مسلم بن عوسجة أول شهداء اللّه في معسكر الحسين عليه السلام

اشارة

مسلم بن عوسجة أول « شهداء اللّه » في معسكر الحسين عليه السلام

تأليف: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

الناشر: عطر العترة.

الطبعة: الأولى _ سنة 1431 ه_.

زبان: عربی

تعداد صفحات: 304 ص

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمد للّه الذي لا إله إلاّ هو الملك الحقّ المبين ، المدبّر بلا وزير ، ولا خلق من عباده يستشير ، الأوّل غير موصوف ، والباقي بعد فناء الخلق ، العظيم الربوبية ، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما ، بغير عمد خلقهما ، فاستقرت الأرضون بأوتادها فوق الماء ، ثم علا ربّنا في السَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ، فأنا أشهد بأنّك أنت اللّه ، لا رافع لما وضعت ، ولا واضع لما رفعت ، ولا معزّ لمن أذللت ، ولا مذلّ لمن أعززت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت(1) .

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك ، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ ، كَمَا حُمِّلَ ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك ،َ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ

ص: 5


1- بحار الأنوار : 83/332 باب 45 .

وَالآثَامِ ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ ، وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ ، فَهُوَ أَمِينُكَ

الْمَأْمُونُ ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الَْمخْزُونِ ، وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ(1) .

اللّهم وضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك العترة الضائعة الخائفة المستذلّة ، بقية الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة ، وأعل - اللّهم - كلمتهم ، وأفلج حجّتهم ، واكشف البلاء واللأواء ، وحنادس الأباطيل والعمى عنهم ، وثبّت قلوب شيعتهم وحزبك على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم ، وأعنهم وامنحهم الصبر على الأذى فيك، واجعل لهم أياما مشهودة ، وأوقاتا محمودة مسعودة ، توشك فيها فرجهم ، وتوجب فيها تمكينهم ونصرهم ، كما ضمنت لأوليائك في كتابك المنزل ، فإنّك قلت - وقولك الحقّ - : « وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً »(2) .

والعن اللّهم أوّل ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد ، وآخر تابع له على ذلك ، اللّهم واهلك من جعل يوم قتل ابن نبيك وخيرتك عيدا ، واستهلّ به فرحا ومرحا ، وخذ آخرهم كما أخذت أولهم ، وأضعف اللّهم

ص: 6


1- نهج البلاغة : 101 خ72 .
2- مصباح المتهجد : 785 .

العذاب والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيك ، واهلك أشياعهم وقادتهم ، وأبر حماتهم وجماعتهم(1) .

وصلّى اللّهم على الشهيد السعيد ، والسبط الثاني ، والإمام الثالث ، والمبارك ، والتابع لمرضاة اللّه ، المتحقّق بصفات اللّه ، والدليل على ذات اللّه ، أفضل ثقاة اللّه ، المشغول ليلاً ونهارا بطاعة اللّه ، الناصر لأولياء اللّه ، المنتقم من أعداء اللّه ، الإمام المظلوم ، الأسير المحروم ، الشهيد المرحوم ، القتيل المرجوم ، الإمام الشهيد ، الولي الرشيد ، الوصي السديد ، الطريد الفريد ، البطل الشديد ، الطيب الوفي ، الإمام الرضي ، ذو النسب العلي ، المنفق الملي ، أبو عبد اللّه الحسين بن علي عليهماالسلام .

منبع الأئمة ، شافع الأمّة ، سيد شباب أهل الجنة ، وعَبرة كلّ مؤن ومؤنة ، صاحب المحنة الكبرى ، والواقعة العظمى ، وعَبرة المؤنين في دار البلوى، ومن كان بالإمامة أحقّ وأولى ، المقتول بكربلاء، ثاني السيد الحصور يحيى ابن النبي الشهيد زكريا عليهماالسلام ، الحسين بن علي المرتضى عليهماالسلام .

زين المجتهدين ، وسراج المتوكّلين ، مفخر أئمة المهتدين ، وبضعة كبد سيد المرسلين صلى الله عليه و آله ، نور العترة الفاطمية ، وسراج الأنساب العلوية ، وشرف غرس الأحساب الرضوية ، المقتول بأيدي شرّ البرية ، سبط الأسباط ، وطالب الثأر يوم الصراط ، أكرم العتر ، وأجلّ الأسر ، وأثمر

ص: 7


1- مصباح المتهجد : 785 .

الشجر ، وأزهر البدر ، معظّم ، مكرّم ، موقّر ، منظّف مطهّر ، أكبر الخلائق في زمانه في النفس ، وأعزّهم في الجنس ، أذكاهم في العرف ، وأوفاهم في العرف ، أطيب العرق ، وأجمل الخلق ، وأحسن الخلق ، قطعة النور ، ولقلب النبي صلى الله عليه و آله سرور ، المنزّه عن الإفك والزور ، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور ، مع القلب المشروح حسور ، مجتبى الملك الغالب ، الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام (1) . .

الذي حمله ميكائيل ، وناغاه في المهد جبرائيل ، الإمام القتيل ، الذي اسمه مكتوب على سرادق عرش الجليل « الحسين مصباح الهدى، وسفينة النجاة » ، الشافع في يوم الجزاء ، سيدنا ومولانا سيد الشهداء(2) عليه السلام .

الذي ذكره اللّه في اللوح الأخضر ، فقال : . . وجعلت حسينا خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة ، جعلت كلمتي التامّة معه ، والحجّة البالغة عنده ، وبعترته أثيب وأعاقب(3) . .

الذي قال فيه جدّه المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه و آله : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ اللّه من أحبّ حسينا(4) .

ص: 8


1- المناقب : 4/79 .
2- معالي السبطين : 61 .
3- كمال الدين : 2/290 ح1 .
4- بحار الأنوار : 45/314 .

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو الصادق الأمين : إنّ حبّ علي قذف في قلوب المؤنين ، فلا يحبّه إلاّ مؤن ، ولا يبغضه إلاّ منافق ، وإنّ حبّ الحسن والحسين قذف في قلوب المؤنين والمنافقين والكافرين ، فلا ترى لهم ذامّا(1) .

فمن أيّ المخلوقات كان أولئك المردة العتاة ، وأبناء البغايا الرخيصات ، الذين قاتلوه بغضا لأبيه ، وسبوا الفاطميات ، ولم يحفظوا النبي صلى الله عليه و آله في ذراريه .

قال الإمام سيد الساجدين عليه السلام : . . أيّها الناس ، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم إجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، « إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ » .

فواللّه لو أنّ النبي صلى الله عليه و آله تقدّم في قتالنا كما تقدّم اليهم في الوصاية بنا لما إزدادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا للّه وإنّا اليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأوجعها ، وأفجعها ، وأكظّها ، وأقطعها ، وأمرّها ، وأفدحها ، فعند اللّه نحتسبه فيما أصابنا ، وما بلغ بنا ، إنّه عزيز ذو إنتقام(2) .

ولكنّ اللّه لهم بالمرصاد ، فإنّ دمه الزاكي الذي سكن في الخلد ، واقشعرت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات

ص: 9


1- المناقب : 3/383 ، بحار الأنوار : 43/281 باب 12 .
2- بحار الأنوار : 45/147 .

السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، ومن يتقلّب في الجنة والنار من خلق ربّنا ، وما يرى وما لا يرى ، سوف لا ولم ولن يسكن ، لأنّه قتيل اللّه وابن قتيله ، وثار اللّه وابن ثاره ، ووتر اللّه الموتور في السماوات والأرض(1) حتى « يبعث اللّه قائما يفرج عنها الهم والكربات » .

قال الحسين عليه السلام : يا ولدي ، يا علي ، واللّه لا يسكن دمي حتى يبعث اللّه المهدي(2) . .

فذلك قائم آل محمد عليهم السلام يخرج ، فيقتل بدم الحسين عليه السلام بن علي . . وإذا قام - قائمنا - انتقم للّه ولرسوله ولنا أجمعين(3) . .

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين صلى الله عليه و آله فقال : لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي - جلّ جلاله - فقال : يا محمد ، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها ، فجعلتك نبيا ، وشققت لك من اسمي اسما ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها عليا ، وجعلته وصيّك وخليفتك ، وزوج ابنتك ، وأبا ذريّتك ، وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا العلي الأعلى ، وهو علي ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما ، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة ، فمن قبلها كان عندي من المقرّبين .

ص: 10


1- انظر بحار الأنوار : 98/151 باب 18 .
2- المناقب : 4/93 .
3- بحار الأنوار : 52/376 .

يا محمد ، لو أنّ عبدا عبدني حتى ينقطع ، ويصير كالشنّ البالي ، ثم أتاني جاحدا لولايتهم ، فما أسكنته جنّتي ، ولا أظللته تحت عرشي .

يا محمد ، تحبّ أن تراهم ؟

قلت : نعم يا ربّ .

فقال عزّ وجلّ : ارفع رأسك ، فرفعت رأسي ، وإذا أنا بأنوار علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، و« م ح م د » بن الحسن القائم في وسطهم ، كأنّه كوكب درّي .

قلت : يا ربّ ، ومن هؤاء ؟

قال : هؤاء الأئمة ، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي ، ويحرّم حرامي ، وبه أنتقم من أعدائي ، وهو راحة لأوليائي ، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين ، فيخرج اللاّت والعزى طريين فيحرقهما ، فلفتنة الناس - يومئذٍ - بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري(1) .

وروى عبد اللّه بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام في يوم عاشوراء ، فألفيته كاسف اللّون ، ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤؤالمتساقط ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ، ممّ بكاؤ ؟ لا أبكى اللّه عينيك .

ص: 11


1- كمال الدين : 1/252 باب 23 ح2 ، بحار الأنوار : 52/379 ح185 .

فقال لي : أو في غفلة أنت ؟! أما علمت أنّ الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم ؟!

فقلت : يا سيدي ، فما قولك في صومه ؟

فقال لي : صمه من غير تبييت ، وأفطره من غير تشميت ، ولا تجعله يوم صوم كملاً ، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء ، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول اللّه ، وانكشفت الملحمة عنهم ، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعا في مواليهم ، يعزّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله مصرعهم ، ولو كان في الدنيا - يومئذٍ - حيّا لكان صلى الله عليه و آله هو المعزّى بهم .

قال : وبكى أبو عبد اللّه عليه السلام حتى اخضلّت لحيته بدموعه . .

ثم علّمه آداب يوم عاشوراء ، وآداب الزيارة في ذلك اليوم الى أن قال : ثم قل :

اللّهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك ، وحاربوا أولياءك ، وعبدوا غيرك ، واستحلّوا محارمك ، والعن القادة والأتباع ، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم ، أو رضي بفعلهم لعنا كثيرا .

اللّهم وعجّل فرج آل محمد صلى الله عليه و آله ، واجعل صلواتك عليه وعليهم ، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين ، والكفرة الجاحدين ، وافتح لهم فتحا يسيرا ، وأتح لهم روحا وفرجا قريبا ، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطانا نصيرا . .

ص: 12

اللّهم إنّ كثيرا من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمة ، وكفرت بالكلمة ، وعكفت على القادة الظلمة ، وهجرت الكتاب والسنة ، وعدلت عن الحبلين اللّذين أمرت بطاعتهما ، والتمسّك بهما ، فأماتت الحقّ ، وجارت عن القصد ، ومالأت الأحزاب ، وحرّفت الكتاب ، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها ، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها ، وضيّعت حقّك ، وأضلّت خلقك ، وقتلت أولاد نبيك ، وخيرة عبادك ، وحملة علمك ، وورثة حكمتك ووحيك .

اللّهم فزلزل أقدام أعدائك ، وأعداء رسولك ، وأهل بيت رسولك .

اللّهم وأخرب ديارهم ، وافلل سلاحهم ، وخالف بين كلمتهم ، وفتّ في أعضادهم ، وأوهن كيدهم ، واضربهم بسيفك القاطع ، وارمهم بحجرك الدامغ ، وطمّهم بالبلاء طمّا ، وقمّهم بالعذاب قمّا ، وعذّبهم عذابا نكرا ، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكت بها أعداءك ، إنّك ذو نقمة من المجرمين .

اللّهم إنّ سنتك ضائعة ، وأحكامك معطلة ، وعترة نبيك في الأرض هائمة ، اللّهم فأعن الحقّ وأهله ، واقمع الباطل وأهله ، ومنّ علينا بالنجاة ، واهدنا إلى الإيمان ، وعجّل فرجنا ، وانظمه بفرج أوليائك ، واجعلهم لنا ودّا ، واجعلنا لهم وفدا(1) .

ص: 13


1- مصباح المتهجد : 784 ، بحار الأنوار : 98/305 باب 24 .

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين عليه السلام الذين كشف لهم سيد الشهداء عليه السلام « الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة ، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها ، وإلى مكانه من الجنة(1) » ، ووعدهم ربّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم فقال : « ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ » يخاطب بذلك أصحاب الحسين(2) عليه السلام .

وصلّى اللّه وسلّم على مَن كاتب الحسين عليه السلام ووفى ، ونزل عنده سفير الحسين عليه السلام فدافع وعنه وحمى ، وحمل رايته ورفض الذلّ وأبى ، والتحق بالحسين عليه السلام مع أهله وعياله فضحّى بنفسه وفدى ، وأطاع إمامه وسلّم له واتقى ، وحامى عن حرم سيد المرسلين صلى الله عليه و آلهوأمير المؤمنين عليه السلام ، ومشى اليه الحسين عليه السلام وأبّنه فأوصى بالغريب ، وسارع في التضحية بين يدي سيد الشهداء عليه السلام ، فكان أول من شرى نفسه ، وأول شهيد من شهداء اللّه قضى نحبه(3) ، كما ورد في خطاب الحجّة المنتقم - عجّل اللّه تعالى فرجه - له في الزيارة(4) .

ص: 14


1- علل الشرائع : 1/229 باب 163 ح 1 ، بحار الأنوار : 44/297 باب 35 ح 1 .
2- تأويل الآيات الظاهرة : 272 .
3- إقتبسنا العنوان من نصّ زيارة الناحية .
4- انظر زيارة الناحية المقدّسة : المزار لمحمد بن المشهدي : 493 ، إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس : 3/77 ، بحار الأنوار : 45/71 ، و98/272 ، العوالم ، الإمام الحسين عليه السلام للبحراني : 338 .

أمّا بعد :

فإنّ الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومن سلّطلهم على رقاب المسلمين لم تنته بعد منذ أن بادروا الى مواجهة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله ، والى يوم الناس هذا ، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم ، والطالب بدم الحسين عليه السلام ، والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء عليهم السلام .

ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورة أو مشهد أو موقف معين ، كما أنّها لم تنحصر في زمن من الأزمان منذ أن سقط هابيل مضرجا بدمه .

وقد امتاز الأمويون عبر التاريخ بالإعلام القوي ، والحرب النفسية ، والتسلّل الماكر الى قلوب الناس وأفكارهم ، وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخدّاع، وقد اشتهر كلامهم على الألسن: « للّه جنود من عسل ».

وكانت حربهم الإعلامية مع سيد الشهداء عليه السلام قويّة ماكرة تتّسم بالخبث والشيطنة بحيث صوّرت سبط النبي صلى الله عليه و آله وريحانة الرسول ، وسيد شباب أهل الجنة للمغرّر بهم من السذّج في صورة الخارجي ، وأبدت سكان سرادق العزّ من مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي في مشهد السبايا . .

فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار عليهم السلام الذين شهد لهم الكتاب والسنة بالطهارة والعصمة والقدس ، فما ظنّك بأنصارهم والمدافعين عنهم والمحامين عن حريمهم . .

ص: 15

وربما اضطر العدو - أحيانا - الى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمةعموما ، وأنصار سيد الشهداء عليه السلام خصوصا ، لأنّه لا يجد في الإمام مغمزا ولا مهمزا ، فيحاول الإقتراب من حريمه من خلال التعرّض لأقرب الشخصيات منه ، والسعي في تهديم الأركان التي بنيت عليه أسس معسكرات الهدى .

فلا تجد مشهدا من مشاهد الطفّ أو تسمع عن رجل من رجال الحسين عليه السلام في التاريخ خبرا إلاّ وفيه ما يدعو للتأمّل والوقوف بحذر أمامه ، لأنّ المؤرخ - المأجور الذي اعتاد على تسطير التاريخ على أنغام وقع الصفراء والبيضاء ، واكتنز في أعماقه أكداس الحقد والبغضاء على أهل البيت عليهم السلام - يحاول أن يصوغ التاريخ بشكل تبدو فيه مظلومية المظلوم باهتة ، كما يحاول أن يجلو وجه الظالم ويعرضه بصورة الحمل الوديع !

وقد تعرّض التاريخ - فيمن تعرّض لهم - الى « مسلم بن عوسجة » ، فعرضه في صورة الشيخ الذي إستطاع ابن زياد الشاب النزق بالإستعانة بمولاه معقل أن يغرّه ويخدعه - والعياذ باللّه - ويتسلّل الى مسلم بن عقيل عليهماالسلام أيضا ويخدعه - نستغفر اللّه - ويغيّر مسار القيام الحسيني .

وهذا ما لا يقبله العارف برجال الحسين عليه السلام ، الذي يجعل ميزانه في تقويم الأشخاص أقوال الأئمة المعصومين عليهم السلام ، ولا يلتفت الى المؤرخ والراوي فيما يعارض كلامهم عليهم السلام .

ص: 16

وقد أتينا في كتابنا هذا على أخبار مسلم بن عوسجة - رضوان اللّه عليه - وحاولنا دراستها ومناقشتها ، لعلّنا نستكشف شيئا من أنواره ، ونتعلّم درسا من صفحات حياته المشرقة الوضاءة .

ومن الطبيعي أنّنا واجهنا شحّة في الموارد التاريخية التي تتحدّث عنه ، فقد عوّدنا التاريخ أن يكون بخيلاً في الحديث عن رجال الحقّ .

ولكنّنا حاولنا أن نستفيد ممّا رواه التاريخ على قلّته ، فربما استفدنا من نصّ واحد في مواضع عديدة ، ودرسناه من عدّة جهات ، وسلّطنا الأضواء عليه بعدّة لحاظات ، ضمن إحتمالات ووجوه ربما كانت مقنعة للجميع ، أو كانت بعضها مقنعة للبعض . .

ولهذا قد يبدو للوهلة الأولى أنّ ثمة تكرارا في ذكر النصوص ، وهو ليس كذلك ، لأنّ النصّ إنّما يذكر في كلّ مرّة بلحاظ يختلف عن اللحاظ الآخر .

في الختام :

ما كان في ثنايا الكتاب من كلام صحيح نافع فيه الخير والصلاح ، فهو من أهل البيت عليهم السلام ، وما كان شططا أو خطأً ، فهو منّي وأستغفر اللّه لي وللمؤمنين ، والحمد للّه ربّ العالمين .

وأخيرا أتقدّم بالشكر الجزيل للأستاذ الدكتور الحاج محمود البستاني - حفظه اللّه ورعاه ورحم أمّه وأباه - فقد تفضّل عليّ بمراجعة الكتاب مشكورا مأجورا إن شاء اللّه .

ص: 17

اللّهم تقبّل منّا هذا القليل ، واجعله نافعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون ،ولا تفرّق بيننا وبين سيد الشهداء الحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة طرفة عين أبدا ، واجعل وجه الحسين عليه السلام آخر وجه نراه في الدنيا ، وأول وجه نراه في القبر ويوم يقوم الناس لربّ العالمين ، وارحمني به وأولادي وأزواجي ووالديّ ومن ولدهما ومن ولدا والمؤمنين والمؤمنات ، وعجّل فرج وليّ أمرك الثائر لدم الحسين عليه السلام ، واجعلنا من جنده وأعوانه والآخذين بثأره . . آمين .

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

26/8/1430

ص: 18

اسمه ونسبه

اشارة

مسلم بن عوسجة بن ثعلبة بن ربيعة بن رئاب بن هر بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر(1) .

قال البلاذري :

. . . وولد رئاب بن هر : ربيعة .

فولد ربيعة : سويد بن ربيعة ، وهو أبو جبيلة ، وقد رأس ، وثعلبة بن ربيعة بن رئاب .

فولد ثعلبة : عوسجة أبا مسلم بن عوسجة الذي قتل مع الحسين بن علي عليهماالسلام بالطفّ(2) .

وفي إبصار العين لمحمد السماوي رحمه الله وتنقيح المقال للمامقاني :

مسلم بن عوسجة الأسدي ، هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة ، أبو حجل الأسدي السعدي(3) .

ص: 19


1- انظر أنساب الأشراف : 11/153 ج 182 .
2- أنساب الأشراف : 11/182 .
3- إبصار العين للسماوي : 107 ، تنقيح المقال للمامقاني : 3/214 رقم11781 .

وفي تاريخ الطبري : مسلم بن عوسجة الأسدي من بنى سعد بنثعلبة(1) .

وفي تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام للفضيل ، والحدائق الوردية للمحلي : مسلم بن عوسجة السعدي ، من بني سعد بن ثعلبة(2) .

نسبته

الأسدي :

نبسة الى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر .

ذكره بهذه النسبة كلّ من ذكره .

السعدي :

نسبة الى سعد بن ثعلبة بن دودان .

ذكره بهذه النسبة الفضيل في تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام مجلة تراثنا ، والمحلي في الحدائق الوردية ، والسماوي في إبصار العين ، والمامقاني في تنقيح المقال(3) .

ص: 20


1- تاريخ الطبري : 4/270 .
2- تسمية من قتل للفضيل : مجلة تراثنا : 2/152 ، الحدائق الوردية : 121 .
3- تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام للفضيل/ مجلة تراثنا : 2/152 ،الحدائق الوردية للمحلي : 121 ، إبصار العين للسماوي : 107 ، تنقيح المقال للمامقاني : 3/214 رقم1178 .

وذكره بهذه النسبة دون تصريح بها الطبري في تاريخه ، فقال : من بنىسعد بن ثعلبة(1) .وذكره بهذه النسبة أيضاً الشيخ المظفر في كتاب حبيب البطل الأسدي(2) .

الثعلبي :

نسبة الى ثعلبة جدّه ثعلبة أو الى ثعلبة بن دودان .

وقد ذكره بهذه النسبة المحقّق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه حبيب بن مظاهر .

ص: 21


1- تاريخ الطبري : 4/270 .
2- حبيب البطل الأسدي للمظفر : 38 .

منازل بني أسد

اشارة

كانت منازل بني أسد في الجاهلية حوالي بلاد حائل عاصمة آل الرشيد المعروفة - سابقاً - ب-« أجاء » أو بالجبلين ، أو جبلي طي ، ولهذا يقول أبو العسوس الطائي يوم صفين :

نحن حماة الجبلين

بين العذيب الى العين

قال ابن خلدون المالكي في العبر : وأمّا بنو أسد ، فمنهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بطن كبير متسع ذا بطون ، وبلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد في مجاورة طي .

ويقال : إنّ بلاد طي كانت لبني أسد ، فلما خرجوا من اليمن غلبوهم أجاء وسلمى ، وحاربوا واصطلحوا ، وتجاوروا لبني أسد الثعلبية وواقصة وغاضرة ، ولهم من المنازل المسماة في الأشعار : غاضرة والنغف .

وقد تفرّقوا من بلاد الحجاز على الأقطار ، ولم يبق لهم حي ، وبلادهم الآن فيما ذكر ابن سعيد لطي وبني عقيل الأمراء ، وكانوا بأرض العراق والجزيرة .

ص: 22

وكانوا في الدولة السلجوقية قد عظم أمرهم ، وملكوا الحلّة وجهاتها ، وكان بها منهم الملوك بنو مزيد الذين ألف الهباري أرجوزته المعروفة في السياسة لهم ، ثم اضمحل ملكهم بعد ذلك ، وورث بلادهم بالعراق خفاجة(1) . . . .

منازل بني أسد في الإسلام

انتزحت هذه القبيلة - كما انتزح غيرها من قبائل العرب - في المغازي الإسلامية ، وكان اتجاهه نحو أرض العراق ، ولمّا مصّرت الكوفة اختطّ بها بنو أسد كغيرهم .

وكانت خطّتهم قبلي الجامع الأعظم جنوبياً غربياً ، ويعرف اليوم بقبر ميثم التمار على الطريق الواقع بين النجف والكوفة على يسار المتّجه الى النجف يمين المقبل منها ، بين كري سعد والجامع الأعظم « مسجد الكوفة » .

وبالقرب من هذه الخطة صحراء « أثير » ، وهو رجل من بني أسد .

ولهم بهذه الخطّة مسجدان :

أحدهما : مسجد بني جذيمة ، وهم بنو جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة .

ص: 23


1- العبر لابن خلدون : 3/138 .

والثاني : مسجد سماك بن مخرمة بن حمين الأسدي ، أحد بني الهالك بن عمرو بن أسد بن خزيمة .

وكان الهالك حداداً ، وسماك ناصبياً من العثمانية يبغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، وهرب منه ونزل الرقّة يكاتب معاوية .

ومسجده هذا أحد المساجد الملعونة التي بنيت فرحاً بقتل الحسين(1) عليه السلام .

ص: 24


1- انظر البطل الأسدي حبيب للمظفر : 18 .

كنيته

أبو جحل

قال السماوي في إبصار العين : مسلم بن عوسجة الأسدي ، هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة ، أبو حجل الأسدي السعدي(1) .

وقال الزبيدي في تاج العروس : أبو جحل ، مسلم بن عوسجة الأسدي ، استشهد مع الحسين بن علي عليهماالسلام ، وهو الذي عناه الكميت في شعره ، يعني قوله :

ومال أبوالشعثاء أشعث داميا

وإنّ أبا جحل قتيل مجحل

وكذا ذكره ابن منظور في لسان العرب .

معنى جحل :

قال ابن منظور في لسان العرب :

الجَحْل : السَّيِّدُ من الرجال .

ص: 25


1- إبصار العين للسماوي : 107 .

والجَحْلُ : يَعْسُوب النحل .

وهو الضَّبُّ المُسِنُّ الكبير .

والجَحْل : اليَعْسوب العظيم .

والجَحْل : الزِّق ، وخصّ بعضهم به العظيم منها .

وسِقَاء جَحْل : ضَخْم عظيم ، وجمعه جُحُول .

والجَحْل : العظيم الجَنْبَين .

ورجل جَحْل : غليظ الوجه واسع الجبين كَزُّه في غِلَظ وعظم أَسنان .

وقال الجرمي : الجَحْل العظيم من كلّ شيء .

ويقال : جاء مُقَدِّحَةً عَيْنُه وجاحلةً عَيْنُه إِذا غارت .

وضَرَبه فجَحَله جَحْلاً أَي صَرَعَه .

والجَحْل : صَرْعُ الرجلِ صاحبَه ، ثم ذكر بيت الكميت المذكور آنفا .

* * *

والمشترك في هذه المعاني جميعاً العظمة ، فإذا قلنا أنّه السيد من الرجال ، فهو عظيم ، وإذا قلنا أنّه اليعسوب ، فهو العظيم منها ، وكذا ترى في كلّ المعاني المذكورة للكلمة في « اللسان » تقيد بالعظيم من ذلك المعنى المذكور ، ويبدو أنّ العظمة في مسلم بن عوسجة ملحوظة في هذه التكنية .

وهو سيد في قومه ، وسيد في الرجال ، ويعسوب عشيرته ، وعظيم بين يعاسيب الحسين عليه السلام .

* * *

ص: 26

وكنيته أبو جحل أي « السقاء » و« الزقّ » ، وهنا أيضاً الملحوظ فيه العظيم منها ، وقد احتوى من أسرار آل محمد صلى الله عليه و آله ما جعله زقّاً مكتوماً يسقي شيعتهم بما خصّه اللّه به من رحيق علوم أهل البيت عليهم السلام حتى

اصطفاه واختاره ، ليكون من الأنصار الذين لا يعلم العالم بالخلق وسيد الشهداء عليه السلام خيراً منهم .

وهو مع ذلك كلّه يكنى بأبي جحل أي « الزق العظيم » و« السقاء » ، ويقتل ضمأً على شاطيء الفرات ، ويعالج العطش وهو كبير السنّ .

* * *

وأبو جحل ، لأنّه جحل أعداء الحسين عليه السلام فصرعهم ، تماماً كما فعل مع ابن حوزة وغيره .

وأبو جحل ، لأنّه خرّ صريعاً ضامئا بين يدي سيد الشهداء عليه السلام .

* * *

فهو عظيم في خلقه ، عظيم في خُلقه ، عظيم في قومه ، عظيم في الأرض ، عظيم في السماء ، عظيم في مواقفه ، عظيم في صبره ، عظيم في ولائه ، عظيم في حياته ، عظيم في موته ، عظيم في كلّ ما يمتّ اليه ، وعظيم في كلّ ما يتعلّق به . . .

ص: 27

عمره

أكّدت المصادر أنّ مسلم بن عوسجة كان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله ، وأنّه شارك في فتح « آذربيجان » أيام ملك عمر بن الخطاب . .

والمشهور بين الرجاليين تعريف الصحابي بأنّه : من لقي النبي صلى الله عليه و آلهمؤمنا به ، ومات على الإسلام(1) . .

وفي معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري في تعريف الصحابي بمدرسة أهل البيت عليهم السلام قال :

الصاحب ، وجمعه : صحب ، وأصحاب ، وصحاب ، وصحابة والصاحب : المعاشر والملازم ، ولا يقال إلاّ لمن كثرت ملازمته ، وإنّ المصاحبة تقتضي طول لبثه(2) .

وبناءا على هذا يقتضي أن يكون مسلم بن عوسجة الكوفي على عهد النبي صلى الله عليه و آله - على الأقل - شابا يافعا قادرا - عادة - على السفر

ص: 28


1- الإصابة لابن حجر : 1/8 .
2- معالم المدرستين للسيد العسكري : 1/88 .

من الكوفة الى المدينة ، والمكث فيها مدّة تكثر فيها ملازمته للنبي صلى الله عليه و آله ، ويطول لبثه عنده .

وقد عبّر عنه الشيخ صاحب الجواهر بالشيخ الهمّ ، وقرنه مع عمار في تمثيله للسنّ ، فقال في معرض كلامه عن نفي وجوب الجهاد :

« ولا على الشيخ الهمّ » العاجز عنه ، للأصل ، وظاهر الآية المعتضد بعدم الخلاف المحكي والمحصل ، مضافا إلى قاعدة نفي الحرج المقتضية كالآية للحوق المريض ونحوه به ، كما صرح به غير واحد إلاّ أن يكون مريضا مرضا لا يمنعه منه .

نعم لو فرض قوّة الهمّ عليه وجب عليه ، وإن كبر سنّه .

كما وقع من عمار بن ياسر في صفين ومسلم بن عوسجة في كربلاء(1).

وقال الشيخ السماوي : قتل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله مع الحسين عليه السلام

خمسة نفر في الطف :

أنس بن الحرث الكاهلي ، ذكره جميع المؤرخين ، وحبيب بن مظهر الأسدي ، ذكره ابن حجر ، ومسلم بن عوسجة الأسدي ، ذكره ابن سعد في الطبقات(2) .

ص: 29


1- جواهر الكلام للجواهري : 21/8 .
2- إبصار العين للسماوي : 221 .

وقال الشيخ شمس الدين : . . أو تدلّ على أنّه كان من الشيوخ ، كالذي نستفيده بالنسبة إلى الصحابة ومن عاصرهم ، كمسلم بن عوسجة ، وأنس بن الحارث الكاهلي ، ومن أشبه حالهما(1) .

وقال في ترجمته : شيخ كبير السنّ(2) .

وحكي عن بعض المحقّقين أنّه كان قد ذرّف على التسعين ، أي زاد عليها ، ويؤيده تمثيل صاحب الجواهر بعمار في صفين وبه ، حيث أنّ عمار في صفين كان قد ذرّف على التسعين ، وتعبيره عنه بالشيخ الهمّ ، والهمّ بالكسر - كما في اللغة - الشيخ الطاعن(3) ، واللّه العالم .

ص: 30


1- أنصار الحسين عليه السلام لشمس الدين : 211 .
2- أنصار الحسين عليه السلام لشمس الدين : 108 .
3- قال صاحب لسان العرب : والهمّ - بالكسر - الشيخ البالي الفاني .

مكانته وشخصيته

اشارة

يقف الإنسان حائراً أمام رجال أذهلوا التاريخ ، وبذّوا البشرية ، حتى مدحهم إمامهم وقال - وهو أعلم الخلق بالخلق - إنّه لم يعلم أصحاباً خيراً منهم .

ولابد أن يستسلم الكاتب إذا نوى الاقتراب من أنوار مسلم بن عوسجة الى العجز ، فهو مهما كان قوياً مقتدراً ملمّا بفنون الكتابة ، لا يحلم أن ينال نجمه أبداً ، ولا يسعه وصف شخصية عظيمة جسدت الفضائل ومكارم الأخلاق في كلّ أبعادها .

فلنا العذر إن وقفنا على ساحل هذا البحر العذب الذي يتدفّق منه العطاء ، ويروي بأمواجه التاريخ والبشرية جمعاء ، فنغترف منه على قدر إنائنا المحدود، ونستنير به كالمقتبس العجلان ، ونصفه وصف الخجل المبهور.

ولا شكّ أنّ من ادعى الإلمام بشتى نواحي شخصية هذا الشهيد العظيم ، وحصر مفاخره بفصل من كتاب ، أو مجلس أو خطاب ، فإنّه سوف يفتضح ، ويرى عجزه بعينه التي قصرت عن لمحة قصيرة الى نور الرجل الذي واسى الحسين عليه السلام حيّا وميتا ، ومشى اليه الحسين عليه السلام وأبّنه .

ص: 31

وقد وصفه النبي صلى الله عليه و آله مع الثلّة الطيبة التي دافعت عن حبيبه وريحانته سيدالشهداء عليه السلام ، فوصفهم بالنجوم ، فقال مخاطباً سيدة نساء العالمين عليهاالسلام :

روى ابن قولويه في كامل الزيارات وفرات في تفسيره بالإسناد عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان الحسين عليه السلام مع أمّه تحمله ، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : لعن اللّه قاتليك ، ولعن اللّه سالبيك ، وأهلك اللّه المتوازرين عليك ، وحكم اللّه بيني وبين من أعان عليك .

فقالت فاطمة : يا أبه ، أي شيء تقول ؟!

قال : يا بنتاه ، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي .

وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل ، وكأنّي انظر إلى معسكرهم ، والى موضع رحالهم وتربتهم .

فقالت : يا أبه ! وأين هذا الموضع الذي تصف ؟

قال : موضع يقال له « كربلاء » ، وهي ذات كرب وبلاء علينا وعلى الأمّة ، يخرج عليهم شرار أمّتي ، ولو أنّ أحدهم شفع له من في السماوات والأرضين ما شفعوا فيهم ، وهم المخلّدون في النار .

قالت : يا أبه ! فيقتل ؟!

قال : نعم يا بنتاه ، وما قتل قتلته أحد كان قبله ، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة والوحش والحيتان في البحار والجبال ، لو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفّس .

ص: 32

وتأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم باللّه ، ولا أقوم بحقّنا منهم ، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم ، أولئك مصابيح في ظلمات الجور ، وهم الشفعاء ، وهم واردون حوضي غدا ، أعرفهم إذا وردوا عليّ بسيماهم ، وأهل كلّ دين يطلبون أئمتهم ، وهم يطلبوننا ولا يطلبون غيرنا ، وهم قوام الأرض ، بهم ينزل الغيث(1) .

فقالت فاطمه الزهراء عليهاالسلام : يا أبة ، إنّا للّه ، وبكت .

فقال لها : يا بنتاه ، إنّ أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا ، بذلوا « أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا » ، فما عند اللّه خير من الدنيا وما فيها .

يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله ، أما تحبّين أن تأمرين غدا بأمر فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب .

أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش .

أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة . . . .

والحديث من غررالأحاديث الواردة فيالإخبار بشهادة سيدالشهداء عليه السلام ،

وقد أتينا على شرحه مفصلاً في دراستنا لكتاب كامل الزيارات ، ونذكر هنا ما يخصّ تشبيه النبي صلى الله عليه و آله لأصحاب الحسين عليه السلام بالنجوم، باعتبار أنّ مسلم بن عوسجة نجم من تلك النجوم اللوامع السواطع .

ص: 33


1- الى هنا في كامل الزيارات لابن قولويه : 144 ح 170 ، وما بعده من تفسير فرات : 171 تفسير سورة التوبة .

قال صلى الله عليه و آله :

وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل ، وكأنّي انظر إلى معسكرهم ، والى موضع رحالهم وتربتهم .

وبهذا بيّن النبي صلى الله عليه و آله صفة أصحاب الحسين عليه السلام ورهطه والمستشهدين بين يديه ، وفي هذا التشبيه دلالات قوية ورائعة وجزيلة ، وإشارات جميلة وجليلة ، نشير الى بعضها سراعاً ، فمنها :

أولا : إنّ النجوم لا تظهر ولا تزهر في السماء إلاّ إذا عمّ الظلام السماء ،

فهم يقومون مع إمامهم في وقت يعمّ فيه الضلال والظلام على سائر الأمّة .

ثانياً : النجم هادٍ أمين ، من اتبعه - في برّ أو بحر - وصل الى غايته بأمان

وإطمئنان « وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » .

وهم أيضاً هداة أمناء يهدون الأمّة المتحيّرة ، « وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون » ، ولا يعتري من اهتدى بهم الشكّ والحيرة والاضطراب .

ثالثاً : شبّههم - من لا ينطق عن الهوى - بأهل بيته عليهم السلام في صورة من صورهم ، لأنّه صلى الله عليه و آله شبّه أهل بيته في غير موضع بنجوم السماء(1) .

رابعاً : شبّههم بنجوم السماء باعتبار أنّ النجوم أمان لأهل السماء - كما ورد في أحاديث كثيرة - وورد في « المعتبر » : أنّ النجوم إذا طويت طويت السماء ، وفي « علل الشرائع » : أنّ النجوم إذا ذهبت أتى أهل

ص: 34


1- انظر بحار الأنوار ج 23 .

السماء ما يكرهون ، وفي « كمال الدين » : أنّه إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وهكذا . . .

خامساً : النجوم زينة للناظرين « إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزينَةٍ الْكَواكِبِ » ، « وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرينَ » ، « أَفَلَمْ

يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ » .

فأصحاب الحسين عليه السلام يزينون السماء ، ويكونون زينة لأهل الأرض والسماء ، فينظرون لهم فيفرج اللّه عنهم بهم .

سادساً : شبّههم النبي صلى الله عليه و آله بالنجوم ، والنجوم لوامع سواطع زواهر نيّرات ، في إشارة الى أنّهم ستلمع أسماؤهم وتبقى نيرات زواهر ، وستبقى النجوم لامعة مدى عمر الأرض ، وكذلك هم سيبقون لوامع مدى التاريخ الى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها .

سابعاً : تختلف النجوم في ظهورها للأبصار ولمعانها ، وإن كانت هي في نفسها كبيرة عظيمة ضخمة ، كما تختلف في معرفة الناس بها واهتدائهم بها .

وكذلك هم أصحاب الحسين عليه السلام ، فمنهم من هو معروف للناس مثل حبيب بن مظاهر وزهير بن القين و .. و .. و .. ، ومنهم من يسمع الناس به ولا يعرفون عنه الشيء الكثير ، ومنهم من يعرفون اسمه ولا يعرفون عنه شيء أصلاً ، ومنهم من لا يعرفه الناس بتاتاً ، ومنهم من لا نعرفه ولم نسمع باسمه حتى يظهر المولى صاحب الأمر أو نلتقيهم في الجنة إن شاء اللّه .

ص: 35

وهكذا لو أردنا ملاحظة ما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة من خواص ومميزات للنجوم وتطبيقها عليهم لطال بنا المقام .

ثم قال صلى الله عليه و آله : « يتهادون الى القتل » .

وهو إمّا من الهدية ، كأنّهم يهدي بعضهم بعضاً الى القتل .

أو من قولهم : « تهادت المرأة » إذا تمايلت في مشيها .

أو من قولهم : « هداه أي تقدّمه » ، أي يتسابقون .

وعلى التقديرات كلّها ، فهي كناية عن فرحهم وسرورهم واستئناسهم بالمنية دون ريحانة النبي صلى الله عليه و آله .

مكانته في قومه

إنّ بني أسد لهم موقع مميّز في المجتمع العربي ، لا سيما في المجتمع الكوفي ، ولمسلم بن عوسجة موقع مميّز في بني أسد ، فهو من أبطالهم وفرسانهم ورجالهم وأشراف رؤوسهم .

وهو من مفاخرهم ، ومن الأسماء اللامعة في سماء المجتمع البشري كلّه ، وقد افتخر به العدو ، فكيف بالعشيرة ، افتخر به شبث بن ربعي اللعين ، وافتخر به المسلمون يوم سلق آذربيجان ، وكان مفخرة يوم مسلم بن عقيل عليهماالسلام ،ومفخرة في طفّ أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام .

ويمكن استكشاف مكانته ومنزلته العظيمة في قومه ومصره من رجزه يوم عاشوراء حيث قال :

ص: 36

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

وإنّ بيتي في ذرى بني أسد

فمن بغاني حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

وصف نفسه في رجزه بالأسد القوي الشاب ذي اللبد في قوم عرفوا ببني أسد ، وقال : إنّه من ذرى هؤلاء القوم وعليّتهم وجماجمهم ، وسيأتيك تفصيل الكلام في رجزه إن شاء اللّه تعالى .

إباؤه الضيم

مسلم بن عوسجة خريج مدرسة الإمام أبي الأحرار وأبي الضيم سيد الشهداء الحسين عليه السلام الذي قيل له يوم الطف : انزل على حكم بني عمّك ! فقال : لا - واللّه - لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد .

ثم نادى : يا عباد اللّه ، « إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ » .

وقال عليه السلام : موت في عزّ خير من حياة في ذلّ .

وأنشأ عليه السلام في يوم شهادته :

الموت خير من ركوب العار

والعار أولى من دخول النار

واللّه ما هذا وهذا جاري

قال ابن نباتة :

الحسين الذي رأى القتل في ال

عزّ حياة والعيش في الذلّ قتلا

ص: 37

وروى أبو نعيم في الحلية عن محمد بن الحسن : أنّه لمّا نزل القوم بالحسين عليه السلام ، وأيقن أنّهم قاتلوه ، قال لأصحابه :

قد نزل ما ترون من الأمر وأنّ الدنيا قد تنكرت وتغيرت وأدبر معروفها واستمرت حتى لم يبق منها إلاّ كصبابة الإناء وإلاّ خسيس عيش كالمرعى الوبيل

ألا ترون الحقّ لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّه .

وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما .

وأنشد لمّا قصد الطفّ متمثلاً :

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مذموما وخالف مجرما

أقدّم نفسي لا أريد بقاءها

لنلقى خميسا في الهياج عرمرما

فإن عشت لم أُذمم وإن متّ لم أُلم

كفى بك ذلاًّ أن تعيش فترغما(1)

لقد سمع ابن عوسجة هذه الكلمات ورآها في شخص معدن الإباء للضيم ، فوعاها قلبه ، وتشرّبت بها روحه ، فأبى الخنوع والرضوخ ، وآثر الموت بين يدي إمام الإباء على العيش الرخيص في مستنقعات غابة القرود الأموية العفنة .

ص: 38


1- المناقب لابن شهرآشوب : 3/224 .

لقد وقف مرفوع الهامة ، شامخ العلامة ، كالجبل لا تزلزله العواصف ، ولا تستفل منه القواصف ، قويا في ذات اللّه ، ثابتا في الدفاع عن حريم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، غير مكترث بأكداس السلاح وقطعان الذئاب والوحوش الكاسرة المتمرّدة على الحقّ .

فأبى الضيم الأموي ، وأبى الحياة الذليلة ، واختار الموت في عزّ إمتثالاً لقول أمامه .

وقد رأينا إباءه يتجسّد في مواقفه بين يدي سيد الشهداء عليه السلام في كربلاء ، حيث رسم أروع صور الإباء للتاريخ والبشرية .

وخذ لذلك مثلاً واحدا ، حينما هجم على اللعين ابن حوزة الذي تطاول على معسكر الحسين عليه السلام وطغى ، فشدّ عليه مسلم بن عوسجة ، فضرب رجله اليمنى فطارت ، وعدا به فرسه يضرب برأسه كلّ حجر وكلّ شجر حتى مات ، وعجل اللّه بروحه إلى النار(1) .

الانضباط والتسليم

التسليم للإمام إسّ العقيدة ، ومخّ العبادة ، ومعنى التدين ، وضبط النفس التزاما بأمر المعصوم في الرضا والسخط علامة الإيمان الحقّ ، وقد وردت روايات كثيرة في بيان التسليم ومعناه وحدوده .

ص: 39


1- الإرشاد للمفيد : 2/102 ، اعلام الورى : 1/462 .

والتسليم والانضباط في الظروف العادية ، أو فيما يوافق الهوى ويؤمن المصالح ليس عسيرا ، بل فيه من الشعور بالغبطة والسعادة واللّذة ما يدفع الإنسان للالتزام به ، غير أنّ العسير الذي لا يتذوّق طعمه إلاّ المؤمن المحتسب الذي عرف الحقّ ، وعرفه الحقّ ، هو التسليم في الغضب ، وفيما لا تهوى النفس ، وربما فيما يحرم الإنسان من مصلحة عاجلة يخالها تجلب له نفعا .

التسليم في الصحة والمرض ، والدعة والرخاء والشدّة والضراء ، والمنشط والرضا والسخط والغضب ، هو التسليم المطلوب . . وهو أن يلغي الإنسان ما يتوهمه عقلاً عنده ويلتزم بالمعصوم ، ويتنكّر لما يتخيّله فكرا صحيحا ويتّصل بالفكر الذي لا يقبل الخطا والسهو والاختلاط ، ويتجنّب الموقف الذي يحسبه صائبا ، ويركن الى الموقف الذي أراده الحقّ المطلق ، ولا يرى في نفسه حرجا ويسلّم تسليما .

وهذا ما رأيناه واضحا جليّا في « مسلم بن عوسجة » المسلّم تسليما لسيد شباب أهل الجنة عليه السلام المفروض طاعته ، فهو بالرغم من شدّة غضبه وسخطه على شمر الاّ أنّه استاذن الإمام في ضربه ، والحال أنّه كان مطمئنا واثقا أنّ رميته لا تخطئ ، وأنّه في موقف يقطع فيه أنّ السهم لا يقع الى الأرض ، وأنّ إصابته حتمية ، حتى قال : « فإنّه قد أمكنني وليس يسقط سهم ، فالفاسق من أعظم الجبارين » ، وهو يعرفه جيدا ويعلم أنّه جبار من الجبارين ، وطاغية من الطواغيت ، وأنّه قد تعدّى طوره ،

ص: 40

وتجاوز على إمام زمانه ، واساء مع المعصوم ، وأنكر إمامته ، ولا شكّ ولا ريب أنّ حكمه القتل .

وهو الآن يقف موقف المحارب في ساحة المعركة ، وتكاد الحرب عمّا قريب تقوم على ساق ، وقد اصطف العسكران ، ووقف الجيشان للقتال ، والخيل تتقحّم ، والدماء تتدفّق في الإعناق ، والمفروض أنّ مسلما قد سمع - كما سمعنا - أنّ شمرا هو قاتل سيد الشهداء عليه السلام .

ومع هذا كلّه وأكثر ، يستأذن مسلم في قتل شمر ، ثم يمنعه الإمام عليه السلام فيمسك عن ذلك . . ويسلّم . . .

وفاؤه

يكفي مسلم بن عوسجة وإخوانه شرفا ونبلاً أنّه نال شهادة عظيمة من سيد الشهداء عليه السلام في الوفاء ، فما عسى الكاتب أو المتحدّث أن يقول بعد ذلك ؟! وهل ثمّة حاجة للتدليل على ذلك ، وتجميع الشواهد لاثباته ؟

قال سيد الشهداء عليه السلام : فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي(1) .

بيد أنّنا سنذكر صورا من وفائه تيمنا ، ولتكون لنا درسا ، ومفخرا وعزّا . .

ص: 41


1- الإرشاد للمفيد : 2/89 .

لقد كان مسلم وفيّا للحسين عليه السلام يوم كتب له يعده النصرة ، فوفى إذ خان الآخرون ، وثبت إذ نكص الكاذبون ، والتزم إذ تنصّل المنافقون .

ووفى مسلم مع نفسه بالوعد الذي قطعه على نفسه في نصر ريحانة النبي صلى الله عليه و آله ، ولم يخن نفسه ، ولم يراوغ ، ولم يختلف الموقف عنده ، لا في الرخاء ، ولا في الشدّة ، ولا في الكوفة ، ولا في كربلاء ، إنّه قطع على نفسه ووعدها نصرة الحسين عليه السلام ، ثم وفى لها باختيار السعادة الأبدية .

والأجمل من ذلك كلّه والأروع وفاؤه لإمامه بعد أن صرع . .

شيخ كبير ، يقع صريعا ، وأهله وعياله بالقرب منه ، وقد ترك الدنيا وراءه ، وهو مفارق لا رجعة له ، ومسافر لا تُنتظر عودته ، وغائب لا يُرتجى حضوره ، والواقف عنده إمام أعطاه اللّه كلّ شيء ، ومسلم يعلم علم اليقين أنّه إذا تمنّى على سيد الشهداء عليه السلام في آخر لحظاته أمنية فإنّه يحقّقها له ، لأنّه إمام الكرم والشفقة والوفاء ، وهو رحمة اللّه الواسعة ، إلاّ أنّه لا يتمنّى شيئا لنفسه ، ولا لأهله ، لم يوص بماله ولا عياله ، بل لم يوص بنفسه ، ولم يطلب لها شيئا من أمر الدنيا والآخرة ، إنّما أوصى بالحسين عليه السلام ، فالحسين مقدّم على نفسه وأهله وعياله وماله ، وهو دنياه وآخرته ونعيمه وجنته .

