - عوائق الأيام حتى حلّت في هذا البلد المشيد حوادث عظيمة غشانا التشويش والإضطراب ، والخوف على النفس والمال من التلف ، فقلت : إن نجّانا اللّه اللطيف الرحمن من هذه المهالك ، وأنقذنا من هذه المآسي ، أن أتمّم هذا المشروع شكرا للّه على ما ينعم علينا به من السلامة .

ص: 16

فلمّا نجونا ببركة ذلك المولى عليه السلام ، أردت أن أفي بعهدي شكرا للنعمة ، فلعلّها تكون سببا لمغفرة الذنوب ، وتوجب النجاة من مهالك الآخرة ، كما كانت سببا في النجاة في الدنيا .

وإن كان هذا الكتاب بمنزلة العظام النخرة للآكل ، والسقاء الذي تكسّر جلده من شدّة الجفاف للشارب ، ولكنّه قد يكون نافعا للعطاشى في وديان الهجران ، والجياع في زمن القحط والمخمصة .

وأملي من مكارم أخلاق الناظرين فيه أن يصلحوا ما يجدوا فيه من الزلات والأخطاء ، ويقبلوا فيه العذر ، ويقيلوا ما فيه من العثرات ، ليشملهم قوله تعالى : « وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً » .

وقد سمّيته :

«مهيج الأحزان وموقد النيران في قلوب أهل الإيمان »

ورتّبته في مقدّمة وأربعة عشر مجلسا .

ص: 17

ص: 18

نظرة الى آداب إقامة العزاء

اشارة

وفي هذه المقدّمة مطلبان :

المطلب الأول في آداب التعزية وإقامة المآتم

اشارة

وفي آداب التعزية وإقامة المآتم عدّة أمور :

الأول : البكاء والجزع .

وأن يكون الأنسان مهموما مغموما ، يظهر الحزن والكآبة ، بل هذا هو نفس إقامة المأتم والعزاء ، وليس من آدابه .

وقد عدّه بعض العلماء من آداب العزاء ، كما صنعنا نحن ، والحقيقة أنّ المطلوب في هذا الباب هو هذا الأمر نفسه .

وينبغي للإنسان أن يتباكى كثيرا ، بأن يطرق برأسه الى الأرض ، ويتشبّه بالباكين ، ويرفع صوته بالبكاء وإن لم يبك ، وليس في التباكي مشقّة على أحد .

وما أقلّ توفيقه ، وأبعده عن السعادة من يحضر مجلس العزاء ثم لا يبكي ، ولا يتباكى ! وقد ثبت إستحباب ذلك في ما وصلنا من الأخبار الكثيرة الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام(1) .

ص: 19


1- انظر البحار : 44/278 باب 34 .

الثاني والثالث والرابع : أن يلبس ثياب طاهرة ، ويفتح أزاره - كما يصنع أصحاب المصاب - ويشمّر عن ساعديه وساقيه .

كما يستفاد من رواية عبد اللّه بن سنان ، وإن كانت الرواية واردة في آداب الزيارة ، ولكنه يقول بعد ذكر هذه الآداب « كهيئة أصحاب المصائب »(1) .

وذكر بعض العلماء : أن يخرج حاسر الرأس حافي القدمين ، ولا يبعد إستحباب ذلك لدخوله في عموم إظهار الحزن في المصيبة ، وأن يكون « كهيئة أصحاب العزاء » ، على أنّ المشي حافي القدمين قد ورد في آداب الزيارة ، والظاهر أنّه يفعل

ذلك لأظهار التذلّل والخشوع ، وهذا المقام من ذلك أيضا .

الخامس والسادس والسابع والثامن : ترك الخضاب والحناء والتمشط والإكتحال .

وقد ذكر ذلك جملة من العلماء ، إعتمادا على الأخبار الكثيرة الواردة في المقام(2) .

والأفضل أن يجتنب الإدهان - إستعمال الدهن للرأس - لما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « ما اختضبت منّا إمرأة ، ولا إدّهنت ، ولا إكتحلت ، ولا رجّلت حتى أتانا رأس عبيد اللّه . . .» .

وجاء في بعض الأخبار : « ما رئي في دار هاشمي دخان خمس حجج . . . »(3) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ الأنسب بصاحب العزاء أن يجتنب عن طبخ الأطعمة اللذيذة ، بل مطلق الطعام - إلاّ أن يكون مثل الخبز لإقتضاء الضرورة - ، بل يستفاد من مجمل الأخبار رجحان إجتناب مطلق الزينة ، وترك مطلق الذائذ ، وذلك لأنّ هذا هو شأن أصحاب المصاب ، ولا تردد في إستحباب إظهار المصيبة وسلوك مسلك أرباب العزاء ، والظهور بهيئتهم .

ص: 20


1- مصباح المتهجد : 724 ، بحار الأنوار : 101/303 ح4 .
2- انظر البحار : 45/386 .
3- بحار الأنوار : 45/386 .

وما تعارف بين العوام ! من تزيين المجالس ، وتزيين أنفسهم بالملابس الفاخرة في أيام محرم ، فهو - كأكثر أفعالهم تماما - منافى لطريقة أهل الشرع .

نعم ، إذا كان المقصود من تزيين بعض المجالس إعدادها لحضور الناس لأجل إقامة العزاء ، فقد لا يكون في ذلك بأس ، أمّا من يحضر بقصد التزيين فهو لم يقصد العزاء ، ولا إقامة المأتم .

أمّا فيما يخصّ إستحباب لباس السواد ، ونصب السواد ، وتغطية المنبر بالسواد ، فإنّي لم أعثر على دليل خاص في المقام(1) . بل إنّ النصوص دلّت على كراهة لبس السواد في غير العمامة والعباء والحذاء !

ولكن لا يخلو لبس السواد من أجر - إن شاء اللّه - بإعتباره من مصاديق إظهار الحزن والتفّجع بالمصاب ، وإن لم تكن المسألة خالية عن الإشكال ، إلاّ أن نمنع شمول الأدلّة الناهية للمقام .

وأمّا خمش الوجوه ، ولطم الخدود ، وجزّ الشعر ، فإنّ العلماء حرّموه في غير هذا المقام ، وقد إدعى الشيخ رحمه الله في المبسوط الإجماع على ذلك(2) ، وقد وردت الأخبار في المنع منه أيضا ، مثل رواية خالد بن سدير عن الصادق عليه السلام : « ولا شيء في لطم الخدود سوى الإستغفار » .

أمّا شقّ الجيب على الميّت ففيه خلاف، وقد ذهب ابن ادريس الى تحريمه مطلقا(3)،

ص: 21


1- لا يخفى أنّ لبس السواد في مجالس عزاء أهل البيت عليهم السلام يعدّ من سيرة المتشرعة على مدى الأعصار والأمصار ، وقد ذكر المؤلف نفسه في ثنايا كتابه هذا : « لما قتل الحسين بن علي عليهماالسلاملبس نساء بني هاشم السواد والمسوح . . .» بحار الأنوار : 45/188 ح33 . وقد صدر أخير كتاب باللغة الفارسية في هذا الشأن بعنوان « سياهپوشى در سوگ أئمة نور عليهم السلام » عالج فيه الموضوع فقهيا وتاريخيا ، فليرجع اليه من أحبّ التفصيل .
2- المبسوط : 1/189 .
3- السرائر : 1/172 و173 .

وذهب آخرون الى جوازه على الأب والأم إستنادا الى ما فعله الإمام العسكري فيمصيبة أبيه عليه السلام ، وفعل الفاطميات في مصيبة سيد الشهداء الحسين عليه السلام(1) .

وفي حديث خالد بن سدير قال الصادق عليه السلام ، وسأله عن شقّ الرجل ثوبه على أبيه وأمّه وأخيه ، أو على قريب له ؟ فقال : لا بأس بشقّ الجيوب ، قد شقّ موسى بن عمران على أخيه هارون(2) .

وقد ورد أنّ سيد الشهداء عليه السلام كرر وصيته فقال : إذا أنا قتلت فلا تشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور(3) .

بل ورد المنع من الضرب على الفخذ في المصيبة ، كما روي عن موسى بن بكر عن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام قَالَ : ضَرْبُ الرَّجُلِ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ إِحْبَاطٌ لأِجْرِهِ(4) .

ولكن التحقيق أنّ شمول هذه الأدلّة الى ما نحن فيه في المقام محل كلام ، بل الظاهر عدم الشمول . فتبقى الأدلة والتأكيدات على إظهار الحزن والجزع والفزع وغيرها في المقام بدون معارض ، « فلمثله يقلّ شقّ القلوب فضلاً عن الجيوب » ، فشقّ الجيوب ولطم الخدود وضرب الصدور بالأحجار قليل في هذه المصيبة ، فلا تصل النوبة للكلام عن ضرب الرجل فخذه بيده .

وقد ورد في الحديث علي بن الحسين قال : لمّا قتل الحسين بن علي - صلوات اللّه عليه - لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح ، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد ، وكان علي بن الحسين يعمل لهن الطعام للمأتم(5) .

ص: 22


1- انظر بحار الأنوار : 82/106 .
2- بحار الأنوار : 79/106 باب 16 .
3- الإرشاد : 2/93 .
4- الكافي : 3/225 باب الصبر والجزع والاسترجاع ح9 .
5- البحار : 45/188 ح33 .

وهل تتصوّر أنّهن كنّ ينحن ولا يضربن بأيديهن على أرجلهن ؟ ولا ينادين بالويل ولا يلطمن الوجوه ؟ والحال أنّ النياحة عند العرب ليست إلاّ اللطم .ويكفي في جواز هذا الفعل إمضاء الإمام عليه السلام فعل الفاطميات(1) .

وفي إقامة هذا الأمر العظيم من الفوائد والمنافع ما لا يعدّ ولا يحصى ، فحذار حذار أن تتصرف بما يضيّع هذه الفوائد والمنافع ، وحذار حذار أن تلوث مجالس العزاء بأنواع المعاصي ، من قبيل الرياء ! والغناء ، والإفتراء ، والنظر الى النساء ، ثم تسمي ذلك تعزية ، والحال أنّها تحتوي على كلّ شيء إلاّ التعزية ، أو تسميها إقامة شعائر الإسلام ، وأنت تضيع أحكام الإسلام ، وتدعي أنّها تعظيم لشعائر اللّه وأنت تستخف بشعائر اللّه ، لأنّها محشوة بالأكاذيب ، والأطوار التي لا تليق(2) .

[ وحذار حذار ] أن يترك المنبر للأطفال والجهّال والفسّاق ، فيتمكّنوا من مقعد النبي صلى الله عليه و آله ونوابه ، ويستحي من إرتقائه العلماء الكمّل ، حتى وصل الأمر أن إتخذ البعض هذا العمل المقدّس شغلاً وصنعة ، وصارت أيام محرم وصفر من أفضل المواسم التجارية عندهم ، فاتجهوا نحو مثل هذا العمل المقدّس ، وهم يتصرفون تصرفات مخجلة بحيث ينزعج الرجل أن يسمي هؤلاء قراء تعزية وذاكري مصيبة ، فيما نعلم أنّ قراءة التعزية وذكر المصيبة فخر عظيم لا يناله إلاّ ذو حظّ عظيم .

أجل ، إن كان الناس يقومون بهذه الأعمال رياءا فإعملها أنت خالصة لوجه اللّه ، وإن كان الناس قد إتخذوها وسيلة للحصول على الدنيا فإتخذها أنت وسيلة للآخرة ، وإن كان الناس يرتكبون المعاصي أثناءها فاتي بها خالية عن المعاصي ، ولا يسوغ لك أن تجتنبها وتتركها لغيرك ، فقد ورد في الحديث : أنّه دخل

ص: 23


1- ثم ذكر المؤلف تحفظاته على بعض المراسم الاخرى .
2- بأدنى تصرف .

على الامام الصادق عليه السلام فقال له : جعلت فداك ، إنّ الحسين عليه السلام قد زاره الناس من يعرف هذا الأمر ومن ينكره ، وركبت إليه النساء ، ووقع حال الشهرة ، وقدانقبضت منه لما رأيت من الشهرة .

فمكث مليّا لا يجيبني ، ثم أقبل عليّ فقال : يا عراقي إن شهروا أنفسهم فلا تشهر أنت نفسك - أي إذهب أنت قربة الى اللّه تعالى - ، فواللّه ما أتى الحسين عليه السلام آت عارفا بحقّه إلاّ غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر(1) .

إقامة المآتم على الإمام الحسين الى قيام قائم آل محمد عليهم السلام

قد يسأل سائل فيقول : هل يستحب إقامة العزاء وإظهار الحزن في جميع الأيام وكلّ الأوقات ، أو أنّه خاص بأيام محرم الحرام ونحوه من أيام المصيبة ؟

لم أعرف أحدا من العلماء قد تعرّض الى هذه المسألة ، ولكن إطلاق الأدلّة يقتضي العموم ، ويؤيده بكاء سيد الساجدين عليه السلام طيلة حياته ، وإقامة بني هاشم العزاء على الإمام الحسين عليه السلام مدّة خمس سنين(2) ، كما أنّ هذا هو الظاهر أيضا من

سيرة الأئمة عليهم السلام من عدم إختصاص ذلك بزمان دون زمان ، فمتى دخل عليهم شاعر قالوا له : أنشد ، فكان ينشد وهم يبكون .

وفي الحديث : ما ذكر الحسين بن علي عليهماالسلام عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام

في يوم قطّ فرئي أبو عبد اللّه عليه السلام في ذلك اليوم متبسّما قطّ إلى الليل(3) .

وفي رواية أخرى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : قَالَ لِي أَبِي : يَا جَعْفَرُ أَوْقِفْ لِي مِنْ مَالِي كَذَا وَكَذَا لِنَوَادِبَ تَنْدُبُنِي عَشْرَ سِنِينَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى(4) .

ص: 24


1- كامل الزيارات : 140 الباب 54 ح14 ،بحار الأنوار : 98/26 باب 4 .
2- بحار الأنوار : 45/386 و46/108 باب 6 .
3- كامل الزيارات : 101 الباب32 ح5 .
4- الكافي : 5/117 باب كسب النائحة ح1 .

قال الشهيد رحمه الله : والمراد بذلك تنبيه الناس على فضائله وإظهارها ليقتدى بهاويعلم ما كان عليه أهل البيت ليقتفي آثارهم(1) .

فلا إشكال في ذلك ، وإنّما الإشكال في أنّ هذا الإستحباب هل هو ثابت أيضا في الأعياد وغيرها من أيام سرور أهل البيت عليهم السلام من قبيل يوم التاسع من ربيع الأول ، ويوم الغدير ، وما شاكلها من الأيام ؟ سيّما وأنّ المطلوب في هذه الأيام إظهار

الفرح والسرور ، ومع وجود هذه المطلوبية فما معنى الحزن والألم ؟ والفرح والحزن متضادان لا وجه لمطلوبيتهما في آن واحد من شخص واحد .

وعلى هذا تكون المسألة من قبيل إجتماع الأمر والنهي ، ومطلوبية السرور في تلك الأيام الخاصة خاص ، فالأنسب الأولى تخصيص أدلّة الإستحباب بغير هذا المقام .

ويمكن أن يدفع الإشكال بالإلتزام في المقام بإمكان إجتماع السرور والحزن من جهتين مثل إجتماع الخوف والأمن من جهتين ، ولو سلّمنا عدم إمكان الإجتماع ، ففي عدم جواز إجتماع الأمر الإستحبابي والنهي التنزيهي كلام ، وذلك لأنّ دليل بعضهم على عدم جواز الإجتماع هو التكليف بما لا يطاق ، والنهي في هذا المقام لا وجه له ، وذلك لوجود الرخصة من كلا الجانبين(2) .

ص: 25


1- الذكرى للشهيد الأول : 72 ، وانظر الحدائق الناظرة : 4/165 . والتعليل المذكور ليس منصوصا ، بلهو فهم الشهيد رحمه الله ، وليس بالضرورة أن يكون الإقتداء والإقتفاء هو العلّة التامة في أمر الإمام عليه السلام ، وظاهر الحديث ، بل صريحه أنّ الندبة بما هي ندبة مطلوبة ومأمور بها ، فربّما كانت العلّة التي ذكرها الشهيد رحمه الله مقصودة في الحديث وقد تكون هناك علّة أخرى ، واللّه العالم .
2- بل من الصعب جدّا تصوير التضاد في المقام ، وهل ثمّة دليل على وجوب أو إستحباب إدامة السرور في كلّ آن من آنات العيد ؟ بل من راجع نصوص زيارات الحسين عليه السلام أيام الأعياد ، أو زيارة أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير - وهو أعظم الأعياد الأربعة - وغيرها يجد أنّ نصوص الزيارات تنصّ على ذكر المصائب المبكية التي لا يتمالك المؤمن نفسه عند قراءتها ، نعم قد يرد كلامه رحمه الله في التاسع من ربيع الأول لخصوصيته ، وتصريح الرواية بأنّه يوم فرح لا كدر فيه ولا حزن ، ويفهم من الرواية أنّ اليوم كلّه يوم فرح ، وفيه دلالات أخرى تؤكد ما فيه من الخصوصية ، ومع ذلك تجد فيه من ذكر مصائب الزهراء عليهاالسلام ، وأهل البيت ما يستدرّ الدموع . انظر حديث التاسع من ربيع الأول في المحتضر للحسن بن سليمان الحلّي تحقيق سيد علي جمال أشرف : 89 .

نعم قد يقال : أنّ إجتماع الضدين يمنع من ذلك ، ويجاب أنّ نظيره كثير في الشرع ، مثل الصلاة في الأماكن والأزمنة المكروهة ، والجواب في كلا الموردين واحد ،فيكون الإتيان به ممكنا .

وبقطع النظر عن كلّ ذلك ، فإنّ دليل إستحباب الحزن على سيد الشهداء عليه السلام قطعي وإستحباب السرور في الأيام الخاصة ظني ، بل منشأه التسامح في أدلّة السنن ، وتقدّم الأدلة القطعية على التسامح يقيني ، وهي - على إحتمال - مقدّمة على سائر الأدلّة الظنية ، وتحقيق ذلك ليس هذا محلّه .

وكيف ما كان ، فإنّ الحكم بعدم إستحباب التعزية والبكاء في مثل هذه الأيام - كما حكي عن بعضهم - بعيد ، سيما مع ما ورد عن الإمام السجاد عليه السلام : . . . فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن إنهمالها(1) ؟ . .

وقول الإمام صاحب الأمر عليه السلام في الزيارة المشهورة : . . . فلأندبنّك صباحاومساء ، فلأبكينك بدل الدمع دما(2) . .

وقول المنادي الذي نادى من السماء عند شهادته صلوات اللّه وسلامه عليه : اليوم نزل البلاء على هذه الأمّة ، فلا ترون فرحا حتى يقوم قائمكم يشفي صدوركم(3) . . .

الى غير ذلك ، بل يستفاد من ذلك وغيره أنّ السرور والفرح في غير محلّه ، ولنعم ما قال السيد المرتضى علم الهدى رحمه الله :

ص: 26


1- اللهوف : 228 ، بحار الأنوار : 45/127 .
2- بحار الأنوار : 101/320 .
3- كامل الزيارات : 553 ح823 .

إنّ يوم الطفّ يوما

كان للدين عصيبا

لم يدع للقلب منّي

في المسرّات نصيبا

لعن اللّه رجالاً

أترعوا الدنيا غصوبا

سالموا عجزا فلمّا

قدروا شنّوا حروبا

طلبوا أوتار بدر

عندنا ظلما وجوبا(1)

والوجه الآخر في بقاء هذا الإستحباب في هذه الأيام أنّ البلية والرزية أعظم وغالبة على الفرح والسرور ، وذلك لأنّ وقوع حدثين عظيمين لشخص عظيم ، كما لو رزق ولدا ، ومات ولده الأكبر ، وكان عالما ، فإنّ مراعاة المصيبة حينئذٍ أولى وأنسب ألبتة .

وعليه فلو فرض إتفاق أحد هذه الأعياد في يوم عاشوراء ، فأنّ مراعاة المصيبة أولى وأنسب ، كما إتفق أن وقع نوروز في أيام محرم في سنة من السنين فقدّم الناس المصيبة وأحيوا عاشوراء(2) .

ص: 27


1- بحار الأنوار : 45/249 ، فيالمتن : « ظلما وجورا » .
2- في المناقب : 4/318 ، وبحار الأنوار : 48/107 باب 5 : إنّ المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر عليهماالسلام بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز ، وقبض ما يحمل إليه ، فقال عليه السلام : إنّي قد فتشت الأخبار عن جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلم أجد لهذا خبرا ، وإنّه سنة للفرس ، ومحاها الإسلام ، ومعاذ اللّه أن نحيي ما محاه الإسلام . فقال المنصور : إنّما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك باللّه العظيم إلاّ جلست . فجلس عليه السلام ، ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنّونه ، ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل . فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السنّ ، فقال له : يا ابن بنت رسول اللّه ، إنّني رجل صعلوك لا مال لي ، أتحفك بثلاث أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي عليهماالسلام : عجبت لمصقول علاك فرنده يوم الهياج وقد علاك غبارولأسهم نفذتك دون حرائر يدعون جدّك والدموع غزارألا تقضقضت السهام وعاقها عن جسمك الإجلال والإكبار قال عليه السلام : قبلت هديّتك ، اجلس بارك اللّه فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم ، وقال : امض إلى أمير المؤنين وعرّفه بهذا المال ، وما يصنع به ؟ فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلّها هبة منّي له ، يفعل به ما أراد . فقال موسى عليه السلام للشيخ : اقبض جميع هذا المال ، فهو هبة منّي لك .

المطلب الثاني: أدلة وطرق ذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام وفضائلهم ومعجزاتهم ومصائبهم

اشارة

إعلم ، أنّ بعض العلماء قد ذهب الى جواز ذكر الأخبار الضعيفة في مقام التعزية ،وذكر المناقب والفضائل والمعجزات ، إستنادا الى التسامح في أدلّة السنن ، فقد روي بطرق معتبرة وصحيحة أنّه عليه السلام قال : مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الِْتمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُوتِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَهُ(1) .

والذي أظنّه - أنا الفقير - أنّ هذا الكلام غير صحيح ، بل هو توهّم ، وذلك لأنّه مبني على الشكّ في إستحباب التعزية أو ذكر المناقب - مثلاً - فيكتفى حينئذٍ بالدليل

الضعيف في إثبات إستحبابه إستنادا الى جواز التسامح في أدلّة السنن .

ولكن الكلام ليس في هذا المقام ، بل الكلام في أنّ هذه المنقبة الغير معلومة الواردة في حديث ضعيف ، هل هي منقبة ثابتة لصاحبها فعلاً حتى يثبت لذاكرها الثواب مقابل ذكرها أو لا ؟

وهل أنّ المصيبة على هذا النحو واقعا فعلاً حتى يعتقدها المستمع ، ويبني على صحّتها ، ويبكي عليها أو لا ؟ !

بناء على ذلك ، فالمقام مقام إثبات الموضوع لا الحكم ، وهو مقام العلم لا مقام التسامح ، وهذا واضح(2) .

ص: 28


1- الكافي : 2/87 باب من بلغه ثواب من اللّه على عمل .
2- الواضح أنّ المقام مقام إثبات الموضوع لا الحكم ، أمّا كلامه رحمه الله ففيه مجال كبير للتأمّل ، سيّما إذا لاحظنا ما سيذكره المؤلف نفسه في الفقرات الآتية .

وتحقيقه : أنّ الأخبار الصحيحة والضعيفة متساوية في المقام ، لأنّ المقام مقام الإعتقاد الذي يعتبر فيه العلم ، لا مقام العمل .

فالأخبار الصحيحة حينئذٍ لا يمكن الإعتقاد بمضمونها ما دامت لا تورث العلم ، ولا يمكن الإعتقاد تعبّدا بوقوع شيء ، إلاّ أن يكون التعبّد بالإستحباب ، وهو خارج عن محلّ البحث .

يبقى أنّه لا ضرر في نقل الأخبار الظنية في هذا الباب ، بل إنّها توجب الثواب منحيث ثبوت إستحباب ذكر أهل البيت عليهم السلام ، وإستحباب إقامة العزاء والبكاءوالإبكاء وذكر ما جرى عليهم عليهم السلام .

ولا شبهة في أنّه بعد ذكر الحكايات والأخبار يدخل موضوعا في تلك الموارد ، ويصدق عليه أنّه « ذاكر » لفضائل أهل البيت عليهم السلام ، وأنّه « أبكى » ، وهذا القدر كاف في حصول المطلوب .

نعم تبقى الشبهة في أنّه كيف ينقل ما لم يكن معلوما ، فيقول مثلاً : فعل كذا ، وكان

كذا ، وقال كذا . . وقد يكون كلّ ذلك خلاف الواقع ؟ بل إنّ هذا الإشكال وارد أيضا فيما لو كانت الأخبار التي يرويها صحيحة أيضا ، لأنّ الخبر الصحيح لا يوجب العلم ، ولو قلنا بالظن ، فالخبر الصحيح والضعيف سواء .

وتدفع هذه الشبهة أيضا بأنّ هذا ممّا تعارف عليه الناس تماما كما يصنع العلماء حينما ينسبون المراسيل من الأخبار وغيرها الى المعصوم ، فيقولون قال الصادق عليه السلام مثلاً ، والحال أنّ صدور هذا الحديث عن المعصوم غير معلوم عندهم ، فلا بأس به حينئذٍ في المقام .

وبناء على ذلك تكون الأخبار الصحيحة والضعيفة سواء ، يصحّ نقلها وإسنادها .

نعم لو كان الخبر مضنة للكذب ، ولم نقل بجواز نقله من دون نسبته الى الرواي ، فهو محلّ لشبهة عظيمة ، بل لا يخلو من شبهة حتى لو كان مضنة للشكّ ! .

ص: 29

وبناء على هذا ، فإنّ النقل عن العلماء أو كتب التاريخ وغيرها لا بأس به ، ولا ضرر فيه ما دام معتمدا عليها في الحكاية والنقل ، وآثار الكذب والوضع غير لائحة فيها .

أضف الى ذلك أنّنا لو إقتصرنا على نقل الأخبار الصحيحة - بل مطلق الأخبار - فلم يبق لنا شيء . ولذا نرى أجلّة العلماء لا يكتفون في هذه الموارد بالأخبار المعتبرة ، ولا يقتصرون عليها ، بل ينقلون كلمات العلماء والمؤرخين أيضا .ومع كلّ هذا قد يُسمع من جهّال قرّاء التعزية أشياء لم تسمعها أذن من قبل ، وهم يظنون أنّهم يحسنون صنعا بما ذكروه جديدا ، ولم يفكروا بعواقبه السيئة ، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ(1) .

أمّا في موارد النقل بالمعنى ، فقد أجازه العلماء ، ولكن مع مراعاة الشروط المقررة المعروفة ، بحيث لا يلزم منه الزيادة والنقصان ، وقالوا بلزوم مراعاة الإحتياط الكامل في المقام ، فلا ينقل الحكايات التي لا أساس لها ولا أصل ، أو أنّه

ينقل الأخبار بتصرّف مخلّ بها ، أو أنّه يضيف عليها وينمّقها بما لا يعرفه إلاّ اللّه ، فهذا حاله كحال ما جعلوه سنّة متعارفة من التغنّي وغيره من القبائح ! ! .

[ هل يجوز أخد الأجرة على النياحة ]

أمّا ما تعارفوا عليه من أخذ الأجرة على ذلك ، فهو موافق للشرع الأنور ، ولا بأس به ، ولا تكون الأجرة حراما حسب القواعد ، لأنّهم أجازوا الإستئجار للصلاة والصوم والحج والزيارة وقراءة القرآن ، ويلزم من ذلك جواز ما نحن فيه(2) .

ص: 30


1- الكافي : 1/62 باب اختلاف الحديث ح1 .
2- بل مرّ معنا قبل قليل ما روي في الكافي الشريف : 5/117 باب كسب النائحة ح1 عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : قَالَ لِي أَبِي : يَا جَعْفَرُ أَوْقِفْ لِي مِنْ مَالِي كَذَا وَكَذَا لِنَوَادِبَ تَنْدُبُنِي عَشْرَ سِنِينَ بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى ، وهناك روايات أخرى في تخصيص الإمام الباقر عليه السلام مبلغا من ماله للنوادب ، وما إعتاد عليه أئمة الهدى عليهم السلاممن إتحاف الشعراء الذين يرثون الحسين عليه السلامعندهم ، كلّها تؤكد إهتمام الأئمة عليهم السلام بما يدفع لمن يندبهم .

ولو لم تعيّن الأجرة فليس له إلاّ أجرة المثل ، لو كان على هذا العمل أجرة بحسب العادة .

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: لابأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا(1)(2).وفي حديث آخر عن أبي بصير عنه عليه السلام قال : لا بأس بأجر النائحة(3) .

ولكن في رواية حنان بن سدير عن الصادق عليه السلام قال: لاتشارط وتقبل كلّما أعطيت(4).

وعليه فإشتراط الأجرة من البداية - كأن يقول: إنّي آخذ مبلغ كذا مقدّما - مشكل.

وفي جواز النياحة على سائر الأموات وأخذ الأجرة على ذلك إختلاف بين العلماء ، فذهب الشيخ الطوسي وابن حمزة - من علمائنا - الى حرمة ذلك ، وادعى الشيخ الإجماع عليه(5) .

وقد وردت بعض الأخبار في منع هذا العمل ، بل ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه لعن النائحة والمستمعة(6) ، وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله : إِنَّ النَّائِحَةَ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ حَرَبٍ(7) .

ولكن الظاهر أنّ مشهور العلماء جواز ذلك إعتمادا على أخبار كثيرة وردت في الجواز ، وأمّا الأخبار المانعة فقد حملوها على النوح بالباطل(8) .

ص: 31


1- بحار الأنوار : 103/103ح51 .
2- قياس أحكام النائحة التي تنوح أموات الناس بالنائحة التي تنوح الحسين عليه السلام أو أهل البيت عليهم السلام قياس - مع الفارق - واضح .
3- بحار الأنوار : 82/107 ، وسائل الشيعة : 17/127 ح22162 .
4- وسائل الشيعة : 17/126 ح22158 .
5- انظر بحار الأنوار : 79/107 .
6- بحار الأنوار : 79/93 باب 16 التعزية والمأتم وآدابهما .
7- وسائل الشيعة : 17/128 باب 17 .
8- انظر بحار الأنوار : 79/106 وما بعدها .

ص: 32

المجلس الأول: خروج سيد الشهداء عليه السلام من المدينة المشرّفة الى مكة المعظمة

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والحمد للّه الذي جعل محبّته في قلوب أوليائه حتى تركوا ما سواه شوقا اليه ، وسقاهم من رحيق مودّته حتى هجروا من ديارهم أسفا عليه ، وأولهم بجماله حتى اختاروا فراق الصديق ، واحتملوا وعثاء الطريق ، طلبا للزلفى لديه ، وتيّمهم في عشقه حتى لم يبالوا بأمطار السهام والأسنة كمن لم يشعر بجانبيه .

والصلاة والسلام على أول مهاجر هاجر من دياره لهواه ، وأفضل سالك سلك سبيل رضاه ، وأقرب الخلق الى ربّه وسيّده ومولاه ، سيّدنا ومولانا محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله .

وعلى أهل بيته أفضل السالكين الى اللّه ، وأشرف المهاجرين عند اللّه ، سيّما على ولده وحبيب قلبه ، وفلذّة كبده الذي هاجر مع أولاده وعشيرته ، وأُخرج عن حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله مع إخوانه وقبيلته ، وجاهد في اللّه مع أنصاره وأحبّته ، وقتل لوجه اللّه مع أعوانه وخاصّته .

الغريب الوحيد ، والأسير الشهيد ، الذي أحاط به كلاب أهل الدنيا ، وسباع أراذل الورى ، فجعل يفرّ بعياله من بلد الى بلد ، ومن دار الى دار ، حتى أناخوا

ص: 33

عليه ، وأحاطوا جانبيه ، ففعلوا به من القتل والغارات وسبي النساء والبنات ما كلّت الألسن عن تقريره ، وعجزت الأيدي عن تحريره .

فواللّه إنّ هذا الأمر « تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا » ..

فواحسرتاه ! على تلك الأجسام المرمّلة ، والأفواه اليابسة من الظمأ . .

ووالهفاه ! على تلك الأجساد والأبدان المدفونة من غير غسل وأكفان . .

ووا طول لهفي ! على تلك الجثث المجدّلة في الفلوات ، والأعضاء البالية ! العاريات ..

ويا تأسّفي ! على تلك الذراري الموتورات ، والنسوة المأسورات . .

ويا حزني ! على الأيدي المغلولات والأعناق المكبّلات . .

فالويل للعصاة الفسّاق ! كيف سلك بهم حبّ الدنيا طريق العمى ، وحاد بأبصارهم عن منار الهدى ، فإتّخذوها ربّا ، وإتخذتهم عبيدا ، فلعبت بهم ، ولعبوا بها ، ونسوا ما وراءها ، رويدا يسفر الظلام « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » .

وبعد ؛ قال اللّه تعالى في كتابه المبين وكلامه المتين :

« أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ » .

* * *

المظلومون المشرّدون

يستفاد من بعض التفاسير المعتبرة والأخبار : أنّه لم يؤر رسول اللّه صلى الله عليه و آلهبقتال ، ولا أذن له فيه حتى نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا »

وقلّده سيفا(1) .

ص: 34


1- بحار الأنوار : 22/15 باب 37 .

وفي الكافي الشريف عن الصادق عليه السلام قال: نزلت في علي عليه السلام وجعفر وحمزة عليهماالسلام، وجرت في الحسين عليه السلام(1) .

أخرجوه من مكة ظلما وجورا ، ولم يكن له ذنب إلاّ أنّه قال : ربّي اللّه ، وهجر طريقة المشركين ، وسلك صراط التوحيد ، فخرج الى أرض المهجر غريبا ، وجاهد في اللّه حقّ الجهاد حتى فاز بالشهادة .

وروي أيضا : أنّه انصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة حين دفن شهداء أحد ، فمرّ بدور الأنصار ، فسمع بكاء النوائح على قتلاهن ، ولم يسمع نائحة في بيت عمّه الغريب حمزة ، فحزن لذلك ، ثم قال : أمّا عمّي حمزة لا بواكي له هاهنا ، فلمّا سمعها

المهاجرون والأنصار قالوا : لا تبكين امرأة حميمها حتى تأتي بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله فتندب عمّه الغريب حمزة .

وفي غداة غد إرتفع صوت النائحة في بيت النبي صلى الله عليه و آله أولاً ، فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله الواعية قال : من يبكي عمّي الغريب حمزة ؟ فقالوا : نساء الأنصار ، فقال : رضي اللّه عنهن وأرضاهن(2) ، قال الصادق عليه السلام : وجرت في الحسين عليه السلام .

أجل ، جرت الآية الشريفة على المشرّد عن الديار ، والمبعد عن الأوطان الذي أخرج من وطنه ، وأُسر في الغربة ، فقاتلهم بإذن اللّه حتى قتل بغير حقّ ، وذبح مظلوما بلا ذنب ولا تقصير بدا منه ، وما نقموا منه إلاّ أنّه يقول ربّي اللّه ،

ص: 35


1- الكافي : 8/337 ح534 .
2- بحار الأنوار : 20/98 باب 12 غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد ، اعلام الورى : 2/183 : وانصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة حين دفن القتلى ، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر ، فسمع بكاء النوائح على قتلاهن ، فترقرقت عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبكى ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له اليوم ، فلمّا سمعها سعد بن معاذ وأسيد بن حضير قالا : لا تبكين امرأة حميمها حتى تأتي فاطمة عليهاالسلامفتسعدها ، فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آلهالواعية على حمزة وهو عند فاطمة عليهاالسلام على باب المسجد قال : إرجعن رحمكن اللّه فقد آسيتن بأنفسكن .

وسلك طريق الهدى والتوحيد ، ورفض الشرك ، ولم يطع الجبت والطاغوت ،وهدى الناس الى الولاية ، وهي أهم وأعظم شرائط التوحيد .

ومن هنا روي أنّه عليه السلام خطبهم يوم عاشوراء فقال لهم : خبّروني هل تطلبوني بقتيل قتلته منكم ؟ أو بقصاص أو من جراحة ؟ أو بمال استهلكته منكم ؟ أو على سنّة غيّرتها ؟ أم على شريعة بدّلتها(1) ؟

فسكت القوم ولم يجبه أحد منهم ، فأعادها عليهم كرارا ومرارا بعبارات شتى ، كلّ ذلك إتماما للحجّة على من لا حمية له ، وقد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة .

الحقّ أنّهم خلقوا من طينة لئيمة خبيثة ، فكيف تؤثر فيهم الموعظة والنصيحة ؟ وكيف يمكن تليين تلك القلوب القاسية ؟ التي قال عنها اللّه تعالى : «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأْنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ » .

إذن هذه الآية الكريمة « وَلَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ

وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً » جرت في الحسين عليه السلام ، وإنطبقت عليه كمال الإنطباق .

تمرّد الأُمّة

أجل ، كان حريّا أن ينزل العذاب ، ويجعل عالي الدنيا سافلها ، ويقلب الأرض على أهلها ، كيف وقد إقتضت الغيرة الإلهية أن ينزل عذابه بالأمّة التي عقرت الناقة وفصيلها ، فشاءت عزّة الربّ أن يهلك عدّة آلاف إنتقاما لتلك الناقة ، ألم يكن حريّا بهذه الأمّة أن ينزل عليها العذاب وقد ذبحت عزيز سيد الأنبياء ؟

هل كانت ناقة صالح أعزّ عند اللّه من سيد الشهداء عليه السلام ؟

ص: 36


1- المنتخب : 1/182 ، بحار الأنوار : 45/4 بتفاوت .

أيّ خصوصية لناقة صالح ؟ وفي كلّ يوم تنحر الآلاف من الإبل ، أجل كانت لهاخصوصية حيث أنّ اللّه جعلها آية من آياته ، وأوصى بها ، وأمرهم أن لا يؤذونها ، ولا يتعرضوا لها بسوء ، إلاّ أنّهم عقروها ، فدمدم عليهم ربّهم ، واستحقوا بذلك غضب الجبار ، فزلزل بهم الأرض حتى أهلك منهم جماعة كثيرة .

فكيف بسيد الشهداء عليه السلام وفي كلّ صفة من صفاته آية للعالمين ؟ وكلّ شعرة منه أعزّ عند اللّه ألف ألف مرّة من ناقة صالح ، فكيف ينحر بلا جرم ولا تقصير ؟ ويقطّع

إربا ؟ ويقتل طفله الرضيع ، وعزيزه الصغير أمام عينيه ، ويقطّع إربا ؟ وكلّ شعرة فيه أعظم من مئات الآلاف من فصيل ناقة صالح ، أما إستحق هؤلاء القوم أن تزلزل بهم الأرض ، وتندكّ الجبال ، وتخرّ السموات على الأرضين ، فينكفى ء العالم ، وينهدم نظام الكون ؟

هذا ، وأولئك الذين عقروا الناقة ، لم يظلموها ولم يجوروا عليها ، إنّما تنكّروا لحقّها في الشرب الذي أمرهم به ربّ العالمين ، فلم يرضوا به وعقروها !

أمّا الإمام الحسين عليه السلام فإنّهم منعوه من الشرب ، وهو حقّ لكلّ الناس ، وذبحوه عطشانا جائعا ، وقطّعوا بدنه الشريف إربا ، أما كان حريّا بجبرئيل الأمين الذي صرخ صرخة حينما عقروا الناقة ، وصاح صيحة أصمة الأسماع ، ومزّقت الأحشاء ، وأهلكت الجميع ، أما كان حريّا أن يصرخ صرخة عند ذبح مخدومه ، ويصيح صيحة حينما قتل الإمام الحسين عليه السلام ، فيقلب عاليها سافلها ؟

فيا سماء جرت هذه الأمور على

مثل الحسين فموري بعده موري

وأنت يا أرض صيري بعده قطعا

ويا جبال على وجه الثرى سيري

ويا مياه ابن ساقي الحوض مهجته

عطشى قضت نحبها من بعده غوري

يا خيل يا خيل من بعد الحسين فلا

شدّت عليك سروج للمغاوير

أين الرسول عن الشبل الحسين وقد

أمسى مزارا لقطعان اليعافير

ص: 37

أين الرسول وجثمان الحسين يرى

كمصحف قد يرى في الأرض مهجور

أين الرسول عن الرأس الكريم على

رأس السنان يحاكي بدر ديجور

أين الرسول وثغر كان يرشفه

تدقّه بقضيب كفّ مخمور

أين الرسول ومهر السبط منقلب

يعدو الى برج الفسطاط مكسور

أين الرسول عن الأيتام تندبه

مثل النجوم عن النوق الحدابير

خطب تضعضع منه الدين واضطربت

قواعد المجد في الأعراف والطور

خطب تزلزل منه العرش وانطمست

معالم الرشد والأحقاف والنور

خطب أقام عمود الشرك منتصبا

وشدّ أعضاد أهل الغيّ والزور

بأبي وأمي شفاهك وثناياك يا أبا عبد اللّه ، أي ذنب كان لشفاهك وثناياك سوى أنّها كانت موضعا لطالما أشبعه النبي صلى الله عليه و آله لثما وتقبيلاً ، وكانت لا تفتر عن ذكر اللّه تبارك وتعالى .

لماذا لم ينزل العذاب ؟

إعلم ، أنّه إن لم ينزل الحقّ تعالى عذابه ، ولم يقلب العالم على من فيه ، ولكنّه أعدّ للظالمين في الآخرة عذاب يكفيهم ، فعلينا أن نرضى بفعل الحكيم المطلق الموافق لما قسم - عزّ وجلّ - ، فإنّما يتعجّل العقوبة من يخاف الفوت ، وإنّ اللّه للظالمين لبالمرصاد .

روى الشيخ الطبرسي رحمه الله في الإحتجاج بإسناده عن الإمام زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام قال : إنّ علي بن الحسين عليهماالسلام كان يذكر حال من مسخهم اللّه قردة من بني إسرائيل ويحكي قصّتهم ، فلمّا بلغ آخرها قال : إنّ اللّه تعالى مسخ أولئك القوم لاصطيادهم السمك ، فكيف ترى عند اللّه - عزّ وجلّ - يكون حال من قتل أولاد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهتك حريمه ؟ إنّ اللّه تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا فإنّ المعدّ لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ .

ص: 38

فقيل له : يا ابن رسول اللّه ، فإنّا قد سمعنا منك هذا الحديث ، فقال لنا بعضالنصاب : فإن كان قتل الحسين باطلاً ، فهو أعظم عند اللّه من صيد السمك في السبت ، أفما كان اللّه غضب على قاتليه كما غضب على صيادي السمك ؟

قال علي بن الحسين عليه السلام : قل لهؤاء النصاب : فإن كان إبليس معاصيه أعظم من معاصي من كفر بإغوائه فأهلك اللّه من شاء منهم ، كقوم نوح وفرعون ، ولم يهلك إبليس ، وهو أولى بالهلاك فما باله أهلك هؤاء الذين قصروا عن إبليس في عمل الموبقات ، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المحرمات ؟ أما كان ربّنا - عزّ وجلّ - حكيما تدبيره حكمة فيمن أهلك وفيمن استبقى ، فكذلك هؤاء

الصائدون في السبت وهؤاء القاتلون للحسين يفعل في الفريقين ما يعلم أنّه أولى بالصواب والحكمة ، لا يسأل عمّا يفعل وعباده يسألون(1) .

فالاعتراض على الحكيم قبيح إذن ، وقد قال الحكيم تعالى : « وَلَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً » ، وهذا الحكم وإن كان حكما كليّا إلاّ أنّنا قلنا أنّه روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّها جارية في الحسين عليه السلام .

ص: 39


1- الاحتجاج : 2/312 ، بحار الأنوار : 4/295 ح2 وتتمة الرواية : وقال الباقر عليه السلام : فلمّا حدّث علي بن الحسين عليهماالسلام بهذا الحديث قال له بعض من في مجلسه : يا ابن رسول اللّه كيف يعاقب اللّه ويوبخ هؤاء الأخلاف على قبائح أتاها أسلافهم وهو يقول « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » ؟ فقال زين العابدين عليه السلام : إنّ القرآن نزل بلغة العرب ، فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم ، يقول الرجل التميمي ، قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه : أغرتم على بلد كذا وفعلتم كذا ، ويقول العربي : نحن فعلنا ببني فلان ، ونحن سبينا آل فلان ، ونحن خربنا بلد كذا ، لا يريد أنّهم باشروا ذلك ، ولكن يريد هؤاء بالعذل ، وأولئك بالافتخار ، إنّ قومهم فعلوا كذا ، وقول اللّه - عزّ وجلّ - في هذه الآيات إنّما هو توبيخ لأسلافهم وتوبيخ العذل على هؤاء الموجودين ، لأنّ ذلك هو اللّغة التي نزل بها القرآن ، والآن هؤاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم مصوّبون لهم ، فجاز أن يقال : أنتم فعلتم ، أي إذ رضيتم قبيح فعلهم .

فلو لم تكن ذريّته الطاهرة ، ولم تكن للّه حجّة تكون محلّ الفيوضات الإلهية ، وسببا لنزول الرحمة والبركات اللامتناهية ، لساخ العالم وإنقلبت الدنيا على أهلها ،لعظم الرزية بقتل فلذّة كبد الرسول ، وسبي بنات الزهراء البتول .

فإذا كان اللّه - عزّ وجلّ - مسخ الذين خالفوا أمره فإصطادوا عدّة حيتان ، وأرسل عليهم صاعقة من السماء أحرقتهم بنار الدنيا والآخرة ، فما بالك بمن قتلوا حجته وخليفته ، وأغرقوا زينة عرش الكبرياء والعظمة ، ومظهر الجلال والرفعة ، كالسمكة في بحار الدم ، ومنعوه الماء دون ذنب صدر منه ؟

وإذا كان اللّه قد أهلك قوما لأنّهم هتكوا حرمة يوم العيد الذي حرّمه اللّه وأمرهم بحفظ حرمته ، فنهاهم عن الصيد فيه فخالفوا واصطادوا ، فما بالك بمن هتك حرمة سيد الأيام وعيد الإسلام ، وضيع حرمته ، وهو يوم الجمعة الذي يعدّ بمنزلة يوم السبت عند بني إسرائيل ؟

هتكوا حرمة هذا اليوم وضيعوه في أفضل الأيام ، وأفضل الساعات وقت الزوال ، تماما في الوقت الذي أمر اللّه الناس أن يتوجّهوا فيه الى ذكره وتوقير وتعزير نبيه - وهو ذكر اللّه في الباطن - ، ودعاهم لمناجاته وإستماع مواعظه ، هتكوا

حرمة اليوم ، وهتكوا حرمة النبي ، وإرتكبوا ما يعجز القلم عن تحريره !

القوم الذين أضاعوا الجمعة - وهي سبت المسلمين - وإصطادوا حوت المعارف الإلهية ، وأشرف المخلوقات بأسرها ، واجترؤا على حرم اللّه وحرم رسوله صلى الله عليه و آله .

ولهذا ورد في بعض الأخبار أنّه « المقتول يوم السبت »(1) .

وتأويله أنّ شهادته كانت يوم الجمعة التي هي سبت المسلمين ، وإن كان جماعة من علمائنا مثل الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد وغيره عمل بظاهر هذا الخبر وقال : أنّ الحسين عليه السلام قتل يوم السبت ، ولكنّه قول يخالف أخبارا كثيرة

ص: 40


1- بحار الأنوار : 44/198 .

دلّت على أنّه عليه السلام استشهد يوم الجمعة ، وذهب الى هذا القول الكثير من العلماءرضوان اللّه عليهم أجمعين(1) .

أجل ، كانت هذه الجماعة أولى بالهلاك ، ولكنّ اللّه لم يهلكهم لمكان حجّته في الخلق ، فما دام حجّة اللّه بين الخلق موجودا ، فإنّ اللّه لم ينزل عذابه عليهم . .

ولولا شموس منه ما طلعت شمس

ولا كان سهل في الوجود ولا حزن

ولم يدر فلك كلاّ ولا سكنت

أرض بل إضطربت أرض بها سكنوا

ولولم يرد ربنا إظهار حجّته

من صلبه ما استقام الدهر والزمن

ما عطّل الكون إذ كانت قلائده

منه هداة على فعل التقى مرنوا

فليندب المجد أهليه كذا وكذا

فليعظم الخطب أو فلتكبر المحن

وكيف لا وأرى السادات من بشر

أضحت تسود عليها أعبد نتن

واللّه ما جرا جور الظالمين على

أبناء أحمد إلاّ معشر فتنوا

أعني الأولى غصبوا ميراث حيدرة

أخي النبي رسول اللّه والختن

هم أسسوه وشادوه أمية

إذ أحفادهم ظهرت في الطف والضغن

نفسي الفدى لنفوس فيه سائلة

على الضبا نهبت أجسادها اللدن

نفوس أشرف خلق اللّه من بهم

سادت مشاعر بيت اللّه والركن

أفدي هناك حسينا وهو يقتحم ال-

هيجا يسطوا بقلب قلبه البدن

أفديه والبرّ من ثوب الدماء غدا

تجري على وجهه خيل العدى سفن

ما صدّهم عن لقاء القوم كثرتهم

والأسد هل سدّها قصدها أتن

حتى إذا اشتاق دارا لا فناء لها

وشاقه سادة في عدنها عدنوا

فاضت الى القدس نفس منه طاهرة

ما شانها في الوفا وخوف ولا حزن

بكته أحكام دين اللّه إذ نكست

أعلامه أسفا والفرض والسنن

ص: 41


1- بحار الأنوار : 45/90 و305 .

أي واللّه أين الأسد من مظهر القهر الألهي ومحل السطوة والقدرة الربانية ، فلو أنّه أشار بقهره الى أولئك القوم ، بل الى المخلوقات جميعا لمحاها عن صفحة الوجود ،ونقلها الى دار البوار ، ولكن اقتضت الحكمة الربانية أن يقابل الطائفة الطاغية بالقوّة الظاهرية ، وسطوة الشجاعة الجسمانية .

تأثير مصائب الحسين عليه السلام في الكون

إعلم ، أنّ الحقّ تعالى وإن لم يقلب الأرض ولم يسقط السماء لمكان وجود حجّته ، إلاّ أنّ السماء والأرض بكتا على فلذّة كبد الرسول صلى الله عليه و آله ، بكت السماء بدل الدموع دما ، وبكت عيون الأرض دما ، كما ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن طرق المخالف والمؤالف .

منها : ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات عن الصادق عليه السلام قال : إنّ الحسين عليه السلام بكى لقتله السماء والأرض ، وإحمرتا ، ولم تبكيا على أحد قطّ إلاّ على يحيى بن زكريا والحسين بن علي(1) .

وروى ابن شهرآشوب أيضا عن نصرة الأسدية قالت : لمّا قتل الحسين عليه السلام

أمطرت السماء دما ، وحبابنا وجرارنا صارت مملوءة دما(2) .

وكذا روى ابن قولويه رحمه الله عن أحمد بن عبيد اللّه عن رجل من أهل بيت المقدس أنّه قال : واللّه لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشية قتل الحسين بن علي عليهماالسلام ، قلت : وكيف ذاك ؟ قال : ما رفعنا حجرا ولا مدرا ولا صخرا إلاّ ورأينا تحتها دما عبيطا يغلي ، واحمرت الحيطان كالعلق ، ومطرت ثلاثة أيام دما عبيطا ، وسمعنا مناديا ينادي في جوف الليل يقول :

ص: 42


1- كامل الزيارات : 89 الباب 28 ح3 ، بحار الأنوار : 45/209 باب 40 ح17 .
2- المناقب : 4/54 فصل في آياته بعد وفاته عليه السلام . وفيه : « نضرة الأزدية » .

أترجو أمّة قتلت حسينا

شفاعة جدّه يوم الحساب

معاذ اللّه لا نلتم يقينا

شفاعة أحمد وأبي تراب

قتلتم خير من ركب المطايا

وخير الشيب طرّا والشباب

بل فداء لشعرة من شعراتك كلّ الشيب والشبان .

وإنكسفت الشمس ثلاثة أيام ، ثم تجلّت عنها ، وإنشبكت النجوم ، فلمّا كان من غد ، أرجفنا بقتله ، فلم يأت علينا كثير شيء حتى نعي إلينا الحسين عليه السلام(1) .

وروى جماعة من مشائخ العامة مثل شارح الوجيز وصاحب الطبقات : لم تر هذه الحمرة في السماء إلاّ بعد قتل الحسين(2) . فلمّا قتل الحسين عليه السلام أظلمت الدنيا ثلاثة أيام ، ثم ظهرت هذه الحمرة في السماء الى يوم الناس هذا .

وقالوا أيضا : ما رفع حجر في الدنيا لمّا قتل الحسين

عليه السلام إلاّ وتحته دم عبيط . .

ولقد مطرت السماء دما بقي أثره في الثياب مدّة حتى تقطعت(3) .

فإذا كانت السماء في عزاء الى اليوم على سبط نبي آخر الزمان صلى الله عليه و آله ، وهي تبكي عليه في كلّ يوم صباحا ومساء دما بالحمرة التي تبدو في آفاقها ، فلماذا لا تبكي قلوب المحبّين في مصيبته دما ؟

لماذا لا تبكيه العيون بدل الدموع دما ؟

لماذا لا تملأ الآهات الصدور ؟

قد يتوهّم البعض أنّ مصيبة الحسين عليه السلام - تماما - كسائر المصائب ، تبهت إذا تقادمت ، وتبرد حرارتها في القلوب إذا عفى عليها الزمن ! كلا وحاشا ، واللّه إنّها

لمصيبة لا تبرد ولا تزول الى قيام الساعة ، وسوف لن يمحى ذكرها أبدا .

ص: 43


1- كامل الزيارات : 76 الباب 24 ح2 .
2- الإرشاد : 2/132 .
3- انظر : نظم درر السمطين للزرندي الحنفي : 221 ، الصواعق المحرقة : 2/569 ، تذكرة الخواص : 273 ، مجمع الزوائد : 9/145 .

أجل ، لا أحد مثل الحسين عليه السلام ، ولا بلية مثل بليته ، ولا مصيبة مثل مصيبته ، ومن مثل الحسين عليه السلام الذي خلقه اللّه على عينه ، وجعله زينة السمواتوالأرضين ، ولكن أراذل الخلق من عباد الدنيا لم يطيقوا رؤيته فقتلوه بأفجع صورة . .

لا أدري لماذا لا تجري عيون محبّيه دما ؟

لا أدري لماذا لا تتفتت أكباد شيعته ؟ لماذا لا تحترق قلوبهم وتذوب من ألم المصاب ؟

هل أنّ قلوبهم كالحجارة أو أنّها أشدّ قسوة ؟ أو أنّهم لا يتأمّلون ولا يمعنون النظر فيما جرى ؟

أجل ، إنّهم لا يتأمّلون ، فكما أنّ حكمة الباري - عزّ وجلّ - إقتضت أن تقوم السموات والأرض ، ليتحقّق الغرض من الخلق والإيجاد ، فكذلك بالنسبة الى هذه المصيبة ، فقد إقتضت الحكمة أن لا تبدو للنظر كما هي ، وأن لا تؤثر في القلوب تأثيرها الحقيقي ، لكي يحيى الخلق ويعيشون ، ولا يتركوا العيش لتستمر حياتهم .

ولولا ذاك ، فكيف يمكن أن يتصوّر أن يقتل خير الخلق كلّهم ، وواسطة نزول الرحمات والبركات والفيوضات والكرامات الإلهية ، ثم تبقى الجماعة المخلوقة من فاضل طينته ، والمعجونة طينتهم بنور ولايته ، من الذين يخاطبونه أبدا بقولهم : « بأبي أنت وأمي » ، مستقرّة لا يزعزعها المصاب ؟ بل أنّى لهم أن يستمتعوا بالحياة ، ويأكلوا ويشربوا ، ويستشعروا الراحة والإستقرار ؟

آه . . ما أقسى القلب الذي لا يحترق في هذه المصيبة !

وما أبعد العين التي لا تتفجّر منها دموع الحسرة والأسى في هذه الرزية عن الرحمة ؟

ص: 44

للّه وقعة عاشوراء إنّ لها

في جبهة المجد جرحا غير مندمل

مصيبة بكت السبع الشداد لها

دما ورزء عظيم غير محتمل

لهفي له عافرا ملقى بلا كفن

سوى السوافي ولا لحد ولا غسل

مترّب الخدّ دام النحر منعفر

الجبين نحر قضى ظام الى الوشل

وأقبلت زينب الكبرى وقد سفرت

عن منظر برداء الذلّ مشتمل

حسرى وأدمعها تثرى ومقلتها

عبرى وأنفسها حرّى من الثكل

تشكو الى جدّها فعل الطغاة بهم

بمدمع فوق صحن الخدّ منهمل

يا جدّ قد فتكت فينا علوج بني

أمية وبقايا عابد الهبل

يا جدّ هل جاءك الناعي بقتل أخي

وهل عرفت بما لاقيت من وهل

يا جدّ هذا أخي عار تكفّنه ال-

-رياح في نسجها من مطرف سمل

يا جدّ هذا أخي ظام وقد صدرت

عن صدره البيض بعد العل والنهل

وأقبلت ترشف الثغر الشريف وهل

يدافع القدر المحتوم بالقبل

تقول والسبط تغشاه المنون وفي

فؤادها شغل ناهيك من شغل

أخي هذه روحي لكم بدل

إن كان يقنع صرف الدهر بالبدل

أخي يا أخي كنت نورا يستضاء به

الى الطريق الذي ينجى من الضلل

أخي يا أخي أظلمت من بعدكم طرق ال

هدى وربع المعالي أرض وهو خلي

تأمّل آخر في مصائب الإمام الحسين عليه السلام

أجل واللّه ، لقد أظلمت سبيل الهداية ، وأطبقت الظلمات ، وضاع طريق الهدى والسعادات ، وخربت المساجد والمعابد والصلوات ، وتهدمت المحاريب ، وتكسرت أعواد المنابر والجماعات ، وإندرست آثار التقى ، إنطمست بحار علوم الهدى .

هل تتصوّر أن يذبح الرجل الذي جعله اللّه نورا لهداية الخلق ، وحجّة له على العباد ، ومنار يهدي السائرين في ظلمات الحياة ، وصراطا مستقيما يقود البشر الى سبل النجاة ، بل يقتله شرّ الخلق بأسوء حال ، ويترك العالم بلا دليل ،

ص: 45

وسفينة البشر بدون ربّان ، ويحرم الخلق من الفيوضات ، ومع كلّ ذلك فهل للمحبّ أنّ يديم عيشه ، ويركن الى الدنيا ، ويشتغل بالفرح والسرور ؟

ألم يسمعوا بمظلومية قرّة عين الأنبياء عليهم السلام ، ومحرومية فلذة كبد فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وإستنصار خامس آل الكساء ؟ أو أنّهم سمعوا وتغافلوا ؟

هل يعرفون أحدا أعزّ من الحسين عليه السلام ، وهو زينة السموات والأرضين ، وقرط عرش ربّ العالمين ، وباب نجاة الأمّة ، وسبب نزول البركة والرحمة ؟

أو أنّهم يعرفون مظلوما أعظم مظلومية من الحسين عليه السلام فتحترق له قلوبهم ؟

كيف يغفل المحبّ ويسكت في مصيبته ؟ وكيف لا تتفجّر عينه بدموع الحسرة والأسى واللوعة في مصيبة أبكت الحيوانات العجماوات ، وأبكت الصخر الأصم وأذابته ؟

أيم اللّه أن لا تكون هذه الحالة إلاّ فيمن يجهل حقّه ولا يعرف قدره ، إلاّ فيمن يغرق في الغفلة ، ولا يفكر في غير الدنيا ، وليس له همّ سوى الشهوة ، وإلاّ فكيف يمكنه أن يتصوّر المصائب التي جرت على الإمام عليه السلام ثم يستطيع أن يتمالك نفسه ؟

أما سمعتم ما رواه أبو بصير قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام أحدّثه ، فدخل عليه ابنه ، فقال له : مرحبا ، وضمّه وقبّله وقال : حقّر اللّه من حقّركم ، وإنتقم ممّن وتركم ، وخذل اللّه من خذلكم ، ولعن اللّه من قتلكم ، وكان اللّه لكم وليّا وحافظا وناصرا ، فقد طال بكاء النساء ، وبكاء الأنبياء والصديقين والشهداء وملائكة السماء .

ثم بكى وقال : يا أبا بصير ، إذا نظرت إلى ولد الحسين عليه السلام أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم(1) .

وفي حديث آخر : ما ذكر الحسين بن علي عليهماالسلام عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام في يوم قطّ فرئي أبو عبد اللّه عليه السلام في ذلك اليوم متبسّما قطّ إلى الليل(2) .

ص: 46


1- كامل الزيارات : 82 الباب 26 ح7 ، بحار الأنوار : 45/208 ح14 .
2- كامل الزيارات : 101 الباب 32 ح5 ، بحار الأنوار : 44/280 ح11 .

ذكر خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة الى مكة

اشارة

إذا أردت أن تسمع ظليمة الإمام عليه السلام ، فإستمع الى خلاصة ما جرى عليه عليه السلامفي قصة إخراجه من المدينة الطيبة ، وإبعاده عن وطنه ، وتشريده وإبعاده الى أرض الغربة ، وإقصاءه عن حقّه ، وانظر كيف ضيّقوا الدنيا عليه ، « فكأنّما المأوى عليه محرم » ، حتى تمنّى أن لا يبقى في هذه الدنيا ، واستسلم للموت ورضي بالشهادة .

وقد نقل الشيخ المفيد والسيد الجليل ابن طاووس وابن شهرآشوب وغيرهم من الأعلام والأجلاء من ذوي الرتب والمقام ، قصة خروج سيد الأنام ، وقرط عرش الملك العلام ، من المدينة المباركة الطيبة بعبارات شتى ، ومضمونها جميعا ما سننقله لك :

هلاك معاوية وبيعة يزيد

هلك قارون هذه الأمّة معاوية بن أبي سفيان ، وارتحل الى أسفل درك النيران ، وتطهّرت صفحات الأيام من أرجاس وجوده النجس ، فاعتلى عرش السلطنة من بعده ابنه النجس القذر يزيد ، النطفة الحرام والطينة الخبيثة ، والشجرة الملعونة لا

تثمر إلاّ الكفر والطغيان ، ونطفة الظلم والعدوان الخبيثة لا تولّد إلاّ الأذى والطغيان ، ومقابل كلّ حقّ باطل ، ولكلّ موسى فرعون يؤذيه ، ولهذا تصدّى الشقي الى ظلم فلذة كبد الرسول صلى الله عليه و آله وأذيّت شبل علي المرتضى والزهراء البتول عليهماالسلام ، وقصد قتله ، فكتب الى ابن عمّه الوليد بن عتبة - وفي رواية الصدوق : الى عمّه عتبة بن أبي سفيان - كتابا بهذا المضمون :

خذ الحسين بن علي وعبد اللّه بن عمر - وفي رواية ابن شهرآشوب : عبد الرحمن بن أبي بكر - بالبيعة أخذا شديدا ، فإن أبوا فإبعث إليّ برؤوسهم .

ص: 47

فلمّا بلغ الكتاب الى ذلك الكلب أرسل اليهم وطلب منهم البيعة فلم يمكّنوه ، فألحّ على الحسين عليه السلام ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام إصراره ، وأنّهم غير تاريكه على أيّةحال عزم على الخروج ، وأخذ يعدّ عدّة السفر ، والجلاء عن الوطن ، ومفارقة حرم جدّه صلى الله عليه و آله .

الإمام الحسين عليه السلام يرى جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الرؤيا

فلمّا عزم الحسين عليه السلام على الخروج من المدينة توجه قبل أيام من خروجه الى قبر جدّه .

قال الصدوق : فلمّا أقبل الليل راح إلى مسجد النبي صلى الله عليه و آله ليودّع القبر ، فلمّا وصل إلى القبر سطع له نور من القبر ، فعاد إلى موضعه(1) .

فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا ، وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول : اللّهم هذا قبر نبيك محمد ، وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللّهم إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومن فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى .

ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفي ، فإذا هو برسول اللّه قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين

يديه حتى ضمّ الحسين إلى صدره ، وقبّل بين عينيه وقال : حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك ، مذبوحا بأرض كرب وبلاء ، من عصابة من أمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة .

ص: 48


1- الأمالي للصدوق : 150 المجلس 30 .

حبيبي يا حسين ، إنّ أباك وأمّك وأخاك قدموا عليّ ، وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة .

فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول : يا جدّاه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك ، فقال له رسول اللّه : لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم ، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة .

فإنتبه الحسين عليه السلام من نومه فزعا مرعوبا ! فقصّ رؤاه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدّ غمّا من أهل بيت رسول اللّه ، ولا أكثر باك ولا باكية منهم(1) .

الإمام الحسين عليه السلام يودّع قبر أمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام وأخيه الحسن المجتبى عليه السلام

وتهيأ الحسين عليه السلام للخروج من المدينة ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمّه فودّعها .

وفي بعض الكتب : فوقف على القبر وقال : السلام عليك يا أمّاه ، هذا حسينك جاء يودّعك ، وهذه آخر زيارته لك ، فإذا النداء من القبر : وعليك السلام يا مظلوم الأم ، ويا شهيد الأم ، ويا غريب الأم ، فخنقته العبرة وبكى حتى لم يعد يطق الكلام .

ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن ففعل كذلك ، ثم رجع إلى منزله وقت الصبح(2) وأمر الغلمان أن يهيؤا المحامل ويركبوا عقائل العصمة والنبوة .

ص: 49


1- الإرشاد : 2/32 ، أمالي الصدوق : 215 ح239 ، اللهوف : 96 ، بحار الأنوار : 44/324 .
2- بحار الأنوار : 44/328 باب 37 .

تحرّك الحسين عليه السلام من المدينة المنورة

فأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفية وقال : يا أخي أنت أحبّ الخلق إليّ ، وأعزّهمعليّ ، ولست - واللّه - أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقّ بها منك ، لأنّك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري ، وكبير أهل بيتي ، ومن وجب طاعته في عنقي ، لأنّ اللّه قد شرّفك عليّ ، وجعلك من سادات أهل الجنّة ، ولا حجّة للّه هذا اليوم سواك ، فالى أين تقصد ؟ والى أيّ مكان تخرج وتترك حرم جدّك ؟ والى من تكل أقرباءك وأهل بيتك ؟ والى من تكل شيعتك ؟

أخي إنّي أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار ، فيخالفك الناس فيقتلونك وتكون لأول الأسنة غرضا ، فإذا بك قد عرّضت نفسك وأهل بيتك الى التلف ، فقال له الحسين عليه السلام : فأين أذهب يا أخي ، ولابد لي من الخروج من هذا البلد(1) ؟

قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك ، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنّهم أنصار جدّك وأبيك ، وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا ، وأوسع الناس بلادا ، فإن اطمأنت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعوب الجبال ، وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ، ويحكم اللّه بينا وبين القوم الفاسقين ، وإحذر أن تخرج الى العراق !

ص: 50


1- في الإرشاد : 2/33 : . . . تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم إبعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك ، فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت اللّه على ذلك ، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك ولا عقلك ، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك ، إنّي أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار ، فيختلف الناس بينهم ، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك ، فيقتتلون فتكون أنت لأول الأسنة ، فإذا خير هذه الأمّة كلّها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلّها أهلا ، فقال له الحسين عليه السلام : فأين أذهب يا أخي ؟ قال : أنزل مكة ، فإن إطمأنت بك الدار بها فسبيل ذلك ، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه ، فإنّك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا ، فقال : يا أخي قد نصحت وأشفقت ، وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا . . .

فقال الحسين عليه السلام : يا أخي - واللّه - لو لم يكن ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى ، فبكى الحسين عليه السلام معه ساعة(1) ، ثم دعا الحسين بدواة وبياض وكتب وصية ودفعها لأخيه محمد .

ثم إنّ الحسين لما فصل متوجها دعا بقرطاس وكتب فيه :

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أمّا بعد ، فإنّه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح ، والسلام(2) .

ثم أمر النساء أن يركبن في المحامل ، ودعا بذي الجناح فغرز رجله في ركاب السعادة ، وركب فرسه ومضى .

بكاء نساء بني هاشم عند خروج الحسين عليه السلام من المدينة

روى ابن قولويه في كامل الزيارات قال : لمّا همّ الحسين عليه السلام - قدوة الناس وملجأ العام والخاص - بالشخوص عن المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب ، فاجتمعن للنياحة حتى مشى فيهن الحسين عليه السلام ، فكنّ كالفراشات يطفن حول شمع الخير والبركة ، وكبنات النعش يدرن حول قطب فلك الهداية ، وإنهمرت دموعهن كأمطار الربيع في فراق زبدة الأخيار وربيع الأرامل والأيتام ، فقال الحسين عليه السلام : أنشدكن اللّه أن تبدين هذا الأمر معصية للّه ولرسوله ، فقالت له نساء بني عبد المطلب : فلمن نستبقي النياحة والبكاء ، فهو عندنا كيوم مات فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلي وفاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم ، فننشدك اللّه ، جعلنا اللّه فداك ، من الموت

يا حبيب الأبرار من أهل القبور .

وأقبلت بعض عمّاته تبكي وتقول : أشهد يا حسين لقد سمعت الجن ناحت بنوحك ، وهم يقولون :

ص: 51


1- بحار الأنوار : 44/328 باب 37 .
2- اللهوف : 65 المسلك الأول ، بحار الأنوار : 44/330 باب 37 .

فإنّ قتيل الطف من آل هاشم

أذلّ رقابا من قريش فذلّت

حبيب رسول اللّه لم يك فاحشا

أبانت مصيبتك الأنوف وجلّت

وقلن أيضا :

أبكي حسينا سيدا

ولقتله شاب الشعر

ولقتله زلزلتم

ولقتله انكسف القمر

واحمرت آفاق السما

من العشية والسحر

وتغبّرت شمس البلاد

بهم وأظلمت الكور

ذاك ابن فاطمة المصاب

به الخلائق والبشر

أورثتنا ذلاًّ به

جدع الأنوف مع الغرر(1)

لقاء الحسين عليه السلام بطائفة من الملائكة

قال شيخنا المفيد رحمه الله بإسناده إلى أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : لمّا سار أبو

عبد اللّه من المدينة لقيه أفواج من الملائكة المسومة في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنّة ، فسلّموا عليه وقالوا : يا حجّة اللّه على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إنّ اللّه - سبحانه - أمدّ جدّك بنا فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ، وإنّ اللّه أمدّك بنا ، فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها ، وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني .

فقالوا : يا حجّة اللّه مرنا نسمع ونطع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك ، فقال : لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي(2) .

لقاء الحسين عليه السلام بطائفة من مسلمي الجن

وأتته أفواج مسلمي الجن ، فقالوا : يا سيدنا ، نحن شيعتك وأنصارك ، فمرنا بأمرك وما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك .

ص: 52


1- كامل الزيارات : 96 الباب 29 ح9 .
2- بحار الأنوار : 44/330 باب 37 .

فجزّاهم الحسين خيرا وقال لهم : أو ما قرأتم كتاب اللّه المنزل على جدّي رسول اللّه : « أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ » ، وقال سبحانه : « لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ » ، وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلي هذا الخلق المتعوس ؟ وبماذا يختبرون ؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء ؟ وقد اختارهااللّه يوم دحا الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ، ويكون لهم أمانا في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم السبت ، وهو يوم عاشوراء الذي في آخره أقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد لعنه اللّه .

فقالت الجن : نحن واللّه يا حبيب اللّه وابن حبيبه ، لولا أنّ أمرك طاعة ، وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك ، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك ، فقال - صلوات اللّه عليه - لهم : نحن واللّه أقدر عليهم منكم ، ولكن « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ »(1) .

لقاء الإمام الحسين عليه السلام بأمّ سلمة عليهاالسلام

وأتته أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه و آله فقالت : يا بني لا تحزنّي بخروجك إلى العراق ، فإنّي سمعت جدّك يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها « كربلاء » ، فقال لها : يا أمّاه وأنا - واللّه - أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بد ، وإنّي - واللّه - لأعرف اليوم الذي أقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن فيها ، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت يا أمّاه أريك حفرتي ومضجعي . ثم أشار عليه السلام إلى جهة كربلاء ، فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده .

ص: 53


1- بحار الأنوار : 44/330 باب 37 .

فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا ، وسلّمت أمره إلى اللّه ، فقال لها : يا أمّاه قد شاء اللّه - عزّ وجل - أن يراني مقتولاً مذبوحا ظلما وعدوانا ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا .

وفي رواية أخرى : قالت أم سلمة : وعندي تربة دفعها إليّ جدّك في قارورة ، فقال : واللّه إنّي مقتول كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضا ، ثم أخذ تربة

فجعلها في قارورة ، وأعطاها إياها وقال : اجعلها مع قارورة جدّي ، فإذا فاضتا دما فاعلمي أنّي قد قتلت(1) .

روى الشيخ المفيد رحمه الله : فخرج عليه السلام من تحت ليلته ، وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة ، ولمّا دخل الحسين عليه السلام مكة كان دخوله إليها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان(2) .

وروى ابن طاووس قال : فسار الحسين عليه السلام إلى مكة لثلاث مضين من شعبان ، وهو يقرأ : « فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ » ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي قعدة(3) ، وسبعة أيام من ذي الحجة ، وخرج يوم الثامن خوفا من الظالمين الى الكوفة .

ص: 54


1- بحار الأنوار : 44/330 باب 37 .
2- الإرشاد : 2/33 .
3- اللهوف : 28 المسلك الأول ، الإرشاد : 2/33 .

المجلس الثاني: خروج سيد السعداء من مكة المعظمة الى العراق ووروده كربلاء

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي أعظم شعائر الإسلام ، وأكرمنا بالإرشاد الى الحلّ والحرام ، وتفضّل علينا بالركون الى الركن والمقام ، وجعل لنا حرما آمنا وحصنا للأنام ، وكهفا لصروف الأيام .

والصلاة والسلام على من تشرّف به البيت والحطام ، واستقام به الركن والمقام ، محمد وآله الذين هم حقائق البيت الحرام ، وبواطن الحج والإحرام .

خصوصا على من بذل مهجته سعيا الى رضا ربّه ومولاه ، وفدى أهله وعياله وأولاده حفظا لمشاعر الإسلام ، كما هو أقصى مناه ، الذي أزعجوه عن الأهل والأوطان ، وضيّقوا عليه الزمان والمكان ، فقتلوه وأصحابه كالأضاحي ، ونصبوا رأسه على العوالي ، وسبوا نساءه كالأماء والذراري ، وداروا بهنّ في القفار والبراري ، نهبوا ماله ، وأيتموا أطفاله ، وأسروا عياله ، وكسروا ظهره ، ورضّضوا صدره ، ونحروا نحره .

قتيل الأدعياء ، وأسى المحنة والبلاء ، مسلوب العمامة والرداء ، مخضّب الشيب من الدماء ، المذبوح بسيف الجفاء من القفاء ، صاحب الرأس المرفوع ،

ص: 55

والشلو الموضوع ، والسنّ المقروع ، والحقّ الممنوع ، الشهيد العطشان ، والبعيد عن الأوطان ، المذبوح بالسنان ، المدفون بلا غسل ولا أكفان ، المختلف اليه النسور والعقبان ، قليل الأعوان ، شديد الأشجان ، الواله الحيران ، القتيل بظهر كوفان ، معفّر الخدين ، المترب الجبينين ، مقطوع الودجين ، الظمآن لدى النهرين ، ملاذ الخافقين ، وشفيع الثقلين ، سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام .

ولعنة اللّه على قاتليه وظالميه ، الذين قتلوا بقتله الإسلام ، وهدموا قواعد البيت الحرام ، وخرّبوا قوائم الركن والمقام ، ونكسوا مشاعر الحج والإحرام ، ومعالم الحلال والحرام ، فعليهم لعنة متّصلة ما إتّصلت الليالي والأيام الى يوم القيام .

وبعد ، قال اللّه - عزّ وجلّ - في كتابه العزيز :

« لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ » .

* * *

حرمة الكعبة

إعلم ، أنّ الربّ الحكيم اختار بعض الأماكن بحكمته البالغة ، وجعل لها مزيد كرامة واحترام وتعظيم ، وأمر عباده بتعظيمها واحترامها ، ومن هذه الأماكن : مكة المكرمة التي جعلها حرمه ، تماما كما يتّخذ سلطان السلاطين الظاهري - بلا تشبيه - مكانا خلوة ، ليكون حرما خاصا له .

مكة المكرمة هي الموضع الذي اتّخذه ربّ العالمين حرما له ، وجعل لها حرما في أطرافها، وقرر لها أحكاما كثيرة، وبيّن بعض تلك الأحكام في كتابه الكريم، فقال مثلاً:

« لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ » .

ص: 56

فإعلم ، أنّ الحقّ تعالى جعل رعاية حرمة حرمه لازمة ، ومن دخل كان آمنا ، وجعل للقطته وأشجاره ونباتاته وصيده أحكاما خاصة ، وأحكامه كثيرة سطّرها العلماء الأبرار في كتبهم(1) .

أمّا فضل الكعبة والحرم فممّا لا يخفى على أحد ، وقد قال تعالى : « إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً » .

قال الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية : فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ، ثم مدّت الأرض منها(2) .

وعَنْ الصادق أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : كَانَ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ رَبْوَةً مِنَ الأْرْضِ بَيْضَاءَ تُضِيءُ كَضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، حَتَّى قَتَلَ ابْنَا آدَمَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَاسْوَدَّتْ ، فَلَمَّا نَزَلَ آدَمُ رَفَعَ اللَّهُ لَهُ الأْرْضَ كُلَّهَا حَتَّى رَآهَا ، ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ لَكَ كُلُّهَا ، قَالَ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الأْرْضُ الْبَيْضَاءُ الْمُنِيرَةُ ؟ قَالَ : هِيَ فِي أَرْضِي ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَطُوفَ بِهَا

كُلَّ يَوْمٍ سبع مرات(3) .

وفي حديث آخر عن أبي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : أَحَبُّ الأْرْضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَكَّةُ ، وَمَا تُرْبَةٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ تُرْبَتِهَا ، وَ لاَ حَجَرٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ حَجَرِهَا ، وَلاَ شَجَرٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ

وَجَلَّ - مِنْ شَجَرِهَا ، وَلاَ جِبَالٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ جِبَالِهَا ، وَلاَ مَاءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ مَائِهَا(4) .وروي أيضا : وَمَا أَرَادَ الْكَعْبَةَ أَحَدٌ بِسُوءٍ إِلاَّ غَضِبَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهَا ، وَنَوَى يَوْماً تُبَّعٌ الْمَلِكُ أَنْ يَقْتُلَ مُقَاتِلَةَ أَهْلِ الْكَعْبَةِ ، وَيَسْبِيَ ذُرِّيَّتَهُمْ ، ثُمَّ يَهْدِمَ الْكَعْبَةَ ،

ص: 57


1- انظر تفسير البرهان : 2/526 - 531 .
2- من لا يحضره الفقيه : 2/156 ح670 ، تفسير الصافي : 1/330 .
3- الكافي : 4/189 ح4 ، وفيه وفي الوسائل والبحار : « سَبْعَمائةِ طَوَافٍ » .
4- من لا يحضره الفقيه : 2/243 ح2304 .

فَسَالَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى وَقَعَتَا عَلَى خَدَّيْهِ ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : مَا نَرَى الَّذِي أَصَابَكَ إِلاَّ بِمَا نَوَيْتَ فِي هَذَا الْبَيْتِ لأِنَّ الْبَلَدَ حَرَمُ اللَّهِ ، وَالْبَيْتَ بَيْتُ اللَّهِ ، وَسُكَّانَ مَكَّةَ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ : صَدَقْتُمْ ، فَمَا مَخْرَجِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ ؟ قَالُوا : تُحَدِّثُ نَفْسَكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ .

فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِخَيْرٍ ، فَرَجَعَتْ حَدَقَتَاهُ حَتَّى ثَبَتَتَا فِي مَكَانِهِمَا ، فَدَعَا الْقَوْمَ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِهَدْمِهَا فَقَتَلَهُمْ ، ثُمَّ أَتَى الْبَيْتَ فَكَسَاهُ الأْنْطَاعَ ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ثَلاَثِينَ يَوْماً ، كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ جَزُورٍ حَتَّى حُمِلَتِ الْجِفَانُ إِلَى السِّبَاعِ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ ، وَنُثِرَتِ الأْعْلاَفُ لِلْوُحُوشِ(1) .

وَقصة أصحاب الفيل مشهورة وفي القرآن مذكورة ، فقد قَصَدَهُ أَصْحَابُ الْفِيلِ وَمَلِكُهُمْ أَبُو يَكْسُومٍ أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْحِمْيَرِيُّ لِيَهْدِمَهُ ، « فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ » .

وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ عَلَى الْحَجَّاجِ مَا جَرَى عَلَى تُبَّعٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ لأِنَّ قَصْدَ الْحَجَّاجِ لَمْ يَكُنْ إِلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ ، إِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَكَانَ ضِدّاً لِصَاحِبِ الْحَقِّ ، فَلَمَّا اسْتَجَارَ بِالْكَعْبَةِ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يُجِرْهُ ، فَأَمْهَلَ مِنْ هَدْمِهَا عَلَيْهِ(2) .

فإحترام الكعبة وتعظيمها واجب ، وقد سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » ؟ قَالَ : مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ مُسْتَجِيراً

بِهِ فَهُوَ آمِنٌ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَمَا دَخَلَ مِنَ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ كَانَ آمِناً مِنْ أَنْ يُهَاجَ أَوْ يُؤذَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ(3) .

وكذا لا يجوز قلع الشجر وقطع النبات في الحرم ، روي عَنْ الصادق عليه السلام أَنَّهُ قَالَ :كُلُّ شَيْءٍ يَنْبُتُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ ، إِلاَّ مَا أَنْبَتَّهُ أَنْتَ أَوْ غَرَسْتَهُ(4) .

ص: 58


1- من لا يحضره الفقيه : 2/248 .
2- من لا يحضره الفقيه : 2/248
3- من لا يحضره الفقيه : 2/251 ح2327 .
4- من لا يحضره الفقيه : 2/255 ح2342 .

وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام : شَجَرَةٌ أَصْلُهَا فِي الْحِلِّ

وَفَرْعُهَا فِي الْحَرَمِ ؟ فَقَالَ : حُرِّمَ أَصْلُهَا لِمَكَانِ فَرْعِهَا ، قُلْتُ : فَإِنَّ أَصْلَهَا فِي الْحَرَمِ وَفَرْعَهَا فِي الْحِلِّ ؟ قَالَ : حُرِّمَ فَرْعُهَا لِمَكَانِ أَصْلِهَا(1) .

وروي حرمة أخذ لقطة الحرم إلاّ لمن يريد تعريفه(2) .

ولا شكّ في حرمة صيد الحرم كتابا وسنة ، بل يحرم الدلالة عليه ، والإشارة اليه ، والإعانة عليه كما صرح بذلك بعض العلماء قال : يحرم على المحرم صيد البرّ حيازة ، وأكلاً ودلالة وإشارة وتسبيبا ، ولو بإعارة سلاح ونحوه بالكتاب والسنة المستفيضة والإجماع(3) .

وأمّا كفارة الصيد فقد صرّح البَعْضِ : أنّه إِذَا أَصَابَ الُْمحْرِمُ الصَّيْدَ خَطَأً فَعَلَيْهِ أَبَداً

فِي كُلِّ مَا أَصَابَ الْكَفَّارَةُ ، وَإِذَا أَصَابَهُ مُتَعَمِّداً ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ، فَإِنْ عَادَ فَأَصَابَ ثَانِياً مُتَعَمِّداً ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ »(4) .

الكعبة والحرم الحقيقيتان

إذا عرفت ذلك فإعلم ، أنّ للّه حرم حقيقي ومعنوي ، هو بمنزلة الروح للحرم الظاهري وبمثابة اللبّ لهذا الظاهر ، ولهذا الحرم كعبة ومسجد ، وصيد وحمام ، وشجر ولقطة ، وحرمته أعظم ، وصيده أشدّ حرمة ، وقطع شجره وكسر أغصانهاأشنع ، وأخذ لقطته أقبح وأفضع .

ص: 59


1- من لا يحضره الفقيه : 2/255 ح2341 .
2- في تهذيب الأحكام : 5/421 باب 26 ح107 وغيره : مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثَْمانَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ لُقَطَةِ الْحَرَمِ ؟ فَقَالَ : لاَ تَمَسَّ أَبَداً حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا فَيَأْخُذَهَا ، قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ مَالاً كَثِيراً ؟ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا إِلاَّ مِثْلُكَ فَلْيُعَرِّفْهَا . . .
3- انظر الحدائق الناضرة : 15/135 .
4- الكافي : 4/394 ح3 .

إنّه حرم محمد بن عبد اللّه وأهل بيته - صلّى اللّه عليهم أجمعين - ، وقد خلق اللّه تعالى هذا الحرم وكلّ العالم ببركة وجودهم عليهم السلام ، وقد أمر تعالى جميع ذرات الوجود أن تعظّمه وتوقّره هو وأهل بيته عليهم السلام ، وكلّ شيء وصل الى منزلة أو رتبة ما فإنّما وصل اليها بواسطتهم ، وكلّ أرض بادرت الى تعظيمهم ، وسارعت الى قبول ولايتهم ، جعل اللّه ماءها عذابا ونباتها وثمرها طيبا ، والأرض التي لم تقبل ولايتهم صار ماءها أجاجا ونباتها وثمرها مرّا .

فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : . . إنّ اللّه عرض أمانتي على الأرضين ، فكلّ بقعة آمنت بولايتي جعلها طيبة زكية ، وجعل نباتها وثمرها حلوا عذبا ، وجعل ماؤا زلالاً ، وكلّ بقعة جحدت إمامتي وأنكرت ولايتي جعلها سبخا ، وجعل نباتها مرّا علقما ، وجعل ثمرها العوسج والحنظل ، وجعل ماءها ملحا أجاجا(1) .

وفي حديث آخر : ثم عرض ولايتنا على الأرضين ، فسبقت إليها المدينة فزيّنها بالمصطفى محمد صلى الله عليه و آله ، فجعلها حرما له وجعل قبره فيها ، ثم سبقت إليها الكوفة فزيّنها بأمير المؤنين عليه السلام(2) ، وجعلها حرما له ، وجعل قبره فيها .

إنّ لذلك الحرم كعبة هي سلطان الأولياء عليه السلام ، وله صيد هما الحسن والحسين عليه السلام وذريّتهما الطيبين ، وله حمام هم ذريّتهما الطيبون ، وله نبات وشجر وهم الخواص من شيعتهم الأبرار ، وله لقطة هي الأموال التي جعلها اللّه حقّا لهم .

وقد أمر اللّه بتعظيمهم وحفظ حرمتهم فقال : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » .

ص: 60


1- المناقب : 2/314 .
2- إقبال الأعمال : 465 فصل فيما نذكره من فضل صوم يوم الغدير .

أشقياء الأمّة وهتك حرمة الحرم الإلهي

إعلم ، أنّ أشقياء هذه الأمّة قد هتكوا حرمة الحرم الإلهي ، وضيّعوه وخرّبوه ، وقتلوا صيده ، وكسروا أجنحة حمامه ، وقلعوا نباته وشجره من جذوره ، وسرقوا لقطته - أي سلبوا أموالهم عليهم السلام - .

آه . . قتلوا صيده بغير حقّ ، قتلوا الحسين عليه السلام ، أزعجوا الصيد حتى أخرجوه من الحرم الظاهري الذي جعله مثابة للناس وأمنا ، أخرجوه من هناك ، وعدوا عليه فذبحوه ، وهجموا على أمواله فنهبوها ، فماذا يتوقعون من صاحب الحرم إذا أصاب السفلة صيد الحرم بسهامهم ؟

أحاطوا بهم ليقتلوهم داخل الحرم ، فإضطروا للخروج منه لئلا تهتك حرمة الحرم بهم ، فخرجوا ، ولاحقوهم حتى قتلوهم في حرم آخر . . سقوهم رحيق الشهادة في كربلاء .

إنّهم قطّعوا أطراف الذرية الطيبة ، وكسروا أجنحة حمام الحرم الإلهي ، ورمّلوهم بدمائهم ، وكسروا أغصان شجر الحرم الإلهي - وهم الشيعة والأصحاب - وإقتلعوها ، فقطعوا الرؤوس ، وسملوا الأعين ، وصلبوهم على جذوع النخل ، وشحّطوهم بالدماء ، ونهبوا أموالهم وهي بمنزلة اللقطة في الحرم الإلهي ، وإقتسموها بينهم .

أحرقوا خيامهم بنيران الظلم والجور ، الخيام التي كانت تمثّل سرادق العزّ والجلال الإلهي ، الخيام التي كانت تحرسها الملائكة المقربين ، وأخرجوا مخدرات العصمة ، وسيدات الكرامة والعزّة من خدورها ، وسبوها وطافوا بها في البلدان ، كما يصنع بالعبيد والإماء .

قم يا رسول اللّه وانظر ما جرى

في كربلاء لبنيك من خصمائها

فلقد غدوا طعم الردى بيد العدا

قتلى وأسرى في السبا كإمائها

ص: 61

هذا الحسين بها على عفر الثرى

في حلّة حمراء بنسج دمائها

مقطوع رأس هشمت أضلاعه

عريان من أثوابه بعرائها

حيكت له قمصان ترب أغبر

من مور أرياح الفلا وهوائها

هذا الذي قد كنت تلثم نحره

أمسى نحيرا من حدود ضبائها

من بعد حجرك يا رسول اللّه قد

اُلقي طريحا في ثرى رمضائها

هذا وجثته الشريفة قد غدت

للصافنات يجول في أعضائها

ونساؤه تُسبى كما تُسبى الإما

وتقاد في الأغلال من أسرائها

يا قوم ما ذنب الصغار لتنزلوا

بهم الصغار وتغلبوا بإذائها

يا ويلكم ما يشف غلّ صدوركم

قتل الموالي اليوم من كبرائها

هل ظنّ هؤلاء أنّ هذا الفعل كسائر الأفعال الشنيعة ؟ وهذا القبيح كسائر الأعمال القبيحة ؟ أو أنّ هذا الظلم كأيّ ظلم يجري على العالمين ؟

لا واللّه ، لم يقع ظلم مثل هذا الظلم قطّ ، ولا رزية مثل هذه الرزية .

إذا كان اللّه تعالى قد أمر بتعظيم بعض الحجارة المرصوفة الى هذا القدر من التعظيم ، وجعلها حرما ، وأوجب إحترامها ، وجعل الإستخفاف بها وإهانتها موجبا للكفر والزندقة ، وأجار من إستجار بها ، وجعلها مثابة للناس وأمنا ، وحرّم إزعاج الحيوان في الحرم ، وحّرم قلع النبات والشجر فيه ، فكيف ستكون حرمة أوليائه عنده ؟ وما أعظم حرمة من خلق اللّه السماء والأرض والعرش والكرسي والدنيا والآخرة كلّها ببركتهم ؟

إذا كان حرمة الحرم الظاهري عظيمة الى هذا الحدّ ، فكيف ستكون حرمة الحرم الواقعي ، وهم محمد وآل محمد عليهم السلام الذين حرّم اللّه هذا الحرم لحرمتهم ؟

قطرة من بحار فضائل أهل البيت عليهم السلام

إستمع الى بعض مناقبهم وفضائلهم لتزداد معرفتك وبصيرتك فيهم :

ص: 62

روى سلاّر بن عبد العزيز الديلمي(1) بإسناده عن النبي صلى الله عليه و آله قال : لمّا عرج بي إلى السماء ، وعند سدرة المنتهى ودّعني جبرائيل عليه السلام ، فقلت له : في هذا المكان تفارقني ؟ فقال : إنّي لا أجوزه فتحرق أجنحتي ، ثم قال : زج بي في النور ما شاء اللّه ، وأوحى اللّه - تبارك وتعالى - إليّ : يا محمد ، إنّي إطلعت إلى الأرض إطلاعة فاخترتك منها ، فجعلتك نبيا ، ثم إطلعت ثانية فاخترت منها عليا ، وجعلته وصيك ووارثك ، ووارث علمك ، والإمام من بعدك ، وأخرج من أصلابكما الذرية الطاهرة ، والأئمة المعصومين خزّان علمي ، فلولاكم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ، ولا الجنّة ولا النار(2) .

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : دخلت يوما على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقلت : يا رسول اللّه أرني الحقّ حتى أنظر اليه ، فقال لي : يا ابن مسعود ألج المخدع ، فولجت

فرأيت علي بن أبي طالب راكعا ساجدا ، وهو يقول عقيب كلّ صلاة : اللّهم بحرمة محمد عبدك ورسولك إغفر للخاطئين من شيعتي .

قال ابن مسعود : فخرجت أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك فرأيته راكعا ساجدا ، وهو يقول : اللّهم بحرمة علي بن أبي طالب عبدك إغفر للعاصين من أمّتي .

قال ابن مسعود : فأخذني الهلع حتى غشي عليّ ، فرفع النبي رأسه فقال : يا ابن مسعود ، أكفرت بعد إيمانك ؟ فقلت : معاذ اللّه ، ولكنّي رأيت عليا يسأل اللّه تعالى

بك ، وتسأل اللّه - عزّ وجلّ - به ، ولا أدري أيّكما أفضل ؟ !

فقال النبي صلى الله عليه و آله : يا ابن مسعود ، إنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلقني وعلي والحسن والحسين من نور عظمته ، قبل الخلق بألف عام حين لا تسبيح ولا تقديس ، ففتقنوري ، فخلق منه السماوات ، وفتق نور علي ، فخلق منه العرش والكرسي ،

ص: 63


1- هو الحسن بن أبي الحسن علي بن محمد الديلمي صاحب « إرشاد القلوب » .
2- إرشاد القلوب : 2/415 باب فيه بعض قضاياه عليه السلام .

وعلي أجلّ من العرش والكرسي ، وفتق نور الحسن ، فخلق منه الجنان والحور والولدان ، والحسين أفضل منهم ، فاظلمت المشارق والمغارب ، فشكت الملائكة الى اللّه - عزّ وجلّ - الظلمة ، وقالت : اللّهم بحرمة هذه الأشباح التي خلقتهم إلاّ ما فرجت عنّا من هذه الظلمة .

فخلق اللّه روحا وقرنها بأخرى ، فخلق منها نورا ، ثم أضاءت الروح ، فخلق منها الزهراء ، فأضاءت منها المشارق والمغارب ، فمن ذلك سمّيت الزهراء .

يا ابن مسعود ، إذا كان يوم القيامة يقول اللّه - عزّ وجلّ - لي ولعلي : أدخلا الجنّة

من شئتما ، وأدخلا النار من شئتما ، وذلك قوله تعالى : « أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ » .

والكافر من جحد نبوتي ، والعنيد من عادى عليا وأهل بيته وشيعته(1) .

وروى الديلمي أيضا في إرشاد القلوب بإسناده عن أبي ذر رضى الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : إفتخر إسرافيل على جبرائيل ، فقال : أنا خير منك .

قال : ولم أنت خير منّي ؟

قال : لأنّي صاحب الثمانية حملة العرش ، وأنا صاحب النفخة في الصور ، وأنا أقرب الملائكة إلى اللّه - عزّ وجلّ - .

قال جبرائيل عليه السلام : أنا خير منك .

فقال : بما أنت خير منّي ؟

قال : لأنّي أمين اللّه - عزّ وجلّ - على وحيه ، وأنا رسوله إلى الأنبياء عليهم السلام ، وأنا صاحب الكسوف والخسوف ، وما أهلك اللّه - عزّ وجلّ - أمّة من الأمم إلاّ على يدي .

فاختصما إلى اللّه - جلّ وعلا - فأوحى اللّه - عزّ وجلّ - إليهما : أن اسكتا فوعزتيوجلالي ، لقد خلقت من هو خير منكما .

ص: 64


1- المنتخب للطريحي : 295/2 المجلس الثامن في نزول سورة « هل أتى » .

قالا : يا ربّ ، أو تخلق من هو خير منّا ونحن خلقنا من نور اللّه - عزّ وجلّ - ؟

قال اللّه تبارك وتعالى : نعم ، وأومأ إلى القدرة أن انكشفي فانكشفت ، فإذا على ساق العرش الأيمن مكتوب : « لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام أحباء اللّه » .

فقال جبرائيل عليه السلام : يا ربّ ، فإنّي أسألك بحقّهم عليك إلاّ جعلتني خادمهم .

قال اللّه تبارك وتعالى : قد فعلت ، فجبرائيل عليه السلام من أهل البيت ، وإنّه لخادمنا(1) .

جبرئيل الأمين عليه السلام خادم أهل البيت عليهم السلام

أجل ، جبرئيل الأمين كان خادما لأهل البيت ، ولهذا تجده دائما يخدمهم في بيوتهم ، ويقف معهم في مصاعب الحياة ، ويعين فاطمة الزهراء عليهاالسلام كرارا ، ويخدمها في بيتها .

أما سمعت حديث أم أيمن حيث قالت :

مضيت ذات يوم إلى منزل مولاتي فاطمة الزهراء عليهاالسلام لأزورها في منزلها ، وكان يوما حارا من أيام الصيف ، فأتيت إلى باب دارها ، وإذا بالباب مغلق ، فنظرت من شقوق الباب ، فإذ بفاطمة الزهراء عليهاالسلام نائمة عند الرحى ، ورأيت الرحى تطحن البر ، وهي تدور من غير يد تديرها ، والمهد أيضا إلى جانبها ، والحسين عليه السلام نائم فيه ، والمهد يهتز ولم أر من يهزه ، ورأيت كفّا يسبح اللّه تعالى قريبا من كفّ فاطمة

الزهراء عليهاالسلام .

قالت أم أيمن : فتعجبت من ذلك ، فتركتها ومضيت إلى سيدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ،وسلّمت عليه وقلت له : يا رسول اللّه ، إنّي رأيت عجبا ما رأيت مثله أبدا ، فقال

ص: 65


1- إرشاد القلوب : 2/403 باب فيه بعض قضاياه عليه السلام .

لي : ما رأيت يا أم أيمن ؟

فقلت : إنّي قصدت منزل سيدتي فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، فلقيت الباب مغلقا ، وإذا أنا بالرحى تطحن البر ، وهي تدور من غير يد تديرها ، ورأيت مهد الحسين عليه السلام يهتزّ من غير يد تهزّه ، ورأيت كفّا يسبح اللّه تعالى قريبا من كفّ فاطمة عليهاالسلام ولم أر شخصه ، فتعجبت من ذلك يا سيدي !

فقال : يا أم أيمن ، إعلمي أنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام صائمة ، وهي متعبة جائعة ، والزمان قيظ ، فألقى اللّه تعالى عليها النعاس فنامت ، فسبحان من لا ينام ، فوكّل اللّه

ملكا يطحن عنها قوت عيالها ، وأرسل اللّه ملكا آخر يهزّ مهد ولدها الحسين عليه السلام لئلا يزعجها من نومها ، ووكّل اللّه ملكا آخر يسبح اللّه - عزّ وجلّ - قريبا من كفّ فاطمة يكون ثواب تسبيحه لها ، لأنّ فاطمة لم تفتر عن ذكر اللّه ، فإذا نامت جعل اللّه ثواب تسبيح ذلك الملك لفاطمة .

فقلت : يا رسول اللّه أخبرني من يكون الطحان ؟ ومن الذي يهزّ مهد الحسين ويناغيه ؟ ومن المسبح ؟

فتبسّم النبي صلى الله عليه و آله ضاحكا وقال : أمّا الطحّان فجبرئيل ، وأمّا الذي يهزّ مهد الحسين فهو ميكائيل ، وأمّا الملك المسبّح فهو إسرافيل(1) .

وروي أيضا : إنّ جبرئيل عليه السلام نزل يوما فوجد الزهراء عليهاالسلام نائمة ، والحسين في مهده يبكي ، فجعل يناغيه ويسليه حتى استيقظت ، فسمعت صوت من يناغيه ، فالتفتت فلم تر أحدا ، فأخبرها النبي صلى الله عليه و آله أنّه كان جبرئيل(2) .

وكان ممّا ناغاه به جبرئيل :

إنّ في الجنّة نهرا من عسل

لعلي وحسين وحسن

ص: 66


1- بحار الأنوار : 37/97 باب 50 .
2- بحار الأنوار : 44/187 باب 25 .

كلّ من كان محبّا لهم

يدخل الجنّة من غير حزن

صرخة جبرئيل عليه السلام يوم عاشوراء

لم تطق الملائكة سماع بكاء الحسين عليه السلام وهو في المهد ، فكيف كان حالهم وهم يسمعون أنين المظلوم ، ويرون دموعه كأنّها عندم ، ويسمعون آهاته ، ويرونه يتنفس الصعداء ، وهو يستغيث :

ألا رحيم لوجه اللّه يرحمنا ! ألا رؤوف بنا راج يواسينا !

فأين كان خادمه جبرئيل الذي كان يناغيه في المهد ؟ يأتيه هذه الساعة ليسعى في شأن مخدومه ، فيصيح صيحة تهلك القوم ، وتقلب الأرض على من فيها . وإن لم يكن مأمورا بإنزال العذاب على أولئك المنكوسين ، لأنّ اللّه قد أخّر عذابهم الى يوم

القيامة ، ولكنّه لا شكّ قد تمزّق قلبه لمصاب مخدومه ، وتقرّح صدره ، وجرت دموعه دما ، وهو ينادي مفجوعا حائرا : وا حسيناه !

أما سمعت ما رواه ابن قولويه عن الصادق عليه السلام قال :

إنّ الحسين عليه السلام لمّا قتل أتاهم آت ، وهم في العسكر ، فصرخ فزبر ، فقال لهم : وكيف لا أصرخ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله قائم ينظر إلى الأرض مرّة وإلى حزبكم مرّة ، وأنا أخاف أن يدعو اللّه على أهل الأرض ، فأهلك فيهم .

فقال بعضهم لبعض : هذا إنسان مجنون .

فقال التوابون : يا للّه ، تاللّه ، ما صنعنا لأنفسنا ؟ قتلنا لابن سمية سيد شباب أهل الجنّة ؟ !

قال الراوي : فقلت له : جعلت فداك ، من هذا الصارخ ؟

قال : ما نراه إلاّ جبرئيل عليه السلام ، أما إنّه لو أذن له فيهم لصاح بهم صيحة يخطف به

ص: 67

أرواحهم من أبدانهم إلى النار ، ولكن أمهل لهم ليزدادوا إثما ، ولهم عذاب أليم(1) .

يا نكبة لبس الدين القديم له

سود الحداد وغاض العلم والعمل

وقدحة أورثت في قلب فاطمة

رزء عظيما وجرحا ليس يندمل

وا حسرتاه على ثار جريح حشا

تسفي على جسمه النكباء والشمل

وا حسرتاه على عار وقد نسجت

عليه بالطف من ريح الصبا حلل

ملقى ثلاثا بلا غسل ولا كفن

ترب الفلا والدما الأكفان والغسل

يسرى بنسوته أسرى بلا وطاء

فوق المطي ولم يضرب لها كلل

مسبية مثل سبي الترك قد سلبت

منها القلائد والأسوار والحجل

سواجعا كحمام الأيك نادبة

ينهد من شجوهن الصخر والجبل

وزينب بين ذاك السبي حاسرة

لها على حزنها ندب ومرتجل

تقول أيا شمس أيامي ويا قمري

إذا إكفهر عليّ الحادث الجلل

يا غائبا ليس يرجى عوده أبدا

ولا به بعد هذا الفصل متّصل

ويا طريحا جريحا لا دواء له

كيف الدواء ومنه الرأس منفصل

ظننت أنّك كهفي أستجير به

من الزمان فخاب الظنّ والأمل

يا أمّ قومي الى ليث غدا دمه

تعلّ وحش الفلا منه وتنتهل

أمّا بناتك يا أمّاه قد حملت

أسرى وأمّا بنوك الغرّ قد قتلوا

مصيبة ما أعظمها !

ما أعظم هذه المصيبة يا عزيزي ، مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في السموات والأرض ، مصيبة ابن مكة ومنى ، مصيبة ابن زمزم والصفا ، مصيبة ابن الركن والمقام والمشعر الحرام ، مصيبة فخر الكائنات ، وعلّة الممكنات ، وزينة السموات ،

ص: 68


1- كامل الزيارات : 336 الباب 108 ح14 ، بحار الأنوار : 45/173 ح21 .

وسبب نزول البركات والرحمات .

لا معصية بعد الشرك وتوابعه أعظم من سفك الدم بغير الحقّ ، وكم وردت الآيات والروايات في تأكيد عذابه وعظم معصيته ، ما لم يرد في غيره من المعاصي ، حتى قال الباري عزّ وجلّ : « مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأْرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً » .

وقال النبي صلى الله عليه و آله : لو أنّ أهل السموات وأهل الأرض إجتمعوا فشركوا في دم إمرى ء مسلم ورضوا به لأكبّهم اللّه على مناخرهم في النار(1) .

فإذا كان هذا كلّه لقتل مسلم ، فما أعظم قتل مثل سيد الشهداء عليه السلام ، وهو إمام المسلمين ، وإمام المؤمنين ، وسيد المتّقين ، ومقتدى الموحّدين ، وعماد السموات والأرضين ، وغاية خلق هذه وتلك ، ومركز دائرة العلم والعرفان واليقين ، وشمس العالمين ، ومصباح الأبرار ، ومفتاح الأسرار ، وسفينة النجاة لجميع الكائنات ، وزورق الحياة لكلّ الممكنات ، وغصن شجرة النبوة المباركة ، وركن الإمامة المعظمة .

معارف في البرايا عارفون بها

هادون والغير جهال مجاهيل

وراحتا الدهر من فضفاض جودهم

مملوّتان وما للفيض تعطيل

طائفة أخرى من فضائل أهل البيت عليهم السلام

أجل ، فإنّ قوام الدهر ، ووجود الدهر ، وبقاء الدهر بهم ، « بكم فتح اللّه وبكم يختم » .

أنتم أول من لبس خلعت الوجود ، وأول من صوّركم مصوّر الأزل ، فأبدعكم في أحسن تقويم ، بل إنّ كلّ فيض ، وكلّ عطاء يفيض من الفيّاض المطلق إنّما يفتتح

ص: 69


1- بحار الأنوار : 104/383 ح3 .

بكم ، وبكم يقوم ، وبكم يختم ، « وبكم ينزّل الغيث ، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه »(1) .

روي في إرشاد القلوب عن النبي صلى الله عليه و آله قال : نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد من عباد اللّه ، ومن والانا وإئتم بنا ، وقبل منّا ما أوحي إلينا ، وعلمّناه إياه ، وأطاع اللّه فينا ، فقد والى اللّه (2) .

وروى سماعة قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : يا سماعة ، إذا كان لك حاجة إلى اللّه فقل : اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمد وعليّ ، فإنّ لهما عندك شأنا من الشأن ، وقدرا من

القدر ، فبحقّ ذلك الشأن ، وبحقّ ذلك القدر ، أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تفعل بي كذا وكذا ، فإنّه إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرّب ولا نبي مرسل ، ولا

مؤن إمتحن اللّه قلبه للإيمان ، إلاّ وهو محتاج إليهما في ذلك(3) .

وكيف لا يحتاجونهم وبأيديهم مفاتيح الجنّة والنار ، وحساب الخلق اليهم(4) ، لا يدخل الجنّة إلاّ من كان معه براءة بحبّ محمد وآل محمد(5) عليهم السلام ، والجنّة

حرام على أصحابها حتى يدخلها محمد وآل محمد عليهم السلام ، « وشيعتهم عن بين أيديهم وعن شمائلهم » .

فهم سلاطين الدنيا والآخرة ، وإنّما خلقت الدنيا والآخرة لهم ، يتصرّفون بهما كما يشاؤون بإذن اللّه تعالى ، ولا يتصرّف بها أحد سوى شيعتهم ، لأنّهم عبيدهموأولياؤهم ، والعبد الأمين المطيع يحقّ له أن يتصرّف في ملك سيّده .

وإذا استصعب البعض ما قلناه ، فإستمع الى ما سنلقيه عليك لتعرف دليله :روى المفضل بن عمر في قوله تعالى « إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ » قال :

ص: 70


1- زيارة الجامعة الكبيرة ، بحار الأنوار : 99/131 .
2- بحار الأنوار : 65/45 باب 15
3- إرشاد القلوب : 2/426 ، دعوات الراوندي : 51 ح127 ، بحار الأنوار : 8/59 ح81 .
4- مشارق أنوار اليقين : 188 و335 .
5- انظر بشارة المصطفى : 178 .

قال أبو عبد اللّه عليه السلام : من تراهم ؟ نحن واللّه هم ، إلينا يرجعون ، وعلينا يعرضون ، وعندنا يقضون ، وعن حبّنا يسألون(1) .

وروى الشيخ الصدوق في أماليه عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الأْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ لِفَصْلِ الْخِطَابِ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ، وَدُعِيَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام ، فَيُكْسَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله حُلَّةً خَضْرَاءَ تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَيُكْسَى عَلِيٌّ عليه السلام مِثْلَهَا ، وَيُكْسَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله حُلَّةً وَرْدِيَّةً يُضِيءُ لَهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَيُكْسَى عَلِيٌّ عليه السلام مِثْلَهَا ، ثُمَّ يَصْعَدَانِ عِنْدَهَا .

ثُمَّ يُدْعَى بِنَا ، فَيُدْفَعُ إِلَيْنَا حِسَابُ النَّاسِ ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ نُدْخِلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ .

ثُمَّ يُدْعَى بِالنَّبِيِّينَ عليهم السلام ، فَيُقَامُونَ صَفَّيْنِ عِنْدَ عَرْشِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - حَتَّى نَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ .

فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ، بَعَثَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلِيّاً عليه السلام ، فَأَنْزَلَهُمْ

مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَزَوَّجَهُمْ ، فَعَلِيٌّ وَاللَّهِ الَّذِي يُزَوِّجُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَمَا ذَاكَ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ - عَزَّ ذِكْرُهُ - ، وَفَضْلاً فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ وَاللَّهِ يُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ ، وَهُوَ الَّذِي يُغْلِقُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوا فِيهَا أَبْوَابَهَا ، لأَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ إِلَيْهِ ، وَأَبْوَابَ النَّارِ إِلَيْهِ(2) .

إنّك ما عرفت منزلة محمد وآل محمد عليهم السلام ، وما أدركت مقامهم وعظمتهم ، ولهذا تستوحش من سماع أمثال هذه النعوت والأوصاف ، لأنّك لم تعرف جلالتهم ، فتستبعد هذا الأمر البسيط ، إنّهم الأسرار الإلهية ، والأنوار الربانية ، والشموس الطالعة ، والأقمار المنيرة ، والنجوم المضيئة .إنّهم معدن العلوم والمعارف ، وخزائن الكمالات والعوارف ، حارت عقول

ص: 71


1- مشارق أنوار اليقين تحقيق سيد علي جمال أشرف : 335 ، بحار الأنوار : 24/272 باب 63 ح53 .
2- الكافي : 8/159 حديث الناس يوم القيامة ح154 .

العقلاء ، وتاه فهم الحكماء ، وضلّ إدراك العرفاء في إدراك مراتب جلالهم ، وقدرهم ومقامهم ، وعجز عن بيان أقلّ القليل من الكثير الكثير من شأن من شؤونهم ، ونعت من نعوتهم ، أقلام الأدباء ، وألسنة الفصحاء ، وبلاغة البلغاء .

كيف لا يكون كذلك وصادق آل محمد عليهم السلام يقول : إنّ الذي ظهر للملائكة المقرّبين من معرفة آل محمد قليل من كثير لا يحصى(1) .

فإذا كان الملائكة ، وهم سكان صوامع الملكوت ، وربائب حظائر الجبروت ، ومستوطنوا محال القدس ، ومجاوروا محافل الأنس ، قاصرين عن إدراك حقيقتهم ، وعاجزين عن التوصل الى فضائلهم ، فأنّى لهذه العقول تمنّي ذلك ؟ وأنّى لمن تنازعهم الشهوات والأهواء أن ينالوا ذلك المقام ؟

أما رأيت كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ؟ وهو يشرح أوصاف الإمام في خطبة طويلة ، فيقول : ظاهره أمر لا يملك ، وباطنه غيب لا يدرك ، واحد دهره ، وخليفة اللّه في نهيه وأمره ، لا يوجد له مثيل ، ولا يقوم له بديل ، فمن ذا ينال معرفتنا ؟ أو يعرف درجتنا ؟ أو يشهد كرامتنا ؟ أو يدرك منزلتنا ؟ حارت الألباب والعقول ، وتاهت الأفهام فيما أقول . . .

ويقول عليه السلام في نفس الخطبة : هل يعرف أو يوصف أو يعلم أو يفهم أو يدرك أو يملك من هو شعاع جلال الكبرياء ، وشرف الأرض والسماء ؟ جلّ مقام آل محمد صلى الله عليه و آله عن وصف الواصفين ، ونعت الناعتين ، وأن يقاس بهم أحد من العالمين .

ويقول عليه السلام : فما آية للّه أكبر منهم ، فهم آية من دونها كلّ آية ، وما من نعمة إلاّ وهم أولياؤها ، فهم نعمة منها أتت كلّ نعمة(2) .

بكاء الكائنات على الإمام الحسين عليه السلام

ص: 72


1- مشارق أنوار اليقين : 298 .
2- مشارق أنوار اليقين : 178 ، بحار الأنوار : 25/169 باب 4 بأدنى تفاوت .

فإذا كان الجليل ينزّل عذابه على أهل السموات والأرض لقتل مسلم من المسلمين ، فكيف بقتل من سمعت شيئا قليلاً من فضائله ومناقبه ؟

بل وكيف إذا قتل قتلة لم يقتل بها قبله ولا بعده أحد من العالمين ؟

اللّه أكبر ما أعظم رزيته ! كيف لا ! وقد قال الصادق عليه السلام لزرارة رحمه الله : يا زرارة إنّ السماء بكت على الحسين عليه السلام أربعين صباحا بالدم ، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحا بالسواد ، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف والحمرة ، وإنّ الجبال تقطّعت وانتثرت ، وإنّ البحار تفجّرت ، وإنّ الملائكة بكت أربعين يوما على الحسين عليه السلام .

وما اختضبت منّا امرأة ، ولا إدهنت ، ولا إكتحلت ، ولا رجّلت حتى أتانا رأس عبيد اللّه بن زياد .

وما زلنا في عبرة بعده ، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته ، وحتى يبكي لبكائه - رحمة له - من رآه ، وإنّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون ، فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء من الملائكة(1) .

أي واللّه ليس عجيبا أن تبكي السماء والأرض ، والشمس والقمر ، بل العجيب أن لا تسقط السماء على الأرض كسفا ، وأن تتقطع الأرض قطعا ، وأن لا يتناثر الكون !

هل لا زالت الشمس تدور بين الأفقين ، فتطلع وتغرب ؟ ولا زال القمر يلفع الأرض بنوره ؟ ولا زالت النجوم تبعث بضوئها وتومض ببريقها ؟

هل لا زال الكون قائما ، وروح العالم فقد روحه ؟ وعماد السماوات والأرضمرمّل بالدماء ؟ وسفينة نجاة العصاة أغرقت في أمواج الدماء ؟ وزورق حياة

ص: 73


1- كامل الزيارات : 80 الباب 26 ، بحار الأنوار : 45/206 ح13 .

الكائنات عصفت به رياح الأدعياء ، وإنكسفت شمس فلك الإمامة من جنايات الظلم والجفاء ، وإنخسف بدر فلك العصمة وغاب في الدم والتراب من ضربات السيوف ، وطعنات الأسنة والرماح .

أذلّوا عزيز اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ، وأتربوا الخدّ الذي نما وترعرع على صدر البتول الطاهرة عليهاالسلام ، وأذبلوا زهرة ربيع روضة علي المرتضى عليه السلام ، وقطعوا برعم مروج « لا فتى » ، وإجتثوا نخلة ساحات « هل أتى » بمناجل الجفاء والإعتداء .

آه . . يا ربّاه ، أيتموا الشيعة حينما قتلوا أباهم ، وذبحوا سيد المؤمنين ، وهدموا ملجأ المساكين .

يا أرض زولي يا جبال تدكدكي

وتشعبي بتصدّع لا يشعب

يا سحب جفّي يا بحار تنضّبي

فلمثل هذا الخطب ماؤك ينضب

بل يا سماء تزعزعي واستعبري

فلمثل هذا الرزء دمعك يهضب

قتل ابن أحمد والوصي فيا له

من فادح منه الفوادح تعجب

هتك وسفك للدماء وللدماء

وعقائل تسبى وتلك تسلّب

لهفي له بالترب عار بالعرا

تكسوه من نسج الغبار الأزيب

لهفي له رهن المنية مفردا

تدعوه من فرط المصيبة زينب

أخي طيب العيش بعدك لم يكن

يحلو ولا ماء المشارب يعذب

أأخي بعدك لا بقيت وقلّما

نفس عليك من التحسّر تذهب

قد كنت نورا في البريّة للهدى

فدهاه من ليل الظلامة غيهب

يا راكبا من فوق ظهر عرندس

إهبط متى لاحت لهيبك يثرب

وانع الحسين الى البتول وقف على

قبر الرسول وقل ودمعك يسكب

أمحمد المختار إنّ أمية

هدموا بيوتك عامدين وخرّبوا

وتقصّدوا بالقتل آلك بعد ما

أضحى تراثهم يحاز ويغصب

أمسى حسينك يا رسول اللّه في

وطى ء الخيول على الثرى يتقلّب

ص: 74

سيدي أبا عبد اللّه ، بأبي أنت وأمي ، بل آباء الشيعة وأمهاتهم فداء لمظلمويتك وغربتك ، سيدي أبا عبد اللّه :

وبناتك الخفرات أضحت بعده

بالسلب والضرب العنيف تعذّب

بكاء المخلوقات على الإمام الحسين عليه السلام

لا أدري كيف يفرح أحباؤه من بعده ؟ كيف يضحكون ويمرحون وفي مجالس الأنس يجتمعون ؟ كيف يهنأون بلذيذ الطعام ويشتهونه ؟ بأيّ عذر يلبسون الرياش ويرتدون الملابس الفاخرة ؟

عجبا لهم لماذا لا يبكون بدل الدموع دما ، ولا يحترقون بزفراتهم ؟ لماذا لا يلبسون المسوح وملابس الحداد طيلة أعمارهم ؟

أقسم باللّه أن لو قضوا حياتهم في مأتم العزاء ، بل حوّلوا الدنيا كلّها الى مجلس نياحة وبكاء ، وألقوا على رؤوسهم الرماد ، ما كان لأحد أن يلومهم . بل ليت ثمة عالما أوسع من هذا العالم ، وأنّ ثمة عمرا أطول من عمر هذه الدنيا لتتهيأ الفرصة أكثر للبكاء والنياحة وإقامة العزاء على هذه المصيبة العظمى .

إنّك إن لم تعطي هذه المصيبة حقّها ، ولم تتحمّل حمل لواء مأتمها ، وترفع خيمة عزائها ، فعليك أن تعلم أنّ سكان صوامع الملكوت ، وقطاة حظائر الجبروت ، أقاموها حقّ إقامتها ، إنّهم يصرخون ويضجون ويندبون ، ولو سمع أهل الأرض صيحة واحدة من صيحاتهم لذهلوا .

ولو أنّك لم تقم مجلس عزائه حقّ الإقامة ، فإنّ معاشر الجنّ أقاموه ، ولو أنّك لم تبكي حقّ البكاء ، ولم تنح حقّ النياحة ، فإنّ الطيور والوحوش بكته حقّ البكاء ، وناحت عليه حقّ النياحة .وإذا بخلت بدموعك المالحة ، فإنّ السماء والأرض بكته دما جرى من عيونها .

روى ابن بابويه بإسناده عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام

ص: 75

قال : إنّ الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام دخل يوما إلى الحسن عليه السلام ، فلمّا نظر إليه بكى ، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبد اللّه ؟ قال : أبكي لما يصنع بك .

فقال له الحسن عليه السلام : إنّ الذي يؤى إليّ سمّ يدسّ إليّ ، فأقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدعون أنّهم من أمّة جدّنا محمد صلى الله عليه و آله ، وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك .

فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء رمادا ودما ، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار(1) .

ثواب البكاء على الإمام الحسين عليه السلام

روى الشيخ الكشي عن زيد الشحام قال : كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، ونحن جماعة من الكوفيين ، فدخل جعفر بن عفان على أبي عبد اللّه عليه السلام ، فقرّبه وأدناه ، ثم قال : يا جعفر ، قال : لبّيك جعلني اللّه فداك ، قال : بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتجيد ؟ فقال له : نعم ، جعلني اللّه فداك ، قال : قل . فأنشده صلّى اللّه عليه ، فبكى ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته .

ثم قال : يا جعفر ، واللّه لقد شهدت ملائكة اللّه المقرّبون ها هنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام ، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ، ولقد أوجب اللّه - تعالى - لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها ، وغفر اللّه لك ، فقال : يا جعفر ، ألا أزيدك ؟ قال : نعم ، يا سيّدي .قال : ما من أحد قال في الحسين عليه السلام شعرا ، فبكى وأبكى به إلاّ أوجب اللّه له الجنّة ، وغفر له(2) .

ص: 76


1- أمالي الصدوق : 115 م24 ، المناقب : 4/86 ، اللهوف : 25 ، البحار : 45/18 ح44 .
2- رجال الكشي : 289 رقم 508 ، بحار الأنوار : 44/282 باب 34 ح16 .

وروى ابن قولويه عن أبي هارون المكفوف قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل له : ومن ذكر الحسين عليه السلام عنده ، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه - عزّ وجلّ - ، ولم يرض له بدون الجنّة(1) .

أجل ، ما أعظم ثواب من يقيم مأتمه ، وما أجلّ أجره ، فإذا كنت تطمع في ثواب اللّه فإبكي في مصاب رزية أوليائه ، وإن كنت تدّعي محبّتهم فأذل مدامعك في مصيبة محبوبك ، وحرّر الشهقات والزفرات من أعماق صدرك .

أيم اللّه لو أنّ الناس سمعوا أنّ مسلما طرد من وطنه من غير جرم ، وشرّد في الصحاري والقفار ، وأنزل على غير ماء وكلاء ، وقتلوا أصحابه ، وذبحوا أطفاله ، وأسروا نساءه ، فإنّ قلوبهم تحترق ، وأكبادهم تتفتت ، لهذا المسلم المظلوم ، فكيف إذا كان هذا كلّه جرى وأكثر ، على فلذة كبد فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، فهل يتمالك بعد ذلك ، ويمسك دمعه ؟

إذا أردت أن تسمع مجملاً عمّا جرى على الإمام العظيم عليه السلام ، دونما مبالغات ، ولا إغراق ولا أكاذيب ، فإستمع الى ما سألقيه عليك ، لتعلم ما وقع عليه من الظلم ، وما جرى عليه من الأحداث ، وكيف ضيّقوا عليه حتى أخرجوه من حرم اللّه ، ومن حرم جدّه ، مكرها مضطرا .

ورود الإمام الحسين عليه السلام مكة

روى الشيخ المفيد في إرشاده : ولمّا دخل الحسين عليه السلام مكة كان دخوله إليها ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، دخلها وهو يقرأ « وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسىرَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ » .

ثم نزلها ، وأقبل أهلها يختلفون إليه ، ومن كان بها من المعتمرين ، وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة ، فهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي

ص: 77


1- كامل الزيارات : 100 الباب 32 ح3 .

الحسين عليه السلام فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كلّ يومين مرّة ، وهو أثقل خلق اللّه على ابن الزبير ، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين عليه السلام في البلد ، وأنّ الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ .

وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ، فارجفوا بيزيد ، وعرفوا خبر الحسين عليه السلام ، وامتناعه من بيعته ، وما كان من ابن الزبير في ذلك ، وخروجهما إلى مكة .

فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد ، فذكروا هلاك معاوية ، فحمدوا اللّه عليه ، فقال سليمان : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسينا قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ، ومجاهدوا عدوّه فأعلموه ، وإن خفتم الفشل والوهن ، فلا تغرّوا الرجل في نفسه ، قالوا : لا بل نقاتل عدوّه ، ونقتل أنفسنا دونه .

قال : فكتبوا : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي عليهماالسلام من سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤنين والمسلمين من أهل الكوفة ، سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو .

أمّا بعد ، فالحمد للّه الذي قصم عدوّك الجبار العنيد ، الذي انتزى على هذه الأمّة ، فابتزها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال اللّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعدا له كما بعدت ثمود ، إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ اللّه أن يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجمع معه في جمعه ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء اللّه .

ثم سرّحوا الكتاب مع عبد اللّه بن مسمع الهمداني ، وعبد اللّه بن وال ، وأمروهما بالنجاء ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان .

ص: 78

ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب ، وانفذوا قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي ، وعمارة بن عبد السلولي إلى الحسين عليه السلام ، ومعهم نحو من مائة وخمسين صحيفة من الرجل والإثنين والأربعة .

ثم لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي ، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ، وكتبوا إليه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم للحسين بن علي من شيعته من المؤنين والمسلمين .

أمّا بعد ، فحيّ هلا ، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثم العجل العجل ، والسلام(1) .

وقال السيد ابن طاووس : وهو عليه السلام مع ذلك يتأبّى ولا يجيبهم ، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب ، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب(2) .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله : ثم كتب شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمر بن حجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمرو التيمي :

أمّا بعد ، فقد أخضرّ الجنات ، وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته(3) .معاشر الشيعة ، إنّ أكثر هؤلاء الأشخاص الذين كاتبوا الإمام عليه السلام ، حاربوه في كربلاء ، كاتبوه أولاً حتى إذا أخرجوه من أرضه ودياره عدو عليه قبل أن يصل

ص: 79


1- الإرشاد : 2/36 .
2- اللهوف : 32 المسلك الأول ، بحار الأنوار : 44/334 باب 37 .
3- بحار الأنوار : 44/334 باب 37 .

الى ديارهم فسلّوا سيوفهم في وجهه ، وشرعوا الرماح في نحره ، وخرجوا الى قتاله .

إنّ أكثر هؤلاء الأشرار الذين كتبوا له : فقد أخضرت الجنات ، وأينعت الثمار ، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة ، كانوا من أمراء عسكر ابن سعد ، منهم عمرو ابن الحجاج الذي كان على ميمنة عمر بن سعد ، وفي رواية ابن شهرآشوب : أنّه وأبا الأعور السلمي كانوا على أربعة آلاف على الشريعة لمنع الحسين عليه السلام وأصحابه عن الماء ، فلمّا حمل العباس على الفرات ليستقي الماء أحاطوا به وقتلوه ، ولمّا حمل سيد الشهداء عليه السلام وقصد الفرات ، قاتلوه ومنعوه من شرب الماء(1) .

وكان عروة بن قيس من أمراء عسكر ابن سعد ، وكان شبث بن ربعي على الرجالة الذين رموا المولى بالنبال والحجارة .

أجل ، كانت هذه الرماح والنبال والسيوف ، هي الثمار اليانعة التي أتحفوا بها المظلوم .

يا أمّة باءت بقتل هداتها

أفمن الى قتل الهداة هداك

بئس الجزاء لأحمد في آله

وبنيه يوم الطف كان جزاك

جواب الإمام الحسين عليه السلام على كتب الكوفيين

قال الشيخ المفيد رحمه الله : وتلاقت الرسل كلّها عنده ، فقرأ الكتب ، وسأل الرسل عن الناس ، ثم كتب مع هانئ بن هانئ ، وسعيد بن عبد اللّه ، وكانا آخر الرسل :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المسلمين والمؤنين .

أمّا بعد، فإنّ هانئا وسعيدا قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم،

ص: 80


1- في المناقب : 4/58 فصل في آياته بعد وفاته عليه السلام : وروى أبو مخنف عن الجلودي أنّ الحسين حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة ، وأقحم الفرس على الفرات . . .

وقد فهمت كلّ الذي إقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم : إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ ، وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي ، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ، وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، أقدم عليكم وشيكا إن شاء اللّه .

فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات اللّه ، والسلام .

خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة

ودعا الحسين بن علي عليهماالسلام مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام ، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي ، وأمره بتقوى اللّه ، وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك(1) .

ثم لبث الحسين عليه السلام في مكة مدّة حتى خرج منها يوم التروية الثامن من ذي الحجة(2) .

يقول المؤلف : فيما يخصّ خروج الإمام عليه السلام من مكة فقد سمعت بالكتب التي أرسلها الكوفيون ، يتلو بعضها بعضا ، ومن جهة أخرى تجمع الناس على باب الإمام عليه السلام في مكة ، وكان أشقياء بني أمية يدبّرون لقتله عليه السلام غيلة ، ممّا إضطرالإمام عليه السلام للخروج من مكة متوجها نحو العراق(3) .

ص: 81


1- الإرشاد : 2/39 .
2- في الإرشاد : 2/66 : وكان توجه الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة ، وهو يوم التروية ، بعد مقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين . .
3- في بحار الأنوار : 45/98 : « قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنّه عليه السلام هرب من المدينة خوفا من القتلإلى مكة ، وكذا خرج من مكة بعد ما غلب على ظنّه أنّهم يريدون غيلته وقتله حتى لم يتيسر له فداه نفسي وأبي وأمي وولدي أن يتمّ حجّه ، فتحلّل وخرج مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ، وقد كانوا - لعنهم اللّه - ضيقوا عليه جميع الأقطار ، ولم يتركوا له موضعا للفرار . ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة . . . » ، ثم ذكر ما في المنتخب من التدبير لإغتيال الإمام الحسين عليه السلام .

روي أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص(1) في عسكر عظيم ، وولاّه أمر الموسم ، وأمّره على الحاج كلّهم ، وكان قد أوصاه بقبض الحسين عليه السلام سرّا ، وإن لم يتمكّن منه بقتله غيلة ، ثم إنّه دسّ مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلاً من

شياطين بني أمية ، وأمرهم بقتل الحسين عليه السلام على أيّ حال إتفق ، فلمّا علم الحسين عليه السلام بذلك حلّ من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة(2) .

قال زرارة بن صالح : لقينا الحسين بن علي عليهماالسلام قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام ، فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ، ففتحت أبواب السماء ، ونزلت الملائكة عددا لا يحصيهم إلاّ اللّه تعالى ، فقال عليه السلام : لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤاء ، ولكن أعلم يقينا أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي(3) .

كلام الإمام الحسين عليه السلام مع محمد بن الحنفية

إنّ محمد بن الحنفية لمّا بلغه الخبر أنّ أخاه الحسين خارج من مكة يريد العراق ، كان بين يديه طشت فيه ماء ، وهو يتوضأ ، فجعل يبكي بكاءا شديدا حتى سمع وكف دموعه في الطشت مثل المطر .

ثم إنّه صلّى المغرب ، ثم سار الى أخيه الحسين ، فلمّا صار اليه قال له : يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك ، وإنّي أخشىعليك أن تكون حالك كحال من مضى من قبلك ، فإن أطعت رأيي قم بمكة ، وكن

ص: 82


1- في المتن : « عمر بن سعد بن أبي العاص » .
2- المنتخب : 2/424 ، بحار الأنوار : 45/98 .
3- اللهوف : 66 ، دلائل الإمامة : 74 ، وفيهما : « زارة بن جلح » ، بحار الأنوار : 44/363 . باب 37 .

أعزّ من في الحرم المشرف .

