الانوار النعمانیه

اشارة

سرشناسه:جزایری، نعمت الله بن عبدالله، ق 1112 - 1050

عنوان قراردادی:[الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه]

عنوان و نام پديدآور:الانوار النعمانیه/ تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

مشخصات نشر:بیروت - لبنان - دارالقاریء 1429

مشخصات ظاهری:4ج

عنوان دیگر:الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه

موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه

موضوع:ادبیات عربی -- مجموعه ها

موضوع:احادیث شیعه -- قرن ق 12

ص :1

المجلد 1

اشارة

الانوار النعمانیه

تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

ص :2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

السيد نعمة اللّه الجزائري

اسمه و نسبه:

هو السيد نعمة اللّه الحسيني الموسوي الجزائري ابن السيد عبد اللّه بن السيد محمد ابن السيد حسين بن السيد أحمد بن السيد محمود بن السيد غياث الدين بن السيد مجد (صفحة 6) الدين بن السيد نور الدين بن السيد سعد الدين بن السيد عيسى بن السيد موسى بن السيد عبد اللّه بن الإمام موسى الكاظم عليه السّلام. هكذا أورد المترجم نسبه الشريف في كتابه الأنوار النعمانية (1).

آراء العلماء فيه

قال شيخه الجليل العلامة المجلسي في اجازته له: السيد الأيد، الحبيب اللبيب، الأديب الأريب، الفاضل الكامل، المحقق المدقق، جامع فنون العلم و أصناف السعادات، حائز قصبات السبق في مضامير الكمالات، الأخ الوفي، و الصاحب الرضي، السيد نعمة اللّه الحسيني الجزائري، رزقه اللّه الوصول إلى أعلى مدارج المتقين، و اقتفاء آبائه الطاهرين، فاستجازني تأسيا بسلفنا الصالحين ، و لينظم بذلك في سلك رواة أخبار أئمة الدين سلام اللّه عليهم أجمعين، و كان ذلك بعد أن بلغ الغاية القصوى في الدراية، و رقى العلوم و مناكبها، و رمى بأرواقه عن مراكبها، و عقدت لإفادته المجالس، و غصت بمواعظه المحافل و المدارس، و صنف في أكثر العلوم الدينية و المعارف اليقينية مصنفات رائقة، يسطع منها أنوار الفضل و العرفان.

و قال شيخه المحدث الحر العاملي (2)

فاضل، عالم، محقق، علامة، جليل القدر، مدرس من المعاصرين.

و قال المولى الميرزا عبد اللّه الأفندي (3)

فقيه، محدث، أديب، متكلم، معاصر، ظريف، مدرس، و الآن هو شيخ الاسلام من قبل السلطان بتستر.

و قال الفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني (4)

ص:3


1- 1) (1:380) . في الإجازة الكبيرة، ص 77 لحفيده العلامة السيد عبد اللّه الجزائري و كذا في مستدرك الوسائل للنوري 3:404. [1]
2- 2) أمل الآمل 2:326 [2]
3- 3) رياض العلماء 5:253. [3]
4- 4) لؤلؤة البحرين ص 111. [4]

كان هذا السيد فاضلا، محدثا، مدققا، واسع الدائرة في الاطلاع على أخبار الامامية و تتبع الآثار المعصومية الخ.

و قال حفيده العلامة السيد عبد اللّه الجزائري (1)

المتبحر الجليل النبيل، المشهور ذكره في الآفاق، المشهود بفضله على الاطلاق، و كان من مبدأ نشوئه إلى آخر عمره مولعا بطلب العلم و نشره و ترويجه، كدودا لا يفتر عنه و لا يميل، و كان في أسفاره يستصحب ما يقدر عليه من الكتب، فإذا نزلت القافلة وضعها و اشتغل بها إلى وقت الرحيل، و ربما كان يأخذ الكتاب بيده يطالع فيه و هو راكب في المسير. ثم قال: انتقل إلى تستر و أقام بها و وقع من نفوس أهلها أعظم موقع، و نشر فيها العلوم الشرعية، و قنن محاسن الشرع- و كانت مهجورة فيها منذ زمن الشيخ عبد اللطيف الجامعي-و حث الناس على بناء المساجد و أداء الجماعات و الجمعات، و تصدى للأمور الحسبية على أكمل نظام، و جميع ما يوجد إلى الآن من الرسوم و الآداب الشرعية في هذه البلدة فإنما هي من بقايا آثاره، و جميع من نشأ بعده من العلماء و المشتغلين و أئمة المساجد و الوعاظ و المتهذبين فهم من تلامذته و أتباعه و لو بالواسطة.

و قال المحقق الشيخ أسد اللّه التستري (2)

السيد السند، و الركن المعتمد، الفقيه الوجيه، المحدث النبيه، المحقق النحرير، المدقق العزيز النظير، واسع العلم و الفضل، جليل القدر و المحل، سلالة الأئمة الأبرار، والد الأماجد الأعاظم الأكارم الأخيار و الأكابر المنتشرين نسلا بعد نسل في الأقطار و الأمصار، العلامة الفهامة ، التقى الرضي السري.

و قال العلامة الخوانساري (3)

السيد السند المعتمد الجليل الأواه نعمة اللّه. . . كان من أعاظم علمائنا المتأخرين، و أفاخم فضلائنا المتبحرين، واحد عصره في العربية و الأدب و الفقه و الحديث، و أخذ حظه من المعارف الربانية بحثه الأكيد وكده الحثيث، لم يعهد مثله في كثرة القراءة على أساتيد الفنون، و لا في كسبه الفضائل من أطراف الخزون بأصناف الشجون. كان مع مشرب الاخبارية كثير الاعتناء و الاعتداد بأرباب الاجتهاد، و ناصر مذهبهم في مقام المقابلة منهم بأصحاب العناد و أعوان الفساد، صاحب قلب سليم، و وجه وسيم، و طبع مستقيم، و مؤلفات مليحة، و مستطرفات في السير و الآداب و النصيحة، و نوادر غريبة في الغاية، و جواهر من أساطير أهل الرواية. إلى غير ذلك

ص:4


1- 5) الإجازة الكبيرة ص 70.
2- 6) مقابس الأنوار ص 17. [1]
3- 7) روضات الجنات 8:150. [2]

من اطراء أصحاب المعاجم و أرباب التراجم، و لقد وصفوه و أثنوا عليه جميل الثناء، و اكتفينا بهذا النزر القليل من الاطراء عليه، و فيه كفاية لمن له قلب سليم.

مشائخه و من روى عنهم:

تتلمذ المترجم على كثير من فحول أهل زمانه و روى عنهم، و هم:

1-الميرزا إبراهيم ابن الملا صدرا، المتوفى سنة 1070 ه ق.

2-الأمير إسماعيل بن الأمير محمد باقر الخواتون آبادي، المتوفى سنة 1116 ه ق.

3-الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني، المتوفى سنة 1091 ه ق.

4-الشيخ حسين بن سبتي.

5-المحقق الشيخ آقا حسين الخوانساري، المتوفى سنة 1098 ه ق.

6-شاه أبو الولي بن شاه تقي الدين الشيرازي.

7-الشيخ صالح بن عبد الكريم الكركزاني البحراني، المتوفى سنة 1098 ه ق.

8-الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، المتوفى سنة 1075 ه ق.

9-السيد شرف الدين علي بن حجة اللّه الطباطبائي الشولستاني الغروي، المتوفى سنة 1063 ه ق.

10-الشيخ علي حفيد الشهيد الثاني، المتوفى سنة 1104 ه ق.

11-الشيخ عماد الدين اليزدي.

12-العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، المتوفى سنة 1110 ه ق.

13-المولى محمد باقر السبزواري، المتوفى سنة 1090 ه ق.

14-الشيخ محمد بن سلمان الجزائري.

15-الميرزا رفيعا محمد بن حيدر الطباطبائي، المتوفى سنة 1079 ه ق.

16-ملا محسن الفيض الكاشاني، المتوفى سنة 1091 ه ق.

17-السيد محمد الميرزا الجزائري بن شرف الدين علي الموسوي.

18-السيد هاشم بن الحسين الأحسائي.

19-الشيخ يوسف بن الشيخ محمد البنا الجزائري، المتوفى سنة 1070 ه ق.

تلامذته و من روى عنه

تتلمذ عليه جماعة من العلماء، و كان المترجم مدرسا رسميا في أصفهان و تستر، و تخرج من مدرسته جماعة من فحول الاعلام، كما أنه قدس سره أجاز جماعة منهم، و هم:

1-المولى أبو الحسن الشريف الفتوني النباطي العاملي، المتوفى سنة 1138 ه ق.

ص:5

2-الحاج أبو الحسن بن الحاج زمان الشوشتري، المتوفى سنة 1143 ه ق.

3-المير أبو القاسم بن المير محمد الحسيني المرعشي الشوشتري.

4-الملا أحمد بن الملا كاظم الكبابي الشوشتري، المتوفى سنة 1146 ه ق.

5-الشيخ بهاء الدين محمد الجزائري.

6-الشيخ حسين البحراني.

7-الشيخ حسين بن محي الدين بن عبد اللطيف الجامعي العاملي.

8-الشيخ شمس الدين بن صقر البصري الجزائري.

9-الحاج عبد الحسين بن الحاج كلب علي الكركري، المتوفى سنة 1141 ه ق.

10-الملا عبد الغفار الصراف الشوشتري، المتوفى سنة 1147 ه ق.

11-الخواجة علي بن الخواجة إسماعيل الصراف الشوشتري، المتوفى سنة 1128 ه ق.

12-الشيخ علي بن الشيخ حسين بن الشيخ محي الدين الجامعي العاملي.

13-الحاج عناية اللّه أخ الحاج أبي الحسن المذكور، المتوفى سنة 1147 ه ق.

14-القاضي عناية اللّه بن القاضي محمد معصوم بن القاضي عبد الرضا.

15-الشيخ عوض البصري الحويزي.

16-الملا عيدي محمد القاري بن الملا صالح بن درويش شمس، المتوفى سنة 1138 ه ق.

17-الشيخ فتح اللّه بن علوان الكعبي الدورقي القباني، المتوفى سنة 1130 ه ق.

18-فتح علي آقا بن آقا محمد بن أسد اللّه قزلباش، المتوفى سنة 1135 ه ق.

19-الملا فرج اللّه بن الملا محمد حسين السيد محمد شاهي، المتوفى سنة 1128 ه ق.

20-القاضي مجد الدين بن القاضي شفيع الدين الدزفولي.

21-الملا محمد باقر بن الملا محمد رضا شانه تراش الشوشتري.

22-الملا محمد باقر بن محمد حسين السيد محمد شاهي الشوشتري، المتوفى سنة 1135 ه ق.

23-القاضي محمد تقي بن القاضي عناية اللّه الشوشتري.

24-الشيخ محمد الجزائري، المتوفى سنة 1131 ه ق.

25-الملا محمد زمان بن الملا محمد رضا الصحاف الشوشتري.

26-السيد محمد شاه بن مير محمد حسين المرعشي الشوشتري، المتوفى سنة 1125 ه ق.

27-الشيخ محمد الضبيري النعيمي البلادي البحراني، المتوفى سنة 1130 ه ق.

28-الملا محمد طاهر بن الملا كمال الدين الشوشتري، المتوفى سنة 1127 ه ق.

29-الشيخ محمد علم الهدى ابن الفيض الكاشاني.

ص:6

30-مير محمد هادي بن مير السيد محمد المرعشي الشوشتري، المتوفى سنة 1137 ه ق.

31-الشيخ محمد بن علي بن الحسين النجار الشوشتري، المتوفى سنة 1141 ه ق.

32-الحاج محمود بن مير علي الميمندي.

33-السيد نجم الدين بن السيد محمد بن السيد عبد الرضا الجزائري.

34-مولانا نظر علي الزجاجي الشوشتري، المتوفى سنة 1146 ه ق.

35-القاضي نعمة اللّه بن محمد معصوم الشوشتري، المتوفى سنة 1112 ه ق.

36-السيد نور الدين ابن السيد نعمة اللّه الجزائري.

37-الشيخ يعقوب البختياري الحويزي، المتوفى سنة 1147 ه ق.

مؤلفاته القيمة:

كتب السيد الجزائري مؤلفات و رسائل كثيرة، قد تجاوزت جهود الفرد الواحد، على الرغم كما عرفناه من سيرة حياته، من عدم استقراره و تفرغه للعلم، و توارد الهموم و الغموم و الغربة عليه، و لكن تلك التأليفات الرائقة فضل و توفيق من اللّه تعالى لعباده الصالحين، و هي:

1-الإجازات، كتبها لتلاميذه و معاصريه.

2-الأنوار النعمانية في بيان معرفة النشأة الانسانية.

3-أنيس الفريد أو أنيس الوحيد في شرح التوحيد، و هو عين كتابه نور البراهين.

4-الأيام النحسة و السعيدة.

5-تحفة الاسرار في الجمع بين الاخبار.

6-الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللآلي.

7-حاشية الاستبصار.

8-حاشية أمل الآمل.

9-حاشية توحيد الصدوق قدس سره.

10-حاشية زبدة البيان.

11-حاشية شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة.

12-حاشية شرح الجامي.

13-حاشية شرح اللباب.

14-حاشية الصحيفة الكاملة.

15-حاشية المغني اللبيب عن كتب الأعاريب.

16-حاشية نقد الرجال.

ص:7

17-حواشي الكتب الأربعة و غيرها.

18-الحواشي الضافية و الموازين الوافية، حواش على نهج البلاغة.

19-حل مشكلات العلوم.

20-رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار (1)

21-زهر الربيع (2).

22-شرح الصحيفة الكاملة.

23-شرح عقائد الصدوق.

24-شرح عينية ابن سينا.

25-شرح الفوائد الضيائية.

26-شرح ملحقات الصحيفة.

27-شرح منهاج الصواب.

28-شرح نهج الصواب إلى علم الاعراب في النحو.

29-طريق السالك في توضيح المسالك في النحو.

30-عقود المرجان في تفسير القرآن.

31-الغاية القصوى في النحو.

32-غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام.

33-الفوائد في النحو.

34-الفوائد النعمانية في الحديث.

35-الفوائد النعمية في النحو.

36-قاطع اللجاج في شرح الاحتجاج للطبرسي.

37-كشف الاسرار في شرح الاستبصار.

38-لوامع الأنوار في شرح عيون الأخبار.

39-مسكن الشجون في وجوب الفرار من الطاعون.

40-مشكلات المسائل في النحو.

41-مفتاح اللبيب في شرح التهذيب في النحو.

ص:8


1- 8) طبع في دار التاريخ العربي في بيروت ناق الجزء الاول.
2- 9) طبع على الحجر و في المطبعة الحيدرية و في لبنان مرات عديدة كثر النقاش حول فصه الاخير و اعتبر البعض ان الفصل مدخولا على النسخة الاصلية

42-مقامات النجاة في شرح الأسماء الحسنى.

43-مقصود الأنام في شرح تهذيب الأحكام.

44-مناهج المطالب في النحو.

45-منبع الحياة في اعتبار قول المجتهدين من الأموات.

46-منتهى المطلب في النحو.

47-منهاج الصواب إلى علم الاعراب في النحو.

48-منهاج المبتدي في النحو.

49-نزهة الاخوان و تحفة الخلان.

50-نوادر الاخبار.

51-نهج الصواب في علم الاعراب.

52-نهج اليقين في النحو.

53-نور الأنوار في شرح كلام خير الأخيار.

54-نور البراهين في بيان أخبار السادة الطاهرين (1)

55-النور المبين في قصص الأنبياء و المرسلين (2)

56-هديه المؤمنين في الفقه.

هذا ما عثر عليها أرباب التراجم و المعاجم من تأليفاته و تصنيفاته الثمينة.

ولادته و وفاته:

ولد السيد سنة (1050) ه ق في قرية الصباغية من أرض الجزائر قرب البصرة، و لا زالت القرية تعرف بهذا الاسم إلى اليوم.

و توفي قدس سره ليلة (23) شوال سنة (1112) ه ق، و ذلك بعد سنتين من وفاة أستاذه العلامة المجلسي قدس سره، و كان عمره الشريف (62) سنة، و دفن في جايدرفيلي و تسمى اليوم پ ل دختر، و مرقده معروف يزار هناك و يتبرك. و كان مزاره الشريف مع كثرة المراجعين و قضاء الحوائج عنده متروكا و مخروبا، إلى أن وفق اللّه تعالى العلامة السيد طيب الجزائري دامت توفيقاته بتجديد البناء، فشمر الباع لهذا المقصد الكثير العناء مع بعد مقره عنه، فبني على الجدار القديم الحجري الدائر مداره بناية غالية و قبة عالية، و أخرجت القبة الأولى المخروبة من جوفها (3)

ص:9


1- 10) طبع في ايران بتحقيق مهدي الرجائي
2- 11) اشهر كتبه ذيوعا و اكثرها انتشارا و طباعة
3- 12) نور البراهين ج 1 ص 34 بتحقيق مهدي الرجائي

ص:10

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نحمده بنعمته على نعمائه و نصلي على عبده المقرب لديه محمدا و آله.

(و بعد) فأن المذنب الفقير، صاحب الخطاء و التقصير، قليل البضاعة، و كثير الإضاعة، نعمة اللّه الحسيني، عفى اللّه عن ذنوبه و ستر منه فاضحات عيوبه.

لما فرغ من كتابيه غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام، و كشف الأسرار في شرح الإستبصار، تاقت نفسه إلى تأليف كتاب غريب على نمط عجيب لم يكتب في زبر الأولين و لم تسمح به قريحة أحد من المتأخرين، يكون للأمي و إعظا و مونسا، و للعالم مطرحا و مجلسا، ينتفع منه كل أحد على قدر رتبته، و يستضيء به كل من اراد رفع ظلمته، يشتمل على تفصيل أحوال الإنسان قبل خلقته، و يبين شأنه الى يوم و لوج حفرته و يعقبه بذكر أحواله إلى يوم دخول ناره أو جنته، بل يفصل فيه أحوال الدنيا و أهلها قبل وجودها و بعد وجودها، و بعد ما يكتب عليها الفناء، و مستمدا من اللّه سبحانه التوفيق لرفع الإحتياج إلى المخلوقين لحصول أسباب الغناء. و سميته كتاب الأنوار النعمانية في بيان معرفة النشأة الإنسانية راجيا منه سبحانه أن يجيرنا من أحوال البرزخ و الحساب، و أن يجعله مقبولا عند أصفيائه أولي الألباب و قد إلتزمنا أن لا نذكر فيه إلا ما أخذناه عن ارباب العصمة الطاهرين، أو ما صح عندنا من كتب الناقلين، فأن كتب التواريخ أكثرها قد نقله الجمهور من تواريخ اليهود، و لهذا كان اكثر ما فيها الأكاذيب الفاسدة، و الحكايات الباردة و قد رتبناه على أبواب ثلاثة.

الباب الاول: يشتمل على أنوار

نور، في معرفة الباري سبحانه

إعلم أن المحققين قد أكثروا الدلائل على إثبات الواجب، و على كيفية صفاته الثبوتية و السلبية، و قد كثرت المناقشة بينهم حتى قال بعضهم إنه لم يقم دليل على إثبات الصانع و وحدته خال عن إلاعتراض لإبتناء أكثرها على إبطال الدور و التسلسل و في إبطالهما كلام كثير و إذا كان الحال على هذا المنوال فكيف يعلق إثبات الواجب و وحدته و ما يتبعهما على مثل هذا. مع أن الدلائل على مثل هذا لا تكاد تحصى. و في كل شيء له آية تدل على أنه واحد (1). و في الدعاء يا

ص:11


1- 13) هذا البيت لابي المتاهية الشاعر المشهور و هو ابو اسحاق اسماعيل بن القاسم بن مؤيد بن كيبان العنزي بالولاء العيني الولود (130) ه و المتوفى (210) و في تاريخ وفاته اقواله اخر. بي

خفيا من فرط الظهور. و قد نقل لي أن الفاضل الدواني لما أراد كتابة رسالة في إثبات الواجب قالت له أمه ما تكتب فقال لها رسالة في إثبات الواجب فقالت له، أ في اللّه شك خالق السموات و الأرض فترك تأليف ما أراد و من تأمل دليل الأعرابي حيث سئل عن الدليل على وجود الصانع فقال البعرة تدل على البعير و آثار الأقدام على المسير أ فسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج (1)لا تدل على وجود اللطيف الخبير يجده أدل على المطلوب (2)من البراهين التي ذكرها إبن سينا في كتابيه (الشفا و الإشارات) و الطوسي قدس اللّه روحه في (قواعده و تجريده) فإنك قد عرفت إبتنائها على ما لا يتم و العقول سيالة و لذا ترى كل لاحق يغلط سابقه و ينقض دلائله و قد استفاض في الاخبار ان كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه و ينصرانه و هذا المعنى شايع لا ينكر. فإن قلت إذا كان معرفته تعالى على هذا النحو من الظهور فما بال العقلاء إختلفوا في إثباته، و كيفية صفاته، و بعضهم نفاه رأسا و قال ما يهلكنا إلا الدهر و بعضهم أثبت له شركاء كالمسيح، و عزير، و قالت طائفة الملائكة بنات اللّه، و بعضهم قالوا بجسميته، حتى أن طائفة من طوائف المسلمين كالحنابلة ذهبوا إلى أنه جسم كالأجسام و أنه في صورة شاب حسن الصورة ينزل كل ليلة جمعة راكبا على حمار فيدبر أمر الأرض إلى الجمعة الأخرى حتى أنهم ربما وضعوا لحماره شعيرا فوق سطوحهم، و بعضهم صنعوا له شريكا من التمر و هم بنو حنظلة، و كانوا يعبدونه، قال صاحب الكشاف ما انتفع كافر من ربه مثل انتفاع بني حنظلة، فانهم كانوا يصنعون صنما من التمر و الحلوا فيكثرون السجود له، فإذا جاعوا أكلوه، و كان ذلك العام عام قحط و مجاع و بعضهم أثبت إلهين و هما النور و الظلمة، و قال إن النور يفعل الخير و الظلمة يفعل الشر، إلى غير ذلك من المذاهب الفاسدة و الاراء الكاسدة. قلت الجواب عن هذا من وجوه ألاول: و أن ما وقع به الإختلاف ليس هو محل الظهور فإنك قد تحققت أن مكان الظهور، و هو كونه موجودا صانعا، و هذا لم يشك به عاقل و ما ورد من فرق الكفّار من الانكار له تعالى، فهو من مجرد اللسان، كما حكاه سبحانه بقوله وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ، و قول أهل عبادة الأصنام مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ. الثاني: أن الإختلاف قد جاء من تقليد الأسلاف كما حكاه عنهم من قولهم إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ و اما أسلافهم فقد أخذتهم الحمية الجاهلية، عن متابعة الانبياء لأنهم بزعمهم انهم، أهل ملّة يقتدى بهم الناس فكيف يحسن منهم الترك لرتبة الإمامة و التنزل إلى درجة المأمومية، و لهذا ما كان يقتدى بالأنبياء سوى الفقراء

ص:12


1- 14) الفجاج الطريق الواسع الواضح بين جبلين.
2- 15) هذا الدليل الاني ادل على المطلوب بالنسبة الى افهام اكثر الناس من العوام و الخواص و اما البراهين العقلية التي ذكروها في الكتب و الاسفار العقلية فهي ادل على المطلوب عند اهل النظر و التحقيق و الفكر العميق.

و المساكين و قد عيروا به الأنبياء حيث قالوا، و اتبعك الأرذلون وَ مٰا نَرٰاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرٰاذِلُنٰا بادى الرأي و لا يستبعد هذا من الكفار، فان مثله قد وقع في فرق الإسلام و من محققيهم حتى أن السيد المدقق السيد شريف في شرحه على المواقف لما ذكر مطاعن الثلاثة، و ذكر فضائل امير ألمؤمنين عليه السّلام و مدائحه، قال لكنا وجدنا السلف قالوا بأن الأفضل أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي و حسن ظننا بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه فوجب علينا إتباعهم في ذلك القول، و تفويض ما هو الحق فيه إلى اللّه و مثل هذا قد وقع من علماء الإسلام كثيرا، حتى في أصل المذهب، و الحمد للّه الذي من علينا بإيمان الاباء و الأجداد، فإنه و عمرك من أفضل النعم، و أوفر القسم. . الثالث-أن الإختلاف قد جاء ايضا من زيادة الجاه و الأعتبار، و وفور المال في ما بين اهل تلك المذاهب الفاسدة، فاهم كثيرا ما يعظمون علمائهم، و يحملون إليهم انواع الهدايا، و العوام تبع لأهل العلم في كل ملة و قبيلة، و قد حكى تعالى عنهم بقوله عز من قائل اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ، و في الرواية ما صلوا و لا صاموا، و لكن حللّوا لهم حراما و حرموا لهم حلالا فقبلوه منهم فمن هذه الجهة قال أربابا من دون اللّه، و مثل هذا في فرق الإسلام كثير.

الرابع-أن العقول كلها سافرت طالبة لمعرفته، و قاصدة للوصول إلى قرب حضرته و في الدعاء يا مطلوب كل طالب، و قد كانت مسافة السفر بعيدة جدا، لأنه و إن كان أقرب من حبل الوريد، لكنه على فاستعلى فكان بالمنظر الأعلى، و في الدعاء يا بعيدا في دنوه، و مع بعد هذه المسافة قد كانت مشتملة على اخطار و آفات و قد كان سالكها يحتاج إلى جماعة من الرفقاء و إلى مطية تحمله و إلى نور شمس يستضيء بها في سيره و دليل حاذق قد تكرر سلوكه لذلك الطريق، يعرف موارد مهالكه من أماكن النجاة. فالدليل الحاذق لهذه المسافة، هم الأنبياء و أوصياؤهم المعصومون المحدثون من جانب الغيب و لذا جرت العادة الإلهية بعدم ارسال رسول الا بعد استكمال كمالاته و بلوغه الأربعين، فإنها أقصى غايات الكمال، و في هذه المدة قد كان الباري سبحانه يعلمه و يؤدبه و يعرفه أماكن النجاة و سلوك الطريق إليه، فبعد إكمال المدة أرسله الى الخلائق هاديا لأنه سبحانه قد هداه سابقا. و كرر تردده في طريق قربه و معرفته، و من ثم ذهب المحققون إلى أن أشدّ صدمة على الأنبياء من امتهم هو معاشرتهم معهم، فأن النفوس القدسية إذا تنزلت إلى مخالطة الحيوانات، و تعليمها المراتب الكمال كان عليها في نهاية الإشكال، و من هذا ما أرسل نبي ذو كتاب، إلا بعد رعي الأنعام في البراري و القفار، ليتعودوا على معاشرة الحيوانات، حتى يسهل الخطب عليه بعد الإرسال، روى أن موسى عليه السّلام كان يرعى أغنام شعيب عليه السّلام فانهزم من قطيعه تيس فصعد الجبل فبقى موسى تابعا له، عامة يومه في رؤوس الجبال، فلما لزمه قبله

ص:13

على وجهه، و مسح التراب من فوقه، و قال معتذرا عنده: أيها الحيوان أتعبتك هذا اليوم من جهة الطلب و لا كان المقصود منك القيمة، و لكن الخوف عليك من الذئاب، ثم حمله على عاتقه حتى وصله إلى الحيوانات، فلما كمل له هذا الخلق اوحى اليه أن يا موسى قد صرت قابلا للرسالة فامض إلى فرعون و قل له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، و مثل هذا قد وقع من نبينا صلّى اللّه عليه و آله في موارد كثيرة نذكرها في موضعها إنشاء اللّه. و الحاصل أن الأدلة لهذا الطريق هم الأنبياء عليهم السّلام و أما النور الذي به يقطع تلك المسافة فهو نور العلم فإن العقل إنما يسير بنور العلم، و من هنا ترى من فقد هذا النور واقفا لا يهتدي إلى سلوك ما أمامه من الطريق، تابع لكل ناعق ينعق به، و يقول هذا هو الطريق، و هذا شأن أكثر العوام من كل الملل، و الأديان و أما مطيّة هذا المسافة فهي التحمل و الصبر حتى لا يسأم من كثرة السفر و أما أخطارها فهم الشياطين فإن على رأس كل منزل جماعات كثيرة، منهم يرغبون ذلك المسافر في النزول معهم، لقرب المسافة عندهم و لمكان الإستراحة لديهم، و لا يعرف ذلك الرجل أن غرضهم أخذ ما معه من ثياب الإيمان، و الأموال التي هي قيمة دين الاسلام. و في الحديث عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإسلام عريان فلباسه الحياء و زينته الوقار و مروته العمل الصالح، و عماده الورع و لكل شيء أساس و أساس الإسلام حبنا أهل البيت. و عند سلوك هذه المسافة حصل الإختلاف في الوصول إلى المقصود فبعض بقي متابعا لدليل الطريق الحاذق فوصل إلى أن قال، لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا و بعض تابع دليلا لا معرفة له بتلك المسافة و لا رآها قبل تلك المرة فضل به عن الطريق، فكلما أمعن في السير لم يزدد من المقصود إلا بعدا، و هؤلاء المحكى عنهم بقوله عز من قائل و منهم أمة يهدون الى النار و بقوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ و بعض اقتفى الاثر و هم المؤمنون الامثل فالامثل على تفاوت درجات الاقتفاء و بعض ضل فأخذته شاطين القفار، و ربما منّ اللّه عليه بالنجاة بعد هذا فلما رجعت جماعة المسافرين، كانت على أنحاء شتى فمنهم الواصل حتى رأى بالعيان و منهم القريب إلى الحمى و منهم المسلوب ثياب ايمانه، و كذا في درجات المعرفة، فإنّ بعضهم يقول رأيت و بعضهم يقول سمعت و السماع يختلف اختلافا كثيرا، و من هذا قال بعض بالولد و آخرون بالصاحبة و جماعة بالجسمية، الى غير ذلك مما عرفت، و إن اردت ضرب مثال حسي، فانظر الى قاصدي مكة شرفها اللّه تعالى، فإن كل الحاج مقصدهم واحد، و يرجع جماعة حاجين و آخرون غير حاجين، و ثالث قد حجوا حجا فاسدا و جماعة ما أدركوا الا الاضطراريين، أو احد الاختياريين، و أناس عدلوا من نوع الحج الى نوع آخر، و ليس هذا الاختلاف الا لنظير ما عرفت، و بعد المراجعة قيل سافرت فيك العقول فما ربحت الا اذى السفر. الخامس-انه سبحانه قد احتجب عن الحواس، و في الحديث ان اللّه احتجب عن

ص:14

العقول كما احتجب عن الابصار، و ان الملأ الاعلى يطلبونه كما تطلبونه انتم و ما اثبت له من الصفات انما هو على قدر اوهامنا، و ما تصل إليه افهامنا، فأنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر الى عقولنا القاصرة، و هو تعالى ارفع و اجل، و في كلام الصادق عليه السّلام، اشارة الى هذا المعنى، حيث قال كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه، مخلوق مصنوع مثلكم، مردود اليكم، و لعل النمل الصغار، تتوهم ان للّه تعالى زبانيتين، فإن ذلك كمالها، و تتوهم ان عدمها نقصان لمن لا يتصف بهما و هكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى به. قال الفاضل الدواني هذا كلام، دقيق، رشيق، أنيق، صدر من مصدر التحقيق و مورد التدقيق و السير في ذلك ان التكليف إنما يتوقف على معرفة اللّه تعالى بحسب الوسع و الطاقة و إنما كلفوا ان يعرفوه بالصفات التي الفوها و شاهدوها فيهم، مع سلب النقائص الناشئة، عن انتسابها اليهم، و لما كان الانسان واجبا بغيره، عالما، قادرا، مريدا، حيا، متكلما، سميعا، بصيرا بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها الى الايمان، بأن يعتقد انه تعالى واجب لذاته، لا بغيره عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات و هكذا في سائر الصفات و لم يكلف باعتقاد صفة، له تعالى لا يوجد فيه مثالها و مناسبها بوجه، و لو كلّف به لما امكن تعقله في الحقيقة، و هذا احد معاني قوله عليه السّلام من عرف نفسه فقد عرف ربه انتهى. و حينئذ فمن وصفه بالولد، فبزعمه انه كمال له تعالى عنه، و كذا من وصفه بالجسمية الى آخر ما عرفت، فهذا ايضا هو السبب في الاختلاف. و قد اخطأ جماعة من الصوفية في اعتقادهم الوصول الى كنه حقيقته، و انه لا يحتاج الواصل منهم الى العبادات لانها وسائل، قال العلامة الحلي قدس اللّه ضريحه في كتاب كشف الحق و نهج الصدق، اني شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين عليه السّلام و قد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا و لم يصل، ثم صلوا بعد ساعة لعشاء سوى ذلك الشخص فسئلت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص فقال و ما حاجة هذا الى الصلوة، و قد وصل أ يجوز ان يجعل بينه و بين اللّه تعالى حاجبا فقلت لا فقال الصلوة حاجب بين العبد و الرب انتهى. اقول امثال هذا قد شاهدنا منهم كثيرا و سننقل احوالهم انشاء اللّه تعالى و اسباب الاختلاف كثيرة لا نطول الكتاب بذكرها.

نور الهي

يتضمن برهانا مختصرا في اثبات الواجب و سائر صفاته، يتفرع عليه من التفريعات ما لا يحصى، اعلم ان هذا الصانع المحكم صنعه، على هذا النظام الذي ترى يجب ان يكون في غاية

ص:15

الكمال، بالنظر الى كل كمال و يجب ايضا ان يكون كمالاته كلها موجودة خارجة من القوة لانه لو كان له كمال، منتظر الخروج من لقوة الى الفعل لكان ناقصا بالنظر الى ذلك الكمال فلم يكن كاملا من جميع الوجوه، و قد وجب ان يكون كاملا فيه و اذا كان كذلك وجب ان يكون واحدا بالذات و الصفات لان غاية الكمال، كمال فوق جميع الكمالات و لا ريب ان الواحد بالذات و الصفات اكمل من المثيل في جميع الكمالات اذ يعقل فوق المثيل اكمل في الكمالات في جميع الكمالات و يجب حينئذ ان يكون هذا الصانع موجودا لان الوجود كمال و العدم نقص و يجب ايضا ان يكون عالما و قادرا و مختارا في فعله و مريدا و حيا و سميعا و بصيرا الى غير ذلك من صفات الايجاب و ذلك لان نقائضها نقص و قد تحققت انه يجب ان يكون في غاية الكمال فلا يحتاج الى الاستدلال على كل واحدة من هذه الصفات بدليل على حدة، كما فعل المتكلمون. و يندفع بهذا الدليل ايضا شبهة ابن كمونة المشهورة، و حاصل تقريرها: انه لا يجوز ان يكون الواجب بالذات ذاتين متباينتين، مستجمعتين، لجميع صفات الكمال بان يكون امتيازهما بالذات، و وجودهما عين ذاتيهما، كالصفات، و لا يكون وجوب الوجود مشتركا بينهما، بل كيفية نسبة الوجود اليهما، فيجاب عنها، بانهما لا يخلوان بحسب الفرض، غن انه إما ان يكونا في الصفات الخاصة بكل منهما متساويين بأن يكونا في جميع الكمالات مثلين، أو يكون احدهما اكمل بتفاوت في البين فعلى الثاني انما الواجب هو الاكمل و على الاول لا يكونان في غاية الكمال، اذ يعقل فوقهما اكمل و هو عديم المثال، و الواجب وجب ان يكون في غاية الكمال، في جميع مراتب الجلال و الجمال، و من جملة فروع هذا الاستدلال، ظهور حدوث العوالم الممكنة المتناهية في جانب الازل و الابد حدوثا زمانيا فإن من اعلى مراتب الكمال صدق قوله عليه السّلام كان اللّه و لم يكن معه شيء صدقا متناولا لجميع الاكوان ذاتا أو زمانا و كذا قوله عز من قائل في الحديث القدسي كنت كنزا مخفيا فأحببن ان اعرف فخلقت الخلق لا عرف فانه بظاهره دال على حدوث الممكنات حدوثا زمانيا و الاصل عدم التأويل فتكون الاشياء مخلوقة حادثة فلنبين أي مخلوق سبق المخلوقات وجودا.

نور نبوي

ص:16

اعلم ان الاخبار قد اختلفت في اول مخلوق خلقه اللّه تعالى. فروى رئيس المحدثين الكليني قدس اللّه روحه بإسناده الى الصادق عليه السّلام انه قال ان اللّه خلق العقل و هو اول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره. و في تفسير علي بن ابراهيم عن الصادق عليه السّلام انه اول ما خلق اللّه القلم. و في الاخبار المروية عن النبي صلّى اللّه عليه و آله اول ما خلق اللّه نوري و بلفظ آخر اول ما خلق اللّه روحي. و في الاخبار عن علي عليه السّلام اول ما خلق اللّه النور. و روى ان اول مخلوق هو الهوى ذكره علي بن ابراهيم في تفسير قوله تعالى وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ. قال و ذلك في مبدأ الخلق ان الرب تبارك و تعالى خلق الهوى، ثم خلق القلم فأمره ان يجري فقال يا رب بم اجري فقال بما هو كائن، ثم خلق الظلمة من الهوى، و خلق النور من الهوى، و خلق الماء من الهوى، و خلق العرش من الهوى، و خلق العقيم من الهوى، و هو الريح الشديدة، و خلق النار من الهوى، و خلق الخلق كلهم من هذه الستة التي خلقت من الهوى. و في الروضة مسندا الى ابي محمد بن عطية قال جاء رجل الى ابي جعفر عليه السّلام من اهل الشام من علمائهم فقال يا ابا جعفر جئت اسئلك عن مسألة قد أعيت عليّ ان اجد أحدا يفسرها، و قد سئلت عنها ثلاثة اصناف من الناس فقال كل صنف منهم شيئا غير الذي قال الصنف الاخر فقال له ابو جعفر عليه السّلام ما ذاك قال فأني اسألك عن اول ما خلق اللّه من خلقه، فإن بعض من سئلته قال القدر، و قال بعضهم القلم و قال بعضهم الروح، فقال ابو جعفر عليه السّلام ما قالوا شيئا اخبرك ان اللّه تعالى كان و لا شيء غيره و كان عزيزا و لا احد كان قبل عزّه و ذلك قوله سُبْحٰانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّٰا يَصِفُونَ و كان الخالق قبل المخلوق، و لو كان اول ما خلق اللّه من خلقه الشيء اذا لم يكن له انقطاع ابدا و لم يزل اللّه اذا و معه شيء، ليس هو يتقدمه و لكنه كان اذ لا شيء غيره و خلق الشيء الذي جميع الاشياء منه، و هو الماء الذي خلق الاشياء منه فجعل نسب كل شيء الى الماء و لم يجعل للماء نسبا، يضاف اليه و خلق الريح من الماء ثم سلّط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء ان يثور الحديث. فان قلت فما وجه التوفيق بين هذه الاخبار. فالجواب ان بعضها محمول على الاولية الاضافية و بعضها محمول على الاولية الحقيقية اما اولية الماء فهو بالاضافة الى الاجسام الكثيفة التي تقع عليها الابصار و اما الهوى الذي خلق الماء منه فهو ليس من الاجسام الكثيفة المرئية حتى ان بعضهم ذهب الى انكاره و اما اولية العقل فقد صرح فيه بانه اول خلق من الروحانيين أي الاجسام اللطيفة التي شبهت بالروح في اللطافة و الصفاء و منه الملائكة الروحانيون و هم نوع من الملائكة سموا به لما فيهم من اللطافة و عدم الكثافة كما في باقي انواعهم مع ان بعض المحققين ذهب الى ان العقل الوارد في الاخبار بانه اول الخلوقات هو نوره صلّى اللّه عليه و آله و سيأتي الكلام فيه. و اما اولية القلم فهي بالنظر الى ما جانسه من ادوات الكتابة كالمداد و نحوه و في العرف يقال في شأن

ص:17

الكاتب انه اول ما برأ القلم. و يؤيد ما رواه عبد الرحيم القصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال سئلته عن ن وَ اَلْقَلَمِ قال ان اللّه تعالى خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد قم قال لنهر في الجنة كن مدادا فجمد النهر و كان اشد بياضا من الثلج و احلى من الشهد ثم قال للقلم اكتب قال يا رب و ما اكتب قال اكتب ما كان و ما هو كائن الى يوم القيامة الحديث و سيأتي بتمامه ان شاء اللّه تعالى. و اما الاخبار الواردة بأولية النور، و نوري، و روحي، فهي واحدة و هي عبارة عن نوره صلّى اللّه عليه و آله و هو اول مخلوق على الاولية الحقيقية ليس فيه للاضافة مدخل بوجه من الوجوه لأنه قد استفاض في الاخبار ان نوره صلّى اللّه عليه و آله افرزه اللّه سبحانه من نوره و افرز من ذلك النور انوار الائمة الطاهرين و افرز من ذلك النور الثاني انوار المؤمنين، كما سيأتي بيانه في محله ان شاء اللّه تعالى فهو الاول و الاخر و الظاهر و الباطن و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين. و قد ذكر في شرح المواقف وجها لجمع الاخبار الثلاثة و هي اول ما خلق اللّه العقل و أول ما خلق اللّه القلم، و أول ما خلق اللّه نوري، و هو أنّ المعلول الاول من حيث إنه مجرد يفعل ذاته و مبدأه يسمى عقلا و من حيث أنه واسطة في صدور سائر الموجودات و نقوش العلوم، يسمى قلما، و من حيث توسطه في افاضة أنوار النبوة كان نورا لسيد الانبياء، و هذا يجري على مذاهبهم كما لا يخفى. و اما حقيقة هذه الانوار فلا نتحققها على حقيقتها و لكن المفهوم من هذه الاخبار هو ان المراد بهذه الانوار اجسام لطيفة نورانية على قالب هذه الاجسام و تفارقها في النور و اللطافة و الصفا و لما خلقها و ادخل الارواح فيها كانت اجساما فيها ارواح في عالم الملكوت تسبح اللّه و تقدسه و تمجده و تعلّم الملائكة بعد ان خلقوا للعبادة و التسبيح. و منه قال صلّى اللّه عليه و آله سبّحنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا، و قدسنا فقدست الملائكة بتقديسنا، الحديث. و روى صاحب بستان الكرامة ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا، و عنده جبرئيل عليه السّلام فدخل علي عليه السّلام، فقام له جبرئيل عليه السّلام فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله أتقوم لهذا الفتى فقال له صلّى اللّه عليه و آله نعم ان له عليّ حق التعليم فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله كيف ذلك التعليم يا جبرئيل، فقال لما خلقني اللّه تعالى سئلني من أنت، و ما اسمك، و من أنا، و ما اسمي فتحيرت في الجواب و بقيت ساكتا ثم حضر هذا الشاب في عالم الانوار، و علمني الجواب فقال قل أنت ربي الجليل، و اسمك الجليل و انا العبد الذليل و اسمى جبرئيل و لهذا قمت له و عظمته فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله كم عمرك يا جبرئيل فقال يا رسول اللّه يطلع نجم من العرش في كل ثلاثين الف سنة مرة و قد شاهدته طالعا ثلاثين الف مرة الى هذا الحديث نظر محيي الدين بن عربي حيث قال في اول خطبة فتوحاته الحمد للّه الذي جعل الانسان الكامل معلم الملك و ادار بانقساره (1)بقات الفلك فالنبي و اهل بيته

ص:18


1- 16) قسرة على الامر يقسره قسرا اكرهه عليه و قهره.

صلوات اللّه عليهم قد شاركوا الملائكة في افضل صفاتهم التي هي النورية الخاصة، و زاد عليهم في الصفات العالية التي لا تكاد تحصى. و من هذا اجاب شيخنا طاب ثراه عن شبهة من ذهب الى افضلية الملائكة على الانبياء بأن في الملائكة من لا يفتر عن الطاعة و العبادة من اول عمره الى آخر فناء الدنيا. و حاصل الجواب ان هذه الصفة تنغمر في صفات الانبياء عليهم السّلام فأن ارشاد الخلائق الى طريق الهداية بعد الضلالة يفضل عبادة الملائكة بحكم قوله تعالى وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً أي من انقذها من الضلالة التي هي شبيهة بالموت بل اعظم منه كما ورد في الخبر في روايات الفريقين ان جبرئيل عليه السّلام قد اتى يوما الى منزل فاطمة عليها السّلام فتكلمت معه، و كان فيما خاطبته ان قلت له يا عمّ فلما دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله قال له جبرئيل ان فاطمة عليها السّلام قالت لي يا عم فكيف هذا و نحن معاشر الملائكة قد خلقنا من النور و انتم معاشر البشر قد خلقتم من الطين فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله صدقت فاطمة، ثم يا جبرئيل نحن ايضا مخلوقون من النور أ تعرف النور اذا رايته قال نعم قال صلّى اللّه عليه و آله ادعوا لي عليا فلما دخل قال يا علي أدن مني فدنى نه فوضع جبهته على جبهته و حكها فيها فظهر نور لا تكاد الابصار تطيق النظر اليه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله يا جبرئيل تعرف هذا النور فقال نعم، هذا النور الذي كنا نراه في قوائم العرش، فقال يا جبرئيل من هذا قالت لك فاطمة يا عم، و في هذا الحديث اسرار الهية و حكم ربانية لا تبلغ العقول اكثرها منها: الاشارة الى ان الايمان لا يتم بالشهادتين فقط بل لا بد من الولاية، لانه قسيمه في الكمال و الى هذا الاشارة بقوله عز من قائل اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً لما نوه النبي صلّى اللّه عليه و آله بولايته يوم الغدير، و قال من كنت مولاه فهذا علي مولاه، و منها ان المساواة بينهما انما أتت من عالم الملكوت، نعم إنما فضّله بالنبوة و بتوسط التعليم و الى هذا الاشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. و أما قول علي عليه السّلام انا عبد من عبيد محمد صلّى اللّه عليه و آله فهو إما كما قال الصدوق طاب ثراه من ان المراد عبد طاعة لا عبد ملك أو يكون من باب التواضع لجنابه صلّى اللّه عليه و آله. و الظاهر انه لا يجوز لنا نحن ان نقول هذا القول و ننسبه الى ما نسب نفسه لان عبارات التواضع لا تحسن إلا من قائلها كما هو المتعارف في العادات الزمانية كيف لا و قد روى الصدوق طاب ثراه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال اعطيت ثلاثا و علي مشاركي فيها و اعطى علي ثلاثة و لم اشاركه فيها فقيل يا رسول اللّه و ما الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السّلام قال لواء الحمد لي و علي حامله و الكوثر لي و علي ساقيه و الجنة و النار لي و علي قسيمها، و أما الثلاث التي اعطى علي و لم اشاركه فيها فأنه اعطي شجاعة و لم اعط مثله و اعطي فاطمة الزهراء زوجة و لم اعط مثلها و اعطي ولديه الحسن و الحسين عليهما السّلام و لم اعط مثلهما. و ينبغي ان يراد بالشجاعة هنا اعمالها و ممارسة الحروب و الدخول فيها لا مبدءها من قوة القلب و الجرأة على اقتحام الحروب لان النبي

ص:19

صلّى اللّه عليه و آله منها الحظ الاوفر. نعم لما كان هو الملك و السلطان لم يباشر الحروب بنفسه المباركة بل تصدى لها علي عليه السّلام. و روى أيضا عن عبد اللّه بن مسعود قال دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت يا رسول اللّه أرني الحق لأصل اليه قال يا عبد اللّه الج المخدع (1)و لجت المخدع و علي بن ابي طالب عليه السّلام يصلي و يقول في ركوعه و سجوده، اللهم بحق محمد عبدك اغفر للخاطئين من شيعتي فخرجت حتى اخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمسعته يقول اللّه بحق علي بن ابي طالب عبدك إلاّ ما غفرت للخاطئين من امتي قال فأخذني من ذلك الهلع (2)لعظيم، فأوجز النبي صلّى اللّه عليه و آله في صلاته و قال يا بن مسعود أكفر بعد ايمان فقلت حاشا و كلا يا رسول اللّه و لكن رأيت عليا يسئل اللّه بك و رأيتك تسئل اللّه به و لا اعلم ايكما افضل عند اللّه تعالى فقال اجلس يا بن مسعود فجلست بين يديه. فقال اعلم ان اللّه خلقني و عليا من نور عظمته، قبل ان يخلق اللّه الخلق بالفي عام اذ لا تسبيح و لا تقديس و لا تهليل ففتق نوري فخلق منه السموات و الارض و انا و اللّه اجل من السموات و الارض، و فتق و نور علي بن ابي طالب فخلق منه العرش و الكرسي و علي و اللّه اجل من العرش و الكرسي، و فتق نور الحسن عليه السّلام فخلق منه اللوح و القلم و الحسن و اللّه اجلّ من اللوح و القلم، و فتق نور الحسين عليه السّلام و خلق منه الجنان و الحور العين و الحسين و اللّه اجل من الجنان و الحور العين، ثم اظلمت المشارق و المغارب فشكت الملائكة الى اللّه تعالى ان يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلم اللّه جل جلاله بكلمة فخلق منها روحا ثم تكلم فخلق من تلك الكلمة الاخرى نورا فأضاف النور الى تلك الروح و أقامها اما العرش، فأزهرت المشارق و المغارب، فهي فاطمة الزهراء عليها السّلام، فلذلك سميت الزهراء، يا بن مسعود اذا كان يوم القيامة يقول اللّه جل جلاله، لي و بعلي ادخلا الجنة من شئتما، و أدخلا النار من شئتما و ذلك قوله تعالى أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ فالكافر من جحد نبوتي و العنيد من جحد ولاية علي بن ابي طالب. و روى عن تاج الدين عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مجلسه و عنده جماعة من المهاجرين و الانصار اذ نزل عليه جبرئيل عليه السّلام و قال له يا محمد الحق يقرئك السّلام و يقول لك احضر عليا و اجعل وجهك مقابل وجه ثم عرج جبرئيل عليه السّلام الى السماء فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا فأحضره و جعل وجهه مقابل وجهه فنزل جبرئيل عليه السّلام ثانيا، و معه طبق فيه رطب فوضعه بينهما ثم قال كلا فأكلا ثم احضر طشتا و ابريقا فقال يا رسول اللّه قد امرك اللّه ان تصبّ الماء على يد علي بن ابي طالب فقال صلّى اللّه عليه و آله السمع و الطاعة لما امرني به ربي ثم أخذ الابريق و قام يصب الماء على يد علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال له علي عليه السّلام يا رسول اللّه انا أولى ان أصب الماء على يديك فقال له يا علي إنّ اللّه

ص:20


1- 17) المخدع و المخدع الخزانة أي البيت الصغير توضع فيه الامتعة جمع مخادع
2- 18) هلع الرجل يهلع هلعا جزع او افحش الجزع.

سبحانه و تعالى امرني بذلك و كان كلما اصبّ الماء على يد علي بن ابي طلب عليه السّلام لم يقع منه قطرة في الطشت فقال علي عليه السّلام يا رسول اللّه إني لم أر شيئا من الماء يقع في الطشت فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا علي إن الملائكة يتسابقون على أخذ الماء الذي يقع من يديك فيغسلون به وجوههم ليتبركوا به و غير ذلك من الاخبار.

نور امامي

قد تحققت ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و الائمة صلوات اللّه عليهم قد خلقوا من نور واحد و النبي صلّى اللّه عليه و آله له فضيلة و أما سيد الموحدين أمير المؤمنين عليه السّلام فقد فضله على الأئمة عليهم السّلام و ذكروا أن له الفضل على الأئمة و وجهه ظاهر و أما الحسنان صلوات اللّه عليهما فالذي يظهر من أخبارهم عليهم السّلام أن لهما الفضيلة أيضا على باقيهم و لعل وجهه القرب من النبي صلّى اللّه عليه و آله و مشاهدة الوحي و هبوط الملائكة في منازلهم و القرب من زمان الأسلام و غير ذلك و أما هما صلوات اللّه عليهما فلا نعرف الأفضليه بينهما لأن الإمامة و الخلافة قد أتتهما من جدّهما صلّى اللّه عليه و آله معا و قد كانا في الكمالات كفرسي رهان مع ما خص به الحسين عليه السّلام عوض الشهادة بأن جعل الشفاء في تربته و الدعاء مستجاب تحت قبته و الأئمة من ذريته و لا تعد أيام زائره جائيا و راجعا من عمره، و في الروايات الخاصة أن فاطمة عليها السّلام أتت بهما الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالت يا رسول اللّه، ورث ولديك، فقال صلّى اللّه عليه و آله أما الحسن فله سؤددي و علائى و أما الحسين فله سخاوتي و شجاعتي، و من هذا كان الحسين عليه السّلام في الدرجة القصوى من الكرم و الشجاعة أما الكرم فقد كان الحسن عليه السّلام يكتب إليه بأنك تعطي الشعراء و نحوهم كثير من الأموال فأجابه الحسين عليه السّلام بأنك تعلم يا أخي أن خير المال ماصين به العرض، و فيه دلالة على أن الإعطاء بقصد صون العرض حسنة، و لو لم يكن من أهل الأستحقاق و روى مصرحا به في بعض الأخبار، من أن الإعطاء لصون العرض، يكتب فيه ثواب الصدقة، و أما الشجاعة فناهيك بواقعة الطّفوف، و قدومه على الجهاد، مع ستين ألفا، و قتله الجماعات منهم حتى أحتالوا عليه بأن زاحموا إليه كلهم، و قد كانت العادة بينهم قديما أن يبرز واحد لواحد مع ما لحقه من العطش، و لأذى بقتل أهل بيته، و إخوته و لكن قد سبق الكتاب أجله، و سيأتي بيان هذا إنشاء اللّه تعالى. و في الروايات أن الحسنين عليهما السّلام قد تكاتبا، فجاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله ليميز بين كتابيهما و قد كانا أطفالا فقال لهما، أنا أمي و لكن أمضيا الى أبيكما فجاء أليه، فقال أبوهما أمضيا الى أمكما لتميز بينكما فلما أتيا إليها، قالت يا ولداي، عندي عقد فيه سبع من اللؤالى فأن أقطعه، فكل من يحوز الأربع فسطره الأحسن فلما ألقتها تبادر إلى التقاط فالتقط كل واحد منهما ثلاثة و أتى جبرئيل عليه السّلام يضرب بجناحه اللؤلؤة و قدها نصفين فأخذ كل واحد منهما

ص:21

نصفا، فأنظر نصفين فأخذ كل واحد منهما نصفا، فأنظر إلى رعاية حرمتهما حيث لم يرد اللّه، و رسوله و أبوهما و إمهما إدخال غم الترجيح عليهما و أمثال هذه الروايات الدالة على المساوات بينهما لا تكاد تحصى مع أنه صلّى اللّه عليه و آله، ورثهما من بدنه الشريف، فكان الحسن عليه السّلام يشبه من السرة إلى فوق و الحسين عليه السّلام يشبهه في النصف الباقي. و في الروايات الكثيرة أن الجنة قالت يا رب أسكنتني الضعفاء و المساكين قال لها اللّه تعالى، أ لا ترضين أني زينت اركانك بالسن و الحسين عليهما السّلام، قال فماست كما تميس العروس فرحا و روى أنه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخطب فجاء الحسن و الحسين عليهما السّلام و عليهما قميصان احمران يمشيان و يعثران، فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المنبر فحملهما و وضعهما بين يديه ثم قال صدق اللّه و رسوله أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ نظرت الى هذين الصبيين يمشيان و يعثران، فلم اصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما. و أما بقي الائمة عليهم السّلام فالاخبار قد اختلفت في احوالهم، في المساواة و الاشرفية فروى الصدوق مسندا الى مولانا أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام قال دخلت أنا و أخي علي جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأجلس أخي على فخذه الايمن و أجلسني على فخذه الاخرى، ثم قبّلنا و قال بأبي أنتما من أمامين صالحين اختاركما اللّه مني، و من ابيكما، و أمكما و اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة عليهم السّلام تاسعهم قائمهم، كلهم في الفضل و المنزلة عند اللّه سواء. و في الروايات الأخرى، ان افضلهم قائمهم، و لعل افضليته عليه السّلام باعتبار تشييد اركان الدين، و كثرة جهاده و اعزاز المؤمنين به، و نحو ذلك مما يأتي تفصيله ان شاء اللّه.

نور علوي

اشارة

إعلم أنه لا خلاف بين اصحابنا رضوان اللّه عليهم في اشرفية نبينا صلّى اللّه عليه و آله على سائر الانبياء عليهم السّلام للأخبار المتواترة و إنما الخلاف بينهم في افضلية امير المؤمنين و الائمة الطاهرين عليهم السّلام على الانبياء مما عدا جدهم صلّى اللّه عليه و آله فذهب جماعة الى انهم افضل باقي الانبياء ما خلا اولي العزم. فانهم افضل من الائمة عليهم السّلام، و بعضهم الى المساواة و اكثر المتأخرين الى افضلية الائمة عليهم السّلام، على اولي العزم، و هو الصواب و الدليل عليه امور: الاول: قول النبي صلّى اللّه عليه و آله لو لا علي لم يكن لفاطمة كفؤ آدم عليه السّلام فمن دونه، و قد اعترض الرازي على هذا بأن ابراهيم و اسماعيل ابواها، فلا يدخلان في هذا العموم و الجواب ظاهر و ان المراد النظر الى الكفوية، مع قطع النظر عن الابوية، مع ان غيرهما كاف في باب التفضيل، اذ لا قائل بالفرق بين موسى و ابراهيم. الثاني: ما رواه المفضل بن عمر، قال ابو عبد اللّه عليه السّلام، ان اللّه تبارك و تعالى خلق الارواح قبل الاجساد بالفي عام، فجعل اعلاها و اشرفها، ارواح محمد و علي و الحسن و الحسين

ص:22

و الائمة صلوات اللّه عليهم فعرضها على السموات و الجبال فغشيها نورهم فقال اللّه تبارك و تعالى للسموات و الارض و الجبال هؤلاء احبائي و اوليائي و حججي على خلقي و أئمة بريتي ما خلقت خلقا هو أحب اليّ منهم، و لمن تولاهم خلقت جنتي و لمن خالفهم، و عاداهم خلقت ناري الى ان قال، فلما اسكن آدم عليه السّلام و حوى الجنة نظر الى منزلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و الائمة، فوجداها اشرف منازل اهل الجنة، فقال لهما سبحانه لولاهما، لما خلقتكما و لا يعترض على هذا، بأن الافضلية باعتبار المجموع الذي قد دخل فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله لان قوله سبحانه ما خلقت خلقا هو أحب اليّ منهم بمنزلة قوله، ما خلقت خلقا أحبّ اليّ من محمد، و ما خلقت خلقا احبّ اليّ من علي و هكذا مع ان الاخبار الواردة على طريق الوحدة متكثرة جدا و لعلك تطلع على بعضها ان شاء اللّه تعالى في تضاعيف هذا الكتاب.

الثالث: ما روى مستفيضا من قوله صلّى اللّه عليه و آله اذا كان يوم القيامة اقام اللّه عز و جل جبرئيل و محمد عليهما السّلام على الصراط لا يجوز احد الاّ من كان معه براءة من علي بن ابي طالب عليه السّلام و الا هلك و انزله اله الدرك الاسفل و كذا روى انه لا يدخل الجنة احد الا من كان معه براءة من علي بن ابي طالب عليه السّلام واحد من الموضعين نكرة في سياق النفي، و توجيه هذا ظاهر فأنه سيأتي ان شاء اللّه تعالى في نور عرصات القيامة، ان اللّه تعالى يبعث رضوان بمفاتيح الجنة، و مالكا بمفاتيح النار فيدفعهما الى علي بن ابي طالب عليه السّلام، و يأتي شفير جهنم فيقف و الملائكة تسوق الناس الى الصراط، و هو واقف عنده فيقول يا نار هذا لي و هذا لك و هذا معنى كونه قسيم الجنة و النار، على ما تواترت به الاخبار، و في احاديث عيون اخبار الرضا عليه السّلام ان النبي صلّى اللّه عليه و آله سمّي ابا القاسم لانه ربّى عليا في حجره لما اخذه من ابي طالب عام القحط، و علي قاسم الجنة و النار، و النبي ابوه فهو ابو القاسم. الرابع: ما رواه ابن عباس، في تفسير قوله تعالى وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ قال كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأقبل علي بن ابي طالب عليه السّلام فلما رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله تبسم في وجهه و قال مرحبا بمن خلقه اللّه تعالى، قبل ابيه آدم عليه السّلام بأربعين الف عام، فقلت يا رسول اللّه أ كان الابن قبل الاب فقال نعم ان اللّه خلقني و خلق عليا قبل ان يخلق آدم عليه السّلام بهذه المدة خلق نورا فقسمه نصفين فخلقني من نصفه و خلق عليا من النصف الاخر، قبل الاشياء فنورها من نوري و نور علي جعلنا عن يمين العرش ثم خلق الملائكة فسبحنا فسبحت الملائكة و هللنا فهللت الملائكة و كان ذلك من تعليمي و تعليم علي و كان ذلك في علم اللّه السابق ان الملائكة تتعلم منا التسبيح، و التكبير و التهليل، و كل شيء سبح اللّه و كبره، و هلله بتعليمي و تعليم علي، و كان في علم اللّه السابق ان لا يدخل النار محب لي و لعلي، و كذا كان في علمه تعالى ان لا يدخل الجنة مبغض لي و لعلي الا و ان اللّه عز و جل خلق ملائكة بأيديهم اباريق اللجين مملوة من ماء الجنة من الفردوس،

ص:23

فما أحد من شيعة علي الا و هو طاهر الوالدين تقي نقي، مؤمن باللّه فاذا اراد واحدهم ان يواقع اهله جاء ملك من الملائكة الذين بأيدهم اباريق الجنة فطرح من ذلك الماء في انائه الذي يشرب فيه، فيشرب هو ذلك الماء فينبت الايمان في قلبه كما ينبت الزرع فهم على بينة من ربهم و من نبيهم و من وصيي علي و من ابنتي فاطمة الزهراء ثم الحسن ثم الحسين و الائمة من ولد الحسين عليهم السّلام الحديث و وجه الاستدلال بهذا ظاهر لان مرتبة الاستناد الاولى اعلى درجة من درجة التلميذ كما يظهر من قوله صلّى اللّه عليه و آله و كل شيء سبح اللّه بتعليمي و تعليم علي. الخامس: ما استفاض في الاخبار من ان علم الائمة عليهم السّلام اكمل من علوم كل الانبياء و ذلك ان من جملته علم الاعظم، و هو ثلاثة و سبعون حرفا حرف منها استأثر به اللّه سبحانه و اثنان و سبعون علمها لرسوله، و أمره ان يعلمها اهل بيته و اما باقي الانبياء عليهم السّلام فقال الصادق عليه السّلام ان عيسى بن مريم عليه السّلام اعطي حرفين كان يعمل بهما و اعطي موسى عليه السّلام اربعة أحرف و اعطي ابراهيم عليه السّلام ثمانية احرف و اعطي نوح عليه السّلام خمسة عشر حرفا، و اعطي آدم عليه السّلام خمسة و عشرين حرفا و قد جمع كل ذلك لمحمد و آله، سوى حرف واحد استأثر به اللّه. و روى صاحب كتاب الاربعين عن عمار بن خالد عن اسحاق الازرق عن عبد الملك بن سليمان قالا وجد في ذخيرة حواري عيسى عليه السّلام في رق مكتوب انه لما تشاجر موسى و الخضر عليهما السّلام في قصة السفينة و الغلام، و الجدار و رجع موسى الى قومه فسأله اخوه هارون عما شاهده من عجائب البحر قال موسى عليه السّلام انا و الخضر على شاطئ البحر اذ سقط بين ايدينا طاير فأخذ في منقاره قطرة من ماء البحر و رمى به نحو المشرق و أخذ الثانية و رمى بها نحو المغرب فأخذ الثالثة و رمى بها نحو السماء و اخذ الرابعة فرمى بها نحو الارض ثم أخذ خامسة فالقيها في البحر فبهتّ أنا و الخضر من ذلك و سألته عنه فقال لا اعلم فبينما نحن كذلك و اذا بصياد في البحر فنظر الينا و قال ما لي اركما في فكرة من أمر الطاير فقلنا هو كذلك فقال انا رجل صياد و قد علمت اشارته و أنتما بيان لا تعلمان، فقلنا لا نعلم إلاّ ما علمنا اللّه عز و جل فقال هذا الطائر في البحر يسمى مسلما لأنه اذا صاح يقول في صياحه مسلم فاشارته برمي الماء يقول يأتي في آخر الزمان نبي يكون علم اهل السموات و الارض و المشرق و المغرب عند علمه مثل هذه القطرة الملقاة في هذا البحر و يرث علمه ابن عمه و وصيه علي بن ابي طالب فعند ذلك سكن ما كنا فيه من التشاجر و استقل كل واحد منا علمه. و اما حوادث العلوم المتجددة بحوادث الايام في اعصار الائمة عليهم السّلام فقد روى ان علمها يعرض على روح النبي صلّى اللّه عليه و آله و من بعده من الائمة عليهم السّلام ثم يعرض على الامام الحي حتى لا يكون لاخرهم فضل على اولهم بالعلم و من كان اعلم كان افضل لقوله سبحانه هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ. السادس: انه قد روى في عدة اخبار انه قد اجتمع في علي عليه السّلام من

ص:24

الصفات ما وجد في غيره متفرقا من الانبياء السابقين. روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى سليم بن قيس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي في السماء السابعة كالشمس بالنهار في الارض و في السماء السادسة الدنيا كالقمر بالليل في الارض اعطى اللّه تعالى عليا من الفضل جزءا لو قسّم على الارض لو سعهم و اعطاه اللّه من الفهم جزء لو قسم على اهل الارض لو سعهم شبهت لينه بلين لوط عليه السّلام و خلقه بخلق يحيى عليه السّلام و زهده بزهد ايوب عليه السّلام و سخاؤه بسخاء ابراهيم عليه السّلام و بهجته ببهجة سليمان بن داود عليهما السّلام و قوته بقوة داود عليه السّلام له اسم مكتوب على حجاب في الجنة بشرني ربي الحديث و كل من جمع الاوصاف الحسنة له فضل على كل من فيه احدها. السابع: انه روى في صفة منبر الوسيلة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه منبر يؤتى به يوم القيامة فيوضع عن يمين العرش فيرقاه النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم يرقى من بعده امير المؤمنين عليه السّلام فيجلس في مرقاة دونه ثم الحسن عليه السّلام في مرقاة دونه الى آخر الائمة ثم يؤتى بابراهيم و موسى و عيسى و الانبياء عليهم السّلام فيجلس كل واحد على مرقاة من دون المراقي و في هذا ايضا دلالة على ترتيب الفضل و الشرف. الثامن: ما رواه ابو حمزة الثمالي قال دخل عبد اللّه بن عمر على زين العابدين عليه السّلام و قال يا بن الحسين انت الذي تقول ان يونس بن متى إنما لقى من الحوت ما لقى لانه عرضت عليه ولاية جدي فتوقف عندها قال عليه السّلام بلى ثكلتك امك قال فأرني آية ذلك ان كنت من الصادقين فأمر بشد عينه بعصابة و عيني بعصابة ثم امر بعد ساعة بفتح اعيننا فاذا نحن على شاطئ بحر تضطرب امواجه فقال ابن عمر يا سيدي دمي في رقبتك اللّه اللّه في نفسي ثم قال عليه السّلام ايتها الحوت قال فأطلع الحوت رأسه البحر مثل الجبل العظيم و هو يقول لبيك لبيك يا و لي اللّه فقال من انت قال انا حوت يونس يا سيدي ان اللّه لم يبعث نبيا من آدم الى ان صار جدك محمدا صلّى اللّه عليه و آله الا و قد عرض عليه ولايتكم اهل البيت فمن قبلها من الانبياء سلم و تخلص و من توقف عنها و تتعتع (1)في حملها لقى ما لقى آدم عليه السّلام من المصيبة و ما لقى نوح عليه السّلام من الغرق و ما لقى ابراهيم عليه السّلام من النار و ما لقى يوسف عليه السّلام من الجب و ما لقى ايوب عليه السّلام من البلاء و ما لقى داود عليه السّلام من الخطيئة الى ان بعث اللّه يونسا عليه السّلام فأوحى اللّه اليه ان يا يونس تولّ امير المؤمنين عليا و الائمة الراشدين من صلبه فقال كيف اتولى من لم اره و لم اعرفه و ذهب مغاضبا فأوحى اللّه تعالى اليّ ان التقمي يونس و لا توهني له عظما فمكث في بطني اربعين صباحا يطوف معي البحار في ظلمات ثلث ينادي ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين قد قبلت ولاية علي بن ابي طالب و الائمة الراشدين من ولده عليهم السّلام فلما آمن بولايتكم امرني ربي فقذفته على ساحل البحر فقال زين العابدين عليه السّلام ارجعي ايتها الحوت الى وكرك فرجع

ص:25


1- 19) تنتع في الكلام تردد من حصر اوعى و تعتعت الدابة ارتطمت في الرمل.

الحوت و استوى الماء. التاسع: ما اورده الصدوق طاب ثراه نقلا عن جماعة قال لما وردت حرّة بنت حليمة السعدية رضي اللّه عنهما على الحجاج بن يوسف الثقفي و جلست بين يديه فقال لها انت حرّة بنت حليمة قد قيل انك تفضلين عليا على ابي بكر و عمر و عثمان قالت لقد كذب الذي قال اني افضله على هؤلاء خاصة قال و على من غير هؤلاء قالت افضله على آدم و نوح و لوط و ابراهيم و موسى و داود و سليمان و عيسى بن مريم فقال لها ويلك اقول لك انك تفضليه على الصحابة فتزيدين عليهم ثمانية من الانبياء من اولي العزم فان لم تأتيني ببيان ما قلت و الا ضربت عنقك فقالت ما انا فضلته على هؤلاء الانبياء بل اللّه عز و جل فضله في القرآن عليهم في قوله في حق آدم فعصى آدم ربه فغوى و قال في حق علي عليه السّلام و كان سعيهم مشكورا فقال احسنت يا حرة فبم تفضليه على نوح و لوط قالت اللّه تعالى فضله عليهم بقوله ضرب اللّه مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما و علي بن ابي طالب كان ملكه تحت سدرة المنتهى زوجته بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله فاطمة الزهرا عليها السّلام التي يرضى اللّه لرضاها و يسخط لسخطها، فقال الحجاج احسنت يا حرّة فبم تفضليه على اب الانبياء ابراهيم خليل اللّه عليه السّلام فقالت اللّه فضله بقوله قال ابراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ قٰالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و امير المؤمنين قال قولا لم يختلف فيه احد من المسلمين لو كشف الغطاء ما أزددت يقينا و هذه كلمة لم يقلها قبله و لا بعده أحد قال أحسنت يا حرّة فبم تفضليه على موسى عليه السّلام نجي اللّه قالت بقول اللّه عز و جل فَخَرَجَ مِنْهٰا خٰائِفاً يَتَرَقَّبُ قٰالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ و علي بن أبي طالب بات على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يخف حتى أنزل اللّه في حقه وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ، قال أحسنت يا حرة قال فبما تفضليه على داود عليه السّلام قالت أللّه فضله عليه بقوله يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لاٰ تَتَّبِعِ اَلْهَوىٰ قال فأي شيء كانت حكومته قالت في رجلين أحدهما كان له كرم و للاخر غنم فنفشت الغنم في الكرم فرعته فأحتكما الى داود فقال تباع الغنم و ينفق ثمنها على الكرم، حتى يعود على ما كان عليه فقال له ولده يا أبه بل يأخذ من لبنها و صوفها فقال اللّه عز و جل فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ. و أن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال أسئلوني عما فوق السماء إسألوني عما تحت العرش إسألوني قبل أن تفقدوني و أنه عليه السّلام دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح خيبر فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله للحاضرين أفضلكم و أعلمكم علي فقال لها أحسنت يا حرة، فبم تفضليه على سليمان عليه السّلام فقالت اللّه فضله عليه بقوله رب هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي و مولانا عليه السّلام قال يا دنيا طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك فعند ذلك أنزل اللّه عليه تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قال أحسنت يا حرة فبم تفضليه على عيسى بن مريم عليه السّلام قالت أللّه فضله عليه

ص:26

بقوله إذ قال اللّه يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالَ سُبْحٰانَكَ الى أخر الأية. و علي بن أبي طالب عليه السّلام لما إدعوا النصيرية فيه ما ادعوا لم يعاتبه اللّه سبحانه فقال احسنت يا حرّة خرجت من جوابك و لو لا ذلك لما كان ذلك ثم اجازها و اعطاها و سرحها سراحا حسنا. اقول هذا الجواب منها قد ورد في الاخبار و لكن لم يجتمع في خبر فلذلك نقلناه من كلام حرة و الاّ فقد رويناه في الاخبار عن الائمة الطاهرين. و في كتاب المناقب مسندا الى صعصعة بن صوحان انه دخل على امير المؤمنين عليه السّلام لما ضرب فقل يا امير المؤمنين أنت افضل ام آدم ابو البشر؟ قال علي عليه السّلام تزكية المرء نفسه قبيح لكن قال اللّه تعالى لادم يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ و انا اكثر الاشياء اباحها لي و تركتها و ما قاربتها ثم قال أنت افضل يا امير المؤمنين أم نوح قال علي عليه السّلام ان نوحا دعا على قومه و انا ما دعوت على ظالمي حقي و ابن نوح كان كافرا و ابناي سيدا شباب اهل الحنة قال انت افضل ام موسى قال عليه السّلام ان اللّه تعالى ارسل موسى الى فرعون فقال اني اخاف ان يقتلوني حت قال اللّه تعالى لاٰ تَخَفْ إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ و قال رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخٰافُ أَنْ يَقْتُلُونِ و انا ما خفت حين ارسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ سورة براءة ان اقرأها على قريش في الموسم مع اني كنت قتلت كثيرا من صناديدهم فذهبت بها اليهم و قرأتها عليهم و ما خفتهم ثم قال انت افضل ام عيسى بن مريم قال عيسى عليه السّلام كانت امه في بيت المقدس فلما جاء وقت ولادتها سمعت قائلا يقول اخرجي هذا بيت العبادة لا بيت الولادة و انا امي فاطمة بنت اسد لما قرب وضع حملها كانت في الحرم فانشق حايط الكعبة و سمعت قائلا يقول ادخلي فدخلت في وسط البيت و انا ولدت به و ليس لاحد هذه الفضيلة لا قبلي و لا بعدي. العاشر: ما رواه الصدوق باسناده الى عمار بن ياسر رضي اللّه عنه قال لما سار علي بن ابي طالب عليه السّلام الى صفين وقف بالفرات و قال لاصحابه اين المخاض فقالوا انت اعلم يا امير المؤمنين فقال الرجل من اصحابه امض الى هذا التل و ناديا جلندا فأين المخاض قال فسار حتى وصل التل و نادى يا جلندا فاجابه من تحت الارض خلق عظيم فبهت و لم يعلم ما ذا يصنع فأتى الى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال جاوبني خلق كثير فقال الامام يا قنبر امض و قل يا جلندا بن كركر اين المخاض قال فمضى و قال يا جلندى بن كركر اين المخاض قال فكلمه واحد و قال لهم يا ويلكم من عرف اسمي و اسم ابي عرف اين المخاض و انا في هذا المكان و قد بقيت ترابا و قدمت من ثلاثة الاف سنة و قد عرّفكم بأسمي و اسم ابي و هو لا يعلم اين المخاض فو اللّه اعلم بالمخاض مني يا ويلكم ما اعمى قلوبكم و اضعف يقينكم امضوا اليه و اتبعوه فأين خاض خوضوا معه فأنه اشرف الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص:27

اقول: وجه الاستدلال من هذا الخبر ان اخص اوصاف عيسى عليه السّلام و معجزاته احياء الموتى و هنا قد احيا اللّه الاموات لرسول علي بن ابي طالب عليه السّلام فأين هذا من ذاك. الحادي عشر:

ما رواه صاحب كتاب القدسيات و هو من اعظم محققي الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال لعلي يا علي ان اللّه تعالى قال لي يا محمد بعث عليا مع الانبياء باطنا و معك ظاهرا ثم قال صاحب ذلك الكتاب و صرّح بهذا المعنى في قوله انت مني بمنزلة ارون من موسى و لكن لا نبي بعدي ليعلموا ان باب النبوة قد ختم و باب الولاية قد فتح. و اشارة بعث علي عليه السّلام مع الانبياء عليهم السّلام باطنا الى سر الولاية التي ظهرت بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله ليكون علماء امته الذين هم الاولياء داعين للناس في سواديه دايرة الولاية و بياضيتها الى الحق. اقول هذا الذي رواه من بعثه عليه السّلام باطنا قد روى مضمونه في اخبار اهل البيت عليهم السّلام عن علي بن ابي طالب عليه السّلام و هو اشارة الى سر الهي في الغاية القصوى من التحقيق و هو انه قد روى عنه عليه السّلام انه قال في جواب من سئله عن فضله و فضل من تقدمه من الانبياء مع انهم حازوا غاية الاعجاز اما ابراهيم عليه السّلام فقد نجاه اللّه سبحانه من نار النمرود و جعلها عليه بردا و سلاما و نوح عليه السّلام قد نجاه اللّه مع الغرق و موسى عليه السّلام من فرعون و اتاه التورية و علمه اياها و عيسى عليه السّلام اتاه النبوة في المهد و انطقه بالحكمة و النبوة و سليمان عليه السّلام الذي سخر له الريح و الجن و الانس و جميع المخلوقات فقال عليه السّلام و اللّه قد كنت مع ابراهيم في النار و انا الذي جعلتها بردا و سلاما و كنت مع نوح في السفينة فانجيته من الغرق و كنت مع موسى فعلمته التورية و انطقت عيسى في المهد و علمته الانجيل و كنت مع يوسف في الجب فانجيته من كيد اخوته و كنت مع سليمان على البساط و سخّرت له الرياح. و في الروايات الخاصة ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يوما جالسا و معه رجل من الجن يسئله عن اشياء من احكام الدين فدخل علي عليه السّلام فتصاعر ذلك الجني خوفا حتى صار مثل العصفور فقال يا رسول اللّه اجرني من هذا الشاب فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و لم تخافه فقال لاني تمردت على سليمان بن داود عليه السّلام و سلكت البحار فارسل الى جماعة من الجن و الشياطين فلم يقدروا عليّ و أتاني هذا الشاب و بيده حربة فضربني بها على كتفي و الى الان اثر جراحته فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله ادن من علي تطيب جراحتك و تؤمن به و تكون من شيعته ففعل و خطبة البيان (1)لمنقولة عنه عليه السّلام تبين هذا كله و هي الاسرار التي لا يعرف معناها الا العلماء الراسخون. الثاني عشر: ما استفاض في الروايات من ان ابراهيم عليه السّلام طلب في مدة عمره من اللّه سبحانه مرة واحدة ان يطلعه على لملكوت ليشاهده عيانا فقال رب ارني ملكوت السموات و الارض فرفع الحجاب عن وجهه حتى نظر بهذه العين الباصرة الى ما خلق اللّه في الارض

ص:28


1- 20) خطبة البيان من خطب امير المؤمنين عليه السّلام و فقراتها تحتاج الى شروح.

