مسلم بن عقيل عليه السلام قصّة شراء والدته

اشارة

هوية الكتاب

الكتاب : مسلم بن عقيل عليه السلام / قصّة شراء والدته

المؤلف : سيد علي جمال أشرف

الناشر :

عدد الصفحات والقطع : 70 صفحة - پالتويى

الطبعة : الأُولى

سنة الطبع : 1388 ش - 1430 ه

عدد المطبوع : نسخة

المطبعة :

الشابك :

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

مسلم بن عقيل عليه السلام ( قصّة شراء والدته )

تأليف : السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

المقدّمة

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .

وصلّى اللّه وسلّم على سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام المكروب المغموم العطشان الشهيد المسلوب والمنهوب الخباء ، وعلى أخيه وابن عمّه وصهره وسفيره وثقته الواثق مسلم بن عقيل عليه وعلى أبيه وإخوته وبنيه .

أمّا بعد :

إنّ الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومن سلّطهم على رقاب المسلمين لم تنته بعد منذ أن بادروا إلى مواجهة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله وإلى

ص: 5

يوم الناس هذا ، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم والطالب بدم الحسين عليه السلام ، والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء .

ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورة أو مشهد أو موقف معين ، كما أنّها لم تنحصر في زمن من الأزمان منذ أن سقط هابيل مضرجاً بدمه .

وقد امتاز الأمويون عبر التاريخ بالإعلام القوي ، والحرب النفسية ، والتسلّل الماكر إلى قلوب الناس وأفكارهم ، وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخدّاع ، وقد اشتهر كلامهم على الألسن : « للّه جنود من عسل » .

وكانت حربهم الإعلامية مع سيد الشهداء عليه السلامقوية ماكرة تتّسم بالخبث والشيطنة بحيث صوّرت سبط النبي وريحانة الرسول وسيد شباب أهل الجنة للمغرّر بهم من السذج في صورة الخارجي ، وأبدت سكان سرادق العزّ من مخدرات الرسالة وعقائل الوحي في مشهد السبايا . . .

ص: 6

وقد جهد الأمويون في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين وأصحابهم الغرّ الميامين - عليهم صلوات ربّ العالمين - ، وتقديمهم إلى التاريخ باعتبارهم لا يعرفون من السياسة والتعامل الإجتماعي شيئاً ، فيما يرسم لنا آل أمية وأذنابهم في صور مضلّلة كأنّهم دهات السياسة وعفاريت التاريخ ؟!

فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار الذين شهد لهم الكتاب والسنة بالطهارة والعصمة والقدس ، فما ظنّك بأنصارهم والمدافعين عنهم والمحامين عن حريمهم . . .

وربما اضطر العدو - أحياناً - إلى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمة عليهم السلام عموماً ، وأنصار سيد الشهداء عليه السلام خصوصاً ، لأنّه لا يجد في الإمام مغمزاً ولا مهمزاً ، فيحاول الاقتراب من حريمه من خلال التعرّض لأقرب الشخصيات منه ، والسعي في تهديم الأركان التي بنيت عليه أسس معسكرات الهدى .

ص: 7

كما جهد الأمويون في تقديم مسوخهم في صور مزيفة خدّاعة كخضراء الدمن . .

فلا ينبغي الخضوع للتاريخ الملوّث الذي كتبه المؤرخ المأجور الذي يكتب على أنغام رنين الدراهم والدنانير إلاّ إذا كان منسجماً مع الموقف المعصوم، أو لايعارضه على الأقلّ.

فنحن لا نقبل ما يرويه لنا التاريخ في أشخاص عرفناهم من خلال تقييم أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وإنّما نعرض كلّما نسمعه على كلامهم ومواقفهم ، فما وافقها قبلناه ، وما خالفها ضربنا به عرض الجدار ، ولا كرامة .

وقد استهدف مسلم بن عقيل عليهماالسلام

استهدافاً خاصاً من قبل الأمويين لأسباب معروفة ، فحاولوا عرضه في صورة لا تقدح فيه وحده وإنّما تتعرّض إلى قيام سيد الشهداء عليه السلام، وقد خابوا وضلّوا ضلالاً بعيدا.

* * *

ص: 8

وممّا يطول فيه العتب على المؤرخ أنّه اهتم بسفاسف الأمور ، والأنذال والأوباش وأهمل العظماء الذين رسموا التاريخ وحدّدوا معالمه ، من أمثال مسلم بن عقيل عليهماالسلام الذي مثّل أدقّ وأهمّ فترة في تاريخ البشرية ، واختطت حركته أكبر منعطف غيّر مسيرة خطّي التوحيد والضلال .

وقد نسب التاريخ لساحة مولانا مسلم بن عقيل عليهماالسلام - المثال النيّر للقدس والطهارة في النسب والحسب والمحتد والعلم ومكارم الأخلاق والدين والتقى والسمو والرفعة والشجاعة والبطولة والتسليم للّه ولرسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام - نسب إليه ما حكاه المدائني الخائب من قصّة شراء السيدة والدته المطهّرة وما تضمّنته من أراجيف ستطّلع عليها في ثنايا الحديث إن شاء اللّه تعالى .

وقد حاولنا في هذه الوجيزة العاجلة مناقشة هذه الفرية ، بحول اللّه وقوته .

ص: 9

ونرجو من اللّه السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل ، وينفعنا به - ووالدينا - يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا خليل ، ولا يحرمنا وأزواجنا وذريّتنا خدمة زين السماوات والأرضين سيد الشهداء الحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة ، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يرضيه ويرضي النبي الأمين صلى الله عليه و آلهوأمير

المؤمنين ، وذريّته الطاهرين المعصومين عليهم السلام ، بحقّ سيدنا ومولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف وأخته فاطمة المعصومة عليهماالسلام . .

اللّهم اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذريّتنا وإخواننا المؤمنين ، وعجّل فرج ولي أمرنا ، الطالب بدم جدّه الحسين عليهماالسلام ، آمين ربّ العالمين .

السيد علي السيد جمال أشرف الحسيني

1430/11/29

ص: 10

السيدة والدة مسلم بن عقيل عليهماالسلام

اشارة

ص: 11

ص: 12

وردت روايتان في تحديد هوية أُم مسلم بن عقيل عليهماالسلام :

أحدهما : رواها المدائني عن معاوية .

والأخرى : رواها ابن قتيبة في المعارف .

الرواية الأولى: معاوية يشتري أُم مسلم لعقيل

اشارة

روى المدائني قال : قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب : هل من حاجة فأقضيها لك ؟

قال : نعم ، جارية عرضت عليّ وأبى أصحابها أن يبيعوها إلاّ بأربعين ألفاً .

فأحبّ معاوية أن يمازحه ، فقال : وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهماً ؟!

قال : أرجو أن أطأها فتلد لي غلاماً إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف .

ص: 13

فضحك معاوية وقال: مازحناك يا أبايزيد.

وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلماً !

فلمّا أتت على مسلم ثماني عشرة سنة - وقد مات عقيل أبوه - قال لمعاوية : يا أمير المؤمنين ! إنّ لي أرضاً بمكان كذا من المدينة ، وإنّي أعطيت بها مائة ألف ، وقد أحببت أن أبيعك إياها ، فادفع إليّ ثمنها .

فأمر معاوية بقبض الأرض ودفع الثمن إليه.

فبلغ ذلك الحسين عليه السلام ، فكتب إلى معاوية:

أمّا بعد ، فإنّك غررت غلاماً!! من بني هاشم، فابتعت منه أرضاً لا يملكها !! فاقبض من الغلام ما دفعته إليه واردد إلينا أرضنا .

فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك ، وأقرأه كتاب الحسين عليه السلام ، وقال : اردد علينا مالنا وخذ أرضك ، فإنّك بعت ما لا تملك .

فقال مسلم : أمّا دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا .

ص: 14

فاستلقى معاوية ضاحكاً يضرب برجليه ، فقال : يا بنيّ ، هذا - واللّه - كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمّك!! .

ثم كتب إلى الحسين عليه السلام فقال : إنّي قد رددت عليكم الأرض ، وسوغت مسلماً ما أخذ .

فقال الحسين عليه السلام : أبيتم يا آل أبي سفيان إلاّ كرماً(1) !!!

وقال أبو الفرج في مقاتله : 52 :

مسلم بن عقيل ، وهو أول من قتل من أصحاب الحسين بن علي عليهماالسلام . . وأمّه أم ولد يقال لها : « علية » ، وكان عقيل اشتراها من الشام ، فولدت له مسلماً ، ولا عقب له .

وهاتان الروايتان ترجع إحدهما إلى الأخرى ومؤداهما أنّ عقيل اشتراها من الشام .

ص: 15


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/251 ، إبصار العين للسماوي : 78 .

مناقشة الرواية الأولى

ويمكن أن تناقش رواية المدائني التي تناسب أن تكون من نسج القصاصين الذين راجت بضاعتهم في العصر الأموي بإسناد خاص من السلطة :

مناقشة السند

لم يذكر ابن أبي الحديد وغيره أو المدائني سنداً لما رواه ، فالقصّة ساقطة بهذا الاعتبار ، وغاية ما يقال فيها : إنّها قصة وردت في كتب التاريخ على لسان من « لا يعدو عن أن يكون مؤرخاً ، لا يتثبت فيما ينقله ، ولا يتحقّق من صحّته في كثير من الأحيان(1) . . » .

فهي منقطعة الإسناد، وطرح رجال الحديث ممّا يحطّ من قيمته لما فيه من الجهالة بمعرفة أحوال أولئك المتروكين والتدليس الشائن(2) .

ص: 16


1- دراسات في التاريخ لجعفر مرتضى : 207 .
2- الشهيد مسلم عليه السلام للسيد المقرم : 37 .

من هو المدائني ؟

المدائني (135 - 225 ه = 752 - 840 م):

علي بن محمد بن عبد اللّه ، أبو الحسن المدائني : راوية مؤرخ ، كثير التصانيف ، من أهل البصرة .

سكن المدائن ، ثم انتقل إلى بغداد ، فلم يزل بها إلى أن توفي .

أورد ابن النديم أسماء نيف ومائتي كتاب من مصنفاته في المغازي ، والسيرة النبوية ، وأخبار النساء ، وتاريخ الخلفاء ، وتاريخ الوقائع والفتوح ، والجاهليين ، والشعراء ، والبلدان(1) .

وقد ضعّفه ابن عدي في « الكامل » ، والذهبي في « الاعتدال » ، وابن حجر في « لسان الميزان » ، فقالوا - واللفظ للأول - :

علي بن محمد بن عبد اللّه بن أبي سيف أبو الحسن المدائني مولى عبد الرحمن بن

ص: 17


1- الأعلام للزركلي : 4/323 .

سمرة ، ليس بالقوي في الحديث ، وهو صاحب أخبار . . معروف بالأخبار وأقلّ ما له من الروايات المسندة(1) .

وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي خيثمة قال : كان أبي ، ومصعب الزبيري ، ويحيى بن معين يجلسون بالعشيات على باب مصعب ، فمرّ رجل ليلة على حمار فاره ، وبزّة حسنة ، فسلّم ، وخصّ بمسألته يحيى بن معين .

فقال له يحيى : يا أبا الحسن ، إلى أين ؟

قال : إلى هذا الكريم الذي يملأ كمّي دنانير ودراهم ، إسحاق بن إبراهيم الموصلي . .

فسألت أبي : من هذا ؟

قال : هذا المدائني . . . .

وقيل له في مرضه : ما تشتهي ؟

ص: 18


1- الكامل لا بن عدي : 5/213 رقم1366 ، ميزان الاعتدال للذهبي : 3/153 رقم5921 ، لسان الميزان لابن حجر : 4/253 رقم689 .

قال : أشتهي أن أعيش(1) !

وقال عنه ابن حجر في لسان الميزان : لم أره في ثقات ابن حبان(2) .

وقال عنه ابن النديم : مات المدائني سنة خمس وعشرين ومائتين ، وله ثلاث وتسعون سنة ، في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي ، وكان منقطعا إليه(3) .

فلا يوثق - والحال هذه - برجل يشتهي أن يعيش ! ويلهث وراء من يملأ كمّه دنانير ودراهم ، ويدين بالولاء لبني أمية ، وينتمي إليهم من جهة ولائه لآل عبد شمس ، فهو أموي المذهب ، أموي الانتماء ، فلا يركن إلى ما ينقله مهما تكثرت في الجوامع وأمهات المصادر ، بعد أن وضح لنا أنّه حائد عن كلّ من ناوأ معاوية(4) .

ص: 19


1- سير أعلام النبلاء للذهبي : 10/401 .
2- لسان الميزان لابن حجر : 4/253 .
3- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 38 .
4- فهرست ابن النديم : 113 .

وإنّ الشواهد تؤكد على تحيّزه وممالأته لأعداء أهل البيت عليهم السلام(1) .

مناقشة المتن

أولاً : الميزان في قبول قول المؤرخ

لا ينبغي الخضوع للتاريخ الملوث الذي كتبه المؤرخ المأجور الذي يكتب على أنغام رنين الدراهم والدنانير إلاّ إذا كان منسجماً مع الموقف المعصوم ، أو لا يعارضه على الأقلّ .

فنحن لا نقبل ما يرويه لنا التاريخ في أشخاص عرفناهم من خلال تقييم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وإنّما نعرض كلّما نسمعه على كلامهم ومواقفهم ، فما وافقها قبلناه ، وما خالفها ضربنا به عرض الجدار ، ولا كرامة .

ص: 20


1- دراسات في التاريخ والإسلام للعاملي : 207 .
ثانيا : اهتمام الأمويين بتقديم صورة مفتعلة لهم ولخصومهم

إنّ الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومن سلّطهم على رقاب المسلمين لم تنته بعد منذ أن بادروا إلى مواجهة خاتم النبيين وإلى يوم الناس هذا ، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم والطالب بدم الحسين عليه السلام ، والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء .

ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورة أو مشهد أو موقف معين ، كما أنّها لم تنحصر في زمن من الأزمان منذ أن سقط هابيل مضرجاً بدمه .

وقد امتاز الأمويون عبر التاريخ بالإعلام القوي ، والحرب النفسية ، والتسلل الماكر إلى قلوب الناس وأفكارهم ، وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخدّاع ، وقد اشتهر كلامهم على الألسن : « للّه جنود من عسل » .

ص: 21

وكانت حربهم الإعلامية مع سيدالشهداء

عليه السلام قوية ماكرة تتّسم بالخبث والشيطنة بحيث صوّرت سبط النبي صلى الله عليه و آله

وريحانة الرسول وسيد شباب أهل الجنة عليه السلام

للمغرّر بهم من السذج في صورة الخارجي ، وأبدت سكان سرادق العزّ من مخدرات الرسالة وعقائل الوحي في مشهد السبايا . . .

وقد جهد الأمويون في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين وأصحابهم الغرّ الميامين - عليهم صلوات ربّ العالمين - ، وتقديمهم إلى التاريخ باعتبارهم لا يعرفون من السياسة والتعامل الإجتماعي شيئا ، فيما يرسم لنا آل أمية وأذنابهم في صور مضلّلة كأنّهم دهات السياسة وعفاريت التاريخ ؟!

فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار عليهم السلام الذين شهد لهم الكتاب والسنة بالطهارة والعصمة والقدس، فماظنّك بأنصارهم والمدافعين عنهم والمحامين عن حريمهم ...

ص: 22

وربما اضطر العدو - أحياناً - إلى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمة عموماً ، وأنصار سيد الشهداء عليه السلامخصوصاً ، لأنّه لا يجد في الإمام مغمزاً ولا مهمزاً ، فيحاول الاقتراب من حريمه من خلال التعرّض لأقرب الشخصيات منه ، والسعي في تهديم الأركان التي بنيت عليه أسس معسكرات الهدى .

وقد استهدف مسلم بن عقيل عليهماالسلام

استهدافا خاصا من قبل الأمويين لأسباب معروفة .

كما جهد الأمويون في تقديم مسوخهم في صور مزيفة خدّاعة كخضراء الدمن ، وهذا ما تجده واضحا في صياغة هذه القصّة .

فإنّ المتأمل في هذه المحاورة الواقعة بين عقيل ومعاوية في أمر الجارية يظهر له مغزى المدائني ، فإنّه أراد أن يسجّل صحيفة من حلم معاوية وأناته وكرمه مع المسّ في

ص: 23

الذوات المقدّسة من آل الرسول الأطهر ، وقد فاته أنّ المستقبل يكشف عن نواياه(1) . .

قال السيد جعفر مرتضى العاملي - حفظه اللّه - :

فلعل سبب افتعال تلك الرواية ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان بعد أن كانت الرواية نفسها صريحة في ذلك كلّ الصراحة ، وذلك لأنّها تتضمن :

أولاً :

النصّ على كرم معاوية وحلمه ، لأنّه اشترى لعقيل الجارية بعد ما أسمعه عقيل الكلام الجارح لمجرّد أنّ معاوية كان قد أحبّ ممازحته .

كما أنّه قد صفح عن جرأة مسلم وتهديداته له ، وأحسن إليه بأن سوّغه المائة ألف ، وردّ عليه الأرض . . .

وكلّ هذا ولا شكّ كرم عظيم وحلم رجل

ص: 24


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 38 .

وفيّ كريم ، ولا سيما إذا اعترف بذلك له ولكلّ آل أبي سفيان مثل الإمام الحسين بن علي !!!

ثانياً :

الرواية تنسب في مقابل ذلك إلى الإمام الحسين [ وحاشاه ] أنّه يلقي التهم جزافاً بلا مبرر ظاهر ، بل مبنية على الحدس والتخمين المخالف للواقع ، وذلك ينافي ما يقال عنه: إنّه

ممّن أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

هذا عدا عن أنّ الرواية تتّهم مسلماً [ جلّ عن ذلك ] بالاحتيال ، حيث يبيع أرضاً ليست له .

ثم إنّ الحسين عليه السلام يجعل هذا المحتال بالذات ممثّلاً له ونائباً عنه ! ويصفه بأنّه أخاه ، وثقته من أهل بيته!! هؤلاء هم أصحاب الحسين عليه السلام

وثقاته محتالون دجّالون !!!

ثالثاً :

الرواية تظهر أنّ آل أبي طالب - سواء في ذلك عقيل أو مسلم - أو الحسين عليه السلام أو

ص: 25

غيرهم . . هم أهل فظاظة وعدوان . . وأمّا آل أبي سفيان وعلى رأسهم معاوية الذي حارب علياً ، وسنّ لعنه على المنابر ، وقتل ولده الحسن ، وفعل غير ذلك من الأفاعيل ، فهم - باعتراف الحسين عليه السلام نفسه - أهل حلم وكرم وصفح حتى بالنسبة لأعدى أعدائهم الذين ما فتئوا يواجهونهم بقوارع القول ، وقواذع الكلام ، وهم في المقابل يوسعونهم صفحاً وحلماً وكرماً . . .

ومعنى ذلك أنّ الأمويين إذا ما قسوا في وقت ما على آل أبي طالب أو لعنوا علياً والحسن والحسين وغيرهم على المنابر . . فلابد وأنّ آل أبيطالب أنفسهم قد اضطروهم لذلك ، وألجأوهم إليه ، لأنّهم دائماً هم المعتدون ولمثل ذلك العقاب مستحقّون .

أي أنّ السوء ليس في معاوية والأمويين .. .

وقد أوضحت الرواية كيف واجه عقيل والحسين ومسلم معاوية بتلك القسوة . . .

ص: 26

وكيف كان معاوية بهم جميعاً رفيقاً وبالكرم والصفح عنهم حقيقاً حتى لقد اضطر الحسين لأن يعلن رأياً في آل أبي سفيان يخالف رأيه ورأي الهاشميين المعروف فيهم . .

وعليه فلابد وأن يكون قتل مسلم والحسين فيما بعد على يد يزيد ولد معاوية إنّما هو بما جنته أيديهما ! لا ظلماً لهما واعتداءاً عليهما كما يصوّره الهاشميون ومن يتشيع لهم(1) ..

ثالثاً : توظيف المدائني للحطّ من أهل البيت ورفع الأمويين

لقد عرفنا المدائني قبل قليل ، وسمعنا شهادة الرجاليين والمؤرخين فيه ، فهو المكثر من خلق الأحاديث الرافعة للبيت الأموي ، والواضعة من قدر رجالات بيت الوحي

ص: 27


1- دراسات في التاريخ والإسلام للعاملي : 216 - 217 .

والنبوة ، وإنّها لشنشنة مضى عليها الأولون نعرفها من منافسة عبد شمس أخاه هاشماً مطعم الطير والوحوش ، ومنافسة حرب بن أمية عبد المطلب الذي كفأ عليه إناءه واستعبده عشر سنين ، ومنافسة أبي سفيان للرسول الأعظم الذي منّ عليه يوم الفتح وأطلق له ، جاهد ونافس ابن آكلة الأكباد أمير المؤمنين عليه السلام الذي اصطفاه النبي صلى الله عليه و آله يوم المؤاخاة بالأخوة ، ومنحه الخلافة الإلهية إذ قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي(1) . . .

رابعاً : النيل من مسلم عليه السلام وزعزعة الثقة بينه وبين الحسين عليه السلام

تحاول القصّة أن تعرض مسلماً في صورة غلام غرّ لا يحسن أي شيء ، خفيف الوزن لا يميز المواقف ، ولا يعرف الكلام ، ولا يقيّم

ص: 28


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 38 .

الأشخاص ، بحيث يتكلّم كالأطفال بين يدي السلطان ، ولهذا يقابله معاوية بضحكة ماجنة ، ويستلقي على قفاه يفحص بيديه ورجليه متصنعاً متكلّفاً ، وكأنّه يحاول أن يبدو أمام جرأة مسلم عليه السلام متماسكاً يتعامل مع الهجوم القوي على جبار عنيد طاغي بشكل يعرض فيه خصمه خفيفاً غرّاً لا قيمة له ولا وزن ، فهو غلام حدث غرّ من أب أعمى وأم جارية مملوكة لمعاوية تفضّل بها معاوية على أبيه .

فكأنّه أراد أن يذكره بإحسانه عليه وعلى أبيه ، وأنّه صاحب الأيادي البيضاء الكريمة ، والمتفوّق عليه في مكارم الأخلاق ، والسبق إلى السخاء والجود والكرم ، بل هو صاحب ولائه في واقع الأمر .