فقال : يا أخي إنّي أخشى أن تغتالني أجناد بني أمية في حرم مكة ، فأكون كالذي يستباح دمه في حرم اللّه ، فقال : يا أخي فسر الى اليمن فإنّك أمنع الناس به .

فقال الحسين عليه السلام : واللّه يا أخي لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لإستخرجوني منه حتى يقتلوني ، ثم قال : يا أخي سأنظر فيما قلت .

فلمّا كان وقت السحر عزم الحسين عليه السلام على الرحيل الى العراق ، فجاءه أخوه محمد بن الحنفية ، وأخذ بزمام ناقته التي هو راكبها ، وقال : يا أخي ألم تعدني النظر فيما أشرت به عليك ؟ فقال : بلى ، قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟

فقال : يا أخي إنّ جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله أتاني بعدما فارقتك ، وأنا نائم ، فضمّني الى صدره ، وقبّل ما بين عيني وقال : يا حسين يا قرّة عيني أخرج الى العراق ، فإنّ اللّه - عزّ وجلّ - قد شاء أن يراك قتيلاً مخضبا بدمائك .

فبكى ابن الحنفية بكاءا شديدا ، وقال له : يا أخي إذا كان الحال هكذا فما معنى حملك هذه النسوة ، وأنت ماض الى القتل ؟

فقال : يا أخي ، قد قال لي جدّي أيضا : إنّ اللّه - عزّ وجلّ - قد شاء أن يراهم سبايا مهتكات يسقن في أسر الذلّ ، وهن أيضا لا يفارقنني ما دمت حيّا .

فبكى ابن الحنفية بكاءا شديدا وجعل يقول : أودعتك اللّه يا حسين ، في وداعة اللّه يا حسين(1) .

خطبة الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجه من مكة

روى السيد ابن طاووس رحمه الله قال : إنّه عليه السلام لمّا عزم على الخروج إلى العراق قامخطيبا فقال :

ص: 83


1- المنتخب : 2/424 المجلس التاسع ، وانظر اللهوف : 127 ، بحار الأنوار : 44/364 .

الحمد للّه ، وما شاء اللّه ، ولا قوّة إلاّ باللّه ، وصلّى اللّه على رسوله ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي ، إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضى اللّه رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجر الصابرين ، لن تشذّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطنا على لقاء اللّه نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّني راحل مصبحا إن شاء اللّه تعالى(1) .

كلام الإمام الحسين عليه السلام مع ابن عباس

ثم جاء ابن عباس الى ابن زبدة الناس وقال له : يا ابن رسول ، أمسك عن سفرك هذا ، وألح عليه في ذلك ، فقال عليه السلام : يا ابن عباس ، إنّ جدّي أمر بأمر ، وأنا ماض فيه ، وأنّي لمستقبل أمرا لابد أن يقع ، وقد سمعت ذلك من جدّي وأبي مرارا .

ولكن ابن عباس بالغ في إلحاحه على الحسين عليه السلام في الإمتناع عن الخروج ، فقال الحسين عليه السلام : أستخير اللّه ، فرضي ابن عباس بذلك ، ففتح الحسين عليه السلام القرآن

فجاءت هذه الآية : « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ » ، فلمّا قرأ الإمام عليه السلام الآية قال : إنّا للّه وإنّا اليه راجعون ، صدق اللّه وصدق رسول اللّه ، دع عنك الإلحاح

يا ابن عباس ، فلا محيص عن قضاء اللّه .

فسكت ابن عباس ، ثم إنّه ودّع الحسين عليه السلام ، وخرج وهو ينادي : وا حسيناه(2) .

ص: 84


1- اللهوف :60 المسلك الأول ، بحار الأنوار : 44/366 .
2- في اللهوف : 28 المسلك الأول : « وجاءه عبد اللّه بن عباس - رضوان اللّه عليه - وعبد اللّه بن زبير ، فأشارا إليه بالإمساك ، فقال لهما : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أمرني بأمر ، وأنا ماض فيه ، قال : فخرج ابن عباس وهو يقول : وا حسيناه » .

بكاء مكة والحرم على فراق نور عين العالمين

ثم أمر عليه السلام أن تشدّ المحامل ، ثم خرج من مكة المكرمة ، فبكت على فراقه أرض مكة ، جبالها ووديانها ، وعمرانها وقفارها ، وأبوابها وحيطانها ، وحجرها ومدرها ، وسكان الحرم ، وحفّاظ بيت اللّه ، وضجت أركان البيت ومشاعره على غياب بدر مكة والحرم من سمائها .

لقد دمعت عيون البيت حزنا

لفقد منّي قلوب العارفينا

وطاف الطائفون طواف ثكلى

وقد لبسوا سواد ملهفينا

وكانت تلبياتهم رثاء

لسبط كان خير الناسكينا

قد إعتمروا بنوح في مقام

حزين يقطر الحجر المتينا

فقدنا اليوم ريحانا وروحا

ومرجانا وزيتونا وتينا

فقدنا ها هنا قصرا مشيدا

وبيت العزّ والبلد الأمينا

فقدنا ها هنا كهف الأيامى

وسور المحتمين وطور سينا

لقاء الحسين عليه السلام مع الفرزدق

قال الشيخ المفيد رحمه الله : فروي عن الفرزدق الشاعر أنّه قال : حججت بأمّي في سنة ستين ، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، إذ لقيت الحسين بن علي عليهماالسلام خارجا من مكة ، معه أسيافه وتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار ؟ فقيل للحسين ابن علي .

فأتيته ، فسلّمت عليه ، وقلت له : أعطاك اللّه سؤك ، وأملك فيما تحبّ ، بأبي أنت وأمي يا ابن رسول اللّه ، ما أعجلك عن الحج ؟

فقال : لو لم أعجل لأخذت ، ثم قال لي : من أنت ؟قلت : امرؤمن العرب ، فلا واللّه ما فتشني عن أكثر من ذلك ، ثم قال لي : أخبرني عن الناس خلفك ؟

ص: 85

فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء ، واللّه يفعل ما يشاء .

فقال : صدقت للّه الأمر ، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد اللّه على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء ، فلم يبعد من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته .

فقلت له : أجل ، بلغك اللّه ما تحبّ ، وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك ، فأخبرني بها ، وحرّك راحلته ، وقال : السلام عليك ، ثم افترقنا(1) .

كتاب عبد اللّه بن جعفر للحسين عليه السلام

وألحقه عبد اللّه بن جعفر بابنيه « عون » و« محمد » ، وكتب على أيديهما كتابا يقول فيه :

أمّا بعد ، فإنّي أسألك باللّه لما إنصرفت حين تنظر في كتابي هذا ، فإنّي مشفق عليك من هذا التوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك ، واستئصال أهل بيتك ، إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فإنّك علم المهتدين ، ورجاء المؤنين ، ولا تعجل بالسير ، فإنّي في أثر كتابي ، والسلام .

و صار عبد اللّه إلى عمرو بن سعيد ، وسأله أن يكتب إلى الحسين عليه السلام أمانا ، ويمنّيه ليرجع عن وجهه .

وكتب إليه عمرو بن سعيد كتابا يمنّيه فيه الصلة ، ويؤّنه على نفسه ، وأنفذه مع يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى ، وعبد اللّه بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ، ودفعا إليهالكتاب ، وجهدا به في الرجوع .

فقال عليه السلام : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المنام ، وأمرني بما أنا ماض له ، فقالوا له :

ص: 86


1- الإرشاد : 2/66 ، بحار الأنوار : 44/365 .

ما تلك الرؤا ؟ فقال : ما حدثت أحدا بها ، ولا أنا محدث بها أحدا حتى ألقى ربّي - عزّ وجل - .

فلمّا يئس منه عبد اللّه بن جعفر ، أمر ابنيه عونا ومحمدا بلزومه ، والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكة(1) .

لقاء الحسين عليه السلام مع بشر بن غالب في ذات عرق

ثم سار عليه السلام حتى مرّ بالتنعيم ، ثم سار عليه السلام من التنعيم حتى بلغ ذات عرق ، فلقي بشر بن غالب واردا من العراق ، فسأله عن أهلها ، فقال : خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني أمية ، فقال : صدق أخو بني أسد ، إِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ(2) .

كلام الإمام الحسين عليه السلام مع ابنه علي الأكبر في منزل الثعلبية

ثم سار - صلوات اللّه عليه - حتى نزل الثعلبية وقت الظهيرة ، فوضع رأسه فرقد ، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفا يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة .

فقال له ابنه علي عليه السلام : يا أبة أفلسنا على الحقّ ؟

فقال : بلى يا بني ، والذي إليه مرجع العباد .

فقال : يا أبة إذن لا نبالي بالموت .

فقال له الحسين عليه السلام : جزاك اللّه يا بني خير ما جزى ولدا عن والد .أجل ، يا سادتي ومواليّ ، إنّكم لم تبالوا بالموت ، وإنّكم تسرعون الى حضائر ا القدس ، وتتشوّقون الى خلوات الأنس ، بيد أنّكم تركتم في قلوب محبّيكم جمرة لا

ص: 87


1- بحار الأنوار : 44/364 باب 37 .
2- بحار الأنوار : 44/364 باب 37 .

تخمد أبدا .

لا أرى حزنكم ينسى ولا

رزئكم يسلى وإن طال المدى

قد مضى الدهر ويمضي بعدكم

لا الجوى باخ(1) ولا الدمع رقى

لو رسول اللّه يحيى بعدكمقعد اليوم عليكم للعزا

لقاء الحسين عليه السلام مع أبي هرة

ثم بات عليه السلام في الموضع ، فلمّا أصبح إذا برجل من أهل الكوفة يكنى « أبا هرة الأزدي » قد أتاه ، فسلّم عليه ، ثم قال : يا ابن رسول اللّه ، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه ، وحرم جدّك محمد صلى الله عليه و آله ؟

فقال الحسين عليه السلام : ويحك أبا هرة ، إنّ بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم اللّه لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسنهم اللّه ذلاًّ شاملاً ، وسيفا قاطعا ، وليسلّطنّ عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من قوم سبإ ، إذ ملكتهم امرأة منهم ، فحكمت في أموالهم ودمائهم(2) .

في « قصر بني مقاتل »

قال عمرو بن قيس المشرقي : دخلت على الحسين - صلوات اللّه عليه - أنا وابن عم لي ، وهو في قصر بني مقاتل ، فسلّمنا عليه ، فقال له ابن عمي : يا أبا عبد

اللّه ، هذا الذي أرى خضاب أو شعرك ؟ فقال : خضاب ، والشيب إلينا بني هاشم يعجل .

ثم أقبل علينا فقال : جئتما لنصرتي ؟فقلت : إنّي رجل كبير السن ، كثير الدين ، كثير العيال ، وفي يدي بضائع للناس ، ولا أدري ما يكون ، وأكره أن أضيع أمانتي ، وقال له ابن عمي مثل ذلك .

ص: 88


1- باخ : سكن بعد فورته .
2- بحار الأنوار : 44/368 .

فقال لنا : فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سوادا ، فإنّه من سمع واعيتنا ، أو رأى سوادنا ، فلم يجبنا ، ولم يغثنا كان حقّا على اللّه - عزّ وجلّ - أن يكبّه على منخريه في النار(1) .

لعن اللّه أمّة سمعت إستصراخك فلم تجبك ، وسمعت إستغاثتك فلم تغثك ، وضاعف اللّه العذاب على من رأى وحدتك وغربتك فلم يرحمك ويعنك .

فليت أحمد والكرار والده

ينشقّ بالطفّ عن شخصيهما الترب

لينظراه على الرمضاء منعفرا

ونفسه بشبا الأسياف تنتهب

وليت يكشف عن وجه البتول له

براقع القبر لو يشفها الكرب

لتبصر العين منها في محاسنه

وللأسنة جدّ والضبا لعب

حركة الإمام الحسين عليه السلام نحو الكوفة وأول ردّة فعل لابن زياد اللعين

قال الشيخ المفيد رحمه الله : ولمّا بلغ عبيد اللّه بن زياد إقبال الحسين عليه السلام من مكة إلى

الكوفة بعث الحصين بن نمير - صاحب شرطه - حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانة ، وقال للناس : هذا الحسين

يريد العراق .

كتاب الحسين عليه السلام لأهل الكوفة من بطن الرمّة

ولمّا بلغ الحسين الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي - ويقال : إنّه بعث أخاه من الرضاعة عبد اللّه بن يقطر - إلى أهل الكوفة ، ولم يكن عليه السلام علم بخبر مسلم بن عقيل عليه السلام ، وكتب معه إليهم :بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من الحسين بن علي إلى إخوانه المؤنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلاّ هو .

ص: 89


1- ثواب الأعمال : 259 ، بحار الأنوار : 45/84 بقية الباب 37 ح12 .

أمّا بعد ، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا ، فسألت اللّه أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة ، يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا ، فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته .

وكان مسلم عليه السلام كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة : أنّ لك هاهنا مائة ألف سيف ، ولا تتأخر .

إلقاء القبض على رسول الحسين عليه السلام

فأقبل الرسول بكتاب الحسين عليه السلام ، فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ليفتشه ، فأخرج الكتاب ومزقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد .

فلمّا مثل بين يديه قال له : من أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤنين علي بن أبي طالب وابنه عليهم السلام ، قال : فلماذا خرقت الكتاب ؟ قال : لئلا تعلم ما فيه .

قال : وممّن الكتاب ؟ وإلى من ؟ قال : من الحسين بن علي إلى جماعة من أهل الكوفة ، لا أعرف أسماءهم .

فغضب ابن زياد فقال : واللّه لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤاء القوم ، أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاّ قطّعتك إربا إربا .

فقال : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل .

فصعد المنبر ، وحمد اللّه ، وصلّى على النبي ، وأكثر من الترحّم على علي وولده - صلوات اللّه عليهم - ، ثم لعن عبيد اللّه بن زياد وأباه، ولعن عتاة بنيأمية عن آخرهم.

ثم قال : أنا رسول الحسين عليه السلام إليكم ، وقد خلفته بموضع كذا ، فأجيبوه .ثم قال المفيد رحمه الله : فأمر به عبيد اللّه بن زياد أن يرمى من فوق القصر ، فرمي به ،

ص: 90

فوقع إلى الأرض مكتوفا ، فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق ، فأتاه رجل فذبحه(1) .

رؤيا السيدة زينب عليهاالسلام في منزل الخزيمية

وكان عبيد اللّه بن زياد أمر ، فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام ، وإلى طريق البصرة ، فلا يدعون أحدا يلج ، ولا أحدا يخرج ، فأقبل الحسين عليه السلام يمشي حتى لقي الأعراب ، فسألهم ، فقالوا : لا واللّه ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ، ولا نخرج ، فسار عليه السلام تلقاء وجهه(2) .

وفي المناقب : ولما نزل عليه السلام الخزيمية أقام بها يوما وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب فقالت : يا أخي ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة ، فقال الحسين عليه السلام : وما ذاك ؟ فقالت : خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة ، فسمعت هاتفا يهتف وهو يقول :

ألا يا عين فاحتفلي بجهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على قوم تسوقهم المنايا

بمقدار إلى إنجاز وعد

فقال لها الحسين عليه السلام : يا أختاه كلّ الذي قضي فهو كائن(3) .

في منزل « عقبة البطن »

روى ابن قولويه عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : لمّا صعد الحسين بن علي عليهماالسلام

« عقبة البطن » قال لأصحابه : ما أراني إلاّ مقتولاً ، قالوا : وما ذاك يا أبا عبد اللّه ؟ قال : رؤا رأيتها في المنام ، قالوا : وما هي ؟ قال : رأيت كلابا تنهشني ، أشدّها عليّكلب أبقع(4) .

ص: 91


1- الإرشاد : 2/71 ، اللهوف : 135 ، بحار الأنوار : 44/369 باب 37 .
2- الإرشاد : 2/72 ، بحار الأنوار : 44/370 باب 37 .
3- المناقب : 4/62 ، بحار الأنوار : 44/372 باب 37 .
4- كامل الزيارات : 75 الباب 23 ح14 .

خبر مقتل مسلم عليه السلام في منزل الثعلبية

روى عبد اللّه بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان قالا :

لمّا قضينا حجّتنا لم تكن لنا همّة إلاّ اللّحاق بالحسين عليه السلام في الطريق ، لننظر ما يكون من أمره .

فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود ،

فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حتى رأى الحسين عليه السلام ، فوقف الحسين عليه السلام كأنّه يريده ، ثم تركه ومضى ، ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله ، فإنّ عنده خبر الكوفة .

فمضينا حتى إنتهينا إليه ، فقلنا : السلام عليك ، فقال : وعليكما السلام ، قلنا : ممّن الرجل ؟ قال : أسدي ، قلنا له : ونحن أسديان ، فمن أنت ؟ قال : أنا بكر بن فلان ، فانتسبنا له ، ثم قلنا له : أخبرنا عن الناس وراءك ؟ قال : نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق .

فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين عليه السلام ، فسايرناه حتى نزل « الثعلبية » ممسيا ، فجئناه حين نزل ، فسلّمنا عليه ، فردّ علينا السلام ، فقلنا له : يرحمك اللّه إنّ عندنا خبرا ، إن شئت حدثناك به علانية ، وإن شئت سرّا .

فنظر إلينا وإلى أصحابه ، ثم قال : ما دون هؤاء سرّ ، فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس ؟ فقال : نعم قد أردت مسألته ، فقلنا : قد واللّه استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو إمرؤمنّا ، ذو رأي وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانئ ، ورآهما يجرّان في السوق بأرجلهما .

فقال : إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، رحمة اللّه عليهما - يردد ذلك مرارا -.

فقلنا له : ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك إلاّ إنصرفت من مكانك هذا ، وإنّهليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوّف أن يكونوا عليك .

فنظر إلى بني عقيل ، فقال : ما ترون ؟ فقد قتل مسلم ، فقالوا : واللّه ما نرجع حتى

ص: 92

نصيب ثأرنا ، أو نذوق ما ذاق .

فأقبل علينا الحسين عليه السلام فقال : لا خير في العيش بعد هؤاء ، فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير(1) .

الإمام الحسين عليه السلام يمسح على رأس بنت مسلم الصغيرة

قالوا : كان لمسلم بنت صغيرة يحبّها كثيرا ، وكانت تسأل عن أبيها دائما ، وكان أهل البيت يسلونها ويصبّرونها ، فلمّا سمع الحسين عليه السلام خبر شهادة مسلم قام من مجلسه وجاء الى الخيمة ، فعزّز البنت وقرّبها من منزله ، فحست البنت بالمصيبة ، لأنّ الحسين عليه السلام كان قد مسح على رأسها وناصيتها ، كما يفعل بالأيتام ، فقالت : يا عم ، ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك ، أظنّ أنّ والدي قد إستشهد ؟ !

فلم يتمالك الحسين عليه السلام من البكاء ، وقال : يا ابنتي ، أنا أبوك ، وبناتي أخواتك .

[ مسح الحسين برأسها فاستشعرت

باليتم وهي علامة تكفيها

لم يبكها عدم الوثوق بعمّها

كلا ولا الوجد المبّرح فيها

لكنّها تبكي مخافة أنّها

تمسي يتيمة عمّها وأبيها ]

[ وكم طفلة لك قد أعولت

وجمرتها في الحشا قادحه

يعززها السبط في حجره

لتغدو في قربه فارحه

فأوجعها قلبها لوعة

وحسّت بنكبتها القارحه

]

فصاحت ونادت بالويل ، فسمع أولاد مسلم ذلك الكلام ، فتنفسوا الصعداء ،وبكوا بكاءا شديدا ، ورموا بعمائمهم الى الأرض(2) ، وإرتفعت منهم صرخات : واأباه وا مسلماه .

ص: 93


1- الإرشاد : 2/72 ، بحار الأنوار : 44/372 باب 37 .
2- المنتخب : 2/364 المجلس 7 .

[ قليل بكائي على ابن عقيل

وإن سال دمعي كلّ مسيل

سأبكيك ما عشت في أدمع

بطرف على الدمع غير بخيل ]

الإمام الحسين عليه السلام يشيد بمقام مسلم عليه السلام

وقال السيد طاووس رحمه الله : أتاه خبر مسلم في « زبالة » ، فارتجّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع كلّ مسيل .

ثم إنّه عليه السلام سار ، فلقيه الفرزدق ، فسلّم عليه ، ثم قال : يا ابن رسول اللّه ، كيف تركن إلى أهل الكوفة ، وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ؟

فإستعبر الحسين عليه السلام باكيا ، ثم قال : رحم اللّه مسلما ، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه ، وتحيته ورضوانه ، أما إنّه قد قضى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم أنشأ أبياتا

تدلّ على يأسه من الحياة فقال :

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة

فدار ثواب اللّه أعلى وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرئ بالسيف في اللّه أفضل

وإن تكن الأرزاق قسما مقدرا

فقلّة حرص المرء في الرزق أجمل

وإن تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به الحرّ يبخل(1)

وصول خبر شهادة رسول الحسين عليه السلام في زبالة

قال الشيخ المفيد رحمه الله : فسار عليه السلام حتى إنتهى إلى « زبالة » ، فأتاه خبر عبد اللّه ابن يقطر ، فأخرج إلى الناس كتابا ، فقرأه عليهم : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد اللّه

بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف غير حرج ،ليس عليه ذمام .

فتفرّق الناس عنه ، وأخذوا يمينا وشمالاً ، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه

ص: 94


1- اللهوف : 71 ، بحار الأنوار : 44/372 باب 37 .

من المدينة ، ونفر يسير ممّن انضووا إليه(1) .

لا أدري ماذا كان حال منتجب ذي الجلال في تلك الساعة ؟ وماذا جرى على المخدرات حينما شاهدن إمامهن ومولاهن وحماهن غريبا يتفرّق عنه الناس ؟

أجل ، إنّه طريق لا يسلكه أيّ واحد من الناس ، وشراب لا يستسيغه إلاّ أهله ، ولهذا لم يبق معه سوى عدد معدود طابت طينتهم ، وزاد يقينهم ومعرفتهم ، ولم تثقلهم الدنيا الى الأرض ، حيث كانوا منذ اليوم الأول في خدمة شمس فلك العصمة ، فثبتوا على تلك الخدمة .

لا خير بعدك في الحياة ونحن في

ظلل الكرامة والسلامة نلعب

لا كان يوم لا تكون ولا خلت

منك الديار ولا القفار وسبسب

[ في بطن العقبة ]

ثم سار عليه السلام حتى مرّ ببطن العقبة ، فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له « عمرو بن لوذان » ، فسأله : أين تريد ؟ فقال له الحسين عليه السلام : الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك اللّه لما انصرفت ، فواللّه ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ السيوف ،

وإنّ هؤاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ، ووطؤوا لك الأشياء ، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر ، فإنّي لا أرى لك أن تفعل .

فقال له : يا عبد اللّه ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكن اللّه تعالى لا يغلب على أمره ،ثم قال عليه السلام : واللّه لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا

ص: 95


1- قال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد : 2/76 : « وإنّما فعل ذلك ، لأنّه عليه السلام علم أنّ الأعراب الذين إتبعوه إنّما إتبعوه وهم يظنون أنّه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون » .

سلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم(1) .

شيعتك فداء لقلبك المهتضم يا أبا عبد اللّه .

فأيّ عين عليك منهمل

وأيّ قلب عليك غير مفطور

يا وقعة الطف قد أضرمت نار جوى

في كلّ قلب من الأشجان مسجور

لقاء الحر مع الحسين عليه السلام في منزل شراف

روي أنّ عين ابن زياد أخبره بقدوم الحسين عليه السلام الى الكوفة ، فإنبرى ابن الزنا الى تحريض الناس بالوعد والوعيد ، والمال والتهديد على قتال الإمام المظلوم عليه السلام .

ثم أرسل ابن زياد الحر بن يزيد الرياحي في ألف فارس ليستقبل الحسين عليه السلام ، وينزله على غير ماء ولا كلاء ، ويجعجع به حتى يأتيه أمر ابن زياد فيه ، فإنتشر الفرسان في الصحراء ، وملأوا الفجاج والبيداء بحثا عن منتهى غاية العارفين .

أمّا الإمام الحسين عليه السلام فإنّه سار من بطن العقبة حتى نزل شراف ، فلمّا كان السحر أمر فتيانه ، فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثم سار حتى انتصف النهار ، فبينما هو يسير إذ

كبّر رجل من أصحابه، فقال له الحسين عليه السلام : اللّه أكبر، لم كبرت؟ فقال: رأيت النخل.

قال جماعة ممّن صحبه : واللّه إنّ هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط ، فقال الحسين عليه السلام : فما ترونه ؟ قالوا : واللّه نراه أسنة الرماح ، وآذان الخيل ، فقال : وأنا واللّه أرى ذلك .

ثم قال عليه السلام : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ، ونجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقلنا له بلى هذا ذو جشم(2) إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد .فأخذ إليه ذات اليسار ، وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي

ص: 96


1- الإرشاد : 2/76 ، بحار الأنوار : 44/375 .
2- في المتن : « ذو حشم » .

الخيل ، فتبيّناها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا ، كأنّ أسنتهم اليعاسيب ، وكأنّ راياتهم أجنحة الطير .

فاستبقنا إلى ذي جشم ، فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين عليه السلام بأبنيته فضربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة ، والحسين عليه السلام وأصحابه معتمّون متقلّدون أسيافهم .

فقال الحسين عليه السلام لفتيانه : إسقوا القوم وإرووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفا ، ففعلوا ، وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ، ثم يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه ، وسقى آخر حتى سقوها عن آخرها .

قطرة من بحار الرحمة الحسينية

قال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ الراوية ، والراوية عندي السقاء ، ثم قال : يا ابن الأخ ، أنخ الجمل ، فأنخته ،

فقال : إشرب .

فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليه السلام : اخنث السقاء ، أي إعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه ، فشربت وسقيت فرسي(1) .

أجل ، سقاهم الحسين عليه السلام عن آخرهم ، ونجّاهم من كظة الضمأ ، ولكنّهم عوض أن يرووا عطشه ، رووا سيوفهم من دمه ، وقتلوه عطشانا .

وسقى الحسين عليه السلام خيلهم ورشّفها ترشيفا ، ولكنّهم سقوا رضيعه كأس الردى بدل الماء المعين ، بسهم ذبحه من الوريد الى الوريد .سقاهم الحسين عليه السلام قبل أن يستسقوه ، ولكنّهم لم يسقوه ، وهو يستغيث

ص: 97


1- بحار الأنوار : 44/375 .

وينادي : إسقوني شربة من الماء فقد تفتّت كبدي من الظمأ ، وكان كلّما قال : وا عطشاه ، أجابوه بالنبال والرماح والسباب والشتائم(1) .

سقاهم الحسين بن علي عليهماالسلام في البيداء المقفرة ماءا في حرّ الظهيرة ، وهجير الصحراء ، ولكنّ مصاصي الدماء منعوه جرعة من الماء ، والماء يجري في الفرات كأنّه بطون الحيات .

ومن العجائب أنّ عذب فراتها

تسدى مسلسله ولن يتفقّدا

ظام وقلب السبط ظام نحوه

وأبوه يسقي الناس سلسله غدا

قتلوه في البيداء ظمآن الحشا

والماء تنهله الذئاب مبرّدا

خطبة الحسين عليه السلام في أصحاب الحر

وكان مجيء الحر بن يزيد من القادسية ، وكان عبيد اللّه بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره أن ينزل القادسية ، وتقدّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين عليه السلام ، فلم يزل الحر موافقا للحسين عليه السلام حتى حضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين عليه السلام الحجاج بن مسروق أن يؤّن .

فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين عليه السلام في إزار ورداء ونعلين ، فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ثم قال : أيّها الناس ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم : أن أقدم علينا ، فليس لنا إمام ، لعل اللّه أن يجمعنا وإياكم على الهدى والحقّ ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم .فسكتوا عنه ، ولم يتكلّموا كلمة ، فقال للمؤن : أقم ، فأقام الصلاة ، فقال للحر :

ص: 98


1- انظر المنتخب : 2/451 ، بحار الأنوار : 45/51 .

أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ فقال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين عليه السلام ، ثم دخل فاجتمع عليه أصحابه .

وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمة قد ضربت له ، فاجتمع إليه خمسمائة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه ، ثم أخذ كلّ رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلها .

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين عليه السلام أن يتهيئوا للرحيل ، ففعلوا ، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر ، وأقام فاستقدم الحسين ، وقام فصلّى بالقوم ثم سلم ، وانصرف إليهم بوجهه ، فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، وقال :

أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّكم إن تتقوا اللّه وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى للّه عنكم ، ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاّ الكراهة لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت عليّ به رسلكم انصرفت عنكم .

فقال له الحر : أنا واللّه ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر .

فقال الحسين عليه السلام : لبعض أصحابه ، يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ ، فأخرج خرجين مملوءين صحفا ، فنثرت بين يديه ، فقال له الحر : لسنا من هؤاء الذين كتبوا إليك ، وقد أمرنا أنّا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد اللّه بن زياد . فقال الحسين عليه السلام : الموت أدنى إليك من ذلك .

القوم يمنعون الحسين عليه السلام وأصحابه من الإنصراف

ثم قال لأصحابه : فقوموا فاركبوا ، فركبوا ، وانتظر حتى ركبت نساؤ ، فقال

ص: 99

لأصحابه : انصرفوا .

فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين عليه السلامللحر : ثكلتك أمّك ، ما تريد ؟ فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي ، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ، ما تركت ذكر أمّه بالثكل ، كائنا من كان ، ولكن واللّه ما لي من ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه .

فقال له الحسين عليه السلام : فما تريد ؟ قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد اللّه بن زياد ، فقال : إذا واللّه لا أتبعك ، فقال : إذا واللّه لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرات .

فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر : إنّي لم أومر بقتالك ، إنّما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذ أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة ، يكون بيني وبينك نصفا ، حتى أكتب إلى الأمير عبيد اللّه بن زياد ، فلعل اللّه أن يرزقني العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك ، فخذ هاهنا .

فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، وسار الحسين عليه السلام وسار الحر في أصحابه يسايره ، وهو يقول له : يا حسين إنّي أذكرك اللّه في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال له الحسين عليه السلام : أفبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب ، فإنّك مقتول ، فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وودّع مجرما

فإن عشت لم أندم وإن متّ لم ألم

كفى بك ذلاًّ أن تعيش وترغما

وزاد بعض العلماء قبل البيت الأخير هذا البيت :

أقدّم نفسي لا أريد بقاءهالتلقى خميسا في الوغى وعرمرما(1)

ص: 100


1- بحار الأنوار : 44/377 .

ثم أقبل الحسين عليه السلام على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة ؟ فليسير بين أيدينا ، فسار الدليل واتبعه الحسين عليه السلام وأصحابه .

في قصر بني مقاتل

فلمّا سمع الحر ذلك تنحّى عنه ، وكان يسير بأصحابه ناحية والحسين عليه السلام في ناحية حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات .

ثم مضى الحسين عليه السلام حتى انتهى إلى « قصر بني مقاتل » ، فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ، فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيد اللّه بن الحر الجعفي ، قال : إدعوه إليّ .

فلمّا أتاه الرسول ، قال له : هذا الحسين بن علي عليهماالسلام يدعوك ، فقال عبيد اللّه : إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها ، واللّه ما أريد أن أراه ولا يراني .

فأتاه الرسول فأخبره ، فقام إليه الحسين عليه السلام ، فجاء حتى دخل عليه وسلّم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيد اللّه بن الحر تلك المقالة ، واستقاله ممّا دعاه إليه ، فقال له الحسين عليه السلام ، فإن لم تكن تنصرنا ، فاتّق اللّه أن لا تكون ممّن يقاتلنا ، فواللّه لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك ، فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبدا ، إن شاء اللّه ، ثم قام الحسين عليه السلام من عنده حتى دخل رحله .

ولمّا كان في آخر الليلة أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ، ثم أمر بالرحيل ، فارتحل من قصر بني مقاتل .

فلمّا أصبح نزل ، وصلّى بهم الغداة ، ثم عجّل الركوب ، وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم ، فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه ، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفةردّا شديدا امتنعوا عليه ، فارتفعوا .

وصول كتاب ابن زياد الملعون الى الحر

ص: 101

فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى بالمكان الذي نزل به الحسين عليه السلام ، فإذا راكب على نجيب له ، عليه سلاح ، متنكبا قوسا ، مقبلاً من الكوفة ، فوقفوا جميعا ينتظرونه.

فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحر وأصحابه ، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتابا من عبيد اللّه بن زياد - لعنه اللّه - ، فإذا فيه :

أمّا بعد ، فجعجع بالحسين حين بلغك كتابي هذا ، ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلاّ بالعراء ، في غير خضر ، وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك ، حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .

فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيد اللّه ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه ، وهذا رسوله ، وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم .

[ فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ، وكان مع الحسين عليه السلام إلى رسول ابن زياد فعرفه ، فقال له : ثكلتك أمك ما ذا جئت فيه ؟ قال : أطعت إمامي ووفي ببيعتي ، فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربّك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ، قال اللّه - عزّ وجلّ - : « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ » ، فإمامك منهم ] .

وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان ، على غير ماء ، ولا في قرية ، فقال له الحسين عليه السلام : دعنا - ويحك - ننزل هذه القرية ، أو هذه ، يعني نينوى والغاضرية ، أو هذه ، يعني شفية ، قال : لا واللّه ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث إليّ عينا عليّ .

فقال له زهير بن القين : إنّي واللّه لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشدّ ممّاترون ، يا ابن رسول اللّه ، إنّ قتال هؤاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال الحسين عليه السلام : ما

ص: 102

كنت لأبدأهم بالقتال ، ثم نزل(1) .

النزول في كربلاء

قال صاحب المناقب : فجمع الحسين عليه السلام ولده وإخوته وأهل بيته ، ثم نظر إليهم فبكى ساعة ، ثم قال :

اللّهم إنّا عترة نبيك محمد ، وقد أخرجنا وطردنا وأزعجنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو أمية علينا ، اللّهم فخذ لنا بحقّنا ، وانصرنا على القوم الظالمين .

ثم قال : أهذه كربلاء ؟ فقالوا : نعم ، يا ابن رسول اللّه .

وروي أنّه لما سمع الحسين عليه السلام اسم كربلاء دمعة عيناه ، وقال : اللّهم أنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء .

ثم قال : هذا موضع كرب وبلاء ، هاهنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا(2) .

فيها يراق دمي فيها ترى حرمي

حسرى عليهن ثوب الذلّ سربال

فيها تقتل أولادي وتذبح أب-

-طالي وتستعبد الأحرار أرذال

حطّ الرحال بها يا قوم وانصرفوا

عنّي فما لي عنها قطّ ترحال

ثم أمر عليه السلام أن يضربوا سرادق العزّة والجلالة والعصمة والطهارة ، فضربت الخيام في تلك الصحراء المهولة التي حوّلها الحسين عليه السلام الى روضة من رياض الجنّة .

هي خيمة جبريل يخدم أهلها

والروح والأملاك خدمة قنبر

هي خيمة خضعت لها

خيم الملوك كتبّع وكقيصر

هي خيمة أبوابها في فتحها

بصريرها صاحت بكاء المستعبر

هي خيمة لو كان أحمد حاضرا

لبكى لها مثل السحاب الممطر

ص: 103


1- بحار الأنوار : 44/374 وما بعدها .
2- بحار الأنوار : 44/382 باب 37 .

هي خيمة يبكي وقوع عمودها

جزعا عمود الدين فاتح خيبر

روى بعض الثقاة : أنّه لمّا نزل الحسين عليه السلام في كربلاء جاءته أم كلثوم فقالت : يا أخي ، إنّها صحراء مهولة ، وإنّي شعرت أنّ الخوف هجم على قلبي ، فقال عليه السلام : إعلمي ، أنّنا دخلنا هذه الأرض أنا وأبي أمير المؤمنين عليه السلام في طريقنا الى صفين ، فلمّا نزلنا وضع أبي رأسه في حجر أخي فنام ساعة ، وأنا جالس عنده ، فلمّا أفاق من نومه ، رأيته مهموما وهو يبكي بكاء شديدا ، فسأله أخي عن سبب بكائه ، فقال : رأيت رؤيا ، كأنّ هذه الصحراء بحرا من الدماء ، وولدي الحسين عليه السلام غارق فيها ، وهو يضرب بيده ورجله ، ويستغيث فلا يغاث .

ثم إلتفت اليّ وقال : يا أبا عبد اللّه ، كيف تكون إذا وقعت ها هنا الواقعة ؟ فقلت : أصبر .

ألا لعنة اللّه على القوم الظالمين

ص: 104

المجلس الثالث: وقائع كربلاء منذ نزلها الحسين عليه السلام الى ليلة عاشوراء

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه على آلائه ، والشكر للّه على نعمائه ، وحمدا يستعظمه سكّان أرضه وسمائه ، ويستكثر قطّان صقع جبروته .

والصلاة والسلام على أشرف سفرائه ، وأفضل أصفيائه ، محمد سيد أنبيائه ، وأكمل أوليائه ، وعلى خلفائه وأوصيائه وأهل بيته وأمنائه .

خصوصا على شبله وفرخه، البعيد عن وطنه وأحبّائه، والأسير بأيدي الطغاة من أعدائه ، المجاهد في اللّه مع إخوانه وأصجابه ، المقتول لوجه اللّه مع أولاده وعشيرته

وأقربائه ، المحروق خباؤه ، المسلوب رداؤه ، المرضّض أشلاؤه ، المقطّع أعضاؤه ، المنهوب نعله وحذاؤه ، المقتول إخوانه وأبناؤه ، المسبي عياله ونساؤه ، المأسور بناته

وإماؤه ، الممنوع ماؤه ، المخضّب شيبه بدمائه ، الذي تسفي عليه دبوره ورخاؤه ، ولم يمّرضه أحد في ضنائه ، الخائض في بحر المحن والبلايا في إبتداء وجوده الى إنتهائه .

سيّدنا المظلوم ، وإمامنا المعصوم ، المغموم المهموم ، أبي عبد اللّه عليه السلام ، واللعن الدائم ، والعذاب الحاطم على قاتليه وظالميه ومانعيه شرب الماء ، وعلى من خذله وأعان عليه ، أو فرح بقتله ، أو رضي به ، أجمعين أبد الآبدين ، ودهر الداهرين .

ص: 105

أمّا بعد ، فقد قال اللّه سبحانه :

« مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الآْخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ

مَشْكُوراً كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وَهَؤلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ » .

* * *

نظرة الى التقابل بين الدنيا والآخرة

يستفاد من الآية الشريفة أنّ من أراد الدنيا فإنّه لا خلاق له في الآخرة ، إلاّ السخط الإلهي ، والعذاب الخالد اللامتناهي ، وهذا الأمر طبيعي وواضح ، لأنّ من إختار الدنيا صارت همّه ومبلغ علمه ، لا يفكر في غيرها ، ولا يهتم إلاّ بها ، ولا يلهج لسانه إلاّ بذكرها ، ولا تتحرّك جوارحه إلاّ لأجلها ، فهو يتخذ من الآخرة وسيلة للدنيا ، ويسخر العاقبة للأولى .

روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : إنّ في طلب الدنيا إضرارا بالآخرة ، وفي طلب الآخرة إضرارا بالدنيا ، فأضروا بالدنيا ، فإنّها أولى بالإضرار(1) .

وروي عن إمام السالكين وأزهد الزاهدين أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان ، فمن أحبّ الدنيا وتولاّها أبغض الآخرة وعاداها ، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما ، كلّما قرب من واحد بعد من الآخر ، وهما بعد ضرّتان(2) .

أجل، ما خدع أهل الدنيا إلاّ نعمها العاجلة، ولذائذها الزائلة ، وزخارفها الباطلة، وذلك أنّها تعمي وتصم ، فلا يطربه إلاّ أنغامها ، ولا يسمع إلاّ أهلها ، ولا يرى إلاّ الذهب والفضة، ولا يتذوّق إلاّ حلاوتها، ولا يلتذّ إلاّ بلذائذها، ولا يغرّه إلاّ زخرفها.

ص: 106


1- الكافي 2/131 ح12 ، بحار الأنوار : 70/61 ح30 .
2- نهج البلاغة : 386 ح103 ، بحار الأنوار : 70/129 ح133 .

ولكنه ما علم أنّ كلّ لذّة فيها يتبعها ألف ألف غصة ، وكلّ متعة فيها يتبعها ألف ألف لسعة ، وبعد كلّ كأس ألف سهم مسموم يصيب كبده ، وكلّ راحة فيها مشوبة بآلاف المنن ، وكلّ عزّة فيها مشوبة بالذلّة بعد الذلّة .

قال أمير المؤمنين عليه السلام : أيّها الناس ، إنّما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ، مع كلّ جرعة شرق ، وفي كلّ أكلة غصص ، لا تنالون منها نعمة إلاّ بفراق أخرى ، ولا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلاّ يهدم آخر من أجله(1) . .

بل إنّ أهلها يرحلون قبل أن يقطنوا ، ويغمضوا قبل أن يفتحوا عيونهم ، ويسافر قبل أن يقيم ، ويهدم قبل أن يتمّ بناءه ، قال عليه السلام : بلى ، الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ(2) . .

إنّها فسطاط لا عمود له ، وسرادق بلا أوتاد ، وبستان بلا نبات ، وبناء بلا ثبات ، وريح هوجاء ، وبحر مظلم ، ونار هائجة ، وسراب لا حقيقة له ، « فالويل كلّ الويل ، لمن باع نعيما دائم البقاء بكسرة تفنى وخزقة تبلى »(3) .

ولو كانت الدنيا تقبل على من أقبل عليها ، وتذيقه ساعة من لذاتها ، وكان ذلك لها وفي طوع أمرها لكان حسنا ، ولكن ربّك يقول : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ » .

وورد في بعض الأحاديث القدسية : يا ابن آدم ، إنّ رضيت بما قسمت لك أرحت قلبك وبدنك ، وأنت محمود عندي ، وإن لم ترض بما قسمت لك سلّطت عليك حبّ الدنيا حتى تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا تنال منها إلاّ ماقدّرت لك ، وأنت مذموم عندي(4) . . .

ص: 107


1- نهج البلاغة الخطبة : 123 .
2- بحار الأنوار : 70/119 ح110 .
3- محاسبة النفس : 181 .
4- التحفة السنية مخطوط : 65 .

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ أخسر الناس صفقة ، وأخيبهم سعيا ، رجل أخلق بدنه في طلب آماله(1) ، ولم تساعده المقادير على إرادته ، فخرج من الدنيا بحسرته ، وقدم على الآخرة بتبعته(2) .

فكم من رجل ركض ليله ونهاره خلف سراب الدنيا، وأتعب نفسه في طلب الجاه والجلال ، والمال وتحقيق الآمال ، ثم لم يذق منها شيئا ، وكم من رجل باع آخرته بالدنيا ولم يحصد من أشجار الآمال سوى الخيبة ، ولم تسعفه الدنيا بشيء ذي بال .

عقاب قتلة الحسين عليه السلام

ما أكثر الحكايات والقصص الواردة في المقام ، ولكنّ أهمّها تلك الحكايات التي تتحدّث عن أُولئك النفر الذين خرجوا طمعا في الرئاسة وإستهوتهم الدنيا ، وغرّهم الدينار والدرهم ، وباعوا الآخرة بالدنيا ، وقاتلوا سيد الأبرار ، وحاربوا فلذة كبد أحمد المختار صلى الله عليه و آله ، ولم يصل أحد منهم - بحمد اللّه - الى مراده ، وذاق وبال أمره في هذه الدنيا ، وأحاطت به النار ، وبئس القرار .

روى الشيخ الصدوق رحمه الله في عيون أخبار الرضا عليه السلام بالأسانيد الثلاثة عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ قاتل الحسين بن علي عليهماالسلام في تابوت من نار ، عليه نصف عذاب أهل الدنيا ، وقد شدّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، منكس في النار ، حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربّهم من شدّة نتنه ، وهو فيها خالد ، ذائق العذاب الأليم ، مع جميع من شايع على قتله ، كلّما نضجت جلودهم بدّل اللّه - عزّ وجلّ - عليهم الجلود غيرها ، حتى يذوقوا العذاب الأليم ، « لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ » ساعة ، ويسقون من حميم جهنم ، فالويل لهممن عذاب النار(3) .

ص: 108


1- في النهج : « في طلب ماله » .
2- نهج البلاغة قصار الجمل : 435 ، بحار الأنوار : 100/38 ح85 .
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2/47 باب 31 ح178 ، بحار الأنوار : 44/300 باب 36 ح3 .

وروى الشيخ الصدوق أيضا بهذا الإسناد قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ موسى بن عمران عليه السلام سأل ربّه - عزّ وجلّ - فقال : يا ربّ إنّ أخي هارون مات فاغفر له ، فأوحى اللّه - عزّ وجلّ - إليه : يا موسى لو سألتني في الأولين والآخرين لأجبتك ،

ما خلا قاتل الحسين بن علي ، فإنّي أنتقم له من قاتله(1) .

وروى الشيخ الصدوق أيضا في ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ في النار منزلة لم يكن يستحقّها أحد من الناس إلاّ بقتل الحسين بن علي ويحيى بن زكريا عليهماالسلام(2) .

وفي حديث آخر : . . . يخرج عليهم شرار أمّتي ، لو أنّ أحدهم شفع له من في السماوات والأرضين ما شفعوا فيه ، وهم المخلّدون في النار(3) .

ما أعظم جرمهم ، وأكبر معصيتهم ، معصية زلزلت السماوات والأرضين ، وأبكت عيون العالمين ، وأقعدت للعزاء خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه و آله ، وأحرقت قلب أمير المؤمنين عليه السلام .

جريمة عظيمة أحرقت القلوب ، وهدمت أركان الدين .

إخبار النبي صلى الله عليه و آله بشهادة الحسين عليه السلام

روى ابن قولويه بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا دخل الحسين عليه السلام اجتذبه إليه ، ثم يقول لأمير المؤنين عليه السلام : امسكه ، ثم يقع عليه ، فيقبّله ويبكي ، فيقول : يا أبة ، لم تبكي ؟ فيقول : يا بني ، أقبّل موضع السيوف منك وأبكي ، قال : يا أبة ، وأقتل ؟ قال : إي واللّه ، وأبوك وأخوك وأنت .

ص: 109


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2/51 ح179 ، بحار الأنوار : 44/300 ح4 .
2- ثواب الأعمال : 275 ح2 ، بحار الأنوار : 44/301 ح9 .
3- تفسير فرات : 171 ، بحار الأنوار : 44/264 ح22 .

قال : يا أبة ، فمصارعنا شتى ؟ قال : نعم ، يا بني ، قال : فمن يزورنا من أمّتك ؟ قال : لا يزورني ، ويزور أباك وأخاك وأنت ، إلاّ الصدّيقون من أمّتي(1) .

وروى الشيخ أبو جعفر ابن نما عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال : لمّا إشتدّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله مرضه الذي مات فيه ، وقد ضمّ الحسين عليه السلام إلى صدره يسيل من عرقه عليه ، وهو يجود بنفسه ، ويقول : ما لي وليزيد ، لا بارك اللّه فيه ، اللّهم العن يزيد .

ثم غشي عليه طويلاً ، وأفاق ، وجعل يقبّل الحسين ، وعيناه تذرفان ويقول : أما إنّ لي ولقاتلك مقاما بين يدي اللّه عزّ وجلّ(2) .

وفي بعض الكتب المعتبرة عن عبد اللّه بن العباس قال : دخلت على النبي صلى الله عليه و آله ، والحسن على عاتقه ، والحسين على فخذه ، يلثمهما ويقبّلهما ، ويقول : اللّهم وال من والاهما ، وعاد من عاداهما .

ثم قال : يا ابن عباس كأنّي به وقد خضبت شيبته من دمه ، يدعو فلا يجاب ، ويستنصر فلا ينصر ، قلت : فمن يفعل ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : شرار أمّتي ، ما لهم ؟ لا أنالهم اللّه شفاعتي(3) .

اللّه أكبر يا له من حادث

أضحى له المجد الرفيع مهدّما

اللّه أكبر يا له من حادث

أمسى له الأفق المنوّر مظلما

اللّه أكبر يا له من حادث

أبكى المشاعر والمقام وزمزما

يا راكبا نحو المدينة قف بها

عند الرسول معزّيا متظلّما

السلام عليك يا خير الورى نسبا

وأكرمهم وأشرف منتمى

أوصيت بالثقلين أمّتك التي

لم تألها نصحا لها وتكرماها

قد أضاعت يا رسول اللّه ما

إئتمنت لذمّتها وعهدا مبرما

ص: 110


1- كامل الزيارات : 146 ح172 ، بحار الأنوار : 44/261 باب 31 ح14 .
2- مثير الأحزان : 22 ، بحار الأنوار : 44/266 ح24 .
3- كفاية الأثر : 16 ، بحار الأنوار : 36/285 باب 41 ح107 .

هذا الحسين بكربلا عهدي به

شفتاه ناشفتان من حرّ الظما

والخيل تركض في الطراز بجسمه

حتى فرت منه القرى والأعظما

وبناتك الخفرات في أيدي العدى

خلّفتهن مكشفات كالإما

أبرزن من بعد الستور حواسرا

سلب العدى منها الردى والمعصما

أخذت سبا حرقت خبا شتمت أبا

ما كان أهلا أن يسبّ ويشتما

تأمّل كيف باع هؤلاء الأشقياء الآخرة بالدنيا ، وإشتروا سخط الجبار من أجل الدنيا الدنية العفنة .

روي عن ابن مسعود قال : بينا نحن جلوس عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله في مسجده ، إذ دخل علينا فتية من قريش ، ومعهم عمر بن سعد - لعنه اللّه - ، فتغيّر لون رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فقلنا له : يارسول اللّه ما شأنك ؟ فقال : إنّا أهل بيت إختار اللّه لنا الآخرة على

الدنيا ، وإنّي ذكرت ما يلقى أهل بيتي من أمّتي من بعدي من قتل وضرب وشتم وسبّ وتطريد وتشريد . وإنّ أهل بيتي سيشردون ويطردون ويقتلون .

وإنّ أول رأس يحمل على رأس رمح في الإسلام رأس ولدي الحسين عليه السلام ، أخبرني بذلك أخي جبرائيل ، عن الربّ الجليل .

وكان الحسين عليه السلام حاضرا عند جدّه في ذلك الوقت ، فقال : يا جدّاه ، فمن يقتلني من أمّتك ؟ فقال : يقتلك شرار الناس ، وأشار النبي صلى الله عليه و آله إلى عمر بن سعد - لعنه اللّه - .

فصار أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد ، يقولون : هذا قاتل الحسين عليه السلام .

قال : وجعل عمر بن سعد كلّما لقي الحسين عليه السلام يقول : يا أبا عبد اللّه إنّ في قومنا اُناسا سفهاء ، يزعمون أنّي أقتلك ، فيقول له الحسين عليه السلام : واللّه إنّهم ليسوا بسفهاء ،

ص: 111

ولكنّهم اُناس حلماء ، أما إنّه ستقرّ عيني حيث لا تأكل من برّ الري من بعد قتلي إلاّ قليلاً ، ثم تقتل من بعدي عاجلاً (1).

وفي رواية الشيخ : قال اللعين : في برّ العراق كفاية .

وفي كشف الغمة وإرشاد الشيخ المفيد رحمه الله : روى عبد اللّه بن شريك العامري قال : كنت أسمع أصحاب محمد صلى الله عليه و آله إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون : هذا قاتل الحسين بن علي عليهماالسلام ، وذلك قبل أن يقتل بزمان طويل(2) .

وروى الشيخ ابن بابويه عن الأصبغ بن نباتة قال : بينا أمير المؤنين عليه السلاميخطب

الناس ، وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو اللّه لا تسألوني عن شيء يكون إلاّ نبأتكم به .

فقام إليه سعد بن أبي وقاص فقال : يا أمير المؤنين عليه السلام أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟

فقال له : أما واللّه لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّك ستسألني عنها ، وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلاّ وفي أصلها شيطان جالس ، وإنّ في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني ، وعمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه(3) .

وروى الطبرسي رحمه الله : أنّ أمير المؤنين عليه السلام كان يخطب ، فقال في خطبته : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو اللّه لا تسألوني عن فتنة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة .

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟

ص: 112


1- المنتخب : 326 المجلس 5 ، مدينة المعاجز : 4/61 ح140 .
2- كشف الغمة : 2/9 .
3- الأمالي للصدوق : 133 المجلس 28 ح1 .

فقال أمير المؤنين عليه السلام : واللّه لقد حدثني خليلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما سألت عنه ، وأنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك ، وعلى كلّ طاقة شعر في لحيتك شيطانا يستفزك ، وإنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن رسول اللّه ، ذلك مصداق ما أخبرتك به ، ولولا أنّ الذي سألت يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما نبأتك من لعنك ، وسخلك الملعون .

وكان ابنه في ذلك الوقت صبيا صغيرا يحبو ، فلمّا كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولّى قتله ، وكان الأمر كما قال أمير المؤنين عليه السلام(1) .

وقال الشيخ فخر الدين الطريحي رحمه الله : قيل : إنّ ذلك الصبي كان إسمه خولي بن يزيد الأصبحي ، وهو الذي طعن الحسين عليه السلام برمحه فخرج السنان من ظهره ، فسقط الحسين عليه السلام على وجهه يخور في دمه ، ويشكو الى ربّه(2) .

وإذا أردت أن تعرف هذا اللعين ، فاعلم أنّه كان حامل راية عسكر ابن زياد - لعنه اللّه - ، وقد باشر اللعين بقتل جماعة من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته .

منهم : عثمان ابن أمير المؤمنين عليهماالسلام ، وكان عمره واحد وعشرين سنة ، فلمّا برز يقاتل رماه خولي بن يزيد الأصبحي على جبينه ، فسقط عن فرسه ، وجزّ رأسه رجل آخر(3) .

ورمى هذا الملعون جعفر بن علي عليهماالسلام شقيق العباس عليه السلام ، فأصاب شقيقته ، فسقط عن فرسه ، وحلّقت روحه الى الجنان(4) .

ص: 113


1- الاحتجاج : 1/261 .
2- المنتخب : 1/160 المجلس8 .
3- بحار الأنوار : 45/37 .
4- بحار الأنوار : 45/38 .

وهو الذي حمل رأس ابن الرسول صلى الله عليه و آله ، وفلذة كبد زوج البتول عليه السلام ، من كربلاء الى الكوفة ، فوصل ليلاً ، فنزل في بيته - وكان على فرسخ من الكوفة - فجعل الرأس المقدّس في التنور حتى الصباح ، فلمّا أصبح حمل الرأس المقدّس هدية الى ابن زياد .

وروى السيد ابن طاووس وصاحب المناقب ومحمد بن أبي طالب : إنّ اللعين كان من جملة الخبثاء الذين تحزّموا بالعداوة ، وعضّوا أنامل الغيض ، وأقدموا على قتل سيد الشهداء عليه السلام ، حينما دعا عمر بن سعد شجعان عسكره لقتله عليه السلام ، وكان عليه السلامعلى الأرض مرمّلاً بدمائه ، ينوء برقبته ، ويلوك لسانه من شدّة العطش ، ولكنهم هابوه وخافوا من الإقدام عليه ، فبادر اليه هذا اللعين ليشجع الآخرين ، وكانوا خمس عشرة نفرا يحوطون بالحسين عليه السلام ، وسيوفهم مشهورة ، كلّ يطعنه بالسيف من جهة ، فقال هذا اللعين : أنا أقتله ، فنزل اليه ، فلمّا نظر اليه ، ارتعدت

يده ، وارتجف جسمه ، وولى هاربا(1) .

غلّت يمينك يا شقي وشلّت اليسرى

وأبعدك المهيمن من عدى

أتحزّ رأس الرأس من رؤسائها

صدر الصدور هو الرئيس الأمجد

ريحانة المختار قرّة عينه

إنسان عين المرتضى والسيد

يا راكبا يطوي القفار مجعجعا

طول النهار وليله لا يرقد

خذ من غريب في العراق لساكني

أرض الحجاز رسالة بك تنفد

أبلغ قريشا أنّ سيّدهالقى

بالطف شلوا جثة لا تلحد

أبلغ قريشا أنّ سيّدها مضى

عطشا حشاه بالظمأ يتوقّد

أبلغ قريشا أنّ سيّدها على

أعضائه تطأ الخيول وتطرد

أبلغ قريشا أنّ رأس أميرها

يهدى لنسل ولدان للرسالة يجحد

أبلغ قريشا أنّ رحل أميرها

ونساه صارا مغنما يتبدد

للّه مصرعه الشنيع ورزؤها

خطب الفضيع فمثله لا يوجد

ص: 114


1- انظر بحار الأنوار : 45/55 ، واللهوف : 176 .

فتعسا لأولئك الكفار الأشرار ، وبؤسا لهؤلاء الفجار ، لقد أبكوا عيني النبي المختار صلى الله عليه و آله ، وأحرقوا قلب الوصي الكرار ، فويل لهم ماذا يقولون حين يعرضون ؟ وماذا يجيبون حين يسألون ؟ « هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » .

لست تدري أيّ جمرة حرقوا بها قلوب أولياء اللّه ، وأيّ ثلمة ثلموها في الإسلام ، وأيّ عداوة نصبوها للّه ورسوله ، وأيّ ضجة أثاروها في العالم كلّه .

فعلوا فعلاً ضحك منهم اليهود والنصارى ، ولعنوهم ، ارتكبوا ظلما أنسى التاريخ ظلم فرعون ونمرود .

ماذا صنعوا بفلذة كبد الرسول صلى الله عليه و آله من أجل وعود كاذبة وعدهم بها ابن زياد الملعون ؟ ماذا صنعوا بقرّة عين حيدر الكرار من أجل دراهم معدودة ؟

عمر بن سعد على مفترق طريقين

أجل ، هكذا هو الشقي المنكوس الذي يخذله اللّه ، ويكله الى نفسه ، ويستقي أصله وجذره من منابع الشقاء ومعادن السوء .

روي أنّ علي بن أبي طالب عليهماالسلام لقي عمر بن سعد يوما ، فقال له : كيف تكون إذا قمت مقاما تتخيّر فيه بين الجنّة والنار ، فتختار لنفسك النار ؟

فقال له : معاذ اللّه ، أيكون ذلك ؟ فقال عليه السلام له : سيكون ذلك بلا شكّ(1) .

وروي في بعض مؤفات العلماء : أنّه لمّا جمع ابن زياد - لعنه اللّه - قومه لحرب الحسين عليه السلام كانوا سبعين ألف فارس ، فقال ابن زياد : أيّها الناس من منكم يتولّى قتل الحسين ، وله ولاية أيّ بلد شاء .

فلم يجبه أحد منهم ، فاستدعى بعمر بن سعد - لعنه اللّه - وقال له : يا عمر أريد أن تتولّى حرب الحسين بنفسك ، فقال له : اعفني من ذلك ، فقال ابن زياد :

ص: 115


1- المنتخب : 276/2 المجلس3 .

قد أعفيتك يا عمر ، فاردد علينا عهدنا الذي كتبنا إليك بولاية الري ، فقال عمر : أمهلنا الليلة ، فقال له : قد أمهلتك .

فانصرف عمر بن سعد إلى منزله وجعل يستشير قومه وإخوانه ومن يثق به من أصحابه ، فلم يشر عليه أحد بذلك ، وكان عند عمر بن سعد رجل من أهل الخير يقال له « كامل » ، وكان صديقا لأبيه من قبله ، فقال له : يا عمر ، ما لي أراك بهيئة وحركة ، فما الذي أنت عازم عليه ؟ وكان كامل كاسمه ذا رأي وعقل ودين كامل .

فقال له ابن سعد - لعنه اللّه - : إنّي قد ولّيت أمر هذا الجيش في حرب الحسين ، وإنّما قتله عندي وأهل بيته كأكلة آكل ، أو كشربة ماء ، وإذا قتلته خرجت إلى ملك الري .

فقال له كامل : أفّ لك يا عمر بن سعد ، تريد أن تقتل الحسين ابن بنت رسول اللّه ، أفّ لك ولدينك يا عمر ، أسفهت الحقّ وضللت الهدى ، أما تعلم إلى حرب من تخرج ؟ ولمن تقاتل إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . واللّه لو أعطيت الدنيا وما فيها على قتل رجل واحد من أمّة محمد لما فعلت ، فكيف تريد تقتل الحسين بن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وما الذي تقول غدا لرسول اللّه إذا وردت عليه وقد قتلت ولده وقرّة عينه وثمرة فؤده ، وابن سيدة نساء العالمين ، وابن سيد الوصيين ، وهو سيد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين ، وإنّه في زماننا هذا بمنزلة جدّه في زمانه وطاعته فرض علينا كطاعته ، وإنّه باب الجنّة والنار ، فاختر لنفسك ما أنت مختار ، وإنّي أشهد باللّه

إن حاربته ، أو قتلته ، أو أعنت عليه ، أو على قتله لا تلبث في الدنيا بعده إلاّ قليلاً .

فقال له عمر بن سعد : فبالموت تخوّفني وإنّي إذا فرغت من قتله أكون أميرا على سبعين ألف فارس ، وأتولّى ملك الري .

فقال له كامل : إنّي أحدّثك بحديث صحيح أرجو لك فيه النجاة إن وفقت لقبوله :

ص: 116

اعلم أنّي سافرت مع أبيك سعد إلى الشام ، فانقطعت بي مطيّتي عن أصحابي وتهت وعطشت ، فلاح لي دير راهب ، فملت إليه ، ونزلت عن فرسي ، وأتيت إلى باب الدير لأشرب ماء ، فأشرف عليّ راهب من ذلك الدير وقال : ما تريد ؟ فقلت له : إنّي عطشان ، فقال لي : أنت من أمّة هذا النبي الذين يقتل بعضهم بعضا على حبّ الدنيا مكالبة ، ويتنافسون فيها على حطامها ؟ فقلت له : أنا من الأمّة المرحومة ، أمّة محمد صلى الله عليه و آله ، فقال : إنّكم أشرّ أمّة ، فالويل لكم يوم القيامة ، إنّي لأجد في كتبنا إنّكم تقتلون ابن بنت نبيكم ، وتسبون نساءه ، وتنهبون أمواله ، فقلت له : يا راهب ، نحن نفعل ذلك ؟ قال : نعم ، وإنّكم إذا فعلتم ذلك عجّت السماوات والأرضون والبحار والجبال والبراري والقفار والوحوش والأطيار باللعنة على قاتله ، ثم لا يلبث قاتله في الدنيا إلاّ قليلاً ، ثم يظهر رجل يطلب بثأره ، فلا يدع أحدا شرك في دمه إلاّ قتله ، وعجّل اللّه بروحه إلى النار .

ثم قال الراهب : إنّي لأرى لك قرابة من قاتل هذا الابن الطيب ، واللّه إنّي لو أدركت أيامه لوقيته بنفسي من حرّ السيوف .

فقلت : يا راهب ، إنّي أعيذ نفسي أن أكون ممّن يقاتل ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال : إن لم تكن أنت ، فرجل قريب منك ، وإنّ قاتله عليه نصف عذاب أهل النار ، وإنّ عذابه أشدّ من عذاب فرعون وهامان ، ثم ردم الباب في وجهي ودخل يعبد اللّه تعالى ، وأبى أن يسقيني الماء .

قال كامل : فركبت فرسي ، ولحقت أصحابي ، فقال لي أبوك سعد : ما بطأك عنّا يا كامل ، فحدّثته بما سمعته من الراهب ، فقال لي : صدقت .

ثم إنّ سعدا أخبرني أنّه نزل بدير هذا الراهب مرّة من قبلي ، فأخبره أنّه هو الرجل الذي يقتل ابن بنت رسول اللّه ، فخاف أبوك سعد من ذلك ، وخشي أن تكون أنت قاتله ، فأبعدك عنه وأقصاك ، فاحذر يا عمر أن تخرج عليه يكون عليك نصف عذاب أهل النار .

ص: 117

قال : فبلغ الخبر ابن زياد - لعنه اللّه - ، فاستدعى بكامل وقطع لسانه ، فعاش يوما أو بعض يوم ، ومات رحمه اللّه (1) .

حرمان عمر بن سعد من ولاية الري

الحمد للّه الذي خيّب آمال اللعين ، فخسر الدنيا والآخرة ، أمّا الآخرة فواضح ، وأمّا الدنيا ، فقد روي في بعض كتب العلماء أنّه : لمّا فرغ عمر بن سعد من حرب الحسين عليه السلام ، وأدخلت الرؤوس والأسرى الى عبيد اللّه بن زياد - لعنه اللّه - جاء عمر بن سعد - لعنه اللّه - ودخل على عبيد اللّه بن زياد يريد منه أن يمكّنه من ملك

الري ، فقال له ابن زياد : آتني بكتابي الذي كتبته لك في معنى قتل الحسين عليه السلام وملك الري .

فقال له عمر بن سعد : واللّه إنّه قد ضاع منّي ، ولا أعلم أين هو ؟

فقال له ابن زياد : لابد أن تجئني به في هذا اليوم ، وإن لم تأتني به فليس لك عندي جائزة أبدا ، لأنّي كنت أراك مستحيا معتذرا في أيام الحرب من عجائز قريش ، ألست القائل :

فواللّه ما أدري وإنّي لحائر(2)

أفكر في أمري على خطرين

أأترك ملك الري والري منيتيأم أرجع مأثوما بقتل حسين

وهذا كلام معتذر مستح متردد في رأيه .

فقال عمر بن سعد : واللّه يا أمير ، لقد نصحتك في حرب الحسين نصيحة صادقة لو ندبني اليها أبي سعد لما كنت أدّيت حقّه كما أدّيت حقّك في حرب الحسين ، فقال عبيد اللّه بن زياد : كذبت يا لكع .

ص: 118


1- بحار الأنوار : 44/305 باب 36 .
2- في المنتخب : « لصادق » .

فقال عثمان بن زياد ، أخو عبيد اللّه بن زياد : واللّه يا أخي لقد صدق عمر بن سعد

في مقالته ، وإنّي لوددت أنّه ليس من بني زياد رجل إلاّ وفي أنفه خزمة الى يوم القيامة وأنّ حسينا لم يقتل أبدا .

فقال عمر بن سعد : فواللّه يا ابن زياد ، ما رجع أحد من قتلة الحسين عليه السلام بشرّ ممّا رجعت به أنا ، فقال له : وكيف ذلك ؟ فقال : لأنّي عصيت اللّه وأطعت عبيد اللّه ، وخذلت الحسين ابن رسول اللّه ونصرت أعداء اللّه ، وبعد ذلك إنّي قطعت رحمي ووصلت خصمي ، وخالفت ربّي ، فيا عظم ذنبي ، ويا طول كربي في الدنيا والآخرة .

ثم نهض من مجلسه مغضبا مغموما ، وهو يقول : وذلك هو الخسران المبين(1) .

فلعنة اللّه والأملاك قاطبة

على ابن سعد وأرباب الضلالات

فاستبدلوا بعلي ابن هند شقي

وبالحسين يزيدا ذا الغوايات

فما رعوا فاطما في سفك مهجتها

ولا رأوا حرمة للفاطميات

بل أوقعوا الفتك في آل النبي وما

أبقوا على الطفل أو سبي العليات

وأبرزوا الحاسرات الغر من حجب

مشهرات على ظهر الجمالات

قتل وأسر وتشتيت ومسّ أذى

موزّعات على خير البريّات

فمهنم من تمسّ الأرض جبهته

ومنهم خائض بحر المنيّات

فصاح هاتف أهل البيت من وله

هذا الحسين عري بالرمالات

برأس رمح بسنان رأسه أشرا

والنور يسطع منه أي سطعات

تزعزع العرش من هذا المصاب أسى

وأظلم الجو مكشوف المنيرات

كتاب ابن زياد - لعنه اللّه - الى الإمام الحسين عليه السلام

سمعت مجملاً من حكايات هؤلاء الأراذل ، فاستمع الى بعض حكاياته الأخرى لتزداد بصيرة في شأن هؤلاء الأوباش الملاعين .

ص: 119


1- المنتخب : 2/323 المجلس 5 .

روى صاحب المناقب : فنزل القوم في كربلاء ، وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين عليه السلام في ألف فارس ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين عليه السلام بكربلاء .

وكتب ابن زياد - لعنه اللّه - إلى الحسين - صلوات اللّه عليه - : أمّا بعد ، يا حسين ، فقد بلغني نزولك بكربلاء ، وقد كتب إليّ أمير المؤنين يزيد أن لا أتوسد الوثير ، ولا أشبع من الخمير ، أو ألحقك باللطيف الخبير ، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية ، والسلام .

فلمّا ورد كتابه على الحسين عليه السلام وقرأه رماه من يده ، ثم قال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق .

فقال له الرسول : جواب الكتاب أبا عبد اللّه ، فقال : ما له عندي جواب ، لأنّه قد حقّت عليه كلمة العذاب .

فرجع الرسول إليه فخبره بذلك ، فغضب عدو اللّه من ذلك أشدّ الغضب ، والتفت إلى عمر بن سعد ، وأمره بقتال الحسين ، وقد كان ولاّه الري قبل ذلك ، فاستعفى عمر من ذلك ، فقال ابن زياد : فاردد إلينا عهدنا ، فاستمهله ، ثم قبل بعد يوم خوفا عن أن يعزل عن ولاية الري(1) .

ورود عمر بن سعد الى كربلاء

قال المفيد رحمه الله : فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس ، فنزل بنينوى ، فبعث إلى الحسين عليه السلام عروة بن قيس الأحمسي ، فقال له : ائته فسله ما الذي جاء بك ؟ وما تريد ؟ وكان عروة ممّن كتب إلى الحسين ، فاستحيا منه أن يأتيه .

فعرض ذلك على الرؤاء الذين كاتبوه ، وكلّهم أبى ذلك وكرهه .

ص: 120


1- المناقب : 4/98 فصل في مقتله عليه السلام ، بحار الأنوار : 44/382 باب 37 .

[ فقام إليه كثير بن عبد اللّه الشعبي ، وكان فارسا لا يردّ وجهه ، فقال له : أنا أذهب إليه ، وواللّه لئن شئت لأفتكن به ، فقال له عمر بن سعد : ما أريد أن تفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به ؟

فأقبل كثير إليه ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين عليه السلام : أصلحك اللّه يا أبا عبد اللّه ، قد جاءك شرّ أهل الأرض ، وأجرؤ على دم ، وأفتكهم ، وقام إليه فقال له : ضع سيفك ، قال : لا واللّه ، ولا كرامة ، إنّما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلغتكم ما أرسلت إليكم ، وإن أبيتم انصرفت عنكم ، قال : فإنّي آخذ بقائم سيفك ، ثم تكلّم بحاجتك ، قال : لا واللّه لا تمسه ، فقال له : أخبرني بما جئت به ، وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه ، فإنّك فاجر ، فاستبّا ، وانصرف إلى عمر بن سعد ، فأخبره الخبر ] .

فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي ، فقال له : ويحك ، الق حسينا فسله ما جاء به ؟ وما ذا يريد ؟

فأتاه قرّة ، فلمّا رآه الحسين مقبلاً قال : أتعرفون هذا ؟

فقال حبيب بن مظاهر : هذا رجل من حنظلة تميم ، وهو ابن أختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي ، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد .

فجاء حتى سلّم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه، فقال له الحسين عليه السلام:

كتب إليّ أهل مصركم هذا : أن أقدم ، فأمّا إذا كرهتموني فأنا أنصرف عنكم .

فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرّة أين تذهب إلى القوم الظالمين ؟ انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك اللّه بالكرامة ، فقال له قرة : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته ، وأرى رأيي .

فانصرف إلى عمر بن سعد وأخبره الخبر ، فقال عمر بن سعد : أرجو أن يعافيني اللّه من حربه وقتاله . وكتب إلى عبيد اللّه بن زياد(1) .

ص: 121


1- بحار الأنوار : 44/385 .

كتاب ابن زياد - لعنه اللّه - الى عمر بن سعد

قال حسان بن قائد العبسي : كنت عند عبيد اللّه بن زياد حين أتاه كتاب ابن سعد ، فلمّا قرأه قال :

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ

وكتب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا ، والسلام(1) .

وفي بعض الأخبار : فلم يعرض ابن سعد على الحسين ما أرسل به ابن زياد ، لأنّه علم أنّ الحسين لا يبايع يزيد أبدا(2) .

خطبة ابن زياد وتحريض الناس على حرب الحسين عليه السلام

ثم جمع ابن زياد الناس في جامع الكوفة ثم خرج فصعد المنبر ، وخطب في الناس فمدح يزيد ومعاوية ودعا الناس لحرب سيد الشهداء عليه السلام ، ووعدهم بالمال والعطاء(3) .

ثم نزل عن المنبر ، ووفر الناس العطاء ، وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين عليه السلام ، ويكونوا عونا لابن سعد على حربه .

خروج شمر اللعين وتتابع الجيوش بالخروج الى كربلاء

فلمّا لمعت الصفراء والبيضاء في عيون أولئك القوم الذين تنكروا لدينهم ،واستعبدتهم الدنيا وزخارفها ، نسوا آخرتهم بالمرّة ، وسلكوا سبيل الجفاء ،

ص: 122


1- بحار الأنوار : 44/384 .
2- بحار الأنوار : 44/385 .
3- في بحار الأنوار : 44/385 : قال : أيّها الناس إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤنين يزيد قد عرفتموه ، حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسنا إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، قد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده ، يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أوفرها عليكم وأخرجكم إلى حرب عدوه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا .

وكفروا بالقيم والحياء ، وهكذا كان دأبهم ، وقنعوا بالقليل من عطاء أميرهم الذليل ، وخضعوا للدينار والدرهم ، وسلّوا سيوفهم على سبط الرسول ، وخرجوا الى حربه ، وتدافعوا يتعجلون العذاب الى كربلاء .

فأول من خرج شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف ، فصار ابن سعد في تسعة آلاف .

ثم أتبعه بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين من الكفار .

والحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف كافر .

وفلانا المازني في ثلاثة آلاف كافر .

ونصر بن فلان في ألفين من الكفار . فذلك عشرون ألفا .

وفي رواية ابن بابويه : وعبد اللّه بن الحصين التميمي في ألف فارس .

ومحمد بن الأشعث بن قيس في ألف فارس .

وفي رواية أخرى : وشبث بن ربعي في أربعة آلاف(1) .

قال محمد بن أبي طالب الموسوي - وهو من ثقاة العلماء - : فما زال يرسل إليه بالعساكر حتى تكامل عنده ثلاثون ألفا ما بين فارس وراجل(2) .

هذا هو القول المشهور والموافق لكثير من الأخبار .

وروي : إثنان وعشرون ألفا .

وقال محمد بن إسماعيل البخاري - إمام أهل السنة - أنّهم أربعون ألفا .

وقال السيد ابن طاووس رحمه الله - وهو من أعاظم علماء الشيعة - : أنّهم مائة ألف .

قال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي : إنّهم مائة وإثنان وعشرون ألف ، ثمانونالف فارس ، وألفا راجل ، وألف من الخوارج ، وثمانية آلاف يحملون الأرزاق ،

ص: 123


1- أمالي الصدوق : 219 ح239 ، بحار الأنوار : 44/385 ، وانظر الدمعة الساكبة : 4/261 .
2- بحار الأنوار : 44/385 .

ويجددون نعل الخيل ، ويصلحون السيوف والرماح استعدادا لقتل مولى العالمين ، وسيد الخافقين ، فكانوا يتدافعون أفواجا أفواجا ، ويصطفون أمام الغرباء الذين لا ناصر لهم ولا معين ، ويروّعون قلوب مخدرات معسكر الحسين عليه السلام .

وفي رواية الشيخ المفيد رحمه الله وغيره : نزل الحسين عليه السلام في كربلاء يوم الخميس الثاني من محرم(1) .

ووصل عمر بن سعد يوم الجمعة الثالث من محرم ، وتدافع الناس يتلو بعضهم بعضا ، وأمير العسكر كلّه عمر بن سعد ووزيره ابنه حفص .

وأمّا الشمر فكان له منصبان : كان أمير الرجالة ، ونقيب العسكر .

وكان سنان بن أنس النخعي كاتب العسكر ، وخولي الأصبحي وحرملة بن كاهل الأسدي أصحاب ألوية .

وكان أبو أيوب الغنوي على أصحاب المساحي والمعاول ، وهو - لعنه اللّه - رمى الحسين عليه السلام بسهم وقع في حلقه المبارك .

وكان محمد بن الأشعث على الرماة ، وهو ابن أخت أبي بكر ، وقد شارك أبوه في دم أمير المؤمنين عليه السلام ، وسمّت أخته أسماء الإمام الحسن عليه السلام ، وشارك هو نفسه في قتل سيد الشهداء عليه السلام ، وقد بنى مسجدا في الكوفة فرحا بقتل سيد الشهداء ، وهو أحد المساجد الأربعة الملعونة .

وكان عمرو بن صبيح الصيداوي على رماة الحجارة .

وكان منقذ بن مرّة العبدي - قاتل علي الأكبر عليه السلام - رسول الفتح(2) .

خرج هؤلاء جميعا لقتل فلذة كبد فاطمة البتول الزهراء عليهاالسلام ، وشبل عليالمرتضى عليه السلام . . . فدتك شيعتك يا أبا عبد اللّه ، فدتك وفدت غربتك ومظلوميتك ياأبا عبد اللّه .

ص: 124


1- الإرشاد : 2/82 ، بحار الأنوار : 44/380 .
2- انظر بحار الأنوار : 45/4 و44 ، مقتل الحسين عليه السلام : 114 .

فلمّا اجتمعت عساكر الكفر والشقاء في كربلاء كتب ابن زياد الى عمر بن سعد :

إنّي لم أجعل لك عذرا في كثرة الخيل والرجال ، فانظر لا أصبح ولا أمسي إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية(1) .

ابن زياد يأمر بمنع الماء على الحسين عليه السلام

قال الشيخ المفيد رحمه الله : وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى عمر بن سعد : أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، ولا يذوقوا منه قطرة ، كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان .

فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس ، فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، ومنعوهم أن يسقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين عليه السلام بثلاثة أيام .

ونادى عبد اللّه بن حصين الأزدي ، وكان عداده في بجيلة ، قال بأعلى صوته : يا حسين ، ألا تنظرون إلى الماء كأنّه كبد السماء ، واللّه لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى

تموتوا عطشا ، فقال الحسين عليه السلام : اللّهم اقتله عطشا ، ولا تغفر له أبدا .

قال حميد بن مسلم : واللّه لعدته في مرضه بعد ذلك ، فواللّه الذي لا إله غيره لقد

رأيته يشرب الماء حتى يبغر ، ثم يقيئه ويصيح : العطش العطش ، ثم يعود ويشرب حتى يبغر ، ثم يقيئه ، ويتلظّى عطشا ، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه(2) .

وروي أنّه رجعت خيل ابن سعد حتى نزلوا على شاطئ الفرات ، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، وأضرّ العطش بالحسين وأصحابه ، فأخذ الحسين عليه السلام فأسا وجاء إلى وراء خيمة النساء ، فخطا في الأرض عدّة خطوات نحوالقبلة ، ثم حفر هناك ، فنبعت له عين من الماء العذب . فشرب الحسين عليه السلاموشربالناس بأجمعهم ، وملئوا أسقيتهم ، ثم غارت العين ، فلم ير لها أثر .

ص: 125


1- بحار الأنوار : 44/386 .
2- بحار الأنوار : 44/389 باب 37 .

وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى عمر بن سعد : بلغني أن الحسين يحفر الآبار ، ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه ، فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت ، وضيّق عليهم ولا تدعهم يذوقوا الماء ، فعندها ضيّق عمر بن سعد عليهم غاية التضييق(1) .

العباس يستقي الماء لمعسكر الحسين عليه السلام

فلمّا اشتدّ العطش بالحسين عليه السلام دعا بأخيه العباس عليه السلام ، فضمّ إليه ثلاثين فارسا وعشرين راكبا ، وبعث معه عشرين قربة .

فأقبلوا في جوف الليل حتى دنوا من الفرات ، فقال عمرو بن الحجاج : من أنتم ؟ فقال رجل من أصحاب الحسين عليه السلام يقال له « هلال بن نافع البجلي » : ابن عم لك جئت أشرب من هذا الماء . فقال عمرو : اشرب هنيئا . فقال هلال : ويحك ، تأمرني أن أشرب والحسين بن علي ومن معه يموتون عطشا ؟ ! فقال عمرو - لعنه اللّه - : صدقت ، ولكن أمرنا بأمر لابد أن ننتهي إليه .

فصاح هلال بأصحابه ، فدخلوا الفرات ، وصاح عمرو بالناس ، واقتتلوا قتالاً شديدا ، فكان قوم يقاتلون ، وقوم يملأون ، حتى ملأوها ، ولم يقتل من أصحاب الحسين أحد .

ثم رجع القوم إلى معسكرهم ، فشرب الحسين ومن كان معه ، ولذلك سمي العباس عليه السلام السقاء(2) .

معشر الشيعة ، يظهر من تتبع الأخبار ، وكلمات العلماء الأبرار ، أنّ معسكر الحسين عليه السلام لم يزوّدوا بالماء إلاّ في هاتين المرتين ، وسوى ذلك لم يذوقوا الماء أبدا ،وبقيت تلك الشفاه الذابلات ، والأكباد المحترقات ، في ذلك الحرّ الشديد ، بين الهجير والرمضاء ، حتى سقوا كؤوس الشهادة ، وارتووا من أفواه سيوف الكفار .

ص: 126


1- بحار الأنوار : 44/387 باب 37 .
2- بحار الأنوار : 44/387 باب 37 .

بنفسي شفاها ذابلات من الظمأ

ولم تحظ من ماء الفرات بقطرة

بنفسي عيونا عابرات شواهد

الى الماء منها نظرة بعد نظرة

بنفسي وجوها في التراب تعفّرت

ينفسي جسوما بالعراء تعرّت

بنفسي رؤوسا عاليات على القنا

الى الشام تهدى بارقات الأسنة

اجتماع الحسين عليه السلام بعمر بن سعد - لعنه اللّه -

ثم أرسل الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد - لعنه اللّه - : إنّي أريد أن أكلمك ، فألقني الليلة بين عسكري وعسكرك ، فخرج إليه ابن سعد في عشرين ، وخرج إليه الحسين في مثل ذلك .

فلمّا التقيا أمر الحسين عليه السلام أصحابه فتنحوا عنه ، وبقي معه أخوه العباس ، وابنه علي الأكبر ، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا عنه ، وبقي معه ابنه حفص ، وغلام له .

فقال له الحسين عليه السلام : ويلك يا ابن سعد أما تتقي اللّه الذي إليه معادك ؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت ؟ ذر هؤاء القوم ، وكن معي ، فإنّه أقرب لك إلى اللّه تعالى .

فقال عمر بن سعد : أخاف أن يهدم داري .

فقال الحسين عليه السلام : أنا أبنيها لك .

فقال : أخاف أن تؤذ ضيعتي .

فقال الحسين عليه السلام : أنا أخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز .

وروي أنّه عليه السلام قال : أعطيك من مالي في البغيبغه ، وهي عين عظيمة في الحجاز دفع معاوية ألف دينار ثمنا لها فلم يبعها الحسين عليه السلام .فقال : لي عيال ، وأخاف عليهم ، ثم سكت(1) ، ولم يجبه إلى شيء ، لأنّه عليه السلامرأى الشقاء والخيانة والطغيان قد استولت على هذا المنكوس ، فلا تنفعه الموعظة ،

ص: 127


1- قال المؤلف : أي الحسين عليه السلام .

ولا يستمع الى نصيحة ، وليس في قلبه الذي جانب الحقّ ، وختم عليه بالشقاوة ، وغرق في حبّ الرئاسة ، حتى صم وعمي عن سماع نداء الهداية ، ورؤية طريق الحقّ ، فصار مصداقا حقيقيا لقوله : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » .

فانصرف عنه الحسين عليه السلام ، وهو يقول : ما لك ذبحك اللّه على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ، فواللّه إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيرا .

فقال ابن سعد : في الشعير كفاية عن البرّ ، مستهزئا بذلك القول(1) .

وكان من معاجز الإمام عليه السلام أن عمر بن سعد قد ابتلي ببلاء منعه من أكل البر حتى انتقل الى الجحيم .

كتاب آخر من عمر بن سعد الى ابن زياد وجوابه

فلمّا رجع الشقي الى مقرّه كتب إلى عبيد اللّه بن زياد : أمّا بعد ، فإنّ اللّه قد أطفأ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الأمّة ، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أن يسير إلى ثغر من الثغور ، فيكون رجلاً من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده(2) ، فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضى ، وللأمة صلاح .

فلمّا قرأ عبيد اللّه الكتاب قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه .

فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك ،وأتى جنبك ، واللّه لئن رحل بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ،

ص: 128


1- بحار الأنوار : 44/389 .
2- كذب الخبيث لعنه اللّه على الحسين عليه السلام ، وقد اعترف بذلك ، واعترف بأنّه يعرف الحسين عليه السلامجيدا وأنّه عليه السلام لن يبايع يزيدا لعنه اللّه حيث سيقول بعد قليل مخاطبا شمرا لعنه اللّه : ما لك ويلك لا قرب اللّه دارك وقبح اللّه ما قدمت به علي واللّه إني لأظنك نهيته عما كتبت به إليه وأفسدت علينا أمرا قد كنا رجونا أن يصلح لا يستسلم واللّه حسين إن نفس أبيه لبين جنبيه .

ولتكونن أولى بالضعف والعجز ، فلا تعطه هذه المنزلة ، فإنّها من الوهن ، ولكن لينزل على حكمك ، هو وأصحابه ، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة ، وإن عفوت كان ذلك لك .

فقال ابن زياد : نعم ما رأيت ، الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد ، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فإن فعلوا ، فليبعث بهم إليّ سلما ، وإن هم أبوا فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع ، وإن أبى أن يقاتلهم

فأنت أمير الجيش ، فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

وكتب إلى عمر بن سعد : لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء ، ولا لتعتذر عنه ، ولا لتكون له عندي شفيعا ، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي واستسلموا ، فابعث بهم إليّ سلما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم ، وتمثّل بهم ، فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإن قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنّه عات ظلوم ! ! ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئا ، ولكن على قول قد قلته ، لو قد قتلته لفعلته هذا به .

لعنة اللّه على هذا الخبيث ، أيّ دم سفكه الحسين عليه السلام ظلما ؟ أو أيّ موجود ناله من الحسين عليه السلام ظلم ، حتى يقول فيه هذا اللعين هذا القول ؟

لماذا طحنوا أضلاعه بسنابك الخيل ؟

ما الذي فعله الحسين عليه السلام حتى يمثّل به ، ويقطعون يديه ، ويقطعون أذنيه ، ويجدعون أنفه ؟

صدور العلى أمست بعرصة كربلا

ترضّ بركض العاديات صدورها

عطاشا تبل السهم حرّ أوامها

ومن حولها عتبت فراتا نحورها

ثم قال اللعين الخبيث في كتابه الى الكافر العنيد : فإن أنت مضيت لأمرنا فيهجزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا ، وخلّ بين شمر بنذي الجوشن وبين العسكر ، فإنا قد أمرناه بأمرنا ، والسلام .

ص: 129

فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد اللّه بن زياد إلى عمر بن سعد ، فلمّا قدم عليه وقرأه قال له عمر : ما لك ويلك ، لا قرّب اللّه دارك ، وقبّح اللّه ما قدمت به عليّ ، واللّه إنّي لأظنّك نهيته عما كتبت به إليه ، وأفسدت علينا أمرا قد كنّا رجونا أن يصلح ، لا يستسلم واللّه حسين ، إنّ نفس أبيه لبين جنبيه(1) .

فقال له شمر - ابن الزنا - : أخبرني ما أنت صانع ؟ أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوّه ، وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند والعسكر .

قال : لا ، ولا كرامة لك ، ولكن أنا أتولّى ذلك ، فدونك فكن أنت على الرجالة(2) .

هجوم القوم على خيام الحسين عليه السلام عصر تاسوعاء واضطراب زينب عليهاالسلام

ونهض عمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام عشية الخميس لتسع مضين من المحرم ، وأمر بالهجوم على سرادق العصمة التي كانت الملائكة تخدمها .

ثم نادى عمر : يا خيل اللّه اركبي وبالجنة أبشري ، فركب الناس ، ثم زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين عليه السلام جالس أمام بيته محتبئ بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت أخته الصيحة ، فدنت من أخيها وقالت : يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت .

فرفع الحسين عليه السلام رأسه فقال : إنّي رأيت رسول اللّه الساعة في المنام ، وهو يقول لي : إنّك تروح إلينا عن قريب .

فلطمت أخته وجهها ، ونادت بالويل ، فقال لها الحسين عليه السلام : مهلاً لا تشمتيالقوم بنا ، يا أخت اسكتي رحمك اللّه (3) .

ص: 130


1- الإرشاد : 2/88 ، بحار الأنوار : 44/389 باب 37 .
2- الإرشاد : 2/89 ، بحار الأنوار : 44/391 .
3- اللهوف : 150 ، بحار الأنوار : 44/391 .

العباس يستمهل القوم

قال الشيخ المفيد رحمه الله : فقال له العباس بن علي عليهماالسلام : يا أخي أتاك القوم ، فنهض ثم قال : اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم ، وتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عما جاء بهم ؟

فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارسا ، [ فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ] ، فقال لهم العباس عليه السلام : ما بدا لكم ؟ وما تريدون ؟

قالوا : قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم .

قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد اللّه ، فأعرض عليه ما ذكرتم . فوقفوا فقالوا القه وأعلمه ، ثم القنا بما يقول لك .

فانصرف العباس راجعا يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين .

فجاء العباس إلى الحسين عليه السلام وأخبره بما قال القوم ، فقال : ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تؤرهم إلى غد ، تدفعهم عنّا العشية لعلنا نصلّي لربّنا الليلة ، وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي كنت قد أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار .

فمضى العباس إلى القوم الأشقياء ، وقال لهم : هذا ابن بنت نبيكم يستمهلكم سواد هذه الليلة ، ويقول : إنّها آخر ليلة من عمره ، وهو يريد أن يصلّي فيها لربّه ،

ويودّع عبادة ربّه .

فروي في بعض كتب العلماء : أنّ ابن سعد أبى أن يمهلهم ، فضجّ عليه العسكر وقالوا : واللّه لو أنّهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمد صلى الله عليه و آله(1) ، وقد استمهلوكم للعبادة .

ص: 131


1- اللهوف : 89 .

فلمّا رأى عمر بن سعد ذلك أمر مناديه فنادى : إنّا قد أجلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم سرحنا بكم إلى عبيد اللّه بن زياد ، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم ، فانصرف وجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء(1) .

« إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »

ص: 132


1- الإرشاد : 2/90 ، بحار الأنوار : 44/391 .

المجلس الرابع: وقائع ليلة العاشر

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي رفع مدارج السعداء ، وأعلى معارج الشهداء ، واختبرهم بضروب الرزايا ، وصنوف الابتلاء ، وارتضاهم بجميل السلوات والعزاء ، وعوّضهم عن الحياة الفانية والنعمة الدانية حياة باقية ونعيما بلا فناء ، فقال : « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ . . » .

والصلاة والسلام على قدوة خيل الأنبياء ، ونخبة أهل الأرض والسماء ، وأسرته البررة الأصفياء ، وعترته النجباء السعداء .

خصوصا على سبطه ، وولده الشهيد ، جليل المناقب في البلاء ، والصابر في البأساء والضراء ، قتيل الظماء ، ومحروق الخباء ، مقطّع الأعضاء ، ومحزوز الرأس من القفاء ، مسلوب العمامة والرداء ، مخضّب الشيب من الدماء ، أبي الشهداء ، وأخي الشهداء ، وسيد الشهداء ، وخامس أصحاب الكساء ، أبي عبد اللّه الحسين المظلوم عليه السلام .

وعلى أهل بيته النجباء ، وأصحابه الشهداء ، السالكين مسالك المحبّة والوفاء ، المرتقين أعلى مدارج أرباب الودّ والولاء ، صلاة متّصلة دائمة ، ما ظهر للقمر نور وللشمس ضياء ، ولعنة اللّه على أعدائهم الأشقياء .

ص: 133

وبعد ، فقد قال اللّه تبارك وتعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ » .

* * *

نصر اللّه

اعلم ، أنّ اللّه غالب على أمره ، ولا يعتريه العجز والإحتياج أبدا ، فهو جلّت قدرته ، لا يحتاج الى نصر ناصر ولا إعانة معين ، بل إنّ كلّ موجود في جنب جلاله وعظمته خاضع حقير ، وكلّ قوة الى جنب قوته وقدرته ضعيفة ذليلة .

وكيف لا يكون كذلك وهو موجد كلّ ذي قوة ، وخالق كلّ ذي قدرة ، وهو الذي تفيض منه القوة والقدرة والخير والبركة ، فإذا شاء أوجد الف الف عالم في آن واحد ، وإن شاء أعدم مثل ذلك في أقلّ من لمح البصر ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه له

الحكم وله الأمر .

فلابد أن نحمل دعوة الحقّ القادر المؤمنين الى نصره على ضرب من التجوّز ، ولابد أن يكون المراد من الاستعمال خلاف الظاهر .

مصاديق نصرة اللّه

فلابد أن يكون إذن نصر اللّه هو نصر المقرّبين منه ، المخصوصين به ، أو نصر دينه وشريعته ، وهي أقرب الأشياء اليه ، ومرجعهما واحد .

ومن هنا يتبيّن بمقتضى الآية الشريفة : أنّ المؤمنين جميعا مأمورين بنصر الدين الإلهي وتأييد الشريعة الربانية ، والملّة الرحمانية ، بل يستفاد منها أنّ ذلك من مقتضيات الإيمان ولوازمه ، فالواجب على كلّ فرد من المؤمنين أن يسعى بمقدار ما آتاه اللّه من طاقة في نصر الدين وأعلاء كلمة الحقّ واليقين ، وترسيخ بناء شريعة

ص: 134

سيد المرسلين ، ودفع أذى الشياطين ، وفساد المفسدين ، وتحريف الضالين والمبطلين ، بيده ولسانه وأركانه .

ويكفي هؤلاء الجماعة أنّ اللّه عبّر عنه في كتابه ب- « أنصار اللّه » أحيانا ، و « جند اللّه » و« حزب اللّه » أحيانا أخرى .

وكلّ واحد من الأنبياء والأوصياء والعلماء والصالحين والشهداء قد أدى دوره في نصرة الدين الإلهي .

فقام بعضهم بالسيف والسنان يذبّ عن دين الرحمن ، ويدفع شرور الأشرار عن حمى الإسلام ، ويقاتل أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ، الذين بذلوا جهدهم في هدم أركان الشريعة.

وقام بعضهم يذبّ عن حريم الدين بحدّ اللسان ، ويقاتل الأعداء بسيوف البيان ، فيقضي عليهم ، ويدمرهم تدميرا .

وانبرى بعضهم حاملاً القلم والمداد ، يدفع شبهات المبتدعين ، ويردّ كيد الأعداء والمخالفين ، ويقطع دابر المبطلين .

وهكذا ، ساهم كلّ واحد في إعزاز دين اللّه ، وإعلاء كلمة اللّه ، وانخرط في صفوف حزب اللّه ، وأنت - يا عزيزي القارى ء - حرّك مطايا الهمم ، واسعَ في طريق الشرف والفخر والعزم ، واسلك سبيل هاتيك الأمم ، ولا يفوتك أخذ الموقع في هذا الخندق .

فإن استطعت أن تقاتل الأعداء بالسيف والسنان ، وتجاهد في سبيل اللّه ، فإن قتلت نلت وسام الشهادة ، وإن قتلت فأنت سعيد ، وإن عجزت عن القتال ، فتناول سنان اللسان ، وسيوف البيان ، ودمّر الكفار والأشرار ، لتدخل نفسك في زمرة العلماء الأبرار ، وتحشر مع الذين ابيضت وجوههم عند النبي صلى الله عليه و آله والأئمة الأطهار عليهم السلام .

ص: 135

فإذا كنت محروما من هذا القدر ، فانصر من ينصر دين اللّه باليد واللسان ، وتمنى ذلك وقل : يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزا عظيما ، كما قال الإمام الرضا عليه السلام للريان بن شبيب :

يا ابن شبيب إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين عليه السلام ، فقل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما(1) .

وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : من ضعف عن نصرتنا أهل البيت ، فلعن في خلواته(2) أعداءنا بلغ اللّه صوته جميع الأملاك ، من الثرى إلى العرش ، فكلّما لعن هذا الرجل أعداءنا لعنا ساعدوه ، ولعنوا من يلعنه .

ثم ثنّوا فقالوا : اللّهم صلّ على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه ، ولو قدر على أكثر منه لفعل .

فإذا النداء من قبل اللّه - عزّ وجلّ - قد أجبت دعاءكم ، وسمعت نداءكم ، وصلّيت على روحه في الأرواح ، وجعلته عندي من الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيارِ(3) .

أول من نصر دين اللّه

اعلم ، أنّ أول من نصر دين اللّه ، بيده ولسانه ، وسبق المجاهدين طرا في بذل نفسه وماله وجاهه ، وقدم كلّ ما عنده في سبيل اللّه هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ، وقد تحمّل في ذلك الكير من أذى قومه .

لقد ظلموا النبي صلى الله عليه و آله ظلما بغير حساب ، وصبر هو على الأذى في جنب اللّه ، فحاز قصب السبق على الممكنات جميعا في جميع المقامات .

ص: 136


1- بحار الأنوار : 44/285 ح23 .
2- ترجمها المؤلف : « في صلواته » .
3- تفسير الإمام عليه السلام : 47 ، بحار الأنوار : 27/222 باب 10 .

ثم من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قضى عمره ، حاملاً روحه على كفّه ، يذبّ عن حياض الدين ، ويصبّ صواعق العذاب بسيفه على الكافرين ، ويذيب نفسه في لهيب سيفه الذي بنى الدم عليه بنيانا من دماء المشركين ، حتى أحرق جذور الشرك والمشركين ، وأباد عساكر الكفر والملحدين .

ولولا سيفه لما مثل الدين شخصا وقاما ، ولولا ضرباته لما ارتفع لواء الايمان عاليا .

ثم من بعده ولده المظلوم السموم الحسن الزكي عليه السلام ، حيث رفع لواء النصر الإلهي ، وجاهد في سبيل اللّه بماله ونفسه ، وضحّى بوجوده وقدم نصرة دين اللّه على نفسه ، فدارى الأعداء ، وصالح المنافقين ، لأنّه علم أن لو لم يفعل ذلك ، لهلكت العصابة الموحدة على قلّة العدد والعدّة ، وانمحى الدين ، ولم يبق أثر لشريعة سيد المرسلين ، وانطوى بساط التوحيد واليقين ، ولذا ورد في الأخبار :

وَاللَّهِ لَلَّذِي صَنَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهماالسلام كَانَ خَيْراً لِهَذِهِ الأْمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ

الشَّمْسُ(1) .

طغيان أعداء أهل البيت

ولكن أولياء الكفر والضلالة ، لمّا رأوا أولياء الحقّ وأهل التوحيد في قلّة وضعف ، اغتنموا الفرصة ، وبادروا الى ترسيخ دعائم الكفر والطغيان ، وتشييد أساس بنيان الشيطان ، ودعوا الناس الى سنن الجاهلية ، وحملوهم على الطريقة الشيطانية .

فقطعوا ظلما أيدي بعضهم وأرجلهم ، وحبسوا البعض وجلدوهم ، وهددوا البعض وبالوعيد والتهديد بالقتل والسلب والنهب خوّفوهم ، ورغّبوا البعض بالصفراء والبيضاء واستمالوهم ، ووعدوا بعضا بالمناصب والزعامات ومن الدين أخرجوهم .

ص: 137


1- الكافي : 8/330 ، بحار الأنوار : 44/19 ح3 .

ثم وضعوا الأحاديث الكاذبة ، ونشروها بين الناس ، وأسمعوهم - كذبا وافتراء - مديح بني أمية وأوليائهم ، وافتروا الكذب على أهل الحقّ ليخرجوهم من قلوب الناس ، ويرسخوا محبّة الشيخين وبني أمية في صدورهم ، ويزرعوا فيها بغض أهل البيت عليهم السلام حتى صار سبّ علي وفاطمة عليهماالسلام من ضروريات التعقيب بعد الصلاة وفي القنوت ، والخطب وبعد الأذان ، وفي كلّ وقت وآن ، بحيث لو نسي أحدهم قضى .

روى بعض العلماء : أنّ خطيبا في مصر سها يوم الجمعة عن سبّ علي بن أبي طالب عليه السلام على المنبر ، فلمّا فرغ من الصلاة وخرج وصل إلى موضع من الطريق ، فذكر أنّه لم يسبّه ، فوقف وسبّه هناك قضاء لما نسيه ، فبني في الموضع المذكور مسجدا ، وسمي بمسجد الذكر تبركا(1) .

كانوا يقتلون الشيعة على الظنّة والتهمة ، وكتب معاوية الى عماله كتابا يقول فيه : انظروا من ثبت عندكم أنّه من شيعة علي ، أو أنّه يذكر عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فاقتلوه ، واقتلوهم على الظنّة والتهمة ، فقتلوا عدّة آلاف بهذه التهمة(2) .

ص: 138


1- الغارات : 2/843 ، فرحة الغري : 24 .
2- في بحار الأنوار : 27/212 ح15 : عن كتاب سليم بن قيس الهلالي قال أبان بن أبي عياش : قال لي أبو جعفر الباقر عليه السلام : ما لقينا أهل البيت من ظلم قريش وتظاهرهم علينا ، وقتلهم إيانا ، وما لقيت شيعتنا ومحبّونا من الناس ، إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبض وقد قام بحقّنا ، وأمر بطاعتنا ، وفرض ولايتنا ومودّتنا ، وأخبرهم بأنّا أولى بهم من أنفسهم ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب ، فتظاهروا على علي عليه السلام ، واحتج عليهم بما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيه ، وما سمعت العامة فقالوا : صدقت قد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولكن قد نسخه ، فقال : إنّا أهل بيت أكرمنا اللّه - عزّ وجلّ - واصطفانا ، ولم يرض لنا بالدنيا ، وإنّ اللّه لا يجمع لنا النبوة والخلافة ، فشهد له بذلك أربعة نفر ، عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، فشبهوا على العامة ، وصدقوهم وردوهم على أدبارهم ، وأخرجوها من معدنها حيث جعلها اللّه ، واحتجوا على الأنصار بحقّنا ، فعقدوها لأبي بكر ،ثم ردّها أبو بكر على عمر يكافيه بها ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة ، ثم جعلها ابن عوف لعثمان على أن يردّها عليه ، فغدر به عثمان ، وأظهر ابن عوف كفره ، وطعن في حياته ، وزعم أنّ عثمان سمّه فمات ، ثم قام طلحة والزبير فبايعا عليا عليه السلامطائعين غير مكرهين ، ثم نكثا وغدرا ، وذهبا بعائشة معهما إلى البصرة ، ثم دعا معاوية طغاة أهل الشام إلى الطلب بدم عثمان ، ونصب لنا الحرب ، ثم خالفه أهل حروراء على أنّ الحكم بكتاب اللّه وسنة نبيه ، فلو كانا حكما بما اشترط عليهما لحكما أنّ عليا أمير المؤنين في كتاب اللّه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه و آله وفي سنته ، فخالفه أهل النهروان وقاتلوه ، ثم بايعوا الحسن بن علي عليهماالسلام بعد أبيه وعاهدوه ، ثم غدروا به وأسلموه ، ووثبوا به حتى طعنوه بخنجر في فخذه ، وانتهبوا عسكره ، وعالجوا خلاخيل أمهات الأولاد ، فصالح معاوية وحقن دمه ، ودم أهل بيته وشيعته ، وهم قليل حقّ قليل حتى لم يجد أعوانا ، ثم بايع الحسين عليه السلاممن أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا ، ثم غدروا به ، فخرجوا إليه فقاتلوه حتى قتل عليه السلام ، ثم لم نزل أهل البيت مذ قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آلهنذلّ ونقصى ونحرم ونقتل ونطرد ونخاف على دمائنا ، وكلّ من يحبّنا ، ووجد الكذابون لكذبهم موضعا ، يتقرّبون إلى أوليائهم وقضاتهم وعمالهم في كلّ بلدة ، يحدّثون عدونا وولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة ، ويحدّثون ويروون عنّا ما لم نقل ، تهجينا منهم لنا ، وكذبا منهم علينا ، وتقرّبا إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب ، وكان عظم ذلك وكثرته في زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السلام ، فقتلت الشيعة في كلّ بلدة ، وقطعت أيديهم وأرجلهم ، وصلبوهم على التهمة والظنة ، من ذكر حبّنا والانقطاع إلينا ، ثم لم يزل البلاء الشديد يزداد من زمن ابن زياد بعد قتل الحسين عليه السلام ، ثم جاء الحجاج ، فقتلهم بكلّ قتلة ، وبكلّ ظنة ، وبكلّ تهمة حتى أن الرجل ليقال له : زنديق ، أو مجوسي ، كان ذلك أحبّ إليه من أن يشار إليه بأنّه من شيعة الحسين عليه السلام ، وربما رأيت الرجل يذكر بالخير ، ولعله أن يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد مضى من الولاة لم يخلق اللّه منها شيئا قط ، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من سمعها منه ممّن لا يعرف بكذب ولا بقلّة ورع ، ويروون عن علي عليه السلام أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين عليهماالسلام ما يعلم اللّه أنّهم رووا في ذلك الباطل والكذب والزور . قلت له : أصلحك اللّه ، سمّ لي من ذلك شيئا ؟ قال : روايتهم عمر سيد كهول الجنّة ، وإنّ عمر محدّث ، وإنّ الملك يلقنه ، وإنّ السكينة تنطق على لسانه ، وعثمان الملائكة تستحي منه ، واثبت حرى فما عليك إلاّ نبي وصديق وشهيد ، حتى عدد أبو جعفر عليه السلام أكثر من مائتي رواية يحسبون أنّها حقّ ، فقال : هي واللّه كلّها كذب وزور . قلت : أصلحك اللّه لم يكن منها شيء ؟ قال : منها موضوع ، ومنها محرف ، فأمّا المحرّف فإنّما عنى أن عليك نبي وصديق وشهيد ، يعني عليا عليه السلام ، ومثله وكيف لا يبارك لك وقد علاك نبي وصديق وشهيد ، يعني عليا اللّهم اجعل قولي على قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعلى قول علي عليه السلامما اختلف فيه أمة محمد صلى الله عليه و آلهمن بعده إلى أن يبعث اللّه المهدي عليه السلام . وفي بحار الأنوار : 44/124 ح16 عن الإحتجاج عن سليم بن قيس قال : قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا في خلافته ، فاستقبله أهل المدينة ، فنظر فإذا الذين استقبلوه ما منهم إلاّ قرشي ، فلمّا نزل قال : ما فعلت الأنصار ؟ وما بالهم لم يستقبلوني ؟ فقيل له : إنّهم محتاجون ليس لهم دواب ، فقال معاوية : وأين نواضحهم ؟ فقال قيس بن سعد بن عبادة ، وكان سيد الأنصار وابن سيدها : أفنوها يوم بدر وأحد وما بعدهما من مشاهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله حين ضربوك وأباك على الإسلام حتى ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وأنتم كارهون ، فسكت معاوية ، فقال قيس : أما إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آلهعهد إلينا أنا سنلقي بعده أثرة ، قال معاوية : فما أمركم به ؟ فقال : أمرنا أن نصبر حتى نلقاه ، قال : فاصبروا حتى تلقوه . ثم إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش ، فلمّا رأوه قاموا غير عبد اللّه بن عباس ، فقال له : يا ابن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلاّ لموجدة أنّي قاتلتكم بصفين ، فلا تجد من ذلك يا ابن عباس ، فإن عثمان قتل مظلوما ، قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما ؟ قال : عمر قتله كافر ، قال ابن عباس : فمن قتل عثمان ؟ قال : قتله المسلمون ، قال : فذاك أدحض لحجتك ، قال : فإنا قد كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته عليهم السلام ، فكف لسانك ، فقال : يا معاوية أتنهانا عن قراءة القرآن ؟ قال : لا ، قال : أفتنهانا عن تأويله ؟ قال : نعم ، قال : فنقرؤ ولا نسأل عما عنى اللّه به ؟ ثم قال : فأيّهما أوجب علينا قراءته أو العمل به ؟ قال : العمل به ، قال : كيف نعمل به ولا نعلم ما عنى اللّه ؟ قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك ، قال : إنّما أنزل القرآن على أهل بيتي أنسأل عنه آل أبي سفيان ؟ يا معاوية أتنهانا أن نعبد اللّه بالقرآن بما فيه من حلال وحرام ، فإن لم تسأل الأمّة عن ذلك حتى تعلم تهلك وتختلف ، قال : اقرءوا القرآن وتأوّلوه ولا ترووا شيئا ممّا أنزل اللّه فيكم ، وارووا ما سوى ذلك ، قال : فإنّ اللّه يقول في القرآن : يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، قال : يا ابن عباس أربع على نفسك وكفّ لسانك ، وإن كنت لا بد فاعلا فليكن ذلك سرّا لا يسمعه أحد علانية . ثم رجع إلى بيته ، فبعث إليه بمائة ألف درهم ، ونادى منادي معاوية : أن برئت الذمة ممّن روى حديثا في مناقب علي وفضل أهل بيته . وكان أشدّ الناس بلية أهل الكوفة ، لكثرة من بها من الشيعة ، فاستعمل زياد ابن أبيه ، وضم إليه العراقين الكوفة والبصرة ، فجعل يتتبع الشيعة ، وهو بهم عارف ، يقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وصلبهم في جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم ، حتى نفوا عن العراق ، فلم يبق بها أحد معروف مشهور ، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد . وكتب معاوية إلى جميع عماله في الأمصار : أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وانظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ومحبي أهل بيته وأهل ولايته ، والذين يروون فضله ومناقبه ، فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا بمن يروي من مناقبه باسمه واسم أبيه وقبيلته ، ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطائع من العرب والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في الأموال والدنيا ، فليس أحد يجيء من مصر من الأمصار ، فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلاّ كتب اسمه وقرب وأجيز ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه . ثم كتب إلى عماله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر ، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه ، فإنّ ذلك أحبّ إلينا ، وأقرّ لأعيننا ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ، وأشدّ عليهم . فقرأ كلّ أمير وقاض كتابه على الناس ، فأخذ الناس في الروايات في فضائل معاوية على المنبر في كلّ كورة وكلّ مسجد زورا ، وألقوا ذلك إلى معلمي الكتاتيب ، فعلموا ذلك صبيانهم كما يعلمونهم القرآن حتى علموه بناتهم ونساءهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه . وكتب زياد ابن أبيه إليه في حقّ الحضرميين أنّهم على دين علي وعلى رأيه ، فكتب إليه معاوية اقتل كلّ من كان على دين علي ورأيه ، فقتلهم ، ومثّل بهم ، وكتب معاوية إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة أنّه يحبّ عليا وأهل بيته ، فامحوه عن الديوان . وكتب كتابا آخر : انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهمتموه بحبّه فاقتلوه ، وإن لم تقم عليه البينة ، فقتلوهم على التهمة والظنة والشبهة تحت كلّ حجر حتى لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه ، وحتى كان الرجل يرمى بالزندقة والكفر كان يكرم ويعظم ، ولا يتعرض له بمكروه ، والرجل من الشيعة لا يأمن على نفسه في بلد من البلدان ، لا سيما الكوفة والبصرة ، حتى لو أنّ أحدا منهم أراد أن يلقي سرّا إلى من يثق به لأتاه في بيته فيخاف خادمه ومملوكه ، فلا يحدّثه إلاّ بعد أن يأخذ عليه الأيمان المغلظة ليكتمن عليه ، ثم لا يزداد الأمر إلاّ شدّة حتى كثر وظهر أحاديثهم الكاذبة ، ونشأ عليه الصبيان يتعلمون ذلك ، وكان أشدّ الناس في ذلك القراء المراءون المتصنعون الذين يظهرون الخشوع والورع ، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولدوها ، فيحظون بذلك عند الولاة والقضاة ويدنون مجالسهم ويصيبون بذلك الأموال والقطائع والمنازل حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقّا وصدقا ، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها ، وأحبّوا عليها وأبغضوا من ردّها أو شكّ فيها ، فاجتمعت على ذلك جماعتهم ، وصارت في يد المتنسكين والمتدينين منهم الذين لا يستحلون الافتعال لمثلها ، فقبلوها وهم يرون أنّها حقّ ، ولو علموا بطلانها وتيقنوا أنّها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها ، ولم يدينوا بها ، ولم يبغضوا من خالفها ، فصار الحقّ في ذلك الزمان عندهم باطلا والباطل حقّا ، والكذب صدقا والصدق كذبا ، فلمّا مات الحسن بن علي عليهماالسلامازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق للّه ولي إلاّ خائف على نفسه أو مقتول أو طريد أو شريد . . .

ص: 139

ص: 140

ص: 141

وكانوا يبذلون الصلات والأموال والقطائع لمن قال شعرا في هجاء علي وفاطمة عليهماالسلام ، أو في مدح فلان وفلان ، أو في مدح بني أمية .

وكانوا يخلعون الخلع الفاخرة ويعطون الهدايا الجزيلة ، والمناصب العالية لمن يضع حديثا في ذمّ أهل البيت عليهم السلام أو في مدح أعدائهم .

وكانوا يأمرون الكتاتيب بتعليم الصبيان سبّ أمير المؤمنين بعد تعليمهم الشهادتين .

فعلوا هذا حتى رسخت عقيدة الباطل ، فشبّ عليها الصغير وهرم فيها الكبير ، فاختفت معالم الحقّ ، وسبل التوحيد ، وعمّ العالم ظلام الظلم والفسق والكفر ، واندرس الهدى ، وانطمست أعلام الهداية ، حتى وصل الأمر الى قوة شوكة اليهود والنصارى ، فاطلقوا ألسنتهم بالطعن على المسلمين ، وتشجّع الكفار فاعتبروا أهل الإسلام من أراذل الأنام ، وأضاعوا جهود النبي صلى الله عليه و آله وصحبه الكرام ، التي بذلوها في قلع شوكة الكفر والجاهلية ، وكادت تضحيات علي أمير المؤمنين عليه السلام ومجاهداته تذهب أدراج الرياح ممّا صنع هؤلاء الطغام .

الإمام الحسين عليه السلام ينصر دين اللّه

أمّا سيد الشهداء عليه السلام فإنّه رفع راية المفاخر في عرصات الرجولة والفتوة في ميادين النصرة ، حيث قدم نفسه وأهله وعياله وأولاده وأمواله في نصر دين اللّه ، وجعل صدره شرعة للسهام والرماح ، وجعل من أفواج القساة فراشات تحوم

ص: 142

حوله ، عرض نفسه المقدّسة للبلاء ، واشترى السيوف والرماح بروحه ، حتى حزوا رأسه ، وسبوا عياله ، ورفعوا رأسه على أطراف الرماح ، وطافوا به في الصحارى والبلدان ، وحملوا نساءه على النياق بغير وطاء ، وادخلوهن في المجالس الخاصة والعامة .

حتى انفضح أمرهم ، لأنّ الأمر لا يمكن أن يستر ، ولا أن يبرر ، ولا أن يخدعوا الناس به ، كما كانوا يصنعون أيام معاوية ، حيث كانوا يبررون أعماله الشينعة القبيحة ، أو يحملونها على الخطأ والاشتباه ، فهو مجتهد والمجتهد قد يخطأ ، وخطأ المجتهد مبرر ! ! .

ولكن قتل فلذة كبد الرسول صلى الله عليه و آله الذي كان يقول فيه مرّة بعد مرّة : « حسين مني وأنا من حسين » ، لا يمكن أن يبرر ، أو أن يحمل هذا العمل القبيح الجريمة الكبرى على أنّه اشتباه ، أو أنّه خطأ من سنخ أخطاء المجتهدين ! !

فأيّ مسلم لا يعلم أنّ أطفاله ونساءه مظلومون أبرياء لا ذنب لهم ، بل إنّ مظلومية سيد الشهداء عليه السلام نفسه لا تخفى على أحد .

فلمّا وقعت هذه الرزية العظمى تنبّه الناس ، وتساءلوا لماذا قتل ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟

وإذا كانوا يطالبونه بجريرة ! فلماذا تركوه في العراء ، لم يدفن ، وحملوا رأسه يطوفون به في البلدان ؟ لماذا سبوا عياله ؟ ! لماذا قتلوا أطفاله ؟

وبالجملة ، فإنّهم رأوا العالم يتغيّر ، وآثار الغضب الإلهي تظهر ، ولهذا انتفضوا على تلك العصابة الملعونة من كلّ جانب ، وعلموا أنّ كلّ ما صنعوه ويصنعونه إنّما هو باطل وإجرام ، فإذا بقوا على ما هم عليه فمصيرهم الى الهلاك .فثاروا حتى إجتثوا جذور تلك العصابة الظالمة ، وأماطوا بدعهم ، فتنفّس أهل الحقّ ، ورفعوا رؤوسهم من هنا ومن هناك ، فظهرت آثار العلوم والمعارف في الآفاق .

ص: 143

أصحاب الحسين عليه السلام ينصرون دين اللّه

اعلم ، أنّ أصحاب الحسين عليه السلام كان لهم سهم في نصر دين اللّه وتأييد الشريعة الغراء ، فقد أعرضوا عن الدنيا وزهرتها ، وفارقوا الحلائل والأولاد ، وضحوا بالأموال والأنفس في سبيل نصر ابن النبي المصطفى صلى الله عليه و آله ، ولم يولّوا ظهورهم للأعداء ، وقابلوا السيوف والرماح بوجههم ونحورهم .

روى القطب الراوندي رحمه الله بسند معتبر عن الباقر عليه السلام قال : قال الحسين عليه السلام لأصحابه قبل أن يقتل : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لي : يا بني إنّك ستساق إلى العراق ، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين ، وهي أرض تدعى « عمورا » ، وإنّك تستشهد بها ، ويستشهد معك جماعة من أصحابك ، لا يجدون ألم مس الحديد ، وتلا : « قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ » ، يكون الحرب بردا وسلاما عليك وعليهم ، فأبشروا ، فواللّه لئن قتلونا ، فإنّا نرد على نبينا(1) .

أجل واللّه ضحوا بأرواحهم ، ولم يقصّروا في نصر ابن بنت نبيهم صلى الله عليه و آله ، وأعرضوا عن دنياهم وأزواجهم وأولادهم ، ولم يلتفتوا الى الأمان الذي كان يعطى لهم ، بل لم يلتفتوا الى ما عرضوه عليهم من مال وجاه ، وألقوا بأنفسهم في لهوات المنايا ، وعرضوا أنفسهم لآلاف السيوف والرماح الشارعة في وجوههم ، فلم ينكلوا وهم يعلمون أن لا شيء ينتظرهم سوى القتل .

زهير بن القين ينصر الإمام الحسين عليه السلام

أجل ، إنّما كتبت هذه السعادة لأولئك الأشخاص الذين تنورت بصائرهم بنور العلم واليقين ، وخلعت هذه الخلعة على أصحاب القلوب الممتحنة ، بل القلوب المطمئنة ، ولم تكتب لأولئك الذين تهيأت لهم فرص الإرتقاء الى

ص: 144


1- الخرائج : 2/848 ح63 ، بحار الأنوار : 45/80 ح6 .

هذه المنزلة العظمى والمرتبة العليا ، فلم يغتنموا الفرصة لأنّ الدنيا تمكنت من قلوبهم ، وأعماهم حبّها ، فاختاروا الخسران في هذه الدنيا قبل الآخرة .

روى الشيخ المفيد رحمه الله : حدث جماعة من فزارة ومن بجيلة قالوا : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة ، وكنّا نساير الحسين(1) عليه السلام ، فلم يكن شيء أبغض علينا من أن ننازله في منزل ، وإذا سار الحسين عليه السلام ، فنزل في منزل لم نجد بدا من أن ننازله ، فنزل الحسين عليه السلام في جانب ، ونزلنا في جانب .

فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتى سلّم ، ثم دخل فقال : يا زهير بن القين ، إنّ أبا عبد اللّه الحسين عليه السلام بعثني إليك لتأتيه .

فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده حتى كأنّما على رؤوسنا الطير ، فقالت له إمرأته - وهي ديلم بنت عمرو - : سبحان اللّه ، أيبعث إليك ابن رسول اللّه ثم لا تأتيه ؟ ! لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت .

فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقوّض ، وحمل إلى الحسين عليه السلام ، ثم قال لإمرأته : أنت طالق الحقي بأهلك ، فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بروحي وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها مالها ، وسلّمها إلىبعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودعته وقالت : خار اللّه لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام(2) .

ص: 145


1- كيف كان ركب زهير يساير الحسين عليه السلام ، وقد عرفنا أنّ الحسين عليه السلام خرج من مكة يوم التروية ، أي في اليوم الثامن من ذي الحجة ، وكان عليه السلام مجدّا في سيره ، وكان زهير قد خرج من مكة بعد أداء الحج ، فهو لا يستطيع الخروج قبل اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ، فالفاصل بين خروج الحسين عليه السلام المجدّ في السير وخروج زهير خمسة أيام على الأقل ؟ ! نعم إلاّ أن يقال أن زهيرا كان خارجا أساسا لاستقبال الحسين عليه السلام كما فعل الكثير من أنصاره عليه السلام ، ولنا أكثر من دليل يثبت ذلك وينفي ما اتهم به هذا البطل العظيم من كونه كان عثماني الهوى .
2- الإرشاد : 2/72 ، اللهوف : 133 ، بحار الأنوار : 44/371 .

وقد تقدّم هذا الرجل العظيم مع سعيد بن عبد اللّه الحنفي أمام سيد الشهداء عليه السلام ليصلّي صلاة الظهر والعصر عند الزوال يوم عاشوراء ، فصلّى عليه السلام صلاة الخوف ، فاستقبلوا السهام والنبال بنحورهم وصدورهم حتى سقط سعيد بن عبد اللّه الى الأرض شهيدا(1) .

أمّا زهير بن القين فإنّه جاء الى الإمام فقبّل الأرض بين يديه وإستأذنه في القتال ، وبرز يقاتل بين يدي سيد العرب والعجم عليه السلام وهو يرتجز ويقول :

أنا زهير وأنا ابن القين

أذودكم بالسيف عن حسين

إنّ حسينا أحد السبطين

من عترة البرّ التقي الزين

يا ليت نفسي قسمت قسمين

فحمل على القوم وقتل منهم مائة ثم قتل ، فقال الحسين عليه السلام حين صرع زهير : لا يبعدك اللّه يا زهير ، ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير(2) .

يا جبالاً مالت وما كنت أدري

قبل هذا إنّ الجبال تميل

يا سيوفا هزّت بيوم صدام

فرماها من الخطوب أفول

يا غصونا من دوحة المجد بالطف

عراها من الزمان ذبول

يا بحارا للعلم بالطف غارت

فبكاها التنزيل والتأويل

فلهذا لا غرو إن ظلم الشرع

وحار المعقول والمنقول

فلتبكهم عيون المعالي

وليرثهم الفخار والأثيلول

يبكهم التلاوة والذكر

ويبكي التسبيح والتهليل

وبيوم النزال يبكيهم الخيل

وتبكي سمر القنا والنصول

وبيوم النوال يبكيهم الوفد

ويبكي المعروف والتفضيل

ص: 146


1- انظر بحار الأنوار : 45/21 .
2- بحار الأنوار : 45/25 .

بعض خصائص أنصار الإمام الحسين عليه السلام

اعلم ، أنّ الأصحاب الكرام كانوا من العظماء والعلماء والزهاد والعرفاء والعبّاد ، وكان بعضهم من كبار أصحاب الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن عليهماالسلام ، وكان بعضهم ممّن قاتل الكفار والأشرار بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانوا معروفين بالشجاعة والرجولة .

إنّهم كانوا من الأبطال ، لم تغرّهم الدنيا ، ولا استهواهم الطمع والمال والجاه ، فلم

يقصّروا في نصرة ابن نبيهم صلى الله عليه و آله ، بل إنّهم عرفوا الدنيا على حقيقتها ، فلم يختاروها على رضا اللّه .

كانت قلوبهم عامرة بحبّ أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين عليهم السلام ، وجدوا حلاوة الدنيا بدونهم مرارة لا تستساغ ، وراحة الدنيا بدون ولاية مولاهم محنة وشجى .

أما سمعت أنّ معاوية اللعين كان يسعى الى شراء ذمم الشيعة ، وتحويل قلوبهم عن محبّة أمير المؤمنين عليه السلام ، فكان يرسل اليهم بالهدايا والعطايا والتحف .

فأرسل الى أبي الأسود الدؤلي حلوى فرأت ابنته - وكان عمرها خمس أو ست سنوات - بين يدي أبيها خبيصا ، فقالت : يا أبه أطعمني ، فقال : افتحي فاك ، ففتحت ، فوضع فيه مثل اللوزة ، ثم قال لها : عليك بالتمر ، فهو أنفع وأشبع . فقالت :

هذا أنفع وأنجع ؟ فقال : هذا الطعام بعث به إلينا معاوية ، يخدعنا به عن حبّ علي بن

أبي طالب عليه السلام .

فقالت : قبّحه اللّه ، يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر ، تبّا لمرسله وآكله ، ثم عالجت نفسها وقاءت ما أكلت منه ، وأنشأت تقول باكية :

أبالشهد المزعفر يا ابن هند

نبيع إليك إسلاما ودينا

فلا واللّه ليس يكون هذا

ومولانا أمير المؤنينا(1)

ص: 147


1- الأربعون حديثا لمنتجب الدين بن بابويه : 81 .

أجل ، هكذا هم الشيعة والموالون ، عجنت طينتهم بولاية أهل البيت عليهم السلام ، ولهذا بذل أصحاب الحسين عليه السلام عن أرواحهم وأمواله وأولادهم وعيالهم ، وأعرضوا عن الدنيا وزهرتها ، ولكنهم لم يتخلّوا عن نصرة مولاهم ، بل كانوا يتمنون أن يقتلوا ثم يحيوا ثم يقتلوا ، ويفعل بهم ذلك ألف مرّة ليدافعوا عن إمامهم وسيدهم .

وهذه الخلعة فصّلت لهم منذ الأزل ، فكانت سابغة عليهم ، وكأنّ هذه السعادة كتبت لهم منذ ذلك اليوم ، كما ورد في الخبر : أنّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام كانوا يعرفون أصحاب الحسين عليه السلام ومن يرزق الشهادة منهم بين يديه .

بل إنّهم أنفسهم كانوا يعلمون ذلك وهو ممّا أخبرهم به الحسين عليه السلام ، فقد روي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : إنّ الحسين بن علي عليهماالسلام قال لأصحابه يوم أصيبوا : أشهد أنّه قد أذن في قتلكم ، فاتقوا اللّه واصبروا(1) .

بل إنّهم كانوا يعلمون ذلك قبل يوم الواقعة ، وكانوا ينتظرون هذا اليوم ، فقد روى الشيخ الكشي رحمه الله عن فضيل بن الزبير قال : مرّ ميثم التمار على فرس له ، فاستقبل حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد ، فتحدّثا حتى اختلفت أعناق فرسيهما .

ثم قال حبيب : لكأنّي بشيخ أصلع ، ضخم البطن ، يبيع البطيخ عند دار الرزق ، قد صلب في حبّ أهل بيت نبيه عليهم السلام ، ويبقر بطنه على الخشبة .

فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلاً أحمر ، له ضفيرتان ، يخرج لنصرة ابن بنت نبيه ،ويقتل ويجال برأسه بالكوفة . ثم افترقا ، فقال أهل المجلس : ما رأينا أحدا أكذبمن هذين !

قال : فلم يفترق أهل المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فطلبهما ، فسأل أهل المجلس عنهما ، فقالوا : افترقا ، وسمعناهما يقولان كذا وكذا !

ص: 148


1- كامل الزيارات : 152 ح185 ، بحار الأنوار : 45/86 ح19 .

فقال رشيد : رحم اللّه ميثما نسي : ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم ، ثم أدبر .

فقال القوم : هذا واللّه أكذبهم ، فقال القوم : واللّه ما ذهبت الأيام والليالي حتى رأيناه مصلوبا على باب دار عمرو بن حريث ، وجيء برأس حبيب بن مظاهر ، وقد قتل مع الحسين عليه السلام ، ورأينا كلّ ما قالوا .

وكان حبيب من السبعين الرجال الذين نصروا الحسين عليه السلام ، ولقوا جبال الحديد ، واستقبلوا الرماح بصدورهم ، والسيوف بوجوههم ، وهم يعرض عليهم الأمان والأموال ، فيأبون فيقولون : لا عذر لنا عند رسول اللّه إن قتل الحسين ومنّا

عين تطرف ، حتى قتلوا حوله(1) .

إنّهم جماعة كانت راسخة القدم في محبّة اللّه ورسوله ، وقد شربت شهد المحبّة والولاية ، فلم تكن محبّتهم مثل محبّة الآخرين ، إن هي إلاّ مجرد دعوى لا حقيقة لها ، وإدعاء المحبّة متيسر في كلّ آن ، ولكن الأوفياء يعرفون عند الإمتحان .

وإنّما تعرف المحبّة الحقيقية وتنكشف حينما يسقى المحبّ كؤوس المنية فينتشي بها ، ويلقى في أتون البلايا والمحن فلا تسمع له صوتا ، ويتجرّع آلاف الغصص ويرتاح لراح العناء .

روى القطب الراوندي عن سيد الساجدين عليه السلام قال : كنت مع أبي في الليلة التي قتل في صبيحتها ، فقال لأصحابه : هذا الليل فاتخذوه جنّة ، فإنّ القوم إنّما يريدونني ، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم ، وأنتم في حلّ وسعة .فقالوا : واللّه لا يكون هذا أبدا .

فقال : إنّكم تقتلون غدا كلّكم ، ولا يفلت منكم رجل .

قالوا : الحمد للّه الذي شرفنا بالقتل معك .

ص: 149


1- رجال الكشي : 78 رقم 133 ، بحار الأنوار : 45/92 ح33 .

ثم دعا ، فقال لهم : ارفعوا رؤوسكم وانظروا ، فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة ، وهو يقول لهم : هذا منزلك يا فلان .

فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنّة(1) .

هكذا هم المحبّون ، يعدّون القتل في سبيل المحبوب شرفا ، ويعدّون التضحية بالروح في طريق المحبوب هدفا وغاية ، وكأنّهم ينادون : لو قرّضتني بالمقاريض ما أردت إلاّ حبّك(2) .

إنّهم علموا أنّهم لا يصلون الى مقام القرب إلاّ بالإعراض عن المال والعيال ، وأنّهم لا ينالون النظرة الإلهية الخاصة ، والرحمة والرضوان إلاّ ببذل الأرواح ، ولهذا

أعرضوا عن أيام الدنيا المعدودة واختاروا الخلود : « إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » .

ويستفاد من الحديث المذكور آنفا وغيره : أنّ هؤلاء الأوفياء إنّما ضحّوا بأرواحهم حبّا وشوقا لشدّة إيمانهم ، وعمق حبّهم ، لا طمعا في الجنان والحور والولدان ، ضحّوا من أجل رضوان الرحمان ، ورضا نبي آخر الزمان صلى الله عليه و آله ، « ليس

للجنة شغل معنا ، ولا للنار سبيل الينا ، لأنّه ليس في قلبنا إلاّ السرور » « وَرِضْوانٌ

مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ » .من مثل هؤلاء الأبطال وطى ء عرصات الحبّ ؟ ومن مثلهم شرب رحيق المحبّةوالوفاء حتى أعرضوا عن أنفسهم وأنانياتهم أعرضا كاملاً ؟

أما سمعت قصة العابس بن شبيب ، وهو من أولئك السعداء الشجعان ، وكان معروفا بالشجاعة والإقدام .

ص: 150


1- الخرائج والجرائح : 2/847 ، بحار الأنوار : 44/298 باب 35 .
2- في مدينة المعاجز : 2/71 ح404 : قال أمير المؤمنين عليه السلام : يا أصبغ ، أما علمت أنّ لنا محبّين لو سمّرنا أعينهم بالمسامير ، وقرّضنا لحومهم بالمقاريض ، ونشرناهم بالمناشير ما ازدادوا لنا إلاّ حبّا .

قال ربيع بن تميم : فلمّا رأيته مقبلاً عرفته ، وقد كنت شاهدته في المغازي ، وكان أشجع الناس ، فقلت : أيّها الناس ، هذا أسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجن إليه أحد منكم .

فأخذ ينادي : ألا رجل ، ألا رجل .

فقال عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة من كلّ جانب ، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ، ثم شدّ على الناس ، وألقى نفسه في لهوات الموت ، وعرّض نفسه الى آلاف السيوف والرماح والنبال ، سوى الحجارة التي رضخوه بها .

قال الراوي : فواللّه لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس ، ثم إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب ، فقتل .

فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة ، هذا يقول : أنا قتلته ، والآخر يقول كذلك ، فقال عمر بن سعد : لا تختصموا ، هذا لم يقتله إنسان واحد ، حتى فرّق بينهم بهذا القول(1) .

يلقى الرماح بنحره فكأنّما

في قلبه عود من الريحان

ويرى السيوف وصوت رقع حديدها

عرسا تجلّيها عليه غواني

أجل ، جاهدوا في اللّه ، وشربوا رحيق الشهادة ، فترمّلوا بدمائهم ، وسقطوا الى الأرض شهداء كرام .

« آه ، آه ، فكم من أكباد محروقة بالظماء ، وأجساد مرملة بالدماء ، وكم من كريمعلى السنان ، وشريف بسام الخسف والهوان .

فوا أسفاه ! على تلك الأفواه اليابسة من الظماء ، والشيبات المخضوبة من الدماء .

وا حرّ قلباه ، على تلك الجثث العاريات ، والأبدان المطروحة في الفلوات » .

ص: 151


1- بحار الأنوار : 45/28 بقية الباب 37 .

بنفسي رؤوسا ساميات على القنا

كمثل بدور وافقتها سعودها

بنفسي نحورا داميات على الثرى

تأرج من جاري دماها صعيدها

مخضبة بالدم منها جباهها

فيا طالما للّه طال سجودها

بنفسي جسوم تركض الخيل فوقها

كأن لم يطل من فوقهن صعودها

ملابسها ما بين أغبر قائم

وأحمر قان قد كساه شديدها

تجرّ عليه الناشرات ذبولها

وحراسها وحش الفلا وأسودها

بنفسي نساء كانت الرشمس لا ترى

لهن وجوها ثم تدمى خدودها

لهن مقاليد السياط مقانع

وأما قيود القوم فهي عقودها

فمن مبلغ بنت النبي بناتها

تسبّ وتسبى ثم تلحى جدودها

تجاذب أعداها الستور حواسرا

يرقّ لها من ظالميها حقودها

وإنّ بنيها للسيوف ضيافة

على رغمها فوق الرغام رقودها

ورؤوسهم فوق الرماح مشالة

بأيدي بني صخر بن حرب تميدها

وأنّ ابنها السجاد يقاد صاغرا !

حقيرا ! ! أسيرا أثخنته قيودها

أنصار الإمام الحسين عليه السلام في ميدان الإمتحان

أجل ، إنّ هؤلاء السعداء ضحوا بأنفسهم ، وقدّموا أرواحهم ، ولكنهم وصلوا الى الخلود ، ونالوا السعادة الأبدية في الدارين ، وسارعوا الى حضيرة القدس ، وتبوؤا مقاعدهم في منازل « حزب اللّه » و« جند اللّه » و« أنصار اللّه » ، وغبطهم

جميع الشهداء الى يوم القيامة ، وخوطبوا بخطاب « بأبي أنتم وأمي » ، و« ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشاءُ » .لا تظنّ أنّ هذا الأمر ميسر لكلّ من أراد أن يقتحم هذا الميدان ، ويدعي هذه الدعوى دون دليل أو برهان ، فما أكثر الإدعاءات وأكذب الدعاوى ، فالذين يكتفون بالبحث والنقاش في هذا الخضم ، فإنّهم يبقون عطاشى وهم

ص: 152

على الساحل ، وما أكثر السالكين دروب المحبّة إلاّ أنّهم لما استروحوا رائحة البلاء قادمة - والبلاء من لوازم المحبّة والولاء - « لَِيمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » وجدتهم يتفرّقون ، وفي دروب الجفاء عن اليمين والشمال يفرّون .

روي في تفسير الإمام العسكري عليه السلام قال عليه السلام : ولمّا امتحن الحسين عليه السلام ومن معه بالعسكر الذين قتلوه ، وحملوا رأسه ، قال لعسكره : أنتم من بيعتي في حلّ ، فألحقوا بعشائركم ومواليكم . وقال لأهل بيته : قد جعلتكم في حلّ من مفارقتي ، فإنّكم لا تطيقونهم لتضاعف إعدادهم وقواهم ، وما المقصود غيري ، فدعوني والقوم ، فإنّ اللّه - عزّ وجلّ - يعينني ولا يخلّيني من حسن نظره ، كعادته في أسلافنا الطيبين .

فأمّا عسكره ففارقوه ، وأمّا أهله والأدنون من أقربائه فأبوا ، وقالوا : لا نفارقك ، ويحلّ بنا ما يحلّ بك ، ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب

ما نكون إلى اللّه إذا كنّا معك .

فقال لهم : فإن كنتم قد وطنتم أنفسكم على ما وطنت نفسي عليه ، فاعلموا أنّ اللّه إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده لصبرهم باحتمال المكاره . وإنّ اللّه وإن كان خصّني مع من مضى من أهلي الذين أنا آخرهم بقاء في الدنيا من الكرامات بما يسهل معها على احتمال الكريهات ، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات اللّه تعالى .

واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم ، والانتباه في الآخرة ، والفائز من فاز فيها ، والشقي من شقي فيها . . (1) .

ليلة العاشر برواية السيدة سكينة عليهاالسلام

روى عن كتاب « نور العيون » عن سكينة بنت الحسين عليه السلام قالت : إنّها كانت ليلة مقمرة ، وكنت جالسة في الفسطاط ، فاذا سمعت صوت البكاء من خلف

ص: 153


1- تفسير الإمام العسكري عليه السلام : 218 ، بحار الأنوار : 45/90 ح29 .

الفسطاط ، فسكتُّ خوفا من اطّلاع الأخوات وسائر النّسوة ، فخرجت وقلبي لا يشهد بالخير ، وكنت أمشي وأضرب قدمي على ذيلي ، وأسقط وأقوم ، فرأيت أبي جالساً ، وأصحابه حوله ، فسمعت أبي يقول لهم :

أنتم جئتم معي لعلمكم بأنّي أذهب الى جماعة بايعوني قلباً ولساناً ، والآن تجدونهم قد استحوذ عليهم الشّيطان ، ونسوا اللّه ، والآن لم يكن لهم مقصد سوى قتلي ، وقتل من يجاهد بين يديّ ، وسبي حريمي بعد سلبهم ، وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، وتعلموا ولا تتفرّقوا للحياء منّي ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت عليهم السلام ، فكلّ من يكره نصرتنا فليذهب في هذه اللّيلة السّاترة ، ومن نصرنا بنفسه ، فيكون معنا في الدّرجات العالية من الجنان .

فقد أخبرني جدّي وقال : إنّ ولدي الحسين عليه السلام يقتل بطفّ كربلا غريباً وحيداً عطشاناً ، فمن نصره فقد نصرني ، ونصر ولده القائم ، ومن نصرنا بلسانه ، فإنّه في حزبنا في القيامة .

قالت سكينة : واللّه ما أتمّ كلامه إلاّ وتفرّق القوم من نحو عشرة وعشرين ، فلم يَبْقَ معه إلاّ ما ينقص عن الّثمانين ، ويزيد عن السّبعين .

فنظرت الى ابي فوجدته قد نكس رأسه في حزن وكرب ، فلمّا رأيت ذلك فخنقتي العبرة ، فرددتها ولزمت السّكوت ، وتوجّهت الى السّماء وقلت : اللّهمّ إنّهم

خذلونا فاخذلهم ، ولا تجب دعائهم ، ولا تجعل لهم في الأرض مسكناً ، وسلّط عليهم الفقر ، ولا تنلهم شفاعة جدّي .فرجعت الى الفسطاط وتنهمل دموعي ، فنظرت عمّتي أمّ كلثوم إليّ فقالت : ما لك ؟ فقصصت القصّة لها ، فلمّا سمعت ذلك فنادت : وا جدّاه وا عليّاه وا حسناه وا حسيناه ، وا قلّة ناصراه ، ولا أدري كيف لنا المخلص من أيدي الأعادي ، وليت الأعادي يرضون أن يقتلونا بدلاً عن أخي .

ص: 154

فاجتمعت النّساء من بكائها فبكين ، وسمع أبي بكائهنّ ، فخرج من الفسطاط باكيا ، فدخل على فسطاطهنّ ، فقال : ما هذا البكاء ؟ فقرّبت عمّتي وقالت : يا أخي ، رُدّنا الى حرم جدّنا .

فقال : كيف لي ذلك مع كثرة الأعادي .

فقالت : أجل ، ذكّرهم محلّ جدّك وأبيك وجدّتك وأخيك .

فقال : ذكرتهم فلم يذكروا واوعظتهم فلم يتّعظوا ، ولم يسمعوا قولي ، وليس لهم رأيٌ سوى قتلي ، ولا بدّ أن تروني على الثّرى جديلاً ، ولكن أوصيكم بالصّبر والتّقوى ، وذلك أخبر به جدّكم ، ولا خُلف لوعده ، وأسلمكم على من لو هتك السّتر لم يستره أحد(1) .

ليلة العاشر برواية الإمام السجاد عليه السلام

في رواية الشيخ المفيد رحمه الله والسيد ابن طاووس رحمه الله : لما كانت ليلة العاشر جمع الحسين عليه السلام أصحابه الكرام وخطب فيهم ، قال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه :

أثني على اللّه أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللّهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا

وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين .

أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبروأوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عنّي خيرا ، ألا وإنّي لأظن يوما لنا من هؤاء ، ألاّ وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا في حلّ ، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ، فإنّهم لا يريدون غيري .

ص: 155


1- الدمعة الساكبة : 4/271 نقلا عن نور العيون .

بنو هاشم يعلنون الوفاء

فقال له إخوته وأبناؤ وبنو أخيه وابنا عبد اللّه بن جعفر - وهم بنو أخته - : لم نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا اللّه ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي

وأتبعته الجماعة عليه ، فتكلموا بمثله ونحوه .

فقال الحسين عليه السلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل ، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم .

فقالوا - وفي رواية ابن بابويه : قال عبد اللّه بن مسلم - : سبحان اللّه ما يقول الناس ؟ نقول : إنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا واللّه ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك .

الأنصار يعلنون الوفاء

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك ؟ ! وبما نعتذر إلى اللّه في أداء حقّك ؟ لا واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسول اللّه فيك .

أما واللّه لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أحيا ، ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هيقتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا .

وقام زهير بن القين فقال : واللّه لوددت أنّي قتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرّة ، وإنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤاء الفتيان من إخوتك وأهل بيتك .

ص: 156

وقام برير بن خضير فقال : واللّه يا ابن رسول اللّه ، لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك ، فيقطع فيك أعضاؤا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة(1) .

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد ، فجزاهم الحسين عليه السلام خيرا ، وانصرف إلى مضربه .

وقال السيد ابن طاووس : وقيل لمحمد بن بشر الحضرمي في تلك الحال : قد أسر ابنك بثغر الري ، فقال : عند اللّه أحتسبه ونفسي ، ما أحبّ أن يؤر وأنا أبقى بعده .

فسمع الحسين عليه السلام قوله ، فقال : رحمك اللّه ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك ، فقال : أكلتني السباع حيّا إن فارقتك .

قال : فأعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه ، فأعطاه خمسة أثواب ، قيمتها ألف دينار(2) .

تتمة رواية الإمام السجاد عليه السلام

روى الشيخ المفيد رحمه الله : قال الإمام سيد الساجدين عليه السلام : ثم خرج الحسين عليه السلامإلى أصحابه ، فأمرهم أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت ، فيستقبلون القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذييأتيهم منه عدوهم(3) .

ثم إنّ الحسين عليه السلام أمر بحفيرة فحفرت حول عسكره شبه الخندق ، وأمر فحشيت حطبا ، وأرسل عليا ابنه عليهماالسلام في ثلاثين فارسا وعشرين راجلاً ليستقوا الماء .

ص: 157


1- بحار الأنوار : 44/381 باب 37 .
2- الإرشاد : 2/91 ، أمالي الشيخ الصدوق : 220 المجلس 30 ، اللهوف : 153 ، بحار الأنوار : 44/393 .
3- الإرشاد : 2/93 ، بحار الأنوار : 45/2 بقية الباب 37 .

ثم قال لأصحابه : قوموا فاشربوا من الماء ، يكن آخر زادكم وتوضئوا ، واغتسلوا ، واغسلوا ثيابكم لتكون أكفانكم(1) .

آه ، آه ، ماذا أقول ؟ هذه الثياب التي جعلوها أكفانا لهم ، تمزقت وتقطعت قطعا يوم عاشوراء من أثر السهام وضربات السيوف وطعنات الرماح ، وترملت بالدماء الزاكيات ، ومع ذلك لم يتركها الأعداء على أبدانهم الشريفة ، وسلبوها منهم ، وتركوهم على الرمضاء تسفي عليهم الذاريات ، تصهرهم حرارة الشمس .

بأبي الجسوم العاريات على الثرى

ما سترها إلاّ مثار غبار

بأبي الجسوم الضايعات وحيدة

ما أنسها إلاّ وحوش قفار

سعادة جماعة ليلة العاشر بإلتحاقهم بمعسكر الحسين عليه السلام

وبات الحسين عليه السلام وأصحابه تلك الليلة ، ولهم دوي كدوي النحل ، ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد .

فتنبّه جماعة من معسكر الأعداء الى ذلك ، فقالوا : كيف نقاتل هؤلاء ؟

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(2) .

ليلة العاشر ليلة العبادة والمناجاة

ورجع الإمام الحسين عليه السلام إلى فسطاطه ، فقام ليلته كلّها يصلّي ويدعوويتضرّع ويناجي ربّه(3) ، ويستغرق في بحار العبادة والعبودية للّه ، ويخرج أحيانا ليتابع شؤون الحرب ، والإعداد لها ، ويدخل أحيانا أخرى ليواسي الأطفال ويهدأ روعهم .

ص: 158


1- الأمالي للصدوق : 154 المجلس 30 ، بحار الأنوار : 44/315 باب 37 .
2- اللهوف : 91 ، بحار الأنوار : 44/393 باب 37 .
3- بحار الأنوار : 45/2 بقية الباب 37 .

ليلة ما أشدّها على مخدرات أهل البيت ، ليلة لم تذق فيها بنات الرسالة ، نساءا وأطفالاً ، سوى الإضطراب والوجل والخوف والترقّب ، فمرّة يبكين على غربة سيد الغرباء ، وسلطان المظلومين ، ومرّة يفكرن في ما سيجري عليهن غدا من الأسر والسبي والنهب ، أقسم باللّه إنّها ليلة مرّت عليهم بما لم تمرّ به ليلة على أحد من العالمين .

لا أقمرت ليلة صارت صبيحتها

بدور آل رسول اللّه في خسف

لا أشرقت شمس يوم صار في غده

شموس آل رسول اللّه في كسف

ليلة العاشر آخر ليلة من عمر الإمام الحسين عليه السلام

قال علي بن الحسين عليهماالسلام : إنّي جالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خباء له ، وعنده فلان مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه ، وأبي يقول :

يا دهر أفّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل

وكلّ حيّ سالك سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثا حتى فهمتها ، وعلمت ما أراد ، فخنقتني العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل .

وأمّا عمّتي فلمّا سمعت ما سمعت ، وهي امرأة ، ومن شأن النساء الرقّة والجزع ،فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها ، وهي حاسرة ، حتى انتهت إليه وقالت : وا ثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي ، وثمال الباقي .

فنظر إليها الحسين عليه السلام وقال لها : يا أخته ، لا يذهبن حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع ، وقال : لو ترك القطا ليلاً لنام .

ص: 159

فقالت : يا ويلتاه ، أفتغتصب نفسك اغتصابا ، فذلك أقرح لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثم لطمت وجهها ، وهوت إلى جيبها وشقّته ، وخرّت مغشية عليها .

فقام إليها الحسين عليه السلام ، فصبّ على وجهها الماء ، وقال لها : يا أختاه اتقي اللّه وتعزي بعزاء اللّه ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه اللّه تعالى الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده ، وأبي خير مني ، وأمي خير مني ، وأخي خير مني ، ولي ولكلّ مسلم برسول اللّه أسوة .

فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا أختاه ، إنّي أقسمت عليك فأبري قسمي ، لا تشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا قتلت ، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي(1) .

ويستفاد من بعض الروايات : أنّ عين الإمام الحسين عليه السلام لم تذق النوم تلك الليلة أبدا ، حيث قام ليلته كلّها يصلّي ويدعو ويستغفر ويتضرّع .

وكذلك كان أصحابه ، حيث كانوا يبكون على مظلومية إمامهم وأهل بيته ، وهم يرون انسداد الطرق أمامهم ، فلا يقدرون على دفع الهم والغم عن ساداتهم ، وتلهبهم الأشواق أحيانا الى ربّهم وبارئهم ، والى المقامات التي كشفها لهم سيد الأبرار عليه السلام .

رؤيا الإمام الحسين عليه السلام وقت السحر ليلة العاشر

فلمّا كان وقت السحر خفق الحسين عليه السلام برأسه خفقة ، ثم استيقظ ، فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة ؟

فقالوا : وما الذي رأيت يا ابن رسول اللّه ؟

فقال : رأيت كأنّ كلابا قد شدّت عليّ لتنهشني ، وفيها كلب أبقع ، رأيته أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من بين هؤاء القوم .

ص: 160


1- الإرشاد : 2/93 ، بحار الأنوار : 45/2 .

ثم إنّي رأيت بعد ذلك جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومعه جماعة من أصحابه ، وهو يقول لي : يا بني أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكن إفطارك عندي الليلة ، عجّل ولا تؤر ، فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء .

فهذا ما رأيت ، وقد أزف الأمر ، واقترب الرحيل من هذه الدنيا ، لا شكّ في ذلك(1) .

آه ، لا أدري ما جرى على أولئك الأصحاب الأوفياء حينما سمعوا هذا الكلام من إمامهم عليه السلام ؟ وكيف تحمّلوا ذلك ؟

أليلة الحشر لا بل ليل عاشور

أنفخة الصور لا بل نفث مصدور

ليل به خسفت بدر الهدى أسفا

وأصبح الدين فيه كاسف النور

يوم به ذهبت أبناء فاطمة

للبين ما بين مقتول ومأسور

فأيّ دمع عليهم غير منهمل

وأيّ قلب عليهم غير مفطور

يا وقعة الطف خلدت القلوب أسى

كأنّما كلّ يوم يوم عاشور

يا وقعة الطف هل تدرين أيّ فتى

أوقعته رهن تعقير وتعفير

هذا الحسين قتيلاً رهن مصرعه

يبكي له كلّ تهليل وتكبير

إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ

وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ

ص: 161


1- بحار الأنوار : 45/3 عن المناقب لابن شهرآشوب .

ص: 162

المجلس الخامس: وقائع صبح عاشوراء المؤلمة فترة الصبح والضحى والظهر

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي آتانا من رحمته كفلين ، وأنعم علينا من نعمته قسمين عظيمين ، والصلاة والسلام على كاشف أسرار العالمين ، المقصود بإيجاد النشأتين ، المخصوص بمقام قاب قوسين ، محمد سيد الكونين ، وشفيع المطاع في الدارين .

وعلى أهل بيته المصطفين وأوصيائه المجتبين .

ولا سيما على قرّة عينه ، ونور بصريه ، الشهيد المقتول ، المقطوع الودجين ، المحزوز الوريدين ، المعفّر الخدّين ، المخضّب الجبينين ، المقروع الشفتين ، مقطوع الكفين ، أسير الفراتين ، غريب العراقين ، المبعّد عن الحرمين ، الظمآن لدى النهرين ، ابن الأذن والعين ، والفضة ابن الذهبين ، والكوكب ابن القمرين ، والمرجان الخارج من البحرين ، مولانا أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام .

ولعنة اللّه على قاتليه وظالميه لعنة مستمرّة ما استفيد النور من الكوكبين ، وما استقام نظالم العالمين .

ص: 163

وبعد ، فقد قال اللّه سبحانه في كتابه العزيز :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .

* * *

اعلم ، أنّ « الكفل » هو الحظّ الأوفر ، والنصيب الأعظم ، وقد يكون المراد من الكفلين : النصيبين الأوفرين ، يعني الدنيا والآخرة ، أو النجاة من النيران ودخول الجنان(1) ، كذا قال بعض المفسرين .

روى علي بن إبراهيم والكليني عن الصادق عليه السلام فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : « يُؤتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ » قَالَ : الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ، « وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » ، قَالَ : إِمَامٌ تَأْتَمُّونَ بِهِ(2) .

وروي : « وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » قال : أمير المؤنين علي بن أبي طالب عليهماالسلام(3) .

أجل ، إنّهم أنوار إلهية مقدّسة نورت العالم بنورها ، وميّزت طريق النجاة عن طريق الضلالة والشبهات ، وأوضحت معالم سبيل المعرفة والعبودية والتوحيد .

كلّ من أشعل مشعل هداية إنّما اقتبس نوره من مشاعل معارفهم ، وكلّ من رفع لواء العبودية إنّما استفاد من سفن كلامهم .

إنّهم شموس فلك الخلافة ، وبدور سماء الهداية ، ونجوم آفاق الرسالة ، وقطب دوائر الإمامة ، وصبح فلاح الأمّة .

ص: 164


1- في تفسير القمي : 2/352 : « يُؤتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ » قال : نصيبين من رحمته : أحدهما : أن لا يدخله النار ، والثانية : أن يدخله الجنّة ، وقوله : « وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » يعني الإيمان .
2- تفسير القمي : 2/364 ، الكافي : 2/430 ح86 .
3- تأويل الآيات : 2/669 ح28 و29 ، تفسير فرات الكوفي : 468 ، بحار الأنوار : 23/319 ح32 و33 .

إنّهم اللجج الربانية الغامرة ، والحجج السبحانية القاطعة ، وعمود فسطاط العلم والعرفان ، وباسطوا بساط العلم واليقين .

إنّهم مصابيح الأنوار ، ومفاتيح الأسرار ، ومعادن الحكمة ، ومساكن البركة ، ومنازل التقوى ، ومحافل الهدى ، وأخيار الدهر ، ونواميس العصر ، وأعلام العباد ، ومنار البلاد ، ومصابيح الظلام ، ومفاتيح الكلام ، ودعائم الإسلام .

إنّهم الحوت الأعظم في بحار المعرفة الإلهية ، والواقفين على الأسرار كما هي ، وأسود عرين الفتوة ، وجواهر معادن المروة ، أئمة من اللّه يهدون وبه يعدلون .

روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال في حديث طويل :

نحن نور لمن تبعنا ، وهدى لمن اهتدى بنا ، ومن لم يكن منّا فليس من الإسلام في شيء ، وبنا فتح اللّه الدين ، وبنا يختمه ، وبنا أطعمكم اللّه عشب الأرض ، وبنا أنزل

اللّه قطر السماء ، وبنا آمنكم اللّه من الغرق في بحركم ، ومن الخسف في بركم ، وبنا

نفعكم اللّه في حياتكم ، وفي قبوركم ، وفي محشركم ، وعند الصراط ، وعند الميزان ، وعند دخولكم الجنان.

مثلنا في كتاب اللّه كمثل مشكاة ، والمشكاة في القنديل نور على نور ، فالمصباح محمد صلى الله عليه و آله ، « نُورٌ عَلى نُورٍ » ، علي وفاطمة عليهماالسلام ، « يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ » يهدي اللّه لولايتنا من يشاء(1) ، فنحن النجباء ، ونحن النقباء ، ونحن النور والضياء .

وورد في تفسير قوله تعالى : « اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ » .

ص: 165


1- تفسير القمي : 2/104 وفيه تتمة الحديث : « . . فنحن المشكاة فيها مصباح ، المصباح محمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله « الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ » من عنصرة طاهرة « الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » لا دعية ولا منكرة « يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ »القرآن « نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأْمْثالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ، فالنور علي عليه السلام يهدي اللّه لولايتنا من أحب . . . » .

إنّ « الظلمات » ولاية أئمة الجور ، و« النور » الإسلام وولاية أئمة الدين(1) .روى الكليني عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : « فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » ، فَقَالَ : يَا أَبَا خَالِدٍ ، النُّورُ

وَاللَّهِ الأْئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهُمْ وَاللَّهِ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ ، وَهُمْ وَاللَّهِ نُورُ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأْرْضِ ، وَاللَّهِ يَا أَبَا خَالِدٍ لَنُورُ الاْءِمَامِ فِي قُلُوبِ الْمُؤمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ ، وَهُمْ وَاللَّهِ يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ الْمُؤمِنِينَ ، وَيَحْجُبُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ ، فَتُظْلَمُ قُلُوبُهُمْ .

وَاللَّهِ يَا أَبَا خَالِدٍ ، لاَ يُحِبُّنَا عَبْدٌ وَيَتَوَلاَّنَا حَتَّى يُطَهِّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ ، وَلا يُطَهِّرُ اللَّهُ قَلْبَ عَبْدٍ حَتَّى يُسَلِّمَ لَنَا ، وَيَكُونَ سِلْماً لَنَا ، فَإِذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ شَدِيدِ الْحِسَابِ ، وَآمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأْكْبَرِ(2) .

اعلم ، أنّ اطلاق « النور » على هذه الأنوار المقدّسة إطلاقا حقيقيا ، كما ورد في هذا الخبر وغيره من الأخبار التي يطول بذكره المقام .

فهم الأنوار الإلهية المقدّسة المستورة بجلابيب الأبدان ، وأشعة أنوارهم تسطع في قلوب المؤمنين ، ولو رفع الحجاب لتحيّرت الخلائق من أنوارهم المضيئة ، كما تحيّرت الملائكة في بدو الخلق .

روى الشيخ الصدوق رحمه الله في إكمال الدين وعلل الشرائع وعيون أخبار الرضا عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله : ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي ، ولا أكرم عليه منّي .

قال علي عليه السلام : فقلت : يا رسول اللّه ، فأنت أفضل أم جبرئيل ؟ فقال : يا علي إنّ اللّه - تبارك وتعالى - فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، وفضّلني

ص: 166


1- في الصراط المستقيم : 2/74 فصل 13 : عن الباقر عليه السلام : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا » بولاية علي « أَوْلِياؤهُمُالطّاغُوتُ » أعداؤ وأتباعهم أخرجوا الناس « مِنَ النُّورِ »، وولاية علي إِلَى « الظُّلُماتِ » ولاية أعدائه.
2- الكافي : 1/194 ح1 ، بحار الأنوار : 23/308 ح5 .

على جميع النبيين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك ،وإنّ الملائكة لخدامنا ، وخدام محبّينا .

يا علي « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ . .وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » بولايتنا .

يا علي لولا نحن ما خلق اللّه آدم ولا حواء ، ولا الجنّة ولا النار ، ولا السماء ولا

الأرض ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربّنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه ، لأنّ أول ما خلق اللّه - عزّ وجلّ - خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده ، ثم خلق الملائكة .

فلمّا شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون ، وأنّه منزّه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ، ونزهته عن صفاتنا .

فلمّا شاهدوا عظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلاّ اللّه .

فلمّا شاهدوا كبر محلنا كبّرنا لتعلم الملائكة أنّ اللّه أكبر من أن ينال عظم المحل

إلاّ به .

فلمّا شاهدوا ما جعله اللّه لنا من العزّة والقوة ، قلنا : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلاّ باللّه .

فلمّا شاهدوا ما أنعم اللّه به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : الحمد للّه لتعلم الملائكة ما يحقّ للّه - تعالى ذكره - علينا من الحمد على نعمته ، فقالت الملائكة : الحمد للّه . فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد اللّه وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده .

ثم إنّ اللّه - تبارك وتعالى - خلق آدم ، فأودعنا صلبه ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراما ، وكان سجودهم للّه - عزّ وجلّ - عبودية ، ولآدم إكراما وطاعة ، لكوننا في صلبه . فكيف لا نكون أفضل من الملائكة ، وقد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون ؟

ص: 167

وأنّه لمّا عرج بي إلى السماء أذّن جبرئيل مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى ، ثم قال لي :تقدّم يا محمد ، فقلت له : يا جبرئيل ، أتقدّم عليك ؟ فقال : نعم ، لأنّ اللّه - تبارك وتعالى - فضّل أنبياءه على ملائكته أجمعين ، وفضلك خاصة ، فتقدّمت فصلّيت بهم ، ولا فخر .

فلمّا انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل : تقدّم يا محمد ، وتخلّف عنّي ، فقلت : يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني ؟ ! فقال : يا محمد ، إنّ انتهاء حدي الذي وضعني اللّه - عزّ وجلّ - فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربّي - جلّ جلاله - .

فزجّ بي في النور زجّة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء اللّه من علو ملكه ، فنوديت : يا محمد ، فقلت : لبّيك ربّي وسعديك تباركت وتعاليت ، فنوديت : يا محمد ، أنت عبدي وأنا ربّك ، فإياي فاعبد ، وعليّ فتوكّل ، فإنّك نوري في عبادي ، ورسولي إلى خلقي ، وحجتي على بريتي ، لك ولمن اتبعك خلقت جنتي ، ولمن خالفك خلقت ناري ، ولأوصيائك أوجبت كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي .

فقلت : يا ربّ ومن أوصيائي ؟ فنوديت : يا محمد ، أوصياؤ المكتوبون على ساق عرشي .

فنظرت وأنا بين يدي ربّي - جلّ جلاله - إلى ساق العرش ، فرأيت اثني عشر نورا ، في كلّ نور سطر أخضر ، عليه اسم وصي من أوصيائي ، أولهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم مهدي أمّتي .

فقلت : يا ربّ هؤاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت : يا محمد هؤاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي ، وحججي بعدك على بريتي ، وهم أوصياؤ وخلفاؤ ، وخير خلقي بعدك ، وعزّتي وجلالي ، لأظهرن بهم ديني ، ولأعلين بهم كلمتي ، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولأمكننه مشارق الأرض ومغاربها ،

ص: 168

ولأسخرن له الرياح ، ولأذللن له السحاب الصعاب ، ولأرقينه في الأسباب ،ولأنصرنه بجندي ، ولأمدنه بملائكتي ، حتى تعلو دعوتي ، ويجتمع الخلق على توحيدي ، ثم لأديمن ملكه ، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة(1) .

يقول المؤلف :

يعلم من هذا الحديث وأمثاله : أنّهم أنوار حقيقة إلاّ أنّهم تلبّسوا بلباس هذه الصورة .

ولعل المراد من قوله تعالى : « وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » أنّهم هداة سبيل النجاة ، وأدلة طرق التوحيد والسداد ، ومصابيح العبادة والرشاد ، تماما كما هو النور الظاهري الذي يكشف الظلمات ، وينجي من الهلكات ، فهم أيضا يكشفون الظلمات الواقعية وينجون منها ويوصلون الى المقاصد الأصلية .

وهذا المعنى ظاهر ، لأنّ كلّ من سلك طريق المعرفة فإنّما عرفه بهم ، ومن بياناتهم وكلماتهم عرفه ، وكلّ من سلك سبيل العبودية والتوحيد فإنّما عرفه بأقوالهم وأفعالهم وسلوكهم .

روى الشيخ الصدوق رحمه الله في التوحيد بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام قال : . . نحن العاملون بأمره ، والداعون الى سبيله ، بنا عرف اللّه ، وبنا عبد اللّه ، نحن الأدلاء على اللّه ، ولولانا ما عبد اللّه (2) .

فالمستفاد من هذا الحديث وأمثاله : أنّ كلّ من سلك طريقا في هذا العالم لمعرفة اللّه إنّما سلكه بواسطتهم عليهم السلام ، كما روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : إنّ اللّه - عزّ وجلّ - خلقني وعليا وفاطمة

ص: 169


1- كمال الدين : 1/254 باب 23 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1/262 باب 26 ، علل الشرائع : 1/5 باب 7 ح 1 .
2- التوحيد : 152 ح9 .

والحسن والحسين من نور ، فعصر ذلك النور عصرة ، فخرج منها شيعتنا ، فسبّحنافسبّحوا ، وقدّسنا فقدّسوا ، وهللنا فهللوا ، ومجّدنا فمجّدوا ، ووحّدنا فوحّدوا .

ثم خلق السماوات والأرضين وخلق الملائكة ، فمكثت الملائكة مائة عام لا تعرف تسبيحا ولا تقديسا ، فسبّحنا فسبّحت شيعتنا ، فسبّحت الملائكة ، وكذلك في البواقي .

فنحن الموحدون حيث لا موحد غيرنا ، وحقيق على اللّه - عزّ وجلّ - كما اختصنا واختص شيعتنا أن ينزلنا وشيعتنا في أعلى عليين ، إنّ اللّه اصطفانا واصطفى شيعتنا من قبل أن تكون أجساما ، فدعانا فأجبنا ، فغفر لنا ولشيعتنا من قبل أن نستغفر اللّه تعالى(1) .

إشارة الى فضائل الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام

أمّا كون الحسنين عليهماالسلام هما الكفلين من رحمته ، والنصيبين العظيمين من كرامته ، فظاهر ، وذلك أنّهما سبب نزول الرحمات الإلهية ، ومنبع الكرامة الربانية ، والوسيلة

العظمى الموصلة الى الرحمة .

فقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال في الحسنين عليهماالسلام : من أحبّهما كان معي في الجنّة ، ومن أبغضهما كان في النار(2) .

وروي عن طريق المخالفين عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آلهومعه حسن وحسين عليهماالسلام ، هذا على عاتقه ، وهذا على عاتقه ، وهو يلثم هذا مرّة ، وهذا مرّة حتى انتهى إلينا ، فقال له رجل : يا رسول اللّه ، إنّك لتحبّهما ! فقال : من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني(3) .

ص: 170


1- كشف الغمة : 1/458 ، بحار الأنوار : 37/80 باب 50 .
2- انظر بحار الأنوار : 43/275 باب 12 .
3- كشف الغمة : 2/61 ، المناقب : 3/382 ، بحار الأنوار : 43/281 باب 12 .

وروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال : بي أنذرتم ، وبعلي بن أبي طالب اهتديتم ، وقرأ « إِنَّماأَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ » ، وبالحسن أعطيتم الإحسان ، وبالحسين تسعدون ، وبه تشبثون ، ألا وإنّ الحسين باب من أبواب الجنّة من عانده حرم اللّه عليه ريح الجنّة(1) .

وإذا تأملت قليلاً علمت أنّ أكثر الخلق يدخلون الجنّة من هذه الباب ، فما أكثر الداخلين الجنّة بسبب هذا الإمام الرؤوف في كلّ يوم ، ويستحقونها إمّا بسبب زيارته ، أو بسبب البكاء عليه ، أو بسبب إعانة الباكين عليه ، أو بسبب إقامة العزاء

عليه ، أو بأسباب أخرى كثيرة تعود اليه عليه السلام .

ثواب زيارة الحسين عليه السلام

أجل ، فإنّك ما عرفت قدر زيارته ، ولا عرفت مقام البكاء عليه ، فاستمع لتعرف قدر ذلك إجمالاً :

روي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : إنّ الرجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السلام ، فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة ذنوبه ، ثم لم يزل يقدّس بكلّ خطوة حتى يأتيه ، فإذا أتاه ناجاه اللّه تعالى فقال : عبدي سلني أعطك ، ادعني أجبك ، اطلب مني أعطك ، سلني حاجة أقضيها لك .

وقال أبو عبد اللّه عليه السلام : وحقّ على اللّه أن يعطي ما بذل(2) .

وروي في كشف الغمة : أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان ذات يوم جالسا وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، فقال لهم : كيف أنتم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى ؟

فقال له الحسين عليه السلام : أنموت موتا أو نقتل قتلاً ؟

ص: 171


1- مئة منقبة : 22 المنقبة 4 ، بحار الأنوار : 35/405 باب 20 ح28 .
2- كامل الزيارات : 132 الباب 49 ح2 ، بحار الأنوار : 98/24 باب 4 ح21 .

فقال : بل تقتل يا بني ظلما وعدوانا ، ويقتل أخوك ظلما وعدوانا ، وتشرّدذراريكم في الأرض شرقا وغربا .

فقال الحسين عليه السلام : ومن يقتلنا يا رسول اللّه ؟

قال : شرار الناس .

قال : فهل يزورنا بعد قتلنا أحد ؟

قال : نعم يا بني ، طائفة من أمّتي يريدون بزيارتكم برّي وصلتي ، فإذا كان يوم القيامة جئتها إلى الموقف حتى آخذ بأعضادها ، فأخلّصها من أهواله وشدائده(1) .

وروى ابن قولويه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : لو يعلم الناس ما في زيارة قبر الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقا ، وتقطعت أنفسهم عليه حسرات .

قلت : وما فيه ؟ قال : من أتاه تشوّقا كتب اللّه له ألف حجّة متقبلة ، وألف عمرة مبرورة ، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر ، وأجر ألف صائم ، وثواب ألف صدقة مقبولة ، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه اللّه ، ولم يزل محفوظا سنته من كلّ آفة ، أهونها الشيطان ، ووكّل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدمه ، فإن مات سنته حضرته ملائكة الرحمة ، يحضرون غسله واكفانه والاستغفار له ، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له ، ويفسح له في قبره مدّ بصره ، ويؤنه اللّه من ضغطة القبر ، ومن منكر ونكير أن يروعانه ، ويفتح له باب إلى الجنّة ، ويعطى كتابه بيمينه ، ويعطى له يوم القيامة نورا يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب ، وينادي مناد : هذا من زار الحسين شوقا إليه ، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلاّ تمنّى يومئذ أنّه كان من زوار الحسين عليه السلام(2) .

ص: 172


1- كشف الغمة : 2/8 .
2- كامل الزيارات : 142 الباب 56 ح3 .

وروي بإسناد معتبر عن داود بن يزيد(1) عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : من زار قبرالحسين عليه السلام في كلّ جمعة غفر اللّه له البتة ، ولم يخرج من الدنيا وفي نفسه حسرة منها ، وكان مسكنه في الجنّة مع الحسين بن علي عليهماالسلام ، ثم قال : يا داود من لا يسرّه أن يكون في الجنّة جار الحسين عليه السلام ؟ قلت : من لا أفلح(2) .

وروي عن دعبل بن علي الخزاعي قال : لمّا انصرفت عن أبي الحسن الرضا عليه السلام

بقصيدتي التائية نزلت بالري ، وإنّي في ليلة من الليالي ، وأنا أصوغ قصيدة ، وقد ذهب من الليل شطره ، فإذا طارق يطرق الباب ، فقلت : من هذا ؟ فقال : أخ لك .

فبدرت إلى الباب ففتحته ، فدخل شخص اقشعرّ منه بدني ، وذهلت منه نفسي ، فجلس ناحية وقال لي : لا ترع ، أنا أخوك من الجن ، وُلدت في الليلة التي ولدت فيها ، ونشأت معك ، وإنّي جئت أحدثك بما يسرّك ، ويقوّي نفسك وبصيرتك .

قال : فرجعت نفسي ، وسكن قلبي ، فقال : يا دعبل ، إنّي كنت من أشدّ خلق اللّه بغضا وعداوة لعلي بن أبي طالب ، فخرجت في نفر من الجن المردة العتاة ، فمررنا بنفر يريدون زيارة الحسين عليه السلام قد جنّهم الليل ، فهممنا بهم ، وإذا ملائكة تزجرنا من السماء ، وملائكة في الأرض تزجر عنهم هوامها ، فكأنّي كنت نائما ، فانتبهت أو غافلا فتيقظت ، وعلمت أنّ ذلك لعناية بهم من اللّه تعالى ، لمكان من قصدوا له وتشرفوا بزيارته ، فأحدثت توبة وجددت نية ، وزرت مع القوم ، ووقفت بوقوفهم ، ودعوت بدعائهم ، وحججت بحجهم تلك السنة ، وزرت قبر النبي صلى الله عليه و آله ، ومررت برجل حوله جماعة ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : هذا ابن رسول اللّه الصادق عليه السلام .

ص: 173


1- في المتن : « داود بن فرقد » .
2- كامل الزيارات : 183 الباب 74 ح3 .

قال : فدنوت منه ، وسلّمت عليه ، فقال لي : مرحبا بك يا أهل العراق ، أتذكرليلتك ببطن كربلاء ، وما رأيت من كرامة اللّه تعالى لأوليائنا ، إنّ اللّه قد قبل توبتك ، وغفر خطيئتك ، فقلت : الحمد للّه الذي منّ عليّ بكم ، ونوّر قلبي بنور هدايتكم ، وجعلني من المعتصمين بحبل ولايتكم ، فحدثني يا ابن رسول اللّه بحديث أنصرف به إلى أهلي وقومي .

فقال : نعم ، حدثني أبي محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا علي الجنّة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا ، وعلى الأوصياء حتى تدخلها أنت ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمّتي ، وعلى أمّتي حتى يقرّوا بولايتك ، ويدينوا بإمامتك .

يا علي ، والذي بعثني بالحقّ لا يدخل الجنّة أحد إلاّ من أخذ منك بنسب أو سبب .

ثم قال : خذها يا دعبل ، فلن تسمع بمثلها من مثلي أبدا ، ثم ابتلعته الأرض ، فلم أره(1) .

وروى ابن قولويه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : من أراد أن يكون في كرامة اللّه يوم القيامة ، وفي شفاعة محمد صلى الله عليه و آله ، فليكن للحسين زائرا ، ينال من اللّه الفضل والكرامة ، أفضل الكرامة ، وحسن الثواب ، ولا يسأله عن ذنب عمله في حياة الدنيا ، ولو كانت ذنوبه عدد رمل عالج وجبال تهامة وزبد البحر ، إنّ الحسين عليه السلام قتل مظلوما مضطهدا نفسه عطشانا ، هو وأهل بيته وأصحابه(2) .

ص: 174


1- المنتخب : 1/208 ، بحار الأنوار : 45/402 باب 50 .
2- كامل الزيارات : 153 الباب 62 ح6 .

فهذه يا عزيزي جملة مختصرة ممّا أعدّ لزائره عليه السلام ، وأما احصاء ذلك فهو غيرممكن بحال ، وكيف يحصى ذلك والإمام الصادق عليه السلام يقول : واللّه لو إنّي حدثتكم بفضل زيارته ، وبفضل قبره ، لتركتم الحجّ رأسا ، وما حجّ منكم أحد(1) .

وهذا الحديث وأمثاله من الروايات لم تتعرّض الى بيان غاية الفضيلة مع كلّ ما فيها من ذكر للفضائل ، من قبيل ما ورد عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : من زار قبر الحسين عليه السلام يوم عرفة كتب اللّه له ألف ألف حجّة مع القائم ، وألف ألف عمرة مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعتق ألف ألف نسمة ، وحملان ألف ألف فرس في سبيل اللّه ، وسمّاه اللّه : عبدي الصديق آمن بوعدي ، وقالت الملائكة : فلان صديق زكّاه اللّه من

فوق عرشه ، وسمّي في الأرض كروبا(2) .

أيّ رحمة أعظم من هذه الرحمة ؟ وأي إحسان أكمل من هذا الإحسان ؟

وهذا سبيل واحد من سبل الرحمة التي توصل الى اللّه بسبب هذا الإمام العظيم ، والحال أنّ سبله كثيرة ، وأسبابه لا تعد ولا تحصى :

فمنهم من يرحم بسبب زيارته .

ومنهم من يرحم بسبب إقامة العزاء عليه .

ومنهم من يرحم بسبب إنشاد المراثي فيه .

ومنهم من يرحم بسبب إعمار مجالس عزائه .

ومنهم من يرحم بسبب قراءة مصيبته .

ومنهم من يرحم بسبب البكاء عليه .

ومنهم من يرحم بسبب الحزن عليه .

ومنهم من يرحم بسبب إعمار قبره .

ص: 175


1- كامل الزيارات : 266 الباب 88 ، بحار الأنوار : 89/33 ح33 .
2- كامل الزيارات : 172 الباب 70 .

ومنهم من يرحم بسبب اللجوء الى قبره .

روى أبو هارون المكفوف قال : دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقال لي : أنشدني ، فأنشدته ، فقال : لا ، كما تنشدون ، وكما ترثيه عند قبره .

قال : فأنشدته :

امرر على جدث الحسين

فقل لأعظمه الزكيه

قال : فلمّا بكى أمسكت أنا ، فقال : مرّ ، فمررت ، قال : ثم قال : زدني زدني .

قال : فأنشدته :

يا مريم قومي فاندبي مولاك

وعلى الحسين فاسعدي ببكاك

قال : فبكى وتهايج النساء ، قال : فلمّا أن سكتن ، قال لي : يا با هارون ، من أنشد في الحسين عليه السلام ، فأبكى عشرة فله الجنّة ، ثم جعل ينقص واحدا واحدا حتى بلغ الواحد ، فقال : من أنشد في الحسين عليه السلام ، فأبكى واحدا فله الجنّة ، ثم قال : من ذكره فبكى فله الجنّة(1) .

وروي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : من ذُكرنا عنده ، ففاضت عيناه حرّم اللّه وجهه على النار(2) .

فتأمل جيدا لتعرف مقام الشخص الجليل عند الربّ العظيم ، وارتفاع شأنه عند الجبار الكريم .

وتأمل أيّ ظلم وجور أنزلوا بهذا الإمام الهمام عليه السلام ، فحقّ واللّه أن تتفتت في مصيبته الأكباد .

فوا حرّ قلباه ، على تلك الشمائل اللطيفة ، والأبدان الروحانية الشريفة ، التي كافورها التراب ، ونعوشها القنا النشاب ، وقبورها قلوب الأحباب .

ص: 176


1- كامل الزيارات : 105 الباب 33 ح5 .
2- كامل الزيارات : 104 الباب 32 ح10 .

ووا أسفاه ، للنواصي المخضوبة بالدم ، والأحشاء المبعّضة بسيوف الكرب والهم .

ووا حزناه ، على تلك الرؤوس الساميات ، المرفوعة على الرماح والقنوات ، التي دارت به الفيافي والفلوات .

ووا غمّاه ، على تلك النسوة البارزات ، والبنات الضايعات مناديات الجدود ، لاطمات الخدود ، ساترات الوجوه بالأكف والزنود .

فلا عمرت بعد خلوّ ديارهم وأوطانهم المنازل ، ولا جرى الماء بعد عطشهم في الجداول .

يا نكبة لبس الدين القويم له

سور الحداد وغاص العلم والعمل

وقرحة أورثت في قلب فاطمة

رزءا عظيما وجرحا ليس يندمل

فكيف أحمد بسط البال من جذل

وسبط أحمد في البوغاء منجدل

أم كيف أشتمّ ريحانا وقد تركت

ريحانة المصطفى تنتابها الأسل

أم كيف أشرب ماء لا أغصّ به

والسبط صار تسقيه الردى الذبل

أم كيف أفرش فرشا وهو منجدل

بجندل قد علا علياءه وعل

أم كيف يعبق بي طيب ونسوته

شُعث ترامى بهن العجف والهزل

بلا وطاء ولا ستر يجلّلها

عن أعين الناس إلا الحزن والثكل

مسبيّة مثل سبي الروم قد سُلبت

منها القلائدُ والأسوار والحجل

سواجعا كحمام الايك نادبة

ينهد من شجوهن الصخر والجبل

إشارة الى عظم مصيبة الإمام الحسين عليه السلام

لا أدري لماذا لم ينقلب العالم ؟ ولماذا لم يتناثر نظام الكون ؟ وأعجب لماذا لم تمطر نارا وشهبا وصواعق ؟

وأعجب واللّه كيف ترتسم الضحكة على شفاه شيعته ؟ وكيف يعيشون وبالحياة يهنئون ؟ وكيف يلبسون ملابس جديدة ويسكنون مساكن فارهة ؟

ص: 177

والأعجب ، كيف يسمعون مصيبته ويصغون الى ما جرى عليه ثم لا يبكونهبدل الدموع دما ، ولا تخرج أرواحهم مع زفراتهم ؟

وهل ثمة مصيبة أخرى أعظم من مصيبته يدخرون الدموع لها ؟ وهل ثمة شخص أعزّ منه يحبسون الزفرات عليه ؟

أما علمت أنّ مصيبته سلبت الراحة والروح من أهل بيت الرسالة عليهم السلام ؟ وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله مع كلّ صبره وحلمه جزع وفزع في مصيبته ؟ وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام مع حلمه ووقاره جزع ولم يتمالك في رزيته ؟

روى ابن قولويه عن الصادق عليه السلام قال : لمّا أن هبط جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقتل الحسين عليه السلام أخذ بيد علي فخلا به مليّا من النهار ، فغلبتهما العبرة ، فلم يتفرقا حتى هبط عليهما جبرئيل عليه السلام ، أو قال : رسول ربّ العالمين ، فقال لهما : ربّكما يقرؤما السلام ويقول : عزمت عليكما لمّا صبرتما ، قال : فصبرا(1) .

أجل ، إنّهما صبرا ، وكانا أعظم من أن لا يصبرا على نوائب الدهر ومصائبه ، ولكن قلبيهما جرحا ، وصدريهما قرحا ، وكانا كلّما ذكرا المصيبة بكيا ، وتنفسا الصعداء ، حتى ربما أغمي عليهما من شدّة البكاء أحيانا .

روي عن ابن عباس قال : كنت مع علي بن أبي طالب عليهماالسلام في خرجته إلى صفين ، فلمّا نزل بنينوى ، وهو شط الفرات ، قال بأعلى صوته : يا ابن عباس ، أتعرف هذا الموضع ؟ قلت : نعم ، قال : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي .

قال : فبكى طويلاً حتى اخضلّت لحيته ، وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معه ، ثم قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وهنا تهرق دماؤم ،

ص: 178


1- كامل الزيارات : 55 الباب 16 ح1 ، بحار الأنوار : 44/231 . .

طوبى لك من تربة عليك تهرق دماء الأحبة ، ثم بكى طويلاً فبكينا معه حتى سقطلوجهه مغشيا عليه(1) .

ص: 179


1- جمع بين روايتين مختصرا وهما : في الخرائج والجرائح : 3/1144 ، الأمالي للصدوق : 597 المجلس 87 ، بحار الأنوار : 44/252 باب 31 : عن ابن عباس قال : كنت مع علي بن أبي طالب عليهماالسلام في خرجته إلى صفين ، فلمّا نزل بنينوى ، وهو شط الفرات ، قال بأعلى صوته : يا ابن عباس أتعرف هذا الموضع ؟ قلت : نعم ، قال : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي . قال : فبكى طويلاً حتى اخضلت لحيته ، وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معه ، وهو يقول : أوه أوه ، ما لي ولآل أبي سفيان ، ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ، صبرا أبا عبد اللّه ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم . ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة ، فصلّى ما شاء اللّه أن يصلّي ، ثم ذكر نحو كلامه الأول ، إلاّ أنّه نعس عند انقضاء صلاته ساعة ، ثم انتبه فقال : يا ابن عباس ، فقلت : ها أنا ذا ، قال : ألا أحدثك بما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي ؟ قلت : نامت عيناك ، ورأيت خيرا . قال : رأيت كأنّي برجال بيض قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلدوا سيوفهم ، وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطة ، ثم رأيت كأنّ هذه النخيل ، وقد ضربت بأغصانها الأرض ، وهي تضطرب بدم عبيط ، وكأنّي بالحسين سخلي وفرخي وبضعتي قد غرق فيه ، يستغيث فلا يغاث ، وكأنّ الرجال البيض الذين نزلوا من السماء ينادونه ويقولون : صبرا آل الرسول ، فإنّكم تقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنّة يا أبا عبد اللّه إليك مشتاقة ، ثم يعزونني ويقولون : يا أبا الحسن ، أبشر فقد أقرّ اللّه به عينك يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، ثم انتبهت هكذا . والذي نفسي بيده ، لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسم صلى الله عليه و آله أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً ، كلّهم من ولدي وولد فاطمة ، وأنّها لفي السماوات معروفة ، تذكر أرض « كرب وبلاء » كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس . ثم قال : يا ابن عباس ، اطلب لي حولنا بعر الظباء ، فواللّه ما كذبت ولا كذبت ، ولا كذبني قط ، وهي مصفرة ، لونها لون الزعفران . قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة ، فناديته يا أمير المؤنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها ، فقال علي : صدق اللّه وصدق رسوله . ثم قام يهرول إلينا ، فحملها وشمها ، فقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأباعر ؟ هذه قد شمّها عيسى ابن مريم وقال : هذا الطيب لمكان حشيشها ، وتكلّم بكلّ ما قدمناه . . إلى أن قال : اللّهم فأبقها أبدا حتى يشمها أبوه ، فتكون له عزاء . قال : فبقيت إلى يوم الناس هذا ، ثم قال علي : اللّهم يا ربّ عيسى ابن مريم لا تبارك في قتلته والحامل عليه والمعين عليه والخاذل له . ثم بكى طويلاً فبكينا معه حتى سقط لوجهه مغشيا عليه ، ثم أفاق وأخذ البعر وصرّه في ردائه ، وأمرني أن أصرّها كذلك ، ثم قال : إذا رأيتها تنفجر دما عبيطا فاعلم أنّ أبا عبد اللّه قد قتل بها ودفن . قال ابن عباس : لقد كنت أحفظها ولا أحلّها من طرف كمي ، فبينا أنا في البيت نائم ، وقد خلا عشر المحرم ، إذ انتبهت فإذا تسيل دما ، فجلست وأنا باك فقلت : قتل الحسين ، وذلك عند الفجر ، فرأيت المدينة كأنّها ضباب ، ثم طلعت الشمس وكأنّها منكسفة ، وكأنّ على الجدران دما ، فسمعت صوتا يقول وأنا باك : اصبروا آل الرسول قتل الفرخ البجولنزل الروح الأمين ببكاء وعويل ثم بكى وبكيت ، ثم حدثت الذين كانوا مع الحسين ، فقالوا : لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ، فكنّا نرى أنّه الخضر عليه السلام . وفي كامل الزيارات : 269 الباب 88 ح11 : عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : مرّ أمير المؤنين عليه السلامبكربلاء في أناس من أصحابه ، فلمّا مرّ بها أغرورقت عيناه بالبكاء ، ثم قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وهنا تهرق دماؤم ، طوبى لك من تربة عليك تهرق دماء الأحبة .

يا أمير المؤمنين ، مررتَ بكربلاء التي سيقتل فيها فلذة كبدك بعد مدّة من السنين ، فبكيت حتى سقطت على وجهك مغمى عليك ، فكيف بك لو رأيت قرّة عينك ، وهو ملقى على الرمضاء ، مقطع الأعضاء ، مقطوع الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، مرمّل بالدماء ؟

فأين ليث بني عدنان والده

أين العشائر أين السادة الأُول

أما دروا أنّ نحرا كان يلثمه

فم الرسول بسيف الشمر مبتذل

أما دروا أنّ جسما كان يحمله

خير البرية فوق الترب منجدل

وهل دروا أنّ رأسا قد علا شرفا

على السنان أصمّ الكعب قد جعلوا

ص: 180

وأنّ نسوته أسرى بلا وطأ

ولا قناع على الأقتاب قد حملوا

للّه كم بدر سعد في التراب ثوى

وأنجم في عراص الطف قد أفلوا

وكم وجوه لقد أبلى محاسنَها

حرُّ الظماء وهجرُ الشمس والذبل

وكم رؤوس على الأرماح قد رُفعت

ومن نجيع دماها شيبها عطل

اصطفاف جيش العدو صبح عاشوراء

روى الشيخ المفيد رحمه الله والسيد الجليل ابن طاووس رحمه الله ومحمد بن أبي طالب الموسوي رحمه الله وغيرهم في كتبهم بألفاظ ومعان متقاربة قالوا :لما أصبح صباح اليوم العاشر المشؤوم نادى مناد بين السماء والأرض : يا خيل اللّه اركبي وبالجنة أبشري .

فأذن الإمام المظلوم ، فاجتمع أصحابه للصلاة ، وتيمموا بدل الوضوء ، ثم إئتموا بإمام العالمين فصلّى عليه السلام بهم ، ثم التفت اليهم فقال :

أشهد أنّنا سنقتل اليوم جميعا وننجو من ذلّ الدنيا ، ولا يبقى إلاّ ولدي علي زين العابدين(1) .

قال الشيخ المفيد رحمه الله : وأصبح الحسين فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا ، وأربعون راجلاً .

وقال السيد رحمه الله : روي عن الباقر عليه السلام أنّهم كانوا خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل .

وقال صاحب المناقب : اثنان وثمانون راجلاً .

ص: 181


1- في كامل الزيارات : 73 الباب 23 ح8 وبحار الأنوار : 45/86 بقية الباب 37 : وحدثني الحسن بن عبد اللّه عن محمد بن عيسى عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن الحلبي قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : إنّ الحسين عليه السلام صلّى بأصحابه الغداة ، ثم التفت إليهم فقال : إنّ اللّه قد أذن في قتلكم فعليكم بالصبر .

فجعل الحسين عليه السلام زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته - راية الهدى - العباس أخاه ، وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان قد حفر هناك ، وأن يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم .

وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم ، فعبأ أصحابه ، وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين عليه السلام ، وكان على ميمنته عمرو بن الحجاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عروة بن قيس ، وعلى الرجالة شبث بن ربعي ، وأعطى الراية - المشؤومة - دريدا مولاه(1) .وقال بعض العلماء : كان حامل راية عمر بن سعد خولي وحرملة ، وكان أبو أيوب الغنوي على أصحاب المساحي والمعاول ، وعلى الرماة محمد بن الأشعث ، وعلى رماة الحجارة عمر بن صبيح .

فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه السلام ، فيرون الخندق في ظهورهم ، والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان ألقي فيه(2) .

قال السيد ابن نما رحمه الله : وجاء رجل ملعون فقال : أين الحسين ؟ فقال : ها أنا ذا ، قال : أبشر بالنار تردها الساعة ، قال : بل أبشر بربّ رحيم وشفيع مطاع ، من أنت ؟ قال : أنا محمد بن الأشعث ، قال : اللّهم إن كان عبدك كاذبا فخذه إلى النار ،

واجعله اليوم آية لأصحابه ، فما هو إلاّ أن ثنى عنان فرسه ، فرمى به وثبتت رجله في الركاب ، فضربه حتى قطعه ، ووقعت مذاكيره في الأرض(3) .

ثم جاء اللعين شمر بن ذي الجوشن فنادى بأعلى صوته : يا حسين ، أتعجلت

ص: 182


1- بحار الأنوار : 45/3 بقية الباب 37 .
2- بحار الأنوار : 45/4 بقية الباب 37 .
3- مثير الأحزان : 64 .

بالنار قبل يوم القيامة ؟ فقال الحسين عليه السلام : من هذا كأنّه شمر بن ذي الجوشن ؟ فقالوا : نعم ، فقال له : يا ابن راعية المعزى ، أنت أَوْلى بِها صِلِيًّا(1) .

وفي رواية أخرى : قال الحسين عليه السلام اللّه أكبر ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : رأيت كأنّ كلبا أبقع يلغ في دماء أهل بيتي .

وقال الحسين عليه السلام : رأيت كأنّ كلابا تنهشني ، وكأنّ فيها كلبا أبقع كان أشدّهم عليّ ، وهو أنت ، وكان أبرص(2) .ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم ، فمنعه الحسين عليه السلام من ذلك ، فقال له :دعني حتى أرميه ، فإنّ الفاسق من أعداء اللّه وعظماء الجبارين ، وقد أمكن اللّه منه ، فقال له الحسين عليه السلام : لا ترمه ، فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال(3) .

برير يكلّم القوم

وركب أصحاب عمر بن سعد ، فقرّب إلى الحسين عليه السلام فرسه فاستوى عليه ، وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه برير بن خضير - وكان من العلماء الزهاد - فقال له الحسين عليه السلام : كلّم القوم ، فتقدّم برير ، فقال : يا قوم اتقوا اللّه ، فإنّ ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم ، هؤاء ذريته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم ، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم ؟

فقالوا : نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد ، فيرى رأيه فيهم .

فقال لهم برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكوفة ، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها ، وأشهدتم اللّه عليها ، يا ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم ، وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم

ص: 183


1- بحار الأنوار : 45/4 بقية الباب 37 .
2- مثير الأحزان : 64 .
3- بحار الأنوار : 45/4 بقية الباب 37 .

حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلفتم نبيكم في ذريّته ، ما لكم لا سقاكم اللّه يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم .

فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ما تقول ؟

فقال برير : الحمد للّه الذي زادني فيكم بصيرة ، اللّهم إنّي أبرأ إليك من فعال هؤاء القوم ، اللّهم ألق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان ، فجعل القوم يرمونه بالسهام ، فرجع برير إلى ورائه(1) .

الإمام الحسين عليه السلام يكلّم القوم

ثم إنّ الحسين دعا بفرس رسول اللّه « المرتجز » ، فركبه(2) ، وفي بعضكتب العلماء : اِسْتَدْعى بِدِرْعِ(3) جَدِّهِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَتَعَمَّمَ بِعَمامَتِهِ ، وَتَقَلَّدَ بِسَيْفِ رسول اللّه صلى الله عليه و آله(4) ، ثم تقدّم نحو القوم ورفع صوته الشريف ليسمعهم ويتمم الحجة عليهم .

قال صاحب المناقب : وأحاطوا بالحسين عليه السلام من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج عليه السلام حتى أتى الناس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا ، حتى قال لهم :

ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي ، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشدين ، ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاص لأمري غير مستمع قولي ، فقد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ؟ ألا تسمعون ؟

ص: 184


1- بحار الأنوار : 45/4 بقية الباب 37 .
2- بحار الأنوار : 45/10 بقية الباب 37 .
3- في المتن : « دراعة » وهي القباء .
4- مقتل أبي مخنف : 64 .

فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم ، وقالوا : أنصتوا له(1) .

قال الشيخ المفيد رحمه الله : ونادى الحسين عليه السلام بأعلى صوته ، وكلّهم يسمعونه ، فقال : يا أهل العراق ، وكان أكثرهم يعرفونه ، ثم تكلّم بكلام بليغ فصيح ، ثم حمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه و آله ، فلم يسمع متكلّم قطّ بعده ولا قبله أبلغ في منطق منه(2) .

ثم قال : أمّا بعد ، فانسبوني وانظروا من أنا ؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ،فانظروا هل يصلح لكم قتلي ؟ وانتهاك حرمتي ؟

ألست ابن بنت نبيكم ، وابن وصيه ، وابن عمّه ، وأول المؤنين المصدّقين لرسول اللّه ، وبما جاء به من عند ربّه ؟

أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي ؟

أو ليس جعفر الطيار بجناحين عمّي ؟

أو لم يبلغكم ما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنّة ؟

فإن صدقتموني بما أقول ، وهو الحقّ ، فواللّه ما تعمدت كذبا منذ علمت أنّ اللّه تعالى يمقت عليه ، وإن كذبتموني فإنّ فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك ، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي(3) ؟

ص: 185


1- بحار الأنوار : 45/7 بقية الباب 37 .
2- في المصدر : فقال : أيّها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ عليّ لكم ، وحتى أعذر إليكم ، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم ، فاجمعوا رأيكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون « إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ » .
3- إعلام الورى : 240 الفصل 4 .

ثم قال لهم الحسين عليه السلام : فإن كنتم في شكّ من هذا ، أفتشكون أنّي ابن بنت نبيكم ، فواللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ، ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟ أو مال لكم استهلكته ؟ أو بقصاص جراحة(1) ؟

فهل سنّة غيرتها أو شريعة

وهل كنت في دين الإله مبدلا

أحلّلت ما قد حرم الطهر أحمد

أحرّمت ما قد كان قبل محلّلا(2)

وفي رواية السيد ابن طاووس رحمه الله قالوا : اللّهم نعم ، صدقت يا حسين فيما تقول ،قال : فبم تستحلون دمي ، وأبي صلى الله عليه و آله الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يذادالبعير الصادر عن الماء(3) .

وروي أنّ أخوات الحسين وبناته ونساءه كانوا يسمعون كلام الإمام مع الأعداء ، لأنّ الأعداء كانوا قد أحاطوا بخيام الإمام ، فارتفعت أصواتهن بالبكاء والنحيب ، وفزعن فزعا شديدا ولطمن الخدود .

فيا ليتنا متنا ولم نر ما نرى

ويا ليتنا لم نمتحن بحياة

فقال الامام عليه السلام : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم ، ثم أمر ابنه علي الأكبر وأخاه العباس أن يسكتوهن ، وقال لهم : قولوا لهن : إنّ البكاء أمامكن ، فلمّا بلغهن

كلام الإمام سكتن(4) .

فقال الإمام عليه السلام : اتركوني ارجع الى حرم جدّي ، وارجع عيالي ، اسقوني جرعة من الماء فقد واللّه تفتت كبدي من العطش .

ص: 186


1- الإرشاد : 2/97 وفيه : « فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد اللّه على حرف إن كان يدري ما تقول ! فقال له حبيب بن مظاهر : واللّه إنّي لأراك تعبد اللّه على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنّك صادق ، ما تدري ما يقول ، قد طبع اللّه على قلبك ، ثم قال لهم الحسين عليه السلام فإن كنتم في شكّ . . » .
2- بحار الأنوار : 45/262 باب 44 .
3- اللهوف : 86 المسلك الثاني .
4- تذكرة الشهداء : 353 ترجمة سيد علي جمال أشرف .

وروى الشيخ المفيد رحمه الله قال : فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : يا شبث بن ربعي ، يا حجار بن أبجر ، يا قيس بن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار ، وأخضر الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجند ؟

فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ! ولكن انزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لم يروك إلاّ ما تحبّ .

فقال له الحسين عليه السلام : لا واللّه ، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ قرار(1)

العبيد ، ثم نادى : يا عباد اللّه ، « إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ » أعوذ « بِرَبِّي وَرَبِّكُمْمِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ »(2) .

كلام عمر بن سعد مع الإمام الحسين عليه السلام

قال صاحب المناقب : بعد أن وعظهم الإمام الحسين عليه السلام وأتمّ عليه الحجة قال : أين عمر بن سعد ؟ ادعوا لي عمر .

فدعي له ، وكان كارها لا يحبّ أن يأتيه ، فقال : يا عمر أنت تقتلني ؟ تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان ؟ واللّه لا تتهنأ بذلك أبدا ، عهدا معهودا ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأنّي برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة يتراماه الصبيان ويتّخذونه غرضا بينهم .

فاغتاظ عمر من كلامه ، ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنتظرون به ؟ احملوا بأجمعكم ، إنّما هي أكلة واحدة(3) .

ونادى عمر بن سعد - لعنه اللّه - : يا دريد - وهو حامل رايته - أدن رايتك ، فأدناها ، ثم وضع سهما في كبد قوسه ، ثم رمى وقال : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أول من رمى السهم الى الحسين عليه السلام .

ص: 187


1- في الإرشاد : « أفرّ فرار » .
2- الإرشاد : 2/97 ، بحار الأنوار : 45/7 بقية الباب 37 .
3- بحار الأنوار : 45/9 بقية الباب 37 .

وقال محمد بن أبي طالب : فرمى أصحابه كلّهم ، فما بقي من أصحاب الحسين عليه السلام

إلاّ أصابه من سهامهم ، فلمّا رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسين عليه السلام ، وقتل في

هذه الحملة خمسون رجلاً(1) .

فليت أحمد والكرار والده

تنشق بالطف عن شخصيهما الترب

وليت يكشف عن وجه البتول له

براقع القبر لو يكشفنها الكرب

أهوت عليه الصبا لمّا علقن به

كأنّها الطير إذ تهوى فتخلب

وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فقال عليه السلام لأصحابه : قوموا رحمكم اللّه إلى الموت الذي لابد منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملةوحملة حتى قتل من أصحاب الحسين عليه السلام جماعة(2) .

للّه كم من ذي شيبة وشبيبة

في كربلاء بشبا الصوارم قطع

أسفا لهاتيك الجسوم على الثرى

مصروعة تسفي عليها الأصبع

للّه هاتيك الوجوه تعفّرت

ولطالما للّه كانت تركع

قال : فعندها ضرب الحسين عليه السلام يده على لحيته وجعل يقول : اشتدّ غضب اللّه على اليهود إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم ، أما واللّه لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى اللّه تعالى وأنا مخضّب بدمي(3) .

وروي أنّه عليه السلام قال : أتممت عليكم الحجة ، وسأقاتلكم مع قلّة الأنصار والأعوان ، ولكنّي سأقاتلكم بهذه العصابة القليلة ، وإنّي لأعلم أنّنا سنقتل جميعا ، ثم لوى عنان فرسه وعاد الى أصحابه .

ص: 188


1- بحار الأنوار : 45/12 بقية الباب 37 .
2- اللهوف : 100 المسلك الثاني ، بحار الأنوار : 45/12 بقية الباب 37 .
3- اللهوف : 100 المسلك الثاني ، بحار الأنوار : 45/12 بقية الباب 37 .

المجلس السادس: في بيان شهادة بعض أصحابه الكرام

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي رفع مدارج أوليائه ، وأعلى معارج شهدائه ، وأعزّهم باشتراءأنفسهم وأموالهم ، وأكرمهم بتعويض دار كرامته ، كما هو منتهى آمالهم .

والصلاة والسلام على أشرف أوليائه ، وأفضل أحبّائه ، محمد خاتم أنبيائه عليهم السلام ، والأئمة من بعده ، سادات أهل أرضه وسمائه .

سيّما على الحسين المظلوم عليه السلام ، سيد شهدائه ، وأحبّ أنصاره وأحبّائه ، الذي أريق دمه في محبّته ، واستبيح حرمه في نصرته ، وعلى أنصاره المجاهدين ، وأوليائه المستشهدين .

السلام على الأعضاء المقطّعات ، والأجسام المضرّجات ، السلام على الدماء السائلات ، والشفاه الذابلات ، والعيون الباكيات ، والبطون الجائعات ، والقلوب المايعات ، السلام على الوجوه المعفّرة ، والأيدي المقطوعة ، والرؤوس المرفوعة ، والأفواه اليابسة ، والأبدان المرضضة ، والصدور المحطّمة ، والأضلاع المنكسرة ، والأبدان السليبة العارية ، والأجساد الناعمة البالية .

السلام على الديار الخاليات ، وعلى العيال الضائعات ، وعلى الذراري الموتورات ، السلام على الغرباء الأسراء ، السلام على الشهداء النجباء ، السلام على الأتقياء الأزكياء ورحمة اللّه وبركاته .

ص: 189

وبعد ، فقد قال اللّه سبحانه :

« إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالاْءِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » .

* * *

الشهداء ومقام القرب الإلهي

اعلم أنّ القرب الإلهي لا يحصل إلاّ بسلوك طريق العبودية ، فكلّ من كان أرسخ قدما في مقام العبودية ، كان أعلى رتبة في مقام القرب من الربّ الجليل ، وكلّ من كان أعظم سعيا في ميادين الطاعة كان أرفع درجة عند اللّه عزّ وجلّ .وأعظم مراتب العبودية أن يضحي الإنسان بروحه في سبيل المحبوب ، لأنّ الروح أعزّ ما يملكه الإنسان ، وهي مقدّمة على كلّ شيء ، وكلّ ما يريده الإنسان إنّما يريده من أجلها .

ولهذا فضّل المجاهدين على غيرهم ، كما قال تعالى : « فَضَّلَ اللّهُ الُْمجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً » .

وكيف لا يكون كذلك وقد خاض إمتحانا عظيما ، وبلغ مرتبة عالية ، فاسترخص ماله ونفسه في سبيل اللّه ، فاشتراها اللّه منه بالجنة كما قال : « إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » .

روى الشيخ الصدوق رحمه الله في الخصال عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عن جدّه عن علي عليه السلام قال : إنّ للجنّة ثمانية أبواب ، باب يدخل منه النبيون والصديقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون(1) .

ص: 190


1- الخصال : 2/407 ح6 . وتتمة الحديث : « وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا ، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول : ربّ سلّم شيعتي ومحبّي وأنصاري ومن تولاّني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بطنان العرش : قد أجيبت دعوتك وشفّعت في شيعتك ، ويشفع كلّ رجل من شيعتي ومن تولاّني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألف من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن شهد أن لا إله إلاّ اللّه ، ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت » .

وروى الشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه و آله قال : لِلشَّهِيدِ سَبْعُ خِصَالٍ

مِنَ اللَّهِ :

أَوَّلُ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ مَغْفُورٌ لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ .

وَالثَّانِيَةُ : يَقَعُ رَأْسُهُ فِي حجْرِ زَوْجَتَيْهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ، وَتَمْسَحَانِ الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِهِ ، تَقُولاَنِ : مَرْحَباً بِكَ ، وَيَقُولُ هُوَ مِثْلَ ذَلِكَ لَهُمَا .

وَالثَّالِثَةُ : يُكْسَى مِنْ كِسْوَةِ الْجَنَّةِ .

وَالرَّابِعَةُ : يَبْتَدِرُهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ بِكُلِّ رِيحٍ طَيِّبَةٍ ، أَيُّهُمْ يَأْخُذُهُ مَعَهُ .وَالْخَامِسَةُ : أَنْ يُرَى مَنْزِلَتَهُ .

وَالسَّادِسَةُ : يُقَالُ لِرُوحِهِ اسْرَحْ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ .

وَالسَّابِعَةُ : أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِ اللَّهِ ، وَإِنَّهَا لَرَاحَةٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَشَهِيدٍ(1) .

وروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال : لِلْجَنَّةِ بَابٌ يُقَالُ لَهُ « بَابُ الُْمجَاهِدِينَ » يَمْضُونَ إِلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ مَفْتُوحٌ ، وَهُمْ مُتَقَلِّدُونَ بِسُيُوفِهِمْ ، وَالْجَمْعُ فِي الْمَوْقِفِ وَالْمَلاَئِكَةُ تُرَحِّبُ بِهِمْ(2) . . .

وفي نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال : . . فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى ، وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ(3) ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ ، وَشَمِلَهُ الْبَلاَءُ ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ

وَالْقَمَاءَةِ(4) .

ص: 191


1- تهذيب الأحكام : 6/121 باب 54 ح3 .
2- الكافي : 5/2 ح2 .
3- في المتن : « ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة ، ألا ومن أهل ذلك الشهداء من الأنصار والأقرباء » .
4- نهج البلاغة : 69 .

وروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال : فوق كلّ برّ برّ حتى يقتل الرجل في سبيل اللّه - عزّ وجلّ - ، فإذا قتل في سبيل اللّه فليس فوقه برّ(1) .

وفي حديث آخر : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ جَبْرَئِيلَ أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ قَرَّتْ بِهِ عَيْنِي

وَفَرِحَ بِهِ قَلْبِي ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مَنْ غَزَا غَزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أُمَّتِكَ فَمَا أَصَابَهُ قَطْرَةٌ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ صُدَاعٌ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ شَهَادَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ(2) .

واعلم ، أنّ في هذا المقام مقامات عديدة ومراتب متفاوتة وأفضلها خدمةالإمام العادل أو النبي المرسل ، وتقديم الروح بين يديه من دون أيّ طمع دنيوي .

وأفضل المجاهدين المجاهد الذي سبق في الجهاد قال تعالى : « لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ » .وقد أجمعت الأمّة أنّ السابقين للجهاد هم البدريون ، الذين قاتلوا في أول غزوة وقعت في الإسلام ، وكان الإسلام ضعيفا ، والمسلمون قليل ، وقد خرج فيها النبي صلى الله عليه و آله بنفسه .

فالأفضل هم الذين سبقوا الى الإسلام ، وأعرضوا عن الأموال والأنفس في نصر الإسلام وسيد أهل الأسلام .

ولكن الظاهر أنّ أهل بدر لم ينقطعوا عن الأهل والمال والدنيا قطعا تاما ، ولم ييأسوا منها يأسا كاملا ، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد أخبرهم بالنصر وبظفرهم بعدوهم .

ثم إنّهم كانوا من المهاجرين والأنصار ، أمّا المهاجرون فإنّهم وإن كانوا غرباء إلاّ أنّهم كانوا قد استوطنوا المدينة ، وأمّا الأنصار فإنّهم كانوا في أرضهم ووطنهم ، ولذا كان الجميع مطمئنون بما خلفهم من العيال والأهل والوطن .

ص: 192


1- الخصال : 1/9 ح31 .
2- الكافي : 5/8 ح8 .

شهداء كربلاء أفضل من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله

لو تأمّلت جيدا وجدت أنّ الذين استشهدوا بين يدي سيد الشهداء عليه السلام أولى وأفضل من عدّة وجوه :

وذلك أنّ هؤلاء أحيطوا بعدد لا يحصى في بلاد الغربة ، واختاروا البقاء مع الحسين عليه السلام بالرغم من الأمان المعروض عليهم ، والدنيا المعروضة عليهم من الولايات والرئاسة وامارة العسكر ، رفضوا كلّ ذلك وهم يعلمون أنّ الموت بانتظارهم البتة لما بلغهم من الأخبار المتظافرة عن النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام(1) .

وقد أخبرهم سيد الشهداء عليه السلام مرّة بعد مرّة أنّهم يقتلون جميعا ، وبالرغم من ذلك صمدوا أمام جبال الحديد من السيوف والرماح والنبال ، ولم يقصروا فيالدفاع عن إمامهم حتى شربوا كؤوس المنية ، وتنافسوا في المسارعة الى الجنان .

لمّا قتل البدريون صلّى عليهم النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام وخيار الصحابة ، ودفنوهم معززين مكرمين ، بينما بقي شهداء كربلاء مطرحين على الرمضاء لم يصلّي عليهم أحد .

كان المجاهدون في بدر - على أشهر الروايات - ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وكان عدد عسكر الأعداء ألفا أو تسعمائة ، وكان أصحاب سيد الشهداء - على أشهر الروايات - إثنين وسبعين ، وكان عدد عسكر الأعداء ثلاثين ألفا(2) .

خاف المسلمون في بدر خوفا شديدا ، فأرسل اللّه - تبارك وتعالى - جبرئيل في ألف ، وميكائيل في ألف ، وإسرافيل في ألف من الملائكة مسومين لينصروا النبي صلى الله عليه و آله ، وروي أنّهم كانوا ألفين ، وروي أنّهم خمسة آلاف من الملائكة على خيل بلق ، على رؤوسهم عمائم بيض .

ص: 193


1- انظر بحار الأنوار : 44/250 باب 31 .
2- اعلام الورى : 1/168 ، بحار الأنوار : 45/4 .

روي عن سهل بن عمرو قال : لقد رأيت يوم بدر رجالاً بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلّمين يقتلون ويأسرون .

وروي عن أبي رهم الغفاري عن ابن عم له قال : بينا أنا وابن عم لي على ماء بدر ، فلمّا رأينا قلّة من مع محمد صلى الله عليه و آله ، وكثرة قريش ، قلنا : إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه فانتهبناه .

فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد صلى الله عليه و آله ، ونحن نقول : هؤاء ربع قريش ، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا ، فرفعنا أبصارنا لها ، وسمعنا أصوات الرجال والسلاح ، وسمعنا قائلاً يقول لفرسه : أقدم حيزوم ، وسمعناهم يقولون : رويدا تتام أخراكم ، فنزلوا على ميمنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم جاءت أخرى مثل تلك ، فكانت مع النبي صلى الله عليه و آله ، فنظرنا إلى أصحاب محمد ، وإذا همعلى الضعف من قريش ، فمات ابن عمي ، وأمّا أنا فتماسكت ، وأخبرت النبي صلى الله عليه و آله بذلك وأسلمت .

وعن صهيب قال : ما أدري كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر قد رأيتها . وكانت علامة على ضربات الملائكة .

وروى أبو بردة(1) قال : جئت يوم بدر بثلاثة أرؤ ، فوضعتها بين يدي رسول اللّه ، فقلت : يا رسول اللّه ، أمّا إثنان فقتلتهما ، وأمّا الثالث فإنّي رأيت رجلاً طويلاً أبيض ضربه ، فتدهدى أمامه ، فأخذت رأسه ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ذاك فلان من الملائكة(2) .

وكان انهزام قريش حين زالت الشمس ، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله من بدر ، فمرّ بالأثيل فصلى العصر بالأثيل ، فلمّا صلّى ركعة تبسّم ، فلمّا سلّم سئل عن تبسّمه ،

ص: 194


1- في المتن : « أبو هريرة » .
2- بحار الأنوار : 19/343 باب 10 .

فقال : مرّ بي ميكائيل وعلى جناحه النقع ، فتبسّم إليّ وقال : إنّني كنت في طلب القوم ، وأتاني جبرئيل على فرس أنثى معقود الناصية قد عصم ثنيته الغبار ، فقال : يا محمد ، إنّ ربّي بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى ، فهل رضيت ؟ فقلت : نعم(1) .

وكذلك لم يكن عدد الكفار في معركة بدر أكثر من ألف ، وقد داخلهم الرعب والخوف وهم ثلاثمائة أو يزيدون ، حتى أنّ النبي صلى الله عليه و آله دعا ربّه لما رأى ما بهم ، وقال

اللّه تعالى : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » .

فيما كان أصحاب الحسين عليه السلام مع قلّة العدد ، وكثرة العدو لا يبالون بهم ، وكانوا يتمازحون فيما بينهم .خرج أصحاب بدر طمعا في الغنائم والإستيلاء على القافلة ، فلمّا أخبرهم جبرئيل أنّ القافلة فاتتهم ، وأنّ المشركين خرجوا لقتالهم قالوا : إنّنا لم نخرج للقتال ، فجعلوا يأتمرون ويفكرون كيف يتخلّصون من المواجهة والقتال .

فيما كان سيد الشهداء عليه السلام يقول لأصحابه : أنتم في حلّ مني ، إذهبوا واتركوني مع هؤلاء القوم ، فكانوا يقولون : قبّح اللّه العيش بعدك يا ابن رسول اللّه ، وما نصنع بالحياة بعدك ؟

كان أصحاب بدر موعودون من قبل اللّه ورسوله بالنصر ، فيما كان أصحاب الحسين عليه السلام يعلمون أنّهم مقتولون جميعا .

كان أصحاب بدر آمنون على عيالهم وأطفالهم ، فيما كان أصحاب سيد الشهداء يفكرون بأنفسهم من جانب ، ويفكرون بسبي عيالهم وأطفالهم من جهة أخرى .

لم يمنع الماء عن أصحاب بدر ، فيما قتل أصحاب سيد الشهداء ظمايا ذبلت شفاههم ، وجفت حلوقهم من العطش .

ص: 195


1- بحار الأنوار : 19/346 باب 10 .

نزلت الملائكة ونصرت أهل بدر ، فيما قاتل أصحاب الحسين عليه السلام وحدهم لم ينصرهم أحد حتى قتلوا ، أمّا الملائكة الذين نزلوا في كربلاء فإنّهم لم يفعلوا لأنّ قتل أصحاب الحسين عليه السلام كان مقدرا .

روي عن الإمام الرضا عليه السلام قال : . . ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره ، فوجدوه قد قتل ، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم ، فيكونون من أنصاره ، وشعارهم « يا لثارات الحسين »(1) .

لهفي على الجسد المغادر بالفلا

شلوا تقبّله حدود ضباك

لهفي على الخدّ التريب تخدّه

سفها بأطراف القنا سفهاك

لهفي لآلك يا رسول اللّه في

أيدي الطغاة نوائح وبواكيت

اللّه لا أنساك زينب والعدى

جبرا تجاذب عنك فضل رداك

حتى إذا همّوا لسلبك صحت باس-

-م أبيك واستصرخت ثمّ أخاك

لهفي لندبك باسم أخيك وهو

مجروح الجوارح بالسياق يراك

تستصرخيه أذى وعزّ عليه أن

تستصرخيه ولا يجيب نداك

أفضلية شهداء كربلاء

وبالجملة ، لو أنّك تأمّلت جيدا علمت أنّ شهداء كربلاء أعظم درجة وأعلى رتبة ، ولهم مقام جليل ، كيف لا ؟ وأمير المؤمنين عليه السلام يقول في حديث طويل : وخير الخلق وسيدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه المقتول في أرض كربلاء ، أما إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة(2) .

وروي عن الصادق عليه السلام قال : كان الحسين بن علي عليهماالسلام يضع قتلاه بعضهم على بعض ، ثم يقول : قتلانا قتلى النبيين وآل النبيين(3) .

ص: 196


1- بحار الأنوار : 44/285 باب 34 .
2- كمال الدين : 1/259 باب 24 .
3- الغيبة للنعماني : 211 باب 12 ، بحار الأنوار : 45/80 بقية الباب 37 .

وروى الشيخ الصدوق رحمه الله عن جبلة المكيّة قالت : سمعت ميثم التمار يقول : واللّه لتقتلن هذه الأمّة ابن نبيها في المحرم لعشر مضين منه ، وليتّخذن أعداء اللّه ذلك اليوم يوم بركة ، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم اللّه - تعالى ذكره - أعلم ذلك بعهد عهده إليّ مولاي أمير المؤنين صلى الله عليه و آله .

ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار ، والطير في جوّ السماء ، وتبكي عليه الشمس والقمر والنجوم ، والسماء والأرض ، ومؤنو الإنس والجن ، وجميع ملائكة السماوات ، ورضوان ومالك ، وحملة العرش ، وتمطر السماء دما ورمادا .

ثم قال : وجبت لعنة اللّه على قتلة الحسين عليه السلام كما وجبت على المشركين الذينيجعلون مع اللّه إلها آخر ، وكما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس .

قالت جبلة : فقلت له : يا ميثم ، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يقتل فيه الحسين بن علي عليهماالسلام يوم بركة ؟

فبكى ميثم رضى الله عنه ، ثم قال : سيزعمون بحديث يضعونه أنّه اليوم الذي تاب اللّه فيه على آدم عليه السلام ، وإنّما تاب اللّه على آدم

عليه السلام في ذي الحجة .

ويزعمون أنّه اليوم الذي قبل اللّه فيه توبة داود ، وإنّما قبل اللّه توبته في ذي الحجة .

ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج اللّه فيه يونس من بطن الحوت ، وإنّما أخرجه اللّه من بطن الحوت في ذي القعدة .

ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي ، وإنّما استوت على الجودي يوم الثامن عشر من ذي الحجة .

ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق اللّه فيه البحر لبني إسرائيل ، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأول .

ص: 197

ثم قال ميثم : يا جبلة اعلمي أنّ الحسين بن علي عليهماالسلام سيد الشهداء يوم القيامة ، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة . وفي رواية : وإنّ فضل أصحابه على سائر الشهداء كفضل السماء .

يا جبلة ، إذا نظرت إلى الشمس حمراء كأنّها دم عبيط فاعلمي أنّ سيدك الحسين عليه السلام قد قتل .

قالت جبلة : فخرجت ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنّه الملاحف المعصفرة ، فصحت حينئذ وبكيت وقلت : قد واللّه قتل سيدنا الحسين بن علي عليهماالسلام(1) .وروى صاحب البصائر قال : وروي أنّ رسول اللّه كان يوما مع جماعة من أصحابه مارّا في بعض الطريق ، وإذا هم بصبيان يلعبون في ذلك الطريق ، فجلس النبي صلى الله عليه و آله عند صبي منهم وجعل يقبّل ما بين عينيه ويلاطفه ، ثم أقعده على حجره ، وكان يكثر تقبيله ، فسئل عن علّة ذلك ، فقال صلى الله عليه و آله : إنّي رأيت هذا الصبي يوما يلعب مع الحسين ، ورأيته يرفع التراب من تحت قدميه ويمسح به وجهه وعينيه ، فأنا أحبّه لحبّه لولدي الحسين ، ولقد أخبرني جبرئيل أنّه يكون من أنصاره في وقعة كربلاء(2) .

وروي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين حواري محمد بن عبد اللّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، الذين لم ينقضوا العهد ، ومضوا عليه ؟ فيقوم سلمان ، والمقداد ، وأبو ذر .

ثم ينادي : أين حواري علي بن أبي طالب ، وصي محمد بن عبد اللّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ، ومحمد بن أبي بكر ، وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد ، وأويس القرني .

ص: 198


1- الأمالي للصدوق : 126 المجلس 27 ، بحار الأنوار : 45/202 باب 40 .
2- بحار الأنوار : 44/242 باب 30 ح36 .

ثم ينادي المنادي : أين حواري الحسن بن علي وابن فاطمة بنت محمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني ، وحذيفة بن أسيد الغفاري .

ثم ينادي : أين حواري الحسين بن علي عليهماالسلام ؟ فيقوم كلّ من استشهد معه ، ولم يتخلّف عنه . . .(1) .

أجل ، واللّه لم ينصره أحد ، ولكنّهم أحسنوا نصرته ، ولم يغثه أحد ، إلاّ أنّهم أعرضوا عن المال والعيال والولد حتى قتلوا في محبّته ظمايا قد ذبلت شفاههم من العطش وتفتت أكبادهم ، لم ينهلوا من عذب فراتها ، لأنّهم استعذبوا شهد الشهادة ،واستهوتهم كؤوس المنايا ، فقاتلوا حتى وقعوا مرمّلين في دمائهم .

فيا لهف لهفي على الكهول والشبّان ، ويا تأسفي على تلك الأجسام والأبدان ، هي جسوم طالما أتعبوها في عبادة الرحمن ، وتلاوة القرآن ، وملقاة على التراب من غير فراش ، ولا مهاد ، ولا وطاء ، ولا وساد ، تهبّ عليها الصبا والدبور ، وتعدو عليها العقبان والنسور .

ووا أسفاه ، على تلك الجثث الشريفة ، والشمائل اللطيفة .

ووا غصّتاه على ذبح أشبالهم ، وسبي عيالهم ، ونهب رحالهم ، وقسمة فيئهم وأموالهم .

فياليتني كنت عنهم فداء ، ولأنفسهم وقاء .

كانوا ليوث الوغى جمعا وبحر ندى

للوافدين وأقمار بأسحار

أقمار حسن عراها الخسف فاحتجبت

عن البرايا ولم تحجب عن البار

دارت عليهم رحى الهيجاء قاطبة

حتى فنوا تحت خطّار وبطّار

أفدي الجسوم الزواكي لا وطاء لها

تسفو عليها سوافي ريح أعصار

أضحت نساؤهم في السبي بارزة

تحكي بدورا عراها خسف أضرار

ص: 199


1- الاختصاص : 61 .

تدور حول الحسين الطهر حاسرة

كواله ولها نوح بتذفار

وزينب أخته في البين نادبة

يا قوم من لغريب الأهل والدار

قد كنتم قبل ذا تخشون صولته

ورأسه الآن أضحى فوق خطّار

ذبحتم سندي أحرقتم كبدي

كسرتم عضدي أخمدتم ناري

عزيز قوم رماه الذلّ بينكم

ربّ الصيانة بل مختار مختار

ليت المنية قبل اليوم بي نزلت

ومقلتي عميت عن هتك أستار

الإخبار بشهادة الإمام الحسين عليه السلام

لا أدري أيّ قلب لا يذوب في هذه البلية ؟ وأيّ عين لا تسيل دموعهافي هذه الرزية ؟

أما علمت أنّها مصيبة تزلزل لها الكون ، وبكت لها السماء والأرض دما ؟

بكى لها الحجر والشجر ، واحترق في نيران الآهات الوحش والطير ، وقعد فيها الملائكة المقرّبين للعزاء .

إنّه قتيل أقاموا عزاءه وبكوا له قبل أن يقتل . . فقد روي أنّ ملكا من ملائكة الصفيح الأعلى اشتاق لرؤة النبي صلى الله عليه و آله ، واستأذن ربّه بالنزول إلى الأرض لزيارته ، وكان ذلك الملك لم ينزل إلى الأرض أبدا منذ خلقت .

فلمّا أراد النزول أوحى اللّه تعالى إليه يقول : أيّها الملك ، أخبر محمدا أنّ رجلاً من أمّته اسمه « يزيد » يقتل فرخه الطاهر بن الطاهرة نظيرة البتول مريم بنت عمران .

فقال الملك : لقد نزلت إلى الأرض ، وأنا مسرور برؤة نبيك محمد صلى الله عليه و آله ، فكيف أخبره بهذا الخبر الفضيح ، وإنّني لأستحيي منه أن أفجعه بقتل ولده ، فليتني لم أنزل إلى الأرض .

قال : فنودي الملك من فوق رأسه أن افعل ما أمرت به ، فدخل الملك إلى رسول اللّه ، ونشر أجنحته بين يديه ، وقال : يا رسول اللّه ، اعلم ، أنّي استأذنت ربّي

ص: 200

في النزول إلى الأرض شوقا لرؤتك وزيارتك ، فليت ربّي كان حطّم أجنحتي ولم آتك بهذا الخبر ، ولكن لابد من إنفاذ أمر ربّي - عزّ وجلّ - .

اعلم يا محمد ، أنّ رجلاً من أمتك اسمه « يزيد » - زاده اللّه لعنا في الدنيا وعذابا في الآخرة - يقتل فرخك الطاهر بن الطاهرة ، ولم يتمتّع قاتله في الدنيا من بعده إلاّ قليلاً ، ويأخذه اللّه مقاصا له على سوء عمله ، ويكون مخلّدا في النار .

فبكى النبي صلى الله عليه و آله بكاء شديدا وقال : أيّها الملك ، هل تفلح أمّة بقتل ولدي وفرخ ابنتي ؟فقال : لا يا محمد ، بل يرميهم اللّه باختلاف قلوبهم وألسنتهم في دار الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم(1) .

وروي أيضا : أنّ ملك المطر استأذن أن يأتي رسول اللّه ، فقال النبي صلى الله عليه و آله لأم سلمة : املكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد ، فجاء الحسين ليدخل ، فمنعته ، فوثب حتى دخل ، فجعل يثب على منكبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويقعد عليهما .

فقال له الملك : أتحبّه ؟ قال : نعم ، قال : فإنّ أمّتك ستقتله ، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه ، فمدّ يده ، فإذا طينة حمراء ، فأخذتها أم سلمة فصيّرتها إلى

طرف خمارها(2) .

وروى شرحبيل بن أبي عون أنّه قال : لمّا ولد الحسين عليه السلام هبط ملك من ملائكة الفردوس الأعلى ، ونزل على البحر الأعظم ، ونادى في أقطار السموات والأرض : يا عباد اللّه إلبسوا ثوب الأحزان ، وأظهروا التفجّع والأشجان ، فإنّ فرخ محمد مذبوح مظلوم مقهور .

ص: 201


1- بحار الأنوار : 45/314 باب 46 .
2- الأمالي للطوسي : 329 المجلس 11 ح105 ، بحار الأنوار : 44/231 باب 30 ح14 .

ثم جاء ذلك الملك الى النبي صلى الله عليه و آله وقال : يا حبيب اللّه يقتل على هذه الأرض قوم من أهل بيتك ، تقتلهم فرقة باغية من أمّتك ظالمة معتدية فاسقة ، يقتلون فرخك الحسين ابن ابنتك الطاهرة ، يقتلوه بأرض كربلاء ، وهذه تربته .

ثم ناوله قبضة من أرض كربلاء ، وقال له : يا محمد ، احفظ هذه التربة عندك حتى تراها ، وقد تغيرت واحمرت ، وصارت كالدم ، فاعلم أنّ ولدك الحسين قد قتل .

ثم إنّ ذلك الملك حمل من تربة الحسين عليه السلام على بعض أجنحته ، وصعد الى السماء بها ، فلم يبق ملك في السماء إلاّ وشمّ تربة الحسين عليه السلام ، وتبرّك وهو يقول : قتل اللّه قاتلك يا حسين ، وأصلاه في نار الجحيم ، اللّهم لا تبارك في قاتله ، وأصله حرّ نار جهنّم ، وبئس المصير .

ثم دفع تلك التربة من تربة الحسين الى زوجته أم سلمة ، وأخبرها بقتل الحسين عليه السلام بطف كربلاء وقال لها : يا أم سلمة خذي هذه التربة اليك ، وتعاهديها بعد وفاتي ، فإذا رأيتيها وقد تغيّرت واحمرت وصارت دما عبيطا ، فاعلمي أنّ ولدي الحسين قد قتل بطف كربلاء .

فلمّا أتى للحسين سنة كاملة من مولده هبط الى رسول اللّه إثني عشر ألف ملك على صور شتى ، محمرة وجوههم ، باكية عيونهم ، ونشروا أجنحتهم بين يدي رسول اللّه ، وهم يقولون : يا محمد ، إنّه سينزل بولدك الحسين مثل ما نزل بهابيل من قابيل .

قال : ولم يبق ملك في السماء إلاّ ونزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعزّيه بولده الحسين عليه السلام ، ويخبره بما يعطى من الأجر لزائره والباكي عليه ، والنبي مع ذلك يبكي ويقول : اللّهم اخذل من خذله ، واقتل من قتله ، ولا تمتعه بما أمله في الدنيا ، وأصله حرّ نارك في الآخرة(1) .

ص: 202


1- المنتخب : 62/1 المجلس 4 .

أجل ، إنّها مصيبة أعلنت منذ ولادة صاحبها على المقرّبين ، وأخبروا بشهادته يوم بشّروا بولادته ، وأقيم عزاؤه يوم ولادته ، ولبسوا لها أثواب الحزن قبل وقوعها .

اللّه أكبر إنّها لمصيبة

ثلّت عروش الدين بثلثل

اللّه أكبر إنّها لرزيّة

ألقت على الإسلام صفحة كلكل

عجبا من السبع الطرائق كيف لم

تنشق والأرضين لم تتزلزل

أسفا عليه والكواكب كيف لم

تنقضّ والأفلاك لم تتعطّل

قتل ابن فاطمة وتلك حريمه

بيد الأعادي لا كفيل ولا ولي

أيبيت بالطف الحسين مجدّلا

يا للرجال على الثرى والجندل

وتبيت من أمن أمية نوّما

لم تخش من خوف ولم تتوجّل

هل تقبلون بأنّ خير نسائكم

في الأسر يستعطفن من لم يقبل

ويقاد في الأصفاد من أمّلتم

بعد ابن فاطمة لكلّ مؤمّل

يسرى به ونساؤه من حوله

نحو الشآم على ظهور البزّل

مبارزات أنصار الإمام الحسين عليه السلام وشهادتهم

اشارة

اعلم أنّ العدد المعدود الذي كان في خدمة سيد الشهداء عليه السلام كانوا من المؤمنين الخواص الذين أعرضوا بالمرّة عن الدينا ، وضحوا بأرواحهم شوقا وتلهّفا الى تحقيق رضا اللّه ورضا الإمام . فاستمع الى مجمل من أخبار شهادتهم ، وما أبلوه من بلاء حسن في الدفاع عن إمامهم .

فقد روى العلماء الأعلام من أمثال الشيخ المفيد والشيخ الصدوق والسيد ابن طاووس وغيرهم هذه المحنة كالتالي :

ص: 203

شهادة الحر

وهو أول من استشهد من أنصار الحسين عليه السلام بعد الحملة الأولى ، حيث سارع الكثير من أنصار الإمام عليه السلام الى دار السرور في الحملة الأولى ، فرفع الحسين عليه السلام

صوته إتماما للحجة ونادى : أما من مغيث يغيثنا لوجه اللّه ؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟

فإذا الحر بن يزيد قد أقبل إلى عمر بن سعد فقال : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟قال : إي واللّه قتالاً أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي .

فمضى الحر ووقف موقفا من أصحابه ، وأخذه مثل الأفكل ، فقال له المهاجر بن أوس : واللّه إنّ أمرك لمريب ! ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ! فما هذا الذي أرى منك ؟

فقال : واللّه إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، فواللّه لا أختار على الجنّه ولو

قطعت وأحرقت .

ثم ضرب فرسه قاصدا إلى الحسين عليه السلام ويده على رأسه وهو يقول : اللّهم إليك أنبت فتب عليّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك .

وقال للحسين عليه السلام : جعلت فداك ، أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع وجعجع بك ، وما ظننت أنّ القوم يبلغون منك ما أرى ، وأنا تائب إلى اللّه تعالى ، فهل ترى لي من توبة ؟

فقال الحسين عليه السلام : نعم يتوب اللّه عليك ، فانزل ، فقال : أنا لك فارسا خير منّي لك راجلاً ، وإلى النزول يصير آخر أمري(1) .

وروى السيد ابن نما في مثير الأحزان : أنّه قال للحسين عليه السلام : لمّا وجهني عبيد اللّه إليك خرجت من القصر فنوديت من خلفي : أبشر يا حر بخير !

ص: 204


1- اللهوف : 102 .

فالتفت فلم أر أحدا ! فقلت : واللّه ما هذه بشارة ، وأنا أسير إلى الحسين عليه السلام ، وما أحدّث نفسي باتباعك ، فقال عليه السلام : لقد أصبت أجرا وخيرا(1) .

وفي بعض كتب المقاتل : قال الحر للحسين عليه السلام : سيدي رأيت الليلة أبي في المنام ، فقال لي : أين كنت في هذه الأيام ؟ قلت : خرجت لأخذ الطريق على الحسين عليه السلام ، فصاح عليّ وقال : وا ويلاه ، ما أنت وابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ إن كنتتريد أن تعذّب وتخلّد في النار فاخرج الى حربه ، وإن أحببت أن يكون جدّه شفيعك في القيامة ، وتحشر معه في الجنّة ، فانصره وجاهد معه(2) .

قال الشيخ الصدوق رحمه الله : فكان أول من تقدّم إلى براز القوم ، فاستأذن الإمام الحسين عليه السلام فأذن له ، فبرز وجعل ينشد ويقول :

إنّي أنا الحر ومأوى الضيف

أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلّ بأرض الخيف

أضربكم ولا أرى من حيف(3)

وروي أنّ الحر لما لحق بالحسين عليه السلام قال رجل من تميم يقال له « يزيد بن سفيان » : أما واللّه لو لحقته لأتبعته السنان ، فبينما هو يقاتل ، وإنّ فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبيه ، وإنّ الدماء لتسيل ، إذ قال الحصين : يا يزيد ، هذا الحر الذي كنت تتمنّاه ، قال : نعم ، فخرج إليه ، فما لبث الحر أن قتله ، وقتل أربعين فارسا وراجلاً .

وروي أنّه التفت في تلك الحالة الى الحسين عليه السلام فقال : هل رضيت عنّي يا أبا عبد اللّه ؟ فقال الحسين عليه السلام : نعم ، أنت حرّ كما سمّتك أمّك .

فلم يزل يقاتل حتى عرقب فرسه ، وبقي راجلاً ، فقال :

إن تعقروا بي فأنا ابن الحر

أشجع من ذي لبد هزبر

ص: 205


1- مثير الأحزان : 60 .
2- روضة الشهداء : 278 .
3- بحار الأنوار : 45/14 .

ثم لم يزل يقاتل ، ويضربهم بسيفه ، وتكاثروا عليه ، فاشترك في قتله أيوب بن مسرح ، ورجل آخر من فرسان أهل الكوفة(1) .

وروي أنّهم طعنوه برمح في صدره ، فصاح : أدركني يا ابن رسول اللّه .

وقال السيد ابن طاووس : فأتاه الحسين عليه السلام ودمه يشخب ، فقال : بخ بخ ياحر ، أنت حر كما سميت في الدنيا والآخرة ، ثم أنشأ الحسين عليه السلام يقول :

لنعم الحر حرّ بني رياح

صبور عند مختلف الرماح

ونعم الحرّ إذ نادى حسينا

فجاد بنفسه عند الصباح(2)

فجعل الحسين عليه السلام يمسح وجهه ويقول : أنت الحر كما سمّتك أمّك ، وأنت الحر في الدنيا ، وأنت الحر في الآخرة(3) .

وفي بعض كتب المقاتل : أنّ أخاه مصعب تاب أيضا ، وجاء عند الحسين عليه السلام

واستأذنه في القتال فأذن له ، فبرز يقاتل حتى قتل(4) .

وكذا إلتحق بالحسين عليه السلام ولده وغلامه(5) ، ولم يثبت عندي صحّة الخبر ! !

شهادة برير بن خضير الهمداني

ثم برز برير بن خضير الهمداني بعد الحر ، وكان من عباد اللّه الصالحين ، فبرز وهو يقول :

أنا برير وأبي خضير

ليث يروع الأسد عند الزئر

يعرف فينا الخير أهل الخير

أضربكم ولا أرى من ضير

كذاك فعل الخير من برير

ص: 206


1- الإرشاد : 2/103 .
2- بحار الأنوار : 44/319 باب 37 .
3- أمالي الصدوق : 223 المجلس 30 .
4- انظر رياض الشهداء : 2/122 .
5- انظر الدمعة الساكبة : 4/293 .

وجعل يحمل على القوم وهو يقول : اقتربوا منّي يا قتلة المؤنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين وذريته الباقين ، وكان برير أقرأ أهل زمانه .

فلم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثين رجلاً ، فبرز إليه رجل يقال له « يزيد بن معقل » ، فقال لبرير : أشهد أنّك من المضلّين ، فقال له برير : هلم فلندع اللّه أن يلعن الكاذب منّا ، وأن يقتل المحقّ منّا المبطل ، فتصاولا ، فضرب يزيد لبرير ضربة خفيفةلم يعمل شيئا ، وضربه برير ضربة قدّت المغفر ، ووصلت إلى دماغه ، فسقط قتيلاً .

فحمل رجل من أصحاب ابن زياد ، فقتل بريرا رحمه اللّه ، وكان يقال لقاتله « بحير بن أوس الضبي » ، فجال في ميدان الحرب ، وجعل يقول :

سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة

غداة حسين والرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت ولم يحل

غداة الوغى والروع ما أنا صانع

معي مزني لم تخنه كعوبه

وأبيض مشحوذ الغرارين قاطع

فجردته في عصبة ليس دينهم

كديني وإنّي بعد ذاك لقانع

وقد صبروا للطعن والضرب حسرا

وقد جالدوا لو أنّ ذلك نافع

فأبلغ عبيد اللّه إذ ما لقيته

بأنّي مطيع للخليفة سامع

قتلت بريرا ثم جلت لهمة

غداة الوغى لما دعا من يقارع

ثم ذكر له بعد ذلك أنّ بريرا كان من عباد اللّه الصالحين ، وجاءه ابن عم له وقال : ويحك يا بحير ، قتلت برير بن خضير ، فبأي وجه تلقى ربّك غدا ؟

فندم الشقي وأنشأ يقول :

فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النعماء عند ابن جائر

لقد كان ذا عارا عليّ وسبّة

يعيّر بها الأبناء عند المعاشر

فيا ليت أنّي كنت في الرحم حيضة

ويوم حسين كنت ضمن المقابر

فيا سوأتا ماذا أقول لخالقي

وما حجّتي يوم الحساب القماطر(1)

ص: 207


1- بحار الأنوار : 45/15 بقية الباب 37 .

شهادة وهب بن عبد اللّه الكلبي

ثم برز من بعده وهب بن عبد اللّه بن حباب الكلبي ، وقد كانت معه أمّه يومئذ ، وكان وهب شابا جميلاً وسيما ، وجهه كالبدر ، وكان جديد عهد بالزواج ، أي أنّه كان قد تزوج قبل سبعة عشر يوما(1) ، وكان نصرانيا أسلم على يدي الحسين عليه السلامهو وأمّه فاتبعوه(2) عليه السلام .فلمّا قتل جماعة من أصحاب الحسين عليه السلام ، جاءته أمّه فقالت : قم - يا بني - فانصر ابن بنت رسول اللّه ، فقال : أفعل يا أمّاه ولا أقصر(3) . ولكن لو أذنت لي أن أذهب الى هذه الحرّة ، فإنّها ابتلت بطريقتنا ، وهي جديدة عهد بالعرس ، ولم تذق طعم الحياة معنا ، فأسلّيها وأطيّب خاطرها .

فقالت له أمّه : اذهب ، ولكن احذر أن تصدّك عن قصدك ، وتحرمك من حظّك ، فتحرم من الخلود في النعيم المقيم ، فقال لها : اطمئني يا أمّاه ليس في قلبي شى ء سوى الحبّ والوفاء لابن خاتم الأنبياء .

فأقبل الى زوجته وتحدّث لها عن غربة ابن فاطمة عليهاالسلام ، وقال لها : أترضين أن أفديه بنفسي ليكون جدّه محمد صلى الله عليه و آله شفيعنا غدا يوم القيامة ؟ ونرضي أمّه فاطمة وأباه عليا عليهماالسلام ، فتحسرت زوجته وقالت : ليت لي ألف نفس أفدي بها الحسين عليه السلام ، ولو كان القتال مباحا للنساء لقاتلت معك وفديته بنفسي ، ولكن قم معي لنقف بين يديه فإنّي أريد أن تشرط لي أمامه أن لا تدخل الجنّة غدا يوم القيامة حتى تدخلني معك .

فقاما الى الإمام عليه السلام وتعاهدا عنده ، ثم التفت الى الامام عليه السلام وقالت : يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله اجعلني في حرمك ، وسلّمني الى أهل بيتك لأنال شرف خدمتهم ،

ص: 208


1- ناسخ التواريخ : 1/320 ترجمة وتحقيق سيد علي جمال أشرف .
2- بحار الأنوار : 44/320 باب 37 .
3- بحار الأنوار : 45/16 الباب 37 .

وأكون أمة لهم ، فيصيبني ما يصيبهم ، وأكون في حمايتهم وعصمتهم ، فلا يتعرّض لي الأجانب ، وأكون في صيانة عفافهم مصونة الجانب . فبكى الإمام الحسين عليه السلام وقال لها : ادخلي في حرمي ،فدخلت مع حرمه .

واستاذن وهب فاذن له ، فبرز على فرسه وهو يرتجز :

إن تنكروني فأنا ابن الكلب

سوف تروني وترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب

أدرك ثأري بعد ثأر صحبيوأدفع الكرب أمام الكرب

ليس جهادي في الوغى باللعب

فحمل على القوم وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم جاء الى زوجته وأمّه فقال لها : أرضيت يا أماه ؟ فقالت : لا حتى تقتل بين يدي الحسين عليه السلام .

فقالت إمرأته : باللّه لا تفجعني في نفسك ، فقالت أمّه : يا بني لا تقبل قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه ، فيكون غدا في القيامة شفيعا لك بين يدي اللّه .

فرجع وهب الى الميدان يقاتل وهو يرتجز ويقول :

إنّي زعيم لك أمّ وهب

بالطعن فيهم تارة والضرب

ضرب غلام مؤن بالربّ

حتى يذيق القوم مرّ الحرب

إنّي امرؤذو مرّة وعصب

ولست بالخوار عند النكب

حسبي إلهي من عليم حسبي

فلم يزل يقاتل يمينا وشمالاً حتى قتل تسعة عشر فارسا واثني عشر راجلاً ، ثم قطع رجل يمينه فأخذ السيف بشماله ، فقطع رجل من كندة شماله ، فأخذت امرأته عمودا ، وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول اللّه ، فقال لها : كنت تنهيني عن نصرة الحسين عليه السلام والآن جئت تحرضينني ؟ قالت : لا تلمني يا وهب ، فإنّي عفت الحياة وتركت الدنيا منذ سمعت نداء الحسين عليه السلام وهو ينادي : وا غربتاه ، وا قلّة ناصراه ، وا وحدتاه ، أما من ذاب يذبّ عنّا ؟ أمّا من مجير يجيرنا ؟

ص: 209

قال وهب : ارجعي فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء ، قالت : لن أعود أو أموت معك ، فقال الحسين عليه السلام : جزيتم من أهل بيتي خيرا ، ارجعي إلى النساء رحمك اللّه ، فانصرفت .

وجعل يقاتل حتى سقط على الأرض مثقلا بالجراح ، فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه ، فبصر بها شمر ، فأمر غلاما له فضربها بعمود كان معه ، فشدخهاوقتلها ، وهي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين عليه السلام(1) .

قال صاحب البحار : ورأيت حديثا أن وهب قتل في المبارزة أربعة وعشرين راجلاً وإثني عشر فارسا ، ثم أخذ أسيرا ، فأتي به عمر بن سعد ، فقال : ما أشدّ صولتك ، ثم أمر فضربت عنقه ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين عليه السلام ، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته ، ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد ، فأصابت به رجلاً فقتلته ، ثم شدّت بعمود الفسطاط فقتلت رجلين ، فقال لها الحسين عليه السلام : ارجعي يا أم وهب أنت وابنك مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء ، فرجعت وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي ، فقال لها الحسين عليه السلام : لا يقطع اللّه رجاك يا أم وهب(2) .

شهادة عمرو بن خالد الأزدي وابنه

ثم برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي وهو يقول :

إليك يا نفس إلى الرحمن

فأبشري بالروح والريحان

اليوم تجزين على الإحسان

قد كان منك غابر الزمان

ما خطّ في اللوح لدى الديان

لا تجزعي فكلّ حيّ فان

والصبر أحظى لك بالأماني

يا معشر الأزد بني قحطان

ثم قاتل حتى رزق الشهادة .

ص: 210


1- بحار الأنوار : 45/16 .
2- بحار الأنوار : 45/17 الباب 37 .

ثم تقدّم ابنه خالد بن عمرو وهو يرتجز ويقول :

صبرا على الموت بني قحطان

كي ما تكونوا في رضى الرحمن

ذي المجد والعزّة والبرهان

وذي العلى والطول والإحسان

يا أبتا قد صرت في الجنان

في قصر ربّ حسن البنيان

ثم تقدّم فلم يزل يقاتل حتى قتل رزق الشهادة .

شهادة سعد التميمي

ثم برز من بعده سعد بن حنظلة التميمي وهو يقول :

صبرا على الأسياف والأسنه

صبرا عليها لدخول الجنه

وحور عين ناعمات هنه

لمن يريد الفوز لا بالظنه

يا نفس للراحة فاجهدنه

وفي طلاب الخير فارغبنه

ثم حمل وقاتل قتالاً شديدا حتى خلعت عليه خلعة الشهادة ، وشرب كأس المنية سائغا .

شهادة عمران المذحجي

وخرج من بعده عمير بن عبد اللّه المذحجي وهو يرتجز ويقول :

قد علمت سعد وحي مذحج

أنّي لدى الهيجاء ليث محرج

أعلو بسيفي هامة المدجج

وأترك القرن لدى التعرج

فريسة الضبع الأزل الأعرج

ولم يزل يقاتل حتى قتله مسلم الضبابي وعبد اللّه البجلي ، فالتحق بركب السعداء في دار القرار(1) .

ص: 211


1- بحار الأنوار : 45/18 .

شهادة مسلم بن عوسجة الأسدي

ثم برز من بعده مسلم بن عوسجة(1) ، وكان من زعماء عسكر سيد الشهداء عليه السلام ، وكان شجاعا شريفا زعيما من مشاهير الدهر ، وأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، جاهد بين يديه ، وأبدى بطولة ورجولة في الدفاع عنه عليه السلام .

قيل : أنّ أمير المؤمنين كان يدعوه « أخي » ، وقد قرأ القرآن على الإمام عدّة مرات .قال شبث بن ربعي : لربّ موقف له في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين(2) .

برز يقاتل وهو يرتجز ويقول :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

من فرع قوم من ذرى بني أسد

فمن بغانا حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

ثم تقدّم يطلب مبارزا ، فجعل القوم يتقدّمون لحربه ، وهو يلحقهم بالجحيم واحدا بعد واحد ، حتى قتل منهم خمسين ، فتكاثروا عليه ، وهو يقاتل ، فقتل منهم ستة قبل أن يسقط الى الأرض من كثرة الجراحات ، وبه رمق ، فنادى : أدركني يا ابن رسول اللّه ، فمشى اليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب ، فرآه مرمّلاً بدمائه ، فقال له الحسين عليه السلام : رحمك اللّه يا مسلم ، فزت بالشهادة وأدّيت ما كان عليك ، ثم تلا « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً » .

وصية مسلم بن عوسجة

ثم دنا منه حبيب ، فقال : يعزّ عليّ مصرعك ، يا مسلم أبشر بالجنة .

فقال له قولاً ضعيفا : بشّرك اللّه بخير ، فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بكلّ ما أهمك .

ص: 212


1- بحار الأنوار : 45/19 الباب 37 .
2- بحار الأنوار : 45/19 الباب 37 .

فقال مسلم: فإنّي أوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين عليه السلام - ، فقاتل دونه حتى تموت.

فقال حبيب : لأنعمنّك عينا ، ثم فاضت روحه الطاهرة .

قال محمد بن أبي طالب : وصاحت جارية له : يا سيداه ، يا مسلماه ، يا ابن عوسجتاه ، فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة .

فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما إنّكم تقتلونأنفسكم بأيديكم ، وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة ، أما والذي أسلمت له لربّ موقف له في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين(1) .

شهادة نافع بن هلال واشتداد حملات أنصار الحسين عليه السلام

قال الشيخ المفيد رحمه الله : وبرز نافع بن هلال وهو يقول :

أنا ابن هلال البجلي

أنا على دين علي

فبرز إليه مزاحم بن حريث ، فقال له : أنا على دين عثمان ، فقال له نافع : أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله .

ثم حمل عمرو بن الحجاج في أصحابه على الحسين عليه السلام من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي ، وانصرف عمرو وأصحابه ، وانقطعت الغبرة ، فوجدوا مسلما صريعا(2) .

ثم تراجع القوم إلى الحسين عليه السلام ، فحمل شمر بن ذي الجوشن - لعنه اللّه - على أهل الميسرة ، فثبتوا له فطاعنوه ، وحمل على الحسين وأصحابه من كلّ جانب ، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالاً شديدا ، فأخذت خيلهم تحمل ، وإنّما هي اثنان وثلاثون فارسا ، فلا تحمل على جانب من خيل الكوفة إلاّ كشفته .

ص: 213


1- بحار الأنوار : 45/19 الباب 37 .
2- الإرشاد : 2/103 .

وقاتل أصحاب الحسين بن علي عليهماالسلام القوم أشدّ قتال حتى انتصف النهار ، فلمّا رأى الحصين بن نمير ، وكان على الرماة صبر أصحاب الحسين عليه السلام تقدّم إلى أصحابه ، وكانوا خمس مائة نابل أن يرشقوا أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل ، فرشقوهم ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وجرحوا الرجال وأرجلوهم ، واشتدّالقتال بينهم ساعة ، وجاءهم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه ، فحمل عليهم زهيربن القين في عشرة رجال من أصحاب الحسين ، فكشفهم عن البيوت ، وعطف عليهم شمر بن ذي الجوشن(1) .

واشتدّ القتال ولم يقدروا أن يأتوهم إلاّ من جانب واحد لاجتماع أبنيتهم ، وتقارب بعضها من بعض ، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين عليه السلاميتخلّلون فيشدّون على الرجل يعرض وينهب ، فيرمونه عن قريب فيصرعونه فيقتلونه .

فقال ابن سعد : احرقوها بالنار ، فأضرموا فيها ، فقال الحسين عليه السلام دعوهم يحرقوها ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم ، فكان كما قال(2) عليه السلام .

أمحمد المختار إنّ أمية

هدموا بيوتك عامدين وأحرقوا

وبناتك الخفرات أضحت بعد ذا

بالسلب والضرب العنيف تعذّب

خلّفتها وقلوبها كبيوتها

حنقا يشبّ به الحريق ويثقب

شهادة عمرو بن قرظة الأنصاري

فخرج عمرو بن قرظة الأنصاري ، فاستأذن الحسين عليه السلام فأذن له ، فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتى قتل جمعا كثيرا

ص: 214


1- الإرشاد : 2/104 .
2- بحار الأنوار : 45/21 .

من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد ، وكان لا يأتي إلى الحسين عليه السلام سهم إلاّ اتقاه بيده ، ولا سيف إلاّ تلقاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين عليه السلام سوء حتى أثخن بالجراح .

فالتفت إلى الحسين عليه السلام وقال : يا ابن رسول اللّه ، أوفي ؟ قال : نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فأقرأ رسول اللّه منّي السلام ، وأعلمه أنّي في الأثر ، فقاتل حتى قتلرضوان اللّه عليه(1) .

صلاة الظهر يوم عاشوراء

فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين عليه السلام : يا أبا عبد اللّه ، نفسي لنفسك الفداء ، هؤاء اقتربوا منك ، ولا واللّه لا تقتل حتى أ قتل دونك ، وأحبّ أن ألقى اللّه ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة ، فرفع الحسين رأسه إلى السماء ، وقال : ذكرت

الصلاة جعلك اللّه من المصلين ، نعم هذا أول وقتها . ثم قال : سلوهم أن يكفّوا عنّا

حتى نصلّي .

فقال الحصين بن نمير : إنّها لا تقبل ، فقال حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة زعمت من ابن رسول اللّه وتقبل منك يا ختار ، فحمل عليه حصين بن نمير وحمل عليه حبيب ، فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ به الفرس ، ووقع عنه الحصين ، فاحتوشته أصحابه فاستنقذوه .

فقال الحسين عليه السلام لزهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه تقدّما أمامي حتى أصلّي الظهر ، فتقدّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلّى بهم صلاة الخوف .

وروي أنّ سعيد بن عبد اللّه الحنفي تقدّم أمام الحسين عليه السلام ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل ، كلّما أخذ الحسين عليه السلام يمينا وشمالاً قام بين يديه ، فما زال يرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللّهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللّهم أبلغ نبيك السلام عنّي ،

ص: 215


1- بحار الأنوار : 45/22 الباب 37 .

وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك نصرة ذرية نبيك ، ثم سلّم روحه الى بارئها ، فوجد به ثلاثة عشر سهما ، سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح .

وروي أنّه صلّى الحسين عليه السلام وأصحابه فرادى بالإيماء(1) .

شهادة جون غلام أبي ذر

ثم تقدّم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبدا أسود ، فقال له الحسين عليه السلام : أنت في إذن منّي ، فإنّما تبعتنا طلبا للعافية فلا تبتل بطريقنا .

فقال : يا ابن رسول اللّه ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم ؟ ! واللّه إنّ ريحي لمنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفس عليّ بالجنة ، فتطيب

ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيّض وجهي ، لا واللّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم .

ثم برز للقتال وهو ينشد ويقول :

كيف يرى الكفار ضرب الأسود

بالسيف ضربا عن بني محمد

أذبّ عنهم باللسان واليد

أرجو به الجنّة يوم المورد

ثم قاتل عساكر الظلم والكفر حتى قتل ، فوقف عليه الحسين عليه السلام وقال : اللّهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد عليهم السلام .

وروي عن الباقر عليه السلام عن علي بن الحسين عليهماالسلام : أنّ الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى ، فوجدوا جونا بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك رضوان اللّه عليه(2) .

ص: 216


1- بحار الأنوار : 45/21 الباب 37 .
2- بحار الأنوار : 45/22 الباب 37 .

شهادة عمرو بن خالد الصيداوي

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي فقال للحسين عليه السلام : يا أبا عبد اللّه قد هممت أن ألحق بأصحابي ، وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيدا من أهلك قتيلاً ، فقال له الحسين عليه السلام : تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة ، فتقدّم فقاتل بينيدي سيد الأبرار وابن حيدر الكرار حتى قتل والتحق بركب السعداء(1) .

شهادة حنظلة الشبامي

شهادة حنظلة الشبامي(2) :

قال السيد الجليل ابن طاووس رحمه الله : وجاء حنظلة بن سعد الشبامي ، فوقف بين يدي الحسين عليه السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره ، وأخذ ينادي : « يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأْحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ » ، يا قوم لا تقتلوا حسينا فَيُسْحِتَكُمْ اللّه بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى .

فقال له الحسين عليه السلام : يا ابن سعد إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ ، ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين .

قال : صدقت جعلت فداك أفلا نروح إلى ربّنا فنلحق بإخواننا ؟ فقال له : رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها ، وإلى ملك لا يبلى .

فقال : السلام عليك يا ابن رسول اللّه ، صلّى اللّه عليك وعلى أهل بيتك ، وجمع بيننا وبينك في جنته ، قال : آمين آمين .

ثم استقدم فقاتل قتالاً شديدا ، فحملوا عليه فقتلوه رضوان اللّه عليه(3) .

ص: 217


1- بحار الأنوار : 45/24 .
2- في المتن : « الشامي » في المواضع كلّها .
3- بحار الأنوار : 45/24 .

شهادة سويد بن عمرو

وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع ، وكان

شريفا كثير الصلاة ، فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصبر على الخطبالنازل ، حتى سقط بين القتلى وقد أثخن بالجراح ، فلم يزل كذلك ، وليس به حراكحتى سمعهم يقولون : قتل الحسين عليه السلام ، فتحامل وأخرج سكينا من خفّه ، وجعل يقاتل حتى قتل(1) .

شهادة الحجاج بن مسروق مؤذن الحسين عليه السلام

ثم خرج الحجاج بن مسروق ، وهو مؤن الحسين عليه السلام ، ويقول :

أقدم حسين هاديا مهديا

اليوم تلقى جدّك النبيا

ثم أباك ذا الندا عليا

ذاك الذي نعرفه وصيا

والحسن الخير الرضي الوليا

وذا الجناحين الفتى الكميا

وأسد اللّه الشهيد الحيا

ثم حمل فقاتل حتى قتل ونال شرف الشهادة(2) .

شهادة زهير بن القين

ثم خرج من بعده زهير بن القين ، وكان من عظماء عسكر سيد الشهداء عليه السلام ، وكان قد التحق بالحسين عليه السلام في الطريق وعزم على الموت بين يديه ، فطلّق إمرأته ، وأرجعها الى قومها .

فإستأذن الإمام الحسين عليه السلام ثم برز وهو يرتجز ويقول :

أنا زهير وأنا ابن القين

أذودكم بالسيف عن حسين

إنّ حسينا أحد السبطين

من عترة البرّ التقي الزين

ص: 218


1- بحار الأنوار : 45/24 .
2- بحار الأنوار : 45/25 .

ذاك رسول اللّه غير المين

أضربكم ولا أرى من شين

يا ليت نفسي قسمت قسمين

فقاتل حتى قتل مائة وعشرين رجلاً ، فشدّ عليه كثير بن عبد اللّه الشعبي ، ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه .

فقال الحسين عليه السلام حين صرع زهير : لا يبعدك اللّه يا زهير ، ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير(1) .

شهادة حبيب بن مظاهر

ثم برز حبيب بن مظاهر الأسدي ، وكان شيخا كبيرا ، صحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعليا عليه السلام(2) ، وكان فاضلاً يختم القرآن بليلة ، فلمّا تقدّم يستأذن الحسين عليه السلام ، قال له الحسين عليه السلام : إنّك ذكرياي من جدّي وأبي ، وقد أكلت السنين عمرك ، وأدركتك الشيخوخة ، فكيف آذن لك بالبراز ؟

فقال حبيب : أريد أن يبيضّ وجهي عند جدّك وأبيك وأخيك ، حتى أكون من أنصاركم جميعا .

فلمّا بالغ حبيب في طلب الإذن أذن له الإمام عليه السلام فبرز وهو يقول :

أنا حبيب وأبي مظهر

فارس هيجاء وحرب تسعر

وأنتم عند العديد أكثر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

وأنتم عند الوفاء أغدر

ونحن أوفى منكم وأصبر

حقّا وأنمى منكم وأعذر

وقاتل قتالاً شديدا ، وأرسل عليهم صواعق سيفه البتار ، حتى قتل على كبر سنّه إثنين وستين وأرسلهم الى دركات سجين .

ص: 219


1- بحار الأنوار : 45/26 .
2- روضة الشهداء : 304 .

ثم حمل عليه رجل من بني تميم ، فطعنه فذهب ليقوم ، فضربه الحصين بن نمير - لعنه اللّه - على رأسه بالسيف ، فوقع ونزل التميمي فاجتز رأسه .

وقال محمد بن أبي طالب : فقتله الحصين بن نمير وعلق رأسه في عنق فرسه .

وقال صاحب المناقب : بل قتله رجل يقال له « بديل بن صريم » وأخذ رأسهفعلقه في عنق فرسه ، فلمّا دخل « مكة(1) » رآه ابن حبيب ، وهو غلام غير مراهق ، فوثب إليه فقتله ، وأخذ رأسه(2) .

قال صاحب المناقب : فهدّ مقتله الحسين عليه السلام ، فقال : عند اللّه أحتسب نفسي وحماة أصحابي(3) .

شهادة هلال بن نافع البجلي

ثم برز هلال بن نافع البجلي وهو يقول :

أرمي بها معلمة أفواقها

والنفس لا ينفعها إشفاقها

مسمومة تجري بها أخفاقها

ليملأن أرضها رشاقها

فلم يزل يرميهم حتى فنيت سهامه ، ثم ضرب يده إلى سيفه فاستلّه ، وجعل يقول :

أنا الغلام اليمني البجلي

ديني على دين حسين وعلي

إن أقتل اليوم فهذا أملي

فذاك رأيي وألاقي عملي

فقتل ثلاثة عشر رجلاً ، فكسروا عضديه وأخذ أسيرا ، فقام إليه شمر فضرب عنقه وألحقه بركب الشهداء السعداء(4) .

ص: 220


1- في مقتل أبي مخنف : « الكوفة » ، ولعل قوله « مكة » تصحيف ، واللّه العالم .
2- بحار الأنوار : 45/26 الباب 37 .
3- بحار الأنوار : 45/27 .
4- بحار الأنوار : 45/27 .

شهادة شاب قتل أبوه في المعركة

قال محمد بن أبي طالب الموسوي : ثم خرج شاب قتل أبوه في المعركة ، وكانت أمّه معه ، فقالت له أمّه : اخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن رسول اللّه ، فخرج ، فقالالحسين عليه السلام : هذا شاب قتل أبوه ، ولعل أمّه تكره خروجه ، فقال الشاب : أمّيأمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :

أميري حسين ونعم الأمير

سرور فؤد البشير النذير

علي وفاطمة والداه

فهل تعلمون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى

له غرّة مثل بدر منير

وقاتل حتى قتل ، وجزّ رأسه ورمي به إلى عسكر الحسين عليه السلام ، فحملت أمّه رأسه وقالت : أحسنت يا بني يا سرور قلبي ويا قرة عيني .

ثم رمت برأس ابنها رجلاً فقتلته ، وأخذت عمود خيمته وحملت عليهم وهي تقول :

أنا عجوز سيدي ضعيفه

خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه

دون بني فاطمة الشريفه

وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين عليه السلام بصرفها ، ودعا لها(1) .