و السماء. و اما مولانا امير المؤمنين علي عليه السّلام فقد كانت له هذه الحالة طول عمره كما روى انه عليه السّلام كان يخطب يوما على المنبر فقال ايها الناس سلوني قبل ان تفقدوني اسئلوني عن طرق السموات فاني اعرف بها مني بطرق الارض فقام رجل من القوم فقال يا امير المؤمنين اين جبرئيل هذا الوقت فقال عليه السّلام دعني انظر فنظر الى فوق و الى الارض و يمنة و يسرة فقال انت جبرئيل فطار من بين القوم شق سقف المسجد بجناحه فكبر الناس و قالوا اللّه اكبر يا امير المؤمنين من اين علمت ان هذا جبرئيل فقال اني لما نظرت الى السماء بلغ نظري الى ما فوق العرش و الحجب و لما نظرت الى الارض خرق بصري طبقات الارض الى الثرى و لما نظرت يمنة و يسرة رأيت ما خلق و لم ار جبرئيل في هذه المخلوقات فعلمت انه هو. و روى الشيخ الطوسي قدس اللّه روحه باسناده الى ابن عباس قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول اعطاني اللّه تبارك و تعالى خمسا و اعطى عليا خمسا اعطاني جوامع الكلم (1)اعطى عليا جوامع العلم و جعلني نبيا و جعله و صيا و اعطاني الكوثر و اعطاه السلسبيل و اعطاني الوحي و اعطاه الالهام و اسري بي اليه و فتح له ابواب السماء و الحجب حتى نظر اليّ و نظرت اليه قال ثم بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت له ما يبكيك فداك ابي و امي فقال يا بن عباس ان اول ما كلمني به ان قال يا محمد انظر تحتك فنظرت الى الحجب قد انخرقت و الى ابواب السماء قد فتحت و نظرت الى علي عليه السّلام و هو رافع رأسه اليّ فكلمني و كلمته و كلمني ربي عز و جل فقلت يا رسول اللّه بم كلمك قال قال لي يا محمد اني جعلت عليا وصيك و وزيرك و خليفتك من بعدك فاعلمه فيها هو يسمع كلامك فاعلمته و انا بين يدي ربي عز و جل فقال لي قد قبلت و اطعت فامر اللّه الملائكة ان تسلّم عليه ففعلت فرد عليهم السّلام و رأيت الملائكة يتباشرون به و ما مررت بملائكة من ملائكة السماء الا هنؤني و قالوا يا محمد و الذي بعثك بالحق نبيا لقد دخل السرور على جميع الملائكة باستخلاف اللّه عز و جل لك ابن عمك و رأيت حملة العرش قد نكسوا رؤسهم الى الارض فقلت يا جبرئيل لم نكس حملة العرش رؤسهم الى الارض فقال يا محمد ما من ملك من الملائكة الا و قد نظر الى وجه علي بن ابي طالب استبشارا به ما خلا حملة العرش فانهم استأذنوا اللّه عز و جل في هذه الساعة فأذن لهم ان ينظروا الى علي بن ابي طالب فنظروا اليه فلما هبطت جعلت اخبره بذلك و هو يخبرني به فعلمت اني لم اطأ موطأ الا و قد كشف لعلي عنه حتى نظر اليه. اقول هذا الحديث يدل على ان عليا عليه السّلام عرج الى ملكوت السماء و هو جالس في بيته هذه المناقب لا قعبان من لبن شيبا بماء فصار بعد ابو الا و هذا الحالة قد

ص:29


1- 21) او تيت جوامع الكلم يعني القرآن جمع اللّه بلطفه في الالفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة واحدها جامعة أي كلمة جامعة و منه الحديث في صفته (ص) انه كان يتكلم بجوامع الكلم أي انه كان كثير المعاني قليل الالفاظ قاله ابن الاثير في النهاية [1]انظر من 176 ج 1 ط مصر.

كانت للائمة عليهم السّلام اعني مشاهدة الملكوت و بها فضلوا على سائر الانبياء عليهم السّلام. و روى صاحب مشارق الانوار باسناده الى مفضل بن عمر قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الامام كيف يعلم ما في اقطار الارض و هو في بيته مرخى عليه ستره قال يا مفضل ان اللّه جعل فيه خمسة ارواح روح اليحوة و بها دبّ و درج و روح القوة و بها نهض و روح الشهوة و بها يأكل و روح الايمان فبها امر و عدل و روح القدس و بها حمل النبوة فاذا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله انتقل روح القدس الى الامام فلا يغفل و لا يلهو و بها يرى ما في الاقطار و ان الامام لا يخفى عليه شيئا مما في الارض و لا مما في السماء و انه ينظر في ملكوت السموات فلا يخفى عليه شيء و لا همهمة و لا شيء فيه روح و من لم يكن بهذه الصفات فليس بامام. و الدلائل و الاخبار الدالة على هذا المطلب كثيرة جدا و الذي اطلعنا عليه منها زها الف حديث و لكن اردنا ان لا يخلو هذا الكتاب من بعض مدائحه الربانية فلذا ذكرنا هذا الطرف القليل و كفاه شرفا ان رقاه كتف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند كسر الاصنام و ما احسن ما قيل فيه:

قيل لي قل في علي مدحا ذكره يخمد نارا موصده

قلت لا اقدم في مدح فتى حار ذو اللب الى ان عبده

و النبي المصطفى قال لنا ليلة المعراج لما صعده

وضع اللّه بظهري يده فأحس القلب ان قد برده

و علي واضع اقدامه بمحل وضع اللّه يده

و ليس المطلب اظهار مدائحه فأنا نجلّه و نعظّمه عن مدحنا لانّ من مدحه اللّه سبحانه في محكم آياته و متشابهها و مدحه انبياؤه المرسلون و ملائكته المقربون لا يليق بنا ان نذكر شيئا من مناقبة على طريق المدح و انما المقصود من هذا تحصيل المثوبات الاخروية بأن نتسبب بهذا و امثاله الى الانسلاك في سلك عبيدهم. و روى الصدوق (ره) في الفقيه عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السّلام قال للإمام علامات يكون اعلم الناس و احكم الناس و اتقى الناس و احلم الناس و اشجع الناس و اعبد الناس و اسخى الناس و يولد مختونا و يكون مطهرا و يرى من خلفه كما يرى من بين يديه و لا يكون له ظل و اذا وقع على الارض من بطن امه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادة و لا يحتلم و تنام عيناه و لا ينام قلبه و يكون محدثا و يستوي عليه درع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا يرى له بول و غايط لان اللّه عز و جل قد وكل الارض بابتلاع ما خرج منه و يكون رائحته اطيب من رائحة المسك و يكون اولى بالناس منهم بانفسهم و اشفق عليهم من آبائهم و امهاتهم و يكون اشد

ص:30

الناس تواضعا للّه جل ذكره و يكون اخذ الناس بما يأمر به و اكف الناس عما ينهى عنه و يكون دعائه مستجابا حتى انه لو دعا على صخرة لانشقت بنصفين و يكون عنده سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سيفه ذو الفقار و يكون عنده صحيفة فيها اسماء شيعته الى يوم القيامة و صحيفة فيها اسماء اعدائه الى يوم القيامة و يكون عنده الجامعة و هي صحيفة طولها سبعون ذراعا فيها جميع ما يحتاج اليه من ولد آدم و يكون عنده الجفر الاكبر و الاصغر اهاب ما عز و اهاب كبش فيهما جميع العلوم حتى ارش الخدش و حى الجلدة و نصف الجلدة و ثلث الجلدة و يكون عنده مصحف فاطمة عليها السّلام. روى الصدوق قدس اللّه روحه باسناده الى الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان اللّه تبارك و تعالى جعل لاخي علي بن ابي طالب عليه السّلام فضائل لا يحصى عددها غيره فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر اللّه ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و لو وافى القيامة بذنوب الثقلين و من كتب فضيلة من فضائل علي بن ابي طالب عليه السّلام لم تزل الملائكة تستغفر ما بقي لتلك الكتابة رسم و من استمع الى فضيلة من فضائله غفر اللّه الذنوب التي اكتسبها بالاستماع و من نظر الى كتابه فضيلة من فضائله غفر اللّه له الذنوب التي اكتسبها بالنظر ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النظر الى علي بن ابي طالب عليه السّلام عبادة و ذكره عبادة و لا يقبل ايمان عبد الا بولايته و البراءة من اعدائه. و هذا الذي يحدو المؤلفين على ذكر ما ذكروا من مناقبه عليه السّلام و قد قيل ان معوية يسئل رجلا من الشيعة كم لابن ابي طالب من المناقب فقال كيف اقول في من كتم شيعته مدائحه خوفا منك و كتم اعداؤه مناقبه حسدا منهم و قد ظهر بين الكتمانين ما ملأ الخافقين و ما احسن قول الشافعي

اولوا النهى عجزت عن و العارفون بمعنى ذاته تاهوا

ان ادعه بشرا فالعقل يمنعني و اتقى اللّه في قولي هو اللّه

و كذا قول بعضهم

هو النبأ العظيم و فلك نوح و باب اللّه و انقطع الخطاب

و ما اقول في من ينوبه الملائكة في الحروب. روى العامة و الخاصة ان النبي صلّى اللّه عليه و آله غزى غزوة فلما رجع المدينة و كان علي عليه السّلام قد تخلف عند اهله فقسم المغنم فدفع الى علي بن ابي طالب سهمين و هو بالمدينة متخلف فقال معاشر الناس ناشدتكم باللّه و برسوله ا لم تروا الى الفارس الذي حمل على المشركين من يمين العسكر فهزمهم ثم رجع اليّ فقال ان لي معك سهما و قد جعلته لعلي بن أبي طالب فهو جبرئيل عليه السّلام معاشر الناس ناشدتكم باللّه و برسوله هل رأيتم الفارس الذي حمل على المشركين من يسار العسكر ثم رجع فكلمني فقال لي يا محمد ان لي معك سهما و قد جعلته لعلي بن ابي طالب فهو ميكائيل فو اللّه ما دفعت لعلي الا سهم جبرئيل

ص:31

و ميكائيل. و روى عن الرضا عليه السّلام ان عليا عليه السّلام قال يا رسول اللّه انت افضل ام جبرئيل قال يا علي ان اللّه تعالى فضّل انبيائه المرسلين و فضلني على جميع النبيين و المرسلين و الفضل لك يا علي و للائمة من بعدك.

فايدة

ما تضمنه الدليل التاسع من قوله عليه السّلام لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا مما استفاض نقله عنه عليه السّلام و قد اورد اصحابنا رضوان اللّه عليهم اشكالا في هذا المقام و حاصله ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد كان يطلب زيادة المعرفة بقوله صلّى اللّه عليه و آله اللهم زدني فيك معرفة و قوله صلّى اللّه عليه و آله تب علينا فإننا بشر ما عرفناك حق معرفتك. و على هذا فيلزم ان يكون علي عليه السّلام اكمل في المعرفة منه صلّى اللّه عليه و آله و قد تفصّى عنه محققونا بوجوه. أو لها ما نقل عن العلامة الحلي قدس اللّه روحه من أن المراد أن عليا عليه السّلام لما كانت مادة استعداده لمراتب المعرفة انقص من مادة استعداد النبي صلّى اللّه عليه و آله فكأنه عليه السّلام قال اني وصلت في درجات المعرفة الدرجة التي لا اتعداها فلو كشف الحجاب و صار ما يدرك بالبصيرة مدركا بلبصر لما ازداد علمي و يقيني و هذا الجواب كما ترى. و ثانيها ما قاله شيخنا البهائي طاب ثراه من أن قول امير المؤمنين عليه السّلام منزل على درجات القيامة و مراتبها و المعنى لو كشف الغطا عن مراتب الاخرة و ما قاله الانبياء عليهم السّلام في وصفها لما ازددت علما في معرفتها و انا في هذه الدنيا فلا يكون قوله عليه السّلام في المعرفة و درجتها بل في احوال النشأة كما رواه رئيس المحدثين الشيخ الكليني نور اللّه ضريحه عن اسحاق بن عمار قل سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى بالناس الصبح فنظر الى شاب في المسجد و هو يخفق و يهوي برأسه مصفرا لونه قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف اصبحت يا فلان قال اصبحت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله موقنا فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله و قال ان لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك فقال ان يقني يا رسول اللّه هو الذي احزنني و اسهر ليلي و أظمأ هو اجري فعرفت نفسي عن الدنيا و ما فيها حتى كأني انظر الى عرش ربي و قد نصب الحساب و حشر الخلائق لذلك و انا فيهم و كأني انظر الى اهل الجنة و هم يتنعمون في الجنة و يتعارفون على الارائك متكئون و كأني انظر الى اهل النار و هم فيها معذبون مصطرخون و كأني الان اسمع زفير النار يدور في مسامعي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لاصحابه هذا عبد نور اللّه قلبه للايمان ثم قال له الزم ما انت عليه فقال الشاب ادع اللّه لي يا رسول اللّه ان ارزق الشهادة معك فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يلبث ان خرج في بعض غزوات النبي صلّى اللّه عليه و آله فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر.

ص:32

و في رواية اخرى ان ذلك الشاب هو حارثة بن مالك الانصاري. و ثالثها ما قاله بعض الاذكياء من المعاصرين و هو ان يكون يقينا منصوبا على المفعولية لا على التمييز و حاصله ان لي يقينا في مراتب المعرفة و لو كشف الغطاء لم ازدد يقينا غير ذلك اليقين ان يتغير علمي و يحدث لي علم يغايره كما هو واقع في علومنا و ليس المراد ان ذلك اليقين لا يقبل الزيادة و النقصان بل هو قابل له غير انه لا يتغير الى يقين يغايره. و رابعها ما خطر لنا و يعد هذا رأينا في شرح استاذنا الاجل الشيخ علي اعلى اللّه شأنه على شرح اللمعة و حاصله ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كانت مراتب معرفته تتزايد يوما بعد يوم على طول مدة عمره الشريف و كان يحدث له بالوحي و الالهام من درجات المعرفة ما يعد الدرجة السابقة ذنبا بالنسبة الى الدرجة اللاحقة و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله اني لاستغفر اللّه كل يوم سبعين مرة من غير ذنب فكان صلّى اللّه عليه و آله يطلب زيادة مراتب المعرفة في حيوته لانها تفاض عليه آنا بعد آن و لما استكملت مدته استكمل له ما يليق بمادته النبوية من افاضة العلوم اللايقة بذاته الشريفة التي هي منتهى مراتب البشر و لما مرض مرضه الذي انتقل الى جوار القدس طلب عليا و ادناه منه و علمه علوم مدة عمره الشريف بلحظة واحدة فلذا قال عليه السّلام لما سئل ما علمك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه علمني الف باب من العلم ينفتح من كل باب الف باب و من هذا صار البطين لتراكم العلوم في صدره الشريف فهو عليه السّلام بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول اني عرفت اللّه سبحانه بما علمته من النبي حتى لو كشف الغطاء لم ازدد علما يضاف الى معرفتي الكاملة و يحتمل معان اخر ايضا.

نور مرتضوي

اشارة

في بيان ان افضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو علي بن ابي طالب عليه السّلام و هذا على سبيل الاغماض عن النور الاول لان من كان افضل من ابراهيم و نوح و موسى و عيسى بالدلائل السابقة لا يحتاج تفضيله على غيرهم الى الدليل و لكن قد وقع الخلاف بين جماهير المسلمين فذهب الاشاعرة و جماعة من المعتزلة الى ان افضل الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو ابو بكر و ذهبت الشيعة و اكثر المعتزلة الى ان الافضل علي بن ابي طالب عليه السّلام و الحق ان المعتزلة لم يخالف احد منهم في افضلية علي عليه السّلام سوى شاذ نادر و اما الاشاعرة فأن تفضيل ابي بكر و ان نقله عنهم علماؤهم المتأخرون الا ان المتقدمين منهم قد وافقوا الشيعة على ما ذهبوا اليه و لننقل كلام اعلم محققيهم حتى يتضح الحال فنقول ذكر محمد بن عمر الرازي المعروف بابن خطيب الري (1)و هو اعلم علماء الاشعرية صاحب التصانيف الكثيرة فانه قال في الكتاب الذي صنفه و جعله دستورا لولده

ص:33


1- 22) هو الامام فخر الدين الرازي الشهير المتوفى سنة (606) ه و قد يعبر عند السيد الداماد قدس سره بامام المشككين.

و سماه كتاب الاربعين في الفصل الخامس من المسئلة التاسعة و الثلاثين في بيان افضل الصحابة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اورد عشرين حجة في ان علي بن ابي طالب عليه السّلام افضل الصحابة قال في الحجة الثالثة ما هذا لفظه الحجة الثالثة ان عليا عليه السّلام كان اعلم الصحابة و الاعلم افضل و انما قلنا ان عليا كان اعلم الصحابة للاجمال و التفصيل اما الاجمال فهو انه لا نزاع في ان عليا عليه السّلام كان في اصل الخلقة في غاية لذكاء و الفطنة و الاستعداد للعلم و كان محمد صلّى اللّه عليه و آله افضل الفضلاء و اعلم العلماء و كان علي عليه السّلام في غاية الحرص في طلب العلم و كان محمد صلّى اللّه عليه و آله في غاية الحرص في تربيته و في ارشاده الى اكتساب الفضائل ثم ان عليا عليه السّلام ربّي من اول صغره في حجر محمد صلّى اللّه عليه و آله و في كبره صار ختنا له و كان يدخل اليه في كل الاوقات و من المعلوم ان التلميذ اذا كان في غاية الذكاء و الحرص على التعلم و كان الاستاذ في غاية الفضل و في غاية الحرص على التعليم ثم اتفق لمثل هذا التلميذ ان يتصل بخدمة هذا الاستاذ من زمان الصغر و كان ذلك الاتصال بخدمته حاصلا في كل الاوقات فانه يبلغ ذلك التلميذ مبلغا عظيما و هذا بيان اجمالي في ان عليا عليه السّلام كان اعلم الصحابة فأما ابو بكر فانه انما كان اتصل بخدمته في زمان الكبر و ايضا ما كان يصل الى خدمته في اليوم و الليلة الامرة واحدة زمانا يسيرا و اما علي عليه السّلام فانه اتصل بخدمته في زمن الصغر و قد قيل العلم في الصغر كالنقش في الحجر و العلم في الكبر كالنقش في المدر فثبت بما ذكرنا ان عليا عليه السّلام كان اعلم من ابو بكر. و اما التفصيل فيدل عليه وجوه: الاول: ان اكثر المفسرين سلموا ان قوله وَ تَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ نزل في حق علي عليه السّلام تخصيصه بزيادة الفهم يدل على اختصاصه بمزيد العلم.

الثاني: قوله صلّى اللّه عليه و آله أقضاكم علي و القضاء يحتاج الى جميع أنواع العلوم فلما رجحه على الكل في القضاء لزم أنه رجحه عليهم في كل العلوم و أما سائر الصحابة فقد رجحه كل واحد منهم على غيره في علم واحد كقوله (أفرضكم زيد و أقرأكم أبى (1)) . الثالث: روى أن عمرا أمر برجم إمرأة ولدت لستة أشهر فنبهه علي عليه السّلام بقوله وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً فقال عمر لو لا علي لهلك عمر و روى أن أمرأة أقرت بالزنا و كانت حاملا فأمر عمر برجمها فقال له علي عليه السّلام إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها فترك عمر رجمها و قال لو لا علي لهلك عمر فان قيل لعل عمر أمر برجمها من غير تفحص عن حالها فظن أنها ليست بحامل فلما نبهه علي عليه السّلام ترك رجمها قلت هذا يقتضي أن عمر ما كان يحتاط في سفك الدماء و هذا أشر من الأول و رووا أيضا أن عمر قال يوما على المنبر إلا لا تغالوا مهور نسائكم فمن غالي في مهر إمرأته

ص:34


1- 23) من هذا يعلم وجه تخصيصه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام بقوله اقضاكم علي و لم يخصه بسائر الاوصاف كقوله افقهكم او اعلمكم او افرضكم او غيرها فان القضاء لا بد فيه من اجتماع جميع تلك الاوصاف باسرها ق

جعلته في بيت المال فقامت عجوز فقالت يا عمر أ تمنع منا ما جعله اللّه لنا و قد قال اللّه تعالى وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً فقال عمر كلكم افقه من عمر حتى المخدرات في البيوت و هذه الوقايع وقعت لغير علي و لم يتفق مثلها لعلي. الرابع: نقل عن علي عليه السّلام انه قال و اللّه لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين اهل التوراة بتوريتهم و بين اهل الانجيل بانجيلهم و بين اهل الزبور بزبورهم و بين اهل الفرقان بفرقانهم و اللّه ما من آية نزلت في بحر و لا بر و في سهل و لا جبل و لا ارض و لا سماء و لا ليل و لا نهار الا و انا اعلم فيمن نزلت و في أي شيء نزلت طعن ابو هاشم في هذا فقال التورية منسوخة فكيف يجوز الحكم بها الجواب من وجوه: الاول: لعل المراد شرح كمال عليه بتلك الاحكام المنسوخة على التفصيل و بالاحكام الناسخة لها الواردة في القرآن. الثاني: لعل المراد لو ان قضاة اليهود و النصارى يمكنون من الحكم و القضا على وفق اديانهم بعد بذل الجزية و كان المراد انه لو جاز لمسلم ذلك لكان هو قادرا عليه الثالث لعل المراد انه يستخرج من التورية و الانجيل نصوصا دالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و كان ذلك قويا في التمسك بها. الخامس: انا نفحص عن احوال العلوم و اعظمها علم الاصول و قد جاء في خطب امير المؤمنين عليه السّلام من اسرار التوحيد و العدل و النبوة و القضا و القدر و احوال المعاد ما لم يأت في كلام سائر الصحابة و ايضا فجميع فرق المتكلمين ينتهي آخر نسبتهم في هذا العلم اليه اما المعتزلة فانهم ينسبون انفسهم اليه و اما الاشعرية فكلهم ينتسبون الى الاشعري و هو كان تلميذا لابي علي الجبائي المعتزلي و هو منتسب الى امير المؤمنين عليه السّلام و اما الشيعة فانتسابهم اليه ظاهر و كلهم تلامذة علي عليه السّلام و اما الخوارج فهم مع بعدهم عنه كلهم منتسبون الى اكابرهم و اولئك الاكابر كانوا تلامذة علي بن ابي طالب عليه السّلام فبينا ان جمهور المتكلمين من فرق الاسلام منسوبة اليه و افضل فرق الامة الاصوليين و كان هذا منصبا عظيما في الفضل و منها علم التفسير و ابن عباس رضي اللّه عنه رئيس المفسرين و هو كان تلميذ علي بن ابي طالب عليه السّلام و منها علم الفقه و كان فيه الدرجة و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله اقضاكم علي و قال علي بن ابي طالب عليه السّلام لو كسرت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين اهل التورية بتوراتهم الخبر و منها علم الفصاحة و معلوم ان احدا من الفصحاء الذين بعده لم يدركوا درجته و لا القليل و منها علم النحو و معلوم انه انما ظهر منه و هو الذي ارشد ابا الاسود الدؤلي و منها علم تصفية الباطن و معلوم ان نسبة هذه العلوم تنتهي اليه فثبت بما ذكرنا انه عليه السّلام كان استاذ العالمين بعد محمد صلّى اللّه عليه و آله في جميع الخصائل المرضية و المقامات الشرعية و اذا ثبت انه اعلم الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجب ان يكون افضل الخلق بعده لقول اللّه تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ و قوله تعالى يَرْفَعِ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ

ص:35

أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ ثم قال ذلك الفاضل الاشعري الحجة العشرون اعلم ان الفضائل اما نفسانية و اما بدنية و اما خارجية اما الفضائل النفسانية و هو محصورة في نوعين العلمية و العملية اما العلمية فقد دللنا على ان علم علي عليه السّلام كان اكثر من علم سائر الصحابة و يقوي ذلك ما روى ان عليا عليه السّلام قال علمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الف باب من العلم فانفتح منم كل باب الف باب و اما الفضائل النفسانية العملية فأقسام منها العفة و الزهد و قد كان في الصحابة جمع من الزهاد كأبي ذر و سلمان و ابي الدرداء و كلهم كانوا فيه تلامذة علي عليه السّلام و منها الشجاعة و قد كان في الصحابة كأبي دجانة و خالد بن الوليد و كانت شجاعته اكثر عنفا من شجاعة الكل أ لا ترى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال يوم الاحزاب لضربة علي خير من عبادة الثقلين و قال علي بن ابي طالب عليه السّلام ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية و لكن بقوة ربانية و منها السخاوة و قد كان في الصحابة جمع من الاسخياء و قد بلغ اخلاصه في سخاوته الى ان اعطى ثلاثة اقراص فانزل اللّه تعالى في حقه وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً و منها حسن الخلق و قد كان مع غاية شجاعته و بسالته حسن الخلق جدا و قد بلغ فيه الى حيث نسبه اعداؤه الى الدعابة و منها البعد عن الدنيا و ظاهر انه مع انفتاح ابواب الدنيا عليه لم يظهر التنعم و التلذذ و كان مع غاية شجاعته اذا شرع في صلاة التهجد و شرع في الدعوات و التضرعات الى اللّه تعالى بلغ مبلغا لا يوازيه احد ممن جاء بعده من الزهاد و لما ضربه ابن ملجم عليه اللعنة قال فزت و رب الكعبة و منها الفضائل البدنية فمنها القوة و الشدة و كان فيها عظيم الدرجات حتى قيل انه يقطّ الهام قط الاقلام و منها النسب العالي و معلوم ان اشرف الانساب هو القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان اقرب الناس نسبا اليه. و اما العباس فانه و ان كان عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الا ان العباس كان اخا لعبد اللّه من الاب لا من الام و اما ابو طالب فانه كان اخا لعبد اللّه من الاب و الام و ايضا فان عليا عليه السّلام كان هاشميا من الاب و الام لانه علي بن ابي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و امه فاطمة بنت اسد بن هاشم و منها المصاهرة و لم يكن لاحد من الخلق مصاهرة مثل ما كانت له و اما عثمان فهو و ان شاركه في كونه ختنا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الا ان اشرف اولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هي فاطمة عليها السّلام و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله سيدة نساء العالمين اربع و عدّ منهنّ فاطمة عليها السّلام و لم يحصل مثل هذا الشرف للبنتين اللتين هما زوجتا عثمان و منها انه لم يكن لاحد من الصحابة اولاد يشاركون اولاده في الفضيلة فالحسن و الحسين عليهما السّلام هما سيدا شباب اهل الجنة ولداه ثم انظر الى اولاد الحسن مثل الحسن المثنى و المثلث و عبد اللّه بن المثنى و النفس الزكية و الى اولاد الحسين مثل الامام زين العابدين و الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السّلام فان هؤلاء الاكابر يعتدّ بفضيلتهم و علوّ درجاتهم على كل مسلم و مما يدّل على علو شأنهم ان افضل المشايخ و اعلاهم درجة ابو يزيد البسطامي و كان سقّاء في دار جعفر الصادق عليه السّلام و اما

ص:36

معروف الكرخي فانه اسلم على يد علي بن موسى الرضا عليه السّلام و كان بواب داره و بقي على هذه الحالة الى آخر عمره و معلوم ان امثال هذه الاولاد لم يتفق لاحد من الصحابة و لو اخذنا في الشرح و الاطناب لطال انتهى كلام الرازي و فيه كفاية للعاقل المنصف و العجب من هؤلاء القوم مع نقلهم مناقبه و مدائحه في كل باب و ايراد مطاعن منادعى الخلافة من المتخلفين كيف فضلوا غيره عليه حتى انهم لم يرضوا بالافضلية بدرجة بل قالوا ان ابا بكر افضل من عمر بسبعين درجة و عمر افضل من عثمان بسبعين درجة و الخلاف انما وقع بينهم في عثمان و علي فهل هما في الفضل سواء الاكثر على تفضيل عثمان عليه بسبعين درجة و الاقل على المساواة و هذا هو المصيبة العظمى و الداهية الكبرى نعوذ باللّه من سوء عاقبتها و اما محققوهم كالتفتازاني و السيد الشريف و اضرابهم فقد سمعت انهم بعد ان حاولوا إتمام مدحة من مدائح الثلاثة و لم يتم لهم لكثرة الواردات عليه قالوا انا نكل هذا التفضيل الى السلف لحسن الظن بهم، و هذا منهم اعجب من الاول فان اللّه سبحانه قد ذم اقواما في تقليدهم الاباء و الاسلاف في مسائل الاصول ذما شنيعا و العجب ان امثال هؤلاء الافاضل لم يرضوا في تقليدهم الاسلاف بالمسائل الفروعية فكيف رضوا في تقليدهم بما هو اهم و اعلى الذي هو مسائل الاصول لكن ابليس اغواهم و صيرهم عميا و بكما فلا سمعا و لا بصرا روى عن عمر بن الخطاب قال و اللّه لقد تصدقت باربعين خاتما و انا راكع لينزل فيّ ما نزل بعلي بن ابي طالب فما نزل و كأنهم اخذوا التقليد من امامهم هذا.

فايدة

في ايضاح ما ذكره ذلك الفاضل: اما قوله بأن عليا عليه السّلام كان يدخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله في كل حين فهو حق لان عليا عليه السّلام كان له المحرمية بالنسبة الى بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله فقد روى عنه عليه السّلام قال كنت معه في بعض الغزوات فحميت و لم يكن عند النبي صلّى اللّه عليه و آله سوى لحاف واحد و كانت معه زوجته عايئة فانا مني مه و مع زوجته تحت ذلك اللحاف و لما اقام لصلوة الليل ثنى بعض اللحاف بيني و بين زوجته و قد رأت عائشة انه صلّى اللّه عليه و آله يقرّ به هذا القرب و كونه يدخل في كل وقت هو احد الاسباب في كون القرآن الذي كتبه علي عليه السّلام قد كان اكثر من القرانات التي كتبها كتّاب الوحي لان جبرئيل عليه السّلام قد كان يأتي الى النبي صلّى اللّه عليه و آله في اكثر الخلوات و لا كان يدور معه فيها الا علي عليه السّلام و لذا قال علي عليه السّلام كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يديرني معه كيف دار. و اما قوله بأن ابا بكر ما كان يدخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله الا مرّة واحدة فهذا منه تواضع لابي بكر لانه ربما دخل من بين الايام مرة واحدة لمكان ابنته و في هذا الموضع عجب عجيب و هو ان العامة نقلوا ان ابا هريرة قد تفرد بنقل اثني عشر الف حديث لم يشاركه في نقلها غيره و قد تنبه لهذا المعنى سراج الدين البقيني و هو من اعظم محققيهم فأبطل كل ما تفرد بنقله ابو هريرة و قال ان وقت النبي صلّى اللّه عليه و آله قد كان مضبوطا بالنقل من اليسر

ص:37

و التواريخ و الاحاديث لانه كان يخرج عند طلوع الفجر الى المسجد و يصلّي بالناس و يبقى معقبا الى طلوع الشمس مع الناس ثم يدير وجهه الى الناس حتى يقضي حوائجهم و يبقى معهم في الكلام حتى يقرب الظهر فيدخل منزله و يخلو مع زوجاته الى صلاة الظهر ثم يخرج يصلّي بالناس و يحول وجهه اليهم بعد الصلوة لتعليم الاحكام الى قبل الغروب فيدخل منزله الى وقت الصلوة ثم يخرج للصلوة بالناس فيدخل منزله و ينام مع زوجاته الى نصف الليل ثم يقوم لصلوة الليل الى طلوع الفجر فهذا ليله و ذاك نهاره ففي أي وقت تفرّد به ابو هريرة مع بعده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في النسب و الحسن حتى روى عنه هذه الاخبار المتكثرة و انت اذا تصفحت اكثر اخبارهم وجدتها على هذا المنوال و سيأتي تمام الكلام فيه ان شاء اللّه تعالى. و اما قوله ان القضاء يحتاج الى جميع انواع العلم فهو كما قال و قد اطبق اصحابنا رضوان اللّه عليهم على ان من شرائط القاضي ان يكون مجتهدا في اربعة عشر علما و هي علوم الاجتهاد المذكورة في كتب الاصحاب و اما قضاة الامصار في هذه الاعصار فقد صار من جملة شرائطهم الجهل في العلوم المذكورة و موافقة الحكام الجائرين لعلة المجانسة و كل شكل لشلكه الف اما ترى الفيل يألف الفيل و لعمرك انهم باعوا حظّهم من دار الامان بدار الغرور و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون و كفى لهم بشارة قول الصادق عليه السّلام ان النواويس و هي طبقة من طبقات جهنم شكت الى اللّه عز و جل شدّة حرّها فقال لها عز و جل اسكتي فان موضع القضاة اشدّ حرا منك روى ابو حمزة الثمالي عن ابي جعفر عليه السّلام قال كان في بني اسرائيل قاض يقضي بينهم قال فلما حضره الموت قال لامرأته اذا مت فاغسليني و كفنيني و ضعيني على سريري و غطي وجهي فانك لا ترين سوءا فلما ان مات فعلت به ذلك ثم مكثت حينا و كشفت عن وجهه لتنظر اليه فاذا هي بدودة تقرض منخره ففزعت لذلك فلما كان الليل اتاها في منامها فقال لها افزعك ما رأيت قالت اجل لقد فزعت فقال اما انك فزعت فما كان ما رأيت الا من هوى اخيك فلقد اتاني و معه خصم له فلما جلسا اليّ قلت اللهم اجعل الحق له و وجه القضاء له على صاحبه فلما اختصما ليّ كان الحق له فرأيت ذلك بيّنا في القضاء له على صاحبه فأصابني ما رأيت لموضع هوى كان معه و ان وافقه الحق و روى حريز عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال ايما رجل كان بينه و بين اخ له مماراة في حق له فدعاه الى رجل من اخوانكم ليحكم بينه و بينه فأبى إلاّ ان يرافعه الى هؤلاء يعني القضاة مان بمنزلة الذين قال اللّه أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى اَلطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ و قال الصادق عليه السّلام القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار و رجل قضى بجورهم و هو لا يعلم فهو في النار و رجل قضى بحق و هو لا يعلم فهو في النار و رجل قضى بحق و هو يعلم فهو في الجنة و أغلب قضاة هذه الاعصار من

ص:38

الاولين لانهم أخذوا القضاء بالبذل لمن هو أعلى منهم أو بالميراث من أسلافهم أو بهما جميعا و أما أخذ الحق بحكمهم و ان كان حقا فقد مال بعض مشايخنا و بعض من تقدمنا الى عدم جوازه و لعله الاولى لما رواه مشائخنا المحدثون في كتب الاصول عن عمر بن حنظلة قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان أو الى القضاة أ يحلّ ذلك فقال من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فأنما يأخذه سحتا و ان كان حقه ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت و قد امر اللّه عز و جل ان يكفر بها قلت كيف يصنعان قال انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف احكامنا فلترضوا به حكما فأني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم اللّه استخف و علينا ردّ و الرادّ علينا الرادّ على اللّه و هو على حدّ الشرك باللّه عز و جل و يستفاد من هذا الحديث ان علماء الامامية رضوان اللّه عليهم في هذه الاعصار منصوبون للقضاء من الامام عليه السّلام عموما و لا يجوز لاحد ردّ حكمهم و من ردّ حكمهم عليهم كان على حدّ الشرك باللّه و لا يبعد ان يقال يجب على العلماء و المجتهدين في مثل هذه الاعصار اذا تمكنوا من القضاء ان يتصدوا له و ان يظهروا علومهم فإنّ بدع القضاة قد ظهرت و قال صلّى اللّه عليه و آله اذا ظهرت البدع فليظهر العالم علمه و من لم يظهره الجمه اللّه لجاما من نار. و اما قوله في الثالث ان عمر قال لو لا علي لهلك عمر قال صاحب الكشاف و هو من علماء الحنفية ان عمر قال هذه الكلمة في سبعين موضعا حتى اشتهرت في الامثال و نقلها علماء العربية في بحث لو الشرطية. و اما قول عمر بعد رد المرأة عليه كلكم افقه من عمر حتى المخدرات في البيوت فقد نقل علماء الفريقين انه قال بعد هذا ان لي شيطانا يعتريني فاذا عثرت فقوموني و اذا غلطت فسددوني و لا تدعوا النساء تردّ عليّ كلامي و قد صدق في هذا القول و نقل ايضا مثله عن ابي بكر و هو صادق ايضا. و اما قول علي عليه السّلام لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها الحديث معناه اني لو تمكنت من الحكومة بين الناس من غير منازع و هذا يدل على انه عليه السّلام لم يكن متمكنا في وقت خلافته من اقامة الاحكام على وجهها لما تقدمه المتخلفون في البدع فصار لا يقدر ان يغير ما فعلوه فمنه عزل شريح عن القضا اراده عليه السّلام فلم يتمكن منه لانه كان منصوبا من قبل المتقدمين و منه صلاة الضحى فلقد ارسل ابنه الحسن عليه السّلام ان ينادي في مساجد الكوفة ان لا تصلي فضج الناس ضجة واحدة و قالوا وا عمراه امرنا بالصلوة و انت تنهانا عنها أ رأيت الذي ينهى عبدا اذا صلّى و منه رد الفدك و العوالي الى اولاد فاطمة فانه كان مظنة الفتنة و الفساد بتغليط من تقدمه و قد روى الصدوق طاب ثراه في كتاب العلل عللا أخرى منها ما رواه مسندا الى ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له لم لم يأخذ امير المؤمنين عليه السّلام فدكا لمّا ولّى الناس و لأية علة تركها فقال لأن الظالم و المظلوم قد كانا قدما على اللّه عز و جل و اثاب اللّه المظلوم و عاقب الظالم فكره ان

ص:39

يسترجع شيئا قد عاقب اللّه عليه غاصبه و اثاب عليه المغصوبة و ذكر ايضا جوابا آخر رواه باسناده الى ابراهيم الكرخي قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام فقلت لأي علة ترك امير المؤمنين عليه السّلام فدكا لما ولى الناس فقال للاقتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما فتح مكة و قد باع عقيل بن ابي طالب داره فقيل له يا رسول اللّه الا ترجع الى دارك فقال صلّى اللّه عليه و آله و هل ترك لنا عقيل دارا و نحن اهل بيت لا نسترجع شيئا شيئا يؤخذ منّا ظلما فلذلك لم يسترجع فدكا لما ولى و ذكر ايضا جوابا ثالثا باسناده الى علي بن فضال عن ابي الحسن عليه السّلام قال سألته عن امير المؤمنين عليه السّلام لم لم يسترجع فدكا لما ولى الناس فقال لانّا اهل بيت لا يأخذ لنا حقوقنا ممن ظلمنا الا هو يعني اللّه و نحن اولياء المؤمنين انما نحكم لهم و نأهذ حقوقهم ممن ظلمهم و لا نأخذ لانفسنا و هذا احد اسباب غضب فاطمة عليها السّلام على ابي بكر و عمر روى اصحابنا ان رجلا من اولاد البرامكة عرض لعلي بن موسى الرضا عليه السّلام بخراسان و لزم لجام دابته و قال ما تقول في ابي بكر و عمر فقال له سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر فألح السائل عليه في كشف الجواب فقال عليه السّلام كانت لنا ام صالحة ماتت و هي عليهما ساخطة و لم يأتنا بعد موتها خبر انها رضيت عنهما و ذكر ابو هلال العسكري ان اول من رد فدكا على ورثة فاطمة عليها السّلام عمر بن عبد العزيز و كان معاوية أقطعها لمروان بن الحكم و عثمان بن عفان و يزيد بن معاوية و جعلها بينهم اثلاثا ثم قبضت من ورثة فاطمة عليها السّلام فردها السفاح ثم قبضت منهم فردها عليهم المأمون و قبضت منهم بعد المأمون فردها عليهم الواثق ثم قبضت فردها عليهم المنتصر ثم قبضت فردها عليهم المعتمد ثم قبضت فردها عليهم المعتضد ثم قبضت فردها عليهم الراضي و اما حدودها فقال موسى بن جعفر عليهما السّلام ان حدها الاول عريش مصر و الحد الثاني دومة الجندل و الحد الثالث تيما و الحد الرابع جبل احل من المدينة. و اما قوله و منها علم التفسير الى اخره فقد تحقق في الاخبار من العامة و الخاصة ان قوله تعالى وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ المراد به علي بن ابي طالب عليه السّلام و هو الذي فسّر الباء من بسم اللّه الرحمن الرحيم لابن عباس فقل يا ابن عباس لو طال الليل لطلناه و في الروايات الخاصة عنه عليه السّلام انه قال علم ما كان و ما يكون كله في القرآن و علم القرآن كله في سورة الفاتحة و علم الفاتحة كله في البسملة منها و علم البسملة كله في بائها و انا النقطة تحت الباء و هذا الحديث من مشكلات الاخبار و اكثر الاشكالات انما هو في قوله و انا النقطة تحت الباء و يحتمل ان يكون معناه أنّى أبين علوم القرآن و أوضح مجملاتها كما ان نقطة الباء توضحه و تميز عما يشاركه في الصورة كالتاء المثناة و الثناء المثلثة و يحتمل معان كثيرة لا يخفى بعضها على اولي الالباب و الحاصل ان العلوم كلها تنتهي اليه و لم يؤخذ علم الا منه و العلماء كلهم تلاميذه اما المعتزلة فلأن كبيرهم واصل بن عطا تلميذ ابي هاشم بن عبد اللّه بن محمد بن الحنفية و ابو هاشم تلميذ ابيه و ابو تلميذ علي عليه السّلام و اما الاشعرية فانهم ينتهون الى ابي الحسن الاشعري و هو

ص:40

تلميذ واصل بن عطا و كل فقيه في الاسلام فإليه يعزي اما مالك فأخذ الفقه عن ربيعة الراي و هو أخذه عن عكرمة و هو عن عبد اللّه بن عباس و هو عن علي عليه السّلام و اما ابو حنيفة فعن الصادق عليه السّلام و اما الشافعي فهو تلميذ مالك و اما الحنبلي فهو تلميذ الشافعي. و اما قوله منها علم النحو و هو الذي علمه الدؤلي قال ابو القاسم الزجاج في اماليه حدثنا ابو جعفر محمد بن رستم الطبري قال حدثنا ابو حاتم السجستاني قال حدثنا يعقوب بن اسحاق الحضرمي قال حدثنا سعيد بن مسلم الباهلي قال حدثنا ابي عن جدي عن ابي الاسود الدؤلي قال دخلت على علي بن أبي طالب عليه السّلام فرأيته مطرقا مفكرا فقلت فيم تفكر يا أمير المؤمنين قال أني سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت ان اصنع كتابا في اصول العربية فقلت ان فعلت هذا احييتنا و بقيت لنا هذه اللغة ثم أتيته بعد ثلاث فألقى اليّ صحيفة فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم الكلام كله اسم و فعل و حرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى و الحرف ما أنبأ عن معنى ليس بأسم و لا فعل ثم قال لي تتبعه و زد ما وقع لك و اعلم يا ابا الاسود ان الاشياء ثلاثة ظاهر و مضمر و شيء ليس بظاهر و لا مضمر و انما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر و لا مضمر قال ابو الاسود فجمعت منه اشياء و عرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت فيها إنّ و أنّ وليت و لعل و كأنّ و لم أذكر لكن فقال لي لم تركتها فقلت لم احسبها فيها فقال بل هي منها فزدها فيها انتهى. و ذكر ابن الاثير في المثل السائر في ابتداء وضع النحو ان ابنة لابي الاسود الدؤلي قالت له يوما يا أبت ما أشد الحر فضمت الدال و كسرت الراء، فظنها ابوها مستفهمة فقال شهر آب فقالت يا أبت إنما أخبرتك و لم أسئلك فأتى ابو الاسود الى امير المؤمنين عليه السّلام و قال له يا امير المؤمنين ذهبت لغة العرب و اخبره بخبر بنته فقال صلوات اللّه عليه، هلّم صحيفة ثم املى عليه اصول النحو و هذه الكلمات هي اصل علوم العربية و قد بسطت الكلام في هذا المقام في كتبنا النحوية. قوله و مها علم تصفية الباطن اراد به علم رياضة النفس الذي تدعيه الصوفية و تسميه العلم الحقيقي و كان عليه السّلام يقول انه ما عرض لي امران الا اخترت اشقهما على بدني و لعلك تقول ان هذا مناف لقول الباقر عليه السّلام فيما رواه الشيخ (ره) في كتاب الاستبصار في باب من احرم قبل الميقات لا يعرض لي بابان كلاهما حلال الا ان أخذت باليسير و ذلك لان اللّه يسير يحب اليسير و يعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف و وجه التوفيق اما يأن نقول كل امام مكلف بتكاليف خاصة به فلعل هذا من ذاك و اما بأن نقول ان الباقر عليه السّلام كان بادنا، و قد كان بدانته تمنعه عن ارتكاب التكاليف الشاقة كما روى عنه عليه السّلام انه كان يصلي بعض النوافل جالسا و كان يعتذر بكثرة اللحم و البدانة. و اما قوله منها العفة و الزهد فحاله فيه مشهور و هو على الالسن مذكور في الكتب مسكور روى العامة و الخاصة انه دخل ضرار بن ضمرة الليثي على معاوية فقال له صف عليا فقال أو لا تعفيني من ذلك فقال لا أعفيك فقال كان

ص:41

و اللّه بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه يتوحش من الدنيا و زهرتها و يستأنس بالليل و وحشته كان و اللّه غريز العبرة طويل الفكرة يقلّب كفه و يخاطب نفسه و يناجي ربه يعجبه من اللباس ما خشن و من الطعام ما جشب كان و اللّه فينا كأحدنا يدنينا اذا اتيناه و يجيبنا اذا سئلناه و كنا مع دنوه منا و قربنا منه لا نكلمه لهيبته لا نرفع اعيننا اليه لعظمته فان تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يعظم اهل الدين و يحب المساكين لا يطمع القوي في باطله و لا ييأس الضعيف من عدله و اشهد باللّه لقد رأيته ف بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه و هو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين فكأني الان أسمعه و هو يقول يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم أليّ تشوقت هيهات هيهات غريّ غيري لا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك فعمرك قصير و خطرك يسير و املك حقير آه آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق و عظم الموقف فوكفت دموع معوية على لحيته فنشفها بكمه و اختنق القوم بالبكاء ثم قال كان و اللّه ابو الحسن ذكلك فكيف كان حبك اياه قال كحب ام موسى لموسى و اعتذر الى اللّه من التقصير، فقال كيف صبرك عنه يا ضرار قال صبر من ذبح واحدها على صدرها فهي لا ترقى عبرتها و لا تسكن حرارتها. ثم قل و خرج و هو باك فقال معوية اما لو انكم فقدتموني لما كان فيكم من يثني عليّ مثل هذا الثناء فقال له بعض من كان حاضرا الصاحب على قدر صاحبه، و روى عن سويد بن غفلة قال دخلت على امير المؤمنين عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة و هو جالس على حصير صغير ليس في البيت غيره فقلت يا أمير المؤمنين بيدك بيت المال و لست أرى في بيتك شيئا مما يحتاج اليه البيت فقال عليه السّلام يا ابن غفلة ان البيت لا يتأثث في دار النقلة و لنا دار أمن قد نقلنا اليخا خير متاعنا و انا عن قليل صائرون، و كان عليه السّلام اذا اراد ان يكتسى دخل السوق فشيتري الثوبين فيخير قنبر اجودهما، و يلبس الاخر ثم يأتي النجار فيمد له احدى كميه و يقول له خذ بقدومك و يقول هذه تخرج في مصلحة أخرى و يبقى الكم الاخرى بحالها و يقول هذه نأخذ فيها من السوق للحسن و الحسين. و روى عن الاسود و علقمة، قال دخلنا على علي عليه السّلام و بين يديه طبق من خوص عليه قرص أو قرصان من شعير، و ان اسطار النخالة ليبين في الخبز، و هو يكسره على ركبتيه و يأكل بملح جريش فقلنا لجارية له اسمها فضة الا نخلت هذا الدقيق لامير المؤمنين عليه السّلام فقالت أ يأكل هو المهنى و يكون الوزر في عنقي فتبسم و قال انا امرتها ان لا تنخله قلنا و لم يا أمير المؤمنين قال ذلك اجدر ان تذل النفس و يقتدى في المؤمن فالحق باصحابي. و اما سلمان و ابو ذر فحالهما فيه مشهور، روى الشيخ الورام طاب ثراه ان سلمان الفارسي لما مرض مرضه الذي مات أتاه سعد يعوده فقال كيف انت يا عبد اللّه فبكى فقال ما يبكيك فقال و اللّه ما أبكي حرضا على الدنيا و لا حبا لها و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عهد الينا عهدا

ص:42

فقال ليكن بلاغ احدكم من الدنيا كزاد راكب فأخشى ان تكون قد جاوزنا مره و هذه الاساور حولي و ليس حوله الا مطهرة فيها ماء و اجانة و جفنة و دخل رجل على سلمان الفارسي رضي اللّه عنه فلم يجد في بيته الا سيفا و مصحفا فقال ما في بيتك الا ما أرى قال ان امامنا عقبة كؤدا و انا قدمنا متاعنا الى المنزل اولا فاولا و قال وقع الحريق فأخذ سلمان سيفه و مصحفه و قال هكذا ينجو المخفون. و في عيون الاخبار باسناده الى الصادق عليه السّلام قال دعى سلمان ابا ذر رحمة اللّه عليهما الى منزله فقدّم اليه رغيفين فأخذ أبو ذر رضي اللّه عنه الرغيفين فقبلهما فقال سلمان رضي اللّه عنه يا ابا ذر لأي شيء تقلّب هذين الرغيفين قال خفت الا يكونا ناضجين فغضب سلمان من ذلك غضبا شديدا ثمّ قال ما اجرأك حيث يقلب الرغيفين فو اللّه لقد عمل في هذا الخبز الماء الذي تحت العرش و عملت فيه الملائكة حتى القوه الى الريح و عملت فيه الريح و حتى القته الى السحاب و عمل فيه السحاب حتى امطره الى الارض و عمل فيه الرعد و الملائكة حتى وضعوه و عملت فيه الارض و الخشب و الحديد و البهائم و النار و الحطب و الملح و ما لا احصيه اكثر فكيف لك ان تقوم بهذا الشكر فقال ابو ذر الى اللّه اتوب و استغفر اللّه مما أحدثت و اليك اعتذر مما كرهت قال و دعا سلمان ابا ذر رحمة اللّه عليهما ذات يوم الى ضيافته فقدم اليه جرابه كسرة يابسة و بلّها من ركوته فقال ابو ذر ما أطيب هذا الخبر لو كان معه ملح فقام سلمان و خرج فرهن ركوته و حمل اليه فجعل ابو ذر يأكل من ذلك الخبز و يذّر عليه من ذلك الملح و يقول الحمد للّه الذي رزقنا هذه القناعة فقال سلمان لو كانت قناعة لم تكن ركوتي مرهونة. و روى انه لما بعث الى المدائن ركب حماره وحده فأتصل بالمداين خبر قدومه فاستقبله اصناف الناس على طبقاتهم فلما رأوه قالوا ايها الشيخ اين خلفت قال و من اميركم قالوا الامير سلمان الفارسي (ره) صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لا اعرف الامير و انا سلمان و لست بأمير فترجلوا له و قادوا اليه المراكب و الجنائب فقال ان حماري هذا خير لي و ارفق فلما دخل البلد ارادوا ان ينزلوه دار الامارة قال كيف انزل دار الامارة و لست بأمير فنزل على حانوت في السوق فقال ادعوا لي صاحب الحانوت فاستاجر منه و جلس هناك يقضي بين الناس و كان معه و طاء يجلس عليه و مطهرة يتطهر بها للصلوة و عكازة يعتمد عليها في المشي فاتفق ان سيلا وقع في البلد و ارتفع صياح الناس بالويل و العويل يقولون وا اهلاه و والداه و امالاه فقام سلمان و وضع و طائه في عاتقه و اخذ مطهرته و عكازته بيده و ارتفع على الصعيد و قال هكذا ينجو المخففون يوم القيامة. و اما قوله لضربة علي خير من عبادة الثقلين الى يوم القيامة فهو مما استفاض نقله بل كان متواترا و قد اعترض بعضهم بأنه كيف جاز ان يكون ضربة واحدة خيرا من عبادة الجن و الانس الى يوم القيامة و اجاب عنه العامة و الخاصة اما الخاصة فقالوا ان ضربة ابن عبد ود انما قصد بها وجه اللّه سبحانه و لم يقصد اظهار الشجاعة المتعارفة بين

ص:43

الشجعان مع ان قتل مثله مما تفخر به اكابر العرب لانه كان يعدّ بألف رجل فاخلاص نيته عليه السّلام في قتل مثل هذا اوجب له الفضل على عبادة الثقلين و يؤيده انه عليه السّلام لما صرعه و ركب على صدره ضجّ المسلمون و قالوا يا رسول اللّه قل لعلي يجعل على ازهاق روحه فقال دعوه هو اعلم بما يصنع منكم و لما قمع رأسه و اتى به الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال ما بالك يا علي توقفت في قطع رأسه فقال يا رسول اللّه أنني لما صرعته شتمني فغضبت عليه و خفت ان اقتله لاجل شتمه اياي فتوقفت حتى سكن غضبي فقتلته لاجل وجه اللّه سبحانه. و اما الوجه الذي ذكره جمهور المخالفين فهو ان الاسلام ذلك الوقت كان منحصرا في المدينة المشرفة فلو غلب ابن ودّ على الاسلام ذلك ليوم لانهدم اساس الايمان فضربة علي عليه السّلام هي التي بسببها بقي الاسلام فهي اصل في وجوده و عبادة الثقلين فرع عليها و الاصل اشرف من فرعه و هذا المعنى لطيف جدا و يؤيده قوله صلّى اللّه عليه و آله حين برز علي عليه السّلام برز الاسلام كله الى الكفر كله. و في هذا المقام روى قيس بن هلال ان ابن ود نادى عمر بأسمه يا عمر فحاد عنه و لاذ بأصحابه حتى تبسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مما داخله من الرعب و لقد قال لاصحابه الاربعة اصحاب الكتاب الذين تعاهدوا عليه الرأي أرى و اللّه ان ندفع محمدا برمته و نسلم قال امير المؤمنين عليه السّلام انهم قالوا هذا القول حين جاء العدوّ من فوقنا و من تحت ارجلنا كما قال اللّه تعالى وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً فقال صاحبه لا و لكن نتخذ صنما عظيما نعبده لانا لا نأمن ان يظفر ابن ابي كبشة فيكون هلاكنا و لكن يكون ذخرا فان ظفرت قريش اظهرنا عبادة هذا الصنم و اعلمناهم اننا لم نفارق ديننا و ان رجعت دولة ابن ابي كبشة كنا مقيمين على عبادة الصنم سرا فأخبر بها جبرئيل عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فخبرني بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد قتل عمر بن عبد ودّ فدعاهما فقال كم صنم عبدتما في الجاهلية فقالا يا محمد لا تعيرنا بما في الجاهلية فقال كم صنما تعبدان اليوم فقالا و الذي بعثك بالحق نبيا ما نعبد الا اللّه منذ اظهرنا لك من دينك ما اظهرنا فقال يا علي خذ هذا السيف ثم انطلق الى موضع كذا و كذا فاستخرج الصنم الذي يعبد انه فأت به فان حال بينك و بينه أحد فاضرب عنقه فانكبا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقبلانه ثم قالا استرنا يسترك اللّه فقلت انا ضامن لهما من اللّه و رسوله ان لا يعبدا الا اللّه و لا يشركا به شيئا فعاهدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ذلك و انطلقت حتى استخرجت الصنم من موضعه ثم انصرفت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فو اللّه لقد تبين ذلك في وجوههما.

و قد ابدى ابن ابي الحديد عذرهما حيث قال:

عذرتكما إن الحمام لمبغض و ان بقاء النفس للنفس محبوب

دعا قصب العلياء يملكها امرء بغير افاعيل الدنائة مغصوب

ص:44

و لا تعجب من هذا الحديث فأنه قد روي في الاخبار الخاصة ان ابا بكر كان يصلي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الصنم معلق في عنقه، و سجوده له. و يوضح هذا المعنى ما ذكره البلاذري و هو من الجمهور في تأريخه قال لما قتل الحسين بن علي عليه السّلام كتب عبد اللّه بن عمر الى يزيد بن معاوية، اما بعد فقد عظمت الرزية و جلّت المصيبة، و حدث في الاسلام حدث عظيم و لا يوم كيوم الحسين فكتب اليه يزيد لعنه اللّه يا احمق إنا جئنا الى بيوت منجدة و فرش ممهدة و وسائد منضدة فقاتلنا عنها فان يكن الحق لنا فعن حقنا و ان يكن لغيرنا فابوك اول من سنّ هذا و ابتزه و استأثر بالحق على اهله فبعث الى عبد اللّه بن عمر عهدا كتبه ابوه الى معاوية هذا عهد من عمر بن الخطاب الى معاوية بن ابي سفيان: اعلم يا معاوية ان محمدا قد جاء بالافك و السحر و منعنا من اللات و العزّى و حوّل وجوهنا الى الكعبة التي يزعم انها القبلة الاسلامية، فكان هذا من غاية غلّوه و علوّه و مهارته في السحر الذي بهر به على موسى و عيسى و كافة بني اسرائيل، و نحن على الذي كنا قبل ذلك و ما تركنا اللات و العزّى و الهبل، و لما توفي محمد تواطينا مع اربعين رجلا من اهل نحلتنا و شهدنا انه قال الائمة من قريش، و عزلنا عليا عن الخلافة التي فوضها اليه و جعلها مخصوصة له ثم كتفناه و اخرجناه من بيته و جئنا به الى ابي بكر و امرنا الناس ببيعته، و كنا نظاهر بسنة محمد لئلا يهرب الناس عنا و لكنّا في باطن الامر على الذي كنّا قبل ذلك انتقمنا من اولاده و ذراريه على حسب طاقتنا و قدرتنا، و اما انت يا معاوية فأوصيك الا تسمح فيها و اقتل من اولاده و احفاده ما تصل اليه يدك و قدرتك، و لو لم تقدر على استيصال طائفته خوفا منم تنّفر الناس و تباعدهم عنك و خروجهم عليك فكن في باطن الامر على دفعهم و ازالتهم عن مقامهم و انحطاط من مراتبهم، و لا تخرج محبة اللات و العزى من قلبك، فانها طريقنا و طريق آبائنا و انا على اثارهم مقتدون. فان قلت فاذا كان حالهما هذا من حب الاصنام و عبادتهما فما سبب مبادرتهما الى الاسلام في اوائله و النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكة زادها اللّه شرفا و تعظيما، قلت هذه شبهة قديمة فتحتاج الى جواب من المعصوم عليه السّلام و قد روى صاحب كتاب الاحتجاج عن سعد بن عبد اللّه القمس الاشعري حديثا طويلا قال فيه اني بليت بأشد النواصب منازعة فقال لي يوما معاشر الروافض تقولون ان الاول و الثاني كانا منافقين و تستدلون على ذلك بليلة العقبة اخبرني عن اسلامهما كان عن طوع و رغبة او كان عن اكراه و اجبار فاحترزت عن جواب ذلك و قلت مع نفسي ان كنت اجبته بأنه كان عن طوع فيقول لا يكون على هذا الوجه ايمانهما عن تفاق، و ان قلت كان عن اكراه و اجبار لم يكن في ذلك الوقت للاسلام قوة حتى يكون اسلامهما باكراه و قهر، فرجعت عن هذا الخصم على حال ينقطع كبدي، فكتبت مسائل كثيرة و قصدت مولاي الحسن العسكري عليه السّلام فدخلت عليه و صاحب الزمان

ص:45

عليه السّلام جالس معه و هو غلام، فاجابني مولانا صاحب الزمان عليه السّلام عن المسائل كلها ثم قال: و اما ما قال لك الخصم بأنهم اسلما طوعا أو كرها لم لم تقل بل انهما اسلما طمعا و ذلك انهما كانا يخالطان اليهود و يخبرون بخروج محمد صلّى اللّه عليه و آله و استيلائه على العرب من التورية و الكتب المتقدمة، و ملاحم قصة محمد صلّى اللّه عليه و آله و يقولون لهما يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء بخت نصر على بني اسرائيل الا انه يدّعي النبوة و لا يكون من النبوة في شيء فلما ظهر امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تساعدا معه على شهادة ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طمعا ان يجدا من جهة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ولاية بلد اذا انتظم امره و حسن حاله و استقامت ولايته فلما ايسا من ذلك فتوافقا مع امثالهما ليلة العقبة، و كان حالهما كحال طلحة و الزبير اذ جاءا عليا عليه السّلام و بايعاه طمعا ان يكون لكل واحد منهما ولاية، فلما لم يكن ذلك و أيسا من الولاية نكثا بيعته و خرجا عليه حتى آل امر كل واحد منهما الى ما يؤل اليه امر من ينكث العهود و المواثيق. و بالجملة فشجاعة علي عليه السّلام مما لا يحتاج بيانها الى الاستدلال روى البرسي في كتابه لما وصف وقعة خيبر، و ان الفتح فيها كان على يد علي عليه السّلام ان جبرئيل عليه السّلام جاء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستبشرا بعد قتل مرحب فسئله النبي صلّى اللّه عليه و آله عن استبشاره فقال يا رسول اللّه ان عليا لما رفع السيف ليضرب به مرحبا امر اللّه سبحانه اسرافيل و ميكائيل ان يقبضا عضده في الهوى حتى لا يضربه بكل قوته، و مع هذا قسمه نصفين و كذا ما عليه من الحديد و كذا فرسه و وصل السيف الى طبقات الارض فقال لي اللّه سبحانه يا جبرئيل بادر الى تحت الارض و امنع سيف علي عن الوصول الى ثور الارض حتى لا تنقلب الارض فمضيت فامسكته فكان على جناحي اثقل من مدائن قوم لوط و هي سبع مدائن قلعتها من الارض السابعة، و رفعتها فوق ريشة واحدة من جناحي الى قرب السماء، و بقيت منتظرا الامر الى وقت السحر حتى امرني اللّه بقلبها فما وجدت لها ثقلا كثقل سيف علي فسأله النبي صلّى اللّه عليه و آله لم لا قلّبتها من ساعة رفعها فقال يا رسول اللّه انه قد كان فيهم شيخ كافر نائم على قفاه و شيبته الى السماء فاستحى اللّه سبحانه ان يعذبهم فلما كان وقت السحر انقلب ذلك الشائب على قفاه فأمرني بعذابها و في ذلك اليوم لما فتح الحصن و اسروا نسائهم فكان فيهن صفية بنت ملك الحصن فأتت النبي صلّى اللّه عليه و آله و في وجهها اثر شجّة فسئلها النبي صلّى اللّه عليه و آله عنها فقالت ان عليا عليه السّلام لما اتى الحين و تعسر عليه اخذه اتى الى برج من بروجه فهزّه فاهتز الحصن كله و كل من كان فوق مرتفع سقط عنه و انا كنت جالسة فوق سريري فهويت من عليه فاصابني السرير فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله يا صفية ان عليا لما غضب و هزّ الحصن غضب اللّه لغضب علي فزلزل السموات كلها حتى خافت الملائكة و وقعوا على وجوههم، و كفى بها شجاعة ربانية. و اما باب خيبر فقد كان اربعون رجلا يتعاونون على سدّه وقت الليل و لما دخل الحصن طار ترسه ممن يده من كثرة الضرب فقلع الباب و كان في يده

ص:46

بمنزلة الترس، يقاتل و هو في يده حتى فتح اللّه عليه، و روى ان بعضهم دخل عليه ذات يوم و بين يديه خبز يابس و هو يريد كسره فيعجز عنه فيضعه على ركبته حتى يقدر عليه، فقال له ذلك الرجل يا علي اين تلك القوة التي قلعت بها باب خيبر، فقال تلك قوة اللّه تعالى و هذا قوتي، و النقل من هذه و امثاله يفضي الى فناء الاوراق و كسر الاقلام و جفاف المداد، و في شعره عليه السّلام

صيد الملوك أرانب و ثعالب و اذا ركبت فصيدي الابطال

و اما قوله و منها السخاوة، فقد عجزت اصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله مع كثرة اموالهم عن الوصول الى ادنى درجة من سخائه روى الصدوق طاب ثراه بإسناده الى خالد بن ربعي قال ان امير المؤمنين عليه السّلام دخل مكة في بعض حوائجه، فوجد اعرابيا متعلقا بأستار الكعبة، و هو يقول يا صاحب البيت البيت بيتك و الضيف ضيفك و لكل ضيف من مضيفه ضيفة قراي فاجعل قراي منك الليلة المغفرة، فقال امير المؤمنين عليه السّلام لاصحابه اما تسمعون كلام الاعرابي قالوا نعم قال اللّه اكرم من ان يرد ضيفه قال فلما كان من الليلة الثانية وجده متعلقا بذلك الركن و هو يقول يا عزيزا في عزك فلا اعز منك في عزك اعزني بعز عزك في عزّ لا يعلم احد كيف هو أتوجه اليك و اتوسل اليك بحق محمد و آل محمد عليك اعطني ما لا يعطيني احد غيرك و أصرف عني ما لا يصرفه احد غيرك، فقال قال امير المؤمنين عليه السّلام لاصحابه هذا و اللّه الاسم الاعظم بالسريانية اخبرني به حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأله الجنة فأعطاه و سأله صرف النار فصرفها عنه. قال فلما كان ليلة الثالثة وجده و هو متعلق بذلك الركن، و هو يقول يا من لا يحويه مكان و لا يخلو منه مكان بلا كيفية كان ارزق الاعرابي أربعة آلاف درهم قال فتقدم امير المؤمنين عليه السّلام و قال يا اعرابي سئلت ربك فاقراك و سئلته الجنة فاعطاك و سألته ان يصرف عنك النار و قد صرفها عنك و في هذه الليلة تسئله اربعة آلاف درهم قال الاعرابي من انت قال انا علي بن ابي طالب قال الاعرابي انت و اللّه بغيتي و بك انزلت حاجتي. قال سل يا اعرابي فقال اريد الف درهم للصداق، و الف درهم اقضي به ديني، و ألف درهمك اشتري به دارا، و ألف درهم أتعيش به، قال انصفت يا اعرابي، فاذا خرجت من مكة فسل عن داري بمدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأقام الاعرابي بمكة اسبوعا و خرج في طلب امير المؤمنين عليه السّلام الى المدينة، و نادى من يدلّني على دار امير المؤمنين عليه السّلام فقال الحسين بن علي من بين الصبيان انا أدلك على دار امير المؤمنين، و انا ابنه الحسين بن علي، فقال الاعرابي من ابوك قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب قال من أمك قال فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

قال من جدك قال محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب قال من جدتك قال خديجة بنت خويلد قال من اخوك قال ابو محمد الحسن بن علي قال قد اخذت الدنيا بطرفيها إمش الى امير المؤمنين و قل له ان الاعرابي صاحب الضمان بمكة على الباب قال فدخل الحسين بن علي عليهما السّلام

ص:47

فقال يا أبة اعرابي بالباب يزعم انه صاحب الضمان بمكة قال فقا يا فاطمة عندك شيء يأكله الاعرابي، قالت اللهم لا فتلبّس امير المؤمنين عليه السّلام و خرج، و قال ادعوا لي ابا عبد اللّه سلمان الفارسي. قال فدخل سلمان الفارسي رضي اللّه عنه فقال يا ابا عبد اللّه اعرض الحديقة التي غرسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على التجار، قال فدخل سلمان الى السوق و عرض الحديقة فباعها بأثني عشر ألف درهم و احضر المال و احضروا الاعرابي فاعطاه اربعة الاف درهم و اربعين درهما نفقة، و وقع الخبر الى سؤال المدينة فأجتمعوا، و مضى رجل من الانصار الى فاطمة عليها السّلام فأخبرها بذلك، فقالت آجرك اللّه في ممشاك، فجلس علي عليه السّلام و الدراهم مصبوبة بين يديه، حتى اجتمع اليه اصحابه فقبض قبضة قبضة و جعل رجل رجلا حتى لم يبق معه درهم واحد فلما اتى المنزل قالت فاطمة عليها السّلام يا ابن العم بعت الحائط الذي غرسه لك والدي، قال نعم بخير منه عاجلا و آجلا، قالت فأين الثمن قال دفعته الى اعين إستحييت ان اذلها بذّل المسألة، اعطيتها قبل ان تسألني.

قالت فاطمة عليها السّلام انا جائعة و إبناي جائعان، و لا أشك إلاّ و أنك مثلنا في الجوع لم يكن لنا منه درهم، و أخذت بطرف ثوب علي عليه السّلام فقال علي عليه السّلام يا فاطمة خليّني فقالت لا و اللّه أو يحكم بيني و بينك أبي، فهبط جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا محمد ربك يقرئك السّلام و يقول إقرء عليا مني السّلام و قل لفاطمة ليس لك ان تضربي على يديه و لا تلزمي بثوبه، فلما أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منزل علي عليه السّلام وجد فاطمة عليها السّلام ملازمة لعلي فقال لها يا بنية ما لك ملازمة لعلي فقالت يا ابه باع الحائط الذي غرسته له باثني عشر الف درهم لم يحبس لنا منه درهما نشتري به طعاما، فقال يا بنية ان جبرئيل يقرئني من ربي السّلام و يقول إقرأ عليا من ربي السّلام، و أمرني ان اقول ليس لك ان تضربي على يديه و لا تلزمي بثوبه، قالت فاطمة استغفر اللّه و لا اعود ابدا. قالت فاطمة عليها السّلام فخرج ابي في ناحية و زوجي في ناحية، فما لبث ان اتى ابي صلّى اللّه عليه و آله و معه سبعة دراهم سود هجرية، فقال يا فاطمة اين ابن عمي، فقلت له خرج فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هاك هذه الدراهم، فاذا جاء ابن عمي فقولي له يبتاع لكم بها طعاما فما لبث الا يسيرا حتى جاء علي عليه السّلام، فقال رجع ابن عمي فأني اجد رائحة طيبة قالت نعم و قد دفع اليّ شيئا تبتاع به طعاما، فقال علي عليه السّلام هاتيه، فدفعت اليه سبعة دراهم سود هجرية، فقال بسم اللّه و الحمد كثيرا طيبا، و هذا من رزق اللّه ثم قال يا حسن قم معي فأتيا السوق فاذا هما برجل واقف و هو يقول من يقرض العلي الوفي قال بني نعطيه قال أى و اللّه فاعطاه علي عليه السّلام الدراهم كلها قال يا أبتاه أعطيته الدراهم كلها قال نعم يا بني إن الذي يعطي القليل قادر أن يعطي الكثير، قال فمضي علي عليه السّلام الى باب رجل يستقرض منه شيئا، فلقيه أعرابي و معه ناقة، فقال يا علي أشتري مني هذة، قال ليس معي ثمنها

ص:48

قال فإني أنظرك به الى القبض قال بكم يا أعرابي قال بمائة درهم فقال علي عليه السّلام خذها يا حسن فأخذها فمضى علي عليه السّلام فلقيه أعرابي آخر ألمثال واحد و الثياب مختلفة، فقال يا علي تبيع الناقة، قال علي عليه السّلام و ما تصنع بها، قال أغزو بها اول غزوة يغزوها أبن عمك، قال أن قبلتها فهي لك بلا ثمن قال معي ثمنها و بالثمن أشتريها فبكم أشتريتها، قال بمائة درهم قال الأعرابي فلك سبعون و مائة درهم، قال علي عليه السّلام للحسن خذ السبعين و المائة و سلم المائة للأعرابي الذي باعنا الناقة و السبعين لنا نبتاع بها شيئا فأخذ الحسن عليه السّلام الدراهم و سلم الناقة، قال علي عليه السّلام فمضبت أطلب الأعرابي الذي أبتعت منه الناقة لأعطيه ثمنها فرأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا في مكان لم أره فيه قبل ذلك اليوم و لا بعده على قارعة الطريق فلما نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله الي تبسم ضاحكا حتى بدت نواجده، قال علي عليه السّلام أضحك اللّه سنك و بشرك بيومك، فقال يا أبا الحسن إنك تطلب الاعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه الثمن، فقلت أي و اللّه فداك ابي و امي، فقال يا ابا الحسن الذي باعك الناقة جبرئيل و الذي اشتراها منك ميكائيل و الناقة و الدراهم من عند رب العالمين عز و جل فانفقها في خير و لا تخف إقتارا. و اما قوله النسب العالي فلا نسب أفخر من أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد روى الخاصة و العامة مسفيضا عن ابن عباس، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاني جبرئيل عليه السّلام و هو فرح مستبشر فقلت يا حبيبي جبرئيل مع ما أنت فيه من الفرح ما منزلة أخي و ابن عمي علي بن ابي طالب عند ربه، فقال جبرئيل يا محمد و الذي بعثك بالنبوة و اصطفاك بالرسالة ما حبطت في وقتي هذا الا لهذا، يا محمد العلي الاعلى يقرء عليك السّلام و يقول محمد نبي و رحمتي و علي مقيم حجتي لا اعذب من والاه و ان عصاني و لا ارحم من عاداه و ان اطاعني. و قد استشكل هذا بعض المحققين من المعاصرين و قال انه محمول على المبالغة، و الجواب انه لا يحتاج الى الحمل على المبالغة، بل هو محمول على الحقيقة فان فساق الشيعة مما يكره اعمالهم و لكن لانتسابهم الى امير المؤمنين عليه السّلام بالمحبة و الولاية رفع اللّه عنهم الخلود في النار، بل ظاهر بعض الاخبار ان منهم من لا يعذب اصلا، و اما المخالفون فمع ما عليه بعضهم من العبادة و الزهادة و سائر انواع البر لا يدخلون الجنة باجماع اصحابنا، و ذلك ليس الا بمعاداتهم عليا عليه السّلام و هو عليه السّلام اول هاشمي تولدّ بين هاشميّين، و لا بأس بالتعرض لنسب الخلفاء.