وقد انكشف ما يضمره معاوية من سوء نية وخبث طويّة في قصّته هذه ، فهو يريد أن يقول لمسلم عليه السلام : إنّ أباك كان على خلاف مع

ص: 29

عمّك وقد فارقه وهو عليه ساخط والتجأ إلينا ، وأنّ الحسين عليه السلام وقف منه موقفاً غير محمود ، ووصفه بصفات لا ترتاح اليها النفس ، محاولاً في ذلك أن يعرض مسلماً عليه السلام

مرتبكاً منهزماً داخلياً ناظراً إلى الحسين عليه السلام

بعين الريبة والتوجّس ، لأنّ الحسين وآباء الحسين عليهم السلام قد أسخطوا أباه حتى ألجأوه إلى

معاوية فاستجدى منه أمّه ، وبذلك يفرّق بين مسلم وبين علي وآل علي عليهم السلام .

خامسا: التشكيك فياختيارالحسين عليه السلام

مؤدى قصّة المدائني أن لا يزيد عمر مسلم بن عقيل عليهماالسلام عن « 28 سنة » يوم شهادته ، وبهذا تحاول القصّة أن تصوّر رائد الحسين عليه السلام

شاباً قليل التجربة ، فتخلص إلى أنّ سيد الشهداء عليه السلام إنّما كان يعتمد في خروجه على أمثال مسلم عليه السلام الشاب ، فيسري التشكيك باختيارات الحسين عليه السلاموقراراته .

ص: 30

وغفل الأمويون وعمّالهم أنّ بني هاشم لايقاسون بأحد - على فرض صحّة مؤدى قوله في عمر مسلم عليه السلام - .

ثم إنّ الميزان عندنا ليس العمر ، ولا التقييم الأموي ، وإنّما الاختيار الإلهي المعصوم ، فإنّ مسلماً عليه السلام الذي « يجده سيد الشهداء عليه السلام قابلاً لأهلية الولاية على أعظم

حاضرة في العراق - الكوفة - فيحبوه بالنيابة الخاصة في الديانات والمدنيات ، لابد وأن يكون أعظم رجل في العقل والدين والأخلاق حتى لا يقع الغمز والطعن فيمن يمثّل موقف الإمامة بأنّه ارتكب دنية أو جاء برذيلة ، أو فعل محرماً أو بدت منه رعونة ، ولو في أمسه الدابر ، فينتكث فتله وتتلاشى مقدرته .

على أنّ تلكم الأحوال لو كان من الجائز صدورها منه في الماضي لجاز عودها إليه أيام ولايته ، فينتقض الغرض من إرساله مهذباً

ص: 31

ومؤدباً وقامعاً للريب والشبهات ، وزاجراً عمّا يأباه الدين والإنسانية » .

فالميزان ليس ما تصوره قصّة المدائني ، وإنّما ما يقرّره الإمام المعصوم عليه السلام ، « فالإمام أبو عبد اللّه لم يشرّف أحداً بالولاية إلاّ وهو يعلم بأنّه يمضي كالحديدة المحماة ، وإنّا لا نشكّ في أنّ سيد الشهداء عليه السلام لم يرسل مسلماً عليه السلام والياً من قبله ، ويزيّنه بتلك الرتبة العظيمة ، ثم يشفع ذلك بتشريف الأخوة له التي هي أخوة العلم والدين ، وأنّه ثقته من أهل بيته إلاّ وهو يعلم بأنّه في كلّ أدوار حياته منذ نشأته إلى حين تأهله لهذه الزعامة الكبرى رجل العلم والتقى ، رجل العقل والسياسة ، رجل الأخلاق والإيمان »(1) .

وهذا كاف لرفض القصّة من رأس ، لأنّ خيرة خيرة اللّه لا يصدر منه ما نسبته إليه القصّة .

ص: 32


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 41 .
سادساً : عدم انسجام الحكاية مع تاريخ وفاته

اختلف المؤرخون في تاريخ وفاة عقيل عليه السلام على أقوال ، والقصّة لا تنسجم معها جميعاً .

القول الأول :

ذهب الصفدي وابن كثير وسبط ابن الجوزي وغيرهم إلى أنّه توفي سنة خمسين للهجرة(1) .

فيكون عمر مسلم عليه السلام يوم شهادته ثمان وعشرون سنة ، وتكون ولادته سنة اثنتين وثلاثين .

مناقشة القول الأول

ويردّ هذا أمور :

الأول :

إنّ عقيلاً لم يكن أعمى في تلك السنة ، بل ابتلي بالعمى بعد سنة 39 .

ص: 33


1- نكت الهميان للصفدي: 201، البداية والنهاية لابن كثير: 8/47، تذكرة الخواص لابن الجوزي: 11 .

ثانياً :

إنّ هذا لا يلتئم مع ما ذكره ابن شهرآشوب الحافظ الثبت الثقة بنصّ الفريقين من الشيعة والسنة ، فإنّه يقول :

جعل أمير المؤمنين على ميمنته في صفين الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر ومسلم بن عقيل ، وعلى الميسرة محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال(1) .

ومن المعلوم أنّ من يجعله أمير المؤمنين عليه السلام

في صفّ أولاد عمّيه البالغين نحواً من خمس وثلاثين سنة ، لابد وأن يقاربهم في السن ، كما قرن بين ابن الحنفية ومحمد بن أبي بكر ، وهما متقاربان في السن ، فإنّ محمد بن الحنفية ولد سنة 16، وله يوم صفين إحدى وعشرون سنة، ومحمد بن أبي بكر ولد عام حجّة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة حين توجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله للحجّ ، وقتل سنة 38 ، وله يوم صفين 27 سنة .

ص: 34


1- المناقب : 2/260 .

وحينئذٍ لا أقلّ أن يقدّر عمر مسلم بن عقيل عليهماالسلام بالثلاثين أو الثمان وعشرين ، وتكون ولادته إمّا سنة سبع أو تسع ، وله يوم شهادته أكثر من خمسين سنة .

وعلى هذا التقدير في ولادته أين ولاية معاوية في الشام ؟ وأين مسير عقيل إليه ؟ بل أين إسلام معاوية ، فإنّه أسلم بعد سنة تسع قبل وفاة النبي صلى الله عليه و آله بأشهر(1) .

القول الثاني :

قال ابن حجر : إنّ عقيلاً مات سنة ستين(2) ، وتنصّ الحكاية أنّ قصّة البيع وقعت بعد وفاة عقيل عليه السلام ، وكان عمر مسلم عليه السلام ثمان عشرة سنة ، فيكون عمره يوم شهادته 18 سنة أيضاً ، وهو ما لم يقل به أحد ، وهو « لا يتّفق مع ما أثبته المؤرخون من تزويجه

ص: 35


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 40 .
2- الشهيد مسلم عليه السلام : 38 عن تقريب التهذيب - لكهنو : 336 ، الإصابة : 2/494 .

بثلاث نساء أو أكثر ، وأنّ له أولاداً خمسة وبنتاً ، فإنّه وإن لم يكن من المحال في هذه المدّة القصيرة التي هي عبارة عن ثلاث سنين بعد بلوغه أن يتزوّج من ثلاث نساء ، ويستولد هذا العدد لكن العادة المطّردة تأباه(1) .

القول الثالث :

قال ابن حجر في الإصابة وتهذيب التهذيب : قلت : في تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح : أنّه مات في أول خلافة يزيد بن معاوية(2) ..

وذهب بعض المحقّقين إلى أنّه أصحّ الأقوال(3) .

وحينئذٍ لا يمكن أن تصحّ الحكاية ، وتستعصي على الترميم والتماسك لما تتضمنه من تهافت يسقطها عن القبول ، فإنّ الحكاية تنصّ على أنّ أوامر البيع صدرت من

ص: 36


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 39 .
2- الإصابة : 4/439 ، تهذيب التهذيب : 7/227.
3- انظر : دراسات وبحوث للعاملي : 221 .