ثم قال محمد بن أبي طالب وغيره : وكان يأتي الحسين عليه السلام الرجل بعد الرجل ، فيقول : السلام عليك يا ابن رسول اللّه ، فيجيبه الحسين عليه السلام ويقول : وعليك السلام ونحن خلفك ، ثم يقرأ « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ » ، حتى قتلوا عن آخرهم رضوان اللّه عليهم ، ولم يبق مع الحسين عليه السلام إلاّ أهل بيته(2) .

ص: 221


1- بحار الأنوار : 45/28 .
2- بحار الأنوار : 45/31 .

شهادة عابس الشاكري ومولاه

وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري معه شوذب مولى شاكر ، وقال : يا شوذب ما في نفسك أن تصنع ؟

قال : ما أصنع ؟ ! أقاتل حتى أقتل .قال : ذاك الظن بك ، فتقدّم بين يدي أبي عبد اللّه حتى يحتسبك كما احتسب غيرك ، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكلّ ما نقدر عليه ، فإنّه لا عمل

بعد اليوم ، وإنّما هو الحساب .

فتقدّم فسلّم على الحسين عليه السلام وقال : يا أبا عبد اللّه ، أما واللّه ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلت ، السلام عليك يا أبا عبد اللّه ، أشهد أنّي على هداك وهدى أبيك ، ثم مضى بالسيف نحوهم .

قال ربيع بن تميم : فلمّا رأيته مقبلاً عرفته ، وقد كنت شاهدته في المغازي ، وكان أشجع الناس ، فقلت : أيّها الناس هذا أسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجن إليه أحد منكم .

فأخذ ينادي : ألا رجل ؟ ألا رجل ؟

فقال عمر بن سعد : ارضخوه بالحجارة من كلّ جانب ، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ، ثم شدّ على الناس ، فواللّه لقد رأيت يطرد أكثر من مائتين من الناس ، ثم إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب ، فقتل .

فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة ، هذا يقول : أنا قتلته ، والآخر يقول كذلك ، فقال عمر بن سعد : لا تختصموا ، هذا لم يقتله إنسان واحد ، حتى فرّق بينهم بهذا القول(1) .

ص: 222


1- بحار الأنوار : 45/29 .

شهادة عبد اللّه وعبد الرحمن الغفاريان

ثم جاءه عبد اللّه وعبد الرحمن الغفاريان ، فقالا : يا أبا عبد اللّه ، السلام عليك إنّه جئنا لنقتل بين يديك وندفع عنك .

فقال : مرحبا بكما ، ادنوا منّي ، فدنوا منه وهما يبكيان ، فقال : يا ابني أخي مايبكيكما ، فواللّه إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين .

فقالا : جعلنا اللّه فداك ، واللّه ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ، نراك قد

أحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك .

فقال : جزاكما اللّه يا ابني أخي بوجدكما من ذلك ، ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين .

ثم استقدما وقالا : السلام عليك يا ابن رسول اللّه ، فقال : وعليكما السلام ورحمة اللّه وبركاته ، فقاتلا حتى قتلا(1) ، وتسلقا المجد والعزّة مع السعداء .

شهادة الغلام التركي

ثم خرج غلام تركي كان للحسين عليه السلام ، وكان قارئا للقرآن ، فجعل يقاتل ويرتجز ويقول :

البحر من طعني وضربي يصطلي

والجو من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي

ينشق قلب الحاسد المبجل

وفي بعض الكتب : أنّه لمّا استأذن من الإمام عليه السلام قال له عليه السلام : إنّي قد وهبتك لولدي زين العابدين عليه السلام ، فاطلب الرخصة منه .

فجاء الى الإمام السجاد عليه السلام فقال : إنّي استأذنت أباك للبراز ، فقال : إنّ أمري بيدك ، فلو أذنت لي سيدي حتى أضحي بنفسي دون أبيك ؟

فقال له الإمام السجاد عليه السلام : إنّي قد أعتقتك ، ولك أن تختار ما تحبّ .

ص: 223


1- بحار الأنوار : 45/29 .

فجاء الغلام الى الإمام الهمام عليه السلام فحكى له ما جرى ، ثم استأذن فأذن له ، فجاء الى خيمة النساء ، وقال : يا سيدات الخدر والعزّة والكرامة ، خدمتكم مدّة من الزمان فأرجو أن تعذروني ، وتجعلوني في حلّ من كلّ تقصير بدا منّي ، وأن لا تنسوني في القيامة .

فلمّا سمع النساء قوله ارتفعت أصواتهن بالبكاء ، فودعهم ، وخرج الى الميدان وهو يرتجز ، فأمر الإمام السجاد عليه السلام فرفعوا له طرف الخيمة لينظر الى غلامه كيف يقاتل ، فإذا به قد غاص في أعماق القوم الكفّار ، وجعل يضرب وجوههم السوداء ، حتى سقط صريعا من شدّة العطش ، وكثرة الجراح ، وجهد القتال ، فجاءه الحسين عليه السلام كالصقر إذا جلّى على فريسته ، فبكى ووضع خدّه على خّده ، ففتح عينه ، فرأى سيد الشهداء عليه السلام ، فتبسّم ، ثم صار الى رياض القدس ، والى ربّه راضيا مرضيا(1) .

شهادة يزيد بن زياد

ثم رماهم يزيد بن زياد بن الشعثاء بثمانية أسهم ما أخطأ منها بخمسة أسهم ، وكان كلّما رمى قال الحسين عليه السلام : اللّهم سدّد رميته ، واجعل ثوابه الجنّة ، فحملوا عليه فقتلوه(2) .

شهادة أبو عمرو النهشلي

ثم برز أبو عمرو النهشلي ، وكان متهجّدا كثير الصلاة قارئا للقرآن ، فقاتل قتالاً شديدا ، وكان لا يحمل على قوم إلاّ كشفهم ، ثم يرجع الى الحسين عليه السلام ، وهو يرتجز ويقول :

أبشر هديت الرشد تلقى أحمدا

في جنة الفردوس تعلو صعدا

ص: 224


1- بحار الأنوار : 45/30 .
2- بحار الأنوار : 45/30 .

فاعترضه عامر بن نهشل فقتله واجتز رأسه(1) .

للّه كم بدر سعد في التراب ثوى

وأنجم في عراص الطف قد أفلوا

وكم وجوه لقد أبلى محاسنها

حرّ الظما وهجير الشمس والذبل

وكم رؤوس على الأرماح قد رفعت

ومن نجيع دماها شيبها عطل

ألا لعنة اللّه على القوم الظالمين

« وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ »

ص: 225


1- مثير الأحزان : 57 ، بحار الأنوار : 45/30 .

ص: 226

المجلس السابع: في شهادة أولاد عقيل وشهادة القاسم بن الحسن عليهماالسلام

اشارة

الحمد للّه والصلاة والسلام على رسول اللّه ، وعلى أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعلى أنصار دين اللّه ، وعلى حفّاظ شريعة اللّه ، وعلى المجاهدين في سبيل ، وعلى الناصحين في جنب اللّه ، وعلى باذلي الأرواح لوجه اللّه ، وعلى الخائضين في بحار السيوف والأسنة في محبّة اللّه ، وعلى الثابتين في نيران الكفاح في طاعة اللّه ، وعلى

الأبدان الضعيفة في عبادة اللّه ، وعلى الدماء السائلة والدموع السائلة من خشية اللّه .

السلام على السادات العلوية ، السادة على البنات الهاشمية ، السلام على الشيوخ والشبان ، السلام على الرجال والنسوان ، السلام على الأبدان السليبة ، السلام على الأجسام التريبة ، السلام على الخدود المعفّرة ، الجباه المخضّبة ، والأعضاء المقطّعة ، والرؤوس المشالة .

السلام على المذبوح من القفا ، السلام على المخروق الخباء ، ومسلوب العمامة والرداء .

السلام على من بكى عليه جبرئيل ، وتزلزل له العرش الجليل ، وعلى أنصاره من ولد جعفر وعقيل ، السلام على الصريع المرتجى ، وعلى من نصره من ولد المجتبى عليه السلام ، ورحمة اللّه وبركاته .

ص: 227

وبعد ، قال اللّه سبحانه :

« وَوَصَّيْنَا الاْءِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي » .

* * *

البرّ والإحسان للوالدين

ظاهر الآية الكريمة بيان وجوب أو رجحان الإحسان والبر للوالدين ، وبيان وجه استحقاقهم للإحسان ، وذلك لما يتحمّلونه من الجهد والمشقّة ، فهذه الأم تحمله كرها ، وتتحمل ما تتحمل في فترة حمله ، ثم تضعه كرها ، وتبدأ رحلة العناء معه في فترة الرضاع ، وتصبر على كلّ ما تلقاه خلال ثلاثين شهرا على أقل التقادير .

وقد قرّرت الشريعة لزوم أو رجحان الإحسان للوالدين ، وقد تكرر الأمر به في الكتاب والسنة ، بل إنّ العقل يحكم بوجوب شكرهما وشكر كلّ منعم .

ومن المعلوم أنّ إنعام الوالدين على الولد إنعام عظيم ، وذلك أنّهما واسطة وجوده أولا ، وأنّهما يحفظانه ويدفعان عنه المكاره في فترة لا يميّز هو بين نفعه وضرره ، ويجوعان ويشبعانه ، ويضيقان على أنفسهما ويوسعان عليه ثانيا .

ولهذا أمر اللّه سبحانه بتعظيم شكرهما ، وقرن شكرهما بشكره فقال : « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » .

وقد أكدت الأوامر الإلهية على أحترامهما والاحسان اليهما ، وذمّ مخالفتهما وأذيّتهما ، ورعاية حقوقهما التي تفوق حدّ الإحصاء والحصر .

بل إنّ القرآن قرن الإحسان اليهما بالتوحيد فقال : « وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » .

ص: 228

وفي الحديث : يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ، ويفعل العاقّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنّة(1) .

وروي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق عليه السلام قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَاغِبٌ فِي الْجِهَادِ نَشِيطٌ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : فَجَاهِدْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّكَ إِنْ تُقْتَلْ تَكُنْ حَيّاً عِنْدَ اللَّهِ تُرْزَقْ ، وَإِنْ تَمُتْ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُكَ عَلَى اللَّهِ ، وَإِنْ رَجَعْتَ رَجَعْتَ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا وُلِدْتَ .

قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي وَالِدَيْنِ كَبِيرَيْنِ يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا يَأْنَسَانِ بِي وَيَكْرَهَانِ خُرُوجِي .

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله : فَقِرَّ مَعَ وَالِدَيْكَ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْسُهُمَا بِكَ يَوْماً وَلَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ جِهَادِ سَنَةٍ(2) .

الإمام هو الوالد الحقيقي

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الحياة نوعان :

الحياة الصورية الظاهرية .

الحياة المعنوية الحقيقية .

أمّا الحياة المعنوية الحقيقية ، فإنّها حياة لا موت فيها ، ولا يتعقّبها فناء ، وهي عزّ لا ذلّ فيه ، وغنى لا فقر بعده .

فإذا كان الوالدان الصوريان اللذان يمثّلان الواسطة في الحياة الصورية ، يستحقّان كلّ هذه الحقوق عقلاً وشرعا ، فكيف بالأب والأم الحقيقيان اللذان يسببان الحياة الحقيقية ، فماذا سيكون قدرهم وعظمتهم وحرمتهم .

ص: 229


1- زبدة البيان : 377 .
2- الكافي : 2/160 ح10 .

والوالد الحقيقي هو الإمام عليه السلام الذي يمنح الحياة الحقيقة ، بل إنّ الحياة الظاهرية والآية الدنيوية أيضا من جود فيوضات وجوده عليه السلام .

فلولا بركات وجوده عليه السلام لما كان العالم وما فيه ، ولما خلق الكون ، فبنفوسهم القدسية تنزل البركات ، وبهم تدفع البليّات .

وهذه المراتب واضحة جدّا لأهل المعرفة ، وقد بيّنتها أخبار أهل البيت عليهم السلام بصراحة ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لطارق بن شهاب في حديث طويل : فهم رأس دائرة الإيمان ، وسماء الوجود ، وقطب دائرة الموجود ، وضوء شمس المشرق(1)(2) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث طويل : . . بنا فتح اللّه ، وبنا يختم اللّه ، ونحن أئمة الهدى ، والعروة الوثقى ، ونحن الأولون ، ونحن الآخرون . .

وفي حديث آخر : ونحن السراج لمن استضاء بنا ، ونحن السبيل لمن اقتدى بنا ، ونحن الهداة الى الجنّة ، ونحن عزّ الإسلام ، ونحن الجسور والقناطر . . نحن السنام الأعظم ، بنا ينزل الغيث ، وبنا تنزل الرحمة ، وبنا يدفع العذاب والنقمة(3) .

ص: 230


1- في البحار : « وقطب الوجود ، وسماء الجود ، وشرف الموجود ، وضوء شمس الشرف . .» .
2- بحار الأنوار : 25/170 ح38 .
3- بحار الأنوار : 26/259 باب 5 ح37 : عن محمد بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : نحن جنب اللّه ، ونحن صفوة اللّه ، ونحن خيرة اللّه ، ونحن مستودع مواريث الأنبياء ، ونحن أمناء اللّه ، ونحن وجه اللّه ، ونحن آية الهدى ، ونحن العروة الوثقى ، وبنا فتح اللّه ، وبنا ختم اللّه ، ونحن الأولون ، ونحن الآخرون ، ونحن أخيار الدهر ، ونواميس العصر ، ونحن سادة العباد ، وساسة البلاد ، ونحن النهج القويم والصراط المستقيم ، ونحن علّة الوجود ، وحجّة المعبود ، لا يقبل اللّه عمل عامل جهل حقّنا ، ونحن قناديل النبوة ، ومصابيح الرسالة ، ونحن نور الأنوار ، وكلمة الجبّار ، ونحن راية الحقّ التي من تبعها نجا ، ومن تأخر عنها هوى ، ونحن أئمة الدين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ونحن معدن النبوة ، وموضع الرسالة ، وإلينا تختلف الملائكة ، ونحن سراج لمن استضاء ، والسبيل لمن اهتدى ، ونحن القادة إلى الجنّة ، ونحن الجسور والقناطر ، ونحن السنام الأعظم ، وبنا ينزل الغيث ، وبنا ينزل الرحمة ، وبنا يدفع العذاب والنقمة ، فمن سمع هذا الهدى فليتفقد في قلبه حبّنا ، فإن وجد فيه البغض لنا ، والإنكار لفضلنا ، فقد ضلّ عن سواء السبيل ، لأنّا حجّة المعبود ، وترجمان وحيه ، وعيبة علمه ، وميزان قسطه ، ونحن فروع الزيتونة ، وربائب الكرام البررة ، ونحن مصباح المشكاة التي فيها نور النور ، ونحن صفوة الكلمة الباقية إلى يوم الحشر المأخوذ لها الميثاق والولاية من الذر .

تفسير الوالدين بالحسنين عليهماالسلام

وقد ورد في تفسير الآية الكريمة المذكورة أنّ الوالدين هما الحسن والحسين عليهماالسلام ، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم : « الإحسان » رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقوله : « بوالديه » إنّما عنى الحسن والحسين(1) عليهماالسلام .

فالإحسان منصوب للعلّة ، فيكون حاصل مفاد الآية : وصينا الإنسان بالحسنين من حيث انتسابهما الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وتتمة آية صريح في هذا المعنى ، وذلك أنّ الحسين عليه السلام هو الذي حملته أمّه كرها ، ووضعته كرها ، لمّا أخبرت أنّه يقتل ، فقالت : ما أصنع بولد تقتله الأمّة ؟

فقد ورد في الحديث : أنّ اللّه أخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبشّره بالحسين عليه السلام قبل حمله ، وأنّ الإمامة تكون في ولده إلى يوم القيامة ، ثم أخبره بما يصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده ، ثم عوضه بأن جعل الإمامة في عقبه . . فأخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاطمة عليهاالسلام بخبر الحسين عليه السلام وقتله ، فحملته كرها .

ثم قال أبو عبد اللّه عليه السلام : فهل رأيتم أحدا يبشّر بولد ذكر فيحمله كرها ؟ أي إنّها اغتمت وكرهت لما أخبرت بقتله ، ووضعته كرها لما علمت من ذلك(2) .

وروى ابن قولويه عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام : أنّ جبرئيل عليه السلام نزل على محمد صلى الله عليه و آله ، فقال : يا محمد ، إنّ اللّه يقرأ عليك السلام ، ويبشّرك بمولود يولد من فاطمة عليهاالسلام تقتله أمّتك من بعدك .

ص: 231


1- تفسير القمي : 2/272 .
2- تفسير القمي : 2/297 ، بحار الأنوار : 53/102 باب 29 .

فقال : يا جبرئيل ، وعلى ربّي السلام ، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أمّتي من بعدي .

فعرج جبرئيل عليه السلام إلى السماء ، ثم هبط فقال له مثل ذلك ، فقال : يا جبرئيل ، وعلى ربّي السلام ، لا حاجة لي في مولود تقتله أمّتي من بعدي .

فعرج جبرئيل إلى السماء ، ثم هبط فقال له : يا محمد ، إنّ ربّك يقرئك السلام ، ويبشّرك أنّه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية ، فقال : قد رضيت .

ثم أرسل إلى فاطمة عليهاالسلام : إنّ اللّه يبشّرني بمولود يولد منك تقتله أمّتي من بعدي ، فأرسلت إليه ، أن لا حاجة لي في مولود يولد منّي تقتله أمّتك من بعدك .

فأرسل إليها إنّ اللّه جاعل في ذريّته الإمامة والولاية والوصية ، فأرسلت إليه : إنّي قد رضيت .

فحملته كرها ووضعته كرها « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي »(1) . .

وفي حديث آخر صرّح الصادق عليه السلام فقال : « وَوَصَّيْنَا الاْءِنْسانَ » يعني الحسين(2) .

الشكر والإحسان للوالدين الحقيقيين

فمقتضى الوصية الإلهية لزوم الإحسان لهما ، ومقتضى دلالة العقل والنقل وجوب شكرهما ، وشكر هذين الوالدين مقرون بشكر اللّه - عزّ وجلّ - ، والإحسان اليهما مقرون بالتوحيد ، فمن لا يشكرهما لا يشكر اللّه ، ومن ترك الإحسان اليهما فقد ترك التوحيد ناقصا .

ص: 232


1- كامل الزيارات : 56 الباب 16 ، بحار الأنوار : 44/232 ح17 .
2- تأويل الآيات الظاهرة : 564 .

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : أشكر من لولاهم لما خلقت ، فهم - صلّى اللّه عليهم - مشكاة الأنوار الإلهية ، وحجاب أسرار الربوبية . . فمن صلّى عليهمفقد سبّح اللّه وقدّسه(1) ..

أما سمعت ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : لمّا خلق اللّه العرش خلق سبعين ألف ملك ، وقال لهم : طوفوا بعرش النور ، وسبحوني ، واحملوا عرشي ، فطافوا وسبحوا ، وأرادوا أن يحملوا العرش فما قدروا ، فقال لهم اللّه : طوفوا بعرش

النور ، فصلّوا على نور جلالي محمد حبيبي ، واحملوا عرشي ، فطافوا بعرش الجلال وصلّوا على محمد وحملوا العرش ، فأطاقوا حمله .

فقالوا : ربّنا أمرتنا بتسبيحك وتقديسك ، ثم أمرتنا أن نصلّي على نور جلالك محمد ، فتنقص من تسبيحك وتقديسك ؟ فقال اللّه لهم : يا ملائكتي إذا صلّيتم على حبيبي محمد ، فقد سبحتموني وقدستموني وهللتموني(2) .

فالإحسان اليهم من الضرورات ، والبر بهما من الواجبات عقلاً وشرعا ، لأنّ العقل حاكم بضرورة الإحسان الى الوالدين ، وحرمة عقوقهما . فكيف بالإحسان لهؤلاء الأطهار وهم الوالد الحقيقي ، وسببا لوجود كلّ الأشياء ؟ ويجب على كلّ شيء أن يحسن لهم ويعظّمهم ، وقد أحسن لهم كلّ شيء وسعى في نصرتهم .

فقد روى زائدة عن الإمام السجاد عليه السلام قال : . . فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله ، وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها ، ومادت الجبال ، وكثر اضطرابها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها غضبا لك يا محمد ولذريتك ، واستعظاما لما ينتهك من حرمتك ،

ص: 233


1- مشارق أنوار اليقين تحقيق سيد علي جمال أشرف : 342 نقلاً عن السيد ابن طاووس .
2- مشارق أنوار اليقين : 327 ، بحار الأنوار : 27/258 باب 15 ح8 .

ولشرّ ما تكافى ء به في ذريتك وعترتك ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاّ استأذن اللّه- عزّ وجلّ - في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين(1) . .

إلاّ الإنسان الذي وصاه الربّ الجليل بالإحسان اليهم والبر بهم ، فمنهم من عدا عليهم فأمعن في ظلمهم والتعدّي عليهم ، وقتلهم وتشريدهم وسبيهم وأسرهم ، ومنهم من خذلوهم وهم ينظرون الى ظليمتهم ، ومنهم من فرّ من بين أيديهم وهو قادر على نصرهم ، ومنهم من أظهر الشماتة والفرح بما نزل بهم من مصائب .

سبحان اللّه ، كيف يمكن أن يتصوّر ذلك ؟

أجل ، لقد إمتثل وصية الربّ الجليل في الإمامين الهمامين عليهماالسلام أمة من محبّيهم ، فسمعوا الأمر بالإحسان والبر بهما من اللّه - عزّ وجلّ - ، فها هم شيعتهم لم يقصّروا

في الإحسان اليهم والبر بهم ، فمن عاصرهم من الشيعة أدى الإحسان اليهم باليد واللسان والمال والنفس ، والطاعة لأوامرهم ونواهيهم .

والذين أدوا حقّ الإحسان أولئك الذين بذلوا أنفسهم في سبيل محبتهم عليهم السلام ، وفدوهم بأموالهم وأعراضهم ، فكانت نتيجة إحسانهم أن اللّه سبحانه جازاهم بالإحسان ، فأنزلهم منزلة يغبطهم عليها أهل العالم جميعا من أعاظم العلماء والمؤمنين ، ويخاطبونهم بقولهم : « بأبي أنتم وأمي » .

أمّا بالنسبة لنا ، فإنّنا حرمنا من فيض خدمتهم ، ولم نوفق لإدراك أيامهم ، فيمكن أن نمارس الإحسان اليهم من خلال محبّتهم وذكر مناقبهم ، وزيارة قبورهم ، والبكاء عليهم .

فإذا تركنا البكاء عليهم وزيارتهم فأيّ إحسان أسديناه اليهم ؟ وكيف يقال عنّا أنّنا قد عملنا بوصية اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ؟

ص: 234


1- كامل الزيارات : 263 الباب 88 ، بحار الأنوار : 45/179 ح30 .

ومن هنا يمكن أن نقول : بوجوب إقامة العزاء والبكاء عليهم وزيارتهم من باب لزوم البر والإحسان اليهم الثابت عقلاً ونصّا الذي يتحقّق من خلالالموارد المذكورة .

فهي أمور واجبة على نحو التخيير في كلّ فرد من أفرادها ، ولا شكّ في أنّ أفراد الواجب المخيّر تتّصف في الجملة بالوجوب بنحو ما .

الإحسان والبر بالبكاء وإقامة العزاء

وقد صرّحت الإخبار بأنّ البكاء عليهم إحسان ، وهذا من الواضحات في الروايات ، فقد روى ابن قولويه بسند معتبر عن زرارة بن أعين عن الصادق عليه السلام في حديث طويل قال :

. . ما من عين أحبّ إلى اللّه ، ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ، وما من باك يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة عليهاالسلام وأسعدها عليه ، ووصل رسول اللّه ، وأدّى حقّنا .

وما من عبد يحشر إلاّ وعيناه باكية إلاّ الباكين على جدّي الحسين عليه السلام ، فإنّه يحشر وعينه قريرة ، والبشارة تلقاه ، والسرور بيّن على وجهه ، والخلق في الفزع وهم آمنون ، والخلق يعرضون وهم حدّاث الحسين عليه السلام تحت العرش ، وفي ظلّ العرش ، لا يخافون سوء يوم الحساب .

يقال لهم : ادخلوا الجنّة ، فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه ، وإنّ الحور لترسل إليهم : أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلدين ، فما يرفعون رؤوسهم إليهم لما يرون في

مجلسهم من السرور والكرامة(1) .

فتأمّل عزيزي القارى ء وانظر الى الحقوق العظيمة التي عليك للمولى عليه السلام ، بل على أهل العالم جميعا .

ص: 235


1- كامل الزيارات : 80 الباب 26 ، بحار الأنوار : 45/206 ح13 .

ومن تلك الحقوق أنّ اللّه الجليل هداك الى الإسلام ببركة خير الإنام وهم جدّ الحسين وأبوه وأمّه وأخوه عليهم السلام ، وحرّم بذلك بدنك على النار ، ونجاك من العذابالأبدي ، ورفعك على عرش السلطنة السرمدي في الجنّة .

إنّهم علّموك المعرفة والتوحيد ، والعبادة والعبودية ، والسلوك الى الربّ ، وعرّفوك من هو المنعم عليك وكيف تشكره على نعمه ، ودلّوك على من تدعوه في كلّ ورطة ومحنة وحاجة فيجيبك ، وعلّموك العلوم والآداب والأحكام والمعارف ، ورتبة العلم أعلى كلّ رتبة ، ومقام المعرفة فوق كلّ مقام .

وقد ورد أنّ من علّمني حرفا فقد صيّرني عبدا(1) ، وقد علّموك كلّ تلك العلوم ، فكيف لا تكون لهم عبدا ؟

فإذا كنت عبده وأنت ترى مولاك قد ذبحوه ، وقطعوا رأسه وعلى أطراف السنان رفعوه ، وسبوا نساءه وهجموا على عياله ، واعتدوا على ماله فنهبوه ، وقتلوا أصحابه وأهل بيته وظلموه ، وبعد كلّ هذا فلا تخرج نفسك مع زفراتك ، ولا ترتفع من أعماق قلبك آهة حرى ، ولا تجود عينك بدمعة ، ولا تقعد للعزاء ، ولا تلطم ، ولا تندب ، ولا تصرخ ، ولا تجزع ، فأف لك ، وخيبة لسعيك .

أفّ لعيني كيف تلتذّ الكرى

وجفونهم لم تكتحل برقاد

أفّ لقلبي بالزلال شرابه

وقلوبهم بلظى الهجير صواد

أفّ لجسمي كيف يهناه الوطى

وجسومهم ما وطّئت بمهاد

بأبي وأمي الهاشميات التي

قد هشّمت بالقيد والأصفاد

يسرى بهن على المطايا حسّرا

شعثا بغير وطا على الأعواد

ترنوا الى رأس الحسين وتشتكي

ما نالها من معشر الأوغاد

ص: 236


1- عوالي اللئالي : 1/292 ح163 .

أأخي بعد العزّ عزّ نصيرنا

فعزاؤنا يبدو مدى الآباد

أأخي يا روحي وروح مسرّتي

وقرين أفراحي محلّ وداديقم

وانظر الأولاد في ذلّ السبا

والسبّ للآباء والإجداد

هل نظرة يا واحدي أطفي بها

ما أشتكيه من لظى الابعاد

إشارة الى مصائب أهل البيت عليهم السلام

أجل ، لا يمكن أن تقاس حقوق الوالدين الظاهريين بحقوقهم ، ولا تقاس نعمتهم بنعمتهم ، فإذا كان الوالدان الظاهريان واسطة لوجودك فإنّهم واسطة لوجودك ووجود والديك ووجود العالم بأسره .

وإذا حفظك الوالدان من البلايا ، وتحنّنا عليك ، وأحبّاك وتعطفا عليك ، فإنّهم كانوا أشدّ عليك حنان وعطفا من والديك ، وذلك لأنّهم تحمّلوا من أجلك البلايا العظيمة ، ولكي تطمئن لما أقول اسمع ما أتلوه عليك في هذا الحديث :

عن أم سلمة قالت : دخل رسول اللّه ذات يوم ، ودخل في أثره الحسن والحسين عليهماالسلام ، وجلسا إلى جانبيه .

فأخذ الحسن على ركبته اليمنى ، والحسين على ركبته اليسرى ، وجعل يقبّل هذا تارة ، وهذا أخرى ، وإذا بجبرئيل عليه السلام قد نزل وقال : يا رسول اللّه إنّك لتحبّ الحسن والحسين ؟ فقال : وكيف لا أحبّهما ؟ وهما ريحانتاي من الدنيا ، وقرّتا عيني .

فقال جبرئيل عليه السلام : يا نبي اللّه ، إنّ اللّه قد حكم عليهما بأمر فاصبر له ، فقال : وما هو يا أخي ؟

فقال : قد حكم على هذا الحسن أن يموت مسموما ، وعلى هذا الحسين أن يموت مذبوحا ، وإنّ لكلّ نبي دعوة مستجابة ، فإن شئت كانت دعوتك لولديك الحسن والحسين ، فادع اللّه أن يسلّمهما من السمّ والقتل ، وإن شئت كانت مصيبتهما ذخيرة في شفاعتك للعصاة من أمّتك يوم القيامة .

ص: 237

فقال النبي صلى الله عليه و آله : يا جبرئيل ، أنا راض بحكم ربّي ، لا أريد إلاّ ما يريده ، وقد أحببت أن تكون دعوتي ذخيرة لشفاعتي في العصاة من أمّتي ، ويقضي اللّه في ولدي ما يشاء(1) .

ومن هنا قال بعض العرفاء : إنّ الحقّ تعالى خلق الخلق في عالم الذر ، ثم حكم عليهم أنّ من عصى منهم فإنّه سيكون في جهنم من المخلّدين ، فتقدّم الحسين عليه السلام وضمن ذنوب شيعته بقتله في كربلاء وسبي نسائه .

وقال الشيخ أحمد الإحسائي في بعض مراثيه مشيرا الى هذا المعنى ، حينما تقدّم الأصحاب يفدون الحسين عليه السلام بأرواحهم ، فقال لهم الحسين عليه السلام :

فديتموني وأنا إنّما

جئت لكم أفديكم من لظى

بمهجتي اشتريتكم نادبا

كيف سبقتم بالفدا والشرا

فدتك شيعتك يا أبا عبد اللّه ، وفدت حنانك ورأفتك ومحبّتك ، ليت شيعتك كلّهم فداءا لشعرة منك ، ولكن الشيعة - بل العالم كلّه - لم يكونوا عوضا لشوكة تخدش قدمك فتؤذيك .

للحسين عليه السلام درجة لا ينالها أحد من المخلوقين

أجل علم اللّه ذلك ، فجعل له - وهو الحكيم الخبير - من الآثار والثمرات ما لا يعدّ ولا يحصى ، وجعل له درجة لا ينالها إلاّ بالشهادة .

روي عن الصادق عليه السلام قال : . . فقال النبي صلى الله عليه و آله : يا أم سلمة ، إنّ هذا جبرئيل

يخبرني : أنّ هذا مقتول وهذه التربة التي يقتل عليها ، فضعيه عندك ، فإذا صارت دما فقد قتل حبيبي .

فقالت أم سلمة : يا رسول اللّه ، سل اللّه أن يدفع ذلك عنه ، قال : قد فعلت ، فأوحى اللّه - عزّ وجل - إليّ أنّ له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين ، وأنّ له

ص: 238


1- بحار الأنوار : 44/241 باب 30 ح35 .

شيعة يشفعون فيشفعون ، وأنّ المهدي من ولده ، فطوبى لمن كان من أولياءالحسين ، وشيعته هم - واللّه - الفائزون يوم القيامة(1) .

فاعلم ، أنّ الحقيقة تكمن في أنّه عليه السلام ضحّى بنفسه من أجل شريعة جدّه ، وفداءا لأمر ربّه ، وتسليما لما أمر به .

روى الشيخ الجليل الشيخ حسين بن عصفور البحراني في كتاب الفوادح نقلاً عن كتاب الثاقب في المناقب عن جابر بن عبد اللّه قال : لمّا عزم الحسين بن علي عليهماالسلام على الخروج إلى العراق أتيته ، فقلت له : أنت ولد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأحد سبطيه ، لا أرى إلاّ أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن ، فإنّه كان موفقا راشدا .

فقال لي : يا جابر ، قد فعل أخي ذلك بأمر اللّه وأمر رسوله ، وإنّي أيضا أفعل بأمر اللّه وأمر رسوله ، أتريد أن أستشهد لك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعليا وأخي الحسن بذلك الآن ؟

ثم نظرت ، فإذا السماء قد انفتح بابها ، وإذا رسول اللّه وعلي والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها حتى استقروا على الأرض ، فوثبت فزعا مذعورا .

فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا جابر ، ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين : لا تكون مؤمنا حتى تكون لأئمتك مسلّما ، ولا تكن معترضا ؟ أتريد أن ترى مقعد معاوية ، ومقعد الحسين ابني ، ومقعد يزيد قاتله لعنه اللّه ؟

قلت : بلى يا رسول اللّه .

فضرب برجله الأرض ، فانشقت وظهر بحر فانفلق ، ثم ضرب فانشقت هكذا ، حتى انشقت سبع أرضين ، وانفلقت سبعة أبحر ، فرأيت من تحت ذلك كلّه النار ، فيها سلسلة قرن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد ، وقرن بهم مردة الشياطين ، فهم أشدّ أهل النار عذابا .

ص: 239


1- الأمالي للصدوق : 139 المجلس 29 ، بحار الأنوار : 44/225 ح5 .

ثم قال صلى الله عليه و آله : ارفع رأسك ، فرفعت ، فإذا أبواب السماء متفتحة ، وإذا الجنّة أعلاها ، ثم صعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومن معه إلى السماء ، فلمّا صار في الهواء صاحبالحسين : يا بني الحقني ، فلحقه الحسين عليه السلام ، وصعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنّة من أعلاها .

ثم نظر إليّ من هناك رسول اللّه ، وقبض على يد الحسين ، وقال : يا جابر ، هذا ولدي معي ها هنا ، فسلّم له أمره ، ولا تشك لتكون مؤمنا .

قال جابر : فعميت عيناي إن لم أكن رأيت ما قلت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله(1) .

أجل ، فلو تأمّلت عرفت أنّ كلّ ما تحملّوه من بلايا ومحن ومصائب وأذى إنّما كان من أجل خلاص هذه الأمّة ونجاتها ، فأىّ إحسان يبلغ كلّ هذا الإحسان ؟ !

أرأيت إن مات أبوك كيف تلبس السواد ، وتمزق ثياب الصبر والوقار ، فلا أدري ماذا تفعل في مصيبة قتل الحسين عليه السلام وقد أيتم الشيعة جمعا ، وأغلقت عليهم بذلك أبواب الفيوضات الإلهية ، وأحرق قلوب العالمين من الأولين والآخرين .

أتظنّ أنّ هذه الدموع وهذا البكاء والأنين والحنين والتعازي تليق بساحة سيد الأنس والجان ، وبضعة قلب نبي آخر الزمان ؟

لا واللّه ، لو بكاه الأولون والآخرون ، وأهل السموات والأرضين ، أبد الآبدين ، وأداموا النياحة والأنين ، لكانوا مقصرين بالقطع واليقين ، لعظمة مصابه الحزين ، ورزيته وبليته التي تذيب القلوب وتقطع الوتين .

فيا معشر الأحباب قوموا وهرّجوا

وصيحوا صياحا يسمع الصم بالوغى

يا زمرة الندّاب رنّوا وحنّنوا

أصمّوا صماخ الخلق من شدّة الرنا

فإنّ ابن خير المرسلين محمد

صريع مع الأعقاب ملقى بنينوى

لهفي لقوم ذي نفوس كريمة

أحيطوا بإخوان الخنازير والضرى

ص: 240


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي : 322 ح1 .

أحاطتهم الباغون يبغون قتلهم

لحقد قديم كان في صدرهم غلا

لقد قتلوا ظلما وصارت رؤوسهم

تدور على الآفاق كالبدر في الدجى

فها تلك أبدان هوت دون مجدها

وتلك رؤوس عاليات على القنا

وتلك الذراري من سلالة أحمد

بقين أسارى لا خفير ولا مطا

أسارى لأهل الهند تفدى وتطلق

أسارى لأهل البيت تبقى بلا فدا

فيا صاح اجزع من يزيد وجوره

وبغي أهالي الضيم والغي والردى

المّوا بأمر ليس يعهد مثله

وهمّوا بنكر لم يكن سيرى

أباحوا حمى قد حذّروا من حريمه

أحلّوا دما ليست تكافئه الدما

عزيز على الخلق التعيّش غيّما

مضى أهل بيت لا يقاسون بالورى

الأمم الأخرى وإقامة عزاء الحسين عليه السلام

لا أدري أيّ قلب هذا الذي لا يذوب في هذه المصيبة ؟ وأيّ صدر لا يتفتّق ولا ينشق في هذه البلية ؟ وأي عين لا تتفجّر دموعها في هذه الرزية ؟

الكفار لا يعرفون الحسين عليه السلام ، إلاّ أنّهم يبكون في عزائه ، ويرفعون لواء مأتمه .

وقد صحّ الخبر أنّ المشركين في الهند يمتنعون عن العمل أيام إقامة مأتمه ، ويتركون التشاغل بالدنيا تركا باتا ، ويفترشون الأرض على التراب وهم في الغالب ممّن لا يجلس إلاّ على الأسرة والعروش ، بل يجلسون على الرماد ، ويمتنعون عن الأطمعة اللذيذة ، من قبيل اللحم وغيره ، ويبذلون أموالاً طائلة في سبيل مأتمه ، وإقامة عزائه .

وهؤلاء عبرة لأهل الإسلام ، وذلك أنّهم يفترشون الرماد ويتركون اللذائذ ، ولا يتخذون هذه الأيام وسيلة ، يزيّنون بها مجالسهم بأنواع الزينة ، وكأنّها مجالس أفراح وسرور ، ويأكلون الأطعمة اللذيذة ، ويدعون في مجالس الرجال أصحاب الأصوات الجميلة الشجية يتغنون لهم بالأكاذيب ، ويرقصون كما يرقص الرقاصون ، ثم يسمّون ذلك إقامة العزاء والمأتم .

ص: 241

لم لا تغلّف قلبك بأبراد الأحزان ؟

لم لا تقرح عينيك بالبكاء ؟

لم لا تظهر عليك آثار الحزن والغموم ؟

روى أحد الثقاة عن رجل عاش في الهند مدّة من الزمان أنّه قال : ذهبت الى أحد بلدان الهند ، فسألتهم : لماذا تقيمون العزاء وتبكون ؟ فقالوا : نبكي على ابن وزير اللّه !

عزيزي القارى ء ، إنّه أجاب غلطا ، لم يكن للّه وزيرا حتى يكون لوزيره ولد ، أمّا أنت فابك لمقتل ابن النبي صلى الله عليه و آله ، وسبي بنات النبي صلى الله عليه و آله .

أجل ، إنّك ما عرفت الحسين عليه السلام حقّ معرفته ، ولم تستشعر مدى شناعة هذا الظلم وقباحته .

قال صاحب كشف الغمة في أحوال الأئمة عليهم السلام : واللّه تعالى يعلم أنّي لا أحبّ الخوض في ذكر مصرعه عليه السلام وما جرى عليه وعلى أهل بيته وتبعه ، فإنّ ذلك يفتت الأكباد ، ويفتّ في الأعضاد ، ويضرم في القلب نارا وارية الزناد ، فإنا للّه وإنا إليه

راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم(1) .

ثم قال بعد أن ذكر بعض مصائبه : ولمّا وصل القلم في ميدان البيان إلى هذا المقام أبدت الأيام من إلمام الآلام ما منع من إتمام المرام على أتم الأقسام ولم ير حزم نظام

الكلام دون موقف الاختتام(2) .

وقال في موضع آخر : قلت : من سماع هذه الأقوال واستفظاع هذه الأفعال كنت أكره الخوض في ذكر مصرعه عليه السلام ، وبقيت سنين لم أسمعه يقرأ في عاشوراء ، كما جرت عوائد الناس بقراءته ، لأنّي كنت أجد لما جرى عليه وعلى أهل بيته عليهم السلام

ص: 242


1- كشف الغمة : 2/44 .
2- كشف الغمة : 2/52 .

ألما قويا ، وجزعا تاما ، وتحرّقا مفرطا ، وانزعاجا بالغا ، ولوعة مبرحة ، ثم كان قصاري أن أبكي وألعن ظالميه وأسبّهم ، ولم أر ذلك مطفيا غليلي ، ولا مطامنا منغلواء حزني وجزعي ، ولا مسكنا حركة نفسي في طلب الانتقام من أعدائه(1) .

قال الإمام السجاد عليه السلام : أيّها الناس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أيّ فؤد لا يحنّ إليه ؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ؟

أيّها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها(2) . .

فياعزيزي ، إن لم يحترق قلبك في هذه البلية ، ولم تدمع عينك في هذه الرزية ؟ فمتى ستبكي عينك ؟ !

فلا خير واللّه في دمع يعاذب عن سادات الزمان وأولياء الرحمن .

فوا أسفاه ، على تلك الأجسام المرمّلة بغير فراش ولا مهاد .

وا محنتاه ، على الأبدان المطروحة بغير وطاء ولا وساد ، جسوم طالما أتعبوها في عبادة الرحمن وتلاوة القرآن .

فيا ليتني قد وقعت في تلك الأيام ، ويا ليتني كنت ترابا لتلك الأقدام .

إن كنت باكيا فابك على الحسين عليه السلام

قال الإمام الرضا عليه السلام للريان بن شبيب : يا ابن شبيب ، إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فإنّه ذبح كما يذبح الكبش ، وقتل معه من أهل بيته وثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون(3) . .

ص: 243


1- كشف الغمة : 2/63 .
2- اللهوف : 200 ، بحار الأنوار : 45/147 باب 39 .
3- بحار الأنوار : 44/285 ح23 .

أجل واللّه ، صدقت يا مولاي يا علي بن موسى الرضا عليهماالسلام ، إنّهم قتلوا عصابة ما لهم في الأرض شبيهون .

وأيّ شاب مثل القاسم بن الحسن عليهماالسلام ، الذي استأذن عمّه للبراز ، فلمّا أذن له تعانقا ، فبكى الحسين عليه السلام حتى أغمي عليه ؟

وأيّ شباب مثل شباب بني هاشم ، الذين كانوا نخيلاً باسقات في بساتين الإمامة ، وأشجار باسقة في دروب الرسالة ، وأغصان يانعة في أشجار العصمة .

ولنعم ما قاله الشيخ حسن بن زين الدين صاحب المعالم :

عطب أقام عمد الشرك منتصبا

وشدّ أعضاد أهل الغي والزور

خطب تزلزل منه العرش وانطمست

معالم الرشد في الأحقاف والنور

خطب تضعضع منه الدين واضطربت

قواعد المجد في الأعراف والطور

يا للحماة حماة الدين من مضر

ويا ذوي الحزم والبيض المتابير

أيقتل السبط ظمآنا على حنق

والماء يشربه صادي اليعافير

ورأسه فوق عسال يطاف به

في كلّ قاص من البلدان مشهور

وجسمه غير كاس لا يكفّنه

من مروه غير خفاق من المور

وغرّ أصحابه صرعى كأنّهم

أعجاز نخل طويل القدّ مقعور

ولا نسيت وما أنسى كرائمه

يرزها كل أفاك ومغرور

وتستغيث إله العرش صارخة

والدمع ما بين منظور ومنثور

وترفع الصوت ندبا وهي قائلة

يا جدّ قد رأينا عكس التقادير

يا جدّ قد أصبحت أبناء فاطمة

في كلّ أطراف قفر غير محيور

يا جدّ قد أحرقتنا كلّ هاجرة وفا

جرة وعاهرات ابن حرب فيالمقاصير

يا جدّ قد جردتنا كلّ قاصرة

وخائن الطرف عنّا غير مقصور

يا جدّ قد هتكت أستارنا عصب

يقادها كلّ فسّيق وخمير

ص: 244

شهادة آل الحسين عليه السلام

اشارة

لقد روى العلماء الأعلام ورواة أئمة الأنام من أمثال الشيخ المفيد رحمه الله والسيد الجليل ابن طاووس رحمه الله ومحمد بن أبي طالب الموسوي رحمه الله وغيرهم هذه المحنة بألفاظ مختلفة ، ومعاني متقاربة ، وخلاصة ما قالوه فيها :

بعد أن تسربل الأصحاب السعداء بوشاح الشهادة ، ولم يبق مع الحسين عليه السلام إلاّ أهل بيته وأقربائه وأولاده ، تقدّموا الى الموت ، وعزموا على الشهادة ، وهم :

أولاد عقيل عليه السلام ، وأولاد جعفر عليه السلام ، وأولاد أمير المؤمنين عليه السلام ، وأولاد الحسن الزكي المجتبى عليه السلام ، وأولاد الإمام الحسين عليه السلام .

فلمّا وجدوا الفرصة مؤاتية ، اجتمعوا وتوادعوا ، وسالت دموعهم حزنا على فراق الأحبة ، وإستعدوا للشهادة والفداء(1) .

شهادة عبد اللّه بن مسلم عليهماالسلام

فأوّل من برز من أهل بيته عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام ، أمّه رقية بنت الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام ، وكان بمقتضى « ولد الحلال يشبه الخال » ، شاب ليس له في العالم شبيه بنص الحديث(2) ، فاستأذن من خاله فأذن له فخرج

وهو يرتجز ويقول :

ص: 245


1- في البحار : 45/32 : « ولما قتل أصحاب الحسين ولم يبق إلاّ أهل بيته ، وهم ولد علي وولد جعفر وولد عقيل وولد الحسن وولده عليهم السلام اجتمعوا يودّع بعضهم بعضا وعزموا على الحرب .
2- إشارة الى الحديث الذي مرّ ذكره : « قتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون . .» .

اليوم ألقى مسلما وهو أبي

وفتية بادوا على دين النبي

ليسوا بقوم عرفوا بالكذب

لكن خيار وكرام النسب

من هاشم السادات أهل الحسب

فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلاً في ثلاث حملات ، فوقف ووضع يده على جبينه ، فجاءه سهم فأصابه ، فأثبته في راحته وجبهته ، ثم قتله عمرو بن صبيح الصيداوي ، وروي أنّه أسد بن مالك(1) .

شهادة محمد بن مسلم عليهماالسلام

وبرز من بعده محمد بن مسلم بن عقيل عليهم السلام ، أمّه أم ولد ، فاحتوشوه بالسيوف والرماح والنبال ، حتى اكتسى خلعة الشهادة .

ثم خرج من بعده جعفر بن عقيل ، وهو يرتجز ويقول :

أنا الغلام الأبطحي الطالبي

من معشر في هاشم وغالب

ونحن حقّا سادة الذوائب

هذا حسين أطيب الأطايب

من عترة البرّ التقي العاقب

فقتل خمسة عشر فارسا ، ثم قتله بشر بن سوط الهمداني ، وقيل : قتله عروة بن عبد اللّه الخثعمي .

شهادة عبد الرحمن بن عقيل عليهماالسلام

وقالوا ثم خرج من بعده أخوه عبد الرحمن بن عقيل وهو يقول :

أبي عقيل فاعرفوا مكاني

من هاشم وهاشم إخواني

كهول صدق سادة الأقران

هذا حسين شامخ البنيان

وسيد الشيب مع الشبان

فقتل سبعة عشر فارسا ، ثم قتله عثمان بن خالد الجهني(2) .

ص: 246


1- البحار : 45/32 .
2- بحار الأنوار : 45/33 .

شهادة عبد اللّه بن عقيل وبقية آل عقيل عليهم السلام

قال أبو الفرج : وعبد اللّه بن عقيل بن أبي طالب ، أمّه أم ولد ، وقتله عثمان بن خالد بن أشيم الجهني ، وبشر بن حوط القابضي .

وعبد اللّه الأكبر بن عقيل ، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، وجعفر بن محمد بن عقيل ، قتلوا يومئذٍ(1) .

والوارد في كلمات العلماء وزيارة الشهداء إثنين من أولاد عقيل وإثنين من أولاد مسلم .

وفي تظلم الزهراء عليهاالسلام : وروي قتل يومئذٍ ثلاثة من أولاد مسلم وثلاثة من أولاد عقيل .

شهادة أولاد جعفر عليهم السلام

اشارة

ثم تقدّم أولاد جعفر ، ولم يكن فيهم أحد من أولاده الصلبيين ، وإنّما هم إثنان من أولاد عبد اللّه بن جعفر ، وروي أنّهم ثلاثة ، وأمّهم السيدة زينب عليهاالسلام .

وقد خرج بهم عبد اللّه الى سيد الشهداء عليه السلام لما لحقه الى مكة وحاول أن يثنيه عن وجهه الذي توجه اليه ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام عازما على الخروج أرسل اليه أولاده ، وأمرهم أن يكونوا في خدمته ، وأن يفدوه بأنفسهم ، ثم رجع .

ولم نعرف وجها لرجوعه ، إلاّ أنّنا نجزم أنّ له عذرا ، لأنّه أجلّ وأكبر من أن يقصّر في نصرة إمامه .

شهادة محمد بن عبد اللّه بن جعفر

وخرج من بعده محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، بعد أن استأذن من خاله عليه السلام وهو يقول :

ص: 247


1- بحار الأنوار : 45/34 .

نشكو إلى اللّه من العدوان

قتال قوم في الردى عميان

قد تركوا معالم القرآن

ومحكم التنزيل والتبيان

وأظهروا الكفر مع الطغيان

ثم قاتل حتى قتل عشرة أنفس ، ثم قتله عامر بن نهشل التميمي(1) .

شهادة عون بن عبد اللّه بن جعفر

ثم خرج من بعده عون بن عبد اللّه بن جعفر - وظاهر زيارة الشهداء أنّه تقدّم قبل أخيه - وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن جعفر

شهيد صدق في الجنان أزهر

يطير فيها بجناح أخضر

كفى بهذا شرفا في المحشر

ثم قاتل حتى قتل من القوم ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً ، ثم قتله عبد اللّه بن بطة الطائي .

قال أبو الفرج بعد ذكر قتل محمد وعون : وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب قتل مع الحسين عليه السلام بالطف(2) .

شهادة أولاد الإمام الحسن عليه السلام

اشارة

ثم تقدّم أولاد الإمام الحسن عليه السلام وهم على أشهر الروايات إثنان : عبد اللّه والقاسم عليهماالسلام ، وفي بعض الروايات ثلاثة ، وثالثهم أبو بكر بن الحسن عليهماالسلام أمّه أم ولد ، قتله عبد اللّه بن عقبة الغنوي ، وروي أنّ قاتله عقبة الغنوي ، وأمّا عبد اللّه فقاتله حرمله بن كاهل رماه بسهم فأرداه قتيلاً(3) ، وسيأتي بيانه .

ص: 248


1- بحار الأنوار : 45/34 .
2- مقاتل الطالبيين : 95 ، بحار الأنوار : 45/34 .
3- مقاتل الطالبيين : 95 ، بحار الأنوار : 45/34 .

شهادة القاسم بن الحسن عليهماالسلام

ثم خرج القاسم بن الحسن عليهماالسلام ، وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم ، وكان وجههكفلقة القمر ، وروي أنّ أمّه كانت معه في كربلاء ، فلمّا نظر الحسين إليه قد برزاعتنقه ، وجعلا يبكيان حتى غشي عليهما ، ثم استأذن الحسين عليه السلام في المبارزة ، فأبى الحسين أن يأذن له ، فلم يزل الغلام يقبّل يديه ورجليه حتى أذن له ، فخرج ودموعه تسيل على خديه .

وروي أنّه قال له الحسين عليه السلام : يا ولدي أتمشي الى الموت ؟ فقال له القاسم عليه السلام : وكيف يا عمّ ، وأنت بين الأعداء وحيدا غريبا ، لم تجد محاميا ولا صديقا ، روحي لروحك الفداء ، ونفسي لنفسك الوقاء(1) .

وروي أنّ الحسين عليه السلام شقّ أزياق القاسم ، وقطع عمامته نصفين ، ثم أدلاها على وجهه ، ثم ألبسه ثيابه بصورة الكفن وشدّ سيفه بوسط القاسم ، وأرسله الى المعركة . . فتقدّم القاسم وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن الحسن

سبط النبي المصطفى والمؤمن

هذا حسين كالأسير المرتهن

بين أناس لا سقوا صوب المزن

وروي أنّ القاسم قدم الى عمر بن سعد ، وقال : يا عمر ، أما تخاف اللّه ؟ أما تراقب اللّه ؟ يا أعمى القلب ، أما تراعي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ لا جزاك اللّه خيرا ، تدعي الإسلام وآل رسول اللّه عطاشى ظماء ، قد اسودت الدنيا بأعينهم ؟

ثم إنّه طلب المبارز ، وحمل على القوم ، فقاتل قتالاً شديدا حتى قتل على صغره خمسة وثلاثين رجلاً(2) .

ص: 249


1- المنتخب : 2/366 .
2- المنتخب : 2/366 ، بحار الأنوار : 45/34 .

وروي أنّه غلب عليه العطش ، فسار الى الحسين عليه السلام وقال : يا عماه العطش العطش ، أدركني بشربة من الماء ، فصبّره الحسين عليه السلام ، وأعطاه خاتمه ، وقال : حطّه في فمك ومصه .

قال القاسم : فلمّا وضعته في فمي كأنّه عين ماء ، فارتويت ، وانقلبت الى الميدان ، ثم جعل همّته على حامل لواء الأعداء ، وأراد قتله ، فأحاطوه بالنبل(1) .

مصرع القاسم عليه السلام

روي أنّ لعين كان يرمي القاسم بالحجارة ويقول : اقتلوا ابن الخارجي .

وروي عن حميد بن مسلم قال : كنت في عسكر ابن سعد ، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميص وإزار ونعلان ، قد انقطع شسع أحدهما ، ما أنسى أنّه كان اليسرى .

فقال عمرو بن سعد الأزدي : واللّه لأشدّن عليه ، فقلت : سبحان اللّه ، وما تريد بذلك ، واللّه لو ضربني ما بسطت إليه يدي ، يكفيه هؤاء الذين تراهم قد احتوشوه ، قال : واللّه لأفعلن .

فشدّ عليه ، فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف ، ووقع الغلام لوجهه(2) .

وروي أنّ شيبة بن سعد الشامي ضربه بالرمح على ظهره ، فأخرجه من صدره ، فوقع القاسم يخور بدمه ، ونادى : يا عمّاه أدركني(3) .

فجاء الحسين عليه السلام كالصقر المنقض ، فتخلّل الصفوف ، وشدّ شدّة الليث الحرب ، فضرب عمرا قاتله بالسيف ، فاتقاه بيده ، فأطنّها من المرفق ، فصاح ثم تنحى عنه ، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من الحسين عليه السلام ، فاستقبلته بصدورها ، وجرحته بحوافرها ، ووطئته حتى مات الغلام .

ص: 250


1- المنتخب : 2/366 .
2- بحار الأنوار : 45/35 .
3- المنتخب : 2/366 .

قد أوطئوه الصافنات فصدره

المضمار للإصدار والإيراد

محطوم جسم هشّمت أضلاعه

وكسّر ظهر من خيول زياد

فانجلت الغبرة ، فإذا بالحسين عليه السلام قائم على رأس الغلام ، وهو يفحص برجله ،فقال الحسين عليه السلام : يعزّ واللّه على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يعينك ، أو يعينك فلا يغني عنك ، بعدا لقوم قتلوك .

ثم احتمله ، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض ، وقد وضع صدره على صدره ، فقلت في نفسي : ما يصنع ؟ فجاء حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته(1) .

وروي أنّه حمل القاسم الى الخيمة ، فوضعه فيها ، ففتح القاسم عينه ، فرأى الحسين عليه السلام قد احتضنه وهو يبكي ويقول : يا ولدي لعن اللّه قاتليك ، يعزّ واللّه على عمّك أن تدعوه وأنت مقتول ، يا بني قتلوك الكفار ، كأنّهم ما عرفوا من جدّك وأبوك !

ثم إنّ الحسين عليه السلام بكى بكاءا شديدا ، وبكى جميع النساء ، ولطموا الخدود وشقوا الجيوب ، ونادوا بالويل والثبور(2) .

ثم قال الحسين عليه السلام : اللّهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ، ولا تغفر لهم أبدا ، صبرا يا بني عمومتي ، صبرا يا أهل بيتي ، لا رأيتم هوانا بعد هذا

اليوم أبدا(3) .

« إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »

ص: 251


1- بحار الأنوار : 45/36 .
2- المنتخب : 2/367 .
3- بحار الأنوار : 45/35 .

ص: 252

المجلس الثامن: في بيان شهادة أولاد أمير المؤمنين عليهم السلام

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه العلي العظيم ، والصلاة والسلام على نبيّه العطوف الرحيم ، ورسوله الجواد الكريم ، محمد صاحب السيف والقضيم ، وعلى آله الفراغيم ، وأولاده الهداة العلاجيم .

خصوصا على شبله الكريم ، ونجله اليتيم ، صاحب الرزء الجسيم ، والبلاء التميم ، الذي بكى عليه الكليم ، ودنف في حزنه الخليل ، فقال : إنّي سقيم ، وكان أمره

أعجب من الكهف والرقيم ، المنقطع عن الصديق والحميم ، المأسور بأيدي كلّ مذنب جريم ، وكلّ فاجر صديم ، المقتول بالسهم والسنان والحجارة والعصا والقضيم ، والممنوع من المياه الطاحيم ، المطروح على الأرض كالطحيم ، المرضوض أعضائه من نعال أخفاف القارشيم ، المهشّم أضلاعه من حوافر خيول الأضاميم ، المطروح على وجهه كالمضرب السليم ، لا بل كالمدنف السقيم ، ينقلب يمينا وشمالاً ، ولا يستطيع جوابا ولا سؤالاً ، الذي نهبوا ماله ، وأيتموا أطفاله ، وأسروا عياله ، وداروا بهم وبرأسه في البلاد بين العباد .

فيا للّه من رزء عظيم ، وفادح تميم ، لم يسمع مثله في الأقاويم ، فلعنة اللّه على

العصابة الملعونة الآمرة والمبايعة والتابعة على هذا الأمر الجسيم .

ص: 253

وبعد ، قال اللّه في كتابه المبين وخطابه المستبين :

« إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأْرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » .

* * *

الأشهر الحرم وحرمتها

الظاهر أنّ المقصود في الخطاب بيان عدد الشهور ، وبيان حرمة بعضها ، وحكم الأشهر الحرم منها .

والأشهر الحرم أربعة ، ولها حرمة خاصة حتى حرّم فيها القتال بنص القرآن ، فلا ظلم ولا قتال ولا جدال فيها إحتراما لها .

واعلم ، أنّ الناس كانوا في الضلالة والجهل والشرك قبل الإسلام ، ولذلك فهم لم يدخلوا الإسلام بمجرد دعوتهم ، لتمسكهم بطريقتهم القديمة التي وجدوا آباءهم عليها ، فكان أن قابلهم النبي صلى الله عليه و آله بالجهاد والسيف ، وضرب خراطيمهم حتى أدخلهم في الإسلام .

وفي ذاك الجهاد حكم كثيرة ، وإن كان بعضها خافيا علينا ، وقد قسم الفقهاء الجهاد الى قسمين :

الجهاد الواجب ، وهو مرّة في السنة إذا تحقّقت شروطه ، ومن ثم يكون مستحبا ، وهو حرام في الأشهر الحرم الأربعة ، حيث كانت هذه الشهور مخصصة للحج والعمرة والعبادة عند المسلمين ، فهم لا يقاتلون أحدا ، ولكنّ اللّه أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم فيها إذا تعرض لهم الكفار وقاتلوهم .

والأشهر الحرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب .

وقد حرّم الأسلام هذه الأشهر ، ولا ينافي تحريمها حرمة شهر رمضانوأفضليته ، وعدم حرمة القتال فيه ، فإنّ مثل ذلك كثير في الشرع المقدّس .

ص: 254

ألا ترى زيارة الحسين عليه السلام فإنّها أفضل من الحج والعمرة بمراتب كثيرة ، بل إنّ كلّ خطوة في زيارته تعدل ثواب حجّة وعمرة ، ومع ذلك لم تكن واجبة !

وكذا أرض كربلاء فإنّها أفضل من مكة كما صرحت به الكثير من الأخبار(1) ، ولكنه لم يوجب الطواف فيها ، ولم يجر فيها أحكام الحرم المكي .

فالأشهر الحرم محترمة في الإسلام ، بل كانت محترمة قبل الإسلام أيضا ، وكان أهل الجاهلية يعظّمونها ، ويحرّمون القتال والظلم فيها .

كما حدث لهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، عندما اشتبه عليهم الشهر الحرام ، وقد تعرض النبي صلى الله عليه و آله لعيرهم فكتبوا اليه يعيرونه على ما فعل بهم في الشهر الحرام(2) .

حرمة شهر المحرم

روي عن الرضا عليه السلام أنّه قال : إنّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الأمّة حرمة شهرها ، ولا حرمة نبيها ، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريّته ، وسبوا نساءه ، وانتهبوا ثقله ، فلا غفر

اللّه لهم ذلك أبدا(3) .

ما هو المقصود من الأشهر الإثني عشر في هذه الآية

اعلم ، أنّ ما ذكرناه هو الظاهر من الآية الكريمة ، ولكن للقرآن بطون ، وهي عند النبي صلى الله عليه و آله وأوصيائه الكرام ، وقد فسروا الشهور في هذه الآية بالأئمة الإثني عشر - صلوات اللّه عليهم - وهو معنى يناسب سياق الآية حيث يقول :

« إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّهِ » وهو اللوح المحفوظ- ظاهر - « يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأْرْضَ » .

ص: 255


1- انظر كامل الزيارات : 449 ح2 ، بحار الأنوار : 101/106 ح3 .
2- انظر البحار : 19/191 ح45 .-
3- بحار الأنوار : 44/285 باب 34 .

وليس ثمة ثمرة شرعية تترتب على كون الشهور إثني عشر شهرا ، ولو ثبتت لما احتاجت الى كلّ هذا التأكيد ، وكذلك جعل الأشهر الحرم الأربعة من الدين القيم ، يدل على أنّ المراد شيء آخر وراء هذا المعنى الظاهري الملحوظ في الآية أيضا .

وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام في تأويل هذه الآية أنّ الشهور هم الأئمة عليهم السلام(1) ، وكذا ورد في أخبار كثيرة : أنّنا نحن الشهور(2) .

وعن ابن عباس قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : معاشر الناس ، اعلموا أنّ للّه تعالى بابا من دخلها أمن من النار ، ومن الفزع الأكبر .

فقام إليه أبو سعيد الخدري فقال : يا رسول اللّه اهدنا إلى هذا الباب حتى نعرفه .

فقال : هو علي بن أبي طالب سيد الوصيين ، وأمير المؤنين ، وأخو رسول ربّ العالمين ، وخليفته على الناس أجمعين .

معاشر الناس ، من أحبّ أن يتمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليستمسك بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ، فإنّ ولايته ولايتي ، وطاعته طاعتي .

معاشر الناس ، من أحبّ أن يعرف الحجة بعدي فليعرف علي بن أبي طالب عليه السلام .

معاشر الناس ، من سرّه أن يتوالى ولاية اللّه ، فليقتد بعلي بن أبي طالب ، فإنّه خزانة علمي .

معاشر الناس ، من أحبّ أن يلقى اللّه وهو عنه راض ، فليوال عدّة الأئمة عليهم السلام .

فقام جابر بن عبد اللّه فقال : وما عدّة الأئمة ؟

فقال : يا جابر سألتني - يرحمك اللّه - عن الإسلام بأجمعه ، عدّتهم عدّة الشهور ،وهي عند اللّه إثنا عشر شهرا في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض .

ص: 256


1- تفسير البرهان : 3/412 ح4 .
2- انظر تفسير نور الثقلين : 2/214 .

وعدّتهم عدّة العيون التي انفجرت لموسى بن عمران عليهماالسلام حين ضرب بعصاه البحر فانفجرت منه إثنتا عشرة عينا .

وعدّتهم عدّة نقباء بني إسرائيل ، قال اللّه تعالى : « وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً » .

والأئمة - يا جابر - اثنا عشر : أولهم علي بن أبي طالب عليه السلام ، وآخرهم القائم(1) عليه السلام .

وروى الشيخ الصدوق رحمه الله عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ذكر اللّه - عزّ وجلّ - عبادة ، وذكري عبادة ، وذكر علي عبادة ، وذكر الأئمة من ولده عبادة .

والذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية ، إنّ وصيي لأفضل الأوصياء ، وإنّه لحجّة اللّه على عباده ، وخليفته على خلقه ، ومن ولده الأئمة الهداة بعدي ، بهم يحبس اللّه العذاب عن أهل الأرض ، وبهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه ، وبهم يمسك الجبال أن تميد بهم ، وبهم يسقي خلقه الغيث ، وبهم يخرج النبات ، أولئك أولياء اللّه حقّا ، وخلفائي صدقا ، عدّتهم عدّة الشهور ، وهي اثنا

عشر شهرا ، وعدتهم عدّة نقباء موسى بن عمران .

ثم تلا صلى الله عليه و آله هذه الآية : « وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ » ، ثم قال : أتقدر - يا ابن عباس - أنّ اللّه يقسم بالسماء ذات البروج ، ويعني به السماء وبروجها ؟

قلت : يا رسول اللّه ، فما ذاك ؟

قال : أمّا السماء فأنا ، وأمّا البروج فالأئمة بعدي ، أولهم علي وآخرهم المهدي ، صلوات اللّه عليهم أجمعين(2) .

ص: 257


1- إرشاد القلوب : 2/293 ، بحار الأنوار : 36/263 ح84 .
2- الاختصاص : 223 ، بحار الأنوار : 36/37 ح234 .

وجه التعبير عن الأئمة عليهم السلام بالشهور

قال المؤلف : لعل الوجه في التعبير عن الأئمة بالشهور :

أنّ ما يقوم به صلاح معاش الخلق وجميع العالم بحيث لو انعدم لانعدم العالم أجمع إنّما هو الليل والنهار ، وهما في وقت الاعتدال عبارة عن إثني عشر ساعة ، والشهر والسنة إنّما تحصل من خلال حركة الشمس والقمر ، ولكلّ منهما إثنا عشر برجا ، والسنة تتكوّن من الفصول الأربعة وجميع الحكم الزمانية التي لها دور مؤثر في نظام العالم ، وهي عبارة عن إثني عشر شهرا .

وكذلك هم أئمة الدين وخلفاء سيد المرسلين عليهم السلام فإنّهم نظام عالم الدين والإيمان ، وهم أساس الإسلام وعماد الدين ، وعدّتهم إثنا عشر إماما عليهم السلام .

فالمقصود من الشهور التي هي أجزاء السنة وفقا للبيان المذكور هو بيان عدد شهور عالم الإيمان ، والتنبيه على نقصان عالم الإيمان ، بل انعدامه بانعدام ولاية الأئمة الأثني عشر أو بعضهم .

وبهذا المعنى يفهم عدد حروف « لا إله إلاّ اللّه » و« محمد رسول اللّه » ، وكلّ واحدة منهما أصل من أصول الإيمان ، ومركبة من إثني عشر حرفا ، فشهادة التوحيد لا تتمّ إلاّ بولاية الأئمة الإثني عشر ، كما أنّ الشهادة بالرسالة لا تتمّ

إلاّ بولايتهم .

وفي هذا سرّ غريب ، ولغز عجيب ، واضح لأهل البصيرة ، ولا يخفى على اللبيب .

وذلك قال العلماء : أنّ الرياح التي بها صلاح العالم وفساده ، وبها يطوى البرّ والبحر ، وبها تلقح الأشجار ، وتينع الثمار ، وتظهر البركات ، وهي إثنا عشر ريحا : أربعة في الجو ، وأربعة في العالم ، وأربعة في نفس بدن الإنسان .وقال الأطباء : قوام البدن على العروق ، والعروق الأصلية فيها إثنا عشر عرقا ، ينشعب من كلّ واحد منها ألف عرق .

ص: 258

وكذا قوام بدن الإسلام والإيمان أيضا بإثني عشر إماما ، يفتح كلّ واحد منهم مائة ألف باب من أبواب الرحمة على كلّ شخص .

ولو أنّك تأمّلت بعين البصيرة ، وتدبّرت بقلب صاف ، فإنّ أبواب المعارف تتفتح من كلّ إتجاه « وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأْرْضِ » .

قال علماء النسب : النضر بن كنانة هو دوحة يتفرّع صفة الشرف عليها ، وينبعث منها ، وترجع إليها .

وهذه القبيلة الشريفة كمل شرفها ، وعظم قدرها ، واشتهر ذكرها ، واستحقت التقدّم على بقية القبائل ، وسائر البطون من العرب وغيرها برسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فنسب قريش انحدر من نضر بن كنانة إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وشرف قريش إن بقي لها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله . فرسول اللّه في الشرف بمنزلة مركز الدائرة بالنسبة إلى محيطها ، فمنه يرقى الشرف ، فإذا فرضت الشرف خطا متصاعدا متراقيا متصلاً إلى المحيط مركبا من نقطة هي آباؤ وأبا فأبا وجدته صلى الله عليه و آله محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر .

فالمركز الذي انبعث منه الشرف متصاعدا هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ووجدت المحيط الذي تنتهي الصفة الشريفة القرشية إليه هو النضر بن كنانة ، فالخط المتصاعد الذي بين المركز وبين المنتهى المحيط أجزاؤ إثنا عشر جزءا ، فإذا كانت درجات الشرف المعدودة متصاعدة إثنا عشر ، فيكون لاستحالة أن يكون الخطان الخارجان من المركز إلى المحيط متفاوتين .

فالنبي صلى الله عليه و آله منبع الشرف الذي الإمامة منه بنفسه متصاعدا ، وهو منبع الشرفالذي هو محل الإمامة متنازلاً ، فيلزم أن تكون الأئمة إثني عشر ، فكما أنّ الخط المتصاعد إثنا عشر ، فالخط المتنازل إثنا عشر .

ص: 259

فأول من ثبتت له الصفة بأنّه قرشي مالك بن النضر ، ولا تتعداه صاعدا ، وهو الثاني عشر ، فكذلك منتهى من ثبتت له الإمامة ، ولا تتعداه نازلاً ، واستقرت فيه محمد بن الحسن المهدي ، وهو الثاني عشر صلّى اللّه عليهم أجمعين(1) .

أجل ، إنّهم نظام عالم الإيمان والإسلام ، بل نظام عالم الوجود ، وبوجودهم دار الفلك ، قال اللّه تعالى : « وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها » قال المعصوم في تفسير الآية : ربّ الأرض الإمام الذي نور اللّه في عباده وبلاده(2) .

واعلم ، أنّ اللّه تعالى جعل لأربعة من هذه الشهور حرمة خاصة ، وأمر بتعظيمها واحترامها ، وجعل حرمتها من الدين القيم ، وهي ثلاثة سرد وواحد فرد ، والثلاثة السرد هم : علي والحسن والحسين عليهم السلام ، وهي ذو القعدة ، وفيه دحو الأرض ، وذو الحجة والمحرم ، « فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ » .

اللّهم أنت الشاهد والعالم أنّهم ما رعوا حرمة الشهور الحرم الظاهرية ، ولم يرعوا حرمة الشهور الواقعية ، إنّهم ظلموا الدين القيّم في محرم الحرام ، فسفكوا دمه ، وفصلوا رأسه عن جسده ، وسبوا عياله وحرمه ، ونهبوا ماله .

إنّهم فعلوا ما لم يفعله الكفّار ، وأتوا ما لامهم عليه اليهود والنصارى ، ظلموا ظلما لم يعرفه ظالم ، وفجعوا القلوب فجيعة لا تنسى أبدا ، وجرحوها جرحا لا يلتئم يوما .إنّهم ارتكبوا جريمة فضحت هذه الأمّة بين الأمم ، فلا تجد أمة ارتكبت

ص: 260


1- العدد القوية : 79 .
2- في تفسير القمي : 2/253 وبحار الأنوار : 7/326 باب 17 ح1 بإسناده عن المفضل بن عمر أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في قول اللّه : « وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها » قال : ربّ الأرض إمام الأرض ، قلت : فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال : إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزؤون بنور الإمام .

ما ارتكبوه .

وفي الحديث : لم تكن أمة آمنة بنبي ثم صنعت بذريته ما صنعوا بذرية رسول اللّه محمد صلى الله عليه و آله .

وفي حديث آخر : وما من نسمة خلقت إلاّ وقد رفعت إلى آدم في عالم الذر ، وعرضت عليه ، ولقد عرضت عليه هذه الأمّة ، ونظر إليها وإلى اختلافها وتكالبها على هذه الدنيا الدنية ، فقال آدم عليه السلام : يا ربّ ما لهذه الأمّة الزكية وبلاء الدنيا وهم أفضل الأمم ؟

فقال له : يا آدم إنّهم اختلفوا فاختلفت قلوبهم ، وسيظهرون الفساد في الأرض كفساد قابيل حين قتل هابيل ، وإنّهم يقتلون فرخ حبيبي محمد المصطفى .

ثم مثّل لآدم عليه السلام مقتل الحسين ومصرعه ووثوب أمة جدّه عليه ، فنظر إليهم فرآهم مسودّة وجوههم ، فقال : يا ربّ ابسط عليهم الانتقام كما قتلوا فرخ نبيك الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام(1) .

مقارنة بين الإمام الحسين ويحيى عليهماالسلام

أجل ، لقد ظلمت الأمم السالفة ذرية الأنبياء عليهم السلام ، ولكنّ ذلك لم يفعله أتباع النبي الذين آمنوا به وبرسالته ، وإنّما فعله أعداء دعوته من الكفّار لا من آمن منهم

وأطاع ، ولم يكن الظلم كما كان مع ذرية نبي آخر الزمان .

وما أشبه قصة الحسين عليه السلام بقصة يحيى ، فقد روي عن الباقر عليه السلام : إنّ الحسين عليه السلام لمّا خرج من مكة متوجها إلى العراق لم يجلس مجلسا إلاّ وذكر يحيى بن زكريا ، وكان دائما في طريقه يقول : ومن هوان الدنيا على اللّه أنّ رأس يحيى بنزكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل(2) ، ومن هوان الدينا على اللّه أن يهدى

ص: 261


1- بحار الأنوار : 45/315 باب 46 .
2- عوالي اللآلي : 4/81 ح83 .

رأسي الى ابن سمية .

فهناك وجه شبه بين القصتين ، ولكن يحيى لم يقتل عطشانا ، ولم تسبى عياله ، ولم يترك في العراء بلا غسل ولا كفن ، ولم يقتل أولاده وأصحابه وأهل بيته .

وقد تكلّم رأس يحيى في مجلس الملك الظالم حينما وضع بين يديه فقال : إتق اللّه ودع الزنا(1) .

فيما تكّلم الرأس المقدّس مرارا ، وقد سمعوه كرارا يتكّلم ويرتّل القرآن ، كما حدث في سوق الكوفة حيث كان يرتّل سورة الكهف حتى بلغ قوله تعالى : « إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً »(2) .

وروي عن زيد بن أرقم أنّه قال : مرّ بالرأس عليّ ، وهو على رمح ، وأنا في غرفة لي ، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ : « أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً » ، فقفّ واللّه شعري ، وناديت : رأسك واللّه يا ابن رسول اللّه ، وأمرك واللّه أعجب(3) يا ابن رسول اللّه (4) .

أعلى السنان سنان يرفع رأسه

بين الملا يا ليت فاطم حاضره

ذبح الحسين فأيّ عيش يصطفي

أو أيّ نفس بعده متباشره

أو يرتضى غير البكاء عقيبه

أو يهتني طيب البقا ومفاخره

مات العزيز ومن يرجّى للهدى

والمرتجى للنائبات الضائره

والخيل أجروها عليه فمزّقت

منه بواطنه ورضّت ظاهره

ص: 262


1- في بحار الأنوار : 14/358 : « فأتوا برأس يحيى عليه السلام في الطست ، وكان الرأس يكلّمه ويقول له : يا هذا اتق اللّه لا يحلّ لك هذا » .
2- انظر العوالم : 17/386 .
3- كشف الغمة : 2/66 .
4- المناقب : 4/60 .

لهفي لزينب واليتامى حولها

تبكي عليهم وهي ولهى ناشره

تدعو بفاطمة البتول بصوتها

يا أمّنا يا ليت عينك باصره

لتري حسينا نور عينك ما لقى

من بعد فقدك من عصاة غادره

ذبحوه ذبح الشاة ظلما ظاميا

تسدو عليه الصافنات الغابره

سلبوا بناتك جهرة يا أمّنا

فوجهها بين الأعادي سافره

فبنات هند في القصور أعزّة

مخبيّة تحت الخدور الساتره

وبنوك أسرى في القفار أذلّة

من غير ستر ما عليها حاسره

ويزيد في تخت الخلافه جالس

وحسين في حرّ الشموس السعاره

بكاء الملائكة والجن على الحسين عليه السلام

سبحان اللّه ، ما أعجبها من بلية ، وما أعجبها من مصيبة ، وما أعجبها من رزية نزلت بالشيعة ، وما أعظمها من غمة غمرت السماوات والأرض بالغم والهم والحزن .

ما أعظمها من رزية اضطرب لها الإسلام ، وتزلزل لها العالم ، واهتز لها الثقلان ، وروّعت الإنس والجان .

روى ابن قولويه عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته في طريق المدينة ونحن نريد مكة ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ، ما لي أراك كئيبا حزينا منكسرا ؟

فقال : لو تسمع ما أسمع لشغلك عن مساءلتي ، فقلت : وما الذي تسمع ؟

قال : ابتهال الملائكة إلى اللّه - جلّ وعزّ - على قتلة أمير المؤنين وقتلة الحسين عليهماالسلام ، ونوح الجن ، وبكاء الملائكة الذين حوله ، وشدّة جزعهم ، فمن يتهنأ

ص: 263

مع هذا بطعام أو شراب أو نوم(1) .

وعن الحارث الأعور قال : قال علي عليه السلام : بأبي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة ، واللّه كأنّي أنظر إلى الوحش مادّة أعناقها على قبره ، من أنواع الوحش يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح ، فإذا كان كذلك فإيّاكم والجفاء(2) .

قتلوا بقتله الإسلام

سبحان اللّه ، أيّ فساد حدث في الإسلام ؟

وأيّ فتنة وقعت في الأنام ؟

وأيّ أمر عظيم ارتكبوه ؟

وأيّ جريمة عظمى صدرت منهم ؟

وأيّ عار وشنار ألصقوه بالمسلمين حتى عاب عليهم اليهود والنصارى .

يرحب قوم حافرا زعم أنّه

لمركوب بعض الأنبياء الذي مضى

ويقتل قوم ابن بنت نبيهم

تأمّل بانصاف ترى منتهى الشقا

ماذا صنع هؤلاء الأوغاد حتى فضحوا الأنسان هذه الفضيحة الشنيعة ، وحقّروا بني آدم بين جميع المخلوقات ، وقد كرّمه اللّه عليها .

وهذا هو مقصود الملائكة حينما جاءهم الخطاب الأقدس : « إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً » .

فقال الملائكة : يا ربّ « أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ » .

فأجابهم ربّ العزّة : « إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ » .

أجل ، لقد ارتكبوا عظيما ، وكادت السموات والأرضين أن تنهد له ، لولا حمكة الباري تعالى ، ولعل الحكمة في ذلك كانت في اخراج النسل الطيب والحجج الإلهية

ص: 264


1- كامل الزيارات : 92 الباب 28 ح18 ، بحار الأنوار : 45/226 باب 41 ح19 .
2- كامل الزيارات : 291 الباب 97 ح3 ، بحار الأنوار : 45/205 باب 40 ح9 .

الذين يتمنى الملائكة المقربون أن يجلسوا بين أيديهم ، ويطوفوا في حريمهم ،وبوجودهم يغمر الخلق بالرحمة الإلهية التي يستحقونها بفضل وجود الحجج بينهم .

أجل ، إنّهم اشتروا بما فعلوا العار لبني آدم .

روى ابن قولويه عن الحسين بن علي بن صاعد البربري - قيم لقبر الرضا عليه السلام - قال : حدثني أبي قال : دخلت على الرضا عليه السلام فقال لي : ترى هذه البوم ما يقول الناس ؟

قلت : جعلت فداك جئنا نسألك ؟

فقال : هذه البومة كانت على عهد جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله تأوي المنازل والقصور والدور ، وكانت إذا أكل الناس الطعام تطير وتقع أمامهم ، فيرمى إليها بالطعام وتسقى ، وترجع إلى مكانها ، فلمّا قتل الحسين عليه السلام خرجت من العمران إلى الخراب والجبال والبراري ، وقالت : بئس الأمّة أنتم ، قتلتم ابن بنت نبيكم ، ولا آمنكم على نفسي(1) .

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سمعته يقول في البومة ، قال : هل أحد منكم رآها بالنهار ؟ قيل له : لا تكاد تظهر بالنهار ولا تظهر إلاّ ليلاً .

قال : أما إنّها لم تزل تأوي العمران أبدا ، فلمّا أن قتل الحسين عليه السلام آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبدا ، ولا تأوي إلاّ الخراب ، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتى يجنّها الليل ، فإذا جنّها الليل ، فلا تزال ترن ترث على الحسين عليه السلام حتى تصبح(2) .

فوا عجباه من داهية أحرق فؤاد كلّ مبرور ، وأحرق بها أكباد كلّ مدرور .

وواحسرتا على مصيبة بكت عليها الطيور في الأوكار ، والوحوش في القفار ، والحيتان في لجج البحار .

ص: 265


1- كامل الزيارات : 99 الباب 31 ح2 .
2- كامل الزيارات : 99 ح1 .

ما هذه الزفرات الصاعدات أسى

كأنّها شعل ترمي بها شعل

ما للعيون عيون الدمع جارية

منها تخدّ خدودا حين تنهمل

ماذا النواح الذي عط القلوب وما

هذا الضجيج وذا الضوضاء والزجل

كأنّ نفخة صور الحشر قد فجأت

فالناس سكرى ولا سكر ولا ثمل

قد هل عاشورا لو غمّ الهلال به

كأنّما هو من شؤم به زحل

شهر دهى ثقليها منه داهية

ثقل النبي حصيد فيه والثقل

قامت قيامة أهل البيت وانكسرت

سفن النجاة وفيها العلم والعمل

وارتجت الأرض والسبع الشداد وقد

أصاب أهل السموات العلى الوجل

واهتز من دهشة عرش الجليل فلو

لا اللّه ماسكه أهوى به الميل

جلّ الإله فليس الحزن بالغه

لكن قلبا هواه حزنه جلل

قضى المصاب بأن تقضي النفوس له

لكن قضى اللّه أن لا تسبق الأجل

وأنت تعجب أن مطرت السماء دما ، وأنا أعجب أن لم تصب عليهم حمم النيران !

وأنت تعجب أن كسفت الشمس وانخسف القمر ، وانا أعجب أنّها لا زالت تبعث بالنور والضياء بعد قتل الحسين عليه السلام .

وأنت تعجب أنّ الطير والوحوش بكت عليه ، وأنا أعجب أنّها أكلت الحب وشربت الماء بعده .

وأنت تعجب أنّ الناس لا زالوا يقيمون عزاءه ويبكون عليه ، وأنا أعجب أنّهم يفرحون ويخضبون وفي مجالس السرور والحبور يحضرون .

أجل ، إنّك ما عرفت مقامه ولا فهمت منزلته ، بل ما عرفها أحد إلاّ الذين هم في منزلته ومقامه ، ومن ذا الذي يعرف الإمام ، وهو مظهر الصفات الإلهية ؟ !

مقتطفات من فضائل الحسين عليه السلام التي لا تحصى

ص: 266

روي : عن أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام قال : أتيت يوما جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فرأيت أبي بن كعب جالسا عنده ، فقال جدّي : مرحبا بك يا زين السماوات والأرض ، فقال أبي : يا رسول اللّه ، وهل أحد سواك زين السماوات والأرض ؟

فقال النبي صلى الله عليه و آله : يا أبي بن كعب ، والذى بعثني بالحقّ نبيا ، إنّ الحسين بن علي في السماوات أعظم ممّا هو في الأرض ، واسمه مكتوب عن يمين العرش : إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة .

ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله أخذ بيد الحسين عليه السلام ، وقال : أيّها الناس ، هذا الحسين بن علي

ألا فاعرفوه ، وفضّلوه كما فضّله اللّه - عزّ وجلّ - ، فواللّه لجدّه على اللّه أكرم من جدّ يوسف بن يعقوب ، هذا الحسين جدّه في الجنّة ، وجدّته في الجنّة ، وأمّه في الجنّة ،

وأبوه في الجنّة ، وأخوه في الجنّة ، وعمّه في الجنّة ، وعمّته في الجنّة ، وخاله في الجنّة ، وخالته في الجنّة ، ومحبّوهم في الجنّة ، ومحبّو محبّيهم في الجنّة(1) .

روى أنس بن مالك قال : خرج الحسين عليه السلام في تشيع جنازة ، فرأيت أبا هريرة يتبعه فيأخذ من تراب مواضع أقدامه ويمسحه على وجهه ، فقال له الحسين عليه السلام : وأنت تفعل هذا يا أبا هريرة ؟ فقال : دعني يا ابن رسول اللّه ، فواللّه لو يعلم الناس مثل ما أعلم من فضائلك لحملوك على أحداقهم فضلاً عن أعناقهم .

ثم قال : يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لطالما سمعت جدّك يقول غير مرّة : إنّ هذا ولدي الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنّة ، وإنّه سيموت مذبوحا ظمآنا مظلوما(2) .

ص: 267


1- مدينة المعاجز : 4/51 ح1080 .
2- تاريخ ابن عساكر حياة الإمام الحسين عليه السلام : 149 ح191 عن أبي المهزم قال : كنّا مع جنازة إمرأة ، ومعنا أبو هريرة ، فجيء بجنازة رجل ، فجعله بينه وبين المرأة فصلّى عليهما ، فلمّا أقبلنا أعيا الحسين عليه السلام ، فقعد في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه ، فقال الحسين عليه السلام : يا أبا هريرة ، وأنت تفعل هذا ؟ قال أبو هريرة : دعني فواللّه لو يعلم الناس عنك ما أعلم لحملوك على رقابهم .

العجب ممّا فعله الأعداء

أجل ، إنّهم لم يعرفوا حرمته ، ولم يسكنوه في أحداقهم ، فليتهم لم يتركوه على الرمضاء عاريا .وهم لم يحملوه على أعناقهم ، فليتهم لم يرفعوا رأسه على رأس الرمح عاليا .

وليتهم لمّا لم يرعوا حرمته ، لم يسبوا حرمه أيضا .

وليتهم لمّا لم يرفعوا يدهم عنه وعن أذاه ، لم يقطعوا يده أيضا .

وليتهم لمّا لم يرفعوا أقدامهم الى نصره ، لم يرفعوها الى ميادين محاربته أيضا .

وليتهم لمّا أخرجوا محبّته من قلوبهم ، لم يدخلوا عداوته اليها ، ولمّا أدخلوا عداوته اليها ، لم يسددوا سهامهم الى قلبه .

ليتهم لم يطحنوا صدره ، وليتهم بعد القتل رفعوا من الأرض جسده .

وبعد أن فعلوا كلّ ما فعلوا فليتهم لم يشمتوا ، ولم يتخذوا من يوم عزائه عيدا ، ولم يزينوا البلاد ، ويظهروا السرور والفرح !

روى الشيخ الطوسي رحمه الله بسند معتبر عن الصادق عليه السلام في حديث : ثم قال : إنّ آل أمية - عليهم لعنة اللّه - ، ومن أعانهم على قتل الحسين عليه السلام من أهل الشام نذروا نذرا إن قتل الحسين عليه السلام ، وسلم من خرج إلى الحسين عليه السلام ، وصارت الخلافة في آل أبي سفيان أن يتخذوا ذلك اليوم عيدا لهم ، وأن يصوموا فيه شكرا ، ويفرحون أولادهم ، فصارت في آل أبي سفيان سنة إلى اليوم في الناس ، واقتدى بهم الناس جميعا ، فلذلك يصومونه ويدخلون على عيالاتهم وأهاليهم الفرح ذلك اليوم(1) .

وروى صاحب المناقب عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر عليه السلام قَالَ : جُدِّدَتْ أَرْبَعَةُ مَسَاجِدَ بِالْكُوفَةِ فَرَحاً لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ عليه السلام :

مَسْجِدُ الأَشْعَثِ .

وَمَسْجِدُ جَرِيرٍ .

ص: 268


1- الأمالي للطوسي : 667 ح1397 ، بحار الأنوار : 45/95 ح41 .

وَمَسْجِدُ سِمَاكٍ .

وَمَسْجِدُ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ لَعَنَهُمُ اللَّهُ(1) .فوا عجبا من مصيبة ما أعظمها ، وبليّة ما أفجعها ، مصيبة لم تسمعها أذن في الأنام ، ولم ترها عين في المنام ، ورزيّة لم يشاهد مثلها في صفحات الليالي والأيام .

فوا حسرتاه ، على قتيل العبرات ، وأسير الكربات ، والشهيد المطروح في الفلوات .

ووا محنتاه ، على الأجساد العاريات والأعضاء المقطّعات .

ووا لهفاه ، على النسوه المأسورات ، والذراري الموتورات .

ووا أسفاه ، على الأيدي المغلولات ، والأعناق المكبّلات .

فهلاّ تبكون لقتل الإمام الشهيد الغريب ؟

هل تتمتّعون ببارد الماء وحسينكم قتيل الظماء ؟

هل تستلذّون بلذيذ الطعام والأدام وإمامكم وأصحابه الكرام غذاهم أيدي اللئام ، وسقاهم جرع كؤوس الحمام ؟

وهل تستريحون على الفراش والوساد ومولاكم ومولى الأنام مطروح بلا وطاء ولا مهاد ، وعلى الدنيا بعده العفا ؟

كيف السلوّ ونار القلب تلتهب

والعين حلق قذاها دمعها سرب

القى المصاب على الإسلام كلكله

فكلّ منتسب للدين مكتئب

لا صبر في فادح عمّت رزيّته

حتى اعترا الصبر منه الحزن والصب

لا تقدر العين حقّ القدر من صبب

وإن جرت حين تجري دمعها الصلب

يستحقر الدمع فيمن قد بكته دما

أرجاؤها الجون والخضراء والشهب

ص: 269


1- تهذيب الأحكام : 3/250 باب 25 ح7 ، بحار الأنوار : 45/189 ح35 .

قلّ البكاء على رزء يقلّ له

شقّ الجيوب وعطّ القلب والعطب

كيف العزاء وجثمان الحسين على ال-

-رمضاء عار جريح بالثرى ترب

والرأس في رأس ميّال يطاف به

ويقرع السن منه شامت طرب

وأهل بيت رسول اللّه في نصب

أسرى النواصب قد أسراهم النصب

والناس لا جازع فيهم ولا وجع

ولا حزين ولا مسترجع كئب

فليت عين رسول اللّه ناظرة

ماذا جرى بعده من معشر نكبوا

كم بعده من خطوب بعده خطب

لو كان شاهدها لم تكثر الخطب

محبّة النبي صلى الله عليه و آله لأهل بيته عليهم السلام

ما أشدّ محبّة النبي صلى الله عليه و آله لقرّة عينه ، حيث كان يحمله على عاتقه ، ويربّيه على صدره وفي حجره ، ويضمه اليه ويقبّله ويشمه ، وإذا غاب عنه قليلاً أو تأخر عنه إضطرب وخرج يبحث عنه ، روى الشيخ الصدوق رحمه الله في أماليه عن ليث بن سليم قال : أتى النبي صلى الله عليه و آله علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام كلّهم يقول : أنا أحبّ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأخذ صلى الله عليه و آله فاطمة ممّا يلي بطنه ، وعليا ممّا يلي ظهره ، والحسن عن يمينه ، والحسين عن يساره ، ثم قال صلى الله عليه و آله : أنتم منّي وأنا منكم(1) .

وروي عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه و آلهفقال : يا رسول اللّه أي الخلق أحبّ إليك ؟ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا إلى جنبه : هذا وابناه وأمّهما ، هم منّي وأنا منهم ، وهم معي في الجنّة ، هكذا ، وجمع بين إصبعيه(2) .

وروي في حديث آخر أنّ النبي صلى الله عليه و آله مرّ على بيت فاطمة عليهاالسلام ، فسمع الحسين عليه السلام يبكي ، فقال : يا فاطمة سكتيه ، ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤيني(3) ، ثم دخل البيت

ص: 270


1- الأمالي للصدوق : 13 المجلس 4 ح2 ، بحار الأنوار : 37/35 ح1 .
2- بحار الأنوار : 37/44 باب 50 .
3- المناقب : 4/71 ، الأنوار النعمانية : 3/241 .

وجعل يكفكف دموعه بيده .

أين كنت يا رسول اللّه . . لترى دموع أنين غربته ؟

أين كنت يا رسول اللّه . . لتمسح الدماء عن وجهه المبارك ؟أين كنت يا رسول اللّه . . لتمسح التراب عن جسده الطيّب وتحمله من الرمضاء ؟

روى صاحب كشف الغمة علي بن عيسى عن أم سلمة قالت : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذات يوم عندي ، وقد حمى الوطيس ، وقد دخل إلى بيتي ، وفرشت له حصيرا ، إذ انطرح متكئا ، فجاء الحسين عليه السلام فدخل ، وهو ملقى على ظهره ، فقال : هنا يا حسين ، فوقع على صدره ، وجعل يلاعبه ، وهو يسيح على بطنه .

قالت أم سلمة : فنظرت من شقّ الباب ، وهو على صدره يلاعبه .

فقلت : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ! يوم صدر المصطفى ويوم وجه الثرى ، إنّ هذا لعجب .

قالت : ثم غبت عنه ساعة ، وعدت إلى الباب ، فرأيت النبي صلى الله عليه و آله وهو مغموم ، وقد غمض عينيه عنه ، وفي وجهه نوع من العبوس ، فقلت : لا شكّ إنّ الحسين عليه السلام قد شطّ على النبي صلى الله عليه و آله لصبوته .

فدخلت عليه وفي يده شيء ينظر إليه وهو يبكي ، فقلت : بأبي وأمي ، جعلت فداك يا رسول اللّه ، ما لي أراك باكيا حزينا ، ما الخبر ؟

قال : إنّ جبرئيل عليه السلام نزل عليّ في هذه الساعة وأخبرني : أنّ ولدي هذا سيقتل .

فقلت : وكيف ؟ وأين ؟

قال : بعد أبيه وأمّه في أرض تسمى « كربلا » ، وإن اخترت أن أريك من ترابها قبضة ، فغاب عنّي وجاءني بهذه القبضة ، وقال : هذا من تربته ، قال : خذيها واحفظيها عندك في تلك الزجاجة ، وانظرى إليها ، فإذا رأيتها قد صارت عبيطا ، فاعلمي أنّ ولدي الحسين عليه السلام في تلك الساعة قد قتل .

ص: 271

قالت أم سلمة : ففعلت ما أمرني ، وعلّقتها في جانب البيت ، حتى قبض النبي صلى الله عليه و آله وجرى ما جرى .

فلمّا خرج الحسين عليه السلام من المدينة إلى العراق أتيته لأودّعه ، فقال : يا أم سلمةتوصى في الزجاجة ، فبقيت أترقبها وانظر فيها اليوم المرتين والثلاث .

فلمّا كان يوم العاشر من المحرم قرب الزوال أخذتني سنة من النوم ، فنمت هنيئة ، فرأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في منامي ، وإذا هو أشعث أغبر ، وعلى كريمته الغبار والتراب ، فقلت : بأبي وأمي ما لي أراك يا رسول اللّه مغبرا أشعث ، ما هذا الغبار والتراب الذي أراه على كريمتك ووجهك ؟

فقال لي : يا أم سلمة لم أزل هذه الليلة أحفر قبر ولدي الحسين عليه السلام وقبور أصحابه ، وهذا أوان فراغي من تجهيز ولدي الحسين عليه السلام وأصحابه ، قتلوا بكربلا ، فانتبهت فزعة مرعوبة ، وقمت فنظرت إلى القارورة ، وإذا بها دما عبيطا ، فعلمت أنّ الحسين عليه السلام قد قتل ، قالت : واللّه ما كذبني الوحي ولا كذبني رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

قالت : فجعلت أصيح وا ابناه ، وا قرّة عيناه ، وا حبيباه ، وا حسيناه ، وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد اللّه .

قالت : حتى اجتمع الناس عندي فقالوا : ما الخبر ؟ فاعلمتهم ، فجعلوا ينادون : وا سيداه ، وا مظلوماه ، واللّه ما كذبت ، فؤخ ذلك اليوم ، فكان يوم قتل الحسين عليه السلام .

قالت : فلمّا كان السحر سمع أهل المدينة نوح الجن على الحسين عليه السلام ، وجاءت منهم جنيّة تقول :

ألا يا عين فانهملي بجهدي

فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا

إلى متكبّر في الملك وغد

فاجابتها جنيّة أخرى :

مسح النبي جبينه

وله بريق في الخدود

أبواه من أعلى قريش

وجدّه خير الجدود

ص: 272

زحفوا عليه بالقنا

شرّ البرية والوفود

قتلوه ظلما ويلهم

سكنوا به نار الخلود

فلمّا سمع أهل المدينة ذلك حثوا التراب على رؤسهم ، ونادوا وا حسيناه ، وا ابن بنت نبياه ، ومضوا إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعزّونه بولده الحسين عليه السلام ، ثم إنّهمأقاموا عزاه ثلاثة أيام .

قالت أم سلمة : فلمّا كان الليل طار رقادي ، وكثر سهادي ، وأنا متفكّرة في أمر الحسين عليه السلام ، فبينما أنا كذلك وإذا بقائل يقول :

إنّ الرماح الواردين صدورها

دون الحسين تقاتل التنزيلا

فكأنّما بك يا ابن بنت محمد

قتلوا جهارا عامدين رسولاً(1)

فسبحان اللّه ، أيّ ظلم يجري على أرباب المنبر والمحراب ، وأمناء الكتيبة والكتاب !

فعلمري ينوح عليهم لسان الصلوات ، وتندبهم أذكار الخلوات ، تبكيهم الصلاة والصيام ، والسنن والأحكام .

وكأنّي ألمح نحوهم وأراهم إذ هم موتورون من بين الورى ، يستنصرون فلا ينصرون ، ويستغيثون فلا يغاثون ، وينادون فلا يجابون !

فكم من نداء ، وا جدّاه ، وا أبتاه ، وا أخاه ، قد علا في أرض كربلاء !

وكم من شموس منكسفة ، وبدور منخسفة ، ونجوم منكدرة ، ووجوه منعفرة ، قد حشرت في تلك الفلا ، كأنّها أقامت القيامة الكبرى !

فقل للعلى بعده لا حييت

فمن بعده تبتغي الموئلا

وقل للمحامد والمكرمات

خذا للبكاء وله فاعولا

وقل للصلاة ونيل الصلات

تعطلتما بعد لو تعقلا

ص: 273


1- مدينة المعاجز : 4/192 ح271 .

وقل للفضائل نوحي أسى

وسحّي له دمعك المسبلا

فهذا عماد الورى في الثرى

صريعا على الترب ما غسّلا

وعيبة علم بحر الصعيد

وكنز هدى في الثرى جدّلا

تكفّنه الريح من مورها

وتلحقه برده المسدلا

ويحطمه كلّ رخو العنان

عراه الردى مدبرا مقبلا

ألا يا غياث الورى والملا

إذا عضل الخطب أو أشكلا

لقد عثّ في آلك الملحدون

وما أنت حرّمته حلّلا

ولو كنت شاهدت يوم الطفوف

لشاهدت أمرا بها مهولا

وشاهدت سبطك فوق الرخام

على رغم أنف التقى والعلا

تعّل الصوارم من جسمه

وتورده سمره منهلا

وقد رفعوا رأسه في القنا

يضاهي على سفكها الأغزلا

ورضّوا جناحيه ويلهم

بجرد الخيول وقب الكلا

أما والمشاعر لولا سناه

لمادت بهم غضبا كربلا

شهادة أولاد أمير المؤمنين علي عليهم السلام

اشارة

اعلم أنّه بعد أن قتل أكثر أقارب سيد الشهداء عليه السلام وأهل بيته ، ونالوا مراتب الشهادة والسعادة ، وقتل أولاد الإمام الحسن عليهم السلام ، تقدّم إخوة الحسين عليه السلام .

وكانوا ستة - على أشهر الروايات - أربعة منهم لأم واحدة وهم : العباس ، وعثمان ، وجعفر ، وعبد اللّه عليهم السلام ، وأمّهم أم البنين بنت حزام بن خالد .

وأبو بكر بن علي عليهماالسلام وأمّه ليلى .

وعمر بن علي عليهماالسلام ، لم تذكر أمّه في كتب المقاتل .

لمحة عن فضائل أبي الفضل العباس عليه السلام

ص: 274

كان العباس عليه السلام أكبر إخوانه(1) ، وله فضل ومنزلة خاصة به ، روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : وكانت أم البنين أم هؤاء الأربعة الإخوة القتلى تخرج إلى البقيع ، فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها ، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي(2)(3) ! !

روى الشيخ الصدوق رحمه الله في الأمالي والخصال عن أبي حمزة الثمالي قال : نظر سيد العابدين علي بن الحسين عليهماالسلام إلى عبيد اللّه بن عباس بن علي بن أبي طالب ، فاستعبر ثم قال : ما من يوم أشدّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله من يوم أحد ، قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب ، أسد اللّه وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب .

ثم قال عليه السلام : ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام ، إزدلف عليه ثلاثون ألف رجل يزعمون

أنّهم من هذه الأمّة ، كلّ يتقرّب إلى اللّه - عزّ وجلّ - بدمه ، وهو باللّه يذكرهم فلا يتّعظون حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا .

ص: 275


1- قال المؤلف بعد قوله : « كان العباس عليه السلام أكبر إخوانه » : « وقد حاز مواريثهم لأنّه آخر من قتل منهم » ! وهذا كلام صاحب مقاتل الطالبيين ، وليس له أصل لا في التاريخ ولا في الفقه الإمامي الحقّ ، وإن هي إلاّ فرية ارتكبها أبو الفرج .
2- بحار الأنوار : 45/40 بقية الباب 37 .
3- لقد كانت ندبة أم البنين عليهاالسلام مشجية حقّا « صم الصخور لهولها تتألم » ، ولكن ذلك لا يعني أبدا أن يرقّ قلب الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فقد يستفاد من قول أبي الفرج أنّ ندبة أمّ البنين عليهاالسلام كانت محرقة للقلوب بحيث تأثّر بها مروان على قساوته ، إلاّ أنّ هذا ممّا لا يمكن أن يتصوّره في حقّ هذا اللعين ، وهو الذي حارب أهل البيت عليهم السلام ، ولم يفتر لحظة من عمره المشؤوم ، وهو الذي ألّب عليهم وحرّض وكاد لهم أحياءا وأمواتا ، وهو المتشفي بقتل الحسين عليه السلام ، وقد أظهر الفرح والشماتة بقوله لما نظر الى رأس الحسين عليه السلام : يا حبّذا بردك في اليدين ولونك الأحمر في الخدينكأنّه بات بعسجدين شفيت نفسي من دم الحسين

ثم قال عليه السلام : رحم اللّه العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه ، فأبدله اللّه - عزّ وجل - بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وإنّ للعباس عند اللّه - تبارك وتعالى - منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة(1) .هذا ، وجلالة العباس ومنزلته وقدره أكبر من أن يحويه تحرير أو يحصره تقرير ، وأعظم من أن يحتاج الى بيان وتنوير ، وترى في كلّ عصر من الأعصار ظهور الكرامات عند ضريحه المقدّس ، وهي تملأ الأسماع وتغشى الأبصار ، وقد شهدت بنفسي له كرامة أيام كنت مجاورا في الحائر ، في السنة الماضية في شهر رجب سنة 1236 هجرية ، حيث قطع أصبع أحد الخائنين الذي لصقت كفّه الضريح المقدّس ، وقد شاهده كلّ من كان حاضرا(2) .

أجل ، ينبغي البكاء على مظلوميته ، وإذا جرت الدموع عليه فلتطلب الحوائج من جبار السماوات ، فإنّه « باب الحوائج » .

وكيف لا يبكي الشيعة في مصيبته ، ومقامه ليس أقلّ من مقام عمار بن ياسر وقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّ من لا يبكي في مصيبته فليس له حظ في الإسلام ، كما ورد في الخبر أنّ عمارا سقط شهيدا ، فلمّا كان الليل طاف أمير المؤنين عليه السلام في القتلى ، فوجد عمارا ملقى ، فجعل رأسه على فخذه ، ثم بكى عليه السلام ، وأنشأ يقول :

ألا أيّها الموت الذي هو قاصدي

أرحني فقد أفنيت كلّ خليل

أراك بصيرا بالذين أحبّهم

كأنّك تمضي نحوهم بدليل

ص: 276


1- الأمالي للصدوق : 462 المجلس 70 ح10 .
2- انظر الكرامة في الكرام البررة للآقا بزرگ الطهراني 1/346 في ذكر حياة المؤلف .

ثم قال : إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، إنّ امرأ لم يدخل عليه مصيبة من قتل عمار فما هو في الإسلام من شيء ، ثم صلّى عليه(1) .

وبالجملة ، لمّا وصلت النوبة الى إخوة العباس عليهم السلام قاموا مسرعين على الموت دون الحسين عليه السلام عازمين .

شهادة أبي بكر بن علي عليهماالسلام

فأوّل من خرج منهم أبو بكر بن علي ، واسمه عبد اللّه (2) ، وأمّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي التميمية ، فتقدّم وهو يرتجز :

شيخي علي ذو الفخار الأطول

من هاشم الصدق الكريم المفضل

هذا حسين بن النبي المرسل

عنه نحامي بالحسام المصقل

تفديه نفسي من أخ مبجل

فلم يزل يقاتل حتى قتله زجر بن بدر النخعي .

شهادة عمر بن علي عليهماالسلام

ثم برز من بعده أخوه عمر بن علي ، فاستأذن الحسين عليه السلام في مبارزة الأشرار وإلحاق قاتل أخيه بالكفار والفجار في دركات النار ، فبرز وهو يقول :

أضربكم ولا أرى فيكم زجر

ذاك الشقي بالنبي قد كفر

يا زجر يا زجر(3) تدان من عمر

لعلك اليوم تبوأ من سقر

شرّ مكان في حريق وسعرلأنّك الجاحد يا شرّ البشر

ثم حمل على زحر قاتل أخيه فقتله ، واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضربا منكرا ، وهو يقول :

خلّوا عداة اللّه خلّوا عن عمر

خلّوا عن الليث العبوس المكفهر

يضربكم بسيفه ولا يفرّ

وليس فيها كالجبان المنجحر

ص: 277


1- بحار الأنوار : 33/20 باب 13 .
2- في البحار : « عبيد اللّه » .
3- في البحار : « زحر » في المواضع كلّها .

فلم يزل يقاتل حتى أحاطوا به فقتل .

شهادة عثمان بن علي عليهماالسلام

ثم برز من بعده أخوه عثمان بن علي ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، وروي عنعلي عليه السلام أنّه قال : إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مظعون ، وأمّه أمّ البنين بنت حزامبن خالد من بني كلاب ، وهو يقول :

[ إنّي أنا عثمان ذو المفاخر

شيخي علي ذو الفعال الظاهر

وابن عمّ للنبي الطاهر

أخي حسين خيرة الأخاير

وسيد الكبار والأصاغر

بعد الرسول والوصي الناصر ]

فجعل خولي بن يزيد الأصبحي سهما في كبد قوسه فرماه على جبينه ، فسقط عن فرسه ، وجزّ رأسه(1)(2) .

شهادة جعفر بن علي عليهماالسلام

ثم برز من بعده أخوه جعفر بن علي عليهماالسلام ، وكان ابن تسع عشرة سنة ، وأمّه أمّ البنين أيضا ، فاستأذن الحسين عليه السلام ثم خرج وهو يقول :

إنّي أنا جعفر ذو المعالي

ابن علي الخير ذو النوال

حسبي بعمّي شرفا وخالي

أحمي حسينا ذي الندى المفضال

ثم قاتل ، فرماه خولي الأصبحي ، فأصاب شقيقته أو عينه .

شهادة عبد اللّه بن علي عليهماالسلام

ثم برز أخوه عبد اللّه بن علي عليهماالسلام وهو يقول :

أنا ابن ذي النجدة والإفضال

ذاك علي الخير ذو الفعال

سيف رسول اللّه ذو النكال

في كلّ قوم ظاهر الأهوال

ص: 278


1- في البحار : « وجزّ رأسه رجل من بني أبان بن حازم » .
2- بحار الأنوار : 45/38 .

قال أبو الفرج : قتل عبد اللّه بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو ابن خمس وعشرين سنة ، ولا عقب له .

وقال العباس بن علي عليهماالسلام لأخيه من أبيه وأمّه عبد اللّه بن علي تقدّم بين يديّحتى أراك وأحتسبك ، فإنّه لا ولد لك(1) ، فتقدّم بين يديه ، وشدّ عليه هانئ بنثبيت الحضرمي فقتله .

وروي أنّ العباس بن علي عليهماالسلام قدّم أخاه جعفرا بين يديه ، فشدّ عليه هانئ بن ثبيت الذي قتل أخاه فقتله(2) .

حملة حامل اللواء

لمّا رأى العباس عليه السلام جميع عسكر الحسين عليه السلام قتلوا وإخوانه وبنو عمّه بكى والى

لقاء ربّه إشتاق وحنّ ، فهو يرى أخاه المظلوم وحيدا فريدا بين الأعداء والهموم والغموم تحيط بهم من كلّ جانب ومكان ، فتختطف الصبر والجلد من القلوب ، ويرى من جهة أخرى غربة النساء ويسمع صرخاتهن واستغاثة الأطفال وهم ينادون العطش ، فعزم حينئذ على منازلة القوم .

وكان العباس رجلاً وسيما جميلاً يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض ، وكان يقال له « قمر بني هاشم » ، وكان لواء الحسين عليه السلام معه(3) .

فلمّا رأى العباس وحدة أخيه عليه السلام أتى أخاه وقال : يا أخي هل من رخصة ؟ فبكى الحسين عليه السلام بكاء شديدا ، ثم قال : يا أخي ، أنت صاحب لوائي ، وإذا مضيت تفرّق عسكري ، فقال العباس : قد ضاق صدري ، وسئمت من الحياة ، وأريد أن أطلب ثأري من هؤاء المنافقين(4) .

ص: 279


1- أي أنّك لا تعلّق لك بالدنيا . منه رحمه الله .
2- بحار الأنوار : 45/39 .
3- بحار الأنوار : 45/39 بقية الباب 37 .
4- بحار الأنوار : 45/39 .

فقال الحسين عليه السلام : فاطلب لهؤاء الأطفال قليلاً من الماء(1) .

الأمير الوفي في ميدان كربلاء

فلمّا أجاز الحسين عليه السلام أخاه العباس للبراز ، برز كالجبل العظيم ، وقلبه كالطود الجسيم ، لأنّه كان فارسا هماما ، وبطلاً ضرغاما ، وكان جسورا على الطعنوالضرب في ميدان الكفاح والحرب .

فلمّا توسّط الميدان وقف وقال : يا عمر بن سعد هذا الحسين ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول لكم : إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه ، وبقي فريدا مع أولاده ، وهم عطاشى ، قد أحرق الظمأ قلوبهم ، فاسقوه شربة من الماء ، لأنّ أطفاله وعياله وصلوا الى الهلاك ، وهو مع ذلك يقول لكم : دعوني أخرج الى أطراف الروم والهند ، وأخلّي لكم الحجاز والعراق ، والشرط لكم أنّ غدا في يوم القيامة لا أخاصمكم عند اللّه حتى يفعل اللّه بكم ما يريد .

فلمّا أوصل العباس عليه السلام اليهم الكلام عن أخيه ، فمنهم من سكت ولم يردّ جوابا ، ومنهم من جلس يبكي ، فخرج الشمر وشبث بن ربعي - لعنهما اللّه - ، فجاء نحو العباس عليه السلام وقال : يا ابن أبي تراب قل لأخيك : لو كان كلّ وجه الأرض ماءا ، وهو تحت أيدينا ما أسقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد .

فتبسّم العباس ومضى الى أخيه الحسين ، وعرض عليه ما قالوا ، فطأطأ رأسه الى الأرض وبكى حتى بلّ أزياقه .

سقّاء كربلاء يتّجه نحو الفرات

فسمع الحسين عليه السلام الأطفال ينادون : العطش ، فلمّا سمع العباس عليه السلام ذلك رمق بطرفه الى السماء وقال : إلهي وسيدي أريد أن أعتدّ بعدّتي ، وأملى ء لهؤلاء الأطفال

ص: 280


1- بحار الأنوار : 45/41 بقية الباب 37 .

قربة من الماء ، فركب فرسه ، وأخذ القربة وتوجّه نحو الميدان(1) .

وملخّص ما ذكره الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس وابن نما - رحمهم اللّه - في المقام :

واشتد العطش بالحسين عليه السلام ، فركب المسناة يريد الفرات والعباس أخوهبين يديه ، فاعترضه خيل ابن سعد ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم فقال لهم : ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكنوه من الماء ، فقال الحسين عليه السلام : اللّهم أظمئه ، فغضب الدارمي ورماه بسهم ، فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزع عليه السلامالسهم ، وبسط يده تحت حنكه حتى امتلأت راحتاه من الدم ، ثم رمى به وقال : اللّهم إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك(2) .

ثم اقتطعوا العباس عنه ، فحملوا عليه ، وحمل عليهم ، فجعل يقاتلهم وحده ، وجعل يقول(3) :

لا أرهب الموت إذا الموت رقا

حتى أوارى في المصاليت لقى

نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا

إنّي أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى(4)

وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَهُمْ يَمينا وَشِمالاً ، وَقَتَلَ رِجالاً ، فَكَشَفَهُمْ عَنْ الْمَشْرَعَةِ ، وَنَزَلَ وَمَعَهُ الْقِرْبَةُ ، فَمَلأَها ، وَمَدَّ يَدَهُ لِيَشْرَبَ ، فَذَكَرَ عَطَشَ الْحُسَيْنُ عليه السلام ، فَقالَ : وَاللّهِ لا ذُقْتَ الماءَ وَسَيِّديَ الْحُسَيْنُ عليه السلام عَطشانٌ ، ثُمَّ رَمى الماءَ مِنْ يَدِهِ .

يا نفس هوني فالحسين معطش

وبنوه والحرم المطهّر أجمع

ص: 281


1- المنتخب : 2/306 .
2- الإرشاد : 2/108 .
3- بحار الأنوار : 45/50 الباب 37 .
4- بحار الأنوار : 45/40 الباب 37 .

واللّه ما أشرب من الماء قطرة

وأخي حسين في العراق مضيع(1)

وَخَرَجَ وَالْقِرْبَةُ عَلَى ظَهْرِهِ ، ثُمَّ صَعَدَ مِنَ الْمَشْرَعَةِ ، فَاَخَذَهُ النَّبْلُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ حَتّى صارَت دِرْعُهُ كَالْقُنْفُذِ من كثرة السهام .وبينا هو يقاتلهم حتى فرّقهم كمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة - وقيل : الأبرش بن سنان(2) - ، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ، فضربه على يمينه ، فأخذ السيف بشماله وحمل وهو يرتجز :

واللّه إن قطعتم يميني

إنّي أحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

نجل النبي الطاهر الأمين

فقاتل حتى ضعف ، فكمن له الحكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة - وقيل : عبد اللّه بن يزيد - ، فضربه على شماله ، فقال :

يا نفس لا تخشى من الكفّار

وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرّ النار(3)

مصرع أبي الفضل العباس عليه السلام

فحمل القربة بأسنانه ، وروي أنّه أخذ السيف بأسنانه ، وجعل يحمل عليهم ويشقّ طريقه نحو الخيام ، وَيَداهُ يَنْضخانِ دَما ، فضعف عن القتال ، فجاء سهم من

ص: 282


1- الأبيات المعروفة ما ذكر في المصادر :يا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الْحُسَيْنِ هُوني فَبَعْدُهُ لا كُنْتِ اَنْ تَكُونيهذا الْحُسَيْنُ شارِبُ الْمَنونِ وَتَشْرَبينَ بارِدَ الْمَعينِهَيْهاتَ ما هذا فَعالُ ديني وَلا فِعالُ صادِقِ الْيَقينِ
2- في مقتل أبي مخنف : « الأبرص » .
3- بحار الأنوار : 45/41 .

لعين فأصاب القربة ، فانفرت وأريق ماؤها ، وضربه لعين آخر بعمود على رأسه ، ففلق هامته الشريفة(1) ، وروي أنّ لعينا آخر رماه بسهم آخر في صدره ، فانقلب عن فرسه(2) .

فهوى له المجد الأثيل وزعزعت

سبع الشداد وجلّ منه المصرع

فبكت لمصرعه الشجاعة بالدما

ومن السماء بكت عيون تدمع

وقوف سيد الشهداء عليه السلام على مصرع العباس عليه السلام

لهفي له ، وقع على الأرض وهو ينادي : يا أبا عبد اللّه عليك منّي السلام ، وروي أنّه نادى : يا أخا أدرك أخاك .

فلمّا سمع سيد الشهداء عليه السلام صوت المقتول المظلوم ركب فرسه وانقض على الأعداء ففرقهم عنه ، فرآه مقطوع اليدين ، مفضوخ الرأس ، مفلوق الهامة ، مرمّلاً بالدماء ، فبكى بكاءا شديدا وقال : الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي(3) .

كسروا بقتلك ظهر سبط محمد

وبكسره انكسرت قوى الإسلام

قطعوا بقطع يديك أيدي السبط

وانقطعت به أيدي النبي السامي

قال الشيخ فخر الدين الطريحي رحمه الله :

فلمّا رأى الحسين عليه السلام أخاه وقد انصرع صرخ : وا أخاه وا عباساه وا مهجة قلباه ، يعزّ واللّه عليّ فراقك ، ثم حمل على القوم وكشفهم عنه ، ثم نزل اليه فحمله على ظهر جواده ، وأقبل به الى الخيمة ، فطرحه وهو يبكي حتى أغمي عليه(4) .

هذا ، ولم يستفاد حمله الى الخيمة من كلام الآخرين .

ص: 283


1- المنتخب : 2/431 .
2- المنتخب : 2/307 .
3- انظر بحار الأنوار : 45/42 .
4- المنتخب : 2/430 .

إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ

ص: 284

ص: 285

المجلس التاسع: في شهادة فرع حيدر الكرار عليه السلام وشبيه النبي المختار صلى الله عليه و آله المولى علي الأكبر عليه السلام

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه العليم الخبير ، الذي ليس له شريك ولا وزير ، ولا كفو ولا نظير .

والصلاة والسلام على البشير النذير ، السراج المنير ، محمد المنعوت في جميع الصحف والطوامير ، وعلى خلفائه وأوصيائه المصابيح في الدياجير ، وأهل التوحيد والتحميد في جميع الأزمنة والدهارير .

خصوصا على شبله المظلوم بلا محام ولا نصير ، ونجله الشهيد الوحيد ، الأسير بأيدي الكلاب والخنازير ، مفزع كلّ مضطرّ خفير ، وملجأ كلّ ملهوف كسير ، مقطوع الأعضاء من السيف والسنان والزماجير ، مرضوض الأضلاع من الأحجار والزنانير ، مسبيّ العيال ، منهوب الأموال ، مقتول الأعوان من الصغير والكبير .

مقطوع الكلام من النعير والنفير ، ضعيف الكلام والصرير ، ذي الشيب الخضيب ، والجسد السليب ، والوجه العفير ، والظهر الكسير ، والنحر النحير ، والقلب الحصير ، والجسد المطروح كالوغير ، والجسم الذابل من الهجير ، المكفّن بالعشير ، المغسّل بماء جرى من السيف الأثير ، مزور العقبان والنسور والعصافير .

ص: 286

الذي أيتموا أطفاله ، ونهبوا عياله ، فحملوهم على الأخادير الى الفسيق الخمّير ، والكفور الشرير .

فيا عجباه ، بنات بني سفيان في الحصون والمقاصير ، وبنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله أسارى حيارى بين أرباب الفجور والمناكير ، وأهل العصاة والمزامير .

فهذا ما نظر اليه العقل كلّ خاسى ء وهو حسير ، فلعنة اللّه على من أجرى هذا الأمر العظيم الخطير .

وبعد ، قال اللّه تعالى :

« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالَّثمَراتِ وَبَشِّرِ

الصّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ » .

* * *

المشيئة الإلهية وإبتلاء العباد

اعلم ، أنّ الربّ - تبارك وتعالى - عالم بخفايا الأمور ، وعارف بحقائق الأشياء ، وظاهر كلّ شيء وباطنه عنده ظاهر ، وعلمه بالأشياء قبل خلقها وبعد خلقها على حدّ سواء .

فهو لا يحتاج إذن الى تمييز المطيع من العاصي ، ولم يكلّف عباده للإمتحان ، ولكنّه - عزّ وجلّ - آلى على نفسه أنّ يتمّ حجّته على عباده ، لئلا يكون لعباده حجّة

عليه جلّت قدرته .

فمثلاً : إذا أراد أحد أن يختبر الآخرين ليميز السعيد من الشقي ، فإنّه يكلّفهم بتكاليف ، ويبتليهم ببلايا ومحن ، ليعلم المطيع من العاصي ، ويميز الشاكر والصابر عن غيرهما .

أمّا التكاليف الإلهية ، فإنّها تكاليف قائمة على المصالح الذاتية والحكم الواقعية ، وتلك المصالح هي التي تؤدي الى إختلاف الأحكام ، فحسن الأفعال يلزم الأمر بها ،

ص: 287

وقبحها يلزم النهي عنها ، والعاقل يدرك الحقيقة والنورانية في الواقع فيدرك أنّ عليه الإتيان بالفعل ، ولو أنّه أدرك قبح المعصية في الواقع لأدرك لزوم إجتنابها .

أجل ، إنّ اللّه - عزّ وجلّ - لم يجعل الدنيا دار قرار ودعة وراحة ونعم خالصة من التنغيص ، بل أمرنا أن نتّخذها عدوّا ، ولم ينظر اليها منذ أن خلقها ، ولم تعدل عنده جناح بعوضة(1) ، وهو يحبّ لعباده أن لا تستميلهم ، وأن لا يتّخذوها دار قرار وراحة ، وقد ورد : حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة(2) .

ولكن خوان النعمة إذا بسط بألوان الأطعمة والملذّات فما أقلّ النفوس التي تنضبط وتتمنّع ، ولهذا جعل اللّه الإبتلاء لعباده ، فقد يبتلي عبده بالفقر والهموم ، وقد يبتليه بالمرض والعجز ، وقد يبتليه بمن يظلمه ويؤذيه .

وليس ذاك إلاّ من أجل سعادة العبد ، تماما كما يصنع الطبيب مع المريض إذا منعه عن الأطعمة اللذيذة وأمره بشرب الدواء المرّ ، فإنّ المريض سيجد طعم اللذائذ بعد حين ، ويقتطف ثمار أوامره في صحته وعافيته وحياته واستمرار بقائه وما يجده من متعة ولذة في مطعمه ومشربه . . فيعلم بعد حين ما للطبيب من حقّ عظيم عليه ، فيما يتضايق أصحاب النفوس الضيقة والعقول الضعيفة من أوامره وينزعجون منها ، بل قد يتصورونه عدوا حسودا .

ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله قال : إنّ اللّه يتعاهد وليّه بالبلاء كما يتعاهد المريض أهله بالدواء ، وإنّ اللّه ليحمي عبده الدنيا كما يحمي المريض من الطعام(3) .

وعن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : إنّ اللّه - تبارك وتعالى - ليتعاهد المؤنبالبلاء ، إمّا بمرض في جسده ، أو بمصيبة في أهل أو مال ، أو مصيبة من مصائب الدنيا ليأجره عليها (4) .

ص: 288


1- انظر الكافي 2/246 ح5 وغيره من المصادر .
2- انظر نهج البلاغة قصار الجمل : 253 .
3- بحار الأنوار : 64/236 ح54 .
4- بحار الأنوار : 64/237 .

الإختبار الإلهي وبشرى الصابرين

بعد أن عرف العاقل هذه المقدّمة عليه أن يرقى الى مقام الصبر ، لتشمله البشرى في قوله : « وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ » .

اعلم ، أنّ للبلاء في هذه الدنيا مراتب تختلف باختلاف الأشخاص ومستويات وعيهم ومعرفتهم ، كما روي عن فخر الكائنات : إنّ البلاء للظالم أدب ، وللمؤمن إمتحان ، وللأنبياء درجة ، وللأولياء كرامة(1) .

ومن هنا يعلم كم في هذه الإبتلاءات من حكم ، وذلك لأنّ أقلّ مراتبها تأديب للمبتلى على سوء أفعاله ، وكفارة لقبائح أعماله ، أو أنّها تغدو سببا لإستحقاق النعم

الباقية ، والجنات العالية ، وكلّ نعيم دون الجنّة صغير ، وكلّ بلاء دون النار يسير(2) .

إنّ اللّه - تبارك وتعالى - يحبّ أولياءه ، وليس له مصلحة في إبتلائهم ، وإنّما يبتليهم بأنواع البلاء ليقرّبهم منه ، ويؤهلهم لنيل ألطافه ، قال الصادق عليه السلام : إنّ في الجنّة لمنزلة لا يبلغها العبد إلاّ ببلاء في جسده(3) .

هذه البلايا عطايا ومواهب سنية ينبغي أن يصبر عليها ، بل يشكر عليها ، وذلك لأنّ هذه البلايا إن كانت مطهرة من خبائث المعاصي فهي نتيجة أعظم من البلايا نفسها ، وإن كانت تستلزم الأجر فالنتيجة أعظم من مرارة ما تخلفه البلايا ، إنّه يريد أن يعرفك عليه ، وأنت تهرب منه ! إنّ اللّه يحبّ القلوب المنكسرة ،والأبدان المتعبة الخاضعة ، فإنّ اللّه إذا أحبّ عبدا جعل في قلبه نائحة من الحزن(4) .

ص: 289


1- بحار الأنوار : 64/235 ح54 .
2- جامع الأخبار : 117
3- بحار الأنوار : 62/237 .
4- في عدّة الداعي : 168 العاشر البكاء حالة الدعاء : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا أحبّ اللّه عبدا نصب في قلبه نائحة من الحزن ، فإنّ اللّه يحبّ كلّ قلب حزين ، وإنّه لا يدخل النار من بكى من خشية اللّه تعالى حتى يعود اللبن إلى الضرع ، وإنّه لا يجتمع غبار في سبيل اللّه ودخان جهنم في منخري المؤن أبدا ، وإذا أبغض اللّه عبدا جعل في قلبه مزمارا من الضحك ، وإنّ الضحك يميت القلب ، واللّه لا يحبّ الفرحين .

إنّ اللّه يحبّ العيون الباكية والصدور الحزينة ، وقد قال تعالى : أنا عند المنكسرة قلوبهم والمندرسة قبورهم(1) .

وهذا من أوضح الواضحات ، ومن الواضح أيضا أن ابتلاء الأولياء والمقربين لا يكون إلاّ لرفع درجاتهم ورفع مقاماتهم ، كما مرّ في الحديث السابق .

والمقرّبين لا يبلغون المقامات العالية إلاّ بالصبر على ما يرد عليهم ، وأجر الصابرين لا يحدّ ولا يحصى ، وذلك لأنّ المقامات العالية مقرونة عند اللّه بالصبر والتضرّع ، قال تعالى : « وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً » .

وقال تعالى : « سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ » .

وورد في الحديث : أنّ الصبر نصف الإيمان(2) .

وقال تعالى : « وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا » .

أجل ، إنّهم تحمّلوا الأتعاب والأوصاب ، صبروا على بلايا الناس ، وتمرّد الأمم ، رموهم بالحجارة ، جرحوا وجوههم ورؤوسهم ، ألقوهم في النيران ، نشروهم بالمناشير ، ذبحوهم ومثّلوا بهم ، سجنوهم وعذّبوهم ، استهزؤا بهم ، واتهموهم بالسحر والكهانة والكذب ! إلاّ أنّهم صبروا ، ثم صبروا .

صبر خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله وذكر بعض مصائب أهل البيت عليهم السلام

صبر الأنبياء والأولياء جميعا ، غير أنّ صبرهم لم يبلغ صبر خاتم الأنبياء والمرسلين ، ولهذا لم يبلغ أحدهم درجته قط .

روى عن الإمام الصادق عليه السلام قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه و آله قيل له : إنّ اللّه مختبركفي ثلاث ، لينظر كيف صبرك ؟

قال : أسلّم لأمرك يا ربّ ، ولا قوّة لي على الصبر إلاّ بك ، فما هن ؟

ص: 290


1- كشف الخفاء : 2/325 .
2- بحار الأنوار : 79/137 باب 18 .

قيل : أولهن الجوع والإثرة على نفسك ، وعلى أهلك لأهل الحاجة .

قال : قبلت يا ربّ ورضيت وسلّمت ، ومنك التوفيق والصبر .

وأمّا الثانية : فالتكذيب والخوف الشديد ، وبذلك مهجتك فيّ ، ومحاربة أهل الكفر بمالك ونفسك ، والصبر على ما يصيبك منهم من الأذى ، ومن أهل النفاق ، والألم في الحرب والجراح .

قال : يا ربّ قبلت ورضيت وسلّمت ، ومنك التوفيق والصبر .

وأمّا الثالثة : فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل :

أمّا أخوك ، فيلقى من أمّتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجهد والظلم ، وآخر ذلك القتل .

فقال : يا ربّ سلّمت وقبلت ، ومنك التوفيق والصبر .

وأمّا ابنتك ، فتظلم وتحرم ، ويؤذ حقّها غصبا الذي تجعله لها ، وتضرب وهي حامل ، ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن ، ثم يمسّها هوان وذلّ ، ثم لا تجد مانعا ، وتطرح ما في بطنها من الضرب ، وتموت من ذلك الضرب .

قال : إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، قبلت يا ربّ ، وسلّمت ، ومنك التوفيق والصبر .

ويكون لها من أخيك ابنان ، يقتل أحدهما غدرا ، ويسلب ويطعن ، يفعل به ذلك أمّتك .

قال : قبلت يا ربّ ، وإِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، وسلّمت ، ومنك التوفيق والصبر .

وأمّا ابنها الآخر ، فتدعوه أمّتك إلى الجهاد ، ثم يقتلونه صبرا ، ويقتلون ولده ومن معه من أهل بيته ، ثم يسلبون حرمه ، فيستعين بي ، وقد مضى القضاء منّي فيه بالشهادة له ولمن معه ، ويكون قتله حجّة على من بين قطريها ، فتبكيه أهلال سماوات والأرضين جزعا عليه ، وتبكيه الملائكة(1) . . .

والحديث طويل أخذنا منه هذا القدر .

ص: 291


1- كامل الزيارات : 332 الباب 108 ح11 ، بحار الأنوار : 28/61 باب 2 ح24 .

مصيبة الحسين عليه السلام أعظم المصائب

عزيزي القارى ء ، إنّ جميع الإبتلاءات عظيمة ، ولكنّ الإبتلاء الأخير كان أعظمها طرّا ، وذلك أنّي لم أجد في كتاب أنّه صلى الله عليه و آله بكى لإبتلائه بالجوع أو الفقر أو

الفاقة ، بل حتى على تكذيبه أو جفائهم ، ولكنّه كلّما ذكر مظلومية أهل بيته بكى ، وكلّما ذكر أنّ سهما يصيب صدر ولده ويسقط الى الأرض ، تنهمر دموع الحسرة والتلّهف على لحيته المباركة .