قال : بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللّه - وأهوى بيده إلى الحسين عليه السلام - أن تموت دونه .

ص: 42

علو الهمّة

تتضاءل الجبال أمام همّة مسلم بن عوسجة ، فقد علت همّته على الدنيا بكلّ ما فيها من كيانات يضرب بها المثل للعلو والشموخ والإرتفاع ، فهو مع كبر سنه وشيخوخته وعطشه ومحاصرته ، وملاحظة العدو وتجبّره وكثرته وعدّته وعديده يقول :

لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي .

ويبدي استعداده لمقاتلتهم بالحجارة مع عدم توفّر السلاح عنده .

قوته وشدة وطأته

مسلم بن عوسجة من فرسان المصر ، وأبطال المسلمين منذ يوم « سلق آذربيجان » ، وقد جرّب العدو قوته وصولته وسطوة سيفه في معركة القصر في الكوفة ، وقد اختاره مسلم بن عقيل عليهماالسلام ليكون حاملاً لراية واسعة من رايات جيشه في مواجهة ابن زياد .

ولولا قوته وثباته لما دفع مسلم بن عقيل عليهماالسلام اليه الراية في معركة خطيرة تعدّ من أهم معارك التاريخ مصيرية .

ولولا قوته لما فرح العدو وزغرد وكبّر وطاش بسماع خبر مصرعه ، ففرح العدو بقتله يكشف أنّه كان قد أبلى فيهم بلاءا عظيما ، وأنّه زلزل الأرض تحت أقدامهم ، وأدخل الرعب في قلوبهم .

ص: 43

فلولا أنّه خبطهم بسيفه خبطا ، ومزّقهم بسنانه تمزيقا ، وفرّقهم بحملاتهتفريفا ، حتى حسبوا له حسابا أعجزهم عن مقابلته ، وجبّنهم عن مصاولته ، لما فرحوا بقتله كلّ هذا الفرح ، ولما تعالت الزعقات من أطراف معسكرهم ابتهاجا بخلاصهم من طود عظيم كان يصدهم كلّما أرادوا التقدّم نحو ميسرة الحسين عليه السلام .

لقد وثب وثبة الأسد الغضبان ، فخبط ابن حوزة بسيفه ، وهو على فرسه ، فاستهدف رجله فطارت . . ضربة واحدة قطعت رجل فارس قوي استند الى ظهر فرس قوي .

زهده

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن ، وقد زهد مسلم بن عوسجة - بحقّ - في الدنيا ، وأعرض عنها بحذافيرها ، ولم تعدل عنده شيئا حتى يوصي بما يهمّه فيها ، فالوصية الوحيدة التي كانت تهمّه ، والبقية الوحيدة عنده في هذه الدنيا ، إنّما هو الحسين عليه السلام ، ليس في الدنيا شيء آخر يعتزّ به أو يعير له أدنى إهتمام .

وهل تجد ثمة زهدا أعلى وأرفع وأرقى وأروع من زهد مسلم بن عوسجة ، بعد أن أعرض عن الدنيا ، وكانت قد تعرّضت له ، وهو يتمنّى أن يخرج منها بالقتل والإحراق سبعين مرّة . .

تتمنّاه الدنيا ويتمنّى فراقها ، تتشوّق اليه ويتشوّق للخروج منها والابتعاد عنها ، تريده يبقى ويريد هو أن يرحل ، ولا يريدها تبقى إلاّ

ص: 44

إذا كان يقتل فيها دون محبوبه الحسين عليه السلام ، فإذا جادت عليه الدنيابهذه العطية ، فهو على استعداد أن يعود لها مرّة بعد مرّة ، وإلاّ فهي سجن لا يطاق .

والموت قنطرة تعبر به عن البؤس والضراء الى الجنان الواسعة والنعيم الدائم ، فكيف لا يزهد فيها مسلم ، وهو يسمع ذلك ويعيه من فم إمامه سيد الشهداء عليه السلام مباشرة ، إذ يقول :

صبراً بني الكرام ، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وماهو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، إنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كذبت(1) .

حلمه وكظمه الغيظ

يكفي في معرفة حلمه وكظمه الغيظ أن نراه يغلي كالمرجل ، ويستعر داخله ناراً ، ويتضوّر ويتميّز غضبا ، وهو يسمع شمرا ويراه يعتدي على عزّته وكرامته وكلّ وجوده المتمثّل في إمامه سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ،

ص: 45


1- معاني الأخبار : 288 باب معنى الموت .

فتثور ثائرته ، وتنتفض مشاعره ، وتتوثب جوارحه للانتقام من الفاسقالجبار ، فيأمره الإمام عليه السلام أن يمسك ، فيمسك ، ويستعمل الحلم ، ويكظم الغيظ في مثل هذا الموقف ، إنّه بحقّ أروع صورة لكظم الغيظ .

شفقته

لا حاجة للتدليل والبحث عن الشواهد لمعرفة مدى شفقة هذا الشيخ الحنون العطوف بعد ما سمعنا وصيته في لحظاته الأخيرة بالغريب الوحيد الإمام الحسين عليه السلام سيما إذا لاحظنا الظروف والمشهد والكيفية التي أوصى بها رضوان اللّه عليه .

بصيرته ويقينه

كان مسلم بن عوسجة نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، متقن العمل ، متخلّقاً بأخلاق الرحمن ، وقد شهد له بذلك العدو يوم قال :

إنّما تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر ، وقوماً ، مستميتين(1) . . .

كما أفاد ابن عوسجة نفسه مدى بصيرته بالبيت الأخير من رجزه ، حينما قرر أنّه على الهدى والحقّ الصريح الذي لا يعتريه شكّ ولا ريب ولا ترديد ، وأنّ من بغاه وتعامى حائد عن الرشد ، وكافر بدين جبار صمد .

ص: 46


1- تاريخ الطبري : 4/331 .

وأمّا يقينه فإنّه تيقّن التوحيد ورآه في شخص إمام زمانه عليه السلام ،وانكشف له الغطاء ، فعاين الآخرة معاينة . .

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبد اللَّه عليه السلام

قال : قلت له : أخبرني عن أصحاب الحسين عليه السلام وإقدامهم على الموت؟ فقال : إنّهم كشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة ، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها ، وإلى مكانه من الجنة(1) .

أدبه مع إمامه

يعرف أدب هذا الشيخ العظيم الكبير مع الإمام عليه السلام من مراجعة سريعة لمواقفه في كربلاء ، ولذا فإنّنا سوف لا نطيل الكلام في ذلك ، ونتركه للقارئ الكريم ، ونقتصر هنا على كلمة واحدة :

يمكن أن نستكشف أدبه الرفيع وأخلاقه الكريمة ، وخصاله الحميدة ، وصفاته الجميلة ، وخلاله الجليلة ، من توسّله بإمامه واستئذانه أن يرمي الشمر اللعين ، وهو واثق متأكد من إصابته ، وأنّ سهمه لا يخطئ ، ورميته لا تمرق ، لأنّه في مرمى قوسه ، وهو يعرف أنّ شمراً من العتاة الجبارين ، وقد ارتكب ما يستحقّ القتل بالتحقيق ، ولكنّه لا يرى لنفسه إرادة مع وجود الإمام ، فيستأذن ، فيمنعه الإمام فيمسك .

ص: 47


1- علل الشرائع : 1/229 باب163 ح1 ، بحار الأنوار : 44/297 باب 35 .

ونرى الإدب والعقيدة والدماثة والشجاعة تتدفّق من كلماته التيانبرى ينثرها على مسامع الزمن بين يدي إمامه ليلة العاشر .

وأخيراً ختم حياته الشريفة المجيدة بشكره للإمام ووصيته به وبأهله لحظة اللّحاق بالرفيق الأعلى . . .

شجاعته

اشارة

لقد امتاز أصحاب الحسين عليه السلام جميعاً بالشجاعة والفروسية والشهامة

والإقدام ، وأول ما كشف عن شجاعتهم وإقدامهم وشهامتهم هو اختيارهم الوقوف في صف سيد الشهداء عليه السلام كالبنيان المرصوص ، حتى لكأنّك تنظر الى رجل واحد يتكرر في عدّة صور ، بالرغم من وجود التفاوت الشخصي بينهم ، وبالرغم اختلاف أعمارهم .

وإذا تأملنا مواقف الأعداء نجدهم قد قدّموا اعترافات وشهادات ضخمة في حقّ بعض رجال الحسين عليه السلام ، تماما كما حصل مع المولى مسلم بن عوسجة ، أو فيهم ككوكبة كاملة كما سمعنا منادي القوم يصرخ :

ويلكم يا حمقى ، مهلاً أتدرون من تقاتلون ؟ إنّما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوماً ، مستميتين(1) . .

وقيل لرجل شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد : ويحك ! أقتلتم ذريّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ! فقال :

ص: 48


1- تاريخ الطبري : 4/331 .

عضضت بالجندل ، إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا !ثارت علينا عصابة ، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية ، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً ، وتلقي أنفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ، ولا ترغب في المال ، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية ، أو الاستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها ، فما كنّا فاعلين لا أم لك(1) !

وقال الشيخ أبو عمرو الكشي :

. . . الذين نصروا الحسين - عليه السلام - ولقوا جبال الحديد ، واستقبلوا الرماح بصدورهم ، والسيوف بوجوههم ، وهم يعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون ، ويقولون : لا عذر لنا عند رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - إن قتل الحسين ومنّا عين تطرف حتى قتلوا حوله(2) .

فهم إذن قوم معروفون بالشجاعة والبصيرة والاستبسال والاستماتة في الحقّ ، وأنّهم أصحاب مقامات ووجاهات إجتماعية بارزة .

أمّا مسلم بن عوسجة فهو نجم لامع بين « فرسان المصر وأهل البصائر والمستميتين » .

ص: 49


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3/263 ، نفس المهموم للقمي : 302 .
2- رجال الكشي : 1/392 .

وقد رأيناه منذ اللحظة الأولى مع مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، ومع أبي الضيموسيد الشهداء عليه السلام ، والشجاعة تتدفّق من كلّ روحه وقلبه وجسمه وكلماته ، وكلّ شيء فيه ، بالرغم من كبر سنه . .

ونحن لا نريد الإطالة والتكرار ، ففي المراجعة السريعة لبعض مواقفه التي سجلها لنا التاريخ كفاية لمعرفة شجاعته التي تذهل العقول ، وتملتلك القلوب ، وتهزّ المشاعر . .

والشجاعة في مسلم شيمة وخلق ، درج عليها منذ شبابه ، ولازمته حتى توّج كلّ مشاهد الشجاعة في مبارزته وقتاله وقد أكلت السنين عمره الشريف ، وأخيراً في شهادته . . .

صور من شجاعته

يمكن أن نشير الى بعض الصور الخاطفة من شجاعته ، ونترك التفصيل فيها الى محلّه من الكتاب :

شهادة شبث بن ربعي

روى الطبري وابن الأثير وغيرهما ، واللفظ للأول :

قال شبث لبعض من حوله من أصحابه : ثكلتكم أمهاتكم ، إنّما

تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّلون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ، أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم « سلق آذربيجان »

ص: 50

قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين ، أفيقتل منكم مثلهوتفرحون(1) ؟!

استضافته مسلم بن عقيل

روى الطبري وابن كثير والمزي أنّ مسلم بن عقيل نزل أول ما نزل في الكوفة على مسلم بن عوسجة(2) .

ولكي ندرك مدى شجاعة هذا الصنديد المتيقّن لابد من مراجعة أجواء الرعب والفتنة وتزلزل المجتمع يومئذ ، ومدى تجبّر السلطان ووحشيته مع شيعة أمير المؤمنين وشيعة الحسين عليهماالسلام ، ففي مثل ذلك الجوّ الرهيب الذي يخشى المرء أن يخرج فيه اصبعه ، يستقبل مسلم بن عوسجة سفير الحسين عليه السلام ، ويقوم بأمره حتى يكون من أقرب المقرّبين اليه ، ومن المشاركين له في كلّ حركاته وسكناته ، بل يشاركه في أخذ البيعة للحسين عليه السلام .

وسيأتي الكلام في ذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى .

شهادة عمرو بن الحجاج الزبيدي

قاتل أصحاب سيد الشهداء عليه السلام على قلّتهم ، فقتلوا من أعداء اللّه مقتلة عظيمة ، وكانوا إذا قتل منهم الرجل والرجلان يبين فيهم لقلّتهم ،

ص: 51


1- تاريخ الطبري : 4/332 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/68 .
2- تاريخ الطبري : 4/258 ، تهذيب الكمال للمزي : 6/423 ، البداية والنهاية لابن كثير : 8/163 .

وإذا قتل في أولئك لا يبين فيهم لكثرتهم(1) ، حتى برز مسلم بن عوسجةوهلال بن نافع ، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس :

يا حمقى ، أتدرون من تقاتلون إنّما تقاتلون فرسان المصر وقوماً مستميتين ، لا يبرزن لهم منكم أحد . . واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم .

فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألاّ يبارز رجل منكم رجلاً منهم(2) . .

وستوافيك صور من شجاعة مسلم بن عوسجة في ثنايا هذا الكتاب ، فتتبع . . .

ص: 52


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/70 ، بحار الأنوار : 45/21 .
2- تاريخ الطبري : 4/331 وابن نما في مثير الأحزان : 45 ، والمجلسي في البحار : 45/19 .

الصحابي مسلم بن عوسجة

صحب النبي محمداً

ثم الوصي المؤتمن

وفدى الحسين بنفسه

من بعد ما نصر الحسن

وشرى المهيمن نفسه

منه فأغلى في الثمن

من كان قيمة نفسه

دار الكرامة في عدن

ربح التجارة بيّن

ما فيه بخس أو غبن(1)

نصّ الشيخ السماوي في إبصار العين على صحبة مسلم بن عوسجة نقلاً عن ابن سعد في طبقاته ، فقال : قال ابن سعد في طبقاته : وكان صحابياً ممّن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وروى عنه الشعبي(2) .

وقال أيضاً في فوائده :

قتل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله مع الحسين عليه السلام خمسة نفر في الطف :

أنس بن الحرث الكاهلي ، ذكره جميع المؤرخين ، وحبيب بن مظهر الأسدي ، ذكره ابن حجر ، ومسلم بن عوسجة الأسدي ،

ص: 53


1- الأبيات للشيخ عبد الواحد المظفر رحمه الله .
2- إبصار العين للسماوي : 108 .

ذكره ابن سعد في الطبقات(1) .

وقال الشيخ المامقاني في تنقيح المقال :

وكان صحابياً ممّن رأى النبي صلى الله عليه و آله ، وكان رجلاً شجاعاً ، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية ، ونصّ على ذلك ابن سعد في محكي طبقاته(2) .

وقال الشيخ محمد مهدي شمس الدين في أنصار الحسين عليه السلام :

كان صحابياً ممّن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وروى عنه(3) .

وقال الشيخ حسين الأنصاري في كتابه « با كاروان نور - مع ركب النور » ما ترجمته : اتفقت كتب الرجال عند أهل السنة من قبيل الإصابة والإستيعاب وأسد الغابة والطبقات ، وكذا كتب الرجال الشيعية : إنّ مسلماً كان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله .

وقالوا : إنّه كان رجلاً عابداً متهجّداً قارئاً للقرآن ، شجاعاً ، له ذكر في المغازي .

وقال الشيخ محمد جعفر الطبسي معلّقاً على قول السماوي في الإبصار :

لم أعثر عليه في الطبقات الكبرى ، وأورده الجزري في أسد الغابةبعنوان « مسلم أبو عوسجة(4) » ، وابن حجر في الإصابة(5) .

ص: 54


1- إبصار العين للسماوي : 221 .
2- تنقيح المقال للمامقاني : 3/214 رقم11781 .
3- إبصار العين للسماوي : 108 .
4- أسد الغابة : 4/264 .
5- الإصابة : 6/96 الرقم 7978 .

وقال علي جهاد الحساني معلّقاً على قول الشيخ السماوي أيضاً فيالإبصار : لم يذكره ابن سعد في طبقاته ، وذكره ابن حجر في الإصابة : 6/96 .

وذكر الطبراني في المعجم الكبير : مسلم أبو عوسجة ، وخرّج له رواية عن النبي صلى الله عليه و آله ، وقال عن عوسجة بن مسلم عن أبيه قال(1) . . .

وقال الزيعلي في نصب الراية : حديث مسلم أبي عوسجة رواه الطبراني أيضاً في معجمه حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل حدّثني محمد بن جعفر الوركاني حدّثنا أبو الأحوص عن سليمان بن قرم عن عوسجة بن مسلم عن أبيه قال(2) . . . .

ورواه البزار في مسنده حدّثنا محمد بن إسحاق حدّثنا مهدي بن حفص حدّثنا أبو الأحوص به عن مسلم أبي عوسجة قال : سافرت مع النبي صلى الله عليه و آله . . .

قال البزار أخطأ فيه مهدي فقال : سافرت مع رسول اللّه

صلى الله عليه و آله ، وإنّما سافر مع علي عليه السلام .

وقال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية : حديث عوسجة بن مسلم عن أبيه : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله . . أخرجه الطبراني والبزار(3) .

ص: 55


1- المعجم الكبير للطبراني : 19/436 .
2- نصب الراية للزيعلي : 1/246 .
3- الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر : 1/75 .

وقال ابن حجر أيضاً في الإصابة :مسلم « والد عوسجة » : قال ابن حبان : له صحبة ، وقال البغوي :

أحسبه كان بالكوفة ، حدّثنا هارون بن عبد اللّه حدّثنا مهدي بن حفص حدّثنا أبو الأحوص عن سليمان بن قرم عن عوسجة عن أبيه مسلم قال : سافرت مع رسول اللّه (1) صلى الله عليه و آله . . .

قال البغوي : لم يسنده غير مهدي ، وهو خطأ ، وأخرجه بن أبي خيثمة عن مهدي وابن السكن من طريقه .

قال البغوي : الصواب عن عوسجة عن عبد اللّه بن مسعود موقوفاً ، وقال ابن السكن : الصواب من فعل عبد اللّه ، وقد رواه عنه مهدي عن أبي الأحوص ، فقال عن سليمان عن عوسجة عن أبيه قال : سافرت مع عبد اللّه بن مسعود .

قلت : وقد أخرجه الطبراني عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر الوركاني عن أبي الأحوص مثل ما روى مهدي مرفوعاً ، ولفظه رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله . . .

وقال ابن الأثير في أسد الغابة :

مسلم أبو عوسجة : روى أبو الأحوص سليمان بن قرم عن عوسجة بن مسلم عن أبيه قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... أخرجه أبونعيم وأبوموسى(2) ..

ص: 56


1- الإصابة : 6/90 رقم 8002 .
2- أسد الغابة : 4/364 .

وهذه النصوص كلّها تؤكد أنّ مسلم هنا هو « أبو عوسجة » ، وليسابن عوسجة ، والتصحيف بعيد نسبياً ، لأنّ التصحيف قد يحصل في

تعبيرهم « مسلم أبو عوسجة » لو كان موحداً في كلّ المواضع والمصادر على حدّ سواء ، غير أنّ المصادر تذكره باسم « مسلم أبو عوسجة » ، ثم تعود في سند الخبر لتذكره باسم « عوسجة بن مسلم » ، وعبارة ابن حجر في العنوان « مسلم والد عوسجة » .

وطبقات ابن سعد المتوفرة لدينا ، وكذا ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من

الطبقات التي طبعها العلامة المحقّق السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه اللهلم تذكر مسلم بن عوسجة في الصحابة .

ونحن نثق بنقل العلامة المحقّق الشيخ محمد السماوي - مع ملاحظة إمكان السهو في الإنسان غير المعصوم - أكثر من ثقتنا بالنسخ المطبوعة المتوفرة في الأسواق اليوم ، فربما كانت نسخة الشيخ السماوي من الطبقات تنصّ على ما ذكره ، ولكن يد التحريف والتصحيف والحذف امتدت الى النسخ المتوفّرة اليوم في الأسواق ، لئلا يقال : أنّ الأمويين عدوا على أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله فاجتثوهم عن جديد الأرض .

ولا زال الأمويون وأتباعهم الى اليوم لم يقدّموا جواباً على سؤال طالما اعترضهم على مرّ العصور والدهور ، وهو :

لماذا يقدّس الصحابي إذا كان في صفّ الأمويين والملوك الظالمين

الذين سبقوهم ، ويهدر دمه إذا كان في صفّ التوحيد وعسكر الحقّ ورجال علي أمير المؤمنين عليه السلام ؟

ص: 57

ولماذا يعمل القرآن ما عمل في صفين ، ولا يعمل في كربلاءالحسين عليه السلام ، وقد رفع في صفين على رأس رمح ، وحمل في كربلاء على رأس سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ؟!

ص: 58

مسلم مع أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام

اشارة

من الملاحظ في ترجمة عدّة غير قليلة من أنصار سيد الشهداء عليه السلام - إن لم نقل كلّهم - أنّ التاريخ لم يرصد تفاصيل حياتهم قبل يوم الطفّ ، بل لو نظرنا بعين الإنصاف نجد أنّ التاريخ لم يسجّل لنا ما يوافق عشر معشار من مواقفهم مع الحسين عليه السلام ، وأكثر من ذلك لم نجد فيما يرويه لنا عنهم في يوم عاشوراء ما يشفي الغليل ، ويقنع القارئ الذي يستشعر ضخامة ما جرى في ذلك اليوم .

ولا يعدو الصواب من يقول أنّ التاريخ لم يرصد لنا مواقف الشرفاء والأبرار جميعاً قبل وبعد يوم الحسين عليه السلام .

ولا شكّ أنّ مسلم بن عوسجة كان من خلّص أصحاب أمير المؤمنين والحسن الأمين عليهماالسلام ، ومن رجال الصفّ الأول المقرّبين ، ونحن غير مضطرّين للاستسلام لراوي المؤرخ ، لأنّنا نعرف رجال الشيعة ، الذين التزموا تعاليم أئمتهم ، فغلب عليهم طابع التقية والابتعاد عن الأضواء والسمعة والرياء ، والانكشاف أمام العدو الشرس المتعطّش لدمائهم .

ص: 59

والرجل الذي يكون على وزان مسلم بن عوسجة في الشرف والجلالة والشجاعة في مجتمع قوامه السيف وقوّة الساعد ، ورباطة الجأش ، لابد أن يكون مشهوراً ذا سمعة وجاه وصيت ، ولابد أن يكون له موقف قد زلزل فيه الأعداء واختطف قلوبهم ، وهو يقاتل بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام ، أو يتقدّم الصفوف في معسكر الحسن المجتبى عليه السلام ، وكيف لا يكون كذلك ؟! وقد شهد له العدو في شدّة بأسه وتنمّره في اللّه ، وهو يقاتل المشركين ، بيد أنّه كان متكتّماً متّقياً نومة ، ينتظر يومه الذي اختاره اللَّه له للوقوف مع ريحانة المصطفى صلى الله عليه و آله ، وقرّة عين فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ومهجة قلب علي المرتضى عليه السلام .

روى الكليني في الكافي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله :

طُوبَى لِعَبْدٍ نُوَمَةٍ ، عَرَفَهُ اللَّهُ ولَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ

الْهُدَى ، ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ ، يَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلّ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ، لَيْسُوا بِالْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ ، ولا بِالْجُفَاةِ الْمُرَاءِينَ .

وعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأصْبَهَانِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : قَالَ أَمِيرُالْمُؤمِنِين عليه السلام :

طُوبَى لِكُلِّ عَبْدٍ نُوَمَةٍ ، لا يُؤبَهُ لَهُ ، يَعْرِفُ النَّاسَ ولايَعْرِفُهُ النَّاسُ ، يَعْرِفُهُ اللَّهُ مِنْهُ بِرِضْوَانٍ ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى ، يَنْجَلِيعَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ، ويُفْتَحُ لَهُمْ بَابُ كُلِّ رَحْمَةٍ ، لَيْسُوا بِالْبُذُرِالْمَذَايِيعِ ، ولا الْجُفَاةِ الْمُرَاءِينَ .

ص: 60

وقَالَ : قُولُوا الْخَيْرَ تُعْرَفُوا بِهِ ، واعْمَلُوا الْخَيْرَ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ ، ولاتَكُونُوا عُجُلاً مَذَايِيعَ ، فَإِنَّ خِيَارَكُمُ الَّذِينَ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِمْ ذُكِرَ اللَّهُ ، وشِرَارُكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالَّنمِيمَةِ ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأحِبَّةِ ، الْمُبْتَغُونَ لِلْبُرَآءِ الْمَعَايِبَ .

* * *

وحسب فحصنا فيما توفر لدينا من المصادر لم نعثر على مؤرخ سجّل لنا موقفاً لمسلم بن عوسجة قبل يوم مسلم بن عقيل ويوم الحسين عليهماالسلام إلاّ ما ورد في صلح الحسن عليه السلام للشيخ راضي آل ياسين ، وصلح الحسن عليه السلام

للسيد شرف الدين قالا(1) :

ومضى الحسن عليه السلام - بدوره - على تصميمه في الاستعداد للجواب على هذا العدوان ، فدعا إلى الجهاد ، وتألّب معه المخلصون من حملة القرآن وقادة الحروب وزهاد الإسلام ، أمثال :

حجر بن عدي الكندي ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعمرو بن قرظة

الأنصاري ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وعدي بن حاتم الطائي ، وحبيب بن مظاهر الأسدي ، وضرار بن الخطاب ، ومعقل بن سنان الأشجعي ، ووائل بن حجر الحضرمي « سيد الأقيال » ، وهانئ بن عروة المرادي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وبرير بن خضير الهمداني ،

ص: 61


1- صلح الحسن عليه السلام لآل ياسين : 94 ، صلح الحسن عليه السلام لشرف الدين : 93 - 95 .

وحبّة العرني ، وحذيفة بن أسيد ، وسهل بن سعد ، والأصبغ بن نباتة ، وصعصعة بن صوحان ، وأبي حجة عمرو بن محصن ، وهانئ بن أوس ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وسعيد بن قيس ، وعابس بن شبيب ، وعبد اللّه بن يحيى الحضرمي ، وإبراهيم بن مالك الأشتر النخعي ، ومسلم بن عوسجة ،

وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وبشير الهمداني ، والمسيب بن نجية ، وعامر بن واثلة الكناني ، وجويرية بن مشهر ، وعبد اللّه بن مسمع الهمداني ، وقيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد اللّه السلولي ، وهانئ بن هانئ السبيعي ، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ، وكثير بن شهاب ، وعبد الرحمن بن جندب الأزدي ، وعبد اللّه بن عزيز الكندي ، وأبي ثمامة الصائدي ، وعباس بن جعدة الجدلي ، وعبد الرحمن بن شريح الشيباني ، والقعقاع بن عمر ، وقيس بن ورقاء ، وجندب بن عبد اللّه الأزدي ، والحرث بن سويد التيمي ، وزياد بن صعصعة التيمي ، وعبد اللّه بن وال ، ومعقل بن قيس الرياحي .

وهؤلاء هم الجناح القوي في جبهة الحسن عليه السلام ، وهم السادة الذين :

وصفهم الحسن عليه السلام فيما عهد به إلى عبيد اللّه بن عباس : « بأنّ الرجل منهم يزيد الكتيبة » .

ووصفهم معاوية في حروب صفين : « بأنّ قلوبهم جميعاً كقلب رجل واحد » .

ص: 62

وقال عنهم : « إنّهم لا يقتلون حتى يقتلوا أعدادهم » .

وهم الذين عناهم - يومئذٍ - بقوله : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين إلاّ لبس على عقلي » .

وشهادة العدو أصدق الشهادات مجداً .

وقال الشيخ حسين أنصاريان في كتابه « با كاروان نور - مع ركب النور » : وكان - يعني مسلم بن عوسجة - من خواص أمير المؤمنين عليه السلام حضر معه الجمل وصفين والنهروان .

وفي مهيج الأحزان لليزدي : وكان من زعماء عسكر سيد الشهداء عليه السلام ، وكان شجاعاً شريفاً زعيماً من مشاهير الدهر ، وأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام جاهد بين يديه ، وأبدى بطولة ورجولة في الدفاع عنه عليه السلام .

قيل : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يدعوه « أخي » ، وقد قرأ القرآن على الإمام عدّة مرات(1) .

ونحن لا نعرف المستند الذي استند عليه هؤلاء الأعلام في النصّ على اسم مسلم بن عوسجة هنا مع جماعة من خلّص الأنصار ، وربما كانوا قد اعتمدوا على أحد أمرين :

ص: 63


1- مهيج الأحزان لليزدي )ترجمة سيد علي سيد جمال أشرف( : 212 ، روضة الواعظين للكاشفي : 369 .

الأول :

إنّهم جمعوا هذه الأسماء من شتات المصادر ، ولم يذكروا ذلك لنا ، وهو المفروض في مثل هؤلاء الأعلام المعتمدين .

الثاني :

أن يكونوا قد استنتجوا ذلك استنتاجاً ، لأنّ من الطبيعي أن يستجيب أنصار أمير المؤمنين عليه السلام ، والمخلصين من أنصار السبط الأكبر ، ويتألّبوا للدفاع عن الحقّ إذا دعاهم إمامهم ، ولابد أن يكون أمثال مسلم بن عوسجة في مقدّمة من يسارع الى ساحات الجهاد ويسابق في الخيرات .

فهو - وإن لم ينصّ عليه التاريخ نصّاً - من وجوه الشيعة ومبرزيهم ، ومن ذوي الوجاهة عقائدياً وإجتماعياً ، لابد لمثله أن يكون في الخطّ الأول دائماً .

* * *

لماذا لم يرد اسمه في النصوص التاريخية ؟

اشارة

وأمّا عدم ورود اسمه في النصوص التاريخية على لسان الرواة ، فربما يوعز ذلك الى أحد الأسباب التالية أو اليها جميعاً :

السبب الأول :

إنّ هذا من عادة التاريخ ، ودأب المؤرخ الذي يغذي قلمه من مداد السلطان ، وقد ظلم سادة هؤلاء الأبرار وأئمتهم عليهم السلام ، فكيف به معهم ؟

ص: 64

السبب الثاني :

قد يقال : « إنّ التاريخ لا يسجّل السرار » ، وإنّما كان يتحرّك مسلم بن عوسجة وإخوته تحت الظلال ، ويعملون بعيداً عن الشمس والأضواء ، إلتزاماً بالتقية ، وحماية لأنفسهم من سهام الطاغية ، وعيونه وجواسيسه وسطوة سلطانه .

فهم يعملون سرّاً ويتحرّكون خفية ، ويحقّقون ما يحقّقون دون إثارة أيّ ضجّة أو فضول .

وقد يجاب على ذلك :

إنّ العمل السرّي وإلتزام التقية بهذه الصورة لا ينسجم مع كلّ فترات حياتهم ، فربما صدق هذا الكلام في أواخر عهد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، وأوئل أيام إمامة الحسين عليه السلام ، لقساوة الظروف واستهتار معاوية وطغيانه ، إلاّ أنّه من الصعب قبوله في أيام حكومة أمير المؤمنين عليه السلام ، وتجيش الإمام الحسن عليه السلام لعسكره .

السبب الثالث :

قد يقال : إنّ مسلماً كان يعمل ويحارب ويقاتل ظاهراً معروفاً ، ولكنه لم يتسنّم المواقف في الدرجة الأولى والدرجة الثانية ، فهو لم يكن حامل راية في حرب من الحروب ، لا في أجنحة العسكر الأصلية ، كالميمنة والميسرة والقلب ، ولا في أجنحته الفرعية كرايات القبائل والأسباع وما شاكل .

ص: 65

ولم ينبر لموقف خاصّ يثير فضول المؤرخ والراوي حتى يسجّله له .

فهو وإن كان حاضراً إلاّ أنّه لم يكن في موقف مميّز عن سائر المخلصين في عسكر الحقّ .

السبب الرابع :

إنّ هؤلاء العظماء من رجال الحسين عليه السلام كانوا يعلمون - بنحو ما - مواقعهم وموعدهم مع سيدهم الذي ينتظرونه ، ولابد أن يكونوا قد تكلّموا فيما بينهم عن مستقبلهم المنشود الذي يتلهّفون عليه ، ويحسبون له الأيام والسنين .

ونرى ذلك واضحا جليا فيما سنذكره من الأمثلة :

حبيب وميثم ورشيد

حدّثنا التاريخ بما جرى بين حبيب بن مظاهر وميثم التمار ورشيد الهجري ، وقد التقى يوما ميثم التمار وحبيب بن مظاهر عند مجلس بني أسد ، فتحدّثا حتى اختلف أعناق فرسيهما . .

وكان فيما قاله حبيب لميثم : كأنّي بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق ، قد صلب في حبّ أهل بيت نبيه صلى الله عليه و آله ، ويبقر بطنه على الخشبة !

فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان ، يخرج لنصرة ابن بنت نبيه صلى الله عليه و آله ، فيقتل ويجال برأسه في الكوفة !

ص: 66

ثم افترقا ، وضحك منهما من كان حاضراً استهزاء وسخرية ، وقالوا : ما رأينا أكذب من هذين !!

ولم يفترق أهل المجلس حتى أقبل رشيد الهجري ، فطلبهما ، فسأل أهل المجلس عنهما ؟

فقالوا : افترقا ، وسمعناهما يقولان كذا وكذا .

فقال رشيد : رحم اللّه ميثماً نسي : ويزاد في عطاء الذي يجئ بالرأس مائة درهم ، ثم أدبر .

فقال القوم : هذا - واللّه - أكذبهم .

فقال القوم : واللّه ، ما ذهبت الأيام والليالي حتى رأيناه مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث ، وجئ برأس حبيب بن مظاهر قد قتل مع الحسين عليه السلام ، ورأينا كلّ ما قالوا(1) . . .

زهير بن القين

كان زهير بن القين محارباً قديماً ، شجاعاً مقداماً ، شارك في فتح « بلنجر » .

قال البكري الأندلسي ( ت 487 هجرية ) في كتابه معجم مااستعجم في مادة « بلنجر » :

« بلنجر » بفتح أوله وثانيه ، وإسكان ثالثه ، بعده جيم مفتوحة ،وراءمهملة : مدينة ببلاد الروم ، شهد فتحها عدد من الصحابة .

ص: 67


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي : 1/292 ح133 ، الهداية الكبرى للخصيبي : 160 .

قال زهير بن القين البجلي : غزوت بلنجر ، وشهدت فتحها ، فسمعت سلمان الفارسي - رحمه اللّه - يقول : أفرحتم بفتح اللَّه لكم ! فإذا أدركتم ( سيد ) شباب آل محمد صلى الله عليه و آله ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم .

فلمّا سمع زهير بخروج الحسين بن علي عليهماالسلام تلقّاه ، فكان في جملته ، وقتل معه بكربلاء .

وكان الحسين عليه السلام يتمثّل في ذلك اليوم :

لعمرك ما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

فإن عاش لم يندم وإن مات لم يلم

كفى بك موتاً أن تذلّ وتظلما(1)

فزهير مبشّر منذ أيام ملك عثمان أنّه سيكون ممّن ينصر شباب آل محمد صلى الله عليه و آله أو سيد شبابهم عليه السلام ، وقد سمع زهير ذلك ، ووعاه في جوّ الظفر والنصر والغلبة على الأعداء ، وفي ظلّ ظروف خاصة أحاطت بالخبر ، فهو لم يسمعه في بيته ، أو في النادي الذي ألفه مع أصحابه للسمر وتبادل أحاديث الركبان ، وقصّاص الليل ، وإنّما سمعه بعد أن إمتلأت أذنه بصهيل الخيل ، وإصطكاك الأسنة ، وقعقعة السلاح ، ومن ثم أهازيج النصر .

خبر اقترن بالنصر . . بالجهاد . . بالفتح ، وحفته ظروف تجعل من العسير ، بل ربما كان من المستحيل أن ينساه ، أو يغفل عنه في مرحلة من مراحل عمره .

ص: 68


1- معجم ما استعجم للبكري الأندلسي : 1/276 ، تاريخ الطبري : 4/298 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/42 ، روضة الواعظين للفتال : 178 .

وهذا تصريح واضح وصريح يدلّ بوضوح أنّ زهيراً كان مبشراً ، حمل له البشرى سلمان الفارسي ، ووعده بنصرة شباب آل محمد صلى الله عليه و آله ، وأنّه هو الفوز العظيم الذي ينبغي أن يدّخر له كلّ فرح وسرور وحبور .

وأنّ زهيراً خرج قاصداً عامداً ميمّماً وجهه نحو سيد الشهداء عليه السلام مترقّباً للساعة التي تجمعه بركب السعداء ، فأعرض عن الرخاء ، وتحمّل رمضاء الصحراء ، ليقع على طريق ركب الشهادة ، فيدرك الفوز بالسعادة ، وينال شرف الدعوة الحسينية الكريمة التي توجهت له ليشاركه في جهاده .

فلمّا سمع زهير بخروج الحسين عليه السلام تلقّاه ، وهذا يعني أنّه كان يتسقّط أخبار الحسين عليه السلام وينتظر خروجه ، فلمّا سمع بخروجه خرج لاستقباله ، وجهّز نفسه لآخرته ، وهو يسمع سيد الشهداء عليه السلام يتمثّل بأبيات تكشف عن عزمه على الشهادة .

هذا ، وقد رأينا جماعة من أصحاب الحسين عليه السلام خرجوا من الكوفة للفوز بلقاء الحسين عليه السلام ونصرته ، وإفلاتاً من يد الطاغية الذي كان يسجن على الظنّة والتهمة في حبّ الحسين عليه السلام ، وقد عجّت السجون بالشيعة في ذلك اليوم ، وقتل منهم أعداداً هائلة(1) .

فزهير كان عالماً بموقعه الذي ادخره اللّه له منذ ذلك اليوم . . . .

ص: 69


1- انظر زهير بن القين علوي خرج يتلقى الحسين عليه السلام للسيد علي جمال أشرف .

أنس بن الحرث الكاهلي

كان أنس بن الحرث الكاهلي « صحابياً كبيراً ممّن رأى النبي صلى الله عليه و آله ، وسمع حديثه ، وكان فيما سمع منه وحدّث به ما رواه جمّ غفير من العامة والخاصة عنه : أنّه صلى الله عليه و آله قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول والحسين بن علي عليهماالسلام في حجره : إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض العرق ، ألا فمن شهده فلينصره . .»(1) .

مسلم بن عقيل

روى الصدوق في الأمالي : عن ابن عباس قال : قال علي عليه السلام لرسول

اللّه صلى الله عليه و آله : يا رسول اللّه ، إنّك لتحبّ عقيلاً ؟ قال : إي - واللّه - إنّي لأحبّه حبّين : حبّا له ، وحبّا لحبّ أبي طالب له ، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلّي عليه الملائكة المقربون .

ثم بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى جرت دموعه على صدره ، ثم قال : إلى اللّه أشكو ما تلقى عترتي من بعدي(2) .

وهذه بشارة لمسلم بن عقيل عليهماالسلام وأبناء عقيل وأحفاده سمعوهاووعوها . .

* * *

ص: 70


1- إبصار العين للسماوي : 110 ، أسد الغابة للجزري : 1/123 ، ذخائر العقبى للطبري : 146 ، الإصابة لابن حجر : 1/68 .
2- الأمالي للصدوق : 191 ح 200 .

ولا نريد إطالة الكلام وذكر الشواهد على ذلك ، فهو يستغرق كتاباً كاملاً ، لكثرة ما ورد عن الأنبياء والأوصياء في شهادة الحسين عليه السلام والبشارة بها عموماً ، ولكثرة ما يمكن الاستشهاد والاستدلال به على ذلك .

* * *

فهؤلاء الأفذاذ كانوا أوعية حافظة لعلوم أهل البيت عليهم السلام التي قالوا عنها : « لو وجدنا أوعية لقلنا » .

ومن الحكمة والمعرفة والعلم أن يدّخر الإنسان نفسه للموقع الذي اختاره اللّه له ، وينتظر يومه الذي حبي به .

* * *

وربما قيل : إنّ هذا لا يمنع من تقدّمه لأداء التكليف ، وهو يعلم أنّه لن يتعرض لخطر يودي بحياته ، لأنّه مدّخر لليوم الموعود .

السبب الخامس :

قد يقال : إنّ هذه الثلّة الطيبة المصطفاة المختارة على عين اللّه - جلّ ثناؤه - كانت مأمورة من قبل الأئمة عليهم السلام أن تتنحّى جانباً تنتظر يومها ، تماماً كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام حين أمر عقيل عليه السلام أن ينأى بأبنائه عن حروبه :

وأمّا ما عرضت به من مسيرك إليّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك ، فأقم راشدا محمودا ، فو اللّه ما أحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت(1) .

ص: 71


1- شرح نهج البلاغة : 2/119 ، الغارات : 2/296 ، بحار الأنوار : 34/21 .

قال العلماء : إنّما أمره الإمام عليه السلام أن يقيم راشداً محموداً ، لأنّه ادخر أولاده ليوم الحسين عليه السلام .

وتماماً كما فعل عمرو بن الحمق مع مولاه « زاهر » الذي استشهد بين يدي الحسين عليه السلام .

روى ابن عساكر في تاريخ دمشق ، والهندي في كنز العمال(1) : أنّ عمروا طلب من زاهر صاحبه أن يتغيّب يوم هجم عليهم الأعداء ، وأخبره أنّهم إذا قتلوه أخذوا رأسه وتركوا جثته ، ثم قال : ولابد لي أن أقتل .

فبينما هما كذلك إذ رأيا نواصي الخيل في طلب عمرو ، فقال : يا زاهر تغيب ، فإذا قتلت فإنّهم سوف يأخذون رأسي ، فإذا انصرفوا فاخرج إلى جسدي فواره .

قال زاهر : لا ، بل أنثر نبلي ثم أرميهم به ، فإذا فنيت نبلي قتلت معك .

قال : لا ، بل تفعل ما سألتك به ، ينفعك اللّه به .

فاختفى زاهر ، وأتى القوم ، فقتلوا عمروا ، واحتزوا رأسه فحملوه .

فلمّا انصرفوا خرج زاهر فوارى جسده ، فوفّق لمواراة عمرو ودفنه .

قال الشيخ الحائري في شجرة طوبى(2) : ثم ساقته السعادة إلى أن رزق الشهادة في نصرة الحسين عليه السلام ، وبقي حتى قتل مع الحسين عليه السلام ،

ص: 72


1- تاريخ دمشق لابن عساكر : 45/502 ، كنز العمال للهندي : 13/497 .
2- شجرة طوبى للشيخ محمد مهدي الحائري : 1/84 .

والحجة - عجل اللّه تعالى فرجه - يسلّم عليه في زيارة الناحية : السلام على زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي .

وقول عمرو بن الحمق له : « تفعل ما سألتك ينفعك اللّه به » إشارة إلى أنّك ترزق الشهادة في مقام أحسن من هذا المقام ، وهو طفّ كربلاء مع سيد الشهداء عليه السلام في نصرة ابن بنت رسول اللّه

صلى الله عليه و آله .

فإذا ورد الأمر من « ولي الأمر » بالإنحياز والتربّص ، ففي الطاعة سعادة المؤمن ، وليس في التهور ، ولا فرق عند المؤمن المسلّم أن يقتل بين يدي إمامه ، أو أن يقف ينظر الى إمامه يقتل أمامه ويطيعه في الإمساك والصبر ، لأنّ المناط هو الطاعة لا غير ، وله في صبر مولاه ومولى المتقين أمير المؤمنين عليه السلام يوم هجموا على داره ، وصبر أمامه المغموم المهموم زين العابدين عليه السلام يوم عاشوراء أسوة وقدوة .

ص: 73

مواقف مسلم بن عوسجة

موقفه يوم سلق آذربيجان

صرح كلّ من ترجم لمسلم بن عوسجة بشهادة شبث بن ربعي التي أدلى بها عند مصرع مسلم ، وقد شهد أنّه رآه يقتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم جيوش المسلمين ، وكانت وقعة آذربيجان من أشدّ الأيام في حروب ملوك ذلك الزمان ، وقد بدا فيها مسلم شجاعا قويّا على المشركين .

مكاتبته الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

قال السماوي في إبصار العين وغيره : إنّ مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر كانا ممّن كاتب الحسين(1) عليه السلام ، وقد وفى بما وعد به من النصر للّه ولرسوله صلى الله عليه و آله ولإمامه عليه السلام .

أصناف الذين كاتبوا الحسين عليه السلام

اشارة

الذين كتبوا الى الحسين عليه السلام ينقسمون الى عدّة أصناف ، ويصطفّون

ص: 74


1- إبصار العين للسماوي : 25 .

في عدّة صفوف ، يختلفون باختلاف النوايا والأهداف والتصورات والعقائد والخيارات والاختيارات ، وقد كشفت مواقفهم عن نواياهم وأهدافهم ، والعبرة بالعاقبة .

الفريق الأول : الانتهازيون والمنافقون

وهم أكثرية بين الرؤوس وكبار الشخصيات ، وأقلية كانت تنتشر في المجمتع الكوفي يومئذٍ ، وهم إنّما كاتبوا الحسين عليه السلام طمعاً في الدنيا ، وحبّاً للدعة ، وانتهازاً للفرص ، وركوباً للموجة التي كانوا يستشرفون منها جني قطاف العيش الرغيد الذي استروحوه يوم ماجت الكوفة بذكر الحسين عليه السلام واللجوء اليه فراراً من الحكم الأموي الذي اهتزت أركانه بوفاة معاوية .

ويمكن استكشاف ذلك من نصّ الكتاب الذي أمضاه جماعة الإنتهازيين من أمثال شبث بن ربعي وحجّار وعزرة بن قيس وأمثالهم .

روي أنّه كتب شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، ويزيد بن رويم ، وعزرة ابن قيس ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير التميمي :

أمّا بعد ، فقد اخضر الجناب ، وأينعت الثمار ، وطمت الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند ، والسلام عليك .

فكلام هؤلاء الأوغاد يتركّز على جنات خضراء ، وثمار يانعة ، وآبار طامية ، وزروع باسقة ، تنتظر القطاف ، وجني الثمار ، وهم في رفاهية من

ص: 75

العيش ، ودعة من الحياة ، فإن شاء الحسين عليه السلام فليقدم ، لأنّ الناس ينتظرونه . . الناس ينتظرونه ، أمّا هم أنفسهم فإنّهم ينتظرون القطاف ، فإذا جاء كانوا هم معه ، وقد قدّموا لذلك مع من قدّم ، وسجّلوا موقفاً مع من سجّل ، وإن لم يأتِ الحسين عليه السلام فليأتِ غيره ، ولا خطر عليهم في ظلّ الغير لأنّهم منه .

ثم إنّه قالوا : إذا شئت أقدم على جند لك مجندة ، فكأنّهم يريدون إخباره عليه السلام بما يجري من بيعة الناس له ، ولا يريدون أن يعلنوا له عن إستعداد البته ، فلا يريدونه أن يقدم عليهم إماماً وأميراً يحاربون تحت لوائه ، فهم يقولون : أقدم على جند لك ، ولا يقولون : أقدم علينا فإنّنا جند لك !

وهكذا هم أصحاب هذا الفريق . . متقلّبون ، متزلّفون ، انتهازيون ، يميلون مع كلّ ريح ترحل بهم الى مآربهم وأطماعهم ، فإذا كانت الدنيا مع الأدعياء ركعوا لهم ، وتزلّفوا اليهم ، وتخندقوا في خنادقهم .

الفريق الثاني : الشيعة والمؤمنون

وثمة فريق آخر كتب يخاطب الإمام الحسين عليه السلام معتقداً بإمامته وقيادته ، ومتذمّراً من الحكم الأموي المنحرف ، وهارباً من ظلم المتمردين على اللَّه وعلى رسوله صلى الله عليه و آله ، وملتجأ الى العدل المطلق ، ومعلناً عن إستعداده للموت بين يدي الحقّ ، ونلحظ ذلك في نموذج آخر من الكتب التي وصلت الى الحسين عليه السلام من شيعته :

ص: 76

روى الطبري وغيره عن محمد بن بشر الهمداني قال : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد ، فذكرنا هلاك معاوية ، فحمدنا اللَّه عليه .

فقال لنا سليمان بن صرد : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوه ، فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل ، فلا تغرّوا الرجل من نفسه .

قالوا : لا ، بل نقاتل عدوه ، ونقتل أنفسنا دونه .

قال : فاكتبوا إليه .

فكتبوا إليه :

بسم اللَّه الرحمن الرحيم ، لحسين بن علي ، من سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة ابن شداد ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة :

سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد :

فالحمد للَّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة ، فابتزها أمرها ، وغصبها فيأها ، وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال اللَّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود .

ص: 77

إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ اللَّه أن يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء اللَّه ، والسلام ورحمة اللَّه عليك .

مقارنة بين الفريقين

قارن بين الكتابين تعرف الفريقين :

فريق يمدّ عينيه الى زهرة الحياة الدنيا ، والجنان المخضرة ، والثمار اليانعة ، والمياه الجارية .

وفريق يتضوّر من الكفر والظلم والجور ، ويتوق الى الإيمان والعدل والشهادة والحور . . .

الفريق الأول لايعاني من مضايقات، ولامطاردات في ظلّ الحكم القائم، ويرى ازدهار مسيرة العمران الدنيوي ، وكلّ ما يراه هو نعيم وحدائق ذات بهجة ، ونخيل باسقات حان اقتطافها ، وأكل دائم يخشون انقطاعه .

والفريق الآخر يشكو العدو الجبار العنيد الذي تسلّط على الأمّة فابتزها أمرها ، وغصبها فيأها ، وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال اللَّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها . . .

فريق لا يذكر السلطان الحاكم بسوء .

وفريق يذكره بمساويء أفعاله وتجبره وطغيانه ، ويدعو عليه بالإنتقام واللّعنة فيقول : فبعداً له كما بعدت ثمود .