مسلم عليه السلام لمعاوية ! بعد وفاة عقيل ، فيما كان معاوية هالكاً قبله ، فكيف يذهب مسلم عليه السلام

إلى معاوية وقد مات ، وكيف يكتب الحسين عليه السلام لمعاوية وهو يتوغّل في سجّين .

سابعاً : عدم انسجام القصّة مع تاريخ ولادة مسلم عليه السلام

اختلف المؤرخون في عمر مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، والحكاية لا تنسجم مع أيّ تقدير

منها ، وقد مرّ الكلام عن التقديرات المذكورة فيه إلاّ تقدير واحد ، وهو أن تكون ولادته في أوائل الهجرة ، ويؤيده ما نصّ عليه الواقدي من اشتراك مسلم بن عقيل عليهماالسلام في فتح « بهنسا » أيام ملك عمر بن الخطاب « فأن يخرج في صفّ المجاهدين أيام ابن الخطاب لابد وأن يبلغ - على الأقلّ - عشرين سنة ، وحينئذٍ تكون ولادته في أوائل الهجرة ، وكان معاوية يومئذٍ راسباً في بحر الشرك والضلال عابداً للأوثان » متخبطاً بالأوحال .

ص: 37

ثامناً : تناقض القصّة في توقيت ذهاب عقيل عليه السلام إلى معاوية

أولاً :

ثبت عند المحقّقين بضرس قاطع أنّ عقيلاً لم يذهب إلى معاوية في حياة أميرالمؤمنين علي عليه السلام أبدا، قال ابن أبيالحديد في شرح النهج:

فأمّا عقيل ، فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنّه لم يجتمع مع معاوية إلاّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام(1) .

وجزم بذلك السيد عليخان في الدرجات الرفيعة ، والسيد جعفر مرتضى العاملي في دراسات وبحوث في التاريخ(2) ، وقد ناقش الأمر نقاشاً وافياً .

وقوّاه السيد المقرم في كتاب الشهيد مسلم عليه السلاموقال : وهو الذي يقوى في النظر

ص: 38


1- شرح النهج : 10/250 .
2- دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام : 1/183 وما بعدها .

بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر عنه في هذا الباب ، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت إلى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكفّ من بوادر الرجل ، فلا هم بملومين بشيء من ذلك ، ولا يحطّ من كرامتهم عند الملأ الديني ، فإنّ للتقية أحكاماً لا تنقض ولا يلام المضطر على أمر اضطر إليه(1) . .

ثانياً :

نصت الحكاية أنّ عقيلاً كان أعمى يوم وفادته ، ومن المعلوم أنّ عقيلاً ابتلي بالعمى أواخر أيام أمير المؤمنين عليه السلام ، كما صرّح به بعض المؤرخين مثل المسعودي في التنبيه والاشراف(2)، والطبري نقلاً عن الواقدي(3).

ص: 39


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 24 .
2- التنبيه والاشراف للمسعودي : 256 .
3- تاريخ الطبري : 4/52 .

وحدّده السيد جعفر مرتضى العاملي بسنة «39 ه » فقال : إنّ بصره قد كفّ بعد واقعة الضحاك بن قيس التي كانت في سنة « 39 ه » ، إذ قد جاء في رسالته لأخيه . . قوله: « فعرفت المنكر في وجوههم » - وغيرها من العبارات - وهذا يدلّ على أنّه لم يكن قد عمي بعد(1) . . .

ثالثاً :

يلزم ممّا ذكرنا في النقطة الأولى والثانية أن تكون أحداث هذه القصّة بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام أي بعد سنة « 40 » ، فيكون عمر مسلم بن عقيل عليهماالسلام يوم شهادته أقلّ من عشرين سنة ، ولا قائل بذلك بتاتاً .

تاسعاً : إستحالة التناقض في كلام سيد الشهداء عليه السلام

ويلزم ممّا ذكرنا في النقطة الخامسة أن

ص: 40


1- دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام : 194 .

يكون سيد الشهداء عليه السلام قد عبّر خلال فترة وجيزة عن مسلم عليه السلام تعبيرين متناقضين تماماً ، فهو يعبّر عنه على حدّ زعم معاوية : أنّه غلام غرّ باع ما لا يملك .

ثم عاد ليرسله مهذباً ومؤدباً وقامعاً للريب والشبهات ورائداً للحقّ وأخذ البيعة لزين الأرض والسماوات ، فيعبّر عنه في رسالته إلى أهل الكوفة أنّه أخاه وثقته من أهل بيته ، ويأمر المسلمين بإطاعته والامتثال لأمره ، وهذا ما لا يمكن تصوّره في كلام المعصوم ، وقد ثبت الثاني ، فيبطل الأول .

عاشرا : عدم إنسجام القصّة مع أعمار أولاد مسلم عليه السلام وإخوته

ويلزم ممّا ذكرنا في النقطة الخامسة أيضاً أن يكون أطفال مسلم عليه السلام تتراوح أعمارهم بين الخامسة وما دون ذلك يوم عاشوراء ، والحال أنّ مواقفهم وأراجيزهم وعدد قتلاهم يأبى ذلك تماماً .

ص: 41

كما أنّ صلاة الطفلين الصغيرين الذين ذبحا على شاطئ الفرات تؤكد أنّهما كانا مميّزين على الأقلّ .

والظاهر أنّ مسلما كان أكبر إخوانه ، فيلزم أن يكون باقي إخوانه صبيان صغار في طفّ كربلاء ، فكيف تنسجم أعمارهم مع مواقفهم وأراجيزهم ، وما ورد عنهم في زيارة الناحية المقدّسة .

الحادي عشر :

تبدو لغة الاستهزاء والسخرية بعقيل لائحة واضحة في صياغة القصّة ، للتعبير عن الاستخفاف والامتهان والنيل من هذا البطل الضرغام من رجال عترة خير الأنام ، وفيها تركيز لما يروّج له الأمويون من شبق بني هاشم ، كما يروى عن معاوية أنّه قال لعقيل يوما : ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم ؟!!

ص: 42

فقال له عقيل : لكنّه في نسائكم يا بني أمية أبين(1) !!!

وقال مروان للإمام الحسن عليه السلام : إنّ فيكم - يا بني هاشم - خصلة سوء !

قال : وما هي ؟

قال : الغلمة !

قال : أجل ، نزعت الغلمة من نسائنا ووضعت في رجالنا ، ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم ، فما قام لأموية إلاّ هاشمي(2) ! . .

وإلاّ فإنّ طلب عقيل من معاوية قضاء هذه الحاجة بالذات غير مألوف ، ولا سيما من شيخ قد طعن في السنّ جدا . . حتى أنّه قد يناهز الثمانين أو يزيد . . ذلك السنّ الذي تعزف فيه النفس عن النساء ، إن لم يكن عن عجز وضعف ، فعن ترفّع وإباء . .

ص: 43


1- أنساب الأشراف للبلاذري :70 .
2- العقد الفريد : 4/105 .

ويزيد الأمر غرابة هنا أنّ عقيلاً - حسب ما يدّعون - قد أولد هذه الجارية ستة أطفال رغم كبر سنّه وشيخوخته . .

« قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ » .

« قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّا »(1) .

الثاني عشر :

وتطالعنا لغة الاستهزاء بعقيل ، وعاقبة بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام من خلال فصول هذه الحكاية البائسة حينما يقارن معاوية بين الثمن الذي ذكره عقيل للجارية وثمن الجارية التي يقترحها معاوية له ليكتفي بها ، فيطلب عقيل جارية بأربعين ألفاً ، ويقول له معاوية : تكفيك جارية بخمسين ، فيما نجد الرقمين

ص: 44


1- دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام : 206 .