في نسب الخلفاء

اما ابو بكر فلم يتعرض احد لنسبه بسوء لا من العامة و لا من الخاصة، نعم ذكر المنذر بن هشام الكلبي و هو من علمائهم في كتاب المثالب ما هذا لفظه، و ممن كان ينادي على طعام بن جذعان بن سفيان بن عبد الاسد المخزومي ابو قحافة، فهل ترى لأبي قحافة مالا أو ثروة فمن اين انتقل الى ابي بكر حتى صار يغني رسول اللّه و يطعن بذلك على اللّه، حيث قال سبحانه و وجدك

ص:49

عائلا فأغنى، فكابروا هذا القول و ردوا عليه و قالوا بل اغناه ابو بكر بماله و اما عدم الطعن عليه بالسوء كما سيأتي في أنساب امثاله فلعله لان الائمة عليهم السّلام من نسله، و ذلك لان أم فروة هي ام الصادق عليه السّلام بنت القاسم بن محمد بن ابي بكر. نعم لما وليّ أبو بكر الخلافة كان ابوه ابو قحافة بالطائف فلما بويع لابي بكر كتب لابيه كتابا، عنوانه من خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى أبيه ابي قحافة أما بعد فإنّ الناس قد تراضوا بي فأني اليوم خليفة اللّه، فلو قدمت علينا كان أحسن بك فلما قرأ أبو قحافة الكتاب، قال للرسول ما منعكم عن علي قال هو حدث السن و قد أكثر القتل في قريش و غيرها، و أبو بكر أسنّ منه قال ابو قحافة ان كان الامر في ذلك بالسن فأنا أحق من ابو بكر، لقد ظلموا عليا و قد بايع له النبي صلّى اللّه عليه و آله و أمرنا ببيعته، ثم كتب، من ابو قحافة الى ابي بكر اما بعد فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضا، مرة تقول خليفة رسول اللّه و مرة تقول خليفة اللّه و مرة تقول تراضوا بي الناس و هو أمر ملتبس فلا تدخلنّ في امر يصعب عليك الخروج منه غدا، و تكون عقباك منه الى الندامة و ملامة النفس اللوامة لدى الحساب يوم القيامة، فأن للامور مداخل و مخارج و أنت تعرف من هو أولى منك، فراقب اللّه كأنك تراه و لا تدعن صاحبها، فانّ تركها اليوم احق عليك و اسلم لك. و بقي الكلام في النسب الشريف للخليفة الثاني، فروى ابن عبد ربه في المجلد الثاني من كتاب العقد، قال و خرج عمر بن الخطاب و يده على المعلى بن جارود فليقته امرأة من قريش فقالت يا عمر فوقف لها فقالت كنا نعرفك مرة عميرا ثم صرت من بعد عمير عمر ثم صرت من بعد عمر امير المؤمنين فاتق اللّه يا ابن الخطاب و انظر في امور الناس، فأنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد و من خالف الموت خشى الفوت، و من طريف ما بلغوا اليه من القدح في اصل خليفتهم عمر، ان جدته صهاك ولدته من سفاح يعني من زنا و رووا ان ولد الزنا لا ينجب ثم مع هذا ولّوه الخلافة و شهدوا عليه بالزنا فمن رواياتهم في ذلك ما ذكره ابو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي، و هو من رجالهم في كتاب المثالب ما هذا لفظه في عدد جملة من ولدوا من سفاح، هشام عن ابيه قال كانت صهاك امة حبشة لهاشم بن عبد مناف فوقع عليها عبد العزى بن رياح، فجائت بنفيل جد عمر بن الخطاب فهل بلغت الشيعة الى اقبح من هذه الانساب. و من عجيب ما رواه عن الخطاب والد عمر بن الخطاب انه كان سرّاقا و قطع في السرقة، ما ذكره ابو عبيد القسم بن سلام في كتاب الشهاب، في تسمية من قطع من قريش في الجاهلية في السرقة ما هذا لفظه، قال و الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عدي بن كعب ابو عمر بن الخطاب قطعت يده في سرقة قدر و محاه ولاية عمر و رضى الناس عنه قال بعض المسلمين الا تعجب من قوم رووا ان عمر كان ولد زنا، و أنه كان في الجاهلية نخّاس الحمير و أنه كان أبوه سرّاقا و أنه ما كان يعرف الا بعمير لرذالته ثم مع هذا جعلوه خليفة قائما مقام نبيهم و نائبا

ص:50

عن اللّه في عباده و قدموه على من لا طعن عليه في حسب و لا نسب و لا إرب و لا سبب و يا ليتهم حيث ولوه و فضحوا انفسهم بذلك كانوا قد سكتوا عن نقل هذه الاحاديث التي قد سمت بها الاعداء و جعلوها طريقا الى جهلهم بمقام الانبياء و خلافة الخلفاء. و اما روايات الخاصة في هذا الباب فكثيرة و لنذكر منها حديثا واحدا و هو ما رواه رئيس المحدثين محمد بن يعقوب (ره) باسناده الى سماعة، قال تعرض رجل من ولد عمر بن الخطاب بجارية رجل عقيلي فقالت له أنّ هذا العمري قد آذاني فقال لها عديه و ادخليه الدهليز فادخلته فسدّ عليه فقتله و القاه في الطريق، فاجتمع البكريون و العمريون و العثمانيون، و قالوا ما لصاحبنا كفو لن نقتل به الا جعفر بن محمد عليه السّلام و ما قتل صاحبنا غيره، و كان ابو عبد اللّه عليه السّلام قد مضى نحو قبا فلقيته بما اجتمع القوم عليه فقال دعهم فلما جاء و ثبوا عليه و قالوا ما قتل صاحبنا احد غيرك، و لا نقتل به احدا غيرك فقال ليكلمني منكم جماعة فاعتزل قوم منهم فأخذ بأيديهم و ادخلهم المسجد فخرجوا و هم يقولون شيخنا ابو عبد اللّه جعفر بن محمد صلوات اللّه عليهما معاذ اللّه ان يكون مثله يفعل هذا أو يأمر به، فانصرفوا قال فمضيت معه فقلت جعلت فداك ما كان اقرب رضاهم من سخطهم، قال نعم دعوتهم فقلت امسكوا و إلاّ اخرجت الصحيفة فقلت ما هذه الصحيفة جعلني اللّه فداك، فقال ان ام الخطاب كانت امة للزبير بن عبد المطلب فشطر بها نفيل و هو ابو الخطاب فاحبلها فطلبه الزبير فخرج هاربا الى الطائف فخرج الزبير خلفه فبصرت به ثقيف، فقالوا يا ابا عبد اللّه ما تعمل هيهنا قال جاريتي شطر بها نفيلكم فهرب الى الشام، و خرج الزبير في تجارة له الى الشام فدخل على ملك الدومة، فقال له يا ابا عبد اللّه لي اليك حاجة قال و ما حاجتك ايها الملك، فقال رجل من اهلك قد اخذت ولده فاحبّ ان ترده عليه فقال ليظهر لي حتى اعرفه فلما ان كان من الغد دخل الى الملك فلما راه الملك ضحك فقال ما يضحكك ايها الملك قال ما اظن هذا الرجل ولدته عربية، لما رآك قد دخلت لم يملك استه ان جعل يضرط فقال يا ايها الملك اذا صرت الى مكة قضيت، فلما قد الزبير تحمل عليه ببطون قريش كلها ان يدفع اليه ابنه فأبى ثم تحمل عليه بعد المطلب فقال ما بيني و بينه عمل، اما علمتم ما فعل في ابني فلان و لكن امضوا انتم اليه فكلموه فقصدوا فقال لهم الزبير ان الشيطان له دولة و ان ابن هذا ابن الشيطان و لست آمن أن يترأس علينا، و لكن أدخلوه من باب المسجد علي على أن احمي له حديدة و أخط في وجه خطوطا، و أكتب عليه و على أبنه أن لا يتصدر في مجلس و لا يأتمر على أولادنا و لا يضرب معنا بسهم، قال ففعلوا و خط وجهه بالحديدة و كتب عليه الكتاب، و ذلك الكتاب عندنا فقلت لهم أن أمسكتم و ألا أخرجت الكتاب ففيه فضيحتكم فأمسكوا، و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة فهذا نسب الخليفة الثاني. و أما أفعاله الجميلة فلقد نقل منها محبوه و متابعوه ما لم ينقله أعداؤه منها ما نقله صاحب

ص:51

كتاب الأستيعاب في الرجال و هو من أفاضلهم، فقال أن عمر لما ضربه أبو لؤلؤة بالسكين في بطنه قال أدعو لي الطبيب فدعى الطبيب، فقال أي الشراب أحب إليك قال النبيذ فسقي نبيذا فخرج من بعض طعناته فقال الناس هذا دم هذا صديد، قال أسقوني لبنا فخرج من الطعنة فقال له الطبيب لا أرى أن تمسى فما كنت فاعلا فأفعل، و ذكر تمام الخبر في الشورى، و النبيذ هو شراب التمر و لقد كان يحب أن يلاقي اللّه سبحانه و بطنه الممزوقة ممليه من الشراب، فأنظروا يا أهل الألباب. و منها ما قال المحقق جلال الدين السيوطي في حواشي القاموس عند التصحيح لغة الأبنة، و قال هناك و كانت في جماعة في الجاهليه أحدهم سيدنا عمر و اقبح منه ما قاله الفاضل أبن الأثير و هما من أجلاء علمائهم قال زعمت الروافض أن سيدنا عمر كان مخنثا كذبوا، و لكن كان به داء دواؤه ماء الرجال و غير ذلك مما يستقبح من نقله، و قد قصروا في إضاعة مثل هذا السر المكنون المخزون و لم أرى في كتب الرافضة مثل هذا، نعم روى العياشي منهم حديثا حاصل معناه أن الأسم الذي هو لفظ أمير المؤمنين قد خص اللّه به علي بن أبي طالب عليه السّلام، و بهذا لم تسم الرافضة أئمتهم بهذا الأسم و من سمى نفسه به غير علي بن أبي طالب فهو مما يؤتى في دبره، و هذا شامل لجميع المتخلفين من الأموية و العباسية و قد نقلت أهل السنة هيهنا عن أمامهم ما هو أقبح من هذا، و لا حول و لا قوة الإباللّه العلي العظيم و قد بقي أشياء كثيرة. منها ما ذكر الطبري في تاريخه و هو من علمائهم قال أتى عمر بن الخطاب إلى منزل علي عليه السّلام فقال و اللّه لأحرقن عليكم او لتخرجن للبيعة، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه، قال زيد بن اسلم و هو منهم كنت ممن حمل الحطب مع عمر الى باب فاطمة عليها السّلام، حين امتنع علي و اصحابه عن البيعة، فقال عمر لفاطمة اخرجي من البيت و الا احرقته و من فيه، قال و في البيت علي و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جماعة من اصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالت فاطمة عليها السّلام تحرق علي و ولدي فقال أي و اللّه أو ليخرجنّ و ليبايعنّ. اقول و قد اعترف بهذا النقل من متقدميهم جمهور المتأخرين منهم لكن قالوا ان الوالي يفعل ما يقتضيه المصلحة و لا يخفى ما فيه، فأنّ فعله هذا انما كان في زمن خلافة ابي بكر و انتم ما اثبتتم خلافة ابي بكر الا من جهة الاتفاق و حينئذ كان الواجب على عمر ان يصبر حتى يحصل الاتفاق من علي و امثاله، فتثبت خلافة ابي بكر و ولايته فاذا ثبتت فعل ما يقتضيه رأيه و لا كان ينبغي لعمر ان يفعل ابتدا الامر ما يبطل دليل خلافة صاحبه، و لكن هذا ليس بأول قارورة كسرت في الاسلام. و اما عثمان فقد شهدوا عليه بارتداده عن الايمان، روى السدي و هو من مفسريهم في تفسير قوله تعالى وَ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنٰا ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قال السدي نزلت في عثمان بن عفان قال لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني النضير و قسم اموالهم، فقال لعلي عليه السّلام إئت

ص:52

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاسئله ارض كذا و كذا، فان اعطاكها فأنا شريكك فيها و آته و اسأله انا فان اعطانيها فأنت شريكي فيها فسأله عثمان اولا فاعطاه اياها، فقال له علي عليه السّلام اشركني فأبى عثمان الشركة فقال بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأبى ان يخاصمه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال هو ابن عمه فأخاف ان يقضي له فنزل قوله وَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتٰابُوا أَمْ يَخٰافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ فلما بلغ عثمان ما انزل اللّه فيه اتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و أقرّ لعلي عليه السّلام بالحق و شركه في الارض. و من غريب ما شهدوا به على طلحة و عثمان من شكهم في الاسلام و شهادة اللّه عليهم بالكفر بعد اظهار الايمان ما ذكره السدي ايضا، في تفسير قوله تعالى يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ قال لما اصيب اصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله بأحد قال عثمان لا لحقنّ بالشام فأنّ لي به صديقا من اليهود يقال له دهلك فلاخذنّ منه أمانا فاني اخاف ان يدال (1)علينا اليهود و قال طلحة بن عبد اللّه لاخرجنّ الى الشام فانّ لي به صديقا من النصارى فلاخذنّ منه امانا فاني اخاف ان يدال علينا النصارى. قال السدي فأراد احدهما ان يتهود و الاخر ان ينتصر، قال فأقبل طلحة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و عنده علي بن ابي طالب عليه السّلام فاستأذنه طلحة في المسير الى الشام، و قال ان لي بها مالا اخذه ثم انصرف، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله على مثل هذا الحال تخذلنا و تخرج فأكثر على النبي صلّى اللّه عليه و آله من الاستيذان فقال علي عليه السّلام يا رسول اللّه إئذن لابن الحضرمية فكفّ طلحة الاستيذان عند ذلك فأنزل اللّه عز و جل فيهما وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ يقول انه يحلف لكم انه مؤمن معكم فقد حبط عمله بما دخل فيه من امر المسلمين حيث نافق فيه.

و من غريب ما بلغوا اليه من الطعن في اصل عثمان و نسبه ما رواه علمائهم و ذكره ابو المنذر هشام بن السائب الكلبي في كتاب المثالب فقال ما هذا لفظه، و ممن كان يلعب به و يتخنث ثم ذكر من كان قال و عفان بن ابي العاص بن امية ممن كان يتخنث و يلعب به و اغرب من هذا ما ذكره في ذم اصل طلحة بن عبد اللّه و طعنهم في نسبه و كونهم جعلوه ولد زنا، و قد ذكره جماعة من الرواة و ذكره ايضا ابو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي في كتاب المثالب، فقال و ذكر من جملة البغايا من ذوي الرايات صعبة فقال و اما صعبة فهي بنت الحضرمي كانت لها راية بمكة فوقع عليها ابو سفيان، و تزوجها عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم فجائت بطلحة

ص:53


1- 24) دالت الايام دارت و دال الزمان دولة انقلبت من حال الى حال يقال دالت له الدولة و دالت الايام بكذا و دال الرجل دولا و دألة صارة شهرة.

بن عبيد اللّه لستة اشهر، فأختصم ابو سفيان و عبيد اللّه في طلحة فجعلا امرهما الى صعبة فالحقته بعبيد اللّه، فقيل لها كيف تركت ابا سفيان فقالت يد عبيد اللّه طلقة و يد ابي سفيان تربة ثم ذكر صاحب كتاب المثالب المشار اليه هجاءا لبني طلحة بن عبيد اللّه من جملته:

فاصدقوا يا قومنا انسابكم ثم اقيمونا على الامر الجلي

لعبيد اللّه انتم معشر ام ابو سفيان ذاك الاموي

و ذكر ايضا في كتاب المذكور ما هذا لفظه قال و ممن كان يلعب به و يتخنث عبيد اللّه ابو طلحة بن عبيد اللّه.

و من طريف ما بلغوا اليه من القدح في ولادة معاوية بن ابي سفيان ما رواه في كتبهم و رواه ابو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي في كتاب المثالب فقال كان معاوية لاربعة لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي و لمسافر بن عمر و لابي سفيان و لرجل اخر سماه، قال و كانت هند امه من المعتلمات و كان احب الرجال اليها السودان، و كانت اذا ولدت اسود قتلته، و قال في موضع آخر من الكتاب و اما حمامة فهي من بعض جدات معاوية كان لها راية بذي المجاز يعني من ذوي الرايات في الزنا، و ما احسن قول بعض المسلمين

ان هذا النسب مما يقلقل تقوم تعظيما له عند ذكره

و قد نقل في كتب كثيرة ان يزيد قد تعشق عمته و كانت بكرا فاستحى ان يظهر لها الحال فاراد ان يمتحنها، فأتى معها الى بستان و جلست في موضع فأمر ان ينزي حصان (1)على فرس و عمته تنظر اليهما، فلما نزى عليها و هي تنظر اليهما اتاها يزيد و امرها بالقيام من مكانها فلما قامت رأى في مكانها إراقة المني فعلم ارادتها لذلك الغرض فاتى اليها، فلما جامعها لم يجدها بكرا فقال لها اين بكارتك فقالت له ان اباك لم يترك بكرا، فظهر ان معاوية قد كان مخالطا لها و هذا العجب العجيب و الامر الغريب.

و اما يزيد لعنه اللّه فحاله اشهر من ان يذكر و سبب ولادته ما قاله بعض مفسريهم ان معاوية لعنه اللّه كان ذات يوم يبول فلدعته عقرب في ذكره فزوجوه عجوزا ليجامعها و يشتفي من دوائها، فجامعها مرة و طلقها فوقعت النطفة مختلطة بسم العقرب في رحم العجوز فحصل منها يزيد هذا هو المشهور و لكن رأيت في بعض كتب المسلمين انه كان عند معاوية جارية هندية تخدمه فحبلت منه و جائت بيزيد الكلب النجس، و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله اتقوا اليهود و الهنود و لو الى سبعين بطنا.

ص:54


1- 25) الحصان الفرس العتيق و كل ذكر من الخيل.

و روى الكليني انه كان بين الحسين و بين يزيد لعنه اللّه عداوة اصلية و عداوة فرعية، اما الاصلية فانه ولد لعبد مناف ولدان هاشم و امية ملتزقا ظهر كل واحد منهما بظهر الاخر ففرق بينهما بالسيف، فلم يرتفع السيف من بينهما و بين اولادهما حتى وقع حرب بن امية و عبد المطلب بن هاشم و بين ابي سفيان بن حرب و بين ابي طالب و بين معاوية بن ابي سفيان لعنهما اللّه تعالى و علي بن ابي طالب عليه السّلام و بين يزيد بن معاوية لعنه اللّه و الحسين بن علي عليه السّلام.

و اما العداوة الفرعية فان يزيد قال لابيه يا أبه قد هيأت لي وراثة الملك و ما قصرت في حقي غير انه كانت لعبد اللّه بن الزبير امرأة يقال لها فاطمة من اجمل النساء فأريد ان تزوجنيها فدعا معاوية عبد اللّه بن الزبير و قال اريد ان ارعى قرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ازوجك ابنتي و اجعل لك ولاية مصر فاتخدع به عبد اللّه و رضى فبعد يوم دعاه و اخبره بانها لا ترضى الا ان يطلق زوجته خوفا من الغيرة لجمالها فطلقها فبعد يوم دعاه و اخبره بانها تأبى و تقول انه لم يف لصاحبة الجمال فكيف يصنع بي اذا زال الملك و المال فاغتم عبد اللّه فسلاه معاوية و قال لا تغتم فاني سأرسل اليها بنساء يرضينها، فلما انقضت عدّة فاطمة ارسل اليها ابا موسى الاشعري ليخطبها ليزيد فمر ابو موسى بقثم بن العباس فقال قثم اني راغب فيها ايضا، ثم بالحسين عليه السّلام كذلك فلما دخل عليها قال لها ما قالوا و قال اني راغب فيك ايضا فقالت اما انت فشيخ و انا شابة و لكن اريد منك طلب المصلحة، فقال ان تريدي الولاية و التنعم الدنيوي فيزيد، و ان تريدي العلم و الجمال و قرابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فقثم، و ان تريدي العلم و الزهد و بنوة النبي فالحسين و قد رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقبله و يقول سيد شباب اهل الجنة، فقالت اخترت الحسين فسمع معاوية و غضب على ابي موسى الاشعري.

فان قلت على ما ذكرت أ يجوز اطلاق ولد الزنا على ما ذكرت من هؤلاء الجماعة ام لا يجوز، قلت ان هذا الاطلاق و ان لم يصح على اولاد الكفار و نحوهم ممن تميز نكاحهم عن سفاحهم، الا ان هذا الاطلاق على ما ذكرت من الجماعة جائز لانه سفاح في مذهبهم و الشارع جوّز عليهم هذا الاطلاق كما جوّزه على من حضر واقعة الطفوف من اهل العراق و الشام و غيرهم و اما باقي الكفار فلا يجوز روى عمارة بن نعمان الجعفي قال كان لابي عبد اللّه عليه السّلام صديق لا يكاد يفارقه اين ذهب فبينما يمشي معه في الحذّائين و معه غلام سندي يمشي خلفه اذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال يا بن الفاعلة اين كنت قال فرفع ابو عبد اللّه عليه السّلام يده فصكّ بها جبهته، قال سبحان اللّه تقذف امّة قد كنت أرى ان لك ورعا فاذا ليس لك ورع، فقالت جعلت فداك انّ امّه سندية مشركة فقال اما علمت ان لكل امّة نكاحا فتنحّ عني فما رأينته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما و نحوه كثير.

ص:55

و اما قوله و منها المصاهرة فلا درجة اعلى منها و ذلك ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يتمنى بان يكون له زوجة مثل فاطمة فلم يحصل و كفى به شرفا ان اكابر العرب خطبتها منه فاعرض عنهم و ما زوجها عليا عليه السّلام حتى زوجه اللّه في السماء روى الصدوق (ره) باسناده الى الصادق عليه السّلام قال قال علي عليه السّلام، لقد هممت بتزويج فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله حينا و لم أتجرأ أن أذكر ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و أن ذلك أختلج في صدري ليلا و نهارا حتى دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا علي قلت لبيك يا رسول اللّه، قال هل لك حاجة في التزويج قلت رسول اللّه أعلم و ظننت أنه يريد أن يزوجني بعض نساء قريش، و أنى لخائف على فوت فاطمة فما شعرت بشئي أذ أتاني رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لي أجب النبي صلّى اللّه عليه و آله و أسرع فما رأينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشد فرحا منه اليوم، قال فأتيته مسرعا فأذا هو في حجرة أم سلمة فلما نظر الي تهلل وجهه و تبسم حتى نظرت الى بياض أسنانه، فقال أبشر يا علي فأن اللّه عز و جل قد كفانى ما كان أهمنى من أمر تزويجك فقلت و كيف ذلك يا رسول اللّه، فقال أتاني جبرئيل و معه من سنبل الجنة و قرنفلها و لنيهما فأخذتهما فشممتها فقلت ما سبب هذا القرنفل و السنبل، فقال أن اللّه تبارك و تعالى أمر سكان الجنة من الملائكة و من فيها أن يزينوا كلها بمغارسها و أشجارها و ثمارها و قصورها و أمر ريحها فهبت بانواع العطر و الطيب و أمر حور عينها بالقرائة فيها بسورة طه و طوايسين و حمعسق ثم نادى مناد من تحت العرش ألا أن اليوم وليمة علي بن أبي طالب ألا أنى أشهدكم إني قد زوجت فاطمة بنت محمد من علي بن أبي طالب رضى منى بعضها لبعض ثم بعث اللّه سبحانه سحابة بيضاء فمطرت عليهم من لؤلؤها و زبرجدها و يواقيتها، و مالت الملئكة فنثرت من سنبل الجنة و قرنفلها هذا مما نثرت الملئكة.

ثم أمر اللّه تبارك و تعالى ملكا من ملوك الجنة يقال له راحيل و ليس في الملئكة أبلغ منه فقال أخطب يا راحيل فخطب بخطبة لم يسمع مثلها أهل السماء و لا أهل الأرض ثم نادى منادي ألايا ملائكتي و سكان جنتي باركوا على علي بن أبي طالب حبيب محمد فقد باركت عليهما؛ ألا أني قد زوجت أحب النساء الي من أحب الرجال الي بعد النبيين و المرسلين فقال راحيل الملك و ما بركتك فيهما بأكثر مما رأينا لهما في جنانك و دارك، فقال عز و جل يا راحيل من بركتي عليهما أني أجمعهما على محبتي و أجعلهما حجتي على خلقي و عزتي و جلالي لأخلقن منهما خلقا و لإنشئن منهما ذرية أجعلها خزاني في أرضي و معادن لعلمي و دعاة الى ديني بهم أحتج على خلقي بعد النبيين و المرسلين فأبشر يا علي فأن اللّه عز و جل أكرمك كرامة لم يكرم بمثلها أحدا، و قد زوجتك أبنتي فاطمة على ما زوجك الرحمن و قد رضيت لها بما رضى اللّه لها فدونك اهلك فأنك أحق بها مني، و لقد أخبرني جبرئيل عليه السّلام ان الجنة مشتاقة اليكما و لو لا أن اللّه عز و جل قدر أن يخرج منكما ما يتخذه على الخلق حجة لأجاب فيكما الجنة و أهلها، فنعم الأخ أنت و نعم الختن

ص:56

انت و كفاك برضا اللّه رضى قال علي عليه السّلام يا رسول اللّه بلغ من قدري حتى ذكرت في الجنة، و زجني اللّه في ملئكته فقال صلّى اللّه عليه و آله أن اللّه عز و جل أذا اكرم وليه و أحبه اكرمه بما لا عين رأت و لا أذن سمعت فأختارها اللّه لك يا علي فقال علي عليه السّلام رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله آمين.

و روى ان شجرة طوبى و هي شجرة في الجنة أصلها في منزل علي أن أبي طالب عليه السّلام و في كل منزل من مناز الشيعة غصن من أغصانها فيه جميع أنواع الثمار أهتزت في ذلك اليوم، و ألقت جميع أنواع الحلي الحلل و الجواهر و الياقوت فالتقطه أهل الجنه لكونه نثار فاطمة، فهم يتهادون به الى يوم القيامة و كان فيما ألقت تلك الشجرة قراطيس كثيرة، و في كل قرطاسة أسم واحد من الشيعة و أنه معتق من النار لكرامة فاطمة و علي عليهما السّلام، و تلك القراطيس عند أهل الجنة.

و أما مهرها عليها السّلام فهو ثمن درع علي عليه السّلام و هو خمسمائة درهم قيمة كل درهم أثنا عشر غازيا و نصف غازي بقيمة هذه الأعصار، و قد كان في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله كل مثقال ذهب و هو الأشرفي الأن قيمته عشر دراهم، لكن في هذه الأوقات أرتفعت قيمة الذهب و أنحطت الفضة فما تعارف في بعض البلاد من ان مهر السنة هو تسعة عشر مثقالا و نصف مما لا وجه له، و هذا هو المهر الذي وقع التراضي عليه في الأرض و أما العقد السماوي الذي تقدم ذكره فقد روى في كثير من الاخبار ان اللّه سبحانه جعل مهر فاطمة عليها السّلام جميع الاراضي و المياه و من هذا قال الصادق عليه السّلام ان فاطمة عليها السّلام لم تجعل احدا في حل من الارض بالمساكن و غيرها و لا بالانتفاع من الماء الا لشيعتها و محبيها، و كفانا بهذا مفخرا حين نفخر، و قد وقع التزويج الارضي في اول يوم من ذي الحجة قاله الكفعمي. و قال الشيخ الطوسي قدس اللّه روحه بأسناده الى أبان قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام يا أبن رسول اللّه لم سميت الزهراء فقال لأنها تزهر لأمير المؤمنين عليه السّلام في النهار ثلاث مرات بالنور، كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة و الناس في فرشهم فيدخل بياض النور الى حجراتهم بالمدينة فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك فيأتون النبي صلّى اللّه عليه و آله فيسألون عما رأوا فيرسلهم الى منزل فاطمة عليها السّلام فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي و النور يسطع من وجهها عليها السّلام بالصفرة فتدخل الصفرة حجرات الناس فتصفر ثيابهم و ألوانهم فيأتون النبي صلّى اللّه عليه و آله فيسألونه عما رأوا فيرسلهم الى منزل فاطمة عليها السّلام فيرونها قائمة في محرابها و قد زهر نور وجهها عليها السّلام بالصفرة فيعلمون ان الذي رأوه كان من وجهها فأذا كان آخر النهار و غربت الشمس إحمر وجه فاطمة عليها السّلام و أشرق نور وجهها بالحمرة فرحا و شكر اللّه عز و جل فكان يدخل حمرة وجهها حجرات القوم و تحمر حيطانهم فيعجبون من ذلك و يأتون النبي صلّى اللّه عليه و آله و يسألونه عن ذلك فيرسلهم الى منزل فاطمة عليها السّلام فيرونها جالسة تسبح اللّه و تمجدّه و وجهها يزهر بالحمرة فيعلمون ان الذي رأوا كان من نور وجه

ص:57

فاطمة عليها السّلام فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين عليه السّلام فهو يتقلب في وجوهنا الى يوم القيامة في الائمة منّا اهل البيت امام بعد امام و لعلّك تطلب وجه اختصاص هذه الانوار بهذه الاوقات.

فنقول يجوز ان يكون وجهه انّ النور الابيض يدخل اليهم وقت الصبح و هم نيام ليكشف عنهم بقية ظلام الليل فيقومون الى الصلوة، و ايضا ينبغي ان يكون مخالفا لاول نور الشمس عند طلوعها حتى لا يشتبه على الناس احد النورين بالاخر، فأن نور الشمس اصفر في ذلك الوقت و اما عند انتصاف النهار فنور الشمس ابيض فيكون نورها عليها السّلام اصفر خلافا له لتلك العلّة، و لأنه نور الخوف لان وقت الزوال تفتح ابواب السماء و تنظر الملائكة الى الارض و نور الخوف اصفر، و أما آخر النهار فهو نور المحبة و الشكر على اداء الفرائض كما يظهر من قوله عليه السّلام فرحا و شكرا للّه عزّ و جل و نور المحبة احمر كما هو المتعارف.

و اعلم ان مخالفينا لما رأوا ان الطعن على الثلاثة قد تكثر من طرقهم و بعد عن ساحة عزّ علي عليه السّلام رام بعضهم ان يذكر له طعنا، حتى يشارك فيه فجال في ميدان التفحص فما وجد الا ان عليا عليه السّلام اغار فاطمة عليها السّلام، بأن اراد ان يتزوج عليها فشكته الى ابيها فقال فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني فلا بأس ان نشير اليه فنقول:

روى الصدوق باسناده الى ابن ابي المقدام و زياد بن عبيد اللّه، قال أتى رجل ابا عبد اللّه عليه السّلام فقال رحمك اللّه هل شيّعت الجنازة بنار و مشى معها بمجمرة او قنديل او غير ذلك مما يضائبه، قال فتغير لون ابي عبد اللّه عليه السّلام من ذلك و استوى جالسا ثم قال انه جاء شقيّ من الاشقياء الى فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله فقال لها انا علمت ان علي بن ابي طالب عليه السّلام خطب بنت ابي جهل فقالت حقا ما تقول حقا ما تقول ثلاث مرات فدخلها من الغيرة ما لا تملك نفسها و ذلك ان اللّه تبارك و تعالى كتب على النساء غيرة و جعل على الرجال جهادا، و جعل للمحتسبة الصابرة منهنّ من الاجر ما جعل للمرابط المهاجر في سبيل اللّه فاشتدّ غم فاطمة عليها السّلام من ذلك و بقيت متفكرة حتى جاء الليل، فحملت الحسن على عاتقها الايمن و الحسين على عاتقها الايسر و أخذت بيد أم كلثوم اليسرى بيدها اليمنى، ثم تحولت الى حجرة ابيها فجاء علي عليه السّلام فدخل حجرته فلم ير فاطمة عليها السّلام، فأشتد بذلك غمه و عظم عليه و لم يعلم القصة ما هي فاستحى ان يدعوها من منزل ابيها، فخرج الى مسجد فصلّى فيه ما شاء اللّه ثم جمع شيئا من كثيب المسجد و اتكى عليه.

فلما رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله ما فاطمة عليها السّلام من الحزن افاض عليه من الماء و لبس ثوبه ثم دخل المسجد فلم يزل بين راكع و ساجد و كلما صلّى ركعتين دعى اللّه ان يذهب ما بفاطمة من الحزن و الغمّ، و ذلك انه خرج من عندها و هي تتقلب و تتنفس الصعداء فلما رأها النبي صلّى اللّه عليه و آله انه لا يهنيها

ص:58

النوم و ليس لها قرار قال لها قومي يا بنية، فقامت فحمل النبي صلّى اللّه عليه و آله الحسن و حملت عليها السّلام الحسين و اخذت بيد ام كلثوم فانتهى الى علي عليه السّلام و هو نائم في المسجد فوضع النبي صلّى اللّه عليه و آله رجله على رجل علي عليه السّلام و غمزه و قال قم يا ابا تراب فكم ساكن أزعجته أدع لي ابا بكر من داره و عمر من مجلسه فخرج علي عليه السّلام فاستخرجهما من منزلهما و اجتمعوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا علي اما علمت ان فاطمة بضعة مني و انا منها فمن آذاها فقد آذاني و من آذاها بعد موتي كان كمن اذاها في حياتي و من آذاها في حياتي كان كمن اذاها بعد موتي قال فقال علي عليه السّلام بلى يا رسول اللّه قال فما دعاك الى ما صنعت فقال علي عليه السّلام و الذي بعثك بالحق نبيا ما كان مما بلغها شيء و لا حدّثت به نفسي، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله صدقت و صدقت فاطمة، فعند ذلك تبسمّت حتى رأى ثغرها، فقال احدهما لصاحبه انه لعجب ما دعاه الى دعائنا هذه الساعة، قال ثم أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيد علي فشبك اصابعه فحمل النبي صلّى اللّه عليه و آله الحسن و حمل علي الحسين و حملت فاطمة ام كلثوم فادخلهم النبي صلّى اللّه عليه و آله بيتهم، و وضع عليهم قطيفة و استودعهم اللّه ثم خرج و صلّى بقية الليل.

فلما مرضت فاطمة عليها السّلام مرضها الذي ماتت فيه أتيا عائدين و أستأذنا عليها فأبت ان تأذن لهما فلما رأى ذلك أبو بكر أعطى اللّه عهدا أن لا يظله سقف بيت حتى يدخل على فاطمة و يتراضاها فبات ليلته في البقيع ما أظله شئ ثم إن عمر أتى عليا عليه السّلام فقال له ان ابا بكر شيخ رقيق القلب، و قد كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الغار فله صحبة و قد أتيناها غير هذه المرة مرارا، نريد الأذن عليها و هي تأبى ان تأذن لنا حتى ندخل عليها فنتراضا فان رأيت ان تستأذن لنا عليها فافعل، قال نعم فدخل علي عليه السّلام على فاطمة فقال لها يا بنت رسول اللّه قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت و قد ترددا مرارا كثيرة و رددتهما و لم تأذني لهما و قد سألاني ان استأذن لهما عليك، فقالت و اللّه لا اذن لهما و لا اكلمهما من رأس حتى ألقى ربي فأشكوهما اليه بما صنعاه و ارتكباه مني.

قال علي عليه السّلام فأني ضمنت لهما ذلك قالت ان كنت قد ضمنت لهما شيئا فالبيت بيتك و النساء تتبع الرجال لا اخالف عليك بشيء فاذن لمن احببت فخرج علي عليه السّلام فأذن لهما فلما وقع بصرهما على فاطمة عليها السّلام سلّما عليها فلم تردّ عليهما، و حوّلت وجهها عنهما فتحولا و استقبلا وجهها حتى فعلت مرارا و قالت يا علي جاف الثوب عليّ و قالت لنسوة حولها حوّلن وجهي، فلما حوّلن وجهها حولا وجوههما اليها فقال ابا بكر يا بنت رسول اللّه إنما اتيناك ابتغاء مرضاتك و اجتناب سخطك نسألك ان تعفى عنا و تصفحي عما كان منا اليك، قالت لا اكلمكما من رأسي كلمة واحدحة ابدا حتى القى ربي و اشكوكما اليه و اشكو صنعكما و فعالكما و ما ارتكبتما مني قالا إنا جئناك معتذرين مبتغين مرضاتك فاغفري و اصفحي عنّا و لا تؤاخذينا بما كان منّا.

ص:59

فالتفت الى علي عليه السّلام و قالت اني لا اكلمهما من رأسي كلمة حتى أسالهما عن شيء سمعا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فان صدقا رأيت قالا اللهم ذلك لها و انا لا نقول الا حقا و لا نشهدكما الا صدقا، فقالت انشدكما باللّه أ تذكران ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استخرجكما في جوف الليل بشيء كان حدث من أمر علي فقالا اللّه نعم، قالت انشدكما باللّه فهل سمعتما النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول فاطمة بضعة مني و انا منها من آذاها فقد آذاني و من آذاني فقد آذى اللّه و من آذاها بعد موتي كم آذاها في حيوتي و من آذاها في حيوتي كان كمن آذاها بعد موتي قالا اللهم نعم قالت الحمد للّه ثم قالت اللّه اني اشهدك فاشهدوا يا من حضرني انهما قد اذياني في حيوتي و عند موتي و اللّه لا اكلمهما من رأسي كلمة واحدة حتى لقى ربي فأشكوكما اليه بما صنعتما بي و ارتكبتما مني.

فدعا ابو بكر بالويل و الثبور و قال يا ليت امي لم تلدني فقال عمر عجبا للناس كيف و لوّك امورهم و انت شيخ قد خرفت تجزع لغضب امرأة و تفرح برضاها، و ما يبلغ من غضب امرأة فقاما و خرجا فلما نعى الى فاطمة عليها السّلام نفسها ارسلت الى أم ايمن و كانت أوثق نسائها فقالت لها يا ام ايمن ان نفسي نعيت اليّ فادع لي عليا فدعته لها فلما دخل عليها قالت له يا بن عمّ اريد ان اوصيك بأشياء فاحفظها عليّ فقال لها قولي ما احببت قالت له تزوج فلانة تكون لولدي مربية من بعدي مثلي و اعمل نعشي فاني رأيت الملائكة قد صورته لي، فقال لها علي عليه السّلام أريني كيف صورته فارته ذلك كما وصفت له و كما امرته به ثم قالت اذا قضيت نحبي فأخرجني من ساعتك أي ساعة كانت من ليل او نهار و لا يحضرنّ من اعداء اللّه و اعداء رسوله للصلوة عليّ قال علي عليه السّلام أفعل فلما قضت نحبها و هي في جوف الليل أخذ علي عليه السّلام في جهازها من ساعته كما اوصته به فلما فرغ من جهازها خرج مع الجنازة و اشعل النار على جريدة النخل و مشى مع الجنازة بالنار حتى صلّى عليها و دفنها ليلا، فلما اصبح ابو بكر و عمر عاودا عائدين لفاطمة عليها السّلام فليقا رجلا من قريش فقالا له من أين اقبلت قال عزّيت عليا بفاطمة قالا و قد ماتت قال نعم و دفنت في جوف الليل فجزعا جزعا شديدا ثم اقبلا الى علي بن ابي طالب عليه السّلام فليقا و قالا له و اللّه ما تركت شيئا من غوائلنا و مساوينا، و ما هذا الا شيء في صدرك علينا هل هذا الا كما غسلت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دوننا و لم تدخلنا معك، و كما علّمت ابنك ان يصيح بأبي بكر ان انزل عن منبر أبي.

فقال لهما علي عليه السّلام أ تصدقاني ان حلفت لكما قالا نعم فحلف فادخلهما المسجد فقال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقد اوصاني و تقدم اليّ أنه لا يطلّع على عورته أحد إلاّ ابن عمه فكنت أغسله و الملائكة تقلّبه و الفضل بن العباس يناولني الماء و هو مربوط العينين بالخرقة و لقد اردت ان انزع القميص فصاح بي صائح من البيت سمعت الصوت و لم أر الصورة لا تنزع قميص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لقد سمعت الصوت يكرر عليّ فادخلت يدي من بين القميص فغسلته ثد قدم الى الكفن

ص:60

فكفنته ثم نزعت القميص بعد ما كفنته و اما الحسن ابني فقد تعلمان و يعلم اهل المدينة انه كان يتخطى الصفوف حتى يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو ساجد فيركب على ظهره فيقوم النبي صلّى اللّه عليه و آله واحدى اليدين على ظهر الحسن و الاخرى على ركبته حتى يتم الصلوة قالا نعم قد علمنا ذلك ثم قال تعلمان و يعلم اهل المدينة ان الحسن كان يسعى الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و يركب رقبته و يدلي رجليه على صدر النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى يرى بريق خلخاليه من اقصى المسجد و النبي صلّى اللّه عليه و آله يخطب و لا يزال على رقبته حتى يفرغ النبي صلّى اللّه عليه و آله من خطبته و الحسن على رقبته فلما رأى الصبي على منبر أبيه غيره شقّ عليه ذلك و اللّه ما أمرته بذلك و لا فعله عن أمري.

و اما فاطمة فهي المرأة التي أستأذنت لكما عليها فقد رأيتما ما كان من كلامها لكما، و اللّه لقد اوصتني ان لا تحضرا جنازتها و لا الصلوة عليها و ما كنت الذي اخالف امرها و وصيتها اليّ فيكما، فقال عمر إذن نحفر قبرها فقال علي عليه السّلام و اللّه لو ذهبت تروم من ذلك شيئا لعلمت انك لا تصل الى ذلك حتى يبدر عنك الذي فيه عيناك، فأني كنت لا اعاملك الا بالسيف قبل ان تصل الى شيء من ذلك، فوقع بين علي عليه السّلام و بين عمر كلام فتلاحيا و اجتمع المهاجرون و الانصار فقالوا و اللّه ما نرضى بهذا ان يقال في ابن عم رسول اللّه و أخيه و وصيه، و كادت ان تقع فتنة فترفقا.

قال مؤلف هذا الكتاب هذا الذي حصّلوه بعد غاية الفحص عن مطاعن علي عليه السّلام و يا ليتهم سكتوا على هذا من غير ان يضيفوا اليه ما تشهد العقول و العادات بكذبه، بل قالوا ان فاطمة لما شكت عليا الى ابيها من جهة أنه يريد يخطب عليها بنت أبي جهل صعد النبي صلّى اللّه عليه و آله المنبر و قال سمعت ان عليا يريد ان يتزوج أبنة عدو اللّه على ابنة و لي اللّه، و ما كان هذا يجوز ان فاطمة بضعة مني الحديث. و كل عاقل يجزم ان هذا لا يليق بمرتبة النبوة و ان مثله يخاصم لابنته من جهة الزوجية مع انه صلّى اللّه عليه و آله هو الذي اباحه و عمل به، و العادات جرت بقبح هذه المخاصمة أ لا ترى ان المأمون لما كتبت اليه ابنته ام الفضل تشكو من الجواد عليه السّلام و انه يتسّرى عليها، كتب اليها اننا ما زوجناه لنحرم عليه حلالا و قد كان يمكنه أشد المنع لكنه لاحظ الشرع و مجارى العادات.

كيف لا يكون هذا و الحال ان طوائف العامة و الخاصة رووا ان عثمان قد ضرب رقية زوجته و هي بنت النبي صلّى اللّه عليه و آله بزعمهم ضربا مبرها حتى اثرت السياط في بدنها على غير جناية تستحقها، و لما أتت النبي صلّى اللّه عليه و آله شاكية تكلم عليها و قال لا يليق بالمرأة ان تشكو من زوجها و امرها بالرجوع الى منزله، ثم كرر عليها الضرب فأتت النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم ردها ثم ضربها الضرب الذي كان السبب في موتها فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام ان يخرجها من منزل عثمان فأتى بها الى بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و ماتت فيه.

ص:61

فأن قلت اذا كانت فاطمة عليها السّلام مطهرة معصومة من أدناس نساء الدنيا فكيف جاز منها اعمال هذه الغيرة البشرية من غير ان تتفحص عن تحقيق الحال قلت الجواب عن هذا من وجوه:

الاول: ان هذا و امثاله غير مناف للعصمة و لا للطهارة من الادناس البشرية و ذلك ان اللّه سبحانه غيور و النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يمتدح بأنه أغير على اهله من الصحابة على اهلهم و كذلك الائمة عليهم السّلام، و لا يخفى ان التمدح بالغيورية انما كان في الامور المباحة و الا فالمحرمات مما لا يمتدح بها النبي صلّى اللّه عليه و آله على الصحابة بأنه أغير منهم لانه أفعل التفضيل لا معنى له حينئذ و تزويج ما فوق الواحدة مباح و ليس بمستحب و انما الفضل في اصل التزويج و الخروج به عن العزوبة، و لعلها عليها السّلام خطر ببالها الشريف ان عليا عليه السّلام اذا تزوج عليها و صارت ضرّة لغيرها لزم منه تحمل علي عليه السّلام ارتكاب الهموم و المشاق التي حصلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله من تعدد الازواج و الضرّات و وصل اليها ايضا من أنواع الاذى ما كانت تشاهده في ازواج ابيها.

هذا و قد صدر من بنات الانبياء ما هو اعظم و أشد فان سارة من بنات الانبياء عليهم السّلام و الزمت ابراهيم عليه السّلام ان يخرج عنها هاجرا و ابنها اسماعيل الى واد غير ذي زرع، و لا ينزل معهما بل يضعهما فيه و هو راكب و يرجع اليها، و قد امر اللّه ابراهيم بأن يمتثل امر سارة و لو كان محرما في الشريعة لما امره به، فيستفاد من هذا كله ان اصل غيرة النساء على الرجال في هذا و امثاله ليس من الامر الحرام نعم لا يجب على الرجال قبوله الا ان يدل عليه بدليل من خارج كما وقع في شأن ابراهيم و زوجته سارة من الامر.

الثاني: ان المعصومين عليهم السّلام قد كانوا احيانا ينتزلون عن مراتبهم الى مراتب البشر و يقع منهم الغضب و الرضا و المحاورات المتعارفة في مجارى العادات، لحكم و مصالح يجوز ان يكون منها ان لا يظن بهم فوق مراتبهم كما وقع من الغلاة و أشباههم و هذا يظهر من تتبع الاخبار كثيرا و منها ايضا ان يتعقبه المحبة و الخلّة المستقيمة كما روى انه قد جرى بين الحسنين عليهما السّلام نوع من الكلام بعث على الانقطاع، و بعده قيل للحسين عليه السّلام انت أصغر من أخيك فلم لا تمشي اليه و تصالحه، قال أني سمعت من جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول من كان يسبق بالصلح فهو السابق الى الجنة و ما أحب ان اسبق اخي الى الجنة فبلغ الحسن عليه السّلام فأتى الى اخيه الحسين عليه السّلام.

الثالث: و هو الاظهر عندي انها عليه السّلام انما فعلته لمعرفتها بما يؤل اليه الامر من احضار النبي صلّى اللّه عليه و آله لمن احضر حتى يكون باعثا لاتمام الحجة عليهما، فإذا ترتب عيل مثل هذا امثال هذه الحجج و الفوائد فلا ريب ان فعله أحسن من تركه، كما وقع منها عليها السّلام مرة أخرى لفائدة جليلة، و هو ما رواه الصدوق طاب ثراه باسناده الى ابي ذر (ره) قال كنت انا و جعفر بن ابي طالب مهاجرين الى بلاد الحبشة فأهديت لجعفر جارية قيمتها أربعة الاف درهم فلما قدمنا الى المدينة اهداها لعلي عليه السّلام

ص:62

تخدمه فجعلها علي عليه السّلام في منزل فاطمة عليها السّلام فدخلت عليها السّلام يوما فنظرت الى رأس علي عليه السّلام في حجر الجارية فقالت يا ابا الحسن فعلتها فقال لا و اللّه يا بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله ما فعلت شيئا، فما الذي تريدين قالت تأذن لي في المسير الى منزل ابي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لها ذنت لك فتجلببت بجلبابها و تبرقعت ببرقعها و ارادت النبي صلّى اللّه عليه و آله، فهبط جبرئيل عليه السّلام فقال يا محمد ان اللّه يقرئك السّلام و يقول ان هذه فاطمة تشكو عليا فلا تقبل منها في علي شيئا، فدخلت فاطمة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جئتني تشكو عليا قالت أي و اللّه رب الكعبة، فقال لها ارجعي اليه فقولي له رغم انفي لرضاك ثلاثا فرجعت فاطمة عليها السّلام الى علي عليه السّلام فقالت يا ابا الحسن رغم انفي لرضاك فقال علي عليه السّلام شكوتني الى خليلي و حبيبي رسول اللّه و اسئتاه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اشهد اللّه يا فاطمة ان الجارية حرة لوجه اللّه تعالى و ان الاربعمائة درهم التي فضلت من عطائي صدقة على فقراء اهل المدينة ثم تلبس و تنعل و اراد النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فهبط جبرئيل عليه السّلام فقال يا محمد ان اللّه يقرئك السّلام و يقول لك قل لعلي ان اللّه يقرئك السّلام و يقول لك قد اعطيتك الجنة يعتقك الجارية في رضا فاطمة و النار بالاربعمائة دراهم التي تصدقت بها، فادخل الجنة من شئت برحمتي و اخرج من النار من شئت بعفوي فعندها قال علي عليه السّلام انا قسيم اللّه بين الجنة و النار، و ترتب مثل هذه الفائدة الجليلة على مثل هذا حسن جدا، و بالجملة فان اندفعنا الى ذكر بعض اوصاف الزهراء عليها السّلام لطال الكتاب و لكنّا من اهل طلب المحال.

و اول عداوة خربت الدنيا و بنى عليها جميع الكفر و النفاق الى يوم القيامة هي عداوة عائشة لمولاتها الزهراء عليها السّلام على ما روى عن الطاهرين عليهم السّلام و ذلك لما روى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يحب فاطمة حبا مفرطا، و كان اذا اشتاق الى الجنة و ثمارها اتى الى فاطمة عليها السّلام و قبّلها، و ما كان ينام ليلة الا بعد ان يأتي اليها و يشمها و يقبلها، و ذلك انه صلّى اللّه عليه و آله لما عرج الى السماء و دخل الجنة ناوله جبرئيل عليه السّلام تفاحة من تفاحها فأكلها و لما نزل الى الارض واقع خديجة فكانت النطفة من تلك التفاحة، و من ثم كان حمرة وجهها منها، و قد انتقلت الى الائمة عليهم السّلام فكانت في وجوههم فغارت عايشة و بغضت مولاتها فاطمة لهذا و سرت هذه العداوة من عايشة الى ابي بكر فعادا مولاه امير المؤمنين عليه السّلام و عمر كان من احباب ابي بكر لجامع النفاق فشركه في العداوة فاستمرت الى يوم القيامة.

و اما قوله و اما عثمان فهو و ان شاركه في كونه ختنا أقول الاختان اللتان اخذهما عثمان هما رقية تزوجها عتبة بن ابي لهب فطلقها قبل ان يدخل بها و لحقها منه اذى فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله اللهم سلط على عتبة كلبا من كلابك فتناوله الاسد من بين اصحابه و تزوجها بعده بالمدينة عثمان

ص:63

بن عفان فولدت له عبد اللّه و مات صغيرا نقره ديك على عينيه فمرض و مات، و توفيت بالمدينة زمن بدر فتخلف عثمان على دفنها و منعه ذلك ان يشهد بدرا، و قد كان عثمان هاجر الى الحبشة و معه رقية، و الاخرى ام كلثوم تزوجها ايضا عثمان بعد اختها رقية و توفيت عنده.

و قد اختلف العلماء لاختلاف الروايات في انهما هل هما من بنات النبي صلّى اللّه عليه و آله من خديجة او انهما ربيبتاه من احد زوجيها الاولين فانه اولا قد تزوجها عتيق بن عائد المخزومي فولدت له جارية، ثم تزوجها ابو هالة الاسدي فولدت له هندا بنت هالة، ثم تزوجها، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هذا الاختلاف لا أثر له لأن عثمان في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله قد كان ممن أظهر الاسلام و أبطن النفاق و هو صلّى اللّه عليه و آله قد كان مكلفا بظواهر الاوامر كحالنا نحن ايضا و كان يميل الى مواصلة المنافقين رجاء الايمان الباطني منهم، مع أنه صلّى اللّه عليه و آله لو اراد الايمان الواقعي لكان أقل قليل، فأن اغلب الصحابة كانوا على النفاق لكن كانت نار نفاقهم كامنة في زمنه، فلما انتقل الى جوار ربه برزت نار نفاقهم لوصيه و رجعوا القهقرى، و لذا قال عليه السّلام إرتد الناس كلهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله الا اربعة سلمان و ابو ذر و المقداد و عمار و هذا مما لا اشكال فيه.

و انما الاشكال في تزويج علي عليه السّلام ام كلثوم لعمر بن الخطاب وقت تخلفه لانه قد ظهرت منه المناكير و ارتد عن الدين ارتدادا اعظم من كل من ارتد، حتى انه قد وردت في روايات الخاصة ان الشيطان يغلّ بسبعين غلا من حديد جهنم و يساق الى المحشر فينظر و يرى رجلا امامه تقوده ملائكة العذاب و في عنقه مائة و عشرون غلا من اغلال جهنم فيدنو الشيطان اليه و يقول ما فعل الشقي حتى زاد عليّ في العذاب و انا اغويت الخلق و اوردتهم موارد الهلاك، فيقول عمر للشيطان ما فعلت شيئا سوى اني غصبت خلافة علي بن ابي طالب، و الظاهر انه قد استقل سبب شقاوته و مزيد عذابه، و لم يعلم ان كل ما وقع في الدنيا الى يوم القيامة من الكفر و النفاق و استيلاء اهل الجور و الظلم انما هو من فعلته هذه، و سيأتي لهذا مزيد تحقيق ان شاء اللّه تعالى.

فاذا ارتد على هذا النحو من الارتداد فكيف ساغ في الشريعة مناكحته و قد حرم اللّه تعالى نكاح اهل الكفر و الارتداد و اتفق عليه علماء الخاصة.

فنقول قد تفصّى الاصحاب عن هذا بوجهين عامي و خاصي.

اما الاول فقد استفاض في اخبارهم عن الصادق عليه السّلام لما سئل عن هذه المناكحة فقال انه اول فرج غصبناه، و تفصيل هذا ان الخلافة قد كانت اعزّ على امير المؤمنين عليه السّلام من الاولاد و البنات و الازواج و الاموال، و ذلك لان بها انتظام الدين و اتمام السنة و رفع الجور و احياء الحق و موت الباطل، و جميع فوائد الدنيا و الاخرة، فاذا لم يقدر على الدفع عن مثل هذا الامر الجليل الذي ما تمكن من الدفع عنه زمان معاوية و قد بذل عليه الارواح و سفك فيه المهج، حتى أنه قتل

ص:64

لاجله ستين الفا في معركة صفين و قتل من عسكره عشرون الفا، و واقعة الطفوف اشهر من أن تذكر، فاذا قبلنا منه العذر في ترك هذا الامر الجليل و قد كان معذورا كما سيأتي الكلام فيه عند ذكر اسباب تقاعده عليه السّلام عن الحرب في زمان الثلاثة ان شاء اللّه تعالى. و التقية باب فتحه اللّه سبحانه للعباد و امرهم بارتكابه و الزمهم به، كما اوجب عليهم الصلوة و الصيام حتى انه ورد عن الائمة الطاهرين عليهم السّلام لا دين لمن لا تقية له، فقبل عذره عليه السّلام في مثل هذا الامر الجزئي، و ذلك انه قد روى الكليني (ره) عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال لما خطب اليه قال له امير المؤمنين عليه السّلام انها صبية، قال فلقى العباس فقال له ما لي أبي بأس، قال و ما ذاك قال خطبت الى ابن اخيك فردني اما و اللّه لاعودنّ زمزم و لا ادع لكم مكرمة الا هدمتها و لأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق و لاقطعنّ يمينه، فأتاه العباس و اخبره و سأله ان يجعل الامر اليه فجعل اليه.

و اما الشبهة الواردة على هذا و هي انه يلزم ان يكون عمر زانيا في ذلك النكاح و هو مما لا يقبله العقل بالنظر الى ام كلثوم فالجواب عنها من وجهين.

احدهما ان ام كلثوم لا حرج عليها في مثله لا ظاهرا، و لا واقعا و هو ظاهر، و اما هو فليس بزان في ظاهر الشريعة لانه دخول ترتب على عقد باذن الولي الشرعي، و اما في الواقع و في نفس الامر فعليه عذاب الزاني، بل عذاب كل أهل المساوي و القبائح. الثاني ان الحال لما آل الى ما ذكرنا من التقية فيجوز ان يكون قد رضى عليه السّلام بتلك المناكحة رفعا لدخوله في سلك غير الوطي المباح.

و اما الثاني و هو الوجه الخاصي فقد رواه السيد العالم بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي في المجلد الاول من كتابه المسمى بالانوار المضيئة قال مما جاز لي روايته عن الشيخ السعيد محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ره) رفعه الى عمر بن اذينة قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام ان الناس يحتجون علينا ان امير المؤمنين عليه السّلام زوّج فلانا ابنته ام كلثوم و كان عليه السّلام متكيا فجلس و قال أ تقبلون ان عليا عليه السّلام انكح فلانا ابنته، ان قوما يزعمون ذلك ما يهتدون الى سواء السبيل و لا الرشاد، ثم صفق بيده و قال سبحان اللّه ما اللّه ما كان امير المؤمنين عليه السّلام يقدر ان يحول بينه و بينها كذبوا لم يكن ما قالوا ان فلانا خطب الى علي عليه السّلام بنته ام كلثوم فأبى فقال للعباس و اللّه لئن لم يزوجني لا نزعن منك السقاية و زمزم، فأتى العباس عليا عليه السّلام فكلمه، فأبى عليه فألح عليه العباس، فلما رأى امير المؤمنين عليه السّلام مشقة كلام الرجل على العباس و انه سيفعل معه ما قال، ارسل الى جنية من اهل نجران يهودية يقال لها سحيفة بن حريرية، فأمرها فتمثلت في مثال ام كلثوم و حجبت الابصار عن ام كلثوم بها، و بعث بها الى الرجل فلم تزل عنده حتى انه استراب بها يوما

ص:65

و قال ما في الارض اهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم اراد ان يظهر للناس فقتل فأخذت الميراث و انصرفت الى نجران و اظهر امير المؤمنين عليه السّلام أم كلثوم اقول و على هذا فحديث اول فرج عصبناه محمول على التقية و الاتقاء من عوام الشيعة كما لا يخفى.

ظلمة حالكة في ما بقي من فضائل الشيخين اعلم ان من أقوى الدلائل و المناقب التي ذكروها لابي بكر هي حكاية الغار، لانها المصرح بها في محكم القرآن حيث قال ثاني اثنين إذ هما في الغار. الاية.

و يعجبني نقل كلام وقع اليّ من جانب شيخنا المفيد نور اللّه ضريحه، قال رأيت فيما يرى النائم كأني اجتزت في بعض الطرق فاذا انا بحلقة كبيرة دائرة و فيها رجل يعظ، فقلت من هذا فقيل عمر بن الخطاب فاستفرجت الناس فافرجوا اليّ فدخلت اليه فقت أ تأذن لي في مسألة فقال سل، فقلت أخبرني عن فضل صاحبك عتيق بن ابي قحافة من قول اللّه ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان اللّه معنا فانزل اللّه سكينته عليه، فاني أرى من ينتحل مودتكما يذكر ان له فضلا كثيرا، فقال الدلالة على فضل صاحبي عتيق ابن ابي قحافة من هذه الاية من ستة اماكن.

الاول: ان اللّه عز و جل ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و ذكر ابا بكر فجعله ثانيه فقال ثاني اثنين، الثاني وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال اذ هما في الغار، الثالث انه قد اضافه اليه بذكر الصحبة ليجمع بينهما في الرتبة، اذ يقول لصاحبه الرابع انه اخبر عن شفقته عليه و رفقته به لمكانه عنده، فقال اذ يقول لصاحبه لا تحزن الخامس انه اخبر عن كون اللّه معهما على حد سواء ناصرا لهما و دافعا عنهما، فقال ان اللّه معنا، السادس انه اخبر عن نزول السكينة على ابي بكر لان الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم تفارقه السكينة قطّ فقال فأنزل اللّه سكينته عليه فهذه اماكن لا يمكنك و لا غيرك الطعن فيها على وجه من الوجوه و لا سبب من الاسباب، فقلت له حررت كلامك هنا و استقصيت البيان فيه و اتيت بما لا يقدر احد ان يزيد عليه غير اني بعون اللّه سأجعله كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.

اما قولك ان اللّه تعالى ذكر النبي و ذكر ابا بكر فجعله ثانيه فهو عند التحقيق إخبار عن العدد فقط، و لعمري لقد كانا اثنين فما في ذلك من الفضل، و نحن نعلم ضرورة ان مؤمنا و مؤمنا اثنان و مؤمنا و كافرا اثنان، فما أرى في ذلك العدد طائلا يعتمد عليه.

و اما قولك انه وصفهما بالاجتماع في مكان واحد فهو كالفضل الاول و اضعف لان المكان يجمع المؤمنين و الكفار كما يجمع العدد المؤمنين و الكفار و ذلك ان مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله افضل و اشرف من الغار و قد جمع النبي و المنافقين و الكفار، قال اللّه عز و جل فَمٰا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ عِزِينَ، أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ، و ايضا فان سفينة نوح عليه السّلام افضل و اشرف من الغار و قد حملت النبي و الشيطان و البهيمة، و المكان لا يدلّ على ما ادعيت من الفضل فبطل فضلان.

ص:66

و اما قولك انه وصفهما بالاجتماع في مكان واحد فهو كالفضل الاول و اضعف لان المكان يجمع المؤمنين و الكفار كما يجمع العدد المؤمنين و الكفار و ذلك ان مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله افضل و اشرف من الغار و قد جمع النبي و المنافقين و الكفار، قال اللّه عز و جل فَمٰا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ عِزِينَ، أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ، و ايضا فان سفينة نوح عليه السّلام افضل و اشرف من الغار و قد حملت النبي و الشيطان و البهيمة، و المكان لا يدلّ على ما ادعيت من الفضل فبطل فضلان.

و اما قولك انه اضافه اليه بذكر الصحبة فهو كالفضلين الاولين و اضعف و ذلكان اسم الصحبة يقع بين المؤمنين و الكفار قال اللّه عز و جل حكاية عن بعض انبيائه قٰالَ لَهُ صٰاحِبُهُ وَ هُوَ يُحٰاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّٰاكَ رَجُلاً فسماه صاحبا و هو كافر، و قد سمّت العرب الحمار ايضا صاحبا فقالت في ذلك:

إن الحمار مع الحمير مطيّة و اذا خلوت به فبس الصاحب

و سموا ايضا الجماد صاحبا فقالوا من ذلك للسيف. شعر

زرت هندا و ذاك بعد إجتناب و معي صاحب كلوم اللسان

فاذا كان اسم الصحبة قد وقع بشهادة كتاب اللّه عز و جل بين نبي و كافر و بشهادة لسان العرب بين عاقل و بهيمة و بين جماد و حيوان، فأي فضل لصاحبك فيه.

و اما قولك انه قال لا تحزن فهو و بل عليه و منقصة له، و ذلك دليل على خطائه، لأن قوله لا تحزن نهي له و ذلك ان صورة النهي عند العرب قول القائل لا تفعل كما ان صورة الامر عندهم القائل افعل، و ليس يخلو حزن ابي بكر من ان يكون طاعة او معصية، فلو كان طاعة لم ينه النبي صلّى اللّه عليه و آله عنه فثبت انه معصية و يجب عليك ان تستدل على أنه انتهى لان في الاية دليلا على عصيانه بشهادة النبي صلّى اللّه عليه و آله و ليس فيها دليل على انه قد انتهى.

و اما قول النبي صلّى اللّه عليه و آله ان اللّه معنا فعلى الاختصاص و عبّر عن نفسه بلفظ الجمع و نون العظمة و ذلك مشهور في كلام العرب قال اللّه عز و جل إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوٰارِثُونَ و قد قالت الشيعة في ذلك قولا غير بعيد و هو انهم قالوا ان ابا بكر قال له يا رسول اللّه ما معك اخوك علي بن ابي طالب و ذلك انه خلفه على الفراش فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تحزن ان اللّه معنا، أي معي و مع اخي علي بن ابي طالب.

و اما قولك ان السكينة نزلت على ابي بكر فهو كفر محض لان اللّه تعالى اخبر ان الذي أنزل عليه السكينة هو الذي أيده بلجنود و دلّ على ذلك بحرف العطف فقال عز و جل فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهٰا، فان كان ابو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود، و هذا إخراج للنبي صلّى اللّه عليه و آله من النبوة، و بعد فقد أخبر اللّه عز و جل انه انزل السكينة على نبيه في مكانين و كان معه فيها قوم مؤمنون فشركهم معه فيها، فقال في موضع فأنزل اللّه سيكنته على رسوله و على المؤمنين، و قال في موضع آخر ثم وليتم مدبرين ثم انزل اللّه سكينته على رسوله

ص:

و على المؤمنين و لما كان في هذا الموضع خصّه وحده بالسكينة، فقال عز و جل فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهٰا فلو كان معه في الموضع مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من تقدم فدّل اخراجه من السكينة على خروجه من الايمان فلم يحر جوابا و تفرقوا و استيقظت انتهى.

اقول: انما أجرى اللّه سبحانه تلك الاستدلالات من الاية على لسان عمر ليسمع الجواب عنها، و الا فهو عاجز عن تقرير مثل هذه الاستدلالات.

و من عجيب ما رووه في كتبهم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله ما صحب ابا بكر في الغار الا خوفا منه ان يدلّ الكفار عليه رواه ابو القاسم نصر بن الصباح في كتاب النور و البرهان رواه عن ابن شهاب قال حدثنا شهاب بن عمر (معمر خ ل) عن ابي يحيى عن محمد بن اسحاق، قال قال حسان قدمت مكة معتمرا و ناس من قريش يعذبون اصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله يقول حسان في هذا الحديث ما هذا لفظه، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام فنام على فراشه و خشى من ابن ابي قحافة ان يدلهم عليه فأخذه معه و مضى به الى الغار، اقول و يقوى هذا انه لما كان معه في الغار و سمع أصوات المشركين اراد الكلام، لان يدل على النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال لا تحزن، ثم أنه مد رجله الى باب الغار كي يعلموا بمكانهما، فخرجت حية لدغته في رجله، فبكى فأبرأها النبي صلّى اللّه عليه و آله بدعائه لئلا يرفع صوته.

المنقبة الثانية من مناقب الشيخين كونهما ضجيعين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد روى انه مرّ فضال بن الحسن بن فصال الكوفي بأبي حنيفة و هو في جمع كثير يملي عليهم من فقهه و حديثه، فقال لصاحب له و اللّه لا ابرح حتى اخجل ابا حنيفة، فقال صاحبه الذي كان معه ان ابا حنيفة ممن قد علت حاله و ظهرت حجته، قال مه هل رأيت حجة علت على حجة مؤمن، ثم دنى منه فسلم عليه فرده و رد القوم بأجمعهم فقال يا ابا حنيفة ان أخا لي يقول ان خير الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن ابي طالب، و انا اقول ابو بكر خير الناس و بعده عمر، فما تقول انت رحمك اللّه فأطرق مليّا ثم رفع رأسه، فقال كفى بمكانهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كرما و فخرا أما علمت انهما ضجيعاه في قبره فأي حجة تريد أوضح من هذا فقال له أني قد قلت ذلك لاخي فقال و اللّه لئن كان المكان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما بحق، و ان كان الموضع لهما فوهباه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد اساءا و ما احسنا إذ رجعا في هبتهما و نسيا عهدهما فأطرق ابو حنيفة ساعة ثم قال له لم يكن له و لا لهما خاصة، و لكنهما نظرا في حق عائشة و حفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما فقال فضّال قد قلت له ذلك فقال انت تعلم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله مات عن تسع نساء و نظرنا فكان لكل واحدة منهن تسع الثمن.

ص:68

ثم نظرنا في تسع الثمن فاذا هو شبر في شبر فكيف يستحق الرجلان اكثر من ذلك، و بعد فما بال عائشة و حفصة ترثان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فاطمة بنته تمنع الميراث فقال ابو حنيفة يا قوم نحوّه عني فانه رافضي خبيث لعنه اللّه تعالى.

اقول و يوضح هذا ما رووه في الجمع بين الصحيحين للحميدي و غيره ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لما هاجر الى المدينة اقام ببعض دور اهلها و استعرض مريدا للتمر كان لسهل و سهيل كانا يتيمين في حجر سعد بن زرارة ليشتريه فوهباه له.

و روى الحميدي رواية أخرى و هو ان النبي صلّى اللّه عليه و آله اراد ان يشتري موضع المسجد من قوم بني النجار فوهبوه له، و قد تضمّن القرآن كون البيوت للنبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا ان يؤذن لكم الى طعام، و من المعلوم ان زوجته عائشة لم يكن لها دار بالمدينة و لا لأبيها، و لا لقومها لانهم من اهل مكة و لا روى أحد انها بنت بيتا لنفسها، و مع هذا فلمّا ادعت حجرة النبي صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاته التي دفن فيها صدّقها ابو بكر و سلّمها اليها بمجرد سكناها أو دعواها، و منع فاطمة عليها السّلام عن فدك و لم يصدقها مع شهادته لها بالعصمة و الطهارة رودّ شهودها بأن اباها وهبها ذلك في حيوته و منع فاطمة من ميراثها و اعطى ابنته الحجرة ميراثا، و دفن امواتهم فيها و ضربوا المعاول عند رأسه.

و اعجب من هذا ان جماعة من جهالهم ظنّ ان البيت لعائشة باضافته اليها في المحاورات و لم يدر أنه من باب قوله تعالى و إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ رَبَّكُمْ لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاٰ يَخْرُجْنَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، و معلوم ان البيوت انما هي للازواج.

و حيث انجر الكلام الى هنا فلا بأس بذكر بعض احوا فدك من طريقهم لانه منه يظهر ايضا فضائل الشيخين، فنقول ذكر صاحب التاريخ المعروف بالعباسي في حوادث سنة ثماني عشرة و مأتين ان جماعة من ولد الحسن و الحسين عليهم السّلام رفعوا قصة الى المأمون يذكرون فدك و العوالي و انها كانت لامهم فاطمة عليها السّلام و منعها أبو بكر بغير حق، فسألوا المأمون انصافهم و كشف ظلامتهم، فأحضر المأمون مائتي عالم من علماء الحجاز و العراق و غيرهم من علماء الجمهور، و توكل عليهم في اداء الصدق و سألهم عما عندهم من الحديث في ذلك، فروى غير واحد منهم عن بشر بن الوليد و الواقدي و بشر بن عتاب في احاديث يرفعونها الى النبي صلّى اللّه عليه و آله انه لما افتتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود فنزل جبرئيل عليه السّلام بهذه الآيات و آت ذا القربى حقه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و من ذا القربى و ما حقه، فقال فاطمة تدفع اليها فدك، فدفع اليها فدك ثم اعطاها العوالي بعد ذلك فاستغلتها حتى توفى ابوها.

ص:69

فلما بويع ابو بكر منعها و كلمته فاطمة عليها السّلام في رده، فقالت ان ابي دفعها عليّ فقال لا امنعك ما اعطاك ابوك، و اراد ان يكتب لها كتابا فاستوقفه عمر بن الخطاب و قال انا امرأة فادعوها بالبينة على ما ادعت فأمرها ابو بكر ان تفعل فجائت بأم ايمن و اسماء بنت عميس مع علي بن ابي طالب عليه السّلام فشهدوا لها جميعا بذلك، فكتب لها ابو بكر فبلغ ذلك عمر فأخبره ابو بكر الخبر، فأخذ الصحيفة فمحاها، فقال ان فاطمة امرأة و علي بن ابي طالب زوجها، و هو جار الى نفسه النفع و لا يكون بشهادة امرأتين دون رجل، فأرسل ابو بكر الى فاطمة عليها السّلام فأعلمها ذلك فحلفت باللّه الذي لا اله الا هو انهم ما شهدوا الا بالحق، فقال ابو بكر لعلك ان تكوني صادقة و لكن احضري شاهدا لا يجر الى نفسه النفع فقالت فاطمة عليها أ لم تسمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول اسماء بنت عميس و ام ايمن من اهل الجنة فقالا بلى، فقالت امرأتان من اهل الجنة تشهد ان بباطل فانصرفت صارخة تنادي اباها و تقول، قد اخبرني ابي عليه السّلام اني اول من يلحقه فو اللّه لاشكونهما اليه، فلم تلبث ان مرضت فأوصت عليا عليه السّلام ان لا يصليا عليها و هجرتهما فلم تكلمهما حتى ماتت.

ثم احضر في يوم آخر الف رجل من اهل الفقه و العلم و شرح لهم الحال و امرهم بتقوى اللّه و مراقبته، فتناظروا و استظهروا ثم افترقوا فرقتين فقالت طائفة منهم الزوج عندنا جار الى نفسه فلا شهادة له، و لكنا نرى يمين فاطمة عليها السّلام قد اوجبت لها ما ادعت مع شهادة المرأتين، و قالت طائفة نرى اليمين مع الشهادة لا توجب حكما، و لكن شهادة الزوج عندنا جائزة و لا نراه جارا الى نفسه، و قد وجب بشهادته مع المرأتين لفاطمة عليها السّلام ما ادعت فكان اختلاف الطائفة اجماعا منهم على استحقاق فاطمة عليها السّلام فدك و العوالي، فسألهم المأمون بعد ذلك عن فضائل لعلي بن ابي طالب عليه السّلام فذكروا منها طرفا جليلا و سالهم عن فاطمة عليها السّلام فرووا لها عن ابيها فضائل جميلة و سألهم عن ام ايمن و اسماء بنت عميس فرووا عن نبيهم صلّى اللّه عليه و آله انهما من اهل الجنة.

فقال المأمون أ يجوز ان يقال او يعتقد ان علي بن ابي طالب مع ورعه و زهده يشهد لفاطمة عليها السّلام بغير حق و قد شهد اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله بهذه الفضائل أو يجوز مع علمه و فضله ان يقال انه يمشي على شهادة و هو يجهل الحكم فيها، و هل يجوز ان يقال ان فاطمة عليها السّلام مع طهارتها و عصمتها و انها سيدة نساء العالمين و سيدة نساء اهل الجنة كما رويتم تطلب شيئا ليس لها، تظلم فيه جميع المسلمين و تقسم عليه أو يجوز ان يقال عن ام ايمن و اسماء بنت عميس انهما شهدتا بالزور و هما من اهل الجنة، و ان الطعن على فاطمة و شهودها طعن على كتاب اللّه و الحاد في دين اللّه، ثم عارضهم المأمون بحديث رووه ان علي بن ابي طالب عليه السّلام أقام مناديا بعد وفاة محمد صلّى اللّه عليه و آله ينادي من كان له على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دين او عدة فليحضر فحضر جماعة فأعطاهم علي بن ابي

ص:70

طالب عليه السّلام ما ذكروه بغير بينة، و ان ابا بكر امر مناديا ينادي بمثل ذلك فحضر جرير بن عبد اللّه و ادعى على النبي صلّى اللّه عليه و آله عدة فأعطاه ابو بكر ما ادعاه بغير بينة و حضر جابر بن عبد اللّه و ذكر ان محمد صلّى اللّه عليه و آله وعده ان يحثو له ثلاث حثوات من مال البحرين فلما قدم مال البحرين بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله اعطاه ابو بكر ثلاث حثوات بغير بينة.

و في الجمع بين الصحيحين في الحديث التاسع من افراد مسلم في مسند جابر و ان جابرا قال فعددتها فاذا هي خمسمائة فقال ابو بكر لجابر خذ مثلها، فتعجب المأمون من ذلك فقال اما كانت فاطمة و شهودها يدرون مجرى جرير بن عبد اللّه و جابر بن عبد اللّه ثم جعل فدك و العوالي في يد محمد بن يحيى بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السّلام يعمرها و يستغلها و يقسم دخلها بين ورثة فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله.

و مما يقال في هذا المقام انهم رووا في صحاحهم ان علي بن ابي طالب عليه السّلام ممدوح مزكّى زمن حياته و بعد وفاته و انه افضل الصحابة و ان جاز الشك على الموصوف بتلك الصفات فانما هو شك فيمن اسندوا اليه تلك الروايات و تكذيب لانفسهم فيما صححوه مع انهم رووا عن عطية عن ابي سعد قال لما نزلت وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة عليها السّلام فاعطاها فدك.

و مما يقال ايضا أن عليا عليه السّلام مع اتصافه بتلك الصفات كيف يترك زوجته المعطمة تطلب شيئا لا يثبت لها و لا تقبل في الشرع شهادة شهودها، و كيف يقدم على الشهادة لها مع ان شهادته في الشريعة غير جايزة لها.

و مما يعجب منه في اعتذارهم لابي بكر ما قاله المحمود الخوارزمي في كتاب الفائق قال ان فاطمة صادقة و انها من اهل الجنة قال فكيف تشك في دعواها فدك و العوالي و كيف يجوز ان يقال عنها انها ارادت ظلم جميع المسلمين و اصرتّ على ذلك الى الوفاة فقال الخوارزمي ما هذا لفظه، كون فاطمة صادقة في دعواها و انها من اهل الجنة لا يوجب العمل بما تدعيه الاّ ببينة لان حالها لا يكون أعلة من حال النبي صلّى اللّه عليه و آله و لو ادّعى النبي صلّى اللّه عليه و آله مالا على ذمي و حكم حكما ما كان للحكم أن يحكم له لنبوته و كونه من اهل الجنة الا ببينة.

اقول هذا الكلام مما يضحك منه العقول و يكشف عن انهم ما صدقوا نبيهم في التحريم و التحليل و العطا و المنع، مع انهم ما عرفوا ثبوت البينة و صحة العمل بها الا من نبيهم فكيف يكون ثبوت صدقه الان في الدعوى على الذمي بالبينة مع انهم ذهبوا الى ان حاكم الشرع يجوز له العمل بما علم و هو من جملة اسباب الحكم.

ص:71

و مما يقال ايضا من طرائف ما تجدد لفاطمة عليها السّلام معهم انها لما رأت تكذيبهم لها و شكهم فيها و في شهودها بأن اباها وهبها ذلك في حياته ارسلت الى ابي بكر و رووا انها حضرت بنفسها تطلب فدك بطريق الميراث من ابيها لان المسلمين اجمعوا على ان فدك كان لابيها او لها.

فمن الروايات في ذلك ما ذكره البخاري في صحيحه في الجزء الخامس من اجزاء ثمانية باسناده ان فاطمة بنت رسول اللّه صلوات اللّه عليهما ارسلت الى ابي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مما افاء اللّه عليه بالمدينة من فدك و ما بقي من خمس خيبر فقال ابو بكر ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لا نورث ما تركناه صدقة، و انما يأكل آل محمد عليهم السّلام من هذا المال و اني و اللّه لا اغيّر شيئا من صدقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن حالها التي كانت عليه على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لاعملنّ فيها بما عمل به رسول اللّه فأبى ابو بكر ان يدفع الى فاطمة منها شيئا فغضبت فاطمة عليها السّلام في ذلك على ابي بكر فلم تكلمه حتى توفيت و عاشت بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله ستة اشهر فلما ماتت دفنها زوجها علي عليه السّلام ليلا و لم يؤذن بها ابو بكر و صلّى عليها علي عليه السّلام.