ص: 78

فريق لا يشعر بفراغ الإمامة ، لأنّه لا يميّز بين إمامة سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، وملك أولاد البغايا والأدعياء والطلقاء .

وفريق لا يقرّ للأوغاد بالطاعة ويستغيث ويتوسّل بالمعصوم قائلاً : إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ اللَّه أن يجمعنا بك على الحقّ .

فريق يتكلّم بضمير الغائب ، وفريق ينطق بضمير المتكلّم . .

فريق يتحدّث عن استعداد الغير ، وفريق يعد النصرة بالنفس . .

فريق يعد عن جند لا يعدّ نفسه منهم ، وفريق يعد المبادرة . .

فريق يكتب بالكناية والتلويح ، ويستعمل العبارات التي لا تدخل السرور على قلب الحسين عليه السلام ولا تحزن أعداءه ، تماماً كما يعبّر القرآن الكريم : « لا إِلى هؤلاءِ وَلا إِلى هؤلاءِ » ، ولو وقع الكتاب بيد أعداء الحسين عليه السلام فإنّ فيه متسع ، ومجال اعتذار ، ومدح مبطّن يكشف بعد شرح ما بين السطور من كلماتهم ، وهم لا يذكرون هلاك الطاغية ، ولم يبدوا فرحاً بضعف الدولة الحاكمة في الشام ، ولم يتعرّضوا للوالي الممثّل له في الكوفة .

وفريق يصرّح بالبراءة من أعداء اللَّه وأعداء الحسين عليه السلام ، ويحمد اللَّه على هلاك الطاغية ، ويعلن استعداده لمواجهة الوالي الممثّل له في الكوفة .

« والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء اللَّه » .

ص: 79

ولا يخاف هؤلاء في اللَّه لومة لائم ، ويعرض الدنيا خراباً تنتظر يد الرأفة الحسينية لتمسح عليها ، وتنفخ فيها روح الحياة والعمران .

الفريق الثالث : التائهون الضالون

ولعلّ هذا الفريق كان يمثّل شريحة كبيرة في المجتمع الكوفي يومذاك ، لأنّ الشيعة كانت أقلية ، ورؤوس الضلال والمنافقون المتحزّبون أيضاً لم يكونوا أكثرية ، وغالبية المجتمع الذين شكّلوا سواد الجيش الأموي الذي حارب سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، كانوا ممّن تربّى على موائد السلطان ، وحلت دنياهم الهزيلة في أعينهم ، واتبعوا العجل والسامري ، وأُشربوا حبّهم في قلوبهم ، وذاقوا وبال ما قدّمته أيديهم ، فهم في زيغهم وضلالهم يتردّدون ، وقد أحسّوا بضعف أركان مساكن الظالمين التي سكنوها ، وشعروا بفراغ القائد والإمام ، وماجت الكوفة يومها بأهلها ، وارتفعت الصرخات وعلا الضجيج وشقّ أجواء المدينة التائهة الحائرة يهتف بالإمام ، فهتفوا مع من هتف ، وهم لا يفرّقون بين أن يكون إمامهم الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة ، أو يزيد بن معاوية البغي ابن البغي ، ولكنّهم يطلبون الإمام ويريدون الراية التي تجمعهم وتوحّد كلمتهم ضمن المقاسات المرسومة في قلوبهم .

فهم يريدون الإمام ويهتفون بذلك ، لا إعتقاداً بإمامة سيد الشهداء عليه السلام المنصوصة من قبل اللّه التي نزل بها الروح الأمين من عند ربّ العالمين على لسان سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه و آله .

ص: 80

ولهذا شرح لهم ريحانة النبي صلى الله عليه و آله معنى الإمام باختصار في جواب رسائلهم ، ليكونوا على علم من دعوتهم له ، فالإمام كما يرسمه الحسين عليه السلام .

فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات اللّه .

مسلم من سادة الفريق الثاني

مسلم بن عوسجة من سادة الفريق الثاني ، والأشداء في ذات اللّه ، ومن الذين يبايعون اللّه ورسوله وابن رسوله ولا ينكثون البيعة ، وقد ثبت على ما كتب به الى الحسين عليه السلام ، ونصره في سفيره ورسوله مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، ثم نصره في طفّ كربلاء ، ولم يكتف بذلك حتى أوصى به بعد شهادته .

الفريق الذي خاطبه الإمام

ويبدو من جواب الإمام الحسين عليه السلام أنّه كان يوجّه خطابه لهؤلاء الذين كتبوا له لاعتقادهم بإمامته ، أو لشعورهم بالحاجة الى الإمام بالمعنى الأعم ، أي الى الفريق الثاني والثالث ممّن ذكرنا قبل قليل .

قال الطبري في تاريخه ، والطبرسي في اعلام الورى ، والشيخ المفيد في الإرشاد ، واللفظ للأخير :

وتلاقت الرسل كلّها عنده ، فقرأ الكتب ، وسأل الرسل عن الناس ، ثم كتب مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد اللّه ، وكانا آخر الرسل :

ص: 81

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين .

أمّا بعد : فإنّ هانئا وسعيدا قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم .

ومقالة جلّكم : أنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ .

وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقثي من أهل بيتي ، فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم عليكم وشيكا ، إن شاء اللّه .

فلعمري ما الإمام إلاّ الحكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات اللّه ، والسلام (1) .

ونلاحظ تعبير الإمام سيد الشهداء عليه السلام في قوله : « ومقالة جلّكم » ، ولم يقل عليه السلام « كلّكم » ، والجلّ - كما في لسان العرب - معظم الشيء ، ولعلّ الإمام ترك هذه المسافة بين الكلّ والجلّ لتكون إستثناءاً يدخل فيه الفريق الثالث وأضرابهم ، ويخرج الفريق الأول ، فكأنّه عليه السلام أشار بذلك الى أنّ الفريق الأول لم تكن رسائلهم كاشفة عن مقالة « الجلّ » التي تطالب بالإمام والإقبال عليهم ليجتمعوا على الهدى والحقّ .

ص: 82


1- تاريخ الطبري: 4/262، اعلام الورى للطبرسي: 1/436، الإرشاد للمفيد: 2/38 .

نزول مسلم بن عقيل عليهماالسلام عليه

اشارة

في تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير وتهذيب الكمال للمزي وغيرهم ، في خبر دخول مسلم بن عقيل عليهماالسلام الى الكوفة ، واللفظ للأول :

فكتب إليه - أي الى مسلم بن عقيل عليهماالسلام - الحسين عليه السلام أن امض إلى الكوفة ، فخرج حتى قدمها ونزل على رجل من أهلها يقال له [ مسلم ] بن عوسجة .

قال : فلمّا تحدّث أهل الكوفة بمقدمه دبّوا إليه فبايعوه ، فبايعه منهم إثنا عشر ألفا(1) .

وهذا النزول المبارك تشريف وتكريم ناله مسلم بن عوسجة ، وهو يكشف عن جملة أمور ، منها :

الأمر الأول :

حصانة مسلم بن عوسجة وقوته ونفاذ كلمته في قومه ورهطه ، ممّا يوفّر لمسلم بن عقيل عليهماالسلام معقلاً أمينا يمكن الركون اليه في تلك الظروف العصيبة .

ص: 83


1- تاريخ الطبري : 4/258 ، البداية والنهاية لابن كثير : 8/163 ، تهذيب الكمال للمزي : 6/423 ، الأمالي للشجري : 1/190 ، تهذيب التهذيب لابن حجر : 2/349 ، الإصابة : 1/332 ، المستدرك على تاريخ ابن عساكر لابن بدران : 4/335 ، المنتظم لابن الجوزي : 5/325 ، سير أعلام النبلاء للذهبي : 3/206 ، وفي مروج الذهب للمسعودي : « فنزل على رجل يقال له : عوسجة » ولعله تصحيف . .

الأمر الثاني :

وثاقة مسلم بن عوسجة ، فلو لم يكن سفير الحسين عليه السلام واثقا منه تمامالثقة ، ولم يكن يعرفه من قبل لما استند اليه ، وحطّ رحله عنده ، وهو قادم لمهمّة خطيرة في مجتمع مثل المجتمع الكوفي المتقلّب آنذاك .

الأمر الثالث :

يلزم - في الغالب - من نزول مسلم بن عقيل عليهماالسلام عنده فور وصوله الكوفة أن يكون بينهما اتصال وتنسيق مسبق على الاستقبال ، وهذا يعني أنّ مسلم بن عوسجة كان متواصلاً مع الحركة الحسينية بشكل مستمر ، ويعدّ من مفاصلها المهمّة في الكوفة . . .

الأمر الرابع :

استقبال مسلم بن عقيل عليهماالسلام في تلك الأيام الحرجة ، مع وجود الوالي الأموي ، واهتزاز المجتمع الكوفي ، والإقدام على حركة تستهدف رأس القرد الأموي ، يكشف عن شجاعة وبسالة وتضحية يعزّ لها النظير .

الأمر الخامس :

إشارات النصوص الوادرة في المصادر تكشف بوضوح أنّ عدداً هائلاً كان قد بايع سفير الحسين عليه السلام في بيت مسلم بن عوسجة ، فبعد نزول مسلم بن عقيل عليهماالسلام في بيته انتشر خبر وصول سفير الحسين .

ص: 84

فلمّا تحدّث أهل الكوفة بمقدمه دبّوا إليه فبايعوه ، فبايعه منهم إثنا عشر ألفا .

وربما يستفاد من ذلك أنّ مسلم بن عقيل عليهماالسلام أقام في بيت مضيّفه الشجاع مدّة غير قليلة تستوعب بيعة هذا العدد الهائل .

ولابد أن يكون بيته قد عرف وذاع صيته في تلك الفترة - على الأقل - وصار مألفا للناس ، ورمزا للدفاع عن الحقّ ونصرة الدين .

أخذه البيعة للحسين عليه السلام في الكوفة

قال الشيخ السماوي في إبصار العين : قالوا : وجعل حبيب ومسلم يأخذان البيعة للحسين عليه السلام في الكوفة(1) .

وذكر الشيخ عبد الواحد المظفر في كتاب حبيب البطل الأسدي الدعاة الى بيعة الحسين عليه السلام ، فقال :

الدعاة الى بيعة الحسين عليه السلام

1 - المختار بن أبي عبيد الثقفي .

2 - سليمان بن صرد الخزاعي .

3 - هاني بن عروة المذحجي المرادي الغطيفي .

4 - رفاعة بن شداد البجلي الفتياني .

ص: 85


1- إبصار العين للسماوي : 102 .

5 - عبد اللّه بن وال البكري التيمي .

6 - عبد اللّه بن سعيد بن نفيل الأزدي الفهمي .

7 - المسيب بن نجبة الفزاري الشمخي .

8 - عابس بن أبي شبيب الهمداني الشاكري .

9 - أبو ثمامة الهمداني الصائدي .

10 - مسلم بن عوسجة الأسدي الثعلبي السعدي .

11 - حبيب بن مظاهر الأسدي العمري الفقعسي(1) .

وذكر السيد البراقي في تاريخ الكوفة(2) : أخذ مسلم بن عوسجة البيعة للحسين عليه السلام ضمن حديثه عن عبيد اللّه بن عمرو بن عزيز الكندي فقال : وكان - أي عبيد اللّه بن عمرو - فارساً شجاعاً كوفياً من الشيعة ، وشهد مع أمير المؤمنين علي عليه السلام مشاهده كلّها ، وكان من الذين بايعوا مسلماً ، وممن يأخذ البيعة من أهل الكوفة للحسين عليه السلام هو ومسلم بن عوسجة(3) .

ص: 86


1- حبيب البطل الأسدي للمظفر : 38 .
2- تاريخ الكوفة للبراقي : 333 .
3- قال السد البراقي : فلما رأى مسلم بن عقيل اجتماع الناس عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وعلى ربع كندة وربيعة عبيد اللّه بن عمرو بن عزيز الكندي . فلما تخاذل الناس عن مسلم قبض عليه الحصين بن نمير التميمي فسلمه إلى عبيداللّه بن زياد فحبسه . ولما قتل مسلم بن عقيل أحضره ابن زياد فسأله : ممن أنت ؟ قال : من كندة . قال : أنت صاحب راية كندة وربيعة ؟ قال : نعم . قال : انطلقوا به فاضربوا عنقه . قال : فانطلقوا به فضربت عنقه .

وذكر المؤرخون قصة معقل مع مسلم بن عوسجة ، وفيها دلالةواضحة على مهمة مسلم بن عوسجة في أخذ البيعة لمسلم بن عقيل أو للحسين عليهماالسلام .

دلالات أخذ البيعة

أولاً : تخويله بأخذ البيعة

أخذ البيعة مهمّة شرعية ورسمية لا تقبل الفضول ، ولابدّ أن يكون الآخذ للبيعة مخوّلاً تخويلاً شرعياً أو رسمياً من قبل صاحب البيعة ، وهذا التخويل بنفسه تشريف يكشف عن منزلة رفيعة ، ومقام شامخ رفيع ، ومؤهلات ضخمة تمتّع بها مسلم بن عوسجة .

ولكي نعرف مدى عظمة المقام الذي تسنّمه ابن عوسجة ، والشرف الأثيل الذي ناله بهذه المهمّة الصعبة ، نذكر نموذجاً واحداً ممّن حمل مسؤولية أخذ البيعة :

فقد أخذ النبي صلى الله عليه و آله سيد المرسلين وأشرف الخلق أجمعين البيعة بأمر اللّه ربّ العالمين لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام يوم غدير خم وغيره من أيام المسلمين !

ص: 87

من الذي خوّل ولمن أخذ البيعة ؟

إذا كان لابدّ من وجود تخويل يأذن له بأخذ البيعة ، فمن الذي خوّله وأذن له في ذلك ؟

ولمن كان يأخذ البيعة ؟هل كان يأخذ البيعة من الناس للحسين عليه السلام مباشرة أو أنّه كان يأخذ البيعة لمسلم بن عقيل عليهماالسلام ؟

لم نعثر فيما تفحّصنا من المصادر على وثيقة أو إشارة لوجود نصّ تخويل أو إذن خاص بمسلم بن عوسجة من قبل سيد الشهداء عليه السلام ، أو من قبل مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، إلاّ ما يذكره المؤرخون حينما يمرّون بموقف ابن عوسجة في الكوفة ، فيقولون : « وكان يأخذ البيعة للحسين عليه السلام » .

وتعبير المؤرخ هذا يكشف عن الدور الذي قام به مسلم بن عوسجة ، ومن البديهي أنّ رجلاً مؤمناً ملتزماً منضبطاً مسلّماً مثل ابن عوسجة لا يقوم بعمل داخل دائرة التحرّك المرصود من قبل المعصوم أو سفيره ونائبه الخاص ، من دون إذن أو تخويل .

وبناءاً على هذا ربما أجيب على هذه الأسئلة بعدّة إحتمالات :

الإحتمال الأول

أن يكون مخوّلاً من قبل سيد الشهداء الحسين عليه السلام مباشرة لأخذ البيعة للإمام عليه السلام ، فيكون مسلم - حينئذٍ - وسيطاً بين الإمام سيد الشهداء عليه السلام

وبين من يأخذ البيعة منه ، وتكون يد ابن عوسجة تقوم مقام يد المعصوم في ذلك .

ص: 88

وربما كان الإمام الحسين عليه السلام قد رسم تفاصيل كلّ شيء لمسلم بن عقيل عليهماالسلام ، ونصّ له على أسماء الأشخاص الذين سيوظّفهم مسلم عليه السلام في جميع المرافق والمواضع التي يحتاجها في مستقبل أيامه في الكوفة ، وإنّما ذكرت هذه المعلومات في السرّ والخفاء وفق مقتضيات المصالح ، فلميطلع عليها التاريخ ، ولم يسمع بها الراوي ، فبقيت في طيّ الكتمان الى يوم الناس هذا .

الإحتمال الثاني

أن يكون مخوّلاً من قبل مسلم بن عقيل عليهماالسلام لأخذ البيعة من الناس للحسين عليه السلام مباشرة ، وإنّما تمّ اختياره من قبل سفير الحسين عليه السلام وثقته ، باعتبار أنّ الحسين عليه السلام بعث مسلم بن عقيل عليهماالسلام الى الكوفة ومنحه كافة الصلاحيات في اتخاذ المواقف واختيار الرجال ، لأنّه ثقته وأخوه والمبرّز عنده بالفضل ، فهو معتمد لا يهن ولا ينكل ، وثقة لا يخون .

الإحتمال الثالث :

أن يكون مخوّلاً من قبل مسلم بن عقيل عليهماالسلام لأخذ البيعة لمسلم بن عقيل مباشرة ، لأنّ الإمام المعصوم سيد الشهداء عليه السلام أمر الناس بالبيعة له ، كما نصّ عليه ابن أعثم في الفتوح : 5/30 عند ذكر كتاب الحسين عليه السلام الذي أرسله مع مسلم عليه السلام الى أهل الكوفة :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين ، سلام عليكم ، أما بعد :

ص: 89

فإنّ هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد اللّه قدما عليّ بكتبكم ، فكانا آخر من قدم عليّ من عندكم ، وقد فهمت الذي قد قصصتم وذكرتم ، ولست أقصر عمّا أحببتم ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل بن أبيطالب ، وقد أمرته أن يكتب إليّ بحالكم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم ، وهو متوجّه إلى ما قبلكم إن شاء اللّه تعالى ، والسلام ، ولا قوة إلا باللّه .

فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم .

فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه .

فلعمري! ليس الإمام العادل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهدي ولا يهتدي .

جمعنا اللّه وإياكم على الهدى وألزمنا وإياكم كلمة التقوى ، إنّه لطيف لما يشاء ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته .

الإحتمال الرابع

أن يكون وسيطاً يوصل الناس الى مسلم بن عقيل عليهماالسلام ليأخذ منهم البيعة للحسين عليه السلام ، فهو وسيط بين الناس وبين مسلم عليه السلام ليس إلاّ .

ولعلّ التعبير الوارد في قصة معقل يشهد لذلك ، كما قال الدينوري في الأخبار الطوال :

ص: 90

فانطلق به حتى أدخله إلى مسلم بن عقيل ، فأخبره بأمره ، ودفع إليه الشامي ذلك المال ، وبايعه(1) .

وقال الطبري بعد أن روى قصة لقائه بمسلم بن عوسجة ودخوله علىمسلم بن عقيل عليهماالسلام : « فأخذ ابن عقيل بيعته(2) » .

وعلى كلّ التقادير والاحتمالات ، فإنّ هذا المقام والمنزلة الشريفة والإئتمان على أخذ البيعة تكشف عن مستوى عال من الوثاقة والإطمئنان بابن عوسجة .

ثانياً : معرفته بمفاد الدعوة

ممّا يمكن استكشافه من تشريف مسلم بن عوسجة بمقام أخذ البيعة - على أيّ احتمال من الاحتمالات المذكورة آنفاً - مدى وعي هذا المؤمن العظيم ، وذلك أنّ المتصدّي لهذا العمل الذي ينطوي على مسؤولية جسيمة لا يقوم لها إلاّ أهلها .

فهو عارف عالم بمفاد الدعوة التي يدعو لها ، والبيعة التي يسعى لأخذها من الناس ، ويعي بعقله وقلبه وجميع عواطفه أحقّية أهل البيت بالخلافة ، وأنّ إمامتهم مفترضة من اللّه نصّاً صريحاً .

وأنّ دعوته لبيعة الحسين عليه السلام إنّما هي إمتداد لدعوة النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللّه لبيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام الثابتة في نصّ حديث الغدير المتواتر ،

ص: 91


1- الأخبار الطوال للدينوري : 235 .
2- تاريخ الطبري : 4/271 .

وأحاديث أنت خليفتي ووصيي ووزيري ووارثي القطعية الصدور ، وأمثالها من مواقف النبي صلى الله عليه و آله ومواطنه التي أعلن فيها إمامة أمير المؤمنين علي وأولاده الأئمة النجباء عليهم السلام .

فكأنّ مسلم بن عوسجة وإخوته يدعون الناس لدخول الخيمة التينصبها النبي صلى الله عليه و آله ، وأمر الناس أن يدخلوها ويبايعوا علياً عليه السلام بإمرة المؤمنين ، فدخل عليه القوم أجمع ، وقال قائلهم :

بخ بخ لك يا علي ! لقد أصحبت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة . . .

وقد ثبتت الإمامة للحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة بالنصّ عليه من النبي صلى الله عليه و آله عن اللّه ، وقد صحّ الحديث عن جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آلهوشاع قوله : ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا .

وبالنصّ عليه من أبيه وأخيه ، وبمقتضى شروط الصلح الموقعة من قبل معاوية الذي لا تصحّ له الخلافة لأنّه من الطلقاء ، ولا تحلّ الخلافة للطلقاء بنصّ عمر بن الخطاب ، كما رواه ابن الأثير في أسد الغابة حيث قال : « لا تحلّ الخلافة لطليق ولا لمسلمة الفتح » .

وقد قال الحسن البصري : في معاوية أربعة خصال لو لم تكن فيه إلاّ واحدة لكانت موبقة :

إنتزاؤه على الأمّة بغير مشورة منها .

واستخلافه ابنه يزيد سكير خمير يلعب بالقرود ، ويضرب بالطنابير .

ص: 92

وادعاؤه زياداً وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر .

وقتله حجراً وأصحاب حجر ، والويل له من حجر وأصحاب حجر .وروي عن قتادة عن الحسن البصري أنّ رجلاً قال : يا أبا سعيد ، أمعاوية كان أحلم أم الحسن ؟!

قال : بل الحسن .

قال : إنّما أعني معاوية بن أبي سفيان الذي كان أمير المؤمنين !

قال الحسن : وهل كان ذلك إلاّ حمارا نهّاقاً(1) .

فلا معاوية ولا يزيد ولا غيرهم من خلق اللّه تحقّ له الخلافة والبيعة إلاّ علي وآل علي من الأئمة المعصومين عليهم السلام المنصوص عليهم من اللّه - جلّ وثناؤه - .

فهو يدعو الناس الى إمامة الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة ، وريحانة النبي صلى الله عليه و آله على علم وبصيرة ومعرفة وإيمان .

ولا يمكن أن يكون من أمثال مسلم بن عوسجة داعياً الى بيعة لا يعلم مفادها ومؤداها ولوازمها ومقتضياتها .

ثالثاً : إيمانه واعتقاده ويقينه بمفاد الدعوة

لابدّ أن يكون مسلم بن عوسجة الداعي الى هذه البيعة مؤمناً متيقناً

ص: 93


1- الحدائق الوردية : 1/154 .

معتقداً بمفاد البيعة التي يدعو الناس اليها ، بحيث لا يعتريه شكّ ، ولا يساور قلبه ريب ولا يتردّد في أحقّية ما هو مقدم عليه ، وإلاّ لما دعا الى ما يرى نفسه متزلزلاً متردداً فيه ، يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى .

رابعاً : ثباته على الدعوة التي أخذ البيعة عليها

إنّه يدعو الى بيعة عرف مؤدّاها ، وتيقّن بمضمونها ، وإلتزم بمقتضاها ، فهو لا ينكل ولا ينكث ولا يرجع ، وقد انتابته المحن ، وأحسّ بما تجرّعه أيام الملوك السابقين ، منذ سلطان الملك الأول الى معاوية ، فلا يمكن أن يتصوّر فيه التزلزل أو الرجوع عن موقفه .

وقد أثبت ذلك بالفعل حينما وقف الى جانب مسلم بن عقيل عليهماالسلام داعيا

ومقاتلاً ، والتحق برحال الحسين عليه السلام مضحّياً وفادياً .

خامساً : خبرته وحذقه ودقته

كان مسلم بن عوسجة يأخذ البيعة في ظروف غير عادية ، وهذا يعني أنّ من يخوّله قد أخذ بنظر الاعتبار تقديره للظروف والتزامه الكتمان ، وتحري الحيطة والحذر في أخذ البيعة .

ولابدّ من خبرة واسعة وتجارب عسيرة قد أنارت الطريق أمامه فضلاً عن التسديد الإلهي ، ونظرة المعصوم الخاصة .

وهذه النقطة بالخصوص تدعونا للتأمل في ما رواه المؤرخ حكاية عن فعل معقل ، وإحتياله على المسلمَين ابن عوسجة وابن عقيل ، وسيأتي تفصيل ذلك في عنوان مستقل إن شاء اللّه تعالى .

ص: 94

سادساً : الشجاعة والإقدام والحزم

من البديهي أنّ من يرشّح لمثل هذه المهمة الصعبة والدقيقة أن يكون شجاعاً مقداماً صلباً في الحقّ ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ولا يمنعه منعذل عاذل ، ولا يهاب التهديد ، ولا يؤثر فيه الوعد الباطل ، والوعيد الزائل ، وإنّما يمارس الدعوة الى البيعة المنشودة بحزم وصرامة وشجاعة وبسالة ، لأنّه يدعو الى البيعة على الموت للدفاع عن سيد الشهداء عليه السلام ، ودم رسول ربّ السماء ولحمه .

ص: 95

لقاء معقل ! !

اشارة

وردت قصّة معقل وما جرى بينه وبين مسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وما قام به من دور في كشف أسرار رجال الحسين عليه السلام في جميع المصادر التي ذكرت أحداث الكوفة وحركة مسلم بن عقيل .

وسنكتفي بذكر نصوص بعض المصادر القديمة فقط ، مع ملاحظة أنّ خبر معقل واسمه لم يرد له أيّ ذكر في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، وما رووه في شهادة جدّهم سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، فيما تفحّصنا من المصادر المتوفّرة لدينا .

رواية الدينوري

قال الدينوري في الأخبار الطوال : وخفي على عبيد اللّه بن زياد موضع مسلم بن عقيل ، فقال لمولى له من أهل الشام يسمى معقلاً ، وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس ، وقال : خذ هذا المال ، وانطلق ، فالتمس مسلم بن عقيل ، وتأتّ له بغاية التأتّي .

فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم ، وجعل لا يدري كيف يتأتّى الأمر ، ثم إنّه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد ، فقال في نفسه : إنّ هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة ، وأحسب هذا منهم .

ص: 96

فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام ، فدنا منه ، وجلس ،

فقال : جعلت فداك ، إنّي رجل من أهل الشام ، مولى لذي الكلاع ، وقد أنعم اللّه عليّ بحبّ أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وحبّ من أحبّهم ، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم ، أحبّ إيصالها إلى رجل منهم ، بلغني أنّه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي عليه السلام ، فهل تدلّني عليه لأوصل هذا المال إليه ؟ ليستعين به على بعض أموره ، ويضعه حيث أحبّ من شيعته .

قال له الرجل : وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممّن هو في المسجد ؟

قال : لأنّي رأيت عليك سيماء الخير ، فرجوت أن تكون ممّن يتولّى أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

قال له الرجل : ويحك ، قد وقعت عليّ بعينك ، أنا رجل من إخوانك ، واسمي مسلم بن عوسجة ، وقد سررت بك ، وساءني ما كان من حسّي قبلك ، فإنّي رجل من شيعة أهل هذا البيت ، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد ، فأعطني ذمّة اللّه وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس .

فأعطاه من ذلك ما أراد .

فقال له مسلم بن عوسجة : انصرف يومك هذا ، فإن كان غد فائتني

ص: 97

في منزلي حتى أنطلق معك إلى صاحبنا - يعني مسلم بن عقيل -فأوصلك إليه .

فمضى الشامي ، فبات ليلته ، فلمّا أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله ، فانطلق به حتى أدخله إلى مسلم بن عقيل ، فأخبره بأمره ، ودفع إليه الشامي ذلك المال ، وبايعه .

فكان الشامي يغدو إلى مسلم بن عقيل ، فلا يحجب عنه !!!! فيكون نهاره كلّه عند ، فيتعرّف جميع أخبارهم ، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد اللّه ابن زياد ، فأخبره بجميع قصصهم ، وما قالوا وفعلوا في ذلك ، وأعلمه نزول مسلم في دار هانئ بن عروة(1) .

رواية البلاذري

قال البلاذري في أنساب الأشراف : ودسّ ابن زياد مولى يقال له « معقل » ، وأمره أن يظهر أنّه من شيعة علي ، وأن يتجسّس من مسلم ، ويتعرّف موضعه ، وأعطاه مالاً يستعين به على ذلك .

فلقي معقل - مولى ابن زياد - مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال له : إنّي رجل محبّ لاًهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد بلغني أنّ رجلاً منهم بعث به الحسين بن علي - صلوات اللّه عليه - إلى شيعته من أهل الكوفة ، ومعي مال أريد أن أدفعه إليه يستعين به على أمره وأمركم ، فركن ابن عوسجة

ص: 98


1- الأخبار الطوال للدينوري : 235 - 236 .

إليه ، وقال له الرجل القادم من قبل الحسين بن علي هو مسلم بن عقيل ،وهو ابن عمّه ، وأنا مدخلك إليه . . . . .

وجعل معقل - مولى ابن زياد - يختلف إلى ابن عوسجة يقتضيه ما وعده من إدخاله إلى مسلم بن عقيل ، فأدخله إليه ، وأخذ منه مسلم بيعته ، وقبض المال - الذي كان أعطاه إياه عبيد اللّه بن زياد - منه ، وذلك بعد موت شريك بن الأعور . . .

فأتى معقل ابن زياد ، فحدّثه بما كان منه ، وبقبض مسلم بن عقيل المال في منزل هانئ بن عروة بن نمران المرادي ، فقال : أفعلها هانئ(1) ! . .

رواية ابن أعثم الكوفي

ودعا عبيد اللّه بن زياد بمولى له يقال له « معقل » ، فقال : هذه ثلاثة آلاف درهم خذها إليك ، والتمس لي مسلم بن عقيل حيث كان من الكوفة ، فإذا عرفت موضعه ، فادخل إليه ، وأعلمه أنّك من شيعته وعلى مذهبه ، وادفع إليه هذه الثلاثة آلاف درهم ، وقل له : استعن بهذه على عدوّك ، فإنّك إذا دفعت إليه الثلاثة آلاف درهم وثق بناحيتك واطمأن عليك ، ولم يكتمك من أمره شيئا !!!! وفي غداة غد تعدو عليّ بالأخبار .

ص: 99


1- أنساب الأشراف للبلاذري : 79 ج 80 .

انتبه الى تعبير الطاغية هذا الذي عبّر عنه المؤرخون كلّ بتعبيره الخاص ، وكأنّ مسلم بن عوسجة - وهو ثقة مسلم بن عقيل عليهماالسلام - يكفي في إغرائه - والعياذ باللّه - أن يدفع اليه شيء من المال ، فيشتري منه الذمّة والأمانة ، ثلاثة آلاف درهم فقط كافية في أن يطمئن له مسلم ، ويثق به ، ويكشف له الأسرار ، ولا يكتمه شيء « فإنّك إذا دفعت إليه الثلاثة آلاف درهم وثق بناحيتك واطمأن عليك ، ولم يكتمك من أمره شيئا » .

قال : فأقبل معقل مولى عبيد اللّه بن زياد حتى دخل المسجد الأعظم ، فرأى رجلاً من الشيعة يقال له « مسلم بن عوسجة الأسدي » ، فجلس إليه فقال : يا عبد اللّه ، إنّي رجل من أهل الشام غير أنّي أحبّ أهل هذا البيت ، وأحبّ من أحبّهم ، ومعي ثلاثة آلاف درهم أريد أن أدفعها إلى رجل قد بلغني عنه أنّه يقدم إلى بلدكم هذا يأخذ البيعة لابن بنت رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله وسلم - الحسين بن علي ، فإن رأيت هل تدلّني عليه حتى أدفع إليه المال الذي معي وأبايعه ؟ وإن شئت فخذ بيعتي له قبل أن تدلّني عليه .

قال : فظن مسلم بن عوسجة أن القول على ما يقول !!! فأخذ عليه الأيمان المغلّظة والمواثيق والعهود ، وأنّه يناصح ويكون عونا لمسلم بن عقيل - رحمه اللّه - على عبيد اللّه بن زياد .

قال : فأعطاه موثقا من الأيمان ، وما وثق به مسلم بن عوسجة ، ثم قال له : انصرف عنّي الآن يومي هذا حتى أنظر ما يكون !

ص: 100

قال : فانصرف معقل مولى زياد .

فلمّا كان من الغد أقبل معقل - مولى عبيد اللّه بن زياد - إلى مسلم بن عوسجة ، فقال له : إنّك كنت وعدتني أن تدخلني على هذا الرجل ، فأدفع إليه هذا المال ، فما الذي بدا لك في ذلك ؟

فقال : إذا أخبرك - يا أخا أهل الشام - إنّا شغلنا بموت هذا الرجل شريك بن عبداللّه، وقد كان من خيار الشيعة ، وممّن يتوالى أهل هذا البيت.

فقال معقل مولى عبيد اللّه بن زياد : ومسلم بن عقيل في دار هانئ ؟ فقال : نعم .

قال : فقال معقل : فقم بنا إليه حتى ندفع إليه هذا المال وأبايعه .

قال : فأخذ مسلم بن عوسجة بيده ، فأدخله على مسلم بن عقيل ، فرحب به مسلم وقرّبه !!! وأدناه !!! وأخذ بيعته ، وأمر أن يقبض منه ما معه من المال .

فأقام معقل مولى عبيد اللّه بن زياد في منزل هانئ يومه ذلك ، حتى إذا أمسى انصرف إلى عبيد اللّه بن زياد معجبا لما قد ورد عليه من الخبر .

ثم قال عبيد اللّه لمولاه : انظر إن تختلف إلى مسلم بن عقيل في كلّ يوم لئلا يستريبك !!!! وينتقل من منزل ابن هانئ إلى مكان غيره ، فأحتاج أن ألقى في طلبه عتبا(1) .

ص: 101


1- كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي : 5/41 ج 44 .

يلاحظ هنا أنّ ابن زياد ينهى مولاه من الإختلاف كلّ يومالى مسلم لئلا يشكّ به مسلم وأصحابه . . فيما تذكر النصوص أنّه كان ملازما للقيادة ، وكان أول داخل وآخر خارج ، وكانت أخبارهم عند ابن زياد وقتا وقتا .

وعجيب أمر هذه القصة أنّ ابن زياد العتلّ الغبي ينتبه ، والكتّاب اليوم كلّهم يرتابون ، ثم لا يرتاب مسلم عليه السلام عترة الأنبياء ، ولا أصحابه النجباء !!

رواية الطبرسي

ودعا عبيد اللّه بن زياد مولى له يقال له : « معقل » ، وقال : خذ ثلاثمائة درهم ، ثم اطلب مسلم بن عقيل ، والتمس أصحابه ، فإذا ظفرت منهم بواحد أو جماعة فأعطهم هذه الدراهم ، وقل : استعينوا بها على حرب عدوّكم ، فإذا اطمأنوا إليك ، ووثقوا بك لم يكتموك شيئا من أخبارهم ، ثم اغد عليهم ورح حتى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل .

ففعل ذلك ، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وقال : يا عبد اللّه ، إنّي امرؤ من أهل الشام ، أنعم اللّه عليّ بحبّ أهل هذا البيت ، فقال له مسلم : أحمد اللّه على لقائك ، فقد سرّني ذلك ، وقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية ، فقال له معقل : لا يكون إلاّ خيرا ، فخذ منّي البيعة .

فأخذ بيعته ، وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، ثم قال : اختلف إليّ أياما في منزلي ، فأنا طالب لك الإذن .

ص: 102

فأذن له ، فأخذ مسلم عليه السلام بيعته ، ثم أمر قابض الأموال ، فقبض المالمنه ، وأقبل ذلك اللعين يختلف إليهم ، فهو أول داخل وآخر خارج ، حتى علم ما احتاج إليه ابن زياد ، وكان يخبره به وقتا وقتا(1) .

رواية الطبري

قال الطبري في تاريخه : ودعا ابن زياد مولى يقال له « معقل » فقال له : خذ ثلاثة آلاف درهم ، ثم اطلب مسلم بن عقيل ، واطلب لنا أصحابه ، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف ، فقل لهم : استعينوا بها على حرب عدوكم ، وأعلمهم أنّك منهم ، فإنّك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك ووثقوا بك ، ولم يكتموك شيئاً من أخبارهم ، ثم اغد عليهم ورح(2) .

ففعل ذلك ، فجاء حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي من بنى سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم ، وهو يصلّي ، وسمع الناس يقولون : إنّ هذا يبايع للحسين ، فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته ، ثم قال :

يا عبد اللّه ! إنّي امرؤ من أهل الشأم مولى لذي الكلاع أنعم اللّه على بحبّ أهل هذا البيت ، وحبّ من أحبّهم ، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه ، ولا يعرف مكانه ، فإنّي

ص: 103


1- إعلام الورى للطبرسي : 1/439 .
2- وكأنّ دفع المال وحده كاف للوثوق به .

لجالس آنفاً في المسجد ، إذ سمعت نفراً من المسلمين يقولون : هذا رجل لهعلم بأهل هذا البيت ، وإنّي أتيتك لتقبض هذا المال ، وتدخلني على صاحبك فأبايعه ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه .

فقال : أحمد اللّه على لقائك إياي ، فقد سرّنى ذلك ، لتنال ما تحبّ ، ولينصر اللّه بك أهل بيت نبيه ، ولقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته .

فأخذ بيعته قبل أن يبرح ، وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحنّ وليكتمنّ ، فأعطاه من ذلك ما رضى به .

ثم قال له : اختلف إليّ أياماً في منزلي ، فأنا طالب لك الإذن على صاحبك .

فأخذ يختلف مع الناس !! فطلب له الإذن ، فأخذ ابن عقيل بيعته .

وقال أيضاً : ثم أنّ معقلاً مولى(1) ابن زياد الذي دسّه بالمال إلى ابن عقيل وأصحابه اختلف إلى مسلم بن عوسجة أياماً ليدخله على ابن عقيل ، فأقبل به حتى أدخله عليه بعد موت شريك بن الأعور ،

ص: 104


1- اختلفوا في ولاء معقل الجاسوس ، فقيل : إنّه مولى لابن زياد ، وقيل : إنّه من بني تميم ، قال الشيخ شمس الدين في هامش كتابه أنصار الحسين : 191 : هذا - يعني أنّ معقل مولى لابن زياد - في رواية عمار الدهني وأبي مخنف الطبري : 5/348 و362 ، وأمّا في رواية عيسى بن يزيد الكناني ، فإنّ هذا المولى لم يكن لابن زياد ، وإنّما كان من تميم ( الطبري : 4/269 : قال : ما فعلت ؟ فأخرج التميمي الذي كان عيناً عليهم ) .

فأخبره خبره كلّه ، فأخذ ابن عقيل بيعته ، وأمر أبا ثمامة الصائدي ، فقبض ماله الذي جاء به ، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يعين بهبعضهم بعضاً يشترى لهم السلاح ، وكان به بصيراً ، وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة .

وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم ، فهو أول داخل وآخر خارج ، يسمع أخبارهم ، ويعلم أسرارهم !!! ثم ينطلق بها حتى يقرّها في أذن ابن زياد(1) .

رواية ابن شهرآشوب

يبدو أنّ ابن شهرآشوب وابن نما وغيرهما من أعلام الشيعة رجّحوا أن ينقلوا قصة « معقل » باقتضاب يحفظ لمسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل وأبي ثمامة الصائدي وغيرهم من رجال الحسين عليه السلام قداستهم ، ويدفع عنهم المؤخذات ، ولو بشكل نسبي .

قال ابن شهرآشوب في المناقب - وعبارة ابن نما في المثير قريبة منه(2) - :

ص: 105


1- تاريخ الطبري : 4/272 -270 .
2- بل نسبه ابن نما الى الطبرسي في اعلام الورى الورى فقال : ثم إن عبيد اللّه بن زياد حيث خفى عليه حديث مسلم دعا مولى يقال له معقل فأعطاه أربعة آلاف درهم كما في كتاب إعلام الورى باعلام الهدى وأمره بحسن التوصل إلى من يتولى البيعة وقال اعلمه انك من أهل حمص جئت لهذا الامر فلم يزل يتلطف حتى وصل إلى مسلم بن عوسجة الأسدي فادخله إلى مسلم فبايعه . .

ثم إنّ عبيد اللّه أعطى مولاه « معقل » ثلاثة آلاف درهم ، وقال له : اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايعه أهل الكوفة ، فاعلمه أنّك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر ، وهذا مال تدفعه لتتقوّى به .

فلم يزل يتلطّف ويسترشد حتى دلّ عل مسلم بن عوسجة الأسدي ، وكان الذي يأخذ البيعة ، فأدخله على مسلم ، وقبض منه المال وبايعه ، ورجع معقل إلى عبيد اللّه ، فأخبره(1) .

وقفة عجلان

قصة اختراق « معقل » لا ينبغي الركون اليها - فيما أحسب - بعد التأمل فيها ، ولا يمكن القول بها - على ما يبدو - بحال ، بعد معرفتنا برجال الحسين عليه السلام ، من أمثال مسلم بن عوسجة ومسلم بن عقيل عليهماالسلام .

قال الشيخ باقر القرشي - حفظه اللّه - في كتابه « حياة الشهيد الخالد مسلم بن عقيل عليهماالسلام » :

اختار الإمام عليه السلام في سفارته ثقته ، وكبير أهل بيته ، والمبرّز بالفضل فيهم مسلم بن عقيل ، وهو من أفذاذ الرجال ، ومن أمهر الساسة ، وأكثرهم قابلية على مواجهة الظروف ، والصمود أمام الأحداث(2) .

ص: 106


1- المناقب لابن شهر آشوب : 3/242 ، مثير الأحزان لابن نما :21 .
2- حياة الشهيد الخالد مسلم بن عقيل : 113 .

وأمّا مسلم بن عوسجة فهو الشيخ الكبير الطاعن في السنّ ، وصاحب السوابق في الحرب والقتال ومقارعة الأبطال ، كما شهد له الأعداء يوم عاشوراء .

فإنّهما أذكى وأنبل وأدقّ وأكثر حذراً من أن يخدعهما ابن زياد أو معقل ، وقد قضى كلّ منهما عمراً مديداً في ممارسة التقية والحيطة ، وصدّ اختراق التجسس في عهد معاوية ومن سبقه .

ثم ما هي الحاجة لمعقل الجاسوس الواحد !! إذا كان الغرض معرفة مكان مسلم فقط ، مع كلّ ما تمحّلته القصة من زيف ، والكوفة كلّها تعرف جيداً مكان مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، فقد بايعه في الكوفة أكثر من ثلاثين ألفاً - على رواية العقد الفريد وجواهر المطالب وغيرهما - ، وأقلّ ما ذكر في ذلك إثني عشر ألفاً ، وكان مسلم بن عقيل عليهماالسلام قد جمع حوله في الدور أربعة آلاف سيف ، وكلّ هؤلاء كانوا يعرفون بشكل من الأشكال مكانه عليه السلام .

قال الشيخ القرشي - حفظه اللّه - :

ومضى مسلم الى دار هاني الزعيم العربي !! الكبير ، فاستقبله بحفاوة بالغة ، ورحّب به ترحيباً حاراً ، وصارت داره مركزاً لنشاط مسلم السياسي ، ومحلاً لاجتماع الشيعة عنده .

ثم قال - حفظه اللّه - :

ص: 107

وعلى أيّ حال ، فقد استقرّ في دار هاني ، واتخذها مقرّاً للثورة ، وقد احتفّ به هاني ، ودعا القبائل لمبايعته ، فبايعه في منزله !! ثمانية عشر ألفاً(1) .

فما الضرورة لاختلاق جاسوس يدعى « معقل » ، ليخترق الثورة ! بهذه الصورة الفجة !! وقد بايعه في منزله ثمانية عشر ألفاً ؟!

سيما إذا عرفنا أنّ مسلماً عليه السلام إنّما اختار بيت هانيء ولجأ اليه لأنّه كان كما يقول الشيخ القرشي - حفظه اللّه - في الكتاب المذكور : 132 :

سيد المصر ، وزعيم مراد ، وعنده من القوة ما يضمن حماية الثورة ، والتغلّب على الأحداث ، فكان - فيما يقول المؤرخون - إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابته أحلافه من كندة وغيرها كان فيثلاثين ألف دارع(2) . .

مؤاخذات الشيخ القرشي على أعضاء الثورة

سجّل سماحة الشيخ القرشي - حفظه اللّه - في الكتاب المذكور : 141 وفي كتابه الإمام الحسين عليه السلام : 2/369 بعض المؤاخذات على أعضاء الثورة فقال :

« والذي يواجه أعضاء الثورة من المؤاخذات !!! ما يلي :

ص: 108


1- الأخبار الطوال للدينوري : 214 .
2- الفتوح لابن أعثم : 5/67 .

أولاً : إنّ معقلاً من أهل الشام الذين عرفوا بالبغض والكراهية لأهل البيت عليهم السلام ، والولاء لبني أمية ، والتفاني في حبّهم ، فما معنى الركون اليه ؟

ثانياً : إنّ اللازم التريّث حينما أعطى المال لمسلم بن عوسجة وهو يبكي ، فما معنى بكائه أو تباكيه ؟ أليس ذلك ممّا يوجب الريب في شأنه ؟

ثالثاً : إنّه حينما اتصل به كان أول داخل وآخر خارج ، فما معنى هذا الاستمرار والمكث الطويل في مقرّ القيادة العامة ؟ أليس ذلك ممّا يوجب الشكّ في أمره ؟

لقد كان الأولى بالقوم ! التحّرز منه ، ولكنّ القوم ! قد خدعتهم المظاهر المزيّفة !!!

ومن الحقّ أنّ هذا الجاسوس كان ماهراً في صناعته ، خبيراً فيما انتدب اليه . . . .

وعلى أيّ حال ، فإنّ ابن زياد قد استفاد من عملية التجسس أموراً بالغة الخطورة ، فقد عرف العناصر الفعالة في الثورة ، وعرف مواطن الضعف فيها ، وغير ذلك من الأمور التي ساعدته على التغلّب على الأحداث » . . .

معقل أوهم مسلم بن عوسجة !!

قال الشيخ شمس الدين رحمه الله في كتابه أنصار الحسين عليه السلام :

ص: 109

استطاع ابن زياد أن يكتشف مقرّ مسلم بن عقيل بمعونة جاسوس تسلل إلى صفوف الثوار بعد أن أوهم مسلم بن عوسجة أنّه من شيعةأهل البيت(1) .وقال في موضع آخر من نفس الكتاب في خضم الحديث عن علاقة الموالي بقيام الحسين عليه السلام :

وهل تدلّ استجابة مسلم بن عوسجة للجاسوس دون حذر !! على صدق تقدير النظام الأموي لحقيقة العلاقة بين الموالي وبين الثورة(2) !

* * *

وهذه المؤاخذات !! ومؤاخذات أخرى كثيرة يمكن أن تسجّل على القصة ، وهي بنفسها - في الحقيقة - إشكالات تسقط الخبر ، وتدعونا الى طرحه بشجاعة وجرأة ، بعد أن عرفنا أنّ ثقة الحسين عليه السلام ، والخبير بالمجتمع الكوفي ، والمحارب القديم مسلم بن عقيل عليهماالسلام .

وكذا مسلم بن عوسجة الشيخ الكبير ، وإرشيف التجارب المرّة مع أعداء أهل البيت عليهم السلام ، الذي لو لم يكن محارباً مقاتلاً مجرباً في ساحات العمل والقتال ومعرفة الأعداء ، ولو لم يكن التسديد الإلهي حليفه ، لاكتفى بتجارب السنين الطويلة التي عاشها مع ابن زياد وأبيه وأسيادهم .

ص: 110


1- أنصار الحسين عليه السلام لشمس الدين : 124 .
2- أنصار الحسين عليه السلام لشمس الدين : 192 .

التصديق بمضمون هذه القصة يؤدي بالتالي الى التشكيك في حنكة « المسلمَين » ، وأنّهما قد استغفلا و« خدعا ! » ، والاعتقاد بحذق ابن زياد ومعقل .

وطرح الخبر أولى من قبول هذه النتيجة ، لأنّ الميزان عندنا معرفتنا بهذين السيفين من سيوف الحسين عليه السلام ، وما ورد فيهما عن الأئمة المعصومين عليهم السلام ، لا ما نقله لنا المؤرخ .

ولا ندري كيف نتوجّس نحن ونرتاب في موقف « معقل » ، ويخشى ابن زياد من انكشاف أمره ، ولا يلتفت اليها مسلم بن عوسجة ، ومسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وهما في خضم المعركة ؟!

الشيخ محمد جواد الطبسي مع الخبر

قال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللَّه - في كتابه وقائع الطريق من مكة الى الكوفة ( الجزء الثالث من موسوعة مع الركب الحسيني : 3/96 ) :

... لكن في حضوره يومياً عند مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، ودخوله عليه في أوّل الناس ، وخروجه عنه آخرهم ، فيكون نهاره كلّه عنده ، ما يدعو الى الريبة والشكّ فيه ، فلماذا لم يرتب ولم يشكّ فيه مسلم عليه السلام وأصحابه ؟!

إنّ في هذا ما يدعو الى الاستغراب والحيرة فعلاً! .

ص: 111

ولا داعي للاستغراب والحيرة والبحث عن التسويفات والتأويلات ما دمنا نعرف مسلم بن عقيل ومسلم بن عوسجة ، فلا نخضع للخبر ، وهو لم يرو عن أهل البيت عليهم السلام ، لأنّنا نعلم - كما يقول الشيخ في كتابه - :

أنّ مسلم بن عقيل ومسلم بن عوسجة وأصحابهما هم من أهل الخبرة الإجتماعية والسياسية والعسكرية ، فلا يسعنا أن نتعرّض باللوم عليهم أو أن نتهمهم بالسذاجة !! بل علينا أن نتأدّب بين يدي تلك الشخصيات الإسلامية الفذّة ، وأن ننزّه ساحاتهم المقدّسة عن كلّ ما لا يليق بها ، وأن نقف عند حدود معرفتنا التأريخية القاصرة ، لا نتعدّاها الى استنتاجات واتهامات غير صائبة ولا لائقة !! . . .