وكلّما ذكر رأس ابنه مرفوعا على السنان ، وأنّه يهدى الى ابن معاوية يضطرب ويبكي ويغسل وجهه بدموعه .

روى ابن قولويه بسند معتبر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا دخل الحسين عليه السلام اجتذبه إليه ، ثم يقول لأمير المؤنين عليه السلام : امسكه ، ثم يقع عليه فيقبّله ويبكي ، فيقول : يا أبة لم تبكي ؟ فيقول : يا بني أقبّل موضع السيوف منك وأبكي ، قال : يا أبة ، وأقتل ؟ قال : إي واللّه ، وأبوك ، وأخوك ، وأنت ، قال : يا أبة ، فمصارعنا شتى ؟ قال : نعم ، يا بني ، قال : فمن يزورنا من أمّتك ؟ قال : لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلاّ الصديقون من أمّتي(1) .

أجل ، كان تصوّر قتله عليه السلام صعبا عليه صلى الله عليه و آله ، فكيف به لو كان حاضرا ورأى ابنه

صريعا على الأرض مرمّلاً بدمائه ؟

ولنعم ما قال السيد الرضي رحمه الله :

لو رسول اللّه يحيى بعده

قعد اليوم عليه للعزا

يا رسول اللّه لو عاينتهم

وهم ما بين قتل وسبى

من رميض يمنع الظلّ ومن

عاطش يسقى أنابيب القنا

ليس هذا لرسول اللّه يا

أمّة الطغيان والغي جزا

ص: 292


1- كامل الزيارات : 70 الباب 22 ح4 ، بحار الأنوار : 44/261 باب 31 ح14 .

غارس لم يأل في الغرس لهم

فأذاقوا أهله مرّ الخنا

جزروا جزر الأضاحي نسله

ثم ساقوا نسله سوق الإما

معجلات لا يوارين ضحى

سنن الأوجه أو بيض الطلا

هاتفات برسول اللّه في

بهرج السعي وعثرات الخطا

يا قتيلاً قوّض الدهر به

عمد الدين وأعلام الهدى

قتلوه بعد علم منهم

أنّه خامس أصحاب الكسا

وصريعا عالج الموت بلا

شدّ لحيين ولا مدّ ردى

غسّلوه بدم الطعن وما

كفّنوه غير بوغاء الثرى

حملوا رأسا يصلّون على

جدّه الأكرم طوعا وإبا

كيف لم يستعجل اللّه لهم

بانقلاب الأرض أو رجم السما

صبر سيد الشهداء عليه السلام

لقد صبر أولياء اللّه المقربين على المصائب والبلايا ، وتحمّلوا المشاق العظيمة في سبيل المحبوب ، ولكنّك لو تأملت بعين الأنصاف وجدت سيد الشهداء الحسين عليه السلام قد فاقهم جميعا في مقام الصبر ، وتحمّل البلاء ، وذلك لأنّ رزيّته أعظم الرزايا ، ومصيبته لم تكن مثلها مصيبة ، وبالرغم من ذلك لم يصدر منه إلاّ الصبر والرضا والتسليم .

قال سيد الساجدين عليه السلام في خطبته التي خطبها في الكوفة : أنا ابن من قتل صبرا ، وكفى بذلك فخرا(1) ! ! .

بل إنّ ما أصاب غيره من المحن والبلايا لم يبلغ عشر معشار ما أصابه عليه السلام ، ومعذلك كان صابرا شاكرا ، غير خائف ولا مضطرب ، كما روي عن الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلامعن آبائه عليهم السلام قال علي بن الحسين عليهماالسلام أنّه قال :

ص: 293


1- الإحتجاج : 2/31 .

لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام نظر إليه من كان معه ، فإذا هو بخلافهم ، لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين عليه السلام وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم .

فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت !

فقال لهم الحسين عليه السلام : صبرا بني الكرام ، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤ والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، إنّ أبي حدثني عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أنّ الدنيا سجن المؤن وجنة الكافر ، والموت جسر هؤاء إلى جنانهم ، وجسر هؤاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كذبت(1) .

لم يبلغ أحد هذه الرتبة العالية غير أبيه لمّا اقتربت وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، وضع رأسه في حجر أمير المؤمنين عليه السلام وبكى .

قال أمير المؤنين عليه السلام : فقلت : يا رسول اللّه ، ممّ بكاؤك ؟ فقال : يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي، فقلت: يا رسول اللّه، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وأخرت عنّي الشهادة ، فشقّ ذلك عليّ ، فقلت لي : أبشر فإنّ الشهادة من ورائك ، فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا ؟ فقلت: يا رسول اللّه ، ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر(2) .

صبر الحسين عليه السلام ورضاه

لقد بكى الحسين عليه السلام في مصيبة من قتل معه ، بكى في مصيبة أخوانه ، وأولاده ، وأبناء إخوته وأصحابه ، وبكى حينما سمع صراخ الأطفال والنساء :

ص: 294


1- بحار الأنوار : 44/297 باب 35 ح3 .
2- نهج البلاغة : 220 خ156 ، بحار الأنوار : 41/7 باب 99 ح8 .

العطش العطش ، ورأى غربتهم ، ولكنّ بكاءه لم يكن جزعا ، لأنّ البكاء في المصيبة لا يدلّ على الجزع وفقدان الصبر وعدم الرضا ، كيف وقد بكى النبي صلى الله عليه و آله ، وعلي المرتضى عليه السلام في هذه المصيبة كثيرا .

وكذلك بكى السلف الصالح في المصائب كما روي عن بكاء يعقوب في فراق يوسف عليهماالسلام ، وبكاء آدم عليه السلام وداود عليه السلام ، وناح نوح عليه السلام ، وبكت فاطمة عليهاالسلام في مصيبة أبيها صلى الله عليه و آله(1) .

علّة بكاء الحسين عليه السلام يوم عاشوراء

إذا أردت معرفة سبب بكاء سيد الشهداء عليه السلام يوم عاشوراء ، فعليك أن تعلم :

أولاً : لقد سمعت كرارا أنّ البكاء على مصائب أهل البيت عليهم السلام من أفضل العبادات ، وأقرب القربات ، والحزن على مصابهم من العبادات ، وهذه العبادة كما أنّها مطلوبة منك ، مطلوبة من المولى عليه السلام ، وأيّ مصيبة أعظم من قتل شباب أهل البيت عليهم السلام ، وعطش أطفالهم وغربتهم ، وبقاء نسائهم بلا حام ولا ولي .

ص: 295


1- في بحار الأنوار : 79/87 ح33 عن الخصال عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله ، وعلي بن الحسين عليهماالسلام ، فأمّا آدم عليه السلام ، فبكى على الجنّة حتى صار في خديه أمثال الأودية ، وأمّا يعقوب ، فبكى على يوسف حتى ذهب بصره ، وحتى قيل له : « تَاللّهِ تَفْتَؤا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ » ، وأمّا يوسف ، فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن ، فقالوا : إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإمّا أن تبكي النهار وتسكت بالليل ، فصالحهم على واحد منهما ، وأمّا فاطمة عليهاالسلام ، فبكت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى تأذّى بها أهل المدينة ، فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، وكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ، ثم تنصرف ، وأمّا علي بن الحسين عليهماالسلام ، فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى ، حتى قال له مولى له : إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين ، قال : « إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ » ، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة عليهم السلام إلاّ خنقتني لذلك عبرة .

وثانيا : إنّه يرى الدين والشريعة التي بذل النبي صلى الله عليه و آله سنين طويلة في نصب أعلامه ، وتشييد أركانه ، وتحمّل الغصص والآلام ، والمحن ومحاربة الأنصاب والأزلام ، وألقى علي المرتضى عليه السلام نفسه في لهوات المنايا ، وكابد البلايا والرزايا ، من أجل بناء دعائمه ، فإذا به الآن تنطمس أعلامه ، وتندرس آثاره بقتل سيد شباب أهل الجنّة ، وتنهدم مدارس الهداية ، وتزعق أبواق الضلال والعماية ، وتنتكس رايات العلم والمعرفة ، وتروج أسواق النفاق والكفر والغواية ، كلّ ذلك بقتله وإنتهاك حرمته ، فهو يبكي لذلك ، ولا يتمالك دموعه من أثر الغصة التي تعتصر قلبه المقدّس .

وإذا كان مجرد البكاء يخرجه من دائرة الصبر الى الجزع ، فلابد أن يكون الأنبياء قد خرجوا من قبله من تلك الدائرة ، والحال أنّ اللّه - عزّ وجلّ - قد نعتهم بالصابرين في كتابه الكريم مرارا ، حتى خاطب خاتم أنبيائه قائلاً : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » .

أضف الى ذلك : أن لا شكّ أنّ أولئك المقدّسين كانوا بشرا ، والغم والهم والحزن في المحن وعند نزول المصائب ، والفرح والسرور عند تحقق موجباتها ، من لوازم البشرية ، كما أنّ الجوع والعطش من لوازمها أيضا ، فالإنسان يجوع ويظمأ عندما يحتاج الى الماء والغذاء ، وكذلك يحزن عند وقوع المكاره والمصائب .

نعم ، إذا أظهر - والعياذ باللّه - أمرا مكروها ، أو شكى الخالق ، أو قال ما يخالف

رضا الربّ ، فقد خرج من دائرة الصبر والرضا .

لقد بكى يوسف حينما ألقي في السجن حتى تأذّى منه أهل السجن وضاقوا به ذرعا ، وبكى يعقوب على فراق يوسف حتى إبيضت عيناه من الحزن ، فكيف لا يبكي الحسين عليه السلام ولا تسيل دموعه وهو يرى الشهداء مطرحين على الرمضاء كالأضاحي من جهة ، ويرى غربة النساء ووحدتهن من جهة أخرى ، ويرى الأطفال يتلظّون عطشا . . ثم لا يبكي ؟ !

ص: 296

بل إنّ القلب الذي لا يحترق في مثل هذا الموقف لا يمكن أن يعدّ إلاّ في القلوب القاسية ، وقساوة القلب من الصفات القبيحة ، والخصال الرذيلة .

أقسم باللّه الذي لا إله إلاّ هو ، إنّه صبر صبرا لم يصبره أحد مثله قطّ ، ولم يسمع منه في خضم كلّ تلك الأهوال غير قوله : « إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » ، « صبرا على قضائك » .

إنّه وقف وحيدا فريدا ، وواجه ثلاثين ألفا ، وصمد أمام جبال الحديد ، وقابل النبال التي انهالت عليه كالمطر .

شهروا عليه أكثر من عشرين ألف سيف سوى الرماح ، فاستقبلها بصدره ونحره ، ولم يولّهم ظهره ، ولا داهنهم في دينه ، ولم يسمعوا منه كلمة واحدة تدلّ على المساومة ، حتى قال فيه ولده صاحب الأمر في زيارته : « قد عجبت من صبرك ملائكة السماوات »(1) .

وكيف لا تعجب منه ملائكة السماء ، وقد جاءت لنصرته فأبى ولم يأذن لهم(2) .

وجاءه في ساعة غربته ووحدته طائفة من الجن ، فسلّموا عليه وقالوا له : إنّ اللّه هدانا الى الإسلام ببركة أبيك ، فلو أذنت لنا حتى نقاتل عدوّك ونجاهد بين يديك ، فأبى وقال : إنّكم ترونهم وهم لا يرونك ، فقالوا : نتمثّل لهم ، حتى نكون في صورهم ، ونقاتل حتى نرزق الشهادة بين يديك .

فقال لهم : قد ضاق صدري من الحياة ، وإشتقت الى لقاء ربّي ، وإنّي أعلم أنّي أقتل هذا اليوم(3) .

ونقل أنّ الحسين عليه السلام لمّا كان في موقف كربلاء أتته أفواج من الجن الطيارة ،وقالوا له : نحن أنصارك ، فمرنا بما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل عدو لكم لفعلنا .

ص: 297


1- بحار الأنوار : 98/322 .
2- أمالي الصدوق : 737 ح1005 ، بحار الأنوار : 45/220 ح2 .
3- انظر أسرار الشهادة : 3/14 نقلاً عن نور الأئمة ، تذكرة الشهداء ترجمة سيد علي جمال أشرف : 362 .

فجزّاهم خيرا وقال لهم : إنّي لا أخالف قول جدّي رسول اللّه حيث أمرني بالقدوم عليه عاجلاً ، وأنّي الآن قد رقدت ساعة ، فرأيت جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد ضمّني الى صدره ، وقبّل بين عيني وقال لي : يا حسين ، إنّ اللّه - عزّ وجلّ - شاء أن يراك مقتولاً ملطخا شيبتك بدمائك ، مذبوحا من قفاك ، وقد شاء اللّه أن يرى حرمك سبايا على أقتاب المطايا ، وإنّي واللّه سأصبر حتى يحكم اللّه بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

إي واللّه ، لقد صبر حتى قتلوا أهل بيته أجمعين ، وجرح أكثر من ثلاثمائة جراحة في بدنه ، وأخيرا ذبحوه من القفا ضامي الحشا ، متفتت الكبد ، ذابل الشفاه ، مقطّع الأعضاء .

أيا جريحا به صار التراب شفا

من ذا يداوي جروحا أمكنت فيكا

لقد رموك سهاما حدّ منصلها

يوم الشقاوة شلّت كفّ راميكا

أيا طعين العوالي ليتها كسرت

لا بارك اللّه فيها كيف ترديكا

ويل المواضي وويل الحاملين لها

عجبت منها ظباها كيف تدميكا

يا روح أحمد يا ريحان مهجته

لهفي عليك سموم الريح يذريكا

بعد الحسين أيا ماء الفرات فلا

تجري سواقيك لا راقت مساقيكا

يهيج الشجو في قلب الحزين إذا

ذكرت بنت علي إذ تناديكا

تطوف حولك في أرض الطفوف وقد

تجمّعت حولها الأيتام تبكيكا

وتارةً عطش الأطفال يحرقها

ودمعها كاد يرويها ويرويكا

وتارةً تسحب الذيل العفيف الى

نحو الخيام إذا صاحت ذراريكا

وتارةً تندب الإخوان إذ صرعوا

واسوك بالروح إذ عزّت مواسوكا

وتارةً تدفع الشمر اللعين عن ال-

-جسم الشريف وبالراحات تحميكا

ص: 298


1- المنتخب : 2/450 .

تصيح يا شمر حاذر أن تؤلّمه

فإنّني لطريق الخير أهديكا

يا شمر لا تبر رأس السبط إنّ له

عند الإله لشأنا اخش باريكا

إن شئت نفديه بالأرواح دونكها

أو شئت مالاً فإنّا اليوم نغنيكا

ما راع نغل الخنا تعداد مشفقة

ما راع علج الضبابي لو يراعيكا

ما عوّض اللّه به الحسين عليه السلام عن صبره

أجل ، صبر الحسين عليه السلام ، وتحمّل كلّ ما جرى عليه ، فعوّضه اللّه عن صبره أن جعل له مقاما ومنزلة لا يمكن وصفها أبدا ، وجعل زيارته أفضل الأعمال ، والبكاء عليه أشرف الطاعات ، وألقى محبّته في قلب المؤمن والكافر(1) .

بكت عليه الملائكة ، وناحت عليه الجن ، وأقيمت عليه المآتم في ملكوت السماوات ، بل تحوّل الكون كلّه الى مجلس عزاء له ، وبكت عليه في هذا العزاء كلّ موجودات العالم من حجر ومدر ، ونبات وجبال ، وبرّ وبحر .

أعطي مقام الشفاعة لنجي طوائف وطوائف من العصاة ، ويخرجهم من مضائق وديان العذاب الى وسيع الجنان .

وصار سببا للمغفرة والرحمة الواسعة ، لتشمل كلّ يوم أعدادا لا تحصى فيرحمون ويغفر لهم ببركة البكاء عليه ، أو إقامة مأتمه ، أو زيارته ، أو إعانة زواره ، وخدمة شيعته .

روي عن مسمع بن عبد الملك قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : يا مسمع ، أنت من أهل العراق ؟ أما تأتي قبر الحسين عليه السلام ؟

ص: 299


1- في بحار الأنوار : 43/281 باب 12 : معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ حبّ علي قذف في قلوب المؤنين ، فلا يحبّه إلاّ مؤن ، ولا يبغضه إلاّ منافق ، وإنّ حبّ الحسن والحسين قذف في قلوب المؤنين والمنافقين والكافرين ، فلا ترى لهم ذاما ، ودعا النبي صلى الله عليه و آلهالحسن والحسين قرب موته ، فقرّبهما وشمّهما ، وجعل يرشفهما ، وعيناه تهملان .

قلت : لا أنا رجل مشهور من أهل البصرة ، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة ، وأعداؤا كثيرة من أهل القبائل من النصاب وغيرهم ، ولست آمنهم أن يرفعوا عليّ حالي عند ولد سليمان ، فيمثّلون عليّ .

قال لي : أفما تذكر ما صنع به ؟ قلت : بلى ، قال : فتجزع ؟ قلت : إي واللّه .

وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ ، فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي .

قال : رحم اللّه دمعتك ، أما إنّك من الذين يعدّون في أهل الجزع لنا ، والذين يفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويخافون لخوفنا ، ويأمنون إذا أمنا ، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ، ووصيتهم ملك الموت بك ، وما يلقونك به من البشارة ، ما تقرّ به عينك قبل الموت ، فملك الموت أرقّ عليك ، وأشدّ رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها .

قال : ثم استعبر واستعبرت معه ، فقال : الحمد للّه الذي فضّلنا على خلقه بالرحمة ، وخصّنا أهل البيت بالرحمة .

يا مسمع ، إنّ الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤنين رحمة لنا ، وما بكى لنا من الملائكة أكثر ، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا(1) . .

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّه مرّ بالحسين بن علي خمسون ألف ملك ، وهو يقتل ، فعرجوا إلى السماء ، فأوحى اللّه إليهم : مررتم بابن حبيبي وهو يقتل فلم

تنصروه ؟ ! فاهبطوا إلى الأرض ، فاسكنوا عند قبره شعثا غبرا إلى أن تقوم الساعة(2) .

ص: 300


1- كامل الزيارات : 101 الباب 32 ح6 ، بحار الأنوار : 44/289 باب 34 ح31 .
2- كامل الزيارات : 115 الباب 39 ح6 ، بحار الأنوار : 45/226 باب 41 ح20 .

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إنّ الحسين لمّا أصيب بكته حتى البلاد ، فوكّل اللّه به أربعة آلاف ملك شعثا غبرا يبكونه إلى يوم القيامة(1) .

فلا عجب من بكاء الملائكة ، بل لا عجب من بكاء السماء أيضا ، فمصيبته عظيمة ، ورزيته جسيمة ، حتى بكت الملائكة لها قبل وقوعها ، وكذلك بكت السماء عليه قبل شهادته .

ورد في كتب الأدعية في دعاء الثالث من شعبان ، وهو يوم ولادة سيد أهل الولاء والبلاء ، وسيد الشهداء والصابرين على المحن والعناء : اللّهم إنّي أسألك بحقّ

المولود في هذا اليوم ، الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته ، بكته السماء ومن فيها ، والأرض ومن عليها ، ولمّا يطأ لابيتها(2) . .

فالعجب من مصيبته ، التي حرقت قلب العالم قبل وقوعها ، وأجرت عيون السماء والأرض بدمع منهمر .

فماذا جرى إذن على أمّه الزهراء عليهاالسلام ؟ وأبيه علي المرتضى عليه السلام حينما كان يراه فيذكر ما سيجري عليه من القتل والغربة والبلاء ؟

روى ابن قولويه رحمه الله عن أبي عبد اللّه الجدلي قال : دخلت على أمير المؤنين عليه السلام والحسين إلى جنبه ، فضرب بيده على كتف الحسين عليه السلام ، ثم قال : إنّ هذا يقتل ، ولا ينصره أحد ، قال : قلت : يا أمير المؤنين ، واللّه إنّ تلك لحياة سوء ! قال : إنّ ذلك لكائن(3) .

ولم يكن ذا عجيبا ولا غريبا ، فهو المعصوم والأمر بعد لمّا يقع ، ولكن لا أدري كيف كان حال الإمام سيد الساجدين عليه السلام حينما رأى البدن العريان ، مطروحا علىأرض الميدان ، مرفوع الرأس على السنان ، كيف استطاع صبرا ؟ !

ص: 301


1- بحار الأنوار : 45/224 ح16 .
2- مصباح المتهجد : 758 ، بحار الأنوار : 101/348 .
3- كامل الزيارات : 71 الباب 23 ح1 ، بحار الأنوار : 44/261 باب 31 ح15 .

كيف أطاق النظر الى غربته ، ووحدته ، وعينيه التي فاضت بالدموع ؟ وكيف أطاق سماع صرخاته وأنّاته ؟

والأعجب والأغرب من ذلك صبر أخواته ونسائه ، وهن لم يعصمن بقوة العصمة ؟ نظرن الى تلك المصائب ، وشاهدن تلك الوقائع بأمّ أعينهن ، ورأين الشفاه الذابلات من العطش ؟ !

آه ، لهفي لهن ، كيف أطقن النظر الى البدن المرمّل بالدماء والرأس المقطوع ؟

لهفي لزينب واليتامى حولها

قد أبرزت من خدرها وخبائها

وغدت تنادي وهي حسرى ثاكل

والحزن مشتمل على أعضائها

يا قوم ما ذنب الصغار لتنزلوا

بهم الصغار وتعلنوا بأذائها

يا ويلكم لم يشف غلّ صدوركم

قتل الموالي اليوم من كبرائها

وتعجّ طورا بالوصي وتارةً

ممّا جرى تشكو الى زهرائها

يا أمّ قومي من ثراك وشاهدي

أسراك في أشراك ذلّ عدائها

قد قيّدوها بالحديد كأنّها

شرّ العبيد أبقين من أمرائها

يا ضيعة الدنيا وضيعة أهلها

بعد الحسين وما لقى بفنائها

أضحى يزيد ذو الخنا وابن الزنا

في دولة بالعزّ من أمرائها

وابن الرسول على الرمول مرمّلاً

بدمائه ملقى على بوغائها

ونساء آل أمية في صونها

وحصونها مسرورة بغنائها

وبنات أحمد في السبا بين الورى

قد أبرزت من خدرها وخبائها

ويزيد يشرب في القصور زلالها

والسبط يسقى من نجيع دمائها

محن الأولياء وكراماتهم

اعلم ، أنّ المستفاد من الأخبار : أنّ ابتلاءات الأنبياء والأولياء منازل ومقامات ، فمن كانت مصائبه ومحنه أعظم وأكثر فدرجاته ومقاماته أعلى وأكبر .

ص: 302

وأنّ الدنيا لا قيمة لها عند اللّه ولا قدر ، وأنّه لم يتخذها دار قرار وراحة لأوليائه ، بل إنّه اختار لهم عزّة لا ذلّ فيها ، وراحة لا تعب معها ، وهذا من الواضحات .

وعليه ، كلّما كان العبد من المقربين جرت عليه الدنيا ثقيلة صعبة ، وازدادت عليه الآلام والمصائب والمحن ، وقد ورد في هذا المعنى الكثير من الأخبار :

روي عن الباقر عليه السلام أنّه قال : إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان ، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه(1) .

وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : إنّما يبتلى المرء على قدر حبّه(2) للّه .

وروي أيضا أنّ رجلاً جاء الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فوقف بين يديه فقال : يا رسول اللّه ، إنّي أحبّ اللّه عزّ وجلّ ، فقال : استعد للبلاء ، فقال : يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإنّي أحبّك ، فقال له : استعد للفقر ، فقال : وإنّي أحبّ علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، فقال :

استعد لكثرة الأعداء(3) .

تبيّن من هذه الأخبار وغيرها جلالة قدر سيد الشهداء وعظيم مقامه ، وعلو درجاته عند اللّه ، ومدى محبّته للّه ، وذلك لأنّ الأخبار والعلماء الأخيار إتفقوا كلمة واحدة أنّ مصيبته أعظم المصائب ، وابتلاؤه ومحنته أشدّ البلايا والمحن(4) .

وبناءا على هذه الروايات يقتضي أن يكون الحسين عليه السلام أفضل الجميع ، بيد أنّ أباه وجدّه لهما مقام آخر ، وذلك لأنّ مصائبه مصائبهم ، ومحنه محنهم ، فابتلاؤهمعظيم أيضا .

ص: 303


1- الكافي : 2/253 ح10 ، بحار الأنوار : 65/210 .
2- جامع الأخبار : 114 ، بحار الأنوار : 64/236 .
3- المنتخب : 1/162 .
4- انظر بحار الأنوار : 44/269 باب 32 .

إنّ الأنبياء والأولياء والمقربين شربوا كؤوس البلاء ، وتوشحوا بوشاح المحن ، وابتلوا بمئات الآلاف من صور العناء والألم ، وصبروا في سبيل المحبّة ، واستقبل كلّ منهم البلاء بقدر محبّته ، ولم يشكوا ولم يعترضوا .

أجل ، ما أكثر أولياءه الذين هاموا في محبّته ، وتذلّلوا له تحت قباب المودّة .

إنّهم مصداق : أنا خاصة للمحبّين(1) ، وقد سمعوها بآذان قلوبهم ، وضحوا من أجل ذلك بالمال والعيال .

شربت بكأس الحبّ في المهد شربة

حلاوتها حتى القيامة في الحلق

إنّهم ذاقوا طعم حبّه ، فصغرت في أعينهم لذات المال والنساء ، وحقرت عندهم الدنيا بعد أن جرّبوا لذّة القرب منه .

إنّهم سمعوا بآذان قلوبهم نداء : « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » ، فذابت في ذلك نفوسهم .

سمعوا بشارة : أنا عند المنكسرة قلوبهم ، والمندرسة قبورهم ، فرفعوا شعار الأفلاس ، وافترشوا بساط التسليم ، واقتحموا وادي « الفقر فخري »(2) .

سمعوا بشارة : « من قتلته فأنا ديّته(3) ، فتقدّموا الى الميادين وقلوبهم فوق الدروع ، يشترون الرماح والنبال بالأرواح ، حتى صار في كلّ جزء منهم ألف جريح وطريح وقتيل وشهيد .

الإمام الحسين عليه السلام في مقدّمة أولياء اللّه

ولكن - يا عزيزي - ليس ثمّة من ثبت في ميدان الإبتلاء مثل سيد الشهداء عليه السلام ،ولم يضحي أحد تضحيته ، ولم تحط المحن بأحد كما أحاطت به .

ص: 304


1- عدّة الداعي : 252 ، بحار الأنوار : 74/42 ح10 .
2- بحار الأنوار : 72/49 .
3- مستدرك الوسائل : 18/419 ح2 : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ ، وَمَنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ ، وَمَنْ أَعْطَانِي شَكَرْتُهُ ، وَمَنْ عَصَانِي سَتَرْتُهُ ، وَمَنْ قَصَدَنِي أَبْقَيْتُهُ ، وَمَنْ عَرَفَنِي خَيَّرْتُهُ ، وَمَنْ أَحَبَّنِي ابْتَلَيْتُهُ ، وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ قَتَلْتُهُ ، وَمَنْ قَتَلْتُهُ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ ، وَمَنْ عَلَيَّ دِيَتُهُ ، فَأَنَا دِيَتُهُ .

لقد ابتلى الأنبياء وأوصياؤهم ببلايا كثيرة ، كالضرب والإذلال ، والسبّوالشتم ، والجوع والمرض ، وغيرها كثير ، ولكن أحدا منهم لم يبلغ به الإبتلاء ما بلغ بسيد الشهداء عليه السلام ، فهو مبتلى منذ طفولته حتى يوم لقاء ربّه ، حيث كان كلّما رآه جدّه ذكر عنده خبر شهادته ، وكان ذلك يحزنه .

مضى جدّه وهو في السابعة من عمره ، وتعرّض أباه وأمّه الى الظلم ، وقف ينظر الى أبيه وهو يجرّ الى المسجد ، ورأى ما جرى على أمّه من كسر الضلع ، وغصب حقّ أخيه ، وشهادته .

ابتلى بيتم الأمومة بعد مضي جدّه بفترة قصيرة ، وحمل هموم ظليمة أبيه حتى خضبت شيبته بدم رأسه .

ثم رأى مظلومية أخيه ، وابتلى معه بظلم معاوية ، حتى نظر الى أخيه وهو يجود بنفسه من أثر السمّ الذي سقاه معاوية .

ولمّا وصلت النوبة اليه ، عجز اللسان والقلم من بيان ما جرى عليه . . ضيّقوا عليه الدنيا حتى أخرجوه من وطن جدّه ، فالتجأ الى حرم اللّه ، ثم أخرجوه من الحرم وشرّدوه الى العراق ، حتى قتلوه عطشانا ، وذبحوه كما يذبح الكبش ، ورفعوا رأسه على الرمح ، وتركوا جسده على الرمضاء عريانا .

رفعوا رأسه على السنان ، وطافوا به الأسواق والسكك والبلدان . . علّقوه على الأشجار مرّة ، ونصبوه على باب الدار أخرى ، ووضعوه في التنّور على الرماد ، وأدخلوه في مجلس يلعبون فيه الشطرنج والقمار ، وصبّوا بقية الكأس بالقرب منه ، وقرّعوا ثناياه بالقضيب ، وأدخلوا القضيب في أنفه !

وإذا أردت أن تعرف عظيم مصائبه ، وكيف صارت أعظم وأكبر وأكثر من مصائب الآخرين فاستمع لما سأقول :

إشارة الى مصائب يحيى عليه السلام

اعلم ، أنّ أكثر الأنبياء مظلومية يحيى بن زكريا عليهماالسلام ، وكان سبب قتله :

ص: 305

كان يحيى في بعلبك ، وبعث بالنبوة بعد زكريا ، وكان يدعو الناس الى عبادة اللّه ،وكان في ذلك البلد ملك كافر ظالم يدعو الناس الى عبادة الأصنام ، ولم يكن في ذلك البلد إلاّ رجل وإمرأة من المسلمين ، وكانا يكتمان إيمانهما .

وكان للملك إمرأة تحكم الناس إذا غاب الملك ، وكانت المرأة بغي ، وقد قتلت الكثير من الأنبياء عليهم السلام ، وروي أنّها قتلت أكثر من ثلاثمائة نبي .

كانت المرأة كبيرة السن عجوز ، ولدت سبعين ولدا ، وتزوجت سبعين ملكا ، واحتالت عليهم جميعا فقتلتهم .

وكان يحيى عليه السلام يمشي يوما ، فمرّ في طريقه على دار تلك الزانية ، فرأته الملعونة ، فوقعت محبّته في قلبها ، وأغرمت بجماله ، وإشتدّ شوقها اليه ، فطلبته يوما ، فلمّا حضر عندها أكرمته ، أظهرت له المحبّة والشوق ، وقالت له : لي اليك حاجة لا يقدر عليها غيرك !

ثم إنّها عرضت عليه حاجتها ، وعرضت عليه وعودا كثيرة إن هو أجابها .

فلمّا سمع يحيى عليه السلام كلامها إرتعدت فارئصه وقال : إنّي لست ممّن تظنين ، ولا أقرب هذه الأعمال ، اعزبي عنّي ، إنّك إمرأة سوء لا حياء لك ، ولكنّها أصرّت عليه ، فلم تفلح أبدا ، فخرج يحيى عليه السلام من عندها .

فلمّا يأست الملعونة منه ، شقّت جيبها ، ونشرت شعرها ، وجعلت تلطم على رأسها ، ودخلت على زوجها الملعون وقالت له : لقد دهاني أمر عظيم ، فإنّ أخذت لي حقّي وإلاّ طلبت من يأخذه لي غيرك ، فقال : ماذا دهاك ؟ قالت : لقد راودني يحيى عن نفسي ، وكاد أن يوقعني في الخطيئة !

فغضب اللعين ، وأمر أن يحضر يحيى عليه السلام ، فانطلق أعوان السلطان للبحث عنه ، فوجدوه ، فألقوا الحبل في عاتقه ، واقتادوه الى السلطان سحبا . فلمّا جاءوا به الى الملك فأمر بضرب عنقه ، وتقطيع أعضائه ، وتهشيم عظامه .

ص: 306

فقال يحيى عليه السلام : إنّي لم أفعل شيئا ، فلماذا تأمر بقتلي ؟ فقال : وأيّ ذنب أعظمممّا فعلت ؟

فأنكر يحيى عليه السلام أشدّ الإنكار ، وقال : واللّه إنّي ما أقدمت على هذا الفعل ، وليس هذا العمل من شأني ، ولي على ما أقول شهود . فقال : هات شهودك .

فلمّا رأى يحيى عليه السلام أنّه لا ناصر له ولا معين إلتجأ الى ربّ العزّة ذي القوة المتين ، فقال : يا ربّ ، إنّك تعلم أنّي بريء ومظلوم ، فانصرني يا ربّ العالمين .

فأمر اللّه جبرئيل وميكائيل وخاطبهما : أن أدركا عبدي وخلصاه من يد هذا الظالم ، فحضرا في المجلس وشهدا ببراءة يحيى عليه السلام ، وخلصاه ممّا كان فيه ، فخرج يحيى عليه السلام من هناك ، وعلم أنّهم سيعودون اليه ، ففرّ الى غار في جبل واختفى فيه .

أمّا تلك الملعونة فلم تهدأ ، وكانت تحرض زوجها عليه ، وتشعل النيران في قلبه ، وتثير حفيظته ، فأمر بالبحث عنه في كلّ مكان ، ففتشوا عنه حتى وجدوه ، فأوثقوه كتافا ، وجرّوه على الأرض ، حتى جاؤوا به الى الملك ، فأمر بقتله ، فقتلوه ، وأمر بطشت فوضع رأسه فيه ، ووضعه في مجلسه .

وروي عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال : إنّ ملكا كان على عهد يحيى بن زكريا عليهماالسلام لم يكفه ما كان عليه من الطروقة ، حتى تناول امرأة بغيا ، فكانت تأتيه حتى أسنت .

فلمّا أسنت هيأت ابنتها ، ثم قالت لها : إنّي أريد أن آتي بك الملك ، فإذا واقعك ، فيسألك : ما حاجتك ؟ فقولي : حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا عليه السلام ، فلمّا واقعها سألها عن حاجتها ، فقالت : قتل يحيى بن زكريا عليهماالسلام .

فلمّا كان في الثالثة بعث إلى يحيى ، فجاء به ، فدعا بطست ذهب فذبحه فيها ، وصبّوه على الأرض فيرتفع الدم ويعلو ، وأقبل الناس يطرحون عليه التراب ، فيعلو عليه الدم ، حتى صار تلا عظيما .

ص: 307

وروي : أنّه دعا بيحيى عليه السلام ، فذبحه ، فبدرت قطرة من دمه ، فوقعت علىالأرض ، فلم تزل تعلو .

ومضى ذلك القرن ، فلمّا كان من أمر بخت نصر ما كان رأى ذلك الدم ، فسأل عنه ، فلم يجد أحدا يعرفه ، حتى دلّ على شيخ كبير ، فسأله ، فقال : أخبرني أبي عن جدّي أنّه كان من قصة يحيى بن زكريا عليهماالسلام كذا وكذا ، وقصّ عليه القصّة ، والدم دمه .

فقال بخت نصر : لا جرم ، لأقتلنّ عليه حتى يسكن ، فقتل عليه سبعين ألفا ، فلمّا وفى عليه سكن الدم(1) .

وروي أيضا : أنّه كان في زمانه ملك جبار يزني بنساء بني إسرائيل ، وكان يمرّ يحيى بن زكريا عليهماالسلام ، فقال له يحيى : اتقّ اللّه أيّها الملك ، لا يحلّ لك هذا .

فقالت له امرأة من اللواتي كان يزني بهن حين سكر : أيّها الملك اقتل يحيى ، فأمر أن يؤى برأسه ، فأتي برأس يحيى عليه السلام في الطشت ، وكان الرأس يكلّمه ويقول : يا هذا اتق اللّه ، لا يحلّ لك هذا(2) .

مقارنة بين مصائب الإمام الحسين عليه السلام الفادحة وبين مصائب الأنبياء عليهم السلام

يا عزيزي ، كان يحيى عليه السلام أكثر الأنبياء عليهم السلام ظليمة ، فبكت عليه السماء والأرض

والملائكة ، ولكن الظلم الذي جرى على سيد الشهداء أعظم وأعظم من الظلم الذي تعرض له يحيى عليه السلام ، بل لا يمكن المقارنة بينهما أبدا .

وذلك ، لأنّهم قتلوا يحيى عليه السلام وحده ، ولم يقتل معه أحد ، ولم يسبوا عياله ، ولا رفعوا رأسه على السنان .

ص: 308


1- بحار الأنوار : 14/182 باب 15 ح20 .
2- قصص الأنبياء للجزائري : 426 باب في قصص أرميا ودانيال وعزير . .

أمّا سيد الشهداء عليه السلام ، فإنّهم ذبحوه ، وسلبوه ، وتركوه عريانا ، ورفعوا رأسهعلى السنان ، وسبوا عياله ، وقرعوا ثناياه بالقضيب .

عزيزي ، إنّ إبراهيم عليه السلام ألقي في النار ، وضحى عليه السلام بروحه ، ولكنّهم لم يقتلوا أبناءه ، ولم يسبوا عياله .

كان أيوب النبي عليه السلام من أعظم الأنبياء بلاءا ، ودام بلاؤه سبع أو ثلاث عشرة أو ثمان عشرة سنة ، فقد أولاده وأمواله ، ولكنّه لم يبلغ ما ابتلي به سيد الشهداء عليه السلام ، فقد كان طيلة خمسين سنة منذ أن مضى جدّه فخر الكائنات الى يوم شهادته يقاسي الأذى ، ويكابد المعاناة .

جرح بدن أيوب عليه السلام ، وعجز عن الحركة ، ولكنّها لم تكن مثل جراحات سيد الشهداء عليه السلام ، حيث كانت الجراحة فوق الجراحة ، والطعنة فوق الضربة ، والرمية فوق الرمية .

أخذت الجراحات بدن أيوب عليه السلام ، ولكنّه كان ملقى في زاوية لم يتعرّض له أحد ، ولا سواء مع الحسين عليه السلام الذي أخذته الجراح ، وهو يعاني همّ العيال ، وشماتة الأعداء ، وتفتت الكبد من الظمأ ، وإحاطة الأعداء .

لهفي له ، مسحوا على جراحه بدل المراهم بالنبال والحجارة والسيوف والرماح والخناجر .

شملت الألطاف الإلهية جراح أيوب ، فذاق العافية ، واندملت جراحاته ، وعادت اليه نعمه ، أمّا سيد الشهداء عليه السلام فقد قطع رأسه ، وسبي عياله ، وأسرت أخواته وبناته .

أمّا يونس عليه السلام ، فقد ألقاه اللّه في بطن الحوت ، وابتلاه بذلك ثلاثة أيام أو سبعة الى أربعين يوما ، ثم نجاه اللّه وقذفه الحوت على شاطى ء البحر ، وكان جلده قد ضعف لأنّه لم ير الشمس منذ أيام ، فأنبت اللّه له شجرة اليقطين ، وفجّر له عين ماء حتى اندملت جروح جلده ، وعادت له عافيته .

ص: 309

أمّا الحسين المظلوم عليه السلام فإنّهم ألقوه على الرمضاء ، وفجّروا له ينابيع الدماء منجراحاته عوض الماء المعين ، وأظلّته السيوف والرماح بدل أوراق شجرة اليقطين .

روي أنّ الحسين عليه السلام قال : سمعت جدّي يقول لي ولأخي الحسن : إنّما مثلكما مثل يونس إذ أخرجه اللّه من بطن الحوت ، وألقاه بظهر الأرض ، وأنبت عليه شجرة من يقطين ، وأخرج له عينا من تحتها ، فكان يأكل من اليقطين ، ويشرب من ماء العين(1) . . .

أسفي لعار مثل يونس بالعرا

يقطينه فيه جناح الأنسر

فأبكوا قتيلاً مثل يحيى ما له

أحد سمّي في قديم الأعصر

إبكوا حسين الطهر من قد شمّه

في نحره كما شمّ العنبر

إبكوا شهيدا بالدماء مرمّلاً

ودما بكته أعين المدّثر

إبكوا جديلاً حوله الأيتام من

متمسك في عفره ومعفّر

إبكوا لجثمان الحسين كمصحف

فيه جروح السيف مثل الأسطر

لو ينطق القرآن ساعة ذبحه

لنعاه خبرانا بصوت جهور

إبكوا له وبناته كبنات نعش

لذن فيه من بنات الأوبر

إبكوا نحيرا صحبه بعد التناحر

جدّلوا فكوا ضحايا المنحر

إبكوا لظام مدحه لم يحص لو

كانت له حبرا مياه الأبحر

إبراهيم الخليل عليه السلام والذبح العظيم

اعلم ، أنّ إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بذبح ولده إسماعيل عليه السلام ، وإنّ هذا لهو البلاء العظيم ، وذلك لأنّ فقد الولد صعب ، وقتله أصعب ، وأن يذبحه الأب بيده ، فهذا ممّا لا يطيقه إلاّ من مثل إبراهيم ، سيما إذا كان الولد من مثل إسماعيل ، جيمل المنظر ، حلو المعشر ، حسن الشعر .

ص: 310


1- الخرائج والجرائح : 2/845 ، بحار الأنوار : 43/273 باب 12 .

وخلاصة قصته :

لَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ قَالَ جَبْرَئِيلُ لإِبْرَاهِيمَ عليه السلام تَرَوَّهْ مِنَ الْمَاءِ ، فَسُمِّيَتِ التَّرْوِيَةَ ، ثُمَّ أَتَى مِنًى ، فَأَبَاتَهُ بِهَا ، ثُمَّ غَدَا بِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ ، فَضَرَبَ خِبَاهُ بِنَمِرَةَ دُونَ عَرَفَةَ ، فَبَنَى مَسْجِداً بِأَحْجَارٍ بِيضٍ ، وَكَانَ يُعْرَفُ أَثَرُ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى أُدْخِلَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ الَّذِي بِنَمِرَةَ حَيْثُ يُصَلِّي الإِمَامُ يَوْمَ عَرَفَةَ ، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، ثُمَّ عَمَدَ بِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ ، فَقَالَ : هَذِهِ عَرَفَاتٌ ، فَاعْرِفْ بِهَا مَنَاسِكَكَ ، وَاعْتَرِفْ بِذَنْبِكَ ، فَسُمِّيَ عَرَفَاتٍ ، ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ، فَسُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةَ لأَنَّهُ ازْدَلَفَ إِلَيْهَا .

ثُمَّ قَامَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ ، وَقَدْ رَأَى فِيهِ شَمَائِلَهُ ، وَخَلائِقَهُ ، وَأَنِسَ مَا كَانَ إِلَيْهِ .

فَلَمَّا أَصْبَحَ أَفَاضَ مِنَ الْمَشْعَرِ إِلَى مِنًى ، فَقَالَ لأُمِّهِ : زُورِي الْبَيْتَ أَنْتِ ، وَأَحْتَبِسَ الْغُلامَ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ ، هَاتِ الْحِمَارَ وَالسِّكِّينَ حَتَّى أُقَرِّبَ الْقُرْبَانَ .

قَالَ : فَجَاءَ الْغُلامُ بِالْحِمَارِ وَالسِّكِّينِ ، فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَيْنَ الْقُرْبَانُ ؟ قَالَ : رَبُّكَ يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ يَا بُنَيَّ ، أَنْتَ وَاللَّهِ هُوَ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَبْحِكَ ، فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى ؟

قَالَ : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ .

فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ : يَا أَبَتِ خَمِّرْ وَجْهِي ، وَشُدَّ وَثَاقِي ، قَالَ : يَا بُنَيَّ الْوَثَاقُ مَعَ الذَّبْحِ ، وَاللَّهِ لا أَجْمَعُهُمَا عَلَيْكَ الْيَوْمَ .

فَطَرَحَ لَهُ قُرْطَانَ الْحِمَارِ ، ثُمَّ أَضْجَعَهُ عَلَيْهِ ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى حَلْقِهِ ، فَأَقْبَلَ إبليس في صورة شَيْخٌ فَقَالَ : مَا تُرِيدُ مِنْ هَذَا الْغُلامِ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ أَذْبَحَهُ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ غُلامٌ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ تَذْبَحُهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَبْحِهِ ، فَقَالَ : بَلْ رَبُّكَ نَهَاكَ عَنْ ذَبْحِهِ ، وَإِنَّمَا أَمَرَكَ بِهَذَا الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِكَ ، قَالَ : وَيْلَكَ الْكَلامُ الَّذِي سَمِعْتُ هُوَ الَّذِي بَلَغَ بِي مَا تَرَى ، لا وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ .

ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الذَّبْحِ ، فَقَالَ الشَّيْخُ : يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّكَ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِكَ ، فَإِنْ ذَبَحْتَ وَلَدَكَ ذَبَحَ النَّاسُ أَوْلادَهُمْ ، فَمَهْلاً ، فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَهُ .

ص: 311

فَأَضْجَعَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى ، ثُمَّ أَخَذَ الْمُدْيَةَ فَوَضَعَهَا عَلَى حَلْقِهِ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُإِلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ انْتَحَى عَلَيْهِ ، فَقَلَبَهَا جَبْرَئِيلُ عليه السلام عَنْ حَلْقِهِ ، فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا هِيَ مَقْلُوبَةٌ ، فَقَلَبَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى خَدِّهَا ، وَقَلَبَهَا جَبْرَئِيلُ عَلَى قَفَاهَا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَاراً ، ثُمَّ نُودِيَ مِنْ مَيْسَرَةِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ : يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيَا ، وَاجْتَرَّ الْغُلامَ مِنْ تَحْتِهِ ، وَتَنَاوَلَ جَبْرَئِيلُ الْكَبْشَ مِنْ قُلَّةِ ثَبِيرٍ فَوَضَعَهُ تَحْتَهُ .

وَخَرَجَ الشَّيْخُ الْخَبِيثُ حَتَّى لَحِقَ بِالْعَجُوزِ حِينَ نَظَرَتْ إِلَى الْبَيْتِ ، وَالْبَيْتُ فِي وَسَطِ الْوَادِي ، فَقَالَ : مَا شَيْخٌ رَأَيْتُهُ بِمِنًى ؟ فَنَعَتَ نَعْتَ إِبْرَاهِيمَ . قَالَتْ : ذَاكَ بَعْلِي ، قَالَ : فَمَا وَصِيفٌ رَأَيْتُهُ مَعَهُ ؟ وَنَعَتَ نَعْتَهُ ، قَالَتْ : ذَاكَ ابْنِي ، قَالَ : فَإِنِّي رَأَيْتُهُ أَضْجَعَهُ وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ لِيَذْبَحَهُ ، قَالَتْ : كَلاَّ مَا رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ أَرْحَمَ النَّاسِ ، وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ ؟ قَالَ : وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ أَضْجَعَهُ وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ لِيَذْبَحَهُ ، قَالَتْ : لِمَ ؟ قَالَ : زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ ، قَالَتْ : فَحَقٌّ لَهُ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ ، فَلَمَّا قَضَتْ مَنَاسِكَهَا فَرِقَتْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ فِي ابْنِهَا شَيْءٌ .

قال الباقر عليه السلام : فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا مُسْرِعَةً فِي الْوَادِي ، وَاضِعَةً يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا ، وَهِيَ تَقُولُ : رَبِّ لا تُؤاخِذْنِي بِمَا عَمِلْتُ بِأُمِّ إِسْمَاعِيلَ .

فَلَمَّا جَاءَتْ سَارَةُ فَأُخْبِرَتِ الْخَبَرَ قَامَتْ إِلَى ابْنِهَا تَنْظُرُ ، فَإِذَا أَثَرُ السِّكِّينِ خُدُوشاً فِي حَلْقِهِ ، فَفَزِعَتْ وَاشْتَكَتْ ، وَكَانَ بَدْءَ مَرَضِهَا الَّذِي هَلَكَتْ فِيهِ(1) .

والآن كن منصفا يا عزيزي القارى ء ، وانظر الى أمّ إسماعيل كيف مرضت لمّا رأت خدوشا في حلقه ، ففزعت واشتكت وماتت ، فما حال سيد الشهداء عليه السلاموهو يلبس ولده - شبيه النبي صلى الله عليه و آله - كفنه بيده ، ويخرجه الى الميدان ؟ ما كان حال أمّه وأخواته ، وهو يتقدّم برجله الى المذبح ؟

ص: 312


1- الكافي : 4/207 ح9 ، تفسير القمي : 2/225 ، بحار الأنوار : 128312 ح4 .

لقد بلغ إبراهيم خليل الرحمن أعلى درجات القرب ، وكان أفضل الأنبياء بعدنبينا محمد صلى الله عليه و آله ، وما كان ذلك إلاّ من حيث صبره ، وتضحيته بولده .

فتأمّل يا عزيزي ، أيّ الصبرين أعظم ، صبر إبراهيم الخليل عليه السلام ؟ أم صبر سيد الشهداء عليه السلام ؟ وهو ينظر الى ولده مقطعا إربا إربا ، وبالدماء مرمّلاً ، وينظر الى أخيه مقطوع اليدين ، مفضوخ الرأس محزوز الوريدين ، ويرى أبناء إخوته ، وأصحابه وأهل بيته كالأضاحي مجزرين ، فإِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ .

نظرة الى فضائل علي الأكبر عليه السلام

اعلم ، أنّه لم يبق بعد شهادة العباس عليه السلام من يتقدّم الى ميدان الوفاء سوى ابن إمام العالمين عليه السلام .

فالمشهور أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان له ثلاث أبناء هم : علي الأكبر ، وعلي الأوسط ، وعلي الأصغر عليهم السلام .

أمّا علي الأكبر ، فهو سيد الساجدين عليه السلام ، وكان مريضا عليلاً ، لم يقاتل لما به من ضعف .

وعلي الأصغر عليه السلام هو الطفل الرضيع(1) .

فيقتضي أن يكون علي الأوسط هو المعروف بعلي الأكبر .

وقد اختلف العلماء في أنّ المقتول في الطف هل هو الأكبر أو أنّ الأكبر هو سيد الساجدين عليه السلام ؟

ذهب ابن إدريس وهو من مشاهير علماء الشيعة ، الى أنّ المقتول هو الأكبر ، ويؤكد على ذلك ، ويستدل له بأقوال المؤرخين وغيرهم(2) .

ولكن مشهور العلماء قالوا : أنّ الأكبر هو سيد الساجدين ، وأنّ علي المقتول فيكربلاء أصغر منه(3) .

ص: 313


1- المناقب : 4/48 ، بحار الأنوار : 45/330 ح4 .
2- السرائر : 1/254 .
3- انظر الإرشاد : 2/106 ، المناقب : 4/118 .

وكيف كان ، فإنّ علي الأكبر عليه السلام كان شابا جميلاً وسيما ، حسن المنظر ، وكان أشبه الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله خلقا وخلقا ومنطقا ، وكان الناس إذا اشتاقوا الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله نظروا اليه .

قال محمد بن أبي طالب : وكان عمره يومئذ ابن ثماني عشرة سنة .

وقال ابن شهرآشوب : ويقال : ابن خمس وعشرين سنة(1) . وبناءا على هذا القول يكون هو الأكبر .

وكان معروفا بالشجاعة ، ويكنى « أبو الحسن » ، أمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، ولم يعقب .

وبناءا على بعض الروايات كان هو أول من قتل من بني هاشم عليهم السلام ، ويؤيد هذه الروايات ما ورد في الزيارة : السلام عليك يا أوّل قتيل من نسل خير سليل(2) . .

وذكر ذلك أبو الفرج الإصفهاني أيضا في تاريخه(3) .

ولكن المشهور ! أنّه كان آخر الشهداء ، إلاّ سيد الشهداء وعلي الأصغر عليهماالسلام .

كان عليه السلام فريدا في خلقه وخلقه وشجاعته .

قال معاوية يوما : من أحقّ الناس بهذا الأمر ؟ قالوا : أنت ، قال : لا ، أولى الناس بهذا الأمر علي بن الحسين بن علي ، جدّه رسول اللّه ، وفيه شجاعة بني هاشم ، وسخاء بني أمية(4) ! ! وزهو ثقيف(5) .

قال أبو الفرج : المقصود علي بن الحسين عليهماالسلام المقتول في الطف(6) .

ص: 314


1- المناقب : 4/118 ، بحار الأنوار : 45/42 الباب 37 .
2- بحار الأنوار : 45/45 .
3- مقاتل الطالبيين : 86 .
4- قصد بذلك الخبيث أن ينسب السخاء لبني أمية كذبا وزورا ، وهم المعروفون بالخسة والحقارة والظلم والجور ، وقد سوّدوا وجه التاريخ بفعالهم وأخلاقهم الذميمة .
5- بحار الأنوار : 45/45 الباب 37 .
6- مقاتل الطالبيين : 86 .

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يحبّه حبّا شديدا حتى قال في مدحه شعرا ، منه ما ذكرهابن إدريس فيالسرائر أنّه قال عليه السلام :

لم تر عين نظرت مثله

من محتف يمشي ومن ناعل(1)

علي الأكبر عليه السلام يعزم على القتال

لمّا عرفت جلالة قدر هذا العظيم وعلوّ مقامه ، فلنستعرض فيما يلي ما روي في كيفية شهادته عليه السلام .

لمّا نظر عليه السلام الى غربة أبيه ووحدته ، عزم على خوض القتال ، والتقدّم الى الميدان ، فإستأذن الحسين عليه السلام ، فلم يأذن له .

فلمّا سمع النساء خرجن من الخيام ، أمّه وعماته وأخواته ، فتحلّقن حوله ، وقلن : إرحم غربتنا ، ولا تستعجل الخروج الى القتال ، فإنّنا لا نطيق فراقك .

فبالغ عليه السلام في الإلحاح على أبيه ، فأذن له ، فودّع أباه وأهل الحرم وتقدّم نحو الميدان .

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : ثم نظر إليه نظر آيس منه ، وأرخى عليه السلام عينه وبكى(2) ، ورفع الحسين عليه السلام سبابته نحو السماء وقال : اللّهم اشهد على هؤاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه ، اللّهم أمنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقا ، ومزّقهم تمزيقا ، واجعلهم طرائق قددا ، ولا ترض الولاة عنهم أبدا ، فإنّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا .

ثم صاح الحسين عليه السلام بعمر بن سعد : ما لك قطع اللّه رحمك ، ولا بارك اللّه لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

ص: 315


1- السرائر : 1/255 .
2- اللهوف : 112 .

ثم رفع الحسين عليه السلام صوته وتلا : « إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » .

علي الأكبر عليه السلام في الميدان

ثم حمل علي بن الحسين على القوم ، فبهت جميع الأعداء لجماله ، فبرز وهو يقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

من عصبة جدّ أبيهم النبي

واللّه لا يحكم فينا ابن الدعي

أطعنكم بالرمح حتى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي

فحمل عليهم ، فقلب الميمنة على الميسرة ، والميسرة على الميمنة ، فلم يزل يقاتل حتى ضجّ الناس من كثرة من قتل منهم .

وروي أنّ أهل الكوفة كانوا يتقون قتله .

قال حميد بن مسلم : ما رأيت أشبه منه برسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وروى الحدادي : أنّه قتل على عطشه مائة وعشرين رجلاً ، ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال : يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟

وروى حميد بن مسلم : أنّه قال : يا أباه ، أثقلني الحديد ، وخنقني العطش . .

فقال سيد الشهداء عليه السلام : وا غوثاه ، يا بني إصبر قليلاً ، يسقيك جدّك شربة لا ظمأ بعده أبدا .

وروي فبكى الحسين عليه السلام وقال : يا بني يعزّ على محمد ، وعلى علي بن أبي طالب ، وعليّ أن تدعوهم فلا يجيبوك ، وتستغيث بهم فلا يغيثوك ، يا بني هات لسانك ، فأخذ بلسانه فمصّه ، ودفع إليه خاتمه ، وقال : امسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوك ، فإنّي أرجو أنّك لا تمسي حتى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا ، فعد بارك اللّه فيك .

ص: 316

نموذج من شجاعة علي الأكبر عليه السلام

فرجع إلى القتال الأسد الهصور ، والهزبر المعروف في ميادين الفتوّة ، بالرغم ممّا به من ألم الجراح ، ونزف الدم ، وهو يقول :

الحرب قد بانت لها الحقائق

وظهرت من بعدها مصادق

واللّه ربّ العرش لا نفارق

جموعكم أو تغمد البوارق

فجعل يكرّ كرّة بعد كرّة ، حتى قتل تمام المائتين ، وفي رواية الصدوق رحمه الله : أربعا وأربعين ، وفي رواية ابن شهرآشوب : سبعين .

قال الشيخ المفيد رحمه الله وابن نما رحمه الله : فبصر به مرّة بن منقذ العبدي ، فقال : عليّ آثام العرب إن مرّ بي يفعل مثل ذلك إن لم أثكله أباه ، فمرّ يشدّ على الناس ، فاعترضه مرّة بن منقذ(1) ، فضربه على مفرق رأسه ضربة صرعته - وروي أنّه رماه بسهم فصرع - ، وضربه الناس بأسيافهم ، ثم اعتنق فرسه ، فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء ، فقطّعوه بسيوفهم إربا إربا .

فلمّا بلغت الروح التراقي ، قال رافعا صوته : يا أبتاه ، هذا جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبدا ، وهو يقول : العجل العجل ، فإنّ لك كأسا مذخورة حتى تشربها الساعة(2) .

شهادة علي الأكبر عليه السلام

فلمّا سمع الحسين عليه السلام صوت ولده الغريب ، والجريح الحبيب ، ركب فرسه وانقض عليه كالصقر إذا جلّى ، حتى وصل عنده .

قال حميد بن مسلم : لمّا وقع علي الى الأرض رفع صوته وقال : يا أبتاه ، عليك منّي السلام ، هذا جدّي محمد المصطفى ، وجدّي علي المرتضى ، وجدّتي فاطمةالزهراء ، وعمّي الحسن المجتبى عليهم السلام ، ينتظرونك ويقولون : أنّهم مشتاقون اليك ،قال ذلك ثم شهق شهقة طارت روحه معها .

ص: 317


1- الإرشاد : 2/106 .
2- بحار الأنوار : 45/44 .

قال ابن طاووس رحمه الله : فصاح الحسين عليه السلام وقال : قتل اللّه قوما قتلوك ، يا بني ، ما أجرأهم على الرحمن ، وعلى رسوله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ، ثم غلبه البكاء ، فجرت دموعه وقال : على الدنيا بعدك العفا ، يا بني ، أمّا أنت فقد استرحت من الدنيا وغمّها ، وقد صرت الى روح وريحان ، وبقي أبوك ، فما أسرع لحوقه بك(1) .

خروج الحرم في شهادة علي الأكبر عليه السلام

وخرجن بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأخواته وعمّاته من الخيام صارخات نادبات ، والى الميدان مسارعات ، ونحو بدن المظلوم الغريب علي الأكبر مبادرات ، وهن يصرخن : وا علياه ، وا شهيداه ، وا قتيلاه .

وخرجت زينب عليهاالسلام من خدرها وهي نادبة صارخة : يا حبيباه ، ويا ابن أخاه ، ويا ثمرة فؤاداه ، ويا نور عيناه .

قال حميد بن مسلم : فكأنّي أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنّها الشمس الطالعة ، تنادي بالويل والثبور ، وتقول : يا حبيباه ، يا ثمرة فؤداه ، يا نور عيناه ، فسألت عنها ، فقيل : هي زينب بنت علي عليهماالسلام ، وجاءت وانكبت عليه .

وروي عن عمارة بن واقد أنّه قال : رأيت إمرأة خرجت من فسطاط الحسين عليه السلام كأنّها البدر الطالع ، وهي تنادي : وا ولداه ، وا قتيلاه ، وا قلّة ناصراه ، وا غريباه ، وا مهجة قلباه ، ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني وسدت الثرى ، وجاءت وانكبت عليه .

فجاء الحسين عليه السلام ، فأخذ بيدها ، وستر وجهها بعبائه ، وألقى عباءته عليها ،فردّها الى الفسطاط(2) .

ص: 318


1- تذكرة الشهداء ترجمة سيد علي جمال أشرف : 267 .
2- مقتل أبي مخنف : 90 ، تذكرة الشهداء : 267 ، أمواج البكاء ترجمة سيد علي جمال أشرف : 117 .

وأقبل عليه السلام بفتيانه وقال : احملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه ، فجاءوا به حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .

بكاء السيدة سكينة عليهاالسلام على علي الأكبر عليه السلام

روى الشيخ المفيد رحمه الله عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : لمّا استشهد علي بن الحسين عليهماالسلام رجع الحسين عليه السلام الى الخيمة باكي العين آيسا من الحياة ، فلمّا دنا من خيم النساء خرجت اليه سكينة عليهاالسلام وقالت : يا أبة مالي أراك تنعى نفسك ، وتدير طرفك ، أين أخي علي ؟ فبكى الحسين عليه السلام وقال : بنية قتلوه اللئام .

فلمّا سمعت قتل أخيها صاحت بحرقة قلبها ، وقالت : وا أخاه ، وا مهجة قلباه ، وا علياه ، وأرادت أن تخرج من الخباء ، فأخذها الحسين عليه السلام وقال : يا بنتاه إتقي اللّه واستعملي الصبر . قالت : أبتاه كيف تصبر من قتل أخوها ، وشرّد أبوها ؟

فقال الحسين عليه السلام : إنّا للّه وإنّا اليه راجعون(1) .

ص: 319


1- تذكرة الشهداء : 268 ، معالي السبطين : 378 .

المجلس العاشر: في قتال سيد الشهداء عليه السلام

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه على المصائب الفادحة الحاوية ، والنوائب الجارحة الطاحية .

والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وأهل بيته الشموس الضاحية ، والبدور الضائية .

سيّما على سبطه المعصوم ، وشبله المظلوم ، ذي النفس المطمئنة المرضية الراضية ، صاحب المصيبة الهائلة والبليّة الوائلة ، التي لم يسمع مثلها في الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، صاحب الدماء الجارية ، والأجساد العارية ، والعيون الباكية ، والدموع السائلة ، والنحور الدامية ، والقلوب الصادية ، والجروح الصاهية ، والبطون الطاوية ، والأفواه اليابسة الظامية ، والأبدان المكدوبة الضائية ، والبيوت المهدومة الهاجمة ، الحيران في الأرض المادية ، والأسير بأيدي الفئة الباغية .

الذي قد أحاط عليه الكلاب العاوية ، والذئاب الضارية ، بالسيوف القاطعة ، والسهام النافذة ، والرماح الباترة ، فجادلهم بذي الفقار ، كأنّه علي الكرار عليه السلام ، بنيّة صادقة ، ونفس صابرة ، وكبد صادية ، ودماء في جوانبه جارية ، ودموع على عياله ساكبة .

فتارة تشدّ عليه الفرقة الرامية ، وأخرى الطاغية ، وأخرى الضاربة ، وهو الشادّ عليهم كالليث المكفهرّ ، فأحاطوا عليه من كلّ ناحية ، وأخذوه أخذة رابية ،

ص: 320

وحملوه حملة واحدة ، بجثّة جاثية ، وعين رانية ، ونفس الى ربّها فارغة ، فوقعت الواقعة ،وقامت القيامة ، ونعى ناعيه في كلّ ناحية ، وانصدعت الجبال الراسية ، واضطربت بها الأرض الداحية .

فوا أسفاه ، على الدماء السائلة ، والأبدان العارية ، والشفاه الذابلة ، والرؤوس السامية العالية ، والشيبات الخاضبة ، والدموع الهامية ، والبنات الحاسرة ، والشعور

الناشرة ، والعيون الساهرة . فيا ليتها كانت القاضية ، وجاءت الطامة ، وقامت القيامة .

وبعد ، فقد قال اللّه تعالى في كتابه المبين وخطابه المستبين :

« يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي

وَادْخُلِي جَنَّتِي » .

* * *

الإمام الحسين عليه السلام صاحب النفس المطمئنة

روى في كتاب كنز الفوائد عن الإمام الصادق عليه السلام قال : اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم ، فإنّها سورة الحسين ، وارغبوا فيها رحمكم اللّه .

فقال له أبو أسامة ، وكان حاضر المجلس : كيف صارت هذه السورة للحسين عليه السلام خاصة ؟

فقال : ألا تسمع إلى قوله تعالى « يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي » ، إنّما يعني الحسين بن علي صلوات اللّه عليهما ، فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية ، وأصحابه من آل محمد - صلوات اللّه عليهم - الرضوان عن اللّه يوم القيامة ، وهو راض عنهم .

وهذه السورة في الحسين بن علي عليهماالسلام وشيعته ، وشيعته آل محمد خاصة ، فمن أدمن قراءة الفجر كان مع الحسين عليه السلام في درجته في الجنّة ، إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(1) .

ص: 321


1- بحار الأنوار : 24/93 باب 34 ح6 .

الإمام الحسين عليه السلام ومقام الرضا والمحبّة

اعلم ، أنّ الرضا ثمرة المحبّة ، والمحبّة ثمرة المعرفة ، فمن تصوّر صفات شخص وكمالاته ، ومحاسنه وأوصافه ، فوجده ذا أخلاق حميدة ، وأوصاف ممدوحة محمودة ، فإنّ محبّته ستتمكن من قلبه رغما عنه ، وذلك لأنّ العاقل الحسّاس يركن الى محاسن الأخلاق الحميدة ، والصفات المحمودة ، مثل العلم والقدرة والكرم والجود وما شاكلها ، ويدركها ويحبّها بالطبع .

وكذلك يحبّ العاقل الحسّاس كلّ من استشعر منه اللطف ، وناله بالنعم والكرم ، وهذا من الأمور الواضحة التي جبلت عليها الطباع .

وبعد أن يتمكّن الحبّ من القلب ، وترسخ المحبّة بين القلوب ، فإنّ أفعال المحبوب وأعماله تبدو محبوبة للمحبّ ، فإذا استحكم الحبّ في القلب وبلغ مقامات عالية يصل الأمر بالمحبّ الى أنّه يرى كلّ ما يحبّه الحبيب محبوبا ، وكلّ ما يبغضه الحبيب مبغوضا ، وكلّ ما يأتيه من الحبيب مطلوبا ، فلو أنّه أشعل البحار عليه نيرانا رأى ذلك جميلاً وأمانا .

إذا عرفت ذلك ، فاعلم ، أنّ من نظر بعين البصيرة الى جلال اللّه وكماله وجماله - وهو الذي لا تدركه الأبصار - إزداد حبّه في قلبه ، وكلّما إزدادت معرفته باللّه إزداد

حبّه ، وكلّما إزداد حبّه إزداد شوقه ، حتى يصل به الأمر أنّه لا يذكر في ليله ونهاره

سوى المحبوب ، ولا يفكر بغيره ، ولا يكون سواه له مطلوب .

روي أن يونس عليه السلام بكى حتى عميت عيناه ، وقام في محراب العبادة حتى انحنى ظهره ، وصلّى حتى لم يعد يقوى على الحركة ، وهو يقول : بعزّتك وجلالك ، لو كان بيني وبينك بحر من نار لخضته اليك شوقا منّي اليك .

إجل ، إذا بلغ العبد العارف الى هذا المقام فإنّه لا يرى ثمة دنيا ولا آخرة ، ولا يرىسوى المحبوب الحقيقي ، ولا يطلب غيره ، ولا يشعر بسهام البلايا ولو انهالت عليه كالمطر ، بل يشتريها بروحه ، ويفتح لها أبواب القلب ، ويستقبلها بالبشر والطلاقة .

ص: 322

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الدنيا حرام على أهل الآخرة ، حرام على أهل الدنيا ، وهما حرامان على أهل اللّه (1) ، تركت للناس دنياهم ودينهم شغلاً بذكرك يا ديني ودنياي .

ولمّا كان قبلة العارفين ، سيد الشهداء الحسين عليه السلام أعظم الناس معرفة باللّه ، وأعلى الناس مقاما ورتبة ، وقد حاز قصب السبق على الأنبياء والأولياء ، وقد حلّق طائر معرفته في أجواء معرفته وعلومه الواسعة حتى علا فوق صقور حظائر الجبروت ، فهو غصن شجرة « لو كشف لي الغطاء »(2) ، وركن كعبة « سلوني عن طرق السماء »(3) .

بل بمقتضى كونه مصداق « لولانا لم يعرف اللّه » ، فلا تضيء شمعة في حظائر القدس إلاّ تستمدّ نورها من مصابيح أنوار محال أسرار اللّه .

وبمقتضى مفهوم « بنا عرف اللّه » فإنّ سكان محافل الأنس لا يسبحون في محافل بحار المعرفة إلاّ بتعليم كبير الحيتان السابحة في بحار العلوم والمعارف .

ومن هنا يعرف أنّ الإمام الحسين عليه السلام في أي مقام من مقامات المحبّة الواقعية ، وفي أيّ منزلة من منازل الحبّ الإلهي .

روي أنّه عليه السلام قال :

تركت الخلق طرّا في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحبّ إربا

لما حنّ الفؤاد الى سواكا

إنّه كان يهوى التضحية بالنفس والمال والعيال في سبيل المحبوب ، وهو القائل : ما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف ، ولولا قضاء اللّه أن تبقى الأرواح

ص: 323


1- عوالي اللئالي : 4/119 .
2- إرشاد القلوب : 2/14 ، بحار الأنوار : 36/135 .
3- نهج البلاغة خ189 .

في أبدانها الى أجلها المؤجل لها ، لطارت روحه ، ولما استقرت في بدنه لحظة واحدة ، فقد ورد في الكافي : لَوْلا الآجَالُ الَّتِي قَدْ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ(1) .

فالمحبّة تقتضي الرضا والتسليم ، وكلّما إزدادت المحبّة إزداد الرضا والتسليم ، لمّا كان رأس سلسلة العارفين غاية في المحبّة كان رضاه وصبره وتسليمه في الغاية ، فهو أعظم الخلق صبرا ورضا وتسليما ، ولهذا خصّ بخطاب : « راضِيَةً مَرْضِيَّةً » .

لقد استهدفته سهام البلاء من كلّ جهة ، وقطّعت السيوف بدنه إربا ، ولكنّ لم ير منه غير الرضا بقضاء اللّه ، وضيّقوا عليه الخناق ، وسدّدوا سهام الجور الى صدره ،

فلم يصدر منه سوى التسليم لأمر اللّه .

فلمّا وجدوه فريدا في الوفاء ، وبطلاً عظيما في الصبر والرضا ، جعلوه مرضيا مقبولاً بعد أن حقّقوا له المقصود في البلاء ، ففتحوا له أبواب اللطف ، ونادوه بنداء : « ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ » ، وبشّروه ببشارة : « فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي » .

أجل ، إنّه كان يعيش حالة خاصة ، ويغمر قلبه شوقا خاصا ، ويعمر صدره ذوقا خاصا .

إنّه عرف الدنيا وأهل الدنيا ، وعرف معبوده حقّ المعرفة ، وذاق طعم العبودية للّه ، وذاق حلاوة تقديم النفس للمعبود ، فأعرض عن الدنيا وما فيها .

روي في بعض الأحاديث القدسية : فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلمّوا الى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي وسؤالي ، أؤانسكم ، وأسارع الى محبّتكم .

وقال أيضا : ما أحبّني أحد من خلقي أعلم بذلك من قلبه إلاّ مثلته لنفسي ،وأحببته حبّا لا يتقدّمه أحد من خلقي(2) .

ص: 324


1- الكافي : 2/237 . وفي المتن : « لولا أحفظ أرواح أحبّائي ما تمّ في أجسادهم » .
2- الجواهر السنية : 94 .

أجل ، إنّ للّه أولياء كثيرين ، ومحبّين لا يعدّون ، ولكن ليس فيهم من ضحّى له مثل الإمام الحسين عليه السلام ، ولم يثبت أحد منهم ثبات الإمام الحسين عليه السلام ، فحبّة الحبّ واحدة لا يلتقطها إلاّ من كان لها أهلاً .

مقارنة بين يعقوب النبي عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام

إعلم ، أنّ يعقوب النبي عليه السلام كان له إثنا عشر ولدا ، غاب عنه واحد منهم ، وهو يعلم أنّه كان حيّا لم يمت ، فقد ورد في الحديث : أنّ يعقوب عليه السلام رأى ملك الموت فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، فعلم أنّه حي(1) ، فسأله : أين هو ؟ قال : لم يؤذن لي بذلك .

فهو يعلم بحياته ولكنّه بكى حتى إبيضّت عيناه من الحزن ، وإحدودب ظهره ، وشاب شعره(2) .

أمّا سيد الشهداء عليه السلام فإنّه رأى بعينه ولده يقطع إربا إربا ، ورأى أخاه العزيز تقطع كفاه ، ويغرق في الدماء ، وإخوانه الستة يرمّلون بدمائهم ، ورأى أصحابه وأهل بيته مجزرين ، وحمل أجسادهم على صدره حتى جمعهم في فسطاط واحد .

هوّن هذا كلّه ، بعد أن قدّم نفسه المقدّسة - أرواح العالمين لها الفداء - ، وضحى بروحه ، وجعل بدنه الشريف غرضا لثلاثين ألف خنجر وسيف وسنان .

نعم ، من مات حبّا فليمت هكذا !

الإمام الحسين عليه السلام زينة العرش

أجل ، أحبّ الحسين عليه السلام ربّه ، فأحبّه اللّه الجليل حبّا جعله زينة عرشه ، وزينالسماوات والأرض ، وسيد أهل الجنّة ، وفي أهل الجنّة الأنبياء عليهم السلام ، وهذا الحديث يؤذن بأنّه أفضل من جميع الأنبياء ، إلاّ من خرج بالدليل .

ص: 325


1- بحار الأنوار : 87/116 .
2- انظر بحار الأنوار : 12/305 باب 9 ، تفسير العياشي : 2/181 ح42 ، بحار الأنوار : 12/244 ح11 .

لقد جعل اللّه الملائكة خدما له . . وجعله محبوبا في عند أهل السماوات والأرض . . وجعل عاتق النبي صلى الله عليه و آله مجلسه ومركبه . . وجعل جبرئيل يهزّ مهده . . وجعل حوريات الجنان قابلاته . .

وأتحفه في الدنيا من أطعمة الجنّة وشرابها . . وخلع عليه من خلعها ، وألبسه من لباسها . . وكساه من أجنحة جبرئيل . .

روي عن أم سلمة قالت : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يلبس ولده الحسين عليه السلامحلّة

ليست من ثياب الدنيا ، فقلت له : يا رسول اللّه ، ما هذه الحلّة ؟ فقال : هذه هدية

أهداها إليّ ربّي للحسين عليه السلام ، وإنّ لحمتها من زغب جناح جبرئيل(1) . .

تأمّل - عزيزي - هل يسوغ لبدن غطّاه زغب جناح جبرئيل أن يقطّع بالسيوف ، ويكون غرضا للسهام والرماح ؟ وأن يترك عريانا على الصعيد تسفي عليه ريح الجنوب والصبا ، وتكفّنه الرمال والدماء ؟

أجسم يربّيه الرسول ويغتذي

بثدي البتول مرضّض الوجنات

محاسنه قد غيّرت الشمس حسنها

وأبلت قواه الخيل بالوطئات

بلا كفن تسفي عليه دبورها

وأنصاره صرعى بأرض فلاة

ونسوته مكشوفة الرأس في الملا

يشهّرن في البلدان مشتهرات

أفاطم قومي من ستورك وانظري

حسينك مثبورا بأرض فلاة

أفاطم عودي من لحودك واجمعي

يتاماك في ذلّ السبا وشتات

أفاطم سحّي من دموعك إنّها

عرايا كأسرى الروم منكشفات

أفاطم نوحي للغريب معفّرا

على وجهه ملقى على الوهدات

عزيز عليك الحال يا بنت أحمد

وقتل حسين خيرة الخيرات

فكم ليلة أسهرت فيها وطالما

تجرّعت فيها غصّة الوهدات

ص: 326


1- بحار الأنوار : 43/271 باب 12 ح38 .

محبّة الحسين عليه السلام المكنونة في القلوب

إنّه وضع رأسه خير موضع على أعتاب العبودية ، وصمد في ميادين الجهاد والتضحية ، وثبت في مقام المحبّة ، وإجتهد في منازل الخدمة والعبودية الحقّة ، ولهذا أعزّه ربّ العزّة ، وغمره اللطيف بالمحبّة ، ورفع مقامه ، ووهبه جاها عظيما لا يبلغه أحد .

جعل الشفاء في تربته من كلّ مرض . . وجعل الأجابة تحت قبته لكلّ دعاء يدعو به المؤمن . . وجعل الأئمة - وهم أوتاد الأرض والسماء - في ذريته .

وجعل قبره مختلفا للملائكة والمؤمنين . . وجعل أفئدة المؤمنين تهوي اليه ، فلا يخافون قتلاً ولا سلبا ، ولا ما يصيبهم في سبيل زيارته . . وجعل مدفنه معراجا للملائكة المقرّبين ، ففوج صاعد وفوج نازل .

وجعل محبّته علامة الإيمان ، وجعل محبّته مكتومة في قلوب المؤمنين ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ للحسين عليه السلام محبّة مكتومة في قلوب المؤمنين(1) .

أجل ، واللّه إنّها المحبّة المكتومة في القلوب التي تستدر الدمعة من عينك وأنت

تسمع قصته المأساوية ، بالرغم من أنّك قد سمعتها آلاف المرات ، ولكنّك لا تتمالك نفسك إذا سمعت أنّ الحسين عليه السلام قتل عطشانا جائعا ، متفتت الكبد ، ذابل الشفاه . . وإذا تصوّرته ملقى على الصعيد وحيدا فريدا ، يدير طرفه يمنيا وشمالاً ، وهو يستغيث وينادي : أما من مجير يجيرنا ؟ أما من راحم يرحمنا ؟ فإنّ الزفرات تذيبقلبك ، وتعتصر روحك ، وتحرق آماقك .أقسم باللّه لقد عجزت العقول عن إدراك أساس جلاله ، وتحيّرت الأوهام في تصوّر مراتب ومحال رفعته ومقامه .

ص: 327


1- في الخرائج : 2/841 ، البحار : 43/271 باب 12 خ39 : فقال النبي صلى الله عليه و آله : « إنّ للحسين في بواطن المؤنين معرفة مكتومة » . وفي أمواج البكاء ترجمة سيد علي جمال أشرف : 17 : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ للحسين معرفة مكنونة في قلوب المؤمنين .

إنّكم لا تطيقون سماع فضائلنا

روى صاحب المناقب : قال : إنّ قوما أتوا إلى الحسين عليه السلام وقالوا : حدثنا بفضائلكم ، قال : لا تطيقون ، وانحازوا عنّي لأشير إلى بعضكم ، فإن أطاق سأحدثكم ، فتباعدوا عنه ، فكان يتكلّم مع أحدهم حتى دهش ووله ، وجعل يهيم ولا يجيب أحدا ، وانصرفوا عنه(1) .

قال صاحب المناقب : ويروى للحسين عليه السلام :

سبقت العالمين إلى المعالي

بحسن خليقة وعلو همّه

ولاح بحكمتي نور الهدى في

ليال في الضلالة مدلهمّه

يريد الجاحدون ليطفئوه

ويأبى اللّه إلا أن يتمّه(2)

أجل واللّه ، أرادوا أن يطفئوا ذلك النور المقدّس ، ولم يألوا جهدا في سبيل ذلك ، وبذلوا كلّ ما في وسعهم ، لكنّ إرادة اللّه التامة شاءت أن تبقى لمعات وإشراقات ذلك النور المهيمن متزايدة يوما بعد يوم .

أرادوا إمحاء اسمه ، فاشتهر وطار صيته وانتشر .

أرادوا أن يقطعوا نسله ، فكثروا حتى صاروا أكثر من أيّ طائفة أو أمّة أخرى . .

أرادوا أن يقتلوه فيعفوا أثره ، ويمحو اسمه ، فمطرت السماء وتفجّرت الأرض دما حتى شهد الكون كلّه بحقّه وببطلان عدوّه .أرادوا أن يهدموا قبره ويطمسوا معالمه ، فتألّق وإرتفع بنيانه ، وإشتدّ عمرانه(3) .

وما كان ذلك كلّه إلاّ نتيجة محبّته للّه وصبره في سبيل اللّه ، ولهذا أحبّه اللّه ورسوله وأعزّاه .

ص: 328


1- المناقب : 4/51 ، بحار الأنوار : 44/183 باب 25 ح11 .
2- المناقب : 4/72 ، بحار الأنوار : 44/194 باب 26 .
3- انظر أمواج البكاء ترجمة سيد علي جمال أشرف : 18 .

حبّ اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله للحسين عليه السلام

إذا أردت أن تعرف محبّة اللّه ورسوله له عليه السلام فاستمع الى ما روى عن عائشة قالت : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله جائعا لا يقدر على ما يأكل ، فقال لي : هاتي رداي ، فقلت : أين تريد ؟ قال : إلى فاطمة ابنتي ، فانظر إلى الحسن والحسين فيذهب بعض ما بي من الجوع .

فخرج حتى دخل على فاطمة عليهاالسلام فقال : يا فاطمة أين ابناي ؟ فقالت : يا رسول اللّه خرجا من الجوع ، وهما يبكيان .

فخرج النبي صلى الله عليه و آله في طلبهما فرأى أبا الدرداء(1) ، فقال : يا عويمر ، هل رأيت ابنيّ ؟ قال : نعم يا رسول اللّه ، هما نائمان في ظلّ حائط بني جدعان .

فانطلق النبي صلى الله عليه و آله فضمّهما وهما يبكيان ، وهو يمسح الدموع عنهما ، فقال له أبو الدرداء : دعني أحملهما ، فقال : يا أبا الدرداء دعني أمسح الدموع عنهما ، فو الذي بعثني بالحقّ نبيا ، لو قطر قطرة في الأرض لبقيت المجاعة في أمّتي إلى يوم القيامة(2) . . .

وعن بعض الصحابة قال : رأيت النبي صلى الله عليه و آله يمصّ لعاب الحسين عليه السلام كما يمصّ الرجل السكرة ، وهو يقول : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ اللّه من أحبّ حسينا ، وأبغض اللّه من أبغض حسينا ، حسين سبط من الأسباط ، لعن اللّه قاتله .

فنزل جبرئيل عليه السلام وقال : يا محمد إنّ اللّه قتل بيحيى بن زكريا سبعين ألفا من المنافقين ، وسيقتل بابن ابنتك الحسين سبعين ألفا ، وسبعين ألفا من المعتدين ، وإنّقاتل الحسين في تابوت من نار ، ويكون عليه نصف عذاب أهل الدنيا(3) . . .

ص: 329


1- في المتن : « أبا ذر » .
2- بحارالأنوار : 43/309 باب 12 .
3- بحار الأنوار : 45/314 باب 46 .

وروي عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومعه الحسن والحسين ، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه ، وهو يلثم هذا مرّة ، وهذا مرّة ، حتى انتهى إلينا ، فقال له رجل : يا رسول اللّه إنّك لتحبّهما ؟ فقال : من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني(1) .

وروي عن أم سلمة قالت : إنّ الحسن والحسين دخلا على رسول اللّه صلى الله عليه و آلهوبين يديه جبرئيل ، فجعلا يدوران حوله ، يشبّهانه بدحية الكلبي ، فجعل جبرئيل يومي بيده ، كالمتناول شيئا ، فإذا في يده تفاحة وسفرجلة ورمانة ، فناولهما ، وتهلّل

وجهاهما ، وسعيا إلى جدّهما ، فأخذ منهما ، فشمّهما ، ثم قال : صيرا إلى أمّكما بما

معكما ، وابدءا بأبيكما .

فصارا كما أمرهما ، فلم يأكلوا حتى صار النبي صلى الله عليه و آله إليهم ، فأكلوا جميعا ، فلم يزل

كلّما أكل منه عاد إلى ما كان ، حتى قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

قال الحسين عليه السلام : فلم يلحقه التغيير والنقصان أيام فاطمة بنت رسول اللّه حتى توفي ، فلمّا توفي فقدنا الرمان ، وبقي التفاح والسفرجل أيام أبي ، فلمّا استشهد أمير

المؤنين فقد السفرجل ، وبقي التفاح على هيئته عند الحسن حتى مات في سمّه ، وبقيت التفاحة إلى الوقت الذي حوصرت عن الماء ، فكنت أشمّها إذا عطشت فيسكن لهب عطشي ، فلمّا اشتد عليّ العطش عضضتها ، وأيقنت بالفناء .

قال علي بن الحسين عليهماالسلام : سمعته يقول ذلك قبل مقتله بساعة ، فلمّا قضى نحبه وجد ريحها في مصرعه ، فالتمست ولم ير لها أثر ، فبقي ريحها بعد الحسين ، ولقد زرت قبره فوجدت ريحها تفوح من قبره ، فمن أراد ذلك من شيعتنا الزائرين للقبرفيلتمس ذلك في أوقات السحر ، فإنّه يجده إذا كان مخلصا(2) .

ص: 330


1- بحار الأنوار : 43/281 باب 12 .
2- المناقب : 3/391 ، بحار الأنوار : 45/91 ح31 .

ولنعم ما قال السيد الجليل السيد محمد مهدي رحمه الله :

يوم بنو المصطفى الهادي ذبائحه

والفاطميات أسراء نوائحه

وسبط أحمد عار بالعراء لقى

مرمّل بالدما جرحى جوارحه

فوق القنا رأسه يهدى لكاشحه

فنال أقصى مناه منه كاشحه

كم هام عزّ وأيد للسماح وكم

أقدام سبق بها طاحت جوانحه

وكم حريم لأهل بيت محترم

قد استحلّ وكم صاحت صوائحه

مصاب خامس أصحاب الكساء وهم

أهل العزاء بهم حلّت فوادحه

لم ينس قطّ ولا الذكرى تجدّده

أورى بزند الأسى للحشر قادحه

كيف السكون عن المكسور منفردا

من غير نسوته خلّوا مطارحه

يلقى الأعادي بقلب منه منقسم

بين الخيام وأعداء تكافحه

واللحظ كالقلب عين نحو نسوته

ترنو وعين لقوم لا تبارحه

لهفي عليه وقد مال الطغاة الى

نحو الخيام وخاض النقع سانحه

قال اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي

قد حان حيني وقد لاحت لوائحه

محمد وآل محمد عليهم السلام الواسطة في خلق جمع المخلوقات

اعلم ، أنّ من الواضحات أنّ محمدا وآل محمد صلى الله عليه و آله هم الواسطة في خلق جميع المخلوقات والسبب في نزول الرحمة والبركات من خالق البريات الى كلّ الممكنات .

فالمقصود من خلق العالم هو إيجادهم ، وأول ما خلق اللّه نور محمد صلى الله عليه و آله ، ثم خلق العالم كلّه من شعاع نوره صلى الله عليه و آله ، وكلّ رحمة لا تنزل الى الخلق إلاّ أن تنزل عليه أولاً ثم تصل منه الى الخلق ، فبهم ينزل اللّه الغيث ، وبهم ينبت الشجر ، وبهم تضى ءالشمس والقمر ، وبهم تقوم السماء(1) .

ص: 331


1- انظر فرائد السمطين : 2/319 .

بل هم مظاهر الأسماء الإليهة الحسنى ، وإنّما قام العالم كلّه بالاسم الأعظم ، ولذا قيل : بني الوجود على الاسم الأعظم ، فإذا حرّك حرّك جميع العالم .

والحسين بن علي عليهماالسلام مظهر اسم اللّه ، اللّهم إنّي أسألك باسمك الذي أشرقت به السماوات والأرض ، وباسمك الذي يصلح به الأولون والآخرون .

بنورهم عليهم السلام خرجت السماء والأرض من مكمن الخفاء الى عالم الظهور والوجود ، وبنورهم أضاءت الدنيا وأشرق العالم ، وبهم صلح الأولون والآخرون ، وهم الرحمة الإلهية الواسعة التي وسعت كلّ شيء ، وهم كلمات اللّه التامة .

إلهي فما آية للّه أكبر منهم

فهم آية من دونهم كلّ آية

وما نعمة إلاّ وهم أولياؤها

فهم نعمة منها أتت كلّ نعمة

لهم خلق اللّه العوالم كلّها

وحكمهم فيها بها من خليفة

سرى سرّهم في الكائنات جميعها

فمن سرّهم لم يخل مثقال ذرّة

المصيبة التي لم يطق الأنبياء عليهم السلام سماعها

ومن هنا يعرف مدى تأثير مصيبة سيد الشهداء عليه السلام في الحجر والمدر ، والبر والبحر ، والجماد والنبات ، والسماء والأرض ، بل كان المفروض أن تطوى السماوات ، وتبيد الأرضين ، لولا أنّ حكمة اللّه البالغة شاءت أن لا نهدم نظام الكون ، ويبقى العالم بوجود خليفته العليل المألوم سيد الساجدين وزين العابدين علي بن الحسين عليهماالسلام !

وبالرغم من أنّ العالم لم يفن ، ونظام الكون لم ينهدم ، إلاّ أنّ الإضطراب والتزلزل والهزات بلغت به الغاية ، بحيث كاد ينتهي كلّ شيء بالمرّة ، فتدكدكت الجبال ،وتلاطمت البحار ، وهاجت الأمواج ، وانخسف القمر ، وانكسفت الشمس ، ومطرت السماء دما وترابا أحمر ، وجرت الدماء من الأرض ، من شجرة في الهند ، وحمرة الأفق ، وشجرة قزوين ، وصخرة مسجد الحسين في حماة ، ومسجد النقطة

ص: 332

على بعد فرسخ من الموصل ، وجريان الدم من عيني تمثال الأسد في الروم يوم عاشوراء وليلته ، كلّ ذلك جرى في مصيبة فخر الأنام ، ولا زالت الشواهد تترى الى هذا الزمان .

أجل واللّه ، إنّها لمصيبة ما أعظمها ! حتى أنّ الأنبياء والمرسلين لم يطيقوا سماعها ، والأوصياء والصديقين لم يتحملوا عشر معشار تلك البلايا .

فلمّا سمع آدم عليه السلام بمصيبته بكى عليه بكاء الثكلى ، وصغّر عند رزيته جميع الرزايا .

ولمّا سمع نوح رفع صوته بالبكاء عاليا ونادى بالويل .

ولمّا رأى إبراهيم ملكوت السماوات ، ونظر الى العرش الأعظم ، رأى خمسة أنوار مقدّسة محدقة به ، فقال إبراهيم : يا ربّ ما لي كلّما نظرت الى هذه الأنوار المقدّسة المحيطة بالعرش الأعظم سررت وفرّج همّي ، وإذا نظرت الى النور الخامس هجم عليّ الغم والهم ؟ فجاء النداء : يا إبراهيم ، إنّك لا تعلم ما ينزل بصاحب هذا النور المقدّس من المصائب والمحن ، فإنّه المظلوم .

فلمّا سمع إبراهيم بعض المصائب التي تجري عليه بكى وقال : إنّي سقيم ، ولم يهنى ء بعده بعيش أبدا .

روي عن الصادق عليه السلام في قول اللّه - عزّ وجلّ - « فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ

إِنِّي سَقِيمٌ » ، قال : حسب فرأى ما يحلّ بالحسين عليه السلام ، فقال : إنّي سقيم لما يحلّ بالحسين(1) عليه السلام .نعم ، مصاب الحسين عليه السلام يمرض أولياء اللّه ، ويسقم أنبياؤه عليهم السلام ، ولا أدري لماذا لا يسقم شيعته ؟ ولماذا لا يبكون عليه بدل الدموع دما ؟

ص: 333


1- الكافي : 1/456 ح5 ، بحار الأنوار : 44/220 باب 28 ح12 .

ولمّا سمع زكريا تأويل « كهيعص » واُخبر بخبر كربلاء ، وأنّ « الكاف » اسم كربلاء ، و« الها »ء هلاك العترة الطاهرة ، و« الياء » يزيد ، وهو ظالم الحسين ، و« العين » عطشه ، و« الصاد » صبره . . لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكان يرثيه : إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده ؟ إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه ؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة ؟ إلهي أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما .

ثم كان يقول : إلهي ارزقني ولدا تقرّ به عيني على الكبر ، فإذا رزقتنيه فافتني بحبّه ، ثم أفجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده(1) . .

وسمع إسماعيل صادق الوعد بعض تلك المصائب العظمى فدعا اللّه أن يرزقه التأسي بتلك المصائب .

فلمّا بعثه اللّه إلى قومه كذبوه وقتلوه وسلخوا وجهه ، فغضب اللّه عليهم له ، فوجه إليه سطاطائيل ملك العذاب ، فقال له : يا إسماعيل ، أنا سطاطائيل ملك العذاب ، وجهني ربّ العزّة إليك لأعذب قومك بأنواع العذاب إن شئت ، فقال له إسماعيل : لا حاجة لي في ذلك يا سطاطائيل(2) إنّي أحبّ أن أكون مظلوما كالحسين عليه السلام . .

ولمّا إلتقى موسى بالخضر عليهماالسلام قال له الخضر : ما الذي جاء بك ؟ قال : جئت لأتعلم ممّا علمت رشدا ، قال : إنّك لن تستطيع معي صبرا ، ثم حدثه عن آل محمد صلى الله عليه و آله وعن بلائهم وعمّا يصيبهم ، فبكيا حتى إشتدّ بكاؤهما . ثم حدّثه عنفضائل محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وبلائهم وما يعوّضهم اللّه عن ذلك ، فقال موسى عليه السلام : اللّهم إجعلني من أمة محمد(3) .

ص: 334


1- بحار الأنوار : 44/223 باب 30 .
2- بحار الأنوار : 44/237 باب 30 .
3- بحار الأنوار : 13/301 ح21 .

ولمّا دفعت مريم إبنها عيسى الى الرجل الصباغ فأعطاه الكرابيس والخيوط ليصبغها - وكان عيسى طفلاً - جعلها كلّها في إناء واحد وصبغها جميعا بلون السواد ، ولم يكن إختياره لهذا اللون إلاّ حزنا على مصيبة سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، لأنّ عيسى وإن كان صغيرا إلاّ أنّه كان في المهد نبيا ، فلا يتصوّر في حقّه أنّه يفعل فعلاً عبثيا(1) .

أجل ، بكى كلّ ما في الكون من سماوات وأرضين ، والعرش والكرسي واللوح والقلم ، والجنّة والنار ، والحور والولدان ، ورضوان ومالك ، والثرى وما تحت الثرى ، والطبيعة والنفس والمادة ، وما يُرى وما لا يُرى ، إضطربت كلّها وبكت على عظيم رزية فخر بني آدم ، ومواساة للعقل الكل ، وكلّ العقل ، وقطب الأقطاب ، محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله .

بل نقل عن بعض العرفاء : أنّ كلّ بكاء بالحقّ إنّما هو بكاء على حضرته ، وأنّ كلّ حجر يخرّ من جبل إنّما يخرّ لمصيبته ، وأنّ بكاء الأطفال في المهد بكاء على بليته ، وحزنا على ظليمته . .

من غمّه أمواج البحار . . ومن همّه العظيم غبار الصحارى والقفار . . ومن كربه تساقط الأوراق وإصفرار الأشجار . . ومن إنكسار قلبه الحزين إنكسار كلّ حائط وجدار . . ومن قطع وتين قلبه المملوء بالحسرات والآهات أصوات الرعد في السموات . . والأمطار دموع السحاب على تلك الآهات . .وهذا المعنى وإن كان يبدو للذهن بعيدا ، إلاّ أنّه في نظر أهل البصيرة والمعرفة ليس كذلك ، لأنّ جميع الممكنات تخلّعت بخلعة الوجود بواسطتهم ، وكلّ ما

ص: 335


1- انظر بكاء الأنبياء عليهم السلام على مصيبة الإمام الحسين عليه السلام في بحار الأنوار : 223 وما بعدها باب 30 باب إخبار اللّه تعالى أنبياءه ونبينا صلى الله عليه و آله بشهادته .

في الكون إنعكاس عن شعاع وجودهم ، فبهم تنزل الرحمة ، فإذا عرضت عليهم بلية ورزية عرضت على العالم كلّه ، وقد ورد عنهم : نحن محالّ مشيئة اللّه (1) .

ولكنّ المنافقين ليسوا من أهل البيت عليهم السلام ، وإن كان وجودهم من وجودهم ، إلاّ أنّهم من قبيل الظلّ ، فالظلّ ليس من الشمس ، وإن كان بسببها .

وعلى العكس تماما الشيعة ، فإنّهم من أهل البيت عليهم السلام كالشعاع للشمس ، ومن البديهي أن ينكسف الشعاع إذا كسفت الشمس ، ويصفو الشعاع إذا صفت الشمس .

ولمّا كان الحسين بن علي عليهماالسلام مظهر الخضوع والخشوع ، فكلّ ما الكون من خضوع وخشوع فهو منه وله ، فلا مانع من أن تبدو تلك الآثار قبل وقوع الحادثة ، وقد إتفقت الأخبار على أن كلّ الموجودات ، وكلّ شيء بكى عليه ، وبكاء كلّ شيء بحسبه .

كلّ انكسار وخضوع به

وكلّ صوت فهو نوح الهوا

ما في الوجود معجم أو ناطق

إلاّ عرته حيرة في استوى

فطبّق الدنيا مصاب هوى

لما سيأتي أبدا أو أتى

وكلّ رطب ينتهي ذابلاً

وذي قوام يعتريه النوا

أما ترى النخلة في قبة

ذات انفطار وانفراج فشا

ما سعفة فيها انتهت أخبرت

إلاّ حزن إمامي شوى

أما ترى الأثل وأهدابه

عند الرياح ذا حنين علا

أما ترى الآفاق مغبرّة

والشمس حمراء بكرة أو مسا

أما سمعت الرعد يبكى له

والبرق والسحب بقطر همى

أما ترى النحل له رنّة

في طيرانه شديد البكا

فكلّ بقعة بها قبره

وكربلا كلّ مكان ترى

ص: 336


1- بحار الأنوار : 25/43 .

وكلّ يوم يومه دائما

تغصّ شرب الماء على من دعى

والسيف يفري نحره باكيا

والرمح ينعى قائما وانثنى

تبكيه جرد جاريات على

جثمانه وأن تدقّ القرى

واللّه ما رأيت شيئا بدا

في الكون الاّ ببكاء تلا

تأثير مصيبة الإمام الحسين عليه السلام في الأشياء

اعلم ، أنّ كلّ شيء بكى على الحسين عليه السلام ، كما هو صريح الأخبار(1) ، ولا يشترط في البكاء أن يكون بجريان الدموع من العين ظاهرا ، كما قال الحقّ تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » .

فلا يشترط إذن أن يرى بكاء كلّ شيء بالعين ، ولكن الروايات صرّحت بأنّ كلّ شيء بكى عند شهادته عليه السلام بكاءا ظاهرا ، فالسماء والأرض بكتا عليه بالدماء ، وجرت الدماء من الأشجار ، وقد اشتهر قصة الشجرة الدامية في قزوين ، وقد نقل الثقاة عن جريان الدم منها كلّ سنة يوم عاشوراء ، حتى أنّهم إذا غمّ عليهم الشهر واشتبه ، عرفوا يوم العاشر من بكائها ، وهي شجرة يقال : أنّها كانت منذ زمن شهادته عليه السلام فبكت ذلك اليوم كسائر الأشجار ، وبقيت الى اليوم(2) .

روى ابن شهرآشوب عن سفيان بن عيينة قال : حدثتني جدّتي أنّ رجلاً ممّن شهد قتل الحسين عليه السلام كان يحمل ورسا ، فصار ورسه دما ، ورأيت النجم كان فيهالنيران يوم قتل الحسين عليه السلام ، يعني بالنجم النبات(3) .

ص: 337


1- انظر بحار الأنوار : 45/220-241 .
2- وهي لا زالت الى يوم ا لناس هذا - ونحن في سنة 1427 للهجرة النبوية الشريفة - يقصدها آلاف الناس قبل يوم أو يومين من عاشوراء ويشاهدون الدماء تسيل منها يوم العاشر من محرم الحرام ، وقد ألفوا فيها كتبا ذكرها العلامة آقا بزرگ الطهراني في ذريعته ، كما صوّروها في السنوات الأخيرة وأعدّوا عنها تقارير مصوّرة كثيرة .
3- المناقب : 4/55 .

وقال بعض مشايخ العامة في شرح الوجيز : إنّ يوم قتله قطرت السّماء دماً ، وإنّ هذه الحمرة الّتي ترى في السّماء ظهرت يوم قتل الحسين عليه السلام ، ولم تر قبله أبداً ، وإنّ يوم قتله لم يرفع حجر من الدّنيا إلاّ وجد تحته دم عبيط ، وإنّ الملاحف صبغها الدم ، وكانوا يغسلونها فلا تذهب الحمرة منها .

روى ابن شهرآشوب عن نضرة الأزدية قالت : لمّا قتل الحسين عليه السلام أمطرت السماء دما ، وحبابنا وجرارنا صارت مملوءة دما(1) .

لقد بكت الملائكة المقرّبون في مصيبة ، وتضرّعوا الى اللّه ، واستغاثوا . .

روي عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام وأحدّثه ، فدخل عليه ابنه ، فقال له : مرحبا ، وضمّه وقبّله ، وقال : حقّر اللّه من حقّركم ، وانتقم ممّن وتركم ، وخذل اللّه من خذلكم ، ولعن اللّه من قتلكم ، وكان اللّه لكم وليّا وحافظا وناصرا ، فقد طال بكاء النساء وبكاء الأنبياء والصديقين والشهداء وملائكة السماء .

ثم بكى وقال : يا أبا بصير ، إذا نظرت إلى ولد الحسين عليه السلام أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم .

يا أبا بصير ، إنّ فاطمة لتبكيه ، وتشهق فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها ، وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عنق ، أو يشرد دخانها ، فيحرق أهل الأرض ، فيكبحونها ما دامت باكية ، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافة على أهل الأرض ، فلا تسكن حتى يسكن صوت فاطمة ، وإنّ البحار تكاد أن تنفتق ، فيدخل بعضها على بعض ، وما منها قطرة إلاّ بها ملك موكّل ، فإذا سمعالملك صوتها أطفأ نارها بأجنحته ، وحبس بعضها على بعض مخافة على الدنيا ، ومن فيها ، ومن على الأرض .

ص: 338


1- المناقب : 4/54 .

فلا تزال الملائكة مشفقين يبكون لبكائها ، ويدعون اللّه ، ويتضرّعون إليه ، ويتضرّع أهل العرش ومن حوله ، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس للّه مخافة على أهل الأرض ، ولو أنّ صوتا من أصواتهم يصل إلى الأرض ، لصعق أهل الأرض ، وتقلّعت الجبال ، وزلزلت الأرض بأهلها .

قلت : جعلت فداك ، إنّ هذا الأمر عظيم !

قال : غيره أعظم منه ما لم تسمعه . ثم قال : يا أبا بصير ، أما تحبّ أن تكون فيمن يسعد فاطمة ؟ !

فبكيت حين قالها ، فما قدرت على المنطق ، وما قدرت على كلامي من البكاء ، ثم قام إلى المصلّى يدعو ، وخرجت من عنده على تلك الحال(1) . .

وأعظم من ذلك ، أنّ مصيبة هذا المظلوم قد أثّرت في أهل دار السرور ، وهدمت أركانهم ، وهدّت قواهم ، والحال أنّ اللّه لم يخلق الحزن والكدر والغم والهم في عالم الجنان ، ودار الخلد والسرور والإمتنان ، بيد أنّ سكان دار السرور غمرهم الحزن والثبور ، وعمّهم الهم والغم جرّاء تلك المصيبة العظمى ، والرزية الكبرى .

قال الإمام صاحب الأمر في زيارة الناحية : يا جدّ ، واُقيمت لك المآتم في أعلا عليين ، ولطمت عليك الحور العين(2) .

وفي زيارته في الأول من رجب والنصف من شعبان : . . أشهد لقد اقشعرّت لدمائكم أظلّة العرش مع أظلّة الخلائق ، وبكتكم السماء والأرض ، وسكّانالجنان ، والبرّ والبحر(3) . .

ص: 339


1- كامل الزيارات : 82 الباب 26 ح7 ، بحار الأنوار : 45/208 باب 40 ح14 .
2- بحار الأنوار : 101/320 .
3- بحار الأنوار : 101/337 ح1 .

وذكر أظلّة العرش وأظلّة الخلائق إشارة الى تأثير هذه المصيبة في المجردات أيضا ، فالأظلّة تعبير مصطلح استعمل في الأخبار في المجردات ، باعتبارها شيء لا كالأشياء ، ففي الحديث قال الرواي : . . فَقُلْتُ : وَأَيُّ شَيْءٍ الظِّلالُ ؟ قَالَ : أَلَمْ تَرَ إِلَى ظِلِّكَ فِي الشَّمْسِ ، شَيْءٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ(1) . .

فالجنة وإن لم تكن محلاّ للحزن ، بيد أنّها خلقت - كما ورد الروايات والأخبار - من نور الحسين البهيج المطهر(2) ، فكلّ ما فيها من حسن وبهاء ، وجمال وسناء ،

ص: 340


1- الكافي : 1/436 .
2- في الفضائل : 128 في ذكر اللوح المحفوظ الذي نزل به وبحار الأنوار : 54/192 : وممّا رواه ابن مسعود قال : دخلت يوما على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقلت : يا رسول اللّه أرني الحقّ لأتصل به ، فقال : يا عبد اللّه لج المخدع ، قال : فولجت المخدع ، وعلي بن أبي طالب يصلّي ، وهو يقول في ركوعه وسجوده : اللّهم بحقّ محمد عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شيعتي ، فخرجت حتى أخبر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فرأيته وهو يصلّي ويقول : اللّهم بحقّ علي بن أبي طالب عليه السلام عبدك اغفر للخاطئين من أمّتي ، قال : فأخذني هلع حتى غشي عليّ ، فرفع النبي صلى الله عليه و آله رأسه وقال : يا ابن مسعود ، أكفرا بعد إيمان ؟ ! فقلت : حاشا وكلا يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولكني رأيت عليا يسأل اللّه تعالى بك ورأيتك تسأل اللّه به ، فلم أعلم أيّكم أفضل عند اللّه ، فقال صلى الله عليه و آله لي : اجلس ، فجلست بين يديه ، فقال لي : إعلم أنّ اللّه تعالى خلقني وخلق عليا من نور عظمته قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، إذ لا تقديس ولا تسبيح ، ففتق نوري ، فخلق منه السماوات والأرض ، وأنا واللّه أجلّ من السماوات والأرض ، وفتق نور علي بن أبي طالب عليه السلام ، فخلق منه العرش والكرسي ، وعلي بن أبي طالب أفضل من العرش والكرسي ، وفتق نور الحسن ، فخلق منه اللوح والقلم ، والحسن أفضل من اللوح والقلم ، وفتق نور الحسين ، فخلق منه الجنان والحور العين ، والحسين واللّه أجلّ من الجنان والحور العين ، ثم أظلمت المشارق والمغارب ، فشكت الملائكة إلى اللّه تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة ، فتكلّم اللّه - جلّ جلاله - بكلمة ، فخلق منها روحا ، ثم تكلّم بكلمة فخلق من تلك الروح نورا ، فأضاف النور إلى تلك الروح ، وأقامها أمام العرش ، فزهرت المشارق والمغارب ، فهي فاطمة الزهراء ، ولذلك سميت الزهراء ، لأنّ نورها زهرت به السماوات ، يا ابن مسعود ، إذا كان يوم القيامة يقول اللّه - جلّ جلاله - لعلي بن أبي طالب ولي : أدخلا الجنّة من شئتما ، وأدخلا النار من شئتما ، وذلك قوله تعالى « أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ » ، فالكافر من جحد نبوتي ، والعنيد من جحد ولاية علي بن أبي طالب ، فالنار أمده ، والجنّة لشيعته ومحبيه .

وحبور وسرور ، وضياء وهناء ، إنّما هو من الحسين عليه السلام ، أمل العاصين ، وشفيع المذنبين ، فكيف يمكن أن يكون الحسين المظلوم عليه السلام حزينا ولا تكون هي حزينة ؟وكيف يكون الحسين عليه السلام ذابلا ولا تكون هي كذلك ؟ وكيف ينادي الحسين عليه السلام من

أعماقه الملتهبة بلظى الظمأ : وا عطشاه ، وتبقى هي مسرورة محبورة ؟ وكيف يبقى الحسين عليه السلام عاريا على الرمضاء ، وتبقى هي منعمة على الأرائك والإستبرق والحرير ؟

لا يكون ذلك كذلك ، لا واللّه ، بل بدّلوا دار السرور الى دار الحزن والمواساة ، فلطمت عليه الحور .

روي عن النبي صلى الله عليه و آله قال : رأيت في الجنّة قصرا من درّة بيضاء ، لا صدع فيها ولا وصل ، فقلت : حبيبي جبرئيل ، لمن هذا القصر ؟ قال : للحسين ابنك ، ثم تقدّمت أمامه ، فإذا أنا بتفاح ، فأخذت تفاحة ففلقتها ، فخرجت منها حوراء كأنّ مقاديم النسور أشفار عينيها ، فقلت : لمن أنتِ ؟ فبكت ، ثم قالت : لابنك الحسين(1) .

[ ابرزن من وسط الجنان صوارخا

يندبن سبط محمد المفضالا

ولطمن منهن الخدود وكشّفت

منها الوجوه وأعلنت إعوالا

وخمشن منهن الوجوه لفقد من

نادى مناد في السماء وقالا

قتل الإمام ابن الإمام بكربلا

ظلما وقاسى منهم الأهوالا ]

أجل ، ما أعظمها من مصيبة ، وما أجلّها من رزية !

هذا مصاب الذي جبريل خادمه

ناغاه في المهد إذ نيطت تمائمه

سبط النبي أبو الأطهار والده ال-

-كرار مولى أقام الدين صارمه

صنو الزكيّ جنا البتول له

أقسومة ليس فيها من يقاسمه

ص: 341


1- المناقب : 4/75 ، بحار الأنوار : 43/298 باب 12 .

مطهّر ليس يغشى الريب ساحته

وكيف يغشى من الرحمن صارمه

للّه طهر تولّ اللّه عصمته

أرداه رجس عظيمات جرائمه

للّه مجد سما الأفلاك رفعته

ماذا العلى عندما مادت دعائمه

ضيف ألم بأرض وردها شرع

قفي بها وهو ظامي القلب هائمه

لهفي على ماجد أربت أنامله

على السحاب غدا سقياه خاتمه

لهفي على الآل صرعى فيالطفوف وما

غير العليل بذاك اليوم سالمه

أقثم يوم به جمّت ملاحمهم

ثم انجلى وبه قتلى غنائمه

حزن طويل أبى أن ينجلي أبدا

حتى يقوم بأمر اللّه قائمه

المصيبة العظمى

اعلم يا عزيزي ، أنّ يوم مقتل الحسين عليه السلام أنحس يوم في الدهر ، ما مضى منه وما يأتي ، يوم ليس كمثله يوم ، وليس في التاريخ يوم أعظم ولا أصعب ولا أشدّ مرارة منه على الأولياء .

قال الرضا عليه السلام : إنّ المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول اللّه صلى الله عليه و آلهحرمة في أمرنا ، أنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الإنقضاء .

فعلى مثل الحسين عليه السلام فليبك الباكون ، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام .

ثم قال عليه السلام : كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا ، وكانت الكآبة تغلب عليه ، حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلّى اللّه عليه(1) .

ص: 342


1- الأمالي للصدوق : 128 المجلس 27 ، بحار الأنوار : 44/283 باب 34 ح17 .

وروى الكليني رحمه الله بإسناده عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ صَوْمِ

تَاسُوعَاءَ وَعَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الُْمحَرَّمِ ؟

فَقَالَ : تَاسُوعَاءُ يَوْمٌ حُوصِرَ فِيهِ الْحُسَيْنُ عليه السلام وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِكَرْبَلاءَ ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَيْلُ أَهْلِ الشَّامِ ، وَأَنَاخُوا عَلَيْهِ ، وَفَرِحَ ابْنُ مَرْجَانَةَ وَعُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِتَوَافُرِ الْخَيْلِ وَكَثْرَتِهَا ، وَاسْتَضْعَفُوا فِيهِ الْحُسَيْنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَيْقَنُوا أَنْ لاَ يَأْتِيَ الْحُسَيْنَ عليه السلام نَاصِرٌ ، وَلاَ يُمِدَّهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ .

بِأَبِي الْمُسْتَضْعَفُ الْغَرِيبُ .

ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، فَيَوْمٌ أُصِيبَ فِيهِ الْحُسَيْنُ عليه السلام صَرِيعاً بَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَأَصْحَابُهُ صَرْعَى حَوْلَهُ عُرَاةً ، أَفَصَوْمٌ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ؟ ! كَلاَّ وَرَبِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، مَا هُوَ يَوْمَ صَوْمٍ ، وَمَا هُوَ إِلاَّ يَوْمُ حُزْنٍ وَمُصِيبَةٍ دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الأَرْضِ ، وَ جَمِيعِ الْمُؤمِنِينَ ، وَيَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ لابْنِ مَرْجَانَةَ ، وَآلِ زِيَادٍ ، وَأَهْلِ الشَّامِ ، غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ .

وَذَلِكَ يَوْمٌ بَكَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ بِقَاعِ الأَرْضِ خَلاَ بُقْعَةِ الشَّامِ ، فَمَنْ صَامَهُ أَوْ تَبَرَّكَ بِهِ حَشَرَهُ اللَّهُ مَعَ آلِ زِيَادٍ ، مَمْسُوخُ الْقَلْبِ ، مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ ، وَمَنِ ادَّخَرَ إِلَى مَنْزِلِهِ ذَخِيرَةً أَعْقَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى نِفَاقاً فِي قَلْبِهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَانْتَزَعَ الْبَرَكَةَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَوُلْدِهِ ، وَشَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ(1) .

وروي عن عبد اللّه بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام في يوم عاشوراء ، فألفيته كاسف الّلون ، ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤؤالمتساقط ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ، ممّ بكاؤ ؟ لا أبكى اللّه عينيك . فقال لي : أو في غفلة أنت ؟ ! أما علمت أنّ الحسين بن علي عليهماالسلام أصيب في مثل هذا اليوم ؟ !

ص: 343


1- الكافي : 4/147 ح7 .

قلت : يا سيدي ، فما قولك في صومه ؟ فقال لي : صمه من غير تبييت ، وافطره من غير تشميت ، ولا تجعله يوم صوم كملاً ، وليكن إفطارك بعد صلاة العصربساعة على شربة من ماء ، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وانكشفت الملحمة عنهم ، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعا في مواليهم ، يعزّ على رسول اللّه مصرعهم ، ولو كان في الدنيا يومئذ حيّا لكان - صلوات اللّه عليه وآله - هو المعزّى بهم ، قال : وبكى أبو عبد اللّه عليه السلام حتى أخضلّت لحيته بدموعه(1) .

أجل واللّه ، لو كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله حاضرا لقعد عليهم للعزاء ، بل كان يلبس على ولده العزيز الحبيب ملابس الحزن ، ونادى من صميم قلبه : وا حسنياه .

فوا عجبا من مصيبة ما أعظمها ، وبليّة ما أمرّها وأوجعها وأقرحها ، قتل أبو عبد اللّه عليه السلام وعترته ، وسبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان .

فيا ليت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله عينا تنظر الى بناته وبنيه ، وهم ما بين مقتول يجري عليه الصديد ، وأسير مكبّل بالحديد ، وبين من تخمش وحهها بيديها ، ومن ينزع قرطها من أذنيها ، وبين من يستجير فلا يجار ، ويستغيث فلا يغاث ، ويستنصر فلا ينصر ، ويستعين فلا يعان .

فكم من نداء : وا جدّاه ، ووا عليّاه ، ووا حسناه ، قد علا في أرض كربلاء . . وكم من استغاثة : وا مغيثاه ، ووا مجيراه ، ووا هاشماه ، قد رفعت في أرض نينوى .

فوا أسفاه ، أين الحسين ؟ وأين أبناء الحسين ؟ وأين إخوان الحسين ؟ عزيز عليّ يا أبا عبد اللّه ، أن تكون عطشانا فلا تروى ، ونظرت بالحسرة على بناتك العطشى ، وسكب دمعتك على ذراريك القتلى ، فرمقت بعينك الى ذراريك بلا حمى . . ألم يكن لصوتك راحما ؟ ولتضرّعك سامعا ؟ أفلم يبق حبيب ؟ ولدعوتك مجيب ؟

ص: 344


1- بحار الأنوار : 45/63 الباب 37 ح3 .

فيا مؤمنا في زعمه متشيّعا

ولا مؤمن إلاّ الذي قد تشيّعا

أتفرح في يوم به ذبح العدى

إمامك فاعفر عفر خدّيك لاكعا

ويألف في عاشور جنبك مضجعا

وترب الفلا أضحى لمولاك مضجعا

أيضحك منك الثغر من بعد أن غدا

به ثغر مولاك الحسين مقرّعا

أينهب فيه رحل آل محمد

وبيتك فيه لا يزال موسّعا

فيا ليت سمعي صمّ عن ذكر قتله

ويا ليت لم يخلق لي اللّه مسمعا

سأبكي دما بعد الدموع لفقده

وإن لم يكن يترك بي الحزن مدمعا

عاشوراء يوم حزن وهموم

اعلم ، أنّ هذا اليوم يوم مصيبة ، وأيّ مصيبة ! لقد جلّت وعظمت مصيبته على أهل الأسلام ، وجلّت وعظمت رزيته في السماوات والأرضين ، فيا لها من بلية عرضت على العالم ! ويا له من فساد ساد على بني آدم !

أقسم باللّه أنّ هذا اليوم ترك في قلوب المؤمنين جمرة لا تخمد أبدا ، وجرحا في صدور الشيعة لا يندمل أبدا . . وأفضل عمل في هذا اليوم ، بل في سائر الأيام ، البكاء على الحسين عليه السلام .

روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى اللّه له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل اللّه - عزّ وجلّ - يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه ، ومن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة ، وادّخر فيه لمنزله شيئا لم يبارك له فيما ادّخر ، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد اللّه بن زياد وعمر بن سعد - لعنهم اللّه - إلى أسفل درك من النار(1) .

فوا عجبي من قلب لا يحزن ، ومن عين لا تبكي !

ص: 345


1- الأمالي للصدوق : 129 المجلس 27 ح4 ، بحار الأنوار : 44/284 باب 34 ح18 .

روي عن حسن بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كنّا عنده فذكرنا الحسين بن علي - عليه السلام وعلى قاتله لعنة اللّه - ، فبكى أبو عبد اللّه الصادق عليه السلاموبكينا ،قال : ثم رفع رأسه فقال : قال الحسين بن علي عليهماالسلام : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤن

إلاّ بكى(1) .

فليس بمؤمن من سمع هذه المصائب ولم يبكي ولم تدمع عينه ، ولست وحدك الذي تبكي ، وإنّما بكى معك المقرّبون عند اللّه ، وأقام العزاء الكون بأسره .

روى ابن قولويه عن الصادق عليه السلام قال : قال علي للحسين عليهماالسلام ، يا أبا عبد اللّه ، أسوة أنت قدما ، فقال : جعلت فداك ، ما حالي ؟ قال : علمت ما جهلوا ، وسينتفع عالم بما علم ، يا بني ، اسمع وأبصر من قبل يأتيك ، فو الذي نفسي بيده ، ليسفكن بنو

أمية دمك ، ثم لا يردّونك عن دينك ، ولا ينسونك ذكر ربّك ، فقال الحسين عليه السلام : والذي نفسي بيده ، حسبي وأقررت بما أنزل اللّه ، وأصدّق نبي اللّه ، ولا أكذب قول

أبي(2) .

فلا تظنّن - يا عزيزي - أنّك وحدك في هذا العزاء ، وأنّ الأمر حادث جديد ، فإنّ هذا المأتم قائم دائما ، كان ولا زال أولياء اللّه يقيمون العزاء ويبكون أشدّ البكاء في يوم عاشوراء ، وهو من خصوصيات هذه الأمّة .

ففِي حَدِيثِ مُنَاجَاةِ مُوسَى عليه السلام وَقَدْ قَالَ : يَا رَبِّ لِمَ فَضَّلْتَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَضَّلْتُهُمْ لِعَشْرِ خِصَالٍ .

قَالَ مُوسَى عليه السلام : وَمَا تِلْكَ الْخِصَالُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا حَتَّى آمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَهَا ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الصَّلاَةُ ، وَالزَّكَاةُ ، وَالصَّوْمُ ، وَالْحَجُّ ، وَالْجِهَادُ ، وَالْجُمُعَةُ ، وَالْجَمَاعَةُ ، وَالْقُرْآنُ ، وَالْعِلْمُ ، وَالْعَاشُورَاءُ .

ص: 346


1- كامل الزيارات : 108 الباب 36 ح6 ، بحار الأنوار : 44/279 باب 34 ح5 .
2- كامل الزيارات : 71 الباب 23 ح2 ، بحار الأنوار : 44/262 باب 31 ح17 .

قَالَ مُوسَى عليه السلام : يَا رَبِّ ، وَمَا الْعَاشُورَاءُ ؟ قَالَ : الْبُكَاءُ وَالتَّبَاكِي عَلَى سِبْطِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَالْمَرْثِيَةُ وَالْعَزَاءُ عَلَى مُصِيبَةِ وُلْدِ الْمُصْطَفَى ، يَا مُوسَى ، مَا مِنْ عَبْدٍ مِنْعَبِيدِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَكَى أَوْ تَبَاكَى ، وَتَعَزَّى عَلَى وُلْدِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه و آله إِلاَّ وَكَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ثَابِتاً فِيهَا ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ فِي مَحَبَّةِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِ طَعَاماً ، وَغَيْرَ ذَلِكَ دِرْهَماً إِلاَّ وَبَارَكْتُ لَهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا الدِّرْهَمَ بِسَبْعِينَ دِرْهَماً ، وَكَانَ مُعَافاً فِي الْجَنَّةِ ، وَغَفَرْتُ لَهُ ذُنُوبَهُ ، وَعِزَّتِي وَجَلالِي مَا مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ سَالَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ ، وَغَيْرِهِ قَطْرَةً وَاحِدَةً إِلاَّ وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ(1) .

فنعوذ باللّه من قلب لا يخشع ، وعين لا تدمع .

ليت العيون الباخلات بدمعها

يوما عليك لها العمى موجود

لا أدري لمن تدّخر الدمع ، وفي أيّ رزية تريد أن تجود به ؟ ألا ترى كيف أذلّت مصيبته رقابنا ، وأرغمت أنوفنا ؟

أقسم باللّه لقد ذلّت شيعته أيّ ذلّة ، أما علمت أنّه إذا ذلّ المولى ذلّ العبد ، وإذا عزّ المولى عزّ العبد .

روى ابن بشر الهمداني قال : قلت لأبي إسحاق : متى ذلّ الناس ؟ قال : حين قتل الحسين بن علي عليهماالسلام ، وادّعي زياد ، وقتل حجر بن عدي(2) .

وروي عن الصادق عليه السلام قال : لمّا قتل الحسين عليه السلام سمع أهلنا قائلاً بالمدينة يقول : اليوم نزل البلاء على هذه الأمّة ، فلا يرون فرحا حتى يقوم قائمكم ، فيشفي صدوركم ، ويقتل عدوّكم ، وينال بالوتر أوتارا(3) . .

وروي عن عبد اللّه بن لطيف التفليسي قال : قال الصادق عليه السلام : لمّا ضرب الحسين بن علي عليهماالسلام بالسيف ، ثم ابتدر ليقطع رأسه ، نادى مناد من قبل ربّ العزّة

ص: 347


1- مجمع البحرين : 3/405 ، مستدرك الوسائل : 10/318 باب 49 ح14 .
2- الخصال : 1/181 ح248 ، بحار الأنوار : 44/271 باب 32 ح2 .
3- كامل الزيارات : 336 الباب 108 ح14 ، بحار الأنوار : 45/172 باب 39 ح21 .

- تبارك وتعالى - من بطنان العرش فقال : ألا أيّتها الأمّة المتحيّرة الظالمة بعد نبيها ، لا وفقكم اللّه لأضحى ولا فطر(1) . .

يا أهل عاشوراء يا لهفي على ال-

-دين خذوا حذاركم يا أهل يس

اليوم شقق جيب الدين واتهبت

بنات أحمد نهب الروم والصين

اليوم شقّوا على الزهراء كلّتها

وساوروها بتنكيب وتحزين

اليوم زعزع قدس من جوانبه

وطاح بالخيل سادات الميادين

اليوم قام بأعلى الطف نادبهم

يقول من ليتيم ومن لمسكين

اليوم خضّب حبيب المصطفى بدم

أمسى علبير نحور الحور والعين

اليوم حرّ نجوم الفخر من مضر

على مناخر تذليل وتوهين

اليوم عتّك أسباب الهدى مزقا

وبرقعت غرّة الإسلام بالهون

أطفال فاطمة الزهراء قد فطموا

من الثدي بأنياب الثعابين

سبحان اللّه ، أيّ كبد لرسول اللّه فروا ؟ وأيّ قلب لفاطمة الزهراء مزّقوا ؟ !

أتظنّ أنّها رزية كأيّ رزية !

وقد روى عروة بن الزبير قال : سمعت أبا ذر ، وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة ، فقال له الناس : يا أبا ذر أبشر ، فهذا قليل في اللّه !

فقال : ما أيسر هذا ، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن علي عليهماالسلام قتلاً - أو قال : ذبح ذبحا - ، واللّه لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة أعظم قتيلاً منه ، وإنّ اللّه

سيسل سيفه على هذه الأمّة ، لا يغمده أبدا ، ويبعث ناقما من ذريّته ، فينتقم من الناس ، وإنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار ، وسكان الجبال في الغياض والآكام ، وأهل السماء من قتله لبكيتم - واللّه - حتى تزهق أنفسكم(2) . . .

ص: 348


1- الأمالي للصدوق : 168 المجلس 31 ح5 ، بحار الأنوار : 45/217 باب 40 ح42 .
2- كامل الزيارات : 73 الباب 23 ح11 ، بحار الأنوار : 45/219 باب 40 ح47 .

أليلة الحشر لا بل يوم عاشورا

أنفخة الصور لا بل نفث مصدور

يوم به اهتزّ عرش اللّه من حزن

على دم لرسول اللّه مهدور

يوم به كسفت شمس الهدى أسفا

وأصبح الدين فيه كاسف النور

يوم به ذهبت أبناء فاطمة

للبين ما بين مقتول ومأسور

يا وقعة الطف خلّدت القلوب أسى

كأنّما كلّ يوم يوم عاشور

يا وقعة الطف هل تدرين أي فتى

أوقعته رهن تعقير وتعفير

مغسّل بدموع من أحبّته

ودم نحر بسيف الكفر منحور

ما غمّضت عينه أيدي أحبّته

ولا جنازته شيلت بتوقير

فيا سماء جرى هذه الأمور على

مثل الحسين فموري بعده موري

وأنت يا أرض صيري بعده قطعا

ويا جبال على وجه الثرى سيري

غربة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء

اعلم ، أنّ حكاية مبارزة الإمام الحسين عليه السلام ، وقتاله لا يمكن لأحد أن يقررها ويحررها إلاّ يتقطّع كبده قطعا ، وذلك لأنّ غاية ما يمكن المتحدّث والسامع أن يفعله

أن يبكي ويلطم رأسه وصدره ، وهذا لا يليق بهذه المصيبة .

ولكن معارك ذاك الشجاع المظفّر ووارث الكرار حيدر ، وكيفية قتاله لأبطال الميادين ، وشجعان ذلك الزمان ، تشتمل على فوائد عظيمة ، ومعاجز كثيرة تزيد في بصيرة شيعته وأوليائه ، وتزيد في حزن شيعته ، وتحرق قلوبهم على إمامهم الشهيد الزكي ، ولهذا سنذكر مجملاً من قتال قطب فلك الكمال ، كما ذكرها العلماء الأعلام ، ووردت في الأخبار المعتبرة ومعتمد الأقوال :

لمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبّته وأهل بيته عزم على لقاء القوم بمهجته ، فإلتفت عليه السلام يمنيا وشمالاً ثم قال : اللّهم إنّك ترى ما يصنع بولد نبيّك ، ثم نادى برفيع صوته مستغيثا - إتماما للحجة - :

ص: 349

هل من راحم يرحم آل الرسول المختار ؟ هل من ناصر ينصر الذريّة الأطهار ؟ هل من مجير لأبناء البتول ؟ هل من ذابّ يذبّ عن حرم الرسول ؟ هل من موحّديخاف اللّه فينا ؟ هل من مغيث يرجو اللّه في إغاثتنا ؟

فلمّا سمعن النساء صوته إرتفعت أصواتهن بالبكاء والعويل .

فخرج علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، وكان مريضا لا يقدر أن يقل سيفه ، وأم كلثوم تنادي خلفه : يا بني إرجع ، فقال : يا عمّتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال الحسين عليه السلام : يا أم كلثوم خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد(1) صلى الله عليه و آله .

شهادة علي الأصغر عليه السلام

قال السيد ابن طاووس : فتقدّم إلى الخيمة وقال لزينب عليهاالسلام : ناوليني ولدي الصغير حتى أودعه ، فأخذه(2) .

وروي أنّ السيدة زينب عليهاالسلام جاءت بالطفل الى أخيها عليه السلام وقالت لَهُ : يا اَخي اِنَّ هذا الطِّفْلَ لَهُ ثَلاثَةِ اَيّامٍ ما شَرِبَ الْماءَ ، فَاطْلُبْ لَهُ شَرْبَةً مِنَ الْماءِ .

فَاَخَذَ الطِّفْلَ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْقَوْمِ حتى وصل قريبا من ابن سعد ، وَقالَ : يا قَوْمِ قَدْ قَتَلْتُمْ اَخي وَاَوْلادي وَاَنْصاري ، وقد نقضتم بيعتي ، فاتركوني حتى أرجع الى حرم

جدّي ، فاسقوني شربة من الماء ، فما بَقيَ غَيْرُ النساء وهذا الطِّفْل ، وليس فيهم من يقاتلكم ، ويلكم اسقوا هذا الرضيع ، أما ترونه كيف يَتَلَظَّى عَطَشا من غير ذنب أتاه اليكم ، فَاسْقُوهُ شَرْبَةً مِنَ الماءِ .

فَبَيْنَما هُوَ يُخاطِبُهُمْ اِذْ اَتاهُ سَهْمَ مَشُؤمٌ مِنْ حرملة بن كاهل الظالِمٍ الغَشُّومٍ ، فَذَبَحَ الطِّفْلَ مِنَ الأُذُنِ اِلَى الأُذُنِ(3) .

ص: 350


1- بحار الأنوار : 45/45 ، الدمعة الساكبة : 4/334 .
2- اللهوف : 115 .
3- انظر مقتل أبي مخنف : 90 .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله : دعا ابنه فجعل يقبّله ، والصبي في حجره ، إذ رماه حرملةبن كاهل الأسدي بسهم ، فذبحه في حجر الحسين(1) عليه السلام .فبكى الحسين عليه السلام ورمى بطرفه الى السماء ثم قبّله وقال : اللّهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس بنبيّك محمد(2) صلى الله عليه و آله ، فتلقّى الحسين عليه السلام دمه حتى امتلأت كفّه ، ثم رمى به إلى السماء ، ثم قال : هوّن عليّ ما نزل بي إنّه بعين اللّه .

ثم تلقّى الدم بكفيه مرّة ثانية ورفع طرفه الى السماء وقال : صبرا على البلاء ، ثم رفع طرفه الى السماء وقال : اللّهم إنّك ترى ما يصنع بنا ، وما نتحمله من بلاء في هذه

الدنيا ، اللّهم فاجعله ذخيرة لنا في آخرتنا .