و روى مسلم في صحيحه هذا الحديث ايضا في الجزء الثالث و هذا بزعم ابي و صاحبه يقتضي ان محمدا صلّى اللّه عليه و آله اعمل اهل بيته الذين قال اللّه له عنهم و انذر عشيرتك الاقربين و في القرآن يا ايها الذين آمنوا قوا انفسكم و اهليكم نارا و قودها الناس و الحجارة. فيلزم على هذا انه لم ينذر عشيرته و لا وقى اهله و لا عرفهم انهم لا يرثونه و لا عرف عليا عليه السّلام و لا عباس و لا احدا من بني هاشم و لا ازواجه و لا سمعوا بهذا الحديث الذي رواه ابو بكر مدّة حياة نبيهم و لا بعد وفاته، حتى خرج بعضهم بطلب ميراته و بعضهم يرضى بذلك الطلب، و خرجت ابنته الطاهرة المعصومة تطلب ظلم جميع المسلمين على قولهم مع مخالطتها لابيها سرا و جهرا و ليلا و نهارا و لا اسمعها و لا اسمع زوجها ذلك الحديث و اسمعه ابا بكر ما هذا الا شيء عجاب ما سمعنا بهذا في كل الملل و الاديان.

و بعض الجمهور لما صحّ عنده عموم آية الارث و ما طاوعته نفسه على تكذيب ابي بكر ذكر الحديث تأويلا، و هذا هو الامام الرازي في تفسيره الكبير عند قوله تعالى يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ بعد ان نقل الحديث الذي رواه ابو بكر نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة، قال يحتمل ان يكون قوله ما تركناه صدقة صلة، لقوله لا نورث، و التقدير ان الشيء الذي تركناه صدقة لا نورّث، و يكون المراد ان الانبياء اذا عزموا على التصدق شيء فبمجرد العزم على ذلك يخرج ذلك الشيء عن ملكهم فلا يرثه انتهى و الكلام على هذا التأويل واسع الميدان.

ص:72

و العجب انهم شهدوا في هذه الاحاديث ان فاطمة عليها السّلام هجرت ابا بكر و صاحبه الى وقت الموت و خرجت من الدنيا غاضبة عليهما مع ان مسلما روى في صحيحه في الجزء الرابع من ثلثه الاخير و رواه ايضا مسلم في صحيحه في الجزء الرابع من آخره و رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين و رواه صاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثالث و رووه كلهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال فاطمة بضعة مني فمن اغضبها فقد اغضبني و انه قال فاطمة سيدة نساء اهل الجنة.

و يعجبني نقل مباحثة جرت بين شيخنا البهائي قدس اللّه روحه و بين علماء مصر و هو اعلمهم و افضلهم، و قد كان شيخنا البهائي (ره) يظهر لذلك العالم انه على دينه فقال له ما تقول الرافضة الذين كانوا قبلكم في الشيخين فقال البهائي (ره) قد ذكروا لي حديثين فعجزت عن جوابهم، فقال ما يقولون، قلت يقولون ان مسلما روى في صحيحه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال من آذى فاطمة فقد آذاني و من آذاني فقد آذى اللّه و من آذى اللّه فقد كفر و روى ايضا مسلم بعد هذا الحديث بخمسته اوراق ان فاطمة عليها السّلام خرجت من الدنيا و هي غاضبة على ابي بكر و عمر فما ادري ما التوفيق بين هذين الحديثين فقال له العالم دعني الليلة انظر فلما صار الصبح جاء ذلك العالم و قال للبهائي (ره) الن اقل لك ان الرافضة تكذب في نقل الاحاديث البارحة طالعت الكتاب فوجدت بين الخبرين اكثر من خمسة اوراق، هذا اعتذاره عن مارضة الحديثين.

فان قلت هذا الحديث الذي ادعيتم ان ابا بكر قد اختلقه مروي عندكم فما الجواب عنه و ذلك انه قد روى الصدوق باسناده الى الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك اللّه به طريقا الى الجنة و ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضى به و انه ليستغفر لطالب العلم من في السموات و من في الارض حتى الحوت في البحر و فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر و ان العلماء ورثة الانبياء و ان الانبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و لكن ورّثوا العلم فمن اخذ به اخذ بحظ وافر.

و الجواب بعد صحة الرواية و بعد ان لا نحملها على التقية بوجوه:

الاول: انهم لم يقصدوا الى توريث الدراهم و الدنانير لاولادهم و اهل ميراثهم مثل غيرهم من الناس فانهم يقصدون الى جمع الاموال و تبقيتها بعدهم لاهل ميراثهم اما اذا بقي من الانبياء شيء من الميراث اتفاقا فلا بأس به و لا ينافي الحديث.

الثاني: ان الانبياء من حيث النبوة لم يورثوا الا العلم اما من حيث الانسانية و البشرية فيجوز ان يخلفوا اشياء من الاموال و من هذا قال بعض المحققين العلماء اولاد روحانيون للانبياء لانهم يقتبسون العلوم من مشكوة انوارهم و يرثون ملكات ارواحهم كما ان الاولاد الحقيقية

ص:73

و الاقارب الصورية يرثون الاموال بل النسبة الاولى آكد من الثانية و لذلك كان حق المعلم الرباني على المتعلم اولى من حق ابيه الجسماني عليه و الحاصل انه من باب تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعليّة.

الثالث: انهم لم يخلفوا جنس الدرهم و الدينار الذي يخلفه اهل الثروات اما غيرهما من الاملاك و الزراعات و المنازل فلا بأس بأن يخلفوها و مما يقال ايضا في هذا المقام ما رواه الشيخ اسعد في كتاب الفائق باسناده الى عروة عن عائشة انها قالت لما بلغ فاطمة ان ابا بكر قد اظهر منعها فدك وضعت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها و اقبلت في حفدة من نسائها تطأ ذيولها تمشي مشية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى دخلت على ابي بكر و هو في جماعة من المهاجرين و الانصار و غيرهم ثم اجهش القوم بالبكاء فخطبت خطبة بليغة اظهرت فيها الشكاية من ابي بكر و صاحبه و من المهاجرين و الانصار في ترك نصرتهم لها في ميراثها و في آخرها ثم انكفأت الى قبر ابيها و هي تقول:

قد كان بعدك انباء و هنبثة لو كنت حاضرها لم تكثر

انا فقدناك فقد الارض و ابلها و اختل اهلك فاشهدهم و لا

و قالت فيها افعلى عمد تركتم كتاب اللّه و اتخذتموه وراءكم ظهريا اذ يقول تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ مع ما اقتص اللّه من خبر زكريا عليه السّلام اذ قال فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ، و قال وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ ، و قال يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ ثم عطفت على قبر ابيها و بكت و تمثلت بقول صفية:

و كان قربك بالايات يونسنا فغاب عنّا فكل الخير محتجب

و كنت بدرا و نورا يستضاء به عليك ينزل من ذي العزة

فجبهتنا (1)رجال و استخف مذ غبت عنّا و نحن اليوم

ابدت رجال لنا فحوى لما مضيت و حالت دوننا

فقد رزئنا بما لم برزه احد من البرية لا عجم و لا عرب

فسوف نبكيك ما عشنا و ما منا الشئون بتهمال (2)لها

ص:74


1- 26) جبهة كمنعة ضرب جبهته وردها و لقيه بما يكره.
2- 27) هملت عينه فاضت دموعا.

اقول: و اللّه لو وفدت بهذا الكلام على ملك من ملوك الكفار لما ردها عما طلبت و لكان اعطاها من ماله مضاعف ما ارادت ان منعها عما طلبت لكن سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون و هذا كلام وقع في البين فلنرجع الى فضائل الشيخين.

فنقول روى صاحب كتاب الاحتجاج طاب ثراه ان المأمون بعد ما زوّج ابنته ام الفضل ابا جعفر عليه السّلام كان في مجلس و عنده ابو جعفر عليه السّلام و يحيى بن اكثم و جماعة كثيرة فقال ل يحيى بن اكثم ما تقول يا بن رسول اللّه في الخبر الذي روى انه نزل جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا محمد ان اللّه عز و جل يقرئك السّلام و يقول لك سل ابا بكر هل هو عني راض فانا عنه راض، فقال ابو جعفر عليه السّلام يجب على صاحب هذا الخبر ان يأخذه مثال الخبر الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجة الوداع قد كثرت عليّ الكذابة و ستكثر فمن كذب عليّ معتمدا فليتبوأ مقعده من النار، فاذا اتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه عز و جل و سنتي فخذوا به و ما خالف كتاب اللّه و سنتي فلا تأخذوا به و ليس يوافق هذا الحديث كتاب اللّه قال اللّه تعالى وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ ، فاللّه عز و جل خفي عليه رضاء ابي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره هذا مستحيل في العقول.

ثم قال يحيى بن اكثم و قد روى ان مثل ابي بكر و عمر في الارض مثل جبرئيل و ميكائيل في السماء، فقال و هذا ايضا يجب ان ينظر فيه لان جبرئيل و ميكائيل ملكان مقربان لم يعصيا اللّه قط و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة، و هما قد اشركا باللّه عز و جل و ان اسلما بعد الشرك، و كان اكثر ايامهما الشرك باللّه فحال ان يشبها بهما قال يحيى بن اكثم و قد روى ايضا انهما سيدا كهول اهل الجنة فما تقول فيه، قال عليه السّلام و هذا الخبر محال ايضا لان اهل الجنة كلهم يكونون شبابا و لا يكون فيهم كهل، و هذا الخبر وضعه بنو امية لمضادة الخبر الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الحسن و الحسين عليهما السّلام بأنهما سيدا شباب اهل الجنة، فقال يحيى بن اكثم و روى ان عمر بن الخطاب سراج اهل الجنة، فقال عليه السّلام و هذا ايضا محال لان في الجنة الملائكة المقربين و آدم و نوح و جميع الانبياء و المرسلين لا يضيء بانوارهم حتى يضيء بنور عمر.

فقال يحيى قد روى ان السكينة تنطق على لسان عمر، فقال عليه السّلام ان ابا بكر افضل من عمر فقال على رأس المنبر ان لي شيطانا يعتريني فاذا ملت فسددوني، فقال يحيى قد روى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لو لم ابعث لبعث عمر فقال عليه السّلام كتاب اللّه اصدق من هذا الحديث، يقول في كتابه و لقد اخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح، فقد اخذ اللّه ميثاق النبيين فكيف يمكن ان يبدل ميثاقه و كل الانبياء عليهم السّلام لم يشركوا باللّه طرفة عين فكيف يبعث بالنبوة من اشرك و كان اكثر ايامه مع الشرك باللّه، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نبئت و آدم بين الروح و الجسد.

ص:75

فقال يحيى بن اكثم و قد روى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال ما احتبس عليّ الوحي قطّ الا ظننته قد نزل على آل الخطاب فقال عليه السّلام و هذا محال ايضا لانه لا يجوز ان يشك النبي صلّى اللّه عليه و آله في نبوته، و قال اللّه تعالى يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّٰاسِ فكيف يمكن ان ينتقل النبوة ممن اصطفا اللّه تعالى الى من اشرك به قال يحيى قد روى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لو نزل العذاب لما نجى منه الا عمر بن الخطاب فقال عليه السّلام و هذا ايضا محال لان اللّه تعالى يقول و ما كان اللّه ليعذبهم و انت فيهم، و ما كان اللّه معذبهم و هم يستغفرون، فأخبر سبحانه انه لا يعذب احدا ما دام فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما داموا يستغفرون اللّه تعالى الى غير ذلك من الاخبار الموضوعة الذي استقصاؤها يفضي الى الملال.

و لا تعجب من كثرة الاخبار الموضوعة فانهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله قد غيّروا و بدّلوا في الدين ما هو اعظم من هذا كتغييرهم القرآن و تحريف كلماته و حذف ما فيه من مدائح آل الرسول و الائمة الطاهرين و فضائح المنافقين و اظهار مساويهم كما سيأتي بيانه في نور القرآن فان قلت العجب العجيب و الامر الغريب قبول الناس مبتدعاتهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله مع حدوث العهد به و سبب وضع الاخبار الكثيرة في مدائح المتخلفين و آل امية و آل ابي سفيان مع انهم رووا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله الاخبار الدالة على نفاقهم و خبث سريرتهم.

قلت الجواب عن هذا اجمالا و تفصيلا اما الاول فقد روى مستفيضا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من طريق العامة و الخاصة انه قال كذب عليّ في حيوتي و ستكثر عليّ الكذابة بعد فوتي الا فمن كذب عليّ معتمدا فليتبوأ مقعده من النار، حتى قال جماعة من الرواة انه لا خبر متواتر اللفظ عنه صلّى اللّه عليه و آله سوى هذا بعد اختلافهم في تواتر الحديث المشهور و هو قوله انما الاعمال بالنيات و لكل امرئ ما نوى.

و قد وقعت مباحثة بين السيد المرتضى قدس اللّه روحه و جماعة من الجمهور، حيث ذكروا ان الشيعة يقولون و يروون ان الناس كذبوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد فوته و من ذا الذي يقدر على ان يتعمد الكذب عليه فتلا المرتضى هذا الحديث، و قال فهذا خبر مسند عن النبي صلّى اللّه عليه و آله فهو اما صدق و اما كذب، فان كان صدقا تمّ المطلوب و ان كان كذبا فهو من الاخبار المكذوب بها على النبي صلّى اللّه عليه و آله و هذا من الاجوبة الحاضرة كجواب شيخنا البهائي (ره) لمّ تباحث مع بعض علماء المخالفين، فقال له لم جوّزتم ايها الشيعة قتل عثمان مع انه كان من اكابر الصحابة و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله في اصحابه اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، فقال البهائي (ره) جوّزنا قتله بهذا الحديث الذي قلته لان الذي قتله و سعى فيهم هم الصحابة محمد بن ابي بكر و اضرابه و هؤلاء من الصحابة فلما ارتكبوا القتل ارتكبنا نحن التجويز.

ص:76

و هذا مما يناسب جواب الصادق عليه السّلام و قد سئل في مجلس الخليفة عن الشيخين فقال هما امامان عادلان قاسطان كانا على الحق فماتا عليه عليهما رحمت اللّه يوم القيامة. فلما قام من المجلس تبعه بعض اصحابه و قال يا ابن رسول اللّه قد مدحت ابا بكر و عمر هذا اليوم فقال انت لا تفهم معنى ما قلت فقال بيّنه لي فقال عليه السّلام اما قولي هما امامان فهو اشارة الى قوله تعالى و منهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ.

و اما قولي عادلان فهو اشارة الى قوله تعالى و اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ و اما قولي قاسطان فهو المارد من قوله عز من قائل وَ أَمَّا اَلْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ، و اما قولي كانا على الحق فهو من المكاونة و الكون و معناه انهما كاونا على حق غيرهم لان الخلافة حق علي بن ابي طالب و كذا ماتا عليه فانهما لم يتوبا بل استمرا على افعالهم القبيحة الى ان ماتوا و قولي عليهما رحمة اللّه المراد به النبي صلّى اللّه عليه و آله بدليل قوله تعالى وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ ، فهو القاضي و الحاكم و الشاهد على فعلوه يوم القيامة، فقال فرّجت عني فرج اللّه عنك.

و مما يناسب هذا جواب بعض مشائخنا المعاصرين و كان رجلا مزّاحا فسأله سلطان البصرة يوما بحضور جماعة من علماء الجمهور، و كان ذلك السلطان منهم ايضا فقال يا شيخ ايما افضل فاطمة عليها السّلام ام عائشة فقال ذلك الشيخ عائشة افضل فقال و لم هذا فقال لقوله تعالى فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ درجة، و عائشة خرجت من المدينة الى البصرة و جهزت العساكر و جاهدت عليا و بني هاشم و اكابر الصحابة حتى قتل بسببها خلق كبير، و اما فاطمة عليها السّلام فقد لزمت بيتها و ما خرجت منه الا الى المسجد لطلب فدك و العوالي من ابي بكر و لما منعها منه استقرت في مكانها الى يوم موتها فضحك السلطان و الحاضرون و قال السلطان هذا يا شيخ تشنيع لطيف و مثل هذه الجوابات كثير و سنفرد له نورا ان شاء اللّه تعالى.

فان قلت قوله صلّى اللّه عليه و آله اصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم أ هو حديث صحيح ام خبر مختلق قلت بل هو حديث صحيح و يدلّ عليه ما رواه الرازي عن ابيه عن الرضا عليه السّلام قال سئل عن قول النبي صلّى اللّه عليه و آله اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم و عن قوله عليه السّلام دعوا لي اصحابي فقال هذا صحيح يريد من لم يغير بعده و لم يبدل قيل و كيف نعلم انهم غيّروا و بدّلوا قال لما يروونه من انه صلّى اللّه عليه و آله قال ليذادّن رجال من اصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد (1)غرائب الابل عن الماء فاقول يا رب اصحابي اصحابي فيقال لي انك لا تدري ما احدثوا بعدك فيؤخذ بهم ذات الشمال فاقول بعدا لهم و سحقا أ فترى هذا لمن لم يغيّر و لم يبدّل.

ص:77


1- 29) ذاده ذودا و ذيادا دفعه.

و ما الجواب التفصيلي فهو ان الناس انما قبلوا مبتدعات عمر و اصحابه لما قاله بعض المحققين من العارفين بضلالة الضالين، فقال ان السبب في ذلك هو ان المنافقين و هم اكثر المسلمين قد كان لهم طرف وافر من التعصب على اهل البيت عليهم السّلام لعلل و اسباب يطول شرحها و كون اكثر البلاد انما فتحت في خلافة عمر، فلما خرجوا من الكفر الى الاسلام صادفوا مبتدعات عمر المحدثة و لم يكونوا عالمين بسنن النبي صلّى اللّه عليه و آله فتلقوا سنن عمر رهبة و رغبة من نوابه، كما تلقنوا شهادة ان لا اله الا اللّه و ان محمدا رسول اللّه فنشأ عليها الصغير و مات عليها الكبير و لم يعتقد اصحاب البلاد التي فتحت ان عمر يقدم على تغيير شيء من سنن نبيهم، و لا ان احدا يوافقه على ذلك فأضلّ عمر نوابه و اضل نوابه من تبعهم، فما اقرب وصفهم يوم القيامة بما تضمنه كتابهم اذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الاسباب، و قال الذين اتبعوا لو ان لنا كرّة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم اللّه اعمالهم حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النار.

و اما الاخبار الموضوعة في مدائح المتخلفين و اضرابهم، فمن جملة اسبابه ما روى في كتاب سليم بن قيس و هذا لفظه، و كتب معاوية الى ولاته في جميع الارضين ان لا يجيزوا لاحد من شيعة علي و اهل بيته شهادة و لا لأهل ولايته الذين يروون فضله و يتحدثون بمناقبه و كتب الى عماله انظروا الى من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و اهل ولايته و الذين يروون فضله و يتحدثون بمناقبه فادنوا مجالسهم و قربوهم و اكرموهم و شرفوهم، و اكبوا اليّ بما يروي كل رجل منهم فيه بأسمه و اسم ابيه و ممن هو ففعلوا ذلك حتى كثر في عثمان الحديث و بعث اليهم بالصلاة و الكسى و اقطع اكثرهم القطائع من العرب و الموالي و كثروا في كل مصر و تنافسوا في المنازل و الضياع و اتسعت عليهم الدنيا فليس احد يأتي على مصر او قرية فيروى في عثمان مناقبا و فضلا الا كتب اسمه و اعطى عطايا جزئيلة ثم كتب الى عماله ان الحديث في عثمان قد كثر و فشا في كل قرية و مصر و ناحية فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في ابي بكر و عمر فان فضلهما و سوابقهما احب اليّ و اقرّ لعيني و ادحض لحجة اهل هذا البيت و اشدّ عليهم من مناقب عثمان و فضله، فقرأ كل امير و قاض كتابه على الناس فاشتغل الناس بوضع الروايات و المناقب و علموه غلمانهم و صبيانهم و تعلموه كما يتعلمون القرآن حتى علّموه بناتهم و نسائهم و خدّامهم و حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثم كتب نسخة الى جميع عماله الى جميع البلدان ان انظروا الى من قامت عليه البينة انه يحب عليا و اهل بيته فامحوه من الديوان و لا تجيزوا له شهادة، ثم كتب كتابا آخر من اتهمتموه و لم

ص:78

تقم عليه بينة انه منهم فاقتلوه فقتلوهم على التهم و الظنون و الشبه تحت كل كوكب (1)حتى انه كان الرجل يسقط (2)بكلمة فيضرب عنقه و لم يكن ذلك البلاء في بلد أشد و لا اكثر منه بالعراق و لا سيما الكوفة، حتى انه كان الرجل من شيعة علي من اهل المدينة و غيرها يأتيه من يثق به فيدخل بيته و يلقى عليه ستره و يخاف خادمه و مملوكه و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الايمان المغلظة ليكتمنّ عليه و جعل الامر لا يزداد الا شدة و كثر عدد محبيهم و اظهروا الاحاديث الكاذبة من اصحابهم من الزور و البهتان فلبسوا على الناس و لا يتعلمون الا منهم و مضى عليه قضاتهم و ولاتهم و كان اعظم الناس في ذلك فتنة و بلية القرّاء المذبذبين الذين يظهرون الكذب و يختلقون الاحاديث ليحظوا بذلك عندهم و عند ولاتهم و يدنوا مجالسهم و يصيبون بذلك الاموال و القطائع و المنازل حتى صارت احاديثهم شايعة كثيرة، فوقعت بيد من لا يستحل الكذب فقبلوها و هم يرون انها حق و لو علموا انها باطل لم يرووها و لم يتدينوا بها و لم يبغضوا من خالفهم فصار الصدق كذبا و الكذب صدقا، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتشملنكم بعدي فتنة يربوا فيها الوليد و يشبّ عليها الكبير تجري الناس عليها تتخذونها سنّة فاذا غيّر منها شيء قيل اتى الناس منكرا غيّرته السنّة، و كان عادة المتخلفين من الاموية و العباسية انهم اذا مالت طباعهم الى فعل محرم طلبوا من علمائهم من يرو لهم حديثا في مدحه الراوون عندهم كثيرون لاجل الصلات و القطائع.

كما روى ان الخليفة المهدي العباسي كان مولعا بلعب الحمام و بالمراهنة عليه ثم طلب من يروي له حديثا في مدحه و جوازه فأتى اليه وهب بن وهب القرشي و حفص بن غياث القاضي و رويا له في مدحه كثيرا من الاحاديث فأعطاهم اموالا جزيلة، فلما خرجا منه قال اعطيتهما و اعلم ان لحييهما لحيى كذاب، و قد نقل هذا المضمون جماعة من علماء الجمهور و قواعدهم و عاداتهم الى هذا الوقت على نحو ما سلف. .

نور علوي

يكشف عن سبب تقاعد امير المؤمنين عليه السّلام في خلافة المتخلفين، مع انهم على ما ذكرنا من الارتداد بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و تغيير سنته و الواجب على المتمكن من المنع على مثله ان يبذل الجهد و الطاقة فيه و قد تقدم ان عليا عليه السّلام اشجع الناس و به قد كانت تضرب الامثال، فكيف ساغ له الجلوس و الحال على ما وصفت قلت ربما وقع فيه خلاف بين الاصحاب فبعضهم قال الذي اقعده

ص:79


1- 30) ذهبوا تحت كل كوكب أي تفرقوا.
2- 31) سقط بكلامه اخطأ.

هو العجز و عدم التمكن من الدفاع، و بعضهم قال السبب فيه هو عهد عهده اليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ترك المجاهدة مهم اقول و هذان القولان كلاهما حق و العلل الشرعية معرّفات لا مؤثرات و قد روت الخاصة بل و العامة ايضا لتقاعده عليه السّلام عللا متكثرة.

منها ما رواه الكليني و الصدوق قدس اللّه روحيهما باسنادهما الى الصادق عليه السّلام قال قلت ما بال امير المؤمنين عليه السّلام لم يقاتل فلانا و فلانا، قال آية في كتاب اللّه عز و جل لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً قال قلت و ما يعني بتزايلهم قال و دائع المؤمنين في اصلاب قوم كافرين، و كذلك القائم عليه السّلام لن يظهر ابدا حتى تخرج و دائع اللّه عز و جل فاذا خرجت على من ظهر من اعداء اللّه فقتلهم اقول ان اكثر المؤمنين و الشيعة انما خرجوا من اصلاب اولئك الاقوام المرتدين فلو حاربهم علي عليه السّلام كما فعل يوم البصرة و صفين و النهروان لضاع المؤمنون في تلك الاصلاب و اما المقتولون في المواطن الثلاثة فلم يكن في اصلابهم احد من المؤمنين بعلم اللّه تعالى فلذا قتل منهم الالوف و اوصلهم الحتوف (1).

و منها ما رواه الرماني قال سئلت الرضا عليه السّلام فقلت يا ابن رسول اللّه اخبرني عن علي بن ابي طالب عليه السّلام لم لم يجاهد اعدائه خمسا و عشرين سنة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم جاهد في ايام ولايته فقال لانه اقتدى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تركه جهاد المشركين بمكة ثلاث عشرة سنة بعد النبوة و بالمدينة تسعة عشر شهرا و ذلك لقلة اعوانه عليهم فلما لم تبطل نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع تركه الجهاد لم تبطل ولاية علي عليه السّلام بتركه الجهاد خمسا و عشرين سنة اذ كانت العلة المانعة لهما من الجهاد واحدة، و سئل ابو عبد اللّه عليه السّلام ما بال امير المؤمنين عليه السّلام لم يقاتلهم، قال للذي سبق في علم اللّه ان يكون و ما كان له ان يقاتلهم و ليس معه الا ثلثة رهط من المؤمنين اقول قوله عليه السّلام للذي سبق في علم اللّه معناه و اللّه اعلم ان اللّه تعالى قد علم بافعالهم الاختيارية و علمه تعالى ليس علة لها بل وقوعها منهم على طريق الاختيار في المستقبل علة لتعلق العلم بها في الازل فالعلم تابع للمعلوم و ليس علة له كما توهمه مجوس هذه الامة و هم الاشاعرة.

و منها ما رواه الصدوق (ره) باسناده الى بن مسعود قال اجتمع الناس في مسجد الكوفة فقالوا ما بال امير المؤمنين عليه السّلام لم ينازع الثلاثة كما نازع طلحة و الزبير و عائشة و معاوية فلبغ ذلك عليا عليه السّلام فأمر ان ينادي الصلوة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فحمد اللّه و اثنى عليه ثم قال معاشر الناس أنه بلغني عنكم كذا و كذا قالوا صدق امير المؤمنين قد قلنا ذلك قال فان لي بستة من الانبياء أسوة فيما فعلت قال اللّه عز و جل في محكم كتابه لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

ص:80


1- 32) الحتوف جمع الحتف بمعنى الموت.

قالوا و من هم يا امير المؤمنين قال اولهم ابراهيم عليه السّلام اذ قال لقومه و اعتزلكم و ما تدعون من دون اللّه فان قلتم ان ابراهيم اعتزل قومه لغير مكروه اصابه منهم فقد كفرتم و ان قلتم اعتزلهم لمكروه رآه منهم فالوصي اعذر، و لي بابن خالته لوط اسوة، اذ قال لقومه لو ان لي بكم قوة أو آوي الى ركن شديد فان قلتم ان لوطا كانت له بهم قوة فقد كفرتم و ان قلتم لم يكن له بهم قوة فالوصي اعذر و لي بيوسف عليه السّلام اسوة اذ قال رب السجن احب اليّ مما يدعونني اليه فان قلتم ان يوسف دعا ربه و سئله السجن لسخط ربه فقد كفرتم و ان قلتم انه اراد بذلك لئلا يسخط ربه عليه فاختار السجن فالوصي اعذر و لي بموسى عليه السّلام اسوة اذ قال ففرت منكم لما خفتكم فان قلتم ان موسى عليه السّلام فرّ من قومه بلا خوف كان له منهم فقد كفرتم و ان قلتم ان موسى خاف فالوصي اعذر و لي بأخيه هارون عليه السّلام اسوة اذ قال لاخيه يا ابن ام ان القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني، فان قلتم لم يستضعفوه، و لم يشرفوا على قتله فقد كفرتم و ان قلتم استضعفوه و اشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم فالوصي اعذر و لي بمحمد صلّى اللّه عليه و آله اسوة حين فرّ من قومه و لحق بالغار من خوفهم و انا مني على فراشه فان قلتم فرّ من قومه لغير خوف منهم فقد كفرتم و ان قلتم خافهم و انا مني على فراشه و لحق هو بالغار من خوفهم فالوصي اعذر.

و منها ما رواه عن زرارة قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام ما منع امير المؤمنين عليه السّلام ان يدعو الناس الى نفسه قال خوفا أن يرتدّوا قال علي (1)أحسب في هذا الحديث قال و لا يشهدون ان محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و منها ما رواه ابن قيس قال يا ابن ابي طالب ما معنك حين بويع اخو بني تيم و اخو عدي و اخو بني امية ان تقاتل و تضرب بسيفك فانك لم تخطبنا خطبة مذ قدمت العراق الا قلت فيها و اللّه اني اولى الناس بالناس، و ما زلت مظلوما منذ قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما منعك ان تضرب بسيفك دون من ظلمك، قال قد قلت فاسمع الجواب، لم يمنعني من ذلك الجبن و لا كراهة المغازي، و لا ان اكون لا اعلم بأنّ ما عند اللّه خير لي من الدنيا بما فيها و لكن منعني من ذلك امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عهده اليّ اخبرني بما احدث الامة بعده فلم اكن بما صنعوا حين عاينته باعلم به مني و لا اشدّ يقينا به مني قبل ذلك بل انا بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشد يقينا بما عاينت و شاهدت فقلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما تعهد اليّ اذا كان ذلك قال فان وجدت اعوانا فانبذ اليهم و جاهدهم، و ان لم تجد اعوانا فكفّ يدك و احقن دمك حتى تجد على اقامة كتاب اللّه و سنتي اعوانا، و اخبرني ان الامة ستخذلني و تتبع غيري و اخبرني اني منه بمنزلة هارون من موسى، و ان

ص:81


1- 33) اسم احد الرواة الذين هم في سلسلة السند.

الامة سيصيرون بعده بمنزلة هارون و من يتبعه و بمنزلة العجل و من تبعه، فقال موسى يا هرون ما منعك اذ رأيتهم ضلوا الا تتبعنّ أ فعصيت امري قال يا ابن ام ان القوم استضعفوني و كادوا يقتلوني، و قال يا ابن ام لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي اني خشيت ان تقول فرّقت بين بني اسرائيل و لم ترقب قولي و انما يعني ان موسى امر هارون حين استخلفه عليهم ان ضلوا ثم وجدوا اعوانا ان يجاهدهم، و ان لم يجد اعوانا ان يكفّ يده و يحقن دمه و لا يفرّق بينهم، و اني خشيت ان يقول ذلك اخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرّقت بين الامة و لم ترقب قولي و قد عهد اليك ان لم تجد اعوانا فكفّ يدك و احقن دمك و دم اهل بيتك و شيعتك، فلما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مال الناس الى ابي بكر فبايعوه و انا مشغول بغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم شغلت بالقرآن و آليت على نفسي ان لا ارتدي برداء الا للصلوة حتى اجمعه في كتاب ثم حملت فاطمة ثم أخذت بيد ابني الحسن و الحسين فلم ادع احدا من اهل بدر و اهل السابقة و من المهاجرين و الانصار الا ناشدتهم اللّه في حقي و دعوتهم الى نصرتي فلم يستجب لي من الناس الا اربعة رهط، الزبير و سلمان و ابو ذر و المقداد و لم يبق معي من اهل بيتي احدا طول به و اقوى.

و اما حمزة فقتل يوم احد و جعفر قتل يوم مؤتة، و بقيت بين حليفين خائفين ذليلين حقيرين العباس و عقيل، و هم قريبو عهد بالاسلام و اكرهوني و قهروني كما قال هرون لاخيه يا ابن ام ان القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني فلي بهرون اسوة حسنة و لي بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجة قوية، و ساق الحديث الى ان قال ويلك يا ابن قيس كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان اذ وجدت اعوانا أهل رأيت مني فشلا او جبنا او تقصيرا في وقعتي يوم البصرة فلما بغوا عليّ فنفرت اليهم في اثني عشر الفا و هم عشرون و مائة الف فنصرني اللّه عليهم، و قتلهم بأيدينا و شفى صدور قوم مؤمنين، و كيف رأيت يا ابن قيس وقعتنا بصفين و ان اللّه قتل منهم بأيدينا خمسين الفا في صعيد واحد الى النار، و كيف رأيت يوم النهروان اذ لقيت المارقين و هم يومئذ مذبذبين كما قال اللّه عز و جل اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، فقتلهم اللّه بأيدينا في صعيد واحد الى النار لم يبق منهم الا عشرة و لم يقتلوا من المسلمين غير عشرة، و ساق كلامه الى ان قال اما الذي فقل الحبة و برأ النسمة لو وجدت يوم بويع أخو تيم الذي عيرتني بدخولي في بيعته أربعين رجلا كلهم على مثل بصيرة الاربعة الذي وجدت لما كففت يدي و لنا هضت، و لكن لم أجد خامسا قال الاشعث قلت فمن الاربعة قال سلمان و ابو ذر و المقداد و الزبير ابن صفية قبل نكثه بيعتي، فأنه بايعني مرتين.

اما الاولى فالتي و فى بها فإن عتيقا لما بويع أتاني اربعون رجلا من المهاجرين و الانصار فبايعوني فأمرتهم و فيهم الزبير ان يصبحوا عند بابي محلقين رؤوسهم عليهم السلاح فما و فى و لا

ص:82

صدقني غير اربعة سلمان و ابو ذر و المقداد و الزبير و اما البيعة الاخرى فانه اتاني هو و صاحبه طلحة بعد قتل عثمان فبايعاني غير مكرهين ثم رجعا عن دينهما مدبرين ناكثين مكابرين حاسدين فقتلهما اللّه الى النار و اما الثلاثة سلمان و ابو ذر و المقداد فثبتوا على دين محمد صلّى اللّه عليه و آله الحديث.

اقول هذه الاخبار تكشف لك عن اسباب تقاعده عليه السّلام و ان القولين السابقين كلاهما حقّ و ذلك ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و ان امره بالتقاعد في زمن الثلاثة لكن ما امره به الا بشرط عدم المعاون و لذا امره بالمجاهدة زمن معاوية لما يعلم من حصول المظاهر و المعاون و لم يأمره النبي صلّى اللّه عليه و آله بارتكاب المذلة و تحمل المهانة، و لكن علم ان الصلاح في ترك منابذتهم تلك المدة.

و اما شجاعة علي عليه السّلام فلم يكن بأشد من شجاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما تقول من وجوب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر بالنسبة الى علي عليه السّلام فنقول هو بالنسبة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله اوجب فلم ترك منابذة الكفار بمكة و بعد قدومه الى المدينة حتى قويت شوكته و حصل له المعين و قوي الاسلام، فعلي عليه السّلام انما ترك جهاد جماعة كانوا متجاهرين بالاسلام.

و اما النبي صلّى اللّه عليه و آله فانما ترك جهاد اهل عبادة الاصنام فما توردون من الاعتراض علينا بالنسبة الى قعود علي عليه السّلام فنحن نورده عليكم بالنسبة الى قعوده صلّى اللّه عليه و آله و مما يوضح ما قلناه ان الحسين عليه السّلام كان من الشجاعة بمكان لا يدانى فيه، كيف لا و قد سبق ان النبي صلّى اللّه عليه و آله ورثه شجاعته و سخاوته، و لما صار لطلب حقه و قلّت اعوانه و كثرت الاعداء عليه اصيب بتلك المصيبة التي صدعت اركان الدين و زلزلت السموات و الارض، و هي كالحجة على ان عليا عليه السّلام انما قعد عن المنازلة لمثل هذا مع ان عليا عليه السّلام قد كان له قوة الهية و بها قلع باب خيبر و قوة بشرية و لم يكن بها قادرا على كسر قرص الشعير اليابس فبالنظر الى القوة الاولى قد كان قادرا لو لا تلك الموانع من ارتداد الناس عن الدين و من جهة الوادئع التي كانت في اصلاب المرتدين و اما بالنظر الى القوة الثانية فهو كغيره من افراد البشر يوصف بالعجز و نحوه.

ص:83

نور سماوي

اشارة

يكشف عن ثواب يوم قتل عمر بن الخطاب، روناه من كتاب الشيخ الامام العالي ابي جعفر محمد بن جرير الطبري قال المقتل الثاني يوم التاسع من شهر ربيع الاول (1)اخبرنا الامين السيد ابو المبارك احمد بن محمد بن اردشير الدستاني قال اخبرنا السيد ابو البركات بن محمد الجرجاني قال اخبرنا هبة اللّه القمي و اسمه يحيى قال حدثنا احمد بن اسحاق بن محمد البغدادي، قال حدثنا الفقيه الحسن بن الحسن السامري انه قال كنت انا و يحيى بن احمد بن جريح البغدادي فقصدنا احمد بن اسحاق القمي و هو صاحب الامام الحسن العسكري عليه السّلام بمدينة قم فقرعنا عليه الباب فخرجت الينا من داره صبية عراقية فسئلناها عنه فقالت هو مشغول و عياله فأنه يوم عيد، قلنا سبحان اللّه الاعياد عندنا اربعة عيد الفطر و عيد النحر و الغدير و الجمعة، قالت روى سيدس احمد بن اسحاق عن سيده العسكري عن ابيه علي بن محمد عليهم السّلام ان هذا يوم عيد و هو من خيار الاعياد عند اهل البيت عليهم السّلام و عند مواليهم، قلا فأستأذني بالدخول عليه و عرّفيه مكاننا، قال فخرج علينا و هو متّزر بمئزر له متّشح بكسائه يمسح وجهه فأنكرنا عليه ذلك فقال لا عليكما انني كنت اغتسل للعيد فان هذا اليوم و هو يوم التاسع من شهر ربيع الاول يوم

ص:84


1- 34) لا يخفى على القارئ العزيز ما في هذه الرواية من المخالفة لما هو المشهور بين ان عمر بن الخطاب توفى في اواخر ذي الحجة سنة (23) ه فقيل توفي ليلة الاربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة و قيل طعن الاربعاء لاربع يقين من ذي الحجة و دفن يوم الاحد هلال محرم سنة (24) ه و قيل توفي لاربع يقين من ذي الحجة و قيل ان وفاته كانت في غرة المحرم سنة (24) ه و قيل طعن لسبع يقين من ذي الحجة و قيل لست بقين منه و قيل غير ذلك. انظر تاريخ الطبري ج 3 ص 265-266 ط مصر [1]سنة (1357) ه و تهذيب الاسماء للنووي ج 2 ص 14 و [2]ابن الاثير ج 3 ص 20 و [3]تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 136 ط مصر [4]سنة (1371) ه و غيرها من الكتب الكثيرة و لكن يظهر من النووي في تهذيب الاسماء ان في تاريخ الطعن على عمر و مدة خلافته و وفاته اقوال اخر و لا يبعد ان يكون منها القول بكون قتله في اليوم التاسع من ربيع الاول كما انه يظهر من العلامة عبد الجليل الرازي في كتاب (النفص) الملف في حدود سنة (560) ه ان قتل عمر في اليوم التاسع منه كان مشهورا بين الشيعة انظر ص 280 و تعليق الفاضل المعاصر المحدث عليه و الرواية التي نقلها المصنف لا تخلو من المناقشات التي لا سعة في المقام لذكرها و لا سيما ما في ذيل الرواية من قوله: و امرت الكرام الكاتبين ان يرفعوا القلم عن الخلق ثلاثة ايام و لا اكتب عليهم شيئا من خطاياهم) فان ظاهر هذه الفقرة مخالف لقواعد المذهب و اصول المسلمة و لا بد من تأولها و توجيها و اخراجها عن ظاهرها و نقل هذه الرواية العلامة المجلسي (ره) في البحار عن السيد ابن طاووس (ره) انظر المجلد العشرين ص 330 ط امين الضرب و فيها زيادات في آخر الرواية و ذكر اثنين و سبعين اسما ليوم التاسع من ربيع الاول و الذي يهون الخطب ان هذه الرواية لم نجدها في الجوامع الحديثية المعتبرة كالكتب الاربعة-عند الامامية و لذا يشكل الاعتماد على جميع فقراتها.

عيد فأدخلنا داره و اجلسنا على سرير له ثم قال لنا اني قصدت مولاي ابا الحسن العسكري عليه السّلام مع جماعة من اخواني في مثل هذا اليوم و هو اليوم التاسع من ربيع الاول فراينا سيدنا عليه السّلام قد أمر جميع خدمه ان يلبس ما يمكنه من الثياب الجدد و كان بين يديه مجمرة يحرق فيها العود قلنا يا ابن رسول اللّه هل تجد في هذا اليوم لاهل البيت فرحا فقال عليه السّلام و أي يوم اعظم حرمة من هذا اليوم عند اهل البيت و أفرح.

و قد حدثني ابي عليه السّلام ان حذيفة دخل في مثل هذا اليوم و هو اليوم التاسع من شهر ربيع الاول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال حذيفة فرأيت امير المؤمنين عليه السّلام مع ولديه الحسن و الحسين عليهما السّلام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأكلون و الرسول صلّى اللّه عليه و آله يتبسم في وجوههما و يقول كلا هنيئا مريئا لكما ببركة هذا اليوم و سعادته فأنه اليوم الذي يقبض اللّه فيه عدوه و عدو جدكما و يستجيب دعاء امكما، فأنه اليوم الذي يكسر فيه شوكة مبغض جدكما و ناصر عدوكما كلا فأنه اليوم الذي يفقد فيه فرعون اهل بيتي و هامانهم و ظالمهم و غاصب حقهم كلا فأنه اليوم الذي يفرج اللّه فيه قلبكما و قلب امكما قال حذيفة قلت يا رسول اللّه في امتك و اصحابك من يهتك هذا الحرم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جبت من المنافقين يظلم اهل بيتي و يستعمل في امتي الريا و يدعوهم الى نفسه و يتطاول على الامة من بعدي و يستجلب اموال اللّه من غير حلّه و ينفقها في غير طاعته و يحمل على كتفه درّة الخزى و يضل الناس عن سبيل اللّه و يحرف كتابه و يغيّر سنبي و يغصب ارث ولدي و ينصب نفسه علما و يكذبني و يكذب اخي و وزيري و وصي و زوج ابنتي، و يتغلب على ابنتي و يمنعها حقها و تدعو فيستجاب لها الدعاء في مثل هذا اليوم.

قال حذيفة قلن يا رسول اللّه ادع اللّه ليهلكه في حياتك قال يا حذيفة لا احب ان اجترئ على اللّه لما قد سبق في علمه لكني سألت اللّه عز و جل ان يجعل لليوم الذي يقبضه فيه اليه فضيلة على سائر الايام و يكون ذلك سنة يستن بها احبائي و شيعة اهل بيتي و محبوهم فأوحى اللّه عز و جل اليّ فقال يا محمد انه قد سبق في علمي ان يمسك و اله بيتك محن الدنيا و بلاؤها و ظلم المنافقين و المعاندين من عبادي ممن نصحتهم و خانوك و محضتهم و غشوك و صافيتهم و كاشحوك و اوصلتهم و خالفوك و اوعدتهم فكذبوك، فأني بحولي و قوتي و سلطاني لافتحنّ على روح من يغصب بعدك عليا وصيك و و لي حقك من العذاب الاليم و لأوصلنه و اصحابه قعرا يشرف عليه ابليس فيلعنه و لا جعلنّ ذلك المنافق عبرة في القيامة مع فراعنة الانبياء و اعداء الدين في المحشر، و لاحشرنهم و اولياءهم و جميع الظلمة و المنافقين في جهنم و لادخلنهم فيها ابد الابدين، يا محمد انا انتقم من الذي يجتري عليّ و يستترك كلامي و يشرك بي و بصدّ الناس عن سبيلي و ينصب نفسه عجلا لامتك و يكفر بي اني قد امرت سكان سبع سمواتي من شيعتكم و محبيكم ان يتعيدوا في هذا اليوم الذي

ص:85

اقبضه اليّ فيه و امرتهم ان ينصبوا كراسي كرامتي بإذاء بيت المعمور و يثنوا عليّ و يستغفروا لشيعتكم من ولد آدم، يا محمد و امرت الكرام الكاتبين ان يرفعوا القلم عن الخلق ثلثة ايام من اجل ذلك اليوم و لا اكتب عليهم شيئا من خطاياهم كرامة لك و لوصيك يا محمد اني قد جعلت ذلك عيدا لك و لاهل بيتك و للمؤمنين من شيعتك، و آليت على نفسي بعزتي و جلالي و علوي في رفيع مكاني ان من وسع في ذلك اليوم على اهله و اقاربه لازيدنّ في ماله و عمره و لاعتقنه من النار و لاجعلنّ سعيه مشكورا و ذنبه مغفورا و اعماله مقبولة، ثم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدخل بيت ام سلمة فرجعت عنه و انا غير شاكّ في امر الشيخ الثاني حتى رأيته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد فتح الشر و اعاد الكفر و الارتداد عن الدين و حرّف القرآن.

اقول و ذكر صاحب الاستيعاب و هو من رجال العامة، قال ذكر الواقدي قال اخبرني نافع عن ابي نعيم عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير عن ابيه، قال غدوت مع عمر بن الخطاب الى السوق و هو متكي على يدي فلقيه ابو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقال الا تكلم مولاي يضع عنّي من خراجي، قال كم خراجك قال دينار قال ما أرى ان افعل لعامل محسن و ما هذا بكثير ثم قال له عمر الا تعمل لي رحى قال بلى قال فلما ولّى قال ابو لؤلؤة لاعملنّ لك رحى يتحدث بها ما بين المشرق و المغرب قال فوقع في نفسي قوله قال فلما كان في النداء لصلوة الصبح و خروج عمر الى الناس قال ابن الزبير و انا في مصلاي و قد اضطجع به ابو لؤلؤة فضربه بالسكين ست صنعات احديهن تحت سرته هي قتلته فصاح لعبد الرحمن بن عوف فقال قم فصلّ بالناس و احتملوا عمر فقالوا له لم لا تولي الخلافة لعلي بن ابي طالب قال ان ولّوها الاجلح (1)سلك بهم الطريق المستقيم يعني علي بن ابي طالب و قال له ابنه ما يمنعك ان تقدم عليا قال اكره ان اتحملها حيا و ميتا. اقول انظر الى هذا الجواب و الاعتذار و الاقرار منه حال موته بأنه قد كان متحملا للخلافة غير قابل لها و الا فلو كان من اهلها كان اعرف بمواقعها و لا كان يحتاج الى ذلك التلبيس المذكور في حكاية الشورى التي خربت بناء الاسلام و هدمت اركان الدين و احزنت سيد الموحدين، حيث قال في خطبة الشقشقية:

اما و اللّه لقد تقمصها فلان و انه ليعلم ان محلّي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل و لا يرقى اليّ الطير فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشها و طفقت ارتأي بين ان اصول بيد جدّاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى

ص:86


1- 35) جلح جلحا انحسر شعره عن جانبي رأسه فهو اجلح.

يلقى ربه، فرأيت ان الصبر على هاتا احجى، فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الاول لسبيله فأدلى بها الى فلان بعده.

شعر

شتّان ما يومي على كورها و يوم حيّان اخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقلها في حياته اذ عقدها لاخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّر اضرعيها فصيّرها في حوزة خشناء يلغظ كلمها (1)و يشخن مسها، و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خرم و ان ابليس لها تقحّم فمنى الناس لعمر اللّه بخبط و شماس و تلوّن و اعتراض، فصبرت على طول المدة و شدة المحنة حتى اذا مضى سلبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم فيا للّه و للشوري متى اعترض الريب فيّ مع الاول حتى صرت اقرن الى هذه النظائر، لكني اسففت اذ اسفوا و طرت اذا طاروا فصغي منهم رجل لضغنه و مال الاخر لصهره مع هن و هن الى ان قام ثالث القوم نافجا حضينه بين نثيله و معتلفه و قام معه بنو ابيه يخضمون مال اللّه تعالى خضم الابل نبتة الربيع الى ان انتكث عليه فقتله و اجهز عليه عمله و كبت به بطنته فما راعني الاّ و الناس كعرف الضبع اليّ ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان و شقّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالامر نكثت طائفة و مرقت أخرى و قسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه حيث يقول تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض و لا فسادا و العاقبة للمتقين بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها، و لكنهم حليت الدنيا في اعينهم و راقهم زبرجها اما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء الا يقاروا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لا لقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس اولها و لا لفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز (2)قال و قام اليه رجل من اهل السوّاد عند بلوغه الى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه فلما فرغ من قرائته قال له ابن عباس رضي اللّه عنه يا امير المؤمنين لو اطردت مقالتك من حيث افضيت، فقال هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت قال ابن عباس و اللّه ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على ذلك الكلام ان لا يكون امير المؤمنين عليه السّلام بلغ حيث اراد منه.

ص:87


1- 36) الكلم بمعنا الجرح كانه يقول خشونتها تجرح جرحا غليظا و في نسخة: كلامها بالضم الارض الغليظية:
2- 37) قال الشيخ محمد عبدة عقطة العنز ما تنثره من انفها كالعطفة عطفت تعطف من باب ضرب غير ان اكثر ما يستعمل ذلك ف النعجة و الاشهر في العنز النفطة بالنون يقال ما له عافط و لا نافط أي نعجة و لا عنز كما يقال ماله ثاغية و راغية و العفطة الحبقة ايضا لكن الاليق بكلام امير المؤمنين (عليه السّلام) هو ما تقدم.

اقول لا يخفى ما في هذه الخطبة البليغة من الذم لمن تقدمه من الثلاثة و من يكون على مثل هذه الحال كيف يكون قد رضى بأبي بكر و صاحبيه و بايعهما طوعا كما يقول جماعات العامة، و من هذا ذهب بعضهم الى ان هذه الخطبة من قول السيد الضري (ره) جامع نهج البلاغة، و يردّ هذا القول ان صاحب كتاب معاني الاخبار قد نقلها مسندة و مفسرة بتفسير الحسن بن سعيد العسكري و هو من اعيان الجمهور، و تاريخ وفات صاحب كتاب معاني الاخبار قبل ولادة المرتضى اخي الرضي الذي هو اكبر من الرضي رحمهما اللّه تعالى. و قد نقلها صاحب كتاب الغارات مسندة باسانيدهم، و تاريخ الفراغ من ذلك يوم الثلاثا لثلاث عشرة خلون من شوال سنة خمسة و خمسين و ثلثمائة و هذه هي السنة التي ولد فيها المرتضى الموسوي، و هو اكبر من أخيه الرضي كما عرفت و قد اعترف ابن ابي الحديد في الشرح انه اطلع عليها في نسخة تاريخها قبل ولادة الرضي مع ان طبقة كلامه عليه السّلام لا تخفى على من له معرفة بعلم البلاغة فان كلامه عليه السّلام كما قيل فوق كلام المخلوق و تحت كلام الخالق و حينئذ فلا بأس بالاشارة الى حلّ الفاظها و الا فبسط الكلام فيها يحتاج الى كتاب بانفراد.

قوله عليه السّلام اما و اللّه لقد تقمصها فلان، يعني ابا بكر لبس الخلافة متكلفا لها و ليس هو من اهلها و قوله عليه السّلام محل القطب من الرحى، معناه ان مدار الرحى و مناط عملها انما هو على القطب و لولاه لكانت الرحى صخرة موضوعة على صخرة لا ينتفع بها بوجه من الوجوه و قوله عليه السّلام ينحدر عني السيل شبّه علومه و حكمه الواصلة الى الناس بالماء الجاري من المحل المرتفع الى المكان المنخفض فالمراد بالسيل علومه و منافعه.

و قوله عليه السّلام و لا ترقى اليّ الطير معناه ان الطير لو اراد الطيران الى ادنى درجة من درجات كماله لم يبلغها، و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس، و قوله عليه السّلام فسدلت دونها ثوبا و طوبت عنها كشحا، معناه اني ارخيت بيني و بين الخلافة ثوبا و لم اطلبها، و كذا طوبت عنها كشحا معناه اني اعرضت عن طلبها اعراضا، و الكشح هو الخاصرة.

و قوله عليه السّلام و طفقت ارتأي بين ان اصول بيد جذّاء او اصبر على طخية عمياء، معناه اني شرعت انظر و أتأمل ان اصول بيد مقطوعة، و هو كناية عن قلة الناصر و المعين و الطخية الليلة المظلمة السوداء، و هي خلافة الثلاثة كما قال تعالى أَوْ كَظُلُمٰاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ، إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ، و قد ورد في الحديث تفسير الظلمات بخلافاتهم، قوله عليه السّلام يهرم فيها الكبير و يشبّ فيها الصغير معناه ان الكبير يسرع اليه الهرم كما ان الصغير يسرع اليه الشيب بسبب هذه

ص:88

الطخية العمياء و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه الكدح التعب أي المؤمن يتعب نفسه في هذه الطخية الى ان يلقى ربه.

و قوله عليه السّلام على هاتا احجى أي على الطخية اولى فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى، الشجى ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه و المراد به هنا المصيبة المانعة من لذل الاكل و الشرب و قوله عليه السّلام ارى تراثي نهبا، التراث الميراث و المراد به الخلافة فانها ميراثه من النبي صلّى اللّه عليه و آله و المراد ما هو اعمّ يتناول فدك و العوالي فانه بعد فاطمة عليها السّلام صار ميراثا، قوله عليه السّلام حتى اذا مضى الاول و هو ابو بكر لسبيله فادلى بها الى فلان يعني انه دفعها الى عمر بطريق النص و الوصية و قوله عليه السّلام شتّان، البيت و هو للاعشى يقول تفرق ما بين يومي يوم سروري و هو مناد متى لاخي حيّان، و يوم شدتي و ركوبي على متن ناقتي في البراري و القفار، فهو عليه السّلام قد استعار هذا ليوميه يوم فرحه لما كان نديمه النبي صلّى اللّه عليه و آله و يوم تعبه و هو يوم ركوبه المشاق و الحروب وحده بلا معاون و نصير.

و قوله عليه السّلام فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حيوته اذ عقدها لاخر بعد وفاته أي قوم اعجبوا عجبا، بين اوقات ابي بكر يقول اقيلوني اقيلوني فلست بخيركم و علي فيكم رواه الجمهور عن ابي بكر، اذ عقدها لعمر بعد وفاته، و في هذا دلالة على ان تلك الاستقالة كانت خدعة منه، و من ثم قال بعض المحققين معنى استقالته الامر بقتل علي بن ابي طالب عليه السّلام يعني ما دام علي فيكم موجودا فأنا لست بخيركم فاقتلوه حتى اكون انا الخليفة من غير منازع، و في هذا دلالة على مخالفة ابي بكر للنبي صلّى اللّه عليه و آله لانهم يزعمون ان النبي صلّى اللّه عليه و آله مات و لم يوص الى احد، و لا ريب ان هذا باعتقادهم كان هو الاولى حتى يكون الاختيار مفوضا الى الناس فكيف يصنع ابو بكر مثل صنعه ان هذا الا خلاف بيّن، و قوله عليه السّلام لشدّ ما تشطر اضرعها، شبّه عليه السّلام الخلافة بناقة لها ضرعان و كان كل واحد منهما أخذ منها ضرعا لنفسه يحلب منه.

و قوله عليه السّلام فصيرها في حوزة خشنا الحوزة الطبيعة و المراد ان صاحب تلك الطبيعة فظّ غليظ القلب و قوله يغلظ كلمها معناه ان تلك الطبيعة يعظم جرحها و هو كناية عن ايذائه المؤمنين و يكثر العثار فيها أي يقع في الاحكام الشرعية في زمن خلافة الثاني عثار كثير و هو الغلط في الاحكام حتى كان يتعذر من كثرة اغاليطه بقوله كل الناس افقه من عمر حتى المخدرات تحت الحجال، و قوله لو لا علي لهلك عمر في سبعين موضعا قوله عليه السّلام فصاحبها كراكب الصعبة ان اشنق لها خرم و ان اسلس لها تقحم، يقال شنق البعير يشنقه أي كفه بزمامه حتى الزق ذفراه بقادمة الرجل، و المعنى ان صاحب تلك الطبيعة الخشنة التي يكثر منها العثار في الاحكام و الاعتذار عن الغلط في المسائل كراكب الصعبة ان كفها بزمامها خرم و شقه لانها لا تقف بسهولة

ص:89

و ان ارخى لها الزمام اسلسها تقحم في اودية الهلاك، و هذه طبيعة المتخلف الثاني مع انه لم يرد كفها و هي كالناقة الصعبة فلا جرم رمت به في وادي الضلال.

و قوله عليه السّلام فمنى الناس لعمر اللّه بخبط و شماس و تلون و اعتراض منى على المجهول بمعنى ابتلى يقال منى بكذا ابتلى به، و الخبط مسّ الشيطان و الشمّاس الامتناع من قبول الحق بسبب تسويلات عمر و وساوسه لهم، و التلون عدم الثبوت على هيئة و صفة واحدة و الاعتراض المنع و الاصل فيه ان الطريق اذا اعترض فيه بناء او غيره منع السائلة من السلوك و هو قد اعترض لهم في طريق الحق فمنعهم عن سلوكه قوله عليه السّلام فصبرت على طول المدة و شدة المحنة حتى اذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم.

و طول مدة خلافتهما هو ان مدة خلافة ابي بكر سنتان و ستة أشهر و ايام و مدة خلاقة الثاني عشر سنين فصبر عليها فلما اراد اللّه ان يقبضه الى ما هيأ له من اليم العذاب جعل عمر الخلافة في ستة رجال و جعل عليا عليه السّلام منهم، و هي علي عليه السّلام و سعد بن ابي و قاص و عبد الرحمن بن عوف و الزبير و طلحة و عثمان، و دعا ابا طلحة زيد بن سعد الانصاري فقال له كن في سبعين (خمسين خ ل) رجلا من قومك فاتقل من ابى ان يرضى ان يكون من هؤلاء الستة و ان اختلفوا فالحق في القوم الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقال العباس لعلي بن ابي طالب عليه السّلام ذهب الامر منا لان عبد الرحمن كانت بينه و بين عثمان مصاهرة و امور توجب انه لا يختار عليه احدا فقال علي عليه السّلام انا اعلم ذلك و لكن ادخل معهم في الشورى لا عمر قد استصلحني الان للخلافة، و كان يقول من قبل ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال ان النبوة و الامامة لا تجتمعان في بيت واحد، و اني ادخل في ذلك ليظهر انه كذب نفسه، لما روى اولا و كان مقصد عمر من هذه الشورى قتل علي بن ابي طالب عليه السّلام لعلمه بأنه لا يطيع عبد الرحمن بن عوف، فانظر الى شدّة عداوته لاهل البيت عليهم السّلام و من جملة مكائده في هذه الوصية انه لم يوص الى ابنه عبد اللّه بن عمر و قيل له في ذلك فقال انه لم يعرف يطلق زوجته فكيف اوليه الخلافة و كان اخراجه مكيدة على الناس و باعثا لهم على قبول الشورى.

و قوله عليه السّلام فيا للّه و للشورى متى اعترض الريب فيّ مع الاول حتى صرت اقرن الى هذه النظائر، أي فيا رب انت المغيث و المعين و المخلصّ من شدة الشورى و مشقتها يا رب و اين انا من الشورى و ما لي و للشورى متى اعترض الشك فيّ بمساواة ابي بكر حتى قرنني عمر بمن هو ادنى منه و من صاحبه الاول و قوله عليه السّلام لكني اسففت اذ اسفوا و طرت اذا طاروا اسف الرجل أي تتبع مداق الامور و هرب من صاحبه و طلب الامور الدنية، و المعنى انهم حين ارادوا المكر و الخدعة تابعتهم تقية من القتل و طرت معهم الى مطالبهم لما طاروا تقية ايضا.

ص:90

قوله عليه السّلام فصنعي منهم رجل لضغنه أي مال رجل من اهل الشورى و هو سعد بن ابي وقاص من الحق الى الباطل لحقده و حسده لعلي عليه السّلام فمال عنه الى عثمان، و مال الاخر لصهره مع هن و هن أي مال الرجل الاخر و هو عبد الرحمن بن عوف لمصاهرة بينه و بين عثمان مال اليه لانه كان زوجا لاخت عثمان من امه، و هي كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط، و هذا الميل ايضا ليس لمجرد المصاهرة بل كان معه شيء من البغض و الحسد لعلي عليه السّلام، و هو المراد بقوله و هن و هن أي مع شيء شيء.

قوله عليه السّلام الى ان قام ثالث القوم نافجا حضينه بين نثيله و معتلفه يعني حتى بايعوا عثمان و قام بأمر الخلافة منتفخا جنبيه من البغض و الحسد او من الاكل و الشرب و النثيل الروث و المعتلف الاكل و معناه ان غرض عثمان و حاجته الاكل و الروث يعني يأكل و يروث.

و قوله عليه السّلام و قام مه بنو ابيه يخضمون مال اللّه تعالى خضم الابل نبتة الربيع أي اتفق مع عثمان بنو ابيه و هم بنو امية بن عبد الشمس يأكلون مال اللّه تعالى من غير مبالات كأكل الابل نبات الربيع، كان يصرف مال اللّه تعالى على نفسه و على اقاربه حتى انه اعطى منه اصهاره اربعمائة الف درهم حتى وصل الامر الى ان قال له المهاجرون و الانصار اما تخلع نفسك من الخلافة او نقتلك فاختار القتل على خلع نفسه فقتلوه و كان مطروحا في خندق اليهود الى ثلاثة ايام فلا يستحل احد دفنه و لا يقدم احد على ذلك خوفا من المهاجرين و الانصار حتى نهبه بنو امية و دفنوه و قيل كان مطروحا في مزبلة اليهود ثلاثة ايام حتى اكلت الكلب احدى رجليه فاستأذنوا عليا عليه السّلام فأذن في دفنه و هذا الذي في المدينة هو عثمان بن مظعون لا عثمان بن عفان، فان قبره الان غير معلوم.

قوله عليه السّلام الى ان انتكت عليه فتله و اجهز عليه عمله و كبت به بطنته النكت هو النقض و البطنة كثرة الاكل قوله عليه السّلام فما راعني الا و الناس اليّ كعرف الضبع ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان و شقّ عطفاي أي اعجبني امر مثل هذا الامر و هو اجتماع الناس على بيعتي و تواليهم و ازدحامهم مثل عرف الضبع و ينثالون بمعنى ينصبون عليّ كانصباب الماء و شقّ عطفاي أي شق جانبا ثوبي من كثرة ازدحام الناس.

قوله كربيضة القنم أي كاجتماع الغنم حول راعيها و قوله عليه السّلام فنكث طائفة و مرقت اخرى و قسط آخرون أي نقض بيعتي و هم اهل البصرة و مرقت أخرى و هم اهل النهروان و قسط آخرون و هم اهل صفين و قد اخبره النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله انك يا علي ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين، رواه العامة و الخاصة قوله عليه السّلام لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما اخذ اللّه على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم و لا سغب مظلوم أي لو لا حضور الحاضر لاجل بيعتي

ص:91

و قيام الحجة على سبب وجود المعين و الناصر، و لو لا ما اخذ اللّه على العلماء ان لا يقاروا أي لا يلبثوا و لا يداهنوا على ظلم الظالمين و الكظة بالكسر البطنة و شيء يعترى من امتلاء البطن و لا سغب مظلوم أي على جوعه و تعبه الذي اصابه من ظلم الظالم.

قوله عليه السّلام لالقيت حبلها على غاربها هو جواب الشرط أي لتركت الخلافة او الامة و لالقيت زمامها على ظهرها قوله عليه السّلام و لسقيت آخرها بكأس اولها أي لخليتهم يشربون من كأس الحيرة و الجهالة بعد عثمان كما شربوه اولا في زمن الثلاثة و قوله عليه السّلام و تلك شقشقة هدرت، الشقشقة بالكسر شيء كالسرية يخرجه البعير من فيه اذا هاج، شبه هذه الخطبة بها لانها انما صدرت منه حين هاجت نفسه الشريفة من ظلم الظالمين (1).

و اما الكتاب الذي دفعه الرجل الى امير المؤمنين عليه السّلام فروى انه قد كان فيه عدة مسائل منها انه سئله ما الحيوان الذي خرج من بطنه حيوان آخر و ليس بينهما نسب فأجابه بأنه يونس بن متى خرج من بطن الحوت، و منها ما الشيء الذي قليله مباح و كثيره حرام، فقال عليه السّلام نهر طالوت لقوله تعالى إِلاّٰ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، و منها ما العبادة التي ان فعلها احد استحق العقوبة، و ان لم يفعلها ايضا استحق العقوبة فاجاب بانها صلاة السكارى، و منها ما الطائر الذي لا فرخ له و لا اصل و لا فرع، فقال هو طائر عيسى عليه السّلام في قوله تعالى وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهٰا. فلينظر الى هذا الخطبة و ما اشتملت عليه من الشكاية ممن تقدمه، و العجب العجيب من جماعة المخالفين كيف احبوا عليا و عمر و كيف جمعوا بين حب علي و عمر في قلب واحد مع ان حبهما مما لا يجتمعان ابدا كما سيأتي تحقيقه، و اعجب من هذا دعواهم حب علي معاوية و اعتقادهم الخبر في كليهما مع ان كل واحد منهما قد كفّر الاخر و استحل قتله، و لعمرك لو تمكن معاوية في حرب صفين من قتل علي عليه السّلام لقتله بيده كما ان ولده الخبيث لما تمكن من قتل ولده الحسين عليه السّلام قتله و اسر حريمه و فعل فعلته الشنيعة، و لكن جوابهم انهما مجتهدان قد اخطأ واحد منهما، و يقولون المخطي هو معاوية لكن المجتهد المخطي لا عقاب عليه في اجتهاده الخطأ.

فنقول لهم اولا ان معاوية كان اعلم منكم بأحوال علي عليه السّلام و استحقاقه الخلافة لان الخلافة عند كافة المسلمين طريق ثبوتها، اما النص كما يقوله الامامية او الاجماع كما تقولونه انتم و بعد قتل عثمان لم يحصل الاتفاق و البيعة الا لعلي عليه السّلام فهو بعد عثمان خليفة واجب الطاعة باجماع كل المسلمين و معاوية كان اعرف بهذا الامر من كل احد، و قد رويتم انتم في اخباركم عن معاوية طرفا وافرا من علمه و اظهاره و استحقاق علي عليه السّلام الخلافة دونه و كذا علم اكابر اصحابه

ص:92


1- 38) و سميت هذه الخطبة الشريفة بالشقشقية لقوله عليه السّلام فيها انها شقشقت هدرت ثم قرت.

مثل عمرو بن العاص و اشباهه كما رويتم في كتبكم عن عدي بن ارطأة قال قال معاوية يوما لعمرو بن العاص يا ابا عبد اللّه ايّنا ادهى قال عمرو انا للبديهة و انت للروية قال معاوية لي على نفسك و انا ادهى منك في البديهة، قال عمرو فأين دهاؤك يوم رفعت المصاحف، قال بها غلبتني يا ابا عبد اللّه أ فلا اسألك عن شيء تصدقني فيه، قال و اللّه ان الكذب لقبيح فسل عمّا بدا لك اصدقك، فقال هل غششتني منذ نصحتني قال لا قال بلى و اللّه لقد غششتني اما اني لا أقول في كل المواطن و لكن في موطن واحد قال و اي موطن هذا قال يوم دعاني علي بن ابي طالب للمبارزة فاستشرتك فقلت ما ترى يا ابا عبد اللّه فقلت كفو كريم فأشرت عليّ بمبارزته و أنت تعلم من هو فعلمت انك غششتني قال يا امير المؤمنين دعاك رجل الى مبارزته عظيم الشرف جليل الخطر فكنت من مبارزته على أحد الحسنيين اما ان تقتله فتكون قد قتلت قتّال الاقران و تزداد شرفا الى شرفك و تخلو بملكك و اما ان تعجل الى مرافقة الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا، قال معاوية هذه اشر من الاولى و اللّه اني لا علم اني لو قتلته دخلت النار و لو قتني دخلت النار قال له عمرو فما حملك على قتاله قال الملك عقيم و لن يسمعها مني احد بعدك فهذا اعتراف صريح من معاوية بأن عليا عليه السّلام هو القابل للخلافة و هي له.

و قد قال له عمرو بن العاص قصيدة (1)في وصف حاله مع معاوية لما وعده معاوية امارة مصر كذب عليه اولها:

معاوية الحال لا و عن سنن الحق لا

الى ان قال:

و علمتكم كشف لردّ الغضنفرة المقبل

و قلت لكم ان عليها المصاحف

و لولاي كنت شبيه تعاف الخروج من

خلعت الخلافة من محل النعال من

ص:93


1- 39) هي القصيدة المسماة بالجلجلية كتبها عمرو بن العاص الى معاوية بن ابي سفيان في جوابه كتابه اليه يطلب خراج مصر و يعاتبه على امتناعه عنه و لما سمع معاوية هذه الابيات لم يتعرض له بعد ذلك و تسمى بالجلجلية لما فيها في آخرها: (ففي عنقي علق الجلجل) مثل يظرب انظر لسان العرب ج 13 ص 129 ط مصر و [1]الجلجل الجرس الصغير يعلق في اعناق الدواب و نقل تلك القصيدة برمتها حضرة العلامة الكبير شيخنا الاميني دام ظله في كتابه القيم النفيس الغدير) [2]ج 2 ص 114 و ذكر. ترجمة عمرو بن العاص بن وائل الابتر ابن الابتر شاني محمد و آل محمد في الجاهلية و الاسلام واحد دهات العرب الخمس الذين منه دئت الفتن و اليه تعود انظر من صفحة (120) الى (176) تجد ترجمة مفصلة على نحو التحقيق و التحليل.

و البستها فيك يا ابن كلبس الخواتيم في

و لا لك فيها و لا ذرة و لا لجدودك من

و رقيتك المنبر بلا جذب سيف و لا

و كم قد سمعنا من وصايا مخصصة في

و في يوم خمّ رقى و بلّغ و الصحب لم

و امنحه أمرة فنال بها شرف

و في كفه كفه معلنا ينادي باسم العزيز

فمن كنت مولاه علي له الان نعم

فوال مواليه يا ذا و عاد معادي اخي

الى ان قال:

فان قيل بينكما نسبة فأين الحسام من

و اين الثريا و اين و اين معاوية من

و قد بدت تذرق حذار (1)الغضنفرة

و على نحو هذه الابيات من مدح علي عليه السّلام و ذمّ معاوية و هي قصيدة طويلة قال في آخرها:

فان أك فيها بلغت ففي عنقي علّق

و اما ثانيا فلأن اجتهاد معاوية قد قتل في معركة واحدة على ما تقدم ستين الفا من عسكره و عشرين الفا من عسكر علي عليه السّلام فاذا كان صاحب هذا الاجتهاد معذورا فلم لا تعذروا الشيعة في لعن عمر و صاحبيه فان مجتهديهم قد اجتهدوا في جواز هذا السب و اللعن و جوّزوه بل ربما صرّح بعضهم بوجوبه و توجيهه ان اللّه سبحانه قد كلفنا بالتوحيد و الاقرار بالرسالة و الامامة فان هذه الثلاثة من اركان الدين.

فاما الوحيد فهو مركب من ايجاب و سلب تجمعهما كلمة التوحيد و هي لا اله الا اللّه فاما من قال ان اللّه اله و لكن له شريك فهو مشرك ليس بمسلم بالاجماع، و كذا رسالة النبي صلّى اللّه عليه و آله مركبة من ايجاب و سلب ايضا، و هو ان محمدا رسول اللّه و انّ من ادعى الرسالة غيره ليس بنبي مثل مسيلمة الكذاب و نحوه فمن شرّك بينهما لا يكون مسلما ايضا و كذلك الامامة تابعة لهما في التركيب، فيجب على القائل بها ان يقول عليّ هو الخليفة و الامام و ان من ادعى الخلافة غيره ليس بامام، بل هو كاذب فكما يجب علينا التبري من الاصنام و لعنها و لعن من اتخذه الهة و كذا (40) المنجل بكسر الميم ما يحصد به الزرع.

ص:94


1- 41) حذارا من البطل المقبل خ ل.

يجب التبري من مسيلمة و لعنه يجب ايضا التبرئ و اللعن على من ادعى الامامة و ليس لها بأهل فكما عذرتم معاوية في ذلك الاجتهاد الذي سفكت فيه الدماء فاعذروا الشيعة في هذا الاجتهاد و ان كان خطاء و لا تقولون بأن من ثبت انه لعن واحدا من الخلفاء الثلاثة وجب احراقه لان هذا منكم محض عناد و تعصب فان معاوية سبّ عليا عليه السّلام على المنابر و قذف فاطمة و استمر السب و القذف ثمانين سنة الى خلافة ابن عبد العزيز حتى كان هو الذي رفعه بلطائف الحيل فاذا جاز مثل هذا بالاجتهاد جاز للشيعة ما قلناه ايضا بالاجتهاد.

و من العجب ان كل متخلف من خلفاء الجور قد زاد على الاول في مخالفته للنبي صلّى اللّه عليه و آله اما ابو بكر فقد خالفه بالنص على عمر فأنهم يزعمون ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم ينص على احد و اما عمر فقد خالف النبي صلّى اللّه عليه و آله و خالف شيخه ابا بكر في امر الشورى بل كان الواجب عليه متابعة احدهما، و اما عثمان و معاوية فقد زاد على الكل و ليت شعري اذا كان صلاح الامة في ترك النص على واحد بزعمكم كما تقولونه بالنسبة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فكيف ابو بكر لم يراع هذا الاصلح و لم يترك النص على عمر اقتداء بالنبي صلّى اللّه عليه و آله ما هذا الا عجب عجيب و امر غريب.

و مما يناسب هذا المقام نقل حديث و نقل بعض الاشعار اما الحديث فقد رواه رئيس المحدثين محمد بن يعقوب (ره) باسناده الى يونس بن يعقوب قال كان عند ابي عبد اللّه الصادق عليه السّلام جماعة من اصحابه فيهم حمران بن اعين و مؤمن الطاق و هشام بن سالم و الطيّار و جماعة من اصحابه فيهم هشام بن الحكم و هو شاب، فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام يا هشام قال لبيك يا ابن رسول اللّه قال الا تحدثني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته، قال هشام جعلت فداك يا ابن رسول اللّه اني اجلّك و استحييك و لا يعمل لساني بين يديك فقال ابو عبد اللّه الصادق عليه السّلام اذا امرتكم بشيء فافعلوه، قال هشام بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة و عظم ذلك عليّ فخرجت اليه و دخلت البصرة في يوم الجمعة فأتيت المسجد فاذا انا بحلقة كبيرة و اذا انا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متزر بها عن صوف و شملة مرتد بها و الناس يسألونه فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت ايها العالم انا رجل غريب أ تأذن لي فأسألك عن مسألة، قال نعم قال قلت له أ لك عين قال يا بني أي شيء هذا من السؤال فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل و ان كانت مسألتك حمقا، قلت اجبني فيها قال فقال سل قلت أ لك عين قال نعم قلت فما ترى بها قال الالوان و الاشخاص، قال قلت أ لك أنف قال نعم قال قلت له فما تصنع به قال أعرف به طعم الاشياء قال قلت أ لك لسان قال نعم قلت فما تصنع به قال أتكلم به قال قلت أ لك أذن قال نعم قلت و ما تصنع به قال أسمع به الاصوات، قال قلت أ لك يد قال نعم قلت و ما تصنع بها قال ابطش بها قلت أ لك قلب قال نعم قلت و ما تصنع

ص:95

به قال أميّز به كل ما ورد على هذه الجوارح، قال قلت أ فليس في هذه الجوارح غنى عن القلب قال لا قلت و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة قال يا بني أن الجوارح اذا شكت في شيء شمّته او رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته الى القلب فتتيقن اليقين و يبطل الشك قال قلت انما أقام اللّه القلب لشك الجوارح قال نعم قال فقلت يا ابا مروان ان اللّه تبارك و تعالى ذكره لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح و تيقن ما شكّ فيه و يترك هذا العالم كله في حيرتهم و شكهم و يقيم لك إماما لجوارحك ترد اليه حيرتك و شكك قال فسكت و لم يقل شيئا.

قال ثم التفت اليّ فقال أنت هشام فقلت لا فقال لي أجالسته قلت لا قال فمن أين، قلت من اهل الكوفة فقال اذا هو ضمني اليه و اقعدني في مجلسه و ما نطق حتى قمت فضحك ابو عبد اللّه عليه السّلام ثم قال يا هشام من علّمك هذا قال قلت يا ابن رسول اللّه جرى على لساني، قال يا هشام هذا و اللّه مكتوب في صحف ابراهيم و موسى.

اقول من الامور الغريبة ان واحدا من جماعات المسلمين لو كان صاحب اولاد و عيال و اطفال فمات و لم يوص الى أحد يتكفل احوالهم و ضبط اموالهم لذمه العقلاء من اهل عصره كما هو المعروف الان فكيف جاز للنبي صلّى اللّه عليه و آله ان يخرج من الدنيا و يدع هذه الامة الكثيرة بلا راع و لا داع و لا وصي و لا و لي، ان هذا من الامر الطريف.