وكيف يمكن قبول الحدث وردّ لوازمه التي لا تنفك عنه ؟!

* * *

أو ليس من الأحرى بنا أن نقول : إنّ المؤرخ الذي عاش في بلاط السلطان ، وعمل على إقناع التاريخ بما أملاه عليه ، قد خدعنا بقصته المزيفة ؟ بدلاً من أن نسلّم باستغفال « المسلمَين » ، ونقول :

إنّ القوم - يعني مسلم بن عقيل ومسلم بن عوسجة وأبا ثمامة الصائدي وأمثالهم من سيوف الحسين عليه السلام ورجاله - قد خدعتهم المظاهر المزيفة .

أو أن نفترض أنّ ثمة لوما أو إتهاما بالسذاجة يمكن أن يجيش في النفس ويوسوس في الصدر ، فنعالجه بالأمر بالتأدّب والتوقّف .

ص: 112

والحال علينا أن نرفض كلّ ما يمسّ قدسية أصحاب الحسين عليه السلام ، أو يشكّك في مواقفهم .

أو ليس من الأحرى أن نقول : إنّ المؤرخ العامل ضمن المخططالإعلامي الدقيق لأعداء أهل البيت عليهم السلام كان ماهراً في صناعته ، وخبيراً فيما انتدب اليه من تنميق أكذوبته ؟

* * *

علينا أن نفهم قصة مسلم بن عقيل عليهماالسلام ضمن الصورة الكبيرة التي جهد الأمويون على رسمها ، في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين عليهم السلام وأصحابهم الغرّ الميامين ، وتقديمهم الى التاريخ باعتبارهم لا يعرفون من السياسة والتعامل الاجتماعي شيئا ، فيما يرسم لنا آل أمية وأذنابهم في صور مضلّلة ، كأنّهم دهات السياسة وعفاريت التاريخ ؟

وقد استهدف مسلم بن عقيل عليهماالسلام استهدافا خاصا من قبل الأمويين ، فلو قرأته في تاريخهم تجده رجلاً خائفا متلدّدا مختفيا يطارده ابن زياد وهو في « الخزانة » ! و« بيت المخدع في بيت هاني » ! ، وكأنّ زمام المباردة بيد ابن زياد ومسلم عليه السلام هو المطارد الخائف .

وليس الأمر كذلك ، بل كان ثقة الحسين عليه السلام وحفيد أبي طالب عليه السلام

- الذي لو ولد العرب كلّهم لكانوا شجعانا - بيده زمام المبادرة ، وتقدير الأمور ، ولم يكن الدعي ابن الدعي بأكثر حنكة وحذقا من رجال الحسين عليه السلام .

ص: 113

وكيف كان، فإنّ الحرب، وإن كانت تستتبع حرب المعلومات والتجسس، ويعدّ التجسّس قديما وحديثا من أهمّ أركان المعارك والحروب ، فليكن لابن زياد جواسيس كما كان لمسلم بن عقيل عليهماالسلام جواسيس على القصر ،ولا حزازة في أن تخترق الجيوش والحركات ، ولكن أن تخترق بهذه الصورة الفجة التي تشين برجال الحسين عليه السلام ، فهذا ما لا يمكن المصير اليه .

اختيار السيد ابن طاووس

أمّا السيد ابن طاووس ، فقد ذكر قصة الجاسوس بشكل ذكي ونابه لا يمس قداسة « أعضاء الثورة » ، ولا يسمح لأحد أن يسجّل عليهم مؤاخذة ، حيث أنّه ترك نقل طريقة الاختراق ، ولم ينكر أصل وجود الجاسوس « معقل » .

فهو يروي أنّ ابن زياد وضع المراصد على مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، ولا يذكر لمعقل خبرا ، ثم يفاجئ القارئ بوقوف معقل أمام هاني في قصر ابن زياد ، فيرى هاني أنّ هذا الوجه الكالح القبيح ليس غريبا عليه ، لأنّه قد رآه من قبل ، فيعرف أنّه جاسوس ابن زياد .

فالسيد - رحمه اللّه - يطرح ما ذكره المؤرخون من طريق توصل معقل الى مسلم . .

قال السيد في اللهوف : فلمّا سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف على نفسه من الاشتهار ، فخرج من دار المختار وقصد دار هاني بن عروة ، فآواه ، وكثر اختلاف الشيعة إليه .

ص: 114

وكان عبيد اللّه قد وضع المراصد عليه .

فلمّا علم إنّه في دار هاني دعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجةوعمرو بن الحجاج ، وقال : ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا ... .

فقال : إيهٍ يا هاني ، ما هذه الأمور التي تربّص في دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل ، وأدخلته في دارك ، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت إنّ ذلك يخفى عليّ !

فقال : ما فعلت ؟

فقال ابن زياد : بلى قد فعلت .

فقال : ما فعلت أصلح اللّه الأمير .

فقال ابن زياد : عليّ بمعقل مولاي .

وكان معقل عينه على أخبارهم ، وقد عرف كثيرا من أسرارهم ، فجاء معقل حتى وقف بين يديه .

فلمّا رآه هاني عرف إنّه كان عينا عليه(1) . .

* * *

ونحن لا نريد مناقشة القصة هنا ، ولمناقشتها مفصلاً موضع آخر إن شاء اللّه تعالى .

ص: 115


1- اللهوف لابن طاووس : 29 ج 31 .

لواء مسلم

يعدّ صاحب الراية من أركان الجيش وقوامه ، لأنّ ثبات الجيش في ثباته ، وإقدام العسكر بإقدامه ، فلا تدفع الراية إلاّ إلى رجل لا يحتمل فيهأيّ زلّة في مقام الثبات ، ولا يتصوّر في حقّه الفرار ، أو الإحجام والتزلزل في الموقف ، ولا يكون هذا الرسوخ في الموقف إلاّ إذا كان ناتجاً عن بصيرة نافذة ، واعتقاد راسخ بالحرب التي يقدم عليها .

ولذلك ينتخب لحمل اللواء « نخبة القواد الماهرين بفنون الحرب ، والمدربين على القتال والمجالدة والكفاح مع كونهم من أهل النجدة والسالة والإقدام » .

وينبغي أن يكون لحامل اللواء من قوة الشخصية ، وعصامية النفس ، وقوّة الإرادة ، والعقل والحزم واليقين والوقار ما يخوّله إتخاذ القرار المناسب للموقف المناسب ، وإقناع المحارب تحت إمرته بحكمه وإرادته وصواب قراراته ، والسيطرة على المقاتلين بين يديه سيطرة هيمنة تحوّلهم إلى آلة طيعة يقاتل بها بالطريقة التي يستصوبها .

كما ينبغي أن يكون حامل اللواء معروفا عند الرجال الذين ينضون تحت لوائه بالشجاعة والمنزلة الاجتماعية والاحترام والتقدير والعظمة ، مهيبا ، مرموقا ، مؤثرا ، مطاعا ، كبيرا ، له كلمة مسموعة ، ومقاما منيعا ، بحيث يستسلم له الجميع ، ويثقون به ، ويأتمرون بأمره .

ص: 116

وقد بلغ ابن عوسجة المدى في حيازة ثقة ثقة أبي الأحرار وأبي الضيم الحسين عليه السلام ، فجعله على مذحج وأسد ، وهما من أكبر القبائل وأكثرها تشعبا ، وأبعدها امتدادا في المجتمع الكوفي يومذاك .

روى الطبري في تاريخه عن أبي مخنف :قال عبد اللّه بن حازم : أنا - واللّه - رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هاني .

فلمّا ضرب وحبس ركبت فرسى، وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عثرتاه ، يا ثكلاه .

فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر ، فأمرني أن أنادي في أصحابه ، وقد ملأ منهم الدور حوله ، وقد بايعه ثمانية عشر ألفاً ، وفى الدور أربعة آلاف رجل ، فقال لي : ناد « يا منصور أمت » .

فناديت : « يا منصور أمت » .

وتنادى أهل الكوفة ، فاجتمعوا إليه .

فعقد مسلم لعبيد اللّه بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وقال : سر أمامي في الخيل .

ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وقال : انزل في الرجال ، فأنت عليهم .

وعقد لابن ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان .

وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة - قريش والأنصار - .

ص: 117

فتقدّموا جميعاً حتى أحاطوا بالقصر ، واتبعهم هو في بقية الناس(1) .

ثم أقبل نحو القصر .فلمّا بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وغلق الأبواب(2) .

قال عباس الجدلي : خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف . . . وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر .

ثم إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا ، فواللّه ما لبثنا إلاّ قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يثوبون حتى المساء ، فضاق

بعبيد اللّه ذرعه ، وكان كبر أمره أن يتمسّك بباب القصر ، وليس معه إلاّ ثلاثون رجلاً من الشرط ، وعشرون رجلاً من أشراف الناس ، وأهل بيته ومواليه(3) . .

قائد الرجالة

لم يقتصر دور مسلم بن عوسجة على حمل راية الأسديين والمذحجيين فحسب ، وإنّما كان له دور آخر مهم وخطير للغاية حيث كان على « رجّالة » عسكر مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وقد نصّ على ذلك جملة من المؤرخين .

ص: 118


1- الأخبار الطوال للدينوري : 238 .
2- تاريخ الطبري : 4/275 ، مقاتل الطالبيين : 70 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/30 ، الأخبار الطوال للدينوري : 238 وفيه : « عبد الرحمن بن كريز الكندي » .
3- تاريخ الطبري : 4/276 .

قال الطبري وأبو الفرج في المقاتل وغيرهما :

ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ،وقال :انزل في الرجالة ، فأنت عليهم .

وعقد لعبيد اللّه بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال : سر أمامي في الخيل(1) . .

المهمة الصعبة

يمكن أن نتصوّر المهمة الصعبة التي اضطلع بها ابن عوسجة في حمله لهذه الراية ، وتحمّله لهذه الأمانة ، في جوّ مشحون بالتوجّس والترقّب ، وعسكر يغرق في التزلزل والتردّد ، وقد انضوى تحت لوائه خليط غير متجانس من الغوغاء وأهل الأطماع والمرجفين والمتحمّسين وذوي الأطماع والأهواء ، وربما كان فيهم الكثير من الأعداء والشامتين من أمثال الخوارج ، وأتباع العجل والسامري ، وقليل من الأولياء والأتقياء والمؤمنين .

المجذحجيون هم الذين خرجوا بأعداد ضخمة يقودهم الى قصر الخبال عمرو بن الحجاج الزبيدي ، لينقذوا هاني - بزعمهم - أو ينتقموا له بعد أن بلغهم أنّه قتل .

ص: 119


1- تاريخ الطبري : 5/368 ، مقاتل الطالبيين : 66 .

قال الشيخ المفيد في الإرشاد : وبلغ عمرو بن الحجاج أنّ هانياً قد قتل ، - وكان هاني صهره على بنته رويحة(1) - فأقبل في مذحج حتى أحاطبالقصر ومعه جمع عظيم ، ثم نادى : أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم تخلع طاعة ، ولم تفارق جماعة ، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قد قتل فأعظموا ذلك .

فقيل لعبيد اللّه بن زياد : هذه مذحج بالباب ، فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج وأعلمهم أنّه حي لم يقتل .

فدخل ، فنظر شريح إليه ، فقال هاني لمّا رأى شريحاً : يا للّه ! يا للمسلمين ! أهلكت عشيرتي ؟! أين أهل الدين ؟! أين أهل البصر ؟! والدماء تسيل على لحيته ، إذ سمع الرجّة على باب القصر ، فقال : إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنّه إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني .

فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم ، فقال لهم : إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم ، أمرني بالدخول إليه ، فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم ، وأن أعلمكم أنّه حيّ ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل .

فقال عمرو بن الحجاج وأصحابه : أمّا إذ لم يقتل فالحمد للّه ، ثم انصرفوا(2) .

ص: 120


1- المجالس الفاخرة للسيد شرف الدين : 198 .
2- الإرشاد للمفيد : 2/50 .

أمثال هؤلاء هم الذين انضووا تحت لواء مسلم بن عوسجة ، أعلنوا منذ اللحظة الأولى أنّهم لم يخلعوا طاعة ، ولم يفارقوا جماعة ، واكتفوا بشهادة شريح الكاذب ، وحمدوا اللّه وانصرفوا لمجرد أنّهم سمعوا أنّه حيّ لميقتل ، وكأنّهم جاؤوا الى عيادة مريض ، أو لقاء معتقل ، وهو زعيمهم وكبيرهم ، وله معهم سبب قريب !!

* * *

حمل مسلم بن عوسجة لواءا فيه من العناء والمعاناة ما لا يعلمه إلاّ اللّه ، فهو حامل لواء وقائد عسكر عليه أن يتابع تطورات المشهد العسكري ، وفي نفس الوقت عليه أن يقنع من تحت رايته بالقتال ، والثبات ، والنصيحة ، والاستقامة والصبر ، ويحصّنهم من الإشاعات والحرب النفسية التي شنّها العدو بأعنف صورة ، ويقنعهم بضرورة الموقف ، ويبصّرهم بالاعتقاد الصحيح ، ويعمّق الإيمان في القلوب المؤمنة ، ويبصّر القلوب التائهة .

وما أصعب الموقف على رجل يقدم على حرب بجند لا يثق بهم ، ولا يعتمد عليهم كلّ الاعتماد ، ولا يبوح لهم بسرّه ، ويحتاط منهم ولهم . . .

يريد أن يقاتل بقوم تركوه ودخلوا تحت راية المتخاذل اللعين عمرو بن الحجاج ، فقادهم الى القصر ، ثم عاد بهم يخذّلهم ويخذّلونه . . .

وبكلمة : إنّنا لو عرفنا التشابكات والتقاطعات والتناقضات الإجتماعية التي كانت تنتشر يومذاك ، والعقائد والأهواء والتركيبات

ص: 121

النفسية والاجتماعية المتفشّية في المجتمع الكوفي لعرفنا عظمة مسلم بن عوسجة وشجاعته وإقدامه وثباته وتمرّسه واستبساله في الدفاع عن الحقّ وإطاعة سفير ولي الأمر . . .

معركة القصر

لا نريد هنا دراسة أحداث معركة القصر بالتفصيل ، لأنّ صلة الموضوع بمسلم بن عقيل عليهماالسلام أشدّ وأوثق ، ولهذا سوف نشير اليها هنا باختصار شديد ينسجم مع ما نحن فيه :

تدفّق الناس نحو القصر متكردسين تحت الرايات التي عقدها مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وكان جمعهم يتزايد ساعة بعد ساعة ، كما تفيد الروايات التاريخية ، وكان جمعهم يتألّف من الآلاف الأربعة التي بايعت مسلم عليه السلام ، واجتمعت حوله في الدور ، والخليط المتراكم جراء الأحداث ، والقبائل والأفراد الذين تنادوا من أطراف الكوفة ، فأدرك بعضهم الالتحاق بالجموع ، وتأخر بعضهم نتيجة الظروف وبعد المسافة . .

قال عبد اللّه بن حازم : أمرني - يعني مسلم عليه السلام - أن أنادي في أصحابي وقد ملأ الدور منهم حواليه ، فكانوا أربعة آلاف رجل(1) ، فقال : ناد : « يا منصور أمت »، فخرجت ، فناديت ، وتبادر أهل الكوفة ، فاجتمعوا اليه(2) ..

ص: 122


1- الإرشاد للمفيد : 192 .
2- مقاتل الطالبيين : 66 .

وتداعى الناس واجتمعوا ، فما لبثنا إلاّ قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يثوبون حتى المساء(1) . .

في حين كان ابن زياد معتصما بالقصر في عدد قليل من الأشرافوالشرطة ، وكان فيهم عمرو بن الحجاج الزبيدي وشمر بن ذي الجوشن الضبابي . .

وكان مسلم بن عوسجة حينها يحمل راية تجحفل تحتها الأسديون والمذحجيون ، كما كان على الرجالة .

فأقبل مسلم بن عقيل عليهماالسلام في وقته ذلك وبين يديه ثمانية عشر ألفا أو يزيدون ، وبين يديه الأعلام وشاكو السلاح ، وهم في ذلك يشتمون عبيد اللّه بن زياد ويلعنون أباه(2) . .

وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة ، وبعث ابن عقيل الى محمد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامي ، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخر عن مكانه(3) .

وكان أمر الناس شديدا(4) ، فجعلوا يشتمون ابن زياد وأباه

ويتهدّدونه ، ويرمونهم بالحجارة ، وجعل من بالقصر مع ابن زياد

ص: 123


1- تاريخ الطبري : 3/286 ، الإرشاد للمفيد : 192 .
2- الفتوح لابن أعثم : 86 .5 .
3- الإرشاد للمفيد: 2/50، روضة الواعظين للفتال: 149، مثير الأحزان لابن نما: 20 .
4- تاريخ الطبري : 5/368 ، الإرشاد للمفيد : 2/50 ، روضة الواعظين للفتال : 149 ، مثير الأحزان لابن نما : 20 .

يشرفون عليهم فينظرون اليهم ، فيتّقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم ، وهم لا يفتّرون على عبيد اللّه وعلى أبيه(1) . .

ثم قام جماعة ممّن كان مع ابن زياد في القصر من الأعوان والشرط ،وكانوا مقدار مائتي رجل ، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشاب ، ويمنعونهم من الدنو من القصر(2) . .

وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل باب الروميين وبدأت حملات التخذيل(3) . .

وركب أصحاب عبيد اللّه بن زياد ، واختلط القوم ، فقاتلوا قتالاً شديدا ، وعبيد اللّه بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر ينظرون الى محاربة الناس(4) . .

فغربت الشمس ، فنهض اليهم قوم يقاتلونهم ، واقتتلوا قريبا من الرحبة ، ثم دخلوا المسجد(5) ، فجرح مسلم بن عقيل جراحة ثقيلة ، وقتل ناس من أصحابه(6) . .

ص: 124


1- تاريخ الطبري : 5/368 .
2- الأخبار الطوال للدينوري : 238 .
3- تاريخ الطبري : 5/368 ج 371 .
4- الفتوح لابن أعثم : 5/86 .
5- ترجمة الإمام الحسين من طبقات ابن سعد : 66 .
6- تاريخ الطبري : 5/391 .

وممّا لا شكّ فيه أنّ مسلم بن عوسجة كان ذا حظ عظيم في هذه المعركة ، وكان دوره دورا مهما ومركزيا ، لأنّه كان على ربع عظيم ، وكان على الرجالة ، وهم عسكر يقاتل عادة بقوّة الساعد ، ويقوم على صلابة الساق ، ويدافع بالبدن والمقاديم . . .

الساعة الأخيرة مع مسلم بن عقيل عليهماالسلام

تواجهنا ثغرة مهمّة ، ومنطقة غائمة ، ومسافة زمنية معتّم عليها بالكامل في الأيام الأخيرة من حياة الشيهد الغريب مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، تمتد من نزول الظلام عشية معركة القصر الى وقوفه على باب طوعة رضوان اللّه عليها .

ويرى السائر على صفحات التاريخ اختفاء مفاجئا ومحيّرا لجماعة من المقرّبين والأعمدة التي كان يعتمد عليها مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، لا يمكن أن يقرّر في حقّها أنّها خذلت مسلما بتاتا ، من أمثال مسلم بن عوسجة وأبي ثمامة الصائدي وحبيب بن مظاهر وغيرهم ممّن التحق فيما بعد بركب سيد الشهداء عليه السلام ، وفاز بالشهادة بين يديه .

جرى ما جرى بعد معركة القصر ، وخروج ألوية مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وهروب ابن زياد واعتصامه بالقصر ، فتفرّق الناس تحت جنح الليل ، وستار الظلام الهابط عند الغروب ، وآثار الدعاية والحرب النفسية والوعد والوعيد ، والاستسلام للخوف والدعة وشلل الإرادة ، وعادة العساكر - يومذاك - أن تترك الحرب إذا جنّها الليل البهيم .

ص: 125

ولكن رجال سيد الشهداء عليه السلام لا يداخلهم خوف ، ولا يعتريهم شكّ ولا ريب ، وهم يستأنسون بالموت دون إمامهم وسفيره إستئناس الطفل بصدر أمه ، فأين صار في تلك الساعات الرهيبة هؤلاء الأطياب الأطهار الذين شروا أنفسهم للّه ، وخرجوا الى سيد الشهداء عليه السلام مخاطرينبأنفسهم وأهليهم .

لم يحدّثنا التاريخ بصراحة عمّا جرى بعد معركة القصر ، ويترك لنا الثغرة التاريخية التي تغطّي المسافة الزمنية بين معركة القصر وشهادة مسلم عليه السلام ، وتفرّق أصحاب مسلم عليه السلام المقرّبين .

والصورة التي ينقلها لنا التاريخ قابلة للتأمل والمراجعة ، وتحتاج الى وقفة طويلة لا يسعها هذا الكتاب ، ولكن لنقرأ باختصار ما يقوله المؤرخ ، ونكتفي بالقدر الذي يخصّ مسلم بن عوسجة ، ويحدّد لنا موقفه في تلك العشية .

قال الشيخ المفيد في الإرشاد والطبري في التاريخ ، واللفظ للأول :

وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء ، وأمرهم شديد ، فبعث عبيد اللّه إلى الأشراف فجمعهم ، ثم أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوّفوا أهل العصيان الحرمان والعقوبة ، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم .

وتكلّم كثير حتى كادت الشمس أن تجب ، فقال : أيّها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشرّ ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل ، فإنّ هذه جنود

ص: 126

أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى اللّه الأمير عهدا : لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء ، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام ، وأن يأخذ البرئ بالسقيم والشاهد بالغائب ، حتى لا تبقى له بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها .وتكلّم الأشراف بنحو من ذلك .

فلمّا سمع الناس مقالهم أخذوا يتفرّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف ، الناس يكفونك ، ويجئ الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول : غدا يأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشرّ ؟ انصرف ، فيذهب به فينصرف .

فما زالوا يتفرّقون حتى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه

إلاّ ثلاثون نفسا في المسجد ، فلمّا رأى أنّه قد أمسى وما معه إلاّ أولئك النفر ، خرج من المسجد متوجها نحو أبواب كندة ، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان ، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو .

فمضى على وجهه متلدّدا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب ، حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة ، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها : طوعة(1) . .

ص: 127


1- الإرشاد للمفيد : 2/53 ج 54 ، تاريخ الطبري : 4/277 .

وهكذا ينتهي العسكر الذي ملأ الكوفة خيلاً ورجالاً ، وهزّ الأجواء ضجيجا وعجيجا ، وأرعب ابن زياد حتى اعتصم بالقصر ، وامتلكته الوحشة وداخلته الهيبة والرهبة ، تفرّقت الجموع وتشتّت العسكر وانخرم كما تنسلّ الخرز من السلك إذا انقطع ، وربما كان هذا متوقّعا وفقالأسباب التي ذكرناها قبل قليل .

ولكن كيف يبقى مسلم عليه السلام وحيدا لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو .

فهل كان هؤلاء النفر من الصادقين الأوفياء من أمثال مسلم بن عوسجة في الثلاثين الذين صاروا عشرة ، ثم ذابوا على حين غرّة ، وكأنّ الأرض ابتلعتهم ، أو السماء رفعتهم !

وكيف لا يعرف مسلم بن عقيل عليهماالسلام طريق منزله ، وهو منذ أيام طويلة في الكوفة ، وقد سكنها من قبل مع عمّه أمير المؤمنين عليه السلام ؟

فرضيات لاستكشاف الموقف

اشارة

لا نريد هنا مناقشة هذا الخبر ، باعتباره يخصّ حياة الشهيد الرائد مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وإنّما يعنينا هنا موقف مسلم بن عوسجة بالذات وإخوته من أمثال حبيب بن مظاهر وأبي ثمامة الصائدي وغيرهم من الأبرار .

أولاً : حامل اللواء لا يفرّ

ممّا لا شكّ فيه أن حامل اللواء لا يفرّ من المعركة ، وهذا من الأوليات

ص: 128

الضرورية المفروضة في حامل اللواء ، ولو احتمل في رجل احتمالاً ضعيفا جدّا أنّه ممّن يساوره الخوف والتردّد ويؤدي به الموقف الى الفرار لا تدفع اليه راية ، لأنّ هزيمة حامل الراية تعني هزيمة العسكر .

هذا في حامل اللواء مطلقا ، أمّا إذا كان حامل اللواء مسلم بن عوسجة ، فلا يمكن تصوره فيه فضلاً عن احتماله وإمكان وقوعه .

وقد عبّر مسلم بن عوسجة عن ثباته واستبساله بقوله لسيد الشهداء عليه السلام أنّه راسخ الموقف ثابت الجنان ، ولو لم يجد سلاحا لقاتل دونه بالحجارة ، ولو قتل سبعين مرّة .

وسيّان عند هذا الوفي القوي الأمين أن يكون في جحفل جرار أو أن يقاتل وحده ، وهو لا يستوحش من الطريق لقلّة سالكيه ما دام على الحقّ وفي صفّ الأولياء والأئمة النجباء عليهم السلام .

وعلى هذا فلا نشكّ في أنّ قبضة ابن عوسجة كانت محكمة على سارية اللواء ، وقد التحمت قبضبته الأخرى بمقبض سيفه ، وأنّه كان ثابتا الى أن اختطّ الظلام ، وأرخى الليل سدوله الستيرة ، وتفرّق عنه الجمع ، حتى لم يعد للجيش صورة العسكر ، وللحرب شكل اصطفاف الجند ، واختفت كلّ مظاهر التسلّح والقتال ، واخرست قعقعة السلاح وصهيل الخيل واصطكاك الأسنّة .

فماذا فعل بعد ذلك :

ص: 129

ثانياً : الاحتمالات التي يمكن أن تعالج الموقف

اشارة

ويمكن افتراض عدّة احتمالات لمعالجة الموقف :

الإحتمال الأول :

قد يقال : إنّ مسلم بن عوسجة قد تابع المسير في مهمّته ، وكمن فيمأمنه ، لينطلق غداة غد مع إشراقة الشمس بوجه مشرق لحمل رايته ، والذبّ عن دينه وإمامه ؟

وبات تلك الليلة منتظرا انبلاج الفجر وانقلاق الصبح ، ليخرج بمن يخرج معه الى القصر ومواجهة الأعداء .

فلمّا أصبح الصباح فوجئ بخبر الهجوم على مسلم بن عقيل عليهماالسلام

وشهادته ، فبادر الى الاختفاء عن عيون السلطان لينطلق الى الصحراء ، ويلتحق بركب سيد الشهداء عليه السلام بعد أن آيس من المجتمع المتخاذل .

الاحتمال الثاني :

إنّ الأحداث والوقائع سارت بشكل رجّت الأوضاع ، فتداخلت الأخبار ، وانقطعت الاتصالات ، وصار كلّ واحد من أصحاب الألوية يعمل وفق الصلاحيات العامة الممنوحة له ، ويتّخذ الموقف الذي يراه مناسبا من دون استعلام خاصّ من القائد الأعلى مسلم بن عقيل عليهماالسلام .

فلمّا رأى ابن عوسجة تخاذل القوم ، ومسارعتهم الى جهنم زمرا ، وانصرافهم عن الحقّ ونصرة سفير الحسين عليهماالسلام انسل تحت جنح الظلام الى مأمن يوفر له فرصة اللحاق بسيد الشهداء عليه السلام باعتبار أنّ وجوده وعدمه لا يغيّر من المشهد شيئا .

ص: 130

وهذا الاحتمال لا يمكن المصير اليه ، وذلك لأمرين :

الأول :

لما ذكرنا في النقطة الأولى من أنّ حامل اللواء العادي لا يفرّ عن الزحف بتاتا ، ومسلم بن عوسجة حامل لواء من النوع الخاصّ ، الذييعتقد في لوائه أنّه لواء الحقّ المطلق الذي يتمثّل بالمعصوم ، فلا يمكن أن يتصوّر في حقّه الفرار من الزحف ، وهذا الانسحاب وإن كان متحيّزا الى فئة ، ومنحرفا الى قتال إلاّ أنّه تخلّ عن نصر الحقّ المتمثّل في مسلم بن عقيل عليهماالسلام يومئذٍ .

ثانياً :

عرفنا فيما سبق انضباط ابن عوسجة وتسليمه ، ودقّته في الإلتزام الشرعي ، وعليه لا يمكن أن يتصوّر في حقّه أنّه يتّخذ الموقف اعتباطا دون أن يستعلم من يعتقد وجوب طاعته عليه بأمر الإمام المعصوم المفترض الطاعة من اللّه .

الاحتمال الثالث :

أن يكون قد زوّد بالأوامر من القائد الأعلى مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، فعمل وفق التعليمات الصادرة له من قبل ؟

كأن يكون قد أمر بالتخلّي عن الراية واللّحاق بسيد الشهداء عليه السلام لمجرد

اتضاح الصورة وانكشاف زيف النوايا ، فلمّا تفرّق الناس عرف ابن عوسجة أن لا فائدة من بقائه في الساحة ، فتحقّق أنّ الظرف يملي عليه المبادرة الى سيد الشهداء عليه السلام .

ص: 131

وبناءا على هذا الاحتمال يكون الأمر العام من ابن عقيل ، وتشخيص الموقف وتطبيق العام على هذا المشهد بالذات من ابن عوسجة .

الاحتمال الرابع :

أن يكون مسلم بن عوسجة قد رجع الى مركزه بعد أن اختط الظلام وتفرّق الظلاّم ، أو أنّه استلم أوامر من ابن عقيل قبل أن ينفضّ الجمع ويولّون الدبر ، بترك الناس وشأنهم ، والمبادرة الى سيد الشهداء عليه السلام .

الاحتمال الخامس :

أن يكون مسلم بن عوسجة والثلّة الطيبة قد لازمت مسلم بن عقيل عليهماالسلام في ساعة العسرة ، ولكنّ العشائر تدخّلت تحت ضغط العرفاء المدفوعين بالترهيب والترغيب من قبل ابن زياد ، فبادرت الى عميلة أشبه ما تكون بالإعتقال والأخذ بالقهر والقوة ، لسحب وجوه العشيرة الملازمة لمسلم بن عقيل عليهماالسلام ، فاضطرت مسلم بن عوسجة تحت الإكراه والمغالبة الى الانسحاب مع قومه ، أو أنّ قومه اعتقلوه من دون تدخّل مباشر من السلطة ، وإنّما أدّت العشيرة دور الشرطة ، فاعتقل ابن عوسجة عند قومه ، ووضع تحت الإقامة الجبرية .

وهذا ما فعله كلّ قوم بكبيرهم الملازم لمسلم بن عقيل عليهماالسلام .

وفي هذا الاحتمال مجال كبير للتأمل والردّ .

ص: 132

الاحتمال السادس :

أن يكون مسلم بن عوسجة والخلّص من إخوانه قد رجعوا الى

مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، وثابوا اليه في نهاية المعركة ، ولازموه في المسجدوصلّوا خلفه ، ثم تفرّق الناس عنه عند الغروب ، وهم الذين أشار اليهم المؤرخ بقوله :

أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون نفسا في المسجد ، فلمّا رأى أنّه قد أمسى وما معه إلاّ أولئك النفر ، خرج من المسجد متوجّها نحو أبواب كندة ، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان . .

فيكون مسلم بن عوسجة واحدا من هؤلاء الثلاثين ، الذين صاروا لمّا بلغ الأبواب عشرة ، ثم غابوا على حين غرّة .

ويصوّر لنا ابن أعثم هؤلاء العشرة في مشهد آخر يتفرّقون فيه عن مسلم بن عقيل عليهماالسلام قبل أن يدخل المسجد ، وهم فرسان ، فيقول :

فما غابت الشمس حتى بقي مسلم بن عقيل في عشرة أفراس من أصحابه ، لا أقلّ ولا أكثر ، واختلط الظلام ، فدخل مسلم بن عقيل المسجد الأعظم ليصلّي المغرب وتفرّق عنه العشرة .

فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه ، ومضى في أزقّة الكوفة ، وقد

أثخن بالجراحات، حتى صار الى دارإمرأة يقال لها «طوعة»(1)..

ص: 133


1- الفتوح لابن أعثم : 5/50 .

ويتركهم الدينوري يمشون خلفه حتى قضى صلاة العشاء ، ومضى هزيع من الليل ، وخرجوا من المسجد إلاّ أنّهم اختفوا فجأة ، فالتفت مسلم وراءه ، فلم ير منهم أحدا ، قال :

فصلّى مسلم العشاء ! في المسجد ، وما معه إلاّ زهاء ثلاثين رجلاً ، فلمّا رأى ذلك مضى منصرفا ماشيا ، ومشوا معه ، فأخذ نحو كندة ، فلمّا مضى قليلاً ، فلم ير منهم أحدا(1) . .

فيكون مسلم بن عوسجة قد وقف مع مسلم بن عقيل عليهماالسلام الى الساعة الأخيرة ، ثم إنّ مسلم بن عقيل عليهماالسلام أمره وإخوانه بالتفرّق عنه ، وتركه يكمل المشوار وحده ، والإنطلاق الى سيد الشهداء عليه السلام ، لأنّه كان عارفا بمآل الأمور ، وقد سلّمه الإمام الحسين عليه السلام كلّ علامات الطريق ومعالمه ، واطلعه على مجريات الأحداث وعواقب الأمور ، وبشّره بالشهادة من قبل .

والطاعة والتسليم ميزان الأعمال ، وليس المهم أن يقتل الإنسان ، إنّما المهم أن يكون عاملاً بتكليفه الشرعي الذي أملاه عليه إمامه والمفترض الطاعة عليه ، إمّا بالإصالة أو بالوكالة ، فإذا أمر مسلم بن عقيل عليهماالسلام بالتفرّق ، فالفوز بالتفرّق وكفى .

قال الشيخ محمد جواد الطبسي في الجزء الثالث من كتاب « مع الركب الحسيني » :

ص: 134


1- الأخبار الطوال للدينوري : 239 .

هذه الطريقة في عرض الحدث - يعني حدث تفرّق الثلّة الباقية مع مسلم بشكل مفاجى - تلقي في روع المطالع أنّ هؤلاء ليس بينهم وبين جموع الناس الذين انفضّوا بسرعة عن مسلم عليه السلام إلاّ فرق واحد ، وهوالفارق الزمني في الإنفضاض عنه ، ليس إلاّ ، بل تشعر هذه الطريقة بأنّ هؤلاء القلّة أسوأ بكثير من أولئك الذين انفضّوا عنه بسرعة ، وذلك لأنّ هؤلاء تفرّقوا في الختام عنه ، وهو أحوج ما يكون اليهم ، كما تفرّقوا عنه خفية في غفلة منه ! هذا ما يشعر به التعبير « فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا ...» .

وهذا ما لا يقبل به اللّبيب المتدبّر ، كما أنّه لا يوافق طبيعة الأشياء وواقعها ، إذ لنا أن نتساءل :

ما الذي أبقى هؤلاء الى الأخير مع مسلم عليه السلام أهو الطمع ؟ وبماذا يطمع هؤلاء مع قائد قد انفضّ عنه أنصاره ، وبقي وحيدا غريبا لا يدري أين يذهب ؟ والى أين يأوي ؟!

أم هو الخوف من عار الانصراف عنه بعد مبايعته، لا شجاعة ولا ثباتا؟!

أفلا يعني هذا - في مثل هذا الحدّ الأدنى - أنّ هؤلاء ممّن يرعى القيم

والأخلاق ، ويتجافى عن كلّ ما يعود عليه بالذمّ ؟!

وهل يحتمل من مثل هؤلاء مع مثل هذا الحفاظ والأخلاقية أن يتفرّقوا في بلدهم خفية وفي لحظة غفلة من صاحبهم الوحيد الغريب في أرضهم ؟!

ص: 135

أم أنّ الذي أبقى هؤلاء القلّة مع مسلم عليه السلام الى آخر الأمر هو الشجاعة والإيمان والثبات على البيعة ؟!

وأنّهم كانوا من صفوة المجاهدين في حركة الثوار تحت راية مسلم عليه السلام ،ومن صناديد أهل الكوفة ؟!

وهذا هو الحقّ ! إذ لا يشكّ ذو دراية وتأمّل أنّ قادة الألوية الأربعة : مسلم بن عوسجة ، وأبا ثمامة الصائدي ، وعبد اللّه بن عزيز الكندي ، وعباس بن جعدة الجدلي ، وأمثالهم من مثل عبد اللّه بن حازم البكري ، ونظرائه كانوا من القلّة التي بقيت مع مسلم عليه السلام الى آخر الأمر ، ذلك لأنّ من الممتنع على أخلاقية أمثال ابن عوسجة والصائدي وإخوانهم أن يتخلّوا عن مسلم عليه السلام خصوصا في ساعة العسرة .

إنّ هؤلاء الصفوة من المجاهدين كانوا ممّن اشتهر بالإيمان والإخلاص والشجاعة والثبات ، وقد وفّقوا للشهادة في سبيل اللّه ، فهذا مسلم بن عوسجة ، وهذا أبو ثمامة الصائدي قد وفّقا للفوز بالشهادة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ، وهذا العباس بن جعدة الجدلي قتله ابن زياد بعد سجن ، وهذا عبد اللّه أو عبيد اللّه بن حازم البكري المنادي بكلمة السرّ : « يا منصور أمت » ، ممّن شارك بثورة التوابين وقتل فيها ممّا يوحي أنّه اختفى أو سجن في أعقاب أحداث الكوفة أيام مسلم عليه السلام ، وقس على ذلك نظراءهم من صفوة المجاهدين في حركة الثوار تحت راية مسلم بن عقيل عليهماالسلام .

ص: 136

أفهل يعقل أن يتخلّى أمثال هؤلاء عن مسلم عليه السلام ساعة العسرة ، ويتفرّقوا عنه في لحظة غفلة منه ، ويتركوه في الطريق وحيدا غريبا ؟!

لا شكّ أنّ التاريخ حينما نقل لنا حادثة تفرقهم عن مسلم عليه السلام كان قد نقلهابظاهرها فقط ، أي بطريقة « صورة بلا صوت » كما يعبّر عنها في أيامنا هذه ! وذلك لأنّه لم يكن بمقدور التاريخ ، وهو يشاهد حركة الحدث من بُعد أن ينقل الينا ما دار من حوار بين مسلم عليه السلام ومن بقي معه الى آخر الأمر .

إنّ التاريخ لا يسجّل الهمس والسرار ! وإنّ ما يطمئن اليه المتتبّع

والمتأمّل هو أنّ مسلما عليه السلام اتفق مع هذه الصفوة على التفرّق فرادى ، والاختفاء تربّصاً بسنوح الفرصة للالتحاق بركب الإمام الحسين عليه السلام القادم الى العراق لمواصلة الجهاد بين يديه ، فلم يكن تفرّقهم عن مسلم عليه السلام إلاّ بأمره وإذنه ، وعن امتثال لأمره !

هذا ما يفرضه التصوّر السليم والتحليل الصحيح على أساس منطق الواقع وطبيعة الأشياء(1) .

التحاقه بسيد الشهداء عليه السلام

كيف كان ، فإنّ مسلم بن عوسجة اختفى عن أعين ابن زياد وشرطه والمتخاذلين والإنتهازيين والوشاة ، واستطاع بعد جهد ومعاناة أن يعبر قنطرة الأخطار الى رحاب سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، ويخترق تلك

ص: 137


1- مع الركب الحسيني : 3/141 - 143 .

الأجواء المشحونة ، والسكك الملغومة بالجلاوزة والجواسيس ، ويكابر المخاطر ، ويكابد الآلام والجراح التي خلّفتها الكوفة في قلبه من الخذلان والغدر ، والأحزان التي أنشبت أظفارها فيه لما لاقاه ابن عمّ الحسين عليه السلام من الغربة والقتل . . .

كتم أمره حينا من الزمن ، ثم شقّ طريقه في تلك الصحراء القاحلة التي نظمتها الخيل وملأت الآفاق ، والتحق بركب سيد الشهداء عليه السلام

بأهله وعياله ..

قال السماوي في إبصار العين : ثم إنّ مسلم بن عوسجة بعد أن قبض على مسلم عليه السلام وهاني وقتلا اختفى مدّة ، ثم فرّ بأهله الى الحسين عليه السلام ،

فوافاه بكربلاء ، وفداه بنفسه(1) .

ص: 138


1- إبصار العين للسماوي : 120 .

ليلة العاشر

اشارة

قال ابن حماد :

لست أنساه حين أيقن بالموت

دعاهم وقام فيهم خطيبا

ثم قال ارجعواإلى أهلكم فليس

سواي أرى لهم مطلوبا

فأجابوه والعيون سكوب

وحشاهم قد شبّ منها لهيبا

أيّ عذر لنا غدا حين نلقى

جدّك المصطفى ونحن حروبا

* * *

قال الشاعر :

ولقد قال مسلم ليس نمضي

أبدا عنكم بيوم البلاء

وبأيّ الأمور نبدي اعتذارا

حين نمضيعنكم لربّ السماء

بعد ترك الحقّ العظيم علينا

لك من ربّنا بدون قضاء

ليس نمضيبدون طعن وضرب

في صدور العدا بأقوى مضاء

ولو أنّي فقدت كلّ سلاح

حينما ألتقي بأهل العداء

لقذفت العدا لألقى حمامي

دونكم بالحجارة الصماء(1)

ص: 139


1- ليلة عاشوراء في الحديث والأدب للشيخ عبد اللّه الحسن : 289 .

مسلم بن عوسجة ليلة العاشر

قال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد : ثم نادى عمر بن سعد - عشية اليوم التاسع - : يا خيل اللّه اركبي وأبشري .

فركب الناس ، ثم زحف نحوهم بعد العصر ، وحسين عليه السلام جالس أمام بيته محتبٍ بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت أخته الصيحة ، فدنت من أخيها ، فقالت : يا أخي ! أما تسمع الأصوات قد اقتربت ؟

فرفع الحسين عليه السلام رأسه فقال : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله الساعة في المنام ، فقال لي : إنّك تروح إلينا .

فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل ، فقال لها : ليس لك الويل يا أخية ، اسكتي رحمك اللّه .

وقال له العباس بن علي رحمة اللّه عليه : يا أخي أتاك القوم .

فنهض ، ثم قال : يا عباس ، اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتى تلقاهم وتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عمّا جاء بهم .

فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارسا ، منهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر .

فقال لهم العباس : ما بدا لكم ؟ وما تريدون ؟

قالوا : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم .

ص: 140

قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد اللّه ، فأعرض عليه ما ذكرتم .

فوقفوا وقالوا : القه فأعلمه ، ثم القنا بما يقول لك .

فانصرف العباس راجعا يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ، ويكفّونهم عن قتال الحسين عليه السلام .

فجاء العباس إلى الحسين عليه السلام ، فأخبره بما قال القوم ، فقال : ارجع إليهم ، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى الغدوة ، وتدفعهم عنّا العشية ، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة ، وندعوه ، ونستغفره ، فهو يعلم أنّي قد أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه ، والدعاء ، والاستغفار .

فمضى العباس إلى القوم ، ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول : إنّا قد أجلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عبيد اللّه بن زياد ، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم ، وانصرف .

فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء .

قال علي بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه :

أثني على اللّه أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللّهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلمتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين .

ص: 141

أمّا بعد :

فإنّي لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عنّي خيرا .

ألا ، وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء .

ألا ، وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد اللّه بن جعفر : لم نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك ؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا .

بدأهم بهذا القول العباس بن علي رضوان اللّه عليه ، واتبعته الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه .

فقال الحسين عليه السلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم .

قالوا : سبحان اللّه ، فما يقول الناس ؟! يقولون : إنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا - خير الأعمام - ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا - واللّه - ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك .

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال :

ص: 142

أ[ نحن ] نخلّي عنك ولما نعذر إلى اللّه - سبحانه - في أداء حقّك ؟!

أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة .

واللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أن قد حفظنا غيبة رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - فيك .

واللّه ، لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أحيا ، ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك ؟! وإنّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا .

وقام زهير بن القين البجلي - رحمة اللّه عليه - فقال : واللّه ، لوددت أنّي قتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت ، حتى أقتل هكذا ألف مرّة ، وأنّ اللّه - تعالى - يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك .

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فجزاهم الحسين عليه السلام خيرا ، وانصرف إلى مضربه .

* * *

ص: 143

قال علي بن الحسين عليهماالسلام : إنّي لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب عليهاالسلام تمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خباء له ، وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه ، وأبي يقول :

يا دهر أفٍ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل

وكلّ حي سالك سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني

العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل ، وأمّا عمّتي فإنّها سمعت ما سمعت ، وهي امرأة ، ومن شأن النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها ، وإنّها لحاسرة ، حتى انتهت إليه ، فقالت : وا ثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي .

فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال لها : يا أخية ، لا يذهبن حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع ، وقال : لو ترك القطا لنام .

فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصابا ؟! فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ، ثم لطمت وجه ها ، وهوت إلى جيبها فشقته ، وخرّت مغشيا عليها .

ص: 144

فقام إليها الحسين عليه السلام ، فصبّ على وجه ها الماء وقال لها : يا أختاه ! اتقي اللّه ، وتعزّي بعزاء اللّه ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شي هالك إلاّ وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده ، أبي خير منّي ، وأمّي خير منّي ، وأخي خير منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - أسوة .

فعزّاها بهذا ونحوه وقال لها : يا أخية ! إنّي أقسمت فأبري قسمي ، لا تشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت ، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي(1) . .

وقال الطبري وابن الأثير واللّفظ للأول : فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال :

أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى اللّه في أداء حقّك .

أما واللّه حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك(2) .

ص: 145


1- الإرشاد للمفيد : 2/89 ج 94 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/58 ، بحار الأنوار : 44/393 ، إعلام الورى للطبرسي : 1/456 ، تاريخ الطبري : 4/315 ، المناقب لابن شهر آشوب : 3/248 .
2- تاريخ الطبري : 4/318 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/58 .

وفي الفتوح لابن أعثم قال : ثم قام مسلم بن عوسجة الأسدي

وقال :

يا بن بنت رسول اللّه ! نحن عليك هكذا ، وننصرف وقد أحاط بك الأعداء !

لا واللّه لا يراني اللّه أفعل ذلك أبداً حتى أكسر في صدورهم

رمحي ، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ! وواللّه لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة أبدا ، ولم أفارقهم أو أموت بين يديك(1) !

وفي اعلام الورى للطبرسي : وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال :

أنحن نخلي عنك ؟! ولم نعذر إلى اللّه - تعالى - في أداء حقّك ؟!

لا واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي .

واللّه لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحرق ، ثم أحيى ، يفعل بي ذلك

سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك ؟! وإنّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا(2) .

ص: 146


1- كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي : 5/95 .
2- إعلام الورى للطبرسي : 1/456 .

وفي اللهوف : ثم قام مسلم بن عوسجة وقال :

نحن نخليك هكذا ، وننصرف عنك ، وقد أحاط بك هذا العدو ، لا واللّه لا يراني اللّه أبدا وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم أفارقك أو أموت معك(1) .

وفي روضة الواعظين للفتال : وقام مسلم بن عوسجة وقال :

واللّه لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيى ، ثم أحرق ، ثم أحيى ، ثم أحرق ، ثم أذرى ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي من دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ؟ وإنّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا(2) .

وفي مثير الأحزان لابن نما : ثم قال مسلم بن عوسجة :

نحن نخليك وقد أحاط بك العدو ؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا حتى

أكسر في صدورهم رمحي ، وأضاربهم بسيفي ، ولو لم يكن لي سلاح لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك(3) . .

ص: 147


1- اللهوف للسيد ابن طاووس : 56 .
2- روضة الواعظين للفتال : 183 .
3- مثير الأحزان لابن نما : 39 .

قيام مسلم لجواب الحسين

تميّز مسلم بن عوسجة في الموقف هذه العشية ، وحاز شرف الوقوف أمام الحسين عليه السلام مع عدد معدود من أصحابه تحدّثوا نيابة عن الجميع . . .

تكلّم مسلم ليصحر عمّا في قلبه ، ويعلن عمّا عقد عليه نيته وعزمه ، وتكلّم بصيغة الجمع ليعرب عن عزم إخوته ونواياهم ، وقد ارتضوا ذلك منه ، واكتفوا بما قاله ، هذا على فرض أنّ الأنصار كلّهم لم يتكلّموا واحدا بعد واحد ، فربما كانوا قد تكلّموا جميعا ، ولكن المؤرخ اختصر الموقف وذكر بعضهم ، وربما كان الجميع قد اكتفوا بمقالة بعضهم ، وتخندق كلّ منهم الى صفّ المتحدّث الذي أعجب بمقالته ، وكأنّه يتبّناها ويقول بها ، بل كأنّه هو الذي قالها .

أو أنّ كلّ واحد من المتحدّثين قد عبّر عمّا في قلوبهم ، وما أضمروه في نفوسهم بعبارة تختلف عن عبارة الآخر ، فتكون العاقبة أنّ المتحدّثين جميعا عبّروا عن القلوب جميعا .

وربما تحدّث البعض على انفراد ثم نادى الجميع بعبارة واحدة كشفوا بها عن مرادهم ، كما لو رفع أحد الحاضرين شعارا ثم ردده الجميع بعده .

ص: 148

مسوغات قيام مسلم بن عوسجة

اشارة

ربما كان قيام مسلم بن عوسجة للمسوغات الآتية :

المسوغ الأول :

إنّ مسلم بن عوسجة كان عميد الأسديين في الطفّ ، وكبيرهم من حيث السنّ ، فانبرى للإعلان عن موقفه وموقف أبناء عشيرته من بني أسد ، فاحترم الأسديون له ذلك ، وحمدوه ، واكتفوا بما قال .