وفي مقتل أبي مخنف : ثم قال : اللّهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح ، اللّهم إن كنت حبست عنّاالنصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا(3) .

قال حميد بن مسلم : كنت في معسكر ابن زياد ، فرأيت الطفل مذبوحا على يدي سيد الشهداء عليه السلام ، ورأيت إمرأة خرجت من خيمة النساء ، غطى نورها شعاع الشمس ، تجرّ أذيالها ، تقوم مرّة وتقع أخرى ، وهي تنادي : وا ولداه ، وا قتيلاه ، وا مهجة قلباه ، فجاءت حتى ألقت بنفسها على الطفل ، وخرج معها من الخيمة عدّة من البنات حتى ألقين بأنفسهن على الطفل ، وكان الحسين عليه السلام يكلّم القوم ، فلمّا سمع أصواتهن ، رجع الى تلك السيدة فوعظها وصبّرها وسلاّها ، وأرجعها الى الخيمة .

فسألت عنها ، فقيل لي : هذه أم كلثوم ، وسألت عن البنات معها ، فقيل : فاطمة وسكينة ورقية .

ص: 351


1- بحار الأنوار : 45/45 الباب 37 .
2- المنتخب : 2/432 .
3- بحار الأنوار : 45/45 الباب 37 .

وفي الإحتجاج : فنزل الحسين عليه السلام عن فرسه ، وحفر للصبي بجفن سيفه ، ورمله بدمه ودفنه ، ثم وثب قائما(1) ، وعزم على قتال حزب الشيطان بنفسه المقدّسة .

الإمام الحسين عليه السلام يودّع العيال

روى صاحب المنتخب وغيره: ثم وثب على قدميه ببردة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والتحف بها ، وأفرغ عليه درعه الفاضل ، وتقلّد سيفه ، واستوى على متن جوده ، والتفت إلى الخيمة ، ونادى : يا سكينة ، يا فاطمة ، يا زينب ، يا أم كلثوم ، عليكن منّي السلام(2) .

يا بناتي الصغيرات ، وأخواتي الغريبات ، ويا أهل المحنة والبلاء ، ويا يتامى فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ويا غرباء دار البلاء ، وأسراء المحنة والهموم والعناء ، تجلببوا بالصبر ، وعليكم بعد قتلي تحمّل الأمر ، فستبقون بلا ناصر ولا معين ، وقد آن الأوان أن أتقدّم الى الميدان ، وألحق بسلفي الصالح وأمّي سيدة النسوان .

فلمّا سمع النساء والصبية هذا الكلام من سيد المظلومين خرجن من الخيام صارخات نادبات ، وحوله كالفراش إذا إجتمع حول الشمع مجتمعات .

فجاءته سكينة عزيزته التي كان يحبّها حبّا جمّا ، وهي بنت الرباب بنت إمرى ء القيس التي قال الحسين عليه السلام فيها وفي بنتها :

لعمرك إنّني لأحبّ دارا

تكون بها سكينة والرباب

أحبّهما وأبذل جلّ مالي

وليس لعاتب عندي عتاب

أجل ، جاءته سكينة باكية نادبة ، فضمّها الى صدرها ومسح دموع عينيها بكفّه ، وأنشأ يقول :

سيطول بعدي ياسكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرةً

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

ص: 352


1- الاحتجاج : 2/300 ، بحار الأنوار : 45/49 .
2- المنتخب : 2/440 ، بحار الأنوار : 45/47 بقية الباب 37 .

فنادته سكينة : يا أبة ، استسلمت للموت ؟ فقال : كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين . فقالت : يا أبة ، ردّنا إلى حرم جدّنا ، فقال : هيهات لو ترك القطا لنام ،فتصارخن النساء ، فسكّتهن الحسين(1) عليه السلام .

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : ثم إنّ شمر بن ذي الجوشن حمل على فسطاط الحسين ، فطعنه بالرمح ، ثم قال : عليّ بالنار أحرقه على من فيه ، فقال له الحسين عليه السلام : يا ابن ذي الجوشن ! أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي ؟ أحرقك اللّه بالنار ، وجاء شبث فوبخه فانصرف(2) .

فلمّا نظر الإمام وقاحتهم ، قال عليه السلام : ائتوني بثوب لا يرغب فيه ألبسه تحت ثيابي ، لا أجرّد بعد قتلي ، فإنّي مقتول مسلوب ، فلمّا سمع النسوة هذا الكلام ارتفعت أصواتهن بالبكاء والعويل ، فقال عليه السلام : مهلاً ، فإنّ البكاء أمامكن .

فأتي بتبان - وهو سروال صغير - فقال : لا ، ذاك لباس من ضربت عليه الذلّة .

وفي المناقب لابن شهرآشوب : فأتوه بتبان ، فأبى أن يلبسه ، وقال : هذا لباس أهل الذمّة . ثم أتوه بشيء أوسع منه ، فلبسه(3) .

وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فأخذ ثوبا خلقا ، فخرّقه وجعله تحت ثيابه ، فلمّا قتل عليه السلام جردّوه منه ، ثم استدعى الحسين عليه السلام بسراويل من حبرة ، ففرزها ولبسها ، وأنّما فرزها لئلا يسلبها ، فلمّا قتل عليه السلام سلبها بحر بن كعب - لعنه اللّه - وترك

الحسين الذي ترعرع على صدر الرسول صلى الله عليه و آله ، وفي حجر البتول عليهاالسلام ، مجرّدا عريانا مرمّلاً على الصعيد .

ص: 353


1- المنتخب : 2/438 .
2- اللهوف : 121 المسلك الثاني .
3- المناقب : 4/109 .

من مخبر الزهراء أنّ حسينها

بين الورى عارٍ على تلعاتها

ورؤوس أبناها على سمر القنا

وبناتها تهدى الى شاماتها

يا فاطم الزهراء قومي واندبي

أسراك في أشراك ذلّ عداتها

فكانت يدا بحر بعد ذلك تيبسان في الصيف كأنّهما عودان يابسان ، وتترطّبان في الشتاء فتنضحان دما وقيحا إلى أن أهلكه اللّه تعالى(1) .

معاشر الشيعة ، لمّا فزر إمام العالمين ، وسلطان المظلومين لباسه ولبسه ، إرتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب ، وصرخن : الوداع الوداع ، الفراق الفراق ، وعلا عويل الغريبات ، فصبّرهن المولى ، وودّع أهله وأولاده وداع مفارق لا يعود(2) .

الإمام الحسين عليه السلام يواجه الأعداء

روي أنّه عليه السلام دَعَى بِبُرْدَةِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَلَبِسَها ، وَاَفْرَغَ عَلَى نَفْسِهِ دِرْعَهُ ، وَتَعَمَّمَ بِعَمامَتِهِ ، وَتَقَلَّدَ بِسَيْفِهِ ، وَاسْتَوى عَلَى ظَهْرِ جَوادِهِ(3) « الميمون » ، وتوجّه نحو القوم ، فقام عليه السلام واتّكأ على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته ، فقال عليه السلام : يا أهل الكوفة ، أنشدكم اللّه هل تعرفونني ؟ قالوا : نعم ، أنت ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسبطه . . .

. . . قال : أنشدكم اللّه ، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنا مقلّده ؟ قالوا : اللّهم نعم .

قال : أنشدكم اللّه ، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنا لابسه ؟ قالوا : اللّهم نعم(4) .

ص: 354


1- اللهوف : 121 ، بحار الأنوار : 45/54 .
2- المنتخب : 2/439 .
3- مقتل أبي مخنف : 89 .
4- اللهوف : 86 المسلك الثاني .

قال : أنشدكم اللّه ، هل بلغكم قول النبي صلى الله عليه و آله فيّ وفي أخي : أنتما سيدا شباب أهل الجنّة ؟ قالوا : اللّهم نعم .

قال : أنشدكم اللّه ، هل تعلمون ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري ؟قالوا : اللّهم ، لا نعلم ابن بنت نبي غيرك .

قال : فبم تستحلّون دمي ؟ قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا(1) ! ! .

الإمام الحسين عليه السلام يودّع العيال وداعا آخر

روي عن سيد الساجدين عليه السلام قال : فسمعت زينب بنت فاطمة عليهماالسلام ذلك ، وكانت في موضع آخر منفردة مع النساء والبنات ، فخرجت حاسرة تجرّ ثوبها حتى وقفت عليه فقالت : يا أخي ، هذا(2) كلام من أيقن بالقتل ، فقال عليه السلام : نعم يا أختاه ، وكيف لا يوقن بالقتل من لا معين له ولا مجير ؟

قال عليه السلام : فاختنق أبي بعبرته ، فلمّا رأت عمّتي زينب عليهاالسلام بكاء أبي قالت : وا ثكلاه ينعى الحسين عليه السلام نفسه ؟ ! وجعلت تنادي : وا محمداه ، وا عليّاه ، وا فاطمتاه ، وا حسناه ، وا حسيناه .

روى الشيخ المفيد رحمه الله وغيره أنّه عليه السلام حمل على القوم وهو يرتجز ويقول :

كفر القوم وقدما رغبوا

عن ثواب اللّه ربّ الثقلين

قتل القوم عليّا وابنه

حسن الخير كريم الأبوين

حنقا منهم وقالوا اجمعوا

واحشروا الناس الى حرب الحسين

يا لقوم من أناس رذّل

جمعوا الجمع لأهل الحرمين

ثم ساروا وتواصوا كلّهم

باجتياحي لرضاء الملحدين

ص: 355


1- اللهوف : 86 المسلك الثاني .
2- اللهوف : 83 .

لم يخافوا اللّه في سفك دمي

لعبيد اللّه نسل الكافرين

وابن سعد قد رماني عنوة

بجنود كوكوف الهاطلين

لا لذنب كان منّي قبل ذا

غير فخري بضياء النيرين

بعلي الخير من بعد النبي

والنبي القرشيالوالدين

خيرة اللّه من الخلق أبي

ثم أمّي فأنا ابن الخيرتين

فضة قد خلصت من ذهب

فأنا الفضة وابن الذهبين

ذهب في ذهب في ذهب

ولجين في لجين في لجين

والدي شمس وأمّي قمر

وأنا الكوكب وابن النيرين

جوهر من فضة مكنونة

فأنا الجوهر وابن الدرّتين

من له جدّ كجدّي في الورى

أو كشيخي فأنا ابن العلمين

فاطم الزهراء أمي وأبي

قاصم الكفر ببدرٍ وحنين

عبد اللّه غلاما يافعا

وقريش يعبدون الوثنين

يعبدون اللات والعزّى معا

وعلي كان صلّى القبلتين

مع رسول اللّه سبعا كاملاً

ما على الأرض مصلّي غير ذين

هجر الأصنام لم يعبدهم

مع قريش لا ولا طرفة عين

من له عمّ كعمّي جعفر

خلق اللّه له أجنحتين

نحن أصحاب العبا خمستنا

قد ملكنا شرقها والمغربين

نحن جبريل لنا سادسنا

ولنا الكعبة ثم الحرمين

جدّي المرسل مصباح الدجى

وأبي الموفي له بالبيعتين

والدي خاتمه جاد به

حين وافى رأسه للركعتين

قتل الأبطال لمّا برزوا

يوم أحد وببدر وحنين

أظهر الأسلام زعما للعدى

بحسام صارم ذي شفرتين

ص: 356

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخرا حين أفخر

وجدّي رسول اللّه أكرم من مضى

ونحن سراج اللّه في الأرض نزهر

وفاطم أمي سلالة أحمد

وعمّي يدعى ذو الجناحين جعفر

وفينا كتاب اللّه أنزل صاقا

وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحن أمان اللّه للناس كلّهم

نسرّ بهذا في الأنام ونجهر

ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا

بكأس رسول اللّه ما ليس ينكر

وشيعتنا في الناس أكرم شيعة

ومبغضنا يوم القيامة يخسر

فطوبى لعبدٍ زارنا بعد موتنا

بجنة عدنٍ صفوها لا يكدّر

شجاعة الحسين عليه السلام في كربلاء

قال محمد بن أبي طالب : ثم إنّه عليه السلام دعا الناس إلى البراز ، فلم يزل يقتل كلّ من دنا منه من عيون الرجال ، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم حمل عليه السلام على الميمنة

وقال :

الموت خير من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

ثم حمل على الميسرة ، وهو يقول :

أنا الحسين بن علي

آليت أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي

أمضي على دين النبي(1)

وفي بعض الكتب المعتبرة : أنّه عليه السلام كان يحمل على القوم ويصرخ فيهم صرخات حيدر الكرار ، فقلب ميمنتهم على الميسرة ، وميسرتهم على الميمنة ، وقتل صناديدهم ، ثم حمل على القلب يحصد رؤوسهم ، فتتساقط كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف ، حتى قتل منهم أربعمائة بين فارس وراجل .

ص: 357


1- بحار الأنوار : 45/50 .

قال حميد بن مسلم : فو اللّه ما رأيت مكثورا قطّ ، قد قتل ولده وأهل بيته وصحبه أربط جأشا منه ، وإن كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم ، وقدتكاثروا عليه عددا لا يحصى ، فينهزمون بين يديه ، كأنّهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه ، وهو يقول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم(1) .

ولنعم ما قيل في المقام :

فشدّ عليهم فهو نجل الأسد

يا لها شدّة خافت بكلّ منافق

فبعض محبّيه يشبه حاله

بوصف وعندي الوصف غير مطابق

إذا شاء يفني كان عزرائيل خادما

له صادرا من أمره بالمخانق

وأمّا دعا الأرواح لبّت مطيعة

وتحريكهم عنه بحكم الوثائق

عودة الى الخيام ومواساة الحرم

وفي بعض الكتب : رجع الحسين عليه السلام الى الخيمة ، فسمع بكاء نسائه وبناته ، فقال : يا سكينة ، لا تحرقي قلبي ببكائك ، اسكتي فإنّ البكاء أمامك ، ثم صبّر عياله

وأطفاله ، وأخواته وبناته .

حملة أخرى

ثم حمل على القوم ، فقلب أولهم على آخرهم ، فانكشفوا بين يديه يعدوا بعضهم على بعض ، فكشفهم عن الشريعة ، وأقحم الفرس على الفرات ، وكادت أن تطلع روحه من شدّة العطش ، وكذا كان حال الفرس ، فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب ، قال عليه السلام : أنت عطشان وأنا عطشان ، واللّه لا ذقت الماء حتى تشرب .

فلمّا سمع الفرس كلام الحسين عليه السلام شال رأسه ولم يشرب ، فقال الحسين عليه السلام : أشرب فأنا أشرب ، فمدّ الحسين عليه السلام يده فغرف من الماء ، فلمّا قرب الماء من فمه

ص: 358


1- مثير الأحزان : 72 مقتل العباس بن علي عليهماالسلام ، بحار الأنوار : 45/50 بقية الباب 37 .

ليشرب رماه الحصين بن نمير - لعنه اللّه - بسهم ، فوقع في لبّته ، فعالجه حتى أخرجه ، ثم وضع يده ، فامتلأ كفّه من الدم ، فرمى به الى السماء وقال : يا ربّ اليك أشكو من قومٍ أراقوا دمي ، ومنعوني من شرب الماء .فأراد أن يشرب مرّة أخرى ، فصاح بهم عمر بن سعد : ويلكم ، لو شرب الحسين عليه السلام قطرة من الماء لم يبق منكم أحدا .

فنادى لعين : أدرك خيمة النساء فقد هتكت ، فنفض الماء من يده ، وحمل على القوم فكشفهم ، فإذا الخيمة سالمة(1) .

وداع آخر

ورجع الحسين عليه السلام مرّة أخرى الى الخيام ليودّع عياله ، فلمّا توجه نحو الميدان نادى سيد الساجدين عليه السلام : يا أبة توقّف حتى أودّعك .

فخرج النساء من سرادق العصمة ، وطفن به كالفراشات إذا طافت حول الشمعة ، فسلاّهن الحسين عليه السلام ، وصبّرهن ، وذكرهن بثواب اللّه وبما أعدّ اللّه لهن من الأجر ، فإرتفعت صرخات : الوداع الوداع ، الفراق الفراق ، من النساء ، وهن يودّعن وليّهن ويعلمن أنّهن سيبقين بعده بلا حام ولا نصير .

ثم إنّه ذهب باكي العين الى ولده المريض زين العابدين عليه السلام ، فضمّه وقبّله وسلّمه ودائع الإمامة وأوصاه .

ثم رجع الى النساء وقد اجتمعن حوله بأكباد محترقة ، وقلوب منكسرة ، وعيون عبرى ، يعلوهن الاضطراب بما لا يمكن أن يتصوّره مخلوق ، ولا يحرره أيّ قلم ، ولا يبينه أيّ لسان ، فأمرهن بالصبر والسكون ، وأمرهن أن يلبسن ثيابا استعدادا للأسر ، وقال لهم : استعدوا للبلاء ، واعلموا أنّ اللّه حافظكم وحاميكم ،

ص: 359


1- انظر المناقب : 4/58 ، بحار الأنوار : 45/50 بقية الباب 37 .

وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم الى خير ، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء ، ويعوضكم اللّه عن هذه البلية أنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم ، فلا تخمشن عليّ وجها ، ولا تشققن عليّجيبا ، ولا تدعين بالويل والثبور ، ولا أمنعكن عن البكاء ، فإنّكن من بعدي غريبات ثكالى .

لا تلطمي يا ابنة الزهراء خدّك من قتلي

وقد غمرت أعضاك أشجان

ولا تشقّي عليّ الجيب صارخة

فالشقّ كشف ونشر الشعر خذلان

لكن إذا انصفت في الرمضاء منجدلاً

وانحط من شامخ المعروف بنيان

حتى حنين حمام الأيك نادبة

واستمطري الدمع حيث السحب أعيان

وإن تفرّقت الأيتام فانتدبي

لجمعها فالجزا في البعث غفران

وإن يشقّ عليها سير قائدها

فاسترفقيه وإن عازتك إحسان

واستسقي من خصمك الماء إن شكت

عطشا فربما رقّ إن الشطّ ملآن

هذا علي أبوها إن دعت بأب

والمؤمنين لها في اللّه إخوان

أسد الأسود يحمل حملة أخرى

ثم إنّه عليه السلام حمل عليهم كالليث المغضب ، وتوجه بحكم الطبيعة البشرية الى الفرات ، لشدّة ما به من العطش ، فركب المسناة ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني دارم ، يقال له « زرعة بن شريك » ، فقال لهم : ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ، ولا تمكّنوه من الماء ، فقال الحسين عليه السلام : اللّهم أظمئه ، فغضب الدارمي ورماه بسهم ، فأثبته في حنكه ، فانتزع الحسين عليه السلام السهم ، وبسط يده تحت حنكه ، فامتلأت راحتاه بالدم ، فرمى به ثم قال : هكذا ألقى اللّه (1) .

ص: 360


1- انظر الإرشاد : 2/108 ، بحار الأنوار : 45/50 .

فروي عمن شهد الدارمي وهو يموت ، وهو يصيح من الحر في بطنه ، والبرد في ظهره ، وبين يديه المراوح والثلج ، وخلفه الكانون ، وهو يقول : اسقوني ، أهلكني العطش ، فيؤى بعس عظيم فيه السويق والماء واللبن ، لو شربه خمسة لكفاهم ،فيشربه ، ثم يعود فيقول : اسقوني أهلكني العطش ، فانقد بطنه كانقداد البعير(1) ، وهوى في الهواية .

أمّا المولى الغريب ، فقد ربط جرحه بخرقة ورجع الى الميدان .

فروي أنّه لمّا آيس من الماء ، وأنّه لا يذوق الماء إلاّ أن يشرب الماء الطهور من يد

جدّه وأبيه ، قال :

شيعتي مهما شربتم ماء عذب فاذكروني

أو سمعتم بغريبٍ أو شهيد فاندبوني

عجز القوم عن مواجهة الحسين عليه السلام

لقد حمل عليهم ابن الكرار غير الفرّار حملة يعجز الراوي عن وصفها ، فلمّا نظر الشمر - لعنه اللّه - الى ذلك قال لعمر بن سعد : أيّها الأمير ، واللّه لو برز الى الحسين عليه السلام أهل الأرض لأفناهم عن آخرهم ، فالرأي أن نفترق عليه ، ونملأ الأرض بالفرسان والرماح ، والنبل تحيط به من كلّ جانب(2) .

قال ابن طاووس رحمه الله : قال بعض الرواة : واللّه ما رأيت رجلاً يقتل بنوه وإخوته وأصحابه أربط جأشا من الحسين عليه السلام ، ولا شكّ في ذلك فأنّه ضلع من أضلاع النبوة .

فنادى ابن سعد لعنه اللّه : وليلكم افترقوا عليه فرقتين : فافترقوا فرقتين ، فرقة بالسيوف والرماح ، وفرقة بالنبال والأحجار ، لهفي على ذلك الجسم المتعب الخضيب .

ص: 361


1- بحار الأنوار : 45/311 .
2- المنتخب : 2/450 .

وحمل عليه السلام عليهم ، وهم ثلاثون ألفا ، فكان إذا هجم عليهم فرّوا عنه كالجراد المنتشر ، يطأ بعضهم بعضا ، ثم يرجع الى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم .قال حميد بن مسلم : واللّه ، لقد رأيت شيبته مخضوبة بالدم ، ودرعه بانٍ عليه بنيانا ، وليس يرى للناظرين ، وهو إذا شدّ عليهم انكشفوا من بين يديه انكشاف الغنم إذا شدّ عليه الذئب .

وروى صاحب البحار عن ابن شهرآشوب ومحمد بن أبي طالب قالا : ولم يزل يقاتل حتى قتل ألف رجل وتسعمائة رجل وخمسين رجلاً سوى المجروحين(1) .

وقال صاحب المنتخب : لم يزل يحمل على القوم ويقاتلهم حتى قتل من القوم ألوفا(2) .

وروي عن بعض المشايخ : أنّه عليه السلام قتل عشرة آلاف .

وربما استبعد هذا العدد ، ولكنّه لا يستبعد من هذا الشجاع المظفّر الذي ورث الشجاعة من خير البشر ، وورّثه النبي صلى الله عليه و آله جرأته وجوده .

أجل ، نادى ابن سعد : الويل لكم ، أتدرون لمن تقاتلون ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب ، وكانت الرماة أربعة آلاف ، فرموه بالسهام ، فحالوا بينه وبين رحله(3) .

وقال صاحب المناقب والسيد ابن طاووس : فصاح بهم : ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعرابا ، فناداه شمر فقال : ما تقول يا ابن فاطمة ؟

ص: 362


1- بحار الأنوار : 45/50 .
2- المنتخب : 2/450 .
3- بحار الأنوار : 45/51 .

قال : أقول : أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّا ، فقال شمر : لك هذا ، ثم صاح شمر : إليكم عن حرم الرجل ، فاقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفؤ كريم .

عطش الحسين عليه السلام يوم عاشوراء

لهفي له عليه السلام ، فقصده القوم الجفاة ، وهو في ذلك يطلب شربة من ماء ، فكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى أحلوه عنه(1) .

يا أبا عبد اللّه ، ما خلت قبلك بحرا مات من ظمأ ، ولا أسدا ترديه أحمال .

قال أبو الفرج : وجعل الحسين عليه السلام يطلب الماء ، وشمر يقول له : واللّه لا ترده أو ترد النار .

فقال له رجل : ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنّه بطون الحيتان ، واللّه لا تذوقه أو تموت عطشا ، فقال الحسين عليه السلام : اللّهم أمته عطش .

قال الراوي : واللّه لقد كان هذا الرجل يقول : اسقوني ماء ، فيؤى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه ، ثم يقول : اسقوني قتلني العطش ، فلم يزل كذلك حتى مات وانتقل الى جهنم وبئس المصير .

وفي بعض الكتب : أنّه عليه السلام وقف وهو يقول :

خيرة اللّه من الخلق أبي

بعد جدّي فأنا ابن الخيرتين

والدي شمس وأمّي قمر

وأنا الفضة وابن الذهبين

الى آخر الأبيات . .

قال السيد ابن طاووس وغيره : ثم رماه رجل من القوم يكنى « أبا الحتوف الجعفي » بسهم ، فوقع السهم في جبهته ، فنزعه من جبهته ، فسالت الدماء

ص: 363


1- بحار الأنوار : 45/51 .

على وجهه ولحيته ، فقال عليه السلام : اللّهم إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤاء العصاة ، اللّهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحدا ، ولا تغفر لهم أبدا(1) .

حملته عليه السلام الرابعة على الذئاب

ثم حمل عليهم كالليث المغضب - وهي حملته الرابعة - فجعل لا يلحق منهم أحدا إلاّ بعجه بسيفه فقتله ، والسهام تأخذه من كلّ ناحية ، وهو يتقيها بنحره وصدره ، ويقول :

يا أمّة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته ، أما إنّكم لن تقلوا بعدي عبدا من عباد اللّه فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ، وأيم اللّه إنّي لأرجو أن يكرمني ربّي بالشهادة بهوانكم ، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون .

فصاح به الحصين بن مالك السكوني فقال : يا ابن فاطمة ، وبما ذا ينتقم لك منّا ؟ قال : يلقي بأسكم بينكم ، ويسفك دماءكم ، ثم يصبّ عليكم العذاب الأليم .

ثم لم يزل يقاتل حتى أصابته جراحات عظيمة(2) .

جراحات الحسين عليه السلام

روي عن جعفر بن محمد بن علي عليهم السلام قال : وجدنا بالحسين ثلاثا وثلاثين طعنة ، وأربعا وثلاثين ضربة .

وقال الباقر عليه السلام : أصيب الحسين

عليه السلام ووجد به ثلاثمائة وبضع وعشرون طعنة برمح ، وضربة بسيف ، أو رمية بسهم .

وروى ابن شهرآشوب : ثلاثمائة وستون جراحة .

وروي : ألف وتسعمائة جراحة .

ص: 364


1- بحار الأنوار : 45/53 .
2- بحار الأنوار : 45/52 .

وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ ، وروي أنّها كانت كلّها في مقدّمه(1) .

روى المفيد وغيره قالوا : فوقف عليه السلام يستريح ساعة ، وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف ، إذ أتاه حجر فوقع في جبهته ، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه ، فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع السهم في صدره . وفي بعض الروايات : على قلبه ، فقال الحسين عليه السلام : بسم اللّه وباللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره .

ثم أخذ السهم فأخرجه من قفاه ، فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح ، فلمّا امتلأت رمى به إلى السماء ، فما رجع من ذلك الدم قطرة ، وما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين عليه السلام بدمه إلى السماء .

ثم وضع يده ثانيا ، فلمّا امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته ، وقال : هكذا أكون حتى ألقى جدّي رسول اللّه وأنا مخضوب بدمي ، وأقول : يا رسول اللّه قتلني فلان وفلان .

ثم ضعف عن القتال فوقف ، فكلّما أتاه رجل وانتهى إليه انصرف عنه لئلا يبتلي بدمه .

وروي أنّه جاءه رجل من كندة يقال له « مالك بن اليسر » ، فشتم الحسين عليه السلام ، وضربه بالسيف على رأسه ، وعليه برنس ، فامتلأ دما ، فقال له الحسين عليه السلام : لا أكلت بها ولا شربت ، وحشرك اللّه مع الظالمين . ثم ألقى البرنس ، ولبس قلنسوة ، واعتم عليها ، وقد أعيا ، وجاء الكندي ، وأخذ البرنس ، وكان من خزّ .

ص: 365


1- أمالي الصدوق : 230 ح240 ، بحار الأنوار : 45/52 .

فلمّا قدم بعد الوقعة على امرأته ، فجعل يغسل الدم عنه ، فقالت له امرأته : أتدخل بيتي بسلب ابن رسول اللّه ؟ ! اخرج عنّي حشى اللّه قبرك نارا(1) ، فوثباليها ليلطمها ، فانحرفت عن اللطمة ، فأصابت يده الباب التي في الدار ، فدخل مسمار في يده ، فعملت عليه حتى قطعت من وقته(2) .

وروي أنّه يبست يداه ، وكانتا في الشتاء ينضحان دما ، وفي الصيف تصيران يابستين كأنّهما عودان ، ولم يزل بعد ذلك فقيرا بأسوء حال حتى مات لعنه اللّه (3) .

وداع آخر

أمّا الحسين عليه السلام فإنّه جاء الى الخيام بعد أن أخذ البرنس منه ، ودعى بخرقة ، فجى ء بها اليه ، فشدّ بها جراح رأسه بيده الكريمة ، واستدعى بقلنسوة فلبسها ، وإعتم عليها بعمامة ، ونادى : يا زينب يا أم كلثوم يا رقية يا فاطمة عليكن مني السلام .

فتقدّمت أخته زينب عليهاالسلام فقالت : يا أخي أيقنت بالقتل ؟ فقال عليه السلام : كيف لا أيقن وليس لي معين ولا نصير ، فقالت زينب عليهاالسلام : يا أخي ، ردّنا الى حرم جدّنا ؟ فقال عليه السلام : هيهات هيهات ، وكأنّي بكم غير بعيد كالعبيد يسوقونكم أمام الركاب ، ويسومونكم سوء العذاب .

فلمّا سمعت مخدّرة أمير المؤمنين عليهماالسلام هذا الكلام جرت دموعها ونادت : وا وحدتاه ، وا قلّة ناصراه ، وا شؤم صباحاه ، ثم أهوت على جيبها فشقّته ، والى شعرها فنشرته ، ولطمت وجهها .

ص: 366


1- بحار الأنوار : 45/52 .
2- المنتخب : 2/451 .
3- بحار الأنوار : 45/53 .

فلمّا نظر اليها الحسين عليه السلام وهي بتلك الحالة قال : مهلا يا بنت المرتضى إنّ البكاء طويل ، ثم قام الحسين عليه السلام يخرج من الخيمة ، فألقت زينب عليهاالسلام بنفسها عليه ،وتعلّقت به ، وهي تقول : مهلاً يا أخي ، توقّف حتى أتزوّد من نظري اليك ، فهذا وداع لا تلاق بعده .

فمهلاً أخي قبل الممات هنيئة

لتبرد منّي لوعة وغليل

فجعلت تقبّل يديه ورجليه ، واجتمعت حول المتعب الجريح ، والعطشان الحريب كلّ النساء ، هذه تقبّل يده ، وأخرى تقبّل رجله ، وأخرى تشمّه ، وهن يندبن بالويل والثبور ، فدعى الحسين عليه السلام بثوب يلبسه تحت ثيابه . . .

ثم خرج الحسين عليه السلام من الخيمة متوجها الى الميدان . .

محاصرة الإمام الحسين عليه السلام

قال صاحب البحار : فلبثوا هنيئة(1) ، ثم عادوا إليه وأحاطوا به ، فرماه خولي الأصبحي بسهم فوقع في حنكه عليه السلام ، وطعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته ، فوقع عليه السلام إلى الأرض على خدّه الأيمن(2) .

يقول الشاعر :

أهوى فكبّرت الصفوف برغمه

وبرغم كلّ مكبّر ومهلّل

عجبا من السبع الطرائق كيف لم

تنشقّ والأرضين لم تتزلزل

أسفا عليه وللكواكب كيف لم

تنقضّ والأفلاك لم تتعطّل

شهادة عبد اللّه بن الحسن في اللحظات الأخيرة قبل شهادة الحسين عليه السلام

فخرج عبد اللّه بن الحسن بن علي عليهماالسلام ، وهو غلام لم يراهق ، وكان عمره أحد عشر سنة ، من عند النساء يشتدّ حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام .

ص: 367


1- في المتن : « فوقفوا ساعة » .
2- بحار الأنوار : 45/55 بقية الباب 37 .

وروي أنّه لمّا خرج الحسين عليه السلام في الوداع الأخير ، خرج عبد اللّه وراء عمّهباكيا ، فلحقته زينب بنت علي عليهماالسلام لتحبسه ، فقال الحسين عليه السلام : احبسيه يا أختي ،فأبى وامتنع امتناعا شديدا ، وقال : لا واللّه لا أفارق عمّي .

وأهوى أبجر بن كعب - وقيل : حرملة بن كاهل - إلى الحسين عليه السلام بالسيف ، فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمّي ؟ فضربه بالسيف ، فاتقاه الغلام

بيده ، فأطنّها إلى الجلد ، فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا عمّاه ، وروي أنّه نادى : يا أمّاه ، فخرجت أمّه من الخيام حافية حاسرة وهي تنادي : وا ولداه ، ويا نور عيناه .

فأخذه الحسين عليه السلام ، فضمّه إليه ، وقال : يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ اللّه يلحقك بآبائك الصالحين ، فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه ، وهو في حجر عمّه الحسين(1) عليه السلام .

فلمّا نظرت زينب عليهاالسلام الى هذا المنظر أعولت ونادت : وا ابن أخاه ، ليت الموت أعدمني الحياة(2) .

آخر لحظات الإمام الحسين عليه السلام

روي أنّ الإمام المظلوم عليه السلام نظر يمنة ويسرة فلم ير ناصرا ولا معينا ، فرمق السماء بطرفه وقال : صبرا على قضائك يا ربّ ، لا معبود سواك ، يا غياث المستغيثين(3) .

وضجّت الملائكة إلى اللّه - عزّ وجلّ - بالبكاء والنحيب ، وقالوا : إلهنا وسيدنا ، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك ، فأوحى اللّه - عزّ وجلّ - إليهم : قرّوا ملائكتي ، فو عزّتي وجلالي ، لأنتقمن منهم ولو بعد حين .

ص: 368


1- بحار الأنوار : 45/52 بقية الباب 37 .
2- المنتخب : 2/439 .
3- ناسخ التواريخ ترجمة سيد علي جمال أشرف : 1/455 .

ثم كشف اللّه - عزّ وجلّ - عن الأئمة من ولد الحسين عليه السلام للملائكة ، فسرّت الملائكة بذلك ، فإذا أحدهم قائم يصلّي ، فقال اللّه - عزّ وجلّ - : بذلك القائم أنتقممنهم(1) ، وأنّي قتلت بدم يحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وسأقتل بالحسين عليه السلامسبعين ألفا(2) . . من بني أمية بيد القائم .

حضور زينب عليهاالسلام عند الحسين عليه السلام

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : وخرجت زينب عليهاالسلام من الفسطاط ، وهي تنادي : وا أخاه ، وا سيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل(3) .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله : وخرجت أخته زينب عليهاالسلام إلى باب الفسطاط ، فنادت عمر بن سعد بن أبي وقاص : ويحك يا عمر ، أيقتل أبو عبد اللّه وأنت تنظر إليه ، فلم

يجبها عمر بشيء ، ودموع عمر تسيل على خديه ولحيته ، وهو يصرف وجهه عنها(4) . فنادت : ويحكم ، أما فيكم مسلم ، فلم يجبها أحد بشيء(5) .

مصرع الحسين عليه السلام

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : وصاح شمر بأصحابه : ما تنتظرون بالرجل ؟

وحملوا عليه من كلّ جانب ، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى ، وروي أنّه أبان كتفه اليسرى بهذه الضربة ، وضربه آخر على عاتقه المقدّس بالسيف ضربة كبا عليه السلام بها لوجهه ، وكان قد أعيا ، وجعل ينوء ويكبو ، فطعنه سنان بن

ص: 369


1- علل الشرائع : 1/160 باب 129 ، دلائل الإمامة : 239 ، بحار الأنوار : 45/221 باب 41 .
2- قصص الأنبياء للراوندي : 219 فصل3 ح289 .
3- اللهوف : 121 المسلك الثاني ، بحار الأنوار : 45/52 بقية الباب 37 .
4- بحار الأنوار : 45/55 بقية الباب 37 .
5- الإرشاد : 2/111 .

أنس النخعي في ترقوته ، ثم انتزع الرمح ، فطعنه في بواني صدره ، ثم رماه سنان أيضابسهم فوقع في نحره ، فسقط عليه السلام وجلس قاعدا ، فنزع السهم من نحره ، وقرن كفيه جميعا ، فكلّما امتلأتا من دمائه خضب بهما رأسه ولحيته ، وهو يقول : هكذا ألقى اللّه مخضبا بدمي ، مغصوبا على حقّي .

فقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه : انزل - ويحك - إلى الحسين عليه السلام فأرحه ، فبدر إليه خولي بن يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسه ، فأرعد(1) .

وقال صاحب المناقب : ولمّا ضعف عليه السلام نادى شمر : ما وقوفكم ؟ وما تنتظرون بالرجل ؟ قد أثخنته الجراح والسهام ، احملوا عليه ثكلتكم أمهاتكم ، فحملوا عليه من كلّ جانب ، فرماه الحصين بن تميم في فيه ، وأبو أيوب الغنوي بسهم مسموم في حلقه(2) .

فقال الحسين عليه السلام : بسم اللّه وباللّه ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه ، وهذا قتيل في رضاء اللّه ، ثم أخذ من دمه مرارا ، وخضب به رأسه(3) .

فنزل سنان بن أنس ، ففتح الحسين عليه السلام عينيه ، فأرعد سنان وهرب .

فابتدر اليه شبث بن ربعي وبيده السيف ، فرمقه الحسين عليه السلام بطرفه ، فرمى السيف من يده وولّى وهو يقول : معاذ اللّه يا حسين أن ألقى اللّه بدمك .

فنزل عمرو بن الحجاج عن فرسه ، وأقبل نحو الحسين عليه السلام ، فنظر عليه السلام اليه ، فارتعد ، وركب فرسه وولّى .

فقال له شمر : ثكلتك أمّك ، لم رجعت عن قتله ؟ فقال : يا ويلك إنّه فتح عينيه في وجهي فأشبهتا عيني رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولا أريد أن أبتلي بدمه .

ص: 370


1- اللهوف : 121 المسلك الثاني .
2- بحار الأنوار : 45/55 بقية الباب 37 .
3- انظر الدمعة الساكبة : 4/349 ، وذريعة النجاة : 258 .

قال حميد بن مسلم : وخرجت زينب بنت علي عليهماالسلام ، وقرطاها يجولان بين أذنيها ، وهي تقول : ليت السماء انطبقت على الأرض ، يا عمر بن سعد ، أيقتل أبوعبد اللّه وأنت تنظر إليه ؟ ودموع عمر تسيل على خديه ولحيته(1) . .

مصرع الحسين عليه السلام برواية هلال بن نافع

روى ابن طاووس وابن نما عن هلال بن نافع قال : إنّي لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ : أبشر أيّها الأمير ! فهذا شمر قد قتل الحسين .

قال : فخرجت بين الصفين ، فوقفت عليه وإنّه ليجود بنفسه ، فو اللّه ، ما رأيت قطّ قتيلاً مضمخا بدمه أحسن منه ، ولا أنور وجها ، ولقد شغلني نور وجهه ، وجمال هيبته عن الفكرة في قتله .

فاستسقى في تلك الحالة ماء ، فسمعته يقول : أما تسقوني قبل طلوع روحي شربة من الماء ، فسمعت رجلاً يقول : لا تذوق الماء حتى ترد الحامية ، فتشرب من حميمها .

فسمعته يقول : أنا أرد الحامية فأشرب من حميمها ؟ ! بل أرد على جدّي رسول اللّه ، وأسكن معه في داره ، « فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ » ، وأشرب « مِنْ ماءٍ

غَيْرِ آسِنٍ » ، وأشكو إليه ما ركبتم منّي ، وفعلتم بي .

قال : فغضبوا بأجمعهم حتى كأنّ اللّه لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئا ، فاجتزوا رأسه ، وإنّه ليكلّمهم(2) .

وروي عن الباقر عليه السلام قال : . . لقد قتل بالسيف ، والسنان ، وبالحجارة ، وبالخشب ، وبالعصا ، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك(3) .

ص: 371


1- بحار الأنوار : 45/55 بقية الباب 37 .
2- بحار الأنوار : 45/56 بقية الباب 37 .
3- بحار الأنوار : 45/91 بقية الباب 37 ح30 .

ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الأرض ساخت بأهلها ، ليت الجبال تدكدكت على السهل ، وليت الكون غرق بالدماء ، وليت العالمين كلّهم فداء للحسين عليه السلام .

فلمّا قتل صلوات اللّه عليه ، ارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة ، فيها ريح حمراء ، لا ترى فيها عين ولا أثر(1) ، وتفجرت الأرض دما .

وفي بعض الروايات : نادى مناد من بين السماء والأرض : قتل الإمام ابن الإمام ، قتل واللّه الحسين .

ونادى مناد عند ذلك في السماء : ألا انفصمت من دين أحمد العرى . . ألا قتلوا الإسلام والدين والتقى . . ألا قتلوا سبط النبي الغضنفر .

آه ، آه :

اجتزّ منه رأسا طالعا

أمسى له حجر النبوة مرقدا

فبكته أملاك السماوات العلى

والدهر بات عليه مشقوق الردا

وارتدّ كفّ الجود مكفوفا

وطرف العلم مطروحا عليه الأرمد

والوحش صاح لمن عراه من الأسى

والطير ناح على عزاه وعدّدا

فلأبكينّ عليك يابن محمد

حتى أوسّد في التراب ملحّدا

إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ

ص: 372


1- بحار الأنوار : 45/56 بقية الباب 37 .

ص: 373

المجلس الحادي عشر: وقائع ما بعد شهادة سيد الشهداء عليه السلام ونهب الخيام

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه العلي الذي لا يشبهه شيء من الأكوان ، ولا مثل له في الأعيان .

والصلاة والسلام على أمير نوع الإنسان ، المتفرّد من أبناء جنسه في المكانة والشأن ، محمد صلى الله عليه و آله سيّد الإنس والجان ، أشرف من حواه الزمان والمكان .

وعلى أوصيائه أخيار الدهر ، ونواميس الزمان ، وأدلّة التوحيد ، وأركان الإسلام والإيمان .

خصوصا على سبطه الشهيد العطشان ، والحيد اللهفان ، والأسير الحرمان ، والغريب الولهان ، قليل الأنصار والأعوان ، كثير الأحزان والأشجان ، السليب العريان ، الذبيح الظمآن ، مقطوع الأعضاء والبنان ، مسلوب العمامة والجنان ، البعيد عن الأوطان ، المقتول بظهر كوفان .

الذي غسله الدموع الهتان ، ونعشه الميدان ، وكافوره التربان ، وقبره قلوب أهل الأيمان . . الذي اجتمع عليه حزب الشيطان ، وجنود الكفر والطغيان ، فمنعوا عنه الماء المجان ، وسارعوا اليه السيف والسنان ، فسقوه الحتوف رشقا بالنبال ، وطعنا بالرماح ، وضربا بالسيوف ، وكأنّي ألمح نحوه ، وأراه مطروحا على الرمولبين الخيول ، يستغيث فلا يغاث ، ويستجير فلا يجار ، ويستسقي فلا يسقى .

ص: 374

فوا أسفاه ، على الشيوخ والشبّان ، ووا حسرتاه ، على تلك الأجسام والأبدان ، جسوم طالما أتعبوها في عبادة الرحمن ، وتلاوة القرآن ، تسفي عليها الصبا والدبور ، وتزورها العقبان والنسور .

وا حزناه ، على تلك البنات والنسوان ، والأطفال والصبيان ، مسلوبة الثياب والأسيان ، منزوعة القراط من الآذان ، مشتومة الآباء والإخوان ، المحمولة على الهجان ، المشهورة في البلدان ، تلقيهم في منازلهم الزفان ، والجسان الى اللعين الفتان ، فلعنة اللّه عليه ، لعنة توصله الى أسف درك النيران .

وبعد ، فقد قال اللّه سبحانه وتعالى :

« قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ » .

* * *

الأمّة وأجر الرسالة

اعلم ، أنّ حقّ النبي صلى الله عليه و آله على الخلق ، سيما على أمّته أعظم من حقّ أيّ ذي حقّ إلاّ اللّه تعالى ، وذلك لأنّه الواسطة في وجود كلّ موجود ، والسبب في نزول البركات والرحمات من خالق الأرضين والسماوات ، والواسطة في حصول المعرفة الألهية ، ومعرفة طريق العبودية لجميع سكان العالم ، كما أشرنا الى هذا المعنى سابقا ، وأوضحناه بالأخبار والروايات .

ومع ذلك كلّه ، فكم قد تحمّل صلى الله عليه و آله من الأتعاب والمشاقّ ؟ وكم صبر على العظائم من أجل هداية الناس الى طريق العبودية ، وإنقاذهم من التيه والضلال ، وإيصالهم الى الصراط المستقيم والدين القويم ، في وقت لم يعرف الناس سوى عبادة الأنداد والأصنام ، وقد طبّق العالم من الكفر والشرك الظلام .

لقد كان العلم يومئذٍ غارقا في الكفر والجهالة ، ودخان الشرك وعبادة الأصنامقد عمّ الدنيا بأسرها ، وغطّاها بالظلام الحالك ، وقد تفككت عرى المعارف

ص: 375

والحكم ، وانطمست قواعد العلم والمعرفة ، والناس في حيرة فلا طريق لهم الى فضاء العدل ، ولا دليل لهم الى الحقيقة والمعرفة ، انشغل بعضهم بعبادة الأصنام ، وبعض بالقتال والغارات والسلب والنهب ، وجماعة منغمسة بالشهوات واللذات ، وطائفة غاطسة في الرذائل الشيطانية والحيوانية .

وفي مثل هذه الأجواء بعث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ، فرفع أعلام الرسالة ، ونصب راية الهدى ، ودعى الخلق الى الحقّ ، وهو لا يملك قوة ولا جيشا ولا عساكر .

كان وحيدا ليس معه ناصر ولا معين ، بل على العكس تماما كان الجميع يظهرون له العداء والخصومة ، ويؤذونه باليد واللسان ، ويشهرون السيف عليه ، ويرمونه بالحجارة حتى كسروا ثناياه ، وقد اتفقوا كلمة واحدة ، وعزموا على قتله ، ولم يصدر منه إلاّ الصبر والرضا والتسليم ، وكان يلهج لسانه بالحمد والشكر والثناء للّه ، ولم يدع على قومه ، بل قال : اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون(1) .

كلّ الأنبياء عليهم السلام تحمّلوا من أقوامهم ، ولكنّهم كانوا يدعون عليهم إذا تمادوا في ظلمهم والإعتداء عليهم ، فكانوا يبتلون بالحرق ، أو الصيحة ، أو المسخ ، أو الخسف ، أو غيرها من أنواع البلاء والإهلاك .

فيما تعرّض النبي الأعظم صلى الله عليه و آله الى أذى من قومه لم يبتل به أيّ واحد من الأنبياء عليهم السلام ، ولكنّه صبر ولم يدع عليهم ، حتى هداهم الى صراط العزيز الحميد ، وعلّمهم العبودية والعلوم والمعارف الربّانيّة ، وعمّمهم بغيث الحكمة والموعظة النبوية ، فصرفهم عن الشهوات الحيوانية ، ووجّههم الى التفكير بالآخرة ، وعلّمهم الأخلاق الإلهية ، وحذّرهم عن الصفات الشيطانية ، ودلّهم على الخير في أمورالمعاش والمعاد ، وبسط لهم بساط العدل والأمان والسداد .

ص: 376


1- بحار الأنوار : 20/96 .

فأخرجهم من عذاب النيران الى وسيع الجنان ، وأنقذهم من غضب الرحمن ، وجرّهم الى دار السرور والخلود والأمان ، وعمّر لهم دنياهم ، وأخرجهم من الذلّة الى العزّة « وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ » ، وبه صارت أمّته أفضل الأمم ، وحازت على لقب الأمّة المرحومة ، فكان الأنبياء يدعون اللّه ويقولون : اللّهم اجعلنا من الأمّة المرحومة(1) ، أمّة نبي آخر الزمان صلى الله عليه و آله .

وقد ورد في أخبار كثيرة أنّ موسى عليه السلام سأل اللّه أن يكون من أمّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله(2) .

أجل ، إنّ حقوقه صلى الله عليه و آله على أمته كثيرة لا تعدّ ولا تحصى ، أضف الى ذلك ما يتوقّعونه من شفاعته الكبرى يوم القيامة ، ولهذا سألوه صلى الله عليه و آله عمّا يمكنهم أن يجازوه به ، ويؤدون به شيئا من حقوقه ، فقال اللّه تعالى : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ » .

فكانت المودّة التي أمر بها اللّه فضلاً من اللّه وكرامة لنبيه صلى الله عليه و آله ، وقد جعل اللّه ثوابا لمن عمل بها ، فقال : « وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً » .

أفضل الأعمال

بل جعل اللّه المودّة في القربى أفضل الأعمال ، وأشرف القربات والطاعات ، كما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّ فوق كلّ عبادة عبادة وحبّنا أهل البيت أفضل العبادة(3) .

وروي عن الفضيل قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام : أيّ شيءأفضل ما يتقرّب به العباد إلى اللّه فيما افترض عليهم ؟ فقال : أفضل ما يتقرّب به

ص: 377


1- انظر المناقب : 1/137 ، بحار الأنوار : 13/401 باب 16 ح9 .
2- انظر بحار الأنوار : 26/267 .
3- بحار الأنوار : 27/91 ح48 .

العباد إلى اللّه طاعة اللّه وطاعة رسوله ، وحبّ اللّه وحبّ رسوله وأولي الأمر ، وكان أبو جعفر عليه السلام يقول : حبّنا إيمان وبغضنا كفر(1) .

وروى الشيخ الطوسي عن أبي عبد اللّه الجدلي قال : قال لي علي بن أبي طالب عليهماالسلام : ألا أحدّثك يا أبا عبد اللّه بالحسنة التي من جاء بها أمن من فزع يوم القيامة ، والسيئة التي من جاء بها أكبّ اللّه وجهه في النار ؟ قلت : بلى ، يا أمير

المؤنين ، قال : الحسنة حبّنا ، والسيئة بغضنا(2) .

وروى الديلمي في أعلام الدين عن الصادق عليه السلام قال : وفد إلى الحسين عليه السلاموفد فقالوا : يا ابن رسول اللّه ، إنّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية ، ووفدنا نحن إليك ، فقال : إذن أجيزكم بأكثر ممّا يجيزهم ؟ فقالوا : جعلنا فداك ، إنّما جئنا مرتادين لديننا ،

قال : فطأطأ رأسه ، ونكت في الأرض ، وأطرق طويلاً ، ثم رفع رأسه فقال : قصيرة من طويلة ، من أحبّنا لم يحبّنا لقرابة بيننا وبينه ، ولا لمعروف أسديناه إليه ، إنّما أحبّنا للّه ورسوله ، فمن أحبّنا جاء معنا يوم القيامة كهاتين ، وقرن بين سبابتيه(3) .

ولاية أهل البيت وقبول الأعمال

إنّ اللّه أوجب ولاية أهل البيت وذوي القربى عليهم السلام ، وجعلها من أهم الفرائض العظيمة ، وأركان الأسلام ، وجعلها أجر الرسالة ، بل جعلها شرط قبول الأعمال والطاعات ، وجعل طاعة من لا ولاية له وبالاً ، ولا تورث صاحبها إلاّ نكالاً .

كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ملأ من أصحابه ، فقال رجال منهم : فإنّا نحبّ اللّه ورسوله ، ولم يذكروا أهل بيته ، فغضب وقال : أيّها الناس ، أحبّوا اللّه - عزّ وجل -لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبّوني بحبّ ربّي ، وأحبّوا أهل بيتي بحبّي ، فو الذي

ص: 378


1- بحار الأنوار : 27/92 ح49 .
2- الأمالي للطوسي : 439 المجلس 17 ح49 ، بحار الأنوار : 27/85 ح27 .
3- أعلام الدين : 460 فصل في حسن الظن باللّه ، بحار الأنوار : 27/127 ح118 .

نفسي بيده ، لو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام صائما وراكعا وساجدا ، ثم لقي اللّه - عزّ وجلّ - غير محبّ لأهل بيتي لم ينفعه ذلك .

قالوا : ومن أهل بيتك يا رسول اللّه ؟ أو أيّ أهل بيتك هؤاء ؟ قال صلى الله عليه و آله : من أجاب منهم دعوتي ، واستقبل قبلتي ، ومن خلقه اللّه منّي ، ومن لحمي ودمي .

فقالوا : نحن نحبّ اللّه ورسوله وأهل بيت رسوله ، فقال : بخ بخ ، فأنتم إذا منهم ،

أنتم إذا منهم ، والمرء مع من أحبّ ، وله ما اكتسب(1) .

وروي عن ميسر قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام وعنده في الفسطاط نحو من خمسين رجلاً ، فجلس بعد سكوت منّا طويل ، فقال : ما لكم ؟ لعلكم ترون أنّي نبي اللّه ، واللّه ما أنا كذلك ، ولكن لي قرابة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وولادة ، فمن وصلنا وصله اللّه ، ومن أحبّنا أحبّه اللّه - عزّ وجلّ - ، ومن حرمنا حرمه اللّه ، أفتدرون أي البقاع أفضل عند اللّه منزلة ؟ فلم يتكلّم أحد منّا ، فكان هو الرادّ على نفسه ، قال : ذلك

مكة الحرام التي رضيها اللّه لنفسه حرما ، وجعل بيته فيها .

ثم قال : أتدرون أيّ البقاع أفضل فيها عند اللّه حرمة ؟ فلم يتكلّم أحد منّا ، فكان هو الرادّ على نفسه ، فقال : ذلك المسجد الحرام .

ثم قال : أتدرون أيّ بقعة في المسجد الحرام أفضل عند اللّه حرمة ؟ فلم يتكلّم أحد منّا ، فكان هو الرادّ على نفسه ، فقال : ذاك بين الركن والمقام وباب الكعبة ، وذلك حطيم إسماعيل عليه السلام ، ذاك الذي كان يزود فيه غنيماته ، ويصلّي فيه ، وواللّه لو أنّ عبدا صفّ قدميه في ذلك المكان ، قام الليل مصلّيا حتى يجيئه النهار ، وصام النهار حتى يجيئه الليل ، ولم يعرف حقّنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل اللّه منهشيئا أبدا(2) .

ص: 379


1- كشف الغمة : 1/415 ، بحار الأنوار : 27/104 باب 4 ح75 .
2- بحار الأنوار : 27/177 باب 7 ح25 .

أجل ، رضي النبي صلى الله عليه و آله مودّة أهل بيته أجرا على ما تحمّله من أتعاب ومصاعب ، وعوضا عن حقوقه في أعناق هذه الأمّة .

ومن البديهي ، أنّ المودّة أمر سهل ، ولا تكلّف شيئا ، فأىّ خائن لدينه من يستخفّ بمودّة أهل البيت عليهم السلام ، ولا يقبلها أداءا لحقوق نبيه صلى الله عليه و آله ؟ والأعجب منه من بدّل المودّة الى عداوة !

روي عن جعفر عن آبائه عليهم السلام أنّه : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلى الله عليه و آله قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : أيّها الناس ، إنّ اللّه - تبارك وتعالى - قد فرض لي عليكم فرضا ، فهل أنتم مؤدّوه ؟ فلم يجبه أحد منهم ، فانصرف .

فلمّا كان من الغد قام فيهم ، فقال مثل ذلك ، ثم قام فيهم ، فقال مثل ذلك في اليوم الثالث ، فلم يتكلّم أحد ، فقال : يا أيّها الناس ، إنّه ليس من ذهب ، ولا فضة ، ولا

مطعم ، ولا مشرب . قالوا : فألقه إذن !

قال : إنّ اللّه - تبارك وتعالى - أنزل عليّ « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » ، فقالوا : أمّا هذه فنعم .

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : فو اللّه ما وفى بها إلاّ سبعة نفر(1) . . .

العجب من هذه الأمّة

ما إن غمض النبي صلى الله عليه و آله عينه ، ورحل عن هذه الدنيا ، حتى تكالبوا على أهل بيته ، وظلموهم ، واعتدوا عليهم ، فصاروا غرباء ، لا ناصر لهم ولا معين ، فغصبوا حقّهم ، وأحرقوا بابهم ، وهتكوا حرمتهم ، واقتحموا الدار بلا استأذان ، وكسروا ضلع ابنته وحبيبته عليهاالسلام .

أخرجوا ابن عمّه من بيته جرّا ، ثم عزلوه وأقعدوه في بيته ، ظلموا أبناءه ،وخذلوهم ، وسقوا أحدهما سمّا .

ص: 380


1- قرب الإسناد : 38 ، بحار الأنوار : 22/321 باب 10 ح11 .

أمرهم النبي بالإحسان الى ذريته ، فأيّ إحسان أحسنوا اليهم ! كلّما نادى فيهم ابنه وعزيزه : ألسنا ذرية نبيكم ؟ قالوا : نعرفك ونقتلك !

كلّما نادى : وا جدّاه وا أبا القاسماه ، وا عليّاه ، إجترؤا عليه ، ولم يرحموه !

كلّما نادى : أأقتل عطشانا وجدّي محمد المصطفى ؟ أأقتل عطشانا وأبي علي المرتضى وأمّي فاطمة الزهراء ؟

لم يرعوا فيه وصية النبي صلى الله عليه و آله ، بل لم يعاملوه معاملة واحد من المسلمين !

ليتهم إذ لم يوادّوه لم يحادّوه ، ولم يسبوا عياله كما يسبى الكفار ، ولم يسحقوا بدنه المقدّس .

ليتهم إذ لم يعاملوه معاملة المسلمين ، يعاملوه كأيّ رجل من رجال العرب ، فلولم يكن لهم دين فليكونوا عربا ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم ، وإرجعوا الى أحسابكم إذ كنتم عربا(1) .

إصبر يا رسول اللّه في ما نلته

من أمّة لنفوذ أمرك ضيّعوا

يا ليت يومك لم يكن أوانه

ما حال دونك حايل أو مضجع

لترى الحسين وما لقى من شدّة

يوم الطفوف فذاك خطب أفظع

فعليك يعظم لو تراه وولده

حجبوا عن الماء المباح وأمنعوا

أفدي الشفاه الذابلات من الظما

أفدي الجسوم الناعمات تقطّع

وعليك يعزز لو تراه مجدّلاً

تحت السنابك بالعراء موزّع

عجبا لإطباق السماء وأرضها

من بعد مصرعه تحطّ وترفع

وعليك يعزز لو رأيت الرأس في

عالي السنان سنان جهرا يرفع

يا قاصدا أرض الطفوف فقل لها

هلاّ علمت بمن بأرضك صرّعوا

هذا الحسين ومعشر من آله

ما كان ذنبهم وماذا أبدعوا

ص: 381


1- اللهوف : 119 .

أعظم الواجبات محبّة أهل البيت عليهم السلام

إذا علمت - يا عزيزي - أنّ محبّتهم واجبة ، بل من أعظم وأوجب الواجبات ، وأفضل الطاعات ، فعليك مراعاتها ، وإياك أن تخسرها ، فإنّك إن إستخففت بها تحرم من جميع الخيرات ، لأنّك إنّما تستخف بالدين الإلهي الذي تتديّن به الملائكة ،

وقد ورد في الحديث عنهم عليهم السلام : وهل الدين إلاّ الحبّ(1) ، أي حبّنا أهل البيت عليهم السلام .

مراتب المحبّة

إذن فكلّ من كانت محبّته أكمل وأشدّ كان دينه أقوى وأمتن .

وتختلف مراتب المحبّة من فرد الى آخر ، فمنهم من يكون المحبوب عنده أعزّ وأحبّ من كلّ شيء حتى من نفسه وماله وولده وعياله .

ومنهم من لا تتجاوز المحبّة عنده لسانه ، وهذا ينفضح عند الإبتلاء والإمتحان حيث ينكشف أمره ، وأنّه لا يحسن إلاّ الإدعاء .

وبين هاتين المرتبتين مراتب أخرى كثيرة .

ولمّا كانت المحبّة أمرا باطنيا ، فلا يمكن التمييز بين الصادق المخلص ، والكاذب المدعي إلاّ من خلال العلائم والآثار التي تظهر عليه ، ومنها أن يفرح لفرح المحبوب ، ويحزن لحزنه ، كما قال الصادق عليه السلام : إنّ أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا ، وأكثرهم رقّة علينا أهل البيت ، وأشدّهم حبّا لنا ، وأكثرهم حزنا علينا ، وأكثرهم مودّة لنا(2) .

والحقّ ، كيف يسمع الإنسان أو يرى محبوبه مبتلى ثم لا يتنغّص عليه عيشه ؟

كيف يسمع أنّ أعظم المحبوبين في العالمين يقتل بلا جرم ، ذابل الشفاه ، مفتت الكبد من الظمأ ، والرمح في خاصرته ، والسهم في حلقه ، والحجر في جبهته ، وقدطبر رأسه بالسيف ، ثم لا يجري دمعه ، ويطلق آهته .

ص: 382


1- الخصال : 21 ح74 ، بحار الأنوار : 66/237 .
2- المنتخب : 2/362 .

يسمع كلّ هذا ثم لا يبكي ! فهل يسمّى هذا محبّا ؟ لا واللّه .

أجل - واللّه - لشيعته ومحبّيه أن يفترشوا الرماد ، ويلبسوا السواد عليه عمرهم ، ويذرفوا عليه الدموع دهرهم ، فالملائكة يبكونه الى يوم القيامة ، ولا يفترون ، والطير لا تنسى مصيبته في يوم ، والسماء لا زالت تبكي عليه ، والأرض ترتجف مضطربة ، وأمواج البحار تتلاطم من هول ما جرى عليه .

حبّ الحسين عليه السلام والبكاء عليه

أجل ، أنت أيضا إبك عليه ، وأطلق الزفرات من صدرك ، كما كان النبي صلى الله عليه و آله

تجري دموعه على خديه إذا ذكر مصيبته ، وتأوّه لذكره .

روي عن ابن عباس قال : . . لمّا أتت على الحسين عليه السلام سنتان خرج النبي صلى الله عليه و آلهإلى

سفر ، فوقف في بعض الطريق ، واسترجع ودمعت عيناه ، فسئل عن ذلك .

فقال : هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشطّ الفرات يقال لها « كربلاء » ، يقتل فيها ولدي الحسين ، وكأنّي أنظر إليه ، وإلى مصرعه ومدفنه بها ، وكأنّي أنظر على السبايا على أقتاب المطايا ، وقد أهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد - لعنه اللّه - ، فو اللّه ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاّ خالف اللّه بين قلبه ولسانه ، وعذّبه اللّه عذابا أليما .

ثم رجع النبي صلى الله عليه و آله من سفره مغموما مهموما كئيبا حزينا ، فصعد المنبر ، وأصعد معه الحسن والحسين ، وخطب ووعظ الناس .

فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن عليه السلام ، ويده اليسرى على رأس الحسين عليه السلام ، وقال : اللّهم إنّ محمدا عبدك ورسولك ، وهذان أطايب عترتي ، وخيار أرومتي ، وأفضل ذريتي ، ومن أخلفهما في أمّتي ، وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولدي هذا مقتول بالسمّ ، والآخر شهيد مضرّج بالدم ، اللّهم فبارك له في قتله ،واجعله من سادات الشهداء ، اللّهم ولا تبارك في قاتله وخاذله ، وأصله حرّ نارك ، واحشره في أسفل درك الجحيم .

ص: 383

فضجّ الناس بالبكاء والعويل ، فقال لهم النبي صلى الله عليه و آله : أيّها الناس ، أتبكونه ولا تنصرونه ؟ ! اللّهم فكن أنت له وليا وناصرا(1) .

وروى ابن قولويه بإسناده عن أم سلمة أنّها قالت : خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله من عندنا ذات ليلة ، فغاب عنّا طويلاً ، ثم جاءنا وهو أشعث أغبر ، ويده مضمومة .

فقلت : يا رسول اللّه ، ما لي أراك شعثا مغبّرا ؟

فقال : أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له « كربلاء » ، فأريت فيه مصرع الحسين ابني ، وجماعة من ولدي ، وأهل بيتي ، فلم أزل ألقط دماءهم ، فها هي في يدي ، وبسطها إليّ ، فقال : خذيها واحتفظي بها ، فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر ، فوضعته في قارورة ، وسددت رأسها ، واحتفظت به .

فلمّا خرج الحسين عليه السلام من مكة متوجها نحو العراق كنت أخرج تلك القارورة في كلّ يوم وليلة ، فأشمّها وأنظر إليها ، ثم أبكي لمصابه .

فلمّا كان في اليوم العاشر من المحرم ، وهو اليوم الذي قتل فيه عليه السلام أخرجتها في أول النهار ، وهي بحالها ، ثم عدت إليها آخر النهار ، فإذا هي دم عبيط ، فصحت في بيتي وبكيت ، وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤم بالمدينة ، فيسرعوا بالشماتة ، فلم أزل حافظة للوقت حتى جاء الناعي ينعاه ، فحقّق ما رأيت(2) .

فوا أسفاه ، من مصيبة أبكت عيون الرسول صلى الله عليه و آله ، وأحرقت كبد البتول عليهاالسلام ، ووا حرّ قلباه ، على الأجساد العاريات ، والأعضاء المقطّعات ، والأجسام الناعمات ،المطروحة في البراري والفلوات .

ووا حزناه ، على النسوة المأسورات ، والعلويات البارزات .

ص: 384


1- بحار الأنوار : 44/247 باب 30 .
2- الإرشاد : 2/130 ، بحار الأنوار : 44/239 باب 30 ح31 .

ووا غمّاه ، على الوجوه السافرات ، والخدود الملطّمات ، والأيدي المغلولات ، والأعناق المكبّلات ، وكأنّي بهنّ مهتوكات الحجاب(1) ، محمولات على الأقتاب ، مشدودات بالأطناب ، مشرّدات في الأسراب ، ينادين : وا سوأتاه ، وا غربتاه ، وا جدّاه ، وا أبتاه ، آه ، آه .

لهفي لربّات خدر أبرزت

بعد الستور لكلّ عبدٍ أكوع

أسفي على فتيات أحمد أصبحت

يسرى بهنّ بكلّ قفر بلقع

لهفي على تلك الحرائر والعدى

قهرا تجاذبهنّ فضل البرقع

لم أنس لا واللّه زينب إذ مشت

وهي الوقور اليه مشي المسرع

تدعوه والأحزان مل ء فؤادها

والعين تسرع بالدموع الهمّع

أأخي أعظم ما ألاقيه من ال-

-بلوى فراقك يا ابن أمّي فاسمع

أأخي مالك عن بناتك معرضا

والكلّ منك بمنظر وبمسمع

أأخي ما عوّدتني من الجفا

فعلام تجفوني وتجفوهم معي

أأخي ما شقّ الجيوب عليك ير

ضيني وموتي فيك ليس بمقنع

أأخي هل لك رجعة تحيى بها

أرواحنا هيهات ما من مرجع

أأخي لو قبل العدى منّا الفدا

لفدتك منّا أنفس لم تجزع

أأخي هذا نجلك السجاد قد

أودى السقام بجسمه المتضعضع

أأخي زوّد بالوداع سكينة

يا خير مفقود وخير مودّع

أأخي قد صدّعت قلب رقيّة

بجفاك والأعراض أيّ تصدّع

أأخي أين أبي علي المرتضى

ليرى انكساري للعدى وتخضّعي

أأخي قلبي ما وفى بذمامه

إن لم يذب من لوعتي وتفجّعي

ص: 385


1- في المتن : « مرفوعات الجلباب ، منزوعات الثياب ! ! » وقد كتبها المؤلف بالعربي ، وهو تعبير فيه قسوة ومخالف للحشمة ، وإن كان مقصود المؤلف واضح ، ومراده معلوم ، ولهذا رجّحنا أن ننقله الى الهامش ، لكي لا نتورط به من جهة ، ولا نخالف الأمانة من جهة أخرى .

تأثير المحبّة والمعرفة في التأثر بالمصيبة

اعلم ، أنّ تأثّر وتألّم كلّ مصاب بالمصيبة على قدر محبّته ، ومحبّته على قدر معرفته ، فليس كلّ قتيل يوجب الحزن والألم ، بل ربّما يقتل بعض الأشخاص ولا يحزن عليهم أحد ، بل قد يفرح البعض بقتلهم ، والمفروض أن لا يفرحون .

فالمؤمن يحزن ألبتّة لمن يقتل مظلوما ، بل يحزن عليه كلّ عاقل ، لأنّ العاقل يدرك قبح الظلم .

وهكذا هو الأمر مع سيد الشهداء عليه السلام ، فكلّما أدرك الأنسان عظمة الحسين عليه السلام

وجلالة قدره ، بدى له فداحة الظلم ، وعظمة ما جرى عليه ، وكلّما إكتشف علو مكانته وإرتفاع درجته ومنزلته إشتدّت محبّته وإزدادت في قلبه ، وكلّما إزدادت محبّته في قلبه إزداد تألّمه وإشتدّ حزنه .

ومن ذا يعرف الحسين عليه السلام حقّ معرفته ؟ سوى ابنه سيد الساجدين عليه السلام ، لأنّ الإمام لا يعرفه إلاّ الإمام ، وأمّا الآخرين فليس لهم القدرة على معرفته حقّ المعرفة ، وإن كان كلّ واحد يتصوّره بنحوٍ ما ، ويعرفه بمقدار ما .

فقد يعرفه البعض بمستوى أنّه رجل كريم ، شجاع ، عالم ، نجيب ، شريف ، زاهد ، عابد ، قتلوه ظلما وعدوانا من دون جرم ، فيتألّم بهذا المقدار .

وقد يعرفه آخر أكثر من ذلك فيتألّم أكثر كذلك ، فيعتقد فيه أنّه عمود السماوات والأرض ، وأنّ السماوات والأرض والملائكة وجميع ذرات العالم تحت أمره ، وأنّ جميع العالم شعاع من أشعة نوره ، وكان إذا شاء شاء اللّه ، وإذا كره كره اللّه ، وإذا رضي رضي اللّه ، وإذا غضب غضب اللّه .

وكان إذا أراد أن يقاتلهم بقوة الإمامة لمحى العالم وما فيه بضربة واحدة ، بلبإشارة واحدة بسيفه ، ولكنّه لو فعل ذلك لما تبيّن السبب في نيله تلك الدرجاتالتي تمنّاها الأنبياء والمرسلين ، وأنّ أرواح الأنبياء والمرسلين تزور قبره ، والملائكة المقرّبين تتبرّك بتربته ، وأنّ قاتله يلقى في دركات جهنم ، ويصبّ عليه من العذاب ما لم يصبّ على أولئك الذين إدّعوا الربوبية أربعمائة سنة .

ص: 386

ولو أنّه سلك معهم ذلك السلوك ، فمن ذا يضمن أنّ شيعته سيبكونه حينئذٍ صباحا ومساءا ، ويستحقّون بذلك الرحمة الإلهية .

أجل ، فهو كما كان أكمل العالم في كلّ الكمالات ، كان صبره كذلك أكمل من صبر العالمين جميعا ، وقد تعجّبت ملائكة السماء من صبره ، إزدلف اليه ثلاثون ألفا يضربونه بالسيوف والرماح والنبال والخناجر والاحجار ، فأيّ بلية عرضت عليه ، وأيّ ظلم ظلموه ؟ ظلم لم يجر على أحد غيره من العالمين .

عظم مصيبة الحسين عليه السلام على أهل البيت عليهم السلام

ومن هنا يتبيّن مدى فداحة هذه المصيبة على سيد الساجدين عليه السلام ، وكم كانت صعبة وعظيمة على النساء والبنات والأخوات من أهل بيته عليهم السلام ، العجب أنّهم لم يموتوا من ساعتهم وهم ينظرون الى تلك الرزايا ! بلى ، لولم يرضعوا من ثدي العصمة ، ولم يكونوا فرع شجرة العصمة والطهارة والشجاعة لما أطاقوا أبدا .

ولكن هل عرفت كيف عاشوا بعد تلك الرزية ؟ لم ير فيهم ضاحكا قطّ ، وبكوا حتى جفّت آماقهم من الدموع ، ولم يكن لهم شغل شاغل في ليلهم ونهارهم إلاّ البكاء والنياحة ، لم يفكروا في أكل ولا شرب ولا نوم ولا راحة ، وكان سيد الساجدين عليه السلام يصنع لهم الطعام ويرسله لهم(1) .

ففي كتاب الكافي الشريف عن أَبَي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ : لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلامأَقَامَتِ امْرَأَتُهُ الْكَلْبِيَّةُ عَلَيْهِ مَأْتَماً ، وَبَكَتْ وَبَكَيْنَ النِّسَاءُ وَالْخَدَمُ ، حَتَّى جَفَّتْ دُمُوعُهُنَّوَذَهَبَتْ ، فَبَيْنَا هِيَ كَذَلِكَ إِذَا رَأَتْ جَارِيَةً مِنْ جَوَارِيهَا تَبْكِي وَدُمُوعُهَا تَسِيلُ ، فَدَعَتْهَا فَقَالَتْ لَهَا : مَا لَكِ أَنْتِ مِنْ بَيْنِنَا تَسِيلُ دُمُوعُكِ ؟ قَالَتْ : إِنِّي لَمَّا أَصَابَنِي الْجَهْدُ شَرِبْتُ شَرْبَةَ سَوِيقٍ .

ص: 387


1- في المحاسن : 2/420 باب 25 وبحار الأنوار : 45/188 ح33 : عن عمر بن علي بن الحسين عليه السلام قال : لمّا قتل الحسين بن علي عليهماالسلام لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح ، وكن لا يشتكين من حرّ ولا برد ، وكان علي بن الحسين عليهماالسلام يعمل لهن الطعام للمأتم .

فَأَمَرَتْ بِالطَّعَامِ وَالأَسْوِقَةِ ، فَأَكَلَتْ وَشَرِبَتْ ، وَأَطْعَمَتْ وَسَقَتْ ، وَقَالَتْ : إِنَّمَا نُرِيدُ بِذَلِكِ أَنْ نَتَقَوَّى عَلَى الْبُكَاءِ عَلَى الْحُسَيْنِ(1) عليه السلام .

وروى عن جعفر بن محمد الصادق عليهماالسلام أنّه قال : ما اكتحلت هاشمية ، ولا اختضبت ، ولا رئي في دار هاشمي دخان خمس حجج ، حتى قتل عبيد اللّه ابن زياد(2) .

وعن يحيى بن راشد قال : قالت فاطمة بنت علي عليهماالسلام : ما تحنّأت امرأة منّا ، ولا أجالت في عينها مرودا ، ولا امتشطت حتى بعث المختار رأس عبيد اللّه بن زياد(3) .

واعلم أنّ ذكر النساء هنا باعتبار أنّهن محلّ إظهار الزينة ، لأنّ الرجال والنساء من بني هاشم كانوا في الحزن سواء ، سيّما السيد السجاد عليه السلام كما روي :

عن علي بن الحسين عليهماالسلام أنّه منذ وفاة أبيه الحسين ما أكل لحم الرؤوس حزنا على رأس أبيه يوم رآه بين يدي يزيد ، ولم يزل يبكي على مصاب أبيه أربعين سنة ، وهو مع ذلك صائم نهاره قائم ليله ، فإذا أحضر الطعام لإفطاره قال : وا كرباه ، لكربك يا أبه ، وا أسفاه لقتلك يا أباه .

ثم يبكي طويلاً وهو يقول : قتل ابن رسول اللّه جائعا ، قتل ابن بنت رسول اللّه عطشانا ، وأنا آكل الزاد وأشرب الماء ، لا هناني الأكل والشرب ، يعزّ عليك ياأبي ، ليتني لم أر مصرعك ، قال : لوم يزل يبكي حتى تبل الدموع وجهه ولحيته(4) . .

وليس في ذلك غرابة ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبيا ابن نبي ، وكان له اثنا عشر ابنا ، فغيب اللّه سبحانه واحدا منهم ، فشاب رأسه من الحزن ،

ص: 388


1- الكافي : 1/466 ح9 .
2- بحار الأنوار : 45/386 باب 49 .
3- بحار الأنوار : 45/386 باب 49 .
4- المنتخب : 2/308 .

واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دار الدنيا(1) ، وكان إذا ذكر عنده نادى : وا أسفا على يوسف ، والإمام زين العابدين رأى بعينه أباه - الذي توسّل به يعقوب ويوسف الى اللّه - يقطّع بالسيوف والرماح إربا إربا ، ويذبح كما يذبح الكبش ، ورأى الجسم الذي ترعرع على صدر النبي صلى الله عليه و آلهعاريا على الصعيد ، مرمّلاً بالدماء .

سئل أبو عبد اللّه عليه السلام : ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف ؟ قال : حزن سبعين ثكلى بأولادها(2) ، فلهفي على سيد الساجدين عليه السلام .

كما بكى يوسف عليه السلام في السجن حتى تأذى منه أهل السجن ، فقالوا له : لقد آذيتنا ببكائك فإمّا أن تبكي ليلاً أو نهارا(3) .

والحال أنّ سجن يوسف لم يكن عداوة وبغضا ، وإنّما محبّة وعشقا ، لأنّه دعي الى العشق فأبى ، فألقي في السجن ليرضى ، ولم يكن في السجن مكبّلاً مغلولاً ، بينما كان

سيد الساجدين عليه السلام في السجن وفي عنقه ويديه الجامعة ، مكبّلاً مغلولاً ، وهو ينظر الى عمّاته وأخواته والأطفال ، مكشّفين مربوطين بالحبال .

وا ويلاه ، أنزلوهم في سجن لا يكنّهم من حرّ ولا برد ، حتى تقشّرت وجوههم من حرارة الشمس(4) .روي أنّهم حملوايوسف على قتب بغير غطاء ولا وطاء ، مقيدا مكبلاً مسلسلاً ،فمرّ على مقبرة آل كنعان ، فرأى قبر أمّه ، فألقى يوسف نفسه على قبر أمّه ، فجعل يتمرّغ ، ويعتنق القبر ويضطرب ، ويقول : يا أماه ، ارفعي رأسك تري

ص: 389


1- بحار الأنوار : 45/149 باب 39 .
2- بحار الأنوار : 12/242 باب 9 ح10 .
3- بحار الأنوار : 46/109 ح2 .
4- أمالي الصدوق : 231 ح243 .

ولدك مكبلاً مقيدا مسلسلاً مغلولاً ، فرّقوا بيني وبين والدي(1) . . . ولا أدري ما جرى على سيد الساجدين عليه السلام حينما مرّوا به على مصرع أبيه ، فرآه مطروحا على الرمضاء ؟

هل كان يتذكّر أيام كان أبوه يضمّه ويشمّه ، وهو يمرّ عليه عليلاً مكبّلاً أسيرا ؟ لا واللّه ، ما تذكّر شيئا من ذلك ، وإنّما تذكّر كيف كان هذا البدن المقدّس المرمي على الصعيد يغفو على صدر الرسول صلى الله عليه و آله ، وهو اليوم يتوسّد الرمال ، بلا غسل ولا كفن ، عار بالعراء ، لا يزوره أحد .

كان عليه السلام يجود بنفسه حينما مرّوا به على مصرع أبيه عليه السلام ، وللرجال صبر غير صبر النساء ، فكيف كان حال أخواته وبناته وسائر نساء أهل البيت عليهم السلام ؟

ماذا جرى لمولاتنا سكينة عزيزة الحسين عليه السلام التي كان يضمّه الى صدرها ، ويمسح دمعها بيده ، ويقول لها : لا تحرق قلبي بدمعك ، وهي تمرّ الآن على جسد أبيها مرمّلاً بالدماء ؟

ماذا جرى على أخته وهي تنظر اليه مطروحا على الرمضاء ، وهي تساق سبية الى الأعداء ؟

وما أنس أخت السبط زينب إذ هوت

لتقبيله أكرم بها من كريمة

وشفت أكفّ السبط من بعد لثمه

تقبّل منه وجنة بعد وجنة

ونادت بأعلى صوتها بعدما هوت

عليه فقالت والحيي وميّتي

أخي يا هلالاً غاب بعد طلوعه

فمن فقده أضحى نهاري كليلتي

أخي يا أخي أيّ المصائب أشتكي

فراقك أم هتكي وذلّي وغربتي

أم الثوب مسلوبا أم الجسم عاريا

أم النحر منحورا ببيض مقيلة

أم الظهر مرضوضا أم الشيب قانيا

أم الرأس مرفوعا كبدر الدجية

ص: 390


1- تفسير القرطبي : 9/158 .

أم الرحل منهوبا أم ا لمهر ناعيا

أم الوجه مكبوبا بحرّ الظهيرة

أم الضائعات الفاقدات حواسرا

كشلّ الإما يشهرن في كلّ بلدة

أخي يا أخي قل للئام ترفّقوا

لسلب حريمي وارحموا حال غربتي

أخي ليت هذا النحر كان بمنحري

ويا ليت هذا السهم كان بمهجتي

أخي يا أخي ما كان أطيب عيشنا

وأطيب أيّاما تقضّت بطيبة

أخي بلّغ المختار طه سلامنا

وقل أمّ كلثوم بكرب ومحنة

أخي بلّغ الكرار عنّي تحية

وقل زينب أضحت تساق بذلّة

بعد الشهادة

أمّا الوقائع التي وقعت بعد شهادة شمس فلك الإمامة ، ومصباح دياجير ظلمات الضلالة ، كما رواها السيد ابن طاووس وغيره فهي كما يلي :

لمّا فاز المولى بالشهادة ، ولبّت نفسه المطمئنة نداء « ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً » ، ورحلت الى عالم القدس ، وخلّفت نيران الحزن في الكائنات العلوية والسفلية .

قال السيد : فلمّا قتل - صلوات اللّه عليه - ارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة ، فيها ريح حمراء ، لا ترى فيها عين ولا أثر ، حتى ظنّ القوم أنّ العذاب قد جاءهم(1) .

وروي : فعند ذلك زلزلت الأرض ، وأظلم المشرق والمغرب ، واخذت الناس الصواعق ، ثم نادى منادى من السماء : قد قتل الامام ابن الامام ، قتل واللّه الحسين ، وكبّر العسكر ثلاث تكبيرات(2) .

ويكبّرون بأن قتل وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

ص: 391


1- بحار الأنوار : 45/56 بقية الباب 37 .
2- نور العين في مشهد الحسين للاسفرائيني : 50 .

عودة الفرس الى الخيام

روى صاحب المناقب وابن بابويه وأبو مخنف وصاحب المنتخب بألفاظ متقاربة :

قال أبو مخنف : لمّا قتل الحسين عليه السلام جعل جواده يصهل ويحمحم ويقول في

صهيله : الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيّها ، ويتخطّى القتلى واحدا بعد واحد ، فنظر اليه عمر بن سعد فصاح بالرجال : خذوه وآتوني به ، وكان من جياد خيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فتراكضت الفرسان اليه ، فجعل يرفس برجليه ويمانع عن نفسه ، ويكدم بفمه ، حتى قتل أربعين منهم ، ونكّس فرسانا عن خيولهم ، ولم يقدروا عليه ، فصاح ابن سعد : ويلكم تباعدوا عنه ودعوه ، لننظر ما يصنع ، فتباعدوا عنه .

فلمّا أمن الطلب جعل يتخطّى القتلى ويطلب الحسين عليه السلام حتى إذا وصل اليه ، جعل يشمّ رائحته ويقبّله بفمه ، ويمرّغ ناصيته عليه ، وهو مع ذلك يصهل ويبكي بكاء الثكلى ، حتى أعجب كلّ من حضر .

ثم انفلت يطلب خيمة النساء ، وقد ملأ البيداء صهيلاً ، فسمعت زينب صهيله فأقبلت على سكينة وقالت : هذا فرس أخي الحسين قد أقبل ، لعل معه شيئا من الماء ، فخرجت متخمرة من باب الخباء تتطلّع الى الفرس ، فلمّا نظرتها فإذا هي عارية من راكبها ، والسرج خال منه ، والدماء في ناصيتها ، فهتكت عند ذلك خمارها ، ونادت : واللّه قتل الحسين ، فبكت وصرخت : وا قتيلاه ، وا غريباه ، وا بعد سفراه ، وا طول كرباه ، وا ضيعتاه .

فسمعت زينب قولها ، فنادت : وا حسيناه ، فخرجن النساء فلطمن الخدود ، وشققن الجيوب ، وصحن : وا محمداه ، وا عليّاه ، وا فاطمتاه ، وا حسناه ، وا حسيناه ، فصاحت زينب عليهاالسلام : وا أخاه ، وا غربتاه ، وا قلّة ناصراه ، اليوم ماتمحمد المصطفى ، اليوم مات علي المرتضى ، اليوم ماتت فاطمة الزهراء ، وارتفع الضجيج وعلا الصراخ والنحيب ، حتى ضجّت ملائكة السماء الى اللّه (1) .

ص: 392


1- المنتخب : 2/452 .

فمن ندبهم قد قطّعت كبد أحمد

وكلّ يناديه لفرط الأمائق

تبصّر رسول اللّه شدّة حالنا

ومن آلك الغرّ الكرام بخافق

وهذي تنادي ربّ عجّل مماتنا

وهذي تنادي الغوث من عظم ما لقي

حرق الخيام

فَلَمّا اِرْتَفَعَ صِياحُ النِّساءِ صاحَ اِبْنُ سَعْدٍ - لَعَنَهُ اللّه - : وَيْلَكُمْ اَكْبِسُوا عَلَيْهِنَّ الخِبا ، وَاَضْرِمُوهُنَّ نارا ، فَاَحْرِقُوها وَمَنْ فيها .

فَقالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : وَيْلَكَ يَابْنَ سَعْدٍ ، اَما كَفاكَ قَتْلُ الْحُسَيْنِ عليه السلام وَاَهْلِ بَيْتِهِ وَاَنْصارِهِ عَنْ اِحْراقِ اَطْفالِهِ وَنِسائِهِ ، لَقَدْ اَرَدْتَ اَنْ يَخْسَفَ اللّهِ بِنا الأَرْضَ .

فأمر اللعين بنهب الخيام ، فَتَبادَروا اِلَى نَهْبِ النِّساءِ الطّاهِراتِ(1) .

آه ، وامصيبتاه ، هجموا على الخباء وسلبوا ما كان على بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فسلبوهن كلّ ما عليهن حتى المآزر والمقانع ، وأخذوا الحلي والخلاخيل من أرجل الأطفال والنساء ، وخرموا الآذان وسلبوا الأقراط .

فكم خرموا من أُذن حوراء تجتلى

وكم لطموا من خذّ عيناء عاتق

إذا مضّها ضرب السياط برأسها

ولم يك واق تتّقي بالمرافق

ويهدى على الأقتاب والنوح زادها

وضرب العدى بالسوط فوق العواتق

نهب الخيام برواية فاطمة الصغرى عليهاالسلام

روى ابن بابويه في الأمالي بإسناده عن فاطمة بنت سيد الشهداء عليه السلام أنّهاقالت : دخلت العامة علينا الفسطاط ، وأنا جارية صغيرة ، وفي رجلي خلخالان من ذهب ، فجعل رجل يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك يا عدو اللّه ؟ فقال : كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول اللّه ؟ فقلت : لا تسلبني ،

ص: 393


1- مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف : 106 .

قال : أخاف أن يجيء غيري فيأخذه ، قالت : وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا(1) .

وروى صاحب المناقب ومحمد بن أبي طالب الموسوي : فأقبل أعداء اللّه - لعنهم اللّه - حتى أحدقوا بالخيمة ، ومعهم شمر ، فقال : ادخلوا فاسلبوا بزّتهن ، فدخل القوم - لعنهم اللّه - ، فأخذوا ما كان في الخيمة حتى أفضوا إلى قرط كان في أذن أم كلثوم أخت الحسين عليهماالسلام فأخذوه ، وخرموا أذنها ، حتى كانت المرأة لتنازع ثوبها على ظهرها حتى تغلب عليه(2) .

روى الشيخ فخر الدين في مقتله عن زينب بنت أمير المؤمنين عليهماالسلام قالت : كنت واقفة على باب الخيمة ، إذ دخل الخيمة رجل أزرق العينين ، وأخذ جميع ما كان فيها ، وأخذ ما كان عليّ ، ونظر زين العابدين فرآه مطروحا على نطع من الأديم وهو عليل ، فجذب النطع من تحته ، وجاء إليّ وأخذ قناعي وقرطين كانا في أذني ، وهو مع ذلك يبكي ، فقلت له : لعنك اللّه ، هتكتنا وأنت مع ذلك تبكي ؟ قال : أبكي ممّا جرى عليكم أهل البيت ، قالت زينب عليهاالسلام : فقد غاضني ، فقلت له : قطع اللّه يديك ورجليك ، وأحرقك بنار الدنيا قبل الآخرة ، فواللّه ما مرّت به الأيام حتى ظهر المختار وفعل به ذلك ، ثم أحرقه بالنار ، واستجاب اللّه دعاء الطاهرة(3) .

قال حميد بن مسلم : فانتهينا مع شمر بن ذي الجوشن إلى علي بن الحسين عليهماالسلام ،وهو منبسط على فراش ، وهو شديد المرض ، ومع شمر جماعة من الرجالة ، فقالواله : ألا نقتل هذا العليل ؟ فقلت : سبحان اللّه أتقتل الصبيان ؟ إنّما هذا صبي ، وإنّه لما به ، فلم أزل حتى دفعتهم عنه(4) .

ص: 394


1- الأمالي للصدوق : 164 المجلس 31 ، بحار الأنوار : 45/82 بقية الباب 37 ح9 .
2- بحار الأنوار : 45/60 .
3- المنتخب : 2/455 .
4- ناسخ التواريخ ترجمة سيد علي جمال أشرف : 3/9 .

وجاء عمر بن سعد فصاحت النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هؤاء النساء ، ولا تعرضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهن ليستترن به ، فقال : من أخذ من متاعهم شيئا فليردّه ، فواللّه ما ردّ أحد منهم شيئا ، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء وعلي بن الحسين جماعة ممّن كان معه ، وقال : احفظوهم لئلا يخرج منهم أحد(1) .

وروى حميد بن مسلم قال : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه السلام فسطاطهن ، وهم يسلبونهن ، أخذت سيفا وأقبلت نحو الفسطاط ، فقالت : يا آل بكر بن وائل ، أتسلب بنات رسول اللّه ؟ ! لا حكم إلاّ للّه ، يا ثارات رسول اللّه ، فأخذها زوجها وردّها إلى رحله(2) .

ولنعم ما قال الشيخ الجليل عبد النبي البحراني :

يا لذلّ الإسلام يا غيرة ال-

-لّه وما اللّه بالقصاص عجول

يا بنات البتول ما اللّه عمّا

نيل منكنّ بالطفوف غفول

أيماط الحجاب منكنّ بين ال-

-ناس واللّه شاهد ووكيل

ليت شعري أين البتول ؟ ألا أين علي ؟ ليروكنّ بالعراء وعليكنّ من الذلّ والهوان .

رواية أخرى عن فاطمة الصغرى عليهاالسلام

روت فاطمة الصغرى عليهاالسلام قالت : كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابي مجززين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول ، وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي من بني أمية ، أيقتلوننا ؟ أو يأسروننا ؟

ص: 395


1- بحار الأنوار : 45/ 59 بقية الباب 37 .
2- اللهوف : 130 ، بحار الأنوار : 45/57 بقية الباب 37 .

فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه ، وهن يلذن بعضهن ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أخمرة وأسورة ، وهن يصحن : وا جدّاه ، وا أبتاه ، وا عليّاه ، وا قلّة ناصراه ، وا حسناه ، أما من مجير يجيرنا ؟ أما من ذائد يذود عنّا ؟

قالت : فطار فؤدي ، وارتعدت فرائصي ، فجعلت أجيل بطرفي يمينا وشمالاً على عمّتي أم كلثوم ، خشية منه أن يأتيني .

فبينا أنا على هذه الحالة ، وإذا به قد قصدني ، ففررت منهزمة ، وأنا أظنّ أنّي أسلم منه ، وإذا به قد تبعني ، فذهلت خشية منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي ، فخرم أذني ، وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على خدّي ، ورأسي تصهره الشمس ، وولىّ راجعا إلى الخيم ، وأنا مغشي عليّ ، وإذا أنا بعمّتي عندي تبكي ، وهي تقول : قومي نمضي ، ما أعلم ما جرى على البنات وأخيك العليل ، فقمت وقلت : يا عمتاه ، هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظّار ؟ فقالت : يا بنتاه وعمّتك مثلك ، فرأيت رأسها مكشوفة ، ومتنها قد أسود من الضرب .

فهل مبلغ بنت النبي بناتها

عرايا كأسر الروم منكشفات

أفاطم قومي من ستورك واجمعي

يتاماك في ذلّ السبا وشتات

قالت فاطمة عليهاالسلام : فما رجعنا إلى الخيمة إلاّ وهي قد نهبت وما فيها ، وأخي علي بن الحسين مكبوب على وجهه ، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا(1) .

قال السيد ابن طاووس : ثم أخرجوا النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار ، آه وا ويلاه ، فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة(2) .

ص: 396


1- بحار الأنوار : 45/59 بقية الباب 37 .
2- اللهوف : 130 ، بحار الأنوار : 45/57 بقية الباب 37 .

جسم الحسين عليه السلام تحت سنابك الخيل

قال السيد ابن طاووس : ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه : من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره ، فانتدب منهم عشرة ، ثم ذكر أسماءهم . .

قال أبو عمرو الزاهد : فنظرنا في هؤاء العشرة ، فوجدناهم جميعا أولاد زنا(1) .

وروي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام : كنّا فيما نحن فيه من الأسر والسبي إذ نادى المنادي : من ينتدب للحسين عليه السلام فيوطى ء الخيل صدره وظهره ، - فضّ اللّه فما يروي هذه المصيبة دون تلكأ - فلمّا سمعت ذلك ما تمالكت أن أجلس مكاني ، فخرجت مسرعة الى عمّتي ، وقامت عمّتي ، ولكنّي كنت أريد أن أفرّ الى مكان لا أرى فيه ما سيصنعون بأبي ، وخرجت عمّتي مذهولة الى المصرع تظنّ أنّها تستطيع أن تمنعهم عمّا ينوون ، فكلّما صاحت واستغاثت واستنصرت لم يلتفت اليها أحد ، ومضوا فيما أمرهم الظالمون(2) .

واعلم ، أنّ كلام ابن طاووس وغيره يدلّ على أنّ أولئك الطغام الطغاة الملحدين ارتكبوا هذا العمل الشنيع بالفعل ، وهذا ما يستفاد من كثير من الروايات والأخبار والزيارات ، وقد نظم ذلك العلماء الشعراء وضمّنوه في قصائدهم ومراثيهم ونثرهم .

ومن تلك الأحاديث رواية علي بن ساباط عن الباقر عليه السلام في وصف كيفية مقتلسيد الشهداء عليه السلام . . قال في آخره : ولقد أوطأوه الخيول بعد ذلك(3) .

وفي زيارة الناحية المقدّسة المذكورة في كتب الزيارات : تطؤك الخيول بحوافرها ، وتعلوك الطغاة ببواترها(4) . . الى غير ذلك .

ص: 397


1- بحار الأنوار : 45/59 بقية الباب 37 .
2- تذكرة الشهداء ترجمة سيد علي جمال أشرف : 441 .
3- بحار الأنوار : 45/91 .
4- بحار الأنوار : 101/322 .

وروي أنّه لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلام أَرَادَ الْقَوْمُ أَنْ يُوطِئُوهُ الْخَيْلَ ، فَقَالَتْ فِضَّةُ لِزَيْنَبَ عليهاالسلام : يَا سَيِّدَتِي إِنَّ سَفِينَةَ كُسِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ ، فَخَرَجَ إِلَى جَزِيرَةٍ ، فَإِذَا هُوَ بِأَسَدٍ ، فَقَالَ : يَا أَبَا الْحَارِثِ أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ، فَهَمْهَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى وَقَفَهُ عَلَى الطَّرِيقِ ، وَالأَسَدُ رَابِضٌ فِي نَاحِيَةٍ ، فَدَعِينِي أَمْضِي إِلَيْهِ وَأُعْلِمُهُ مَا هُمْ صَانِعُونَ غَداً .

قَالَ : فَمَضَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ : يَا أَبَا الْحَارِثِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ قَالَتْ : أَتَدْرِي مَا يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا غَداً بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام ؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُوطِئُوا الْخَيْلَ ظَهْرَهُ .

قَالَ : فَمَشَى حَتَّى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى جَسَدِ الْحُسَيْنِ عليه السلام ومسح وجهه ورأسه به ثم قلّب وجهه على الأرض وجعل يتضرع ويأنّ والدموع تجري من عينيه ، فلمّا أصبح الصباح ، أَقْبَلَتِ الْخَيْلُ ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ ، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ : فِتْنَةٌ لا تُثِيرُوهَا انْصَرِفُوا ، فَانْصَرَفُوا(1) .

أصدر حوى وحي الإله وعلمه

تحطّمه في عدوها الضمر الجرد

وجسم له الأفلاك والأرض كوّنت

يظلّ ثلاثا ما بها ضمّه لحد

ورأس ثرى في حجر فاطم أعصر

تنوء به في البيد خطية بلد

سبي آل البيت

اعلم ، أنّ حكاية نهب الخيام وإحراقها ، وسلب بنات رسول اللّه وغيرهن في معسكر الحسين عليه السلام - شهد اللّه - ممّا يحرق القلوب ، وذلك أنّ أسر آل البيت وسبينساء النبي صلى الله عليه و آله بهذه الصورة المذلّة ليس ممّا يحكى ولا يسمع .

يا ليت صمّ صماخي قبل أن قرعت

أُذني بسبي الهاشميات

مكشفات على الأقتاب عارية

مصفودة بجسوم عبهريّات

ص: 398


1- الكافى¨ : 1/465 باب مولد االحسين بن على¨ عليه السلام ، بحارالأنوار : 45/169 باب 39 .

اعلم ، أنّ المستفاد من بعض الروايات - كرواية مسلم الجصاص(1) - أنّهم حملوا ثقل النبوة في المحامل ، ولكن المستقاد من الزيارات وقصائد العلماء وأشعارهم أنّهم حملوهن على أقتاب المطايا العارية بلا غطاء ولا وطاء ، بأبي وأمي المظلومات الغريبات .

بل يستفاد من الأخبار وغيرها أنّهم صفّدوهم بالحديد ، وكبّلوهم بالأغلال ، كما ورد في زيارة الناحية المقدّسة : سبي أهلك كالعبيد ، وصفّدوا بالحديد ، فوق أقتاب المطيّات ، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات ، يساقون في البراري والفلوات ، أيديهم مغلولة الى الأعناق ، يطاف بهم في الأسواق(2) .

عجبا من السبع الطرائق كيف لم

تنشق والأرضون لم تتصدّع

أسفا عليه والكواكب كيف لم

تنقضّ والأفلاك لم تتعطّل

قتل ابن فاطمة وتلك حريمه

بيد الأعادي لا كفيل ولا ولي

هل تقبلون بأنّ خير نسائكم

في الأسر يستعطفن من لم يقبل

قوموا إذا لم تدركوه تداركوا

تلك العقائل من أكفّ الجحفل

مرور أهل البيت على مصارع الشهداء

روي أنّهم مرّوا بهنّ على القتلى مطرحة إستكبارا وعنادا(3) .وروى ابن طاووس قال : فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة ، وقلن : بحقّ اللّه إلاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين عليه السلام ، فلمّانظر النسوة إلى القتلى على الرمضاء مقطّعين إربا إربا ، مرمّلين بالدماء ، صحن وضربن وجوههن ، وإضطربن حتى ضجّت ملائكة السماء ، وحنّ لهنّ جميع ما في الكون ، وألقين بأنفسهن من المطايا الى الأرض ، وهن يصرخن : وا حسيناه .

ص: 399


1- بحار الأنوار : 45/114 .
2- بحار الأنوار : 101/322 .
3- تظلم الزهراء عليهاالسلام : 225 .

وفي بعض الروايات : أنّهن إجتمعن عند الجسد الذي هزّ جبرئيل مهده ، وربّاه النبي على صدره ، وتركه الأعداء عاريا على الصعيد ، وجلعن يخضبن شعورهن ووجوههن من دمه ، وهن يندبن : وا حسيناه ، وا مظلوماه ، وا قتيلاه .

ندبة زينب الكبرى عليهاالسلام في المصرع

أمّا زينب عليهاالسلام فلمّا وقعت عينها على بدن أخيها الحبيب ، ونظرت الى موضع تقبيل رسول اللّه مقطّع بخنجر الأعداء ، وهو ملقى على الصعيد عار مسلوب الثياب ، صرخت : هذا الحسين ؟ !

صرخت صرخة لا زالت مدوية منذ ألف عام ، تصكّ الأسماع ، ويترجف لها أركان العالم ، وتتحرّق لها قلوب الأشياع .

قال الراوي : فو اللّه لا أنسى زينب بنت علي عليهماالسلام تندب الحسين عليه السلام ، وتنادي بصوت حزين ، وقلب كئيب : يا محمداه ، صلّى عليك ملائكة السماء ، هذا الحسين مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، إلى اللّه المشتكى ، وإلى محمد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيد الشهداء .

يا محمداه ، هذا حسين بالعراء ، تسفى عليه الصبا ، قتيل أولاد البغايا ، وا حزناه وا كرباه ، اليوم مات جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، يا أصحاب محمداه ، هؤاء ذرية المصطفى ، يساقون سوق السبايا .

هذا الذي قد كنت تلثم نحره

أمسى نحيرا من حدود ضبائها

من بعد حجرك يا رسول اللّه قد

ألقي طريحا في ثرى رمضائها

ثم رمت بطرفها نحو الحسين ، وهي باكية مفجوعة ، يلتهب صدرها بنيرانالحزن والأسى وقالت : هذا حسين مجروز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطّع العرى ، بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفداء ،

ص: 400

بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء ، بأبي من جدّه محمد المصطفى ، بأبي من جدّه رسول إله السماء ، بأبي من هو سبط نبي الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى عليه السلام ، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء عليهاالسلام ، بأبي من ردّت له الشمس حتى صلّى .

قال الراوي : فأبكت - واللّه - كلّ عدو وصديق(1) .

وفي بعض الروايات : فما زالت تقول هذا القول حتى أبكت كلّ صديق وعدو ، حتى رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها(2) .

وروى الشيخ الطريحي صاحب المنتخب قال : لمّا نظرت أم كلثوم الى أخيها عار على الرمضاء ، تسفي عليه الصبا ، ألقت بنفسها عليه من على ظهر الناقة ، وضمّته الى صدرها ، وبكت وجعلت تندبه وتقول : يا رسول اللّه ، هذا حسينك في العراء ، تسفي عليه ريح الصبا ، ملقى على الرمضاء بلا غسل ولا كفن ، مرمّل بالدماء ، وأهل بيتك سبايا ، يساقون في ذلّ الأسر ، ليس لهم من حماتهم حمي ولا من ولاتهم ولي ، ورأس الحسين ورؤوس أهل بيته وأصحابه على رؤوس الرماح . . فاجتمع عليها عدّة من الأجلاف فنحّوها عن الجسد الشريف .

سكينة عليهاالسلام عند جسد الحسين عليه السلام

قال السيد ابن طاووس : ثم إنّ سكينة اعتنقت جسد أبيها الحسين عليه السلام(3) ، فبكت حتى أغمي عليها .

ص: 401


1- اللهوف : 130 المسلك الثاني .
2- المنتخب : 2/457 .
3- اللهوف : 130 المسلك الثاني .

قالت سكينة : لمّا قتل الحسين عليه السلام اعتنقته ، فأغمي عليّ ، فسمعته يقول :

شيعتي ما إن شربتم ماء عذب فاذكروني

أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني(1)

فأنا السبط الذي من غير جرم قتلوني

وبجرد الخيل بعد القتل عمدا سحقوني

ليتكم في يوم عاشورا جميعا تنظروني

كيف أستسقي لطفلي فأبوا أن يرحموني

فسقوه سهم بغي عوض الماء المعيني

ا لرزءٍ ومصاب هدّ أركان الحجون

ويلهم قد جرحوا قلب رسول الثقلين

فالعنوهم ما استطعتم شيعتي في كلّ حين

فاجتمعت عدّة من الأعراب حتى جروها عنه(2) .

مرور الإمام السجاد عليه السلام على مصرع أبيه عليه السلام

في حديث معتبر قال سيد الساجدين عليه السلام : إنّه لمّا أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي عليه السلام ، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحملت حرمه ونساؤ على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ، ولم يواروا فيعظم ذلك في صدري ، ويشتدّ لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج .

وتبينت ذلك منّي عمّتي زينب بنت علي الكبرى عليهاالسلام ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي ؟

فقلت : وكيف لا أجزع ولا أهلع ، وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتيوولد عمّي وأهلي مصرعين ، بدمائهم مرملين ، بالعراء مسلبين ، لا يكفنون ، ولا يوارون ، ولا يعرّج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، كأنّهم أهل بيت من الديلم والخزر .

ص: 402


1- المصباح للكفعمي : 741 .
2- اللهوف : 130 المسلك الثاني .

فقالت : لا يجزعنك ماترى ، فو اللّه إنّ ذلك لعهد من رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى جدّك وأبيك وعمّك ، ولقد أخذ اللّه ميثاق أناس من هذه الأمّة ، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرّجة ، وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء عليه السلام ، لا يدرس أثره ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر ، وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلاّ ظهورا ، وأمره إلاّ علوا(1) . . .

« وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ »

ص: 403


1- كامل الزيارات : 260 الباب 88 ، بحار الأنوار : 28/55 باب 2 .

المجلس الثاني عشر: في ورود قافلة المحنة والألم الى الكوفة

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين ، وأشرف السفراء المقرّبين ، وأفضل أهل السماوات والأرضين ، محمد وآله الأطيبين ، وأرومته الأنجبين ، وأهل بيته المظلومين .

خصوصا على نجله وفرخه ، وسبطه الأمين المكين ، الممنوع من الماء المعين ، المذبوح الأهل والبنين ، الشهيد الطعين ، والأسير المهين ، صاحب الداء الدفين ، والجسد المرضوض من الهجين ، والشلو الرهين ، والرأس المشتهر في البلاد بين الفئة الباغية الظالمين ، والشيب المخضّب من ظلم الفرقة الطاغية الفاسقين .

محروق الخباء ، مسلوب الرداء ، مهتوك الحمى ، مقتول الظما ، مذبوح القفا ، مقطّع الأعضاء بسيف أشقى الأولين والآخرين ، المذبوح بأمر اللعين ابن اللعين ، الإمام المكين ، وليث العرين ، الذي هو للخلق أمان ، وللحقّ أمين ، سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين ابن أمير المؤمنين عليهماالسلام .

وبعد ، قال اللّه سبحانه :

« كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَ عُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ » .

* * *

ص: 404

للّه الأمر من قبل ومن بعد

اعلم، أنّ العزّة والذلّة ، والرفعة والجاه والكرامة ، والهوان كلّها بيد اللّه ، فلا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا معزّ لمن أذلّ ولا مذلّ لمن أعزّ ، ومن أحبّه اللّه أحبّه كلّ شيء، ومن عاداه اللّه عاداه كلّ شيء، وهذا من الواضحات التي شهد لها العقل والنقل.

واعلم ، أنّ اللّه يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء « وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ » ، ولكن هذا لا يعني الجبر ، لأنّه جعل العزّة والذلّة في عبوديته ، ودلّ الناس على طريق العبودية ، وأعطاهم القوة على الإختيار .

فمن وضع نير العبودية للّه ، وسجد على الأعتاب الإلهية ، أعزّه اللّه ، ومن شمّر عن

ساعد الجدّ ، وعزم على المسابقة في ميادين الخدمة ، خلع عليه خلعة الخلّة والمحبّة ،

ومن تقدّم في مضمار التضحية إختاره وتوّجه بتاج الكرامة .

ومن استكبر خذله اللّه وأركسه في حضيض المهانة ، ومن غلبته شقاوته وولّى عن بابه فضحه ، ومن سعى في معصيته سعى في خذلان نفسه .

ومراتب الإحسان والإساءة تختلف ، فهو يعزّك بمقدار خدمتك ، ويهينك بمقدار عصيانك ، ف-« بقدر الكدّ تكتسب المعالي » .

فربّ شخص تفاقمت شقاوته حتى تلعنه السماء والأرض والملائكة ، وتعاديه أشدّ العداوة ، وربّ شخص إزدادت طاعته وسعادته حتى أحبّه كلّ مخلوق ، وذلك لأنّ من أحبّه اللّه أحبّته كلّ ذرّة في الكون ، والعكس بالعكس .

روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : إذا أحبّ اللّه عبدا أمر ملكا فنادى : إنّي أحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السماء كلّهم ، ثم يلقي محبّته في الماء ، فما شربه برّ ولا فاجر إلاّ أحبّه(1) .

ص: 405


1- في بحار الأنوار : 68/72 باب 53 : نوادر الراوندي، بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا أحبّ اللّه تعالى عبدا نادى مناد من السماء : ألا إنّ اللّه تعالى قد أحبّ فلانا فأحبّوه ، فتعيه القلوب ، ولا يلقى إلاّ حبيبا محبّبا مذاقا عند الناس ، وإذا أبغض اللّه تعالى عبدا نادى مناد من السماء : ألا إنّ اللّه تعالى قد أبغض فلانا فأبغضوه ، فتعيه القلوب ، وتعي عنه الآذان ، فلا تلقاه إلاّ بغيضا مبغضا شيطانا ماردا . وفي إرشاد القلوب : 1/170 الباب 50 : وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ اللّه إذا أحبّ عبدا قال لجبرائيل : إنّي أحبّ فلانا فأحبّوه ، ويوضع له القبول في الأرض .

بل إنّ السماء والأرض تحبّانه، فإذا مات تحزن عليه المواضع التي كان يعبد اللّه عليها، وتحزن عليه أبواب السماء التي كان يصعد عمله منها ، بل تبكيه السماء والأرض .

روي عن النبي صلى الله عليه و آله قال : إنّ السماء والأرض لتبكي على المؤن إذا مات أربعين صباحا ، وإنّها لتبكي على العالم إذا مات أربعين شهرا . . وإنّ السماء والأرض ليبكيان عليك - يا علي - إذا قتلت أربعين سنة(1) .

الإمام الحسين عليه السلام والأنبياء عليهم السلام

أجل ، هذه هي العزّة الإلهية ، لا تلك التي تراها عند سلاطين الجور وأرباب الثروة والغنى ، حيث يجتمع حولهم أربعة خوفا أو طمعا ، وأنّ قلوبهم موقورة بالحقد والعداوة لهم ، وكلّ شيء عدوّ لهم من السماء والأرض ، ثم يصلون جهنم مقمحين مصفدين ، فيفرح الخلق بذلّهم وهوانهم ، ولا تبكي عليهم عين ، ولا يحزن عليهم قلب ، ثم لا يذكرون ، ومن اعتزّ بغير اللّه فهو ذليل في الدارين(2) .

أُنظر الى الأنبياء والأولياء كيف أعزّهم اللّه : « إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ » .

العزّة هي أن تبكي عليه السماء والأرض إذا مات وفارق الدنيا ، روي عن أمير المؤنين - صلوات اللّه عليه - قال : مرّ عليه رجل عدو للّه ولرسوله ، فقال : « فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ » .

ص: 406


1- المناقب : 2/346 ، بحار الأنوار : 42/308 باب 128 ح9 .
2- شرح نهج البلاغة : 7/195 .

ثم مرّ عليه الحسين بن علي عليهماالسلام فقال : لكن هذا لتبكينّ عليه السماء والأرض ، وقال : وما بكت السماء والأرض إلاّ على يحيى بن زكريا والحسين علي - صلوات اللّه عليهما -(1) .

فالأنبياء والأولياء أصفياء اللّه ، وقد أعطى اللّه آدم عليه السلام الصفوة ، وأمر الملائكة بالسجود له ، وأجاب دعوة نوح ، وأعطى سليمان ملكا عظيما ، وداود الحكمة ، وإبراهيم الخلّة ، وكلّم موسى تكليما ، وأعطى عيسى المعجزة والحكمة ، وسمّى إسماعيل ذبيح اللّه ، وسمّى يحيى المظلوم ، وجعل السماء والأرض مأتما وأبكاها عليه . . درجات بعضها فوق بعض .

آدم عليه السلام والحسين عليه السلام

اعلم ، أنّ آدم صفيّ اللّه ، وأبو الأصفياء ، وإنّما أمر اللّه الملائكة أن تسجد له لمكان الحسين عليه السلام وجدّه وأبيه وأمّه وأخيه عليهم السلام في صلبه .

نوح والحسين عليهماالسلام

وكان نوح عليه السلام من أوليالعزم، وكان صابرا شاكرا مجاب الدعوة، ولكنّه ضاق ذرعا بقومه فدعا عليهم وأهلكهم ، بينما صبر سيد الشهداء عليه السلام على جفاء قومه ، والحال أنّهم جفوه جفاء لم يجف به أحد قطّ ، ولم يهلكهم ، بل ادخر دعوته لعصيان الأمّة .

سليمان والحسين عليهماالسلام

وأعطى سليمان ملكا عظيما ، وسيعطي الحسين عليه السلام ملكا يكون ملك سليمان بالنسبة له كالقطرة الى البحر .

روي عن المفضل بن عمر قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : كأنّي واللّه بالملائكة قد زاحموا المؤنين على قبر الحسين عليه السلام . قال : قلت : فيتراءون له ؟ قال : هيهات ، هيهات ، قد لزموا واللّه المؤنين حتى أنّهم ليمسحون وجوههم بأيديهم .

ص: 407


1- بحار الأنوار : 45/201 باب 40 ح1 .

قال : وينزل اللّه على زوار الحسين غدوة وعشية من طعام الجنّة وخدامهم الملائكة ، لا يسأل عبد حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلاّ أعطاها إياه .

قال : قلت : هذه - واللّه - الكرامة .

قال : يا مفضل أزيدك ؟ قلت : نعم سيدي .

قال : كأنّي بسرير من نور قد وضع ، وقد ضربت عليه قبّة من ياقوتة حمراء ، مكلّلة بالجوهر ، وكأنّي بالحسين بن علي عليهماالسلام جالس على ذلك السرير ، وحوله تسعون ألف قبّة خضراء ، وكأنّي بالمؤنين يزورونه ويسلّمون عليه ، فيقول اللّه - عزّ وجلّ - لهم : أوليائي سلوني ، فطالما أوذيتم وذللتهم واضطهدتم ، فهذا يوم لا

تسألوني حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلاّ قضيتها لكم ، فيكون أكلهم وشربهم من الجنّة ، فهذه - واللّه - الكرامة التي لا يشبهها شيء(1) .

إبراهيم والحسين عليهماالسلام

إنّما إتخذ اللّه إبراهيم خليلاً لمحبّته الشديدة لربّه ، وقد ضحّى بكلّ شيء من مال وولد ونفس في سبيل محبوبه .

روي أنّه كان لإبراهيم عليه السلام غنم لا يعدّ كثرة ، فسمع في الصحراء يوما جبرئيل عليه السلام ينادي بصوت حسن : سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح ، فقال إبراهيم عليه السلام : من ذا يذكر اسم حبيبي ، أعدها مرّة ثانية ولك ربع غنمي ، فكررها جبرئيل أربع مرات ، فأعطاه كلّ غنمه ، فإتخذه اللّه خليلاً(2) .

ص: 408


1- بحار الأنوار : 98/65 باب 9 ح53 .
2- في تفسير الصافي : 1/505 : ورد في بعض الروايات : أنّ الملائكة قال بعضهم لبعض : اتخذ ربّنا من نطفة خليلا ، وقد أعطاه ملكا عظيما جزيلاً ، فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة اعمدوا على أزهدكم ورئيسكم ، فوقع الاتفاق على جبرئيل وميكائيل ، فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه ، وكان لإبراهيم عليه السلام أربعة آلاف راع ، وأربعة آلاف كلب ، في عنق كلّ كلب طوق وزن من من ذهب أحمر ، وأربعون الف غنمة حلابة ، وما شاء اللّه من الخيل والجمال ، فوقف الملكان في طرفي الجمع ، فقال أحدهما بلذاذة صوت : سبوح قدوس فجاوبه الثاني : ربّ الملائكة والروح ، فقال : أعيداهما ولكما نصف مالي ، ثم قال : أعيداهما ولكما مالي وولدي وجسدي ، فنادت ملائكة السموات هذا هو الكرم ، هذا هو الكرم ، فسمعوا مناديا من العرش يقول : الخليل موافق لخليله .

ألقوه في النار فلم يجزع ، وأمروه أن يضحّي بولده فأطاع ، والحقّ أنّ هذه كلّها مقامات عظيمة ، ولكن سيد الشهداء عليه السلام قدّم بدل الولد الواحد ولدين ، وستة من الإخوة ، وعشرة من أهل البيت والأقارب ، لم يكن على وجه الأرض لهم مثيل .

عزم إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده ولكنّه لم يذبحه ، أمّا سيد الشهداء عليه السلام فقد ضحّى بولده ، حتى قطّع إربا إربا .

ألقي إبراهيم عليه السلام في النار فكانت عليه بردا وسلاما ، وصارت روضة من الزهور ، أمّا سيد الشهداء عليه السلام فقد ألقي في بحر من النيران والأسنة والنبال ، وكانت رياحين روضته رؤوس حراب الأعداء ، وزهورها نبالهم ، وظلالها سيوفهم ، وفرشها رمضاء الصحراء ، ونسيمها غبار حوافر خيولهم .

موسى والحسين عليهماالسلام

لقد كلّم اللّه موسى تكليما ، وإتخذه نجيّا ، وقد شرّف الحسين عليه السلام أيضا بهذا الشرف .

روى صاحب بحار الأنوار وغيره قال : إنّه عليه السلام ساير أنس بن مالك ، فأتى قبر خديجة عليهاالسلام ، فبكى ثم قال : اذهب عنّي .

قال أنس : فاستخفيت عنه ، فلمّا طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً :

يا ربّ يا ربّ أنت مولاه

فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعالي عليك معتمدي

طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خادما أرقا

يشكو إلى ذي الجلال بلواه

ص: 409

وما به علّة ولا سقم

أكثر من حبّه لمولاه

إذا اشتكى بثّه وغصّته

أجابه اللّه ثم لبّاه

إذا ابتلا بالظلام مبتهلاً

أكرمه اللّه ثم أدناه

فنودي :

لبّيك عبدي وأنت في كنفي

وكلّما قلت قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي

فحسبك الصوت قد سمعناه

دعاك عندي يجول في حجب

فحسبك الستر قد سفرناه

لو هبّت الريح من جوانبه

خرّ صريعا لما تغشّاه

سلني بلا رغبة ولا رهب

ولا حساب إنّي أنا اللّه (1)

عيسى والحسين عليهماالسلام

لقد آتى اللّه عيسى عليه السلام المعجزة والآيات ، فكان يحيى الموتى ، ويبرء الأكمه والأبرص والأعمى .

أمّا الحسين عليه السلام فقد أحيى العالم كلّه ممّا هو أدهى من الموت وأمرّ ، حيث أنقذهم من الكفر والضلال ، وسينجي غدا يوم القيامة إذا إعتلا منصب الشفاعة الناس من الهلاك السرمدي الى الحياة الأبدية والنعيم الخالد .

وأمّا إحياء الموتى وشفاء المرضى وغيرها من المعجزات ، فإنّها ليست بدعا من صاحب الكرامات السامية ، لأنّها أمور بسيطة جزئية بالنسبة له عليه السلام .

فإنّه يقلب الأفلاك كلّها بإشارة واحدة ، ويجعل الشام عراقا والعراق شاما ، ويجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا ، وكلّ أمر من أموره كان معجزة ، بل كان هو بنفسه المقدّسة معجزة ، بل هو أعظم الآيات الإلهية ، وفي كلّ حال من حالاته تصدر منه المعجزات التي تحيّر العقول والأوهام .

ص: 410


1- بحار الأنوار : 44/193 باب 26 .

لقد ظهرت منه الغرائب والمعجزات منذ أن سكن رحم أمّه عليهاالسلام الى أن دفن في أرض كربلاء ما تعجز العقول عن إدراكها .

قالت فاطمة عليهاالسلام في حديث : . . حتى تمّت الثلاثة أشهر - من حمل الحسين عليه السلام - وأنا أجد الزيادة والخير في منزلي ، فلمّا صرت في الأربعة آنس اللّه به وحشتي ، ولزمت المسجد لا أبرح منه إلاّ لحاجة تظهر لي ، فكنت في الزيادة والخفة في الظاهر والباطن حتى تمّت الخمسة ، فلمّا صارت الستة كنت لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح ، وجعلت أسمع إذا خلوت بنفسي في مصلاي التسبيح والتقديس في باطني(1) .

وكان رأسه المقدّس بعد أن رفع على الرمح يقرأ القرآن ويقول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم .

وقد ظهرت المعجزات من قبره ما حيّر العقول ، ويكفي أنّ تربته شفاء الأمراض والأسقام والأضرار والبلايا ، وأمان من كلّ خوف ، ومحل إستجابة الدعاء ، ورائحتها أزكى من ريح العنبر والعبير ، ما قصدها جبّار بسوء إلاّ قصمه اللّه ، ولم يقصدها مريض بنية صادقة إلاّ شفاه اللّه من مرضه ، ولم يدخله مديون إلاّ قضى اللّه دينه .

بعض غرائب أموره عليه السلام

وإذا أردت أن تستمع الى بعض ما ذكر من معاجزه في الكتب، فإستمع الى ما يلي:

روى علي بن إبراهيم بإسناده عن حبابة الوالبية قالت : كنت زوارة الحسين بن علي عليهماالسلام قالت : فحدث بين عيني وضح ، فشقّ ذلك عليّ ، واحتبست عليه أياما ، فسأل عنّي : ما فعلت حبابة الوالبية ؟ فقالوا : إنّها حدث بها حدث بين عينيها ، فقال لأصحابه : قوموا إليها ، فجاء مع أصحابه حتى دخل عليّ ، وأنا في مسجدي هذا ، فقال : يا حبابة ما أبطأ بك عليّ ؟ قلت : يا ابن رسول اللّه حدث هذا بي .

ص: 411


1- بحار الأنوار : 43/273 .

قالت : فكشفت القناع ، فتفل عليه الحسين بن علي عليهماالسلام ، فقال : يا حبابة أحدثي للّه شكرا ، فإنّ اللّه قد درأه عنك .

قالت : فخررت ساجدة ، فقال : يا حبابة ، ارفعي رأسك وانظري في مرآتك ، قالت : فرفعت رأسي ، فلم أحسّ منه شيئا ، فحمدت اللّه (1) .

وروى ابن شهرآشوب قال : إنّ مريضا شديد الحمى عاده الحسين عليه السلام ، فلمّا دخل من باب الدار طارت الحمى عن الرجل ، فقال له : رضيت بما أوتيتم به حقّا حقّا ، والحمى تهرب عنكم ، فقال له الحسين عليه السلام : واللّه ما خلق اللّه شيئا إلاّ وقد أمره بالطاعة لنا(2) . .

وروى القطب الراوندي عن يحيى ابن أم الطويل قال : كنّا عند الحسين عليه السلام

إذ دخل عليه شاب يبكي ، فقال له الحسين عليه السلام : ما يبكيك ؟ قال : إنّ والدتي توفي في هذه الساعة ، ولم توص ، ولها مال ، وكانت قد أمرتني أن لا أحدث في أمرها شيئا حتى أعلمك خبرها .

فقال الحسين عليه السلام : قوموا حتى نصير إلى هذه الحرّة ، فقمنا معه حتى انتهينا إلى باب البيت الذي توفي فيه المرأة ، وهي مسجاة ، فأشرف على البيت ، ودعا اللّه ليحييها حتى توصي بما تحبّ من وصيتها ، فأحياها اللّه ، وإذا المرأة جلست ، وهي تتشهد ، ثم نظرت إلى الحسين عليه السلام ، فقالت : ادخل البيت يا مولاي ، ومرني بأمرك .

فدخل وجلس على مخدّة ، ثم قال لهاك وصّي يرحمك اللّه ، فقالت : يا ابن رسول اللّه ، لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا ، فقد جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك ، والثلثان لابني هذا ، إن علمت أنّه من مواليك وأوليائك ،

ص: 412


1- بصائر الدرجات : 270 ح6 ، بحار الأنوار : 44/180 باب 25 ح1 .
2- المناقب : 3/210 ، بحار الأنوار : 44/183 ح8 .

وإن كان مخالفا فخذه إليك ، فلا حقّ في المخالفين في أموال المؤنين ، ثم سألته أن يصلّي عليها ، وأن يتولى أمرها ، ثم صارت المرأة ميتة كما كانت(1) .

بأسمائهم أحيى الرميم ابن مريم

وأبرأ فيهم أكمها غير مرّة

وآيات موسى التسع منهم صدورها

فلولاهم لم يأت منه بآية

وهم جعلوا داود فيها خليفة

عن اللّه عنهم بحكم النيابة

وحكمهم جارٍ على الرسل من بعد آدم

عن السرّ في إرسالهم للخليفة

وما عنهم استغنى رسول بما أتى

بل الرسل فيهم أيّدت حين أدّت

إسماعيل ويحيى والحسين عليهم السلام

وأمّا إسماعيل فسمّي ذبيح اللّه لمّا ضحّى بنفسه في سبيل اللّه .

وسمّي يحيى المظلوم ، والحال أنّه ذبح وحمل رأسه الى الجلاد الظالم ، وليس أكثر .

ولم يصنع بإسماعيل أكثر من أنّهم وثقوا يديه ورجليه ، وجعلوا السكين على حلقومه ، ليس أكثر .

الذبيح المظلوم هو الحسين عليه السلام الذي وجدوا فيه ألف وتسعمائة وخمسين جراحة ، وذبح من القفا ، ورفع رأسه على الرمح ، وتركوا بدنه عريانا على الرمضاء تصهره الشمس ، وسبوا عياله ، وحملوهم على النياق يطوفون بهم في البلدان ، وقرعوا ثغره وثناياه أمامهم بالقضيب ، وأدخلوا عياله في الدواوين بين الأجانب .

منعوا عليه الماء أيام حياته ، وكلّما استسقاهم ، وإستغاث ونادى : وا عطشاه ، لم يغثه أحد ، فلمّا قتلوه سلّطوا الماء على قبره ليمحوا بزعمهم آثاره .

ص: 413


1- الخرائج والجرائح : 1/245 الباب 4 ، بحار الأنوار : 44/180 ح3 .

لا خير في الدنيا ولا في أهلها

بعد الحسين ويومه المستفضع

قم بي الى لبس السواد تأهّبا

لمحرّم وهلاله المستتبع

ما أنت أول لابس لمصابه

أثواب حزنٍ صبغها لم يقلع

فالبيت بيت اللّه قد لبس السوا

د توقفا لمصابه المتوقّع

فبكى له جزعا فأضحت زمزم

فمياهها من فيض ذاك المدمع

قوحقّه لم أرع ذمّة رزئه

إن مرّ رزء غيره في مسمع

أيضيق فيه فضا الفلا وتضمّني

من بعده رحب الفضا المهيع

بأبي وأمّي زينب بين العدى

تدعو النبي بحرقة وتوجّع

يا جدّ قد غدرت أمية غدرة

ببنيك بعدك مثلها لم يسمع

يا جدّ قد أبدى ابن آكلة الأكبا

د بنا بدائع قبله لم تبدع

منعوه مهرا قد أعدّ لأمّه

وعدّوه من شربه لم يمنع

للّه كم نهلت وعلّت منه أس-

-ياف وغلّة صدره لم تنقع

ما للقيامة لم تقم ولنارها

لم تضطرم ولأخذهم لم تسرع

صبرا سليلة أحمد صبرا على

ما ناب من خطبٍ ورزء مفضع

أجل ، لقد صبر ذاك العظيم على المصائب ، وضحّى بماله ونفسه في سبيل اللّه ، فأعزّه اللّه ورفع درجته ، وأعلى مقامه ، وجعل مدفنه محلّ إختلاف الملائكة ، وجعل بقعته أفضل البقاع ، وزيارته أفضل الطاعات ، والبكاء عليه أشرف العبادات .

وقد ورد في الحديث أنّ قبره عليه السلام معراج الملائكة ، ففوج يصعد وفوج يهبط .

زيارة أرواح الأنبياء عليهم السلام لقبر الحسين عليه السلام

إنّ أرواح الأنبياء عليهم السلام تزور الحسين عليه السلام كما روي عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال :

ص: 414

خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين بن علي عليهماالسلام مستخفيا من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلاء ، فاختفيت في ناحية القرية ، حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر ، فلمّا دنوت منه أقبل نحوي رجل فقال لي : انصرف مأجورا ، فإنّك لا تصل إليه .

فرجعت فزعا حتى إذا كاد يطلع الفجر أقبلت نحوه ، حتى إذا دنوت منه خرج إليّ الرجل فقال لي : يا هذا إنّك لن تصل إليه ، فقلت له : عافاك اللّه ، ولم لا أصل

إليه ، وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته ؟ فلا تحل بيني وبينه عافاك اللّه ، وأنا أخاف أن أصبح ، فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا .

فقال لي : اصبر قليلاً ، فإنّ موسى بن عمران عليهماالسلام سأل اللّه أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن علي عليهماالسلام فأذن له ، فهبط من السماء في سبعين ألف ملك ، فهم بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر ، ثم يرجعون إلى السماء ، فقلت : فمن أنت عافاك اللّه ؟ قال : أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين عليه السلام والاستغفار لزوّاره .

فانصرفت وقد كاد يطير عقلي لما سمعت منه ، فأقبلت حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه ، فلم يحل بيني وبينه أحد ، فدنوت منه ، فسلّمت عليه ، ودعوت اللّه على قتلته ، وصلّيت الصبح ، وأقبلت مسرعا مخافة أهل الشام(1) .

وروى القطب الرواندي عن الصادق عليه السلام قال : قبر الحسين عليه السلام عشرون ذراعا في عشرين ذراعا مكسرا روضة من رياض الجنّة ، منه معراج إلى السماء ، فليس من ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ، إلاّ وهو يسأل اللّه تعالى أن يزور الحسين عليه السلام ، ففوج يهبط وفوج يصعد(2) .

ص: 415


1- كامل الزيارات : 111 الباب 38 ، بحار الأنوار : 45/408 باب 50 ح14 .
2- كامل الزيارات : 114 الباب 39 ح4 .

نوح الجن على الحسين عليه السلام

تأمّل - يا عزيزي - في هذا المقام والمنزلة التي لم يعطها اللّه الى أحد سواه ، إنّ أ أحبّه فأعزّه ، وجعل البكاء عليه أفضل الأعمال ، بل لو خرج من العين مثل جناح البعوضة كان سببا للمغفرة .

روي عن أبي زياد القندي قال : كان الجصّاصون يسمعون نوح الجن حين قتل الحسين بن علي عليهماالسلام في السحر بالجبانة ، وهم يقولون :

مسح الرسول جبينه

فله بريق في الخدود

أبواه في عليا قريش

وجدّه خير الجدود(1)

وروى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي عن المحفوظ بن المنذر قال : حدّثني شيخ من بني تميم كان يسكن الرابية ، قال : سمعت أبي يقول : ما شعرنا بقتل الحسين عليه السلام حتى كان مساء ليلة عاشوراء ، فإنّي لجالس بالرابية ، ومعي رجل من الحي ، فسمعنا هاتفا يقول :

واللّه ما جئتكم حتى بصرت به

بالطفّ منعفر الخدين منحورا

وحوله فتية تدمى نحورهم

مثل المصابيح يطفون الدجى نورا

وقد حثثت قلوصي كي أصادفهم

من قبل أن تتلاقى الخرّد الحورا

فعاقني قدر واللّه بالغه

وكان أمرا قضاه اللّه مقدورا

كان الحسين سراجا يستضاء به

اللّه يعلم أنّي لم أقل زورا

صلّى الإله على جسم تضمّنه

قبر الحسين حليف الخير مقبورا

مجاورا لرسول اللّه في غرف

وللوصيّ وللطيّار مسرورا

فقلنا له : من أنت يرحمك اللّه ؟ قال : أنا وآلي من جن نصيبين ، أردنا مؤزرة

الحسين عليه السلام ومواساته بأنفسنا ، فانصرفنا من الحجّ ، فأصبناه قتيلاً(2) .