و اما الاشعار فهي ان الشيخ العالم العامل الشيخ صالح الجزائري كتب الى الشيخ المحقق خاتمة المجتهدين شيخنا الشيخ بهاء الدين تغمده اللّه برحمته كتابة هذا لفظها، ما قول سيدي و سندي و من عليه بعد اللّه و اهل البيت معولي و معتمدي في هذه الابيات لبعض النواصب بتر اللّه اعمارهم و خرّب ديارهم فالمأمول من انفاسكم الفاخرة و الطافكم الظاهرة ان تشرفوا خادمكم بجواب منظوم تكسر سورة هذا الناصب و شبهته و امثاله من الطغاة، نصر اللّه بكم الاسلام بمحمد و آله الكرام يقول:

أهوى عليا أمير المؤمنين و لا ارضى بسب ابي بكر و لا عمرا

و لا اقول اذا لم يعطيا فدكا بنت النبي رسول اللّه قد كفرا

اللّه يعلم ما ذا يأتيان به يوم القيامة من عذر اذ اعتذرا

فأجابه الشيخ بهاء الدين طاب ثراه الثقة باللّه وحده التمست ايها الاخ الافضل الصفي الوفي الالمعي الزكي و الذكي أطال اللّه بقال و ادام في معارج القرار تقاك الاجابة عما ذهر به هذا المخذول فقابلت التماسك بالقبول و طفقت أقول:

يا ايها المدّعي حب الوصي و لم تسمح بسب ابي بكر و لا عمرا

كذبت و اللّه في دعوى محبته تبّت يداك ستصلى في غد سقرا

ص:96

فكيف تهوى امير المؤمنين و قد اراك في سبّ من عاداه مفتكرا

فان تكن صادقا فيما نطقت به فابرأ الى اللّه ممن خات او غدرا

و أنكر النص في خم و بيعته و قال ان رسول اللّه قد هجرا

أتيت تبغي قيام العذر في فدك أ تحسب الامر بالتمويه مستترا

ان كان في غصب حق الطهر فاطمة ستقبل العذر ممن جاء معتذرا

فكل ذنب له عذر غداة غده و كل ظلم ترى في الحشر مفتقرا

فلا تقولوا لمن أيامه صرفت في سب شيخيكم قد ضلّ أو كفرا

بل سامحوه و قولوا لا نوأخذه عسى يكون له عذر اذا اعتذرا

فكيف و العذر مثل الشمس اذ بزغت و الامر متضح كالصبح اذ ظهرا

لكن ابليس اغواكم و صيركم عميا و صما فلا سمعا و لا بصرا

و حيث انتهى الحال الى هنا فلا بأس بذكر يوم الغدير و الكشف عنه.

نور غديري

يضمن حكاية يوم الغدير و نص النبي صلّى اللّه عليه و آله فيه على علي عليه السّلام بالخلافة و الامامة أعلم ان النص من اللّه و من رسوله صلّى اللّه عليه و آله على أمير المؤمنين عليه السّلام يوم الغدير مما تواتر عند شيعة أهل البيت عليهم السّلام نقلوه عن أئمتهم المعصومين عليهم السّلام بالاسانيد المتكثرة حتى بلغ حد التواتر و اهل البيت أدرى بما فيه كما أن أهل كل أمام هم اعلم بأقوال امامهم من غيرهم فأن اصحاب ابي حنيفة اعرف بمذهب ابي حنيفة من اصحاب الشافعي، و كذلك اصحاب الشافعي اعرف بمذهبه من غيرهم، و اما مخالفوهم فقد اختلفوا في التقصي عن يوم الغدير، فمنهم من انكره رأسا، و قال ام ذلك العام قد كان علي عليه السّلام في اليمن أرسله النبي صلّى اللّه عليه و آله لقبض الجزية من نصارى نجران، فهذا قد انكر يوم الغدير من اصله و هذا هو الذي ذهب اليه اكثر متأخريهم و بعضهم قال به و لكن قدح في دلالة الالفاظ على النص بتأويل ركيك سيأتي ان شاء اللّه.

اما الجواب عن انكاره فالظاهر انه غير محتاج اليه لان الاحكام الشرعية انما وصلت الينا و اليهم من صاحب الشرع باخبار الاحاد و وجب علينا العمل بمضمونها و خبر الغدير قد نقل بالتواتر الينا و اليهم اما من طرقنا فهو اجماعي و اما من طرقهم فمن خلع حبل التعصب عنقه و لم يتلفت على انا وجدنا اباءنا على امة، يظهر له تواتره ايضا، و قد صنف علماؤهم في يوم الغدير كتبا متعددة فممن صمف فيه ابو العباس احمد بن محمد بن سعيد الهمداني الحافظ المعروف بابن عقدة و هو ثقة عند ارباب المذاهب و جعل ذلك كتابا مجردا سمّاه حديث الولاية، و ذكر الاخبار

ص:97

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بذلك و اسماء الرواة من الصحابة و هذه اسماء من روى عنهم يوم الغدير، و نص النبي صلّى اللّه عليه و آله على علي بالخلافة و اظهار ذلك عند الكافة.

أبو بكر بن عبد اللّه، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن ابي طالب عليه السّلام، طلحة بن عبيد اللّه، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعيد بن مالك، العباس بن عبد المطلب، الحسن بن علي بن ابي طالب عليه السّلام، الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السّلام، عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب، عبد اللّه بن مسعود، عمار بن ياسر، ابو ذر جندب بن جنادة الغفاري، سلمان الفارسي، اسعد بن زرارة الانصاري، ابو ايوب خالد بن يزيد الانصاري، سهل بن حنيف الانصاري، عثمان بن حنيف الانصاري، حذيفة بن اليمان، عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، البراء بن عازب، رفاعة بن رافع الانصاري، سمرة بن جندب، سلمة بن الاكوع السلمي، زيد بن ثابت الانصاري، ابو ليلى الانصاري، ابو قدامة الانصاري، سهل بن سعد الانصاري، عدي بن حاتم الطائي، ثابت بن زيد بن وديعة، سعد بن عجرة الانصاري، ابو الهيثم الهيّان الانصاري، هاشم بن عتبة بن ابي وقاص الزهري، المقداد بن عمرو الكندي، عمر بن ابي سلمة، عبد اللّه بن ابي عبد الاسد المخزومي، عمر بن حصين الخزاعي، بريدة بن الخضيب الاسلمي، جبلة بن عمرو الانصاري، ابو هريرة الدوسي، ابو برزة، نضلة بن عتبة الاسلمي، ابو سعيد الخدري، جابر بن عبد اللّه الانصاري، جرير بن عبد اللّه، زيد بن ارقم الانصاري، ابو رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ابو عمير بن عمرو بن محصن الانصاري، انس بن مالك الانصاري، ناجية بن عمرو الخزاعي، ابو زينب بن عوف الانصاري، يعلى بن مرة الثقفي، سعيد بن سعد بن عبادة الانصاري، حذيفة بن اسيد ابو سريحة الغفاري، عمرو بن الحمق الخزاعي، زيد بن حارثة الانصاري، مالك بن الحوريث، ابو سليمان جابر بن سمرة السوراني، عبد اللّه بن ثابت الانصاري، عبد اللّه بن أبي اوقر الاسلمي، يزيد بن شراحيل الانصاري، عبد اللّه بن يسر المازني، النعمان بن العجلان الانصاري، عبد الرحمن بن يعمر الديلمي، ابو الحمراء خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ابو فضالة الانصاري، عطية بن بشر المازني، عامر بن ليلى الغفاري، ابو الطفيل عمرو بن وائلة الكناني، عبد الرحمن بن عبد ربه الانصاري، حسان بن ثابت الانصاري، سعيد بن جنادة العوفي، عامر بن عمير النموي، عبد اللّه بن باميل، حية بن خوبه العوني، عقبة عامر الجهني، ابو دبب الشاعر، ابو شريح الخزاعي، ابو حجيفة وهب بن عبد اللّه السوني، ابو امامة الصيدي بن عجلان الباهلي، عامر بن ليلى بن ضمرة، جندب بن سفيان العجلي، اسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، وحش بن حرب، قيس بن ثابت الانصاري، عبد الرحمن مديح، حبيب بن بديل الخزاعي، فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عائشة بنت ابي بكر ام المؤمنين، ام هانئ بنت ابي طالب، فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب،

ص:98

اسماء بنت عميس الخثعمية، ثم ذكر ابن عقدة ثماني و عشرين رجلا من الصحابة لم يذكر اسماؤهم ايضا.

و قد صنف ابو سعد مسعود بن ناصر السجستاني كتاب دراية حديث الولاية و هو شبعة عشر جزء و هو من اوثق رجال الاربعة المذاهب و قد كشف عن يوم الغدير و نص النبي صلّى اللّه عليه و آله على علي بالخلافة بعده و رواه عن مائة و عشرين نفسا من الصحابة منهم ست نساء و عدد اسانيد هذا الكتاب على ما قاله صاحب الطرائف ألف و ثلثمائة و خمسة و ثلاثون اسنادا و قد كان هذا في حجة الوداع و هي آخر ما كان له من المواقف و الاسفار فنعي الى المسلمين نفسه و عرفهم انه قد قرب انتقاله، فأقام باقي ذي الحجة و محرما و توفي في صفر و قيل في ربيع الاول، و قد روى حديث يوم الغدير محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس و سبعين طريقا، و أفرد له كتاب سمّاه كتاب الولاية ذكر أنه انما صنفه للرد على الحرقوصية يعني الحنبلية لان احمد بن حنبل من ولد حرقوص بن زهير الخارجي.

و ممن صنف في حديث يوم الغدير الحاكم عبد اللّه بن عبيد الحسكاني كتابا سمّاه كتاب دعاة الهداة الى اداء حق الموالاة، و ذكر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الاقتصاد و غيره انه قد روى خبر يوم الغدير من مائة و خمسة و عشرين طريقا، و رواه ايضا أحمد بن حنبل في مسنده من خمسة عشر طريقا، و رواه الفقيه بن المغازلي في كتاب المناقب من اثني عشر طريقا، و قال ابن المغازلي بعد رواياته لخبر يوم الغدير هذا حديث صحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد روى حديث غدير خم من نحو مائة نفس منهم العشرة و هو حديث ثابت تفرد علي بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد هذا كلامه، فمن روايات الفقيه ابن المغازلي في كتاب المناقب باسناده الى جابر بن عبد اللّه الانصاري، قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمنى و اني لادناهم في حجة الوداع قال لالفينكم ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض و ايم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم ثم التفت الى خلفه فقال أو علي أو علي ثلاثا فرأينا ان جبرئيل عليه السّلام غمزه فأنزل اللّه تعالى على أثر ذلك فاما نذهبن بك فانا منهم منتقمون بعلي بن ابي طالب الى آخر الحديث.

و من ذلك ما رواه ايضا الفقيه الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب باسناده الى الوليد بن صالح عن زيد بن ارقم، قال اقبل نبي اللّه في حجة الوداع حتى نزل بغدير الحجفة بين مكة و المدينة فأمر بالدرجات فقمّ ما تحتهن من شوك ثم نادى الصلاة جامعة فخرجنا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم شديد الحر و ساق الحديث الى ان قال ثم أخذ بيد علي عليه السّلام فرفعها فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و من كنت نبيه فهذا وليه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه قالها ثلاثا.

ص:99

و من ذلك ما رواه ابو بكر بن مردويه الحافظ عندهم باسنادهم الى ابي سعيد الخدري ان النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم دعا الناس الى غدير خم امر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمّ و ذلك يوم الخميس ثم دعا الناس الى علي عليه السّلام فأخذ بضبعيه فرفعها حتى نظر الناس الى بياض إبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يتفرقا حتى نزلت هذه الاية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اللّه اكبر على اكمال الدين و رضى الرب برسالتي و الولاية لعلى عليه السّلام ثم قال اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والي من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و أخذل من خذله الحديث و كذلك رواه ابو سعيد مسعود بن نصار الحافظ السجستاني و من ذلك ما رواه ابن المغازلي في كتابه ايضا باسناده الى ابي هريرة قال من صام يوم ثماني عشرة من شهر ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا و هو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيد علي بن ابي طالب فقال أ لست أولى بالمؤمنين من انفسهم، قالوا بلى يا رسول اللّه قال من كنت مولاه فعلي مولاه فقال عمر بن الخطاب بخ بخ لك يا ابن ابي طالب اصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، فأنزل اللّه تعالى اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً، و لو استقصينا الاخبار التي نقلها الجمهور في باب يوم الغدير لافضى الى تطويل الكتاب.

و اما التأويل فقد قاله اكثر محققيهم، و حاصله ان المولى قد ورد في اللغة لمعان منها الناصر، و منها المحب و منا الاولى من كل أحد كما يقال مولى العبد و حينئذ فقوله صلّى اللّه عليه و آله من كنت مولاه فعلي مولاه أي من كنت ناصره فعلي ناصره فلا يستلزم الاولوية المطلقة و الجواب عن هذا ظاهر فان هذا القول منه صلّى اللّه عليه و آله انما صدر بعد ان قال للناس أ لست اولى بكم من انفسكم كما في الروايات من العامة و الخاصة، و حينئذ فقوله صلّى اللّه عليه و آله من كنت مولاه فعليّ مولاه منزّل على تلك الاولوية لانتظامها معها في سياق واحد مع ان هذا المعنى الذي قالوه لا يحتاج الى هذا التأكيد العظيم في ذلك الحر الشديد، و ليس هو من خصائص علي عليه السّلام لانه يجب على كل مؤمن ان يجب و ينصر من أحبه و نصره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و لو سلّمنا انه اراد الناصر كما زعمتم فالنصرة لا يمكنه اجراؤها الا اذا رجعت الامور اليه و كان هو الخليفة، حتى يتمكن من نصر من نصره النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا كان يدع عثمان يخرج ابا ذر من المدينة و يفعل ما فعل، و كذلك من تقدمه من المتخلفين و لكن باب التأويل واسع و لو فرضت ان النبي صلّى اللّه عليه و آله نص على علي عليه السّلام بأصرح من هذه الالفاظ لامكن تأويلها، و حيث انجرّ الكلام الى هنا فلنذكر الصلوة على محمد و آله و كذا لعن اعدائهم.

ص:100

نور صلواتي

يكشف عن الصلوة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و لواحقها، روى العامة و الخاصة في تفسير قوله تعالى إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً قالت الصحابة يا رسول اللّه قد علمنا السّلام عليك، فكيف الصلوة عليك قال قولوا اللهم صلّ على محمد و آل محمد كما صليت على ابراهيم و آل ابراهيم انك حميد مجيد، و بارك على محمد و آل محمد كما باركت على ابراهيم و آل ابراهيم انك حميد مجيد، رواه الثعلبي في تفسيره و الحميدي في الجمع بين الصحيحين و البخاري في الجزء السادس و مسلم في الصحيح و هذه هي الكيفية الكاملة للتصلية و ادنى ما يجزي اللهم صلّ على محمد و آل محمد و صلّى اللّه على محمد و آل محمد و نحوهما.

و اما وجوب الصلوة عليه اذا ذكر أو استحبابها ففيه خلاف بين الاصحاب و الذي دلّت عليه الاخبار الصحيحة هو الوجوب كلما ذكره ذاكر سواء اتحد مجلس الذكر او تعدد و سواء صلّى عليه سابقا لا سواء ذكر باسمه او بقلبه او بكنيته، بل و بالضمير الراجع اليه فانه كناية عنه.

روى الكليني و غيره بالاسانيد المتكثرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال من ذكرت فلم يصلّ عليّ دخل النار فأبعده اللّه، فجيب الصلوة عليه عند ذكره و لو كان السامع مشغولا بالصلوة الواجبة قطعها و صلّ عليه كما جاء في الرواية و هي على ما صلى. و اما صلاة المخالفين و بعض صلاة عوام الشيعة و هي الصلوة عليه وحده بدون ضمّ الآل فهي صلاة لا يقبلها اللّه سبحانه و لا هي الكيفية المأمور بها، روى بالاسانيد المعتبرة عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قل لا تصلوا عليّ الصلوة البتراء، فقالوا يا رسول اللّه و ما الصلوة البتراء قال ان تقولوا اللهم صلّ على محمد بل قولوا اللهم صلّى على محمد و آل محمد و سمع الصادق عليه السّلام رجلا يقول اللهم صلّ على محمد فقال الصادق عليه السّلام لا تبترها و لا تلظمنا حقنا قل و آل محمد.

و في صحيح الاخبار انه قال من صلّى عليّ و لم يصلّ على آلي لم يجد ريح الجنة و ان ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام، و قال صلّى اللّه عليه و آله اذا صلّى عليّ و لم يتبع بالصلوة على اهل بيتي كان بينها و بين السماء سبعون حجابا يقول اللّه عزّ و جل لا لبيك و لا سعديك، يا ملائكتي لا يصعدوا دعائه الا ان يلحق بنبيي عترته فلا يزال محجوبا حتى يلحق بي اهل بيتي.

و اما ثواب الصلوة عليه فقد روى عنم المعصومين عليهم السّلام ما لا يكاد يدخل تحت قلم الضبط، منها ما رواه ابو بصير عن الصادق عليه السّلام قال اذا ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله فاكثروا الصلوة عليه فانه من صلّى على النبي صلّى اللّه عليه و آله صلاة واحدة صلّى اللّه عليه في الف صفّ من الملائكة، و لم يبق

ص:101

شيء مما خلقه اللّه الا صلّى على ذلك العبد لصلوة اللّه عليه و صلاة ملائكته، فمن يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ اللّه منه و ملائكته و رسوله.

و ينبغي ان تكتب الصلوة لا بلفظ الرمز كما هو المتعارف في هذه الاعصار، قال شيخنا الشهيد الثاني قدس اللّه روحه الو من كتب صلعم قطعت يده و اقلّ ما في الاخلال بها تفويت الثواب العظيم عليها، فقد ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قل من صلّى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب انتهى.

و في الروايات انه لما نظر آدم الى حوا قال يا رب زوجني منها فقال جل اسمه هات مهرها يا آدم، فقال آدم يا رب ما اعلم قال اللّه تعالى يا آدم صلّ على محمد و آل محمد عشر مرات، فصلّى آدم كما أمره اللّه جلّ جلاله فزوجه بها، فاذا كانت الصلوة مهر حوا فكيف لا يكون مهر الحور العين.

و في الروايات ايضا ان اللّه تعالى قد خلق ملائكة سيّاحين في الارض و ليس لهم غرض إلاّ تبليغ النبي صلّى اللّه عليه و آله صلاة من يصلي عليه صلّى اللّه عليه و آله في اطراف الارض يقولون له يا رسول اللّه فلان قد بلّغك السّلام و الصلوة، فيقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و على فلان الصلوة و السّلام و كذلك يبلّغونه زيارات الزائرين كما يبلغون الائمة عليهم السّلام صلوات المصلين و زيارات الزائرين و سلام المسلّمين، و روى ايضا ان اللّه سبحانه قد خلق ريحا تبلّغ النبي صلّى اللّه عليه و آله سلام المسلّمين و صلاة المصلين.

و روى ابو سعيد في كتاب الوفي لشرف المصطفى عن علي عليه السّلام انه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اكثروا عليّ الصلوة قلت و هل تبلغك الصلوة بعد ان تفارقنا، قال نعم يا علي ان اللّه تبارك و تعالى و كلّ بقبري ملكا يقال له صلصائيل و هو في صورة الديك متن عرفه تحت عرش الرحمن و مخاليبه في تخوم الارض السابعة، له ثلاث اجنحة اذا نشرها و احداها بالمشرق و الاخر بالمغرب و الاخر منتشر على ارض قبري فاذا قال العبد اللهم صلّى على محمد و آل محمد كما صليت و باركت و ترحمت على ابراهيم و آل ابراهيم انك حميد مجيد لقطها كما يلقط الطير الحب ثم يرفرف على قبري و يقول يا محمد يا محمد ان بن فلان صلّى عليك و أقرأك السّلام فيكتب له في رقّ من نور بالمسك الاذفر و يرفع له عشرون الف حسنة و يمحي عنه عشرون الف سيئة و يغرس له عشرون الف شجرة، و من كانت له حاجة الى اللّه سبحانه و اراد قضائها فليعمل ما قاله الصادق عليه السّلام و هو ان يصلي على محمد و آله في اولها و آخرها و يذكر حاجته في الوسط فان اللّه سبحانه اكرم من ان يقبل الطرفين و يرد الوسط و هذا من باب بيع الصفقة فاما ان يقبل الكل او يرد الكل و الطرفان مقبولان فيقبل الوسط ايضا.

ص:102

و اما آله صلّى اللّه عليه و آله فقد اختلف المسلمون في المراد بهم، و الذي اجتمعت عليه شيعتهم بسبب النقل المستفيض عن المعصومين انهم المعصومون عليهم السّلام لا غير.

و يعجبني نقل كلام ذكره المحقق الدواني (1)و هو من علماء الجمهور في حواشي شرح الهيا كل و هذه عبارته آل الشخص من يؤل الى ذلك الشخص فآله صلّى اللّه عليه و آله من يؤل اليه صلّى اللّه عليه و آله اما بحسب النسب أو النسبة اما الاول فهم الذين حرّم عليهم الصدقة في الشريعة المحمدية و هم بنو هاشم و بنو عبد المطلب عند بعض الائمة و بنو هاشم فقط عند البعض و اما الثاني فهم العلماء ان كانت النسبة بحسب الكمال الصوري اعني العلم التشريعي فالاولياء و الحكماء المتألهون و ان كانت النسبة بحسب الكمال الحقيقي اعني علم الحقيقة.

اقول و كما حرم على الاول الصدقة الصورية حرم على الثاني الصدقة المعنوية اعني تقليد الغير في العلوم و المعارف، قال صلّى اللّه عليه و آله من يؤل اليه اما بحسب نسبة لحياته الجسمانية كولاده النسبية و من يحذو حذوهم من اقاربه الصورية، او بحسب نسبته لحياته العقلية كولاده الروحانية من العلماء الراسخين و الاولياء الكاملين و الحكماء المتألهين المقتبسين من مشكاة انواره سواء سبقوه زمانا أو لحقوه و لا شك ان النسبة الثانية اوكد من الاولى و الثانية من الثانية اوكد من الاولى منها و اذا اجتمع النسبتان بل النسب الثلاث كان نورا على نور كما في الائمة المشهورين من العترة الطاهرة صلوات اللّه عليهم اجمعين.

ثم قال و يحتمل ان يكون مراد المصنفين جميع افراد الآل اعني الصوريين و المعنوية و ان يكون مرادهم المعنوية سواء كانا سابقين عليه بالزمان او لا حقين له سواء انتسبوا اليه في العلم بظاهر التشريع او باطنه انتهى كلامه.

و شيخنا البهائي طاب ثراه بعد ان نقل حاصل هذا الكلام قال و هو مما يستوجب ان يكتب بالتبر على الاحداق بال بالحبر على الاوراق.

و بقي الكلام هنا في تحقيق مسأل علمية في التشبيه الذي في قوله كما صليت على ابراهيم و آل ابراهيم، و حاصل تقريرها ان هنا اشكالا و هو ان في التشبيه يعتبر كون المشبه به اقوى في وجه الشبه او مساويا، و الصلوة هنا الثناء و العطا و المنحة التي هي من آثار الرحمة و الرضوان فتستدعي

ص:103


1- 42) هو المحقق الحكيم المتكلم الشهير المولى جلال الدين محمد بن اسعد الدواني المتوفى سنة (908) ه المنتهى نسبه الى محمد بن ابي بكر كان في اوائل امره على مذهب اهل السنة ثم صار من الشيعة و صنف رسالة فارسية سماها (نور الهداية) صرح فيها بتشيعه توجد نسختها اليوم في بعض مكتبات النجف الاشرف، و السيد القاضي نور اللّه الشهيد لم يطلع عليها فتمسك في اثبات تشيعه بما لا يخلو عن تسعف، راجع الى الكتاب مجالس المؤمنين تجد صدق ما قلناه انظر الى تنقيح المقال ج 1 ص 230 ط نجف و الى الكنى و الالقاب للقمي ج 2 ص 206 [1] طصيدا.

ان يكون عطاء ابراهيم و الثناء عليه فوق الثناء على محمد صلّى اللّه عليه و آله او مساويا له و ليس كذلك و الا لكان افضل منه و الواقع خلافه، و قد تصدى المحققون للجواب عنه من وجوه:

اولها ان يكون المراد تشبيه اصل الصلوة بالصلوة لا الكمية بالكمية كما في كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلم، و المراد في اصله لا في قدره، و وقته و ردّه شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه بأن الكاف للتشبيه و هو صفة مصدر محذوف أي صلاة مماثلة للصلوة على ابراهيم، و الظاهر ان هذا يقتضي المساواة اذ المثلان هما المتساويان في الوجوه الممكنة.

و ثانيها ان الصلوة بهذا اللفظ جارية في كل صلاة على لسان كل مصلّ الى انقضاء التكليف، فيكون الحاصل لمحمد صلّى اللّه عليه و آله بالنسبة الى مجموع الصلوات اضعافا مضاعفة و اورد عليه ايضا بان التشبيه واقع في كل صلاة تذكر في حال كونها واحدة فالاشكال قائم.

و ثالثها ان مطلوب كل مصلّ المساواة لابراهيم في الصلوة فكل منهم طالب صلاة مساوية للصلوة على ابراهيم و اذا اجتمعت هذه المطلوبات كانت زائدة على الصلوة على ابراهيم.

و رابعها ان الدعاء انما يتعلق بالمستقبل فمتى وقع تشبيه بين لفظين فانما يقع في المستقبل و حاصله ان الدعاء انما يتعلق بالمستقبل و نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله كان الواقع قبل هذا انه أفضل من ابراهيم و هذا الدعاء يطلب فيه زيادة على هذا الفضل مساوية لصلوته على ابراهيم فهما و ان تساويا في الزيادة الا ان الاصل المحفوظ خال من معارضة الزيادة.

و خامسها ان المشبه به المجموع المركب من الصلوة على ابراهيم و آله و معظم الانبياء آل ابراهيم، و المشبه الصلوة على نبينا و آله فاذا قوبل آله بآلهم رجحت الصلوة عليهم على الصلوة على آله فيكون الفاضل من الصلوة على آل ابراهيم لمحمد صلّى اللّه عليه و آله فيزيد به على ابراهيم، و يشكل بأن ظاهر اللفظ تشبيه الصلوة على محمد صلّى اللّه عليه و آله بالصلوة على ابراهيم و الصلوة على آله بالصلوة على آل ابراهيم تطبيقا بين المسلمين و الآلين فكل تشبيه على حدته فلا يؤخذ من احدهما للآخر.

و سادسها ان التشبيه انما هو في صلاة اللّه على محمد و في صلاته على ابراهيم و آله فقوله اللهم صلّ على محمد على هذا منقطع عن التشبيه و في هذين الجوابين هضم لآل محمد كما قيل، و قد قدمنا الدلائل على افضلية علي عليه السّلام على الانبياء، و هو واحد من الآل فيكون السؤال عند الامامية باقيا له بحاله.

و سابعها انه صلّى اللّه عليه و آله من آل ابراهيم فهو داخل في الصلوة المشبه بها منضّما الى غيره، و الصلوة المشبه مختصة به وجده فصارت الاولى افضل بهذا الاعتبار و على هذا نزلوا الجواب عن الاشكال الوارد على ظاهر قوله تعالى و فدنياه بذبح عظيم، بارادة الحسين عليه السّلام من الذبح العظيم

ص:104

كما روى تفسيره عنهم عليهم السّلام و حاصل الاشكال ان الحسين عليه السّلام فضل من اسماعيل فكيف يكون فداء له.

و الجواب ان الحسين وحده و سائر المعصومين عليهم السّلام من اولاد اسماعيل فالحسين عليه السّلام انما صار فداء لهذه السلسلة الطاهرة و هو واحد منها و الاصوب في الجواب عن هذا الاشكال هو ما رواه الصدوق طاب ثراه في عيون اخبار الرضا باسناده الى الفضل بن شاذان، قال سمعت الرضا عليه السّلام يقول لما امر اللّه تبارك و تعالى ابراهيم عليه السّلام ان يذبح مكان ابنه اسماعيل الكبش الذي انزله عليه تمنى ابراهيم عليه السّلام ان يكون قد ذبح ابنه اسماعيل عليه السّلام بيده انه و لن يؤمر بذبح الكبش مكانه ليرجع الى قلبه ما يرجع الى قلب الوالد الذي يذبح اعزّ ولده بيده فيستحق بذلك ارفع درجات اهل الثواب على المصائب فأوحى اللّه عزّ و جل اليه يا ابراهيم من احب خلقي اليك، فقال يا رب ما خلقت خلقا هو احب اليّ من حبيبك محمد صلّى اللّه عليه و آله فأوحى اللّه عز و جل اليه يا ابراهيم هو احب اليك ام نفسك قال بل هو احب اليّ من نفسي، قال فولده أحب اليك او ولدك، قال بل ولده قال فذبح ولده ظلما على ايدي اعدائه اوجع لقلبك ام ذبح ولدك بيدك في طاتي، قال يا رب بل ذبحه على ايدي اعدائه اوجع لقلبي.

قال يا ابراهيم ان طائفة تزعم انها من امة محمد صلّى اللّه عليه و آله ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما و عدوانا كما يذبح الكبش، و يستوجبون بذلك سخطي، فجزع ابراهيم عليه السّلام لذلك و توجع قلبه و اقبل يبكي فأوحى اللّه عز و جل اليه يا ابراهيم قد فدين جزعك على ابنك اسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين و قتله، و أوجبت لك ارفع درجات اهل الثواب على المصائب، و ذلك قول اللّه عز و جل وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ و حاصله ان الفداء بمعنى التعويض و هو معناه اللغوي.

و ثامنها ان القوة في التشبيه هنا ترجع الى الظهور و الوضوح، الصلوة على ابراهيم ظاهرة مشهورة عند ارباب الملل، و الاديان اجابة لدعائه، حيث قال و اجعل لي لسان صدق في الاخرين، يعني ذكرا جميلا، و من هذا كانت الانبياء عليهم السّلام ينسبون انفسهم اليه و الى دينه، فيكون هذا التشبيه من باب قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ، لان نور المشكوة محسوس مشاهد لكل احد.

و تاسعها ان الكاف للتعليل مثلها في قوله تعالى وَ اُذْكُرُوهُ كَمٰا هَدٰاكُمْ، و قد بقيت هنا وجوه أخرى، ذكرناها في شرحنا الصغير على الصحيفة السجادية، اذا انتقش هذا على صحيفة بالك فأعلم ان شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه بعد ان ذكر بعض هذه الوجوه قال قلت كل هذا بناء على ان صلاتنا عليه صلّى اللّه عليه و آله تفيده زيادة في رفع الدرجة و مزيد الثواب و قد انكر هذا جماعة من المتكلمين و خصوصا الاصحاب و جعلوا هذا من قبيل الدعاء بما هو واقع امتثالا لاوامر اللّه تعالى و الا فالنبي صلّى اللّه عليه و آله قد اعطاه اللّه من الفضل و الجزاء و التفضيل ما لا يؤثر فيه صلاة مصل وجدت او

ص:105

عدمت، و فائدة هذا الامتثال انما يعود الى المكلف فيستفيد به ثوابا كما جاء في الحديث من صلى عليّ واحدة صلّى اللّه عليه بها عشرا و حينئذ فيظهر ضعف الجواب الرابع من طلب المنافع في المستقبل فان هذا كله في قوة الاخبار عن عطاء اللّه تعالى و حينئذ يكون جواب التشبيه للاصل بالاصل سديدا و يلزمه المساواة في الصلوتين و لكن تلك الامور موهبية فجاز تساويهما فيها و ان تفاوتا في الامور الكسبية المقتضية للزيادة فان الجزاء على الاعمال هو الذي تتفاضل فيه العمال لا المواهب التي يجوز بسببها كل واحد تفضلا خصوصا على قواعد العدلية وهب ان الجزاء كله تفضل كما تقوله الاشعرية الا ان الصلاة موهبية محضة ليست باعتبار الجزاء فالذي يسمى جزاء عند العمل و ان لم يكن مسببا عن العمل هو الذي يتفاضلان فيه، هذا واضح انتهى كلامه طاب ثراه.

و يخطر بالبال التكلم عليه من وجوه اولها ان قوله ان اللّه اعطى من الفضل و الجزاء ما لا يؤثر فيه صلاة مصل وجدت او عدمت قد دلت الاخبار على نقيضه، فان درجات نواله تعالى مما لا تقف الى حد، و كل درجة فوقها درجة و نبينا صلّى اللّه عليه و آله قد امتاز عن سائر الانبياء عليهم السّلام بزيادة القبول للفيوض الربانية، و كان صلّى اللّه عليه و آله يقول ان ربي قد وعدني درجة لا تنال الا بدعاء امتي، و كان يطلب الدعاء من صلحاء المؤمنين و اكابر المتقين مع ان دعاءنا له صلّى اللّه عليه و آله و طلبنا مزيد نوال اللّه سبحانه له انما هو من جملة اعماله صلّى اللّه عليه و آله التي يستحق بها مزيد القرب و الدرجات، لانه صلّى اللّه عليه و آله قد استنقذنا من ورطة الهلاك و قد كان الناس على شفا جرف من النار فأخذ بايديهم و بلّغهم الى اقصى درجات المقربين و كذلك اولاده المعصومين عليهم السّلام فقد استحقوا بهذا منّا الصلوة و طلب الرحمة من اللّه تعالى، فدعاؤنا لهم من جملة اعمالهم، و لا شك ان اعمالهم مما يوجب مزيد الثواب لهم بلا خلاف منّا، و ليس هذا الا من باب دعاء المؤمن لاخيه بظهر الغيب، فانه مما يوجب مزيد الاجر للداعي و الدعو له، و قد اورد على هذا بأنه مناف لقوله تعالى وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ.

و الجواب عن تلك الشبهة كما قلنا هو جواب عن هذه ايضا، فان المؤمن لما صار مؤمنا باختياره و فعل ما حبب به نفسه الى المؤمنين حتى قدم المؤمنون على الدعاء له بظهر الغيب سواء كان حيا أو ميتا كان دعاء الداعي من جملة اعمال المدعو له، و في الحديث القدسي مما اوحى اللّه عز و جل الى موسى على نبينا و آله و عليه السّلام ان قل له يا موسى ادعني بلسان لم تعصني به، قال يا رب كيف ذاك و لساني قد عصيتك به قال اطلب من اخوانك الدعاء فانك لم تعصني بلسان احد منهم، و موسى عليه السّلام قد كان من اولي العزم المقربين و درجته بالنسبة الى دعاء امته كدرجة نبينا صلّى اللّه عليه و آله بالنسبة الى دعائنا كما يستفاد من ظاهر بعض الروايات.

ص:106

و ثانيها انه طاب ثراه قد فسر الصلوة بالعطا و المنحة التي هي من آثار الرحمة و العطا و المنحة التي نطلبها للنبي و اهل بيته ليست مخصوصة بما يتعلق بهم وحدهم بل هو عطاء يزيد في علوهم و يرفع شرفهم فوق شرف الانبياء عليهم السّلام، و اكمل هذا و اهمه هو مقام شفاعتهم من امتهم، و مقام شهادتهم على تبليغ سائر الانبياء و المرسلين عليهم السّلام كما روى في الاخبار الصحيحة و نحو هذين و هذا الدعاء و ان كان لهم صورة الا انه في المعنى ترجع فائدته الينا و اليهم، فالينا بقبول شفاعتهم في حقنا للخلاص من اليم العذاب و اليهم باظهار قبول شفاعتهم و حصول ملتمسهم على رؤوس الاشهاد بحضور الملائكة المقربين و الانبياء المرسلين و العباد الصالحين.

و لا ريب ان قبول الالتماس من ارفع الدرجات كما ان ردّه من اعظم النكبات و لا تظنّ ان اعلى هو اعالي الجنان و اللوس مع الحور و الغلمان فان هذا من لذات البدن و ذاك من لذات الروح، و هم عليهم السّلام انما كان مطمح انظارهم هو طلب اللذة المعنوية، كما قاله سيد الموحدين عليه افضل التسليمات ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك و لكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك، و في القرآن العزيز بعد ان ذكر سبحانه اللذات الحسية من الاشجار و الانهار و الحور و الغلمان قال و رضوان من اللّه اكبر، فانه لذة معنوية كما عرفت و الاشارة الى نقيضه واقعة بقوله تعالى حكاية عن دخول جهنم رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، و ذلك ان الخزي عذاب روحاني و حرارة نار جهنم و ما أعدّ فيها من العقارب و الافاعي عذاب جسماني، و الاول افظع و أشدّ هولا من الثاني و لذا لم يقل من تدخل النار فقد احرقته أو عذبته أو نحو ذلك و الحاصل ان هذا الدعاء الخاص بالصلوة على النبي صلّى اللّه عليه و آله من باب ما ورد في ادعية الصلوة و تقبّل شفاعته في امته و ارفع درجته، فأن رفع الدرجة و ان كان اعمّ الا انه هنا كالتفسير و البيان لقبول الشفاعة على ما عرفت مع أنه ورد في الروايات ان معن السّلام على المعصومين عليهم السّلام هو سلامتهم و سلامة دينهم و شيعتهم في زمن القائم عليه السّلام هذا مما يتعلق بالادعية و تزيد التأثيرات فيه كما لا يخفى.

و ثالثها ان قوله طاب ثراه و تلك الامور موعبية فجاز تساويهما، يرد عليه انك قد فسرت الصلوة بالعطاء الذي هو من آثار الرحمة، فنعود و نقول ما هذا العطاء و اي شيء ذلك العطاء الذي فضّل اللّه فيه ابراهيم على محمد صلّى اللّه عليه و آله بل ساواه فيه ان كان هو في عالم الدنيا فهذا عالم محسوس مشاهد و هو صلّى اللّه عليه و آله قد فضل على سائر الانبياء في جميع الكمالات و ان كان في النشأة الاخرى فقد روى ان الحوض و الكوثر و مقام الشفاعة قسمة الجنان و النيران و الشهادة للانبياء بالتبليغ و السبق بدخول الجنة ول كمال هناك انما هو آئل اليه صلّى اللّه عليه و آله و الى اهل بيته من غير مشاركة أحد فأين هذا العطاء الموهبي الذي تساويا فيه مع ان المواهب التي تتفاوت فيها الدرجات انما

ص:107

يكون مسببة عن الاعمال و الاخلاص فيها، و من ثم فصلت ضربة ابن عبد ودّ اعمال الامة الى يوم القيامة، و لا خلاق في ان اعماله صلّى اللّه عليه و آله قد فضلت اعمال الانبياء فتكون مواهب اللّه سبحانه أزيد و أكثر و بالجملة اعتقادنا في هذه المسئلة هو ان الصلوة على النبي صلّى اللّه عليه و آله مما يعود نفعها الينا و اليه بما عرفت و اللّه اعلم.

(خاتمة هذا النور في لعن المخالفين و المتخلفين)

اعلم انه قد ورد الخلاف هنا ايضا و هو ان المؤمن اذا لعن من يستحق اللعن من ظالمي اهل البيت و غيرهم فهل يكون هذا اللعن مما يزيد في عذابهم ام ان اللّه سبحانه قد بلغ بهم الى اقصى دركات العذاب بحيث يكون اللعن لا يزيدهم عذابا و انما يزيد المؤمن ثوابا، و الاولى بل هو المستفاد من الاخبار هو اوضحية القول الاول، و ذلك ان رئيس الظالمين هو ابليس اللعين و قد روى في وصف مجيئه الى يحيى بن زكريا انه قد كان على راسه بيضة، فقال له يحيى عليه السّلام ما هذه البيضة التي على رأسك فقال بها أتوقى لعنات المؤمنين، و ذلك ان كل لعنة تأتي اليّ منهم كالشهاب الثاقب فأتوقى منها بهذه البيضة.

و اما اخوته الثلثة المتخلفون فمن اسباب تضاعف عذابهم بلعن اللاعنين هو ان اسباب ظلمهم و جورهم، و ما أحكموه في زمانهم قد امتدّ الى يوم القيامة على كل المؤمنين و لو قلت لك ان ظلمهم على آحاد المؤمنين أعظم منه على امير المؤمنين عليه السّلام لكان قريبا من الصواب، و ذلك ان اشتباه الاحكام في هذه الايام و انتشار اعلام الجور و انزواء الحق و اهله انما جاء من قبلهم، و كذلك استتار الائمة عليهم السّلام على ما حققناه سابقا و هو الذي اثار الفتن و صدع اركان الدين ففي كل ساعة و في كل لحظة يحصل للمؤمن الم من هذه الجهات فيلعنهم فيكون لعنه مقارنا لايذاء المتخلفون له فكيف لا يكون سببا في مزيد عذابهم بل و لو من غير تذكر تألم لكان كذلك ايضا لمقارنته لحالات الظلم، و من هذا قال الصادق عليه السّلام و اللّه ما اريقت محجمة دم في الاسلام الى يوم القيامة الا و هي في اعناقهما.

و في الاخبار ما هو اغرب من هذا و هو ان مولانا صاحب الزمان عليه السّلام اذا ظهر و أتى المدينة اخرجهما من قبريهما فيعذبهما على كل ما وقع في العالم من الظلم المتقدم على زمانيهما كقتل قابيل هابيل و طرح اخوة يوسف له في الجبّ و رمي ابراهيم في نار نمرود، و اخراج موسى خائفا يترقب و عقر ناقة صالح و عبادة من عبد النيران، فيكون لهما الحظ الاوفر من انواع ذلك العذاب.

و لعلك تقول ان هذا ينافي العدل إذ هما لم يحضرا تلك الاعصار و لم يكونا من اسباب ما وقع فيها من الظلم، كما كانا اسبابا لاستمرار الظلم بع زمانهم الى يوم القيامة فنقول هذا لا ينافيه

ص:108

بوجه، و ذلك ان اللّه سبحانه قد اخبر النبي الصادق بأن كل من يغصب خليفتك من بعدك و يجتري على ابنتك بمنعها حقها و ميراثها يكون شريكا للظالمين في عذابهم، و النبي صلّى اللّه عليه و آله قد اسمعهما مثل هذا فقدما على اسباب العذاب بعد العلم و السماع من الصادق الامين باختيار منهما فيكون ذلك العذاب قد استحقاه و قبلاه فلا يكون من انواع الظلم في شيء، و ليس الا من قبيل تخليد الكفار في النار الى ما لا نهاية له مع ان اعمارهم التي كانت مدة زمان كفرهم اقل قليل.

و ذلك ان اللّه سبحانه قد قرر هذا العذاب بازاء تلك المعصية و طول زمان المعصية و قصره مما لا مدخل له في طول العذاب و قصره، و كذلك ازمنة الطاعات و الثواب على المترتب فعلها.

نور في ابتداء خلق الدنيا

روى الثقاة من اصحابنا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان موسى سأل ربه عزّ و جل ان يعرفه بدء الدنيا منذ كم خلقت فأوحى اللّه تعالى الى موسى عليه السّلام تسألني عن غوامض علمي فقال يا رب أحب ان اعلم، فقال تعالى يا موسى خلقت الدنيا منذ مائة الف عام عشر مرات و كانت خرابا خمسين الف عام ثم بدأت في عمارتها فعمرتها خمسين الف عام، ثم خلقت فيها خلقا على مثال البقر يأكلون رزقي و يعبدون غيري خمسين الف عام ثم افنيتهم كلهم في ساعة واحدة، ثم خربت الدنيا خمسين الف عام ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين الف عام ثم خلقت فيها بحرا فمكث البحر خمسين الف عام ثم خلقت دابة و سلطتها على ذلك البحر فشربته في نفس واحدة، ثم خلقت خلقا اصغر من الزنبور و اكبر من البق، فسلطت ذلك الخلق على هذه الدابة فلدغها و قتلها فمكثت الدنيا خرابا خمسين الف عام، ثم بدأت في عمارتها فمكثت خمسين الف سنة، ثم خلقت الدنيا كلها آجام القصب و خلقت السلاحف و سلطتها عليه فاكلها حتى لم يبق منه شيء ثم اهلكتها في ساعة واحدة فمكثت الدنيا خرابا خمسين الف عام، ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين الف عام ثم خلقت ثلاثين آدم في ثلثين الف سنة من آدم الى آدم الف سنة فأفنيتهم كلهم بقضائي و قدري، ثم خلقت فيها خمسين الف الف مدينة من فضة بيضاء، و خلقت في كل مدينة مائة الف قصر من الذهب الاحمر، فملأتها خردلا و كان الخردل يومئذ الذّ من الشهد و أحلى من العسل و ابيض من الثلج ثم خلقت طيرا واحد أعمى و جعلت زرقه في كل سنة حبة من خردل فأكلها حتى فنيت، ثم خربتها فمكثت خرابا خمسين الف عام ثم اباك آدم عليه السّلام بيدي يوم الجمعة وقت الظهر و لم اخلق من الطين غيره و اخرجت من صلبه النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ص:109

اقول المراد بالدنيا في هذا الحديث هو ما سوى اللّه سبحانه من اصناف المخلوقات كلها فتشمل الافلاك و العناصر و النفوس الناطقة و غيرها، و هذا هو مذهب كافة اهل الملل كالمسلمين و اليهود و النصارى و المجوس، و اما حكماء الفلاسفة فقد ذهبوا في القدم و الحدوث الى مذاهب كثيرة، فذهب ارسطو و من تبعه من متأخري الفلاسفة كالفارابي و ابن سينا الى انّ الاجسام قديمة بذواتها و صفاتها، و تفصيل مذهبهم انهم قالوا الاجسام تنقسم الى فلكيات و عنصريات اما الفلكيات فانها قديمة بموادها و صورها الجسمية و النوعية و اعراضها المعينة من المقادير و الاشكال و غيرها الا الحركات و الاوضاع الشخصية فانها حادثة قطعا، ضرورة ان كل حركة مسبوقة بأخرى لا الى نهاية، و كذا الاوضاع المعينة التابعة لها، و اما مطلق الحركة و الوضع فقديم ايضا لان مذهبهم ان الافلاك متحركة حركة مستمرة من الازل الى الابد بلا سكون اصلا.

و اما العناصر فقديمة بموادها و صورها الجسمية بنوعها، و ذلك لان المادة لا تخلو عن الصورة الجسمية التي هي طبيعة واحدة نوعية لا تختلف الا بأمور خارجة عن حقيقها يكون نوعها مستمر الوجود بتعاقب افرادها ازلا و ابدا، و بصورها النوعية بجنسها و ذهب بعضهم الى انها قديمة بذواتها محدثة بصفاتها، و هو قول من تقدم ارسطو من الحكماء و هؤلاء قد اختلفوا في تلك الذوات القديمة فمنهم من قال انه جسم و اختلف في ذلك الجسم أي الاجسام هو، فقال ثاليس الملطي انه الذي هو المبدع الاول، و منه ابدع الجواهر كلها من السماء و الارض و ما بينهما، و قال صاحب الملل و النحل و كأنه أخذ مذهبه من الكتب الالهية، ففي التورية ان اللّه تعالى خلق جوهرة و نظر اليها نظر الهيبة فذابت و صارت ماء فحصل البخار و ظهر على وجهها بحسب الحركة زبد و ارتفع منها دخان و حصل من زبدها الارض و من دخانها السماء، و قيل الارض و حصلت البواقي بالتلطيف و قيل النا و حصلت البواقي بالتكثيف و قيل البخار و حصلت العناصر بعضها بالتلطيف و بعضها بالتكثيف و قيل الخليط من كل شيء لحم و خبز و غير ذلك، و منهم من قال انه ليس بجسم، فقالت الثنوية من المجوس النور و الظلمة، فانهما قديمان و بدؤ العالم من امتزاجهما، و قال الحرنانيون منهم القائلون بالقدماء الخمس النفس و الهيولى و قد عشقت النفس بالهيولى لتوقف كمالاتها عليها فحصل من اختلاطهما أنواع المكونات، و قيل هي الوحدة فانها تحيرت و صارت الواحدات نقطا ذوات اوضاع و اجتمعت النقط فصارت خطّا و اجتمعت الخطوط فصارت سحطا و اجتمعت السطوح فصارت جسما و ذهب جالينوس الى التوقف في الكل اذ يحكى عنه انه قال في مرضه الذي توفي فيه لبعض تلامذته أكتب عني اني ما علمت ان العالم قديم او حادث و ان النفس الناطقة هي المزاج أو غيره، و قد طعن فيه اقرانه بذلك حين اراد من سلطان

ص:110

زمانه تلقيبه بالفيلسوف، هذا محصّل مقالتهم و أما الشبه التي استندوا اليها في تصحيح هذه المذاهب الفاسد فمذكورة في كتب الحكمة و كذا الاجوبة عنها.

فان قلت لعله قد روى في الاخبار ان اللّه تعالى لم يزل خلاقا و هذا الحديث بظاهره ينافي الحدوث قلت الجواب عنه من وجهين الاول ان معناه و اللّه اعلم انه لم يزل متصفا بهذه الصفة و هو صفة الخلاقية باعتبار القدرة على الخلق، فان القادر على الشيء يوصف به و ان لم يصدر منه ذلك الفعل و يدلّ عليه ما روى في الاخبار و كان خالقا اذ لا مخلوق و عالما اذ لا معلوم و قادرا اذ لا مقجور و الثاني ان الخلق بمعنى الايجاد تارة، و يمعنى التقدير أخرى و في المثل اني اذا خلقت فريت أي اذا قدرت امضيت قال الصدوق طاب ثراه و في قول ائمتنا عليهم السّلام ان افعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين و خلق عيسى عليه السّلام من الطين كهيئة الطير، و خالقه في الحقيقة اللّه عز و جل اقول و على هذا ينزّل قوله تعالى فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ و هذا في الحقيقة، راجع الى العلم، فأنه عزّ سلطانه قد علم بالمخلوقات قبل ايجاده كعمله بعد ايجادها.

و اما قوله سبحانه في الحديث القدسي كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف فخلقت لا عرف، فالخلق في قوله فخلقت بمعنى الايجاد، و قد اورد على هذا الحديث اشكال و حاصله ان الخفا لا يكون الا مع وجود أحد يخفى عليه الشيء حتى يتصف ذلك الشيء بالخفا كما يقال هذا الشيء مخفي عن فلان، و خفى عليه الشيء الفلاني و لم يكن في عالم الاول مخلوق حتى يتصف سبحانه بالخفاء عنه فكيف قال مخفيا و الجواب عن هذا الاشكال من جهين.

الأول: ان ارباب اللغة قد صرحوا بان خفي بمعنى ظهر قال في الصحاح نقلا عن الاصمعي خفيت للشيء أخفيته كتمته و خفيته ايضا أظهرته و هو من الاضداد و نقل عن ابي عبيدة ايضا مثله، و نزل عليه قوله تعالى إِنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ أَكٰادُ أُخْفِيهٰا في من قرأ بفتح الهمزة أي اظهرها و في نهاية ابن الاثير فالمعنى حينئذ اني كنت كنزا ظاهرا فخلقت الخلق ليعرفوني على هذا الظهور الذي انا عليه، و لو لم اكن بهذه الغاية من الظهور لما توصلوا الى معرفتي بعد خلفي اياهم الثاني ان يكون الخفا بمعناه الاخر و هو الانسب بالكنز و لكن المبادئ انما تطلق عليه سبحانه باعتبار غاياتها و لوازمها و معناه حينئذ اني كنت كنزا مستورا و محتجبا تحت سرادق العز و الجلال فأحببت ان ابرز من تحت هذا الحجاب، فخلقت الخلق و اظهرت نفسي لهم من تحت السرادقات ليعرفوني فانه سبحانه لما خلق مخلوقاته تنزّل من ذلك الحجاب الى غاية الظهور و أزال المواقع التي لو بقيت بعد خلق الخلق على ما كانت عليه لم تصل الى اقرب درجة من مراتب معرفته العقول الطامحة بل انبسط معهم في الخطاب و عاتبهم على ما جنوا أرفق عتاب، فقال عز من قائل من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له، و قال ان تنصروا اللّه ينصركم، حتى قالت المنافقون و اليهود ان رب

ص:111

محمد قد افتقر و انه صار عاجزا فطلب النصر فقال امير المؤمنين عليه السّلام استقرضكم و له خزائن السموات و الارض، و استنصركم و له جنود السموات و الارض و في الحديث القدسي يا ابن آدم ما اقلّ حياك كم أتحبب اليك بالاحسان و تتبغض اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل و شرك اليّ صاعد حتى كأني المحتاج اليك و انت الغني عني، و يكفيك في لطيف خطابه قوله يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن، الى غير ذلك من الآيات و الاخبار و هو الذي اطلع ابناء التراب على جناب قدسه العزيز و ادناهم الى حماه المكين الحريز حتى اسند صفاته المتعالية اليهم و افعالهم الحميدة اليه مع نقصها عن قابلية الكمال.

و روى في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال ان اللّه عزّ و جل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا ربّ كيف ادعوك و أنت رب العالمين قال أما علمت ان عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت انك لو عدته لوجدتني يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب و كيف اطعمك و انت رب العالمين قال اما علمت انه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه اما علمت انك لو اطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف اسقيك و انت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه اما علمت انك لو سقيته لوجدت ذلك عندي و امثال ذلك من الاخبار كثيرة.

نور سماوي يكشف عن ابتداء خلق السموات

و كيفيتها و ما يتبع ذلك إعلم وفقك اللّه ان الفلاسفة و جمعا كثيرا من علماء الاسلام قد مهدّوا اصلا فاسدا و لفقوا له دلائل أوهن من بيت العنكبوت و بنوا عليه فروعا كثيرة لا تكاد تحصى و ذلك انهم نظروا الى ان اللّه تقدس و تعالى واحد حقيقي من جميع الجهات ليس للتركيب فيه مدخل بوجه من الوجوه لا خارجا و لا عقلا و لا وهما و لا غير ذلك كل مركب محتاج الى اجزائه التي تركبّ منها و أطالوا في البراهين على هذا، و البرهان الذي ذكرنا في اول هذا الكتاب متناول له ايضا كما لا يخفى فلما ثبتت وحدته الحقيقية قالوا ان هذا الواحد الحقيقي لا يجوز ان يكون مبدء الا لفعل واحد و الا لزم تعدد الجهات فيه، فذهبوا الى ان الصادر منه جوهر واحد و هو العقل الواحد فهو مخلوقه لا غير، و ذلك انه واحد فلا يصدر منه الا واحد و هذا الصادر الاول له اعتبارات ثلاثة وجوده في نفسه و وجوبه بالغير و امكانه لذاته فيصدر عنه بكل اعتبار امر فباعتبار وجوده يصدر عقل و باعتبار وجوبه يصدر نفس باعتبار امكانه يصدر جسم هو الفلك الاول و كذلك يصدر من العقل الثاني عقل ثالث و نفس ثانية و فلك ثان و هكذا الى العقل العاشر الذي في مرتبة التاسع من الافلاك، و هو فلك القمر و يسمى العقل الفعّال المؤثر في هيولى العالم

ص:112

السفلي المفيض للصور و النفوس على البسائط و على المركبات بحسب الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية و الاتصالات الكوكبية، و يلزم على هؤلاء ان هذه الاعتبارات ان كانت وجودية فلا بد لها من مصادر متعددة و الا بطل اصلهم، و هو ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد، و ان كانت اعتبارية امتنع ان تصير جزء مصورا لامور وجودية فان اجيب بأنها ليست جزء منا لمؤثر بل هي شروط التأثير و الشرط قد يكون امر اعتباريا، قلنا فليكن هذه الاعتبارات من السلوب و الاضافات عارضة للمبدأ الاول فيكون بحسبها مصدرا لأمور متعددة كالمعلول الاول، فيبطل ما ذهبوا اليه، مع اسناد الفلك الثامن مع ما فيه من الكواكب المختلفة المقادير المتكثرة كثرة لا تحص الى جهة واحدة في العقل الثاني كما زعموه مشكل جدا كما قيل و كذلك اسناد الصور و الاعراض التي في عالمنا هذا مع كثرتها الى العقل الفعال اشكل من الاول كما لا يخفى.

و بالجملة فهذه العقول العشرة عندهم انها جواهر مجردة عن المكان و المدة و المادة فهذه السموات التي تمدح اللّه عز و جل بخلقها نسبوها الى امو و همي لم يتم عليه دليل عقل كما اعترف به المحققون، و الادلة النقلية من الكتاب و السنة و الاجماع و الدليل العقلي ايضا ينادي بتكذيبه و انه لا مؤثر في ايجاد الموجودات الا باللّه سبحانه و لعمرك ان هذه الطائفة اشرّ من المجوس فان المجوس اثبتوا له سبحانه شريكا يفعل الشر سموه اهرمن و هو بلغتهم الشيطان و فاعل الخير هو يزدان و هو بلسانهم الواجب تعالى، فقد اثبتوا له كل افعال الخير و اما المشركون بالاصنام فقد حكى اللّه سبحانه عنهم ما اعتقدوه، حيث قالوا ما نعبدهم الا ليقربونا الى اللّه زلفى، و كذلك سائر طوائف الكفار على ما سيأتي ان شاء اللّه تعالى، عند ذكر الفرق الاسلامية و غيرها، و هؤلاء الحكماء الذين بلغوا من مراتب الادراك الى ان قالوا انّا لا نحتاج الى ارسال الانبياء عليهم السّلام انما يرسلهم اللّه تعالى الى اهل العقول الناقصة و اما نحن فقد كملت احلامنا و عقولنا قد عزلوا اللّه سبحانه عن عالم ملكوته كلاّ و رأسا وليتهم ذهبوا الى ما ذهبت اليه المجوس و طوائف الكفار، و العجب ان جماعة من اهل عصرنا ممن يتدين بدين الاسلام قد وافقوهم على هذه الهفوات و خرجوا عن الدين من حيث لا يشعرون و هذا كله انما جاء من جهة التعويل على العقول الناقصة.

و اما المتأخرون من الحكماء و من حذى حذوهم من طوائف المسلمين فلما رأوا قول قدمائهم بمكان من الشرك و البعد عن قول أهل الملل و الاديان اوّلوا قول قدمائهم و قالوا لا مؤثر في الوجود الا اللّه معناه ان تلك العقول المجردة هي آلات و وسائط بين اللّه سبحانه و بين مخلوقاته تسبب بها الى خلق ما خلق كما يتسبب النجار الى قطع خشبته بالمنشار و كالوالدين في حصول الاولاد و هذا تأويل لكلام من لا يرضى به و قد صرّح بخلافه مع ان مفاسده كثيرة لا تحصى.

ص:113

و اعجب من هذا كله ان من وافق الفلاسفة من علماء الاسلام كيف غفل عن هذا المعنى و هو ان كتاب ربهم و سنّة نبيهم لم تهمل مما يحتاج اليه الخلق و مما لا يحتاجون اليه حتى ان الائمة عليهم السّلام رووا في أدنى الامور كالكنف و اضرابه ضروبا من الاخبار عن جدهم صلّى اللّه عليه و آله و ذكروا آداب الاكل و الشرب و الجلوس الى غير ذلك و اهملوا هذا الامر العظيم الذي يدور عليه مدار الخلق و الايجاد، و به يتحقق الكفر و الالحاد و كيف لم تذكر هذه العقول و افاعليها في آية من الآيات و لا في حديث من الاحاديث و لا في تاريخ من التواريخ، و لا نقله خلف عن سلف و كذا ما سيأتي من اعتقادات الحكماء و متابعيهم من اهل الاسلام كيف اهملها الشارع و لم يتعرض لها بوجه من الوجوه.

و من الطرائف في هذا المقام ان أنجس المخلوقات و ادناها شرفا هو الكلب مع انه سبحانه لما امر صاحبه بتعليمه للصيد لم يرض له بتعليم صاحبه الذي يعلمه، بل قال عز من قائل يسئلونك ما ذا أحل لهم قل احلّ لكم الطيبات و ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم اللّه، أي من العلم الذي امركم على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان تعلموه الكلاب من اتباع الكلب الصيد بارسال صاحبه و انزجاره بزجره، و لا يعتاد اكل ما امسكه، و قوله مكلبين مشتق من الكلب، أي حال كونكم صاحبي كلاب او معلمي كلاب، فاذا لم يحسن في الشرع تعليم الكلب الا من العلوم الالهية فكيف جاز لكم ايها الحكماء و العلماء ان تعلموا الانسان الذي هو اشرف المخلوقات الذي تمدّح اللّه عند تمام خلقه بقوله فتبارك اللّه احسن الخالقين، العلم الذي توهمته عقولكم و حصلته اوهامكم و زعمتم انه علم و لم يذكر في شيء من الكتب السماوية و ما سمعنا ايضا الهيولى و الصورة و لا الجزء الذي لا يتجزئ في شيء من الاخبار و ان هذا اقل فسادا مما تقدم اذا عرفت هذا.

فاعلم ان الافلاك التي اثبتها الحكماء و الرياضيون بالارصاد بسبب اختلاف الحركات تسعة افلاك كلية، و لكنها تشتمل على افلاك جزئية و اول تلك الكليات عندهم هي فلك الافلاك و هو المسمى عندهم بالفلك الاطلس، لانه غير مكوكب قالوا و هذا هو الذي يسمى بالعرش المجيد في لسان الشرع، و تحته فلك الثوابت قالوا و هو المسمى بالكرسي في الشرع، ثم فلك زحل ثم فلك المشتري، ثم فلك المريخ ثم فلك الشمس ثم فلك عطارد، ثم فلك القمر و هو السماء الدنيا، قالوا دلّ على ترتيبها الحجب فما هو اسفل يحجب ما هو أعلى، أي يصير ساترا له عنّا اذا وقع على محازاته، فانهم وجدوا القمر يحجب سائر السيارة فعلم انه تحت الجميع و وجدوا عطارد يكسف الزهرة الزهرة و المريخ و المريخ المشتري، و المشتري زحل و حل بعض الثوابت.

ص:114

و اما الشمس فانها لا تنكسف الا بالقمر و لا يتصور كسفها بشيء من الكواكب لانها تستتر بشعاعها اذا قربت منها لكن لها اختلاف المنظر دون العلوية فهي تحتها و فوق القمر و بقي الاشتباه في انها فوق الزهرة و عطارد او تحتها اذ لا سبيل الى معرفة ذلك من الكسف لما عرفت من احتراقهما تحت الشعاع عند القرآن فلذلك عدل بطليموس الى طريقة الاستحسان فقال هي كشمسة القلادة متوسطة بين السبعة السيارة اعني بين العلوية و بين السفليين و القمر و قد زعم مؤيد الدين العرضي المهندس ان فلك الزهرة دون فلك عطارد، و فوق فلك الشمس و زعموا ان هذه الافلاك لها نفوس درّاكة في نهاية الادراك و ان هذه الافلاك عندهم اكمل من الانبياء لان شرف العناصر عندهم انما هو للتشبيه بالافلاك، و قد سأل بعض تلامذة المولى صدر الدين الشيرازي المولى المذكور عن الافلاك هل لها نفوس ناطقة ام لا فأجابه بانه اذا كنت على هذه الحالة الحقيرة من صغر البدن و قلّة الكمالات لك نفس ناطقة فكيف لا يكون للافلاك نفوس ناطقة مع ما هي عليه من العظمة و الجلالة، و زعموا ان حركاتهم ارادية اختيارية فصار الحاصل من هذا كله ان مذهبهم هو ان هذه الافلاك بسائط لها نفوس ناطقة و حركات ارادية اختيارية و هذا كله مخالف لما ورد عن الائمة الطاهرين عليهم افضل الصلوات و هم اعلم بالافلاك و غيرها من بطليموس و غيره، و كان علي عليه السّلام يقول سلوني عن طرق السموات فاني اعرف بها مني بطرق الارض، و ذلك انهم علموها بالحس و العيان كما في الاخبار المستفيضة عنهم عليهم السّلام من ان ارواحهم تزور العرش في كل ليلة جمعة، و انهم يستفيدون علوما جديدة في كل زيارة و هؤلاء الحكماء قد اخذوا ما قالوه عن آرائهم و عقولهم او بالسماع من امثالهم، و ليس الرائي كالسامع فلنشرع في ما اردنا بيانه و لنذكر بعض الاخبار ليتضح بها الحال فنقول:

روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى الرضا عليه السّلام قال كان علي بن ابي طالب عليه السّلام بالكوفة في مسجد الجامع اذ قام اليه رجل من اهل الشام فقال يا امير المؤمنين اني اسألك عن اشياء فقال سل تفقها و لا تسئل تعنتا، و أحدق الناس بأبصارهم فقال اخبرني عن اول ما خلق اللّه تبارك و تعالى، قال خلق النور، قال مم خلق السموات قال من بخار الماء قال مم خلقت الارض، قال من زبد الماء، قال فمم خلقت الجبال قال من الامواج، قال فلم سميت المكة أم القرى قل لان الارض دحيت من تحتها و سأله عن سماء الدنيا مم هي قال من موج مكفوف و سأله عن طول الشمس و القمر و عرضها قال تسعمائة فرسخ في تسعمائة فرسخ و سأله كم طول الكوكب و عرضه، قال أثنا عشر فرسخا في اثني عشر فرسخا و سأله عن الوان السموات السبع و اسمائها، فقال اسم السماء الدنيا رفيع و هي من ماء و دخان و اسم السماء الثانية قيدوم و هي على لون النحّاس، و لسماء الثالثة اسمها المادوم و هي على لون الشبه و السماء الرابعة اسمها ارقلون و هي

ص:115

على لون الفضة، و السماء الخامسة هيعون و هي على لون الذهب و السماء السادسة اسمها عروس و هي ياقوتة خضراء، و السماء السابعة اسمها عجماء و هي درة بيضاء و سأله عن المد و الجزر ما هما قال ان للّه تعالى ملكا موكلا بالبحار يقال له رومان فاذا وضع قدميه في البحر فاض الماء، و اذا اخرجهما غاض و سأله لم صار الميراث للذكر مثل حظّ الانثيين قال لأن السنبلة كان عليها ثلاث حبات فبادرت اليها حوى فأكلت منها حبة و اطعمت آدم حبتين فمن ذلك ورث الذكر مثل حظّ الانثيين و سأله عن أول من قال الشعر فقال آدم و ما كان شعره قال لما نزل الى الارض من السماء فرأى تربتها و سعتها و هواها و قتل قابيل هابيل فقال آدم:

تغيرّت البلاد و من عليها فوجه الارض مغبر قبيح

تغيّر كل ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه المليح

فأجابه ابليس

تنحّ عن البلاد و ساكنيها فبي في الخلد ضاق بك الفيسح

و كنت بها و زوجك في قرار و قلبك من أذى الدنيا مريح

فلم تنفك من كيدي و مكري الى ان فاتك الثمن الربيح

فلو لا رحمة الجبار اضحى بكفك من جنان الخلد ريح

و سأله عن بكاء آدم على الجنة و كم كان دموعه التي خرجت من عينه، قال بكى مائة سنة و خرج منعينه اليمنى مثل دجلة و من عينه اليسرى مثل الفرات و سأله عن اول من وضع سكك الدراهم فقال نمرود بن كنعان بن نوح عليه السّلام و سأله عن معنى هدير الحمام الراعبية فقال تدعو على اهل المفازف و القيان و المزامير و العيدان و سأله ما بال الماعز بادي العورة فقال لان الماعز عصت نوحا عليه السّلام لما ادخلها السفينة فدفعها فكسر ذنبها و النعجة مستورة العورة لان النعجة بادرت الى السفينة فمسح نوح عليه السّلام يده على حياها و ذنبها فاستوت الالية، و الحديث طويل اخذنا منه موضع الحاجة و غيرها، و تفصيل كلام امير المؤمنين عليه السّلام ما رواه رئيس المحدثين الشيخ الكليني طاب ثراه باسناده الى محمد بن عليّة، قال جاء رجل الى ابي جعفر عليه السّلام من اهل الشام من علمائهم، فقال يا ابا جعفر جئت اسألك عن مسألة فأجابه عليه السّلام و ساق الكلام الى ان قال، و لكن اللّه كان اذ لا شيء غيره و خلق الشيء الذي جميع الاشياء منه و هو الماء الذي خلق الاشياء منه و خلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء ان يثور فخلق من ذلك الزبد ارضا بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا نقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجر، ثم طواها فوضعها فوق الماء ثم خلق اللّه النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء اللّه ان يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية

ص:116

ليس فيها صدع و لا نقب، و ذلك قوله تعالى وَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا بَنٰاهٰا رَفَعَ سَمْكَهٰا فَسَوّٰاهٰا، وَ أَغْطَشَ لَيْلَهٰا وَ أَخْرَجَ ضُحٰاهٰا وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا ، قال و لا شمس و لا قمر و لا نجوم و لا سحاب ثم طواها فوضعها فوق الارض، ثم نصب الخليقتين فرفع السماء قبل الارض، و ذلك قوله عز ذكره و الارض بعد ذلك دحيها، يقول بسطها فقال له الشامي يا ابا جعفر قول اللّه عز و جل أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا ، فقال له ابو جعفر عليه السّلام استغفر ربك فان قول اللّه عز و جل كٰانَتٰا رَتْقاً يقول كانت السماء رتقا لا تنزل المطر، و كانت الارض رتقا لا تنبت الحب فقال الشامي اشهد انك من اولاد الانبياء و ان علمك علمهم، و في هذا الحديث دلالة على ان السموات خلقت من الدخان كما هو ظاهر قوله تعالى ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ، و الاخبار في هذا المعنى كثيرة جدا و يدلّ ايضا على ان الارض مخلوقة من زبد الماء.

و الاخبار الكثيرة ايضا دالة عليه روى علي بن ابراهيم في تفسيره انه قال ابو عبد اللّه عليه السّلام لأبرش الكلبي يا ابرش هو كما وصف نفسه، كان عرشه على الماء و الماء على الهوى، و الهوى لا يحدد و لم يكن يومئذ خلق غيرها، و الماء يومئذ عذب فرات فلما اراد ان يخلق الارض امر الرياح فضربت الماء، حتى صارت موجا ثم ازيد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جعلا من زبد ثم دحى الارض من تحته، فقال اللّه تبارك و تعالى ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا، و في ذلك التفسير فسلّط العقيم على الماء فضربته فاكثرت الموج و الزبد و جعل يثور دخانه في الهواء فلما بلغ الوقت الذي اراد به قال للزبد اجمد فجمد و قال للموج اجمد فجمد، فجعل الزبد ارضا و جعل الموج جبالا رواسي للارض.

و بالجملة فالمحصّل من هذه الاخبار ان الماء اول مخلوق من هذه الاجسام كما تقدم في اول الكتاب و خلق من ذلك الدخان الذي اثار منه السموات كما ان خلق الارض سابقا على السماء انما هو من ذلك الزبد و المراد بالسموات هنا السبع و الا فالكرسي و العرش يأتي تحقيقه ان شاء اللّه تعالى و في قوله عليه السّلام فرفع السماء قبل الارض (اه) دفع لما توهمه بعض الملاحدة من التناقض بين الآيات في تقديم خلق السموات على الارض أو بالعكس فان ظاهر هذه تقدم خلق السماء لمكان قوله و الارض بعد ذلك أي بعد رفع السماء دحيها و سواها و ظاهر آيتين في القرآن العكس من هذا.

اما الاولى فقوله تعالى لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدٰاداً ذٰلِكَ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ مِنْ فَوْقِهٰا وَ بٰارَكَ فِيهٰا وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا فِي أَرْبَعَةِ أَيّٰامٍ سَوٰاءً لِلسّٰائِلِينَ ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ.

ص:117

اما الاولى فقوله تعالى لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدٰاداً ذٰلِكَ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ مِنْ فَوْقِهٰا وَ بٰارَكَ فِيهٰا وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا فِي أَرْبَعَةِ أَيّٰامٍ سَوٰاءً لِلسّٰائِلِينَ ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ.

و اما الثانية فقوله تعالى هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ فَسَوّٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، و حاصل الجواب الذي اشار عليه السّلام هو ان اللّه سبحانه خلق مادة الارض و هي الزبد قبل خلق الدخان الذي خلق منه السماء فلما خلق السماء من ذلك الدخان رجع الى تسطيح الارض و دحوها فدحاها و وسعها و لم يكن قبل هذا الدحو الا الارض التي هي موضع الكعبة الان و منه سميت مكة ام القرى لان ارضها مادة لكل الاراضي، فتقدم كل من السماء و الارض على الاخر باعتبار فلا تناقض.

و اجيب عن رفع التنافي ايضا بأن كلمة بعد في قوله تعالى وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا، ليست للتأخر الزماني بل انما هو على جهة تعداد النعم و الاذكار لها كما يقول القائل ا ليس قد اعطيتك و فعلت بك كذا و كذا، و بعد ذلك خالطتك، و ربما يكون بعض ما تقدم في اللفظ متأخرا بحسب الزمان لانه لم يكن الغرض الإخبار عن الاوقات و الازمنة بل المراد ذكر النعم و التنبيه عليها و ربما اقتضت الحال ايراد الكلام على هذا الوجه و قد مال بعض اساتيذنا الى ان وجه الجمع هو ان تسوية السماء المطلقة متقدمة على دحو الارض و اما تسويتها سبعا فمتأخرة عنه، و قيل فيه وجوه أخرى و المعوّل على ما اشار اليه الامام عليه السّلام.

فان قلت الحكم بأن الماء اول مخلوق من الاجسام ينافي ما ورد في التورية و ما في تفسير علي بن ابراهيم الذي لم يأخذ كلامه في ذلك التفسير الا من الاخبار اما الذي وجد في التورية فهو ان مبدأ الخلق هو ان اللّه سبحانه و تعالى خلق جوهرة ثم نظر اليها نظر الهيبة فذابت اجزاؤها فصار الماء فثار من الماء بخار كالدخان فخلق منه السموات و ظهر على وجه الارض مثل زبد البحر فخلق منه الارض ثم ارسلها بالجبال.

و اما الذي ذكره علي بن ابراهيم قدس اللّه روحه فقد ذكر في تفسير قوله تعالى وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ ، قال و ذلك في مبدء الخلق ان الربّ تبارك و تعالى خلق الهوى ثم خلق القلم فأمره ان يجري فقال يا رب بما اجري فقال بما هو كائن ثم خلق الظلمة من الهوى و خلق النور من الهوى، و خلق الماء من الهوى، و خلق العرشي من الهوى، و خلق العقيم من الهوى، و هو الريح الشديد، و خلق النار من الهوى، و خلق الخلق كلهم من هذه الستة التي خلقت من الهوى.

قلت: قد ذكرنا سابقا الوجه في الجمع بين اسبقية الهوى على الماء بان اسبقية الماء اضافية بالنسبة الى محسوسات الاجسام و الهوى ليس بمحسوس، و من ثم انكر بعضهم وجوده بقي الكلام في الدرة و الهوى فيجوز ان يكون سبحانه قد كوّن الدرة من الهوى فخلق الماء من الدرة هو خلق

ص:

الماء من الهوى لانتهائه اليه فتأمل. و لم يوافق الشرع من الحكماء على هذه المقالة سوى ثاليس الملطي الاسكندراني فانه قال بعد ان وحّد الصانع و نزّهه لكنه أبدع العنصر الي فيه صور الموجودات و العلومات كلها و هو المبدع الاول و هو الماء و منه انواع الجواهر كلها من السماء و الارض و ما بينهما و ذكر ان من جمود الماء تكونت الارض و من انحلاله تكوّن الهوى و من صفوته تكوّنت النار و من الدخان و الابخرة تكوّنت السماء و في قوله عليه السّلام في الحبر الاول استغفر ربك الى آخر كلامه ابطال لما ذهب اليه الحكماء و متابعوهم من علماء الاسلام من اصليين اصليين بزعمهم.

الاول ان الفلك عندهم لا يقبل الخرق و لا الالتيام فان فتقه بالامطار خرق له و معراج نبينا صلّى اللّه عليه و آله ببدنه الشريف سبع سموات مما يبطله ايضا و تأويلهم له بالمعراج الروحي زندقة و الحاد (1)و اما الامطار فمن اماكن مختلفة يأتي تفصيلها ان شاء اللّه تعالى في نور المطر و لنرو هنا حديثا واحدا و هو ما رواه علي بن ابراهيم باسناده الى الصادق عليه السّلام قال كان علي صلوات اللّه عليه يقوم في المطر اول ما يمطر حتى يبتلّ رأسه و لحيته و ثيابه فقيل له يا امير المؤمنين الكن الكن فقال ان هذا ماء قريب العهد بالعرش ثم انشأ يحدّث صلوات اللّه عليه فقال ان تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت ارزاق الحيوانات فاذا اراد اللّه عزّ ذكره ان ينبت به ما يشاء رحمة منه لهم اوحى اللّه اليه فمطر ما شاء من سماء الى سماء حتى يصير الى السماء الدنيا فيما اظنّ فيلقيه الى السحاب و السحاب بمنزلة الغربال ثم يوحي الى الريح ان اطحنيه و اذيبيه ذوبان الماء ثم انطلقي به الى موضع كذا و كذا فامطري عليهم فيكون كذا و كذا عبابا و غير ذلك فتقطر عليهم على النحو الذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر الا و معها ملك حتى يضعها موضعها، و لم ينزل من السماء قطرة من مطر الا بعدد معدود و وزن معلوم الا ما كان من ايام الطوفان فانه نزل ماء منهمر بلا وزن و لا عدد و قال في آخره قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تشيروا الى المطر و لا الى الهلال فان اللّه عز و جل يكره ذلك.

الاصل الثاني لهم هو نفي الخلا و ان الافلاك ليس بينهما فرجة بل مقعر كل فلك مماس لمحدب الفلك الاخر فان الشامي كان يعتقد مثل هذا بالاخذ عن كتب الحكماء و اهل الرياضيات فقال له عليه السّلام استغفر ربك من هذا الذنب العظيم فيدلّ على تحريم هذا الاعتقاد و امثاله و على ان الجاهل في معرفته ليس بمعذور فابطل عليه السّلام الالتزاق و الملاصقة و في حديث زينب العطارة المسند الى الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و ذكر الحديث الى ان قال و الارضون السبع و من فيها و من عليها عند

ص:119


1- 43) الاشكال في مسألة المعراج مبني على الهيئة القديمة لذا فتحوا باب التاويل فيها و اما على الهيئة الجديدة فليس فيها ادنى اشكال اصلا.