المسوغ الثاني :

أيضا بلحاظ السنّ ، وأنّه من شيوخ الأنصار ، ولكن لا باعتبار القبيلة ، وإنّما بلحاظ السنّ عموما ، فهو من أكبر الأنصار سنّا ، فلمّا تكلّم الحسين عليه السلام انبرى مسلم بن عوسجة لكبر سنّه يجيب الإمام بتخويل ضمني من الأنصار ، وفحوى الإذن الذي يقتضيه المقام .

المسوغ الثالث :

أيضا بلحاظ السنّ ، ولكن هذه المرّة للتعبير بالسنّ عن الأولويات ، فإذا كان مسلم بن عوسجة الشيخ الكبير الهمّ ، يعبّر عن عزمه ونيّته وثباته وتضحيته لإمامه بهذه الصورة ، فكيف بالشباب ، وبمن هو أصغر منه سنّا ، وأقوى منه ساعدا ، وأشدّ منه صولة ، كلّ هذا بلحاظ السنّ

ص: 149

فقط والحسابات المادية الظاهرية ، وإلاّ فإنّ البدن لا يضعف عمّاقويت عليه النية ، واشتدت عليه العزيمة ، ولا فرق بين الشاب والشيخ الكبير إذا اتصل بقوة الإمام المعصوم ، واستمدّ عزمه من عزمه ، وقوته من قوة ربّ العالمين .

المسوغ الرابع :

لا شكّ أنّ أنصار سيد الشهداء الحسين عليه السلام قد انكشفت لهم عظمة الإمام ، وعرفوا من مقام الإمامة ما لم يرزقه غيرهم من بني البشر .

فإذا كان رسم الوفود والجماعات إذا حضرت مجلس العظيم أن تختار لنفسها من يتكلّم عنها ، ويتأدّب الآخرون بالسكوت وإلتزام الصمت في حضرته ، فمن أولى من الأنصار بالتزام هذا الأدب ، ورعايته بين يدي سيد الشهداء عليه السلام في عرصة كربلاء ، وهم واقفون أمام إمامهم وقائدهم العسكري في آن .

المسوغ الخامس :

بناءا على ما مرّ في المسوغ الرابع ، فإنّ القوم إذا أرادوا اختيار من يمثّلهم أمام العظيم الذي يقفون بين يديه يلحظون في ذلك أمورا عديدة ، منها :

ص: 150

أن يكون منطيقا فصيحا بليغا .

أن يكون عالما عارفا مؤدبا .

أن يكون خبيرا حاذقا قويّا في التعبير عمّا في نفوسهم بحيث لا يقول أحدهم إذا انفضّ المجلس لو كان قال كذا لكان أفضل ، ولو قال كذا لكان أجمل ، وهكذا . .

أن يكون مرموقا إجتماعيا ذا مكانة تؤهّله للفت انتباه المخاطب المرجوّ .

وغيرها من المؤهلات التي ترشّحه ليكون خطيب القوم بين يدي العظيم ، سيما إذا كان العظيم هو سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، وريحانة الرسول صلى الله عليه و آله ، وقرّة عين المرتضى عليه السلام ، وثمرة فؤاد الزهراء البتول

عليهاالسلام ، وكان المجلس في عرصات الطف ، وكان الخطاب يقصد أمورا مهمّة وعظيمة ، ومن بينها طمأنة قلوب العلويات الساهرات خلف الستور ، المضطربات من بقاء الحسين عليه السلام غريبا بين الأعداء . . .

وإنّما انبرى ابن عوسجة ، أو رشحه الأنصار أو بعضهم لذلك ، لأنّه قد توفّر على كلّ الخصال والمؤهّلات المذكورة .

المسوغ السادس :

أن يكون مسلم بن عوسجة قد انبرى للجواب ، وبادر للخطاب ، واغتنم الفرصة للإصحار عمّا في قلبه ، والإعراب عن عزمه ،

ص: 151

لأنّه في موقف ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون ، ويسارع اليه الخيّرون ،ويتسابق فيه المتسابقون ، فتكلّم بالجمع لعلمه بنيّات أصحابه ، ومعرفته بعزائم أقرانه ، ورضي الباقون بمقاله ، لأنّه عبّر عنهم خير تعبير ، وصوّر حالهم أروع تصوير . . .

ص: 152

وقفات تأمل في كلمات مسلم بن عوسجة

اشارة

يلاحظ أنّ كلام مسلم بن عوسجة في هذه العشية لا يقاس بغيره من كلامه في أيّ فترة من فترات حياته ، لخصوصيات الزمان والمكان والموقف ، ولهذا ينبغي أن يتأمّل فيه القارئ غاية التأمّل ، لعلّ بركات أنفاسه المقدّسة تشمله فيقترب من فهم ما قاله رضوان اللّه عليه ، ويستشعر روحا من موقفه .

وسوف نحاول تلمّس كلماته ، وتحسّس حرارة عباراته من خلال وقفات :

الوقفة الأولى : أنحن نخلى عنك؟!

قوله : « أنحن نخلى عنك » ابتدء كلامه بالاستفهام ! وهذا الاستفهام انكاري - على ما يبدو - يكشف فيه عن عجبه وعدم إمكان تصوره ذلك !

قضية التخلّي مستحيلة ، فهي غير ممكنة ، ولا داخلة في دائرة الافتراض بحال ، فهو سؤال يعلن فيه مسلم أنّه لا ولن يتخلّى ، بل هو يخبر عن نيّة أصحابه ، فيتكلّم بالجمع « أنحن نخلي » .

ص: 153

والعمل بإذن الإمام عند مسلم في هذه العشية تخلّي عنه ، وتركه في تلك اللحظة العصيبة والعسيرة تخلّي ، والتخلّي هروب من المسؤولية ، وتنصّل عن الحقّ ، ورجوع القهقرى ، وإدبار عن العاقبة الحسنة .

ولا شكّ أنّ الإذن هنا لم يكن أمرا مفترضا ، وإلاّ لما تخلّف الأنصار وأهل البيت ، وإنّما هو امتحان وإستخبار ، ورفع للدرجات وإعلاء للمقامات ، وترك المجال مفتوحا أمامهم ليختاروا الموقف بإرادتهم وإختيارهم شوقا وحبّا وتطوّعا ومسارعة في الخيرات وإرتقاء للدرجات ، ففي كلّ مرّة كان الإمام يعرض عليهم الإنصراف ويأذن لهم ، وكانوا يختارون البقاء معه ، ويفضّلون الموت بين يديه على الخلود في الدنيا ، كانوا يزدادون رفعة ، ويرتقون درجة ، ويتقرّبون الى ربّهم زلفة . .

الوقفة الثانية : التقرّب الى الحسين بأمّه فاطمة عليهماالسلام

في الفتوح لابن أعثم كانت البداية بخطاب يكشف عن اعتقاد مسلم ، وتقرّبه الى الحسين عليه السلام بحبيبة اللّه وحبيبة نبيه صلى الله عليه و آله ، فخاطبه بخطاب يستأذن فيه للدخول الى قلب الحسين عليه السلام بلطف ، ويذكّره بما يهيج أحزانه ، ويثير أشجانه .

« يا بن بنت رسول اللّه ! نحن عليك هكذا ، وننصرف وقد أحاط بك الأعداء ! لا واللّه لا يراني اللّه أفعل ذلك أبدا . . »

ص: 154

كان من الممكن أن يخاطبه ب-« يابن رسول اللّه » ، « يا ريحانة رسول اللّه » ، « يا سيد شباب أهل الجنة » ، « يا بن سيد الأوصياء » ، « يا بن علي المرتضى » ، وهكذا إذا أراد ، فثمّة صفات وكنى وألقاب ووصلات لا تنتهي يمكن أن يخاطب بها الحسين عليه السلام غير أنّه عرف كيف يتقرّب الى قلب « قلب العالم » . . فقال : « يا ابن بنت رسول اللّه » ، وهل يحفظ المرء إلاّ في ولده ؟!

الوقفة الثالثة : المقصود من « هكذا »

اشارة

في المصادر : « نخلي عنك هكذا » ، وفي اللّهوف : « نخليك هكذا ؟ »

لعلّ فيه إشارة الى أحد أمرين ، أو كليهما :

الأولى :

نخلّي عنك في مثل هذه الساعة الحرجة ، وأنت وحيد غريب لا ناصر لك ولا معين ، ف-« هكذا » يعني نتركك وأنت في هكذا حال ، فتكون هكذا بيان لموقف سيد الشهداء عليه السلام وحاله .

الثانية :

نخلّي عنك ونرجع سالمين ، لا نضرب دونك بسيف ، ولا نرمي بسهم ، ولا تقطّع أوصالنا فيك ، نخليك ونرجع « هكذا » أي بهذه السهولة والبساطة واللامسؤولية ، فتكون « هكذا » بيان لموقفه هو وحاله وأصحابه .

ص: 155

الوقفة الرابعة : ننصرف وقد أحاط بك الأعداء

« وننصرف ؟ » لا زال الاستفهام الإنكاري ساري المفعول ، فهو يستنكر على نفسه لمجرّد تصوّر أنّه ينصرف عن إمامه ومحبوبه الحسين عليه السلام .

ومتى سينصرف عنه ، ينصرف عنه « وقد أحاط بك الأعداء » ، وبهذه العبارة الموجزة يشرح لنا مسلم الجو المكفهر الذي خيّم على مخيم الحسين عليه السلام ، حيث أحاط به الأعداء ، وصاروا كالحلقة على معسكر الأنبياء ، وحوصر الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه ، وقطعوا أن لا مدد يصلهم ، ولا ناصر ينصرهم ، ولا منفذ منهم ولا اليهم .

أحاطت الوحوش الكاسرة بسيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، وضربت طوقا ، وكشّرت عن أنيابها ، وتدافعت كالهيم العطاش لتروي سيوفها المسمومة من الدماء التي ستسكن الخلد .

وفي اللهوف :

نحن نخليك هكذا وننصرف عنك ، وقد أحاط بك هذا العدو .

« أحاط بك هذا العدو » ، أشار الى العدو ب-« هذا » ، وهي إشارة الى القريب ، فالعدو ليس بعيدا ، والدائرة ضيقة جدّا ، والإحاطة شديدة للغاية . . « هذا العدو » . . وكأنّ العدو قد دخل معسكرهم لشدّة إحاطته بمعسكر التوحيد والشهادة .

ص: 156

الوقفة الخامسة : لا يراني اللّه أفعل ذلك أبدا

في الفتوح :

« واللّه لا يراني اللّه أفعل ذلك أبدا » بعد قوله « وقد أحاط بك العدو » .

التخلّي في تلك الساعة عن الإمام عمل يخاف اللّه منه ، ويخشى أن يراه اللّه عليه ، وهو يقسم يمنيا صادقا أنّه لا ولن يتورّط بهذا العمل بأيّ صورة من صوره ، ولو في دخيلة نفسه ، وأغوار ضميره ، ومكنون سرّه ، وأعماق قلبه ، لأنّ اللّه يعلم السرّ وأخفى ، فلو كان منه شيء من ذلك فإنّ اللّه يراه ، وهو يقسم أن لا يفعل فعلاً من هذا القبيل بتاتا ، فهو تعبير عن غاية الإستحالة ، لو كان للاستحالة مراتب ودرجات .

أمّا في مثير الأحزان فقد روى قوله بلفظ : « لا أرانا اللّه ذلك أبدا » ، وهو تعبير عن الالتجاء الى اللّه ، والتوكّل عليه ، والتحوّل من حول البشر الى حول اللّه القوي القادر المتين ، الذي لا يؤده شيء وهو العلي العظيم ، ومن اتصل بقوة القادر المطلق لا يخاف أن تخور قوته ، أو يوهن عزمه ، أو يتزلزل في موقفه .

لا أرانا اللّه ذلك أبدا . . واللّه قادر على أن لا يرينا ذلك . . وقدرة اللّه لا تنازع . .

ص: 157

الوقفة السادسة : الإعذار الى اللّه

اشارة

« ولما نعذر إلى اللّه سبحانه في أداء حقك(1) » . .

العُذْر : الحجة التي يُعْتَذر بها ، ولي في هذا الأَمر عُذْرٌ ومَعْذرةٌ أَي خروجٌ من الذنب ، وتعذّر : اعْتَذَرَ واحتجَّ لنفسه ، أَعْذَرَ الرجل إِذا بَلَغ أَقْصى الغايةِ في العُذْر ، الإِعْذارُ : المبالغة في الأَمر . . .

ويمكن أن نتأمل في هذه العبارة المقدّسة من خلال عدة نقاط :

الأولى :

ولعلّه إقتباس وإشارة الى قوله تعالى :

ص: 158


1- روى السيد المرعشي في شرح إحقاق الحق : 12/117 عن محمد بن أبي ذر العامري المتوفى سنة 381 في السعادة والإسعاد عن الإمام زين العابدين عليه السلام حق الإمام على الناس أن يطيعوه في ظاهرهم وباطنهم على توقير وتعظيم . وروى الكليني في الكافي : 1/405 ح1 : عن أبي حمزة قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ما حق الامام على الناس؟ قال : حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا .. . وفيه أيضاً عن مسعدة ابن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشوا هداتكم ، ولا تجهلوا أئمتكم ، ولا تصدعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وعلى هذا فليكن تأسيس أموركم ، والزموا هذه الطريقة ، فإنكم لو عاينتم ما عاين من قد مات منكم ممن خالف ما قد تدعون إليه ، لبدرتم وخرجتم ولسمعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريبا ما يطرح الحجاب ..

« وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْلايَفْقَهُونَ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْوَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » .

« وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَْعْرابِ لِيُؤذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الُْمحْسِنِينَ مِنْ

سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ

قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ .

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاتَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » .

ص: 159

« سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّانَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ » .

الثانية :

يفترض مسلم بن عوسجة أنّ عليه فعل ما في وسعه ، وبذل غاية المجهود ، حتى يكون معذورا لا معذّرا ، يقطع أنّه بريء الذمّة أمام ربّه . . قد أدّى حقّ الحسين عليه السلام ، وأداء الحقّ إنّما يتمّ بالاستيفاء كاملاً . .

الثالثة :

يفترض أنّه مسؤول أمام اللّه ، والقضية قضية فرض مفروض من اللّه ، تحتاج الى براءة الذمّة ، وإقامة الحجّة ، وليست تنفّلاً يقف فيه المكلّف على مسافة واحدة من الإتيان والترك .

الرابعة :

إنّه لم يكن في موقفه هذا معجبا بنفسه يشعر أنّه يقدّم شيئا يستحقّ عليه الأجر استحقاقا ، لوقوفه الى جنب إمامه موقفا تطوّعيا تفضّليا ،

ص: 160

وإنّما هو يؤدّي حقّا للإمام عليه ، والحقّ لابدّ أن يدفع لإهله ، ولا يدفعه الانسان تفضّلاً ، وإنّما يدفعه استحقاقا ، فهو أمام مسؤولية الوفاء للحقّ ، وتسديد غريم لا يقضى دينه .

الخامسة :

تعبيره هذا يكشف لنا عن فهم الأنصار لإذن الإمام ، فإنّ الإمام تفضّل عليهم بالإذن ، ولكنّهم أدركوا أنّه حقّ لابد أن يؤدّى ، فهو يقول لسيد شباب أهل الجنة عليه السلام : إنّي لا أعذر أمام اللّه إن قصرت في إداء حقّك ولم أف به .

الوقفة السابعة : أنا أفعل ذلك؟!

في اللهوف : « أنا أفعل ذلك ؟ » . . .

استمرار في استفهامه الإنكاري ، الذي صاغ في قالبه توسّله بالإمام ، ورجاءه أن يمنّ عليه بالبقاء في صفّه ، وتشديد وتأكيد على استعظام التفكير في الإنصراف ، فضلاً عن تحقيقه .

وربما أفاد هذا الاستفهام الاستنكاري المتكرّر والمتلاحق ، أنّه كان يخاطب الإمام متوسّلاً به ، غير أنّه صاغه في عبارات كأنّها حوار يؤجج العواطف في داخله ، حتى كأنّه يناغي قلبه ، ويسائل وجدانه ، ويستنفر قواه ، ويستجوب ضميره . .

ص: 161

الوقفة الثامنة : القتال حتى الشهادة

اشارة

« أما واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي » . . .

أولاً : القسم على النية

استئناف ب-« أما » والحاق اليمين بعد اليمين ، وكلّها أيمان صادقة ، صدّقها بالقول والموقف والفعل ، والقسم بلفظ الجلالة المقدّس ، ثم قال « حتى » في مقام بيان الغاية .

فغاية الملازمة وترك الانصراف الصمود في ساحة الوغى ، والبقاء مع الإمام الى أن تصرّ الحرب على أسنانها ، وتقوم على ساق ، وتستعر نيرانها ، فإذا حمي الوطيس بدأت البشائر تترى بتحقيق الآمال ، والأمل الأكبر هو التواجد في صفّ سيد الكائنات وسيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، والموت دونه ومعه .

ثانيا : مباشرة القتال

لا يكفي الوقوف في جانب الحقّ ، والتواجد في معسكر التوحيد ، والتوفّر على نصرة من أمر اللّه ورسوله بنصره في كلّ المواطن والمواقف ، وإنّما تتحقّق النصرة بالذبّ باليد ، والتضيحة بالروح والنفس والنفيس . . .

ص: 162

فأكّد ابن عوسجة هنا أنّه سيباشر القتال بنفسه ، ولا يمنعه عن القتال سنّ ، ولا شيخوخة ، فالقدرة وعدم القدرة ، والضعف والقوة ، والوحدة والكثرة ، كلّها صور وأشكال لأداء التكليف ليس إلاّ . .

وهنا يتكلّم مسلم بلفظ المفرد « أطعن . . أضرب . . يدي » . . .

ثالثا : الأهداف في العدو

استهدف مسلم بن عوسجة منطقتين مهمّتين في العدو ، وهما المركز العقائدي ، ومركز التخطيط والتصميم والإرادة في الإنسان ، وإن كان العدو قد تخلّى عن إنسانيته إلاّ أنّه لا زال في صورة الإنسان الظاهرية من الرأس والأطراف .

فاستهدف بالطعن « صدورهم » التي احتوت على تلك القلوب الممسوخة . . المنكوسة . . المتعوسة . . المظلمة . . المتوحّشة . . المختوم عليها ،

وقد طبع عليها بالشرك والنفاق والضلال .

واستهدف الرؤوس « أضربهم بسيفي » ، وضربة السيف تستهدف قطع الرأس عادة ، تلك الرؤوس العفنة التي عزمت على قتال سيد الشهداء عليه السلام ، وخطّطت للشرك والانحراف ومحاربة اللّه . . .

رابعا : أساليب القتال

ذكر مسلم بن عوسجة أسلوبين من أساليب القتال ، واختار مقارعة الأعداء والأبطال ، بالطعن والضرب ، وكلاهما سلاحان يستعملان في المجالدة والالتحام القريب مع العدو .

ص: 163

فهو سيقترب من العدو إذا صرّت الحرب أسنانها ، ويلتحم معه بالرمح والسيف الذي يتطلّب اشتباك مباشر مع العدو ، وليس هما كالسهام والنبال والرمي عن مسافات قد تكون بعيدة . . .

والالتحام والمجالدة تتطلّب قوى بدنية وفنون قتالية عالية توفّر عليها مسلم بن عوسجة منذ يوم « سلق آذربيجان » وقبل ذلك ، وتضاعفت فيه القوى والفنون ، وهو يقاتل في معسكر الحقّ المطلق ، ويدافع عن حرم اللّه وحرم رسوله صلى الله عليه و آله ، ويذبّ عن ريحانة الرسول صلى الله عليه و آلهوعرضه ، وناموس الرسالة الإلهية . . .

خامسا : غاية القتال

بيّن غاية الالتزام ، وقال : إنّه لا ينصرف « حتى » يقاتل فيطعن برمحه ويضرب بسيفه ، ويخترق بسنانه القلوب الشريرة المظلمة المعتمة المطبوع عليها .

فإذا التحم مع الأعداء لا يعرف الكلل والملل ، وهو يرى سيفه يفري ، وفرسه يجري ، وسنانه يمزّق الأحشاء ، فهل للقتال غاية ونهاية ؟

سمّر في الأرض قدمه ، أعار اللّه جممته ، شرى نفسه للّه ، رمى بطرفه أقصى القوم ، عزم على ضربهم وطعنهم دون استخدام « من » التبعيض ، قال : « أطعن . . في صدورهم . . أضربهم » ، أمسك مقبض سيفه ، وكعب رمحه بقبضة لا ترتخي ولا ترتعش ، لا يفلّها شيء إلاّ الموت .

ص: 164

ما ثبت قائمه في يده ، فهو يقاتل ، وسيثبت قائمه في يده ما دامت العين تطرف ، وما دام النفس يتردّد ، وما دام القلب ينبض ، وما دام في جملة الأحياء ، فإذا قضى نحبه فقد أدّى ما عليه .

وفي تعبيره جمال لا يقاوم من التصوير ، فإنّه لم ينسب الثبات له ، وإنّما نسبه للسيف ، فهو لا يفلّ قبضته ، ولا ترتعش يده ، ولا يرخي أصابعه عن قائم السيف ، وستبقى قبضته متماسكة على مقبض السيف حتى بعد الشهادة ، أمّا بعد الشهادة ، فالخيار للسيف إن شاء ثبت في يده ، وإن شاء تراخى وذبل حتى يسقط الى الأرض . . .

ويؤكد أنّه سوف لن ينصرف عن الحسين عليه السلام ، ولا يرخي قبضته عن السيف إلاّ إذا تركه السيف قوله بعد ذلك - على ما في تاريخ الطبري وابن الاثير - : « ولا أفارقك » .

الوقفة التاسعة : القتال بالحجارة

اشارة

« ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة » .

أولاً :

لم يفترض مسلم بن عوسجة في نفسه أنّه يترك الحسين عليه السلام وينصرف عنه ، وعلى فرض المحال ، فليس هو الذي سينصرف عن سيد الشهداء عليه السلام ، وإنّما يمكن افتراض ذلك في سيفه وسلاحه « ما ثبت قائمه في يدي » ، فإذا تعب السيف ، وكلّ عن الفري ، واستقاله فإنّه لن يترك القتال ، بل سيقاتل بالحجارة .

ص: 165

« ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة » .

و« لو » أداة امتناع لامتناع .

وهو لم يقل « عندي سلاح » وإنّما قال « معي سلاح » ، لأنّه يمتلكالسلاح ، ولكن على فرض أنّ السلاح قد تخلّى عنه ، فإنّه سيقاتل بالحجارة ، والحجارة ليست محصورة ، فما أكثر الحجارة ، فإذا تخلّت واحدة قاتل بالأخرى .

ثانيا :

ربما أراد ابن عوسجة أن يقول : أنّ الحرب تحتاج الى سلاح ، والسلاح المعروف هو السيف والرمح والنبال ، أمّا إذا فقد السلاح المعهود ، فإنّه سوف يحوّل الأرض كلّها الى سلاح ، فالحجارة تملأ الأرض ، وهي متوفّرة في كلّ مكان .

ثالثا :

المعروف أنّ القتال بالحجارة لا يستهدف قتل العدو ، لأنّ الحجارة لا تقتل في الغالب ، وإنّما تؤذي وتجرح وتشغل العدو ، لأنّ غرض ابن عوسجة أن يذبّ عن الحسين عليه السلام ، ويشغل العدو عنه .

رابعا :

قتال المكثور بالحجارة يكشف عن غربته ووحدته واستفراد العدو به ، واستبساله واستماتته وعمق عداوته وشدّة مبغوضيته ، وإبائه وإمتناعه ، وشجاعته وثباته . . .

ص: 166

الوقفة العاشرة

لو كان ثمّة سلاح آخر يمكن افتراضه بعد الحجارة لذكره مسلم ، لأنّ الهدف الأسمى الذي يتابعه قد لخّصه في أمرين :الأول : أن يدافع دون إمامه ومحبوبه محبوب اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله .

الثاني : الموت بين يدي الحسين عليه السلام ، والموت معه ، والبقاء في رحله .

ويحقّق هذين الهدفين أن لا يفارقه ويبقى معه ، ولا ينصرف عنه .

وقد جمع مسلم كلّ هذا بقوله كما في تاريخ الطبري وابن الأثير :

ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك .

وبقوله كما في الفتوح لابن أعثم :

وواللّه لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة أبدا ، ولم أفارقهم أو أموت بين يديك(1) .

وبقوله كما في اللهوف للسيد ابن طاووس : ولم أفارقك أو أموت معك(2) .

الوقفة الحادية عشر

اشارة

يبدو أنّ انتفاضة الهزبر الغيور لا تكاد تهدأ ، كلّما عبّر عن استعظام الإنصراف وأكّده بالقسم عاد الى نفس الموضوع مرّة أخرى ليؤكّده بقسم جديد ، وينفيه بعبارة أخرى ، وسبب آخر ، وفرض جديد .

ص: 167


1- كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي : 5/95 .
2- اللهوف للسيد ابن طاووس : 56 .

فهو يقسم هذه المرّة باللّه أنّه لا يخلّي عن إمامه لغاية جديدة ، وسبب آخر غير ما ذكره قبل هذا :

واللّه لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أن قد حفظنا غيبة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله - فيك .

لقد مضى النبي صلى الله عليه و آله والتحق بالرفيق الأعلى بعد أن تقدّم بالوصاءة بأهل بيته منذ أول لحظة من إعلان دعوته ، فأعلن ذلك في مجلس العشيرة يوم أمره اللّه بإنذار عشيرته الأقربين ، واستمر يوصي الأمّة بهم الى آخر لحظة من عمره المبارك الشريف ، ما فتر عن التأكيد والتكرار والبيان بشتى فنون البيان ، في كلّ موطن وموقف وقف فيه للّه ، وكلّ مواقفه للّه .

وكانت وصيته بلحاظين :

اللحاظ الأول :

أوصى بهم باعتبارهم الأوصياء والخلفاء والأئمة الراشدين الذين افترض اللّه طاعتهم على العباد .

واللحاظ الثاني :

أوصى بهم باعتبارهم « ذوي القربى » الذين جعل اللّه مودّتهم مفترضة على العباد ، وجعل مودّتهم أجر الرسالة « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » .

ص: 168

ولا زالت صرخة السيدة الصديقة الكبرى ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسيدة النساء تدوي في سمع الدنيا ، وهي تخاطب الأنصار تستنصرهم وتستصرخهم وتطالبهم بحقّها ، فتقول :

ما هذه الفترة ( الغميزة ) في حقّي والسنة عن ظلامتي ؟ أما كان رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - أبي يقول : المرء يحفظ في ولده(1) .

تكليف جديد يفرض على مسلم أن يبقى مع سيد الشهداء عليه السلام ، فهو عترة النبي صلى الله عليه و آله وسبطه وريحانته ، وفي خيمته لحمة النبي صلى الله عليه و آله التي لا تشذّ عنه ، وحرم اللّه وحرم رسوله صلى الله عليه و آله ، وذووا قرباه الذين افترض اللّه مودّتهم .

كما أنّه إمامه ، وخليفة نبيه ، ووصيه ، والمفترض عليه طاعته .

تكليفان ممتزجان ، والوفاء للنبي صلى الله عليه و آله يملي على مسلم أن يحفظه في غيبته في أهله وولده وخليفته .

قال : « حتى يعلم اللّه » مرّ معنا قبل قليل أنّ اللّه يعلم السرّ وأخفى ، ومسلم يريد أن يحفظ النبي صلى الله عليه و آله في الحسين عليه السلام ريحانة النبي وسبطه وخليفته « فيك » ظاهرا وباطنا ، سرّا وجهرا ، قلبا وقالبا . . حتى يعلم اللّه ويشهد له أنّه قد أدّى ما عليه ، وحفظ نبيّه في غيبته .

ص: 169


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان : 3/37 ، الاحتجاج للطبرسي : 1/139 ، المناقب لابن شهرآشوب : 2/50 .

الوقفة الثانية عشر

اشارة

واللّه لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أحيا ، ثمأذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حماميدونك ، فكيف لا أفعل ذلك ، وإنّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا . . . .

أولاً :

أقسم من جديد على فرض جديد ، « لو علمت » ، لا على نحو الإخبار المحتمل ، أو الظنّ ، أو التوقّع ، وإنّما على نحو العلم والقطع واليقين .

« أنّي أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى » ، قد يخاف الإنسان من كلّ واحدة من هذه التي ذكرها مسلم هنا «القتل» «الإحراق»، ثم «الحياة» مرّة أخرى ، ثم « أن يذرى رماده في الهواء » ، ويتشتّت وتنثره الريح .

ويحسب هذا كلّه من القتل الى ذرّ الرماد في الهواء فعلاً واحدا ، يكرّر قتله بهذه الصورة المرعبة المخيفة سبعين مرّة ، فإنّه لا يخاف ، ولا يتردّد ، ولا يتزلزل في ثباته وموقفه .

ما أشدّ روع الموتة الأولى قتلاً ، حتى عدّ الاقتصار عليها وعدم الترويع بموتة أخرى من نعيم الجنة ، ومن الأمان الذي بشّر اللّه به عباده من ذوي مراتب الفوز العظيم ، فقال : « لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُْولى » .

ص: 170

ثانيا :

قدّم مسلم بن عوسجة مقدّمة ذكر فيها نوع الموتة التي قد يتعرّض لها حسب فرضه ، وقد اختار في تصويرها أشدّ وأقسى وأعنف أنواع الموت ، القتل . . الإحراق . . الانتثار في الهواء رمادا . . موتة مروّعة مؤلمةمؤثرة . . لا يتصوّر الإنسان موتة أصعب وأكثر عذابا منها .

واستعدّ أن تتكرر هذه الموتة التي يرتجف الإنسان لمجرّد تصوّرها فضلاً عن الإبتلاء بها ومعاناتها . . تتكرّر سبعين مرّة . . وربما كان عدد السبعين إشارة الى الكثرة الكثيرة ، والمبالغة في العدد الذي لا يعدّ ولا يحصر ، كما هي عادة العرب أن تستخدم السبعة ومضاعفتها للدلالة على الكثرة المبالغ فيها .

فإذا كانت القتلة بهذه الصورة المروعة محبوبة عند مسلم بين يدي سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، فما بال القتلة الواحدة ؟ وما شأنها وقدرها ؟

إنّها ليست قتلاً ، فهو لا يحسّ حرّ الحديد ، ولا مسّ السيوف والرماح والنبال ، وما أهونها من قتلة إذا كان الموت يأتيه ، وهو يتزوّد بالنظر الى وجه الحسين عليه السلام . .

لذا قال : فكيف لا أفعل ذلك ، وإنّما هي قتلة واحدة ؟

ثالثا :

« ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا » . . . .

القتل عند مسلم بن عوسجة جسر يعبر من خلاله الى الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا . .

ص: 171

لقد قال لهم الحسين عليه السلام :

صبراً بني الكرام ، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أنينتقل من سجن إلى قصر ، وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب .

إنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت و لا كذبت(1) .

وهذا الشيخ الهمّ الكبير العظيم يتوثّب الى الآخرة ، واللحاق بالسلف الصالح ، ولقاء النبي صلى الله عليه و آله والوصي عليه السلام والشهداء الذين قضوا نحبهم قبله .

وهو لا يكره الموت ، فقد استعد له أفضل الاستعداد ، وعرف ما يؤدّي اليه الموت من النعيم ، فاستدعاه أشدّ استدعاء وأحبّه استجلابا للكرامة والسلام ة الأبدية ، لأنّه عارف بما هو قادم عليه ، مقدّم آخرته على دنياه .

« ثم هي الكرامة » . . والكريم الذي خاطبه سيد الكرامة وإمامها ، فقال : يا بني الكرام . . يأبى الذلّ والهوان ، ويرفض السجن والاستسلام للسجان في دار الدنيا ، ويتوثّب مثابرا للانتقال الى دار الكرامة . . الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا .

ص: 172


1- معاني الأخبار : 288 باب معنى الموت .

كلامه مع الحسين عليه السلام يوم العاشر

روى القندوزي في « ينابيع المودّة » خطبة لسيد الشهداء عليه السلام يوم العاشر من المحرم خاطب بها الأعداء ، فوعظهم وخوّفهم وأنذرهموحذّرهم ، وأقام الحجّة عليهم ، ثم أختتم خطبته البليغة بأبيات من الشعر ، فلمّا فرغ من الشعر أمر أنس الكاهلي أن يذهب إلى القوم ويعظهم عسى أن يرجعوا ، وقال : أنا أعلم أنّهم لا يرجعون ، ولكن تكون حجّة عليهم .

فانطلق أنس ، فدخل على ابن سعد ، ولم يسلّم عليه .

فقال ابن سعد له : لم لم تسلّم عليّ ألست مسلما ؟ !

قال : واللّه لست أنت مسلم ، لأنّك تريد أن تقتل ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فنكس رأسه ، فقال : واللّه ، إنّي لأعلم أنّ قاتله في النار ، ولكن لابد من إنفاذ حكم الأمير عبيد اللّه بن زياد !!

فرجع أنس إلى الحسين عليه السلام ، وأخبره بذلك .

ثم قال مسلم بن عوسجة :

واللّه لأكسرنّ في صدورهم رمحي ، ولأضربنّ أعناقهم بسيفي حتى ألقى اللّه - عزّ وجلّ - ليعلم اللّه أنّا قد حفظنا عترة رسوله صلى الله عليه و آله ، فلو أقتل ، ثم أحيى ، حتى يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك(1) .

ص: 173


1- ينابيع المودة للقندوزي : 3/69 .

رمي الشمر

روى الطبري عن أبي مخنف عن الضحاك المشرقي قال :

لمّا أقبلوا نحونا ، فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنّاألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا ، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة ، فلم يكلّمنا حتى مرّ على أبياتنا ، فنظر إلى أبياتنا ، فإذا هو لا يرى إلاّ حطبا تلتهب النار فيه ، فرجع راجعا ، فنادى بأعلى صوته : يا حسين ! استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة !!!

فقال الحسين : من هذا ؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن .

فقالوا : نعم أصلحك اللّه ، هو هو .

فقال : يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّا .

فقال له مسلم بن عوسجة : يا ابن رسول اللّه ، جعلت فداك ، ألا أرميه بسهم ؟ فإنّه قد أمكنني ، وليس يسقط سهم ، فالفاسق من أعظم الجبارين .

فقال له الحسين : لا ترمه ، فإنّي أكره أن أبدأهم(1) .

وفي الإرشاد للمفيد :

ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم ، فمنعه الحسين من ذلك .

ص: 174


1- تاريخ الطبري : 4/321 ، إعلام الورى للطبرسي : 1/458 .

فقال له : دعني حتى أرميه ، فإنّ الفاسق من عظماء الجبارين ، وقد أمكن اللّه منه .

فقال له الحسين عليه السلام : لا ترمه ، فإنّي أكره أن أبدأهم(1) .

وفي جواهر المطالب لابن الدمشقي :

فركب الحسين دابته ، ودعا بالمصحف فوضعه أمامه ، وأمر أصحابه ، فأوقدوا في حطب كان وراءهم ، لأن لا يأتيهم العدو من ورائهم .

فقال شمر : يا حسين ! تعجّلت النار في الدنيا !!!

فقال الحسين : من هذا ؟

قالوا : شمر بن ذي الجوشن .

فقال الحسين : أنت تقول هذا يا ابن راعية المعزى ؟! أنت - واللّه - أولى بها صليّا .

فقال مسلم بن عوسجة : ألا أرميه بسهم ؟

قال : لا إنّي أكره أن أبدأهم(2) .

ص: 175


1- الإرشاد للمفيد : 2/96 .
2- جواهر المطالب لابن الدمشقي : 2/284 .

مع ابن حوزة

قال المفيد رحمه الله في الإرشاد : وجاء رجل من بني تميم يقال له : « عبد اللّه بن حوزة » ، فأقدم على عسكر الحسين عليه السلام ، فناداه القوم : إلى أين ثكلتك أمّك ؟!

فقال : إنّي أقدم على ربّ رحيم وشفيع مطاع .

فقال الحسين عليه السلام لأصحابه : من هذا ؟

قيل : هذا ابن حوزة .

قال : اللّهم حزه إلى النار .

فاضطربت به فرسه في جدول ، فوقع ، وتعلّقت رجله اليسرى بالركاب ، وارتفعت اليمنى .

فشدّ عليه مسلم بن عوسجة ، فضرب رجله اليمنى فطارت ، وعدا به فرسه يضرب برأسه كلّ حجر وكلّ شجر حتى مات ، وعجل اللّه بروحه إلى النار(1) .

وقال ابن كثير في البداية والنهاية : فقال : أنا ابن حوزة ، فرفع الحسين يده وقال : اللّهم حزه إلى النار .

فغضب ابن حوزة وأراد أن يقحم عليه الفرس ، وبينه وبينه نهر ، فحالت به الفرس ، فانقطعت قدمه وساقه وفخذه ، وبقي جانبه الآخر متعلّقا بالركاب .

ص: 176


1- الإرشاد للمفيد : 2/102 ، اعلام الورى : 1/462 .

وشدّ عليه مسلم بن عوسجة ، فضربه ، فأطار رجله اليمنى ،وغارت به فرسه ، فلم يبق حجر يمرّ به إلاّ ضربه في رأسه حتى مات(1) .

ص: 177


1- البداية والنهاية : 8/196 .

رجزه

روى ابن أعثم في كتاب الفتوح قال :

ثم تقدّم مسلم بن عوسجة الأسدي ، وهو يقول :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

من فرع قوم من ذرى بني أسد

فمن تعامى حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

قال : ثم حمل فقاتل قتالاً شديدا حتى قتل - رحمه اللّه (1) - .

وروى ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب قال :

ثم برز مسلم بن عوسجة مرتجزا :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

من فرع قوم في ذرى بني أسد

فمن بغانا حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

فقاتل حتى قتله مسلم الضبابي وعبد الرحمن البجلي(2) .

ص: 178


1- الفتوح لابن أعثم : 5/105 .
2- المناقب لابن شهرآشوب : 3/251 .

لفتات

اشارة

لقد ضمّن الشيخ البطل مسلم بن عوسجة في هذين البيتين لفتات مهمة ، وعقائد حقّة ، وفخار عريق ، وصور قويّة ، ومعاني جزيلة عبّر عنها بألفاظ ذات وقع مرعب ، وإيقاع حربي يصمّ الأسماع ، ويخلع القلوب الخاوية ، ويزلزل الأقدام الواهية ، ويجعل العيون التي أصابها العشى والعمى كالحديد ترى الحقيقة جلية واضحة لا لبس فيها ولا غموض . . ولكن « إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ » . . .

وسوف نتناول كلمات الناصر للحسين عليه السلام حيّا وميتا في لفتات سريعة لعلنا نستكشف شيئاً ممّا خاطب به مسلم بن عوسجة جيوش الظلام والضلال والكفر في خضم المعركة والسجال :

اللفتة الأولى

لقد خاض ابن عوسجة المعركة ، وواجه جيشا جرارا عجزت

الصحف والرواة عن إحصائه ، وتكالبت عليهم الوحوش الكاسرة ، بما فيهم من شجعان وأبطال عرفوا في ساحات الوغى ومنازلة الأقران ، وقد تقدّموا لحرب ريحانة النبي صلى الله عليه و آله وسيد شباب أهل الجنة عليه السلام على « علم منهم أنّه خامس أصحاب الكساء » ، وأنّه سبط النبي صلى الله عليه و آله ، وأنّه لحم

ص: 179

الرسول صلى الله عليه و آله ودمه ، وأنّ سيد الأنبياء والمرسلين ، وسيد الكائناتأجمعين ، قد قال فيه غير مرّة أنّه حرب لمن حارب ، وسلم لمن سالم .

وفي رؤوس الضلال من يعرف رجال الحسين عليه السلام معرفة جيّدة عن قرب ، فهذا شبث بن ربعي يلوم القوم على فرحهم بشهادة مسلم ، ويشهد له أنّه من شجعان المسلمين طرّا ، وهذا عمرو بن الحجاج يشهد له أنّه من فرسان المصر وأهل البصائر .

أضف الى ذلك أنّ الشيوخ الذين شابت لحاهم في النفاق ، وتحلّبت أنيابهم في طلب الدنيا ، كانوا يعيشون في نفس المصر الذي كان مسلم بن عوسجة يعيش فيه « الكوفة » ، وهي حاضنة عسكرية ، ومعسكر للجند ، يقوم فيه المجتمع على قوّة الساعد ، وإتقان فنون الحرب ، والفارس المقاتل يرتفع نجمه بسرعة ، ويذيع صيته ، وتنتشر أخباره ، فيقتحم بأخباره وقصصه خدور المخدرات ، ويصير حديث الركبان .

وقد جرّب هؤلاء الكبّار الأوغاد مسلم بن عوسجة قبل يوم مسلم بن عقيل وبعده ، وشاهدوا مشاهده ، وذاقوا مرارة صولته عليهم في معركة القصر . . .

فربما كان في « مسوخ » القوم من يعرف مسلم بن عوسجة ، فهو لا يحتاج أن يعرفهم نفسه ، وهم لا يعجبون من شدّة صولته ، وقوّة ساعده ، وسرعة شفرته ، وتقحّم فرسه ، وملاعبة سنانه ، وسداد نبلته .

ص: 180

إلاّ أنّ الجيش ليس كلّه يعرف مسلم بن عوسجة شخصيّا معرفةقريبة ، كما يعرفه شبث أو عمرو بن الحجاج ، فهم قد فوجؤوا بصولته المدمدمة ، وحملاته المدمّرة ، ووثباته الماحقة ، وجولاته الخاطفة لأرواحهم في الميدان ، فهو يقتطف الرؤوس بسيفه البتار ، ويمزّق الصدور بسنانه الخطّار ، ويختطف الأبصار بوميض عينيه التي تجول في الميدان ، كأنّها الصواعق المحرقة النازلة على الكفار والفجار . .

فكأنّ هؤلاء الجهلة الرعاع والجبناء الغثاء جعلوا يعضّون الأنامل من الغيض ، ويسأل بعضهم بعضا : من هذا الذي فرّق الجمع ، ولم يولّي الدبر ؟

فأجابهم مسلم بن عوسجة : « إن تسألوا عنّي » . .

اللفتة الثانية

« إن تسألوا عنّي » افترض في هذه الفقرة أنّهم يسألون عنه ، إلاّ أنّه لم يجبهم باسمه واسم أبيه ، ولم يعرّفهم بتفاصيل ذلك ، وإنّما اكتفى بتعريفهم بنفسه بالخصال والصفات والعلامات التي تدلّهم عليه ، فهو مسلم بن عوسجة المعروف المذكور في المغازي والبطولات ، ولا يأبه بمن لا يعرفه ، لأنّه إنّما يقاتل الأقران ، وينازل الشجعان ، ومن لا يعرفه لا حاجة له فيه .

فهو « من فرع قوم من ذرى بني أسد » ، والأسديون معروفون ، وهو من فرع قوم من قمم بني أسد وجماجمهم ، ومن أعالي

ص: 181

القوم ورؤوسهم ، من الأغصان الشامخة المحلّقة في عنان السماء ، « منذرى بني أسد » .

والأسد أشرف الحيوان المتوحش ، إذ منزلته منها منزلة الملك المهاب ، لقوّته وشجاعته ، وقساوته وشهامته وجهامته ، ولذلك يضرب به المثل في القوّة ، والنجدة ، والبسالة ، وشدّة الإقدام ، والجرأة ، والصّولة ، وهو شديد البطش .

ومنه قيل لحمزة بن عبد المطلب عليهماالسلام أسد اللّه . .

وللأسد من الصبر على الجوع ، وقلّة الحاجة إلى الماء ، ما ليس لغيره من السباع !

ومن شرف نفسه : أنّه لا يأكل من فريسة غيره ، ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب .

وفي الحلية لأبي نعيم ، في ترجمة ثور بن يزيد ، قال : بلغني أنّ الأسد لا يأكل إلاّ من أتى محرّما(1) .

اللفتة الثالثة

توظيف قوي ، وتوليف رائع ، يهزّ السامع ، محبّا كان أو معاديا ، فالمحبّ يفتخر بهذا الشموخ ، ويطمئن قلبه لهذه القوّة الجبارة التي يستند عليها ، ويركن اليها .

ص: 182


1- انظر حياة الحيوان الكبرى للدميري : 1/10 .

فهو من بني أسد إلاّ أنّه ليس من الطبقات الدنيا في القوم ، وإنّماهو من قممهم السامقة « من الذرى » ، وأكثر من ذلك أنّه « ذو لبد » في الذرى ، وهو كناية عن فحل الأسود ، لأنّ اللبد إنّما يكون للذكور منها . . .

اللفتة الرابعة

إنّها البصيرة النافذة ، واليقين الذي لا يخالجه ريب ، والثبات الذي لا يقربه شكّ ، والهدى الذي لا يعتريه ضلال ، والمعرفة التي لا يخالها جهل .

يخاطب القوم في ساحة الحرب التي علم يقينا أنّها النهاية في هذه الدنيا الدنية ، ويكشف من خلال بيت واحد في رجزه عن إعتقاده وعمق معرفته ، ليحدّد موقفه ، ويحدّد للعدو موقفه ، ويرسم معالم الطريق واضحا جليّا ، لا لبس فيه ولا تضليل .

فهو لا يشكّ أنّه في معسكر الهدى ، وأنّه يقف الى جانب الحقّ المطلق ، ويقاتل تحت راية سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليهماالسلام الذي يدور الحقّ معه حيثما دار ، وينضوي تحت لواء القرآن الناطق ، ومعسكر التوحيد الذي اجتمعت فيه سيوف الأنبياء والأوصياء والأولياء ، فالحسين عليه السلام وارث الأنبياء والمرسلين عليهم السلام جميعا ، كما نصت عليه زيارة وارث . . .

ص: 183

ومن قصد معسكر الهدى بسوء ، ووقف في صفّ أعدائه ، وحملالسيف يقاتل رجال الحقّ ، فهو حائد عن الرشد ، والرشد نقيض الضلال ، ومن حاد عن الرشد كان ضالاً « فمن بغانا حائد عن الرشد » .

وفي رواية ابن أعثم « فمن تعامى » ، أي من اشترى « الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ » وما كان مهتديا ، وكان من الخاسرين ، ومن تعامى ، وغمض عينيه ، فإنّ ذلك لا يضرّ الحقّ ، ولا يغني عن المتعامي شيئا .

ومن تعمّد العمى ، فإنّه لا ريب سيحيد عن الرشد ، ويضلّ عن الطريق ، ولا يقوى على معرفة موطى ء قدمه ، ولا مسيره ومسلكه ، ومن تخبّط في العمى سقط في الهاوية والهوى . .

اللفتة الخامسة

قرّر في الشطر الأول من البيت الثاني من رجزه أنّ الأعداء في ضلال مبين ، وفي هذا الشطر يقرّر أنّهم كفّار ، كفّار بدين جبار صمد ، قادر على الجزاء ، قويّ متين عزيز .

وقد اختار من صفات اللّه صفتين « جبار » « صمد » ، وكلاهما ممّا يخلع القلب عن مستقرّه ، ويملأ المخلوق رعبا وخوفا ، وشعورا بالذلّة والاستكانة أمام الجبار الذي لا يقهر . . .

فالعدو جمع الضلال والكفر ، ومسلم بن عوسجة يقف في معسكر جمع الهدى والإيمان . . .

ص: 184

اللفتة السادسة

من تعامى أو من بغانا ، فهو حائد عن الرشد ، وكافر بدين الجبار الصمد ، وها هم المسوخ قد بغوا على إمامهم ، وقصدوه بسيوفهم ورماحهم ، وكشّروا عن أنيابهم ، ودلعوا ألسنتهم ، ليلغوا في الدماء الطاهرة الزكية التي ستسكن الخلد .

فليس لهم أن يتظاهروا بمظهر الدين ، والدين منهم براء ، لأنّ الدين في معسكر سيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام ، وليس في معسكر يزيد وبني أمية .

وبهذا قرّر مسلم بن عوسجة أنّهم كفّار بدين الجبار الصمد ، وأعلن ذلك بصرخة مدوّية جلجلة في أسماع الزمن ، وصكّت مسامع أولئك المدّعين المرائين ، ورسم حروف صرخته بدمه الزاكي المقدّس ، وخطّه بسيفه البتّار الذي اختطف بريقه عيون الكفار ، واقتطف بحدّه رؤوس الفجار .

لقد اختزل مسلم بن عوسجة في هذا البيت من الرجز أهم الأهداف المتوخّاة من قيامه مع سيد الشهداء عليه السلام ، واختصر ذلك بكلمات سطّرت الأجيال من أجلها الكثير من الكتب والخطب والأسفار . .

قال ببيت واحد :

إنّ الإمامة هي التوحيد والدين ، ومن خالفها وحاربها وأبى التسليم لها ، فهو كافر بدين الجبار الصمد ، فإمّا طاعة للّه في كلّ ما أمر ، وإمّا كفر . .

ص: 185

هكذا تقدّم أنصارالحسين عليه السلام يوم الطف كلّ واحد منهم يقرّر هذهالحقيقة بأسلوبه وطريقته ، لأنّ الغرض الأهم في قيامهم كان تمييز خطّ الهدى عن خطّ الضلال ، وعزل خطوات الشيطان عن خطوات الرحمن ، وبيان معالم طريق التوحيد ومضلاّت طريق الشرك ، وتأكيد قيام سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام في وجه الظالم الأول وأتباعه من رجال السقيفة .

ونذكر لذلك مثلاً من مواقف أحد رجال سيد الشهداء الحسين عليه السلام

وأنصاره :

جعل برير بن خضير يحمل على القوم وهو يقول : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين صلى الله عليه و آله وذريته الباقين عليهم السلام .

وكان برير أقرأ أهل زمانه ، فلم يزل يقاتل . . فبرز إليه رجل يقال له « يزيد بن معقل » ، فقال لبرير : أشهد أنّك من المضلّين !!

فقال له برير : هلمّ ، فلندع اللّه أن يلعن الكاذب منّا ، وأن يقتل المحقّ منّا المبطل(1) . .