ص: 416


1- كامل الزيارات : 94 الباب 29 ، بحار الأنوار : 45/241 ح11 .
2- أمالي الشيخ المفيد : 320 ح7 ، أمالي الشيخ الطوسي : 90 ح141 ، بحار الأنوار : 45/239 ح9 .

وروى ابن قولويه عن داود الرقي قال : حدّثتني جدّتي : أنّ الجنّ لمّا قتل الحسين عليه السلام بكت عليه بهذه الأبيات :

يا عين جودي بالعبر

وابكي فقد حقّ الخبر

أبكي ابن فاطمة الذي

ورد الفرات فما صدر

الجن تبكي شجوها

لمّا أتي منه الخبر

قتل الحسين ورهطه

تعسا لذلك من خبر

فلأبكينّك حرقة

عند العشاء وبالسحر

ولأبكينّك ما جرى

عرق وما حمل الشجر(1)

وروي في الكتب المعتبرة عن حكيم بن داود عن سلمة قال : حدّثني أيوب بن سليمان بن أيوب الفزاري عن علي بن الحزور قال : سمعت ليلى وهي تقول : سمعت نوح الجن على الحسين بن علي عليهماالسلام ، وهي تقول :

يا عين جودي بالدموع

فإنّما يبكي الحزين بحرقة وتفجع

يا عين ألهاك الرقاد

بطيبة من ذكر آل محمد وتوجع

باتت ثلاثا بالصعيد جسومهم

بين الوحوش وكلّهم في مصرع(2)

وروي أنّ هاتفا سمع بالبصرة ينشد ليلاً :

إنّ الرماح الواردات صدورها

نحو الحسين تقاتل التنزيلا

ويهلّلون بأن قتلت وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

فكأنّما قتلوا أباك محمدا

صلّى عليه اللّه أو جبريلا(3)

ص: 417


1- كامل الزيارات : 97 الباب 29 ح11 ، بحار الأنوار : 45/238 ح7 .
2- كامل الزيارات : 97 الباب 29 ح5 ، بحار الأنوار : 45/241 ح13 .
3- بحار الأنوار : 45/235 .

ولا غرابة في نوح الجنّ وبكائهم في تلك المصيبة ، وقد سمع منهم في أقطار الأرض في ذلك الزمان أشعارا ونوحا كثيرا ، بل سجّلت لهم أبياتا كثيرة لا تحصى في طول الزمان ، وعلى مرّ الأعصار ، ونحن نكتفي بهذا القدر المختصر .

وقد إشتهر البيت الذي كان يدعى « بيت الرأس » ، وهو بيت قريب من باب السدرة ، المعروف أنّهم حينما فصلوا الرأس المقدّس عن الجسد وضعوه في ذلك المكان ، في حجرة في سرداب معروف ، وكان شخصا ثقة يعيش في بيت مجاور لهذا المكان ، وكان يقول : أنّه يسمع دائما أصوات الجن ينوحون ويندبون الإمام المظلوم ، وكان ينقل عن إمرأة كانت تعيش قبله في نفس البيت أنّها كانت تسمع في الليل نوح الجن في ذلك السرداب .

أجل ، فإنّ كلّ العالم بما فيه من جماد وذي روح أقام المأتم ، وأظهر الحزن والألم في هذه المصيبة ، فهل نحن أقمناه كما ينبغي مع كلّ ما ندّعيه ؟

ومن النوح المروي عن الجن :

نساء الجن يبكين

من الحزن شجيات

وأسعدن بنوح لل-

-نساء الهاشميات

ويندبن حسينا عظم-

-ت تلك الرزيات

ويلطمن خدودا كالدنا

نير نقيات

ويلبسن ثياب السو

د بعد القصبيات

رؤوس الشهداء على رؤوس الرماح

أمّا حكاية ورود سبايا المحنة والبلاء ، وقافلة الألم والعناء ، وسفرهم الحزين الى الكوفة من كربلاء ، فهو كما ذكره العلماء في كتبهم المعتبرة :بعد أن قتلوا ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأسروا أفلاذ كبد الزهراء ، وعزموا على ترحيلهم الى الكوفة ، أمر اللعين ابن سعد أن تقطع رؤوس الشهداء فقطعت ،

ص: 418

وعن الأبدان فصلت ، وعلى رؤوس الرماح نصبت ، وا ويلاه ، ومع رأس الحسين سيد الشهداء عليه السلام الى الكوفة وجّهت ، فاضطربت جميع ذرات الكائنات ، والملك والملكوت .

بنفسي رؤوس ساميات على القنا

كمثل بدور وافقتها سعودها

مخضّبة بالدم منها جباهها

فيا طالما للّه طال سجودها

فلمّا نظر أهل البيت الى الرؤوس ارتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل ، وضجّوا ضجيجا لا يقوى القلم على صفته ، ولا اللسان على بيانه ، فهجم عليهم الأعداء وأبعدوهم عن الرؤوس والأجساد ، وأركبوهم على النياق .

ولنعم ما قاله الشاعر على لسان زينب عليهاالسلام :

يا حادي الأصفان رفقا بالأولى

كانوا من العليا بدور سمائها

أو ما علمت بمن تحطّ ركابها

يا ويلك يا أولي أورى بشقائها

في الركب أولاد الرسول وفاطم ال-

-زهراء البتول الطهر بستّ نسائها

فيه الفواطم للخدود لواطم

ثكلى تنادي الغوث من ضرائها

في الركب زين العابدين مكلّلاً

ذو مقلة عبرى تسبح بمائها

دنف عليل ذو عليل زاده

غلّ اليدين كابه لعنائها

إرسال الرأس المقدّس الى ابن زياد

وقال محمد بن أبي طالب : وروي أنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأسا ، واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى عبيد اللّه ، وإلى يزيد .

فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث .

وجاءت هوازن باثني عشر رأسا ، وفي رواية ابن شهرآشوب : بعشرين ، وصاحبهم شمر - لعنه اللّه - .

وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا ، وفي رواية ابن شهرآشوب : بتسعة عشر .

وجاءت بنو أسد بستة عشر رأسا ، وفي رواية ابن شهرآشوب : بتسعة رؤوس .

ص: 419

وجاءت مذحج بسبعة رؤوس .

وجاءت سائر الناس بثلاثة عشر رأسا ، وقال ابن شهرآشوب : وجاء سائر الجيش بتسعة رؤوس ، ولم يذكر مذحج .

قال : فذلك سبعون رأسا .

ثم قال : وجاءوا بالحرم أسارى إلاّ شهربانويه ، فإنّها أتلفت نفسها في الفرات(1) .

وقال محمد بن أبي طالب : ثم إنّ عمر بن سعد سرّح برأس الحسين عليه السلام يوم عاشوراء مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم إلى ابن زياد ، ثم أمر برؤوس الباقين من أهل بيته وأصحابه ، فقطعت وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن إلى الكوفة ، وأقام ابن سعد يومه ذلك ، وغده إلى الزوال ، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم ، وترك الحسين وأصحابه منبوذين بالعراء(2) .

لهفي لهم ، كانوا يسمّونهم خوارج ! وقالوا : لا ندفنهم ، ولكنّ ما إن سمع ابن زياد الخبر حتى نفخ في حضنيه ، وطار سرورا وجذلاً ، وكتب كتاب البشارة الى جميع البلدان .

الرأس المقدّس في تنور خولي

قال صاحب المناقب وابن نما : إنّ عمر بن سعد لمّا دفع الرأس إلى خولي الأصبحي - لعنهما اللّه - ليحمله إلى ابن زياد - عليه اللعنة - أقبل به خولي ليلاً ، فوجد باب القصر مغلقا، فأتى به منزله، وله امرأتان، امرأة من بني أسد ، وأخرى حضرمية يقال لها « النوار » ، فآوى إلى فراشها ، فقالت له : ما الخبر ؟ فقال : جئتك بالذهب ،هذا رأس الحسين معك في الدار ! فقالت : ويلك جاء الناس بالذهب والفضة ، وجئت برأس ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟! واللّه لا يجمع رأسي ورأسك وسادة أبدا .

ص: 420


1- بحار الأنوار : 45/62 ، المناقب : 4/121 .
2- بحار الأنوار : 45/62 .

قالت : فقمت من فراشي ، فخرجت إلى الدار ، ودعا الأسدية فأدخلها عليه ، فما زالت - واللّه - أنظر إلى نور مثل العمود يسطع من الإجانة التي فيها رأس الحسين عليه السلام إلى السماء ، ورأيت طيورا بيضا ترفرف حولها وحول الرأس(1) .

وذكر بعض العلماء - وإن لم يذكر في الكتب المعتبرة - أن تلك المرأة قالت : فرأيت نساءا خمسة نزلن من السماء ، فتقدّمت إحداهن ، فأخذت الرأس ، فضمّته الى صدرها ، وشمّته وقبّلته ، وجعلت تقول : يا شهيد الأم ، يا غريب الأم ، حكم اللّه بيني وبين من قطع رأسك ، ثم بكين جميعا بكاءا شديدا ، ثم تركن الرأس وذهبن .

فأخذت تلك المرأة الرأس وضمّته الى صدرها ، وجعلت تبكي وتلطم وجهها وصدرها حتى أغمي عليها .

فلمّا أفاقت ذهبت الى زوجها فقالت : يا خبيث ، يا لعين ، يا شرّ أهل الأرض ، لمن هذا الرأس ؟ هذا رأس ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وضعته في التنور ، ونمت كأنّك لم تفعل شيئا ؟ ! قم وانظر الى ما بين السماء والأرض من البكاء والعويل ، وهذه الملائكة تهبط أفواجا الى زيارته ، لعنك اللّه ، ولعن من اتبعك ، قالت ذلك ثم خرجت من بيته(2) .

دخول السبايا الى الكوفة

أمر ابن زياد في يوم ورود آل محمد الكوفة أن لا يخرج أحد من أهل الكوفة مع ا لسلاح ، وأمر بعشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق والطرق والشوارع ، خوفا من الناس أن تحركهم الحمية والغيرة على أهل البيت إذا رأوهمفي تلك الحالة ، وأمر أن تجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء ، ويطاف بهمفي الشوارع والأسواق حتى يغلب على الناس الخوف والرهبة(3) .

ص: 421


1- المناقب : 4/68 ، مثير الأحزان : 85 ، بحار الأنوار : 45/125 باب 39 .
2- انظر مدينة المعاجز : 4/124 ح1132 .
3- ناسخ التواريخ ترجمة سيد علي جمال أشرف : 3/28 عن روضة الأحباب .

روى ابن طاووس وغيره بألفاظ متقاربة قالوا : فلمّا قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر اليهم ، فلمّا شاهدوا السبايا بتلك الحالة من الغربة بكوا جميعا .

وكان مع النساء علي بن الحسين عليه السلام ، قد نهكته العلّة ، والحسن بن الحسن المثنى ، وكان قد واسى عمّه وإمامه في الصبر على الرماح ، وإنّما ارتث ، وقد اُثخن بالجراح ، وكان معهم أيضا زيد وعمر ولدا الحسن السبط عليه السلام(1) .

وتعجّب أهل الكوفة لما رأوا في سيماء هؤلاء الأسرى من الجلال والعظمة ، فأشرفت إمرأة من الكوفيات فقالت : من أيّ الأسارى أنتن ؟ فقلن : نحن أسارى آل محمد صلى الله عليه و آله ، فنزلت المرأة من سطحها ، فجمعت لهن أزرا وملاءً ومقانع ، وأعطتهن فتغطين(2) ، فلمّا رأوا أهل البيت في تلك الحالة جعلوا يبكون وينوحون .

خطبة السيدة زينب عليهاالسلام في الكوفة

روى الشيخ المفيد رحمه الله عن حذلم بن ستير(3) قال : قدمت الكوفة في المحرم سنة إحدى وستين عند منصرف علي بن الحسين عليهماالسلام بالنسوة من كربلاء ، ومعهم الأجناد محيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر إليهم .

فلمّا أقبل بهم على الجمال بغير وطاء ، جعل نساء أهل الكوفة يبكين وينتدبن ، فسمعت علي بن الحسين عليهماالسلام ، وهو يقول بصوت ضئيل ، وقد نهكته العلّة ، وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة إلى عنقه : ألا إنّ هؤاء النسوة يبكين ، فمن قتلنا ؟قال : ورأيت زينب بنت علي عليهماالسلام ، ولم أر خفرة قطّ أنطق منها ، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤنين عليه السلام ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس ،وسكتت الأصوات ، فقالت :

ص: 422


1- البحار : 45/108 باب 39 .
2- اللهوف : 143 .
3- في المتن : « حذام بن شريك » ، وفي البحار : « حذيم » .

الحمد للّه والصلاة على أبي(1) رسول اللّه ، أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، ويا أهل الختل والخذل ، فلا رقأت العبرة ، ولا هدأت الرنّة ، فما مثلكم إلاّ « كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ » .

ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النطف ، والصدر الشنف ، خوارون في اللقاء ، عاجزون عن الأعداء ، ناكثون للبيعة ، مضيعون للذمّة ، فبئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون .

أتبكون ؟ إي واللّه ، فابكوا كثيرا ، واضحكوا قليلاً ، فلقد فزتم بعارها وشنارها ، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا .

وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنّة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ، ومقرّ سلمكم ، وآسى كلمكم ، ومفزع نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقالتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجّتكم .

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم ، فتعسا تعسا ، ونكسا نكسا ، لقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤم بغضب من اللّه ، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة .

أتدرون - ويلكم - أيّ كبد لمحمد صلى الله عليه و آله فريتم ؟ وأيّ عهد نكثتم ؟ وأيّ كريمة له أبرزتم ؟ وأيّ حرمة له هتكتم ؟ وأيّ دم له سفكتم ؟ « لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا » .

لقد جئتم بها شوهاء صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء، طلاع الأرض ومل ء السماء.

أفعجبتم أن لم تمطر السماء دما « وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ » ، فلا يستخفنّكم المهل ، فإنّه - عزّ وجلّ - من لا يحفزه البدار ، ولا يخشى عليه فوتالثأر ، كلاّ إنّ ربّك لنا ولهم بالمرصاد(2) .

ص: 423


1- في المتن : « جدّي » .
2- بحار الأنوار : 45/162 باب 39 .

وفي رواية القطب الراوندي : ثم أنشأت تقول :

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم

ما ذا صنعتم وأنتم آخر الأمم

بأهل بيتي وأولادي ومكرمتي

منهم أسارى ومنهم ضرّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

إنّي لأخشى عليكم أن يحلّ بكم

مثل العذاب الذي أودى على إرم

قال حذيم : فرأيت الناس حيارى - لمّا سمعوا كلام فلذة كبد الزهراء البتول - قد ردّوا أيديهم في أفواههم .

فالتفت إلى شيخ إلى جانبي يبكي ، وقد اخضلت لحيته بالبكاء ، ويده مرفوعة إلى السماء ، وهو يقول : بأبي وأمي ، كهولهم خير الكهول ، وشبابهم خير شباب ، ونسلهم نسل كريم ، وفضلهم فضل عظيم ، ثم أنشد شعرا :

كهولهم خير الكهول ونسلهم

إذا عدّ نسل لا يبور ولا يخزى

فقال علي بن الحسين عليهماالسلام : يا عمّة اسكتي ، ففي الباقي من الماضي اعتبار ، وأنت - بحمد اللّه - عالمة غير معلمة ، فهمه غير مفهمة ، إنّ البكاء والحنين لا يردّان من قد أباده الدهر ، فسكتت(1) .

خطبة فاطمة الصغرى عليهاالسلام في الكوفة

روي عن الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّه قال : أنّ فاطمة الصغرى عليهاالسلام بنت الحسين عليه السلام خطبت أيضا في الكوفة .

ومن خطبتها البليغة ، وكلماتها الشريفة ، ومضامينها اللطيفة ، يعلم أنّها كانت ينبوع من ينابيع العلم والمعرفة ، وأنّها كانت تفرغ عن ينبوع الفصاحة والبلاغة ، ومن خطبتها يعرف أنّ نساءهم وبناتهم وأطفالهم كلّهم غصون شجرة الإمامةوالهداية ، وفروع أصول العصمة والطهارة .

ص: 424


1- الأمالي للمفيد : 320 المجلس 38 ح8 ، الإحتجاج : 1/29 ، بحار الأنوار : 45/162 باب 39 .

وذلك لأنّ النساء المخدرات خطبن بين الملأ إرتجالاً ، وهنّ في تلك الحالة من الحزن والفقد والسبي والألم ، والحال أنّ كبار العلماء يعجزون عن إنشاء مثلها بعد التأمّل والإعداد ، بل يتعسّر عليهم فهم ما ورد في كلامهن بعد التفكّر ، ومنه يعلم منزلة هؤلاء الطيبات ومقامهن .

أجل ، إنّهن بنات علي المرتضى عليه السلام ، وفلذة كبد فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وأنوار سبل اللّه .

يا للرجال مخدّرات محمد

تسبى وتهتك ما لهن ودود

تلجى وتضرب بالسياط جزاءة

وتسبّ آباء لها وجدود

تلك الطواهر كالبدور زواهر

تحت الحجاب شعاعها موقود

أصبحن من بعد الحجاب سوافرا

في السفن يعلو نورهن مكبود

يشهرن في الأمصار ما بين الورى

ويسوقها رجس هناك عنيد

أجل ، خطبت فاطمة الصغرى عليهاالسلام خطبة تزلزلت لها الأرض ، واصطفقت الأبواب والجدران ، واضطربت لها القلوب ، وإحترقت الأكباد ، وارتفعت الأصوات بالبكاء ، وقالوا : حسبك يا ابنة الطيبين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضرمت أجوافنا(1) .

ص: 425


1- لم يذكر المؤلف رحمه الله خطبتها عليهاالسلام وهي كما في بحار الأنوار : 45/110 باب 39 . وروى زيد بن موسى قال : حدثني أبي عن جدّي عليهماالسلام قال : خطبت فاطمة الصغرى بعد أن ردّت من كربلاء ، فقالت : الحمد للّه عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده ، وأؤن به ، وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه و آله ، وأنّ ولده ذبحوا بشطّ الفرات ، بغير ذحل ولا ترات . اللّهم إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت ، من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب ، المسلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت اللّه تعالى ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعسا لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيما في حياته ، ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم يأخذه - اللّهم - فيك لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته - يا ربّ - للإسلام صغيرا ، وحمدت مناقبه كبيرا ، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك ، صلواتك عليه وآله ، حتى قبضته إليك زاهدا في الدنيا غير حريص عليها ، راغبا في الآخرة ، مجاهدا لك في سبيلك ، رضيته فاخترته ، وهديته إلى صراط مستقيم . أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسنا ، وجعل علمه عندنا ، وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه ، وحكمته وحجته في الأرض لبلاده ولعباده ، أكرمنا اللّه بكرامته ، وفضّلنا بنبيه محمد صلى الله عليه و آلهعلى كثير ممّن خلق تفضيلاً بينا ، فكذبتمونا وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهبا ، كأنّا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ، لحقد متقدّم قرّت بذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم ، افتراء منكم على اللّه ، ومكرا مكرتم ، وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة « فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ » . تبا لكم ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، وكأن قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فَيُسْحِتَكُمْ بما كسبتم ، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة ، بما ظلمتمونا أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ . ويلكم أتدرون أيّة يد طاعنتنا منكم ؟ وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟ أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟ قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم ، وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان ، وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة ، فأنتم لا تهتدون . تبا لكم يا أهل الكوفة ، أيّ ترات لرسول اللّه قبلكم ؟ وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب عليهماالسلام جدّي وبنية عترة النبي الطاهرين الأخيار ، وافتخر بذلك مفتخركم فقال : نحن قتلنا عليا وبني علي بسيوف هندية ورماحوسبينا نساءهم سبي ترك ونطحناهم فأيّ نطاح بفيك أيّها القائل الكثكث ، ولك الأثلب ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم اللّه وطهرهم ، وأذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى أبوك ، وإنّما لكلّ امرئ ما قدّمت يداه ، حسدتمونا ويلاً لكم على ما فضلنا اللّه عليكم . فما ذنبنا أن جاش دهرا بحورنا وبحرك ساج لا يواري الدعامصا « ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ » . قال : فارتفعت الأصوات بالبكاء ، وقالوا : حسبك يا ابنة الطيبين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضرمت أجوافنا ، فسكتت عليها وعلى أبيها وجدّتها السلام .

ص: 426

خطبة السيدة أم كلثوم عليهاالسلام في الكوفة

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : وخطبت أم كلثوم بنت علي عليهماالسلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها رافعة صوتها بالبكاء ، فقالت :

يا أهل الكوفة سوءة لكم ، ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه ، وانتهبتم أمواله وورثتموه ، وسبيتم نساءه ونكبتموه ، فتبا لكم وسحقا .

ويلكم ، أتدرون أيّ دواه دهتكم ؟ وأيّ وزر على ظهوركم حملتم ؟ وأيّ دماء سفكتموها ؟ وأيّ كريمة أصبتموها ؟ وأيّ صبية سلبتموها ؟ وأيّ أموال انتهبتموها ؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي ، ونزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا أنّ حزب اللّه هم الفائزون ، وحزب الشيطان هم الخاسرون ، ثم قالت :

قتلتم أخي صبرا فويل لأمّكم

ستجزون نارا حرّها يتوقّد

سفكتم دماءا حرّم اللّه سفكها

وحرّمها القرآن ثم محمد

ألا فأبشروا بالنار إنّكم غدا

لفي سقر حقّا يقينا تخلّدوا

وإنّي لأبكي في حياتي على أخي

على خير من بعد النبي سيولد

بدمع غزير مستهلّ مكفكف

على الخدّ منّي ذائبا ليس يجمد

قال : فضجّ الناس بالبكاء والحنين والنوح ، ونشر النساء شعورهن ، ووضعن التراب على رؤوسهن ، وخمشن وجوههن ، وضربن خدودهن ، ودعون بالويل والثبور ، وبكى الرجال ، فلم ير باكية وباك أكثر من ذلك اليوم(1) .

ص: 427


1- بحار الأنوار : 45/112 باب 39 .

خطبة الإمام سيد الساجدين عليه السلام في الكوفة

ثم إن زين العابدين عليه السلام وبقية السلف ، وملاذ الخلف ، وذروة الحسب والنسب والشرف ، وإمام الخلق ، وخليفة الخالق ، علي بن الحسين عليه السلام ، أومأ إلى الناس أن اسكتوا ، فسكتوا ، فقام قائما وهو عليل منهك ، نحيف ضعيف ، مكبّل بالحديدوالجامعة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وذكر النبي وصلّى عليه ، ثم قال :

أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - صلوات اللّه عليهم - ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن من انتهك حريمه ، وسلب نعيمه ، وانتهب ماله ، وسبي عياله ، أنا ابن من قتل صبرا ، وكفى بذلك فخرا .

أيّها الناس ، ناشدتكم باللّه ، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ؟ وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه ؟

فتبا لما قدّمتم لأنفسكم ، وسوءة لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله

إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمّتي ؟

قال : فارتفعت أصوات الناس من كلّ ناحية ، ويقول بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون .

فقال عليه السلام : رحم اللّه امرأ قبل نصيحتي ، وحفظ وصيتي في اللّه ، وفي رسوله وأهل بيته ، فإنّ لنا في رسول اللّه أسوة حسنة .

فقالوا بأجمعهم : نحن كلّنا يا ابن رسول اللّه سامعون مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك ، يرحمك اللّه ، فإنّا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذن يزيد ، ونبرأ ممّن ظلمك وظلمنا .

فقال عليه السلام : هيهات ، هيهات ، أيّها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل ؟ كلاّ وربّ الراقصات ،

ص: 428

فإنّ الجرح لمّا يندمل ، قتل أبي - صلوات اللّه عليه - بالأمس ، وأهل بيته معه ، ولم ينسني ثكل رسول اللّه ، وثكل أبي وبني أبي ، ووجده بين لهاتي ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصصه يجري في فراش صدري ، ومسألتي أن لا تكونوا لناولا علينا ، ثم قال :

لا غرو إن قتل الحسين وشيخه

قد كان خيرا من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي

أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشطّ النهر روحي فداؤ

جزاء الذي أرداه نار جهنما(1)

ورود أهل البيت الى الكوفة برواية مسلم الجصّاص

روي عن مسلم الجصاص قال : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة ، فبينما أنا أجصّص الأبواب ، وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة ، فأقبلت على خادم كان معنا ، فقلت : ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟ قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد ، فقلت : من هذا الخارجي ؟ فقال : الحسين بن علي عليهماالسلام .

قال : فتركت الخادم حتى خرج ، ولطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن يذهب ، وغسلت يدي من الجصّ ، وخرجت من ظهر القصر ، وأتيت إلى الكناس .

فبينما أنا واقف ، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس ، إذ قد أقبلت نحو أربعين شقّة تحمل على أربعين جملاً ، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة عليهاالسلام ، وإذا بعلي بن الحسين عليهماالسلام على بعير بغير وطاء ، وأوداجه تشخب دما ، وهو مع ذلك يبكي ويقول :

ص: 429


1- بحار الأنوار : 45/113 .

يا أمّة السوء لا سقيا لربعكم

يا أمّة لم تراع جدّنا فينا

لو أنّنا ورسول اللّه يجمعنا

يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتاب عارية

كأنّنا لم نشيّد فيكم دينا

بني أمية ما هذا الوقوف على

تلك المصائب لا تلبون داعينا

تصفّقون علينا كفّكم فرحا

وأنتم في فجاج الأرض تسبونا

أليس جدّي رسول اللّه ويلكم

أهدى البريّة من سبل المضلينا

يا وقعة الطف قد أورثتني حزنا

واللّه يهتك أستار المسيئينا

قال : وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز ، فصاحت بهم أم كلثوم وقالت : يا أهل الكوفة ، إنّ الصدقة علينا حرام ، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم ، وترمي به إلى الأرض .

قال : كلّ ذلك والناس يبكون على ما أصابهم .

ثم إنّ أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل ، وقالت لهم : صه يا أهل الكوفة ، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤم ، فالحاكم بيننا وبينكم اللّه يوم فصل القضاء .

فبينما هي تخاطبهن إذا بضجّة قد ارتفعت ، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين عليه السلام ، وهو رأس زهري قمري ، أشبه الخلق برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب ، ووجهه دارة قمر طالع ، والرمح تلعب بها يمينا وشمالاً(1) .

كلام السيدة زينب عليهاالسلام مع الرأس المقدّس في الكوفة

ص: 430


1- بحار الأنوار : 45/115 .

فالتفتت زينب ، فرأت رأس أخيها ، فنطحت جبينها بمقدّم المحمل ، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها ، وأومأت إليه بخرقة ، وجعلت تقول :

يا هلالاً لما استتم كمالاً

غاله خسفه فأبدا غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤدي

كان هذا مقدرا مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلّمها

فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي قلبك الشفيق علينا

ما له قد قسى وصار صليبا

يا أخي لو ترى عليا لدى الأسر

مع اليتم لا يطيق وجوبا

كلّما أوجعوه بالضرب ناداك

بذلّ يغيض دمعا سكوبا

يا أخي ضمّه إليك وقرّبه

وسكّن فؤده المرعوبا

ما أذلّ اليتيم حين ينادي

بأبيه ولا يراه مجيبا

السبايا في مجلس ابن زياد الملعون

روى السيد ابن طاووس والشيخ فخر الدين : جاءوا بسبايا أهل بيت الرسالة ، ومخدرات سرادق العصمة والطهارة ، وخواتين غرفات القدس ، وسيدات محافل العرفان والأنس ، وبقايا العترة الطاهرة ، وذرية أحمد المختار ، وصبايا حيدر الكرار ، ومعهن محور فلك العلم ، وعين المعرفة ، وقطب دائرة الهداية ، وشمس العصمة والطهارة ، زين العباد والسيد السجاد ، وحجّة اللّه على العباد ، وشفيع المعاد ، علي بن الحسين عليه السلام ، ومعهم رؤوس شهداء كربلاء ، وغرباء دنيا الوفاء ، يتقدّمهم رأس سيد الشهداء عليه السلام ، وقد جلس اللعين ابن اللعين ، والخبيث ابن الخبيث ، عبيد اللّه بن زياد ، في دار الكفر ، وأذن للناس إذنا عاما .

وروي أنّه فعل ذلك بعد يوم من وصولهم الى الكوفة .

ثم إنّه أمر بإحضار فلذات كبد أحمد المختار صلى الله عليه و آله ، ورأس أفضل الخلق المقدّس المطهّر ، في مجلسه المنحوس المنكوس ، فدخل أهل البيت سبايا مقهورين في المجلس العام .

آه وا ويلاه ، أين عنهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ينظر الى ذريته الطيبين عند ابن زياد اللعين .

ص: 431

أين عنهم فاطمة الزهراء عليهاالسلام ترى فتياتها في مجلس الخبيث ابن زياد .

من مخبر الزهراء أنّ بناتها

يشهرن بين طغاتها وبغاتها

يا فاطم الزهراء قومي واندبي

أسراك في أشراك ذلّ عداتها

فأدخل عيال الحسين بن علي - صلوات اللّه عليهما - على ابن زياد ، فدخلت زينب أخت الحسين عليهماالسلام في جملتهم متنكّرة ، وعليها أرذل ثيابها ، ومضت حتى جلست ناحية ، وحفت بها إماؤا(1) ، ولم تسلّم على ابن زياد ، ولم تلتفت الى أحد ، وهي تتخفّى بين النساء ، وتستر وجهها بكمّها ، لأنّ قناعها أخذ منها .

فسأل عنها ، فقيل : هذه زينب بنت علي ، فأقبل عليها وقال : بحقّ جدّك كلّميني ، فقالت : وما الذي تريد وقد هتكتني بين النساء(2) ، وبين الناس أبرزتني .

فتكلّم اللعين بكلمات مزخرفة ، وعبارات بالكفر صريحة غير مغلفة ، فلم تطق الحوراء ، فقالت : سيجمع اللّه بينك وبينهم ، فتحاجّ وتخاصم ، فاستعدّ جوابا ، وأنّى لك به .

فغضب ابن زياد واستشاط ، وكأنّه همّ بقتلها ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها ، فقال لها ابن زياد : لقد شفى اللّه قلبي من طاغيتك الحسين ! والعصاة المردة من أهل بيتك ! فقالت : لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤ فقد اشتفيت .

وروي أنّ أم كلثوم قالت : يا ابن زياد إن كان قرّت عينك بقتل الحسين ، فقد كانت عين رسول اللّه صلى الله عليه و آله تقرّ برؤيته ، وكان يقبّله ويمصّ شفتيه ، ويحمله(3) . .

ص: 432


1- بحار الأنوار : 45/117 باب 39 .
2- المنتخب : 2/466 .
3- ناسخ التواريخ ترجمة سيد علي جمال أشرف : 3/41 .

كلام الإمام السجاد عليه السلام وابن زياد لعنه اللّه

وقال السيد ابن طاووس : ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين عليهماالسلام ، فقال :من هذا ؟ فقيل : علي بن الحسين ، فقال : أليس قد قتل اللّه علي بن الحسين ؟ فقال علي : قد كان لي أخ يسمّى علي بن الحسين ، قتله الناس ، فقال : بل اللّه قتله ، فقال علي : « اللّهُ يَتَوَفَّى الأْنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » .

فقال ابن زياد : ولك جرأة على جوابي ؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه(1) .

وروي أنّ ابن الزنا حينما أكثر من كلامه بالباطل مع زينب عليهاالسلام : فغار علي بن الحسين عليهماالسلام على عمّته ، فقال لابن زياد : الى كم تهتك عمّتي بين من يعرفها ومن لا يعرفها ، قطع اللّه يديك ورجليك ، فاستشاط ابن زياد ، وأمر بضرب عنقه(2) .

وقال الشيخ المفيد وابن نما : فلمّا سمع النساء كلامه إضطربن ، فتعلّقت به زينب عمّته ، وقالت : يا ابن زياد حسبك من دمائنا ، واعتنقته ، وقالت : واللّه لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه .

فقال علي لعمّته : اسكتي يا عمّة حتى أكلّمه ، ثم أقبل عليه السلام فقال : أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد ؟ أما علمت أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتنا الشهادة(3) ؟

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ، ثم قال : عجبا للرحم ، واللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه ، دعوه ، فإنّي أراه لما به(4) .

إعتراض زيد بن أرقم في مجلس ابن زياد

وقال المفيد رحمه الله : فوضع الرأس بين يديه ينظر إليه ويتبسّم ، وبيده قضيب يضرب به ثناياه . وفي بعض المقاتل : يستهزى ء به ويقول : يا حسين لقد كنت حسنالمضحك ، لقد أسرع اليك الشيب يا أبا عبد اللّه . فدتك أرواح العالمين جميعا .

ص: 433


1- بحار الأنوار : 45//117 باب 39 .
2- المنتخب : 2/466 .
3- بحار الأنوار : 45/118 .
4- بحار الأنوار : 45/118 .

وقال ابن نما وابن الجوزي : قال أنس بن مالك : شهدت عبيد اللّه بن زياد وهو ينكت بقضيب على أسنان الحسين عليه السلام ويقول : إنّه كان حسن الثغر ، فقلت : أما واللّه لأسوأنّك ، لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقبّل موضع قضيبك من فيه .

وروي أنّه كان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ! وهو شيخ كبير ، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه ، قال : ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فواللّه الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليهما ما لا أحصيه يقبّلهما ، ثم انتحب باكيا .

فقال له ابن زياد : أبكى اللّه عينيك ، أتبكي لفتح اللّه ، واللّه لولا أنّك شيخ كبير قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ، فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله(1) .

وروي أنّه قال لابن زياد : لأحدّثنّك حديثا هو أغلظ عليك من هذا : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله أقعد حسنا على فخذه الأيمن ، وحسينا على فخذه اليسرى ، فوضع يده على يافوخ كلّ واحد منهما ، وقال : اللّهم إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين ، فكيف كان وديعتك لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟

ثم رفع زيد صوته يبكي وخرج ، وهو يقول : ملك عبد حرّا ، فاتخذهم تلدا ، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم ، قتلتم ابن فاطمة ، وأمّرتم ابن مرجانة حتى يقتل خياركم ، ويستعبد أشراركم ، رضيتم بالذلّ ، فبعدا لمن رضي بالذلّ(2) . .

ص: 434


1- بحار الأنوار : 45/115 باب 39 .
2- الإرشاد : 2/114 ، المنتخب : 2/466 ، مثير الأحزان : 90 ، تذكرة الخواص : 231 ، بحار الأنوار : 45/116 .

ابن زياد يأمر بحبس أهل البيت عليهم السلام

روي أنّ الإمام السجاد عليه السلام دخل على ابن زياد وهو يتغذى ورأس الحسين عليه السلام

بين يديه ، فدعا عليه السجاد عليه السلام ، فاستجاب اللّه دعاءه ، فوضع رأس ابن زياد بين يدي الإمام وهو يتغذى .

وبعد أن انقضى المجلس أمر اللعين فحمل أهل البيت الى دار الى جنب المسجد الأعظم .

وروى أبو نعيم : أنّ أمر ابن زياد اللعين بعلي بن الحسين عليهماالسلام فغلّ ، وحمل مع النسوة والسبايا الى السجن .

قال حاجب ابن زياد : كنت معهم ، فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه مملوء رجالاً ونساءا يضربون وجوههم ويبكون ، فحبسوا في السجن ، وضيّق عليهم .

قال السيد ابن طاووس : فقالت زينب عليهاالسلام : لا تدخل علينا عربية إلاّ أم ولد أو مملوكة ، فإنّهن سبين كما سبينا(1) .

الرأس المقدّس يتلو القرآن

روى الشيخ المفيد : ثم أمر برأس الحسين عليه السلام فطيف به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها ، آه وا مصيبتاه ، أيأمر ابن الزواني بالرأس المطهّر المقدّس أن يطاف به ؟ !

قال ابن حبيش : إنّ أول رأس رفع على رأس خشبة رأس الحسين(2) عليه السلام .

وروى ابن الجوزي في مرآة الزمان عن سلمة بن كهيل قال : رأيت رأس الحسين عليه السلام على قناة وهو يقرأ : « فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » .

ص: 435


1- أمالي الصدوق : 229 ح242 ، اللهوف : 202 ، بحار الأنوار : 45/119 و154 .
2- في كشف الغمة : 2/55 : وعن عاصم عن زر بن حبيش قال : أول رأس حمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن علي عليهماالسلام ، فلم أر باكيا وباكية أكثر من ذلك اليوم .

وروى الشيخ المفيد عن زيد بن أرقم قال : إنّه مرّ علي به وهو على رمح ، وأنا في غرفة لي ، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ : « أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً » ، فوقف - واللّه - شعري ، وناديت : رأسك واللّه يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأمرك أعجب وأعجب .

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : يحقّ لي أن أكتب هذا الرثاء لبعض الأدباء يرثي بها قتيلاً ، هو فلذة كبد سيد الأنبياء صلى الله عليه و آله ، وقيل : أنّ هاتفا كان يقرأ هذه الأبيات فوق الرأس :

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

للناظرين على قناة يرفع

والمسلمون بمنظر وبمسمع

لا ضارع منهم ولا متفجّع

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصمّ رزؤك كلّ أذن تسمع

أيقظت أجفانا وكنت لها كرى

وأنمت عينا لم تكن بك تهجع

ما روضة إلاّ تمنّت أنّها

لك حفرة ولحظّ قبرك مضجع

وروى جماعة : أنّهم صلبوا الرأس المقدّس في السوق ، فتنحنح الرأس وقرأ : « إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً » ، فلم يزدهم إلاّ ضلالاً .

وروى آخر قال : ثم صلبوه خارج الكوفة على شجرة ، فاقتربت منه ، وحقّقت النظر ، فرأيت شفتيه تتحركان ، فدنوت منه وأنصت اليه ، فسمعته يقرأ : « وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ » ، « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ »(1) .

وفي بعض الكتب عن الحارث بن وكيدة قال : كنت فيمن حمل رأس الحسين عليه السلام ، فسمعته يقرأ سورة الكهف ، فجعلت أشكّ في نفسي ، وأنا أسمع نغمةأبي عبد اللّه عليه السلام : يا ابن وكيدة أما علمت أنّا معاشر الأئمة أحياء عند ربّنا نرزق ؟

ص: 436


1- الإرشاد : 2/117 ، بحار الأنوار : 121 ، 304 ، اللهوف : 203 ، العوالم : 17/386 .

قال : فقلت في نفسي : أسرق رأسه عليه السلام ، فنادى : يا ابن وكيدة ليس لك الى ذلك سبيل ، سفكهم دمي أعظم عند اللّه تعالى من تسييرهم إياي ، فذرهم ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأْغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ »(1) .

كتاب ابن زياد الى يزيد وعمرو بن سعيد لعنهم اللّه

وكتب عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بقتل الحسين عليه السلام ، وخبر أهل بيته ، وكتب أيضا إلى عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة بمثل ذلك(2) .

وصول خبر شهادة الحسين عليه السلام وأصحابه الى المدينة

وقال الشيخ المفيد : تقدّم ابن زياد إلى عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال : انطلق حتى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة ، فبشّره بقتل الحسين عليه السلام .

قال عبد الملك : فركبت راحلتي ، وسرت نحو المدينة ، فلقيني رجل من قريش ، فقال : ما الخبر ؟ فقلت : الخبر عند الأمير تسمعه ، فقال : إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، قتل - واللّه - الحسين .

فلمّا دخلت على عمرو بن سعيد قال : ما وراك ؟ فقلت : ما سرّ الأمير ! قتل الحسين بن علي ، فقال : اخرج فناد بقتله ، فناديت : ألا قتل الحسين ، ألا نهب الحسين ، فلم أسمع - واللّه - واعية قطّ مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي حين سمعوا النداء بقتله .

ثم دخلت على عمرو بن سعيد ، فلمّا رآني تبسّم إليّ ضاحكا ، ثم أنشأ متمثلاً بقول عمرو بن معديكرب :

عجّت نساء بني زياد عجّة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

ثم قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان(3) .

ص: 437


1- تظلّم الزهراء عليهاالسلام : 150 .
2- اللهوف : 168 ، بحار الأنوار : 45/121 .
3- في المتن : « فلان » .

ثم صعد المنبر فأعلم الناس بقتل الحسين عليه السلام ، وتشدّق ببعض هذياناته ، ودعا ليزيد ، وتظاهر بعد رضاه بما جرى للحسين عليه السلام ، ونزل ، وكان ممّا قال في خطبته : إنّها لدمة بلدمة ، وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة ، وموعظة بعد موعظة ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ، واللّه لوددت أنّ رأسه في بدنه ، وروحه في جسده . . ولم يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا ، إلاّ أن ندفعه عن أنفسنا .

فقام عبد اللّه بن السائب فقال : لو كانت فاطمة حيّة فرأت رأس الحسين لبكت عليه ، فجبهه عمرو بن سعيد - لعنه اللّه - وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ، أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، وابنها ابننا ، لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها ، وحرّت كبدها ، وما لامت من قتله ، ودفعه عن نفسه(1) !

قال الشيخ المفيد : فلمّا انتشر خبر مقتل الحسين عليه السلام في المدينة ، ضجّ بنو هاشم ، وقام المأتم والعزاء في بيوتهم ، فخرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين عليه السلام حاسرة ، ومعها أخواتها ، أم هانئ ، وأسماء ، ورملة ، وزينب بنات عقيل تبكي قتلاها بالطف ، وهي تقول :

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم

ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

ثم قال المفيد : فدخل موالي عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، فنعى إليه ابنيه ، فاسترجع ، فقال أبو السلاسل - مولى عبد اللّه - : هذا ما لقينا من الحسين بن علي ، فحذفه عبد اللّه بن جعفر بنعله ، ثم قال : يا ابن اللخناء ، أللحسين تقول هذا ؟ واللّه لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه ، واللّه إنّه لمّما يسخي بنفسي عنهما ، ويعزّي عن المصاب بهما ، إنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له ، صابرين معه .

ص: 438


1- الإرشاد : 2/123 ، بحار الأنوار : 45/121 .

ثم أقبل على جلسائه فقال : الحمد للّه ، عزّ عليّ مصرع الحسين ، أن لا أكن آسيت حسينا بيدي فقد آساه ولداي(1) .

وقال شهر بن حوشب : بينما أنا عند أم سلمة إذ دخلت صارخة تصرخ ، وقالت : قتل الحسين ، قالت أم سلمة : فعلوها ملأ اللّه قبورهم نارا(2) .

وروي أنّ يزيد بن معاوية - لعنهما اللّه - بعث بمقتل الحسين عليه السلام إلى المدينة مع رجلين ، فلمّا قدما خرجت امرأة من بنات عبد المطلب ناشرة شعرها ، واضعة كمّها على رأسها ، تتلقّاهم ، وهي تبكي ، وتنشد شعرا(3) .

وقال الشيخ المفيد : فلمّا كان الليل في ذلك اليوم الذي خطب فيه عمرو بن سعيد بقتل الحسين عليه السلام بالمدينة سمع أهل المدينة في جوف الليل مناديا ينادي ، يسمعون صوته ، ولا يرون شخصه :

أيّها القاتلون جهلاً حسينا

أبشروا بالعذاب والتنكيل

كلّ أهل السماء يدعو عليكم

من نبي ومرسل وقتيل

قد لعنتم على لسان ابن داود

وموسى وصاحب الإنجيل(4)

قال صاحب بحار الأنوار : وممّا رواه النطنزي في الخصائص عن أبي ربيعة عن أبي قبيل : قيل سمع في الهواء بالمدينة قائل :

يا من يقول بفضل آل محمد

بلّغ رسالتنا بغير تواني

قتلت شرار بني أمية سيدا

خير البريّة ماجدا ذا شأن

ابن المفضّل في السماء وأرضها

سبط النبي وهادم الأوثان

بكت المشارق والمغارب بعد ما

بكت الأنام له بكلّ لسان(5)

ص: 439


1- الإرشاد : 2/124 ، بحار الأنوار : 45/120 - 123 .
2- بحار الأنوار : 45/124 .
3- مثير الأحزان : 124 ، بحار الأنوار : 45/123 .
4- الإرشاد : 2/124 ، بحار الأنوار : 45/123 .
5- بحار الأنوار : 45/124 .

المجلس الثالث عشر: في دخول قافلة المحنة والآلام الى الشام وما جرى عليهم هناك

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه على السرّاء والضرّاء والبأساء والنعماء .

والصلاة والسلام على المبعوث لإرشاد الضوال في الطخياء ، والهادي الى النجاة في الليلة الظلماء ، سيدنا محمد وآله الذين لهم نظام الدهر ، وبهم قيام الأرض والسماء .

سيّما على ريحانته وسبطه المظلوم ، صاحب الكرب والمحنة والبلاء ، الذي لم ير مثله في ابتداء الوجود الى الإنتهاء ، بكت عليه الأرض والسماء ، وتبكي عليه في الصباح والمساء ، بدمعة حمراء ، شديد العناء ، عظيم البلاء ، قليل الرعاء ، قتيل الظماء ، منهوب الخباء ، مسلوب الرداء ، منزوع الحذاء ، منبوذ العراء ، مقطّع الأعضاء ، مرضض الأشلاء ، الذي أحاط به أهل الشقاء ، ودار عليه أولاد البغاء ، بالمكاء والصداء ، وارتفاع الأصوات والضوضاء ، بعد قتل الإخوة والأبناء ، وقطعالأشلاء ، فأذاقوه شرب الحتوف من حرّ السيوف .مطروحا على الرمضاء ، منبوذا في البيداء ، مقطوع الرأس من القفا ، مطروحا كالإهماء ، تجول عليه الخيل الدهماء ، وتكسوه عثير الفضاء من الأرجاء ، فهو أبو الشهداء ، وأخو الشهداء ، وسيد الشهداء ، وإمام السعداء ، سيدنا المظلوم أبي عبد اللّه الحسين عليه وآله سلام اللّه .

ص: 440

وبعد ، فقد قال اللّه سبحانه :

« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ

وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » .

* * *

ناقضوا العهد

ورد في أخبار كثيرة أنّ ما جرى في الأمم السابقة يجري في هذه الأمّة حذو النعل بالنعل ، فيقتضي أنّ ما جرى في بني إسرائيل يجري في هذه الأمّة .

روي أنّه قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّا نزلت « وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ »

الآية ، في اليهود ، أي الذين نقضوا عهد اللّه ، وكذبوا رسل اللّه ، وقتلوا أولياء اللّه : أفلا أنبئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الأمّة ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه .

قال : قوم من أمّتي ، ينتحلون أنّهم من أهل ملّتي ، يقتلون أفاضل ذريتي ، وأطايب أرومتي ، ويبدلون شريعتي وسنتّي ، ويقتلون ولدي الحسن والحسين ، كما قتل أسلاف اليهود زكريا ويحيى ، ألا وإنّ اللّه يلعنهم كما لعنهم ، ويبعث على بقايا

ذراريهم قبل يوم القيامة هاديا مهديا من ولد الحسين المظلوم ، يحرقهم بسيوف أوليائه إلى نار جهنم ، ألا ولعن اللّه قتلة الحسين عليه السلام ، ومحبّيهم ، وناصريهم ، والساكتين عن لعنهم من غير تقية يسكتهم .

ألا وصلّى اللّه على الباكين على الحسين رحمة وشفقة ، واللاعنين لأعدائهم ، والممتلئين عليهم غيظا وحنقا .ألا وإنّ الراضين بقتل الحسين شركاء قتلته ، ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم براء من دين اللّه .

إنّ اللّه ليأمر ملائكته المقرّبين أن يتلقّوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسين إلى الخزان في الجنان ، فيمزجوها بماء الحيوان ، فتزيد عذوبتها وطيبها ألف ضعفها ،

ص: 441

وإنّ الملائكة ليتلقّون دموع الفرحين الضاحكين لقتل الحسين ، يتلقونها في الهاوية ، ويمزجونها بحميمها وصديدها ، وغساقها وغسلينها ، فيزيد في شدّة حرارتها ، وعظيم عذابها ألف ضعفها ، يشدّد بها على المنقولين إليها من أعداء آل محمد عذابهم(1) .

مقارنة بين الأمم السالفة والأمّة المرحومة

أجل ، إنّ ما جرى في الأمم السابقة جرى في هذه الأمّة أيضا ، وإن كان الكثير منها جرى بصورة لا يمكن أن يتصوّرها أيّ عقل ، ولكنّها واضحة لعيان العرفاء .

ومن جملة ما جرى على موسى عليه السلام أنّه لمّا ترك قومه إرتدّ قومه وعبدوا العجل ، واستضعفوا هارون عليه السلام وظلموه(2) .

وفي هذه الأمّة أيضا لمّا مضى نبي آخر الزمان ظلموا هارون هذه الأمّة علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، وإرتدّت الأمّة بعده كلّها إلاّ القليل ممّن ووفى ببيعته ، وعبدوا العجل ، وعجل هذه الأمّة هو الأعرابي الأول .

وحاربت صفورا بنت شعيب زوجة موسى عليهماالسلام وصيه يوشع بن نون ، وجيّشت عليه الجيوش(3) .

وجرى مثل ذلك في هذه الأمّة حينما خرجت حميراء زوجة النبي صلى الله عليه و آله على وصيّهعلي بن أبي طالب عليهماالسلام ، وشهرت السلاح في وجهه ، وجيّشت الجيوش وحاربته(4) .

الأمم السابقة قتلوا أنفسهم ، وطبخوا لحومهم وأكلوها .

وفي هذه الأمّة أيضا أكلت هند - آكلة الأكباد - كبد حمزة عليه السلام ، ووضعتها في فيها ولاكتها ، فجعلها اللّه كالحجارة فلفظتها ، لئلا تكون جزءا من جسدها الخبيث(5) .

ص: 442


1- تفسير الإمام العسكري عليه السلام : 354 ، بحار الأنوار : 44/304 باب 36 ح17 .
2- انظر بحار الأنوار : 13/209 ح4 .
3- انظر إثبات الوصية : 65 ، بحار الأنوار : 13/369 ح15 .
4- انظر بحار الأنوار : 32/137 وما بعدها .
5- انظر اعلام الورى : 1/180 .

في الأمم السابقة كانت عدّة من النساء الخبيثات في حبالة الأنبياء عليهم السلام ، مثل إمرأة لوط وإمرأة نوح عليه السلام .

وفي هذه الأمّة أيضا كانت زوجتا النبي صلى الله عليه و آله .

في الأمم السابقة كانت بعض النساء الصالحات تحت الكفار ، ولم يضرّهن ذلك ، مثل آسية إمرأة فرعون .

وفي هذه الأمّة كانت أم كلثوم ورقية تحت فلان ، وكانت سكينة بنت سيد الشهداء عليه السلام تحت مصعب بن الزبير(1) .

في الأمم السابقة غاب الأنبياء عليهم السلام مدّة طويلة .

وفي هذه الأمّة غاب المولى صاحب الأمر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

في الأمم السابقة أخفي حمل موسى وعيسى عليهماالسلام ، ولم يطّلع عليه أحد .

في هذه الأمّة أخفي حمل المولى صاحب الأمر ، ولم يطّلع عليه أحد .

في الأمم السابقة أوتي يحيى وعيسى عليهماالسلام الحكم في الصبا ، وجعلا نبيين .

وفي هذه الأمّة أوتي الإمام الجواد والإمام صاحب العصر الأمر وهما صبيان ، وجعلا خليفتين وإمامين .

في الأمم السابقة إبتلي يوسف عليه السلام بمحبّة زليخا .وفي هذه الأمّة إبتلي الإمام المجتبى بتلك البدوية التي عشقته ، فألقت بنفسها في خيمته(2) .

في الأمم السابقة خرّب بخت نصر بيت المقدس .

وفي هذه الأمّة خرّب الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة المعظّمة .

ص: 443


1- هذه الزيجات المنقولة تحتاج الى تحقيق وإثبات ، خصوصا زواج السيدة الطيبة الطاهرة سكينة بنت الحسين عليهماالسلام من مصعب بن الزبير .
2- انظر المناقب : 4/14 ، بحار الأنوار : 43/340 ح14 .

في الأمم السابقة عمّر بعض الصالحين ، مثل نوح والخضر عليهماالسلام ، وبعض الطالحين مثل عوج بن عنق .

وفي هذه الأمّة أيضا عمّر من الصالحين الإمام صاحب الأمر ، ومن الطالحين الدجال الملعون .

في الأمم السابقة ولد يحيى عليه السلام لستة أشهر .

وفي هذه الأمّة ولد الحسين بن علي عليهماالسلام لستة أشهر .

في الأمم السابقة بكت السماء دما على يحيى بن زكريا عليهماالسلام .

وفي هذه الأمّة بكت السماء دما على الحسين بن علي عليهماالسلام .

في الأمم السابقة كان البكاؤون أصنافا ، وكان فيهم من يبكي حتى ينبت الزرع من دموع عينيه ، فإذا تنفس الصعداء وتأوّه أحرق ما أنبتته الدموع .

وفي هذه الأمّة أيضا كان البكاؤون أصنافا ، منهم فاطمة عليهاالسلام التي بكت حتى ضاق أهل المدينة بها ذرعا ، وقالوا لها : إمّا أن تبكي ليلاً ، وإمّا أن تبكي نهارا ، لنرتاح في أحدهما من بكائك(1) .

ومثل علي بن الحسين عليهماالسلام الذي بكى على أبيه أربعين سنة ، حتى خشي عليه الهلاك ، فقال له غلامه يوما : أخشى عليك الهلاك يا ابن رسول اللّه ، فقال : « إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ » ، ثم قال : إنّي لم أذكر مصرعبني فاطمة عليهاالسلام إلاّ وخنقتني العبرة(2) .

وفي الأمم السابقة أسروا يوسف الصدّيق عليه السلام وألقوه في السجن .

وفي هذه الأمّة أسروا علي بن الحسين عليهماالسلام وحبسوه ، وسجنوا موسى بن جعفر عليهماالسلام .

ص: 444


1- انظر بحار الأنوار : 46/109 ح2 .
2- انظر بحار الأنوار : 46/108 ح1 .

أولئك أهدوا رأس يحيى عليه السلام الى بغي من بغايا بني إسرائيل .

وهؤلاء أهدوا رأس الحسين بن علي عليهماالسلام الى يزيد بن معاوية .

في الأمم السابقة تكلّم رأس يحيى فى مجلس الزاني .

وفي هذه الأمّة تكلّم رأس الحسين عليه السلام في مواطن كثيرة ، وقرأ القرآن ، وقال : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم ، وفي الليل كان يكرر : لا إله إلاّ اللّه .

قال سهل بن سعيد(1) : كنت في الكوفة حينما جاؤوا برأس الحسين عليه السلام ، فَوَقَفوا بِبابِ بَني خُزَيْمَةَ ، وَالرَّأسُ عَلَى قَناةً طَويلَةٍ ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةُ الْكَهْفِ اِلَى اَنْ بَلَغَ اِلَى قَوْلِهِ تَعَالى : « أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا » .

قالَ سَهْلٌ : فَبَكَيْتُ وَقُلْتُ : يَابْنَ رَسُولِ اللّهِ رَأْسُكَ اَعْجَبُ ، ثُمَّ وَقَعْتُ مَغْشيا

عَلَيَّ ، فَلَمْ اَفِقْ حَتّى خَتَمَ السُّورَةَ(2) .

الظليمة العظمى في التاريخ

اعلم ، أنّ الظلم الذي وقع على المولى هو أعظم من الظلم الواقع على الأنبياء السابقين ، وإن كان الظلم الواقع في التاريخ يشبه بعضه بعضا ، ولكن لا سواء .

فالظلم واحد ، وكلّه قبيح ، ولكن كلّما كان المظلوم أعظم كان الظلم أقبح ، فظلمالجاهل ليس كظلم العالم ، وظلم الفاسق ليس كظلم المؤمن العادل ، وكلّما كان المظلوم أعظم درجة في العلم والفضل والتقوى كان ظلمه أعظم وأقبح .

كما أنّ الظلم قبيح مطلقا ، ولكنّ ظلم صاحب الحقّ أقبح ، وكذا ظلم العبد لسيده أقبح من ظلمه لغيره من الناس ، وظلم الوالدين أقبح من ظلم غيرهم ، وكلّما كان حقّ المظلوم أعظم كان ظلمه أقبح وأقبح ، وهذا من الأمور الواضحة .

ص: 445


1- في مقتل أبي مخنف : « سهل الشهرزوري » .
2- مقتل أبي مخنف : 112 .

ومن هنا تتّضح عظمة الظلم الواقع على سيد الشهداء عليه السلام ، فكلّما عرفته أكثر وأدركت مقامه ومنزلته أعمق عرفت ظليمته أفضل ، وكلّما عرفت حقّه أكثر شعرت بقبح الظلم الواقع عليه أكثر .

إشارة الى فضائل أهل البيت ومقاماتهم عليهم السلام

إذا أردت أن تتعرّف على مقام سيد الشهداء عليه السلام ومنزلته ، وتتعرّف على حقّه أكثر فاستمع الى هذه الإشارة ، وإن كان معرفة منزلته وحقّه لأمثالنا غير ممكنة ، واليه الإشارة بقولهم عليه السلام : إنّ الذي ظهر للملائكة المقرّبين من معرفة آل محمد عليهم السلام

قليل من كثير(1) لا يحصى .

فطريق معرفتهم مسدود على العقول الضعيفة ، وطائر الأدراكات العقلية والأوهام البشرية لا يقوى على الطيران في فضاء معرفة كمالاتهم ، وذلك لأنّ سكّان حظائر القدس ، والمقربين من الحضرة الإلهية مع ما لهم من المقامات العالية ، وتخلّصهم من الإنغماس في الكدورات الجسمانية ، والشهوات الحيوانية ، وإرتفاع الكثير من الحجب عنهم ، ومع ذلك فهم لا ينالون من معرفة آل محمد عليهم السلامإلاّ القليل من الكثير الذي لا يحصى ، فكيف تنالها العقول الأخرى ؟

روى الكليني بسند معتبر عن سَدِيرٍ قَالَ : . . قَالَ أبو عبد اللّه عليه السلام : يَا سَدِيرُ ، أَلَمْتَقْرَأِ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : فَهَلْ وَجَدْتَ فِيَما قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - « قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ » ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، قَدْ قَرَأْتُهُ ، قَالَ : فَهَلْ عَرَفْتَ الرَّجُلَ ؟ وَهَلْ عَلِمْتَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَخْبِرْنِي بِهِ ، قَالَ : قَدْرُ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ فِي الْبَحْرِ الأَخْضَرِ ، فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، مَا أَقَلَّ هَذَا ، فَقَالَ : يَا سَدِيرُ ، مَا أَكْثَرَ هَذَا أَنْ يَنْسِبَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُخْبِرُكَ بِهِ .

ص: 446


1- مشارق أنوار اليقين تحقيق سيد علي جمال أشرف : 351 الفصل 178 .

يَا سَدِيرُ ، فَهَلْ وَجَدْتَ فِيَما قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَيْضاً « قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ » ؟ قَالَ : قُلْتُ : قَدْ قَرَأْتُهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ ، قَالَ : أَفَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ أَفْهَمُ أَمْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْضُهُ ؟ قُلْتُ : لاَ بَلْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ ، قَالَ : فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ : عِلْمُ الْكِتَابِ - وَاللَّهِ - كُلُّهُ عِنْدَنَا ، عِلْمُ الْكِتَابِ - وَاللَّهِ - كُلُّهُ عِنْدَنَا(1) .

أجل ، إنّهم كانوا كذلك في كلّ صفة من كمالاتهم ، كانوا كذلك في الشجاعة أيضا ، حيث قتل في حملة واحدة ، وهو مكثور ظمآن ، أكثر من أربعمائة ، وقتل في فترة قليلة ألفين إلاّ خمسين .

كرم الحسين عليه السلام وسخاؤه

أمّا كرمه وجوده عليه السلام ما روي أنّه دخل الحسين عليه السلام على أسامة بن زيد ، وهو مريض ، وهو يقول : وا غمّاه ، فقال له الحسين عليه السلام : وما غمّك ، يا أخي ، قال : ديني ، وهو ستون ألف درهم ، فقال الحسين عليه السلام : هو عليّ ، قال : إنّي أخشى أن أموت ، فقال الحسين : لن تموت حتى أقضيها عنك ، قال : فقضاها قبل موته(2) .

وروي إنّ عبد الرحمن السلمي علّم ولد الحسين الحمد ، فلمّا قرأها على أبيهأعطاه ألف دينار ، وألف حلّة ، وحشا فاه درّا ، فقيل له في ذلك ، قال : وأين يقع هذا من عطائه ، يعني تعليمه(3) .

وروي أنّه أعطى سائلاً ألف درهم ، فجعل السائل ينقدها ، فقال الخازن : بعتنا شيئا ؟ قال : نعم ، ماء وجهي ، فقال الحسين عليه السلام : صدق أعطه ألفا وألفا وألفا ، الأول : لسؤالك ، والثاني : لماء وجهك ، والألف الثالث : لأنّك أتيتنا(4) .

ص: 447


1- الكافي : 1/257 ح3 .
2- بحار الأنوار : 44/189 باب 26 ح2 .
3- المناقب : 4/66 .
4- معالي السبطين : 98 .

وقدم أعرابي المدينة ، فسأل عن أكرم الناس بها ، فدلّ على الحسين عليه السلام ، فدخل المسجد فوجده مصلّيا ، فوقف بإزائه وأنشأ :

لم يخب الآن من رجاك ومن

حرّك من دون بابك الحلقه

أنت جواد وأنت معتمد

أبوك قد كان قاتل الفسقه

لولا الذي كان من أوائلكم

كانت علينا الجحيم منطبقه

فسلّم الحسين عليه السلام وقال : يا قنبر ، هل بقي شيء من مال الحجاز ؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فقال : هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منّا ، ثم نزع برديه ولفّ الدنانير فيهما ، وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابي ، وأنشأ :

خذها فإنّي إليك معتذر

واعلم بأنّي عليك ذو شفقه

لو كان في سيرنا الغداة عصا

أمست سمانا عليك مندفقه

لكن ريب الزمان ذو غير

والكفّ منّي قليلة النفقه

فأخذها الأعرابي وبكى ، فقال له : لعلك استقللت ما أعطيناك ؟ قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك(1) .

ويكفي في جوده وسخائه ما رواه شعيب بن عبد الرحمن الخزاعي قال : وجد على ظهر الحسين بن علي عليهماالسلام يوم الطف أثر ، فسألوا زين العابدين عن ذلك ،فقال : هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين(2) .

فداءا لذلك البدن الشريف أرواح شيعته ، فقد تحمّل كلّ ما جرى عليه في سبيل اللّه ، وبقي آخر الأمر عريانا على الصعيد ، تسفي عليه الصبا ، مقطّع الأعضاء ، آه وا مصيبتاه .

وإنّ ظهرا غدا للبرّ ينقله

سرّا الى أهله بالليل مكسور

وإنّ رأسا هوى للّه في سحر

يهدّ أسنانه بالعود مخمور

ص: 448


1- المناقب : 4/66 .
2- المناقب : 4/66 .

عبادته عليه السلام

كان هذا مجملاً من أخلاقه الرضية ، وصفاته المرضية ، أمّا عبادته عليه السلام وتقواه ، فيكيفي ما روي من استمهاله القوم عشية تاسوعاء ، وقوله لأخيه : ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤرهم إلى غد ، وتدفعهم عنّا العشية ، لعلنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أنّي كنت قد أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار(1) .

وفي الحديث : قيل لعلي بن الحسين عليهماالسلام : ما أقلّ ولد أبيك ! فقال : العجب كيف ولدت له ، كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، فمتى كان يتفرّغ للنساء(2) .

وكان يذكر اللّه وهو في بطن أمّه كما روي عن فاطمة الزهراء عليهاالسلام قالت : فلمّا صرت في الأربعة آنس اللّه به وحشتي ، ولزمت المسجد لا أبرح منه إلاّ لحاجة تظهر لي ، فكنت في الزيادة والخفّة في الظاهر والباطن ، حتى تمّت الخمسة ، فلمّا صارتالستة كنت لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح ، وجعلت أسمع إذا خلوت بنفسيفي مصلاي التسبيح والتقديس في باطني(3) ، وكذا كان وهو طفل رضيع في حجر أمّه .

وكان يذكر اللّه وهو صريع على الصعيد وسط الميدان ، والسيوف والرماح تنهش جسمه المقدّس، وكان يذكر اللّه ورأسه على الرمح، لم يغفل عن ذكر اللّه طرفة عين أبدا.

أول ما تكلّم قال : اللّه أكبر(4) ، وكان ذكره ورأسه على الرمح تلاوة القرآن الكريم ، وقول : « لا حول ولا قوة إلاّ باللّه» ، و« لا إله إلاّ اللّه » .

ص: 449


1- بحار الأنوار : 44/391 باب 37 .
2- اللهوف : 94 .
3- بحار الأنوار : 43/273 ح39 .
4- في تهذيب الأحكام : 2/67 باب 8 ح 11 بإسناده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله كَانَ فِي الصَّلاةِ وَإِلَى جَانِبِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهماالسلام ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ، فَلَمْ يُحِرِ الْحُسَيْنُ بِالتَّكْبِيرِ ، ثُمَّ كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ، فَلَمْ يُحِرِ الْحُسَيْنُ عليه السلام التَّكْبِيرَ ، وَ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يُكَبِّرُ وَيُعَالِجُ الْحُسَيْنُ عليه السلام التَّكْبِيرَ ، فَلَمْ يُحِرْ حَتَّى أَكْمَلَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ ، فَأَحَارَ الْحُسَيْنُ عليه السلام التَّكْبِيرَ فِي السَّابِعَةِ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام : فَصَارَتْ سُنَّةً .

وكان يذكر اللّه دائما ، وينصر اللّه أبدا ، ويهدي الناس ويدعوه الى دين اللّه في كلّ آن .

قدّم رأسه ، وضحّى بنفسه ، ولم يترك نصر دين اللّه ، قطّع إربا إربا ولم يترك قول الحقّ ، قطعوا رأسه ، ولكنّ رأسه المقطوع دعا الراهب النصراني الى دين اللّه ، وقال : إذا أردت أن أكون شفيعك فإترك دينك وادخل في دين جدّي(1) .

فوا عجباه، من مصيبته التي تزلزل لها بناء الأسلام ، وتزعزعت لها أركان الخاص والعام ، مصيبة لو لاقت جديدا لصار باليا ، ولو صبّت على الأيام لصرن لياليا .

أول من أسس أساس الظلم والجور على أهل البيت عليهم السلام

اعلم ، أنّ الظلم والجور الذي نزل بسيد الشهداء عليه السلام هو أعظم الظلم ، ومصيبته أعظم المصائب ، فيكون حينئذٍ من ظلمه وأسس أساس ظلمه ، أشقى الخلق ،وعملهم أقبح عمل ، وكان المؤسس الأول لهذا الظلم هم المنافقون الأوائل في هذه الأمّة ، الذين وضعوا القواعد ، وأقام بنو أمية بنيانه .

أولئك الذين تعاهدوا من أول الأمر على تهديم بنيان « بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ » ، وبالغوا في إخفاء النعمة العظمى ، وإطفاء نور اللّه ، وردّوا الناس القهقرى الى الجاهلية ، والكفر الأصلي ، وصدّوهم عن عبادة اللّه ، وأحرقوا بيت الإيمان ، وخرّبوا منازل الرحمن ، وهدموا معاهد الإسلام .

كتاب عبد اللّه بن عمر الى يزيد في شهادة الحسين عليه السلام

روى البلاذري ، وهو من أعاظم أهل السنة قال : لمّا قتل الحسين عليه السلام كتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أمّا بعد ، فقد عظمت الرزيّة ، وجلّت المصيبة ،

ص: 450


1- انظر مدينة المعاجز : 4/126 ح1132 .

وحدث في الإسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين .

فكتب إليه يزيد : أمّا بعد ، يا أحمق ، فإنّنا جئنا إلى بيوت منجّدة ، وفرش ممهّدة ، ووسائد منضّدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، وإن كان الحقّ لغيرنا ، فأبوك أول من سنّ هذا ، وابتزّ واستأثر بالحقّ على أهله(1) .

خروج عبد اللّه بن عمر الى يزيد عليه اللعنة

حكاية خروج عبد اللّه بن عمر الى يزيد ، وعتابه له وردّ يزيد عليه ، ورضاه بفعله ، مشهورة ، وفي الكتب المعتبرة مسطورة ، وقد ذكر مجملاً منها صاحب بحار الأنوار في المجلد من بحاره ، وذكرها صاحب دلائل الإمامة بإسناده عن سعيد بن المسيّب، قال :

لمّا قتل الحسين بن عليّ - صلوات اللّه عليهما - وورد نعيه إلى المدينة ، وورد الأخبار بجزّ رأسه ، وحمله إلى يزيد بن معاوية ، وقتل ثمانية عشر من أهل بيته ، وثلاث وخمسين رجلاً من شيعته ، وقتل عليّ ابنه بين يديه - وهو طفل - بنشابة ،وسبي ذراريه ، أقيمت المآتم عند أزواج النبيّ صلى الله عليه و آله في منزل أمّ سلمة - رضي اللّه عنها - ، وفي دور المهاجرين والأنصار .

قال : فخرج عبد اللّه بن عمر بن الخطاب صارخا من داره ، لاطما وجهه ، شاقّا جيبه ، يقول : يا معشر بني هاشم وقريش والمهاجرين والأنصار ، يستحلّ هذا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أهله وذريّته ، وأنتم أحياء ترزقون ، لا قرار دون يزيد .

وخرج من المدينة تحت ليله ، لا يرد مدينة إلاّ صرخ فيها ، واستنفر أهلها على يزيد ، وأخباره يكتب بها إلى يزيد ، فلم يمرّ بملإ من الناس إلاّ لعنه وسمع كلامه ،

وقالوا : هذا عبد اللّه بن عمر ابن خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو ينكر فعل يزيد بأهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويستنفر الناس على يزيد ، وإنّ من لم يجبه لا دين له

ص: 451


1- بحار الأنوار : 45/328 باب 47 .

ولا إسلام .

واضطرب الشام بمن فيه ، وورد دمشق ، وأتى باب اللعين يزيد في خلق من الناس يتلونه ، فدخل إذن يزيد إليه ، فأخبره بوروده ، ويده على أمّ رأسه ، والناس يهرعون إليه قدّامه ووراءه ، فقال يزيد : فورة من فورات أبي محمد ، وعن قليل يفيق منها ، فأذن له وحده .

فدخل صارخا يقول : لا أدخل يا أمير المؤنين ، وقد فعلت بأهل بيت محمّد صلى الله عليه و آله ما لو تمكّنت الترك والروم ما استحلّوا ما استحللت ، ولا فعلوا ما فعلت ، قم عن هذا البساط حتى يختار المسلمون من هو أحقّ به منك .

فرحّب به يزيد ، وتطاول له ، وضمّه إليه ، وقال له : يا أبا محمد ، اسكن من فورتك ، واعقل ، وانظر بعينك واسمع بأذنك ، ما تقول في أبيك عمر بن الخطاب ، أكان هاديا مهديّا خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وناصره ، ومصاهره بأختك حفصة ، والذي قال : لا يعبد اللّه سرّا ؟ فقال عبد اللّه : هو كما وصفت ، فأيّ شيء تقول فيه ؟ قال : أبوك قلّد أبي أمر الشام ، أم أبي قلّد أباك خلافة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فقال : أبي قلّد أباك الشام . قال : يا أبا محمد ، أفترضى به وبعهده إلى أبي ، أو ما ترضاه ؟ قال :بل أرضى . قال : أفترضى بأبيك ؟ قال : نعم . فضرب يزيد بيده على يد عبد اللّه بن عمر وقال له : قم يا أبا محمد حتى تقرأ .

فقام معه حتى ورد خزانة من خزائنه فدخلها ، ودعا بصندوق ففتحه ، واستخرج منه تابوتا مقفلاً مختوما ، فاستخرج منه طومارا لطيفا في خرقة حرير سوداء ، فأخذ الطومار بيده ونشره ، ثم قال : يا أبا محمد ، هذا خطّ أبيك ؟

قال : إي واللّه.. فأخذه من يده فقبّله ، فقال له : اقرأ ، فقرأه ابن عمر ، فإذا فيه الكثير ممّا علّمه ، ودبّر له من حيله ، وما كلّفه به أن يعمله ويقوم به ، ونص الكتاب

طويل جدّا ولا يناسب ذكره في المقام ، إلاّ أنّه يذكر في آخره :

وظنّ محمد أن لا يعلوها أحد غيره، وعليّ ومن يليه من أهل بيته ، فبطل سحره

ص: 452

وخاب سعيه ، وعلاها أبو بكر ، وعلوتها بعده ، وأرجو أن تكونوا معاشر بني أميّة عيدان أطنابها ، فمن ذلك قد ولّيتك وقلّدتك إباحة ملكها ، وعرّفتك فيها ، وخالفت قوله فيكم ، وما أبالي من تأليف شعره ونثره ، أنّه قال : يوحى إليّ منزل من ربّي في قوله « وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ » ، فزعم أنّها أنتم يا بني أميّة ، فبيّن عداوته حيث ملك كما لم يزل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس .

وأنا مع تذكيري إيّاك - يا معاوية - وشرحي لك ما قد شرحته ، ناصح لك ، مشفق عليك من ضيق عطنك ، وحرج صدرك ، وقلّة حلمك ، أن تعجل فيما وصّيتك به ، ومكّنتك منه من شريعة محمّد صلى الله عليه و آله وأمّته أن تبدي لهم مطالبته بطعن ، أو شماتة بموت ، أو ردّا عليه فيما أتى به ، أو استصغارا لما أتى به ، فتكون من الهالكين ، فتخفض ما رفعت ، وتهدم ما بنيت .

واحذر كلّ الحذر حيث دخلت على محمّد مسجده ومنبره ، وصدق محمّدا في كلّ ما أتى به وأورده ظاهرا، وأظهر التحرّز والواقعة في رعيّتك ، وأوسعهم حلما ، وأعمّهم بروائح العطايا ، وعليك بإقامة الحدود فيهم ، وتضعيف الجناية منهم لسببامحمّد من مالك رزقك ، ولا ترهم أنّك تدع للّه حقّا ، ولا تنقض فرضا ، ولا تغيّر لمحمّد سنّة ، فتفسد علينا الأمّة ، بل خذهم من مأمنهم ، واقتلهم بأيديهم ، وأبدّهم

بسيوفهم ، تطاولهم ولا تناجزهم ، ولن لهم ، ولا تبخس عليهم ، وافسح لهم في مجلسك ، وشرّفهم في مقعدك ، وتوصّل إلى قتلهم برئيسهم ، وأظهر البشر والبشاشة ، بل اكظم غيظك ، واعف عنهم يحبّوك ويطيعوك ، فما آمن علينا وعليك ثورة علي وشبليه الحسن والحسين ، فإن أمكنك في عدّة من الأمّة فبادر ، ولا تقنع بصغار الأمور ، واقصد بعظيمها ، واحفظ وصيّتي إليك وعهدي ، وأخفه ولا تبده ، وامتثل أمري ونهيي ، وانهض بطاعتي ، وإيّاك والخلاف عليّ ، واسلك طريق أسلافك ، اطلب بثارك ، واقتصّ آثارهم ، فقد أخرجت إليك بسرّي وجهري ،

ص: 453

وشفّعت هذا بقولي :

معاوي إنّ القوم جلّت أمورهم

بدعوة من عمّ البريّة بالوتري

صبوت إلى دين لهم فأرابني

فابعد بدين قد قصمت به ظهري

وإن أنس لا أنس الوليد وشيبة

وعتبة والعاص السريع لدى بدر

وتحت شغاف القلب لدغ لفقدهم

أبو حكم أعني الضئيل من الفقري

أولئك فاطلب يا معاوي ثارهم

بنصل سيوف الهند والأسل السمري

وصل برجال الشام في معشرهم هم

الأسد والباقون في أكم الوعري

توسّل إلى التخليط في الملّة التي

أتانا به الماضي المسمّوه بالسحري

وطالب بأحقاد مضت لك مظهرا

لعلّة دين عمّ كلّ بني النضر

فلست تنال الثار إلاّ بدينهم

فتقتل بسيف القوم جيد بني عمري

لهذا لقد ولّيتك الشام راجيا

وأنت جدير أن تؤول إلى صخري

فلمّا قرأ عبد اللّه بن عمر هذا العهد ، قام إلى يزيد فقبّل رأسه ، وقال : الحمد للّه يا أمير المؤنين على قتلك الشاري ابن الشاري ، واللّه ما أخرج أبي إليّ بما أخرج إلىأبيك ، واللّه لا رآني أحد من رهط محمّد بحيث يحبّ ويرضى ، فأحسن جائزته وبرّه ، وردّه مكرّما .

فخرج عبد اللّه بن عمر من عنده ضاحكا ، فقال له الناس : ما قال لك ؟ قال : قولاً صادقا ، لوددت أنّي كنت مشاركه فيه ، وسار راجعا إلى المدينة ، وكان جوابه لمن يلقاه هذا الجواب(1) .

ولنعم ما قاله السيد مهدي رحمه الله :

الدين من بعدهم أقوت مرابعه

والشرع من فقدهم غارت شرائعه

قد أشتف الكفر بالإسلام مذ رحلوا

والبغي بالحقّ لمّا راح سارعه

ص: 454


1- بحار الأنوار : 30/287 ح151 .

ودايع المصطفى أوصى بحفظهم

فضيّعوها فلم تحفظ ودائعه

صنائع اللّه بدء والأنام لهم

صنائع شدّ ما لاقت صنائعه

أزال أول أهل البغي أوّلهم

عن موضع فيه ربّ العرش واضعه

وزاد ما ضعضع الإسلام ما صدعت

منه دعائم دين اللّه تابعه

كمين جيش بدا يوم الطفوف ومن

يوم السقيفة قد لاحت طلائعه

يا رمية قد أصابت وهي مخطئة

من بعد خمسين من شطّت مرابعه

وفجعة ما لها في الدهر ثانية

هانت لديها وإن جلّت فجائعه

ولوعة أضرمت في قلبه كلّ شجّ

نارا بلذعتها صبّت مدامعه

لا العين جفّت بسفع النار مدمعها

ولا الفؤاد جنا بالدمع سافعه

كلّ الرزايا وإن جلّت وقائعها

تنسى سوى الطف لا تنسى وقائعه

جرائم الشجرة الملعونة - بني أمية -

اعلم ، أنّ تلك الجماعة الملحدة أقامت هذا الأساس ، ولكنّ الذي أتمّ البناء همبنو أمية ، وأنّ تلك الجماعة فتحت هذا الباب ، ولكنّ بنو أمية أكملوا فتحه ، وظلموا ظلما غطّى على ظلم عاد وثمود ، وأفسدوا في الإسلام إفسادا محى من الذاكرة إفساد الشدّاد ونمرود ، وإستقصاء قبائح أعمالهم لا تفي به الأسفار الطوال . . فقد صدر من معاوية وأبيه وابنه ، وهم أساطين بني أمية ما لا يمكن تحريره .

فهذه زوجة أبو سفيان ، وهي أم معاوية ، كانت زانية ولأحمد صلى الله عليه و آله المختار معادية ، وقد غرّت عدّة أفراد في معركة أحد ، ووعدتهم لو أنّهم قتلوا النبي صلى الله عليه و آله أو عليا أو حمزة عليهماالسلام ، ووعدت وحشي وعودا خاصة ، وحرّضته حتى قتل حمزة عليه السلام ،

فجاءت الملعونة فشقّت بطنه وأخرجت كبده ، فوضعتها في فيها فلاكتها ، ولذلك

ص: 455

سمّيت « آكلة الأكباد »(1) .

وأمّ الحكم أخت معاوية ، زنا بها معاوية ، وزنا بها يزيد ابنه أيضا ، فوجدها مفتضّة ، فسألها عن ذلك ، فقالت : سوّد اللّه وجه أبيك معاوية . .

وكان من أمرها أنّها لمّا سمعت بخبر مقتل النبي صلى الله عليه و آله في أحدى الغزوات ، جعلت تضرب بالدفّ وترقص فرحا وسرورا .

وأبو سفيان كان يتزعّم الكفار في حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وفعل ما فعل في معركة أحد ، ثم أسلم نفاقا ، وبقي على النفاق حتى مات(2) .

أمّا معاوية الملعون فقد تجاوزت بدعه وظلمه حدّ الإحصاء والحصر .

روى العلامة في نهج الحقّ من طريق المخالفين : أنّ هند أمّه كانت من المغلمات ، وكان أحبّ الرجال إليها السودان ، وكانت إذا ولدت أسود دفنته .

وكان الشقي معاوية لأربعة : لعمارة بن الوليد المخزومي ، ولمسافر بن أبي عمرو ،ولأبي سفيان ، ولرجل آخر سماه(3) .

وكان اللعين من المؤفة قلوبهم ، ولم يزل مشركا مدّة كون النبي صلى الله عليه و آلهمبعوثا يكّذب بالوحي ويهزأ بالشرع .

وكان يوم الفتح باليمن يطعن على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيره بالإسلام ، ويقول له : أصبوت إلى دين محمد وفضحتنا ، حيث يقول الناس : إنّ ابن هند تخلّى عن العزى .

وكان الفتح في شهر رمضان لثمان سنين من قدوم النبى صلى الله عليه و آله المدينة ، ومعاوية - يومئذ - مقيم على الشرك هارب من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لأنّه قد هدر دمه ، فهرب

ص: 456


1- انظر بحار الأنوار : 20/55 .
2- انظر اعلام الورى : 1/176 .
3- نهج الحقّ : 307 ، بحار الأنوار : 33/197 باب 17 .

إلى مكة ، فلمّا لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلى الله عليه و آله مضطرا ، فأظهر الإسلام ، وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه و آله بخمسة أشهر ، وطرح نفسه على العباس حتى شفع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فعفا عنه ، ثم شفع إليه ليكون من جملة خمسة عشر ليكتب له الرسائل(1) .

وأمّا ما اشتهر عند العامة العمياء من أنّه كان كاتبا للوحي ، فهو محض افتراء ، ولم يكتب معاوية كلمة واحدة من الوحي بتاتا ، وكتّاب الوحي أربعة عشر معروفون أفضلهم علي بن أبي طالب عليهماالسلام .

وكان النبي صلى الله عليه و آله يلعنه دائما ويقول : الطليق ابن الطليق ، اللعين بن اللعين .

وقال صلى الله عليه و آله : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه .

وروى عبد اللّه بن عمر(2) قال : أتيت النبي صلى الله عليه و آله فسمعته يقول : يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي ، فما استتمّ كلامه إذ طلع معاوية(3) وجلس معنا فيالمسجد ، فقام النبي يخطب ، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ، ولم يسمع الخطبة ، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه و آله خارجا مع ابنه ، قال صلى الله عليه و آله : لعن اللّه القائد والمقود(4) .

إنّه كان أول من أخذ الخلافة بالسيف ، وجعل الخلافة وراثة .

وكان أول من نهب أهل الإسلام .

وأول من حمل رأس حجر بن عدي وغيره على الرمح .

وأول من سبى المسلمين وباعهم .

وأول من سعى بين الصفا والمروة راكبا .

ص: 457


1- نهج الحقّ : 309 .
2- في المتن : « عبد اللّه بن عباس » .
3- نهج الحقّ : 309 .
4- نهج الحقّ : 310 ، المنتخب : 1/16 .

وكان أول سلطان من سلاطين المسلمين صنع النبيذ ، وعزف الموسيقى في مجلسه ، وشبّه نفسه بالأكاسرة والفراعنة ، ونصب من نفسه علما وبطلاً لا ينازع .

وكان أول من أحيى سنة اليهود في المسلمين ، فحلق لحيته ، وأقام مجالس الإحتفال والفرح .

وكان أول من قرر الصحابة المرتدين ، وسمح لهم بوضع الأحاديث المكذوبة في ذمّ أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام .

وكان أول من باع الأصنام في الإسلام ، وتاجر بها ، فكان يصنعها ويتاجر بها مع الهند وسائر البلدان الأخرى .

وكان أول من سنّ لعن أمير المؤمنين عليه السلام ، فأمر بلعنه بعد الفرائض وعلى المنابر وفي كلّ خطبة ، وافترى على سيدة النساء عليهاالسلام ، تبّا له وترحا .

وكان أول من أظهر الفرح والشماتة بموت مسلم ، وأمر أنّ تزيّن الشام ويتخذ يوم مقتل أمير المؤمنين عيدا ، وجرى جروه اللعين على سنّته ، فأمر أهل الشام أنيتخذوا يوم مقتل الحسين عليه السلام عيدا ، ويزيّنوا البلد ، يلبسوا الثياب الجديدة .

وكان الملعون من أصحاب ليلة العقبة ، وممّن دحرج الدباب على النبي صلى الله عليه و آلهلينفر به ناقته .

وكان الشراب في بطنه ، والصنم في جيبه يوم مات ، زاد اللّه عليه اللعنة والعذاب والسخط والعقاب .

وأمّا ابنه الملعون فقد كانت مدّة سلطنته ثلاث سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما ، وقد أتى فيها بالقبائح ما لم يسبقه ولا يلحقه أحد من العالمين .

إنّه أباح مدينة النبي صلى الله عليه و آله ، وقتل الرجال واستباح الأعراض ، وهتك كلّ حرمة حتى ربطوا الخيل في مسجد النبي صلى الله عليه و آله حتى روّثت .

ثم سلّط ابن زياد على العراق ، فتتبع الشيعة تحت كلّ حجر ومدر ، فقتلهم

ص: 458

وصلبهم ، وخرّب سناباد وهي لا زالت الى اليوم خراب ، لأنّهم رموا حملة رأس الحسين عليه السلام بالحجارة .

وكان اللعين النغل شاربا للخمر ، لاعبا بالقمار ، سكيرا ، ومن شعره :

فإن حرمت هذي على دين أحمد

فخذها على دين المسيح بن مريم

زنا اللعين بعمّته ، ودعا برجل من بني هاشم في المدينة وطلب منه أن يقرّ له بالعبودية فأبى ، فأمر بضرب عنقه ، وصرّح بالكفر فقال :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

ويكفي في الطعن عليه أنّه حمل بنات النبي صلى الله عليه و آله على أقتاب الأبل يطوف بهن في البلدان ، ويحضرهن في المجلس العام ، وحمل رأس سيد الشهداء عليه السلامالمقدّس على السنان ، وطاف به في الأزقة والأسواق والبلدان ، وأحضره في مجلسه ، وضرب ثناياه - التي كان النبي صلى الله عليه و آله يشبعها لثما وتقبيلاً - بقضيب الجور والطغيان ، وأجلس أسرى أهل البيت عليهم السلام ظلما وتجبّرا وطغيانا في مجلسه وتشاغل عنهم بشربالخمر ولعب القمار ، وكان يصبّ ثمالة الكأس في طرف الطشت الذي كان فيه الرأس المقدّس ! ! آه وا ويلاه . .

وأراك تنقص يا يزيد إذا غلت

يوم القيامة رنّة الزهراء

تفشي التظلّم من هريق دم ابنها

صخّابة للخرقة الحمراء

صور من تظلّم الزهراء عليهاالسلام يوم المحشر

روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : إذا كان يوم القيامة جاءت فاطمة عليهاالسلام في لمّة من نسائها .

وفي رواية : إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة عليهاالسلام قبّة من نور ، فيقال لها : ادخلي الجنّة ، فتقول : لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي ، فيقال لها : انظري في قلب القيامة ، فتنظر إلى الحسين عليه السلام قائما ليس عليه رأس .

ص: 459

وفي رواية : وأقبل الحسين - صلوات اللّه عليه - رأسه في يده ، فتصرخ صرخة ، فأصرخ لصراخها ، وتصرخ الملائكة لصراخها ، وتنادي : وا ولداه ، وا ثمرة فؤداه .

وروي أنّها تتعلّق بقوائم العرش وتقول : يا عدل يا جبّار احكم بيني وبين قاتل ولدي ، فيغضب اللّه - عزّ وجلّ - لها عند ذلك ، فيأمر نارا يقال لها « هب هب » قد

أوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، لا يدخلها روح أبدا ، ولا يخرج منها غمّ أبدا ، فيقال : التقطي قتلة الحسين ، فتلقطهم ، فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها ، وشهقت وشهقوا بها ، وزفرت وزفروا بها(1) . .

وذكر بعض العلماء : أنّ فاطمة عليهاالسلام تأتي في المحشر في صورة لا يطيق أحد النظر اليها ، ومعها درّاعة الحسن عليه السلام المسمومة على عاتقها الأيمن ، وقميص الحسين عليه السلام

المخضب بدمه على عاتقها الأيسر ، ورباعية أبيها في يدها اليمنى ، وعمامة بعلهاالمصبوغة بدمه في يدها اليسرى ، فتدنو من العرش ، فيضطرب العرش ، ويخرّ الأنبياء من كراسيهم ، وتضجّ الملائكة ، فيأتي جبرئيل الى النبي صلى الله عليه و آلهمضطربا فيقول : أدرك فاطمة عليهاالسلام يا رسول اللّه ، فيقوم النبي صلى الله عليه و آله من منبر الكرامة ويقصد فاطمة عليهاالسلام فيقول :

يا ابنتي العزيزة ، اليوم يوم الشفاعة ، واليوم يوم العدل ، يا فاطمة انظري الى المحشر ، فهذه أمّتي غارقة في بحر الحيرة ، ورجاؤها فيّ وفيك ، هؤلاء شيعة ولدك ، فقومي وخذي قميص الحسين عليه السلام بيدك ، وانشر أنا شعري ، فنتقدّم الى اللّه تعالى بقلبك المتعب المحزون ، وفمي المدمى من رباعيته المكسورة ، فلعل أرحم الراحمين يرحم المذنبين من أمّتي .

ولنعم ما قال الشاعر :

كأنّي بالبتول الطهر واقفة

في الحشر تشكو الى الرحمن باريها

ص: 460


1- اللهوف : 139 .

تأتي وقد ضمّخت ثوب الحسين دما

فيض النحور البحاري ويل مجريها

تدعو ألا أين مسمومي ويا أسفي

على ذبيحي وأسيري من ذراريها

وا حزني بل آه وا حسني

هذا حسيني قتيل في فيافيها

هذا حسيني رضيض الجسم منجدلاً

تسفي على جسمه العاري سوافيها

آه على جثث بالطف قد قطعت رؤوس

ها وهجير السيف يصليها

آه على جثث فيها القنا لعبت

وأركضت ماضيات في تراقيها

يا فتية ذبحت في كربلا وثوت

على الوجوه عرايا في صحاريها

بنتم فبان لكم سلوان فاطمة

ولا الوجد بالوجدان يشجيها

حركة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة الى الشام

وأمّا حكاية ما جرى في الشام وفي طريق الشام على أهل بيت خير الأنام الكرام ، فهو ممّا لا يقوى قلم على تحريره ، ولا يطيق لسان بيانه وتقريره ، ومجملذلك برواية السيد ابن طاووس قال :

وأمّا يزيد بن معاوية ، فإنّه لمّا وصل كتاب عبيد اللّه ، ووقف عليه أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام ورؤوس من قتل معه ، وحمل أثقاله ونسائه وعياله ، فاستدعى ابن زياد بزحر بن قيس ، فسلّم إليه الرؤوس والنساء ، فسار بهم إلى الشام ، كما يسار سبايا الكفار ، يتصفّح وجوههن أهل الأقطار(1) .

وروي إنّ عبيد اللّه بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين عليه السلام أمر فتيانه وصبيانه ونساءه فجهزوا ، وأمر بعلي بن الحسين فغلّ بغلّ في عنقه ، ثم سرح بهم في أثر الرؤوس مع مخفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن ، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس .

ص: 461


1- بحار الأنوار : 45/124 باب 39 .

وروي أنّه أمّر عليهم عمر بن سعد(1) - لعنه اللّه - .

وقال صاحب المنتخب : ثم إنّ اللعين دعا بالشمر وخولي وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج ، وضمّ اليهم ألف فارس ، وزوّدهم ، وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس الى دمشق عند يزيد ، وأمر أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها .

فساروا على أول منزل نزلوا ، وكان المنزل خرابا ، فوضعوا الرأس بين أيديهم - وفي رواية صاحب المناقب : وكانوا يشربون الخمر(2) - والسبايا قريبا منه ، وإذا بكفّ خارج من الحائط ، وقلم يكتب بدم :

أترجو أمّة قتلت حسينا

شفاعة جدّه يوم الحسابففزعوا من ذلك وارتاعوا(3) . .

أهل البيت عليهم السلام في تكريت

قال الشيخ الطريحي رحمه الله : فلمّا وصلوا الى تكريت أنفذوا الى صاحب البلد : أن تلقّانا ، فإنّ معنا رأس الحسين عليه السلام وسباياه ، فلمّا أخبرهم الرسول بذلك نشرت الأعلام ، وخرجت الغلمة يتلقّونهم .

فقالت النصارى : ما هذا ؟ فقالوا : رأس الحسين عليه السلام ، فقالوا : هذا رأس ابن بنت نبيكم ؟ قالوا : نعم ، فعظم ذلك عليهم وصعدوا الى بيعهم ، وضربوا النواقيس تعظيما للّه ربّ العالمين ، وقالوا : اللّهم إنّا اليك براء ممّا صنع هؤلاء الظالمون(4) .

أهل البيت عليهم السلام في وادي النخلة

فلمّا رحلوا من تكريت ، وأتوا على وادي النخلة ، سمعوا بكاء الجن ، وهنّ يلطمن الخدود على وجوههن ويقلن :

ص: 462


1- انظر الإرشاد : 2/118 ، اللهوف : 208 ، بحار الأنوار : 45/124 وما بعدها .
2- المناقب : 4/57 ، بحار الأنوار : 45/305 ح4 .
3- المنتخب : 2/466 .
4- المنتخب : 2/467 .

مسح النبي جبينه

فله بريق في الخدود

أبواه من عليا قريش

وجدّه خير الجدود

وأُخرى تقول :

ألا يا عين جودي فوق خدّي

فمن يبكي على الشهداء بعدي

أهل البيت عليهم السلام في مرشاد

فلمّا وصلوا الى بلدة يقال لها « مرشاد » ، خرج المشايخ والمخدّرات والشبان يتفرّجون على السبي والرؤوس ، وهم مع ذلك يصلّون على محمد وآله ، ويلعنون أعداءهم ، وهو من العجائب(1) .

يصلّى على المبعوث من آل هاشم

ويرى بنوه إنّ ذا لعجيب

أهل البيت عليهم السلام في بعلبك

ثم رحلوا الى بلدة بعلبك ، وكتبوا الى صاحبها بأن يتلقانا ، فإنّ معنا رأس الحسين بن علي عليهماالسلام ، فأمر بالرايات فنشرت ، وخرج الغلمان يتلقّونهم على نحو من ستة أميال فرحا بهم ، فدعت عليهم أم كلثوم فقالت : أباد اللّه كثرتكم ، وسلّط عليكم من يقتلكم ، فعند ذلك بكى علي بن الحسين عليهماالسلام وقال :

هو الزمان فلا تفنى عجائبه

عن الكرام وما تهدأ مصائبه

فليت شعري الى كم ذا تجاذبنا

فنونه وترانا كم نجاذبه

يسرى بنا فوق أقتاب بلا وطأ

وسائق العيس يحمى عنه غاربه

كأنّنا من أسارى الروم بينهم

كأنّما قاله المختار كاذبه

كفرتم برسول اللّه ويحكم

فكنتم مثل من ضلّت مذاهبه(2)

الرأس المقدّس في طريق الشام

ص: 463


1- المنتخب : 2/267 .
2- المنتخب : 2/468 .

وقال صاحب المناقب والسيد ابن طاووس : روى ابن لهيعة وغيره قال : كنت أطوف بالبيت ، فإذا أنا برجل يقول : اللّهم اغفر لي ، وما أراك فاعلاً ، فقلت له : يا عبد اللّه ، اتق اللّه ولا تقل مثل هذا ، فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق

الأشجار فاستغفرت اللّه غفرها لك ، فإنّه غفور رحيم ، فقال لي : تعال حتى أخبرك بقصّتي ، فأتيته ، فقال :

اعلم أنّنا كنّا خمسين نفرا ممّن سار مع رأس الحسين إلى الشام ، وكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في التابوت ، وشربنا الخمر حول التابوت .

فشرب أصحابي ليلة حتى سكروا ، ولم أشرب معهم ، فلمّا جنّ الليل سمعت رعدا ، ورأيت برقا ، فإذا أبواب السماء قد فتحت ، فقيل قد أقبل محمد صلى الله عليه و آله ، فسمعت صهيل الخيل ، وقعقعة السلاح مع جبرئيل وميكائيل وإسرافيل والكروبيين والروحانيين والمقربين عليهم السلام ، ونزل آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيلوإسحاق ونبينا محمد صلى الله عليه و آله ، ومعهم جبرئيل وخلق من الملائكة .

فدنا جبرئيل من التابوت ، فأخرج الرأس ، وضمّه إلى نفسه وقبّله ، ثم كذلك فعل الأنبياء عليهم السلام كلّهم ، وبكى النبي صلى الله عليه و آله على رأس الحسين ، فشكا النبي

صلى الله عليه و آله إلى الملائكة والنبيين وقال : قتلوا ولدي وقرّة عيني ، وكلّهم قبّل الرأس وضمّه إلى صدره(1) ، فعزّاه الأنبياء عليهم السلام .

فقال له جبرئيل : يا محمد ، إنّ اللّه تعالى أمرني أن أطيعك في أمّتك ، فإن أمرتني زلزلت بهم الأرض ، وجعلت عاليها سافلها ، كما فعلت بقوم لوط ، فقال النبي صلى الله عليه و آله : لا يا جبرئيل ، فإنّ لهم معي موقفا بين يدي اللّه يوم القيامة .

ثم أتى قوم من الملائكة وقالوا : إنّ اللّه - تبارك وتعالى - أمرنا بقتل الخمسين ، فقال لهم النبي : شأنكم بهم ، فجعلوا يضربون بالحربات ، ثم قصدني واحد منهم بحربته ليضربني ، فقلت : الأمان الأمان ، يا رسول اللّه ، فقال : اذهب فلا غفر اللّه

ص: 464


1- بحار الأنوار : 45/126 باب 39 .

لك ، فلمّا أصبحت رأيت أصحابي كلّهم جاثمين رمادا(1) ، لا غفر اللّه لهم .

وروى القطب الراوندي بسند معتبر عن سليمان بن مهران الأعمش قال : بينما أنا في الطواف بالموسم إذا رأيت رجلاً يدعو وهو يقول : اللّهم اغفر لي ، وأنا أعلم أنّك لا تغفر .

قال : فارتعدت لذلك ، ودنوت منه وقلت : يا هذا ، أنت في حرم اللّه وحرم رسوله ، وهذا أيام حرم في شهر عظيم ، فلم تيأس من المغفرة ؟ قال : يا هذا ، ذنبي عظيم ، قلت : أعظم من جبل تهامة ؟ قال : نعم ، قلت : يوازن الجبال الرواسي ؟ قال : نعم ، فإن شئت أخبرتك ، قلت : أخبرني ، قال : اخرج بنا عن الحرم .

فخرجنا منه ، فقال لي : أنا أحد من كان في العسكر الميشوم ، عسكر عمر بنسعد ، حين قتل الحسين ، وكنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى يزيد من الكوفة ، فلمّا حملناه على طريق الشام نزلنا على دير للنصارى ، وكان الرأس معنا مركوزا على رمح ، ومعه الأحراس ، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل ، فإذا بكفّ في حائط الدير تكتب :

أترجو أمّة قتلت حسينا

شفاعة جدّه يوم الحساب

قال : فجزعنا من ذلك جزعا شديدا ، وأهوى بعضنا إلى الكفّ ليأخذها فغابت .

ثم عاد أصحابي إلى الطعام ، فإذا الكفّ قد عادت تكتب :

فلا واللّه ليس لهم شفيع

وهم يوم القيامة في العذاب

فقام أصحابنا إليها فغابت ، ثم عادوا إلى الطعام ، فعادت تكتب :

وقد قتلوا الحسين بحكم جور

وخالف حكمهم حكم الكتاب

ص: 465


1- بحار الأنوار : 45/125 باب 39 .

فامتنعت وما هنأني أكله(1) . . .

ونصبوا الرمح الذي فيه الرأس الى جانب صومعة راهب ، فسمعوا هاتفا يقول :

واللّه ما جئتكم حتى بصرت به

بالطف منعفر الخدّين منحورا

وحوله فتية تدمى نحورهم

مثل المصابيح يطفون الدجى نورا

كان الحسين سراجا يستضاء به

اللّه يعلم أنّي لم أقل زورا

فقالت أم كلثوم : من أنت يرحمك اللّه ؟ قال : أنا ملك من الجن أتيت وقومي لننصر الحسين ، فصادفناه وقد قتل ، فلمّا سمعوا بذلك رعبت قلوبهم(2) .قال سليمان : فلمّا جنّ الليل أشرف الراهب من صومعته ونظر الى الرأس ، وقدسطع منه نور ، وقد أخذ في عنان السماء ، ونظر باب قد فتح من السماء ، والملائكة ينزلون وهم ينادون : يا أبا عبد اللّه السلام عليك .

فجزع الراهب جزعا شديدا ، والتفت الى العسكر فقال : من أين جئتم ؟ قالوا : من العراق ، حاربنا الحسين ، فقال الراهب : ما الذي معكم ؟ قالوا : رأس الحسين بن علي عليهماالسلام ، فقال : من أمّه ؟ قالوا : فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله ، فقال : لعنكم اللّه ، واللّه لو كان لعيسى ابن مريم ابن لحملناه على أحداقنا .

وروي أنّه جعل يصفق بكلتا يديه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم ، صدقت الأحبار فيما قالت ، فقالوا : وما قالت الأحبار : قال : يقولون : إذا

قتل هذا الرجل مطرت السماء دما ، وذلك لا يكون إلاّ لنبي أو وصي ، ثم قال : وا عجباه من أمّة قتلت ابن بنت نبيها وابن وصيه .

ثم قال : لي اليكم حاجة ، قالوا : وما حاجتك ؟ قال : قولوا لرئيسكم عندي عشرة آلاف درهم ورثتها من آبائي يأخذها مني ويعطيني الرأس يكون عندي الى

ص: 466


1- بحار الأنوار : 45/184 باب 39 ح31 .
2- المنتخب : 2/468 .

وقت الرحيل ، فإذا رحل رددته اليه . فأخبروا عمر بن سعد بذلك ، فقال : خذوا منه الدنانير ، وأعطوه الى وقت الرحيل .

فجاؤوا الى الراهب فقالوا : هات المال حتى نعطيك الرأس ، فأدلى اليهم جرابين في كلّ جراب خمسة آلاف درهم ، فدعا عمر بالناقد والوازن ، فانتقدها ووزنها ، ودفعها الى خازن له ، وأمر أن يعطى الرأس ، فأخذ الراهب الرأس .

وفي رواية : لمّا أخذ الراهب الرأس الى صومعته سمع هاتفا يقول : طوبى لك ، وطوبى لمن عرف حرمته .

فغسل الراهب الرأس ، ومسح عنه الدم والتراب ، وحشاه بمسك وكافور ، ثم جعله في حريرة ووضعه في حجره ، ولم يزل ينوح ويبكي .

وروي أنّه تركه في حجره ، فبدت ثناياه ، فانكب عليها الراهب يقبّلها ويبكيويقول : يعزّ علي يا أبا عبد اللّه أن لا أكون أول قتيل بين يديك(1) .

وروي أنّه قال له : إلهي بحقّ المسيح عليك إلاّ ما أذنت لهذا الرأس يكلّمني ، فنطق الرأس بإذن اللّه وقال : أنا المظلوم ، أنا المقتول ، أنا المهموم ، وأنا المغموم ، وأنا الذي بسيف العدوان والظلم قتلت ، أنا الذي بحرب أهل الغي ظلمت .

فقال الرهب : باللّه أيّها الرأس المبارك ، زدني بيانا ، فقال الرأس : أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا الشهيد بكربلاء . .

ثم وضع خدّه على الرأس المقدّس وقال : لا أرفع رأسي حتى تشفع لي ، فقال : إن أردت شفاعتي فاخرج من دينك وادخل في دين جدّي ، فأسلم الراهب .

وفي رواية سليمان : فلم يزل يبكي حتى أصبح الصباح ونادوه ، وطلبوا منه الرأس ، فقال : يا رأس واللّه لا أملك إلاّ نفسي ، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدّك

ص: 467


1- المنتخب : 2/469 .

محمد ، أنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمد عبده ورسوله ، أسلمت على يديك ، وأنا مولاك .

وقال لهم : إنّي أحتاج أن أكلّم رئيسكم بكلمة ، وأعطيه الرأس ، فدعا عمر بن سعد ، فقال : سألتك باللّه وبحقّ محمد أن لا تعود الى ما كنت تفعله بهذا الرأس ، ولا تخرج هذا الرأس من هذا الصندوق ، فقال له : أفعل ، فأعطاه الرأس .

بأبي الرؤوس العاليات على القنا

مثل النجوم تضيء في الأقطار

بدمائها والريح في شيباتها

لعبت بها من يمنة ويسار

ونزل الرهب من الدير ولحق ببعض الجبال يعبد اللّه .

ومضى عمر بن سعد ، ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأول ، فلمّا دنا من دمشق قال لأصحابه : انزلوا ، وطلب من خازنه الجرابين ، فأحضرهما بين يديه ،فنظر الى خاتمه ، ثم أمر أن يفتح ، فإذا الدنانير قد تحوّلت خزفة ، فنظروا في سكّتها ، فإذا على جانبها مكتوب : « وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ » ، وعلى الجانب الآخر مكتوب : « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » ، فقال : إنّا للّه وإنّا اليه راجعون ، خسرت الدنيا والآخرة(1) .

مصائب أهل البيت عليهم السلام في الشام

اعلم ، أنّ الشام وطريق الشام كان أشدّ على الأسرى من أهل البيت عليهم السلام من أيّ حادث جرى عليهم ، والحقّ أنّ الإنسان يعجز عن تصوّر ذلك إلاّ أن تتفتت له الأكباد ، وتذوب له القلوب ، ولا يقاس دخولهم الى الشام وما مرّ عليهم في طريقه بما جرى عليهم في الكوفة ، ففي الكوفة إجتمع الناس للنظر الى أهل البيت عليهم السلام وحبسوهم فيها ، وشهروهم أي شهرة ، ولكنّهم لمّا شاهدوا السبايا من آل محمد صلى الله عليه و آله ، وبنات فاطمة عليهاالسلام بتلك الحالة ، وشاهدوا رأس ابن فاطمة على

ص: 468


1- انظر مدينة المعاجز : 4/126 ح1133 ، الخرائج : 2/578 ، بحار الأنوار : 45/148 ، المنتخب : 2/468 .

الرمح ، سالت عيونهم بالدموع ، ولطموا الخدود ، ونشروا الشعور ، ونتفوا اللحى ، وشقّوا الجيوب ، ونثروا التراب على رؤوسهم ، ونادوا بالويل والثبور ، وترّحموا على النساء المكشّفات ، والبطون الخاويات ، فجمعوا لهم مآزر ومقانع ، وناولوا الأطفال الحلوى والتمر والخبز والجوز .

أمّا في الشام المشؤوم وطريقه ، فقد استقبلوهم وهم يعيّدون ، ويضحكون ويمرحون ويفرحون ، وكانوا يسبّونهم ويشتمونهم ويشمتون بهم ، فكيف كان حالهم ؟ وما الذي جرى عليهم ؟ والحادي كان يجدّ السير ، ويطوي بهم تلك الفيافي والمنازل البعيدة مستعجلاً ، وقد سلبهم الراحة والأمان .

« فيا ليت لفاطمة وأبيها عينا تنظر الى بناتها وبنيها ما بين قتيل يجري منهالدم(1) ، وأسير مكبّل بالحديد .

فكأنّي - واللّه - ألمح نحوهم ، وأراهم يستنصرون فلا ينصرون ، ويستغيثون فلا يغاثون ، فكأنّي بتلك الأسارى مسبيّات كالإماء والعبيد ، مصفّدات بالحديد ، يشهرن فوق أقتاب المطيّات ، تلفح وجوههنّ حرّ الهاجرات ، يساق بهن البراري والفلوات ، مغلولة الأيدي والأعناق ، يطاف بهن السكك والأسواق ، وهنّ ودائع خير الأنبياء ، وبنات فاطمة الزهراء عليهاالسلام » .

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : فسار بهم إلى الشام كما يسار سبايا الكفار ، يتصفّح وجوههنّ أهل الأقطار(2) .

وفيالإقبال عن محمد بن علي الباقر عليه السلام : سألت أبي علي بن الحسين عليهماالسلام

عن حمل يزيد له ، فقال : حملني على بعير يطلع ، بغير وطاء ، ورأس الحسين عليه السلام على علم ، ونسوتنا خلفي على بغال فأكف ، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح ، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح ، حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح :

ص: 469


1- في المتن : « الصديد » .
2- اللهوف : 171 ، بحار الأنوار : 45/124 باب 39 .

يا أهل الشام ، هؤاء سبايا أهل البيت الملعون(1) .

فأين رسول اللّه عن أهل بيته

الى الشام تسبى في المهانة للوغد

فمنظورة شزرا ونزوعة ردا

ومخفوضة قدرا وملطومة الخدّ

ومنهوكة ضربا ومهتوكة خبا

ومجرورة غصبا ومشتومة الجدّ

أفاطم قومي من ثرى القبر واندبي

بناتك أسرى كاشفات بلا قدر

أهل البيت عليهم السلام على مشارف الشام

قال السيد ابن طاووس : وسار القوم برأس الحسين عليه السلام ونسائه والأسرى منرجاله ، فلمّا قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر ، وكان في جملتهم ، فقالت : لي إليك حاجة ، فقال : ما حاجتك ؟ فقالت : إذا دخلت بنا البلد ، فاحملنا في درب قليل النظّارة ، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل ، وينحونا عنها ، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ، ونحن في هذه الحال .

فأمر في جواب سؤلها ، أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل ، بغيا منه وكفرا ، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة ، حتى أتى بهم باب دمشق ، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع ، حيث يقام السبي(2) .

وفي بعض الروايات والأخبار : لمّا جيء برؤوس الشهداء والسبايا من آل محمد عليهم السلام كان يزيد في منظرة له في جيروان فأنشد يزيد - لعنه اللّه - ولعن كلامه :

لما بدت تلك الحمول(3) وأشرقت

تلك الرؤوس(4) على ربى جيرون

نعق(5) الغراب فقلت صح أو لا تصحفلقد قضيت من النبي ديوني(6)

ص: 470


1- إقبال الأعمال : 583 ، بحار الأنوار : 45/154 باب 39 ح2 .
2- اللهوف : 174 ، مثير الأحزان : 97 ، بحار الأنوار : 45/127 باب 39 .
3- في البحار : « الرؤوس » .
4- في البحار : « الشموس » .
5- في البحار : « صاح » .
6- بحار الأنوار : 45/199 باب 39 ح40 .

فخرج الناس الهمج الذين لا يستحون على بنات رسول اللّه يتفرّجون .

ورود أهل البيت عليهم السلام الى الشام برواية سهل الساعدي

روى صاحب المناقب وغيره عن سهل بن سعد قال : خرجت إلى بيت المقدس حتى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهارّ كثيرة الأشجارّ قد علّقوا الستور والحجب والديباج،وهم فرحون مستبشرون،وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول.

وفي رواية : فرأيت الأبواب مفتّحة والدكاكين مغلقة ، والخيل مسرجة ،والأعلام منشورة ، والرايات مشهورة ، والناس أفواجا ، قد إمتلأت منهم السكك ، والأسواق في أحسن زينة ، يفرحون ويضحكون .

فقلت في نفسي : لا نرى لأهل الشام عيدا لا نعرفه نحن ! فرأيت قوما يتحدّثون ، فقلت : يا قوم ، لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟ قالوا : يا شيخ ، نراك أعرابيا ! فقلت : أنا سهل بن سعد ، قد رأيت محمدا صلى الله عليه و آله ! قالوا : يا سهل ، ما أعجبك السماء لا تمطر دما ، والأرض لا تنخسف بأهلها ، قلت : ولم ذاك ؟ قالوا : هذا رأس الحسين عليه السلام عترة محمد صلى الله عليه و آله يهدى من أرض العراق ، فقلت : وا عجباه يهدى رأس الحسين والناس يفرحون ؟ ! قلت : من أيّ باب يدخل ؟ فأشاروا إلى باب يقال له « باب ساعات » .

قال : فبينا أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضا ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان ، عليه رأس من أشبه الناس وجها برسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وروي أنّه قال : فلمّا رأيت ذلك ، لطمت على وجهي ، وقطّعت أطماري ، وعلا بكائي ونحيبي ، وقلت : وا حزناه على الخدّ التريب ، والشيب الخضيب ، يا رسول اللّه ليت عينك ترى رأس الحسين في دمشق الشام ، يطاف به في الأسواق ، وبناتك مشهورات على النياق ، مشققات الذيول والأزياق ، ينظر اليهم شرار الفساق ، أين

ص: 471

علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، يراكم على هذه الحال ، ثم بكيت ، وبكى لبكائي كلّ من سمع منهم صوتي ، وأكثرهم لا يفيقون لكثرتهم ، وشدّة فرحهم ، واشتغالهعم بسرورهم ، وارتفاع أصواتهم .

وإذا أنا بنسوة على الأقتاب ، بغير وطاء ولا ستر ، وقائلة منهن تقول : وا محمداه ، وا عليّاه ، وا حسناه ، وا حسيناه ، لو رأيتم ما حلّ بنا من الأعداء ، يا رسول اللّه ، بناتك كأنّهن بعض أسارى اليهود والنصارى ، وهي تنوح بصوت شجي ، يقرح القلوب ، وتقول : وا حزناه على الرضيع الصغير ، وعلى الشيخ الكبير ، وعلى المذبوح من القفا ، ومهتوك الخباء ، العريان بلا رداء ، وا حزناه لما نالناأهل البيت ، فعند اللّه نحتسب مصيبتنا .

فدنوت من أولاهم ، فقلت : يا جارية من أنت ؟ فقالت : أنا سكينة بنت الحسين ، فقلت لها : ألك حاجة إليّ ؟ فأنا سهل بن سعد ، ممّن رأى جدّك ، وسمعت حديثه ، قالت : يا سعد ، قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا ، حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس ، فقلت له : هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار ؟ قال : ما هي ؟ قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم ، ففعل ذلك ، فدفعت إليه ما وعدته(1) .

نصراني يسلم عند رأس الحسين عليه السلام

وفي رواية قال سهل : وكان معي رفيق نصراني يريد بيت المقدس ، وهو متقلّد سيفا تحت ثيابه ، فكشف اللّه عن بصره ، فسمع رأس الحسين ، وهو يقرأ القرآن ، ويقول : « وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ » ، فقد أدركته السعادة ، فقال :

ص: 472


1- في المنتخب : « فقالت : يا سهل ، اشفع لنا عند صاحب المحمل ، أن يتقّدم بالرؤوس ليشغل النظّارة عنّا بها ، فقد خزينا من كثرة النظر الينا ، فقلت : حبّا وكرامة ، ثم تقدّمت اليه وسألته باللّه ، وبالغت معه ، فانتهزني ، ولم يفعل » .

أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا صلى الله عليه و آله عبده ورسوله ، ثم انتضى سيفه ، وشدّ به على القوم ، وهو يبكي ، وجعل يضرب فيهم ، فقتل منهم جماعة كثيرة ، ثم تكاثروا عليه ، فقتلوه رحمه اللّه .

فقالت أم كلثوم : وا عجباه ، النصارى يحتشمون لدين الإسلام ، وأمّة محمد الذين يزعمون أنّهم على دين محمد صلى الله عليه و آله ، يقتلون أولاده ، ويسبون حريمه ، ولكن « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » ، « وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »(1) .

فرح بني أمية بدخول السبايا الى الشام

روي أنّهم أتوا الى باب الساعات ، فاوقفوا هناك ثلاث ساعات يطلبون الإذن من يزيد ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج مروان بن الحكم ، فلمّا نظر الى رأس الحسين عليه السلام صار ينظر الى أعطافه جذلاً طربا .

ثم خرج أخوه عبد الرحمن ، فلمّا نظر الى الرأس بكى ، ثم قال : أما أنتم فقد حجبتم عن جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله واللّه لا جامعتكم على أمر أبدا ، ثم قال : بالعزيز عليّ يا أبا عبد اللّه ما نزل بك ، ثم أنشأ يقول :

سمية أمسى نسلها عدد الحصى

وبنت رسول اللّه ليس لها نسل(2)

آه وا ويلاه ، آه وا مصيبتاه ، أهل البيت يساقون في الشام أسرى !

تعامل أهل الشام مع أسرى آل محمد صلى الله عليه و آله

روي عن الصادق(3) عليه السلام ، وروى الصدوق أيضا عن جماعة قالوا : فلمّا دخلنا دمشق أدخل بالنساء والسبايا بالنهار مكشفات الوجوه ، فقال أهل الشام الجفاة : ما رأينا سبايا أحسن من هؤاء ، فمن أنتم ؟ فقالت سكينة ابنة الحسين عليهماالسلام : نحن

ص: 473


1- المنتخب : 2/283 ، بحار الأنوار : 45/127 باب 39 .
2- المنتخب : 2/470 .
3- قرب الإسناد : 14 .

سبايا آل محمد صلى الله عليه و آله(1) .

وكان فيهم علي بن الحسين عليهماالسلام مغلولاً بالجامعة ، محمولاً على ناقة بلا وطاء ، فأنشأ عليه السلام يقول :

اُقادُ ذَليلاً في دِمِشْقَ كَاَنَّني

مِنَ الزَّنُجِ عَبْدٌ غابَ عَنْهُ نَصيرُ

وَجَدِّي رَسُولُ اللّهِ في كُلِّ مَشْهَدٍ

وَشَيْخي اَميرُ الْمُؤْمِنينَ اَميرُ(2)فأقيموا على درج المسجد الأعظم حيث يقام السبايا(3) .

يزيد - لعنه اللّه - يسمع بخبر وصول السبايا

قال الشيخ فخر الدين الطريحي رحمه الله : فلمّا وردوا الى دمشق جاء البريد الى يزيد ، وهو معصب الرأس ويداه ورجلاه في طشت من ماء حار ، بين يديه طبيب يعالجه ، وعنده جماعة من بني أمية يحادثونه ، فحين رآه قال له : أقرّ عينك بورود رأس الحسين عليه السلام ، فنظر اليه شزرا ، وقال : لا أقرّ اللّه عينيك ، ثم قال للطبيب : أسرع ، واعمل ما تريد أن تعمل ، فخرج الطبيب عنه ، وقد أصلح جميع ما أراد أن يصلحه .

ثم أنّه أخذ كتابا بعثه أليه ابن زياد ، وقرأه ، فلمّا انتهى الى آخره عضّ على أنامله حتى كاد أن يقطعها ، ودفعه الى من كان حاضرا ، فما كان إلاّ ساعة وإذا برايات الكفر والضلال قد أقبلت ، ومن تحتها التكبير(4) .

ولنعم ما قال الشاعر :

ويكبّرون لقتل من لولاهم

لم يعرف التكبير والتهليل

ص: 474


1- الأمالي للصدوق : 165 المجلس 31 ، بحار الأنوار : 45/154 باب 39 .
2- المقتل لأبي مخنف : 132 .
3- الأمالي للصدوق : 165 المجلس 31 .
4- المنتخب : 2/469 .

وروي أنّهم سمعوا صوت هاتف لا يرى شخصه يقول :

جاؤوا برأسك يابن بنت محمد

مترمّلاً بدمائه ترميلا

وكأنّما بك يا بن بنت محمد

قتلوا جهارا عامدين رسولا

قتلوك عطشانا ولمّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قتلت وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا(1)

الرأس المقدّس يتكلّم في الشام

روى القطب الراوندي عن المنهال بن عمرو قال : أنا - واللّه - رأيت رأس الحسين عليه السلام حين حمل ، وأنا بدمشق ، وبين يديه رجل يقرأ الكهف ، حتى بلغ قوله« أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً » ، فأنطق اللّه الرأس بلسان ذرب ذلق ، فقال : أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي(2) .

إي واللّه قتله أعظم وأعظم من أي أمر آخر .

أهل البيت عليهم السلام في مجلس يزيد الملعون

ولمّا أدخلوا الرؤوس والسبايا في دمشق أمر يزيد - لعنه اللّه - فزيّنت الدار بأنواع الزينة ، ونصب ليزيد سرير مشؤوم مرصّع ، وأمر بإحضار أهل البيت عليهم السلام ، فلمّا وصلوا الى باب قصره صاح مخفر بن ثعلبة العائذي : هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة .

فروي : لم يكن علي بن الحسين عليهماالسلام يكلّم أحدا من القوم في الطريق كلمة واحدة ، حتى بلغوا ، فلمّا رفع مخفر بن ثعلبة صوته بما قال ، أجاب علي بن الحسين عليهماالسلام : ما ولدت أم مخفر أشرّ وألأم .

فلمّا أدخلوا الرأس المقدّس على يزيد أظهر الفرح وتبجح ونظر في عطفه جذلان مسرورا ، ثم أقبل على أهل مجلسه فقال : إنّ هذا كان يفخر عليّ ويقول :

ص: 475


1- المنتخب : 2/469 .
2- الخرائج : 2/577 ح1 ، بحار الأنوار : 45/188 باب 39 ح32 .

أبي خير من أب يزيد ، وأمّي خير من أمّه ، وجدّي خير من جدّه ، وأنا خير منه ، فهذا الذي قتله .

ثم أدخلوا أهل بيت العصمة الطهارة المتعبين الممتحنين الى المجلس ، عجبا واللّه لم لا زلزلت الأرض ، وخرّت السماء ، وتناثرت الكواكب ، وآل خاتم الأنبياء يدخلون في مجلس أولاد البغاء ، يستهزؤون بهم ، ويستخفون بحرمتهم ! !

وقال ابن نما : قال علي بن الحسين عليهماالسلام : أدخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر رجلاً مغللون(1) . .ويستفاد من هذا الكلام أنّهم قيّدوا النساء أيضا ، لأنّ الرجال لم يبلغ عددهم هذا المبلغ ، ولو كان معهم الأطفال فهم أقلّ من ذلك أيضا .

ويؤكد ذلك قول السيد ابن طاووس : ثم أدخل ثقل الحسين

عليه السلام ونساؤ ومن تخلّف من أهله على يزيد ، وهم مقرنون في الحبال(2) .

فمن مبلغ الكرّار ذا البأس والتقى

بأنّ بنيه بعد عزّ تذلّلوا

وأنّ الوجوه النيّرات ذوي البها

تهادى الى رجس زنيم وتحمل

وآل يزيد في المقاصير والخبا

تناط عليهن الستور وتسدل

وأنّ بني الزهراء بنت محمد

وجوههم للناس تبدو وتبذل

أما غيرة هذي بنات محمد

يلاحظهن الناس والأعبد الرذل

وقال الشيخ فخر الدين : لمّا أوقفوا آل البيت بين يدي ابن الزانية يزيد ، قالت فاطمة بنت الحسين عليهماالسلام : يا يزيد بنات رسول اللّه سبايا ؟ ! فبكى الناس ، وبكى أهل داره حتى علت الأصوات .

فقال علي بن الحسين عليهماالسلام : وأنا مغلول ، فقلت : أتأذن لي في الكلام ؟ فقال : قل ،

ص: 476


1- مثير الأحزان : 98 .
2- اللهوف : 226 ، مثير الأحزان : 98 ، بحار الأنوار : 45/129 وما بعدها باب 39 .

ولا تقل هجرا ! قلت : لقد وقفت موقفا لا ينبغي لمثلي أن يقول الهجر ، ما ظنّك برسول اللّه لو رآني في الغلّ ؟ فقال لمن حوله : حلّوه(1) .

وروي عن الصادق عليه السلام قال : لمّا أدخل رأس الحسين بن علي عليهماالسلام على يزيد - لعنه اللّه - وأدخل عليه علي بن الحسين عليهماالسلام ، وبنات أمير المؤنين عليه السلام ، وكان علي بن الحسين عليهماالسلام مقيّدا مغلولاً ، فقال يزيد : يا علي بن الحسين ، الحمد للّه الذي قتل أباك ، فقال علي بن الحسين : لعن اللّه من قتل أبي .

فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه عليه السلام ، فقال علي بن الحسين عليهماالسلام : فإذا قتلتني فبنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله من يردّهن إلى منازلهن ؟ وليس لهن محرم غيري ، فقال : أنت تردّهم إلى منازلهم .

ثم دعا بمبرد ، فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده ، ثم قال له : يا علي بن الحسين ، أتدري ما الذي أريد بذلك ؟ قال : بلى ، تريد أن لا يكون لأحد عليّ منّة غيرك ، فقال يزيد : هذا - واللّه - ما أردت أفعله(2) .

الرأس المقدّس في مجلس يزيد وآهات أهل البيت عليهم السلام

قال السيد ابن طاووس رحمه الله : ثم وضع رأس الحسين عليه السلام بين يديهّ وأجلس النساء خلفهّ لئلا ينظرون إليه ! ! فرآه علي بن الحسين عليهماالسلام ، فبكى بكاءا شديدا ، فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبدا(3) .

وروي أنّ أهل البيت لمّا وقعت عيونهم على الرأس المقدّس إرتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل ، ونادوا بالويل والثبور ، وصاحوا : وا مظلوماه ، فقالت سكينة بنت الحسين عليه السلام : يا يزيد أيسرّك هذا ؟

ص: 477


1- مثير الأحزان : 99 ، اللهوف : 213 ، المنتخب : 473 ، بحار الأنوار : 131 - 132 .
2- تفسير القمي : 2/352 .
3- اللهوف : 177 .

وقال ابن نما : وأمّا زينب ، فإنّها لمّا رأت رأس أخيها عليه السلام أهوت إلى جيبها فشقّته ، ثم نادت بصوت حزين يفزع القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب قلب رسول اللّه ، يا ابن مكة ومنى ، يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا ابن بنت المصطفى .

قال الراوي : فأبكت - واللّه - كلّ من كان في المجلس ، ويزيد عليه لعائن اللّه ساكت .

ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد - لعنه اللّه - تندب على الحسين عليه السلام وتنادي : يا حبيباه ، يا سيد أهل بيتاه ، يا ابن محمداه ، يا ربيع الأراملواليتامى ، يا قتيل أولاد الأدعياء ، قال الراوي : فأبكت كلّ من سمعها(1) .

يزيد لعنه اللّه يقرع الرأس المقدّس وأبو برزة الأسلمي يعترض

ثم دعا يزيد - عليه اللعنة - بقضيب خيزرانّ فجعل ينكت به ثنايا الحسين عليه السلام ، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال : ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين عليه السلام بن فاطمة عليهاالسلام ؟ ! أشهد لقد رأيت النبي صلى الله عليه و آله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن عليهماالسلام ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنّة ، فقتل اللّه قاتلكما ولعنه ، وأعدّ له جهنم وساءت مصيرا ، فغضب يزيد ، وأمر بإخراجه ، فأخرج سحبا(2) .

خطبة السيدة الحوراء زينب الكبرى عليهاالسلام في مجلس يزيد لعنه اللّه

فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب عليهم السلام فقالت :

الحمد للّه ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على رسوله ، وآله أجمعين ، صدق اللّه سبحانه ، كذلك يقول : « ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤنَ » .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض ، وآفاق السماء ، فأصبحنا

ص: 478


1- اللهوف : 177 .
2- اللهوف : 177 .

نساق كما تساق الأسراء ، إنّ بنا هوانا عليه ، وبك عليه كرامة ؟ وإنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسرورا ، حيث رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول اللّه تعالى « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ » .أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك وإمائك ، وسوقك بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله سبايا ؟ ! قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي .

وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنئان ، والإحن والأضغان ؟ ثم تقول غير متأثّم ، ولا مستعظم :

لأهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منتحيا على ثنايا أبي عبد اللّه ، سيد شباب أهل الجنّة ، تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشافة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه و آله ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، وتهتف بأشياخك ! زعمت أنّك تناديهم ، فلتردنّ وشيكا موردهم ، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت .

اللّهم خذ لنا بحقّنا ، وانتقم من ظالمنا ، وأحلل غضبك بمن سفك دمائنا ، وقتل حماتنا .

فواللّه ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث

ص: 479

يجمع اللّه شملهم ، ويلّم شعثهم ، ويأخذ بحقّهم ، « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » ، وحسبك باللّه حاكما ، وبمحمد صلى الله عليه و آلهخصيما ، وبجبرئيل ظهيرا ، وسيعلم من سوّل لك ، ومكّنك من رقاب المسلمين ، « بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً » ، وأيّكم « شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً » .

ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، أنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ،وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى .ألا فالعجب كلّ العجب ، لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي ، تنتابها العواسل ، وتعفّرها أمهات الفراعل ، ولئن اتخذتنا مغنما ، لتجدنا

وشيكا مغرما ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك « وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ » ، فإلى اللّه المشتكى ، وعليه المعوّل .

فكد كيدك ، وأسع سعيك ، وناصب جهدك ، فواللّه لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند ؟ وأيامك إلاّ عدد ؟ وجمعك إلاّ بدد ؟ يوم ينادي المنادي : « أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ » .

فالحمد للّه رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل(1) .

مجلس يزيد لعنه اللّه برواية الإمام الرضا عليه السلام

روى ابن بابويه بسند معتبر عن الرضا عليه السلام قال : لمّا حمل رأس الحسين إلى الشام أمر يزيد - لعنه اللّه - ، فوضع ونصب عليه مائدة ، فأقبل هو وأصحابه يأكلون

ص: 480


1- اللهوف : 182 ، لم يذكر المؤلف الخطبة كاملة ، وإنّما إختار منها أكثر مقاطعها ، فذكرناها كاملة تتميما للفائدة إن شاء اللّه .

ويشربون الفقاع .

فلمّا فرغوا أمر بالرأس ، فوضع في طست تحت سريره ، وبسط عليه رقعة الشطرنج ، وجلس يزيد - لعنه اللّه - يلعب بالشطرنج ، ويذكر الحسين وأباه وجدّه - صلوات اللّه عليهم - ، ويستهزئ بذكرهم ، فمتى قمر صاحبه تناول الفقاع ، فشربه ثلاث مرات ، ثم صبّ فضلته ممّا يلي الطست من الأرض(1) . . .فيا سماء جرت هذه الأمور على

مثل الحسين فموري بعده موري

أين الرسول وثغر كان يرشفه

تدقّه بقضيب كفّ مخمور

أين الرسول وشكوى حال عترته

ثكلى لثكلى ومأسور لمأسور

مجلس يزيد لعنه اللّه برواية أخرى

وروى الشيخ المفيد رحمه الله قال : ثم دعا بالنساء والصبيان ، فأجلسوا بين يديه ، فرأى هيئة قبيحة ! ! فقال : قبّح اللّه ابن مرجانة ، لو كانت بينكم وبينه قرابة رحم ما فعل هذا بكم ، ولا بعث بكم على هذه الصورة(2) .

وقال الشيخ فخر الدين رحمه الله : نقل عن علي بن الحسين عليهماالسلام أنّه قال : لمّا وفدنا على يزيد بن معاوية لعنه اللّه ، أتونا بحبال ، وربطونا مثل الأغنام ، وكان الحبل بعنقي وعنق أم كلثوم ، وبكتف زينب وسكينة عليهماالسلام ، وساقونا ، وكلّما قصّرنا عن المشي ضربونا حتى أوقفونا بين يدي يزيد .