السماء الاولى كحلقة في فلاة قيّ، و هذا كله و السماء الدنيا و من عليها و من فيها عند التي فوقها كحلقة في فلاة قيّ و هاتان السماءان و من فيهما و من عليهما عند التي فوقهما كحلقة في فلاة قيّ حتى انتهى الى السابعة و هنّ و من فيهن و عليهنّ عند البحر المكفوف عن اهل الارض كحلقة في فلافة قيّ هذا السبع و البحر المكفوف عند جبال البرد كحلقة في فلاة قيّ، و تلا هذه الاية وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ و هذه السبع و البحر المكفوف و جبال البرد عند الهوى الذي تحار فيه القلوب كحلقة في فلاة قيّ، و هذه السبع و البحر المكفوف و جبال البرد و الهوى عند حجب النور كحلقة في فلاة قيّ و هذه السبع و البحر المكفوف و جبال البرد و الهوى و حجب النور عند الكرسي كحلقة في فلاة قيّ، ثم تلا هذه الاية وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ، و هذه السبع و البحر المكفوف و جبال البرد و الهوى و حجب النور و الكرسي عند العرشي كحلقة في فلاة قيّ، و تلا هذه الاية اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ، و في رواية الحسن الحجب قبل الهوى الذي تحار فيه القلوب، و اذا كان الحال على هذا المنوال فأين الملاصقة و المماسة و كيف نفوا الخلاء بدلائلهم العقلية.

و قد روى ايضا مستفيضا ان غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام و منم بين السماء الى السماء كذلك ايضا، و من هنا الى السماء الدنيا مثلها فكيف الملاصقة و الحال كما عرفت، و القيّ بكسر القاف و التشديد المفازة الخالية من الماء و الكلاء، و قد ذهب الحكماء و متابعوهم الى ان الافلاك غير ملونة.

و استدل عليه رئيس المشككين في كتاب الملخص بدليلين الاول لو كانت الافلاك ملونة لحجبت الابصار عن رؤية ما وراها فكان يجب ان لا نرى الكواكب الثاني الافلاك بسيطة و البسيط لا لون له، و الجواب عن الاول على طريقتهم انا لا نسلمّ ان كل لون حاجب فان الماء له لون و لذلك يرى و كذلك الزجاج و البلور و هما لا يحجبان، مع ان هذا الدليل لا يجري في الفلك الاعظم و عن الثاني بمنع كلية الصغرى و ينقض كلية الكبرى بالقمر و اما على طريقة الشرع فمنع الثاني ظاهر لان الاخبار على ما عرفت انما هي دالة على عدم بساطة الافلاك بل على تركبها و تلونها كل سماء بلون كما في حديث امير المؤمنين عليه السّلام السابق.

و اما الاول فلا نسلم ان الثوابت في الفلك الثامن فان في الاخبار ما ينافيه صريحا و ان بيننا و بين الفلك الثامن جبالا و بحورا و اجساما كثيفة تمنع مما قالوه مع ان قوله عز من قائل انا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب، و كذا قوله تعالى انا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ جَعَلْنٰاهٰا رُجُوماً لِلشَّيٰاطِينِ، ظاهر في ان هذه الكواكب انما هي في السماء الدنيا لا غير و مال الى هذا شيخنا البهائي (ره) و كذا بعض مفسري الجمهور، و ما ذكره المنجمّون و الحكماء من ترتيب الكواكب في الافلاك

ص:120

لك يدلّ عليه دليل من الشرع بل الاخبار على خلافه، و نقلها يفضي الى التطويل لان موضوع الكتاب ليس للمباحثة معهم و انما موضوعه نقل الكائنات في الافلاك و ارضين على طريقة الشرع، لكن لزم منم هذا ابطال مذاهبهم المأخوذة من الحدس و الرياضة اذا عرفت هذا.

فاعلم ان الظاهر من هذه الاخبار و غيرها هو ان السموات طبقات كما ان الارض طبقات لكن روى علي بن ابراهيم عن ابيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السّلام قال قلت له اخبرني عن قول اللّه و السماء ذات الحبك، فقال هي محبوكة الى الارض، و شبك بين اصابعه فقلت كيف تكون محبوكة الى الارض و اللّه يقول رفع السموات بغير عمد ترونها فقال سبحان اللّه أ ليس يقول بغير عمد ترونها قلت بلى قال فثمّ عمد و لكن لا ترونها قلت كيف ذلك جعلني اللّه فداك، قال فبسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال هذه ارض الدنيا و مساء الدنيا عليها فوقها قبّة و الارض الثانية فوق سماء الدنيا و سماء الثانية فوقها قبّة، و الارض الثالثة فوق سماء الثانية و سماء الثالثة فوقها قبة، و الارض الرابعة فوق سماء الثالثة، و مساء الرابعة فوقها قبة، و الارض الخامسة فوق سماء الرابعة و سماء الخامسة فوقها قبة، و الارض السادسة فوق سماء الخامسة و سماء السادسة فوقها قبة و الارض السابعة فوق سماء السادسة و سماء السابعة فوقها قبة و عرش الرحمن تبارك و تعالى فوق السماء السابعة، و هو قول اللّه تعالى اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ فاما صاحب الامر فهو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الوصي بعد رسول اللّه قائم هو على وجه الارض، فانما يتنزل الامر اليه من بين السموات و الارضين قلت فما تحتنا الا ارض واحدة، فقال ما تحتنا الى ارض واحدة و ان الست كلهم فوقنا.

اقول لا يخفى ما في هذا الحديث من الاشكال و عدم امكان تأويله حتى ينطبق على الاخبار و ظواهر الآيات او على اقوال الحكماء و الرياضيين، و هذا لا يوجب رده بل يجب التسليم و الانقياد له و ارجاعه الى متشابهات الاخبار، فان كلامهم صلوات اللّه عليهم كالقرآن له ظاهر و باطن، و منه محكم و متشابه و عامّ و خاصّ، و مطلق و مقيد و مجمل و مبين الى غير ذلك.

نعم قد وقع الخلاف بين ارباب الرياضي في الارضين السبع، فقال بعضهم بأنها طبقات سبع كما هو مدلول الاخبار، و منهم من قال انها طبقة واحدة لكن تعددها باعتبار الاقاليم السبعة، و آخرون ذهبوا الى انها ثلث طبقات الارض الصرفة البسيطة و الطينية و الظاهرة التي على وجه الارض و هي مع كرة الماء كرة واحدة و ثلث كرات الهوى و كرة النار و منهم من جعل الارض كرتين البسيطة و غيرها، و الماء كرة و منهم من قسّم الهوا كرتين، و منهم من قسمها اربع كرات، و هذه الوجوه لا ينطبق شيء منها على ظواهر الاخبار.

ص:121

نور عرشي

يكشف عن بعض احوال العرش و الكرسي

اعلم ان العرش في اصطلاح الحكماء و متابعيهم هو الفلك التاسع كما عرفت، و هو المحيط بكل المخلوقات و ليس فوقه شيء و لذا سموه محدد الجهات و منتهى الاشارة، و اما في اصطلاح اهل الشرع، فيقال على معان:

اولها علم اللّه عز و جل المحيط بكل شيء كاحاطة العرش الحسي بكل المخلوقات كما روينا في الاحاديث عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عز و جل وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ، فقال السموات و الارض و ما بينهما في الكرسي، و العرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره، هذا العرش هو المراد من قوله سبحانه وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فزقهم يَوْمَئِذٍ ثَمٰانِيَةٌ فقد روى ان الثمانية الذين يحملون هذا العرش يوم القيامة اربعة من الاولين و اربعة من الاخرين فاما الاولون فهم نوح و ابراهيم و موسى و عيسى، و اما الاخرون فهم محمد صلّى اللّه عليه و آله و علي و الحسنان عليهم السّلام لانهم عن حمل العرش بمعنى الجسم المخصوص في شغل شاغل، و قال الصدوق (ره) في الاعتقادات و انما صار هؤلاء حملة العلم لان الانبياء الذين كانوا قبل نبينا صلّى اللّه عليه و آله كانوا على شرائع الاربعة نوح و ابراهيم و موسى و عيسى، و عن قبل هؤلاء صارت العلوم اليهم و كذلك صار العلم من بعد محمد صلّى اللّه عليه و آله لعلي و ابنيه.

و ثانيها الملك كما رواه ابن سدير قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن العرش و الكرسي فقال ان للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب و وضع في القرآن صفة على حدة فقوله رب العرش العظيم يقول الملك العظيم.

و ثالثها عالم الامكان و هو ما سوى اللّه سبحانه، روى في تفسير قوله تعالى اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ، قال على كل شيء فليس شيء اقرب اليه من شيء و ذلك ان عرش السلطان هو محل جلوسه و مظهر عظمته، و هنا كل ذرة من ذرات المخلوقات فيها من الشواهد على غرائب صنعه و ظهور قدرته ما لا يدخل تحت العدّ و الاحصاء.

و في كل شيء له آية تدلّ على انه واحد

فكل مخلوق عرش له تعالى

و رابعها صفات الجلال و الاكرام فانها مظهر قدرته و اسباب عظمته.

و خامسها قلوب عباده المؤمنين فان كل قلب منها عرش لمحل معرفته و معدن عظمته، و في الحديث القدسي لا تسعني ارضي و لا سمائي و لكن وسعني قلب عبدي المؤمن و من هذا روى ان

ص:122

التفريق بين يوسف و يعقوب هو ان يعقوب قد شغف بحبّ يوسف فأدخل البيت غير صاحبه فرماه اللّه سبحانه بأيدي الفراق، و سمعت مشافهة من شيخنا الاجل صاحب التفسير الموسوم بنور الثقلين ان العرش يطلق في اصطلاح الاخبار على ستين معنى و لعله قال سبعين.

و سادسها المعنى المبحوث عنه هنا و هو الجسم العظيم المحيط بالسموات و الارضين و الكرسي ايضا على ما عرفت من الاخبار السابقة، و في بعضها ان الكرسي شامل للعرش و هو فوقه، و حينئذ فيحمل على احد معاني العرش غير الجسم المحيط مما يناسبه و روى الصدةق طاب ثراه باسناده الى ابي الصلت الهروي قال سأل المأمون ابا الحسن الرضا عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فقال ان اللّه تبارك و تعالى خلق العرش و الماء و الملائكة قبل خلق السموات و الارض و كانت الملائكة تستدل بانفسها و بالعرش و بالماء على اللّه عز و جل ثم جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فتعلم انه على كل شيء قدير ثم رفع العرش بقدرته و نقله فجعله فوق السموات السبع، ثم خلق السموات و الارض في ستة ايام و هو مستولي على عرشه و كان قادرا على ان يخلقها في طرفة عين و لكنه عز و جل خلقها في ستة ايام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء، فتستدلّ بحدوث ما يحدث على اللّه تعالى ذكره، و قيل انه سبحانه علّم خلقه التثبت و الرفق في الامور و روى ذلك عن سعيد بن جبير.

اقول و هذا الجسم العظيم قد خلق من النور كما دلت عليه الاخبار الكثيرة و في بعضها انه مخلوق من الهوى كما تقدم، و لا منافاة بينهما لا مكان ان يكون مركبا من الامرين الا ان الدزء الغالب فيه هو النور، فلذا اضيف اليه و كذلك الكرسي، و في الرواية عن الباقر عليه السّلام عن علي بن الحسين عليهما السّلام قال ان اللّه عز و جل خلق العرش ارباعا لم يخلق قبله الا ثلاثة اشياء الهواء و القلم و النور، ثم خلقه من انوار مختلفة فمن ذلك النور نور اخضر اخضرت منه الخضرة، و نور اصفر اصفرت منه الصفرة، و نور احمر احمرت منه الحمرة، و نور ابيض و هو نور الانوار و منه ضور النهار، ثم جعله سبعين الف طبق غلظ كلّ طبق كأول العرش الى اسفل الاسفلين ليس من ذلك طبق الا يسبح بحمد ربه و يقدسه باصوات مختلفة و السنة غير مشتبهة، و لو اذن للسان منها فأسمع شيئا مما تحته لهدم الجبال و المدائن و الحصون و لخسف البحار و لا هلك ما دونه، له ثمانية اركان على كل ركن منها من الملائكة ما لا يحصى عدهم الا اللّه عز و جل يسبحون الليل و النهار لا يفترون و لو حسّ شيء مما فوقه ما قام لذلك طرفة عين بينه و بين الاحساس الجبروت و الكبرياء و العظمة و القدس و الرحمة، ثم العلم و ليس هذا مقال و ليسا في التركيب من الدخان كالسماوات السبع.

ص:123

و اما كيفية عظمة هذا الجسم فلا يحيط بها الا علاّم الغيوب، و في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لما خلق اللّه تعال العرش خلق له ثلثمائة و ستين الف ركن، و خلق عند كل ركن ثلثمائة و ستين الف ملك لو اذن اللّه لاصغرهم ان التقم السموات السبع ما كان ذلك بين لهاته الا كالرملة في المفازة الغضغاضة (1)فقال اللّه تعالى لهم يا عبادي احملوا عرشي هذا فتعاطوه فلم يطيقوا حمله و لا تحريكه، فخلق اللّه مع كل واحد منهم واحدا فلم يقدروا ان يزعزعوه (2)فخلق اللّه مع كل واحد عشرة فقلم يقدروا ان يحركوه، فخلق بعدد كل واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا ان يحركوه، فقال عز و جلّ لجميعهم خلّوه عليّ امسكه بقدرتي فخلوه فأمسكه بقدرته، ثم قال لثمانية منهم احملوه انتم فقالوا لم نطقه و هذا الخلق الكثير و الجم العفير فكيف نطيقه الان دونهم فقال اللّه عز و جل ذلك لاني انا اللّه المقرب للبعيد و المذلل للعنيد و المخفف للشديد و المسهل لعسير افعل ما اشاء و احكم ما اريد اعلمكم كلمات تقولون بها يخفف عنكم قالوا و ما هي يا ربنا قال تقولون بسم اللّه الرحمن الرحيم و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم و صلّى اللّه على محمد و يله الطيبين الطاهرين، فقالوها فحملوه و خفّ على كواهلهم كشعرة نابتة على كاهل رجل جلد قوي، فقال اللّه لسائر تلك الاملاك خلّوا على هؤلاء الثمانية عرشي ليحملوه و طوفوا انتم حوله و سبحوني و مجدوني و قدسوني فاني انا اللّه القادر على ما رأيتم و على كل شيء قدير.

و عن الصادق عليه السّلام ان حملة هذا العرش اربعة املاك احدهم على صورة آدم يسترزق اللّه سبحانه لبني آدم و الثاني على صورة الديك يسترزق اللّه سبحانه للطيور و الثالث على صورة الاسد يسترزق اللّه سبحانه للسباع، و الرابع على صورة الثور يسترزق اللّه سبحانه للبهائم، و هو قد نكس راسه حياء من اللّه تعالى من عبد بنو اسرائيل العجل، و لا تنافي بين الاخبار لجواز ان يكونوا اربعة في وقت و ثمانية في وقت آخر.

و روى عن زين العابدين عليه السّلام انه قال ان للّه ملكا يقال له خرقائيل له ثمانية عشر الف جناح، ما بين الجناح الى الجناح خمسمائة عام فخطر له خاطر هل فوق العرش فزاده اللّه تعالى مثلها اجنحة اخرى، فكان له ست و ثلاثون الف جناح ما بين الجناح الى الجناح خمسمائة عام، ثم اوحى اللّه اليه ايها الملك طر، فطار مقدار عشرين الف عام لم ينل قائمة من قوائم العرش ثم ضاعف اللّه له في الجناح و القوة و امره ان يطير فطار مقدار ثلاثين الف عام لم ينل ايضا، فأوحى اللّه اليه ايها الملك اوطرت الى نفخ الصور مع اجنحتك و قوتك لم تبلغ الى ساق عرشي، فقال الملك سبحان ربي الاعلى.

ص:124


1- 44) غضغف الماء: نقصه و تغضغض الماء نقص و غاض.
2- 45) أي يحركوه زعزعة زعزعة حركة شديدا.

و عن الصادق عليه السّلام انه قال في العرش تمثال جميع ما خلق اللّه في البر و لبحر قال و هذا تأويل و ان من شيء الا عندنا خزائنه، و ان بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الاخرى خفقان الطير المسرع مسير الف عام، و العرش يكسى كل يوم سبعين الف لون من النور لا يستطيع ان ينظر اليه خلق من خلق اللّه سبحانه و في الخبر عن الصادق عليه السّلام قال ان للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب و وضع في القرآن صفة على حدة فقوله رب العرش العظيم، يقول اللّه الملك العظيم و قوله الرحمن على العرش استوى يقول على الملك احتوى و هذا ملك الكيفوفة في الاشياء ثم العرش في الاصل منفرد عن الكرسي لانهما بابان من اكثر ابواب الغيوب و هما جميعا غيبان و هما في الغيب مقرونان لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منه الاشياء كلها و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و الاين و المشيئة و صفة الارادة و علم الالفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء و هما في العلم بابان مقرونان لان ملك العرش سوى ملك الكرسي و علمه اغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال رب العرش العظيم، أي صفته اعظم من صفة الكرسي و هما في ذلك مقرونان قلت جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي، قال انه صار جاره لان علم الكيفوفية فيه و فيه الظاهر من ابواب البدع و اينيتها و حدّ رتقها و فتقها فهذان جاران احدها حمل صاحبه في الظرف الحديث.

نور حجابي يكشف عن بعض ما فوق العرش

قد عرفت ان الحما و الرياضيين و المنجمين و كثيرا من علماء الاسلام قد ذهبوا الى ان العرش هو منتهى المخلوقات و ليس فوقه شيء و قد اكثروا عليه من الدلائل و ليس دلائلهم هذا الا كدلائلهم على الاحكام السابقة التي كذبهم فيها القرآن و السنة المتواترة نعم العرش منتهى مسافة العقول و الافهام فلا تصل الى ما هو فوقه و لا حامت حول الكلام فيه و العرش في جهة الفوق كالثرى في جهة التحت، و قال الصادق عليه السّلام ذا انتهى الكلام الى الثرى فقد انقطع علم العلماء، و الظاهر ان المراد كون الثرى و العرش نهايتين للعلم الكسبي الذي يمكن محاولته بالفكر و النظر و ان كان بعضه صحيحا و الاخر باطلا فان العقول تتفاوت في الادراك و الاوهام تزيد و تنقص لاسبابها المألوفة كما قرر في محله.

و اما العلم الالهي الذي اتاه النبي و اهل بيته عليهم السّلام فق تجاوزا العرش و تحت الثرى، فقد روى عن الطاهرين عليهم السّلام ان اللّه تعالى خلق مائة الف قنديل و علقها، و العرش و السموات و الارض و ما فيها حتى الجنة و النار كلها في قنديل واحد و لا يعلم ما في القناديل الباقية الا اللّه، و روى الصدوق قدس اللّه روحه عن الرضا عليه السّلام انه قال أ ترى ان اللّه لم

ص:125

يخلق بشرا غيركم بلى و اللّه لقد خلق الف الف عالم و الف الف آدم انت في آخر تلك العوالم و اولئك الادميين.

و روى الصادق عليه السّلام انه قال ان الشمس تقطع اثنى عشر برجا و اثنى عشر برا و اثنى عشر بحرا و اثنى عشر عالما، و قال عليه السّلام ان اللّه خلق اثنى عشر الف عالم كل عالم منهم اكبر من سبع سموات و سبع ارضين ما يرى عالم غيرهم و اني الحجة عليهم، و لا يخفى ان هذه العوالم لا يكون الا فوق السموات و الاول صريح في كونها فوق العرش و ان العرش في بطن القناديل، فسبحان من جلت عظمته و منعت حوزته.

قال محيي الدين بن العربي في الباب الثامن من الفتوحات ان من جملة العوالم عالما على صورنا اذا ابصره العارف يشاهد نفسه فيه، و قد اشار الى ذلك عبد اللّه بن عباس فيما روى عنه في حديث الكعبة انها بيت واحد من اربعة عشر بيتا، و ان في كل من الارضين السبع خلقا مثلنا حتى ان فيهم ابن عباس مثلي، و صدقت هذه الرواية عند اهل الكشف و كلما فيه حي ناطق و هو باق لا يتبدل، و اذا دخله العارفون فانما يدخلونه بارواحهم لا بأجسامهم فيتركون هياكلهم في هذه الارض و يتجردون، و فيها مدائن لا تحصى و بضها تسمى مدائن النور لا يدخلها من العارفين الا كل مصطفى مختار و كل حديث و آية وردت عنها مما صرفها العقل عن ظاهرها وجدناها على ظاهرها في هذه الارض، انتهى.

و هذا العالم تسميه حكماء الاشراق الاقليم الثامن و عالم المثال و عالم الاشباح قال التفتازاني في شرح المقاصد و على هذا بنوا امر المعاد الجسماني فان البدن المثالي الذي تتصرف فيه النفس حكمه حكم البدن الحسي في ان له جميع الحواس الظاهرة و الباطنة فتلتذ و تتألم باللذات و الالام الجسمانية.

و قال صاحب شرح حكمة الاشراق ان الصور الخيالية لا يكون موجودة في الاذهان لامتناع انطباع الكبير في الصغير، و لا في الاعيان و الا لرءاها كل سليم الحس، و ليست عدما محضا و الا لما كانت متصورة و لا متميزا بعضها عن بعض، و لا محكوما عليها بأحكام مختلفة، و اذا هي موجودة فليست في الاعيان و لا في الاذهان و لا في عالم العقول لكونها صورا جسمانية لا عقلية فبالضرورة تكون موجودة في صقع، و هو عالم يسمى بالعالم المثالي و الخيالي متوسط بين عالمي العقل و الحس لكونه بالرتبة فوق عالم الحس و دون عالم العقل لانه اكثر تجردا من الحس و اقل تجردا من العقل، و فيه جميع الاشكال و الصور و المقادير و الاجسام و ما يتعلق بها من الحركات و السكنات و الاوضاع و الهيئة و غير ذلك قائمة بذاتها متعلقة لا في مكان و محل، و اليه الاشارة بقوله و الحق في صور المرايا و الصور الخيالية انها ليست منطبعة، أي في المرأة و الخيال لا في غيرهما، بل

ص:126

هي صياصي أي ابدان معلقة في عالم المثل ليس لها محل لقيامها بذاتها و قد يكون لها أي لهذه الصياصي المعلقة لا في مكان مظاهر و لا يكون فيها لما بينا فصور المرءاة مظهرها المرءاة و هي معلقة لا في مكان و لا في محل، و صور الخيال مظهرها الخيال و هي معلقة لا في محل.

و اما الحجب فهي قسمان قسم منها تحت العرش و قسم منها فوقه روى الصدوق (ره) مسند الى وهب قال سئل امير المؤمنين عليه السّلام عن الحجب فقال اول الحجب سبعة، غلظ كل حجاب منها مسيرة خمسمائة عام و طوله خمسمائة عام حجبة كل حجاب منها سبعون الف ملك قوة كل لك منها قوة الثقلين، منها ظلمة و منها نور و منها دخان و منها سحاب و منها رعد و منها برق و منها ضوء و منها رمل، و منها جبل و منها عجاج و منها ماء و منها انهار، و هي حجب مختلفة غلظ كل حجاب مسيرة سبعين الف عام، ثم سرادقات الجلال و هي ستون سرادقا في كل سرادق سبعون الف ملك بين كل سرادق و سرادق مسيرة خمسمائة عام، ثم سرادق الفخر ثم سرادق الكبرياء ثم سرادق العظمة ثم سرادق القدس ثم سرادق الجبروت ثم سرادق الفخر ثم سرادق النور الابيض ثم سرادق الوحدانية و هي مسيرة سبعين الف عام، ثم الحجاب الاعلى و انقضى كلامه و سكت عليه السّلام ثم قال عمر لا بقيت ليوم لا اراك فيه يا ابا الحسن و قال عليه السّلام ان للّه سبعين الف حجاب من نور لو كشف منها حجاب واحد لاحرقت سبحات جلاله ما في الكونين، و الاخبار الواردة في هذا الباب كثيرة، فدلّ هذا و امثاله على ان العرش ليس هو منتهى المخلوقات بل فوقه ما هو اعظم منه بمراتب غير متناهية فلا تغفل.

نور قمري يتعلق باحوال القمر

اعلم ان الذي بينوه هو ان نور القمر مستفاد من نور الشمس و مستضيء به و يزيد و ينقص نوره بالقرب من الشمس و البعد عنها كما هو مذكور في كتب الهيئة، و من هذا تمت المشابهة في تفسير قوله تعالى و الشمس و ضحها و القمر اذا تليها، بان المراد من الشمس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من القمر امير المؤمنين عليه السّلام فان نور علمه مأخوذ من نور علم النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لكن سيأتي ان شاء اللّه تعالى في الاخبار ما يدل على ان للقمر نورا ذاتيا غير مأخوذ من غيره، و لا منافاة بينهما لجواز اجتماع النورين فيه كما اجتمعا في المشبه الذي هو علي عليه السّلام فان اللّه تعالى قد أتاه من العلم فنونا كثيرة فأكملها النبي صلّى اللّه عليه و آله في حياته و عند وفاته حيث ادخله تحت ثيابه، و لما خرج قيل له يا علي ما قال لك ابن عمك قال علمني الف باب من العلم ينفتح من كل باب الف باب.

و اما مادة القمر و اجزاؤه فقد عرفت اجماع الفلاسفة و متابعيهم على بساطة الكواكب و عدم تركبها و اما اخبار اهل البيت عليهم السّلام فقد روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى ابن

ص:127

مسلم قال قلت لابي جعفر عليه السّلام جعلت فداك لاي شيء صارت الشمس اشد حرارة من القمر، فقال ان اللّه تبارك و تعالى خلق الشمس من نور النار و صفو الماء طبقا من هذا و طبقا من هذا حتى صارت سبعة اطباق البسها لباسا من نار، فمن صارت اشد حرارة من القمر و خلق القمر من نور النار و صفوا الماء طبقا من هذا و طبقا من هذا حتى صارت سبعة اطباق البسها لباسا من ماء، فمن ثم صار القمر ابرد من الشمس، و يجوز ان يكون التركيب من الاطباق السبع لاستضائة السموات السبع، و اما العرش و الكرسي فلهما نور غيرهما هذا كما سيأتي.

فان قلت اذا كان وجه القمر من صافي الماء فما هذا السواد و الكلف الذي على وجه القمر قلت قد تحيّر ارباب علم الفلك في سببه على اقوال سبعة، الاول ما قيل انه خيال لا حقيقة له، و رد بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه لاستحالة توافقهم كلهم في خيال واحد، الثاني ما قيل من انه شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الجبال و البحار و غيرهما و اجيب عنه بأنه يلزم ان تختلف القمر في قربه و بعده و انحرافه عما ينطبع فيه.

الثالث انه السواد الكائن في الوجه الاخر و ردّ بأنه يجب على هذا ان لا يرى هذا متفرقا، الرابع ان سببه التأذي من كرة النار لقرب ما بينهما و اجاب عنه ابن سينا في شفائه بأن هذا لا يلائم الاصول الحكمية، فان الاجرام الفلكية لا تفعل عن الاجسام العنصرية و ايضا قالوا ان الفلك غير قابل للتسخنّ عندهم الخامس ان جزء منه لا يتقبل النور كسائر اجزائه القابلة له قلنا فاذن لا يطرد القول ببساطة الفلكيات كما زعمتم اذ القمر حينئذ مركب من اجزاء متخالفة الحقايق، و يبطل على هذا جميع قواعدهم المبينة على بساطتها.

السادس هو وجه القمر فانه مصوّر بصورة انسان أي بصورة وجه الانسان، فله عينان و حاجبان و أنف و فم، و ردّ بأه يلزم ان يتعطل فعل الطبيعة عندهم، لان لكل عضو طلب نفع او دفع ضرر، فان الفم لدخول الغذا و الانف لفائد الشم و الحاجبين لدفع العرض عن العينين، و ليس القمر قابلا لشيء من ذلك فيلزم التعطيل الدائم فيما زعمتم انه أحسن النظام و ابلغه، السابع و هو الذي اختاره صاحب التذكرة و كثير من المتأخرين ان هذا الكلف اجسام سماوية مختلفة مععه في تدويره غير قابلة للانارة بالتساوي حافظة لوضعها معه دائما، فاذا كانوا على هذا النحو من الاختلاف في جزئي من جزئيات الكواكب فكيف اطلعوا على كلياتها و احاطوا بها، ما هذا إلاّ رجم بالغيب و قول مستند الى الريب.

و اما سببه من طريق الاخبار فروى الصدوق قدس اللّه روحه مسندا الى يزيد بن سلام قال ما بال الشمس و القمر لا يستويان في الضوء و النور، قال لما خلقهما اللّه عز و جل اطاعا و لم

ص:128

يعصيا شيئا فأمر اللّه عز و جل جبرئيل ان يمحو ضوء القمر فمحاه فأثر المحو في القمر خطوطا سوداء و لو ان القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس لما عرف الليل من النهار و لا النهار من الليل.

و روى القاسم بن معاوية قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام هؤلاء يروون حديثا في معراجهم أنه لما اسرى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأى على العرش لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه ابو بكر الصديق فقال سبحان اللّه غيروا كل شيء حتى هذا قلت نعم قال ان اللّه عز و جل لما خلق العرش كتب عليه لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه و لما خلق الماء كتب في مجراه لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين و لما خلق اللّه عز و جل الكرسي كتب على قوائمه لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين، و لما خلق اللّه عز و جل اللوح كتب فيه لا الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين، و لما خلق اللخ اسرافيل كتب على جبهته لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين و لما خلق السموات كتب على اكنافها لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين، و لما خلق اللّه عز و جل الارضين كتب على اطباقها لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين، و لما خلق اللّه عز و جل الجبال كتب على رؤسها لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين، و لما خلق اللّه عز و جل القمر كتب عليه لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي امير المؤمنين، و هو السواد الذي ترونه في القمر، فاذا قال احدكم لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه فليقل علي امير المؤمنين و لا منافاة بين هذين الخبرين لجواز ان يكون المحو الواقع في حديث الاول بهذه الكتابة الواقعة في الحديث الثاني، و اما عدم مشاهدة هذا السواد في جرم الشمس فلعله باعتبار زيادة نورها لا يرى ما في وجهها كما هو شأن الاجسام المضيئة.

و قد وقع الخلاف بين اهل صناعة الفلك في ان فلك الشمس هو هو فوق فلك الزهرة و عطارد او تحتهما، و ذلك لما عرفت من ان الشمس عندهم لا تنكسف الا بالقمر و لا يتصور كسفها بشيء من الكواكب لانها تستتر بشعاعها، و من هذا ارجعوا الترتيب الى شمسة القلادة لكن قال ابن سينا و جماعة انهم رأوا الزهرة في وجه الشمس كالشامة كاسفة لها، و ذهب مؤيد الدين العرضي و صاحب التحفة الى ان فلك الزهرة دون فلك عطارد و فوق فلك الشمس، و كذبّوا ابن سينا فيما زعم، و قالا ان في وجه الشمس نقطة سوداء فوق مركزها بقليل كالمحو في وجه القمر، فهذه النقطة هي الشامة و اما الشامتان فجاز ان تكون احديهما هذه النقطة و الاخرى عطارد هذا كلامهم.

اقول بناء على هذه الاخبار يجوز ان يكون ذلك السواد المشاهد على وجه الشمس هو هذا المكتوب فتارة يشاهد نقطة و تارة يشاهد نقطتان، و هذا المحو الذي في القمر هو احد معاني

ص:129

قوله عز من قائل فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم، و يستفاد من قوله عليه السّلام اذا قال احدكم لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه فليقل علي امير المؤمنين، عموم استحباب المقارنة بين اسميهما عليهما السّلام الا ما اخرجه الدليل كالتشهدات الواجبة في الصلوة لانها وظائف شرعية، و اما الاذان فهو و ان كان من مقدمات الصلوة الا انه مخالف لها في اكثر الاحكام، فلا يبعد القول من هذا الحديث باستحباب لفظ علي و لي اللّه أو امير المؤمنين او نحو ذلك في الاذان لان الغرض الاتيان بأسمه كما لا يخفى.

و يؤيد هذا ما رأيته في الطيف ليلة عيد شهر رمضان المبارك و الظاهر انها كانت ليلة الجمعة و قد حصل لي في النهار انكسار و خشوع و تضرع، فرأيت كأني في بريّة واسعة و اذا فيها بيت واحد الناس تقصده من كل طرف فقصدته معهم فرأيت رجلا جالسا على باب ذلك البيت و هو يفتي الناس بالمسائل فسألت عنه فقالوا هذا هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأستفرجت الناس و تقدمت اليه صلّى اللّه عليه و آله فقلت له يا جدّه انه قد انتهى اليّ دعاء من جنابكم انه يقرأ اول الصلوة، و هو اللهم اني اقدم اليك محمدا بين يدي حاجتي و أتوجه به اليك الدعاء، و لم يذكر مع اسمك المبارك اسم علي بن ابي طالب و الفقير يقرن بين اسميكما و يخاف ان يكون قد ابدع في الدعاء حيث انه لم ينقل اليه عنكم الا كما قلت، فقرن بين اصبعيه على ما اظن و قال ان ذكر اسم علي مع اسمي ليس ببدعة، و الظاهر انه امرني بما ورد في هذا الحديث من انك اذا ذكرت اسمي فاذكر معه اسم علي فلما تيّقظت رأيت ذلك الدعاء في بعض الكتب و فيه اسم علي عليه السّلام و الذي يأتي على هذا ان يذكر اسم علي عليه السّلام في الاذان و ما شابهه نظرا الى استحباب العام و لا يقصد انه وظيفة شرعية في خصوص هذا الموضع، و هكذا الحال في اكثر الاذكار مثلا قول لا اله الا اللّه مندوب اليه في كل الاوقات، فلو خصّ منه عدد في و م معين لكان قد ابدع في الذكر و كذا سائر العبادات المستحبة فتأمل.

بقي الكلام في خسوف القمر فقد قال الرياضيون السبب فيه انه قد يكون القمر مقابلا للشمس بقرب العقدتين فتكون الارض حينئذ واقعة بينه و بين الشمس فتمنع الارض ضوءها عنه فيرى كما هو لونه الاصلي، و لان جرم الارض كثيرا من جرم الشمس و ذكروا انه يقابل جرم الارض بثلثمائة مرة فيقع الظل الناشئ من الارض مخروطا قاعدته دائرة صغيرة على الارض و رأسه على محاذاة جزء من اجزاء فلك البروج مقابلا لجزء منه حلّ فيه الشمس، فان لم يكن للقمر في حال المقابلة عرض بأن يكون في احدى العقدتين انخسف كله لانه اصغر من الارض، بل من غلظ الظل حيث وصل اليه فيقع كله في داخله و مكث فيه زمانا، و ان كان له عرض فان كان ذلك العرض بقدر نصف قطر صفحة القمر و نصف قطر دائرة الظل لم ينخسف، و ان كان ذلك

ص:130

العرض اقلّ من مجموع النصفين انخسف بعضه، و ذلك بقدر تقاطع القطرين أي تلاقيهما و تداخلهما، فان فرض ان هذا العرض الاول يساوي فضل نصف قطر الظل على نصف قطر القمر انخسف كله و ماسّ سطحه دائرة الظل من داخل و لم يكن له مكث، و ان كان اقل من ذلك الفضل انخسف بتمامه و مكث بحسب وقوعه في الظل هذا محصّل ما قالوه في خسوف القمر.

و اما كسوف الشمس فقالوا انه عند اجتماع القمر بالشمس في النهار اجتماعا مرئيا لا حقيقيا، ان لم يكن للقمر عرض مرئي يحجب بيننا و بين الشمس لوقوعه على الخط الخارج من ابصارنا اليها، فلم نر ضوء الشمس بل نرى لون القمر الكمد في وجه الشمس، فنظن ان الشمس ذهب ضوئها و هو الكسوف، ليس الكسوف تغيّر حال في ذات الشمس كالخسوف في ذات القمر، و لذلك امكن ان يقع كسوف بالقياس الى قوم دون قوم و يكون ذلك بقدر صفحة القمر فربما انكسف الشمس كلها، ان كان اصغر منها و ذلك لانه اقرب الين-ا فيؤثر قطره الزواية تؤثرها الشمس كاملا فتحجب به عنا بتمامها.

و ربما يكون الشمس وقت انكسافها في حضيضها فلقربها منا ترى اكبر و يكون القمر حينئذ في اوجه فلبعده عنا يرى اصغر فلا يكسف جميع صفحتها، بل يبقى منها حلقة نور محيط، به و قد قيل ان تلك الحلقة النورانية رأت على وجهها في بعض الكسوفات مع ندرته و ان كان للقمر في ذلك الاجتماع عرض مرئي، فان كان ذلك العرض بقدر مجموع نصف قطرهما لم يكسفها، و ان كان اكثر منهما فبالطريق الاولى، و ان كان اقل منهما كسفها بقدر ذلك، هذا حاصل كلامهم في الكسوفين.

و اما الذي ورد في الاخبار عن الائمة عليهم السّلام فروى الصدوق طاب ثراه عن زين العابدين عليه السّلام انه قال ان من الآيات التي قدّرها اللّه عز و جل للناس مما يحتاجون اليه البحر الذي خلقه اللّه بين السماء و الارض، قال و ان اللّه تعالى قد قدر منها مجاري الشمس و القمر و النجوم و قدّر ذلك على الفلك، ثم و كلّ بالفلك ملكا معه سبعون الف ملك يديرون الفلك، فاذا اداروه دارت الشمس و القمر و النجوم معه فنزلت منازلها التي قدرها اللّه تعالى ليومها و ليلتها، فاذا كثرت ذنوب العباد و احبّ اللّه ان يستعتبهم بآية من آياته امر الملك الموكل بالفلك ان يزيل الفلك عن مجاريه، قال فيأمر الملك السبعين الالف الملك ان يزيلوا الفلك عن مجاريه قال فيزيلونه فتصير الشمس في ذلك البحر الذي كان فيه الملك، فيطمس ضوئها و يتغير لونها فاذا اراد اللّه عز و جل ان يعظم الاية غمست في البحر على ما يجب ان يخوف عباده بالاية قال و ذلك عند انكساف الشمس و كذلك يفعل بالقمر، فاذا اراد اللّه عز و جل ان يجريها و يردّها الى مجريها امر الملك الموكل بالفلك ان يردّ الفلك الى مجراه فيرد الفلك و ترجع الشمس الى مجريها، قال فتخرج من الماء

ص:131

و هي كدرة و القمر مثل ذلك، قال علي بن الحسين عليهما السّلام اما انه لا يفزع للايتين و لا يرهب الا من كان من شيعتنا، فاذا كان ذلك منهما فافزعوا الى اللّه تعالى و راجعوه.

قال الصدوق (ره) ان الذي يخبر به المنجمون من الكسوف فيتفق على ما يذكرونه ليس من هذا الكسوف في شيء و انما يجب الفزع الى المساجد و الصلوة عند رؤيته، لانه مثله في المنظر و شبيه له في المشاهدة كما ان الكسوف الواقع مما ذكره سيد العابدين عليه السّلام انما وجب الفزع فيه الى المساجد و الصلوة لانه آية تشبه آيات الساعات و كذلك الزلازل و الرياح و الظلم و هي آية تشبه آيات الساعة، فأمرنا بتذكر القيامة عند مشاهدتها و الرجوع الى اللّه تبارك و تعالى بالتوبة و الانابة، و الفزع الى المساجد التي هي بيوته في الارض، و المستجير بها محفوظ في ذمة اللّه تعالى ذكره.

اقول قوله عليه السّلام البحر الذي خلقه اللّه بين السموات و الارض كما تضمنه هذا الحديث موجود في كثير من الاخبار، و هو ان اللّه سبحانه خلق بحرا بين السماء و الارض و امسكه بقدرته، و هذه الخضرة التي نراها هي خصرة ماء ذلك البحر و لا يحتاج هذا و امثاله الى التأويل حتى ينطبق على مذهب الفلاسفة، لان مثله يحوج الى تأويل الاخبار كلها من غير ضرورة، و تصديق هذا ما رواه صاحب كشف الغمة باسناد الى صفوان الجمال، قال كنت ند ابي عبد اللّه عليه السّلام بالحيرة اذ اقبل الربيع، فقال أجب امير المؤمنين فلم يلبث ان عاد فقلت دعاك فأسرعت الانصراف، فقال انه سألني عن شيء فألق الربيع فاسأله عنه كيف صار الامر الذي سألني عنه قال صفوان و كان بيني و بين الربيع لطيف، فخرجت فأتيت الربيع فسألته عما دعا المنصور ابا عبد اللّه عليه السّلام لاجله، فقال الربيع اخبرك بالعجب ان الاعراب خرجوا يجتنون الكمأة فأصابوا في البدو خلقا ملقى فأتوا به فأدخلته على المنصور لاعجبه منه، فوضعته بين يديه فلما رآه قال نحّه و ادع لي جعفر بن محمد عليه السّلام فدعوته فقال يا ابا عبد اللّه أخبرني عن الهوى ما فيه، فقال في الهوى موج مكفوف فقال فيه سكان، قال نعم قال و ما سكّانه قال خلق ابدانهم خلق الحيتان رؤسهم رؤس الطير و لهم اعراف كأعراف الديكة و بغابغ كبغابغ الديكة، و اجنحة كأجنحة الطير في الوان اشد بياضا من الفضة المجلوة، فقال المنصور هلّم الطشت فجئت بها و فيها ذلك الخلق فاذا هو و اللّه كما وصف جعفر بن محمد عليهما السّلام فلما نظر اليه جعفر عليه السّلام قال هذا هو الخلق الذي يسكن الموج المكفوف، فأذن له بالانصراف فلما خرج قال ويلك يا ربيع هذا الشجا المعترض في حلقي من اعلم الناس.

و اما قوله عليه السّلام ثم وكّل بالفلك ملائكة يديرونه، فهو مما يدل على ان حركته ليست بالارادة و الاختيار منه كما قاله الفلاسفة و متابعوهم من ان الافلاك بأجمعها حيّة ناطقة عاشقة مطيعة لمبدعها و خالقها، و اكثرهم على ان غرضها من حركاتها نيل التشبيه بجانبه و التقرّب اليه جلّ شأنه، و بعضهم على ان حركاتها لورود الشوارق القدسية عليها آنا فآنا، فهي من قبيل الطرب

ص:132

و الرقص الحاصل من شدة السرور و الفرح، و قال ان البعوضة و النملة فما دونها حيّة فما ظنك بأجرام شريفة تنزل من حركاتها البركات، و هذا الكلام مصادم للاجماع و الاخبار.

اما الاول فقال علم الهدى طاب ثراه في كتاب الغرر و الدرر لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة عن الفلك و ما يشتمل عليه من الكواكب فأنها مسخرة و مدبرة و اما الثاني فالاخبار الدالة عليه مستفيضة بل متواترة، منها ما رواه رئيس المحدثين شيخنا الكليني طاب ثراه في باب حدوث العالم عن الصادق عليه السّلام مع الزنديق، قال فيه أما ترى الشمس و القمر و الليل و النهار يلجان فلا يشتبهان و يرجعان قد اضطرا ليس لهما مكان الا مكانهما فان كانا يقدر ان على ان يذهبا فلم يرجعان و ان كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا و النهار ليلا إضطرا و اللّه يا أخا اهل مصر الى دوامها و الذي اضطرهما احكم منهما و اكبر الحديث.

نعم نقول ان الافلاك كغيرها من سائر الجمادات لها شعور التسبيح و الذكر و الخضوع و الانقياد لخالقها بلسان المقال لا بلسان الحال كما قاله المرتضى (ره) و شاهده قوله عز من قائل و ان من شيء الا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم، و في الخبر ان تسبيح الماء دويه و الرعد صوته و الجدار سقوطه، و قد راز عابد عابدا فلما جلس معه في البيت و اذا السقف يتقرقع فخاف الضيف، فقال له صاحب المنزل لا تخف فان هذا السقف يسبح اللّه و يعبده فقال الضيف نعم يا أخي و لكن أخاف أن تدركه الرقة فيسجد و نظر بعض الاعلام الى ظاهر الاية و قال ان تسبيح الحصا في يده صلّى اللّه عليه و آله ليس بمعجزة له، بل المعجزة هنا اسماع الصحابة ذلك التسبيح و كذلك الوحوش و الطيور و الحيتان على ما روى من ان الطير لا يقع في الحبالة الا عند غفلته عن ذكر اللّه و التسبيح، و كذلك السمك و الوحوش و الطيور.

و قوله عليه السّلام و ذلك عند انكساف الشمس و كذلك يفعل بالقمر فيه دلالة ظاهرة على ان الشمس و القمر في فلك واحد، و لا يعارض هذا سوى أقاويل المنجمين و دلائلهم و الا فقد تحققت ان الثوابت انما هي في السماء الاولى و لا نقول كل الكواكب فيها (فيه خ ل) فأنه قد روى في الاخبار ان من الكواكب ما يكون في غيرها روى الصدوق طاب ثراه بأسناده الى ابن مزاحم قال سأل علي عليه السّلام عن الطارق، قال هو احسن نجم في السماء و ليس تعرفه الناس، و انما سمى الطارق لانه يطرق نوره سماء سماء الى سبع سموات ثم يطرق راجعا حتى يرجع الى مكانه، و عن الصادق عليه السّلام انه قال لليماني ما زحل عندكم في النجوم فقال اليماني نجم نحس، فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام لا تقل هذا فأنه نجم امير المؤمنين عليه السّلام و هو نجم الاوصياء عليهم السّلام و هو نجم الثاقب الذي قال اللّه في كتابه فقال اليماني فما معنى الثاقب فقال ان مطيعه في السماء السابعة و انه ثقب بضوئه حتى اضاء في السماء الدنيا فمن ثم سماه اللّه النجم الثاقب.

ص:133

أقول يمكن ان يكون هذا هو الطارق بعينه و يكون معنى قوله عليه السّلام لا تعرفه الناس انهم لا يعرفون صفاته و علاماته و انتهاء انواره و ان عرفوا اسمه و بعض احكامه، فان الكواكب التي عرفوها بالارصاد هي السبعة السيارة و عرفوا من الثوابت الفا و اثنين و عشرين او خمسا و عشرين ثوابت، رصدوها و عينوا مواضعها طولا و عرضا بالنسبة الى منطقة البروج و اما غير المرصودة من الثوابت فغير محصورة.

و روى رئيس المحدثين شيخنا الكليني طاب ثراه عن الصادق عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل خلق نجما في الفلك السابع فخلقه من ماء بارد و سائر النجوم الستة الجاريات من ماء حار و هو نجم الانبياء و الاوصياء و هو نجم امير المؤمنين عليه السّلام يأمر بالخروج من الدنيا و الزهد فيها و يأمر بافتراش التراب و توسد اللبن و اكل الجشب و ما خلق اللّه نجما اقرب الى اللّه منه و هذا النجم هو زحل، و فيه دلالة على خطاء المنجمين في طبائع الكواكب و في سعودها و نحوسها، فان زحل عندهم انحس الكواكب كما عرفت.

و ام قول الصدوق (ره) ان الذي يخبر به المنجمون من الكسوف فهو غير هذا فلا يخفى ما فيه اذ المنجمون يخبرون بأكثر الكسوفات بل بكلها على ما هو المشاهد منهم في هذه الاعصار، نعم قد يخبرون عنه فلا يقع و لكن كلما يقع يخبرون عنه قبل وقوعه و سيأتي تحقيق الجواب عنه في النور الاتي ان شاء اللّه تعالى اذا عرفت هذا.

فاعلم ان بعض المحققين ممن قال بمقالة المنجمين و اهل الفلسفة من حيوة الافلاك و الكواكب و ان كل واحد من السيارات السبع مدبر لفلكه كالقلب في بدن الحيوان ان كل كوبك منها ينزل مع افلاكه منزلة حيوان واحد ذي نفس واحدة يتعلق بالكواكب اول تعلقها، و بواسطة الكواكب يتعلق بالافلاك كما يتعلق نفس الحيوان بقلبه و بأعضائه الباقية بعد ذلك، فالقوة المحركة منبعثة عن الكواكب الذي هو كالقلب في افلاكه التي هي كالجوارح و الاعضاء الباقية، قد استدل على حيوة القمر و تصرفه في فلكه بالفقرات المذكورة في اول دعاء الهلال من الصحيفة السجادية، و هي قوله عليه السّلام ايها الخلق المطيع الدائب السريع، المتردد في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير، و وجه الاستدلال بأمور.

الاول من جهة الخطاب و توجيهه اليه و ذلك لا يكون الا لصاحب الحياة الثاني وصفه بالسرعة فان المراد بحركته السريعة اما الحركة اذلاتية التي يدور بها على نفسه كما قال به جمع كثير من محققي الحكماء في كل الكواكب و فرّع عليه المحقق الطوسي طاب ثراه كون المحق المرئي في وجه القمر شيئا غير ثابت في جرمه و الا لتبدّل وضعه و اما حركته العرضية التي بتوسط فلكه و هو

ص:134

الاظهر لان الاولى غير محسوسة و لا معروفة و الحمل على المحسوس المتعارف أولى و سرعة حركة القمر بالنسبة الى سائر الكواكب.

اما الثوابت فظاهر لكون حركتها من ابطأ الحركات حتى ان اكثر القدماء لم يدركوها، و من ادركها من قدمائهم و متأخريهم قال انها تتمّ الدورة في ثلاثين الف سنة، و قيل انها تتم الدورة في ستة و ثلاثين الف سنة بناء على ان بطليموس وجد بالرصد انها تقطع في كل سنة جزء واحدا، و قيل تتم الدورة في ثلاثة و عشرين الف سنة و سبعمائة و ستين سنة بناء على ما وجده المتأخرون في زمان المأمون من انها تقطع درجة واحدة في كل ست و ستين سنة، و قيل تتمها في خمسة و عشرين الف سنة و مائتي سنة بناء على ان جماعة من محققي المتأخرين وجدوها تقطع جزء واحدا في كل سبعين سنة و هذا هو الموافق للرصد الجديد الذي بمراغة، و اما السيارات فلأن زحل يتم الدورة في ثلاثين سنة، و المشتري في اثنتي عشرة سنة، و المريخ في سنة و عشرة أشهر و نصف و كلا من الشمس و الزهرة و عطارد في قريب من السنة.

و اما القمر فيتم الدورة في قريب من ثمانية و عشرين يوما، و قال شيخنا البهائي (ره) لا يبعد ان يكون وصفه عليه السّلام القمر بالسرعة باعتبار حركته المحسوسة على انها ذاتية له بناء على تجويز بعض الحركات للسيارات في افلاكها من قبيل الحيتان في الماء كما ذهب اليه جماعة، و يؤيده ظاهر قوله تعالى وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، و دعوى امتناع الخرق على الافلاك لم تقترن بالثبوت و ما لفقه الفلاسفة لاثباتها اوهن من بيت العنكبوت لابتنائه على عدم قبول الافلاك بأجزائها الحركة المستقيمة و دون ثبوته خرط القتاد، و التنزيل الالهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ناطق بانشقاقها، و ما ثبت من معراج نبينا صلّى اللّه عليه و آله بجسده المقدس الى السماء السابعة فصاعدا شاهد بانخراقها.

الثالث من قوله عليه السّلام المتصرف في فلك التدبير فان ظاهر التصرف الحياة و الادراك كما هو ظاهر و الجواب اما عن الاول فبأن الخطاب لا يدل على الحياة لانه قد تعارف نداء الاطلال و المنازل و اما عن الثاني فبأن خالقه و مدبره و مقدره هو الذي يحركه بسرعة و بطوء و اما عن الثالث فبأن اضافة الفلك الى التدبير من قبيل اضافة الظرف الى المظروف أي الفلك الذي هو محل التدبير نظرا الى ان ملائكة سماء الدنيا يدبرون امر العالم السفلي كما ذكره جماعة من المفسرين في قوله فالمدبرات امرا.

ص:135

نور شمسي

اعلم وفقك اللّه ان من اعظم نعم اللّه تعالى على عباده خلق الشمس ضياء لهم و للسعي الى المعايش و لنضج الاثمار و لمعرفة الاوقات و غير ذلك من الفوائد و هذا النور الذي هو فيها هل هو ذاتي لها أم حصل لها من جسم آخر كالعرش كما حصل للقمر نور منها، و لعل في الاخبار دلالة على الامرين، و وجه الجمع ما تقدم في القمر و قد روى شيخنا الكليني عطر اللّه مردقه بسند صحيح عن عاصم بن حميم عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال ذاكرت أبا عبد اللّه عليه السّلام فيما يروونه من الرؤية فقال الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي و الكرسي جزءا من سبعين جزء من نور العرش، و العرش جزءا من سبعين جزءا من نور الحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر، فان كانوا صادقين فليملؤا اعينهم من نور الشمس ليس دونها سحاب، و هذا الحديث يحتمل الامرين لان قوله عليه السّلام جزء من سبعين جزءا يجوز ان يكون المراد في المقابلة و المعادلة، و يجوز ان يكون في الاكتساب و الاستفاضة منه.

و روى الصدوق (ره) باسناده الى ابي ذر الغفاري (رض) قال كنت آخذا بيد النبي صلّى اللّه عليه و آله و نحن نتماشى جميعا، فما زلنا ننظر الى الشمس حتى غابت فقلت يا رسول اللّه أين تغيب قال في السماء، ثم ترفع من سماء الى سماء حتى ترفع الى السابعة العليا حتى تكون تحت العرش فتخرّ ساجدة معها الملائكة الموكلون بها، ثم تقول يا رب من اين تأمرني ان اطلع من مغربي أو من مطلعي، فذلك قوله عز و جل وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهٰا ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ، يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه بخلقه، قال فيأتيها جبرئيل عليه السّلام بحلّة ضوء من نور العرش على مقادير لساعات النهار في طوله في الصيف أو قصره في الشتاء أو ما بين ذلك في الخريف و الربيع، قال فتلبس تلك الحالة كما يلبس أحدكم ثيابه ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله فكأني بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثم لا تكسى ضوء و تؤمر ان تطلع من مغربها، فذلك قوله عز و جل اذا الشمس كورت و اذا النجوم انكدرت، و القمر كذلك من مطلعه و مجراه في افق السماء و مغربه و ارتفاعه الى السماء السابعة و يسجد تحت العرش و جبرئيل يأتيه بالحلّة من نور الكرسي، فذلك قوله عز و جل و جعل الشمس ضياء و القمر نورا، قال ابو ذر (ره) ثم اعتزلنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصلينا المغرب.

و اما حركة الشمس فقد عرفت انها بالجبر و الاضطرار لا بالشعور و الاختيار كما قاله الحكماء و المنجمون، روى الصدوق (ره) عن محمد بن مسلم أنه سئل ابا جعفر عليه السّلام عن ركود الشمس فقال يا محمد ما اصغر جثتك و اعضل مسألتك و انك لاهل الجواب، ان الشمس اذا

ص:136

طلعت جذبها سبعون الف ملك بعد ان أخذ بكل شعبة منها خمسة الاف من الملائكة من بين جاذب دافع حتى اذا بلغت الجو و جازت الكوّة قلّبها ملك النور ظهر البطن فصار ما يلي الارض الى السماء و بلغ شعاعها تخوم العرش، فعند ذلك نادت الملائكة سبحان اللّه و الحمد للّه و لا اله الا اللّه و الحمد للّه الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له وليّ من الذل و كبره تكبيرا، فقلت له جعلت فداك أحافظ على هذا الكلام عند زوال الشمس فقال نعم حافظ عليه كما تحافظ على عينيك، فاذا زالت الشمس صارت الملائكة من ورائها يسبحون اللّه في ذلك الجو الى ان تغيب.

اقول يستفاد من هذا الحديث اسرار، الاول ان نور الشمس اذا زالت يشرع في النقصان الى ان تغيب، فظهر ان السبب فيه قلب ملك النهار لها و كون قفاها صار الينا وضوئها اقلّ من ضوء وجهها، الثاني ان حركة الشمس من ابتداء الزوال يكون اسرع من حركتها اول النهار كما هو المشاهد فظهر سببه ايضا و هو أنها في اول النهار كانت صاعدة و من الزوال صارت هابطة، و حركة الهبوط اسرع من حركة الصعود كما لا يخفى، و قد لحظ الشارع هذا فجعل لفريضة الظهر قدمين و للعصر اربعة، و ذلك ان الجسم الاخذ في الهبوط كلما توغل فيه اسرع في الحركة فيكون اربعة أقدام للعصر موازية لقدمي الظهر في الزمان.

الثالث ان هذا الركود هو زمان قلب ملك النور لها ظهر البطن، و قد سئل الصادق عليه السّلام عن الشمس كيف تركد كل يوم و لا يكون لها يوم جمعة ركود، قال لان اللّه عز و جل جعل يوم الجمعة أضيق الايام قال لانه لا يعذب المشركون في ذلك اليوم لحرمته عنده و علّة أخرى رواها حريز بن عبد اللّه قال كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام فسأله رجل فقال له جعلت فداك ان الشمس تنقض ثم تركد ساعة من قبل ان تزول فقال انها توامر أ تزول أم لا تزول فهذه ثلاث علل لركود الشمس، و تفصيل العلة الثانية ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السّلام قال قلت له بلغني ان يوم الجمعة أقصر الايام قال كذلك هو قلت جعلت فداك كيف ذلك، قال قال ابو عبد اللّه عليه السّلام ان اللّه يجمع ارواح المشركين تحت عين الشمس، و عذبت ارواح المشركين بركود الشمس فاذا كان يوم الجمعة لا يكون ركود، و رفع عنهم العذاب لفضل يوم الجمعة فلا يكون للشمس ركود.

بقي كلام في تحقيق الركود هنا لما يرد على ظاهره من ان كل نقطة من مدار الشمس محاذية لسمت رأس أفق من الافاق، فيلزم سكون الشمس دائما لو سكنت حقيقة عند الزوال، و تخصيص الركود بأفق خاص كمكة أو المدينة مع بعده يستلزم سكونها في البلاد الاخر بحسبها في اوقات آخر، فان ظهر مكة مثلا يكون وقت الضحى في بلاد أفق آخر فيلزم ركودها في ضحى

ص:137

ذلك الافق و لا يلتزمه أحد و من ثم قال بعض محققي مشائخنا رحمهم اللّه تعالى الوجه ركود الشمس قبل الزوال تزايد شعاعها آنا فآنا و انتقاص الظل الى حد ما ثم انتقاص الشعاع و تزايد الظل.

و قد ثبت في محله ان كل حركتين مختلفتين لا بد بينهما من يكون فبعد بلوغ نقصان الظل الى الغاية و قبل أخذه في الازدياد لا بدّ و ان يركد شعاع الشمس في الارض ساعة، ثم يزيد و هذا ركودها في الارض من حيث شعاعها بحسب الواقع و قد حصل بتبعية الظلال، و الحاصل ان المراد بركود الشمس حين الزوال عدم ظهور حركتها بقدر يعتدّ بها عند الزوال و عدم ظهور تزايد الظل حينئذ بخلاف الساعات السابقة و اللاحقة و عبّر عن ذلك بالركود بناء على الظاهر و فهم العوام، هذا كلامهم قدس اللّه ارواحهم.

و يمكن ان يقال انك قد تحققت العلة في ركود الشمس و هو تعذيب ارواح الكفار و أرواح الكفار انما تعذب في نار الدنيا و هي وادي برهوت في حضر موت اليمن كما ان ارواح المؤمنين تنعمّ في وادي السّلام الواقع في ظهر الكوفة، و تعذيب ارواح الكفار في ساعة ركود الشمس في حرارتها انما هو نوع خاص من العذاب، و حينئذ فينبغي ان يكون منطا الركود هو بلاد التعذيب و ما شابهها و هو اليمن و مكة و المدينة و العراق و ما والاه و كون هذا السكون في ضحى بلاد أفق آخر مما نلتزمه و نقول به، مع ان مبنى هذا كله انما هو على كروية الارض و دونه خرط القتاد كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى، فظهر من هذا ان الفلك ليس منتظم الحركة لا يخرج عن وضعه كما قاله الفلاسفة، و سيأتي لهذا مزيد تحقيق اذا وصلت التنوبة الى انوار الارض ان شاء اللّه تعالى، و حيث انتهى الحال بنا الى هذا المقال فلا بأس بذكر العلم المتعلق بالنجوم و حقيقته او ابطاله.

نور نجومي

في بيان العلم الذي انكبّ عليه الناس في هذه الاعصار في اكثر بلاد الاسلام و أخذوا ساعات سعودهم و نحوسهم منه و هو علم النجوم، و تحقيق الكلام فيه لا يتم الا بنقل كلام اعيان الاصحاب و الاخبار الواردة فيه عن الائمة الطاهرين عليهم السّلام حتى يظهر ان اتفاق الاصحاب انما جاء من قبل اتفاق الاخبار فنقول قال شيخنا المفيد نور اللّه ضريحه في كتاب المقالات اقول ان الشمس و القمر و سائر النجوم أجسام نارية لا حيوة لها، و لا موت و لا تميز خلقها اللّه تعالى لينتفع بها عباده، و جعلها زينة لسمواته و آيات من آياته، كما قال سبحانه هو اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنٰازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ ذٰلِكَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، و قال تعالى هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهٰا فِي ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، و قال تعالى انا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ، فاما الاحكام على الكائنات بدلائلها و الكلام على مدلول حركاتها فان العقل لا يمنع منه و لسنا ندفع ان يكون اللّه تعالى أعلمه بعض انبيائه و جعله علما له على صدقه، غير انا لا نقطع عليه و لا نعتقد استمراره في الناس الى هذه الغاية، و اما ما نجده من احكام المنجمين في هذا الوقت و اصابة بعضهم فيها فانا لا ننكر ان يكون ذلك بضرب من التجربة و بدليل عادة، و قد يختلف احيانا و يخطي المعتمد عليه كثيرا و لا يصح اصابته فيه ابدا لانه ليس بجار مجرى دلائل العقول و لا براهين الكتاب و اخبار الرسول و هذا مذهب جمهور متكلمي اهل العدل و اليه ذهب بنو نوبخت رحمهم اللّه تعالى من الامامية، و ابو القاسم و ابو علي من المعتزلة هذا كلامه طاب ثراه.

ص:138

في بيان العلم الذي انكبّ عليه الناس في هذه الاعصار في اكثر بلاد الاسلام و أخذوا ساعات سعودهم و نحوسهم منه و هو علم النجوم، و تحقيق الكلام فيه لا يتم الا بنقل كلام اعيان الاصحاب و الاخبار الواردة فيه عن الائمة الطاهرين عليهم السّلام حتى يظهر ان اتفاق الاصحاب انما جاء من قبل اتفاق الاخبار فنقول قال شيخنا المفيد نور اللّه ضريحه في كتاب المقالات اقول ان الشمس و القمر و سائر النجوم أجسام نارية لا حيوة لها، و لا موت و لا تميز خلقها اللّه تعالى لينتفع بها عباده، و جعلها زينة لسمواته و آيات من آياته، كما قال سبحانه هو اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنٰازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ ذٰلِكَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، و قال تعالى هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهٰا فِي ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، و قال تعالى انا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ، فاما الاحكام على الكائنات بدلائلها و الكلام على مدلول حركاتها فان العقل لا يمنع منه و لسنا ندفع ان يكون اللّه تعالى أعلمه بعض انبيائه و جعله علما له على صدقه، غير انا لا نقطع عليه و لا نعتقد استمراره في الناس الى هذه الغاية، و اما ما نجده من احكام المنجمين في هذا الوقت و اصابة بعضهم فيها فانا لا ننكر ان يكون ذلك بضرب من التجربة و بدليل عادة، و قد يختلف احيانا و يخطي المعتمد عليه كثيرا و لا يصح اصابته فيه ابدا لانه ليس بجار مجرى دلائل العقول و لا براهين الكتاب و اخبار الرسول و هذا مذهب جمهور متكلمي اهل العدل و اليه ذهب بنو نوبخت رحمهم اللّه تعالى من الامامية، و ابو القاسم و ابو علي من المعتزلة هذا كلامه طاب ثراه.

و قال سيدنا المرتضى اعلى اللّه مقامه في دار المقامة في جواب المسائل السلارية بعد ما ابطل كون النجوم مؤثرة بدلائل و براهين و اما الوجه الاخر و هو ان يكون تعالى اجرى العادة بان يفعل افعالا مخصوصة عند طلوع كوكب او غروبه او اتصال ما او مفارقته فقد بينا ان ذلك ليس بمذهب المنجمين البتة و انما يتحملون الان باظهاره و انه قد كان جائزا ان يجري اللّه العادة بذلك لكن لا طريق الى العلم بان ذلك قد ثبت و وقع و من اين لنا طريق ان اللّه تعالى اجرى العادة بأن يكون زحل او المريخ اذا كان في درجة الطالع كانا نحسا، و ان المشتري اذا كان كذلك كان سعدا و اي شيء خبر به و استفيد من جهته، فان عوّلوا في ذلك الى التجربة و انا جربنا ذلك و من كان قبلنا فوجدناها على هذه الصفة، و اذا لم يكن موجبا فيجب ان يكون معتادا.

قلنا و من سلّم لكم صحة هذه التجربة و انتظامها و اطرادها و قد رأينا خطائكم فيها اكثر من صوابكم و صدقكم اقل من كذبكم، فان نسبتم الصحة اذا اتفقت منكم الى الاتفاق الذي يقع من التخمين و الرجم فقد رأينا من يصيب من هؤلاء اكثر مما يخطئ و هو على غير اصل معتمد و لا قاعدة صحيحة، فان قلتم سبب خطاء المنجم زلل دخل عليه في اخذ الطالع او في سير الكواكب قلنا و لم لا كانت اصابته سببها الاتفاق و التخمين و انما كان يصح لكم هذا التأويل و التخريج لو كان على صحة احكام النجوم دليل قاطع هو و غير اصابة المنجم فاما اذا كان دليل صحة الاحكام الاصابة فقد كان دليل فسادها الخطأ.

و مما افحم به القائلون بصحة الاحكام و لم يحصل عنه منهم جواب ان قيل لهم في شيء بعينه خذوا الطالع و احكموا هل يؤخذ او يترك، فان حكموا إمّا بالاخذ أو الترك خولفوا و فعل خلاف ما اخبروا به و قد اعضلتهم هذا المسألة.

ص:

ثم قال ان من معجزات الانبياء عليهم السّلام إخبارهم بالغيوب فكيف يقدر عليها غيرهم فيصير ذلك مانعا من ان يكون ذلك معجزا لهم، ثم قال و الفرق بين ذلك و بين سائر ما يخبرون به من تأثيرات الكواكب في اجسامنا، فالفرق بين الامرين ان الكسوفات و اقترانات الكواكب و انفصالها طريقة الحساب و سير الكواكب، و له اصول صحيحة و قواعد سديدة و ليس كذلك ما يدعونه من تأثيرات الكواكب الخير و الشر و النفع و الضرر و لو لم يكن من الفرق بين الامرين الا الاصابة الدائمة المتصلة في الكسوفات و ما يجري مجراها و لا يكاد يتفق خطاء البتة فان الخطأ المعهود الدائم انما هو في الاحكام الباقية حتى ان الصواب هو العزيز فيها و ما يتفق بقلة فيها من اصابة فقد يتفق من المنجمين اكثر منه فحمل احد الامرين على الاخر قلّة دين و حياء انتهى.

و قال في الغرر و الدرر قد اجمع المسلمون قديما و حديثا على تكذيب المنجمين و الشهادة بفساد مذاهبهم و بطلان احكامهم و معلوم من دين الاسلام و دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله ضرورة التكذيب لما يدعيه المنجمون و الازراء عليهم و التعجيز لهم و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله ما لا يحصى كثرة و كذا من علماء اهل بيته عليهم السّلام و خيار اصحابه فما زالوا يتبرأون من مذاهب المنجمين و يعدونها ظلالا و محالا هذا كلامه طاب ثراه.

و قال العلامة قدس اللّه روحه في المنتهى التنجيم حرام، و كذلك تعلّم النجوم مع اعتقاد انها مؤثرة او ان لها مدخلا في التاثير في النفع و الضرر، و بالجملة كل من يعتقد ربط الحركات النفسانية و الطبيعية بالحركات الفلكية و الاتصالات الكوكبية كافر. و أخذ الاجرة على ذلك حرام، و اما من يتعلم النجوم ليعرف قدر سير الكواكب و بعده و احواله منم التربيع و الكسوف و غيرهما فانه لا باس به انتهى.

و قال شيخنا الشهيد (ره) في قواعده كل من اعتقد في الكواكب انها مدبّرة لهذا العالم و موجدة ما فيه فلا ريب انه كافر، و ان اعتقد انها تفعل الاثارة المنسوبة اليها و اللّه سبحانه هو المؤثر الاعظم كما يقوله اهل العدل فهو مخطئ اذ لا حيوة لهذه الكواكب ثابتو بدليل عقلي و لا نقلي و بعض الاشعرية يكفرون هذا كما يكفرون الاول، و اوردوا على انفسهم عدم إكفار المعتزلة و كل من قال بفعل العبد، و فرقوا بأن الانسان و غيره من الحيوان يوجد فعله من ان التذلل ظاهر عليه فلا يحصل منه اهتضام بجانب الربوبية بخلاف الكواكب فانها غايبة عنّا فربما ادلّ ذلك الى اعتقاد استقلالها و فتح باب الفكر.

و اما ما يقال من ان استناد الافعال اليها كاستناد الاحراق الى النار و غيرهما من العاديات بمعنى ان اللّه تعالى اجرى عادته انها اذا كانت على شكل مخصوص او وضع مخصوص يفعل بما ينسب اليها و يكون ربط المسببات بها كربط مسببات الادوية و الاغذية بها مجازا باعتبار الربط

ص:140

العادات الفعلي الحقيقي فهذا لا يكفر معتقده و لكنه مخطئ ايضا و ان كان اقلّ خطأ من الاول، لان وقوع هذه الاثار عندها ليس بدائم و لا اكثري.

و قال في الدروس و يحرم اعتقاد تأثير النجوم مستقلة او بالشركة و الاخبار عن الكائنات بسببها اما لو اخبر بجريان العادة ان اللّه تعالى يفعل كذا عند كذا لم يحرم و ان كره، على ان العادة فيها لا تطرد الا فيما قلّ، و اما علم النجوم فقد حرمه بعض الاصحاب و لعله لما فيه من التعرض للمحظور من اعتقاد التأثير، أو لان احكامه تخمينا و اما علم هيئة الافلاك فليس حراما بل ربما كان مستحبا لما فيه من الاطلاع على حكم اللّه و عظم قدرته.

و قال شيخنا الشيخ علي قدس اللّه روحه التنجيم الإخبار عن احكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية و الاتصالات الكوكبية التي مرجعها الى القياس و التخمين الى ان قل و قد روى عن صاحب الشرع النهي عن تعلم النجوم بابلغ وجوهه، حتى قال امير المؤمنين صلوات اللّه عليه غياكم و تعلم النجوم الا ما يهتدي في بر أو بحر، فانها تدعوا الى الكهانة و المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار.

اذا تمهّد (تقرر خ ل) ذلك فاعلم ان التنجيم مع اعتقاد ان للنجوم تاثيرا في الموجودات السفلية و لو على جهة المدخلية حرام، و كذا تعلم النجوم على هذا الوجه بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه نعوذ باللّه منه، اما التنجيم لا على هذا الوجه مع التحرز عن الكذب فانه جائز فقد ثبت كراهية التزويج و سفر الحج في العقرب و ذلك من هذا القبيل نعم هو مكروه لئلا ينجر الى الاعتقاد الفاسد و قد ورد النهي مطلقا حسما للمادة.

و قال شيخنا البهائي عطر اللّه مرقده ما يدعيه المنجمون من ارتباط بعض الحوادث السفلية بالاجرام العلوية ان زعموا ان تلك الاجرام هي العلة المؤثرة في تلك الحوادث بالاستقلال و انها شريكة في التأثير فهذا لا يحل للمسلم اعتقاده، و علم النجوم المبتني على هذا كفر و العياذ باللّه، و على هذا حمل ما ورد في الحديث من التحذير عن علم النجوم و النهي عن اعتقاد صحته، و ان قالوا ان اتصالات تلك الاجرام و ما يعرض لها من الاوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم مما يوجده اللّه تعالى بقدرته و ارادته كما ان حركات النبض و اختلاف اوضاعه علامات يستدّل بها الطبيب على ما يعترض للبدن من قرب الصحة او اشتداد المرض و نحو ذلك، و كما يستدل باختلاج بعض الاعضاء على بعض الاحوال المستقبلة فهذا لا مانع منه و لا حرج في اعتقاده و ما روى من صحة علم النجوم و جواز تعلمه محمول على هذا المعنى و اما السيد الاجل ابن طاووس طاب ثراه فقد صنّف رسالة نفي فيها تأثيرات الكواكب و اثبت فيها كونها علامات و دلائل على الحوادث، و جوّز تعليمها و تعلمها و النظر فيها اذا عرفت هذا.

ص:141

فاعلم ان محصل كلام الاصحاب هو هذا و هو ان المفيد طاب ثراه اثبت كون الاصابة في علم النجوم انما هي مبني على التجربة، و اما المرتضى طاب ثراه فقد نفاه حتى التجارب فهو قد نفى علم النجوم اصلا و رأسا، نعم اثبت الكسوفات و نحوها بالحساب و ليس هو من علم النجوم في شيء، و اما العلامة و من تأخر عنه فقد قالوا بأنه علم لكن يحرم تعلمه الا لمعرفة قدر سير الكواكب و بعده و بعضهم حرمه مطلقا و اما السيد ابن طاوس و شيخنا البهائي فقد جوزا تعلمه و تعليمه على وجه خاصّ و هو كون النجوم علامات و الذي دلت عليه الاخبار هو ان هذا العلم علم شريف و ان النجوم علامات على الكائنات، و لكن قد ورد النهي من الشارع عن هذا العلم فهيهنا ثلث مقامات.

المقام الاول في ان علم النجوم علم شريف من اشرف العلوم علمه اللّه تعالى لانبيائه و الاوصياء منهم و تصديقه ما رواه السيد ابن طاوس باسناده الى قيس بن سعد قال كنت كثيرا ما اساير امير المؤمنين صلوات اللّه عليه اذا سار الية وجه من الوجوه فلما قصد اهل النهروان و صرنا بالمدائن و كنت يومئذ مسايرا له اذ خرج اليه قوم من اهل المدائن و دهاقينهم معهم برازين قد جاؤا بها هدية اليه فقبلها، و كان فيمن تلقاه دهقان من دهاقين المدائن يدعى سرسقيل (1)و كانت الفرس تحكم برأيه فيما مضى و ترجع الى قوله فيما سلف فلما بصر بأمير المؤمنين عليه السّلام قال يا امير المؤمنين لترجع عما قصدت، قال و لم ذاك يا دهقان قال يا امير المؤمنين تناحست النجوم الطوالع، فنحس اصحاب السعود و سعد اصحاب النحوس و لزم الحكيم في مثل هذا اليوم الاستخفاء و الجلوس، و ان يومك هذا يوم مميت قد اقترن فيه كوكبان قتّالان، و شرق فيه بهرام في برج الميزان، و انقدح من برجك النيران و ليس الحرب لك مكان فتبسم امير المؤمنين صلوات اللّه عليه ثم قال ايها الدهقان المنبئ بالاخبار و المحذر من الاقدار ما نزل البارحة في آخر الميزان و اي نجم حلّ في السرطان، قال سأنظر ذلك و أخرج من مكه اصطرلابا و تقويما، قال له امير المؤمنين صلوات اللّه عليه انت مسير الجاريات قال لا قال فأنت تقضي على الثابتات قال لا قال فأخبرني عن حلول (طول خ ل) الاسد و تباعده عن الطالع و المراجع، و اما الزهرة من التوابع و الجوامع، قال لا علم لي بذلك قال فما بين السواري الى الداري و بين الساعات الى المعجزات، و كم قدر شعاع المبدرات، و كم يحصل العجز في الغدوات، قال لا علم لي بذلك قال فهل علمت يا دهقان ان الملك اليوم انتقل من بيت الى بيت بلصين، و انقلب ببرج ما جين و احترقت دور بالزنج و طفح جبّ سرانديب و تهدّم حصن الاندلس و هاج نمل الشح و انهزم مراق الهندي، و فقد ديدان اليهود

ص:142


1- 46) و في رواية عن الاصبغ بن نباته ان اسمه سرسفيل سوار و في آخرها قال لأمير المؤمنين (عليه السّلام) مديدك فانا اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له و ان محمدا عبده و رسوله و انك الامام الوصي المفترض الطاعة.

بايله، و هدم بطريك الروم برومية و عمى راهب عمودية، و سقطت شرافات القسطنطنية أفعالم أنت بهذه الحوادث و ما الحوادث و ما الذي أحدثها شرقيها أو غربيها من الفلك، قال لا علم لي بذلك قال فهل علمت انه سعد اليوم اثنان و سبعون عالما في كل عالم سبعون عالما منهم في البر و بعض في الجبال و بعض في العمران و ما الذي اسعدهم، قال لا علم لي بذلك قال يا دهقان اظنك قد حكمت على اقتران المشتري و زحل لما استتارا لك في الغسق و ظهر تلألؤ شعاع المريخ و تشريفه في السحر و قد سار فأتصل جرمه بجرم تربيع القمر، و ذلك دليل على استحقاق اللف الف من البشر كلهم يولدون اليوم و الليلة، و يموت مثلهم و اشار بيده الى جاسوس في عسكره لمعاوية فقال و يموت هذا فأنه منهم، فلما قال ذلك ظن الرجل انه قال خذوه فأخذه شيء بقلبه و تكسرت نفسه في صدره فمات لوقته، فقال عليه السّلام يا دهقان الم ازل عين التقدير في غاية التصوير، قال بلى يا امير المؤمنين قال يا دهقات انا خبرك اني و صحبي هؤلاء لا شرقيون و لا غربيون انما نحن ناشية القطب و ما زعمت انه البارحة انقدح من برجي النيران فقد كان يجب ان تحكم معه لان نوره و ضياءه عندي و لهبه ذاهب عني، يا دهقان هذه قصبة عيس فاحسبها و ولدها ان كنت عالما بالاكوار و الادوار قال لو علمت ذلك لعلمت انك تحصي عقود القصب في هذه الاجمة و مضى امير المؤمنين عليه السّلام فهزم اهل النهروان و قتلهم و عاد بالغنيمة و الظفر، فقال الدهقان ليس هذا العلم بما في ايدي اهل زماننا هذا علم مادته من السماء.