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد قال :

قال الضحاك بن عبد اللّه : ومرّ بنا خيل لابن سعد يحرسنا ، وإنّ حسينا

ص: 186


1- بحار الأنوار : 45/15 .

ليقرأ « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْلِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ

حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » .

فسمعها من تلك الخيل رجل يقال له « عبد اللّه بن سمير » ، وكان مضحاكا وكان شجاعا بطلاً فارسا فاتكا شريفا(1) .

فقال : نحن وربّ الكعبة الطيبون ، ميّزنا منكم !!

فقال له برير بن خضير : يا فاسق أنت يجعلك اللّه من الطيبين ؟!

فقال له : من أنت ؟ ويلك .

قال : أنا برير بن خضير ، فتسابا(2) .

وروى اللإربلي في كشف الغمّة قال :

ثم كتب عبيد اللّه كتابا إلى عمر بن سعد يحثّه على مناجزة الحسين عليه السلام ، فعندها ضيّق الأمر عليهم ، فاشتدّ عليهم الأمر والعطش ، فقال إنسان

ص: 187


1- العجب كلّ العجب ، ولا ينقضي منه العجب ، أن يستسلم الكتّاب والعلماء الكبار الى تقييم الرواة الجهلة من أذناب البلاطات العفنة ، وتعبيرات المؤرخ الذي يكتب على وقع رنين الصفراء والبيضاء السلطانية ، فيعبّر عن عدو سيد شباب أهل الجنة عليه السلام بالشجاع !! والبطل !! والأغرب من ذلك كلّه : الشريف !!! وكيف يكون قاتل ذريّة النبيين والفاتك شريفا ؟!!
2- الإرشاد للمفيد : 2/95 .

من أصحاب الحسين عليه السلام يقال له « برير بن خضير(1) الهمداني » ، وكانزاهدا : ائذن لي يا ابن رسول اللّه لآتي هذا ابن سعد ، فأكلّمه في أمر الماء ، فعساه يرتدع .

فقال له : ذلك إليك .

فجاء الهمداني إلى عمر بن سعد ، فدخل عليه ، فلم يسلّم عليه .

قال : يا أخا همدان ، ما منعك من السلام عليّ ، ألست مسلما أعرف اللّه ورسوله ؟!!

فقال له الهمداني : لو كنت مسلما كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول اللّه صلى الله عليه و آله تريد قتلهم، وبعد هذا ماء الفرات تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها ، وهذا الحسين بن علي عليهماالسلام

وإخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشا ، قد حلت بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه ! وأنت تزعم أنّك تعرف اللّه ورسوله !!

فأطرق عمر بن سعد ، ثم قال : واللّه - يا أخا همدان - إنّي لأعلم حرمة أذاهم !!! ولكن :

ص: 188


1- في كشف الغمة : يزيد بن حصين الهمداني ، ومن نقل عنه ذكره باسم برير بن خضير ، وفي اسمه اختلاف وتصحيف ، فقال بعضهم : إنه تصحيف والرجل واحد ، وقال بعضهم : إنهما اسمان لشهيدين .

دعاني عبيد اللّه من دون قومه

إلى خطّة فيها خرجت لحيني

فو اللّه لا أدري وأنّي لواقف

على خطر لا أرتضيه ومين

أأترك ملك الريّ و الريّ رغبة

أم أرجع مأثوما بدمّ حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الريّ قرّة عين

يا أخا همدان ، ما أجد نفسي تجيبني إلى ترك الريّ لغيري .

فرجع برير بن خضير ، فقال للحسين عليه السلام : يا ابن رسول اللّه ، قد رضي أن يقتلك بولاية الريّ(1) . . .

وهكذا تجد هذا الموقف من أنصار الحسين عليه السلام وأهل بيته ، كما تجد في معسكر الضلال والكفر من يتطاول على المقدّسات ، ويحاول أن يعرض سيد شباب أهل الجنة عليه السلام وريحانة الرسول صلى الله عليه و آله ، وحبيب اللّه في صورة الخارجي ، فنفخ هذه الزعقة الخائبة الخاسرة في أبواقه الإعلامية في كربلاء ، وفي مسيرة السبي الحزينة التي رفعت هامات الشرفاء وأباة الضيم والمؤمنين عاليا على مرّ العصور وكرّ الدهور .

ص: 189


1- كشف الغمة للإربلي : 2/47 .

فيخرج ابن سعد من كربلاء ، ولا يدفن الأجساد الطاهرة المقدّسة التي بادر النبي صلى الله عليه و آله الى دفنها ، كما ورد في خبر أم سلمة ، وخبر ابن عباس .ولكي يعلن مسلم بن عوسجة أنّه في موضع الحقّ ، وخندق الصدق والإيمان ، وأنّ عدوّهم لا نور له ولا برهان ، وأنّه يتخبّط في الشرك ، ويرث من أسلافه عبادة الأوثان ، رفع صوته بين العسكرين يقول :

ومن بغانا « تعامى » حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

ص: 190

مبارزته ومصرعه

اشارة

التأمّل في ما ورد في كتب التاريخ يصوّر لنا ثلاثة مشاهد لمصرع مسلم بن عوسجة(1) :

ص: 191


1- جمع مؤلفو موسوعة الإمام الحسين عليه السلام : 3/532 روايات شهادة مسلم بن عوسجة من المصادر على النحو الآتي : فقال عمرو بن الحجاج - حين رأي ذلك - : يا حمقى ! أتدرون من تقاتلون ؟ إنّما تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر ، وقوما معتقين ، مستقتلين ، مستميتين ! فلا يبرزنّ لهم منكم أحد ، فإنّهم قليل ، وقلّ ما يبقون ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال عمر : صدقت هذا الرأي . ونادي : ألا لا يبارزنّ رجل منكم ، رجلاً من أصحاب الحسين عليه السلام . ثم إنّ عمرو بن الحجاج حمل علي الحسين عليه السلام من نحو ميمنة عمر بن سعد ، ممّا يلي الفرات . اضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين عليه السلام ، فلم يلبث أن مات ، فصاحت جارية له : يا ابن عوسجتاه ! يا سيداه ! وكان الذي قتله مسلم بن عبداللّه الضبابي ، وعبدالرحمان بن خشكارة البجلي . وسرّ أصحاب عمرو بن الحجاج بقتل مسلم ، فقال لهم شبث بن ربعي : ويحكم أتفرحون بقتل مسلم ؟ واللّه لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين ، أفيقتل منكم مثله وتفرحون ؟! البلاذري ، جمل من أنساب الأشراف ، 3/400 - 401 ، أنساب الأشراف ، 3/192 - 193 . فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى ، أتدرون من تقاتلون ؟ فرسان المصر ، قوما مستميتين ، لا يبرزنّ لهم منكم أحد ، فإنّهم قليل ، وقلّما يبقون ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت . وأرسل الى الناس يعزم عليهم ألاّ يبارز رجل منكم رجلاً منهم . قال أبومخنف : حدّثني الحسين بن عقبة المرادي ، قال الزبيدي : إنّه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين عليه السلام ، يقول : يا أهل الكوفة ! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف الإمام . فقال له الحسين عليه السلام : يا عمرو بن الحجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه ؟ أما - واللّه - لتعلمنّ لو قد قبضت أرواحكم ، ومتّم على أعمالكم أيّنا مرق من الدين ، ومن هو أولى بصلي النار ؟ قال : ثم إنّ عمرو بن الحجاج حمل على الحسين عليه السلام في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ؛ فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين عليه السلام . ثم انصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه ، وارتفعت الغبرة ، فاذا هم به صريع ، فمشي اليه الحسين عليه السلام ، فاذا به رمق ، فقال : رحمك ربّك يا مسلم بن عوسجة ، « فمنهم من قضي نحبّه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة . فقال له مسلم قولاً ضعيفا : بشّرك اللّه بخير . فقال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه ، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك حتى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين . قال : بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللّه - وأهوي بيده الي الحسين عليه السلام - أن تموت دونه . قال : أفعل ورب الكعبة . قال : فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم ، وصاحت جارية له ، فقالت : يا ابن عوسجتاه ! يا سيداه ! فتنادي أصحاب عمرو بن الحجاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي . فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه : ثكلتكم أمهاتكم ! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّلون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ؟! أما - والذي أسلمت له - لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ! لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين ، أفيقتل منكم مثله وتفرحون ! قال : وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبداللّه الضبابي وعبدالرحمان بن أبي خشكارة البجلي . الطبري ، التاريخ : 5/435 - 436 مساوي عنه : القمي ، نفس المهموم : /264 - 266 ، المحمودي ، العبرات : 2/32 - 34 . ثم تقدّم مسلم بن عوسجة الأسدي وهو يقول : إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد من فرع قوم من ذري بنيأسدفمن تعامي حائد عن الرشد وكافر بدين جبار صمد قال : ثم حمل ، فقاتل قتالاً شديدا حتى قتل - رحمه اللّه - . ابن أعثم ، الفتوح : 5/193 - 194 . فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقي ! أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ؟ وتقاتلون قوما مستميتين لم يبرز اليهم منكم أحد ، فإنّهم قليل ، وقلّ ما يبقون ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال له عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت . فأرسل الى الناس من يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم . ثم حمل عمرو بن الحجاج وأصحابه على الحسين عليه السلام من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي - رحمة اللّه عليه - وانصرف عمرو وأصحابه وانقطعت الغبرة ، فوجدوا مسلما صريعا . فمشي اليه الحسين عليه السلام ، فاذا به رمق فقال : رحمك اللّه يا مسلم « منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال : عزّ عليّ مصرعك ، يا مسلم ! أبشر بالجنة . فقال له مسلم قولاً ضعيفا : بشّرك اللّه بخير . فقال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك . المفيد ، الارشاد : 2/107 مساوي عنه : الدربندي ، أسرار الشهادة : 293 ، مثله الأمين ، أعيان الشيعة : 1/605 ، لواعج الأشجان : 153 - 152 . فقتل واحدا بعد آخر . فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين عليه السلام ، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد . فقام عمرو بن الحجاج رافعا صوته : يا حمقي ، أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر ، وقوما مستميتين . واللّه ، لا يبرز لهم منكم أحد إلاّ قتل ، لا تبرزوا لهم ! فإنّهم قليل ، وقلّ ما يبقون ، وقد جهدهم العطش . فقال عمر بن سعد : صدقت . وأرسل في الناس ، فعزم عليهم أن : لا يبارز منكم رجل رجلاً منهم . أبو علي مسكويه ، تجارب الأمم ، 2/70 - 71 . فصاح عمر بن الحجاج بالناس : يا حمقى ! أتدرون من تبارزون ؟ ومن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، تقاتلون قوما مستميتين ، لا يبرز اليهم منكم أحد ، فإنّهم قليل ، وقلّ ما يبقون ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم ، فقال عمر بن سعد : الرأي ما رأيت ، فأرسل في الناس وعرض عليهم أن لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم . ثم حمل عمرو بن الحجاج بأصحابه على أصحاب الحسين عليه السلام من نحو الفرات ، واضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي - رحمه اللّه - وانصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه ، وانقطعت الغبرة ، فوجدوا مسلما صريعا . فسعى اليه الحسين عليه السلام ، فاذا به رمق ، فقال له : رحمك اللّه يا مسلم « منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . الطبرسي ، اعلام الوري : 244 - 245 . فأخذ نافع ومسلم يجولان في ميمنة ابن سعد ، فقال عمرو بن الحجاج ، وكان علي الميمنة : ويلكم - يا حمقى - مهلاً ! أتدرون من تقاتلون ؟ إنّما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرزنّ منكم أحد إلاّ قتلوه على قلّتهم واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال ابن سعد له : صدقت ! الرأي ما رأيت ، فأرسل في العسكر ، يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم ، فلو خرجتم وحدانا لأتوا عليكم مبارزة . ثم دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين عليه السلام ، ثم صاح بقومه : يا أهل الكوفة ! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف إمام المسلمين . فقال له الحسين عليه السلام : يا ابن الحجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا عن الدين وأنتم ثبتم عليه ؟! واللّه لتعلمنّ أيّنا المارق عن الدين ، ومن هو أولى بصلي النار . ثم حمل عمرو بميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو بن الحجاج ، وارتفعت الغبرة ، فاذا مسلم صريع ، فمشى اليه الحسين عليه السلام ، فاذا به رمق ، فقال له الحسين عليه السلام : رحمك اللّه يا مسلم « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) . ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال له : عزّ - واللّه - عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة . فقال قولاً ضعيفا : بشّرك اللّه بخير . فقال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي لاحق بك في أثرك من ساعتي هذه لأحببت أن توصي اليّ بكلّ ما أهمّك حتي أحفظك في ذلك ، لما أنت أهله في القرابة والدين . فقال له : بلى ! أوصيك بهذا رحمك اللّه - وأومأ الى الحسين عليه السلام - أن تموت دونه . فقال له : أفعل وربّ الكعبة . فما أسرع من أن مات . فصاحت جارية له : يا سيداه ! يا ابن عوسجتاه ! فنادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة . فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما أنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون عزّكم ، أتفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ؟! أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له في المسلمين كريم ، واللّه لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين . الخوارزمي ، مقتل الحسين عليه السلام : 2/15 - 16 . ثم برز مسلم بن عوسجة مرتجزا : إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد من فرع قوم في ذرى بني أسدفمن بغانا حائد عن الرشد وكافر بدين جبار صمد فقاتل حتي قتله مسلم الضبابي وعبد الرحمان البجلي . ابن شهر آشوب ، المناقب : 4/102 مساوي عنه : الدربندي ، أسرار الشهادة : /293 . وصار يخرج الرجل من أصحاب الحسين عليه السلام فيقتل من يبارزه ، فقال عمرو بن حجاج للناس . يا حمقى ، أتدرون من تقاتلون ؟ هؤلاء فرسان المصر ، وهم قوم مستميتون . فقال عمر : صدقت . فحمل عمرو بن الحجاج على الحسين عليه السلام ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين عليه السلام .ابن الجوزي ، المنتظم : 5/339 . فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : أتدرون من تقاتلون ؟ فرسان المصر ، قوما مستميتين ، لا يبرز اليهم منكم أحد ، فإنّهم قليل ، وقلّما يبقون ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم ، يا أهل الكوفة ! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف الإمام . فقال عمر : الرأي ما رأيت . ومنع الناس من المبارزة ، قال : وسمعه الحسين عليه السلام ، فقال : يا عمرو بن الحجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين أم أنتم ؟ واللّه لتعلمنّ لو قبضت أرواحكم ، ومتم علي أعمالكم ، أينا المارق . ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي ، وانصرف عمرو ، ومسلم صريع ، فمشى اليه الحسين عليه السلام وبه رمق ، فقال : رحمك اللّه يا مسلم بن عوسجة ، « منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر » ، ودنا منه حبيب بن مطهر ، وقال : عزّ عليّ مصرعك ، أبشر بالجنة ، ولولا أنّي أعلم أنّني في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتي أحفظك بما أنت له أهل . فقال : أوصيك بهذا رحمك اللّه - وأومأ بيده نحو الحسين عليه السلام - أن تموت دونه . فقال : أفعل . ثم مات مسلم ، وصاحت جارية له ، فقالت : يا ابن عوسجة ! فنادى أصحاب عمرو : قتلنا مسلما . فقال شبث لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ! إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلّون أنفسكم لغيركم ، أتفرحون بقتل مثل مسلم ؟ أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين ، فلقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين ، أفيقتل مثله وتفرحون ؟ وكان من الذين قتلوه مسلم بن عبداللّه الضبابي ، وعبدالرحمان بن أبي خشكارة البجلي . ابن الأثير ، الكامل : 3/290 . فقال عمرو بن الحجاج : يا حمقى ! أتدرون من تقاتلون ؟ مبارزة فرسان المصر ، وقوما مستميتين . فصاح عمر بن سعد ، فرجعوا الى مواقفهم . ابن نما ، مثير الاحزان : 31 . وخرج مسلم بن عوسجة ، فبالغ في الجهاد ، وصبر على الجلاد حتى سقط ، وبه رمق ، فرق له الحسين عليه السلام ، وقال : رحمك اللّه يا مسلم « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » ، عزّ عليّ مصرعك ، يا مسلم ! أبشر بالجنة . فقال له قولاً ضعيفا : بشرك اللّه بخير . فقال حبيب : لولا أنّي في الأثر ، لأحببت أن توصي اليّ بما يهمك ، فقال : أوصيك بهذا يعني الحسين عليه السلام . ابن نما ، مثير الأحزان : 32 . ثم خرج مسلم بن عوسجة ، فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء حتى سقط الى الأرض ، وبه رمق ، فمشى اليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين عليه السلام رحمك اللّه يا مسلم ، « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . ودنا منه حبيب ، وقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة . فقال له مسلم قولاً ضعيفا : بشرك اللّه . ثم قال له حبيب : لولا أنّني أعلم أنّي في الأثر ، لأحببت أن توصي اليّ بكلّ ما أهمّك . فقال له مسلم : فإنّي أوصيك بهذا - وأشار الى الحسين عليه السلام - فقاتل دونه حتى تموت . فقال له حبيب : لأنعمنّك عينا . ثم مات ( رضوان اللّه عليه ) . ابن طاووس ، اللهوف : 106 - 107 مساوي عنه : الدربندي ، أسرار الشهادة : 293 . زيارة الناحية : وكنت أول من شرى نفسه وأول شهيد من شهداء اللّه قضى نحبه ، ففزت وربّ الكعبة ، شكر اللّه استقدامك ومواساتك إمامك ، إذ مشى اليك وأنت صريع فقال : يرحمك اللّه يا مسلم بن عوسجة ، وقرأ : « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . لعن اللّه المشتركين في قتلك عبداللّه الضبابي وعبداللّه بن خشكارة البجلي ومسلم بن عبداللّه الضبابي .ابن طاووس ، الاقبال : 575 ، مصباح الزائر : 281 - 282 مساوي عنه : المجلسي ، البحار : 45/69 - 70 ، البحراني ، العوالم : 17/337 - 338 ، الدربندي ، أسرار الشهادة : 303 ، المحمودي ، العبرات : 2/157 . ثم برز الناس بعضهم الى بعض ، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقي ! أتدرون من تقاتلون ؟ فرسان المصر ، قوما مستميتين . لا يبرز لهم منكم أحد ، فإنّهم قليل ، واللّه لولم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم ! فقال عمر : صدقت ، الرأي ما رأيت . ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين عليه السلام من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي من أصحاب الحسين عليه السلام ، ثم مات . فترحّم الحسين عليه ، ثم قال : « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا » . النويري ، نهاية الإرب : 20/448 . قال : وكثرت المبارزة يومئذٍ بين الفريقين ، والنصر في ذلك لأصحاب الحسين عليه السلام لقوّة بأسهم ، وأنّهم مستميتون لا عاصم لهم إلاّ سيوفهم ، فأشار بعض الأمراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة ، وحمل عمرو بن الحجاج أمير ميمنة جيش ابن زياد . وجعل يقول : قاتلوا من مرق من الدين ، وفارق الجماعة . فقال له الحسين عليه السلام : ويحك ياابن حجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه ؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار . وقد قتل في هذه الحملة مسلم بن عوسجة ، وكان أول من قتل من أصحاب الحسين عليه السلام ، فمشى اليه الحسين عليه السلام ، فترحّم عليه ، وهو على آخر رمق ، وقال له حبيب بن مطهر : أبشر بالجنة . فقال له بصوت ضعيف : بشّرك اللّه بالخير . ثم قال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي على أثرك لاحقك ، لكنت أقضي ما توصي به . فقال له مسلم بن عوسجة : أوصيك بهذا - وأشار الى الحسين - الى أن تموت دونه . ابن كثير ، البداية والنهاية : 8/182 . قال ابن أبي شاكر في تاريخه : . . وصار الرجل من أصحاب الحسين عليه السلام يخرج وهو يقول : من يبارز ؟ فقال [ عمرو بن ] الحجاج : يا حمقى ! أتدرون من تقاتلون ؟ هؤلاء فرسان المصر ، وهم مستقتلون . فقال عمر بن سعد : صدقت . ثم حمل [ ابن سعد ] وحمل الناس من كلّ جانب ، فكان أول من قتل من أصحاب الحسين عليه السلام مسلم بن عوسجة رحمه اللّه . الباعوني ، جواهر المطالب : 2/286 . وقال محمد بن أبيطالب : . . ثم برز من بعده [ عمير بن عبداللّه ] مسلم بن عوسجة - رحمه اللّه - وهو يرتجز : إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد من فرع قوم من ذرى بني أسدفمن بغانا حائد عن الرشد وكافر بدين جبار صمد ثم قاتل قتالاً شديدا . المجلسي ، البحار : 45/19 مساوي عنه : البحراني ، العوالم : 17/262 ، البهبهاني ، الدمعة الساكبة : 4/299 ، مثله المازندراني ، معالي السبطين : 1/377 - 378 ، الأمين ، أعيان الشيعة : 1/605 ، لواعج الأشجان : 152 . فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى ! أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرز منكم اليهم أحد إلاّ قتلوه على قلتهم ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال له عمر بن سعد - لعنه اللّه - : الرأي ما رأيت فأرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم ، وقال : لو خرجتم اليهم وحدانا ، لأتوا عليكم مبارزة . ودنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين عليه السلام ، فقال : يا أهل الكوفة ! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام ، فقال الحسين عليه السلام : يا ابن الحجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين ، وأنتم ثبتم عليه ؟ واللّه لتعلمنّ أيّنا المارق من الدين ، ومن هو أولى بصلي النار . المجلسي ، البحار : 45/19 مساوي عنه : البحراني ، العوالم : 17/262 - 263 ، الدربندي ، أسرار الشهادة : /293 ، مثله البهبهاني ، الدمعة الساكبة : 4/300 ، المازندراني ، معالي السبطين : 1/377 ، مثيرالأحزان : 73 . ثم حمل عمرو بن الحجاج - لعنه اللّه - في ميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة وانصرف عمرو وأصحابه ، وانقطعت الغبرة ، فاذا مسلم صريع . وقال محمد بن أبيطالب : فسقط الى الأرض ، وبه رمق ، فمشى اليه الحسين عليه السلام ، ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين عليه السلام : رحمك اللّه يا مسلم ، « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . ثم دنا منه حبيب فقال : يعزّ عليّ مصرعك ، يا مسلم ! أبشر بالجنة . فقال له قولاً ضعيفا : بشّرك اللّه بخير . فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر ، لأحببت أن توصي اليّ بكلّ ما أهمّك . فقال مسلم : فإنّي أوصيك بهذا - وأشار الى الحسين عليه السلام - فقاتل دونه حتي تموت . فقال حبيب : لأنعمنّك عينا . ثم مات ( رضوان اللّه عليه ) . المجلسي ، البحار : 45/19 - 20 مساوي عنه : البحراني ، العوالم : 17/263 ، البهبهاني ، الدمعة الساكبة : 4/299 - 300 ، مثله المازندراني ، معالي السبطين : 1/377 - 378 ، الجواهري ، مثير الأحزان : 73 - 74 . قال : وصاحت جارية له : يا سيداه ! يا ابن عوسجتاه . فنادي أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة . فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون عزّكم أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة ؟ أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له في المسلمين كريم ؟ لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتأم خيول المسلمين . المجلسي ، البحار : 45/20 مساوي عنه : البحراني ، العوالم : 17/263 ، البهبهاني ، الدمعة الساكبة : 4/299 ، الدربندي ، أسرار الشهادة : 293 ، مثله المازندراني ، معالي السبطين ، 1/379 ، الأمين ، أعيان الشيعة : 1/605 ، لواعج الأشجان : 153 . في النسخة التي كانت تنسب الى شهاب الدين العاملي : . . فصاح ابن الحجاج بالناس : يا حمقى ! أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ؟ هؤلاء الناس لا يخافون الموت ، وقد استماتوا ، فلا يبرز اليهم منكم أحد ، وإنّهم قليلون ، وقليل ما يبقون ، فو اللّه لو ترمونهم بالحجارة لقتلتموهم . فقال ابن سعد - لعنه اللّه تعالى - : صدقت ، والرأي ما أبرمت . فأرسل الى الناس من يقسم عليهم أن لا يبارزوا ، أحد منهم أحدا . ثم حمل ابن الحجاج على أصحاب الحسين عليه السلام من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فخرج مسلم بن عوسجة الأزدي ، فانصرف ابن الحجاج ، وانقشعت الغبرة والغمغمة ، فوجدوا مسلما صريعا ، فمشى اليه الحسين عليه السلام وبه رمق ، فقال : رحمك اللّه يا مسلم بن عوسجة ، أنت سائر الى الجنة ، « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . ودنا اليه حبيب بن مظاهر ، وقال : عزّ - واللّه - عليّ مصرعك ، يا مسلم أبشر بالجنة . فقال : بشّرك اللّه بالخير . فقال له حبيب : واللّه لو أنّي ما أعلم أنّي على أثرك في ساعتي هذه ، لأحببت أن توصيني بما أهمّك . فقال له مسلم : لا أوصيك إلاّ بهذا يا حبيب - وأشار الى الحسين عليه السلام - فقاتل دونه حتى تموت . فقال له حبيب : لأنعمنك عينا . الدربندي ، أسرار الشهادة : 279 . وأخذ أصحاب الحسين عليه السلام بعد أن قلّ عددهم ، وبان النقص فيهم ، يبرز الرجل بعد الرجل ، فأكثروا القتل في أهل الكوفة . فصاح عمرو بن الحجاج بأصحابه : أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر ، وقوما مستميتين . لا يبرز اليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال عمر بن سعد : صدقت الرأي ما رأيت ، أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم ، ولو خرجتم اليهم وحدانا لآتوا عليكم . ثم حمل عمرو بن الحجاج على ميمنة الحسين عليه السلام ، فثبتوا له ، وجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح ، فلم تقدم الخيل ، فلمّا ذهبت الخيل لترجع رشقهم أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل ، فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين . وكان عمرو بن الحجاج يقول لأصحابه : قاتلوا من مرق عن الدين وفارق الجماعة . فصاح الحسين عليه السلام : ويحك يا [ ابن ] الحجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون اذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار. ثم حمل عمرو بن الحجاج من نحو الفرات ، فاقتتلوا ساعة ، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة ، فشدّ عليه مسلم بن عبداللّه الضبابي وعبداللّه بن خشكارة البجلي ، وثارت لشدة الجلاد غبرة شديدة ، وما انجلت الغبرة الاّ ومسلم صريعا وبه رمق ، فمشى اليه الحسين عليه السلام ، ومعه حبيب بن مظاهر . فقال له الحسين عليه السلام : رحمك اللّه يا مسلم ، « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . ودنا منه حبيب ، وقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم . أبشر بالجنة . فقال بصوت ضعيف : بشرك اللّه بخير . قال حبيب : لو لم أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي اليّ بما أهمّك . فقال مسلم : أوصيك بهذا - وأشار الى الحسين عليه السلام - أن تموت دونه . قال : أفعل وربّ الكعبة ، وفاضت روحه بينهما ، وصاحت جارية له : وا مسلماه ! يا سيداه ! يا ابن عوسجتاه ! فتنادي أصحاب ابن الحجاج : قتلنا مسلما . فقال شبث بن ربعي لمن حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أيقتل مثل مسلم وتفرحون ؟ لربّ موقف له كريم في المسلمين . رأيته يوم « أذربيجان » ، وقد قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين . المقرم ، مقتل الحسين عليه السلام : 296 - 297 . وحمل عمرو بن الحجاج الزبيدي - فيمن كان معه من أصحابه - على ميمنة أصحاب الحسين عليه السلام ، فلمّا دنا منهم ثبتوا له ، وجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح ، فلم تقدم الخيل ، فلمّا ذهبت الخيل لترجع رشقهم أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل ، فصرعوا منهم رجالاً ، وجرحوا منهم آخرين . ثم إنّ عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين عليه السلام أخذ يقول : يا أهل الكوفة ، الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق عن الدين ، وخالف الإمام . فقال له الحسين عليه السلام : ويحك يا عمر ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا عن الدين وأنتم ثبتم عليه ؟ أما - واللّه - لتعلمنّ لو قد قبضت أرواحكم ومتّم على أعمالكم ، أيّنا مرق من الدين ؟ ومن هو أولى بصلي النار ؟ ثم حمل عمرو بن الحجاج - مرّة أخرى - من نحو الفرات على أصحاب الحسين عليه السلام ، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة الأسدي ، فبرز وهو يقول : إن تسألوا فإنّي ذو لبد من فرع قوم في ذرى بني أسدفمن بغاني حائد عن الرشد وكافر بدين جبار صمد فشدّ عليه مسلم بن عبداللّه الضبابي ، وعبدالرحمان بن أبي خشكارة البجلي ، فاشتركا في قتله ، وثارت لشدّة الجلاد غبرة عظيمة ، فما انجلت إلاّ ومسلم بن عوسجة صريع . فمشى اليه الحسين - ومعه حبيب بن مظاهر - فقال له الحسين عليه السلام : رحمك اللّه يا مسلم ، وتلا قوله تعالي : « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » . وكان به رمق الحياة ، فدنا منه حبيب ، وقال : عزّ عليّ مصرعك ، يا مسلم ! أبشر بالجنة . فقال له مسلم بصوت ضعيف : بشرك اللّه بخير . فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لاحق بك ، لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك . قال مسلم : أوصيك بهذا - وأشار الى الحسين عليه السلام - أن تموت دونه . قال : حبيب أفعل وربّ الكعبة ولأنعمنك عينا . فما كان بأسرع من أن فاضت نفسه بينهما . وصاحت جارية له : وا مسلماه ، يا ابن عوسجتاه ، يا سيداه ! . فتنادي أصحاب عمرو بن الحجاج : قتلنا مسلم بن عوسجة . فقال شبث بن ربعي لمن حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أيقتل مثل مسلم وتفرحون ؟ لربّ موقف له كريم في المسلمين ! رأيته يوم ( آذربيجان ) وقد قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين . بحرالعلوم ، مقتل الحسين عليه السلام : 391 - 392 . وأخذ أصحاب الحسين عليه السلام - بعد أن بان النقص فيهم - يستأذن الرجل بعد الرجل من الحسين عليه السلام ، ويبرز للقتال ، فأكثروا القتل في أهل الكوفة ، فعند ذلك صاح عمرو بن الحجاج بأصحابه : ويحكم - يا حمقى - أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرز اليهم أحد منكم إلاّ قتلوه - على قلتهم - واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم . فقال ابن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم ، ولو خرجتم اليهم وحدانا لأتوا عليكم مبارزة . بحرالعلوم ، مقتل الحسين عليه السلام : 397 - 398 .

ص: 192

ص: 193

ص: 194

ص: 195

ص: 196

ص: 197

ص: 198

ص: 199

ص: 200

ص: 201

ص: 202

ص: 203

ص: 204

ص: 205

المشهد الأول : مصرعه في الحملة

إنّ الحرب أدارت رحاها بحملة ميمنة الضلال على مسيرة الهدى ، فما انجلت الغبرة إلاّ ومسلم بن عوسجة صريع .

روى الطبري وابن الأثير والشيخ المفيد ، واللفظ للأول :

قال أبو مخنف حدّثني الحسين بن عقبة المرادي قال الزبيدي :

إنّه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين عليه السلام يقول : يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف الإمام .

فقال له الحسين عليه السلام :

يا عمرو بن الحجاج أعليّ تحرّض الناس ؟! أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه ؟! أما - واللّه - لتعلمنّ لو قد قبضت أرواحكم ومتّم على أعمالكم أيّنا مرق من الدين ؟ ومن هو أولى بصلي النار .

ص: 206

ثم إنّ عمرو بن الحجاج حمل على الحسين عليه السلام في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسديأول أصحاب الحسين عليه السلام .

ثم انصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه ، وارتفعت الغبرة ، فإذا هم به صريع(1) . .

وقال الطبرسي : ثم حمل عمرو بن الحجاج في أصحابه على أصحاب الحسين عليه السلام من نحو الفرات ، واضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي - رحمه اللّه - وانصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه ، وانقطعت الغبرة ، فوجدوا مسلما صريعا(2) . .

المشهد الثاني : مصرعه في المبارزة

قال السيد ابن طاووس : ثم خرج مسلم بن عوسجة ، فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء حتى سقط إلى الأرض وبه رمق(3) .

وقال ابن نما : وخرج مسلم بن عوسجة ، فبالغ في الجهاد ، وصبر على الجلاد حتى سقط وبه رمق(4) .

ص: 207


1- تاريخ الطبري : 4/331 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/67 ، الإرشاد للمفيد : 2/103 .
2- إعلام الورى للطبرسي : 1/462 .
3- اللهوف للسيد ابن طاووس : 63 .
4- مثير الأحزان لابن نما الحلي :47 .

وقال الواعظ الكاشفي في روضة الشهداء : ثم استأذن مسلم بن عوسجة الإمام الحسين عليه السلام ، فأذن له ، فتقدّم الى الميدان فقاتل قتالالإبطال ، وجال في الميدان ، وهو يرتجز ويشدو بمدح سيد الشهداء عليه السلام ، ويذكر مناقبه وفضائل أهل البيت عليهم السلام ، فبرز له رجل من أهل الخلاف والضلال ، وكان يرعد ويزمجر ، وكأنّه بحر هائج ، ورعد مدوّي ، فاستقبله مسلم بن عوسجة برمحه ، فطعنه في خاصرته اليمنى طعنة خرجت من الجانب الأيسر ، فضجّ معسكر الحسين عليه السلام ، وارتفع التكبير والتهليل يشقّ الأجواء ، ورفعوا أصواتهم بالصلاة على النبي وآله فرحاً بطعنة مسلم ، واظلمت الدنيا في عيون معسكر ابن سعد ، ونكسوا رؤوسهم الى الأرض خجلاً ممّا جرى لصاحبهم .

وبرز له رجل آخر ، فأذاقه الموت غصّة ، وتقدّم ثالث ، فتناوله مسلم برمحه حتى قتل جماعة طعنا بالرمح ، وأخرى ضربا بالسيف ، وبقي ثابتا حتى صرع . . .

المشهد الثالث : مصرعه في الحملة مبارزة

وقال أبو مخنف : لمّا التحم القتال حملت ميمنة ابن سعد على ميسرة الحسين عليه السلام ، وفي ميمنة ابن سعد عمرو بن الحجاج الزبيدي . . وكانت حملتهم من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة .

وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة ، فقاتل قتالاً شديدا لم يسمع بمثله ، فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه ، فيقول :

ص: 208

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

وإنّ بيتي في ذرى بني أسد

فمن بغاني حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى عطف عليه مسلم بن عبد اللّه الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي ، فاشتركا في قتله ، ووقعت لشدّة الجلاد غبرة عظيمة ، فلمّا انجلت إذا هم بمسلم بن عوسجة صريعا(1) . . .

الجمع بين المشاهد

اشارة

ويمكن الجمع بين كلّ هذه المشاهد وفق ما أشعر به الشيخ السماوي من وقوع الجلاد بين القتلة وبين مسلم ، وهو يقاتل لصدّ حملة ميمنة الشيطان .

فشهر سيفه ، وجرّد قناته ، وارتجز وقاتل قتال الأبطال ، وصبر على خوض الأهوال ، واقتحم بفرسه أكداس الحديد المجتمع في جيش الضلال ، ليصدّ عمرو بن الحجاج وعسكره المعتدي على بيت النبوة وخيام العزّ والجلال ، فطلب هو أو طلبه القاتلان اللعينان الى المبارزة ، فأجاب ، فاشتدّ الجلاد ، وعلت غبرة عظيمة ، فما انجلت الغبرة إلاّ وهو صريع . .

ص: 209


1- إبصار العين للسماوي : 110 .

شهادته برواية الخوارزمي

قال الخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام :ثمّ خرج مسلم بن عوسجة الأسدي وهو يقول : « الأبيات » .

ثمّ تابعه نافع بن هلال الجملي وهو يقول :

أنا على دين علي

أنا هلال الجملي

أضربكم بمنصلي

تحت عجاج القسطل

فخرج لنافع رجل من بني قطيعة ، فقال لنافع : أنا على دين عثمان .

فقال نافع : إذن أنت على دين الشيطان ، فحمل عليه فقتله .

فأخذ نافع ومسلم يجولان في ميمنة ابن سعد .

فقال عمرو بن الحجاج ، وكان على الميمنة :

ويلكم يا حمقاء مهلاً ! أتدرون من تقاتلون ؟ إنّما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرزنّ منكم أحد إلاّ قتلوه على قلّتهم ، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم .

فقال ابن سعد له : صدقت ! الرأي ما رأيت .

فأرسل في العسكر يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم ، فلو خرجتم وحدانا لأتوا عليكم مبارزة .

ثمّ دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين عليه السلام ، ثمّ صاح بقومه : يا أهل الكوفة ! الزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف إمام المسلمين .

ص: 210

فقال له الحسين عليه السلام :

يابن الحجاج ! أعليّ تحرّض الناس ؟ أنحن مرقنا عن الدينوأنتم ثبتم عليه ؟ واللّه لتعلمنّ أيّنا المارق عن الدين ، ومن هو أولى بصلي النار .

ثمّ حمل عمرو بميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو بن الحجاج ، وارتفعت الغبرة ، فإذا مسلم صريع(1) . .

تعليقة الحائري على شهادته

قال الحائري المازندراني في معالي السبطين بعد أن ذكر شهادة مسلم بن عوسجة فأثنى عليه ونوّه الى مواقفه وأشاد بها :

ولقد ذكرت في هذا المقام وصية سعد بن الربيع قومه بنصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو يناسب ما أوصى به مسلم ، وذلك :

لمّا سكن القتال يوم أحد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من له علم بسعد بن الربيع ؟

فقال رجل : أنا أطلبه .

فأشار رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى موضع فقال : اطلبه هناك ، فإنّي قد رأيته في ذلك الموضع قد شعرت حوله اثني عشر رمحا .

ص: 211


1- مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/15 .

قال : فأتيت ذلك الموضع ، فإذا هو صريع بين القتلى ، فقلت : يا سعد ! فلم يجبني .

فقلت : يا سعد ! إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد سأل عنك .

فرفع رأسه ، فانتعش كما ينتعش الفرخ ، ثم قال : إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله

لحيّ ؟!

قلت : أي واللّه ، إنّه لحيّ ، وقد أخبرني أنّه رأى حولك إثني عشر رمحا .

فقال : الحمد للّه ، صدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، قد طعنت إثنتي عشرة طعنة كلّها قد أجافتني ، أبلغ قومي الأنصار السلام وقل : واللّه ما لكم عند اللّه عذر أن تشوك رسول اللّه صلى الله عليه و آله شوكة وفيكم عين تطرف .

ثم تنفّس ، فخرج منه مثل دم الجزور ، وكان قد احتقن في جوفه ، وقضى نحبه .

ثم جئت إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأخبرته ، فقال : رحم اللّه سعدا نصرنا حيّا وأوصى بنا ميتا .

ما أشبهت وصية سعد في نصر رسول اللّه بوصية مسلم بن عوسجة

لحبيب بن مظاهر في نصرة الحسين عليه السلام . . .

ثمّ قال الحائري : . . . ولمّا قتل مسلم بن عوسجة صاحت جارية له : واسيداه ! يابن عوسجتاه ! وزينب عليهاالسلام لمّا قتل الحسين عليه السلام صاحت : واأخاه ! واسيد أهل بيتاه ! خرجت حافية حاسرة واضعة يديها على رأسها وتنادي : ليت السماء أطبقت على الأرض(1) . .

ص: 212


1- معالي السبطين للحائري : 1/375 .

تأبين الحسين له

اشارة

روى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل والسيد ابن طاووسفي اللهوف ، واللفظ للأول :

فمشى إليه الحسين عليه السلام ، فإذا به رمق ، فقال : رحمك ربّك يا مسلم ابن عوسجة « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً »(1) .

وروى الطبرسي في اعلام الورى قال : فسعى إليه الحسين عليه السلام ، فإذا به رمق ، فقال له : رحمك اللّه يا مسلم « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً »(2) .

أولاً :

كان الإمام سيد الشهداء الحسين عليه السلام يقرأ هذه الآية المباركة كلّما ودّعه واحد من أصحابه وأنصاره .

روى المجلسي في البحار قال : وكان كلّ من أراد الخروج ودّع الحسين عليه السلام وقال : السلام عليك يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فيجيبه : وعليك السلام ونحن خلفك ويقرأ عليه السلام الآية(3) .

ص: 213


1- تاريخ الطبري : 4/331 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/67 ، اللهوف للسيد ابن طاووس : 63 .
2- إعلام الورى للطبرسي : 1/462 .
3- بحار الأنوار : 45/14 .

وعلى هذا :

إمّا أن يكون مسلم بن عوسجة قد نال هذا الشرف مرّتين ، مرّة عندماودّع الإمام عليه السلام ، ومرّة عندما سعى الإمام اليه ليودّعه .

وأمّا أن يكون مسلم بن عوسجة قد صرع أثناء الحملة ، فلم يسعه الوقت أن يودّع الإمام عليه السلام ، فسعى اليه ريحانة الرسول والإمام الرؤوف فتلا عنده الآية .

ثانيا :

الآية التي كان يتلوها الإمام سيد الشهداء عليه السلام جاءت في سياق خاصّ في القرآن الكريم امتاز بأجواء رسمتها الأحداث والوقائع والإيقاعات التي سبقتها أو لحقتها من الآيات المحيطة بها ، ولكي لا نذهب بعيدا سوف نتلوها مع بعض الآيات السابقة واللاحقة ، ولك أن تتأمّل فيها ، وتعيش الصورة التي كان سيد الشهداء عليه السلام يذكّر بها أصحابه .

قال اللّه تعالى :

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً .

وَلَمَّا رَأَ الْمُؤمِنُونَ الأَْحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً .

ص: 214

مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْقَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً(1) .

ص: 215


1- الكافي: 8/33 ح6 والاختصاص للمفيد: 104 واللفظ للأول: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَعَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَصِيرٍ وَقَدْ خَفَرَهُ النَّفَسُ . فَلَمَّا أَخَذَ مَجْلِسَهُ قَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، مَا هَذَا النَّفَسُ الْعَالِي؟ فَقَالَ : جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ ، كَبِرَ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي وَاقْتَرَبَ أَجَلِي مَعَ أَنَّنِي لَسْتُ أَدْرِي مَا أَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ آخِرَتِي ! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، وَإِنَّكَ لَتَقُولُ هَذَا ؟! فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُكْرِمُ الشَّبَابَ مِنْكُمْ وَيَسْتَحْيِي مِنَ الْكُهُولِ . قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَكَيْفَ يُكْرِمُ الشَّبَابَ وَيَسْتَحْيِي مِنَ الْكُهُولِ ؟ فَقَالَ : يُكْرِمُ اللَّهُ الشَّبَابَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَيَسْتَحْيِي مِنَ الْكُهُولِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ . قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، هَذَا لَنَا خَاصَّةً أَمْ لأهْلِ التَّوْحِيدِ ؟ قَالَ : فَقَالَ : لا وَاللَّهِ إِلاّ لَكُمْ خَاصَّةً دُونَ الْعَالَمِ . قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَإِنَّا قَدْ نُبِزْنَا نَبْزاً انْكَسَرَتْ لَهُ ظُهُورُنَا وَمَاتَتْ لَهُ أَفْئِدَتُنَا وَاسْتَحَلَّتْ لَهُ الْوُلاةُ دِمَاءَنَا فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ لَهُمْ فُقَهَاؤهُمْ . قَالَ : فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام الرَّافِضَةُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : لا وَاللَّهِ مَا هُمْ سَمَّوْكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَمَّاكُمْ بِهِ ، أَمَا عَلِمْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنَّ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَفَضُوا فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمَّا اسْتَبَانَ لَهُمْ ضَلالُهُمْ فَلَحِقُوا بِمُوسَى عليه السلام لَمَّا اسْتَبَانَ لَهُمْ هُدَاهُ فَسُمُّوا فِي عَسْكَرِ مُوسَى الرَّافِضَةَ لأَنَّهُمْ رَفَضُوا فِرْعَوْنَ وَكَانُوا أَشَدَّ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَسْكَرِ عِبَادَةً وَأَشَدَّهُمْ حُبّاً لِمُوسَى وَهَارُونَ وَذُرِّيَّتِهِمَا عليهماالسلام فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى مُوسَى عليه السلام أَنْ أَثْبِتْ لَهُمْ هَذَا الاسْمَ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنِّي قَدْ سَمَّيْتُهُمْ بِهِ وَنَحَلْتُهُمْ إِيَّاهُ فَأَثْبَتَ مُوسَى عليه السلام الاسْمَ لَهُمْ ثُمَّ ذَخَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَكُمْ هَذَا الاسْمَ حَتَّى نَحَلَكُمُوهُ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ رَفَضُوا الْخَيْرَ وَرَفَضْتُمُ الشَّرَّ ، افْتَرَقَ النَّاسُ كُلَّ فِرْقَةٍ وَتَشَعَّبُوا كُلَّ شُعْبَةٍ ، فَانْشَعَبْتُمْ مَعَ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ عليه السلام ، وَذَهَبْتُمْ حَيْثُ ذَهَبُوا ، وَاخْتَرْتُمْ مَنِ اخْتَارَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَأَرَدْتُمْ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ . فَأَبْشِرُوا ثُمَّ أَبْشِرُوا فَأَنْتُمْ ، وَاللَّهِ الْمَرْحُومُونَ الْمُتَقَبَّلُ مِنْ مُحْسِنِكُمْ ، وَالْمُتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِكُمْ مَنْ لَمْ يَأْتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ حَسَنَةٌ ، وَلَمْ يُتَجَاوَزْ لَهُ عَنْ سَيِّئَةٍ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي ! فَقَالَ: يَا أَبَامُحَمَّدٍ إِنَّ لِلَّهِ عَزَّوَجَلَّ مَلائِكَةً يُسْقِطُونَ الذُّنُوبَ عَنْ ظُهُورِ شِيعَتِنَا كَمَا يُسْقِطُ الرِّيحُ الْوَرَقَ فِي أَوَانِ سُقُوطِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » اسْتِغْفَارُهُمْ وَاللَّهِ لَكُمْ دُونَ هَذَا الْخَلْقِ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . قَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، لَقَدْ ذَكَرَكُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ « مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلا » . إِنَّكُمْ وَفَيْتُمْ بِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِيثَاقَكُمْ مِنْ وَلايَتِنَا وَ إِنَّكُمْ لَمْ تُبَدِّلُوا بِنَا غَيْرَنَا وَلَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَعَيَّرَكُمُ اللَّهُ كَمَا عَيَّرَهُمْ حَيْثُ يَقُولُ جَلَّ ذِكْرُهُ « وَما وَجَدْنا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ » . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، لَقَدْ ذَكَرَكُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ « إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ »وَاللَّهِ مَا أَرَادَ بِهَذَا غَيْرَكُمْ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ « الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ » وَاللَّهِ مَا أَرَادَ بِهَذَا غَيْرَكُمْ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، لَقَدْ ذَكَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشِيعَتَنَا وَعَدُوَّنَا فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبابِ » فَنَحْنُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَعَدُوُّنَا الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وَشِيعَتُنَا هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، وَاللَّهِ مَا اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَحَدٍ مِنْ أَوْصِيَاءِ الأَنْبِيَاءِ وَلا أَتْبَاعِهِمْ مَا خَلا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام وَشِيعَتَهُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ « يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ » يَعْنِي بِذَلِكَ عَلِيّاً عليه السلام وَشِيعَتَهُ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . قَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَقَدْ ذَكَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ إِذْ يَقُولُ « يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ »وَاللَّهِ مَا أَرَادَ بِهَذَا غَيْرَكُمْ . فَهَلْ سَرَرْتُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، لَقَدْ ذَكَرَكُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ »وَاللَّهِ مَا أَرَادَ بِهَذَا إِلاّ الأَئِمَّةَ عليهم السلام وَشِيعَتَهُمْ . فَهَلْ سَرَرْتُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، لَقَدْ ذَكَرَكُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ « فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آلهفِي الآيَةِ النَّبِيُّونَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَأَنْتُمُ الصَّالِحُونَ ، فَتَسَمَّوْا بِالصَّلاحِ كَمَا سَمَّاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . قَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، لَقَدْ ذَكَرَكُمُ اللَّهُ إِذْ حَكَى عَنْ عَدُوِّكُمْ فِي النَّارِ بِقَوْلِهِ « وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصارُ » وَاللَّهِ مَا عَنَى وَلا أَرَادَ بِهَذَا غَيْرَكُمْ ، صِرْتُمْ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْعَالَمِ شِرَارَ النَّاسِ وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ فِي الْجَنَّةِ تُحْبَرُونَ وَفِي النَّارِ تُطْلَبُونَ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . قَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ تَقُودُ إِلَى الْجَنَّةِ وَلا تَذْكُرُ أَهْلَهَا بِخَيْرٍ إِلاّ وَهِيَ فِينَا وَفِي شِيعَتِنَا . وَمَا مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ تَذْكُرُ أَهْلَهَا بِشَرٍّ وَلا تَسُوقُ إِلَى النَّارِ إِلاّ وَهِيَ فِي عَدُوِّنَا وَمَنْ خَالَفَنَا . فَهَلْ سَرَرْتُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ زِدْنِي . فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَيْسَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ نَحْنُ وَشِيعَتُنَا وَسَائِرُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ . يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ سَرَرْتُكَ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : فَقَالَ : حَسْبِي .

ص: 216

ص: 217

ص: 218

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْيَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً .

وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً .

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً .

وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً .

ثالثا :

سمعنا العبارة المشهورة بين المؤرخين : « فمشى اليه الحسين عليه السلام » ، أو « فسعى اليه الحسين عليه السلام » ، وكلاهما بفاء التفريع ، وكأنّ إمام الأوفياء بادر الى مسلم بن عوسجة فور انكشاف الغبرة ، أو فور مصرعه وسقوطه الى الأرض .

ثم إنّ التعبير ب-« مشى » ، و« سعى » يفيد أنّه عليه السلام تعمّد القصد اليه ، والتوجه نحوه ، فقصده قصدا ، واعتنى به عناية خاصة ، والتفت اليه التفاتة مميّزة ، وخطى باتجاهه لا يقصد شيئا آخر غيره . . .

ص: 219

قال الشيخ السماوي في إبصار العين :

مشى الحسين عليه السلام يوم الطف إلى سبعة نفر من أحبّته وأنصاره بعد ما قتلوا وهم :

مسلم بن عوسجة ، فإنّه لمّا قتل مشى إليه ومعه حبيب بنمظهر ، وقال له : « رحمك اللّه يا مسلم . . » .

والحر بن يزيد ، فإنّه لمّا قتل مشى إليه ، وقال : « أنت كما سمّتك أمّك . . » .

وواضح الرومي أو أسلم التركي ، فإنّه لمّا قتل مشى إليه واعتنقه ، ووضع خدّه الشريف على خدّه .

وجون بن حوى ، فإنّه لمّا قتل مشى إليه وقال : « اللّهم بيّض وجهه . . » إلى آخر ما قال .

والعباس بن علي عليهماالسلام فإنّه لمّا قتل مشى إليه وجلس عنده ، وقال له : « الآن انكسر ظهري . . » إلى آخر كلامه .

وعلي بن الحسين عليهماالسلام فإنّه لمّا قتل مشى إليه ووقف عليه ، وقال فيما قال : « على الدنيا بعدك العفا . . » .

والقاسم بن الحسن عليهماالسلام فإنّه لمّا قتل مشى إليه ووقف عليه ، وقال : « بعدا لقوم قتلوك . . » إلى آخر ما قال(1) .

ص: 220


1- إبصار العين للسماوي : 226 .
رابعاً :
اشارة

إنّ « مشي » إمام الكون وسيد شباب أهل الجنة والسبط المحبوب الحسين عليه السلام نحو مسلم بن عوسجة له دلالات ومعانٍ ، وآثار كثيرة ، يعرفها الإمام عليه السلام ، ولكنّنا ربما نستكشف شيئا من ذلك لا على نحو الجزم ،وإنّما على نحو الإحتمال والتقدير ، واللّه ورسوله ووصي رسوله أعلم بمعنى ما صنع سيد الشهداء عليه السلام في تلك الساعة ، فربما كان :

التقدير الأول :

ربما كان « مشي » إمام الوفاء الى مسلم بن عوسجة إكراما لموقفه وثباته ، وإ شادة بشجاعته ووفائه ، وشكرا لسعيه ، وتعظيما لمقامه ومنزلته عند المعصوم ، فليس سواء من يقصده الإمام ، ويسعى اليه ، ويمشي له على قدميه الشريفتين ، ومن لا يكون كذلك .

وقد رأينا الإمام سيد الشهداء عليه السلام يشكر لأنصاره مواقفهم رغم أنّهم يقومون بالواجب معه .

وربما أيّد هذا التقدير قول المولى صاحب الأمر والآخذ بالثأر الحجة بن الحسن العسكري عليهماالسلام في زيارة الناحية المقدّسة مخاطبا مسلم بن عوسجة :

شكر اللّه لك استقدامك ومواساتك إمامك ، إذ مشى إليك وأنت صريع فقال : يرحمك اللّه يا مسلم بن عوسجة . . .

فقد خاطب الإمام مسلما فقال : « شكر اللّه لك . . إذ مشى إليك » .

ص: 221

التقدير الثاني :

وربما كان مشي الحبيب الى حبيبه ، والإمام الى رعيته ، ليودّعه الوداع الأخير ، ويلقي عليه النظرة الأخيرة ، فقد ودّع بالأمس سيد شباب أهل الجنة جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأمّه فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، إذ دعاه الإمامأمير المؤمنين عليه السلام مع أخيه وأخواته وفضة للتزوّد من أمّهم وتوديعها قبل أن يعقد عليها الرداء .

فلعلّ الوداع ، وما يعبر عنه اليوم ب-« القاء النظرة الأخيرة » من الآداب الشرعية التي فعلها المعصوم عليه السلام ، ومنها هذا الموقف .

التقدير الثالث :

روى لنا التاريخ - كما مرّ قبل قليل - أنّ الأنصار كانوا يزورون سيد الشهداء الحسين عليه السلام قبل الخروج الى الميدان ، فيقفون أمامه ويخاطبونه : السلام عليك يا ابن رسول اللّه ، وهذا الخطاب ، وإن كان خطاب وداع إلاّ أنّه قد يعدّ أيضا زيارة أخيرة للمولى الغريب .

وقد روي عن سيد الشهداء أنّه قال : من زارني زرته(1) ، فوقوف الحسين عليه السلام عليه ومشيه اليه هو ردّ للزياة أو الزيارات التي زارها مسلم بن عوسجة قبل مصرعه .

التقدير الرابع :

تظافرت الروايات وجازت حدّ الاستفاضة الى التواتر المعنوي

ص: 222


1- انظر الدروع الواقية للسيد ابن طاووس : 75 .

المتوافق على أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، والأئمة المعصومين عليهم السلام يحضرون عند المحتضر ، وأنّه يراهم المؤمن حيث يحبّ ، ويراهم المنافق حيث يكره ، وقال في ذلك أمير المؤمنين مخاطباالحارث الهمداني :

يا حار همدان من يمت يرني

من مؤمن أو منافق قبلا(1)

وهذا ممّا لا يشكّ فيه شيعي من أتباع مذهب أهل بيت الرسالة ، وقد صار من ضروريات مذهبهم وبديهياتهم(2) .

وروى ابن شهرآشوب في المناقب والمجلسي في البحار خبر شطيطة المؤمنة العارفة مفصلاً ، وفيه قول الإمام موسى بن جعفر عليهماالسلام : إنّي ومن يجري مجراي من الأئمة عليهم السلام لابدّ لنا من حضور جنائزكم في أيّ بلد كنتم ، فاتقوا اللّه في أنفسكم(3) .

وروى أيضا ابن شهرآشوب في المناقب ، والمجلسي في البحار :

عن موسى بن سيار قال : كنت مع الرضا عليه السلام وقد أشرف على حيطان طوس ، وسمعت واعية فاتبعتها ، فإذا نحن بجنازة .

ص: 223


1- رسائل المرتضى : 3/133 ، أمالي الطوسي : 627 ، الخرائج لراوندي : 2/812 ، المحتضر للحلي :13 .
2- انظر للتفصيل كتاب المحتضر للحسن بن سليمان الحلي تحقيق سيد علي جمال أشرف .
3- المناقب لابن شهرآشوب : 4/291 ، بحار الأنوار : 48/73 باب 4 .

فلمّا بصرت بها رأيت سيدي وقد ثنى رجله عن فرسه ، ثم أقبل نحو الجنازة فرفعها ، ثم أقبل يلوذ بها كما تلوذ السخلة بأمّها .

ثم أقبل عليّ وقال : يا موسى بن سيار ، من شيّع جنازة وليّ من أوليائنا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه لا ذنب عليه .

حتى إذا وضع الرجل على شفير قبره رأيت سيدي قد أقبل ، فأفرج الناس عن الجنازة حتى بدا له الميت ، فوضع يده على صدره ، ثم قال : يا فلان بن فلان ، أبشر بالجنة فلا خوف عليك بعد هذه الساعة .

فقلت : جعلت فداك ، هل تعرف الرجل ؟! فو اللّه إنّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا .

فقال لي : يا موسى بن سيار ، أما علمت أنّا معاشر الأئمة تعرض علينا أعمال شيعتنا صباحا ومساءا ، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا اللّه - تعالى - الصفح لصاحبه ، وما كان من العلو سألنا اللّه الشكر لصاحبه(1) .

بناءا على ما مرّ يتبيّن أنّ الإمام المعصوم ( إمام الزمان ) في كلّ عصر يحضر عند المحتضر ، وقد تضافرت الروايات أنّ المؤمن الشيعي إذا مات حيث كان وأينما كان حضر عنده إمام زمانه عند موته ، وقد حضر الحسين عليه السلام عند مسلم بن عوسجة من باب حضور الإمام عند شيعته وقت الاحتضار .

ص: 224


1- المناقب لابن شهرآشوب : 4/341 ، بحار الأنوار : 98/49 باب 7ح13 .
خامساً :

وقف عليه الإمام ريحانة الرسول صلى الله عليه و آله وقرّة عين الزهراء البتول عليهاالسلام وخاطبه قائلاً : رحمك ربّك . . .

خطاب مباشر بكاف الخطاب « رحمك » ، وأضافه الى الربّ « ربك » ، والربّ يرحم المربوب ، ويهتمّ به . . .

ثم إنّه خاطبه بالاسم ، « يا مسلم بن عوسجة » رحمك اللّه ، زيادة في التشريف أن يجري اسمه على لسان سيد شباب أهل الجنة ، ويدور في لهوات الإمام العطشان الذي تشقّقت شفتاه من الظمأ . . .

مشى قاصدا نحوه . . ميمما وجهه صوبه . . سعى ماشيا على قدميه اليه . . خاطبه بلفظ الخطاب . . ونصّ على اسمه بين الأسماء . . ونسبه الى الربّ . . ودعا له أن تغمره رحمة اللّه ، وهو لا تردّ له دعوة . .

وبعد كلّ هذا جعله فرطه الى الجنة . . « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً » . .

سادساً :

في مثير الأحزان لابن نما الحلي : « فرقّ له الحسين عليه السلام وقال رحمك اللّه يا مسلم(1) . .

وفي تعبير السيد هذا من الحزن والشجن والألم والرحمة والرأفة والتوجّع ما لا يعلمه إلاّ اللّه ، فمسلم بن عوسجة شيخ كبير ، مسجى على

ص: 225


1- مثير الأحزان لابن نما : 47 .

الأرض ، تريب الخدّ ، عفير المحيا ، جراحاته تشخب دما ، وأنفاسه تتردّدفي صدره ، وقد ضعفت قواه ، وتقبضت أعضاؤه ، يمدّ يمنيا ، ويكمش شمالاً ، يراوح بين جنة الآخرة ، وجنة النظر الى وجه الحسين عليه السلام ، يجرّه كأس الجنة المذخور لينقذه من الظمأ الذي هو فيه ، ويشدّه الى الدنيا مواساته لعطش إمامه ، وهو ينهل من نمير رأفة الحسين عليه السلام

ومحبّته وعطفه . . .

شيخ كبير . . مرمّل بدمه ، مزمّل بعطشه ، يرمقه الحسين عليه السلام - رحمة اللّه الواسعة - بعينه ويرقّ له . . « فرقّ له الحسين عليه السلام . . وقال : رحمك اللّه يا مسلم » . .

يبدو أنّ مسلما كان في وضع بدني حرج . . أخذته الجراحات . . وكظّه الظمأ ، فرقّ له الحسين عليه السلام ، ودعا أن تدركه رحمة الربّ ، وتغمره رحمة اللّه . .

وصيته بالحسين عليه السلام

اشارة

روى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل ، واللفظ للأول :

فمشى إليه الحسين عليه السلام فإذا به رمق ، فقال : رحمك ربّك يا مسلم ابن عوسجة « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً » .

ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال : عزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة .

ص: 226

فقال له مسلم قولاً ضعيفا : بشّرك اللّه بخير .

فقال له حبيب : لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك حتى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين .

قال : بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللّه - وأهوى بيده إلى الحسين عليه السلام - أن تموت دونه .

قال : أفعل وربّ الكعبة .

قال : فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم(1) .

* * *

أولاً : لماذا حضر حبيب مع سيد الشهداء الحسين عليه السلام ؟
اشارة

بحضور سيد شباب أهل الجنة عليه السلام دار الحوار بين حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة .

ويبدو من مجريات الأحداث أنّ شهادة ابن عوسجة كانت في وقت مبكّر من يوم الطفّ ، ومعنى ذلك أنّ الكثير من كبار رجال الحسين عليه السلام كان لا زال قابضا على سيفه ، شارعا رمحه ، متأهّبا للقتال ، فلماذا حضر حبيب برفقة سيد الشهداء عليه السلام عند مسلم بن عوسجة من دون بقية الأنصار ؟

ص: 227


1- تاريخ الطبري : 4/331 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/67 .

ربما كان الجواب على ذلك في أحدى التصورات التالية :

التصوّر الأول :

من البديهي أن يهتم حامل الراية الوفي بمن يقاتل تحت رايته ، بالخصوص إذا كان المقاتل من مثل مسلم بن عوسجة ، وكان حبيب بن مظاهر حامل راية الميسرة في معسكر الحسين عليه السلام ، وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة(1) ، فلمّا صرع ابن عوسجة سارع اليه حبيب مع سيده الإمام الحسين عليه السلام الرؤوف .

التصوّر الثاني :

باعتبار أنّ حبيب كان عميد أنصار الحسين عليه السلام عموما وشيخهم وكبيرهم ، وممثلهم في معسكر الحقّ .

التصوّر الثالث :

باعتبار أنّ حبيب عميد الأسديين على الخصوص في معسكر الحسين عليه السلام ، وابن عوسجة من وجوه الأسديين في الكوفة ، فحضوره باعتبار القرابة .

التصوّر الرابع :

أن تكون كلّ التصوّرات المذكورة ، وتصوّرات أخرى لم نذكرها مجتمعة ، رسمت لنا هذا المشهد في يوم الحسين عليه السلام في كربلاء .

ص: 228


1- إبصار العين للسماوي : 110 ، مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف : 133 ، معالي السبطين : 2/19 .
ثانيا :

الحوار دار بين حبيب وبين مسلم بن عوسجة في حضور المعصوم ، وبسمعه وبصره ، وقد أمضاه المعصوم إمضاءا تامّا ، وفي ذلك دلالات لا تخفى على الشيعي المؤمن اللبيب .

ثالثا :

تعبير المؤرخين : دنا منه حبيب وأجابه مسلم بصوت ضعيف ، كاشف عن أنّ مسلما كان قد أخذت منه الجراحات مأخذها بحيث أضعفت قواه البدنية ممّا اضطر حبيب أن يدنو منه ، ويقرّب نفسه من سمعه ، ليسمع مسلما ، ويسمع من مسلم كلامه ، وكأنّ حبيبا قد انحنى على مسلم إنحناء عطف ومودّة ووداع .

رابعا : مضامين كلام حبيب
اشارة

يمكن اختصار مضامين كلام حبيب بن مظاهر مع مسلم بن عوسجة في عدّة نقاط :

النقطة الأولى :

أبّنه وأعرب له عن مدى حبّه له ، وأنّه في موقف عزّ عليه أن يقفه فقال : « عزّ عليّ مصرعك يا مسلم » .

النقطة الثانية :

بشّره بالجنة ، وكانت بشارته له بحضور المولى صاحب الزمان وسيد الشهداء الحسين عليه السلام وإمضائه .

ص: 229

النقطة الثالثة :

واساه في المصرع ، وأخبره أنّه ليس هو الوحيد في هذه الحال ، وإنّما هي حال يتمنّاه كلّ أنصار الحسين عليه السلام ، وهم على الأثر ، وسرعان ما يلتحقون به ، وليس الأمر إلاّ ساعة « لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه » .

النقطة الرابعة :

مع أنّه يعلم أنّه في الأثر إلاّ أنّه أصحر له عمّا في قلبه ، حيث كان يودّ لو كان بأمكانه أن يكون وصيّا ، فينفذ وصيته ، ليحفظه في القرابة والدين .

« لأحببت أن توصيني بكلّ ما أهمّك حتى أحفظك في كلّ ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين » .

فهو إذن يرتبط بمسلم برباطين مقدّسين : رباط القرابة ، ورباط الدين ، يحفظه لإخوته الدينية ، وقرابته النسبية .

خامسا : وصيّة مسلم

لم يخيّب مسلم بن عوسجة أمل حبيب ، وحقّق له رغبته في أن يكون وصيّا ، ولكنّه لم يوصه بأهله ولا ماله ، لم يوصه بعياله مع أنّهم كانوا في المخيم عرضة لهجوم الأعداء بعد ساعة ، وإنّما أوصاه وصية يعلم أنّ حبيبا قادر على تنفيذها ، ويعلم أنّ حبيبا قد أعدّ لها عدّته ، وتسابق اليها وسارع ، أوصاه بالحسين عليه السلام . .

ص: 230

« بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللّه - وأهوى بيده إلى الحسين عليه السلام -أن تموت دونه » .

سأله حبيب أن يوصي « بكلّ ما أهمّه » ، فكان « كلّ » ما يهمّ ابن عوسجة في تلك الساعة إنّما هو الحسين عليه السلام . . الحسين فقط . .

وقد أكدّ لفظ الإشارة « أوصيك بهذا » بالإشارة باليد « وأهوى بيده الى الحسين عليه السلام » .

وكأنّ لفظ « أهوى » يوحي أنّه كان في لحظاته الأخيرة ، بحيث لم يطق حمل يده ، أهوى بها . . ولم يرفعها ، ويؤكد ذلك أنّه قضى نحبه وهو يخاطبهم ، كما عبرت الرواية « فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم » .

« مات في أيديهم » . . وكأنّه كان بين أبي الشهداء وسيد شباب أهل الجنة عليه السلام وحبيب ، وقد احتضنوه بأيديهم ، ف-« مات في أيديهم » . . .

سادسا :

روى الواعظ الكاشفي( ت 910 ) في « روضة الشهداء » بعد أن ذكر مصرع مسلم بن عوسجة ، ومسارعة الحسين عليه السلام وحبيب اليه ، وما دار بينهم من كلام ووصيّة ، ثم قال :

فودّعهم مسلم والتفت الى الإمام الحسين عليه السلام وقال:ياابن رسول اللّه، أنا فرطك الى جدّك رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وسأبشّره بقدومك

عليه عمّا قريب ، ثم أغمض عينيه وسلّم روحه الى بارئه(1) . .

ص: 231


1- روضة الشهداء للكاشفي : 370 .

شهادة شبث

روى الطبري قال : فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم ، وصاحت جارية له ، فقالت : يا ابن عوسجتاه ! يا سيداه ! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه :

ثكلتكم أمّهاتكم ، إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّلون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ؟!

أما - والذي أسلمت له - لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم « سلق آذربيجان » قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين .

أفيقتل منكم مثله وتفرحون(1) ؟!!

وفي مقتل الحسين

عليه السلام للخورزمي : بعد أن روى خبر مصرعه وخروج جاريته :

فنادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة ، فقال شبث(2) . . .

* * *

ص: 232


1- تاريخ الطبري : 4/332 ، الكامل في التاريخ : 4/68 .
2- مقتل الحسين عليه السلام للخورزمي : 2/15 .

وردت شهادة شبث الخبيث في كلّ المراجع والمصادر التي ذكرت شهادة مسلم بن عوسجة ، فقد أثار هذا الوغد ما رآه من السرور والفرح الذي غمر معسكر الضلال ، ففي بعض المصادر « فتنادى » ، وفي بعضها « فنادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين » ، وفي بعضها « فسرّ أصحاب عمر بن سعد » . .

فما هذا السرور والاستبشار والتنادي الذي بادر اليه المعسكر لولا أنّهم يرون في قتله فتحا لهم ، وتضعيفا لمعسكر الحسين عليه السلام .

الظاهر من سرورهم واستبشارهم ومبادرة سيد شباب أهل الجنة عليه السلام للوقوف عليه ، أنّ شهادته أثرت أثرا بليغا في الميدان على الجبهتين . . .

* * *

ولا يخفى أنّ هذا الوغد المتقلّب الوضيع شبث بن ربعي نفخ أنفه ، وصرخ فيهم هذه الصرخة ، ليجري اللّه الحقّ على لسان الباطل « والفضل ما شهدت به الأعداء » ، وإلاّ فهو من المباشرين في قتال سيد شباب أهل الجنة عليه السلام وريحانة الرسول صلى الله عليه و آله وقرّة عين الزهراء البتول عليهاالسلام ، وكان على رجال عسكر الأمويين ، وكان ممّن فرح بقتل الحسين عليه السلام ، وشمت بقتله ، فجدّد مسجده في الكوفة فرحا بقتل زين السماوات والأرض .

ص: 233

روى الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب ، والّلفظ للثاني :

عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ : جُدِّدَتْ أَرْبَعَةُ مَسَاجِدَ بِالْكُوفَةِ فَرَحا لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ عليه السلام :

مَسْجِدُ الأَشْعَثِ ، وَمَسْجِدُ جَرِيرٍ ، وَمَسْجِدُ سِمَاكٍ ، وَمَسْجِدُ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ(1) .

أول قتيل

اشارة

ورد في زيارة الناحية المقدّسة أنّ المولى صاحب الأمر ، والآخذ بالثأر خاطب مسلم بن عوسجة قائلاً :

وكنت أول من شرى نفسه ، وأول شهيد من شهداء اللّه (2) قضى نحبه ، ففزت وربّ الكعبة ، شكر اللّه لك استقدامك ومواساتك إمامك . .

وروى الطبري عن أبي مخنف والشيخ المفيد ، والّلفظ للأول :

ثم إنّ عمرو بن الحجاج حمل على الحسين عليه السلام في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين(3) عليه السلام .

ص: 234


1- الكافي : 3/490 ح2 ، تهذيب الأحكام للطوسي : 3/250 ح7 .
2- في الإقبال : « وأول شهيد شهد اللّه وقضى نحبه » .
3- تاريخ الطبري : 4/331 .

وقال ابن كثير : وقد قتل في هذه الحملة مسلم بن عوسجة ، وكان أول من قتل من أصحاب الحسين(1) . .

وقال ابن الدمشقي في جواهر المطالب :

وصار الرجل من أصحاب الحسين عليه السلام يخرج ، وهو يقول : من يبارز ؟ فيخرج إليه رجل من أصحاب عمر بن سعد فيقتل ، إلى أن قتل من أصحاب ابن سعد جماعة .

فقال عمرو بن الحجاج : يا حمقى ! أتدرون من تقاتلون ؟ هؤلاء فرسان المصر ، وهم مستقتلون !

فقال عمر بن سعد : صدقت ، ثم حمل ابن سعد ، وحمل الناس من كلّ جانب .

فكان أول من قتل من أصحاب الحسين عليه السلام مسلم بن عوسجة رحمه اللّه (2) .

وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة :

وروى الطبري عن أبي مخنف بسنده أنّه لمّا صرع مسلم بن عوسجة الأسدي - أول أصحاب الحسين عليه السلام - مشى اليه الحسين عليه السلام وحبيب بن مظاهر(3) .

ص: 235


1- البداية والنهاية لابن كثير : 8/197 .
2- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه السلام لابن الدمشقي : 2/286 .
3- أعيان الشيعة للسيد الأمين : 4/555 .

وقال الحر للحسين عليه السلام : فإذا كنت أول من خرج عليك ، فائذن لي أن أكون أول قتيل يقتل بين يديك ، لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك محمدا - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - غدا في القيامة ، هكذا في بعض الروايات .

ولا يخفى أنّ مقتضى بعض الروايات أنّه قتل جماعة قبل الحر ، وهو المستفاد من تاريخ ابن الأثير ، فلذلك حمل قوله : أول قتيل بين يديك ، على أنّ المراد أول قتيل من المبارزين .

ويمكن كون الحر أول المقتولين ، وعدم صحّة ما دلّ على خلاف ذلك !! كما لعلّه يفهم من إرشاد المفيد ، فإنّه لم يذكر أنّ أحدا تقدّم الحر في القتل سوى ابن عوسجة صرع قبله(1) .

وقال الشيخ شمس الدين في أنصار الحسين عليه السلام :

مسلم بن عوسجة الأسدي : ذكرته جميع المصادر ، هو أول قتيل من أنصار الحسين عليه السلام بعد قتلى الحملة الأولى(2) .

تلخيص الأقوال

ويمكن تلخيص الأقوال في ذلك الى ما يلي :القول الأول : أنّه أوّل قتيل من الأنصار مطلقا .

ص: 236


1- أعيان الشيعة للسيد الأمين : 4/613 .
2- أنصار الحسين عليه السلام لمحمد مهدي شمس الدين : 108 .

وربما صوّر ذلك بأن يقال : إنّ هتاف عمرو بن الحجاج كان بعد أن تقدّم أصحاب الحسين عليه السلام للقتال مبارزة ، فقتلوا جماعة كبيرة من دون أن يقتل أحد منهم ، فنهى الزبيدي أصحابه عن المبارزة .

ولا دلالة في تعبير الزبيدي على استشهاد أنصار الحسين عليه السلام ، بل لعلّ في تعبيره ما يدلّ على أنّهم قتلوا ، ولم يقتل منهم أحد ، فكان الحر وغيره من الأنصار بارز ، فقتل من الأعداء دون أن يقتل .

وربما كانت حملة ميمنة الشيطان على ميسرة الحسين عليه السلام إمام الإنس والجان ، هي أول حملة كانت على معسكر سيد الشهداء عليه السلام ، فيكون مسلم بن عوسجة حينئذٍ أول من صرع واستشهد ، ثم انطلقت الحرب « وحمل القوم على الحسين عليه السلام من كلّ جانب »(1) .

القول الثاني : أنّه أوّل قتيل من الأنصار مبارزة .

القول الثالث : أنّه أوّل قتيل بعد الحر بن يزيد الرياحي .

القول الرابع : أنّه أوّل قتيل من الأنصار في الحملة الأولى .

القول الخامس : أنّه أوّل قتيل من الأنصار بعد الحملة الأولى .

* * *

وكيف كان ، فنحن نقدّم قول المعصوم عليه السلام ونبني عليه ، وكلّ ما خالفه ،فلابدّ من تأويله بما يوافق قول الحجّة الصادق الأمين ، وهو أعرف بما جرى على جدّه ، والمخبر عن اللّه « وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً » .

ص: 237


1- تاريخ الطبري : 4/332 .

فلا شكّ ولا ترديد أنّ مسلم بن عوسجة كان أوّل قتيل « وأوّل من شرى نفسه ، وأوّل شهيد من شهداء اللّه » ، وقد استقدم ، وقد ورد ذلك في الزيارة مطلقا ، فكلّ قول أو تصوير وافق كلام المعصوم فهو الصحيح ، وكلّ ما خالفه من أقوال المؤرخين والرواة ، فهو إمّا مؤول أو مطروح . .

خروج جاريته

قال الطبري : فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم ، وصاحت جارية له ، فقالت : يا ابن عوسجتاه ! يا سيداه ! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج : قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي(1) .

وقال ابن الأثير : وصاحت جارية له ، فقالت : يا بن عوسجة ! فنادي أصحاب عمرو : قتلنا مسلما(2) .

وقال الشيخ السماوي : برزت بين الأعداء يوم الطفّ من مخيّم الحسين عليه السلام خمس نسوة ، وهن :

جارية مسلم بن عوسجة ، صرع ، فخرجت صائحة :واسيداه !

وأمّ وهب زوجة عبد اللّه الكلبي ، خرجت معه لتقاتل ، وبعد قتله ، فقتلت .

ص: 238


1- تاريخ الطبري : 4/332 .
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/68 .

وأمّ عبد اللّه هذا خرجت معه تشجّعه ، وبعد قتله لتؤبنه وتقاتل .

وأمّ عمرو بن جنادة خرجت بعد قتله تقاتل .

وزينب الكبرى خرجت بعد قتل علي بن الحسين عليهماالسلام تنادي صارخة : يا حبيباه ! يا بن أخياه ! وجاءت حتى انكبت عليه ، فجاء إليها الحسين عليه السلام وردّها(1) .

وقد تظافرت النصوص على أنّ القوم تنادوا واستبشروا بعد أن خرجت جارية مسلم بن عوسجة صارخة نادبة ، كما أفاد السماوي في إبصار العين :

« فلمّا قتل صاحت جارية له : واسيداه ! وا مسلم بن عوسجتاه ! فعلم القوم قتله(2) » .

وهذا يعني أنّ الجارية قد برزت لشدّة المصاب ، وعظيم ما بها من ألم الحزن والالتهاب ، وأنّ صرختها كانت عظيمة حتى سمعها العسكرين ، واخترقت الأجواء في كربلاء ، فيا لها من مصيبة تضعضت لها ساقالحرب ، ففرح لها الأعداء ، وحزن لها الأولياء .

والجارية تطلق على الأمة ، كما تطلق على الفتاة الشابة ، فهل كانت هذه الجارية أمة لمسلم ؟ أم بنتا له ؟ اللّه العالم .

ص: 239


1- إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام للسماوي : 228 .
2- إبصار العين للسماوي : 221 .

الى أين خرجت هذه الجارية نادبة نائحة صارخة مولولة ، وقد « برزت بين الأعداء يوم الطفّ من مخيّم الحسين عليه السلام » .

هل وقفت على مشارف المخيّم الحسيني ؟

هل اخترقت صفوف الأعداء محنيّة الظهر تبحث عن ابن عوسجة بين سنابك الخيل ، ومشتجر الرماح والأسنة ؟

هل أنّها خرجت متوجّهة الى ملجأ الأرامل والأيتام أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام ، لتشكو اليه بثّها وحزنها ؟

أو أنّها خرجت صارخة نادبة لتحامي عن مسلم بن عوسجة كما خرجت أم الغلام حاملة بيدها عمود خيمة لتقاتل دون الطيبين ؟

ثم ماذا جرى داخل المخيّم الحسيني - الذي يضمّ حرم اللّه - حينما خرجت هذه الجارية تنادي : وا مسلماه . .

وماذا فعلت فخر المخدرات وشريكة الحسين زينب بنت أمير المؤمنين عليهم السلام ؟

وكذلك ماذا فعل باقي النساء والأطفال حينما أفلتت الجارية من مخيم النساء نادبة ؟

قد لا نجد أجوبة لهذه الأسئلة في أفواه الرواة ، وثنايا سطور التاريخ ،ولكنّنا نعلم من مراجعة النصوص التاريخية أنّ مصرع مسلم بن عوسجة أوقف رحى الحرب حينا ما ، وأنّ المعسكرين خرجا عن وضعهما العادي ، وأنّ المشهد قد تغيّر في لحظة من لحظات التاريخ يوم الطفوف .

ص: 240

قاتله

قال عليه السلام الإمام صاحب الأمر في زيارة الناحية المقدّسة بعد السلام على مسلم بن عوسجة ، كما في المزار لابن المشهدي ، وإقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ، وبحار الأنوار للمجلسي ، والعوالم للشيخ البحراني :

« لعن اللّه المشتركين في قتلك : [ مسلم بن ] عبد اللّه الضبابي ، وعبد اللّه بن خشكارة البجلي(1) » .

وقال الطبري وغيره : وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبد اللّه الضبابي ، وعبد الرحمن ابن أبي خشكارة البجلي(2) .

يبدو من تاريخ الطبري أنّ مسلم بن عبد اللّه الضبابي كان ملازما لشمر بن ذي الجوشن الضبابي منذ أيام صفين ، قال الطبري يروي عن مسلم بن عبد اللّه الضبابي قال : شهدت صفين مع الحي ، ومعنا شمر بن ذي الجوشن الضبابي ، فبارزه أدهم بن محرز الباهلي ،فضرب أدهم وجه شمر بالسيف ، وضربه شمر ضربة لم تضرره ، فرجع شمر إلى رحله ، فشرب شربة ، وكان قد ظمئ ، ثم أخذ الرمح ، فأقبل وهو يقول :

ص: 241


1- المزار لابن المشهدي : 491 ، إقبال الأعمال لابن طاووس : 3/76 .
2- تاريخ الطبري : 4/332 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/68 ، تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام للفضيل : 152 .

إنّي زعيم لأخي باهله

بطعنة إن لم أصب عاجله

أو ضربة تحت القنا والوغى

شبيهة بالقتل أو قاتله

ثم حمل على أدهم فصرعه ، ثم قال : هذه بتلك(1) .

وقد لازمه بعد شهادة سيد الشهداء عليه السلام أيضا ، ولم يفارقه حتى قتل اللعين الخبيث شمر ، فتركه وهرب .

قال الطبري رواية عن أبي مخنف عن مسلم بن عبد اللّه الضبابي قال :

تبعنا زربي غلام المختار فلحقنا ، وقد خرجنا من الكوفة على خيول لنا ضمر ، فأقبل يتمطر به فرسه ، فلمّا دنا منّا قال لنا شمر : اركضوا وتباعدوا عنّي لعلّ العبد يطمع فيّ .

قال : فركضنا فأمعنّا ، وطمع العبد في شمر ، وأخذ شمر ما يستطرد له ، حتى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر ، فدقّ ظهره ، وأتى المختار ، فأخبر بذلك ، فقال : بؤسا لزربى ، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة . .وقال مسلم بن عبد اللّه الضبابي أيضا : لمّا خرج شمر بن ذي الجوشن

- وأنا معه - حين هزمنا المختار ، وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع ، ووجه غلاما زربيا في طلب شمر ، وكان من قتل شمر إياه ما كان ، مضى شمر حتى ينزل ساتيدما ، ثم مضى حتى ينزل إلى جانب قرية يقال لها « الكلتانية »

ص: 242


1- تاريخ الطبري تحقيق أبو الفضل إبراهيم : 5/28 أحداث سنة سبع وثلاثين .

على شاطئ نهر إلى جانب تل ، ثم أرسل إلى تلك القرية ، فأخذ منها علجا فضربه ، ثم قال : النجاء بكتابي هذا إلى المصعب بن الزبير ، وكتب عنوانه للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن . .

قال : فمضى العلج حتى يدخل قرية فيها بيوت ، وفيها أبو عمرة ، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية ، ليكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة ، فلقى ذلك العلج علجا من تلك القرية ، فأقبل يشكو إليه ما لقى من شمر ، فإنّه لقائم معه يكلّمه إذ مرّ به رجل من أصحاب أبي عمرة ، فرأى الكتاب مع العلج ، وعنوانه لمصعب من شمر ، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به ، فأخبرهم ، فإذا ليس بينهم وبينه إلاّ ثلاثة فراسخ .

قال : فأقبلوا يسيرون إليه .

وقال مسلم ابن عبد اللّه أيضا : وأنا - واللّه - مع شمر تلك الليلة ، فقلنا : لو أنّك ارتحلت بنا من هذا المكان ، فإنّا نتخوّف به ، فقال : أو كلّ هذا فرقا من الكذّاب ! واللّه لا أتحوّل منه ثلاثة أيام ملأ اللّه قلوبكم رعبا .قال : وكان بذلك المكان الذي كنّا فيه دبى كثير ، فواللّه إنّي لبين اليقظان والنائم ، إذ سمعت وقع حوافر الخيل ، فقلت في نفسي : هذا صوت الدبى ، ثم إنّي سمعته أشدّ من ذلك ، فانتهبت ومسحت عيني ، وقلت : لا - واللّه - ما هذا بالدبى .

ص: 243

قال : وذهبت لأقوم ، فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التلّ ، فكبّروا ، ثم أحاطوا بأبياتنا ، وخرجنا نشتدّ على أرجلنا ، وتركنا خيلنا .

قال : فأمرّ على شمر وإنّه لمتّزر ببرد محقّق ، وكان أبرص ، فكأنّي أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد ، فإنّه ليطاعنهم بالرمح قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه ، فمضينا وتركناه .

قال : فما هو إلاّ أن أمعنت ساعة ، إذ سمعت : اللّه أكبر ، قتل اللّه الخبيث(1) .

* * *

أمّا ابن خشكارة البجلي ، فيبدو ممّا رواه الطبري عن أبي مخنف أنّه كان ممّن هجم على خيام سيد الشهداء عليه السلام ، وسرادق العزّ والإباء ، وروّع حرم اللّه ، وأخاف الأطفال والنساء ، وشارك في السلب والنهب ، وقد أخذه المختار مع آخرين ، فأخرجهم الى السوق ، وضرب أعناقهم ، لعنهم اللّه .قال الطبري رواية عن أبي سعيد الصيقل :

إنّ المختار دلّ على رجال من قتلة الحسين عليه السلام ، دلّه عليهم سعر الحنفي .

قال : فبعث المختار عبد اللّه بن كامل ، فخرجنا معه حتى مرّ ببني ضبيعة ، فأخذ منهم رجلاً يقال له « زياد بن مالك » .

ص: 244


1- تاريخ الطبري : 4/525 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : 23/190 ج 192 .

قال : ثم مضى إلى عنزة ، فأخذ منهم رجلاً يقال له « عمران بن خالد » .

قال : ثم بعثني في رجال معه يقال لهم « الدبابة » إلى دار في الحمراء فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي وعبد اللّه بن قيس الخولاني .

فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه ، فقال لهم : يا قتلة الصالحين ، وقتلة سيد شباب أهل الجنة ، ألا ترون اللّه قد أقاد منكم اليوم ، لقد جاءكم الورس بيوم نحس ، وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين عليه السلام ، أخرجوهم إلى السوق فاضربوا رقابهم ، ففعل ذلك بهم(1) .

خلف بن مسلم

ذكره جماعة من المؤلفين ، منهم : صاحب كتاب رياض الشهادة وقال : برز الى الميدان ، وكان عمره إثنا عشر سنة(2) .وصاحب كتاب وقائع الأيام نقلاً عن ناسخ التواريخ ، وكتاب روضة الأحباب وقال عنه : من أوثق كتب أهل العامة ، وكتاب مصائب الأبرار عن « گل وريحان »(3) .

ص: 245


1- تاريخ الطبري : 4/529 .
2- رياض الشهادة لمحمد حسن القزويني : 2/140 .
3- وقائع الأيام لملا علي واعظ خياباني تبريزي : 1/604 .

وذكر شهادته في كتاب شهداء كربلاء(1) ، وكتاب بحر المصائب(2) ، وكتاب « آينه داران آفتاب »(3) ذكر المصادر التي ذكرته . . .

قال صاحب ناسخ التواريخ : في كتاب روضة الأحباب : كان لمسلم ولد شاب ، وكانت أمّه معه ، فخرج بعد مقتل أبيه كالأسد يزأر .

فقال الحسين عليه السلام : يا فتى ، قتل أبوك ، ولو قتلت فإلى من تلتجى ء أمّك في هذا القفر ؟

فأراد أن يرجع ، فجاءته أمّه وقالت : يابني ، تختار سلامة نفسك على نصرة ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟! فلا أرضى عنك أبدا .

فبرز الشاب ، وقاتل قتال الأبطال ، وأمّه تنادي خلفه : أبشر - يا بني - ستسقى من يد ساقي الكوثر .فلم يزل يقاتل الى أن قتل ثلاثين فارسا ، ثم قتل(4) .

فقطع الكوفيون رأسه ، ورموا به الى أمّه ، فتناولته وقبّلته ، وما زالت تبكي حتى أبكت كلّ من حضر(5) .

ص: 246


1- شهداء كربلاء لجماعة من المؤلفين والمحققين : 159 .
2- بحر المصائب للملا جعفر التبريزي : 1/614 .
3- آينه داران آفتاب لمحمد رضا سنكري : 854 .
4- ناسخ التواريخ ترجمة سيد علي جمال أشرف : 2/390 .
5- فرسان الهيجا للمحلاتي ترجمة السيد محمد شعاع فاخر : 1/180 .

وذكر صاحب روضة الشهداء ( ت 910 ه- ) قريبا ممّا في الناسخ نقلاً عن كتاب نور الأئمة(1) .

وفي معالي السبطين للخطيب المتتبّع الشيخ محمد مهدي الحائري :

في البحار : خرج شاب قتل أبوه في المعركة ، وكانت أمّه معه ، فقالت له أمّه : اخرج - يا بني - وقاتل بين يدي ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فخرج ، فقال الحسين عليه السلام : هذا شاب قتل أبوه ، ولعلّ أمّه تكره خروجه ، فقال الشاب : أمّي أمرتني بذلك . .

ثم نقل ما في الناسخ ، ثم رجع الى رواية المجلسي فقال :

فبرز وهو يقول :

أميري حسين ونعم الأمير

سرور فؤاد البشير النذير

علي وفاطمة والداه

فهل تعلمون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضحى

له غرّة مثل بدر منير(2)وقاتل حتى قتل ، وجزّ رأسه ، ورمي به إلى عسكر الحسين عليه السلام ، فحملت أمّه رأسه ، وقالت : أحسنت ، يا بني ، يا سرور قلبي ، ويا قرّة عيني ، ثم رمت برأس ابنها رجلاً فقتلته ، وأخذت عمود خيمته ، وحملت عليهم ، وهي تقول :

ص: 247


1- روضة الشهداء للكاشفي : 371 .
2- بحار الأنوار : 45/27 .

أنا عجوز سيدي ضعيفه

خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه

دون بني فاطمة الشريفه

وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين عليه السلام بصرفها ، ودعا لها(1) .

وقال الشيخ عباس القمّي في نفس المهموم بعد أن نقل ما في البحار :

أقول : إنّي احتمل أن يكون هذا الفتى ابن مسلم بن عوسجة الأسدي - رضوان اللّه عليه - لما قد حكي عن روضة الأحباب قريبا من ذلك لابن مسلم بن عوسجة بعد أن ذكر قتل والده رضوان اللّه عليهما ، مثله في روضة الشهداء ، واللّه العالم(2) .

وقال الشيخ النمازي في مستدركات علم الرجال :

خلف بن مسلم بن عوسجة الأسدي الكوفي : عدّ من شهداء الطفّ ،كما عن الهادي الأميني في كتابه(3) .

ولا مانع من نسبة الرجز الى خلف والى غلام غيره ، أو الى عمرو بن جنادة ، لأنّ أنصار الحسين عليه السلام كانوا يرتجزون بأراجيز متشابهة ، أو بنفس الأراجيز أحيانا .

ص: 248


1- معالي السبطين للحائري : 1/378 ، عن بحار الأنوار : 45/28 ، وأشار اليه الحائري أيضا ونصّ على اسمه في كتابه شجرة طوبى : 1/48 .
2- نفس المهموم للقمي : 266 .
3- مستدركات علم رجال الحديث للنمازي : 3/339 رقم5363 .

عيال مسلم في كربلاء

اشارة

قال الشيخ السماوي : جاءت أنصار الحسين عليه السلام غير الطالبيين مع الحسين عليه السلام والى الحسين عليه السلام بلا عيال ، لأنّ من خرج منهم معه من المدينة لم يأمن لخروجه خائفا ، ومن جاء اليه في الطريق وفي الطفّ انسل انسلالاً من الأعداء(1) ..

ولكن بعض الأنصار التحق بالحسين عليه السلام مع أهله وعياله نتيجة لإلحاح العيال - في الغالب - مسارعة منهن في الخيرات ، ومواساة لبنات سيدة النساء عليهاالسلام .

فانضم الى معسكر شريكة الحسين عليه السلام وفخر المخدرات زينب بنت أمير المؤمنين عليهماالسلام عوائل بعض الأنصار ، منهم على سبيل المثال :

عائلة جنادة بن الحرث السلماني :

جاء جنادة بن الحرث السلماني مع عياله ، وانضم الى الحسين عليه السلام ، وضمّ عياله الى عيال الحسين عليه السلام .فلمّا قتل أمرت زوجته ولدها عمرو أن ينصر الحسين(2) عليه السلام . . .

ص: 249


1- إبصار العين للسماوي : 233 .
2- إبصار العين للسماوي : 233 .

عائلة عبد اللّه بن عمير الكلبي :

رحل عبد اللّه بن عمير الكلبي الى الحسين عليه السلام من بئر الجعد ، وأقسمت عليه امرأته أن يحملها معه ، فحملها ، وحمل جميع عياله ، وجاء الى الحسين عليه السلام ، فانضمّ اليه ، وضمّ عياله الى عيال الحسين عليه السلام (1) .

فلمّا خرج الى القتال خرجت أمّه تشجعه ، ولمّا قتل خرجت زوجته تنظر اليه ، فوقفت عليه ، وقتلت .

عائلة علي بن مظاهر :

روي أنّ سيد الشهداء الحسين عليه السلام جمع أصحابه ليلة العاشر ، وكلّمهم

وأذن لهم بالانصراف ، فأبوا إلاّ أن ينصروه ، وبالأرواح والأبدان يفدوه ، وأن يدافعوا عن حرم اللّه وحرم رسوله صلى الله عليه و آله ما دامت قوائم سيوفهم بأيدهم ، وما دام فيهم عرق ينبض وعين تطرف ، فكشف له سيد شباب أهل الجنة عليه السلام عن مواقعهم في الجنة ، وأراهم قصورهم وحورهم ، ثم قال :

ألا ومن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد ، فقامعلي بن مظاهر وقال : :ولماذا يا سيدي ؟ فقال عليه السلام : إنّ نسائيتسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي .

ص: 250


1- إبصار العين للسماوي : 233 .

فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته ، وتبسّمت في وجهه ، فقال لها : دعيني والتبسّم .

فقالت : يا ابن مظاهر ! إنّي سمعت غريب فاطمة عليهاالسلام خطب فيكم ، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟!

قال : يا هذه ! إنّ الحسين عليه السلام قال لنا : ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني عمّها ، لأنّي غدا أقتل ، ونسائي تسبى .

فقالت : وما أنت صانع ؟

قال : قومي حتى ألحقك ببني عمّك بني أسد .

فقامت ، ونطحت رأسها في عمود الخيمة ، وقالت :

واللّه ما أنصفتني يا ابن مظاهر !

أيسرّك أن تسبى بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنا آمنة من السبي ؟!

أيسرّك أن تسلب زينب عليهاالسلام إزارها من رأسها ، وأنا استتر بإزاري ؟!

أيسرّك أن تذهب من بنات الزهراء أقراطها ، وأنا أتزيّن بقرطي ؟!

أيسرّك أن يبيضّ وجهك عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء عليهاالسلام ؟واللّه أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء .

ص: 251

فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام وهو يبكي ، فقال له الحسين عليه السلام : ما يبكيك ؟

فقال : سيدي أبت الأسدية إلاّ مواساتكم .

فبكى الحسين عليه السلام وقال : جزيتم منّا خيرا(1) .

عائلة مسلم بن عوسجة :

قال الشيخ السماوي في إبصار العين : ومسلم بن عوسجة ، فإنّه جاء بعياله إلى الحسين عليه السلام ، فانضمّ إليه ، وضمّ عياله إلى عيال الحسين عليه السلام ، فلمّا قتل صاحت جارية له : واسيداه ! وامسلم بن عوسجتاه ! فعلم القوم قتله(2) .

وقال عبد المجيد الحسيني الشيرازي في « ذخيرة الدارين » : وقال أبو جعفر : ثم إنّ مسلم بن عوسجة بعد أن قبض على مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، وقتلا ، اختفى مدّة ، ثم فرّ بأهله الى الحسين عليه السلام ، فوافاه بكربلاء ، وفداه بنفسه(3) .وقد اتفقت المصادر على رواية خروج جاريته بعد مصرعه ، وذكرت بعض الكتب شهادة ولده بعده .

ص: 252


1- معالي السبطين للحائري : 1/342 ، موسوعة الإمام الحسين عليه السلام : 3/135 .
2- إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام للسماوي : 221 .
3- ذخيرة الدارين تحقيق باقر درياب النجفي : 327 .

سؤال السجاد عليه السلام عنه

لمّا جاء ريحانة النبي عليه السلام الى الخيمة ليودّع ولده وخليفته والوصي من بعده وداعه الأخير ، فاحتضنه ، والدم يشخب من جراحاته كالفوارة ، فبكى علي بن الحسين عليهماالسلام بكاء شديدا حتى غشي عليه .

فلمّا أفاق من غشوته جعل يسأل عن كلّ واحد من عمومته ، والحسين عليه السلام يقول له : قتل .

فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة ، وزهير بن القين ؟

فقال له : يا بني ! اعلم ، أنّه ليس في الخيام رجل حي إلاّ أنا وأنت ، وأمّا هؤلاء الذين تسأل عنهم ، فكلّهم صرعى على وجه الثرى !

فبكى علي بن الحسين عليهماالسلام بكاء شديدا(1) . . .

* * *

ص: 253


1- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام لجنة الحديث في معهد باقر العلوم عليه السلام .

ولا يخفى ما في سؤال الإمام المهموم زين العابدين عليه السلام عن مسلم بن عوسجة ، وذكره بالاسم في مقدّمة من سأل عنهم ، من التعظيم والتكريم والاهتمام به ، وأنّه من الأسماء السبّاقة الى قلب المعصوم في تلك الساعة العسيرة .

ص: 254

زيارة مسلم بن عوسجة

اشارة

ورد في زيارة مسلم بن عوسجة ثلاثة أنماط من الزيارة :

النمط الأول : الزيارة الخاصة

اشارة

وهي وإن كانت زيارة تضمّنت أسماء أكثر الشهداء ، وذكر فيها مسلم بن عوسجة ضمن السياق العام ، إلاّ أنّه حاز شرفا عظيما ، ومقاما منيفا ، ودرجة سامية لا ينالها إلاّ من كان مثله ، فاستحقّ أن ينصّ عليه الآخذ بثأره باسمه .

وحسب تفحّصنا للمصادر لم يرد ذلك إلاّ في النصّ الوارد عن الإمام صاحب العصر - عجّل اللّه تعالى فرجه - ، وفي ذلك مزيّة فوق مزيّة ، وإشارات مهمة وسنيّة .

تسليم الحجة ( عج ) عليه

اشارة

فقد نال شرف الشهادة بين يدي سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، وزاد شرفه ذاك شرفا تسليم الحجّة المنتقم عليه في الناحية والرجبية .

ص: 255

وقد ذكره عليه السلام بتكريم خاص ، واهتم بموقفه اهتماما بالغا ، فنقل عنه مقالته للحسين عليه السلام . .