فتقدّمت اليه ، وهو على سرير مملكته ، وقلت له : ما ظنّك برسول اللّه صلى الله عليه و آله لو

ص: 481


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2/22 باب 30 ، جامع الأخبار : 153 الفصل 114 ، من لا يحضره الفقيه : 4/419 ، بحار الأنوار : 45/176 باب 39 ح23 . وتتمة الحديث : . . « فمن كان من شيعتنا ، فليتورّع عن شرب الفقاع ، واللّعب بالشطرنج ، ومن نظر إلى الفقاع ، أو إلى الشطرنج ، فليذكر الحسين عليه السلام ، وليلعن يزيد وآل زياد ، يمحو اللّه - عزّ وجلّ - بذلك ذنوبه ، ولو كانت كعدد النجوم » .
2- الإرشاد : 2/120 .

يرانا على هذه الصفة ؟ فبكى اللعين ، وأمر بالحبال فقطّعت من أعناقنا وأكتافنا(1) .

كلام يزيد لعنه اللّه مع السيدة سكينة عليهاالسلام

وروي أنّ اللعين أمر بإحضار السبايا ، فأحضروا بين يديه ، فلمّا حضروا عنده جعل ينظر اليهن ، ويسأل من هذه ؟ ومن هذا ؟

فقيل : هذه أم كلثوم الكبرى ، وهذه أم كلثوم الصغرى ، وهذه صفية ، وهذه أم هانى ء ، وهذه رقيّة بنات علي ، وكانت بينهن إمرأة تستر وجهها بزندها ، لأنّها لمتكن عندها خرقة تستر وجهها .

فقال : من هذه ؟ قالوا : سكينة بنت الحسين عليهماالسلام ، فقال : أنت سكينة ؟ فبكت ، وإختنقت بعبرتها ، حتى كادت تطلع روحها ، فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : كيف لا تبكي من ليس لها سترا تستر وجهها ورأسها من عنك وعن جلسائك ؟ !

فبكى اللعين ، ثم قال : لعن اللّه ابن زياد ، ما أقوى قلبه على آل الرسول(2) !

وفي رواية أخرى : فالتفت اللعين الى سكينة وقال : يا سكينة ، أبوك الذي كفر حقّي ، وقطع رحمي ، ونازعني في ملكي ! !

فبكت سكينة ، وقالت : لا تفرح بقتل أبي ، فإنّه كان مطيعا للّه ولرسوله ، ودعاه اليه فأجابه ، وسعد بذلك ، وإنّ لك - يا يزيد - بين يدي اللّه مقاما يسألك عنه ، فاستعد للمسألة جوابا ، وأنّى لك الجواب .

كلام يزيد لعنه اللّه مع زينب الحوراء عليهاالسلام

وروى صاحب المنتخب قال : لمّا دعا اللعين يزيد بسبي الحسين عليه السلام ، وعرضوا عليه ، قالت له زينب بنت علي عليهماالسلام : يا يزيد ، أما تخاف اللّه سبحانه من قتل الحسين عليه السلام ؟ وما كفاك حتى تستحث حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله من العراق الى الشام ؟

ص: 482


1- المنتخب : 2/473 .
2- المنتخب : 2/473 .

وما كفاك انتهاك حرمتهن حتى تسوقنا اليك كما تساق الإماء على المطايا بغير وطاء من بلد الى بلد ؟

فقال لها لعنه اللّه : إنّ أخاك الحسين قال : أنا خير من يزيد ، وأبي خير من أبيه ، وأمّي خير من أمّه ، وجدّي خير من جدّه ، فقد صدق في بعض ، وألحن في بعض ، أمّا جدّه رسول اللّه فهو خير البرية ، وأمّا أنّ أمّه خير من أمّي ، وأباه خير من أبي ، كيف ذلك وقد حاكم أبوه أبي ؟ ثم قرأ : « قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلىكُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .

فقالت زينب عليهاالسلام : « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » .

ثم قالت : يا يزيد ، ما قتل الحسين غيرك ، ولولاك لكان ابن مرجانة أقلّ وأذلّ ، أما خشيت من اللّه بقتله ؟ وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيه وفي أخيه : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، فإن قلت : لا ! فقد كذبت ، وإن قلت : نعم ، فقد خصمت نفسك ، فقال يزيد : « ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ » ، وبقي خجلانا(1) .

شامي يستوهب فاطمة من يزيد لعنه اللّه

روى الشيخ المفيد رحمه الله عن فاطمة بنت الحسين عليهماالسلام قالت : فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا ، فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر ، فقال : يا أمير المؤنين ، هب لي هذه الجارية ، يعنيني ، وكنت جارية وضيئة ، - ولا يخفى أنّها عليهاالسلام كانت مثالاً في الحسن والجمال ، ولم يأتي الزمان بمثلها حسنا وجمالاً ، كما يستفاد من بعض الروايات والأخبار - ، فأرعدّت ، وظننت أنّ ذلك جائز لهم ، فأخذت بثياب عمّتي

ص: 483


1- المنتخب : 2/479 .

زينب ، وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون .

وروي أنّها تعلّقت بثياب أختي ، وكانت أكبر منّي ، فقلت : أُوتمت واستخدم ؟ !

فقالت عمتي للشامي : كذبت - واللّه - ولؤت ، واللّه ما ذلك لك ولا له .

فغضب يزيد وقال : كذبت ، إنّ ذلك لي ، ولو شئت أن أفعل لفعلت ! قالت : كلا - واللّه - ، ما جعل اللّه لك ذلك ، إلاّ أن تخرج من ملّتنا ، وتدين بغيرها .

فاستطار يزيد غضبا ، وقال : إياي تستقبلين بهذا ، إنّما خرج من الدين أبوكوأخوك(1) ! قالت زينب : بدين اللّه ، ودين أبي ، ودين أخي ، اهتديت أنت وجدّك وأبوك ، إن كنت مسلما ، قال : كذبت يا عدوّة اللّه ! ! ! قالت له : أنت أمير ، تشتم ظالما ، وتقهر بسلطانك . فكأنّه استحيا(2) وسكت .

فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية ! فقال له يزيد : اغرب ، وهب اللّه لك حتفا قاضيا(3) .

وقال السيد ابن طاووس : فقال الشامي : من هذه الجارية ؟ فقال يزيد : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فقال الشامي : الحسين بن فاطمة عليهماالسلام ، وعلي بن أبي طالب عليهماالسلام ؟ قال : نعم ، فقال الشامي : لعنك اللّه يا يزيد ، أتقتل عترة نبيك ، وتسبى ذريّته ، واللّه ، ما توهّمت إلاّ أنّهم سبي الروم ، فقال يزيد : واللّه ، لألحقنّك بهم ، ثم أمر به ، فضربت عنقه(4) .

وروى الشيخ المفيد رحمه الله : لمّا كرر الشامي طلبه ، قالت أم كلثوم للشامي : اسكت يا لكع الرجال ، قطع اللّه لسانك ، وأعمى عينيك ، وأيبس يديك ، وجعل النار مثواك ، إنّ أولاد الأنبياء لا يكونون خدمة لأولاد الأدعياء .

ص: 484


1- لم يذكر المؤلف هذه العبارة وإنّما كنّى عنها كناية .
2- لا واللّه لم يستح المجرم اللئيم الوقح ، وإنّما أفحم وألجم .
3- الإرشاد : 2/120 .
4- اللهوف : 186 .

قال : فواللّه ما استتم كلامها حتى أجاب اللّه دعاءها في ذلك الرجل ، فقالت : الحمد للّه الذي عجّل لك العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، فهذا جزاء من يتعرّض لحرم رسول اللّه (1) صلى الله عليه و آله .

إعتراض النصراني على يزيد لعنه اللّه

روى الشيخ فخرالدين رحمه الله عن بعض الثقاة: أنّ نصرانيا أتى رسولاً من ملك الرومإلى يزيد - لعنه اللّه تعالى - ، وقد حضر في مجلسه الذي أتي إليه فيه برأس الحسين ، فلمّا رأى النصراني رأس الحسين عليه السلام بكى، وصاح وناح، حتى ابتلت لحيته بالدموع.

ثم قال : اعلم - يا يزيد - إنّي دخلت المدينة تاجرا في أيام حياة النبي ، وقد أردت أن آتيه بهدية ، فسألت من أصحابه : أيّ شيء أحبّ إليه من الهدايا ؟ فقالوا : الطيب أحبّ إليه من كلّ شيء ، وإنّ له رغبة فيه .

قال : فحملت من المسك فأرتين ، وقدرا من العنبر الأشهب ، وجئت بها إليه ، وهو يومئذ في بيت زوجته أم سلمة - رضي اللّه عنها - ، فلمّا شاهدت جماله ازداد لعيني من لقائه نورا ساطعا ، وزادني منه سرور ، وقد تعلّق قلبي بمحبّته ، فسلّمت عليه ، ووضعت العطر بين يديه ، فقال : ما هذا ؟ قلت : هدية محقّرة ، أتيت بها إلى حضرتك ، فقال لي : ما اسمك ؟ فقلت : اسمي عبد الشمس ، فقال لي : بدّل اسمك ، فإنّي أسمّيك عبد الوهاب ، إن قبلت منّي الإسلام قبلت منك الهدية .

قال : فنظرته وتأمّلته ، فعلمت أنّه نبي ، وهو النبي الذي أخبرنا عنه عيسى عليه السلام ، حيث قال : إنّي مبشّر لكم « بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » ، فاعتقدت ذلك ، وأسلمت على يده في تلك الساعة ، ورجعت إلى الروم ، وأنا أخفي الإسلام ، ولي مدّة من السنين وأنا مسلم ، مع خمس من البنين ، وأربع من البنات ، وأنا اليوم وزير

ص: 485


1- الإرشاد : 2/121 ، المنتخب : 2/472 ، بحار الأنوار : 45/137 .

ملك الروم ، وليس لأحد من النصارى اطلاع على حالنا .

واعلم - يا يزيد - إنّي يوم كنت في حضرة النبي صلى الله عليه و آله ، وهو في بيت أم سلمة ، رأيت هذا العزيز الذي رأسه وضع بين يديك مهينا حقيرا ، قد دخل على جدّه من باب الحجرة ، والنبي فاتح باعه ليتناوله ، وهو يقول : مرحبا بك يا حبيبي ، حتى أنّه تناوله ، وأجلسه في حجره ، وجعل يقبّل شفتيه ، ويرشف ثناياه ، وهو يقول : بعد عن رحمة اللّه من قتلك ، لعن اللّه من قتلك ، يا حسين ، وأعان على قتلك ، والنبي صلى الله عليه و آله مع ذلك يبكي .

فلمّا كان اليوم الثاني كنت مع النبي في مسجده إذ أتاه الحسين مع أخيه الحسن عليهماالسلام وقال : يا جدّاه قد تصارعت مع أخي الحسن ، ولم يغلب أحدنا الآخر ، وإنّما نريد أن نعلم أيّنا أشدّ قوّة من الآخر ؟ فقال لهما النبي : حبيبيّ ، يا مهجتي ، إنّ التصارع لا يليق بكما ، ولكن اذهبا فتكاتبا ، فمن كان خطّه أحسن كذلك تكون قوته أكثر .

قال : فمضيا ، وكتب كلّ واحد منهما سطرا ، وأتيا إلى جدّهما النبي ، فأعطياه اللوح ليقضي بينهما ، فنظر النبي إليهما ساعة ، ولم يرد أن يكسر قلب أحدهما ، فقال لهما : يا حبيبيّ ، إنّي نبي أمّي ، لا أعرف الخطّ ، اذهبا إلى أبيكما ليحكم بينكما ، وينظر أيّكما أحسن خطّا .

قال : فمضيا إليه ، وقام النبي أيضا معهما ، ودخلوا جميعا إلى منزل فاطمة عليهاالسلام ، فما كان إلاّ ساعة ، وإذا النبي مقبل ، وسلمان الفارسي معه ، وكان بيني وبين سلمان صداقة ومودّة ، فسألته : كيف حكم أبوهما ؟ وخطّ أيّهما أحسن ؟ قال سلمان رضوان اللّه عليه : إنّ النبي لم يجبهما بشيء ، لأنّه تأمّل أمرهما ، وقال : لو قلت : خطّ الحسن أحسن كان يغتمّ الحسين ، ولو قلت : خطّ الحسين أحسن كان يغتمّ

ص: 486

الحسن ، فوجههما إلى أبيهما ، فقلت : يا سلمان ، بحقّ الصداقة والأخوة التي بيني وبينك ، وبحقّ دين الإسلام ، إلاّ ما أخبرتني كيف حكم أبوهما بينهما ؟ فقال : لمّا أتيا إلى أبيهما ، وتأمّل حالهما رقّ لهما ، ولم يرد أن يكسر قلب أحدهما ، قال لهما : امضيا إلى أمّكما ، فهي تحكم بينكما .

فأتيا إلى أمّهما ، وعرضا عليها ما كتبا في اللوح ، وقالا : يا أمّاه ، إنّ جدّنا أمرنا أن نتكاتب ، فكلّ من كان خطّه أحسن تكون قوّته أكثر ، فتكاتبنا وجئنا إليه ، فوجهنا إلى أبينا ، فلم يحكم بيننا ، ووجهنا إليك ، فتفكّرت فاطمة بأنّ جدّهما وأباهما ما أرادا كسر خاطرهما ، أنا ماذا أصنع ؟ وكيف أحكم بينهما ؟ فقالت لهما :يا قرّتي عيني ، إنّي أقطع قلادتي على رأسكما ، فأيّكما يلتقط من لؤؤا أكثر كان خطّه أحسن ، وتكون قوّته أكثر .

قال : وكان في قلادتها سبع لؤؤت ، ثم إنّها قامت ، فقطعت قلادتها على رأسهما ، فالتقط الحسن ثلاث لؤؤت ، والتقط الحسين ثلاث لؤؤت ، وبقيت الأخرى ، فأراد كلّ منهما تناولها ، فأمر اللّه - تعالى - جبرئيل بنزوله إلى الأرض ،

وأن يضرب بجناحه تلك اللؤؤة ، ويقدّها نصفين ، فأخذ كلّ منهما نصفا .

فانظر - يا يزيد - كيف رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يدخل على أحدهما ألم ترجيح الكتابة ، ولم يرد كسر قلبهما ، وكذلك أمير المؤنين وفاطمة عليهماالسلام ، وكذلك ربّ العزّة لم يرد كسر قلب أحدهما ، بل أمر من قسم اللؤؤة بينهما لجبر قلبهما ، وأنت هكذا تفعل بابن بنت رسول اللّه ؟ ! أفّ لك ولدينك يا يزيد .

ثم إنّ النصراني نهض إلى رأس الحسين عليه السلام ، واحتضنه وجعل يقبّله ، وهو يبكي ويقول : يا حسين ، اشهد لي عند جدّك محمد المصطفى ، وعند أبيك علي المرتضى ، وعند أمّك فاطمة الزهراء ، صلوات اللّه عليهم أجمعين(1) .

ص: 487


1- المنتخب : 1/63 ، بحار الأنوار : 45/189 ح36 .

حبس أهل البيت عليهم السلام في خرابة الشام

وفي اليوم الأخير أمر الملعون يزيد أن يحبسوا أهل البيت عليهم السلام ، وأمر بالرأس المقدّس المطهّر أن يصلب على باب المسجد الجامع ، ليراه كلّ من يروح ويغدو .

وروى الصدوق في الأمالي بسنده عن فاطمة بنت علي عليهماالسلام قالت : ثم إنّ يزيد - لعنه اللّه - أمر بنساء الحسين ، فحبس مع علي بن الحسين عليهماالسلام في محبس ، لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ ، حتى تقشّرت وجوههم .

ولم يرفع ببيت المقدس حجر على وجه الأرض إلاّ وجد تحته دم عبيط ، وأبصرالناس الشمس على الحيطان حمراء ، كأنّها الملاحف المعصفرة ، إلى أن خرج علي بن الحسين بالنسوة ، وردّ رأس الحسين عليه السلام إلى كربلاء عليهم السلام(1) .

صلب الرأس المقدّس على باب دار يزيد لعنه اللّه وخروج هند زوجة يزيد الى المجلس العام

وقال صاحب المناقب : أنّ يزيد - لعنه اللّه - أمر بأن يصلب الرأس على باب داره ، وأمر بأهل بيت الحسين عليه السلام أن يدخلوا داره ، فخرجت هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز امرأة يزيد - وكانت قبل ذلك تحت الحسين عليه السلام - حتى شقّت الستر ، وهي حاسرة ، فوثبت إلى يزيد ، وهو في مجلس عام ، فقالت : يا يزيد ، أرأس ابن فاطمة بنت رسول اللّه مصلوب على فناء بابي ، فوثب إليها يزيد ، فغطاها وقال : نعم ، فاعولي عليه ! يا هند ، وأبكي على ابن بنت رسول اللّه ! وصريخة قريش ! عجّل عليه ابن زياد - لعنه اللّه - فقتله ، قتله اللّه (2) ! !

الرأس المقدّس والأنبياء عليهم السلام

ص: 488


1- أمالي الصدوق : 231 ح243 ، بحار الأنوار : 45/140 .
2- بحار الأنوار : 45/142 باب 39 .

روى القطب الراوندي عن الأعمش حديثا طويلاً فيه : . . وأمر بالرأس ، فأدخل القبّة التي بإزاء المجلس الذي يشرب فيه .

قال الرجل : ووكّلنا بالرأس - وكنّا أربعين رجلاً - ، وكان في قلبي ما رأيت من هذا الرأس من العجائب ، فلم يحملني النوم في تلك القبّة ، فلمّا دخل الليل ، فلمّا مضى وهن من الليل سمعت دويّا من السماء ، وإذا مناديا ينادي : يا آدم اهبط ، فهبط أبو البشر ، ومعه خلق كثير من الملائكة ، ثم سمعت دويّا كالأول ، فإذا مناد ينادي :

يا إبراهيم اهبط ، فهبط ، ومعه كثير من الملائكة ، ثم سمعت مناديا ينادي : اهبط ياموسى ، فهبط مع ملائكة ، وسمعت مناديا ينادي : يا عيسى اهبط ، فهبط ، ومعه ملائكة ، ثم سمعت دويّا عظيما ، ومناد ينادي : يا محمد اهبط ، فهبط ، ومعه خلق كثير من الملائكة ، فأحدقت الملائكة بالقبة . . ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله دخل القبّة فأخذ الرأس منها .

وفي رواية : قعد محمد صلى الله عليه و آله - لما أصابه من هول المصيبة - تحت الرأس ، فانحنى الرمح ، ووقع الرأس في حجره ، فأخذه وجاء به إلى آدم عليه السلام ، فقال : يا أبي ، يا آدم ، ما ترى ما فعلت أمّتي بولدي من بعدي ؟

وفي رواية القطب الراوندي : فأقبل صلى الله عليه و آله يسعى حتى انكب على ثنايا الحسين يقبّلهما ، وهو يقول : يا ولدي قتلوك ؟ أتراهم ما عرفوك ؟ ومن شرب الماء منعوك(1) ؟ ومن قفاك ذبحوك ؟ .

قال الرجل : فاقشعر لذلك جلدي ، ثم قام جبرئيل ، فقال : يا محمد ، أنا صاحب الزلازل ، فأمرني لأزلزل بهم الأرض ، وأصيح بهم صيحة يهلكون فيها ، فقال : لا ، قال : يا محمد ، دعني وهؤاء الأربعين الموكّلين بالرأس ، قال : فدونك ، فجعل ينفخ

ص: 489


1- بحار الأنوار : 45/195 باب 39 .

بواحد واحد فيهلك ، فدنا منّي وقال : أتسمع وترى ؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله : دعوه دعوه ، لا يغفر اللّه له(1) ، فتركني ، وأخذوا الرأس وولوا ، فافتقد الرأس من تلك الليلة ، فما عرف له خبر(2) .

أجل ، أخذوه معهم ليزوره أهل السماوات ، ويكون مصباحا في محافل عزاء الكروبيين ، ومآتم الروحانيين ، لينظروا كيف قطعوا رأس زين السماوات ، وحملوهعلى الرمح ، وصلبوه على باب دار يزيد الداعر .

فإذا كان قد صلبه يزيد - اللعين - على باب داره ليراه المتردّدون ، فيفرحون ويشمتون ، ولسلطان يزيد يعظّمون ، فإنّ أهل السماوات أخذوه ليزوروه ، وينظروا اليه ويبكوه ، وينادون : وا حسيناه ، وا مظلوماه ، وا ذبيحاه .

فيا عزيزي ، لو أنّ أهل الشام عيّدوا ولبسوا الجديد لقتل فلذّة كبد الزهراء البتول سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، فإنّ الكروبيين لبسوا عليه ثياب المصيبة ، وندبوه وصرخوا : وا ويلاه ، وا مصيبتاه .

ولنعم ما قال الشاعر :

وأُقيم عيد في الشآم كما أقا

مت في السماء له الملائك مأتما

اللّه أكبر يا له من حادث

أمسى له الأفق المنوّر مظلما

اللّه أكبر يا له من حادث

أبكى المشاعر والمقام وزمزما

بأبي الدماء السائلات وأرؤسا

في العاسلات تضاهي الأنجما

بأبي البطون الطاويات من الطوى

بأبي الشفاه الذابلات من الظما

بأبي الوجوه الحائلات من الجفا

بأبي العيون الساهرات السهما

ص: 490


1- الخرائج والجرائح :2/581 .
2- بحار الأنوار : 45/186 باب 39 .

إعتراض سفير الروم في مجلس يزيد لعنه اللّه

اعلم ، أنّ المستفاد من تضاعيف الأخبار ، أنّ يزيد - لعنه اللّه - أحضر أهل البيت في مجلسه عدّة مرات طيلة فترة وجودهم في الشام ، وكان يحضر معهم الرأس المقدّس الس مجلسه المشؤوم ، ولم يتبرد حزازات غيظه المنحوس بالمرّة والمرتين .

روي عن زين العابدين عليه السلام : أنّه لمّا أتي برأس الحسين إلى يزيد كان يتخذ مجالس الشراب ، ويأتي برأس الحسين ، ويضعه بين يديه ، ويشرب عليه ، فحضرفي مجلسه ذات يوم رسول ملك الروم ، وكان من أشراف الروم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب ، هذا رأس من ؟ فقال له يزيد : ما لك ولهذا الرأس ؟ فقال : إنّي إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته ، فأحببت أن أخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه ، حتى يشاركك في الفرح والسرور ، فقال له يزيد : هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، فقال الرومي : ومن أمّه ؟ فقال : فاطمة بنت رسول اللّه .

فقال النصراني : أفّ لك ولدينك ، لي دين أحسن من دينك ، إنّ أبي من حوافد داود عليه السلام ، وبيني وبينه آباء كثيرة ، والنصارى يعظموني ، ويأخذون من تراب قدمي ، تبرّكا بأبي من حوافد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول اللّه ، وما بينه وبين نبيكم إلاّ أم واحدة ؟ فأيّ دين دينكم ؟

ثم قال ليزيد : هل سمعت حديث كنيسة الحافر ؟ فقال له : قل حتى أسمع ، فقال : بين عمان والصين بحر مسيرة سنة ، ليس فيها عمران إلاّ بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخا في ثمانين ، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود والعنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة ، أعظمها كنيسة الحافر ، في محرابها حقّة ذهب ، معلّقة فيها حافر ، يقولون : إنّ هذا حافر حمار كان

ص: 491

يركبه عيسى ، وقد زيّنوا حول الحقّة بالذهب والديباج ، يقصدها في كلّ عام عالم من النصارى ، ويطوفون حولها ويقبّلونها ، ويرفعون حوائجهم إلى اللّه تعالى ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار ، يزعمون أنّه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم ؟ فلا بارك اللّه تعالى فيكم ، ولا في دينكم .

فقال يزيد : اقتلوا هذا النصراني ، لئلا يفضحني في بلاده ، فلمّا أحسّ النصراني بذلك ، قال له : تريد أن تقتلني ؟ قال : نعم ، قال : اعلم ، أنّي رأيت البارحة نبيّكم فيالمنام يقول لي : يا نصراني ، أنت من أهل الجنّة ، فتعجّبت من كلامه ، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمدا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم وثب إلى رأس الحسين ، فضمّه إلى صدره ، وجعل يقبّله ويبكي حتى قتل(1) .

ولنعم ما قال الشاعر :

يرحّب قوم حافرا زعم أنّه

لمركوب بعض الأنبياء الذي مضى

ويقتل قوم ابن بنت نبيه

تأمّل بانصاف ترى منتهى الشقا

كلام رأس الجالوت

وقال السيد ابن طاووس : وروى ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال : لقيني رأس الجالوت ، فقال : واللّه إنّ بيني وبين داود لسبعين أبا ، وإنّ اليهود

تلقاني فتعظّمني ، وأنتم ليس بينكم وبين ابن نبيكم إلاّ أب واحد قتلتموه ؟ !(2) .

فيا صاح أجزع من يزيد وجوره

وبغي أهالي الضيم والبغي والردى

ألمّوا بأمر ليس يعهد مثل

وهمّوا بنكر سيئه لم يكن يرى

إي واللّه لقد ألمّوا بأمر لم يعهد مثله أبدا ، ولم يسمع بمثله أبدا ، فيا عزيزي ، من ذا سمع من قبل أنّ رأس ابن بنت نبي يحمل الى مجلس « ما بارح اللهو والخمرا » ،

ص: 492


1- اللهوف : 190 ، بحار الأنوار : 45/141 باب 39 .
2- اللهوف : 188 ، بحار الأنوار : 45/141 باب 39 .

وتضرب ثناياه بالعود ، ويسبى أهل بيته ويحبسون ويعرضون على الخاص والعام ؟ !

لا غرو إن ناحت عليه سماؤها

أو ضجّت الأملاك في أقطارها

أو مادت الأرضون بعد قرارها

أو ناحت الأطيار في الأوكار

إعتراض الإمام السجاد عليه السلام على خطيب يزيد اللعين

قال السيد ابن طاووس وصاحب المناقب وغيرهم - والألفاظ متقاربة - : ودعايزيد الخاطب ، وأمره أن يصعد المنبر فيذمّ الحسين وأباه - صلوات اللّه عليهما - ،فصعد وبالغ في ذمّ أمير المؤنين والحسين الشهيد - صلوات اللّه عليهما - ، والمدح لمعاوية ويزيد ، فصاح به علي بن الحسين عليهماالسلام : ويلك أيّها الخاطب ، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوأ مقعدك من النار .

ولقد أحسن ابن سنان الخفاجي في وصف أمير المؤنين عليه السلام بقوله :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نصبت لكم أعوادها

ثم قال علي بن الحسين عليهماالسلام : يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد ، فأتكلّم بكلمات للّه فيهن رضا ، ولهؤاء الجلساء فيهن أجر وثواب ، فأبى يزيد عليه ذلك ، فقال الناس : يا أمير المؤنين ، ائذن له فليصعد المنبر ، فلعلّنا نسمع منه شيئا ، فقال : إنّه إن صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان ، فقيل له : يا أمير المؤنين ، وما قدر ما يحسن هذا ؟ ! فقال : إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّا .

خطبة السجاد عليه السلام في مجلس يزيد

فلم يزالوا به حتى أذن له ، فصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب .

ثم قال : أيّها الناس ، أعطينا ستا ، وفضّلنا بسبع : أعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبّة في قلوب المؤنين ، وفضّلنا بأنّ منّا

ص: 493

النبي المختار محمدا ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد اللّه وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمّة ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي .

أيّها الناس ، أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن منبلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من « دَنا فَتَدَلّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى » ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى .

أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلاّ اللّه ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر باللّه طرفة عين ،

أنا ابن صالح المؤنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكاءين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، رسول ربّ العالمين .

أنا ابن المؤد بجبرئيل ، والمنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب للّه ولرسوله من المؤنين ، وأول السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي اللّه على المنافقين ،

ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين اللّه ، وولّي أمر اللّه ، وبستان حكمة اللّه ، وعيبة علمه ، سمح ، سخي ، بهي ، بهلول ، زكي ، أبطحي ، رضي ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم عنانا ، وأثبتهم

ص: 494

جنانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة ، وقربت الأعنة طحن الرحى ، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وكبش العراق ، مكي مدني ، خيفي عقبي ، بدري أحدي ، شجري مهاجري ، من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب .

ثم قال : أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أناابن المقتلول ظلما ، أاا ابن محزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن طريح كربلا ، أنا ابن مسلوب العمامة والردا ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السما ، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهوا ، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى .

أيّها الناس ، إنّ اللّه - تعالى وله الحمد - ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا ، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا . .

فزع يزيد من خطبة السجاد عليه السلام

فلم يزل يقول : أنا أنا ، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد - لعنه اللّه - أن يكون فتنة ، فأمر المؤن ، فقطع عليه الكلام .

فلمّا قال المؤن : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، قال علي عليه السلام : لا شيء أكبر من اللّه ، فلمّا

قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، قال علي بن الحسين عليهماالسلام : شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي .

فلمّا قال المؤن : أشهد أنّ محمدا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، التفت من فوق المنبر إلى يزيد ، فقال : محمد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد ؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنّه جدّي ، فلم قتلت عترته ؟ ولم قتلت أبي ، وسبيت حرمه ، وسبيتني ؟

ص: 495

ثم قال : معاشر الناس ، هل فيكم من أبوه وجدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فعلت الأصوات بالبكاء(1) .

كلام الإمام السجاد عليه السلام مع المنهال

فقام إليه رجل من شيعته يقال له « المنهال بن عمرو الطائي(2) » - وفي رواية :مكحول صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله - ، فقال له : كيف أمسيت يا ابن رسول اللّه ؟ فقال : ويحك ، كيف أمسيت ؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمدا منها ، وأمسى آل محمد مقهورين مخذولين ، فإلى اللّه نشكو كثرة عدوّنا ، وتفرّق ذات بيننا ، وتظاهر الأعداء علينا(3) .

إعتراض حبر من أحبار اليهود في مجلس يزيد لعنه اللّه

وروي أنّه كان في مجلس يزيد هذا حبر من أحبار اليهود ، فقال : من هذا الغلام يا أمير المؤنين ؟ قال : هو علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : فمن الحسين ؟ قال : ابن علي بن أبي طالب ، قال : فمن أمّه ؟ قال : أمّه فاطمة بنت محمد ، فقال الحبر : يا سبحان اللّه ! فهذا بن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة ؟ ! بئسما خلّفتموه في ذريّته ، واللّه لو ترك فينا موسى بن عمران سبطا من صلبه لظننا أنا كنّا نعبده من دون ربّنا ، وأنتم إنّما فارقكم نبيكم بالأمس ، فوثبتم على ابنه فقتلتموه ، سوأة لكم من أمّة .

قال : فأمر به يزيد - لعنه اللّه - فوجئ في حلقه ثلاثا ، فقام الحبر وهو يقول : إن شئتم فاضربوني ، وإن شئتم فاقتلوني ، أو فذروني ، فإنّي أجد في التوراة أنّ من قتل

ص: 496


1- المناقب : 4/168 ، بحار الأنوار : 45/137 باب 39 .
2- في المتن : « الطائفي » .
3- اللهوف : 222 ، المناقب : 4/412 ، بحار الأنوار : 45/137 .

ذريّة نبي لا يزال ملعونا أبدا ما بقي ، فإذا مات يصليه اللّه نار جهنّم(1) .

وروي أنّ الإمام السجاد عليه السلام نزل عن المنبر ، ولم يصلّ معهم وقال : لا حاجة لي بالصلاة معكم(2) .

رؤيا سكينة المظلومة عليهاالسلام في شام المحنة والبلاء

روى السيد ابن طاووس وابن نما وغيرهما قصة رؤيا سكينة عليهاالسلام بألفاظ مختلفة ومعاني متقاربة ، فقالوا :

أنّ سكينة بنت الحسين عليهماالسلام قالت : يا يزيد ، رأيت البارحة رؤا ، إن سمعتها منّي قصصتها عليك .

وكان دخول أهل البيت الى الشام برواية السيد ابن طاووس يوم الأربعاء .

فقال يزيد : هاتي ما رأيتي .

قالت : بينما أنا ساهرة ، وقد كللت من البكاء بعد أن صلّيت ودعوت اللّه بدعوات ، فلمّا رقدت عيني رأيت أبواب السماء قد تفتّحت ، وإذا أنا بنور ساطع من السماء إلى الأرض ، وإذا أنا بوصائف من وصائف الجنّة ، وإذا أنا بروضة خضراء ، وفي تلك الروضة قصر ، وإذا أنا بخمس مشايخ يدخلون إلى ذلك القصر ، وعندهم وصيف ، فقلت : يا وصيف ، أخبرني لمن هذا القصر ؟ فقال : هذا لأبيك الحسين ، أعطاه اللّه تعالى ثوابا لصبره .

فقلت : ومن هذه المشايخ ؟ فقال : أمّا الأول : فآدم أبو البشر ، وأمّا الثاني : فنوح

نبي اللّه ، وأمّا الثالث : فإبراهيم خليل الرحمن ، وأمّا الرابع : فموسى الكليم .

فقلت له : ومن الخامس الذي أراه قابضا على لحيته باكيا حزينا من بينهم ؟

ص: 497


1- المنتخب : 2/481 ، بحار الأنوار : 45/140 .
2- في المقتل لأبي مخنف : 144 : « فَلَمْ يَرُدُ - أي يزيد - عَلَيْهِ - أي على الإمام السجاد عليه السلام - جَوابا ، وَدَخَلَ دارَهُ ، وَقالَ : لا حاجَةَ لي بِالصَّلوةِ » .

فقال لي : يا سكينة ، أما تعرفه ؟ فقلت : لا ، فقال : هذا جدّك رسول اللّه .

فقلت له : إلى أين يريدون ؟ فقال : إلى أبيك الحسين ، فقلت : واللّه لألحقن جدّي وأخبرنه بما جرى علينا ، فسبقني ولم ألحقه .

فبينما أنا متفكّرة ، وإذا بجدّي علي بن أبي طالب ، وبيده سيفه ، وهو واقف ، فناديته : يا جدّاه ، قتل - واللّه - ابنك من بعدك ، فبكى ، وضمّني إلى صدره ، وقال :يا بنيّة صبرا ، واللّه المستعان ، ثم إنّه مضى ، ولم أعلم إلى أين ؟ فبقيت متعجبة كيف لم أعلم به ؟

فبينما أنا كذلك ، إذا بباب قد فتح من السماء ، وإذا بالملائكة يصعدون وينزلون على رأس أبي .

وفي رواية أخرى : أنّ سكينة قالت : ثم أقبل عليّ رجل درّيّ اللون ، قمري الوجه ، حزين القلب ، فقلت للوصيف : من هذا ؟ فقال : جدّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فدنوت منه ، وقلت له : يا جدّاه ، قتلت - واللّه - رجالنا ، وسفكت - واللّه - دماؤا ، وهتكت - واللّه - حريمنا ، وحملنا على الأقتاب من غير وطاء ، نساق إلى يزيد ، فأخذني إليه ، وضمّني إلى صدره ، ثم أقبل على آدم ونوح وإبراهيم وموسى ، ثم قال لهم : ما ترون إلى ما صنعت أمّتي بولدي من بعدي ؟ ثم قال الوصيف : يا سكينة ، اخفضي صوتك ، فقد أبكيتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

ثم أخذ الوصيف بيدي ، فأدخلني القصر ، وإذا بخمس نسوة قد عظم اللّه خلقتهن ، وزاد في نورهن ، وبينهنّ امرأة عظيمة الخلقة ، ناشرة شعرها ، وعليها ثياب سود ، وبيدها قميص مضمّخ بالدم ، وإذا قامت يقمن معها ، وإذا جلست يجلسن معها ، فقلت للوصيف : ما هؤاء النسوة اللاتي قد عظم اللّه خلقتهن ؟ فقال : يا سكينة ، هذه حواء أم البشر ، وهذه مريم ابنة عمران ، وهذه خديجة بنت خويلد ، وهذه هاجر ، وهذه سارة ، وهذه التي بيدها القميص المضمّخ ، وإذا قامت يقمن معها ، وإذا جلست يجلسن معها ، هي جدّتك فاطمة الزهراء .

ص: 498

فدنوت منها ، وقلت لها : يا جدّتاه ، قتل - واللّه - أبي ، وأوتمت على صغر سنّي ، يا أمّاه ، جحدوا - واللّه - حقّنا ، يا أمّاه ، بدّدوا - واللّه - شملنا ، يا أمّاه ، استباحوا - واللّه - حريمنا ، يا أمّاه ، واللّه قتلوا الحسين أبانا ، فضمّتني إلى صدرها ، وبكت شديدا ، وبكين النساء كلّهن ، وقلن لها: يا فاطمة يحكم اللّه بينك وبين يزيد يوم فصل القضاء.

ثم قالت لي : كفي يا سكينة ، فقد أحرقت كبدي ، وقطّعت نياط قلبي ، يا سكينة ،وهذا قميص أبيك الحسين معي لا أفارقه حتى ألقى اللّه وأشكو اليه .

ثم إنّ يزيد تركها ولم يعبأ بقولها ، وروي أنّه لمّا سمع يزيد ذلك لطم على وجهه النحس ، وبكى وقال : ما لي ولقتل الحسين(1) ؟ .

رؤيا هند زوجة يزيد لعنه اللّه

ونقل عن هند زوجة يزيد قالت : كنت أخذت مضجعي ، فرأيت بابا من السماء وقد فتحت ، والملائكة ينزلون كتائب كتائب إلى رأس الحسين ، وهم يقولون : السلام عليك يا أبا عبد اللّه ، السلام عليك يا ابن رسول اللّه .

فبينما أنا كذلك ، إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء ، وفيها رجال كثيرون ، وفيهم رجل درّيّ اللون ، قمري الوجه ، فأقبل يسعى حتى انكب على ثنايا الحسين يقبّلهما ، وهو يقول : يا ولدي قتلوك ؟ أتراهم ما عرفوك ؟ ومن شرب الماء منعوك ؟ يا ولدي أنا جدّك رسول اللّه ، وهذا أبوك علي المرتضى ، وهذا أخوك الحسن ، وهذا عمّك جعفر ، وهذا عقيل ، وهذان حمزة والعباس ، ثم جعل يعدّد أهل بيته واحدا بعد واحد .

قالت هند : فانتبهت من نومي فزعة مرعوبة ، وإذا بنور قد انتشر على رأس الحسين ، فجعلت أطلب يزيد ، وهو قد دخل إلى بيت مظلم ، وقد دار وجهه إلى

ص: 499


1- المنتخب : 2/479 ، بحار الأنوار : 45/193 ، الأنوار النعمانية : 3/254 .

الحائط ، وهو يقول : ما لي وللحسين ؟ وقد وقعت عليه الهمومات ، فقصصت عليه المنام ، وهو منكس الرأس .

فلمّا أصبح استدعى بحرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال لهن : أيّما أحبّ إليكن : المقام عندي ، أو الرجوع إلى المدينة ، ولكم الجائزة السنية ؟

أهل البيت عليهم السلام يقيمون العزاء في الشام

قالوا : نحبّ أولاً أن ننوح على الحسين ، قال : افعلوا ما بدا لكم .

ثم أخليت لهن الحجر والبيوت في دمشق ، ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلاّ ولبست السواد على الحسين ، وندبوه - على ما نقل - سبعة أيام(1) .

وروي أنّهم ما برحوا يبكون عليه صباحا ومساءا طليلة وجودهم في الشام .

وروي أنّ يزيد - لعنه اللّه - نزل عن غضبه شيئا ما ، فما كان يتغدّى ولا يتعشّى حتى يحضر علي بن الحسين(2) .

وقال أبو مخنف : وأمر بأهل بيت الحسين عليه السلام أن يدخلوا داره ، فلمّا دخلت النسوة دار يزيد لم يبق من آل معاوية ، ولا أبي سفيان أحد إلاّ استقبلهن بالبكاء والصراخ والنياحة على الحسين عليه السلام ، وألقين ما عليهن من الثياب والحلي(3) .

لهفي على بنات أمير المؤمنين عليه السلام حينما رأين بنات آل أبي سفيان في القصور مصونة ، وما عليهن من الحلي والحلل ، تذكرن سبيهن وما جرى لهن ، فبكين وأقمن المأتم ثلاثة أيام .

أيزيد ترفل في الحرير تجبّرا

وحسين في حرّ الشموس مضيّع

ص: 500


1- المنتخب : 2/482 ، بحار الأنوار : 45/196 .
2- بحار الأنوار : 45/142 باب 39 .
3- بحار الأنوار : 45/143 باب 39 .

وبنات هند في القصور تنعّمت

وبنو البتولة في البراري جوّع

مثل السبايا بل أذلّ يشقّ من-

-هنّ الخمار ويستباح البرقع

فمصفّد في قيده لا يفتدى

وكريمة تسبى وقرط تنزع

ص: 501

ص: 502

المجلس الرابع عشر: في دخول أهل البيت الى المدينة المنوّرة

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه على المصائب الفادحات ، والفوادح الجاريات ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد أشرف الكائنات ، وأزهر النجوم العاليات ، وعلى أهل بيته الشموس الضاحيات ، والبدور الضائيات .

سيّما على فرخه وشبله ، صاحب المحن الهائلات ، والفتن الحاريات ، التي لم يسمع بمثلها في القرون الخاليات ، ولم تر نحوها عين في الأيام السالفات ، صاحب الدموع الهاطلات ، والعيون الساهرات ، والبطون الضامرات ، والقلوب الصاديات ، والشفاه الذابلات ، والأفواه اليابسات ، والأكباد الطاميات ، والدماء الجاريات ، والجروح الصاهيات ، والنحور الداميات ، والأبدان الباليات ، والأجسام العاريات .

الذي أحاطته الكلاب العاويات ، والسباع الضاريات ، بالسيوف الباترات ، والسهام النافذات .

فيا ليت لفاطمة وأبيها عينا تنظر اليه ، وهو مطروح على الأرض كالوغير ، فزوّاره السهام النافذات ، وعوّاده السيوف القاطعات ، طبابه الرماح الطاعنات ، ودواؤه الدماء الجاريات ، أكفانه عشير الشافيات ، ندّابه البنات الحاسرات ، شيّاعه الأرامل البارزات ، ترضضه الخيول العاديات ، وتسفو عليه الرياحالسافيات ، وهو سليل خير البريّات ، وخليفة بارى ء الموجودات .

ص: 503

فلعنة اللّه على من أسّس هذا ، ومن بنى عليه بنيانه ، وختم ظلمه وعداوته ، لعنة متّصلة دائمة باقية ، ما دامت الأرضون والسماوات ، وأشرقت البارقات .

وبعد : قال اللّه سبحانه في كتابه العزيز :

« وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » .

* * *

حكم من قتل مظلوما

ما ورد في الآية الشريفة حكم عام ، فمن قتل مظلوما ، فقد جعل اللّه لوليّه سلطانا ، وجعله منصورا ، فإن إقتص الولي من القاتل في هذه النشأة فقد حقّق سلطانه ، وإن عجز عن ذلك فإنّه موعود بالإنتقام من القاتل في الرجعة ألبتة .

روي عن الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهماالسلام قال : لترجعن نفوس ذهبت ، وليقتصّن يوم يقوم ، ومن عذب يقتصّ بعذابه ، ومن أغيظ أغاظ بغيظه ، ومن قتل اقتصّ بقتله ، ويرد لهم أعداؤم معهم حتى يأخذوا بثأرهم ، ثم يعمرون بعدهم ثلاثين شهرا ، ثم يموتون في ليلة واحدة ، قد أدركوا ثارهم ، وشفوا أنفسهم ، ويصير عدوّهم إلى أشدّ النار عذابا ، ثم يوقفون بين يدي الجبار - عزّ وجلّ - فيؤذ لهم بحقوقهم(1) .

المنتقم للحسين عليه السلام

روى العياشي في تفسيره عن أبي جعفر عليه السلام أنّ هذه الآية نزلت في الحسين بنعلي

عليهماالسلام(2) .

ص: 504


1- بحار الأنوار : 53/44 باب 29 ح16 .
2- تفسير العياشي : 2/29 ح65 ، بحار الأنوار : 44/218 ح6 .

وفي رواية أخرى عن الباقر عليه السلام في قوله « وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » قال : هو الحسين بن علي عليهماالسلام قتل مظلوما ، ونحن أولياؤ ، والقائم منّا إذا قام طلب بثأر الحسين عليه السلام ، فيقتل حتى يقال : قد أسرف في القتل .

وقال : المقتول الحسين ، ووليّه القائم ، والإسراف في القتل أن يقتل غير قاتله ، « إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » ، فإنّه لا يذهب من الدنيا حتى ينتصر برجل من آل رسول اللّه - عليهم الصلاة والسلام - يملأ الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت جورا وظلما(1) .

وفي الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ الراوي : سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - « وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي الْحُسَيْنِ عليه السلام ، لَوْ قُتِلَ أَهْلُ الأَرْضِ بِهِ مَا كَانَ سَرَفاً(2) .

يستفاد من هذا التفسير أنّهم عليهم السلام فسّروا « فَلا يُسْرِفْ » بصيغة النفي ، فيكون حاصل المعنى : أنّنا جعلنا لوليّ المقتول سلطانا ، وهو لا يسرف في القتل مهما قتل من القوم ، لأنّ هذا الدم ليس كباقي الدماء ، بل هو دم لو أريق من أجله دماء أهل الأرض ما كان سرفا ، بل يستحقّ أن ينقلب من أجله الكون كلّه .

فناقة صالح ليست أكرم من هذا الدم ، وقد أهلك اللّه من أجلها عدّة آلاف ، ولا دم يحيى أكرم منه ، وقد قتل اللّه من أجله سبعين ألفا ، ومصيبة قوم لوط ليست أعظم من هذه المصيبة ، وقد قلب اللّه بهم الأرض ، ومعصية أصحاب شيث ليست أعظم من معصية هؤلاء القتلة ، وقد أهلك اللّه قوم شيث بمعصيتهم .

إي واللّه ، لا إسراف في القتل ، حتى لو هلك فيه أهل الأرض جميعا ، ولا ظلم في

ص: 505


1- بحار الأنوار : 44/218 باب 28 ح7 .
2- الكافي : 8/255 ح364 .

معاقبة من باشر الغدر ، سيما أنّ صاحب الأمر - صلوات اللّه عليه - يحكم بحكم الباطن ، كحكم معلّم موسى عليه السلام ، ولا يحكم بالظاهر ليكون غير المباشر غير مشارك في القصاص ، وقد ورد في الأخبار : ألا وإنّ الراضين بقتل الحسين عليه السلام شركاء قتلته ، ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم برآء من دين اللّه (1) ، وسيقوم عمّا قريب منادي الحقّ تصحبه الملائكة المقرّبون وهو ينادي : « يا لثارات الحسين » .

روى الكليني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الْبَطَلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالَى « وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ » قَالَ : قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليهماالسلام ، وَطَعْنُ الْحَسَنِ عليه السلام ، « وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً » قَالَ : قَتْلُ الْحُسَيْنِ عليه السلام ، « فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما » ، فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ دَمِ الْحُسَيْنِ عليه السلام « بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ » ، قَوْمٌ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْقَائِمِ عليه السلام ، فَلا يَدَعُونَ وَتْراً لآِلِ مُحَمَّدٍ إِلاَّ قَتَلُوهُ ، « وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً » خُرُوجُ الْقَائِمِ(2) .

وروي أنّه لمّا وقع الحسين عليه السلام وكان يستغيث فلا يغاث ضجت الملائكة إلى اللّه - عزّ وجلّ - بالبكاء والنحيب ، وقالوا : إلهنا وسيدنا ، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك ، وخيرتك من خلقك ، فأوحى اللّه - عزّ وجلّ - إليهم قرّوا ملائكتي ، فو عزّتي وجلالي ، لأنتقمن منهم ولو بعد حين .

ثم كشف اللّه - عزّ وجلّ - عن الأئمة من ولد الحسين عليهم السلام للملائكة ، فسرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يصلّي، فقال اللّه - عزّ وجلّ - : بذلك القائم أنتقم منهم(3).

ثم قال : يا ملائكتي ، أنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وأقتل بالحسين منبني أمية سبعين ألفا ، وسبعين ألفا(4) ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم .

ص: 506


1- تفسير الإمام العسكري عليه السلام : 396 .
2- الكافي : 8/206 ح250 .
3- بحار الأنوار : 45/221 باب 41 ح4 .
4- في المناقب : 4/81 : في تاريخ بغداد وخراسان والإبانة والفردوس : قال ابن عباس : أوحى اللّه تعالى إلى محمد صلى الله عليه و آله : أنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وأقتل بابن بنتك سبعين ألفا ، وسبعين ألفا .

إشارة الى أيام ظهور صاحب الأمر صلوات اللّه عليه

روى في البحار في كتاب الغيبة ، وغيره عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام حديثا مفصلاً طويل¨ عن أيام ظهور الإمام صاحب الأمر عليه السلام وأحواله ، وفيه أسئلة كثيرة يسألها المفضل والإمام يجيبه ، وفيه :

. .لم يزل - الحسني - يقتل الظلمة حتى يرد الكوفة ، وقد صفا أكثر الأرض ، فيجعلها له معقلاً ، فيتّصل به وبأصحابه خبر المهدي عليه السلام ، ويقولون : يا ابن رسول اللّه من هذا الذي قد نزل بساحتنا ؟ فيقول : اخرجوا بنا إليه حتى ننظر من هو ؟ وما

يريد ؟ وهو واللّه يعلم أنّه المهدي ، وإنّه ليعرفه ، ولم يرد بذلك الأمر إلاّ ليعرف

أصحابه من هو .

فيخرج الحسني فيقول : إن كنت مهدي آل محمد ، فأين هراوة جدّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وخاتمه ، وبردته ، ودرعه الفاضل ، وعمامته السحاب ، وفرسه اليربوع ، وناقته العضباء ، وبغلته الدلدل ، وحماره اليعفور ، ونجيبه البراق ، ومصحف أمير المؤنين عليه السلام ؟ فيخرج له ذلك .

ثم يأخذ الهراوة ، فيغرسها في الحجر الصلد وتورق ، ولم يرد ذلك إلاّ أن يري أصحابه فضل المهدي عليه السلام حتى يبايعوه ، فيقول الحسني : اللّه أكبر ، مدّ يدك يا ابن رسول اللّه حتى نبايعك ، فيمدّ يده فيبايعه ، ويبايعه سائر العسكر الذي مع الحسني . .

قال المفضل : يا مولاي ، ثم ما ذا يصنع المهدي ؟

قال : يثور سرايا على السفياني إلى دمشق ، فيأخذونه ويذبحونه على الصخرة .ثم يظهر الحسين عليه السلام في اثني عشر ألف صدّيق ، واثنين وسبعين رجلاً أصحابه يوم كربلاء ، فيا لك عندها من كرّة زهراء بيضاء .

ثم يخرج الصدّيق الأكبر أمير المؤنين علي بن أبي طالب عليه السلام ينصب له القبّة بالنجف ، ويقام أركانها : ركن بالنجف ، وركن بهجر ، وركن بصنعاء ،

ص: 507

وركن بأرض طيبة ، لكأنّي أنظر إلى مصابيحه تشرق في السماء والأرض ، كأضواء من الشمس والقمر ، فعندها « تُبْلَى السَّرائِرُ » و« تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ » . . إلى آخر الآية .

ثم يخرج السيد الأكبر محمد رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أنصاره والمهاجرين ، ومن آمن به وصدّقه واستشهد معه ، ويحضر مكذّبوه والشاكّون فيه ، والرادّون عليه ، والقائلون فيه : إنّه ساحر وكاهن ومجنون وناطق عن الهوى ، ومن حاربه وقاتله ، حتى يقتصّ منهم بالحقّ ، ويجازون بأفعالهم منذ وقت ظهر رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى ظهور المهدي ، مع إمام إمام ، ووقت وقت ، ويحقّ تأويل هذه الآية « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ » .

قال المفضل : يا سيدي ، ومن فرعون وهامان ؟ قال : أبو بكر وعمر .

قال المفضل : قلت : يا سيدي ، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤنين عليه السلام يكونان معه ؟ فقال : لابد أن يطأ الأرض إي واللّه حتى ما وراء القاف ، إي واللّه وما في الظلمات ، وما في قعر البحار ، حتى لا يبقى موضع قدم إلاّ وطئا ، وأقاما فيه الدين الواجب للّه تعالى .

ثم لكأنّي أنظر - يا مفضل - إلينا معاشر الأئمة بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله نشكو إليه ما نزل بنا من الأمّة بعده ، وما نالنا من التكذيب والردّ علينا ، وسبّنا ولعننا ، وتخويفنا بالقتل ، وقصد طواغيتهم الولاة لأمورهم من دون الأمّة بترحيلنا عن الحرم إلى دار ملكهم ، وقتلهم إيانا بالسمّ والحبس ، فيبكي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويقول :يا بني ما نزل بكم إلاّ ما نزل بجدّكم قبلكم .

تظلّم فاطمة عليهاالسلام في الرجعة

ثم تبتدئ فاطمة عليهاالسلام وتشكو ما نالها من أبي بكر وعمر ، وأخذ فدك منها ، ومشيها إليه في مجمع من المهاجرين والأنصار ، وخطابها له في أمر فدك ،

ص: 508

وما ردّ عليها من قوله : إنّ الأنبياء لا تورث ، واحتجاجها بقول زكريا ويحيى عليهماالسلام ، وقصّة داود وسليمان عليهماالسلام ، وقول عمر : هاتي صحيفتك التي ذكرت أنّ أباك كتبها لك ، وإخراجها الصحيفة ، وأخذه إيّاها منها ، ونشره لها على رؤوس الأشهاد من قريش والمهاجرين والأنصار وسائر العرب ، وتفله فيها ، وتمزيقه إيّاها ، وبكائها ، ورجوعها إلى قبر أبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله باكية حزينة ، تمشي على الرمضاء ، قد أقلقتها ، واستغاثتها باللّه وبأبيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتمثّلها بقول رقيقة بنت صيفي :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم يكبر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل أهلك فاشهدهم فقد لعبوا

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم

لمّا نأيت وحالت دونك الحجب

لكلّ قوم لهم قرب ومنزلة

عند الإله على الأدنين مقترب

يا ليت قبلك كان الموت حلّ بنا

أملوا أناس ففازوا بالذي طلبوا

وتقصّ عليه قصّة أبي بكر ، وإنفاذه خالد بن الوليد وقنفذا وعمر بن الخطاب ، وجمعه الناس لإخراج أمير المؤنين عليه السلام من بيته إلى البيعة في سقيفة بني ساعدة ، واشتغال أمير المؤنين عليه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله بضمّ أزواجه ، وقبره ، وتعزيتهم ، وجمع القرآن ، وقضاء دينه ، وإنجاز عداته ، وهي ثمانون ألف درهم ، باع فيها تليده وطارفه ، وقضاها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وقول عمر : اخرج - يا علي - إلى ما أجمع عليه المسلمون وإلاّ قتلناك ، وقول فضة - جارية فاطمة - : إنّ أمير المؤنين عليه السلام مشغول ، والحقّ له إن أنصفتم منأنفسكم وأنصفتموه ، وجمعهم الجزل والحطب على الباب لإحراق بيت أمير المؤنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة .

وإضرامهم النار على الباب ، وخروج فاطمة إليهم ، وخطابها لهم من وراء الباب ، وقولها : ويحك يا عمر ، ما هذه الجرأة على اللّه وعلى رسوله ؟ تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتفنيه وتطفئ نور اللّه ؟ « وَاللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ » ، وانتهاره لها ، وقوله :

ص: 509

كفّي يا فاطمة ، فليس محمد حاضرا ، ولا الملائكة آتية بالأمر والنهي والزجر من عند اللّه ، وما علي إلاّ كأحد المسلمين ، فاختاري : إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر ،

أو إحراقكم جميعا ؟ فقالت وهي باكية : اللّهم إليك نشكو فقد نبيك ورسولك وصفيك ، وارتداد أمّته علينا ، ومنعهم إيّانا حقّنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيك المرسل ، فقال لها عمر : دعي عنك - يا فاطمة - حمقات النساء ، فلم يكن اللّه ليجمع لكم النبوة والخلافة .

وأخذت النار في خشب الباب ، وإدخال قنفذ يده - لعنه اللّه - يروم فتح الباب ، وضرب عمر لها بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود ، وركل الباب برجله حتى أصاب بطنها ، وهي حاملة بالمحسن لستة أشهر ، وإسقاطها إيّاه ، وهجوم عمر وقنفذ وخالد بن الوليد ، وصفقه خدّها حتى بدا قرطاها تحت خمارها ، وهي تجهر بالبكاء ، وتقول : وا أبتاه ، وا رسول اللّه ، ابنتك فاطمة تكذّب ، وتضرب ، ويقتل جنين في بطنها ؟ !

وخروج أمير المؤنين عليه السلام من داخل الدار محمّر العين حاسرا ، حتى ألقى ملاءته عليها ، وضمّها إلى صدره ، وقوله لها : يا بنت رسول اللّه ، قد علمتي أنّ أباك بعثه اللّه رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ، فاللّه اللّه أن تكشفي خمارك ، وترفعي ناصيتك ، فو اللّه - يا فاطمة - لئن فعلت ذلك لا أبقى اللّه على الأرض من يشهد أنّ محمدا رسول اللّه ، ولا موسى ،

ولا عيسى ، ولا إبراهيم ، ولا نوح ، ولا آدم ، ولا دابة تمشي على الأرض ، ولا طائرا في السماء ، إلاّ أهلكه اللّه . ثم قال : يا ابن الخطاب ، لك الويل من يومك هذا ،وما بعده ، وما يليه ، اخرج قبل أن أشهر سيفي فأفني غابر الأمّة .

فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فصاروا من خارج الدار ، وصاح أمير المؤنين بفضة : يا فضة ، مولاتك ، فاقبلي منها ما تقبله النساء ، فقد جاءها المخاض من الرفسة ، وردّ الباب ، فأسقطت محسنا ، فقال أمير المؤنين عليه السلام : فإنّه لاحق بجدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فيشكو إليه .

ص: 510

وحمل أمير المؤنين لها - في سواد الليل - والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم - وهم أفلاذ كبد الرسول صلى الله عليه و آله - إلى دور المهاجرين والأنصار ، يذكرهم باللّه ورسوله ، وعهده الذي بايعوا اللّه ورسوله ، وبايعوه عليه ، في أربعة مواطن في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتسليمهم عليه بإمرة المؤنين في جميعها ، فكلّ يعده بالنصر في يومه المقبل ، فإذا أصبح قعد جميعهم عنه .

تظلّم أمير المؤمنين عليه السلام

ثم يشكو إليه أمير المؤنين عليه السلام المحن العظيمة التي امتحن بها بعده ، وقوله لقد كانت قصّتي مثل قصّة هارون مع بني إسرائيل ، وقولي كقوله لموسى : « يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ » .

فصبرت محتسبا ، وسلّمت راضيا ، وكانت الحجّة عليهم في خلافي ، ونقضهم عهدي الذي عاهدتهم عليه ، يا رسول اللّه .

واحتملت - يا رسول اللّه - ما لم يحتمل وصي نبي من سائر الأوصياء من سائر الأمم ، حتى قتلوني بضربة عبد الرحمن بن ملجم ، وكان اللّه الرقيب عليهم في نقضهم بيعتي ، وخروج طلحة والزبير بعائشة إلى مكة يظهران الحج والعمرة ، وسيرهم بها إلى البصرة ، وخروجي إليهم ، وتذكيري لهم اللّه وإياك ، وما جئت به - يا رسول اللّه - فلم يرجعا ، حتى نصرني اللّه عليهما ، حتى أهرقت دماء عشرين ألف من المسلمين ، وقطعت سبعون كفّا على زمام الجمل ، فما لقيت في غزواتك - يا رسول اللّه - بعدك أصعب يوما منه أبدا ، لقد كان من أصعب الحروب التي لقيتها وأهولها أعظمها .فصبرت كما أدّبني اللّه بما أدّبك به - يا رسول اللّه - في قوله - عزّ وجلّ - « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » ، وقوله « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ » ، وحقّ واللّه

- يا رسول اللّه - تأويل الآية التي أنزلها اللّه في الأمّة من بعدك في قوله « وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ » .

ص: 511

تظلّم الحسن المجتبى عليه السلام

يا مفضل ، ويقوم الحسن عليه السلام إلى جدّه صلى الله عليه و آله فيقول : يا جدّاه كنت مع أمير المؤنين في دار هجرته بالكوفة ، حتى استشهد بضربة عبد الرحمن بن ملجم - لعنه اللّه - ، فوصّاني بما وصّيته يا جدّاه .

وبلغ اللعين معاوية قتل أبي ، فأنفذ الدعي اللعين زيادا إلى الكوفة في مائة ألف وخمسين ألف مقاتل ، فأمر بالقبض عليّ ، وعلى أخي الحسين ، وسائر إخواني وأهل بيتي ، وشيعتنا وموالينا ، وأن يأخذ علينا البيعة لمعاوية ، فمن يأبى منّا ضرب عنقه ، وسيّر إلى معاوية رأسه ، فلمّا علمت ذلك من فعل معاوية خرجت من داري ، فدخلت جامع الكوفة للصلاة ، ورقات المنبر ، واجتمع الناس ، فحمدت اللّه وأثنيت عليه ، وقلت :

معشر الناس ، عفت الديار ، ومحيت الآثار ، وقلّ الإصطبار ، فلا قرار على همزات الشياطين ، وحكم الخائنين ، الساعة - واللّه - صحّت البراهين ، وفصلّت الآيات ، وبانت المشكلات ، ولقد كنّا نتوقّع تمام هذه الآية تأويلها ، قال اللّه - عزّ وجلّ - : « و ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ » ، فلقد مات واللّه جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقتل أبي عليه السلام ، وصاح الوسواس الخناس في قلوب الناس ، ونعق ناعق الفتنة ، وخالفتم السنة ، فيا لها من فتنة صماء عمياء ، لايسمع لداعيها ، ولا يجاب مناديها ، ولا يخالف واليها ، ظهرت كلمة النفاق ، وسيّرت رايات أهل الشقاق ، وتكالبت جيوش أهل المراق من الشام والعراق .

هلمّوا - رحمكم اللّه - إلى الافتتاح ، والنور الوضّاح ، والعلم الجحجاح ، والنور الذي لا يطفى ، والحقّ الذي لا يخفى .

أيّها الناس ، تيقّظوا من رقدة الغفلة ، ومن تكاثف الظلمة ، فو الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة وتردّى بالعظمة ، لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية ،

ص: 512

ونيات مخلصة ، لا يكون فيها شوب نفاق ، ولا نية افتراق ، لأجاهدنّ بالسيف قدما قدما ، ولأضيقن من السيوف جوانبها ، ومن الرماح أطرافها ، ومن الخيل سنابكها ، فتكلّموا - رحمكم اللّه - .

فكأنّما ألجموا بلجام الصمت عن إجابة الدعوة ، إلاّ عشرون رجلاً ، فإنّهم قاموا إليّ فقالوا : يا ابن رسول ، اللّه ما نملك إلاّ أنفسنا وسيوفنا ، فها نحن بين يديك ، لأمرك طائعون ، وعن رأيك صادرون ، فمرنا بما شئت ، فنظرت يمنة ويسرة ، فلم أر أحدا غيرهم ، فقلت : لي أسوة بجدّي رسول اللّه حين عبد اللّه سرّا ، وهو يومئذ في تسعة وثلاثين رجلاً ، فلمّا أكمل اللّه له الأربعين صار في عدّة ، وأظهر أمر اللّه ، فلو كان معي عدّتهم جاهدت في اللّه حقّ جهاده .

ثم رفعت رأسي نحو السماء ، فقلت : اللّهم إنّي قد دعوت وأنذرت ، وأمرت ونهيت ، وكانوا عن إجابة الداعي غافلين ، وعن نصرته قاعدين ، وعن طاعته مقصّرين ، ولأعدائه ناصرين ، اللّهم فأنزل عليهم رجزك وبأسك وعذابك الذي لا يردّ عن القوم الظالمين ، ونزلت .

ثم خرجت من الكوفة راحلاً إلى المدينة ، فجاءوني يقولون : إنّ معاوية أسرى سراياه إلى الأنبار والكوفة ، وشنّ غاراته على المسلمين ، وقتل من لم يقاتله ، وقتل

النساء والأطفال ، فأعلمتهم أنّه لا وفاء لهم ، فأنفذت معهم رجالاً وجيوشا ، وعرفتهم أنّهم يستجيبون لمعاوية ، وينقضون عهدي وبيعتي ، فلم يكن إلاّ ما قلتلهم وأخبرتهم .

تظلّم سيد الشهداء عليه السلام وأصحابه

ثم يقوم الحسين عليه السلام مخضّبا بدمه ، هو وجميع من قتل معه ، فإذا رآه رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكى ، وبكى أهل السماوات والأرض لبكائه ، وتصرخ فاطمة عليهاالسلام ، فتزلزل الأرض ومن عليها ، ويقف أمير المؤنين والحسن عليهماالسلام عن يمينه ، وفاطمة عن شماله ، ويقبل الحسين عليه السلام فيضمّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى صدره ، ويقول :

ص: 513

يا حسين فديتك ، قرّت عيناك وعيناي فيك ، وعن يمين الحسين حمزة أسد اللّه في أرضه ، وعن شماله جعفر بن أبي طالب الطيار ، ويأتي محسن تحمله خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤنين عليهماالسلام ، وهن صارخات ، وأمّه فاطمة تقول : « هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » ، اليوم « تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً » .

قال : فبكى الصادق عليه السلام حتى أخضلّت لحيته بالدموع ، ثم قال : لا قرّت عين لا تبكي عند هذا الذكر .

قال : وبكى المفضل بكاء طويلاً ، ثم قال : يا مولاي ، ما في الدموع يا مولاي ؟

فقال : ما لا يحصى . .

قال الصادق عليه السلام : تقوم فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله فتقول : اللّهم أنجز وعدك وموعدك لي فيمن ظلمني وغصبني وضربني وجزعني بكلّ أولادي ، فتبكيها ملائكة السماوات السبع وحملة العرش ، وسكان الهواء ، ومن في الدنيا ، ومن تحت أطباق الثرى ، صائحين صارخين إلى اللّه تعالى ، فلا يبقى أحد ممّن قاتلنا وظلمنا ورضي بما جرى علينا إلاّ قتل في ذلك اليوم ألف قتلة(1) . .

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إختصارا .

عاقبة الظالمين

أجل ، إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم ، وإشتروا عذاب اللّه بجورهم ، وظنّوا أنّهم يطفئون نور اللّه بأفواههم وأيديهم ، وفاتهم أنّهم عملوا على إظهار أمر الأبرار ، وزادوا في سعادتهم ، وأعلوا رتبهم ومنزلتهم ، وأعدّوا لأنفسهم العذاب الأليم الدائم ، واللعن السرمدي المتفاقم ، وإستحقوا بأعمالهم غضب اللّه وغضب رسوله الرؤوف الراحم .

ص: 514


1- بحار الأنوار : 53/15 باب 28 .

وفاتهم أنّ ما تعرّضوا له من عذاب الدنيا سهل يسير إذا ما واجهوا غدا عذاب الآخرة الذي أعدّه اللّه لهم يوم الفضيحة ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، فيطالبهم اللّه بهذا الدم المقدّس ، فقد ورد عن الصادق عليه السلام أنّه قال : ذاك دم يطلب اللّه تعالى به(1) . .

ما أعظم ذلك الموقف ، يوم يأتي الحسين عليه السلام يحمل رأسه فوق يديه ، وأوداجه تشخب دما ، ويأتي أصحابه مضرجين بدمائهم ، فيضطرب المحشر ، وتشهق فاطمة عليهاالسلام شهقة يتزلزل لها العرش . .

ما أعظم ما فعلوه ! ما أكبر الفتنة التي أثاروها ، ما أشدّ الفساد الذي نشروه ، وأفسدوا به العالم ، إنّهم صدعوا قلب الرسول صلى الله عليه و آله ، وأبكوا عيون المقرّبين ، وأحزنوا حملة العرش والكروبيين ، فقد قتلوا رجلاً لا تفتر الملائكة والمخلوقات عن البكاء عليه حتى يحشر الناس الى يوم الدين ، وأحرقوا بقتله قلوب العالمين من الجن والأنس أجمعين .

إنّهم قتلوا ريحانة رسول ربّ العالمين ، وقطّعوا إربا إربا قلب فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ورضّوا بضعة النبي الأمين صلى الله عليه و آله ، وإجتزوا رأس حبيب الجبارذي القوة المتين .

رحم اللّه السيد مهدي الطباطبائي حيث يقول :

ما آمن القوم قدما أو هم كفروا

من بعد إيمانهم لو أنّهم شعروا

قد حاربوا المصطفى في حرب عترته

ولو أغاثهم في حربه ابتدروا(2)

لا كان ينزل عن سلطانه ملكولا لمنيته الساعي لها يذر

مهما نسيت فلا أنسى الحسين وقدكرّت على قتله الأفواج والزمر

ص: 515


1- الأمالي للطوسي : 161 المجلس 6 ، بحار الأنوار : 45/313 ح14 .
2- قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « حربك حرب¨ وسلمك سلمي » . منه رحمه الله .

كم قام فيهم خطيبا منذرا وتلاأى فما أغنت الآيات والنذر

قال إنسبوني فجدّي أحمد وسلواما قال فيّ فلم يكذبكم الخبر(1)

دعوتموني لنصري أين نصركموأين ما خطّت الأقلام والزبر

منعتمونا عن الماء المباح وقدأضحت تناهله الأوغاد والغمر

هل من مغيث يغيث الآل من ظمأبشربة من نمير ما لها خطر

هل يرحم الراحم الطفل الرضيع فقدجفّ الرضاع وما للطفل مصطبر

هل من نصير محام أو أخي حسبيرعى النبي فما حاموا ولا نصروا

تلك الرزايا لو أنّ القلب من حجرأصمّ كان لأدناهن ينفطر

نقمة اللّه على قاتلي الحسين عليه السلام في الدنيا

اعلم ، أنّ هؤلاء القوم المجرمين ذاقوا وبال فعلهم في الدنيا ، فبين من قتل في غاية الذلّ والهوان ، وبين من إبتلي بالعمى ، أو اليبس والجفاف ، أو الشلل والفالج ، أو الجنون ، وغيرها من البلايا حتى ماتوا وإلتحقوا بالجحيم ، هذا علاوة على ماينتظرهم في البرزخ من العذاب على يدي أئمة الدين ، وما أعدّه لهم جبّار السماوات والأرضين ، يوم لا تنفعهم شفاعة الشافعين .

سأل عبد اللّه بن رباح القاضي أعمى عن عمائه ، فقال : كنت حضرت كربلاء وما قاتلت ، فنمت فرأيت شخصا هائلاً قال لي : أجب رسول اللّه ، فقلت : لا أطيق ، فجرّني إلى رسول اللّه ، فوجدته حزينا ، وفي يده حربة ، وبسط قدّامه نطع ، وملك قبله قائم في يده سيف من النار ، يضرب أعناق القوم ، وتقع النار فيهم فتحرقهم ، ثم يحيون ، ويقتلهم أيضا هكذا .

ص: 516


1- وينادي أمّي الزهراء وأبي المرتضى ورسول اللّه جدّي أيّها القوم إرحموني ، وقد قال فيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حسين مني وأنا من حسين . منه رحمه الله .

فقلت : السلام عليك يا رسول اللّه ، واللّه ما ضربت بسيف ، ولا طعنت برمح ، ولا رميت سهما ، فقال النبي : ألست كثّرت السواد ؟ فسلّمني ، وأخذ من طست فيه دم ، فكحلني من ذلك الدم ، فاحترقت عيناي ، فلمّا انتبهت كنت أعمى(1) .

وروي عن القاسم بن أصبغ بن نباتة قال : رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم ، أسود الوجه ، وكنت أعرفه جميلاً ، شديد البياض ، فقلت له : ما كدت أعرفك ! قال : إنّي قتلت شابا مع الحسين ، بين عينيه أثر السجود ، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ

أتاني ، فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنم ، فيدفعني فيها ، فأصيح فما يبقى أحد في الحيّ

إلاّ سمع صياحي(2) .

وروي أنّه قال القاسم : لقد رأيته على فرس له مرحا ، وقد علّق الرأس بلبانها ، وهو يصيب ركبتها .

فقلت لأبي : لو أنّه رفع الرأس قليلاً ، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها ؟ فقال لي : يا بني ، ما يصنع به أشدّ ، لقد حدثني فقال : ما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي حتى يأخذ بتلبيبي ، فيقودني فيقول : انطلق گ فينطلق بي إلى جهنم ، فيقذفبي فيها حتى أصبح .

قال : فسمعت بذلك جارية له ، فقالت : ما يدعنا ننام شيئا من الليل من صياحه ، قال : فقمت في شباب من الحيّ ، فأتينا امرأته ، فسألناها ، فقالت : قد أبدى على نفسه ، قد صدقكم(3) .

وروي أنّه ما تلبّس أحد بقتل الحسين عليه السلام إلاّ أصابه بلاء كالجنون والجذام وغيرها ، في أهله ونفسه وماله(4) .

ص: 517


1- بحار الأنوار : 45/303 .
2- بحار الأنوار : 45/306 باب 46 .
3- عقاب الأعمال : 259 ح8 ، بحار الأنوار : 45/308 ح7 .
4- انظر بحار الأنوار : 45/307 ح7 .

وفي حديث آخر عن الصادق عليه السلام قال : إنّ آل أبي سفيان قتلوا الحسين بن علي - صلوات اللّه عليه - فنزع اللّه ملكهم ، وقتل هشام زيد بن علي فنزع اللّه ملكه ، وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع اللّه ملكه(1) .

أجل ، إنّ كلّ من أساء الى المولى عليه السلام لقي جزاءه في الدنيا والآخرة ، وخسرهما معا ، وكلّ من تمسك بعروته ربح الدنيا والآخرة ، وكذا الأمر فيمن زاره ، وأقام العزاء عليه ، أو أعان على إقامة العزاء ، وبذل الطعام والمال في مجلس عزائه ، أو شارك في عمارة مشهده ، فإنّ له من الأجر الأخروي ما لا يعد ولا يحصى ، إضافة الى الخير والبركة والعزّة وإزدياد المال والرفعة وعلو الشأن في الدنيا ، وهذا ما بالتجربة ودلّت عليه الأخبار .

وكذا من آذى المولى عليه السلام ، أو آذى زوّاره ، ومن أقام العزاء عليه ، فإنّه يخسر الآخرة ، ويخسر الدنيا ، كما هو مشاهد محسوس ملموس ، وقد رويت في ذلك حكايات كثيرة .منها : ما روي من أخذ المسترشد(2) من مال الحائر وكربلاء ، وقال : إنّ القبر لايحتاج إلى الخزانة أنفق على العسكر ، فلمّا خرج قتل هو وابنه الراشد(3) .

وأقوى شاهد على ذلك حكاية ابن سعود بن عبد العزيز بن عبد الوهاب وأتباعهم الذين إجتمعوا في « نجد » ، وأبدعوا لهم طريقة ، وهجموا على البلدان ، فقتلوا الناس قتلاً ذريعا ، وتسلّطوا على رقاب الناس ، وكانوا يعتقدون - إعتقادا فاسدا - أنّ تشييد القبور وتعظيمها حرام مطلقا ، بل عدّوه كفرا وشركا ، فلمّا وصلوا الى كربلاء المقدّسة قتلوا أربعة آلاف أو أكثر من أهلها ، ونهبوا ما فيها ،

ص: 518


1- ثواب الأعمال :220 ، بحار الأنوار : 45/308 باب 46 ح10 .
2- في المتن : « المعزّ باللّه » .
3- بحار الأنوار : 45/401 ح11 .

وأخذوا ما كان في حرم سيد الشهداء عليه السلام ، وهدموا الضريح ، بل كسروا الصندوق الشريف الموضوع على القبر المقدّس .

وكانت هذه الواقعة في غدير سنة( 1216 ه- ) ، وحسابها بالجمل « غدير » .

فلمّا رجع من سفره هذا أدبرت عنه الدنيا ، فما توجّه الى ناحية إلاّ والخذلان يتقدّمه ، وابتلي ببلايا غريبة ، حتى مات ذليلاً وسلطانه في ذروته .

وقد سلّط اللّه عليهم قوما خرّبوا بلادهم وجعلوها قاعا صفصفا ، وأسروا مئتين من أولاده وأقربائه وأبناء عشيرته ، وساقوهم الى مصر ، ثم أرسلوا عشرة من كبارهم الى إسلامبول فأمر السلطان بقتلهم فقتلوهم ، والحمد للّه ربّ العالمين .

عمّر مئة سنة في انتظار دولة القائم عليه السلام

روى ابن قولويه عن معاوية بن وهب قال : كنت جالسا عند جعفر بن محمد عليهماالسلام ، إذ جاء شيخ قد انحنى من الكبرّ فقال : السلام عليك ورحمة اللّه ، فقال له أبو عبد اللّه : وعليك السلام ورحمة اللّه ، فقال : يا ابن رسول اللّه ، ناولني يدك

لأقبّلها ، فأعطاه يده فقبّلها ، ثم بكى ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : وما يبكيك يا شيخ ؟ فقال : جعلت فداك ، أقمت أنتظر على قائمكم منذ مائة سنة ، أقول : هذا الشهر ،وهذا الشهر ، وهذه السنة وهذه السنة ، وقد كبر سنّي ، ودقّ عظمي ، واقترب أجلي ، ولا أرى فيكم ما أحبّ ، أراكم مقتولين مشرّدين ، وأرى أعداءكم تطير بالأجنحة ، فكيف لا أبكي ؟

فدمعت عينا أبي عبد اللّه عليه السلام ، ثم قال : يا شيخ ، إن أبقاك اللّه حتى ترى قائمنا كنت في السنام الأعلى ، وإن حلّت بك المنيّة جئت يوم القيامة مع ثقل محمد ، فإنّه صلى الله عليه و آله قال : إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، فتمسّكوا بهما ، فلن تضلّوا كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فقال الشيخ : إذا لا أبالي بعد ما سمعت هذا الخبر .

ثم قال : يا شيخ ، ما أحسبك من أهل الكوفة ! قال : لا ، قال : فمن أين ؟ قال : من سوادها ، جعلت فداك .

ص: 519

قال : أين أنت من قبر جدّي المظلوم الحسين ؟ قال : إنّي لقريب منه ، قال : كيف إتيانك له ؟ قال : إنّي لآتيه وأكثر ، قال : يا شيخ ، ذاك دم يطلب اللّه تعالى به ، ما أصيب ولد فاطمة ، ولا يصابون بمثل الحسين عليه السلام ، ولقد قتل عليه السلام في سبعة عشر من أهل بيته نصحوا للّه ، وصبروا في جنب اللّه ، فجزاهم اللّه أحسن جزاء الصابرين ، إنّه إذا كان يوم القيامة أقبل رسول اللّه ، ومعه الحسين ، ويده على رأسه يقطر دما ، فيقول : يا ربّ سل أمّتي فيم قتلوا ابني ؟

وقال عليه السلام : كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين(1) .

الإنتقام العاجل لدم الحسين عليه السلام

روى ابن عباس قال : أوحى اللّه - تعالى - إلى محمد صلى الله عليه و آله : إنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وأقتل بابن بنتك سبعين ألفا ، وسبعين ألفا .

وقال الصادق عليه السلام : قتل بالحسين عليه السلام مائة ألف ، وما طلب بثأره ، وسيطلببثأره(2) .

وقال الباقر عليه السلام في حديث : . . واللّه لقد قتل قتلة الحسين ، ولم يطلب بدمه بعد(3) .

إنّ دم الحسين عليه السلام دم لا يكتفى بالإقتصاص من قتلته بقتلة واحدة ، أو يكتفى بقتل المباشرين لقتله ، بل لو أنّ العالم كلّه أهلك في شعرة منه ما كان به ملوما ، ولو انقلب الكون كلّه لما وفى بدمه .

ص: 520


1- أمالي الطوسي : 161 المجلس 6 ح268 ، إرشاد القلوب : 2/405 ، بحار الأنوار : 45/313 باب 46 ح14 .
2- بحار الأنوار : 45/298 ح10 .
3- كامل الزيارات : 134 ح154 ، بحار الأنوار : 45/298 ح6 .

وكيف يفي بقتل من كان بضعة من رسول اللّه ، وكان لحمه وعظمه نبت من لحم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعظمه وبشره ؟

وكيف يفي بقتل من بقتله طمست أعلام الهداية ، وتهدّمت أركان الشريعة ، وإندرست معالم القرآن ، وعطّلت الأحكام ، وضاعت الحقوق .

فالويل للعصاة الفسّاق ، لقد قتلوا بقتله الإسلام ، ونقضوا السنن والأحكام ، وعطّلوا الصلاة والصيام ، وأذلّوا رقاب البررة الكرام ، لقد فقد بقتله التكبير والتهليل ، والتحريم والتحليل ، والتنزيل والتأويل .

ولنعم ما قاله جعفر بن عفّان - وهو من شعراء أهل البيت عليهم السلام - بين يدي الصادق عليه السلام ، فعظّم الصادق عليه السلام شعره ، وأكرمه :

ليبك على الإسلام من كان باكيا

فقد ضيّعت أحكامه واستحلّت

غداة حسين للرماح ذرية

وقد نهلت منه السيوف وعلّت

وغودر في الصحراء لحما مبدّدا

عليه عناق الطير بانت وظلّت

فما نصرته أمّة السوء إذ دعا

لقد طاشت الأحلام منها وضلّت

ألا بل محوا أنوارهم بأكفّهم

فلا سلمت تلك الأكفّ وشلّت

وناداهم جهرا أنا ابن محمد(1)

فإنّ ابنه من نفسه حيث حلّت

فما حفظوا قرب الرسول وما رعوا

وزلّت بهم أقدامهم واستزلت

فلا قدّس الرحمن أمّة جدّهو

إن هي صامت للإله وصلّت

كما فجعت بنت الرسول بنسلها

وكانوا حماة الحرب حين استقلّت(2)

عودة أهل البيت عليهم السلام الى المدينة

اعلم ، أنّ أهل البيت عليهم السلام قضوا في السبي أيام المحنة الشديدة المرّة ، ولم يترك العين ظلما ولا جورا إلاّ وأنزله فيهم على أبشع وجه ، ثم إنّه - لعنه اللّه - أباح لهم البكاء على سيد الشهداء عليه السلام ، فندبوه وبكوه - على ما نقل - سبعة أيام ، وكان قد أوعد الإمام السجاد بثلاث حاجات يقضيها له .

ص: 521


1- في البحار : « بحقّ محمد » .
2- بحار الأنوار : 45/386 .

فلمّا كان اليوم الثامن أحضر الإمام عليه السلام وقال له : اذكر لي حاجاتك اللاتي وعدتك بهن ، فقال له :

الأولى : أن تريني وجه سيدي وأبي ومولاي الحسين ، فأتزوّد منه ، وأودّعه .

والثانية : أن تردّ علينا ما أخذت منّا .

والثالثة : إن كنت عزمت على قتلي فوجّه مع هؤلاء النسوة من يردّهن الى حرم جدّهن .

فقال اللعين : أمّا وجه أبيك لن تراه أبدا(1) .

وروى البعض : أنّ الامام السجاد عليه السلام لمّا قال ليزيد : أريد أن تريني وجه أبي ، فقال له : لا تراه أبدا ، كان الرأس في طشت من العسجد ، مغطّى بمنديل ديبقي(2) ، فارتفع المنديل ، وتكلّم الرأس المقطوع بلسان فصيح وقال : السلام عليك ياولداه ، السلام عليك يا علي ، فصاح الامام السجاد عليه السلام وقال : وعليك السلام يا أبتاه ، أيتمتني ، وذهبت - يا ابتاه - عنّي ، وفرّق بيني وبينك ، فها أنا راجع الى حرم

جدّي أودّعك واسترعيك ، وأقرأ عليك السلام ، فضجّ المجلس بالبكاء والعويل حتى إرتجّت الأرض ، فخشي يزيد - لعنه اللّه - من انقلاب الناس(3) ، فتظاهربالخجل .

قال السيد ابن طاووس : ثم قال يزيد : وأمّا قتلك فقد عفوت عنك ، وأمّا النساء فما يؤّيهن إلى المدينة غيرك ، وأمّا ما أخذ منكم فأنا أعوضكم عنه أضعاف قيمته .

فقال عليه السلام : أمّا مالك فما نريده ، وهو موفّر عليك ، وإنّما طلبت ما أخذ منّا ، لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله ومقنعتها وقلادتها وقميصها .

ص: 522


1- المنتخب : 2/483 .
2- نوع من المناديل يجلب من مصر .
3- أسرار الشهادة : 3/895 عن شرح الشافية لأبي فراس .

فأمر بردّ ذلك ، وزاد عليه مائتي دينار ، فأخذها زين العابدين عليه السلام ، وفرّقها في الفقراء والمساكين ، ثم أمر بردّ الأسارى وسبايا البتول إلى أوطانهم بمدينة الرسول(1) .

وقال الشيخ المفيد وصاحب المناقب : وروي أنّ يزيد عرض عليهم المقام بدمشق ، فأبوا ذلك ، وقالوا : بل ردّنا إلى المدينة ، فإنّه مهاجر جدّنا صلى الله عليه و آله ، فقال للنعمان بن بشير - صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله - : جهّز هؤاء بما يصلحهم ، وابعث معهم رجلاً من أهل الشام أمينا صالحا ، وابعث معهم خيلاً وأعوانا ، ثم كساهم وحباهم(2) .

وروي أنّه أحضرهم ، وأحضر لهم المحامل ، وأمر بالأنطاع وصبّ عليهاالأموال ، وقال : يا أم كلثوم ، خذوا هذا المال عوض ما أصابكم ، فقالت أم كلثوم : يا يزيد ، ما أقلّ حياءك ، وأصلب(3) وجهك ، أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً ؟ ! واللّه لا كان ذلك أبدا(4) ، فواللّه ما كان بدل شعرة ، بل لا يفي بها الدنيا بأسرها .

وقال صاحب المناقب : ثم دعا بعلي بن الحسين عليهماالسلام ، فقال له : لعن اللّه ابن مرجانة ، أما واللّه ، لو كنت صاحبه ما سألني خلّة إلاّ أعطيتها إياه ، ولدفعت عنه

الحتف بكلّ ما قدرت عليه ، ولو بهلاك بعض ولدي ! ولكن قضى اللّه ما رأيت ! ! فكاتبني ، وانه إليّ كلّ حاجة تكون لك ، ثم أوصى بهم الرسول(5) .

ص: 523


1- اللهوف : 194 ، بحار الأنوار : 45/144 باب 39 .
2- بحار الأنوار : 45/146 .
3- في المنتخب : « أصلف » .
4- المنتخب : 2/483 .
5- بحار الأنوار : 45/146 .

زيارة الأربعين

ثم قال السيد ابن طاووس : ولمّا رجعت نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام ، وبلغوا إلى العراق ، قالوا للدليل : مرّ بنا على طريق كربلاء .

فوصلوا إلى موضع المصرع ودخلوا كربلاء ، أرض المحنة والألم ، والبلاء والعناء ، فوجدوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل رسول اللّه قد وردوا لزيارة قبر الحسين ، المدفون في تلك الصحراء .

إقامة العزاء في كربلاء

فكانوا أول من زار الغريب المتروك بالعراء ، فوافوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء ، والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك

السواد ، وأقاموا على ذلك أياما(1) .فناح لسان حال بنات طه

وهنّ من الكآبة يرتمينا

فقدنا هاهنا قمرا مضيئا

بنور هداه يهدي التائهينا

فقدنا هاهنا روحا وروحا

وريحانا وزيتونا وتينا

هنا سنّ الحراب علوج حرب

هنا شنّت خيول الحرب فينا

هنا ذبح الحسين بسيف شمر

هنا قد ترّبوا منه الجبينا

هنا العبّاس في يوم عبوس

حيال الماء قد أمسى رهينا

هنا ذبحوا الرضيع بسهم حقد

فما رحموا صغار المرضعينا

هنا طيّرت أسياف جور

أكفّ القانتين المنفقينا

هنا صبغت نواصينا دماء

بذبح بني أمير المؤمنينا

هنا علّوا رؤوس بني علي

ورووس بني عقيل العاقلينا

هنا حرقوا الخيام وأحرقوها

وقسّم فيئنا في الخائنينا

ص: 524


1- بحار الأنوار : 45/146 .

ندبة أهل البيت عليهم السلام في كربلاء

وروي أنّه خرجت زينب عليهاالسلام حتى جاءت عند القبر ، فأهوت الى جيبها فشقّته ، ونادت بصوت حزين يقرح القلوب : وا أخاه ، وا حسيناه ، وا حبيب رسول اللّه ، يا ابن مكة ومنى ، يا فاطمة الزهراء ، يا علي المرتضى .

وأمّا أم كلثوم فقد نشرت شعرها ، ولطمت خدّيها ، ونادت برفيع صوتها : اليوم مات جدّي محمد المصطفى ، اليوم مات أبي علي المرتضى ، اليوم حلّ الثكل بالزهراء ، وباقي النساء لاطمات نادبات ناعيات ، قائلات : وا محمداه ، فلمّا رأت سكينة ما حلّ بالنساء ، رفعت صوتها تنادي : وا محمداه ، وا جدّاه(1) . . .قال السيد ابن طاووس : وأقاموا على ذلك أياما(2) ، وروي أنّهم أقاموا ثلاثة أيام(3) .

أمّا جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، ومن صحبه من بني هاشم وغيرهم ، فإنّهم لمّا لاح لهم قبر ريحانة الرسول في تلك البيداء ، صرخوا بصوت واحد : وا حسيناه .

روي عن محمد بن محمد البرسي(4) عن الأعمش عن عطية العوفي قال :

خرجت مع جابر بن عبد اللّه الأنصاري رحمه الله زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ، ثم ائتزر بإزار ، وارتدى بآخر ، ثم فتح صرّة فيها سعد ، فنثرها على بدنه ، ثم لم يخط خطوة إلاّ ذكر اللّه ، حتى إذا دنا من القبر قال : ألمسنيه ، فألمسته ، فخرّ على القبر مغشيّا عليه ، فرششت عليه شيئا من الماء ، فأفاق .

ص: 525


1- الدمعة الساكبة : 5/156 .
2- بحار الأنوار : 45/146 .
3- المنتخب : 2/483 .
4- في المتن : « الطبرسي » .

ثم قال : يا حسين - ثلاثا - .

ثم قال : حبيب لا يجيب حبيبه .

ثم قال : وأنّى لك بالجواب ؟ وقد شحطت(1) أوداجك على أثباجك ، وفرّق بين بدنك ورأسك(2) . . . ثم زار الإمام الحسين عليه السلام بالزيارة التي ذكرها العلماء في كتبهم .

وقفة مع زيارة الأربعين الأولى

اعلم ، أنّ أكثر العلماء لم يذكروا رجوع أهل البيت من الشام الى كربلاء ، وإنّما ذكر ذلك السيد ابن طاووس .

ص: 526


1- في بعض النسخ : « شخبت » .
2- تتمّة الخبر في بشارة المصطفى : 74 ، بحار الأنوار : 65/130 باب 18 ح62 : فأشهد أنّك ابن النبيين ، وابن سيد المؤنين ، وابن حليف التقوى ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، وابن سيد النقباء ، وابن فاطمة سيدة النساء ، وما لك لا تكون هكذا ؟ وقد غذتك كفّ سيد المرسلين ، وربّيت في حجر المتقين ، ورضعت من ثدي الإيمان ، وفطمت بالإسلام ، فطبت حيّا ، وطبت ميتا ، غير أنّ قلوب المؤنين غير طيبة لفراقك ، ولا شاكة في الخيرة لك ، فعليك سلام اللّه ورضوانه ، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا . ثم جال ببصره حول القبر وقال : السلام عليكم أيّها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين ، وأناخت برحله ، أشهد أنّكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ، ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين ، وعبدتم اللّه حتى أتاكم اليقين ، والذي بعث محمدا بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه . قال عطية : فقلت لجابر : وكيف ؟ ولم نهبط واديا ، ولم نعل جبلاً ، ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فرّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، وأوتمت أولادهم ، وأرملت الأزواج ؟ ! فقال لي : يا عطية ، سمعت حبيبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : من أحبّ قوما حشر معهم ، ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم ، والذي بعث محمدا بالحقّ نبيا ، إنّ نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه ، خذوا بي نحو أبيات كوفان . فلمّا صرنا في بعض الطريق ، فقال لي : يا عطية ، هل أوصيك ؟ وما أظن أنّني بعد هذه السفرة ملاقيك ، أحبّ محبّ آل محمد ما أحبّهم ، وأبغض مبغض آل محمد ما أبغضهم ، وإن كان صوّاما قوّاما ، وارفق بمحبّ آل محمد ، فإنّه إن تزلّ لهم قدم بكثرة ذنوبهم ثبتت لهم أخرى بمحبّتهم ، فإنّ محبّهم يعود إلى الجنّة ، ومبغضهم يعود إلى النار .

فقد يقول قائل : إذا كانت هذه الحكاية صحيحة ، لذكرها العلماء من العامة والخاصة الذين ترصّدوا لأخبار المقتل وما جرى على أهل البيت في تواريخهم وكتبهم !

ولو صحّت الرواية ، فإنّها مستبعدة ، لأنّ سفرهم من كربلاء الى الكوفة ، ومن الكوفة الى الشام ، ومن الشام الى العراق مرّة ثانية ، بالصورة التي يرويها السيد ابن طاووس نفسه ، حيث ذكر أنّ ابن زياد كتب الى يزيد يستأمره في شأنهم ، وأنّهم لبثوا مدّة في الشام في الحبس أياما حتى تقشّرت وجوههم من الحرّ والقرّ ، وأقاموا العزاء سبعة أيام ، فكيف يمكنهم الرجوع والوصول الى كربلاء في العشرين من صفر ؟ سيما إذا علمنا أن المسير من الشام الى المدينة لا يستلزم المروربالعراق ، كما يستقاد من عبارة السيد ؟

وكذا عدم ذكر كيفية زيارة سيد الساجدين عليه السلام في يوم الأربعين ، والحال أنّهم ضبطوا زيارة جابر بتفاصيلها ؟ وهذا شاهد آخر على إستبعاد هذا القول .

إضف الى أنّهم في طريق العودة كانوا لا زالوا في الأسر ، ولا يمكنهم أن يتصرّفوا بدون إذن من يزيد - لعنه اللّه - ، وكونهم إستأذنوا الحادي الأمين معهم لا يغني لأنّه

لا يتصرّف أبدا بدون إذن من الجبار العنيد .

ولكن مع ذلك كلّه ، فإنّ ثبوت هذه الزيارة غير خارج عن حيّز الإمكان ، وعدم ذكر العلماء لها أعمّ من عدم وقوعها ، ولم يثبت لبثهم في الشام أكثر من ثمانية

أيام ، ومن الممكن جدّا أن يذهبوا من العراق الى الشام ، ومن الشام الى العراق في مدّة شهر واحد مثلاً .

ويكفي في إحتمال صحّة ذلك ما روي في الحكاية المعروفة عن أبي حنيفة أنّه رأى هلال ذي الحجّة في الكوفة - أو بغداد - ، وأدرك الحجّ في نفس تلك السنة .

وكيف كان ، فإنّ إستحباب زيارة الحسين عليه السلام يوم الأربعين لا علاقة له بحال بهذه الواقعة ، لثبوت زيارته عليه السلام في هذا اليوم بالنصوص والروايات ، بغض النظر

ص: 527

عن الزيارة الأولى وما جرى فيها من أحداث ، تماما كإستحباب زيارته في الأول من رجب والنصف منه ، وغيرها من الأوقات المخصوصة ، سواء عرفنا علّة ذلك وحكمته أو لم نعرف . واللّه أعلم .

أهل البيت عليهم السلام يودّعون كربلاء

لمّا أقام أهل البيت مراسم العزاء ، وقضوا مناسك المأتم والزيارة ، وأكثروا من النياحة والبكاء ، عند قبلة العارفين ، ومقصود العالمين .

روي أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام أمر بشدّ رحاله فشدّوها ، وإنبرى أهل البيت الى وداع الأحبّة بصورة تحرق الفؤاد ، وتفتت الأكباد .فانكبّت فاطمة بنت الحسين عليهماالسلام على قبر أبيها ، ثم بكت بكاءا شديدا حتى غشي عليها .

وسالت الدموع كلّ مسيل من قلوب ملتهبة ، وصدور بآهات الفراق محترقة ، فودّعوا قبور الإحباب ، والحماة والأولياء الأطياب ، وساروا يطوون المنازل الى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله .

روى صاحب المناقب عن فاطمة بنت أمير المؤمنين عليهماالسلام قالت : قلت لأختي زينب : قد وجب علينا حقّ هذا لحسن صحبته لنا ، فهل لك أن نصله ؟ فقالت : واللّه ما لنا ما نصله به إلاّ أن نعطيه حليّنا .

فأخذت سواري ودملجي ، وسوار أختي ودملجها ، فبعثنا بها إليه ، واعتذرنا من قلّتها ، وقلنا : هذا بعض جزائك ، لحسن صحبتك إيّانا ! فقال : لو كان الذي صنعته للدنيا كان في دون هذا رضاي ، ولكن - واللّه - ما فعلته إلاّ للّه ، وقرابتكم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله(1) .

ص: 528


1- بحار الأنوار : 45/146 باب 39 .

دخول أهل البيت عليهم السلام الى المدينة

قال السيد ابن طاووس: ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة، قال بشير بن حذلم: فلمّا قربنا منها نزل علي بن الحسين عليهماالسلام ، فحطّ رحله ، وضرب فسطاطه ، وأنزل نساءه ، وقال : يا بشير ، رحم اللّه أباك ، لقد كان شاعرا ، فهل تقدر على شيء منه ؟

قلت : بلى يا ابن رسول اللّه ، إنّي لشاعر ، قال : فادخل المدينة وانع أبا عبد اللّه عليه السلام.

بشير ينعى الحسين عليه السلام في المدينة

قال بشير : فركبت فرسي وركزت حتى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النبي صلى الله عليه و آله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت أقول :يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فادمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدار

ثم قلت : هذا علي بن الحسين مع عمّاته وأخواته ، قد حلّوا بساحتكم ، ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم ، أعرّفكم مكانه ، فما بقيت في المدينة مخدّرة ، ولا محجّبة

إلاّ برزن من خدورهن ، مكشوفة شعورهن ، مخمّشة وجوههن ، ضاربات خدودهن ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوما أمرّ على المسلمين منه ، وسمعت جارية تنوح على الحسين فتقول :

نعى سيدي ناع نعاه فأوجعا

وأمرضني ناع نعاه فأفجعا

فعينيّ جودا بالدموع وأسكبا

وجودا بدمع بعد دمعكما معا

على من دهى عرش الجليل فزعزعا

فأصبح هذا المجد والدين أجدعا

على ابن نبي اللّه وابن وصيّه

وإن كان عنّا شاحط الدار أشسعا

ثم قالت : أيّها الناعي ! جدّدت حزننا بأبي عبد اللّه ، وخدشت منّا قروحا لمّا تندمل ، فمن أنت ؟ رحمك اللّه ، فقلت : أنا بشير بن حذلم ، وجهني مولاي علي بن الحسين - عليهما الصلاة والسلام - ، وهو نازل في موضع كذا وكذا ، مع عيال أبي عبد اللّه ونسائه .

ص: 529

قال : فتركوني مكاني وبادروا ، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي ، وتخطّيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليهماالسلام داخلاً ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له ، وجلس عليه ، وهو لا يتمالك من العبرة ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، وحنين الجواري والنساء ، والناس من كلّ ناحية يعزّونه ، فضجت تلك البقعة ضجّة شديدة ، فأومأ بيده : أن اسكتوا ، فسكنت فورتهم ، فقال عليه السلام :الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، بارئ الخلائقأجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب ، الفاضعة الكاظة ، الفادحة الجائحة .

أيّها الناس ، إنّ اللّه - وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبد اللّه وعترته ، وسبي نساؤ وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية .

أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها ؟ وتضنّ عن انهمالها ؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان ولجج البحار ، والملائكة المقربون ، وأهل السماوات أجمعون .

أيّها الناس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أيّ فؤد لا يحنّ إليه ؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ؟

أيّها الناس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها « ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الأَوَّلِينَ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ » !

ص: 530

واللّه ، لو أنّ النبي تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاءة بنا ، لما ازدادوا على ما فعلوا بنا ، فإِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ من مصيبة ما أعظمها ! وأوجعها ! وأفجعها ! وأكظّها ! وأفظها ! وأمرّها ! وأفدحها ! فعند اللّه نحتسب فيما أصابنا ، وما بلغ بنا ، إنّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ .

قال : فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان ، وكان زمنا ، فاعتذر إليه - صلوات اللّه عليه - بما عنده من زمانة رجليه ، فأجابه بقبول معذرته ، وحسن الظن فيه ، وشكر له ، وترحّم على أبيه(1) .

محمد ابن الحنفية يستقبل الضعن

روي أنّ محمد ابن الحنفية ركب جواده حتى خرج من المدينة ، فلم ير إلاّ أعلاما سودا ، فصاح صيحة عظيمة ، وخرّ عن جواده الى الأرض مغشيا عليه ، فركض الخادم الى زين العابدين عليه السلام، وقال: يامولاي أدرك عمّك قبل أن تفارق روحه الدنيا.

فخرج الإمام عليه السلام ، وبيده منديل يمسح به دموعه ، الى أن أتى الى عمّه ، فأخذ برأسه ، ووضعه في حجره ، فلمّا أفاق صاح : يا ابن أخي ، أين أخي ؟ أين قرّة عيني ؟ أين ثمرة فؤادي ؟ أين خليفة أبي ؟ أين الحسين عليه السلام أخي ؟ . .

فقال علي عليه السلام : يا عمّي ، أتيتك يتيما ، ليس معي إلاّ نساء حاسرات ، في الذيول عاثرات ، باكيات نادبات ، وللمحامي فاقدات ، يا عمّاه ، لو تنظر الى أخيك ، وهو يستغيث فلايغاث، ويستجير فلايجار، مات وهو عطشان، والماء يشربه كلّ حيوان ...

فصرخ محمد ابن الحنفية حتى غشي عليه ، فلمّا أفاق من غشيته ، قال : قص عليّ - يا ابن أخي - ما أصابكم ، فجعل يقصّ عليه القصّة ، والإمام عليه السلام عيناه كأنّهما ميزابان ، وبيده منديل يمسح بها دموعه(2) . . .

ص: 531


1- بحار الأنوار : 45/147 باب 39 .
2- الدمعة الساكبة : 5/164 .

مرثية أم كلثوم عليهاالسلام في المدينة

وأمّا أم كلثوم فحين توجهت الى المدينة ونظرت حرم جدّها جعلت تبكي وتندب بقلب حزين وتقول :

مدينة جدّنا لا تقبلينا

فبالحسرات والأحزان جينا

ألا فاخبر رسول اللّه عنّا

بأنّا قد فجعنا في أبينا

وأنّ رجالنا بالطف صرعى

بلا رووس وقد ذبحوا البنينا

ألا يا جدّنا إنّا أسرنا

وبعد الأسر إنّا قد سبينا

ورهطك يا رسول اللّه أضحوا

عرايا بالطفوف مسلّبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا

جنابك يا رسول اللّه فينا

أفاطم لو نظرت الى السبايا

بناتك في البلاد مشتّتينا

أفاطم لو رأيتينا سهارى

ومن سهر الليالي قد عمينا

فلو دامت حياتك لم تزالي

الى القيامة تندبينا

وعرّج بالبقيع وقف وناد

أيا بن حبيب ربّ العالمينا

وقل يا عمّ يا الحسين المزكّى

بنات أخيك أضحوا ضائعينا

أيا عمّاه إنّ أخاك أضحى

بعيدا عنك بالرمضا رهينا

بلا رأس تنوح عليه جهرا

وحوش والطيور الطائرينا

ولو عاينت يا مولاي ساقوا

حريما لا يجدن لهم معينا

على متن النياق بلا وطاءٍ

وشاهدت الرؤوس مكشّفينا(1)

ندبة زينب عليهاالسلام في المدينة

وأمّا زينب عليهاالسلام ، فأخذت بعضادتي باب المسجد ، ونادت : يا جدّاه إنّي ناعية اليك أخي الحسين عليه السلام ، وهيت مع ذلك لا تجف لها عبرة ، ولا تفتر من البكاء والنحبى ، وكلّما نظرت الى علي بن الحسين عليهماالسلام تجدّد حزنها ، وزاد وجودها .

ص: 532


1- المنتخب : 2/484 .

فلمّا دخلوا الى دار الرسول ، وجدوها مقفرة الطلول ، خالية من سكّانها ، حاكية أحزانها ، وقد غشيها القدر النازل ، وساورها الخطب الهائل . . وبكت أبوابها وجدرانها ، لفقدها أناس كانت تأنس بهم في الخلوات ، وتسمع تهجدهم في الصلوات . .

وللّه درّ من قال :

وقفت على دار النبي محمد

فلقيتها قد أقفرت عرصاتهاوأمست خلاء من تلاوة قارى ء

وعطّل منها صومها وصلاتها

وكانت ملاذا للأنام وجنّة

من الخطب يغني المنفقين صلاتها

فأقفرت من السادات من آل هاشم

ولم يجتمع بعد الحسين شتاتها

فعيني لقتل السبط عبرى ولوعتي

على فقدهم ما تنقضي زفراتها

فيا كبدي كم تصبرين على الأذى

أما آن أن تفني إذا حسراتها(1)

لا ينقضي الهمّ إلاّ بظهور المنتقم

مولاي ضاق الصدر قلّ الصبر حلّ

الأمر طال تضرّع المتضرّع

قم غير مأمور على اسم اللّه

وأغمده بهامة كلّ رجس مبدع

أرح البلاد من الفساد وقم بأع-

-باء الجهاد وثب لذلك واسرع

يا ربّ كن عونا له ومؤيدا

وأزل له جور المعاند واقمع

تمت هذه الرسالة الشريفة التي كتبتها على سبيل العجالة ، راجيا من الناظر فيها أن يذكر المؤلف العاصي في حياته ومماته بالخير ، ويدعو له بالمغفرة ، ويدخل السرور عليه بذلك ، وإذا وجد خطأً أو زللاً ، فليبادر الى التخطئة ، فإذا تحققّ الخطأ ، فهو متوقّع ممّن غطّته الخطايا من قرنه حتى قدميه .

ص: 533


1- المنتخب : 2/487 .

ص: 534

الفهرست

مقدّمة المترجم··· 5

مقدّمة المؤلف··· 15

[ سبب تأليف الكتاب ]··· 15

نظرة الى آداب إقامة العزاء

( 19 - 32 )

المطلب الأول في آداب التعزية وإقامة المآتم··· 19

إقامة المآتم على الإمام الحسين الى قيام قائم آل محمد عليهم السلام··· 24

المطلب الثاني أدلة وطرق ذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام ...··· 28

[ هل يجوز أخد الأجرة على النياحة ]··· 30

المجلس الأول

خروج سيد الشهداء عليه السلام من المدينة المشرّفة الى مكة المعظمة

( 33 - 54 )

المظلومون المشرّدون··· 34

تمرّد الأُمّة··· 36

لماذا لم ينزل العذاب ؟··· 38

ص: 535

تأثير مصائب الحسين عليه السلام في الكون··· 42

تأمّل آخر في مصائب الإمام الحسين عليه السلام··· 45

ذكر خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة الى مكة··· 47

هلاك معاوية وبيعة يزيد··· 47

الإمام الحسين عليه السلام يرى جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الرؤيا··· 48

الإمام الحسين عليه السلام يودّع قبر أمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام وأخيه الحسن المجتبى عليه السلام··· 49

تحرّك الحسين عليه السلام من المدينة المنورة··· 50

بكاء نساء بني هاشم عند خروج الحسين عليه السلام من المدينة··· 51

لقاء الحسين عليه السلام بطائفة من الملائكة··· 52

لقاء الحسين عليه السلام بطائفة من مسلمي الجن··· 52

لقاء الإمام الحسين عليه السلام بأمّ سلمة عليهاالسلام··· 53

المجلس الثاني

خروج سيد السعداء من مكة المعظمة الى العراق ووروده كربلاء

( 55 - 104 )

حرمة الكعبة··· 56

الكعبة والحرم الحقيقيتان··· 59

أشقياء الأمّة وهتك حرمة الحرم الإلهي··· 61

قطرة من بحار فضائل أهل البيت عليهم السلام··· 62

جبرئيل الأمين عليه السلام خادم أهل البيت عليهم السلام··· 65

صرخة جبرئيل عليه السلام يوم عاشوراء··· 67

مصيبة ما أعظمها !··· 68

طائفة أخرى من فضائل أهل البيت عليهم السلام··· 69

ص: 536

بكاء الكائنات على الإمام الحسين عليه السلام··· 72

بكاء المخلوقات على الإمام الحسين عليه السلام··· 75

ثواب البكاء على الإمام الحسين عليه السلام··· 76

ورود الإمام الحسين عليه السلام مكة··· 77

جواب الإمام الحسين عليه السلام على كتب الكوفيين··· 80

خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة··· 81

كلام الإمام الحسين عليه السلام مع محمد بن الحنفية··· 82

خطبة الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجه من مكة··· 83

كلام الإمام الحسين عليه السلام مع ابن عباس··· 84

بكاء مكة والحرم على فراق نور عين العالمين··· 84

لقاء الحسين عليه السلام مع الفرزدق··· 85

كتاب عبد اللّه بن جعفر للحسين عليه السلام··· 86

لقاء الحسين عليه السلام مع بشر بن غالب في ذات عرق··· 87

كلام الإمام الحسين عليه السلام مع ابنه علي الأكبر في منزل الثعلبية··· 87

لقاء الحسين عليه السلام مع أبي هرة··· 88

في « قصر بني مقاتل »··· 88

حركة الإمام الحسين عليه السلام نحو الكوفة وأول ردّة فعل لابن زياد اللعين··· 89

كتاب الحسين عليه السلام لأهل الكوفة من بطن الرمّة··· 89

إلقاء القبض على رسول الحسين عليه السلام··· 90

رؤيا السيدة زينب عليهاالسلام في منزل الخزيمية··· 90

في منزل « عقبة البطن »··· 91

خبر مقتل مسلم عليه السلام في منزل الثعلبية··· 91

الإمام الحسين عليه السلام يمسح على رأس بنت مسلم الصغيرة··· 92

ص: 537

الإمام الحسين عليه السلام يشيد بمقام مسلم عليه السلام··· 93

وصول خبر شهادة رسول الحسين عليه السلام في زبالة··· 94

[ في بطن العقبة ]··· 95

لقاء الحر مع الحسين عليه السلام في منزل شراف··· 95

قطرة من بحار الرحمة الحسينية··· 97

خطبة الحسين عليه السلام في أصحاب الحر··· 98

القوم يمنعون الحسين عليه السلام وأصحابه من الإنصراف··· 99

في قصر بني مقاتل··· 100

وصول كتاب ابن زياد الملعون الى الحر··· 101

النزول في كربلاء··· 102

ألا لعنة اللّه على القوم الظالمين··· 103

المجلس الثالث

وقائع كربلاء منذ نزلها الحسين عليه السلام الى ليلة عاشوراء

( 105 - 132 )

نظرة الى التقابل بين الدنيا والآخرة··· 106

عقاب قتلة الحسين عليه السلام··· 108

إخبار النبي صلى الله عليه و آله بشهادة الحسين عليه السلام··· 109

عمر بن سعد على مفترق طريقين··· 115

حرمان عمر بن سعد من ولاية الري··· 118

كتاب ابن زياد - لعنه اللّه - الى الإمام الحسين عليه السلام··· 119

ورود عمر بن سعد الى كربلاء··· 120

كتاب ابن زياد - لعنه اللّه - الى عمر بن سعد··· 122

ص: 538

خطبة ابن زياد وتحريض الناس على حرب الحسين عليه السلام··· 122

خروج شمر اللعين وتتابع الجيوش بالخروج الى كربلاء··· 122

ابن زياد يأمر بمنع الماء على الحسين عليه السلام··· 125

العباس يستقي الماء لمعسكر الحسين عليه السلام··· 126

اجتماع الحسين عليه السلام بعمر بن سعد - لعنه اللّه -··· 127

كتاب آخر من عمر بن سعد الى ابن زياد وجوابه··· 128

هجوم القوم على خيام الحسين عليه السلام عصر تاسوعاء واضطراب زينب عليهاالسلام··· 130

العباس يستمهل القوم··· 131

المجلس الرابع

وقائع ليلة العاشر

( 133 - 162 )

نصر اللّه ··· 134

مصاديق نصرة اللّه ··· 134

أول من نصر دين اللّه ··· 136

طغيان أعداء أهل البيت··· 137

الإمام الحسين عليه السلام ينصر دين اللّه ··· 142

أصحاب الحسين عليه السلام ينصرون دين اللّه ··· 144

زهير بن القين ينصر الإمام الحسين عليه السلام··· 144

بعض خصائص أنصار الإمام الحسين عليه السلام··· 147

أنصار الإمام الحسين عليه السلام في ميدان الإمتحان··· 152

ليلة العاشر برواية السيدة سكينة عليهاالسلام··· 153

ليلة العاشر برواية الإمام السجاد عليه السلام··· 155

ص: 539

بنو هاشم يعلنون الوفاء··· 156

الأنصار يعلنون الوفاء··· 156

تتمة رواية الإمام السجاد عليه السلام··· 157

سعادة جماعة ليلة العاشر بإلتحاقهم بمعسكر الحسين عليه السلام··· 158

ليلة العاشر ليلة العبادة والمناجاة··· 158

ليلة العاشر آخر ليلة من عمر الإمام الحسين عليه السلام··· 159

رؤيا الإمام الحسين عليه السلام وقت السحر ليلة العاشر··· 160

المجلس الخامس

وقائع صبح عاشوراء

المؤلمة فترة الصبح والضحى والظهر

( 163 - 188 )

إشارة الى فضائل الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام··· 170

ثواب زيارة الحسين عليه السلام··· 171

إشارة الى عظم مصيبة الإمام الحسين عليه السلام··· 177

اصطفاف جيش العدو صبح عاشوراء··· 181

برير يكلّم القوم··· 183

الإمام الحسين عليه السلام يكلّم القوم··· 184

كلام عمر بن سعد مع الإمام الحسين عليه السلام··· 187

المجلس السادس

في بيان شهادة بعض أصحابه الكرام

( 189 - 226 )الشهداء ومقام القرب الإلهي··· 190

ص: 540

شهداء كربلاء أفضل من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله··· 193

أفضلية شهداء كربلاء··· 196

الإخبار بشهادة الإمام الحسين عليه السلام··· 200

مبارزات أنصار الإمام الحسين عليه السلام وشهادتهم··· 203

شهادة الحر··· 204

شهادة برير بن خضير الهمداني··· 206

شهادة وهب بن عبد اللّه الكلبي··· 208

شهادة عمرو بن خالد الأزدي وابنه··· 210

شهادة سعد التميمي··· 211

شهادة عمران المذحجي··· 211

شهادة مسلم بن عوسجة الأسدي··· 212

وصية مسلم بن عوسجة··· 212

شهادة نافع بن هلال واشتداد حملات أنصار الحسين عليه السلام··· 213

شهادة عمرو بن قرظة الأنصاري··· 214

صلاة الظهر يوم عاشوراء··· 215

شهادة جون غلام أبي ذر··· 216

شهادة عمرو بن خالد الصيداوي··· 217

شهادة حنظلة الشبامي··· 217

شهادة سويد بن عمرو··· 218

شهادة الحجاج بن مسروق مؤذن الحسين عليه السلام··· 218

شهادة زهير بن القين··· 218شهادة حبيب بن مظاهر··· 219

شهادة هلال بن نافع البجلي··· 220

ص: 541

شهادة شاب قتل أبوه في المعركة··· 221

شهادة عابس الشاكري ومولاه··· 222

شهادة عبد اللّه وعبد الرحمن الغفاريان··· 223

شهادة الغلام التركي··· 223

شهادة يزيد بن زياد··· 224

شهادة أبو عمرو النهشلي··· 224

المجلس السابع

في شهادة أولاد عقيل وشهادة القاسم بن الحسن عليهماالسلام

( 227 - 252 )

البرّ والإحسان للوالدين··· 228

الإمام هو الوالد الحقيقي··· 229

تفسير الوالدين بالحسنين عليهماالسلام··· 231

الشكر والإحسان للوالدين الحقيقيين··· 232

الإحسان والبر بالبكاء وإقامة العزاء··· 235

إشارة الى مصائب أهل البيت عليهم السلام··· 237

للحسين عليه السلام درجة لا ينالها أحد من المخلوقين··· 238

الأمم الأخرى وإقامة عزاء الحسين

عليه السلام··· 241

إن كنت باكيا فابك على الحسين عليه السلام··· 243

شهادة آل الحسين عليه السلام··· 245

شهادة عبد اللّه بن مسلم عليهماالسلام··· 245شهادة محمد بن مسلم عليهماالسلام··· 246

شهادة عبد الرحمن بن عقيل عليهماالسلام··· 246

شهادة عبد اللّه بن عقيل وبقية آل عقيل عليهم السلام··· 247

ص: 542

شهادة أولاد جعفر عليهم السلام··· 247

شهادة محمد بن عبد اللّه بن جعفر··· 247

شهادة عون بن عبد اللّه بن جعفر··· 248

شهادة أولاد الإمام الحسن عليه السلام··· 248

شهادة القاسم بن الحسن عليهماالسلام··· 249

مصرع القاسم عليه السلام··· 250

المجلس الثامن

في بيان شهادة أولاد أمير المؤمنين عليهم السلام

( 253 - 284 )

الأشهر الحرم وحرمتها··· 254

حرمة شهر المحرم··· 255

ما هو المقصود من الأشهر الإثني عشر في هذه الآية··· 255

وجه التعبير عن الأئمة عليهم السلام بالشهور··· 258

مقارنة بين الإمام الحسين ويحيى عليهماالسلام··· 261

بكاء الملائكة والجن على الحسين عليه السلام··· 263

قتلوا بقتله الإسلام··· 264

مقتطفات من فضائل الحسين عليه السلام التي لا تحصى··· 266

العجب ممّا فعله الأعداء··· 267

محبّة النبي صلى الله عليه و آله لأهل بيته عليهم السلام··· 270شهادة أولاد أمير المؤمنين علي :··· 274

لمحة عن فضائل أبي الفضل العباس عليه السلام··· 274

شهادة أبي بكر بن علي عليهماالسلام··· 277

ص: 543

شهادة عمر بن علي عليهماالسلام··· 277

شهادة عثمان بن علي عليهماالسلام··· 277

شهادة جعفر بن علي عليهماالسلام··· 278

شهادة عبد اللّه بن علي عليهماالسلام··· 278

حملة حامل اللواء··· 279

الأمير الوفي في ميدان كربلاء··· 279

سقّاء كربلاء يتّجه نحو الفرات··· 280

مصرع أبي الفضل العباس عليه السلام··· 282

وقوف سيد الشهداء عليه السلام على مصرع العباس عليه السلام··· 283

المجلس التاسع

في شهادة فرع حيدر الكرار عليه السلام

وشبيه النبي المختار صلى الله عليه و آله المولى علي الأكبر عليه السلام

( 285 - 318 )

المشيئة الإلهية وإبتلاء العباد··· 286

الإختبار الإلهي وبشرى الصابرين··· 288

صبر خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله وذكر بعض مصائب أهل البيت عليهم السلام··· 289

مصيبة الحسين عليه السلام أعظم المصائب··· 291

صبر سيد الشهداء عليه السلام··· 292صبر الحسين عليه السلام ورضاه··· 293

علّة بكاء الحسين عليه السلام يوم عاشوراء··· 294

ما عوّض اللّه به الحسين عليه السلام عن صبره··· 298

محن الأولياء وكراماتهم··· 301

ص: 544

الإمام الحسين عليه السلام في مقدّمة أولياء اللّه ··· 303

إشارة الى مصائب يحيى عليه السلام··· 304

مقارنة بين مصائب الإمام الحسين عليه السلام الفادحة وبين مصائب الأنبياء

عليهم السلام··· 307

إبراهيم الخليل عليه السلام والذبح العظيم··· 309

نظرة الى فضائل علي الأكبر عليه السلام··· 312

علي الأكبر عليه السلام يعزم على القتال··· 314

علي الأكبر عليه السلام في الميدان··· 315

نموذج من شجاعة علي الأكبر عليه السلام··· 316

شهادة علي الأكبر عليه السلام··· 316

خروج الحرم في شهادة علي الأكبر عليه السلام··· 317

بكاء السيدة سكينة عليهاالسلام على علي الأكبر عليه السلام··· 318

المجلس العاشر

في قتال سيد الشهداء عليه السلام

( 319 - 372 )

الإمام الحسين عليه السلام صاحب النفس المطمئنة··· 320

الإمام الحسين عليه السلام ومقام الرضا والمحبّة··· 321

مقارنة بين يعقوب النبي عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام··· 324

الإمام الحسين عليه السلام زينة العرش··· 324

محبّة الحسين عليه السلام المكنونة في القلوب··· 326

إنّكم لا تطيقون سماع فضائلنا··· 327

حبّ اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله للحسين عليه السلام··· 328

محمد وآل محمد عليهم السلام الواسطة في خلق جمع المخلوقات··· 330

المصيبة التي لم يطق الأنبياء عليهم السلام سماعها··· 331

ص: 545

تأثير مصيبة الإمام الحسين عليه السلام في الأشياء··· 336

المصيبة العظمى··· 341

عاشوراء يوم حزن وهموم··· 344

غربة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء··· 348

شهادة علي الأصغر عليه السلام··· 349

الإمام الحسين عليه السلام يودّع العيال··· 351

الإمام الحسين عليه السلام يواجه الأعداء··· 353

الإمام الحسين عليه السلام يودّع العيال وداعا آخر··· 354

شجاعة الحسين عليه السلام في كربلاء··· 356

عودة الى الخيام ومواساة الحرم··· 357

حملة أخرى··· 357

وداع آخر··· 358

أسد الأسود يحمل حملة أخرى··· 359

عجز القوم عن مواجهة الحسين عليه السلام··· 360

عطش الحسين عليه السلام يوم عاشوراء··· 362

حملته عليه السلام الرابعة على الذئاب··· 363

جراحات الحسين عليه السلام··· 363

وداع آخر··· 365

محاصرة الإمام الحسين عليه السلام··· 366

شهادة عبد اللّه بن الحسن في اللحظات الأخيرة قبل شهادة الحسين عليه السلام··· 366

آخر لحظات الإمام الحسين عليه السلام··· 367

حضور زينب عليهاالسلام عند الحسين عليه السلام··· 368

مصرع الحسين عليه السلام··· 368

مصرع الحسين عليه السلام برواية هلال بن نافع··· 370

ص: 546

المجلس الحادي عشر

وقائع ما بعد شهادة سيد الشهداء عليه السلام ونهب الخيام

( 373 - 402 )

الأمّة وأجر الرسالة··· 374

أفضل الأعمال··· 376

ولاية أهل البيت وقبول الأعمال··· 377

العجب من هذه الأمّة··· 379

أعظم الواجبات محبّة أهل البيت عليهم السلام··· 381

مراتب المحبّة··· 381

حبّ الحسين عليه السلام والبكاء عليه··· 382

تأثير المحبّة والمعرفة في التأثر بالمصيبة··· 385

عظم مصيبة الحسين عليه السلام على أهل البيت عليهم السلام··· 386

بعد الشهادة··· 390

عودة الفرس الى الخيام··· 391

حرق الخيام··· 392

نهب الخيام برواية فاطمة الصغرى عليهاالسلام··· 392

رواية أخرى عن فاطمة الصغرى عليهاالسلام··· 394

جسم الحسين عليه السلام تحت سنابك الخيل··· 396

سبي آل البيت··· 397

مرور أهل البيت على مصارع الشهداء··· 398

ندبة زينب الكبرى عليهاالسلام في المصرع··· 399

سكينة عليهاالسلام عند جسد الحسين عليه السلام··· 400

مرور الإمام السجاد عليه السلام على مصرع أبيه عليه السلام··· 401

ص: 547

المجلس الثاني عشر

في ورود قافلة المحنة والألم الى الكوفة

( 403 - 438 )

للّه الأمر من قبل ومن بعد··· 404

الإمام الحسين عليه السلام والأنبياء عليهم السلام··· 405

آدم عليه السلام والحسين عليه السلام··· 406

نوح والحسين عليهماالسلام··· 406

سليمان والحسين عليهماالسلام··· 406

إبراهيم والحسين عليهماالسلام··· 407

موسى والحسين عليهماالسلام··· 408

عيسى والحسين عليهماالسلام··· 409

بعض غرائب أموره عليه السلام··· 410

إسماعيل ويحيى والحسين عليهم السلام··· 412

زيارة أرواح الأنبياء عليهم السلام لقبر الحسين عليه السلام··· 413

نوح الجن على الحسين عليه السلام··· 415

رؤوس الشهداء على رؤوس الرماح··· 417

إرسال الرأس المقدّس الى ابن زياد··· 418

الرأس المقدّس في تنور خولي··· 419

دخول السبايا الى الكوفة··· 420

خطبة السيدة زينب عليهاالسلام في الكوفة··· 421

خطبة فاطمة الصغرى عليهاالسلام في الكوفة··· 423

خطبة السيدة أم كلثوم عليهاالسلام في الكوفة··· 426

خطبة الإمام سيد الساجدين عليه السلام في الكوفة··· 427

ص: 548

ورود أهل البيت الى الكوفة برواية مسلم الجصّاص··· 428

كلام السيدة زينب عليهاالسلام مع الرأس المقدّس في الكوفة··· 429

السبايا في مجلس ابن زياد الملعون··· 430

كلام الإمام السجاد عليه السلام وابن زياد لعنه اللّه ··· 432

إعتراض زيد بن أرقم في مجلس ابن زياد··· 432

ابن زياد يأمر بحبس أهل البيت عليهم السلام··· 434

الرأس المقدّس يتلو القرآن··· 434

كتاب ابن زياد الى يزيد وعمرو بن سعيد لعنهم اللّه ··· 436

وصول خبر شهادة الحسين عليه السلام وأصحابه الى المدينة··· 436

المجلس الثالث عشر

في دخول قافلة المحنة والآلام الى الشام وما جرى عليهم هناك

( 439 - 500 )

ناقضوا العهد··· 440

مقارنة بين الأمم السالفة والأمّة المرحومة··· 441

الظليمة العظمى في التاريخ··· 444

إشارة الى فضائل أهل البيت ومقاماتهم عليهم السلام··· 445

كرم الحسين عليه السلام وسخاؤه··· 446

عبادته عليه السلام··· 448

أول من أسس أساس الظلم والجور على أهل البيت عليهم السلام··· 449

كتاب عبد اللّه بن عمر الى يزيد في شهادة الحسين عليه السلام··· 449

خروج عبد اللّه بن عمر الى يزيد عليه اللعنة··· 450

جرائم الشجرة الملعونة - بني أمية -··· 454

ص: 549

صور من تظلّم الزهراء عليهاالسلام يوم المحشر··· 458

حركة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة الى الشام··· 460

أهل البيت عليهم السلام في تكريت··· 461

أهل البيت عليهم السلام في وادي النخلة··· 461

أهل البيت عليهم السلام في مرشاد··· 462

أهل البيت عليهم السلام في بعلبك··· 462

الرأس المقدّس في طريق الشام··· 462

مصائب أهل البيت عليهم السلام في الشام··· 467

أهل البيت عليهم السلام على مشارف الشام··· 469

ورود أهل البيت عليهم السلام الى الشام برواية سهل الساعدي··· 470

نصراني يسلم عند رأس الحسين عليه السلام··· 471

فرح بني أمية بدخول السبايا الى الشام··· 472

تعامل أهل الشام مع أسرى آل محمد

صلى الله عليه و آله··· 472

يزيد - لعنه اللّه - يسمع بخبر وصول السبايا··· 473

الرأس المقدّس يتكلّم في الشام··· 474

أهل البيت عليهم السلام في مجلس يزيد الملعون··· 474

الرأس المقدّس في مجلس يزيد وآهات أهل البيت عليهم السلام··· 476

يزيد لعنه اللّه يقرع الرأس المقدّس وأبو برزة الأسلمي يعترض··· 477

خطبة السيدة الحوراء زينب الكبرى

عليهاالسلام في مجلس يزيد لعنه اللّه ··· 477

مجلس يزيد لعنه اللّه برواية الإمام الرضا عليه السلام··· 479

مجلس يزيد لعنه اللّه برواية أخرى··· 480

كلام يزيد لعنه اللّه مع السيدة سكينة عليهاالسلام··· 480

كلام يزيد لعنه اللّه مع زينب الحوراء عليهاالسلام··· 481

ص: 550

شامي يستوهب فاطمة من يزيد لعنه اللّه ··· 482

إعتراض النصراني على يزيد لعنه اللّه ··· 483

حبس أهل البيت عليهم السلام في خرابة الشام··· 486

صلب الرأس المقدّس على باب دار يزيد لعنه اللّه وخروج هند زوجة يزيد··· 487

الى المجلس العام··· 487

الرأس المقدّس والأنبياء عليهم السلام··· 487

إعتراض سفير الروم في مجلس يزيد لعنه اللّه ··· 489

كلام رأس الجالوت··· 491

إعتراض الإمام السجاد عليه السلام على خطيب يزيد اللعين··· 491

خطبة السجاد عليه السلام في مجلس يزيد··· 492

فزع يزيد من خطبة السجاد عليه السلام··· 494

كلام الإمام السجاد عليه السلام مع المنهال··· 494

إعتراض حبر من أحبار اليهود في مجلس يزيد لعنه اللّه ··· 495

رؤيا سكينة المظلومة عليهاالسلام في شام المحنة والبلاء··· 495

رؤيا هند زوجة يزيد لعنه اللّه ··· 497

أهل البيت : يقيمون العزاء في الشام··· 498

المجلس الرابع عشر

في دخول أهل البيت الى المدينة المنوّرة

( 501 - 532 )

حكم من قتل مظلوما··· 502

المنتقم للحسين عليه السلام··· 502

إشارة الى أيام ظهور صاحب الأمر صلوات اللّه عليه··· 505

ص: 551

تظلّم فاطمة عليهاالسلام في الرجعة··· 506

تظلّم أمير المؤمنين عليه السلام··· 509

تظلّم الحسن المجتبى عليه السلام··· 510

تظلّم سيد الشهداء عليه السلام وأصحابه··· 511

عاقبة الظالمين··· 512

نقمة اللّه على قاتلي الحسين عليه السلام في الدنيا··· 514

عمّر مئة سنة في انتظار دولة القائم عليه السلام··· 517

الإنتقام العاجل لدم الحسين عليه السلام··· 518

عودة أهل البيت عليهم السلام الى المدينة··· 519

زيارة الأربعين··· 522

إقامة العزاء في كربلاء··· 522

ندبة أهل البيت عليهم السلام في كربلاء··· 523

وقفة مع زيارة الأربعين الأولى··· 524

أهل البيت عليهم السلام يودّعون كربلاء··· 526

دخول أهل البيت عليهم السلام الى المدينة··· 527

بشير ينعى الحسين عليه السلام في المدينة··· 527

محمد ابن الحنفية يستقبل الضعن··· 529

مرثية أم كلثوم عليهاالسلام في المدينة··· 530

ندبة زينب عليهاالسلام في المدينة··· 530

لا ينقضي الهمّ إلاّ بظهور المنتقم··· 531

الفهرست··· 533

ص: 552

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.