متباعدين غاية التباعد ، وغير متصوّرين في ثمن الجارية ، فلا يتصوّر جارية بخمسين ، ولا بأربعين ألف ، على أنّ الحكاية لا تعيّن الثمن بالدينار ولا الدرهم !!

قال السيد العاملي - حفظه اللّه - :

وتنصّ الرواية على أنّ ثمن الجارية كان أربعين ألفاً !! وهو أمر غريب ، فإنّ أثمان الجواري ، وإن كانت قد ارتفعت في أواخر العهد الأموي ، وأوائل العهد العباسي ، إلاّ أنّها لم تكن في الصدر الأول الذي يفترض لهذه الرواية ، وهو عهد الخلفاء الأربعة الأول بهذه المثابة . .

ويتّضح ذلك بالمقارنة بين ما افترضه معاوية ثمناً لجارية ، وهو خمسون درهماً ، وبين ما افترضه عقيل ، وهو أربعون ألفاً ، فمهما ترقّت الخمسون فإنّها لن تصل إلى ربع أو ثلث ذلك المبلغ العظيم ، أربعين ألفاً . . مهما جمعت من الميزات ، وحوت من الخصائص . .

ص: 45

وقد اشترى معاذ بن عفراء خمسة جواري بألف وخمسمأة درهم(1) . .

وتواتر النقل بأنّ علياً عليه السلام لم يترك سوى سبعمأه درهم ادّخرها ليشتري بها خادماً لأهله.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ النقود كانت في تلك الفترة قليلة ، الأمر الذي يجعل لها قيمة كبيرة ، والقليل منها يكفي للشيء الكثير . . ولا سيما مع ملاحظة كثرة الرقيق آنئذٍ ، لأنّه كان عهد الفتوحات ، وكانوا قد كثروا بحيث خاف معاوية منهم ، فأراد أن يقتل منهم شطراً ، فنهاه الأحنف عن ذلك(2) . .

الثالث عشر :

يلاحظ أنّ الحكاية لاتصرّح بالموضع الذي جرت فيه أحداثها ، فيحتمل فيها إحتمالان :

ص: 46


1- صفة الصفوة: 1/188، حياة الصحابة: 2/318.
2- دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام : 208 .

الإحتمال الأول : أن تكون في الشام

يحتمل أن تكون أحداث القصّة جرت في الشام ، ويؤيد أنّ مسلما قد سافر إلى الشام لبيع الأرض لمعاوية رسالةُ الحسين التي تقول الرواية أنّه قد أرسلها إلى معاوية في خصوص هذا الأمر(1) .

وربما يستأنس لذلك بسياق القصّة الدالّة على ذلك بوجه عام .

مناقشة هذا الإحتمال

ويرد ذلك :

أولاً :

لم يذكر التاريخ بحال وفود مسلم بن عقيل عليهماالسلامعلى معاوية ، ولم يذكر له سفرا إلى

الشام إلاّ عندما أرسل سليل البغايا ابن زياد رأسه المقدّس إلى الشام ليصلب هناك .

ثانياً :

إذا كان معاوية بالشام ومسلم عليه السلام يسكن

ص: 47


1- دراسات وبحوث للعاملي : 208 .

المدينة طبعا ، فلماذا يتجشّم مسلم عناء السفر إلى الشام ليبيعها إلى معاوية بنفس ذلك الثمن الذي كان بإمكانه أن يحصل عليه في المدينة(1) ؟!

فإنّ كلّ أحد يعدّ اتخاذ هذه الطريقة سفها ، وحاشا - داعية السبط - أن يرتكب خطّة لا يصادق عليها العقل ، ويكون مرمى لسهام اللؤم إلاّ أن يكون قد تزلّف إلى معاوية ببيعه الأرض ، والشمم الهاشمي الذي انحنت عليه أضالعه يأباه له ، كيف ، وهو يشاهد دماءهم الطاهرة ودماء من شايعهم تقطر من سيفه ، وأنديتهم تلهج بانحرافه عن خطّة سلفه الطيب ، وغدره بالإمام الحسن عليه السلام تدرسه ناشئة هذا البيت كلّ يوم(2) .

فناسج

الحكاية إمّا أن يكون في غاية الغباء، وإمّا يقصد - والعياذباللّه - نسبة السوقية

ص: 48


1- دراسات وبحوث للعاملي : 208 .
2- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 39 .

الرخيصة والالتواء لمسلم عليه السلام النجيب الطاهر، فيعرضه في صورة من يريد تمرير بضاعته بالكذب والإدّعاء ، وجلّ مولانا الصادق البرّ الأمين عن ذلك .

الإحتمال الثاني : أن تكون في المدينة

إذا كان البيع قد تمّ في المدينة ، فيجاب :

أولاً :

لم يذكر لنا التاريخ - في غير هذه الحكاية - أنّ مسلماً عليه السلام التقى معاوية لا في المدينة ولا

في غيرها .

ثانياً :

نصّت الحكاية أنّ مسلماً عليه السلام قال لمعاوية أنّه أعطى بالأرض مائة ألف ، ثم باعها بنفس الثمن من معاوية ، « فلماذا يرغب مسلم في بيع الأرض لمعاوية بالذات ، ولم لم يبعها إلى ذلك الذي أعطاه بها نفس الثمن »(1) .

ص: 49


1- دراسات وبحوث للعاملي : 208 .

ربما كان المقصود : إمّا نسبة الكذب إلى مسلم عليه السلام رائد سيد الشهداء عليه السلام ، أو محاولة الإشارة إلى أنّ مسلماً عليه السلام على سرّ أبيه - وجلّ عقيل عن ذلك - يتولّى معاوية ويطمع في دنياه ، ويردّ عليه جميل التفضّل عليه بثمن أمّه !!

فيكون - عاقبةً - مسلم عليه السلام أقرب إلى معاوية وآل أبي سفيان منه إلى سيد الشهداء وآل أبي طالب عليهم السلام !!

الرابع عشر :

لا يبدو في القصّة أنّ ثمّة معاملة بيع وشراء تمت بين معاوية الطاغي العجوز وبين مسلم عليه السلامالشاب ، وإنّما أمر مسلم عليه السلام بالشراء ودفع الثمن ، وأطاع معاوية بدون أيّ اعتراض أو مساومة ، أو سؤال عن مساحتها وسبيل امتلاكها ، وهو لا زال شابا في الثامنة عشر من العمر .

ص: 50

الخامس عشر :

إنّ القصّة نسبت لخامس أصحاب الكساء ، وسيد الشهداء عليه السلام الذي نصّ الكتاب على طهارته وعصمته أُمورا لا يمكن تصوّرها في المعصوم :

أولاً :

إنّ الحسين عليه السلام في هذه القصّة يكتب إلى معاوية : فإنّك غررت غلاماً من بني هاشم فابتعت منه أرضاً . .

فيما نصّت القصّة قبل ذلك أنّ معاوية كان يستلم الأوامر من فوق - حسب تعبير مسلم عليه السلام الوارد في الرواية - وأنّه أرغم على شراء الأرض بالثمن المذكور ، فلماذا إذن يقول له الإمام الحسين عليه السلام - وهو العالم - : إنّك غررت ، وهو لم يغر ؟ هذا ما لا يكون .