قال عليه السلام كما في المزار لابن المشهدي ، وإقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ، وبحار الأنوار للمجلسي ، والعوالم للشيخ البحراني :

السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي ، القائل للحسين ، وقد أذن له في الانصراف :

أنحن نخلّي عنك وبم نعتذر إلى(1) اللّه من أداء حقّك ، لا(2) واللّه حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ، ما ثبت قائمه في يدي ، ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ثم لم(3) أفارقك حتى أموت معك .

وكنت أول من شرى نفسه ، وأول شهيد من شهداء اللّه (4) قضى نحبه ، ففزت وربّ الكعبة .

شكر اللّه لك(5) استقدامك ومواساتك إمامك ، إذ مشى إليك وأنت صريع ، فقال : يرحمك اللّه يا مسلم بن عوسجة ، وقرأ :« فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً » .

ص: 256


1- في الإقبال : « عند » .
2- في المزار : « ولا » .
3- في الإقبال : « ولم » .
4- في الإقبال : « وأول شهيد شهد اللّه وقضى نحبه » .
5- لا يوجد في الإقبال : « لك » .

لعن اللّه المشتركين في قتلك : عبد اللّه الضبابي ، وعبد اللّه بن خشكارة البجلي(1) .

وفي هذا شهادة ، وتأكيد من الإمام المعصوم عليه السلام على صدق نية المجاهد المضحّي ، فقد قال مسلم ذلك ، وأكدّ قوله باليمين ، ثم أثبته بالفعل والعمل ، ثم أمضاه له سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، وأمضاه له الإمام الحجّة المنتظر عليه السلام .

وربما كان في إفراده بالزيارة من قبل ولي الأمر وصاحب الزمان دلالات وإشارات منها :

أولاً : إختصاص مسلم بالإكرام

إكرامه إكراما خاصّا ، وتشريفه بالنصّ عليه والإشارة الى اسمه الكريم ، لأنّ تنصيص الإمام على شخص بعينه له من الآثار والتعظيم والتكريم ما يعرفه أهله .

ثانيا : الثأر لدم مسلم

إنّ الذي ذكره بالاسم ، ونصّ عليه خاصة هو الإمام المنتقم له ، الآخذ بثأره ، فهو إمامه ، وقد قدّر له موقفه من جدّه يوم قال قولته ، فهو الآن يردّد اسمه ، ويسلّم عليه ، لنعلم أنّ الثأر لدمه الزاكي سوف لا يطول به الانتظار ، وأنّه سينتقم له يوم يسلّ سيفه من غمده ، ويأذن له ربّه ، فمسلمينتظر - كما ننتظر - أن تنتهي هذه السنين الحرم العجاف !!

ص: 257


1- المزار لابن المشهدي : 492 - 491 ، إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس : 3/77 - 76 .
ثالثا : ليلة العاشر كانت مركز الإبتلاء

لم يكن السلام على مسلم مجردا ، وإنّما كان مصحوبا - حسب النصّ - بقولته الخالدة التي تتفجّر ولاءا وثباتا ، وقد اختارها المولى من بين كلّ مواقف مسلم ، وبياناته ومحاوراته وخطاباته التي توجه بها للناس عامة ، ولأصحاب الحسين عليه السلام خاصة ، بل لسيد الشهداء عليه السلام أيضا ،

منذ أن التحق بثقة الحسين عليه السلام وسفيره مسلم بن عقيل عليهماالسلام الى حين شهادته ، فممّا لا شكّ فيه أنّ مسلما كغيره من أصحاب الحسين عليه السلام كان قد نصح وأبلغ في النصح سواء كان في الكوفة أيام مسلم بن عقيل عليهماالسلام أو بعد ذلك .

وربما كان التركيز على هذا الموقف باعتبار أنّ ليلة العاشر - ظرف الكلام - كانت هي مركز الثقل في الابتلاء والامتحان الإلهي ، لأنّ ما قبل ليلة العاشر كان زمنا فيه متّسع لمن أراد الفرار ، وقد فرّ القوم وخذلوا قرّة عين الرسول صلى الله عليه و آله .

قال الشيخ المفيد في الإرشاد : . . ثم ارتحلوا ، فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر عبد اللّه بن يقطر ، فأخرج إلى الناس كتابا ، فقرأه عليهم :

بسم اللَّه الرحمن الرحيم .

أمّا بعد : فإنّه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ

بن عروة وعبد اللّه بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّمنكم الانصراف فلينصرف غير حرج ليس عليه ذمام .

ص: 258

فتفرّق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالاً(1) .

وما بعد تلك الليلة كان نتيجة الامتحان ، وآثار النجاح في الاختبار ، وقد كشف لهم سيد الشهداء عليه السلام عن مواقعهم في الجنان ، وبذلك دخلوا عالم

الروح والريحان ، والحور والولدان ، ومجاورة النبي صلى الله عليه و آله في عدن الرضوان .

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : أخبرني عن أصحاب الحسين عليه السلام وإقدامهم على الموت ؟

فقال : إنّهم كشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة ، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها ، وإلى مكانه من الجنة(2) .

فصور التضحية والفداء التي رسمها مسلم وإخوانه يوم الطفّ إن هي إلاّ بناء ارتكز على ما أسّسوه من ثبات ليلة العاشر ، حينما أعلنوا عن مواقفهم ، وأصحروا عن نياتهم .

فذكر المولى عليه السلام لموقفه ليلة العاشر كان عبارة عن تلخيص لمسيرته الوضاءة المعطاء ، تكشف عن الثبات فيما قبلها ، والعطاء فيما بعدها .

رابعا : شكر الموقف

قال في شرح الشافية : ثم برز جابر بن عروة الغفاري ، وكان شيخاكبيرا ، وقد شهد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بدرا وحنينا ، فجعل يشدّ وسطه

ص: 259


1- الإرشاد: 2/75 ، روضة الواعظين: 1/179 .
2- علل الشرائع : 1/229 باب 163 ح1 ، بحار الأنوار: 44/297 باب 35 .

بعمامته ، ثم شدّ حاجبيه بعصابة حتى رفعهما عن عينيه ، والحسين عليه السلام ينظر اليه ويقول : شكر اللّه - تعالى - سعيك يا شيخ ، فحمل(1) . . .

وقد جزّى سيد الشهداء عليه السلام في أكثر من موقف أصحابه خيرا ، وشكر لهم صنيعهم بالرغم من أنّهم يؤدّون واجبهم ، وينجزون تكليفهم .

إنّ أبا الأئمة وأولاده الطيبين الأوفياء يظهرون بأفعالهم وأقوالهم أسماء اللّه وصفاته وجماله وجلاله ، فهم رحمة اللّه الواسعة ، ورضاهم رضا اللّه ، وإرادتهم إرادة اللّه ، واللّه هو الغني الشكور .

فربما كان التركيز على هذا الموقف المسلّم المتيقن بالخصوص من قبل ولي الأمر بمثابة قول سيد الشهداء عليه السلام وجدّ الحجة المنتظر لعروة : «شكر اللّه سعيك»، ليكون صورة من صور الإشادة بالموقف والثناء عليه ، والشكر له، وكأنّ المولى جزّاه على ذلك خيرا من خلال إبرازه كموقف مشكور محمود .

ويؤكد ذلك قول الإمام المنتظر نفسه : « شكر اللّه لك استقدامك ومواساتك إمامك » . .

خامسا : خصوصية الموقف ليلة العاشر

وربما كان إستحقاق هذا الشكر والثناء من ولي دم سيد الشهداء عليهماالسلام ، لأنّ الموقف في تلك الليلة العسيرة المكفهرّة العصيبة كان يختلف تماماعن أيّ موقف آخر ، حتى عن الموقف يوم العاشر ، حيث أدخل فيه

ص: 260


1- شرح الشافية: 262 ، فرسان الهيجاء ترجمة السيد محمد شعاع فاخر: 1/78 ، تذكرة الشهداء: 181 ، مقتل أبي مخنف: 115 .

السرور على قلب سلطان المكروبين ، وزين الغرباء الحسين عليه السلام ، وواساه حين خذله المنكوبون المنكوسون ، في يوم كان فيه الحسين عليه السلام

مستوحشا(1) إلى الرجال على حدّ تعبير الطرماح(2) ، فيما كانت بنات رسول ربّ العالمين يتوجّسن ويراقبن مواقف الأصحاب وأهل البيت المظلومين ، ويترقبن ما تحمل لهم تلك الليلة في أحشائها من ألم وسبي ومصيبة وفقد أحبّة وأنين .

لم يكن الموقف يشبه غيره من المواقف ، ولهذا انبرى ليلتها العباس بن أمير المؤمنين عليهماالسلام للإعلان عمّا في نيته ونية أهل البيت ، وانبرى الأصحاب يعبّرون عمّا في ضمائرهم ، وحرم اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله يسمعن ، فتطمئن قلوبهن إلى ما يسمعن من ثبات حماتهن .

فكلام مسلم بن عوسجة في تلك الليلة العصيبة المتجهّمة كان تفريجا ومواساة لسيد الشهداء عليه السلام ، ولبنات رسول ربّ السماء صلى الله عليه و آله .

النمط الثاني : الزيارة ضمن زيارة سيد الشهداء عليه السلام

من قبيل ما ورد في زيارة عاشوراء : السلام على الحسين وعلى عليبن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .السلام عليك وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك . .

ص: 261


1- تعبير الطرماح كناية عن « استنصار الحسين عليه السلام » لا أكثر ، وإلاّ فالحسين عليه السلام أعزّ وأعظم وأغنى من أن يستوحش الى الرجال أو يستوحش من طريق لقلّة سالكيه .
2- تاريخ الطبري : 4/307 .

وروي عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام في زيارة طويلة أوردها ابن قولويه في كامل الزيارات قال :

. . . أشهد أنّ لك من اللّه ما وعدك من النصر والفتح ، وأنّ لك من اللّه الوعد الحقّ في هلاك عدوك وتمام موعده إياك .

أشهد أنّه قاتل معك ربّيون كثير ، كما قال اللّه : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ . . »(1) .

النمط الثالث : الزيارة العامة

اشارة

وردت نصوص مقدّسة كثيرة في زيارة أنصار سيد الشهداء عليه السلام ، فهي وإن لم تذكر مسلم بن عوسجة على نحو الخصوص ، ولم تنصّ على اسمه الجميل، كما سمعنا في النمط الأول، إلاّ أنّها تخاطب الأنصار المستشهدين بين يدي ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعَبرة أنبياء اللّه ، ككائن موحّد ، وهالة واحدة محيطة بمركز النور .. تخاطبهم بخطاب واحد ضمن دائرة واحدة، وهي نصرة الغريب العطشان، وتلغي الخصوصيات باعتبارهم شعاعا لنور واحد.

تقرأ ضمير الجمع في نصّ الزيارة ، ولكنّه ضمير يتوزّع على كلّ فرد فرد منهم ، ويشملهم نورا نورا ، فهو كلّي ينطبق على أفراده بالتواطيء ، وكلّ واحد منهم مفردة يتوجّه له الخطاب ، وينطبق عليه الوصف أوالمدح الوارد على حدة .

ص: 262


1- كامل الزيارات لابن قولويه : 387 باب 79 ح17 .

فالزيارة عامة لكلّ الشهداء بيد أنّها تشمل مسلما ، كما تشمل حبيبا ، وتشمل جونا ، وتشمل بريرا وزهيرا ، وهكذا تشمل كلّ المستشهدين بين يدي سيد الشهداء عليه السلام .

ولا نريد هنا دراسة نصوص الزيارات المقدّسة جميعا ، وإنّما نحاول أن نطبق النصوص على مسلم بن عوسجة باعتباره فردا داخلاً تحت ضمير الجمع ، والخطاب الوارد على لسان المعصوم عليه السلام في زيارة واحدة .

ص: 263

النص الأول

اشارة

في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : ثم توجّه إلى الشهداء ، وقل :

السلام عليكم يا أولياء اللَّه وأحباءه .

السلام عليكم يا أصفياء اللَّه وأوداءه .

السلام عليكم يا أنصار دين اللَّه .

السلام عليكم يا أنصار رسول اللَّه .

السلام عليكم يا أنصار أمير المؤمنين .

السلام عليكم يا أنصار فاطمة سيدة نساء العالمين .

السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن بن علي الولي الناصح .

السلام عليكم يا أنصار أبي عبد اللَّه .

بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزا عظيما ، فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم(1) .

يمكن الإشارة هنا الى عدّة نكات جديرة بالإلتفات :

النكتة الأولى :

إنّ الضمير الموظّف في تعبير المعصوم هو ضمير الخطاب ، وهي إشارة الى أنّك تقوم بين يدي من يسمعك مباشرة ، فأنت تخاطبه خطابا ، وهو ليس وجودا غائبا عنك ، بل هو حي حاضر .

ص: 264


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : 722 ، المزار لمحمد بن المشهدي : 464 .

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم وقف على شهداء أحد وقد التفت إلى الناس :

أيّها الناس ، ائتوهم فزوروهم ، وسلّموا عليهم ، فو الذي نفسي بيده ، لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلاّ ردّوا عليه السلام (1) .

النكتة الثانية :

إنّ السلام وضمير الخطاب يتكرّر في كلّ فقرة ، تشهد فيها للمزور بنصرته للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين ولفاطمة وللحسن والحسين عليهم السلام ، وفي ذلك إشارة الى أنّك تسلّم عليه باعتبار كلّ مفردة من مفردات النصرة ، لتؤكّد على أنّ نصرته لسيد الشهداء عليه السلام كانت نصرة لكلّ واحد من أصحاب الكساء ، لا على نحو التضمن .

أي أنّك تخاطبه فتقول له : إنّك نصرت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ونصرت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، لا أنّك نصرت الحسين عليه السلام

فكأنّك نصرت أولئك ، وإنّما أنت نصرتهم بالفعل .

فنصرته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله نصرة قائمة بذاتها ، وهي غير نصرته للحسين عليه السلام ، ونصرته لأمير المؤمنين عليه السلام غير نصرته للحسين عليه السلام

ص: 265


1- أسد الغابة: 4/183 .

وهكذا ، فهو نصر كلّ نور نور من أنوارهم المقدّسة ، ولكنّها وقعت جميعا في طفّ كربلاء بين يدي الحسين سيد الشهداء عليه السلام .

النكتة الثالثة :

إنّ المعصوم يخاطبه قائلاً : « بأبي أنتم وأمّي » ، وفي هذا ما لا يخفى على الزائر المؤمن الذي يعرف المعصوم ، ويعرف أباه وأمّه ، فإذا كانوا ب-« أب المعصوم وأمّه » ، فما قيمة أباء الزائرين وأمهاتهم ؟!

إلاّ أن يقال في الزيارات التي يعلّمها المعصوم للمؤمن فيقول في أولها مثلاً : « إذا أردت الزيارة فقل » ، فإنّه عليه السلام حينئذٍ يكون في مقام التعليم ، فلا يشمله الخطاب ، فربما علّمنا المعصوم كيف نزور ، أمّا المعصوم بنفسه فقد يخاطبهم بخطاب آخر .

ومن البديهي أنّ كلّ زائر يزورهم سيخاطبهم بهذا الخطاب ، وهذا يعني أنّ أباء الناس جميعا وأمهاتهم جميعا فداء لتراب أقدام هؤلاء الشهداء الأبرار .

فهم أعزّ على المؤمن من أبيه وأمّه ، ونفسه وولده . . .

النكتة الرابعة :

يشهد لهم المعصوم بالفوز العظيم ، ويتمنّى أن يكون معهم !! فيا لها من منزلة ، ويا له من إكرام .«

ص: 266

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظيما » « لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظيما » .

النكتة الخامسة :

علمنا من فقرات الزيارة المباركة أنّ ثمّة أوسمة وصفات نالها مسلم بالإضافة الى ما مرّ معنا من مضامين النكات الأربعة الآنفة ، منها :

أولاً : إنّه ولي اللَّه وحبيبه .

ثانيا : إنّه صفي اللَّه وممّن ودّهم اللَّه .

ثالثا : إنّه ناصر دين اللَّه .

رابعا : إنّه ناصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله .

خامسا : إنّه ناصر أمير المؤمنين عليه السلام .

سادسا : إنّه ناصر فاطمة سيدة نساء العالمين عليهاالسلام .

سابعا : إنّه ناصر الحسن الزكي الأمين عليه السلام .

ثامنا : إنّه ناصر الحسين عليه السلام سيد الشهداء من الأولين والآخرين .

تاسعا : إنّه طيب مدفون في أرض طيبة ، أو أنّه سبب لطيبة الأرض التي دفن فيها .

عاشرا : إنّه قد فاز فوزا عظيما . . .

الحادي عشر : إنّه مشمول بقول المعصوم : « بأبي أنتم وأمّي » .

الثاني عشر : إنّه مشمول بقول المعصوم : « فيا ليتني كنت معكم » .

ص: 267

النصّ الثاني

في كامل الزيارات لابن قولويه : ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومي إليهم أجمعين وتقول :

السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته ، السلام عليكم يا أهل القبور من أهل ديارالمؤمنين ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار(1) .

ص: 268


1- الآية الكريمة من آيات سورة الرعد ، ولو تدبّر فيها المتدبّر ضمن سياق السورة لاكتشف ارتباطا وثيقا بين السورة ككلّ وبين الحسين عليه السلام ودعوته وأصحابه الذين نصروه وأعدائه الذين خذلوه وقتلوه ، وكأنّ السورة من فاتحتها الى خاتمتها تتكلّم عن الحسين عليه السلام ودعوته ، وأصحابه وأعدائه ، ولنستمع الى بعض ما سبقها وما جاء بعدها من الآيات: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ . وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآْصالِ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَْعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَْرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَْمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الأَْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَْلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَْرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ .

السلام عليكم يا أولياء اللَّه ، السلام عليكم يا أنصار اللَّه وأنصار رسوله ، وأنصار أمير المؤمنين ، وأنصار ابن رسوله وأنصار دينه .

أشهد أنّكم أنصار اللَّه كما قال اللَّه عزّ وجلّ : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا » ، فما ضعفتم وما استكنتم حتى لقيتم اللَّه على سبيل الحق ،

صلّى اللَّه عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، أبشروا بموعد اللَّه الذي لا خلف له ولاتبديل، إنّ اللَّه لايخلف وعده ، واللَّه مدرك بكم ثارما وعدكم .

ص: 269

أنتم خاصة اللَّه ، اختصكم اللَّه لأبي عبد اللَّه - عليه السلام - ، أنتم الشهداء ، وأنتم السعداء ، سعدتم عند اللَّه ، وفزتم بالدرجات من جنات لا يطعن أهلها ولا يهرمون ، ورضوا بالمقام في دار السلام ، مع من نصرتم .

جزاكم اللَّه خيرا من أعوان ، جزاء من صبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله ، أنجز اللَّه ما وعدكم من الكرامة في جواره وداره مع النبيين والمرسلين ، وأمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين .

أسأل اللَّه الذي حملني إليكم حتى أراني مصارعكم أن يرينيكم على الحوض رواء مرويين ، ويريني أعداءكم في أسفل درك من الجحيم ، فإنّهم قتلوكم ظلما ، وأرادوا إماتة الحقّ ، وسلبوكم لابن سمية وابن آكلة الأكباد ، فأسأل اللَّه أن يرينيهم ظمأ مظمئين ، مسلسلين مغلّلين ، يساقون إلى الجحيم .

السلام عليكم يا أنصار ابن رسول اللَّه منّي ما بقيت ، والسلام عليكم دائما إذا فنيت وبليت .

لهفي عليكم أيّ مصيبة أصابت كلّ مولى لمحمد وآل محمد ، لقد عظمت وخصّت وجلّت وعمّت مصيبتكم ، أنا بكم لجزع ، وأنا بكم لموجع محزون ، وأنا بكم لمصاب ملهوف .

هنيئا لكم ما أعطيتم ، وهنيئا لكم ما به حييتم ، فلقد بكتكم الملائكة ،وحفّت بكم ، وسكنت معسكركم ، وحلّت مصارعكم ، وقدّست وصفّت

ص: 270

بأجنحتها عليكم ، ليس لها عنكم فراق إلى يوم التلاق ، ويوم المحشر ، ويوم المنشر ، طافت عليكم رحمة من اللَّه ، وبلغتم بها شرف الآخرة .

أتيتكم شوقا وزرتكم خوفا ، أسال اللَّه أن يرينيكم على الحوض ، وفي الجنان مع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا(1) .

ص: 271


1- كامل الزيارات لابن قولويه :420 ، مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : 724 .

النصّ الثالث

السلام عليكم يا أنصار اللَّه ورجاله من أهل الحقّ والبلوى ، والمجاهدين على بصيرة في سبيله ، أشهد أنّكم كما قال اللَّه عزّ وجلّ : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ » ، فما ضعفتم ، وما استكنتم حتى لقيتم اللَّه على سبيل الحقّ ونصره وكلمة اللَّه التامّة .

صلّى اللَّه على أرواحكم وأبدانكم وسلّم تسليما وفزتم ، واللَّه لوددت أنّي كنت معكم فأفوز فوزا ، أبشروا بمواعيد اللَّه التي لا خلف لها إنّه لا يخلف الميعاد .

أشهد أنّكم النجباء وسادة الشهداء في الدنيا والآخرة ، وأشهد أنّكم جاهدتم في سبيل اللَّه ، وقتلتم على منهاج رسول اللَّه ، أنتم السابقون والمجاهدون . أشهد أنّكم أنصار اللَّه وأنصار رسوله .

الحمد للَّه الذي صدقكم وعده ، وأراكم ما تحبّون ، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته(1) .

ص: 272


1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس : 3/344 .

النصّ الرابع

السلام عليكم أيّها الربانيون ، أنتم خيرة اللَّه ، اختاركم اللَّه لأبي عبد اللَّه عليه السلام ، وأنتم خاصّته اختصّكم اللَّه .

أشهد أنّكم قتلتم على الدعاء إلى الحقّ ونصرتم ووفيتم وبذلتم مهجكم مع ابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ، وأنتم سعداء ، سعدتم وفزتم بالدرجات .

فجزاكم اللَّه من أعوان واخوان خير ما جازى من صبر مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله ، هنيئا لكم ما أعطيتم ، وهنيئا لكم بما حييتم ، طافت عليكم من اللَّه الرحمة ، وبلغتم بها شرف الآخرة(1) .

ص: 273


1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس : 3/346 .

النصّ الخامس

ثُمَّ تَقُومُ فَتُومِئُ بِيَدِكَ إِلَى الشُّهَدَاءِ وتَقُولُ :

السَّلامُ عَلَيْكُمْ السَّلامُ عَلَيْكُمْ السَّلامُ عَلَيْكُمْ فُزْتُمْ واللَّهِ فُزْتُمْ واللَّهِ فُزْتُمْ واللَّهِ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَكُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً(1) .

ص: 274


1- من لايحضره الفقيه: 2/594، الكافي: 4/577، تهذيب الأحكام للطوسي: 6/56.

النصّ السادس

ثم تسلّم على الشهداء من أصحاب الحسين - عليه وعليهم السلام - تستقبل وتقول :

السلام عليكم ياأنصار اللَّه، وأنصار رسوله، وأنصار علي بن أبي طالب، وأنصار فاطمة الزهراء ، وأنصار الحسن والحسين ، وأنصار الإسلام .

أشهد لقد نصحتم للَّه ، وجاهدتم في سبيله ، فجزاكم اللَّه عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء ، فزتم واللَّه فوزا عظيما ، يا ليتني كنت معكم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً .

أشهد أنّكم أحياء عند ربّكم ترزقون ، وأشهد أنّكم الشهداء ، وأنّكم السعداء ، وأنّكم في درجات العلى ، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته(1) .

ص: 275


1- كامل الزيارات : 200 ، بحار الأنوار : 98/246 .

النصّ السابع

وزر الشهداء رضوان اللَّه عليهم ، ثم تنحرف من عند الرجلين إلى القبلة ، وتقول :

السلام عليكم أيّها الصدّيقون ، السلام عليكم أيّها الشهداء الصابرون .

أشهد أنّكم جاهدتم في سبيل اللَّه ، وصبرتم على الأذى في جنب اللَّه ، ونصحتم للَّه ولرسوله ولابن رسوله حتى أتاكم اليقين .

أشهد أنّكم أحياء عند ربّكم ترزقون ، فجزاكم اللَّه عن الإسلام وأهله أفضل ما جزى المحسنين ، وجمع بيننا وبينكم في محلّ النعيم(1) .

ص: 276


1- المقنعة :470 ، المزار لمحمد بن المشهدي : 416 ، المزار للشهيد الأول : 170 ، بحار الأنوار : 98/257 .

النصّ الثامن

السلام عليكم يا خير أنصار ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، وبوأكم اللَّه مبوء الأبرار .

أشهد لقد كشف لكم الغطاء ، ومهّد لكم الوطاء ، وأجزل لكم العطاء ، وكنتم عن الحقّ غير بطاء ، وأنتم لنا فرط ، ونحن لكم خلطاء في دار البقاء ، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته(1) .

ص: 277


1- المزار لمحمد بن المشهدي : 495 ، ، إقبال الأعمال لابن طاووس : 3/80 ، بحار الأنوار : 45/73 ، العوالم ، الإمام الحسين عليه السلام لعبد اللّه البحراني :340 .

النصّ التاسع

السلام عليك يا أبا عبد اللَّه وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك وأناخت برحلك عليك منّي سلام اللَّه أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار ولاجعله اللَّه آخر العهد منّي لزيارتكم السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين(1) .

ص: 278


1- المصباح للكفعمي : 485 ، المزار لمحمد بن مكي العاملي : 183 .

النصّ العاشر

والتفت إلى قبور الشهداء فقال : السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبد اللَّه ، السلام عليكم يا شيعة اللَّه وشيعة رسوله وشيعة أمير المؤمنين والحسن والحسين ، السلام عليكم يا طاهرون ، السلام عليكم يا مهديون ، السلام عليكم يا أبرار ، السلام عليكم وعلى ملائكة اللَّه الحافين بقبوركم ، جمعني اللَّه وإياكم في مستقرّ رحمته تحت عرشه(1) .

ص: 279


1- بحار الأنوار : 98/330 .

النصّ الحادي عشر

ثم امش حتى تأتي قبور الشهداء ، فقف وقل :

السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام ، السلام عليكم يا طاهرين من الدنس ، السلام عليكم يامهديين ، السلام عليكم يا أبرار اللَّه ، السلام عليكم وعلى الملائكة الحافين بقبوركم أجمعين ، جمعنا اللَّه وإياكم في مستقرّ رحمته وتحت عرشه ، إنّه أرحم الراحمين ، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته(1) .

ص: 280


1- المزار لمحمد بن مكي العاملي : 164 .

النصّ الثاني عشر

ثم انحرف إلى قبور الشهداء وقل :

السلام عليكم أيّها الذابّون عن توحيد اللَّه ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، بأبي أنتم وأمّي ، فزتم فوزا عظيما(1) .

ص: 281


1- المزار لمحمد بن المشهدي : 425 ، المزار لمحمد بن مكي العاملي : 161 ، بحار الأنوار : 98/354 .

الإمام الغريب يستصرخ مسلم بن عوسجة وإخوته بعد الشهادة

اشارة

لمّا بقي الإمام الغريب العطشان وحيدا فريدا توجّه نحو القوم ، وجعل ينظر يمينا وشمالاً ، فلم ير أحدا من أصحابه وأنصاره إلاّ من صافح التراب جبينه ، ومن قطع الحمام أنينه ، فنادى عليه السلام :

يا مسلم بن عقيل ! ويا هاني بن عروة ! ويا حبيب بن مظاهر ! ويازهير بن القين ! ويا . . ويا يحيى بن كثير ! ويا هلال بن نافع ! ويا إبراهيم بن الحصين ! ويا عمير بن المطاع ! ويا أسد الكلبي ! ويا عبد اللَّه بن عقيل !

ويا مسلم بن عوسجة !

ويا داود بن الطرماح ! ويا حر الرياحي ! ويا علي بن الحسين !

ويا أبطال الصفا ! ويا فرسان الهيجاء ! ما لي أناديكم فلا تجيبوني ، وأدعوكم فلا تسمعوني ؟!

أنتم نيام أرجوكم تنتبهون، أم حالت منيّتكم عن إمامكم فلاتنصرونه؟!

فهذه نساء الرسول - صلّى اللّه عليه وآله - لفقدكم قد علاهن النحول ، فقوموا من نومتكم ، أيّها الكرام ! وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام .

ص: 282

ولكن صرعكم - واللَّه - ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، وإلاّ لما كنتم عن دعوتي تقصّرون ، ولا عن نصرتي تحتجبون ، فها نحن عليكم مفتجعون ، وبكم لاحقون ، فإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون .

ثم أنشأ يقول :

قوم إذا نودوا لدفع ملمّة

والقوم بين مدعّس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا

يتهافتون على ذهاب الأنفس

نصروا الحسين فيا لها من فتية

عافوا الحياة والبسوا من سندس(1)

* * *

وكيف لا يعلو النحول بنات الرسول على مسلم بن عوسجة ، وهو من أبطال الصفا ، وفرسان الهيجا ، وقد دافع عن خدرهن ، وحرس حدودهن ، ودفع الأعداء عن خيامهن ، وكانت قلوبهن مطمئنة آمنة على أملهن الحسين عليه السلام ما دامت عيون أصحابه تطرف ، وسيوفهم

في أيديهم .

صلّى اللَّه عليك يا مسلم بن عوسجةولعن قاتليك . . .

ص: 283


1- ناسخ التواريخ : 2/448، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام : 584 .

رثاؤه

قال الشاعر :

نصروه أحياء وعند مماتهم

يوصي بنصرته الشفيق شفيقا

أوصى ابن عوسجة حبيبا قال

قاتل دونه حتى الحمام تذوقا(1)

* * *

قال الشيخ محمد السماوي :

إنّ امرءا يمشي لمصرعه

سبط النبي لفاقد الترب

أوصى حبيبا أن يجود له

بالنفس من مقة ومن حبّ

أعزز علينا يا بن عوسجة

من أن تفارق ساحة الحرب

عانقت بيضهم وسمرهم

ورجعت بعد معانق الترب

أبكي عليك وما يفيد بكا

عيني وقد أكل الأسى قلبي

* * *

ص: 284


1- شجرة طوبى للحائري : 2/281 .

قال الشاعر :

ثم تلاهم مسلم بن عوسجه

قال مقالاً صادقا ما أبهجه

نحن نخلّيك كذا ونسري

وقد أحاط فيك أهل الغدر

ما العذر عند اللّه في أداء

حقّك وهو أوجب الأشياء

لأحفظن غيبة الرسول

بالنفس والكثير والقليل

لو لم يكن معي سلاح أبدا

قذفتهم بالصخر حتى ينفدا

سبعين مرّة لو أنّي أقتل

أحرق مثلها بنار تشعل

ثم أذرّى بعد في الهواء

ما ملت عن نصري ولا ولائي

فكيف وهي قتلة وبعدها

كرامة خالقها أعدها(1)

* * *

قال الكميت :

ومال أبو الشعثاء أشعث داميا

وإنّ أبا جحل قتيل مجحل(2)

المراد بأبي جحل مسلم بن عوسجة .

ص: 285


1- ليلة عاشوراء في الحديث والأدب للشيخ عبد اللّه الحسن : 398 .
2- تاج العروس للزبيدي : 14/99 .

عقبه

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة :

الطريحيون من أقدم أسر النجف وأشهرها ، وقد سمّوا بجدّهم « طريح النجفي » ، وقد وجد فيهم كثير من رجال العلم والصلاح ، وصلّى في مسجدهم المعروف في النجف المحقّق الكركي المتوفى سنة 922 ، وعندهم سجلاّت وصكوك يرتقي عهدها إلى القرن الثامن .

وهم من بني أسد ، ويظهر أنّهم انتقلوا بعد خراب الكوفة إلى النجف في القرن السادس الهجري ، وكان بنو أسد من أكثر القبائل في أعراص الكوفة . . .

و« المسلمي » لعلّه نسبة إلى مسلم بن عوسجة الأسدي(1) .

وقال في الكتاب المذكور أيضا :

يدّعي الطريحيون أنّ « المسلمي » نسبة إلى مسلم بن عوسجة الأسدي شهيد كربلاء ، وأنّهم من سلالته ، ولكن السيد مهدي القزويني في كتابه

ص: 286


1- أعيان الشيعة للأمين : 8/394 .

« أنساب القبائل » يقول : الطريحيون قوم ينسبون إلى بني أسد من ولد حبيب بن مظاهر الأسدي الشهيد مع الحسين عليه السلام بالطف .

ومن ذلك يظنّ أنّ أمثال هذه الدعاوى لا تستند إلى دليل .

ويحتمل أن تكون نسبتهم إلى بني مسلم الذين قال عنهم السيد مهدي في الكتاب المذكور : أنّهم قبيلة من بني الحسناء في العراق ، واللّه أعلم(1) .

ص: 287


1- أعيان الشيعة للأمين : 4/620 .

بعض ما قيل فيه

الشيخ عباس القمي رحمه الله

. . كان مسلم بن عوسجة - رحمه اللّه - وكيل مسلم بن عقيل عليهماالسلام في قبض الأموال وبيع الأسلحة وأخذ البيعة ، ثم ذكر خبر شهادته(1) . .

خير الدين الزركلي

مسلم بن عوسجة ( . . .- 61 ه-) ( . . . - 680 م ) .

مسلم بن عوسجة الأسدي : من أبطال العرب في صدر الإسلام .

شهد يوم « أذربيجان » وغيره من أيام الفتوح .

وكان مع الحسين بن علي في قصده الكوفة ، فقتل وهو يناضل عنه(2) .

محمد مهدي شمس الدين رحمه الله

مسلم بن عوسجة الأسدي : ذكرته جميع المصادر .

ص: 288


1- نفس المهموم : 239 .
2- الأعلام للزركلي : 7/222 .

هو أول قتيل من أنصار الحسين ، بعد قتلى الحملة الأولى .

كان صحابيا ممّن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وروى عنه ؟

كان يأخذ البيعة للحسين في الكوفة .

عقد له مسلم بن عقيل على ربع مذحج وأسد حين بدأ تحركه القصير الأجل !!!

شيخ كبير السن .

شخصية أسدية كبرى .

إحدى شخصيات الكوفة البارزة .

أبدى شبث بن ربعي ( في الجيش الأموي ) أسفه لقتله .

الأسدي : عدنان ( عرب الشمال(1) ) .

السيد الخوئي رحمه الله

مسلم بن عوسجة : من أصحاب الحسين عليه السلام ، رجال الشيخ .

وهو ممّن استشهد بين يدي الحسين عليه السلام .

وقد وقع التسليم عليه في زيارتي الرجبية والناحية المقدّسة .

ثم ذكر نصّ زيارة الناحية الخاص بمسلم بن عوسجة(2) .

ص: 289


1- أنصار الحسين عليه السلام لشمس الدين : 108 رقم 72 .
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي : 19/167 رقم 12364 .

ابن داود الحلي

مسلم بن عوسجة « سين » « جخ » قتل معه بكربلاء(1) .

التفريشي

مسلم بن عوسجة : من أصحاب الحسين عليه السلام ، رجال الشيخ ، قتل معه عليه السلام بكربلاء(2) .

محمد علي الأردبيلي

مسلم بن عوسجة « سين » قتل معه بكربلا(3) .

السيد علي البروجردي

مسلم بن عوسجة « سين » قتل معه بكربلاء « د »(4) .

الشيخ المامقاني

مسلم بن عوسجة : عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب سيد المظلومين ، أرواحنا فداه ، وأنّه قتل معه بكربلاء .

ص: 290


1- رجال ابن داود الحلّي : 188 رقم 1561 .
2- نقد الرجال للتفريشي : 4/384 رقم 14/5281 .
3- جامع الرواة : 2/230 .
4- طرائف المقال : 2/72 .

وأقول : هو ابن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسيد بن خزيمة ، أبو جحل الأسدي السعدي .

وكان صحابيا ممّن رأى النبي صلى الله عليه و آله ، وكان شجاعا ، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية ، ونصّ على ذلك ابن سعد في محكي طبقاته .

وعن العسقلاني أنّه كان رجلاً شريفا سريّا عابدا قارئا متنسكا ، استشهد مع الحسين عليه السلام بطفّ كربلاء .

وأقول : جلالة الرجل وعدالته ، وقوّة إيمانه ، وشدّة تقواه ، ممّا تكلّ الأقلام عن تحريرها ، وتعجز الألسن عن تقريرها ، ولو لم يكن في حقّه إلاّ ما تضمّنته زيارة الناحية المقدّسة لكفاه(1) . .

الحائري في معالي السبطين

هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة الأسدي ، وكان رجلاً شريفا سريّا عابدا متنسكا فارسا شجاعا ، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية ، وكان صحابيا ممّن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو ممّن كاتب

الحسين عليه السلام من الكوفة ، وممّن أخذ البيعة له عند مجيء مسلم بن عقيل عليهماالسلام إلى الكوفة ، وكان - رحمه اللّه - وكيل مسلم في قبض الأموال ، وبيع وشراء الأسلحة ، وأخذ البيعة .

ص: 291


1- تنقيح المقال للمامقاني : 3/214 رقم11781 .

ثم إنّه بعد أن قبض على مسلم وهاني وقتلا اختفى مدّة ، ثم فرّ بأهله إلى الحسين عليه السلام ، فوافاه بكربلاء ، وفداه بنفسه .

وهو القائل للحسين عليه السلام ليلة العاشر : نحن نخليك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدو ؟! لا واللَّه لا يراني اللَّه أبدا وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم أفارقك أو أموت معك . . . . ثم ذكر شهادته .

إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام

مسلم بن عوسجة الأسدي : هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة ، أبو حجل الأسدي السعدي ، كان رجلاً شريفا سريّا عابدا متنسكا .

قال ابن سعد في طبقاته : وكان صحابيا ممّن رأى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وروى عنه الشعبي .

وكان فارسا شجاعا ، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية ، وسيأتي قول شبث فيه .

وقال أهل السير : إنّه ممّن كاتب الحسين عليه السلام من الكوفة ، ووفى له ،وممّن أخذ البيعة له عند مجيئ مسلم بن عقيل إلى الكوفة .قالوا : ولمّا دخل عبيد اللّه بن زياد الكوفة وسمع به مسلم خرج إليه ليحاربه ، فعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد ، ولأبي ثمامة

ص: 292

على ربع تميم وهمدان ، ولعبيد اللّه بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وللعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة ، فنهدوا إليه حتى حبسوه في قصره .

ثم إنّه فرّق الناس بالتخذيل عنه ، فخرج مسلم من دار المختار التي كان نزلها إلى دار هاني بن عروة ، وكان فيها شريك بن الأعور . .

فأراد عبيد اللّه أن يعلم بموضع مسلم ، فبعث معقلاً ! مولاه وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره أن يستدلّ بها على مسلم ، فدخل الجامع وأتى إلى مسلم بن عوسجة ، فرآه يصلّي إلى زاوية ، فانتظره حتى انفتل من صلاته ، فسلّم عليه ، ثم قال : يا عبد اللّه ، إنّي امرؤ من أهل الشام ، مولى لذي الكلاع ، وقد مَنّ اللّه علي بحبّ هذا البيت وحبّ من أحبّهم ، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يبايع لابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلم يدلّني أحد عليه ، فإنّي لجالس آنفا في المسجد إذ سمعت نفرا يقولون : هذا رجل له علم بأهل هذا البيت ، فأتيتك لتقبض هذا المال ، وتدلّني على صاحبك فأبايعه ، وإن شئت أخذت البيعة له قبل لقائه !!

فقال له مسلم بن عوسجة : أحمد اللّه على لقائك إياي ، فقد سرّني ذلك ، لتنال ما تحبّ ، ولينصر اللّه بك أهل بيت نبيه صلى الله عليه و آله !! ولقد سائتني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته .

ص: 293

ثم إنّه أخذ بيعته قبل أن يبرح ، وحلّفه بالأيمان المغلّظة ليناصحن وليكتمن ، فأعطاه ما رضي .

ثم قال له : اختلف إليّ أياما حتى أطلب لك الإذن ، فاختلف إليه ثم أذن له ، فدخل ، ودلّ عبيد اللّه على موضعه ، وذلك بعد موت شريك .

قالوا : ثم إنّ مسلم بن عوسجة بعد أن قبض على مسلم وهاني وقتلا اختفى مدّة ، ثم فرّ بأهله إلى الحسين عليه السلام ، فوافاه بكربلا ، وفداه بنفسه .

وروى أبو مخنف عن الضحاك بن عبد اللّه الهمداني المشرقي : أنّ الحسين خطب أصحابه ، فقال في خطبته :

إنّ القوم يطلبونني ، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، ثم ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي .

فقال له أهله ، وتقدّمهم العباس بالكلام : لم نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك ، لا أرانا اللّه ذلك أبدا .

ثم قام مسلم بن عوسجة فقال :

أنحن نخلّي عنك ولم نعذر إلى اللّه في أداء حقّك ؟! أم واللّه لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي ، وأضربهم بسيفي ماثبت قائمه بيدي ، ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك .

ص: 294

ثم تكلّم أصحابه على نهجه .

قال الشيخ المفيد : ولمّا أضرم الحسين عليه السلام القصب في الخندق الذي عمله خلف البيوت مرّ الشمر ، فنادى : يا حسين ! أتعجّلت بالنار قبل يوم القيامة ؟!

فقال له الحسين : يا بن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّا ، فرام مسلم بن عوسجة أن يرميه ، فمنعه الحسين عليه السلام عن ذلك ، فقال له مسلم : إنّ الفاسق من أعداء اللّه وعظماء الجبارين ، وقد أمكن اللّه منه .

فقال الحسين عليه السلام : لا ترمه ، فإنّي أكره أن أبدأهم في القتال .

وقال أبو مخنف : لمّا التحم القتال حملت ميمنة ابن سعد على ميسرة الحسين ، وفي ميمنة ابن سعد عمرو بن الحجاج الزبيدي . . وكانت حملتهم من نحو الفرات فاضطربوا ساعة .

وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة .

فقاتل قتالاً شديدا لم يسمع بمثله ، فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه ، فيقول :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد

وإنّ بيتي في ذرى بني أسد

فمن بغاني حائد عن الرشد

وكافر بدين جبار صمد

ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى عطف عليه مسلم بن عبد اللّه الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي ، فاشتركا في قتله .

ص: 295

ووقعت لشدّة الجلاد غبرة عظيمة ، فلمّا انجلت إذا هم بمسلم بن عوسجة صريعا .

فمشى إليه الحسين عليه السلام ، فإذا به رمق ، فقال له الحسين عليه السلام :

رحمك اللّه يا مسلم « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً » .

ثم دنا منه فقال له حبيب ما ذكرناه . .

قال : فما كان بأسرع من أن فاظ ( أي مات ) بين أيديهم ، فصاحت جارية له : واسيداه ! يا بن عوسجتاه !

فتباشر أصحاب عمر بذلك ، فقال لهم شبث بن ربعي : ثكلتكم

أمّهاتكم إنّما تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون أنفسكم لغيركم ، أتفرحون أن يقتل مثل مسلم ابن عوسجة ؟ أما - والذي أسلمت له - لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم « سلق آذربايجان » قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين ، أفيقتل منكم مثله وتفرحون ؟!

وفي مسلم بن عوسجة يقول الكميت بن زيد الأسدي : « وإنّ أبا حجل قتيل مجحل »(1) .

ثم ذكر أبياتا قالها المؤلف رحمه الله في مسلم بن عوسجة ذكرناها في رثائه .

ص: 296


1- إبصار العين لمحمد السماوي : 107 - 111 .

الفهرست

اسمه ونسبه··· 19

نسبته··· 20

الأسدي··· 20

السعدي··· 20

الثعلبي··· 21

منازل بني أسد··· 22

منازل بني أسد في الإسلام··· 23

كنيته··· 25

أبو جحل··· 25

معنى جحل··· 25

عمره··· 28مكانته وشخصيته··· 31

مكانته في قومه··· 36

إباؤه الضيم··· 37

ص: 297

الانضباط والتسليم··· 39

وفاؤه··· 41

علو الهمّة··· 43

قوته وشدة وطأته··· 43

زهده··· 44

حلمه وكظمه الغيظ··· 45

شفقته··· 46

بصيرته ويقينه··· 46

أدبه مع إمامه··· 47

شجاعته··· 48

صور من شجاعته··· 50

الصحابي مسلم بن عوسجة··· 53

مسلم مع أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام ··· 59

لماذا لم يرد اسمه في النصوص التاريخية ؟··· 64

مواقف مسلم بن عوسجة··· 74

موقفه يوم سلق آذربيجان··· 74

مكاتبته الإمام الحسين عليه السلام ··· 74أصناف الذين كاتبوا الحسين عليه السلام ··· 74

مسلم من سادة الفريق الثاني··· 81

الفريق الذي خاطبه الإمام··· 81

ص: 298

نزول مسلم بن عقيل عليهماالسلام عليه··· 83

أخذه البيعة للحسين عليه السلام في الكوفة··· 85

دلالات أخذ البيعة··· 87

أولاً : تخويله بأخذ البيعة··· 87

ثانياً : معرفته بمفاد الدعوة··· 91

ثالثاً : إيمانه واعتقاده ويقينه بمفاد الدعوة··· 93

رابعاً : ثباته على الدعوة التي أخذ البيعة عليها··· 94

خامساً : خبرته وحذقه ودقته··· 94

سادساً : الشجاعة والإقدام والحزم··· 95

لقاء معقل ! !··· 96

رواية الدينوري··· 96

رواية البلاذري··· 98

رواية ابن أعثم الكوفي··· 99

رواية الطبرسي··· 102

رواية الطبري··· 103

رواية ابن شهرآشوب··· 105وقفة عجلان··· 106

مؤاخذات الشيخ القرشي على أعضاء الثورة··· 108

معقل أوهم مسلم بن عوسجة !!··· 109

ص: 299

الشيخ محمد جواد الطبسي مع الخبر··· 111

اختيار السيد ابن طاووس··· 114

لواء مسلم··· 116

قائد الرجالة··· 118

المهمة الصعبة··· 119

معركة القصر··· 122

الساعة الأخيرة مع مسلم بن عقيل عليهماالسلام ··· 125

فرضيات لاستكشاف الموقف··· 128

أولاً : حامل اللواء لا يفرّ··· 128

ثانياً : الاحتمالات التي يمكن أن تعالج الموقف··· 130

التحاقه بسيد الشهداء 7··· 137

ليلة العاشر··· 139

مسلم بن عوسجة ليلة العاشر··· 140

قيام مسلم لجواب الحسين··· 148

مسوغات قيام مسلم بن عوسجة··· 149

وقفات تأمل في كلمات مسلم بن عوسجة··· 153الوقفة الأولى : أنحن نخلى عنك؟!··· 153

الوقفة الثانية : التقرّب الى الحسين بأمّه فاطمة عليهماالسلام ··· 154

الوقفة الثالثة : المقصود من « هكذا »··· 155

ص: 300

الوقفة الرابعة : ننصرف وقد أحاط بك الأعداء··· 156

الوقفة الخامسة : لا يراني اللّه أفعل ذلك أبدا··· 157

الوقفة السادسة : الإعذار الى اللّه ··· 158

الوقفة السابعة : أنا أفعل ذلك؟!··· 161

الوقفة الثامنة : القتال حتى الشهادة··· 162

الوقفة التاسعة : القتال بالحجارة··· 165

الوقفة العاشرة··· 167

الوقفة الحادية عشر··· 167

الوقفة الثانية عشر··· 170

كلامه مع الحسين عليه السلام يوم العاشر··· 173

رمي الشمر··· 174

مع ابن حوزة··· 176

رجزه··· 178

لفتات··· 179

مبارزته ومصرعه··· 191

المشهد الأول : مصرعه في الحملة··· 206المشهد الثاني : مصرعه في المبارزة··· 207

المشهد الثالث : مصرعه في الحملة مبارزة··· 208

الجمع بين المشاهد··· 209

ص: 301

شهادته برواية الخوارزمي··· 210

تعليقة الحائري على شهادته··· 211

تأبين الحسين له··· 213

وصيته بالحسين عليه السلام ··· 226

شهادة شبث··· 232

أول قتيل··· 234

تلخيص الأقوال··· 236

خروج جاريته··· 238

قاتله··· 241

خلف بن مسلم··· 245

عيال مسلم في كربلاء··· 249

عائلة جنادة بن الحرث السلماني··· 249

عائلة عبد اللّه بن عمير الكلبي··· 250

عائلة علي بن مظاهر··· 250

عائلة مسلم بن عوسجة··· 252

سؤال السجاد عليه السلام عنه··· 253زيارة مسلم بن عوسجة··· 255

النمط الأول : الزيارة الخاصة··· 255

تسليم الحجة ( عج ) عليه··· 255

ص: 302

النمط الثاني : الزيارة ضمن زيارة سيد الشهداء عليه السلام ··· 261

النمط الثالث : الزيارة العامة··· 262

النص الأول··· 264

النصّ الثاني··· 268

النصّ الثالث··· 272

النصّ الرابع··· 273

النصّ الخامس··· 274

النصّ السادس··· 275

النصّ السابع··· 276

النصّ الثامن··· 277

النصّ التاسع··· 278

النصّ العاشر··· 279

النصّ الحادي عشر··· 280

النصّ الثاني عشر··· 281

الإمام الغريب يستصرخ مسلم بن عوسجة وإخوته بعد الشهادة··· 282

رثاؤه··· 284عقبه··· 286

بعض ما قيل فيه··· 288

الشيخ عباس القمي··· 288

ص: 303

خير الدين الزركلي··· 288

محمد مهدي شمس الدين··· 288

السيد الخوئي··· 289

ابن داود الحلي··· 290

التفريشي··· 290

محمد علي الأردبيلي··· 290

السيد علي البروجردي··· 290

الشيخ المامقاني··· 290

الحائري في معالي السبطين··· 291

إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام ··· 292

الفهرست··· 297

ص: 304

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.