و روى شيخنا الطبرسي قدس اللّه روحه في كتاب الاحتجاج عن ابان بن تغلب قال كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام اذ دخل رجل من اهل اليمن فسلّم عليه فرّد عليه ابو عبد اللّه عليه السّلام فقال ما صناعتك يا سعد، فقال جعلت فداك انا من اهل بيت ننظر في النجوم لا يقال ان باليمن احدا أعلم بالنجوم منّا، فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام ما اسم النجم الذي اذا طلع هاجت الابل، فقال اليماني لا ادري، فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام صدقت فما اسم النجم الذي اذا طلع هاجت البقر، فقال اليماني لا ادري، فقال ابو عبد اللّه صدقت فما اسم النجم الذي اذا طلع هاجت الكلاب، فقال اليماني لا ادري و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة و هو الدلالة على ان النجوم من اشرف العلوم، و يستفاد منه ايضا ان النجوم علامات على ما في هذا العالم.

و روى ابن طاوس باسناده الى ابي جعفر عليه السّلام قال قد كان علم نبوة نوح عليه السّلام بالنجوم و روى ايضا باسناده الى عطا قال قيل لعلي بن ابي طالب عليه السّلام هل كان للنجوم اصل قال نعم نبي من الانبياء قال له قومه لا نؤمن لك حتى تعلمنا بدؤ الخلق و آجاله فأوحى اللّه عز و جل الى غمامة فأمطرتهم و استنقع حول الجبل ماءا صافيا، ثم اوحى اللّه الى الشمس و القمر و النجوم ان تجري في ذلك الماء، ثم اوحى اللّه الى ذلك النبي ان يرتقي هو و قومه على الجبل فارتقوا الجبل فقاموا

ص:143

على الماء حتى عرفوا بدؤ الخلق و آجاله بمجاري الشمس و القمر و النجوم و ساعات الليل و النهار كان احدهم يعلم من يموت و متى يمرض و من ذا الذي يولد له و من ذا الذي لا يولد له، فبقوا كذلك برهة من دهرهم ثم ان داود عليه السّلام قاتلهم على الكفر فأخرجوا الى داود عليه السّلام في القتال من لم يحضر اجله و من حضر اجله خلّفوه في بيوتهم و كان يقتل من اصحاب داود عليه السّلام و لا يقتل من هؤلاء أحد فأوحى اللّه عز و جل اليه اني كنت علمتهم بدؤ الخلق و آجاله انما أخرجوا اليك من لم يحضر اجله و من حضر اجله خلّفوه في بيوتهم فمن ثم يقتل من اصحابك و لا يقتل منهم احدا قال داود عليه السّلام يا رب على ما ذا علّمتهم، قال على مجاري الشمس و القمر و النجوم و ساعات الليل و النهار، قال فدعى اللّه فحبس الشمس عليهم فزاد في النهار و اختلطت الزيادة بالليل و النهار فلم يعرفوا قدر الزيادة فاختلط حسابهم و قال عليه السّلام فمن ثمّ كره النظر في علم النجوم.

و روى ايضا باسناده الى يونس بن عبد الرحمن قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو، قال هو علم من علم الانبياء قال فقلت كان علي بن ابي طالب عليه السّلام يعلمه، فقال كان اعلم الناس، و روى ايضا في كتاب مسائل الصباح باسناده الى الريان بن الصلت ان الصباح سأل الرضا عليه السّلام عن علم النجوم، فقال هو علم من اصل صحيح و ذكروا ان اول من تكلم بالنجوم ادريس عليه السّلام و كان ذو القرنين بها ماهرا و أصل هذا العلم من عند اللّه عز و جل، و يقال ان اللّه بعث النجوم الذي يقال له المشتري الى الارض في صورة رجل، فأتى بلد العجم فعلمهم في حديث طويل فلم يستكملوا ذلك، فأتى بلد الهند فعلّم رجلا منهم فمن هناك صار علم النجوم بها، و قال قوم هو علم من علم الانبياء خصّوا به لاسباب شتى فلم يستدرك المنجمون فيها فشابوا الحق بالكذب.

و روى ايضا عن الصادق عليه السّلام قال في السماء الرابعة نجوم لا يعلمها الا اهل بيت من العرب و اله بيت من الهند يعرفون منها نجما واحدا فبذلك قام حسابهم، أقول المراد بالعرب اوصياء محمد صلّى اللّه عليه و آله كما ان المراد بيت الهند اوصياء ادريس عليه السّلام او الذي علمه المشتري من اهل الهند، و روى ايضا باسناده الى الصادق عليه السّلام في قوله تعالى يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قال كان القمر منحوسا بزحل فهذا جملة من الاخبار الدالة على كونه علما و على استمرار بعض احكامه و وقوعه في ايدي المنجمين، و ان النجوم علامات على آثار القادر المختار لكن لا يعرفها على الاطراد و التحقيق الا من كان كاملا في العلوم، و ليس هو الا الانبياء و الائمة عليهم السّلام، و قد كان دانيال له معرفة عظيمة فيه و كان منجم بخت نصر و كان له كتاب في النجوم بقي الى هذا الان و ليس هذا العلم الا كباقي العلوم الحقة كالحديث و الفقه فانه لا يعرفها كما هو الا من أتاه اللّه الحكم و فصل الخطاب.

ص:144

و اما هؤلاء المنجمون فقد وقع بأيديهم منه احكام قليلة قد شيب صدقها بكذبها كما اشير اليه سابقا، فمن هذا قصرت معرفتهم عن الاحاطة بما احاط به الائمة عليهم السّلام و وقع الخلاف في اكثر اخباراتهم فهي ليست اتفاقية او بالتجارب كما قاله شيخنا المفيد طاب ثراه.

المقام الثاني قد تحقّقت ان السيد بن طاوس و شيخنا البهائي قدس اللّه روحيهما ذهبا الى جواز تعلّمه و تعليمه اذا كان الاعتقاد على كونه علامة، و لكن ظاهر الاخبار النهي عنه مطلقا و تحريمه و ان كان على سبيل كونه علامة، روى الصدوق قدس اللّه روحه باسناده الى عبد اللّه بن عوف قال لما اراد امير المؤمنين عليه السّلام المسير الى النهروان أتاه منجم فقال له يا امير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة سر في ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال امير المؤمنين عليه السّلام و لم ذاك؟ ، قال لانك ان سرت هذه الساعة اصابك و اصاب اصحابك اذىّ و ضرّ شديد، و ان سرت في الساعة التي امرتك بها ظفرت و ظهرت و اصبت كما طلبت، فقال امير المؤمنين عليه السّلام أ تدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أم انثى قال ان حسبت علمت قال له امير المؤمنين عليه السّلام من صدقّك على هذا القول كذّب بالقرآن ان اللّه عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الارحام و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت ان اللّه عليم خبير، ما كان محمد صلّى اللّه عليه و آله يدّعي ما أدعيت أ تزعم انك تهدي الى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، و الساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ، من صدقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة باللّه عز و جل في ذلك الوجه و احوج الى الرغبة اليك و دفع المكروه عنه، و ينبغي له ان يوليك الحمد دون ربه عز و جل فمن آمن لك بهذا فقد أتخذك من دون اللّه، ندا و ضدا ثم قال اللهم لا طير الا طيرك و لا خير الا خيرك و لا اله غيرك بل نكذبك و نخالفك و نسير في الساعة التي نهيت عنها.

و روى السيد الرضي في نهج البلاغة قال و من كلام له عليه السّلام ايها الناس اياكم و تعلم النجوم الا ما يهتدى به في بر او بحر فانها تدعو الى الكهانة، المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في الناس سيروا على اسم اللّه و عونه و الحديث طويل، و في الاحتجاج عن هشام بن الحكم في خبر النزديق الذي سأل ابا عبد اللّه عليه السّلام من مسائل و كان فيما سأله ما تقول في علم النجوم، قال هو علم قلّت منافعه و كثرت مضراته لانه لا يدفع به المقدور و لا يتقي به المحذور، و ان اخبر المنجم بالبلا لم ينجع التحرز من القضا و ان اخبر هو بخير لم يستطع تعجيله، و ان حدث به سوء لم يمكنه صرفه، و المنجم يضاد اللّه في علمه بزعمه انه يردّ قضاء اللّه عن خلقه.

و في الخصال عن ابي الحصين قال سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الساعة فقال عند ايمان بالنجوم و تكذيب بالقدر، و روى فيه باسناد آخر عن الباقر عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن خصال و ساق الحديث الى ان قال و عن النظر في

ص:145

النجوم، و روى ابن طاوس (ره) في كتاب فتح الابواب قال ذكر الشيخ الفاضل محمد بن علي بن محمد في كتاب له في العمل ما هذا لفظه جعاء الاستخارة عن الصادق عليه السّلام تقوله بعد فراغك من صلاة الاستخارة تقول اللهم انك قد خلقت اقواما يلجأون الى مطالع النجوم لاوقات حركاتهم و سكوتهم و تصرفهم و عقدهم، و خلقتني ابرأ اليك من اللجاء اليها و من طلب الاختيارات بها، و تيقن انك لم تطلع احدا على غيبك في مواقعك و لم تسهل له السبيل الى تحصيل افاعيلها، و انك قادر على نقلها في مداراتها في سيرها عن السعود العامة و الخاصة الى النحوس و من النحوس الشاملة و المفردة الى السعود لانك تمحو ما تشاء و تثبت و عندك ام الكتاب و لانها خلق من خلقك و صنعة من صنعك و ما اسعدت من اعتمد على مخلوق مثله استمد الاختيار لنفسه و هم اولئك و لا اشقيت من اعتمد على الخالق الذي لا اله الا أنت وحدك لا شريك لك الدعاء، و يظهر من هذا الخبر و من غيره ايضا ان التطيّر و التفأل بالنجوم انما هو لمن يعتمد و يتوكل على اللّه سبحانه فان من تطيّر من شيء وقع في ضرره و لا يخلصه الى التوكل و الصدقة، روى الصدوق (ره) بسند صحيح عن ابن ابي عمير انه قال كنت أنظر في النجوم و اعرفها و اعرف الطالع فيدخلني من ذلك شيء فشكوت ذلك الى ابي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام فقال اذا وقع في نفسك شيء فتصدّق على اول مسكين ثم امض فان اللّه عز و جل يدفع.

و روى رئيس المحدثين شيخنا ابن يعقوب الكليني عن الصادق عليه السّلام قال كان بيني و بين رجل قسمة أرض و كان الرجل صاحب نجوم و كان يتوخى ساعة السعود فيخرج فيها و أخرج انا في ساعة النحوس فاقتسمنا فخرج لي خير القسمين فضرب الرجل يده اليمنى على اليسرى، ثم قال ما رأيت كاليوم قطّ ويل لك ما ذاك، قال اني صاحب نجوم اخرجتك في ساعة النحوس و خرجت انا في ساعة السعود، ثم قسمنا فخرج لك خير القسمين فقلت الا احدثك بحديث حدثني به ابي عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سرّه ان يدفع اللّه عنه نحس يوم فليفتتح يوما بصدقة يذهب اللّه بها عنه نحس يومه و من أحب ان يذهب اللّه عنه نحس ليلته فليفتتح ليلته بصدقة يدفع اللّه عنه نحس ليلته، فقلت اني افتتحت خروجي بصدقة فهذا خير لك من النجوم و الاخبار الواردة بهذا المضمون ست و عشرون نقلناها في كتاب نوادر الاخبار.

المقام الثالث فيما استدل به ابن طاوس (ره) على جواز تعلّمه و تعليمه روى من كتاب التجمّل عن محمد و هارون ابني ابي سهل انهما كتبا الى ابي عبد اللّه عليه السّلام ان ابانا وجدناه كان ينظر في النجوم فهل يحلّ النظر فيها، قال نعم الحديث، و الجواب انه خبر مرسل و مجهول فلا يعارض الاخبار النقية مع ان النظر فيه لا يستلزم جواز تعلمه و العمل بما فيه كما لا يخفى.

ص:146

بقي الكلام في الكسوفات يخبر بها المنجمون و ان سببها اما حيلولة القمر أو حيولة الارض و يتفق على ما يقولون و قد عرفت ان المرتضى (ره) مع كونه قد ذهب الى انكار علم النجوم و انها لا حقيقة له كالسحر، قال بحقيّة قولهم في الكسوفات لكنه اخرجها من قواعد النجوم و ادخلها في طريقة الحساب، و هذا لا اشكال فيه انما الاشكال في ان الوارد عن الائمة عليهم السّلام في سبب الكسوفات هو ادخال الشمس و القمر و رميهما في ذلك البحر تبعا لرمي الفلك فيه عند معاصي العباد و ارادة اللّه تعالى ان يهدهم و يستعتبهم و يمكن التوفيق بما عرفت من ان النجوم و اوضاعها علامات على الافعال الصادرة من القادر المختار فيجوز ان يكون وقت هذه الحيلولة هو علامة الغضب و ارادة تهديد العباد، فيقارنه القاء الفلك في ذلك البحر لان بعض علامات غضب اللّه سبحانه معلومة من الشرع فلتكن هذه مستندة الى العقل و الحدس، و اللّه اعلم بحقائق غيبه.

بقي الكلام في بيان ان علم النجوم اذا كان من اشرف العلوم فلم ورد النهي البليغ من صاحب الشرع بالخوض فيه و عن تعلمه و تعليمه و تصديق العالم به حتى قال من صدّق منجما فقد كذّب بما انزل اللّه على محمد قلت الحكم و المصالح موجودة قطعا و ان خفى اكثرها عنا و لعل ما ندركه بهذه العقول القاصرة أمور.

احدها ان من أعظم معجزات الانبياء عليهم السّلام هو الإخبار بالمغيبات، فاذا فتحنا باب جواز تعلّم النجوم و أخبر المنجم بما هو غائب عن الحواس مستقبل المجيء في الاوقات صغرت معجزات الانبياء و الائمة عليهم السّلام في الانظار خصوصا عند عوام الناس، و ثانيها ان الخوض في هذا العلم يؤل الى اعتقاد التأثير كما مرّ تحقيقه في كلام الاصحاب لان النجوم عندهم ناطقة حية يرون هذه الاثار تترتب على اوضاعها فينجرّ بهم الحال الى تأثيرها، و قد عرفت أنه كفر و لا ريب ان ما يؤدي الى الكفر حرام قطعا.

و ثالثها انك قد عرفت أنه علم شريف و لا تحتمله عقول اكثر الناس و لا حواصلهم فربما ذهبوا الى دعوى الامور الفاسدة من النبوة و الامامة كما اتفق لبعض المنجمين من ذوي العقول الناقصة بسبب تلك الاخبارات و نحوها، و رابعها انه يرفع التوكل على جناب الحق و يؤل الى ابطال قضاء اللّه و قدره و محوه و إثباته مع انه كل يوم في شأن و خامسها ان الذي وقع الى ايدي الناس من علم النجوم انما هو الحثالة (1)منه التي لا ينتفع منها بشيء، و هذه الحثالة كثيرا ما يغلط المنجمون فيها و قد شاهدنا جماعات كثيرة من المنجمين و من يعمل باحكامهم في تعب عظيم

ص:147


1- 47) الحثالة بالضم: ما يسقط من قشر الشعير و الارز و التمر و كل ذي قشارة اذا نقى و حثالة الدهن ثفله فكأنه الردئ من كل شيء.

و مشقة شديدة من ملاحظات الساعات و الاوقات للخروج و الدخول و الاقامة و السفر و الاكل و الشرب و لبس الثياب و الكلام و نحو ذلك، و مع هذه المشاق الدنيوية لم تبلغ اعمارهم الا نصف الاعمار المتعارفة او اقل منه و جماعة منهم قد خلّدوا في سجن الملوك و السلاطين اكثر اعمارهم فلم يقدروا على الاهتداء الى تخليص انفسهم من عذاب الدنيا، و عذاب الاخرة أشد و ابقى لو كانوا يعلمون.

و قد كان بعض مشائخنا رحمهم اللّه تعالى اذا أتى بثوب جديد يقول للخادم أخره حتى تأتي الساعة المنحوسة عند المنجمين فأتني به البسه، فيؤخره الخادم الى أنحس ساعاتها فيلبسه فيكون عليه مباركا الى ان يصير خلقا، و بلغ من العمر اضعاف اعمار المنجمين قدس اللّه روحه في جنات النعم، نعم قد رخّص من علم النجوم معرفة ما يهتدي به المسافرون و هذا يعرفه اكثر عوام الناس، و كذلك ورد في اخبار غير نقيّة السند ملاحظة برج العقرب عند ارادة التزويج و السفر الى مكة، فمعرفة مثل هذا لا بأس به مع أنه يمكن دفع نحوسة مثل هذا بالصدقة برغيف و فلس من الفلوس، مع ان صدقة الرغيف أولى في نظر الشارع من ملاحظة برج العقرب، فليأت به و ليترك الخوض في ذلك العلم أو الذهاب الى أهله لسؤالهم عن تلك الساعة المستلزم لزيارة المنجّم، و الاتيان اليه مع ما روى عن امير المؤمنين عليه السّلام أنه قال و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اتيان العرّاف و قال ان من أتاه و صدّقه فقد برئ مما انزل اللّه على محمد، و قد نص أهل اللغة على ان العرّاف المنجّم و بالجملة فعلم يكون الرغيف خيرا منه لا يكون الخوض فيه الا لداعي الخسّة و اضرابه.

نور في بعض الامور التابعة للكواكب

منها المجرة و هي الدايرة المسماة عند العوام بسبيل التبانين، و عند الاخرين بمجر الكبش، و سببه على ما قاله الحكماء احتراق حدث من الشمس في تلك الدايرة في بعض الازمان السالفة، و أجاب عنه بعضهم بأنه انما يصح اذا كانت الشمس موصوفة بالحرارة و الاحراق، و كان الفلك قابلا للتأثّر و الاحتراق و قال بعضهم ان السبب فيه هو انه بخار دخاني واقع في الهواء، و يرد عليه انه يلزم منه اختلافها في الصيف و الشتا لقلّة المدد في احدهما و كثرته في الاخر، و قيل أنه كواكب صغار متقاربة متشابكة لا تتمايز حسا بل هي لشدة تكاثفها و صغرها صرت كأنها لطخات سحابية قال الامدي بعض نقل هذا الاقوال و الغرض من نقل هذه الاختلافات ابداء ما ذكروه من الخرافات ليتحقق و يتبين للعاقل الفطن أنه لا حجة لهم فيما يقولونه و يعتقدونه و لا معوّل على ما ينقلونه من اوايلهم و يعتمدونه و انما هي خيالات فاسدة و تمويهات باردة يظهر ضعفها بأوائل النظر ثم البعض بالبعض يعتبر.

ص:148

و اما اخبار الائمة الطاهرين عليهم السّلام فقد ورد في الرواية عن الصادق عليه السّلام ان وقت الطوفات في ايام نوح عليه السّلام لما امر اللّه سبحانه السماء بماء منهمر انشقت السماء و نزل الماء منها دفعة لا قطرة قطرة، فلما بلغ الطوفان كمال حدّه امر اللّه السماء فأمسكت مائها، فتلايمت و اندملت فهذه المجرة هي اثر ذلك الاندمال، كالجرح الذي يندمل و يبقى أثره.

و منها قوس اللّه و تسميه عامة الناس قوس قزح تبعا للحكماء و المنجمين، و هو و ان كان عندهم من كائنات الجو لا تعلق له بالسماء لكن لما كان في الشرع قد ذكر من السماويات ذكرناها هنا و سببه على ما قالوه انه اذا وجد في خلاف جهة الشمس اجزاء مائية شفافة صافية و كان وراءها جسم كثيف اما جبل او سحاب مظلم، ثم كانت الشمس في افق الاخر فاذا ادبرنا على الشمس و نظرنا الى تلك الاجزاء و انعكس شعاع البصر عنها الى الشمس فيرى في كل من تلك الاجزاء ضوءها دون شكلها، لانا نعلم بالتجرية ان الصقيل الذي ينعكس منه شعاع البصر اذا صغر جدا ادّى الضوء و اللون دون الشكل فكانت تلك الاجزاء على هيئة قوس مستضيئة اقلّ من نصف الدائرة، و بحسب ارتفاع الشمس ينتقص هذا القوس لانتقاص الاجزاء التي تنعكس منها الاشعة البصرية الى الشمس من الطرفين و اما اختلاف الوانها فقيل ان السبب فيه ان الناحية العليا منها لما قربت من الشمس قوى فيها الاشراق فيرى احمر ناصعا و اما الناحية السفلى فلما بعدت عنها كانت اقلّ اشراقا فيرى فيها حمرة الى سواد، و هو الارجواني و ما توسط بينهما فان لونه متولد من ذينك اللونين و هو الكراسي هذا ما قالوه.

و اما الاخبار الواردة فيه فهو من ان الصادق عليه السّلام سأل و قيل ما تقول في قوس قزح فقال عليه السّلام لا تقل قوس قزح فان قزح اسم الشيطان بل قل قوس اللّه، و لم يكن قبل نوح عليه السّلام في السماء و ذلك انه لما ذهب الطوفان خاف نوح عليه السّلام من طوفان آخر فأوحى اللّه عز و جل اليه يا نوح اني خلقت خلقي لعبادتي و امرتهم بطاعتي فقد عصوني و عبدوا غيري و استوجبوا بذلك غضبي فغرقتهم، و اني جعلت قوسا امانا لعبادي و بلادي و موثقا مني بيني و بين خلقي يأمنون به الى يوم القيامة من الغرق، و من أوفى بعهده مني ففرح نوح عليه السّلام بذلك و تباشر و كانت القوس فيها سهم و وتر فنزع اللّه عز و جل السهم و الوتر من القوس و جعل امانا لعباده و بلاده من الغرق، قال ابن الاثير في الحديث لا تقولوا قوس قزح فأن قزح من اسماء الشيطان قيل سميّ به لتسويله الناس و تحسينه اليهم من المعاصي من التقزيح و هو التحسين، و قيل من القزح و هي الطرايق و الالوان التي في القوس، الواحدة قزحة او من قزح الشيء اذا ارتفع كأنه كرة ما كانوا عليه من عادات الجاهلية، و ان يقال قوس اللّه فيرفع قدرها كما يقال بيت اللّه و قولوا قوس و امان من الغرق.

ص:149

نور ملكي يكشف عن بعض احوال الملائكة

قال اللّه سبحانه اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مٰا يَشٰاءُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، قال بعض المفسرين المراد بقوله يزيد في الخلق أي في خلق اجنحتهم كما روى ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأى ليلة المعراج لجبرئيل عليه السّلام ستمائة جناح، و سيأتي تحقيقه ان شاء اللّه تعالى و الملائكة اجسام نورانية أي مخلوقة من النور، و قيل انها مخلوقة من الريح مادية لا مجردة اقدرها اللّه تعالى التشكل بالاشكال المختلفة و ان كان لها شكل واحد في ابتداء الخلق، كما روى ان جبرئيل عليه السّلام كان يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله بصورة دحية الكلبي، فقال له صلّى اللّه عليه و آله يا جبرئيل احبّ ان اراك بصورتك الاولية فقال لا تطيق يا رسول اللّه فقال بلى فقال نعم آتيك غدا فلما ان كان الغدا أى جبرئيل عليه السّلام فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاذا هو قد نزل من السماء و نشر جناحين له جناح في المشرق و جناح في المغرب و ملأ ما بين الخافقين ببدنه فلم يتمكن من النظر اليه حتى غشى عليه، فتصوّر بصورة أخرى ثم افاق النبي صلّى اللّه عليه و آله من غشيته و قد كان امير المؤمنين عليه السّلام يعجب من كثرة الملائكة و عظم خلقتهم، و بديع صنايع اللّه فيهم و قال عليه السّلام منهم سجود لا يركعون و ركوع لا ينتصبون و صافّون لا يتزايلون و مسبحون لا يغشاهم نوم العيون و لا سهو العقول، و لا فترة الابدان و لا غفلة النسيان، و منهم امناء اللّه على وحيه و السنته الى رسله و مختلفون بقضائه و امره، و فيهم الحفظة لعباده و السدنة لابواب جناحه، و منهم الثابتة في الارضين السفلى اقدامهم و المارقة من السماء العليا اعناقهم و الخارجة من الاقطار اركانهم و المناسبة لقوائم العرش اكتافهم، ناكسة دونه ابصارهم ملتفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة و أستار القدرة الحديث.

و قال عليه السّلام ايضا ان للّه تبارك و تعالى ملائكة لو ان ملكا منهم هبط الى الارض ما وسعته لعظم خلقه و كثرة اجنحته و منهم من لو كلّفت الانس و الجنس ان يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله و حسن تركيب صورته، و كيف يوصف من ملائكته من سبع مأة عام ما بين منكبيه و شحمة أذنيه، و منهم من يسدّ الافق بجناح من اجنحته دون عظم بدنه، و منهم من السموات الى حجزته، و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهوى الاسفل و الارضون الى ركبته و منهم من لو ألقى في نقرة ابهامه جميع المياه لوسعته، و منهم من لو القيت السفن في دموع عينيه لجرت، دهر الداهرين فتبارك اللّه أحسن الخالقين.

فان قلت قوله عليه السّلام لا يغشاهم نوم العيون، لعلك تقول انه بظاهره ينافي قوله تعالى لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ ، فأنه سبحانه قد تمدّح بهذه الحالة فلا ينبغي ان يشارك فيها و أجاب بعض

ص:150

المحققين بأن حالة السنة و هو أول النعاس يأخذ الملائكة، و التمدّح انما هو بمجموع الامرين لا بكل واحد و الذي أظن ان الجواب التحقيقي هذا، و هو ان مثل هذه الحالات لا تأخذه معناه انها ليست لها عليه تصرف و لا تسلط و لا هي قابلة ان تكون من حالاته فلا يتصف هو بقبولها و لا تتصف بأنها من الحالات القابلة، لان من تداولت عليه حالات الغفلة لا يكون ربا و هو ظاهر بخلاف انواع الملائكة فان حالة النوم من الاحوال القابلة لاتصافهم بها بالنظر الى الامكان و المخلوقية، و لو لحقتهم لم يكن ذلك الاختلال اللازم هناك لازما لكن خالقهم كلّفهم بهذه الحالة فقبلوا تكليفه و امتثلوا امره فأقدرهم على القيام بهذه الحالة بخلاف البشر فان ابدانهم لا تقدر على القيام بها و لم يكن المصلحة الالهية موجودة بأقدارهم عليها فمن كانت حالته من غيره كيف يكون حالته معارضة لمن كانت حالته من نفسه، و ليس هذا الاّ من قبيل ما تمدّح اللّه بها من بعض نعوته كقوله تعالى ليس بظلام للعباد، فنقول ان اللّه ليس بظلام و الانبياء و الائمة لهم هذه الصفة ايضا فقد شاركوه فيما تمدح به، و الجواب عن هذا كله واحد بما عرفت فتحفظ على هذا فأنه ينفعك في مواطن كثيرة تأتي ان شاء اللّه تعالى في تضاعيف هذا الكتاب.

و قد ورد في الاخبار جواب آخر رويناه باسنادنا الى الصدوق (ره) قال حدثني ابي رضي اللّه عنه، قال حدثنا سعد بن عبد اللّه باسناده الى داود العطار قال قال لي بعض اصحابنا اخبرني عن الملائكة أ ينامون فقلت لا أدري، فقال يقول اللّه عز و جل يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ، ثم قال الا اطرفك عن ابي عبد اللّه عليه السّلام فيه بشيء فقلت بلى فقال سأل عن ذلك فقال ما من حي الا و هو ينام خلا اللّه وحده عز و جل و الملائكة ينامون، فقلت يقول اللّه عز و جل يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ فقال انفاسهم تسبيح، فالفترة هي الكف عن اظهار الامر و النهي و اللغة تدلّ على ذلك كما قاله الصدوق يقال فتر فلان عن طلب فلان و فتر عن حاجته و انما ذلك تراخ عنه و كفّ لا بطلان الشخص و العين، و منه قول الرجل اصبتني فترة أي ضعف، و حينئذ قوله عليه السّلام لا يغشاهم نوم العين، انه لا يغشاهم النوم كما يغشى غيرهم بأن يشغلهم عن التسبيح و التقديس، و هذا من باب ما روى في باب صفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و خواصه منان عينه تنام و قلبه لا ينام انتظارا للوحي الالهي، فالنوم و ان اعتراه لكن لا يعطله عن مراقبة ربه سبحانه كما يعطل غيره.

فان قلت ما فائدة تعدد الاجنحة في الملائكة و زيادتها على المعتاد و هو الجناحين قلت يجوز ان يكون لزيادة القدرة و القوة على الطيران و المسارعة الى قطع المسافات السماوية، فان الوحي الذي يتلقاه جبرئيل من العرش و حواليه فيسعى به الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فيما هو اسرع من ارتداد طرف العين و غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة ام و بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام على ما تقدم، و يجوز ان يكون فايدة التعدد ما روى ان صنفا من الملائكة لهم ستة اجنحة فجناحان يلقون

ص:151

بهما اجسادهم، و جناحان يطيرون بهما في الامر من امور اللّه و جناحان مرخيان على وجوههم حياء من اللّه، و حينئذ فكل جناحين لفائدة من الفوائد، و بهذا يظهر فائدة الجناح الثالث في قوله أولي اجنحة مثنى و ثلاث و رباع فيكون الثالث لفائدة أخرى غير الطيران، و اما محلّه فيجوز ان يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدها قوة.

و اما في جانب الكثرة فلا يعلم عددهم سواه و في الخبر عن الصادق عليه السّلام و قد سأل عن الملائكة أكثر بنوا آدم، فقال و الذي نفسي بيده لملائكة اللّه في السموات اكثر من عدد التراب في الارض، و ما في السماء موضع قدم الا و فيها ملك يسبحه و يقدسه، و لا في الارض شجر و لا مدر الا و فيها ملك موكّل يأتي اللّه كل يوم بعملها و ما منهم احد الا و يقرّ كل يوم بولايتنا اهل البيت و يستغفر لمحبينا، و يلعن اعدائنا و يسأل اللّه تعالى ان ينزل عليهم العذاب، و يكفي بهم كثرة ان مع كل قطرة مطر ملكا يضعها الموضع المأمون به و لا يصعد الى السماء الى يوم القيامة، بل يبقون في الارض يسبحون اللّه و يقدسونه و ثوابه لشيعة اهل البيت، و في الروايات ان اكثر اماكنهم المساجد.

و اعلم ان الملائكة على كثرتهم لا يخلو احد منهم من خدمة خاصة، و كل منهم له مقام معلوم كما حكاه تعالى عنهم، و ما منّا الا له مقام معلوم، و هو مقام في السموات فان كل جماعة منهم له مكان خاص و عبادة خاصة و المثل و للّه الامثال العليا، كما ان السلطان له اتباع و كل صنف منهم قد و كلّ بخدمة فمنهم من اولاه على رعيته للحماية و الحراسة و الاطلاع على ما يأتون و يذرون، و جماعة نسبهم اليه لكن على طريق التشريك بخدمة رعيته كالوزير و اضرابه، و جماعة منهم اختصهم به من غير شركة، و ذلك كاصحاب السلطان المخصوصين لديه، و من ذلك انقسمت الملائكة الى ملائكة كروبيين أي مقربين لديه، ذوي قوة على امتثال اوامره من التقديس مأخوذ من الكرب و هو القوة او من الكرب و هو الحزن لشدة خوفهم من جنابه تعالى، و ذلك انه كلما زيد في قرب الوزير زيد في خوفه من السلطان لاطلاعه على حقايق بطشه، و الى ملائكة روحانيين أي انهم يشبهون الارواح في اللطافة فهم الطف من باقي الملائكة، و هؤلاء النوعان هما سادات الملائكة و هما المشار اليهم في الحديث الصحيح عن الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مررنا ليلية المعراج بملائكة من ملائكة اللّه عز و جل خلقهم اللّه كيف شاء و وضع وجوههم كيف شاء ليس شيء من اطباق وجوههم الا و هو يسبح اللّه و يحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة اصواتهم مرتفعة بالتسبيح و البكاء من خشية اللّه فسألت جبرئيل عنهم فقال كما ترى خلقوا، ان الملك منهم الى جنب صاحبه ما كلمه قطّ، و لا رفعوا رؤسهم الى ما فوقهم و لا خفضوها الى ما تحتهم خوفا من اللّه و خشوعا فسلّمت عليهم فردوا عليّ ايماء برؤسهم لا ينظرون اليّ من الخشوع، فقال لهم جبرئيل هذا محمد نبي الرحمة ارسله اللّه الى العباد رسولا و نبيا و هو خاتم النبيين

ص:152

و سيدهم أ فلا تكلمونه قال فلما سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و بشروني و اكرموني بالخير لي و لامتي.

و اما سبب تفاوت مراتبهم في القرب و البعد فقد ورد في الروايات عن الصادق عليه السّلام ان اللّه سبحانه عرض ولايتنا على الملائكة فمن بادر اليها و عقد قلبه عليها صار من المقربين و سيأتي ان انواع المخلوقات انما صارت نوعين لهذا، و من هذا قال جبرئيل عليه السّلام أقرب الخلق الى اللّه انا و اسرافيل، و قسم منهم قد شركوا في الخدمات، فمنهم ملائكة العرش قال سبحانه الذين حملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به يستغفرون للذين آمنوا، و منهم جبرئيل عليه السّلام فأنه السفير بين اللّه و انبيائه و هي الساعي في تبليغ الوحي.

فان قلت اخبرني كيف يتلقى جبرئيل الوحي الالهي و كيف يبلغه قلت قد ورد في الاخبار على وجوه:

الاول ما روى ان جبرئيل عليه السّلام قال لرسول اللّه عليه السّلام في وصف اسرافيل هذا حاجب الرب و أقرب خلق اللّه منه، و اللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، فاذا تكلم الرب تبارك و تعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه، ثم القى الينا نسعى به في السموات و الارض، و الثاني ما روى ايضا أنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل عليه السّلام من أين تأخذ الوحي قال آخذه من اسرافيل، قال و من أين يأخذه اسرافيل قال يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين، قل و من أين يأخذه ذلك الملك، قال يقذف في قلبه قذفا.

الثالث ما ورد في الاسانيد النقية حدّث به الصادق عليه السّلام عن ابيه عن جده عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن ابي طالب عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن ميكائيل عن اسرافيل عن اللوح عن القلم عن اللّه تبارك و تعالى قال ولاية علي بن ابي طالب حصني من دخله أمن من عذابي، و هذا الاختلاف منزّل على تعدد الكيفيات و ينبغي ان يراد باللوح و القلم في هذا السند الملكان فأنه قد ورد لهما في الاخبار معان متعددة و ثم ذهب الصدوق طاب ثراه في اعتقاداته الى ان اللوح و القلم ملكان، و الحق ان هذا من جملة معانيهما و قوله عليه السّلام في الحديث السابق من ياقوتة حمراء من جملة معانيه ايضا و من هذا النوع الملكي الروح، و هو المراد من قوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً ، على ما في الروايات الصحيحة.

منها ما رواه الصفار عن هشام بن سالم قال سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي، قال خلق اعظم من جبرئيل و ميكائيل لم يكن مع احد ممن مضى غير محمد صلّى اللّه عليه و آله و هو مع الائمة عليهم السّلام يرفقهم و يسددهم و ليس كلما طلب وجد، و عن امير

ص:153

المؤمنين عليه السّلام ان له سبعين الف وجه لكل وجه سبعون الف لسان لكل لسان سبعون الف لغة يسبح اللّه تعالى بتلك اللغات كلها يخلق اللّه تعالى بكل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة الى يوم القيامة، و لم يخلق اللّه خلقا اعظم من الروح غير العرش و لو شاء ان يبلغ السموات السبع و الارضين السبع بلقمة واحدة لفعل، و عن الصادق عليه السّلام ان الملائكة تقف كلها في صف واحد يوم القيامة و يقف هو في صف و هذا النوع يجوز ان يكون منحصرا في فرد و يجوز ان يكون متعدد الافراد و كل فرد منه متعبد بنوع خاص من التعبدات و من هذا النوع ميكائيل عليه السّلام سمي به لانه يكيل السحاب من ماء البحر و يرسل معه جماعة من الملائكة الى الموضع الذي امر فيه.

و روى الصدوق طاب ثراه عن جعفر بن البختري عن الصادق عليه السّلام قال ان اللّه تبارك و تعالى اذا اراد ان ينفع بالمطر امر السحاب ان يأخذ الماء من تحت العرش، و اذا لم يرد النبات امر السحاب فأخذ الماء من البحر، قيل ان ماء البحر مالح، قال ان السحاب يعذبه فهذا الحديث دالّ على ان مار المطر يأتي من اماكن مختلفة لمصالح كثيرة، و قد تقدم ان المطر الذي يكون اوائل المطر يجيء من تحت العرس، و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ما اتى على أهل الدنيا يوم واحد منذ خلقها اللّه عز و جل الا و السماء فيها تمطر فيجعل اللّه ذلك حيث يشاء و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما خرجت ريح قطّ الا بمكيال الا زمن عاد، فانها عتت على خزّانها فخرجت في مثل خرق الابرة فأهلكت قوم عاد، و ما نزل مطر قطّ الا بوزن الا زمن نوح عليه السّلام فانه عتى على خزّانه فخرج مقل خرق الابرة فأغرق اللّه فيه قوم نوح.

اقول هذا العتو منهما انما هو غضب اللّه سبحانه فان قلت كيف يكون مثل خرق الابرة من الماء و الهوى باعثا لغرق آلاف من الناس و اهلاكهم، قلت يجوز ان يكون الضمير في قوله فأغرق اللّه فيه راجعا الى الماء الذي قد خرج من الخزّان لاجل الغرق لا الى الماء العاتي وحده الذي هو خرق الابرة، و يجوز ان يكون المراد بخرق الابرة موضع خروج الماء العاتي لا قدر الماء الخارج و حينئذ فيكون قد خرج من مثل هذا المكان الضيق ماء كثير و هواء كثير في مدّة كثيرة، فكان بانضمامه الى ذلك الماء و الهوى باعثا لاهلاكهم و غرقهم، مع ان اللّه سبحانه قد أهلك العظيم بالحقير و الكثير بالقليل فسبحان من هو قادر على ان يدخل الدنيا في بيضة من غير ترقيق الدنيا و لا تعظيم للبيضة و جواب آخر في الهوى رواه الكليني طاب ثراه في الروضة عن الباقر عليه السّلام في حديث قال فيه و اما الريح العقيم فانها ريح عذاب تخرج من تحت الارضين السبع، و ما خرجت منها ريح قطّ الا على قوم عاد حين غضب اللّه عليهم فأمر الخزّان ان يخرجوا منها على قدر سعة الخاتم، قال فعتت على الخزّان فخرج منها على مقدار منخر الثور تغيظا منها على قوم عاد فضجّ الخزان الى اللّه عز و جل من ذلك فقالوا ربنا انها قد عتت عن امرنا انا نخاف ان تهلك

ص:154

من لم يعصك من خلقك و عمّار بلادك فبعث اللّه عز و جل اليها جبرئيل فأستقبلها بجناحه فردها الى موضعها، و قال لها اخرجي على ما امرت به و اهلكي قوم عاد و من كان بحضرتهم و حينئذ فيجوز ان يكون في الماء مثل ذلك كما لا يخفى.

و قال امير المؤمنين عليه السّلام السحاب غربال المطر لو لا ذلك لافسد كل شيء وقع عليه و سأل ابو بصير ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الرعد أي شيء يقول، قال انه بمنزلة الرجل يكون في الابل فيزجرها هاي هاي (ها هي ها هي خ ل) كهيئة ذلك قال قلت جعلت فداك فما حال البرق قال مخاريق الملائكة تضرب السحاب فتسوقه الى الموضع الذي قضى اللّه عز و جل فيه المطر، و قال عليه السّلام الرعد صوت الملك و البرق سوطه و روى ان الرعد صوت ملك اكبر من الذباب و اصغر من الزنبور فينبغي لمن سمع صوت الرعد ان يقول سبحان من سيبّح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته و قد ذكر الحكماء للامطار و الرعد و البرق اسبابا أخرى سيأتي ان شاء اللّه تعالى، و من الملائكة كتّاب الاعمال فأنه سبحانه بمقتضى حكمته لضبط اعمال الخلايق و افعالهم و اقوالهم و كلّ على كلّ واحد ملكين يكتبان اعماله كما قال سبحانه مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، فرقيب كاتب الحسنات على يمين المكلّف و عتيد كاتب السيّات معه على يساره و سيأتي تمام الكلام فيهما ان شاء اللّه تعالى عند انوار المكلفين.

و من انواع الملائكة ملائكة قد و كلّ اللّه كل واحد منهم بحراسة ابن آدم من التردي في الابار او مواضع الهلاك او السباع، فاذا جاء الاجل بعّدوا عنه و قالوا أنت و هو و منهم من وكّله اللّه سبحانه بحراسة ثمر الاشجاء و حمل النخيل عن الدواب و الافات و لذا كره البول و الغايط تحت الاشجار المثمرة لمكان الملائكة، و من ثم قال الصادق عليه السّلام أ لا ترى ان للشجرة إنسا وقت الثمرة، و هذا الانس بالملائكة و منهم من يسكن الهوى و من ثم ورد النهي من صاحب الشرع بكراهة تطميح البول في الهوى، و منهم من يسكن المياه، و من ثم كره البول في الماء مطلقا، و كره ايضا دخول المياه بغير ازار لمكان سكانه من الملائكة، و منهم جماعة ملازمون الابواب و المساجد يكتبون اوّل داخل و آخر خارج، و منهم جماعة ورد في الروايات ان الانسان اذا اراد زيارة مولانا الحسين عليه السّلام بعث اللّه اليه جماعة من الملائكة لاعانته على قضاء حوائجه و يشيعونه ذهابا و ايابا، و يلازمون عتبة بابه اذا رجع و ثواب تقديسهم له، فاذا مات لازموه في قبره للانس و خرجوا معه من قبره الى ارض القيامة.

و منهم من هو بصورة الديك روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان للّه تبارك و تعالى ديكا رجلاه في تخوج الارض السابعة و رأسه عند العرش ثاني عنقه تحت العرش و ملك من ملائكة اللّه عز و جل خلقه اللّه تبارك و تعالى رجلاه في تخوم الارض

ص:155

السابعة السفلى مضى مصعدا فيها مدى الارضين حتى خرج منها الى افق السماء ثم مضى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه الى العرش، و هو يقول سبحانك ربي، و لذلك الديك جناحان اذا نشرهما جاوز المشرق و المغرب، فاذا كان في آخر الليل نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال القدوس لا اله الا هو الحي القيوم، فاذا فعل ذلك سبحت ديكة الارض كلها و خفقت باجنحتها و أخذت في الصراخ، فاذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت الديكة في الارض فاذا كان في بعض السحر نشر جناحيه فجاوز المشرق و المغرب، و خفق بهما و صرخ بالتسبيح فيقول سبحان اللّه العظيم سبحان اللّه العزيز القهار، سبحان رب العرش المجيد سبحان رب العرش الرفيع، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الارض فاذا هاج هاجت الديكة في الارض تجاوبه بالتسبيح و التقديس للّه عز و جل و لذلك الديك ريش ابيض كأشد بياض ما رأيته قط، و له زغب اخضر تحت ريشه الابيض كأشد خضرة ما رأيتها قط، فما زلت مشتاقا الى ان انظر الى ريش ذلك الديك.

و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال ان اللّه تبارك و تعالى ملكا من الملائكة نصف جسده الا على نار و نصفه الاسفل ثلج، فلا النار تذيب الثلج و لا الثلج يطفئ النار، و هو قائم ينادي بصوت له رفيع سبحان اللّه الذي كفّ حرّ هذه النار فلا تذيب هذا الثلج، و كفّ برد هذا الثلج فلا يطفئ حر النار، اللهم مؤلفا بين الثلج و النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك.

و روى ايضا باسناده الى ابن نباته قال جاء ابن الكوا الى امير المؤمنين عليه السّلام فقال يا امير المؤمنين و اللّه ان في كتاب اللّه عز و جل لآية قد افسدت عليّ قلبي و شككتني في ديني فقال له عليه السّلام ثكلتك امك و عدمتك و ما تلك الاية قال قول اللّه عز و جل وَ اَلطَّيْرُ صَافّٰاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاٰتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ فقال له امير المؤمنين عليه السّلام يا ابن الكوا ان اللّه تبارك و تعالى خلق الملائكة في صور شتى، ان للّه تبارك و تعالى ملكا في صورة الديك ابح اشهب براثته في الارض السابعة السفلى، و عر مثنى تحت العرش له جناحان جناح في المشرق و جناح في المغرب، واحد من نار و الاخر من ثلج فاذا حضرت وقت الصلوة قام على براثته ثم رفع عنقه من تحت العرش ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديوك في منازلكم فلا الذي من النار يذيب الثلج و لا الذي من الثلج يطفي النار فينادي اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له و اشهد ان محمدا سيد النبيين و ان وصيه سيد الوصيين، و ان اللّه سبّوح قدوس رب الملائكة و الروح، قال فتخفق الديكة بأجنحتها في منازلكم فتجيبه على قوله و هو قوله عز و جل وَ اَلطَّيْرُ صَافّٰاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاٰتَهُ و تسبيحه من الديكة في الارض و بالجملة فهم مما لا تتناهى انواعهم و سيأتي بعض انواعهم ان شاء اللّه تعالى في تضاعيف هذا الكتاب.

ص:156

و الحاصل ان لكل نوع منهم مقاما من التكليف و اما حدّهم في عالم الملكوت الذي لا يتعدونه ففي الروايات عن ابن عباس ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما اسرى به الى السماء انتهى به جبرئيل الى نهر يقال له النور، و هو قول اللّه عز و جل و خلق الظلمات و النور فلما انتهى به الى ذلك النهر فقال له جبرئيل اعبر يا محمد على بركة اللّه فقد نوّر اللّه لك بصرك و مدّ لك املك، فأن هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب و لا نبي مرسل غير ان لي في كل يوم اغتماسة فيه ثم أخرج منه فأنفض اجنحتي، فليس من قطرة تقطر من اجنحتي الا خلق اللّه تبارك و تعالى منها ملكا مقربا له عشرون الف وجه و اربعون الف لسان في كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الاخر، فبر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى انتهى الى الحجب و الحجب خمسمائة جحاب، من حجاب الى حجاب مسيرة خمسمائة عام، ثم قال تقدّم يا محمد فقال له جبرئيل و لم لا تكون معي، قال ليس لي ان اجوز هذا المكان فتقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما شاء اللّه ان يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك و تعالى انا المحمود و انت محمد شققت اسمك من اسمي فمن وصلك وصلته و من قطعك بتكته انزل على عبادي فأخبرهم بكرامتي اياك، و اني لم ابعث نبيا الا جعلت له وزيرا و انك رسولي و ان عليا وزيرك فهبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كره ان يحدّث الناس بشيء كراهة ان يتهموه لانهم كانوا حديثي عهد و الجاهلية و الخبر طويل.

اقول هذا النهر انما هو فوق العرش، و ايضا قد سأل الصادق عليه السّلام ما فضل جدّك على سليمان بن داود الذي سخر له الريح غدوّها شهر و رواحها شهر، فقال عليه السّلام ان سليمان كان يقطع الشهرين بيوم واحد و اما جدي فقد قطع مسير خمسين الف سنة بساعة واحدة، و لما رجع الى لحافه كان حارا لم يبرد لقصر زمان سفره، و من العرش الى الارض لا يبلغ هذه المسافة اذا عرفت هذا كله.

فاعلم ان الاخبار قد تظافرت بأن الملائكة طعامهم التحميد و شرابهم التقديس، و ليس لهم شهوة الحيوان و لا ميل الى انواع اللذات الدنيوية، فاذا كان اللّه قد خلقهم على هذا المنوال فما لهم من الفضل في انفسهم حتى يفضلوا غيرهم من صلحاء المؤمنين على ان المعتزلة و ابا عبد اللّه الحليمي و القاضي ابا بكر من الاشاعرة ذهبوا الى تفضيل الملائكة العلويين على الانبياء عليهم السّلام، و اما الملائكة السفلية فلا خلاف في تفضيل الانبياء عليهم.

قلت قد اشكل هذا المعنى على جماعة من الاصحاب حتى ان شيخنا المعاصر ادام اللّه ايامه ذهب الى ان الملائكة لهم نوع من الميل الى اللذات الحسية لكنهم يجاهدون انفسهم و يمنعونها عن الارادات البشرية حتى يكون لهم جزيل من الثواب و يستحقوا محامد الثنا و التفضيل، و الجواب التحقيقي عند هذا القاصر غير هذا، و حاصله ان اللّه سبحانه قد اقدر الملائكة على انواع

ص:157

العبادات كما اقدر البشر عليها و ان كان قوة الملائكة على العبادات اشدّ و اكثر، و البشر مع قدرتهم على اكثر انواع العبادات من الواجبات و السنن قد فتروا عنها و اقبلوا على تركها، و اما الملائكة فقد اقبلوا على فعلها، و الاتيان بما وصلت اليه قدرتهم، و مع هذا قد صارت العبادات مستلذة عندهم كاستلذاذ الاكل و الشرب عندنا، فهم يأتون بكل ما يقدرون من انواع العبادات على وجه الاستلذاذ و نحن انما نأتي ببعض ما نقدر على وجه التكليف و المشقة و الخوف من العقاب فهم فضلونا باتيانهم بافعال يمكنهم تركها فلم يتركوها، و من ثم قد وقع من بعضهم الترك حتى عوقب عليه فاحترقت اجنحته و سقط من مقامه كما وقع الملك الذي وقع من السماء في زمن ادريس عليه السّلام حتى لجاء الى ادريس عليه السّلام فدعى له فرجع الى مقامه، و كالملك الذي فتر عن العبادة في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله فسقط ايضا من عالم الملكوت و لجأ الى الحسين عليه السّلام فتمسح به و رجع ببركة الحسين عليه السّلام الى مقامه.

و اما الانبياء و الائمة عليهم السّلام فهم قد فعلوا افعال الملائكة مع اتصافهم بالقوى الحيوانية، فهم افضل من الملائكة كما انعقد عليه اجماعنا، و من ثم كان العامل منا بما يطيق من انواع العبادات افضل من الملائكة كما ذهب اليه بعض الاصحاب و دلّت عليه بعض الاخبار.

نور ملوكتي

في بعض ما في عالم الملكوت

فنقول روى الصدوق (ره) باسناده الى الرضا عليه السّلام عن علي عليه السّلام قال دخلت انا و فاطمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجدناه يبكي بكاء شديدا فقلت فداك ابي و امي يا رسول اللّه ما الذي أبكاك فقال يا علي ليلة اسري بي الى السماء رأيت نساء امتي في عذاب شديد فأنكرت شأنهنّ فبكيت لما رأيت من شدة عذابهن، رأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغ رأسها، و رأيت امرأة معلقة بلسانها و الحميم يصبّ في حلقها و رأيت امرأة معلقة بثدييها و رأيت امرأة تأكل لحم جسدها و النار توقد من تحتها، و رأيت امرأة قد شدّت رجلاها الى يديها و قد سلّط عليها الحيّات و العقارب، و رأيت امرأة صمّاء عمياء خرساء في تابوت من نار يخرج دماغ راسها من منخرها و بدنها منقطع من الجذام و البرص و رأيت امرأة يقرض لحمها بالمقاريض و رأيت امرأة معلقة برجليها في تنور من نار و رأيت امرأة يحرق وجهها و يداها و هي تأكل امعاءها و رأيت امرأة رأسها رأس خنزير و بدنها بدن حمار و عليها الف الف لون من العذاب، و رأيت امرأة على صورة الكلب و النار تدخل في دبرها و تخرج من فيها، و الملائكة يضربون راسها و يديها بمقامع من نار،

ص:158

فقالت فاطمة عليها السّلام حبيب و قرّة عيني اخبرني ما كان عملهنّ حتى وضع اللّه عليهنّ العذاب فقال يا بنيتي:

اما المعلقة بشعرها فانها كانت لا تغطي شعرها من الرجال، و اما المعلقة بلسانها فانها كانت تؤذي زوجها، و اما المعلقة بثدييها فانها كانت تمتنع من فراش زوجها، و اما التي علقت برجلها فانها كانت تخرج من بيتها بغير اذن زوجها، و اما التي كانت تأكل لحم جسدها فانها كانت تزيّن بدنها للناس، و اما التي شدّت يداها الى رجليها و سلّط عليها الحيات و العقارب فانها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب و كانت لا تغتسل من الجنابة و الحيض و لا تتنظف و كانت تستهين بالصلوة، و اما العمياء الصماء الخرساء فانها كانت تلد من الزنا فتعلقه في عنق زوجها، و اما التي تقرض لحمها بالمقاريض فانها كانت تعرض نفسها على الرجال، و اما التي كانت يحرق وجهها و يداها و هي تأكل امعائها فأنها كانت قوّادة و اما التي كانت رأسها راس الخنزير و بدنها بدن الحمار فانها كانت نمامة كذابة، و اما التي على صورة الكلب و النار تدخل في دبرها و تخرج من فيها فأنها كانت قينة (1)نواحة حاسدة ثم قال ويل لامرأة أغضبت زوجها و طوبى لامرأة رضي عنها زوجها.

فان قلت اكشف لنا عن حقيقة هؤلاء المعذبات أ هنّ في الارض أم في السماء و اذا كنّ في السموات ما حقيقة هذا المرئى منهنّ، قلت اما ما وقع في هذا الحديث و في كل ما روى في معناه من قوله صلّى اللّه عليه و آله رأيت ليلة اسري بي و لم يقيّده في مكان فالظاهر انه صلّى اللّه عليه و آله انما رآه في الارض قبل صعوده السموات بل يكون في عرض الطريق، فقد نقل في الاخبار انه رأى اعاجيب كثيرة و احوالا غريزة، و يؤيده ما رواه صاحب روضة الواعظين في كلام طويل في صفة المعراج، قال فيه ثم مضى مع جبرئيل عليه السّلام فمر على قوم معلقين بعراقيبهم بكلاليب (2)من نار، فقال ما هؤلاء يا جبرئيل، فقال هؤلاء الذين اغناهم اللّه بالحلال فيبتغون الحرام، قال قال ثم مرّ على قوم تخاط جلودهم بمخائط من نار فقال ما هؤلاء يا جبرئيل فقال هؤلاء الذين يأخذون عذرة النساء بغير حلّ ثم مضى، فمرّ على رجل يرفع خرمة من حطب كلما لم يستطع ان يرفعها زاد فيها، فقال من هذا يا جبرئيل فقال هذا صاحب الدين يريد ان يقضي فاذا لم يستطع زاد عليه، ثم مضى حتى اذا كان بالجبل الشرقي من بيت المقدس وجد ريحا حارة و سمع صوتا، فقال ما هذه الريح يا جبرئيل التي اجد و ما هذا الصوت الذي اسمع، قال هذه جهنم فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله اعوذ باللّه من جهنم ثم وجد ريحا عن يمينه طيبة و سمع صوتا، فقال ما هذه الريح التي اجد و ما هذا الصوت

ص:159


1- 48) الاقينة الامة مغنية كانت او غير مغنية.
2- 49) الكلاليب من الكلاب بالضم كتفاح خشبة او حديدة معوجة الرأس.

الذي اسمع، قال هذه الجنة فقال اسأل اللّه الجنة، قال ثم مضى حتى انتهى الى باب مدينة بيت المقدس، و فيها هرقل الحديث، فان في هذا تصريحا بكون ما رآه قبل الصعود.

و اما الذي وقع التصريح برؤيته في السموات و هو كثير، كما نقل في ذلك الكتاب من قوله فلما انتهى الى باب السماء استفتح جبرئيل عليه السّلام فقالوا من هذا قال محمد قالوا نعم المجيء جاء فدخل فما مرّ على ملاء من الملائكة الا سلموا عليه و دعوا له ثم مضى فمر على شيخ قاعد تحت شجرة و حوله اطفال، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من هذا الشيخ يا جبرئيل قال هذا ابوك ابراهيم فقال ما هؤلاء الاطفال، فقال هؤلاء اطفال المؤمنين حوله يغذوهم ثم مضى فمرّ على شيخ قاعد على كرسي اذا نظر عن يمينه ضحك و فرح و اذا نظر عن يساره حزن و بكى فقال من هذا يا جبرئيل قال هذا ابو آدم اذا رأى من يدخل الجنة من ذريته ضحك و فرح، و اذا رأى من يدخل النار من ذريته حزن و بكى ثم مضى فمرّ على ملك قاعد على كرسي فسلّم عليه فلم ير منه من البشر ما رأى من الملائكة فقال يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة الا رأيت منه ما احب الا هذا فمن هذا الملك، قال هذا الملك خازن النار اما انه قد كان من احسن الملائكة بشرا و اطلقهم وجها فلما جعل خازن النار إطلّع فيها اطلاعة فرأى ما اعدّ اللّه فيها لاهلها فلم يضحك بعد ذلك و نقل غير هذا ايضا.

و الجواب عن الكل واحد لكنه على وجوه احدها ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال ان اللّه جلّ اسمه لما عرج بي اليه مثّل لي امتي في الطين من اولها الى آخرها حتى انا اعرف بهم من احدهم بأخيه و علمني الاسماء كلها فيكون هذا الذي رآه صلّى اللّه عليه و آله من التمثيلات الطينية باعتبار ما يأول اليه حالهم، فان علمه صلّى اللّه عليه و آله مأخوذ من علم اللّه سبحانه و علمه بالاشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها فمثلت له الاشياء قبل وجودها و شاهدها بعين العيان.

و ثانيها انه قد روى عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله عليه السّلام يا من اظهر الجميل و ستر القبيح ان اللّه سبحانه خلق تمثالا في السماء لكل انسان في الارض يعمل مثل عمله فاذا عمل الانسان في الارض عمر خير عمل تمثاله مثل عمله فأظهر اللّه تعالى ذلك التمثال لاهل السموات يرونه فيعلمون ان ذلك الانسان يعمل ذلك العمل الحسن فشكرته الملائكة و استغفرت له و من هذا قال في الحديث القدسي اشكرني ابن آدم في ملائك اشكرك في ملاء خير منه اشكرك في الانبياء و المرسلين و الملائكة المقربين و هو عبارة عن شكر الملائكة و الانبياء و في بعض الروايات انه سبحانه يخلق صوتا في عالم الملكوت يشكر به ذلك الشاكر و قيل المراد بشكر اللّه سبحانه للعبد المجازات له على الشكر و كل هذا حق لما ورد في الحديث القدسي ايضا من تقرب اليّ شبرا تقربت اليه ذراعا و من تقرب اليّ ذراعا تقربت اليه باعا، و هو يسبق من اراد السبق اليه و اذا شغل الانسان في الارض بالمساوي و الاعمال القبيحة عمل ذلك التمثال ذلك العمل فيأمر اللّه سبحانه بملك يرخى

ص:160

على ذك التمثال سترا حتى لا تراه الملائكة فهذا معنى يا من اظهر الجميل و ستر القبيح و حينئذ فيكون صلّى اللّه عليه و آله قد كشف له عن تلك التمثالات ليلة المعراج فرأى التمثال على ما هو عليه من الاحوال المطابقة لذوي التمثال لان ذلك المعراج قد كان بعد مبعثه صلّى اللّه عليه و آله بخمس سنين فعملت نساء امته و رجالها ما رآه في عالم الملكوت.

و ثالثها ان يكون حكمته تعالى قد اقتضت ان بعض هذه الامة ينتقلون بعد الموت اما بهذه الابدان الجسمانية او القوالب المثالية الى جنة السموات و نارها و هما جنة الاخرة و نارها و اما جنة الدنيا و نارها فهما في الارض كما سيأتي بيانها ان شاء اللّه تعالى كما ان آدم و ابراهيم و موسى و ادريس قد انتقلوا الى السموات و الجنان بهذه الابدان فيكون صلّى اللّه عليه و آله قد شاهد المعذبين في نار السموات و هي نار الاخرة كما روى انه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل في ليلة المعراج و هو في السموات يا جبرئيل اطّلعني على النار اراها، فقال يا رسول اللّه لا تطيق النظر اليها فستأذن مالك خازن النار فكشف له الغطا عن تنور منها فثار منه دخان احاط بالسموات كلها سواده فغشي على النبي صلّى اللّه عليه و آله فوضع الغطا على التنور فأفاق و ما تضمنه الحديث السابق من قوله يرفع خرمة الحطب الحديث فينبغي ان يحمل على من لم يكن له عزم على اداء الدين كما ورد في حديث آخر، و يجوز حمله على من اسدان و لم يكن له وجه مال لادائه فان جماعة من الاصحاب ذهبوا الى عدم جواز الاستدانة لمثل هذا و قدموا عليه السؤال بالكفّ و ان لم يكن من اهله لقوله عليه السّلام الدين مفكّرة بالليل مذّلة بالنهار، قضاء في الدنيا و قضاء في الاخرة لانه يؤخذ من حسنات المديون لصاحب الدين و ان لم يكن له حسنات أخذ من ذنوب صاحب الدين و وضعت في عنق المديون و هو احد معاني قوله سبحانه لَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَ أَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ و من جملة ما في السموات الانبياء عليهم السّلام اما ارواحهم بناء على عدم تجرد الارواح كما هو القول الاظهر، او مع الاجساد المثالية او هذه الاجسام بعينها فان الارض لا تأكل لحوم الانبياء و لا اوصياءهم عليهم السّلام.

روى الصدوق عن الصادق عليه السّلام ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما اسرى به امره ربه بخمسين صلاة فمرّ على النبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى انتهى الى موسى بن عمران عليه السّلام فقال بأي شيء امرك ربك فقال بخمسين صلاة فقال موسى سل ربك التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك فسأل ربه فحطّ عنه عشرا ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى بن عمران عليه السّلام فقال بأي شيء امرك ربك فقال بأربعين صلاة فقال سل ربك التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه فحطّ عنه عشرا ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى بن عمران عليه السّلام فقال بأي شيء امرك ربك فقال بثلاثين صلاة، فقال سل ربك التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه عز و جل فحطّ عنه عشرا ثم مر بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى بن

ص:161

عمران عليه السّلام فقال بأي شيء امرك ربك فقال بعشرين صلاة فقال سل ربك التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك، فسأل ربه عز و جل فحطّ عنه عشرا ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شيء حتى مرّ بموسى عليه السّلام فقال بأي شيء امرك ربك فقال بعشر صلوات، فقال سل ربك التخفيف فان امتك لا تطيق ذلك فاني جئت الى بني اسرائيل بما افترض اللّه عز و جل عليهم فلم يأخذوا به و لم يقرّوا عليه فسأل النبي صلّى اللّه عليه و آله ربه عز و جل فخفف عنها فجعلها خمسا ثم مرّ بالنبيين نبي نبي لا يسألونه حتى مر بموسى عليه السّلام فقال له بأي شيء امرك ربك فقال بخمس صلوات فقال اسئل ربك التخفيف عن امتك فان امتك لا تطيق ذلك فقال اني لاستحي ان اعود الى ربي فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بخمس صلوات و قال رسول اللّه صلوات اللّه عليه و آله جزء اللّه موسى بن عمران عن امتي خيرا فلما هبط الى الارض نزل عليه جبرئيل فقال يا محمد ان ربك يقرئك السّلام فيقول انها خمس بخمسين ما يبدّل القول لدي و ما انا بظلام للعبيد اقول وجه كونها بخمسين ان الحسنة بعشر فخمس بخمسين.

و من السماويات البيت المعموم و هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة بالطواف مثل الكعبة و هو المروي عن امير المؤمنين عليه السّلام و في الصحيح عن الصادق عليه السّلام انه في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون اليه ابدا، و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه في السماء الدنيا و في السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخل فيه جبرئيل عليه السّلام كل يوم طلعت فيه الشمس و اذا خرج انتفض انتفاضة جرت منه سبعون الف قطرة فيخلق اللّه من كل قطرة ملكا يؤمرون ان يؤتوا البيت المعمور فيصّلون فيه ثم لا يعودون اليه ابدا و هو اول مسجد وضع للعبادة في الارض فلما خلقت الكعبة شرّفها اللّه تعالى رفع الى حيالها، و يجوز ان يكون وجه حمل البيت المعمور على الجنس فيكون في كل واحدة من السموات المذكورة بيت للطواف مثل الكعبة بالنسبة الى اهل الارض يسمى البيت المعمور، و لشرفه عند خالقه اقسم به فقال و البيت المعمور و السقف المرفوع و يؤيده ما روى عن الرضا عليه السّلام ان اللّه سبحانه وضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش، يسمى الصراخ ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى المعمور بحذا الصراخ ثم وضع هذا البيت بحذاء البيت المعمور الحديث.

و منها البحار روى شيخنا الصدوق (ره) باسناده الى ابن درّاج قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام هل في السماء بحار قال نعم اخبرني ابي عن ابيه عن جدّه عليهم السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان في السموات السبع لبحارا عمق احدها مسيرة خمسمائة عام، فيها ملائكة قيام منذ خلقهم اللّه عز و جل و الماء الى ركبهم ليس فيهم ملك الا و له الف و اربعمائة جناح في كل جناح اربعة وجوه في كل وجه اربعة افواه في كل فم اربعة السن ليس فيها جناح و لا وجه و لا لسان و لا فم الا

ص:162

و هو يسبح اللّه عز و جل بتسبيح لا يشبه نوع منه صاحبه، اقول واحد منها فسر البحر المسجور أي الممتلئ ماء او حرارة او غضبا على اهل المعاصي.

نور يكشف عن مكان الجنة و النار الاخرويتان

اعلم ان الامامية رضوان اللّه عليهم قد اجمعوا استنادا الى ظاهر الآيات و الاخبار المتواترة على كون الجنة و النار مخلوقتين الان (1)و قصة آدم و حوا و اسكانهما الجنة و اخراجهما عنها و قوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ و أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ و غير ذلك من الآيات شواهد صدق عليه.

و ام جمهور مخالفينا فذهب الاشاعرة و ابو علي الجبائي و بشر بن المعتمر و ابو الحسين البصري من المعتزلة الى انهما مخلوقتان الان كما قلنا، و انكره اكثر المعتزلة كابي هاشم و عبد الجبار و عباد الصمري و ضرار بن عمرو تعويلا على العقل و النقل اما الاول فمبناه على امتناع الخرق و الالتيام على الافلاك و هو اضعف من غزل العنكبوت و اما الثاني فقوله تعالى عَرْضُهَا اَلسَّمٰاوٰاتُ و الارض و هذا يقتضي ان لا يوجد الا بعد فناء السموات و الارض في القيامة و الجواب عن هذا قد روى عن الرضا عليه السّلام و ذلك انه قد سأل عن هذا بان عرضها اذا كان كعرض السموات و الارض فالان اين تكون فقال عليه السّلام انها ليست في السموات و لا في الارض و لكن فوق السموات و سقفها العرش فعلى هذا يكون ارضها محدّب الكرسي، فتكون تحت العرش و فوق الكرسي و قد دخلها النبي صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج و اكل منها تفاحة، و لما أتى منزله قارب خديجة فحملت بفاطمة فكانت النطفة من تلك التفاحة و منها كان حمرة وجوه الائمة عليهم السّلام و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا اراد ان يشمّ رائحة الجنة و تفاحها أتى الى فاطمة و شمها و قبلها، و من ثم حسدتها عائشة على هذا المعنى و اضمرت لها عداوتها و عداوة زوجها و اولادها و لما مضى النبي صلّى اللّه عليه و آله اظهرت نار نفاقها فجهزت العساكر و جمعت الجموع حتى خذلت و غلبت و ظفر اللّه المسلمين على عساكرها كما سمعت.

ص:163


1- 50) و خالف عن الامامية في هذا الاعتقاد سيدنا الاعظم السيد الشريف الرضي جامع نهج البلاغة المتوفى سنة (406) ه قال في الجزء الخامس من كتابه حقائق التاويل في متشابه التنزيل [1]ما هذا لفظه (فصل في ذكر الجنة و النار هل هما مخلوقتان الان ام تخلقان بعد فناء العباد و قد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال هما الان مخلوقتان و قال بعضهم: ان الجنة [2]خاصة مخلوقة و الصحيح انهما تخلقان بعد الخ ص 245 ط نجف و الى هذا القول مال اخيه رئيس المذهب السيد الشريف المرتضى علم الهدى قدس سره و لكن القول الحق مال اخيه رئيس المذهب السيد الشريف المرتضى علم الهدى قدس سره و لكن القول الحق هو ما ذهب اليه المصنف ره.

و اما نار الاخرة فهي في السماء ايضا و قد استفاضت الاخبار بالدلالة عليه و قد شاهدها النبي صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج، و قد حصل له فزع عظيم من هول ما شاهده منها كما تقدم الا انها تحت الجنة و ظاهر الاخبار انها في السماء الرابعة و قد رآها ادريس النبي عليه السّلام و دخلها لحظة، و كانت عليه بردا و سلاما، و سيأتي تمامه في مكانه ان شاء اللّه و هذه الجنة و النار السماويتان غير الجنة و النار المخلوقتين في الارض لعالم البرزخ لعذاب الفاسقين و لنعيم المؤمنين، فان جنة الدنيا وادي السّلام في ظهر الكوفة و نار البرزخ برهوت و هو واد في حضر موت اليمن، و تفصيلهما يذكر في محله ان شاء اللّه تعالى، فاذا كان يوم القيامة و طوى اللّه سبحانه بقدرته السموات كطيّ السجل و اعدمها و كذلك بدّل الارض كما قال يوم تبدل الارض غير الارض و السموات مطويات فيومئذ ينزل الجنة و النار من مكانهما فتمون الجنة في موضع السموات تتفاوت درجات اهلها بتفاوت اعمالهم فمسافة ارتفاع السموات كلها تكون من بعض درجات الجنة فتكون هذه الارض اسفل قيعان الجنة و درجاتها، و تنتهى في العلو و الارتفاع الى ما فوق العرش فان اللّه سبحانه كما روى عن الصادقين عليهما السّلام يعطى المؤمن في الجنة ما يقابل الدنيا مرّة، و روى سبعين مرة هذا الاقل، و اما الاكثر فلا يعلم مقداره الا هو.

و اما النار فاذا نزلت يوم القيامة مكانها طبقات الارض و تتفاوت طبقاتها في العمق على قدر تفاوت المعاصي فيكون اسفل الجنة اعلى النار، لانه قد روى ان اهل الجنة لهم غرف تفتح بعض ابوابها الى النار، حتى يشاهدوا عذاب اهلها فتعظم نعمت اللّه في اعينهم، فعند تلك المشاهدة يقول لهم اهل النار افيضوا علينا مما افاض اللّه عليكم فيقول لهم اهل الجنة ان طعام الجنة و شرابها محرم على الكافرين.

الباب الثاني

نور آدمي

في ابتداء خلق ابينا آدم و امنا حوى عليهما السّلام

و ما يتبع ذلك روى القطب الراوندي و هو من اعظم محدثي الشيعة في كتاب قصص الانبياء عليهم السّلام باسناده الى الباقر عليه السّلام قال سأل امير المؤمنين عليه السّلام هل كان في الارض خلق من خلق اللّه تعالى يعبدون اللّه قبل آدم عليه السّلام و ذريته؟ فقال نعم قد كان في السموات و الارض خلق من خلق اللّه تعالى يعبدون اللّه تعالى قبل آدم عليه السّلام و ذريته يقدسون اللّه و يسبحونه و يعظمونه بالليل و النهار، و لا يفترون فان اللّه عز و جل لما خلق الارضين خلقها قبل السموات ثم خلق الملائكة

ص:164

روحانيين لهم اجنحة يطيرون بها حيث شاء اللّه فأسكنهم فيما بين اطباق السموات يقدسونه الليل و النهار و اصطفى منهم اسرافيل و ميكائيل و جبرئيل.

ثم خلق عز و جل في الارض الجن روحانيين لهم اجنحة فخلقهم دون خلق الملائكة و خفضهم ان يبلغوا مبلغ الملائكة في الطيران و غير ذلك فاسكنهم فيما بين اطباق الارضين السبع و فوقهنّ، يقدسون اللّه بالليل و النهار لا يفترون، ثم خلق خلقا دونهم لهم ابدان و ارواح بغير اجنحة يأكلون و يشربون (1)سناس اشباه خلقهم اللّه و ليسوا بأنس و اسكنهم اوساط الارض على ظهر الارض مع الجن يقدسون اللّه بالليل و النهار لا يفترون قال و كان الجن تطير في السماء فتلقى الملائكة في السموات فيسلمون عليهم فيزورونهم و يستريحون اليهم و يتعلمون منهم الخبر ثم ان طائفة من الجن و النسناس الذين خلقهم اللّه و اسكنهم اوساط الارض تمردوا و عتوا عن امر اللّه فمرحوا و بغوا في الارض بغير الحق و علا بعضهم على بعض في العتو على اللّه تعالى حتى سفكوا الدماء فيما بينهم و اظهروا الفساد و جحدوا ربوبية اللّه تعالى، قال و أقامت الطائفة المطيعون من الجن على رضوان اللّه و طاعته و باينوا الطائفتين من الجن و النسناس الذي عتوا عن امر اللّه تعالى قال فحطّ اللّه اجنحة الطائفة من الجن الذيت عتوا عن امر اللّه تعالى و تمردوا و كانوا لا يقدرون على الطيران الى السماء و الى ملاقاة الملائكة لما ارتكبوا من الذنوب و المعاصي قال و كانت الطائفة المطيعة امر اللّه من الجن تطير الى السماء في الليل و النهار على ما كانت عليه، و كان ابليس و اسمه الحارث يظهر للملائكة انه من الطائفة المطيعة.

ثم خلق اللّه خلقا على خلاف الملائكة و على خلاف خلق الجن و على خلاف خلق النسناس يدبّون كما تدبّ الهوام في الارض يأكلون و يشربون كما تأكل الانعام من مراعي الارض كلهم ذكران ليس فيهم اناث لم يجعل اللّه فيهم شهوة النساء و لا حبّ الاولاد و لا الحرص و لا طول الامل و لا لذة العيش لا يلبسهم الليل و لا يغشاهم النهار، ليسوا ببهائهم و لا هوام لباسهم ورق الشجر و شربهم من العيون الغزار و الاودية الكبار ثم اراد اللّه ان يفرقهم فرقتين فجعل فرقة خلف مطلع الشمس من وراء البحر فكوّن لهم مدينة انشاءها لهم تسمى جابرسا طولها اثنى عشر الف فرسخ في اثنى عشر الف فرسخ و كوّن عليها سورا من حديد يقطع الارض الى السماء ثم اسكنهم فيها و اسكن الفرقة الاخرى خلف مغرب الشمس من وراء البحر و كوّن لهم مدينة انشأها تسمى جابلقا طولها اثنى عشر الف فرسخ في اثنى عشر الف فرسخ، و كوّن لهم سورا من حديد يقطع الى السماء فاسكن الفرقة الاخرى فيها لا يعلم اهل جابرسا بموضع اهل

ص:165


1- 1) ثم خلق النسناس-كذا في النسخة المخطوطة.

جابلقا، و لا اهل جابلقا بموضع اهل جابرسا و لا يعلم بهم اهل اوساط الارض من الجن و النسناس فكانت الشمس تطلع على اهل اوساط الارضين من الجن و النسناس فينتفعون بحرّها و يستضيئون بنورها ثم تغرب في عين حمئة فلا يعلم بها اهل جابلقا اذا غربت و لا يعلم بها اهل جابرسا اذا طلعت لانها تطلع من دون جابرسا و تغرب من دون جابلقا.

فقيل يا امير المؤمنين فكيف يبصرون و يجيئون و يأكلون و يشربون و ليس تطلع الشمس فقال صلوات اللّه عليه انهم يستضيئون بنور اللّه فهم في اشد ضوء من نور الشمس و لا يرون ان اللّه تعالى خلق شمسا و لا قمرا و لا نجوما و لا كواكب لا يعرفون شيئا غيره فقيل يا امير المؤمنين فاين ابليس عنهم قال لا يعرفون ابليس و لا سمعوا بذكره و لا يعرفون الا اللّه وحده لا شريك له لم يكسب احد منهم قطّ خطيئة و لم يقترف اثما لا يسقمون و لا يهرمون الى يوم القيامة يعبدون اللّه لا يفترون الليل و النهار عندهم سواء، قال ان اللّه احبّ ان يخلق خلقا و ذلك بعد ما مضى للجن و النسناس سبعة الاف سنة فلما كان من خلق اللّه ان يخلق آدم للذي اراد من التدبير و التقدير فيما هو مكوّنه في السموات و الارضين كشط عن اطباق السموات ثم قال للملائكة انظروا الى اهل الارض من خلقي من الجن و النسناس هل ترضون اعمالهم و طاعتهم لي فاطلعت و رأوا ما يعملون من المعاصي و سفك الدماء و الفساد في الارض بغير الحق اعظموا ذلك و غضبوا للّه و اسفوا على اهل الارض و لم يملكوا غضبهم.