ثانياً :

تعرض القصّة نمطا من الخطاب لا يتصوّر صدوره من معدن الأخلاق والكرم، ويتناقض عمّا هو ثابت من تقييم سيد الشهداء عليه السلام

ص: 51

لمسلم بن عقيل عليهماالسلام ، فالقصّة تحكي تعبيره عنه ب- « الغلام الغر » ، وأنّه باع ما لا يملك ، وغيرها من التهم التي تنسبها - زوراً وبهتاناً - إلى زين السماوات والأرض .

ثالثاً :

نسب المدائني في آخر قصّته قولاً لأبي الضيم أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام وهو قوله :

« أبيتم يا آل أبي سفيان إلاّ كرماً » ، ويبدو أنّ هذا القول هو عقدة القصّة وذروتها ، وهو ما يريد تسويقه الأمويون من جهتين :

الجهة الأولى :

عرض الأمويين في صورة الكرماء الحلماء من ذوي الحسب والأخلاق الحميدة ، والمواقف النبيلة .

الجهة الثانية :

عرض الحسين وآل أبي طالب عليهم السلام في الصورة التي يريد الأمويون عرضها ممّا لا نجسر على التصريح به ، وذلك باعتراف الحسين عليه السلام حسب هذه القصّة .

ص: 52

وكذب هذه الفرية ممّا لا يحتاج إلى تدليل بلحاظ كلا الجهتين :

أمّا الجهة الأولى : فما ثبت في التاريخ من خسّة الحسب والنسب ، ودناءة الخلق والسلوك ، وخبث السريرة ، وشرارة الطبع ، وأنّى تكون المكارم فيأولاد البغايا، وذراري رافعات الرايات ، وتكفي مراجعة سريعة للتاريخ للجزم بذلك .

وأمّا الجهة الثانية : فلو لم يكن في هذه القصّة إلاّ نسبة هذا القول إلى أبيّ الضيم لكان كافيا في دحضها وعدم التصديق بها ، فهذه الأكذوبة لوحدها دليل قاطع وبرهان ساطع على زيف ما حدّث به المدائني .

فمتى مدح سيد شباب أهل الجنة عليه السلام بؤرة الظلم والشيطنة ؟!

وهل ثمّة من تخفى عليه شهامة أبيّ الضيم أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام الذي تضمّن روح أبيه بين جنبيه ؟

ص: 53

ومتى رضخ في قول أو فعل للطلقاء والأدعياء ؟!

أوليس هو القائل لمعاوية في كتاب له :

أمّا بعد : فقد بلغني كتابك ، تذكر أنّه قد بلغك عنّي أمور أنت لي عنها راغب ، وأنا لغيرها عندك جدير ، فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يردّ إليها إلاّ اللّه .

وأمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميم ، وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً ، وأيم اللّه ، إنّي لخائف للّه في ترك ذلك ، وما أظن اللّه راضياً بترك ذلك ، ولا عاذراً بدون الاعذار فيه إليك ، وفي أوليائك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين .

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة ، والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في اللّه لومة لائم ؟ ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما

ص: 54

كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك .

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه وصفرت لونه ؟! بعد ما آمنته وأعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل ، ثم قتلته جرأة على ربّك واستخفافاً بذلك العهد .

أو لست المدّعي زياد ابن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف ؟ فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنة رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدى من اللّه .

ثم سلّطته على العراقين ، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ،

ص: 55

ويصلبهم على جذوع النخل كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك .

أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم كانوا على دين علي - عليه السلام - ؟ فكتبت إليه أن اقتل كلّ من كان على دين علي ، فقتلهم ومثّلهم ، ودين علي - عليه السلام - سرّ اللّه الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي جلست ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين .

وقلت فيما قلت : « انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمد واتّق شقّ عصا هذه الأمّة ، وأن تردّهم إلى فتنة » ، وإنّي لاأعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها ، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمّة محمد صلّى اللّه عليه وآله وعلينا أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنّه قربة إلى اللّه ، وإن تركته فإنّي أستغفر اللّه لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري .

ص: 56

وقلت فيما قلت : « إنّي إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني » ، فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك فيّ ، وأن لا يكون عليّ أحد أضرّ منه على نفسك ، على أنّك قد ركبت بجهلك تحرصت عليّ نقض عهدك .

ولعمري ما وفيت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا ، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا ، فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا ، أو ماتوا قبل أن يدركوا .

فأبشر - يا معاوية - بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ للّه - تعالى - كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وليس اللّه بناس لأخذك بالظنّة وقتلك أوليائه على التهم ، ونقل أوليائه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة ابنك ، غلام

ص: 57

حدث يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب ، لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك وتبّرت دينك وغششت رعيتك ، وأخرجت أمانتك ، وسمعت مقالة السفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقي لأجلهم ، والسلام »(1) .

ويبدو من الكتاب أنّه في نفس الفترة التي زعمت القصّة أنّ الحسين عليه السلام أرسل فيها الكتاب المزعوم الذي ينسب مدح آل أبي سفيان إلى أبي الضيم الحسين عليه السلام .

فالكتاب الأخير الذي تفيض منه روح الحسين عليه السلام ويتعطّر بأنفاسه المقدّسة كان بعد

قتل حجر وباقي الشيعة ، وبعد أخذ البيعة ليزيد « غلام حدث يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب » ، وكانت الرسالة المزعومة في أواخر أيام معاوية أو بعد هلاكه !!! كما مرّ معنا سابقاً .

ص: 58


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي: 1/252 ح99، بحار الأنوار : 44/213 .

فكأنّ الكتاب المزعوم ردّ وتعويض منسوج للردّ على « غلام حدث يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب » ، ولمّا لم يكن معاوية قادراً على النيل من الحسين عليه السلام ، وهو القائل تعقيبا على كتاب الحسين عليه السلام

الأخير : « وما عيست أن أعيب حسيناً ، واللّه ما أرى للعيب فيه موضعاً » .

فما يمنعه - وهو لا يعرف الورع بتاتا - أن ينسج حكاية ينال فيها من عمود من أهمّ أعمدة القيام الحسيني ، ورائد الركب الفاتح في تاريخ البشرية .

فما نسبه المدائني لسيد الحفاظ والشهامة ، وإمام الغيارى ، ومعدن الكرامة ، وسيد شباب أهل الجنة ، لا يدع مجالاً لعاقل في إسقاط هذه الأكذوبة إلى هوّة البطلان ، لأنّها كلمة « لا يهيج بها هاشمي ذو شمم ، نعم يأبى للهاشمي إباؤه وشهامته ، يأبى له حفاظته ووجدانه ، بل يأبى لأيّ مؤمن إيمانه وعلمه

ص: 59

أن يعترف لابن آكلة الأكباد بتلك المأثرة البالغة حدّها ، وهو يعلم أنّ ابن هند المقعي على أنقاض الخلافة الإسلامية خلواً من أيّ حنكة ، وإنّما أدعم باطله المحض بالتحلّم - المفتعل الزائف - والمحاباة والتزلّف يوهم بها الرعرعة من الناس بأنّ هذه الأناة هي الكافلة لأهلية الخلافة »(1) .

السادس عشر :

تأبى الشيم الهاشمية ، والشمم العلوية ، والإباء الطالبي لمسلم عليه السلام ، وهو النجيب الأبيّ الغيور ، أن يسكت ويتعامل ببرود مع ما واجهه به معاوية - حسب القصّة المزعومة - فيستهزء من عقيل ويقول : « ما تصنع بجارية . . وأنت أعمى . . » ، ثم يستلقي على قفاه يفحص بيديه ورجليه ضاحكاً من مسلم عليه السلام مستخفّاً به ، وغيرها من موارد

ص: 60


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 42 .

الاستخفاف والاستهزاء التي أشرنا إلى بعضها فيما مضى ، ثم يسكت مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام !!!

السابع عشر :

لم يترك ابن زياد فرية لم يواجه بها مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، ونسب له أمامه في قصر الإمارة كلّ خسيسة عرفت في آل زياد وآل أبي سفيان ، وردّه البطل الهاشمي وأسكته ، ودحض مزاعمه ، ولم نسمع فيما واجهه بها هذه القضية .

وقد قضى مسلم عليه السلام وأوصى في مجلس ابن زياد بقضاء دين عليه « 700 درهم » ، فلماذا يضطر ابن زياد إلى اختلاق الفرية بعد الفرية على مسلم عليه السلاموبيده - لو كان للقصّة نصيب من الصحّة - وثيقة تنسب الابتزاز والاحتيال - وحاشاه - لمسلم عليه السلام ، فكان المفروض به أن يذكرها له لو كانت !

ص: 61

الرواية الثانية: كانت أمّه نبطية

اكتنف النصّ الثاني غموض وإجمال شديد ، بيد أنّ التأمل فيه يكشف عن أمور مهمة ، قال ابن قتيبة في المعارف :

وولد عقيل مسلماً وعبد اللّه ومحمداً ورملة وعبيد اللّه لأم ولد ، وقال بعضهم : كانت أم مسلم بن عقيل نبطية من « آل فرزندا »(1) .

وفي كتاب المنمق تحت عنوان : « أبناء النبطيات من قريش » : مسلم بن عقيل بن أبي طالب أمّه خليلة من « آل فهريدي(2) » .

من هم النبط ؟

في كتاب العين : النبط والنبيط : كالحبش والحبيش في التقدير ، سمّوا به ، لأنّهم أول من استنبط الأرض ، والنسبة إليهم : نبطي ، وهم

ص: 62


1- المعارف لابن قتيبة : 204 .
2- كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: 402.

قوم ينزلون سواد العراق ، والجمع : الأنباط .

وفي اللسان : والنَّبِيطُ والنَبطُ كالحَبِيشِ والحَبَشِ في التقدير : جِيلٌ يَنْزِلُون السواد ، وفي المحكم : ينزلون سواد العراق ، وهم الأَنْباطُ ، النَّسَبُ إِليهم نَبَطِيٌّ ، وفي الصحاح : ينزلون بالبَطائِح بين العِراقين .

وفي الحديث : لا تَنَبَّطُوا في المدائن أَي لا تَشَبَّهوا بالنَّبط في سكناها واتخاذ العَقارِ والمِلْك .

وفي حديث ابن عباس: نحن مَعاشِر قُريْش من النَّبط من أَهل كُوثَى رَبّاً ، قيل : إِن إِبراهيم الخليل ولد بها ، وكان النَّبطُ سكّانَها ؛ ومنه حديث عمرو بن مَعْدِيكَرِب : سأَله عُمر عن سَعْد بن أَبي وقّاص ، فقال : أَعرابيٌّ في حِبْوتِه ، نَبَطِيٌّ في جِبْوتِه ؛ أَراد أَنّه في جِبايةِ الخَراج وعِمارة الأَرضين كالنَّبط حِذقاً بها ومَهارة فيها لأَنهم كانُوا سُكَّانَ العِراقِ وأَرْبابَها.

وفي مجمع البحرين : والنبط قوم ينزلون البطائح بين العراقين ، الجمع أنباط كسبب

ص: 63

وأسباب ، والنبطية منسوبة إليهم ، قيل : إنّهم عرب استعجموا أو عجم استعربوا .

وفي المجمع : النبط بفتحتين والنبط بفتح فكسر تحتية : قوم من العرب دخلوا في العجم والروم ، وذلك لمعرفتهم بإنباط الماء ، أي استخراجه لكثرة فلاحتهم .

فهم قوم نزلوا سواد العراق ، سواء كانوا من العرب دخلوا العجم والروم أو أنّهم من العجم واستعربوا ، فهم عاقبة من العرب العراقيين .

وقد ذهب السيد المقرم رحمه الله إلى أنّ أم مسلم بن عقيل عليهماالسلام كانت عربية حرّة ، واحتمل أن يكون عقيل قد خطبها من أهلها في بعض مواسم الوقوف في الديار المقدّسة .

وذهب الكمره اى في الجزء الخاص بمسلم بن عقيل عليهماالسلام من كتابه « عنصر شجاعت » : إلى أنّها كانت حرّة فارسية .

وكيف كان فإنّ التعريف بأنّها كانت من « آل فلان » لم يعهد في الإماء ، بل إنّ الظاهر

ص: 64

أنّ التعريف ب-« آل فلان » يفيد الاهتمام بالأسرة ، والتنويه على أهمية الانتماء ، فالنسب الخامل لا يشار إليه ب-« آل فلان » عادة ، ولا يتحمّل أحد مسؤولية الإشارة والإشادة به .

وحاشا لعقيل العالم بالأنساب والخبير بالناس أن يتزوج إلاّ من امرأة تلد له الفحول والفرسان الذين كان يعدّهم لابن أخيه الحسين عليه السلام ليكونوا رجاله في طفّ كربلاء ، ولا يدع لعدو - موتور - في نسب أولاده مهمز ولا مغمز .

ص: 65

اسمها

ذكر محمد بن حبيب البغدادي في كتاب المنمق اسمها : « حليلة »(1) .

وقال أبو الفرج الاصفهاني في مقاتله اسمها : « علية »(2) ، وكذا في نسب قريش(3) .

وفي طبقات ابن سعد : « حليلة »(4) .

وذكر المحلي صاحب الحدائق الوردية أنّ اسمها : « جبلة »(5) .

وفي أنصار الحسين عليه السلام لشمس الدين : « حيلة »(6) .

ص: 66


1- المنمق للبغدادي : 402 .
2- مقاتل الطالبيين : 52 .
3- نسب قريش : 84 .
4- طبقات ابن سعد : 4/29 .
5- انظر : الإمام الحسين عليه السلام من كتاب الحدائق الوردية تحقيق السيد علي أشرف : 110 .
6- أنصار الحسين عليه السلام لمحمدمهدي شمس الدين: 124 .

صلّى اللّه وسلّم

على مسلم بن عقيل عليهماالسلام

وعلى أمّه وأبيه ،

وعلى أولاد عقيل

وذريته المستشهدين

بين يدي الحسين عليه السلام

ص: 67

ص: 68

الفهرس

المقدّمة··· 5

السيدة والدة مسلم بن عقيل عليهماالسلام··· 11

الرواية الأولى :

معاوية يشتري أُم مسلم لعقيل

مناقشة الرواية الأولى··· 16

مناقشة السند··· 16

مناقشة المتن··· 20

أولاً : الميزان في قبول قول المؤرخ··· 20

ثانيا : اهتمام الأمويين بتقديم ...··· 21

ثالثاً : توظيف المدائني ...··· 27

رابعاً : النيل من مسلم عليه السلام ...··· 28

خامسا: التشكيك فياختيارالحسين عليه السلام··· 30

سادساً : عدم انسجام الحكاية ...··· 33

سابعاً : عدم انسجام القصّة ...··· 37

ص: 69

ثامناً : تناقض القصّة ...··· 38

تاسعاً : إستحالة التناقض ...··· 40

عاشرا : عدم إنسجام القصّة ...··· 41

الحادي عشر··· 42

الثاني عشر··· 44

الثالث عشر··· 46

الرابع عشر··· 50

الخامس عشر··· 51

السادس عشر··· 60

السابع عشر··· 61

الرواية الثانية : كانت أمّه نبطية

اسمها

ص: 70

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.