و قالوا يا ربنا انت العزيز الجبار الظاهر العظيم الشأن و هؤلاء كلهم خلقك الضعيف الذليل في ارضك كلهم يتقلبون في قبضتك و يعيشون في رزقك و يتمتعون بعافيتك و هم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام لا تغضب و لا تنتقم منهم لنفسك بما تسمع منهم و ترى و قد عظم ذلك و اكبرناه فيك فلما سمع اللّه تعالى مقالة الملائكة قال اني جاعل في الارض خليفة فيكون حجتي على خلقي في ارضي، فقالت الملائكة سبحانك ربنا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك فقال اللّه تعالى يا ملائكتي اني اعلم ما لا تعلمون اني اخلق خلقا بيدي أجعل خلفائي على خلقي في ارضي ينهونهم عن معصيتي و ينذرونهم و يهدونهم الى طاعتي و يسلكون بهم طريق سبيلي اجعلهم حجة لي عذرا أو نذرا و أنفي الشياطين من ارضي و اطهرها منهم فاسكنهم في الهوى و اقطار الارض و في الفيافي فلا يراهم خلق و لا يرون شخصهم و لا يجالسونهم و لا يخالطونهم و لا يؤاكلونهم و لا يشاربونهم و انفرد مردة الجن العصاة من نسل بريتي و خلقي و خيرتي فلا يجاورون خلقي و اجعل بين خلقي و بين الجانّ حجابا فلا يروا خلقي شخص الجن و لا يجالسونهم و لا يشاربونهم و لا ينهجون نهجهم.

ص:166

و من عصاني من نسل خلقي الذي عظمته و اصطفيته اسكنهم مساكن العصاة و اوردهم موردهم و لا ابالي فقالت الملائكة لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العزيز الحكيم، فقال الملائكة اني خالق بشرا منم صلصال من حماء مسنون، فاذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، قال و كان ذلك من اللّه تقدمة للملائكة قبل لمن يخلقه احتجاجا منه عليهم و ما كان اللّه ليغيّر ما بقوم الا بعد الحجة عذرا أو نذرا، فأمر تبارك و تعالى ملكا من الملائكة فاغترف غرفة بيمينه فصلصلها في كفّه فجمدت فقال اللّه تبارك منك أخلق.

و روى عن امير المؤمنين عليه السّلام قال ان اللّه تعالى خلق آدم من اديم الارض (1)منه السباخ و المالح و الطيب، و من ذريته الصالح و الطالح، و قال ان اللّه تعالى لما خلق آدم و نفخ فيه من روحه نهض ليقوم فقال اللّه و خلق الانسان عجولا، و هذا علامة الملائكة ان من اولاد آدم عليه السّلام يكون من يصير بفعله صالحا و منهم من يكون طالحا بفعله لا ان من خلق من الطيّب لا يقدر على القبيح و لا ان من خلق من السبخة لا يقدر على الفعل الحسن.

و قال الصادق عليه السّلام كانت الملائكة تمر بآدم عليه السّلام أي بصورته و هو ملقى في الجنة من طين فتقول لامر ما خلقت و قال عليه السّلام ان القبضة التي قبضها اللّه تعالى من الطين الذي خلق آدم عليه السّلام منه ارسل اليها جبرئيل ان يأخذ منها ان شاء فقالت الارض اعوذ باللّه ان تأخذ مني شيئا، فرجع فقال يا رب تعوّذت بك، فارسل اليها اسرافيل و خيّره فقالت مثل ذلك و رجع فارسل اليها ميكائيل و خيّره ايضا، فقالت مثل ذلك فرجع فارسل اللّه تعالى اليها ملك الموت فأمره على الحتم فتعوذّت باللّه ان يأخذ منها فقال ملك الموت و انا اعوذ باللّه ان ارجع اليه حتى آخذ منك قبضة، و انما سمى آدم لأنه أخذ من اديم الارض و قال ان اللّه تعالى خلق آدم من الطين و خلق حوى من آدم فهّمة الرجال الارض و همّة النساء الرجال، و قيل اديم الارض الرابعة الى اعتدال لانه خلق وسطا من الملائكة.

و روى مسندا عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما ان خلق اللّه تعالى آدم اوقفه بين يديه فعطس فالهمه اللّه تعالى ان حمده فقال يا آدم حمدتني فوعزتي و جلالي لو لا عبد ان اريد ان اخلقهما في آخر الزمان ما خلقتك قال آدم يا رب بقدرهم عندك ما اسمهم فقال تعالى يا آدم انظر نحو العرش فاذا بسطرين من نور السطر الاول لا اله الا اللّه محمد نبي الرحمة، و علي مفتاح الجنة، و السطر الثاني آليت على نفسي ان ارحمن من والاهما و أعذّب من عاداهما، و تفصيل مقدمات آدم و حوى عليهما السّلام قد ذكر في القرآن و الاخبار.

ص:167


1- 1) اديم السماء او الارض: ما ظهر منهما.

اما القرآن فقال سبحانه في سورة البقرة و اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خلفية قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال اني اعلم ما لا تعلمون، و فيها ايضا و اذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ابى و استكبر و كان من الكافرين، و قلنا يا آدم اسكن انت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه، و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الارض مستقر و متاع الى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.

و قال سبحانه في سورة الاعراف و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك الا تسجد اذ امرتك قال انا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين، قال انظرني الى يوم يبعثون قال انك من المنظرين قال فبما اغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لاتينهم من بين ايديهم و من خلفهم و عن ايمانهم و عن شمائلهم و لا تجد اكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لاملأن جهنم منكم اجمعين و يا آدم اسكن انت و زوجك الجنة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما و قال نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين او تكونا من الخالدين و قاسمهما اني لكما من الناصحين فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناداهما ربهما أ لم انهكما عن تلكما الشجرة و اقل لكما ان الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا انفسنا و ان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الارض مستقر و متاع الى حين، و قال تعالى في سورة صلّى اللّه عليه و آله اذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين فاذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم اجمعون الا ابليس ابى و استكبر و كان من الكافرين، قال يا ابليس ما معنك ان تسجد لما خلقت بيديّ أستكبرت ام كنت من العالين قال انا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين، قال فاخرج منها فانك رجيم و ان عليك لعنتي الى يوم الدين، قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون قال انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم، قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين.

و نحو ذلك من الآيات التي كرر فيها قصتهما ناعيا عليهما زلتهما اشارة الى ان من خالف الاوامر يكون مصداق بطون هذه الآيات، و ذلك الشيطان هو هذا بعينه و ابونا آدم عليه السّلام فعل زلّة واحدة فاخرج من جوار اللّه فكيف يكون حالنا نحن مع فعل الاف من الذنوب كل يوم و مع هذا

ص:168

نطمع في جنة الخلد ما هذا الا من سخافة عقولنا، لكن بالنظر الى رحمته تعالى لا يكون بعيدا، و ما احسن قول شيخنا البهائي طاب ثراه في الشعر الفارسي

جدّ تو آدم بهشتش قدسيان كردند بهر او

يك كنه جون كرد مذنبي مذنب برو بيرون

تو طمع داري كه داخل جنت شوى اى

اما الاخبار فحيث انها لم تجتمع في خبر واحد، فلا بأس بأخذ القصة من مجموع الاخبار موافقا لمضمون (لمفهوم خ ل) الآيات فنقول ان اللّه سبحانه قد اقتضت حكمته ان يخلق آدم، و يجعله خليفة له في الارض موضع الجان بن الجان و تلك المخلوقات التي مرّ ذكرها و انها كاتنت تفسد في الارض فان قلت اذا كان سبحانه قد اخبر الملائكة قبل خلق آدم بأن الغرض من خلقه خلافة الارض لا الخلود في الجنة فآدم على كل حال ينبغي اخراجه من الجنة الى الارض لاجل المقصود من خلقته فكيف نعى عليه سبب الخروج من الجنة الى الارض و هو انما خلق له قلت كان ينبغى ان لا يخرج بسبب المعصية بل بسبب الارسال و نحوه من ايجاد النسل، و عمارة الارض و نحو ذلك كما أنه سبحانه لما علّم النبي صلّى اللّه عليه و آله من ايام طفوليته حتى بلغ الاربعين و استكمل كمالاته حتى صار منه قاب قوسين او ادنى نزّله من هذه المراتب العليّة الى تلك المراتب السفلية لانقاذ عباده من الغرق ببحار الهلاك الى ساحل النجاة و امره بمخالطتهم و معاشرتهم و مكالمتهم على قدر عقولهم و احتمال الاذى منهم و كان تحمّل هذه المشّاق عليه أشد و اصعب مما لاقى من اهوال الرسالة للطافة روحانية بسبب تعليم ذلك المعلم لك المدة الكثيرة، و هذا التنزيل المعنوي له في مراتبه صلّى اللّه عليه و آله هو المراد من قوله عز من قائل انا انزلنا اليكم ذكرا رسولا فانه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن في مكان مرتفع في الحس حتى نزل عنه، كما كان لابينا آدم عليه السّلام قد نزل من حسي و معنوي الى حسي و معنوي و نبينا صلّى اللّه عليه و آله قد نزل من مكان معنوي الى مكان حسي، و مكان معنوي و لكن فرق كثير بين النزولين مع ان ترك الخوض في حكاية هذا الاعتراض اولى من التعرض له، و ذلك لما روى من ان آدم و موسى عليهما السّلام قد التقيا في السموات فقال موسى يا آدم انت الذي اشقيت الناس و اخرجتهم من الجنة فقال له آدم انت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالاته و بكلامه و انزل عليك التورية قال نعم قال فوجدته قدّره لي قبل ان يخلقني، قال نعم قال فحج آدم موسى، و هذا الخبر لصعوبة معناه قد ردّه صاحب الطرايف (ره) و لكن هذا المضمون و امثاله قد روى في اخبارنا بطرق متكثرة و هو راجع الى العلم و انه ليس علة في وجود المعلوم و حصوله و سيجيء تحقيق هذه المسألة ان شاء اللّه تعالى.

و اما قول الملائكة أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، فهو قياس منهم لادم على من تقدمه من الجان و المخلوقات، يعني ان الخليفة مثل من تقدمه و يجوز هذا القول منهم على جهة

ص:169

العلم من الالواح السماوية، كما قاله جماعة من المفسرين فلما اراد خلقه ارسل جماعة من الملائكة الى الارض ليأخذوا من ترابها كما تقدم فلم يقدم على ذلك الفعل الا ملك الموت فأخذ قبضة من أديم الارض أي من وجهها و به سمى آدم و تلك القبضة من حلو الارض و ما لحها و سهلها و جبلها و خيرها و شرها و ذلك ليكون مواد مختلفة لانواع المختلفين (المخلوقين) من اولاد آدم فقال سبحانه لعزرائيل لما أجترأت على أخذ قبضة التراب من الارض فلتكن انت الذي تقبض ارواح آدم و اولاده الذين يخلقون من هذه التربة فأمر الملائكة و وضعوا ذلك التراب في المنخل و نخلوه فما كان لبابا صافيا أخذ لطينة آدم عليه السّلام و ما بقي في المنخل خلق اللّه منه النخلة، و به سميت لانها خلقت من تراب بدن آدم عليه السّلام و هي العجوة (1)

و من ثم قال النبي صلّى اللّه عليه و آله اكرموا عماتكم النخل لانها اخت الاب و قد شابهت الانسان في اكثر الاحوال و قد كان آدم عليه السّلام يأنس بها في الجنة و لما نزل الى الارض و استوحش بمفارقة الجنة طلب من اللّه سبحانه ان ينزل النخلة التي كان يأنس بها فأنزلها عليه فغرسها في الارض و كان يأنس بها في حيوته، و لما قرب وفاته اوصى الى ولده ان يضع معه في قبره جريدة منها ليأنس بها في قبره فصارت سنة فيما بين الانبياء عليهم السّلام الى زمان عيسى عليه السّلام فندرست في زمن الفترة و احياها النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال انها ترفع عذاب القبر ما دامت خضراء، فاستعملها شيعة اهل البيت عليهم السّلام من ائمتهم و رواه الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بطرق كثيرة منها:

انه قال صلّى اللّه عليه و آله للأنصار خضّروا صاحبكم فما اقلّ المخضرين يوم القيامة قالوا و ما التخضير قال جريدة خضراء توضع من اصل اليدين الى اصل الترقوة (2)رأوا استعمال الشيعة له اقبلوا على انكاره و على كونه بدعة لانه صار شعار الروافض، و مما خلق من طينة آدم عليه السّلام الحمام و من ثم سنّ الشرع تربيته في البيوت و انه يطرد الشياطين و تدخل الملائكة الى ذلك المنزل و صارت تستعمل في حمل الرسائل فلما نخل ذلك التراب امر اللّه سبحانه فأمطر عليه الماء المالح اربعين صباحا ثم امطر عليه الماء الحلو اربعين صباحا حتى امتزج الطين و الماء الحلو و المالح فخمّر طينة آدم عليه السّلام تخميرا، حتى بقيت اربعين صباحا بين الطين و الماء الى هذا الوقت الخاص اشار النبي صلّى اللّه عليه و آله بقوله كنت نبيا و آدم بين الطين و الماء ثم لما اكمل خلقه من الطين بقي شبحا ملقى في السموات بغير روح و لكن عزازيل الذي صار اسمه الشيطان بعد العصيان كان يمر على ذلك الشبح كل يوم

ص:170


1- 1) في الحديث العجوة من الجنة قيل هي ضرب من اجود التمر يضرب الى السواد من غرس النبي ص بالمدينة و نخلها تسمى اللينة قيل اراد بذلك مشاركتهما ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء و البركة بدعائه ص و لم يرد ثمار الجنة نفسها.
2- 2) الترقوة مقدم الحلق في اعلى الصدر حيثما يرتقي فيه النفس.

و يقول لامر ما خلقت ثم انه دخل يوما الى جوفه فغوط فيه و من ثم صار الغائط نجسا و منتنا لمكان غايط الشيطان في جوف آدم عليه السّلام.

فأمر اللّه سبحانه روح آدم ان تدخل في بدنه، فابت و قالت يا رب كيف ادخل هذا البدن، و اغفل عن طاعتك و تعتريني معاصي الابدان، و لعلها انما قالت هذا لعملها السابق بالجان الذين كانوا في الارض فان الارواح مخلوقة قبل الابدان بالفي عام و روى اكثر من هذا فلطف بها سبحانه و قال انه سأخرج من هذا البدن اقواما لا يعصوني طرفة عين و هم حججي على عبادي فدخلت الروح فلما استقرت في البدن عطس آدم فقال الحمد للّه رب العالمين فقال له اللّه تعالى رحمك اللّه يا آدم و هذا معنى ما جاء من قوله يا من سبقت رحمته غضبه، فأن اول خطاب كان مع نبينا آدم عليه السّلام هذه الرحمة فقد ابتدأ العالم بحمده و ختم به كما سيأتي من ان اهل الجنة اذا دخلوا الجنة، و اهل النار اذا دخلوا النار قال اهل الجنة اذا خرجوا من هذه الدنيا الى الجنة الحمد للّه رب العالمين كما حكاه اللّه سبحانه بقوله و قضى بينهم بالحق و قيل الحمد للّه رب العالمين.

و بالجملة فقد خلق اللّه سبحانه آدم عليه السّلام على تلك الصورة التي خلقه عليها، من غير ان يتخلق عليه الصور نطفة و علقة و مضغة و عظاما كما تداولت على اولاده و هذا هو احد معاني قوله صلّى اللّه عليه و آله ان اللّه خلق آدم على صورته و قد اجبت بهذا الجواب لما سألني بعض الافاضل في مجلس بعض الملوك و جواب آخر ايضا خطر بالبال ذلك الوقت و حاصله انه قد روى ان ملائكة التصوير اذا ارادوا تصوير النطفة ذكرا او انثى يقولون يا رب على أي صورة نصوره فان كان ذكرا قال سبحانه احضروا صور ابيه آدم و صوروه مثل واحدة منها، و ان كان انثى قال احضروا صور امهاته الى حوى فصوروه على صورة واحدة منها و من ثم قال عليه السّلام لا ينبغي لاحد ان يطعن في نسب ولده لاجل انه لا شبهه في الصورة فعله انما صوّر مثل واحد من آبائه، و هذا في غير ابينا آدم عليه السّلام و اما هو فليس له آباء و لا امهات حتى يتصور مثل واحدة منها بل خلق على تلك الصورة التي خلق عليها و قال المحقق صاحب عوالي اللئالئ المراد بالصورة الصورة المعنوية، كما قال عليه السّلام تخلقوا بأخلاق اللّه فيكون الضمير حينئذ راجعا الى اللّه سبحانه يعني على صورة اللّه المعنوية و مصداقه الحديث القدسي قال فيه اذا تقرب عبدي اليّ بالنوافل كنت سمعه الذي يسمع و يده التي بها يبطش (1)رجله التي بها يمشي الحديث.

و قال سيدنا المرتضى نوّر اللّه مضجعه ان على بمعنى مع يعني انه سبحانه خلق مادته مع صورته فيكون ردا على ما زعمه الطبيعيون من ان المادة مخلوقة و الصورة من مقتضياتها، و الذي

ص:171


1- 1) البطش الاخذ بشرعة و الاخذ بعنف و سطوة.

ورد في تفسير هذا الحديث من الاخبار حديثان، احدهما ما رواه رئيس المحدثين شيخنا الكليني قدس اللّه روحه باسناده الى محمد بن مسلم قال سألت ابا جعفر عليه السّلام عما يروون ان اللّه خلق آدم على صورته فقال هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه و اختارها على ساير الصور المختلفة فاضافها الى نفسه كما اضاف الكعبة الى نفسه و الروح الى نفسه، فقال بيتي و نفخت فيه من روحي.

و ثانيهما ما رواه شيخنا الصدوق (ره) باسناده الى الحسين بن خالد، قال قلت الرضا عليه السّلام يا ابن رسول اللّه ان الناس يروون ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال ان اللّه خلق آدم على صورته فقال قاتلهم اللّه لقد حذفوا اول الحديث ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ برجلين يتسابان فسمع احدهما يقول لصاحبه قبّح اللّه وجهك و وجه من يشبهك فقال عليه السّلام يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك فان اللّه خلق آدم على صورته، و كان المرتضى طاب ثراه انما تكلم على معنى الحديث بما سمعت من جهة ان هذين الخبرين لم يثبتا عنده بناء على اصله من عدم الاعتماد على العمل باخبار الاحاد، و لما خلق اللّه آدم عليه السّلام اسجد له الملائكة و أبى عزازيل و قال ان مادتي و جوهري الناري خير من جوهر آدم الطيني فلا أسجد له لان السجود انما هو لمكان شرف الجوهر و جوهر النار يقتضي الصعود و جوهر التراب يقتضي التسفل و الانحطاط، و من هذا قال الصادق عليه السّلام يا ابا حنيفة بلغني انك تقيس قال نعم قال لا تقس فإن اول من قاس ابليس حين قال خلقتني من نار و خلقته من طين فقاس ما بين النار و الطين و لو قاس نورية آدم بنورية النار لعرف فضل ما بين النورين و صفاء احدهما على الاخر، و عن الصادق عليه السّلام قال موسى عليه السّلام الهي كيف استطاع آدم ان يؤدي شكر ما اجريت عليه من نعمك خلقته بيديك و اسجدت له ملائكتك و اسكنته جنتك فاوحى اللّه تعالى اليه ان آدم علم ان ذلك كله مني فذلك شكره.

و اعلم ان هذا القياس الذي قاسه ابليس و ابطله الصادق عليه السّلام هو قياس الاولوية و اما اصحابنا رضوان اللّه عليهم فهم و ان ابطلوا العمل بالقياس الا ان اكثرهم قال بصحة العمل بقياس الالووية، و كذا منصوص العلة و مثلوا للأول بقوله تعالى فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ، حيث قاسوا تحريم الضرب على تحريم التأفيف، و للثاني بقوله صلّى اللّه عليه و آله و قد سأل عن جواز بيع الرطب مثلا بمثل قال أ ينقص اذا جف، فقيل نعم فقال فلا آذن فيكون العلة في المنع النقصان عند الجفاف فيقاس عليه كل ما وجدت فيه هذه العلة و الانصاف يقتضي المنع من العمل بهذا النوعين ايضا لوجوه احدها استفاضة الاخبار عن الطاهرين عليهم السّلام بنفي القياس مطلقا من غير تقييد بأحد افراده ردا على ابي حنيفة و اهل الرأي، و قد كانوا يعملون بكل انواع القياس، و حمل العام على احد افراده من غير مخصص، مع امكان حمله على جميع الافراد لا يجوز عند اهل الاصول.

ص:172

و ثانيها ان مبنى الشرع على اختلاف احكام المتفقات و اتفاق احكام المختلفات كما يظهر من حكاية نزح البئر بورود الاعيان النجسة عليه لعل غرض الشارع من مثله سدّ باب العقل، حتى لا يدخل في الاحكام الشرعية فاذا كان الحال على هذا لم يحصل لنا الظنّ بثبوت الحكم في المحل الخارج عن النص و ان اقتضاه القياس.

و ثالثها ما رواه الصدوق و غيره من اهل الاصول في باب الديات عن ابان بن تغلب قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في رجل قطع اصبعا من اصابع المرأة كم فيها قال عشرة من الابل قال قلت قطع اثنين فقال عشرون قطع ثلثا قال ثلثون، قلت قطع اربعا قال عشرون، قلت سبحان اللّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون فيقطع اربعا فيكون عليه عشرون ان كان هذا يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، و نقول الذي قاله شيطان فقال مهلا يا بان هذا حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية، فاذا بلغت الثلث رجعت المرأة الى النصف يا ابان انك اخذتني بالقياس و السنّة اذا قيست محق الدين و هذا في ابطال قياس الاولوية.

و رابعها قول الصادق عليه السّلام لابي حنيفة لو كان الدين يؤخذ بالقياس لوجب على الحايض ان تقضي الصلوة لانها افضل من الصوم، و بالجملة فالاخبار الدالة على نفي مطلق القياس و خصوص قياس الاولوية كثيرة جدا.

و خامسها ما قاله المرتضى (ره) حيث ابطل قياس منصوص العلة بأن علل الشرع انما تبتنئ عن الدواعي الى الفعل او عن وجه المصلحة و قد يشترك الشيئان في صفة واحدة و يكون في احدهما داعي الى فعله دون الاخر، مع ثبوتهما فيه و قد يكون مثل المصلحة مفسدة و قد يدعو الشيء الى غيره في حال دون حال و وقت دون وقت و على وجه منه دون وجه و قدر منه دون قدر، ثم قال و اذا صحّت هذه الجملة لم يكن في النص على العلة ما يوجب التخطي و القياس و جرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على موضعه فان قلت اذا بطلت قياس الاولوية فكيف يمكنك استفادة تحريم الضرب و باقي انواع الاذى من الاية، قلت ان القرآن انما أنزله اللّه سبحانه بلغة العرب، و اجراءه على مقتضى محاوراتهم و اصطلاحاتهم، و كل أحد يعلم من تتبع كلامهم ان فيه الدلالة اللغوية و العرفية و المطابقة و التضمن و الالتزام، و حينئذ فمثل قوله تعالى فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ اذا صدر من آحاد العرب لا يكون الغرض منه في الاصطلاح الا شمول جميع انواع الاذى من الضرب و غيره فالضرب داخل في مفهوم الكلام عرفا، و هذا معنى قول المحقق قدس اللّه روحه لما نفى قياس الاولوية قال ان قوله تعالى فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ منقول عن موضوعه اللغوي الى المنع من جميع انواع الاذى لاستفادة ذلك المعنى من اللفظ من غير توقف على استحضار القياس.

ص:173

و اما قياس منصوص العلة فقد تكون القرآن الحالية قائمة على دخول الفرد الغير المذكور في الحكم المذكور و يكون المذكور من قبيل اللفظ العام المتناول لغير المذكور و حينئذ فدلالته عليه كالاول و قد لا يكون كذلك فلا يدلّ عليه بهذا الدليل، بل يحتاج الى دليل خاص و الا رجع فيه الى الاصل اذا عرفت هذا ظهر ان الشيطان قد غلط في هذا القياس من اصله، و جعله قياس اولوية و ذلك لان جوهر النار و ان كان في طبعه طلب المحيط وجهة العلو الا ان علوه غير دائم و ذلك ان النور انما تشبّ في الحوى لحظة ثم تجمد بخلاف التراب، فانه و ان كان فب طبعه طلب الهبوط، الا ان اللّه تعالى بسبب هذا التواضع منه اودعه اسرار حكمته و جعله مادة لخلق انبيائه و حججه و معدنا للمعادن و محلا للنبات و الرياحين و حلاّه حلية لم يحل بها غيره من العناصر.

فان قلت الشيطان مع طول عبادته و كثرتها في السموات حتى أنه روى انه عبد اللّه ستة آلاف سنة إما من سني الدنيا أو من سني الاخرة فكيف ابى عن هذا التكليف الخاص مع قبوله لغيره و كيف خلاّه اللّه و نفسه و لم يمنحه الالطاف الالهية، التي تمنعه عن ارتكاب المعصية كما عصم غيره من الملائكة مع ان العبادة التي صدرت منه قبل العصيان ازيد من عبادة الملائكة، حتى انه صار من رؤساء الملائكة و طاووسهم و كان يجلس على كرسي في السموات و الملائكة تقف امامه تعظيما فكيف لم يعصمه اللّه تعالى عن ارتكاب مثل هذا.

قلت قد خاجلتني هذه الشبهة برهة من الزمان حتى اطلعني شيخنا صاحب بحار الانوار على اخبار تحلّ هذه الشبهة و حاصلها ان الشيطان كما تحققت قد كان من جملة الجان الذين كانوا في الارض فلما ارسل اللّه سبحانه الملائكة اليهم بالسيوف قتلوهم و نفوهم من الارض، فبقى هذا الملعون فأظهر للملائكة انه من الطائفة المؤمنين، فقال للملائكة قتلتم اهلي و طوائفي و انا بقيت وحيدا فخذوني معكم الى السموات لا عبد اللّه تعالى معكم فأستأذنوا في هذا فأذن لهم فلما بلغ السموات و طاف بها إطّلع على الالواح السماوية و الدفاتر الالهية، فقرأ في بعضها ان اللّه سبحانه لا يضيع عمل عامل بل من عمل و اراد الدنيا اعطاه اللّه منها، و من عمل و اراد الاخرة بلّغه اللّه مناه كما قال سبحانه و مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيٰا نُؤْتِهِ مِنْهٰا وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ، فاضمر في نفسه الخبيثة ان الاخرة مؤخرة و الدنيا معجلة فقصد حرث الدنيا من تلك العبادة الكثيرة و لما علم انه قد استتم نصيبه من الدنيا بادر الى اظهار ما قصده فأظهره في الاستكبار عن السجود و لو انه قصد اللّه سبحانه بتلك العبادة، بل و اقلّ منها لما خلّى و نفسه بل كان قد تداركته الالطاف الالهية، و قد كان له مرتبة في العلم لا يدانى فيها لان علمه كان من الملكوت.

ص:174

روى ان واحدا من قوم فرعون اعطاه (1)نقود عنب و قال اريد ان تخلق هذا جواهر كبارا لانك رب قادر، فأخذه فرعون فلما جنّ عليه الليل سد ابواب بيته و قال لا يدخل عليّ أحد فبقي متفكرا في حال العنب فأتاه الشيطان فدّق عليه الباب فقال فرعون من في الباب فقال ابليس ضرطتي في لحية رب لا يدري من في الباب فعرفه فرعون فقال ادخل يا ملعون، فقال ابليس ملعون يدخل على ملعون فلما دخل عليه رأى عنقود العنب بين يديه و هو حيران فقال ناولني هذا العنقود فقرأ عليه اسما فاذا هو احسن ما يكون من اللئالئ، فقال له الشيطان انصف يا عديم الانصاف انا في مثل هذا العلم و الكمال اردت ان اكون عبدا من جملة العبيد، فما قبلوني عبدا لباب هذا السلطان و انت مع جهلك هذا و حماقتك اردت ان تكون ربا و ادعيت هذه المرتبة العظيمة فقال له فرعون يا ابليس لأي شيء ما سجدت لادم لما امرت فقال لاني علمت ان طينتك هذه الخبيثة في صلبه و من هذا امتنعن من السجود له.

و لما صنع نوح عليه السّلام السفينة و اركب فيها انواع الحيوانات بقي الحمار خارج السفينة، و خاف عليه نوح من الغرق و كلما امره بالركوب امتنع، فغضب عليه نوح و قال اركب يا شيطان مخاطبا للحمار فسمع الشيطان كلام نوح فتعلق في ذنب الحمار و ركب في السفينة و نوح عليه السّلام كان يظن انه لم يركب و لم يرخص له فلما اخذت السفينة مأخذها و طافت على الماء نظر نوح فرأى ابليس جالسا صدر السفينة، فقال له من رخصك فقال انت أ لم تقل اركب يا شيطان، ثم انه قال يا نوح ان لك عندي يدا و نعمة اريد ان اكافيك عليها فقال نوح و ما هي قال انك دعوت على قومك فاغرقتهم بساعة واححدة، و لو بقوا لكنت متحيرا في اضلالهم و ايرادهم مورد الهلاك فلما علم نوح ان الشيطان قد شمت به بكى و ناح بعد الطوفان خمسمائة عام، فسمى نوحا و قد كان من قبل اسمه عبد الجبار فأوحى اللّه سبحانه الى نوح ان اسمع ما يقول لك الشيطان، و اقبل كلامه فقال ما تقول يا ابليس فقال يا نوح انهاك عن خصال.

اولها الكبر و العجب فإنّ اول ما عصى اللّه به التكبر و ذلك انه امرني بالسجود لابيك آدم و لو سجدت لما اخرجوني من عالم الملكوت، و ثانيها الحرص، فان اللّه تعالى قد اباح الجنة كلها لابيك آدم و نهاه عن شجرة واحدة، فدعاه حرصه الى الاكل منها فأكل فصار عليه ما صار.

و ثالثها ان لا تخلو بامرأة اجنبية الا و يكون معكما ثالث فانك ان خلوت بها من غير ثالث كنت انا الثالث، فأسوّل لك الامور حتى اوقعك في الزنا، فأوحى اللّه اليه بقبول قول الشيطان، و من هنا قال عليه السّلام الحكمة ضالة المؤمن و ذلك انه يدورها اينما كانت و في يد من كانت حتى

ص:175


1- 1) ظاهر المصنف (ره) ان هذا النقل ليس من المعصوم عليه السّلام و اظنة مطابئة من الاساطير.

يحصلها، و معنى آخر و هو ان الحكمة لما كانت ضالة المؤمن فيجب على كل من وجدها ان يدفعها اليه لانها ضالته و قد وقع الخلاف في سجود الملائكة لآدم عليه السّلام على أي وجه كان، فذهب اكثر المفسرين الى انه على وجه التكرمة لادم و التعظيم لشأنه و تقديمه عليهم و لذا جعل اصحابنا رضي اللّه عنهم هذه الاية دالة على ان الانبياء عليهم السّلام افضل من الملائكة و قال الجبائي و ابو القاسم البلخي و جماعة انه جعله قبلة لهم فأمرهم بالسجود الى قبلتهم و فيه ضرب من التعظيم.

و ردّه شيخنا الطوسي (ره) بأنه لو كان على هذا الوجه لما امتنع ابليس من ذلك و لما استعظمته الملائكة، و قد نطق القرآن بأن امتناع ابليس من السجود انما هو لاعتقاده تفضيله به و تكرمته مثل قوله أ رأيتك هذا الذي كرمّت عليّ لئن اخرتني الاية و لو لم يكن الا (الامر خ ل) على هذا الوجه لوجب ان يعلمه اللّه تعالى بأنه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه و تفضيله عليه و انما امره على الوجه الاخر الذي لا تفضيل فيه، و لم يجز اغفال ذلك فانه سبب معصية ابليس و ضلالته فلما لم يقع ذلك علمنا ان الامر بالسجود انما كان على وجه التعظيم لادم هذا و الذي ورد في الاخبار عن الائمة الاطهار عليهم السّلام ان الامر بالسجود للملائكة انما كان لمكان نور النبي صلّى اللّه عليه و آله و اهل بيته فانه كان في صلب آدم فالسجود انما هو لتعظيم ذلك النور، و من ثم كان النور اولا في ظهر آدم و كانت الملائكة تأتيه من قفاه و تسجد لذلك النور، فقال آدم يا رب ما هذا النور الذي في ظهري و تعظمه الملائكة فقال هذا نور حججي على خلقي و لولاهم لم اخلقك يا آدم و لم اخلق سماء و لا ارضا، فقال يا رب حوّل النور الى وجهي حتى تستقبلني الملائكة فكان ذلك النور في جبهة آدم فما زال ينتقل من صلب الطاهرين الى ارحام الطاهرات حتى وافى صلب عبد المطلب فافترق فرقتين فصار فرقة في جبين عبد اللّه و الاخرى كانت في جبين ابي طالب فمن هناك كانت الاخوة بينهما عليهما افضل الصلوات و على آلهما اكمل التحيات هذا خلق آدم و كيفيته.

و اما خلق خوا و كيفيته فقد روى عن زرارة بن اعين انه قال سأل ابو عبد اللّه عليه السّلام عن خلق حوى و قيل له اناسا عندنا يقولون ان اللّه عز و جل خلق حوا من ضلع آدم الايسر الاقصى فقال سبحان اللّه و تالى عن ذلك علوا كبيرا عما يقولون من يقول هذا ان اللّه تبارك و تعالى لم يكن له القدرة ما يخلق لادم زوجة من غير ضلعه، و يجعل للمتكلم من اهل التشنيع سبيلا الى الكلام ان يقول ان آدم كان ينكح بعضه بعضا اذا كانت من ضلعه ما لهؤلاء حكم اللّه بيننا و بينهم، ثم قال ان اللّه تبارك و تعالى لما خلق آدم من الطين و امر الملائكة بالسجود له و القى عليه ( عينيه خ ل) النوم ثم ابتدع له حوى فجعلها في موضع النقرة التي بين و ركيه و ذلك لكي تكون المرأة تبعا (تابعة خ ل) للرجل فأقبلت تتحرك فانتبه لتحركها، فلما انتبه نوديت ان تنحي عنه فلما

ص:176

نظر الى خلق حسن يشبه صورته غير انها انثى فكلمها فكلمته بلغته، فقال لها من أنت قالت له خلق خلقني اللّه كما ترى فقال آدم عليه السّلام عند ذلك يا رب ما هذا الخلق الحسن الذي قد آنسني فربه و النظر اليه فقال اللّه تعالى يا آدم هذه امتي حوى أ فتحب ان تكون معك تونسك و تحدثك و تكون تبعا لامرك فقال نعم يا رب و ذلك بذلك عليّ الحمد و الشكر ما بقيت، فقال له عز و جل فاخطبها اليّ فانها امتي فقد تصلح لك ايضا زوجة للشهوة و القى اللّه عليه الشهوة و قد علمه قبل ذلك المعرفة بكل شيء فقال يا رب فأني اخطبها اليك ما رضاك بذلك، فقال عز و جل رضاي ان تعلمها معالم ديني فقال ذلك لك يا رب عليّ ان شئت ذلك لي فقال عز و جل و قد شئت ذلك و قد زوجتكها فضمها اليك، فقال لها آدم عليه السّلام فاقبلي فقالت له بل انت فاقبل اليّ فأمر اللّه عز و جل آدم ان يقوم اليها و لو لا ذلك لكان النساء هنّ يذهبن الى الرجال حتى يخطبنّ على انفسهنّ فهذه قصة حوى صلوات اللّه عليها.

و اما قوله عز و جل يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً، فأنه روى انه عز و جل خلق من طينتها زوجها و بث منها رجالا كثيرا و نساء قال الصدوق طاب ثراه و الخبر الذي روي ان حوى خلقت من ضلع آدم الايسر صحيح معناه من الطينة التي خلقت من ضلعه الايسر فلذلك صارت اضلاع الرجل انقص من اضلاع النساء بضلع، اقول كأن الصدوق (ره) قصد وجها لجمع الاخبار الدال اكثرها على ان حوى لم تخلق من ضلع آدم الايسر الاقصى كما قاله جمهور مخالفينا من ان حوى خلقت من ضلع آدم بعد حيوته و منه سميت حوى عندهم لانها خلقت من حيّ و بين الاخبار الدالة على انها خلقت من ضلعه و حاصل وجه الجمع انه سبحانه قد قرر لكل عضو من اعضاء آدم عليه السّلام طينة منفردة و ركبّ الطينات كما تركب العضاء و الاجزاء في المركبات و تلك الطينة التي قررت و عزلت ضلع آدم الايسر لم تدخل في تركيب اعضاء آدم بل ابقيت لخلق حوى فخلقت منها حوى لا انها خلقت من آدم بعد الحياة كما قاله الجمهور، حتى يتوجه علينا تشنيع اهل الاديان و المجوس بأن آدم كيف ينكح بعضه بعضا، و حينئذ فوجه التسمية كونها اما للاحيا كما قيل، و على التقديرين صارت اضلاع الرجل ناقصة عن اضلاع المرأة بواحدة.

روى محمد بن قيس عن الباقر عليه السّلام قال ان شريحا القاضي بينما هو في مجلس القضا اذ أتته امرأة فقالت ايها القاضي اقض بيني و بين خصمي، قال لها من خصمك قالت انت قال افرجوا لها فافرجوا لها فدخلت، فقال لها و ما ظلامتك فقالت ان لي ما للرجال و ما للنساء قال شريح فان امير المؤمنين عليه السّلام يقضي على المبال، قالت فاني ابول بهما جميعا و يسكنان معا، قال شريح و اللّه ما سمعت بأعجب من هذا قالت ساورد عليك من امري ما هو اعجب من هذا قال و ما هو

ص:177

قالت جامعني زوجي فولدت منه و جامعت جاريتي فولدت مني فضرب شريح احدى يديه على الاخرى متعجبا ثم جاء الى امير المؤمنين عليه السّلام فقال يا امير المؤمنين لقد ورد عليّ شيء ما سمعت بأعجب منه ثم قصّ عليه قصة المرأة فسألها امير المؤمنين عليه السّلام عن ذلك فقالت هو كما ذكر فقال عليه السّلام لها و من زوجك قالت فلان فبعث اليه فدعاه، قال أ تعرف هذه قال نعم هي زوجتي فسأله عمار قالت قال هو كذلك فقال عليه السّلام لأنت اجرأ من خاصي الاسد (1)حيث تقدم عليها بهذه الحال، ثم قال يا قنبر ادخلها بيتا مع امرأة تعدّ اضلاعها، فقال زوجها يا امير المؤمنين لا امن عليها رجلا و لا ائتمن عليها امرأة فقال علي عليه السّلام عليّ بدينار الخصي، و كان من صالحي اهل الكوفة و كا يثق به فقال له يا دينار ادخلها بيتا، و عرّها من ثيابها و مرها ان تشدّ ميزرا و عدّ اضلاعها، ففعل دينار ذلك و كان اضلاعها سبعة عشر، تسعة في اليمين و ثمانية في اليسار فالبسها عليه السّلام ثياب الرجال و القلنسوة و النعلين و القى عليه الرداء و الحلقه بالرجال، فقال زوجها يا امير المؤمنين بنت عمي قد ولدت مني تلحقها بالرجال، فقال اني حكمت عليها بحكم اللّه ان اللّه تبارك و تعالى خلق حوى من ضلع آدم الايسر الاقصى، و اضلاع الرجال تنقص و اضلاع النساء تمام.

و بالجملة لما خلق حوى تولّى تزويجها من آدم، و في الحديث ان اللّه تعالى لم يتوّل تزويج أحد من النساء سوى حوى من آدم و زينب بنت جحش من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله فلما قضى زيد منها و طرا زوجناكها، و فاطمة من علي بن ابي طالب عليه السّلام كما تقدم فاسكنهما الجنة و اخرج عنهما عزازيل و سمّاه الشيطان، فنونه ان كانت اصلية كان من الشطن أي البعد لانه بعد عن الخير الذي كان فيه أو من الحبل الطويل، كأنه طال في الشروان جعلتها زائدة كان من شاط يشيط اذا هلك، أو من استشاط غضبا اذا التهب في غضبه و سمّاه ايضا ابليس من الابلاس و هو التحيّر و الدهشة، لتحيّره في امره فأخرجه الملائكة من الجنة و بقى آدم و زوجته فأباح لهما كل الجنة الا شجرة واحدة، اما بالنوع او الشخص فقيل هي الحنطة و قيل التين و قيل العنب الى غير ذلك و قال الصادق عليه السّلام كل هذا حقّ لان شجرة الجنة لثمارها الف طعم ففيها من كل نوع طعم و في حديث آخر ان شجرة الجنة تحمل انواعا كثيرة، فالتعدد يكون باعتبار الحمل لا باعتبار الطعم.

روى الصدوق في عيون الاخبار مسندا الى الهروي قال قلت للرضا عليه السّلام يا ابن رسول اللّه اخبرني عن الشجرة التي اكل منها آدم و حوى، ما كانت فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي انها الحنطة و منهم من يروي انها العنب و منهم من يروي انها شجرة الحسد فقال كل ذلك حق فقلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها، فقال يا ابا الصلت ان شجرة الجنة تحمل انواعا

ص:178


1- 1) في اكثر نسخ الحديث: لانت اجرا من راكب الاسد.

و كانت شجرة الحنطة و فيها و ليست كشجرة الدنيا و ان آدم عليه السّلام لما اكرمه اللّه تعالى ذكره باسجاد الملائكة له و بادخال الجنة قال في نفسه هل خلق اللّه بشرا افضل مني، فعلم اللّه عز و جل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم فانظر الى ساق العرش، فرفع آدم رأسه فنظر الى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه علي بن ابي طالب امير المؤمنين و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيدا شباب اهل الجنة من الخلق اجمعين، فقال آدم يا رب من هؤلاء فقال عز و جل هؤلاء من ذريتك و هم خير منك و من جميع خلقي و لولاهم ما خلقتك و لا خلقت الجنة و لا النار و لا السماء و الارض فأياك ان تنظر اليهم بعين الحسد و تمني منزلتهم فنظر اليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها و تسلط على حوى لنظرها الى فاطمة بعين الحسد حتى اكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما اللّه عز و جل من جنته و اهبطهما من جواره الى الارض.

فان قلت ما وجه الحكمة في نهي آدم عليه السّلام عن الشجرة قلت قد ورد في حديث معتبر ان هذه الشجرة شجرة غرسها اللّه تعالى بيد قدرته لما خلق الجنة، و جعلها لعلي بن ابي طالب عليه السّلام و شيعته، بأن لا يأكل احد قبله منها كما هو المتعارف في بعض الاقطار من ان احدا اذا احدث بستانا و غرس فيه الشجر يغرس شجرة واحدة من احسن الشجر ثمرا و يخصها باسم حبيب له، و يقول هذه لفلان لا يأكل احد منها الا هو و ينهى المتردين الى ذلك البستان عن تناول شيء منها و من ثم قال بعض الاصوليين ان آدم عليه السّلام لم يصدر منه الخطأ و انما صدر منه الغلط فسماه اللّه تعالى خطاء اذ كان اللازم عليه الفحص و السؤال عن حال الاكل (الكل خ ل) و ذلك انه تعالى قال لهما و لا تقربا هذه الشجرة، فظنا انه تعالى انما اراد الشجرة المشار اليها لا نوعها فأكلا من ذلك النوع و لكن غير الشجرة المشار اليها، و يبعد هذا قول الشيطان لهما ان اللّه لم ينهكما عن هذه الشجرة الا لان كل من اكل منها كان ملكا خالدا في الجنة و هو لا يريد لكما الخلود فتوصل الشيطان الى ايقاعهما فيما نهيا عنه و ذلك بسبب الحية كما في بعض الروايات.

و ذلك ان الشيطان لما اخرج من الجنة لم يقدر على الدخول اليها فأتى الى جدار الجنة و رأى الحية على أعلى الجدار، فقال لها ادخليني الجنة و اعلمك الاسم الاعظم فقالت له ان الملائكة تحرس الجنة فيرونك فقال لها ادخل في فمك و اطبقي عليّ حتى ادخل ففعلت و من ثم صار السم في انيابها و فمها لمكان جلوس الشيطان فيه، فلما ادخلته قالت له اين الاسم الاعظم فقال لو كنت اعلمه لما احتجت اليك في الدخول فأتى آدم فوسوس له و أقسم له بالنصيحة فلم يطعه و أتى الى حوى و قال لها هذه شجرة الخلد، و اقسم لهما و لم يعهدا قبل ان احدا يقدر على ان يقسم باللّه كاذبا، فأتت حوى الى آدم فصارت عونا للشيطان عليه فقام آدم عليه السّلام معها الى الاكل

ص:179

من الشجرة فكانت اول قدم مشت الى الخطيئة فلما مدّا ايديهما اليها تطاير ما عليهما من الحلي و الحلل و بقيا عريانيين فأخذا من ورق التين فوضعها على عورتيهما فتطاير الورق فوضع آدم احدى يديه على عورته و الاخر على رأسه كما هو شأن العراة و من ثم امر بالوضوء على هذه الهيئة.

روى الصدوق طاب ثراه انه جاء نفر من اليهود الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسألوه عن مسائل فكان فيما سألوه اخبرنا يا محمد لاي علّة توضئ هذه الجوارح الاربع و هي انظف المواضع في الجسد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لما ان وسوس الشيطان الى آدم عليه السّلام دنى من الشجرة فنظر اليها فذهب ماء وجهه ثم قام و مشى اليها و هي اول قدم مشت الى الخطيئة ثم تناول بيده منها ما عليها فأكل فطار الحلي و الحلل عن جسده فوضع آجم يده على أم رأسه و بكى فلما تاب اللّه عز و جل عليه فرض عليه و على ذريته تطهير هذه الجوارح الاربع فأمره اللّه عز و جل بغسل الوجه لما نظر الى الشجرة و امره بغسل اليدين الى المرفقين لما تناول بهما و امره بمسجح الرأس لما وضع يده على ام رأسه و امره بمسح القدمين لما مشى بهما الى الخطيئة.

و هذه العلة لا تنافي ما روى عن الرضا عليه السّلام من ان العلة في توضئ هذه الجوارح هو كونها الاعضاء الظاهرة التي يواجه بها اللّه سبحانه حال الصلوة و يلاقي بها الكرام الكاتبين لان علل الشرع معرفات لا مؤثرات فيجوز اجتماعها على المدلول الواحد ثم ان آدم عليه السّلام و حوى انزلا من السموات على جبل في شرقي الهند يقال له ياسم، و في رواية أخرى سرانديب و هو في الاقليم الاول مما يلي معدّل النهار، و قد كانت حوى ضفرت رأسها فقالت ما اصنع بهذه الضفرة و انا مغضوب عليّ ثم انها حلّت ضفرتها، و في خبر آخر انها حلّت عقيصة واحدة فأطارت الريح ذلك الطيب في بلاد الهند فمن ثم كان اكثر الطيب منه ثم أتى جبرئيل عليه السّلام فأخذ آدم الى مكة ليعلمه المناسك فطوى له الارض فصار موضع قدميه عمران و ما بينهما خراب، فأهبط آجم على الصفا و به سمي لهبوط صفي اللّه عليه، و حوى على المروة و به سميت لنزول المرأة و هي حوى عليه، فبكى آدم على ما وقع منه و على فراق الجنة ثلثمائة سنة من ايام الدنيا، و في ايام الاخرة يوم كألف سنة ما بين العصر الى العشا و بكى حتى صار على خدّيه كالنهرين فخرج من عينه اليمنى دموع مثل دجلة و من عينه اليسرى مثل الفرات ثم ان آدم و حوى يوم الثامن من شهر ذي الحجة فلم يعرفها ذلك اليوم لشعث احوالهما و لطول حزنهما فتروّى و تفكر ذلك اليوم ثم أنه عرفها يوم التاسع فمن ثم سميّ اليوم الثامن يوم التروية و التاسع يوم عرفة، و لا ينافي هذا الوجه ما روى من ان الوجه فيه هو ان ابراهيم عليه السّلام رأى في تلك الليلة التي رأى فيها ذبح الولد رؤياه فأصبح يروي

ص:180

في نفسه هو حلم أم من اللّه تعالى فسمي يوم التروية فلما كان يوم عرفة رأى ذلك ايضا فعرف أنه من اللّه فسمى يوم عرفة.

و عن الصادق عليه السّلام قال معاوية بن عمار سألته لم سمي عرفات فقال ان جبرئيل خرج بابراهيم عليها السّلام يوم عرفة فلما زالت الشمس قال له جبرئيل عليه السّلام يا ابراهيم اعترف بذنبك و اعرف مناسكك فسميت عرفات لقول جبرئيل عليه السّلام اعترف و في رواية أخرى ان آدم عليه السّلام لما كان في الجنة نظر يوما الى ساق العرش و كان اليوم الثامن فرأى سطورا من نور فيها اسم محمد و أهل بيته صلوات اللّه عليهم فتروى ليعرفهم فلما كان الغد و هو اليوم التاسع عرّفه اللّه مراتبهم و انه لولاهم لم يخلقه و لا غيره فسميّ يوم عرفة و لما لم تقبل توبته في تلك السنين و الاعوام أتى اليه جبرئيل عليه السّلام فقال يا آدم ادع اللّه بالاسماء التي رأيتها مكتوبة على ساق العرش بسطور النور، و قل اللهم بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و الائمة ان تقبل توبتي، و هنّ الكلمات المرادة من قوله تعالى فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ ، كما هو في روايات العامة و الخاصة، فأوحى اللّه اليه يا آدم لو لم تدعني بهذه الاسماء لما قبلت توبتك و أقسمت انه لم يدعني مذنب بها الا قبلت توبته، و وجه عدم المنافات ظاهرة مما عرفت من ان علل الشرع معرّفات.

و قيل سمي عرفة لارتفاعه على الارض مأخوذ من عرف الديك و يوم التروية لقولهم ترويتم ترويتم من الماء لان عرفات لم يكن بها ماء في تلك الاوقات ثم ان آدم عليه السّلام لما نزل من الجنة ظهرت به شامة سوداء في وجهه من قرنه الى قدمه فطال حزنه و بكاؤه على ما ظهر به فأتى اليه جبرئيل عليه السّلام فقال ما يبكيك يا آدم فقال من هذه الشامة التي ظهرت بي قال يا آدم قم فصلّ فهذا وقت الصلوة الاولى أي الظهر فصلاها فاتحطت الشامة الى عنقه و جاء في وقت صلاة العصر فأمره فصلاها فانحطت الى سرته، و في وقت الثالثة امره بها فانحطت الشامة الى ركبته و في الرابعة صلاها فانحطت الى قدميه فصلّى الخامسة فخرج منها فحمد اللّه و أثنى عليه فقال جبرئيل عليه السّلام يا آدم مثل ولدك في هذه الصلوات كمثلك في هذه الشامة من صلّى من ولدك في كل يوم و ليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشامة، و لما تاب في وقت المغرب امر بصلوة ثلاث ركعات لخطيئته و ركعة لخطيئة حوى و ركعة لتوبته و من ثم فرضت صلاة المغرب كفّارة للذنوب و باعثا لقبول التوبة.

و اما صلاة العصر فقد عرفت ان ذلك الوقت وقت معصية ابينا آدم فتكون صلاة ذلك الوقت كفّارة ايضا لذنوبنا و ذنب ابينا آدم عليه السّلام ثم ان اللّه سبحانه لما قبل توبته اتاه جبرئيل بخيمة من خيام الجنة فوضعها له بمكة في موضع الكعبة، و تلك الخيمة من ياقوتة حمراء لها بابان شرقي و غربي من ذهب منصوبات معلّق فيها ثلاث قناديل من تبر الجنة تلتهب نورا و نزل الركن و هو

ص:181

ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة و كان كرسيا لآدم عليه السّلام يجلس عليه و ان خيمة آدم لم تزل في مكانها حتى قبضه اللّه تعالى ثم رفعه اليه و بنى بنو آدم في موضعها بيتا من الطين و الحجارة و لم يزل معمورا و أعتق من الغرق و لم يخر به (يجربه خ) حتى ان بعث اللّه تعالى ابراهيم عليه السّلام، كذا في بعض الروايات اقول و لعل هذا هو البيت المعمور الذي رفعه اللّه سبحانه الى السماء الرابعة ثم بنى الكعبة موضعه.

و في الروايات الخاصة ان اللّه سبحانه ارسل سحابة سوداء فظللت موضع البيت فأمر آدم ان يخط موضعها في الارض و هو الكعبة و كذلك مسجد منى، و اما قبل آدم فقد حجّه الملائكة بألفي عام، و اما الحرم و مقداره فقد روى عن المفضل انه سأل ابا عبد اللّه عليه السّلام عن التحريف لاصحابنا ذات اليسار عن القبلة و عن السبب فيه، فقال ان الحجر الاسود لمّا انزل به من الجنة و وضع في موضعه جعلوا نصاب الحرم (1)من حيث يلحقه النور نور الحجر فهي عن يمين الكعبة اربعة اميال، و عن يساره ثمانية اميال كله اثنى عشر ميلا فاذا انحرف الانسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة انصاب الحرم و اذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة، و سيأتي تحقيق الحجر في بعض الانوار السماوية ان شاء اللّه تعالى.

و اما طول آدم عليه السّلام لما نزل من الجنة فروى مسندا الى مقاتل بن سليمان قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام كم طول ابينا آدم صلوات اللّه عليه حين أهبط الى الارض و كم كان طول حوى عليها السّلام فقال وجدنا في كتاب علي عليه السّلام ان اللّه تعالى لما اهبط آدم صلوات اللّه عليه و زوجته عليها السّلام الى الارض كان رجلاه على ثنية الصفا و رأسه دون افق السماء و انه شكى الى اللّه تعالى مما يصيبه من حر الشمس فصيّر طوله سبعين ذراعا بذارعه و جعل طول حوى خمسة و ثلاثين ذراعا بذراعها و الثنية على ما في النهاية العقبة أو الطريق العالي، و قيل اعلى المسيل في رأسه و قوله دون افق السماء أي قريبا منه و دونه و الافاق النواحي.

و اعلم ان المحققين من اصحابنا المتأخرين قد اوردوا الاشكال على هذا الحديث من وجهين، و من هذا عدّ عندهم من مشكلات الاخبار و حاصل الاشكال الاول هو انه قد تقرر في علم الهيئة و الفلك ان حرارة الشمس انما هو بسبب الانعكاس من الاجرام الارضية و قد ذكروا ان الانعكاس يبلغ في الهوى الى مقدار اربعة فراسخ، و كلما ارتفعت الاجرام من الارض ازدادت برودة كما هو المشاهد في الجبال الشاهقة فكيف يصير قصر القامة سببا في رفع التأذي من جهة

ص:182


1- 1) النصب بضمتين حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية و يتخذونه صنما و يعبدونه و الجمع انصاب و قيل هو حجر كانوا ينصبونه و يذبحونه عليه فيحمر بالدم انظر مجمع البحرين [1]مادة (نصب) .

الحر بل يكون الامر بالعكس و اما الاشكال الثاني فهو ان كون آدم عليه السّلام سبعين ذراعا بذراعه يستلزم عدم استواء الخلقة منه كما هو المشاهد في اولاده لان تناسب الاعضاء شرط في استوائها.

و الجواب عن الاشكال الاول من وجهين احدهما انه يجوز ان سلّمنا القاعدة الرياضية ان يكون للشمس حرارة بالانعكاس و أخرى بالذات فوق الطبقة الزمهريرية و يكون طول قامة آدم عليه السّلام متجاوزا تلك الطبقة كما رواه الصدوق (ره) بسند صحيح عن الصادق عليه السّلام قال لما بكى آدم صلوات اللّه عليه على الجنة و كان رأسه في باب من ابواب السماء و كان يتأذى بالشمس فحطّ من قامته، و يؤيده ما روى من ان عوج بن عنق كان يضرب يده فيأخذ الحوت من اسفل البحر ثم يرفعه الى الشمس فيشويه في حر الشمس فيأكله و كان عمره ثلاثة آلاف و ستة مأة سنة، و روى انه لما اراد نوح ان يركب السفينة جاء اليه عوج فقال له احملني معك، فقال نوح اني لم اومر بذلك فبلغ الماء اليه و ما جاوز ركبتيه و بقى الى ايام موسى عليه السّلام فقتله موسى و يؤكد ما نحن فيه ما روى ان الشمس يوم القيامة تنزل حتى تسامت رؤس الخلائق فيكون حرارة القيامة منها، و يحتاج الخلائق الى الظ، و يكون الحرارة م قرصها كما هو الظاهر من تلك الاخبار الوجه الثاني ان تأذيه يجوز ان يكون السبب فيه انه مع ما كان عليه من الطول ما كان يمكنه ان يستظل ببناء و لا جبل و لا غير ذلك فلما قصر امكنه الاستظلال بالاظلة و هو ظاهر.

و اما الجواب عن الاشكال الثاني فمن وجوه: الاول و هو الاولى ان استواء الخلقة و عدمه ليس منحصرا فيما هو معهود في هذه الاعصار بل استواء الخلقة في كل عصر بما يليق بذلك العصر و آدم عليه السّلام لم يكن في مثل هذه الاعصار حتى نحل تقصيره باستواء خلقته بل لو كنا نحن في عصره على هذه الخلقة لظهر عدم استواء خلقتنا نحن و كذلك فيما بعده من الاعصار التي كانت الخلائق فيها اطول و اجسم و أقوى، كما روى ان موسى عليه السّلام أرسل الى العمالقة اثنى عشر نقيبا للفحص عن حالهم فظفر بهم واحد من العمالقة و ادخل الاثنى عشر في ناحية من ردن (1)ثوبه و أتى به الى ملكهم فلم يقتلهم بل ارسلهم الى موسى عليه السّلام فأمر لهم بزاد للطريق و هو رمانة واحدة نصفها خال من الحب و الاخر فيه حب و ذاك الخالي كالغطا فوق النصف الاخر فكان الاثنى عشر رجلا ينامون الليل في النصف الخالي و في النهار يجعلونه فوق النصف الذي يأكلون من حبّه و تحمله البقر معهم و كذا يدلّ على هذا المعنى ما استفاض في الاخبار من صفات حور العين من ان لبعضهن سبعين الف ذوابة كل ذوابة تحملها سبعون الف خادمة، و كذا في جانب عظم البدن و الاعضاء مع ان اهل الجنة على اكمل الاوصاف في كل باب.

ص:183


1- 1) الردن اصل الكم و طرفه الواسع و كانت العرب تضع فيه الدراهم و الدنانير و منه ثقل ردنه أي كثر ماله جمع ارادن.

الوجه الثاني ان الباء في قوله بذارعها و بذراعه باء المصاحبة و معناه انه كما قصر طوله قصر ذراعه ايضا و خصّ الذراع لان الاعضاء داخله في تقصير البدن بخلاف الذراع و حينئذ فالمراد بالذراع في قوله سبعين ذراعا إما ذراع من كان في عصر آدم أو ذراع من كان في زمان من صدر عنه الخبر الثالث ان في الكلام استخداما بأن يكون المراد بآدم حين ارجاع الضمير اليه آدم ذلك الزمان من اولاده عليه السّلام و قد نقل هذا عن شيخنا البهائي طاب ثراه و قد قيل وجوه أخرى كثيرة لكنها تشتمل على انواع من البعد و التعسف و قد حررناها في كتاب نوادر الاخبار.

فان قلت مذهبكم ايها الامامية هو عدم جواز الذنب على الانبياء صغائرها و كبائرها قبل البعثة و بعدها فكيف صدر من آدم عليه السّلام مخالفة الامر و كيف نعت عليه هذه الزلّة (الذلة خ ل) في آيات من القرآن قلنا قد صنّف اصحابنا رضوان اللّه عليهم في هذا الباب كتبا كثيرة و من جملتهم سيدنا المرتضى في كتاب تنزيه الانبياء و لكن كشف الغطاء عن مثل هذه الغوامض لا يقع بمحلّ من القبول الا اذا صدر عن الائمة عليهم السّلام و قد روى هذا الكشف عن الرضا عليه السّلام رواه الصدوق (ره) باسناده الى الهروي قال لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السّلام أهل المقالات من اهل الاسلام و الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر اهل المقالات فلم يقدم احد الا و قد الزمه حجته كأنه قد القم حجرا فقام اليه علي بن الجهم فقال له يا ابن رسول اللّه أ تقول بعضمة الانبياء قال بلى قال فما تقول في قوله عز و جل وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ و قوله عز و جل وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ و قوله في يوسف وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ و قوله عز و جل في داود وَ ظَنَّ دٰاوُدُ أَنَّمٰا فَتَنّٰاهُ، و قوله في نبيه صلّى اللّه عليه و آله وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّٰهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّٰاسَ وَ اَللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ، فقال مولانا الرضا عليه السّلام ويحك يا علي اتقّ اللّه و لا تنسب الى انبياء اللّه الفواحش و لا تتأول كتاب اللّه برأيك فان اللّه عز و جل يقول و ما يعلم تأويله الا اللّه و الراسخون في العلم.

و اما قوله عز و جل في آدم وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ، فأن اللّه عز و جل خلق آدم حجة في ارضه و خليفة في بلاده لم يخلقه للجنة و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض لتتم مقادير اللّه عز و جل فلما اهبط الى الارض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله عز و جل إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ، و اما قوله عز و جل وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، انما ظن ان اللّه عز و جل لا يضيق عليه رزقه الا تسمع قول اللّه عز و جل وَ أَمّٰا إِذٰا مَا اِبْتَلاٰهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي ضيّق عليه و لو ظن ان اللّه تبارك و تعالى لا يقدر عليه لكان قد كفر، و اما قوله عز و جل في يوسف وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا ، فأنها همّت بالمعصية و همّ يوسف

ص:184

بقتلها ان جبرته لعظم ما داخله فصرف اللّه عنه قتلها و الفاحشة و هو قول اللّه عز و جل كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ يعني القتل و الفحشاء يعني الزنا.

و اما داود فما يقول من قبلكم فيه فقال علي بن الجهم يقولون ان داود كان في محرابه يصلي اذ تصوّر له ابليس على صورة طير احسن ما يكون من الطيور فقطع صلاته فقام ليأخذ الطير فخرج الطير الى الدار فخرج في اثره فطار الطير الى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار اوريا بن حنان فطلع داود في اثر الطير فاذا امرأة اوريا تغتسل فلما نظر اليها هواها و كان اوريا قد اخرجه داود في بعض غزواته فكتب الى صاحبه ان قدّم اوريا امام الحرب فقدّم فظفر اوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب الثانية ان قدّمه امام التابوت فقدمه فقتل اوريا و تزوج داود بامرأته قال فضرب الرضا عليه السّلام بيده جبهته و قال انا للّه و انا اليه راجعون لقد نسبتم نبيا من انبياء اللّه تعالى الى التهاون بصلوته حتى خرج في اثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل فقال يا ابن رسول اللّه ما كانت خطيئته فقال ويحك ان داود انما ظن ان ما خلق اللّه عز و جل خلقا هو اعظم منه فبعث اللّه عز و جل اليه ملكين فتسوّرا المحراب فقالا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا الى سواء الصراط، ان هذا اخي له تسع و تسعين نعجة و لي نعجة واحدة فقال اكفلنيها و عزني في الخطاب، فعجّل داود عليه السّلام بالمدعى عليه فقال لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه و لم يسأل المدعي البينة على ذلك و لم يقبل على المدعي عليه فيقول ما تقول فهذا خطيئة حكمه لا ما ذهبتم اما تسمع قول اللّه عز و جل يقول يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ الاية. فقلت يا ابن رسول اللّه فما قصته مع اوريا فقال الرضا عليه السّلام ان المرأة في ايام داود كانت اذا مات بعلها او قتل لا تتزوج بعده ابدا و اول من اباح اللّه عز و جل له ان يتزوج بامرأة قتل بعلها داود فذلك الذي شقّ على اوريا.

و اما محمد نبيه صلّى اللّه عليه و آله و قوله عز و جل وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّٰهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّٰاسَ وَ اَللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ فان اللّه عز و جل اعلم نبيه صلّى اللّه عليه و آله اسماء ازواجه في دار الدنيا و اسماء ازواجه في الاخرة و انهن امهات المؤمنين واحدى من سمّى له زينب بنت جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى صلّى اللّه عليه و آله اسمها في نفسه و لم يبدها لهم كي لا يقول احد من المنافقين انه قال في امرأة في بيت رجل انها احدى ازواجه من امهات المؤمنين، و خشى قول المنافقين فقال اللّه عز و جل وَ اَللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ في نفسك، قال فبكى علي بن الجهم و قال يا ابن رسول اللّه انا تائب الى عز و جل ان انطق في انبياء اللّه بعد يومي هذا الا بما ذكرته.

اقول لعلك تقول أنه قد ورد في احاديث الشيعة ما تقوله المخالفون في الانبياء عليهم السّلام من وقوع المعاصي و مثل هذه الامور التي نفاها الرضا عليه السّلام في هذا الحديث و الجواب ان كل

ص:185

ما ورد من ذلك فسبيله الحمل على التقية و قد روى علي بن الجهم حديثا طويلا عن الرضا عليه السّلام ايضا و فيه نوع مغايرة لهذه الاجوبة و زيادات في السؤال و الجواب، منها قول المأمون فأخبرني عن قول اللّه تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ ، فقال الرضا عليه السّلام لقد همت به و لو لا ان رأى برهان ربه لهمّ بها كما همت به لكنه كان معصوما و المعصوم لا يهمّ بذنب و لا يأتيه، فقال المأمون للّه درك يا ابا الحسن فأخبرني عن قول اللّه تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ قال الرضا عليه السّلام لم يكن أحد عند مشكري مكة اعظم ذنبا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لانهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلثمائة و ستين صنما، فلما جائهم صلّى اللّه عليه و آله بالدعوة الى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم و عظم، و قالوا أجعل الالهة إلها واحدا ان هذا لشيء عجاب فلما فتح اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و آله مكةّ قال يا محمد إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك و ما تأخر عند مشركي اهل مكة بدعائك الى توحيد اللّه فيما تقدم و ما تأخر، فقال المأمون لقد شفيت صدري يا ابن رسول اللّه و اوضحت لي ما كان ملتبسا فجزاك اللّه عن انبيائه و عن الاسلام خيرا.

و حاصل جوابه عليه السّلام هيهنا عن حكاية يوسف جواب الشرط محذوف، و التقدير لو لا ان رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به لكنه رأى البرهان فلم يهمّ بها و البرهان هو الالطاف الالهية و التوفيقات السبحانية، و يجوز ان يكون كلامه عليه السّلام اشارة الى ان الجواب مقدّم على الجزاء كما ذهب اليه بعضهم لكن المحققون على عدم جوازه فمن ثمّ كان الاول هو الاولى، و حاصل الجواب عن مقدمة كون فتح مكة سببا لغفر ان الذنب ما ذكره اصحاب السير انّ المشركين كانوا يقولون ان مكن اللّه محمدا من بيته و حكمّه في حرمه تبيّنا انه نبي حق، فلما يسّر له فتح مكة دخلوا في دين اللّه افواجا و اذعنوا بنبوته كما نطق به الكتاب العزيز، و زال انكارهم عليه في الدعوة الى ترك عبادة الاصنام، و صار ذنبه مغفورا كما قررّه الامام عليه السّلام و قد اجاب المفسرون عن هذه الشبهات بأجوبة لا يخلو بعضها من تكلّف لكن الجواب الاصح هو ما صدر عن ارباب العصمة عليهم السّلام و قد يظهر من تعمق النظر في الاخبار و تتبع كتب خواص الائمة الاطهار عليهم السّلام جواب عن هذه الشبهات كلها، و لكن فيه نوع دقة.

و حاصله ان اللّه سبحانه قد اسمع الشيطان اولا ان عبادي ليس لك عليهم سلطان و كذا اعترف الشيطان ايضا بتصديق هذا المعنى، حيث قال لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين و آدم و من تلاه من الانبياء عباد مخلصون مطهّرون منزّهون فالشيطان ليس له عليهم تسلط، و لكن اللّه سبحانه يحب تضرع العباد اليه و بكائهم من خشيته، و هذه المحبة تتفاوت بتفاوت مراتب العباد و اكملهم الانبياء عليهم السّلام، و كلّ امر يحتاج الى سبب وداع حتى يكمل ذلك السبب فهو سبحانه قد يترك احدهم مع نفسه البشرية لحظة واحدة فيحصل معه بمقتضى الطبيعة البشرية فعل

ص:186

مكروه و ترك مستحب حتى يكون منشاءا لتحصيل الدرجات العليّة و التوفيقات الالهية كما جرى لادم عليه السّلام حيث بكى على خطيئته ثلثمائة سنة فاصطفاه اللّه بسبب هذا و جعله صفيه، و كذا داود عليه السّلام فقد ورد في الرواية ان داود عليه السّلام بكى اربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه حتى غطى رأسه، فنودي يا داود أ جائع أنت فتطعم أم ظمأن فتسقى، أم عريان فتكسى، فنحب نحبة هاج العود فاحترق من خوفه ثم انزل اللّه التوبة و المغفرة، فقال يا رب أجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته في يده مكتوبة و كان لا يبسط كفّه لطعام و لا شراب و لا لغيرهما الا رأها فأبكته قال و كان يؤتى بالقدح ثلثاه ماء فاذا تناوله ابصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض من دموعه.

و روى انه ما رفع رأسه الى السماء حتى مات حياء من اللّه تعالى، و كان يقول في مناجاته اذا ذكرت خطيئتي ضاقت عليّ الارض برحبها و اذا تذكرت رحمتك ارتدت اليّ روحي سبحانك الهي اتيت اطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم يدلوني عليك فبؤسا للقانطين من رحمتك و كان اذا اراد ان ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام و لا يشرب الشراب، و لا يقرب النساء فاذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له منبر الى البر فيأمر سليمان عليه السّلام ان ينادي بصوت فيستقري البلاد و من حولها من الغياض و الاكام و الجيال و البراري و الصوامع و البيع فينادي فيها الا من اراد ان يسمع نوح داود فليأت فتأتي الوحوش من البراري و الاكام و تأتي السباع من الغايص و تأتي الهوّام من الجبال و تأتي الطير من الاوكار و تأتي العذارى من خدورهم حتى يرقى المنبر و كلّ صنف على حدته يحيطون به و سليمان عليه السّلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء و الصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة فيموت الهوّام و طائفة من الوحوش و السباع و الناس ثم يأخذ في اهوال القيامة و في النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة فاذا رأى سليمان عليه السّلام كثرة الموتى، قال يا ابتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق و ماتت طوائف من بني اسرائيل و من الوحوش و الهوّام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك اذ ناداه عبّاد بني اسرائيل يا داود عجّلت بطلب الجزاء على ربك، قال فخّر داود مغشيا عليه فلما نظر سليمان الى صاحبه و ما اصابه اتى بسرير له فحمله عليه ثم امر مناديا ينادي الا من كان له مع داود حميم فليأت بسريره يحمله عليه فان الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة و النار ثم اذا افاق داود دخل بيت عبادته.

و روى عن الصادق عليه السّلام قال ان داود خرج ذات يوم يقرأ الزبور و كان اذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر و لا سبع الا جاوبه، فما زال يمرّ حتى انتهى الى جبل فاذا على ذلك الجبل نبي عابد يقال له حزقيل عليه السّلام فلما سمع دوي الجبال و اصوات السباع و الطير علم انه داود عليه السّلام، فقال صوت مذنب، فقال اللّه يا حزقيل لا تعيّر داود سلني العافية، فقام حزقيل فأخذ بيد

ص:187

داود فرفعه اليه، فقال داود يا حزقيل هل هممت بخطيئة قطّ، قال لا قال فهل دخل العجب فيما انت فيه من عبادة اللّه قال لا قال فهل ركنت الى الدنيا فأحببت ان تأخذ بشهوتها و لذتها، قال بلى ربما عرض بقلبي قال فما ذا تصنع اذا كان قال ادخل هذا الشعب فاتبر مما فيه قال فدخل داود النبي عليه السّلام الشعب فاذا بسرير من حديد عليه جمجمة بالية، و عظام فانية فاذا لوح من حديد فيه كتابة فقرأها داود عليه السّلام فاذا هي انا اروى شلم ملكت الف سنة و بنيت الف مدينة و افتضضت الف بكر فكان آخر عمري ان صار التراب فراشي و الحجارة و سادتي و الديدان و الحيات جيراني فمن رأني فلا يغتر بالدنيا.

و كان الخليل عليه السّلام اذا ذكر خطيئته يغشى عليه و يسمع اضطراب قلبه ميلا في ميل فيأتيه جبرئيل عليه السّلام فيقول له الجبار يقرئك السّلام و يقول هل رأيت خليلا يخاف خليله فيقول يا جبرئيل اني اذا ذكرت خطيئتي نسيت خلّتي، و نحو هذا من اطوارهم عليهم السّلام فهو سبحانه قد كان يحبّ ان يسمع مثل هذا منهم و على ما ذكر في توبة آدم ينزّل ما رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب العلل في قول النملة لسليمان عليه السّلام انت اكبر ام ابو قال سليمان عليه السّلام بل ابي داود قالت النملة فلم زيد في حرف اسمك حرف على اسم ابيك قال سليمان ما لي بهذا علم، قالت النملة لان اباك داود داوى جرحه بودّ و أنت سليمان ارجوا ان تلحق بأبيك.

اقول هذا الحديث و هو حديث النملة عدّ من مشكلات الاخبار و قد تصدى لبيان معناه محققوا الاصحاب بوجوه كثيرة و الذي يخطر بالبال في ايضاحه و جهان احدهما ان يكون المراد من قولها انت اكبر أم ابوك المراد بالكبر العظمة و الشأن و كانت النملة عالمة بهذا لكن سألت عنه تمهيدا للجواب الاتي، فقال سليمان ان ابي اعظم مني فقالت ذا كان اعظم منك فلم زيد في حروف اسمك حرف مع ان زيادة المباني مما يدلّ على زيادة المعاني و اسماء الانبياء عليهم السّلام كلها مأخوذة من الوحي الالهي فيكون زيادة الحروف و نقصانها لا يخلو من حكمة و فايدة فقال سليمان عليه السّلام لا ادري فقالت لان اباك داود لما صدرت منه الزلة التي نعيت عليه تاب الى اللّه و تودد اليه فاشتق له اسم من مجموع داوى جرحه بودّ فصار اسمه على ما ترى، و اما أنت فقد نعيت عليك زلّة و هي ما حكاه في القرآن من قوله اني احببت حبّ الخير عن ذكر ربي حتى تواريت بالحجاب ردوها عليّ فطفق مسحا بالسوق و الاعناق، و حاصله ان الخيل و هي المراد من الخير قد عرضت علي سليمان ليراها فما استتم رؤيتها حتى توارت الشمس تحت حجابها فدعى سليمان عليه السّلام ان يرد اللّه سبحانه الشمس له ليصلي فردّت الشمس عليه فشرع في الوضوء و مسح ساقه و عنقه كما هو الوضوء المأمور به في الشرع القديم فلم تداوها بالتوبة و التفزع (التفرّغ خ ل)

ص:188

الى اللّه سبحانه لاشتغالك بالملك فاشتق لك اسم من السلامة من التودد و المداواة و ارجوا ان تلحق بأبيك في التوبة و الفراغ لعبادة اللّه سبحانه.

كما روى ان سليمان عليه السّلام رأى عصفورا يقول لعصفورته لم تمنعيني نفسك و لو شئت أخذت قبّة سليمان بمنقاري فألقيتها في البحر، فتبسّم سليمان من كلامه ثم دعا بها فقال للعصفور أ تطيق أن تفعل ذلك فقال لا يا رسول اللّه و لكن المرء قد يزيّن نفسه و يعظمها عند زوجته، و المحبّ لا يلام على ما يقول، فقال سليمان للعصفورة لم تمنعينه من نفسك و هو يحبّك فقال يا نبي اللّه انه ليس محبا و لكنه محب مدّع لانه يحب معي غيري فأثر كلام العصفور في قلب سليمان و بكى بكاء شديدا و احتجب عن الناس اربعين يوما يدعو اللّه ان يفرغ قلبه بمحبته و ان لا يخالطها بحبة غيره.

و روى ايضا انه عليه السّلام مرّ يوما بعصفور يقول لزوجته ادني مني حتى اجامعك لعل اللّه يرزقنا ولدا يذكر اللّه تعالى فإنّا قد كبرنا فتعجب سليمان عليه السّلام و قال هذه النيّة خير من مملكتي، و يجوز ان يكون معناه على هذا التقدير ان الحرف الزايد في اسمك للدلالة على الجرح الزائد في قلبك، فان الذنب في القلب كالاصبع الزايدة فهذه الزيادة اللفظية دالة على تلك الزيادة المعنوية.

التوجيه الثاني ان يكون المعنى على ذلك الى قوله و انت سليمان و حاصله ان داود صدرت منه زلّة داواها بالتودد و التوبة فاشتق له منها اسم و انت سليمان أي سليم انت من ذلك الذنب فلهذا سميت به اشتقاقا من السلامة و ان زيادة ذلك الحرف يدلّ على زيادة معنى فيك و هو السلامة من الذنب فقولها و ارجوا ان تلحق بابيك أي في الجلالة و عظم الشأن فانه بالتوبة عرج معارج السابقين و سليمان عليه السّلام بسبب الاشتغال بالملك قد قصر عنه.

و الحاصل ان صدور مثل هذا من الانبياء عليهم السّلام انما هو لنيل الكرامات الحاصلة بسبب التوبة فانه قد روى ان من علامات المؤمن انه مفتن تواب و روى انه لو لم يصدر منكم الذنب فالتوبة لاماتكم اللّه و خلق بدلكم اقواما يذنبون ثم يتوبون و في الحديث ان اللّه افرح بتوبة المؤمن من رجل كان في مفازة مع رفقة في ليل اظلم، فلما اقاموا للركوب ضلّ بعيره في ذلك الليل فطلبه فلم يجده و ارتحل عنه رفقاؤه، و بقى في تلك المفازة وحده في ذلك الليل و المفازة ليس فيها زاد و لا ماء فلما ايس من البعير اتى الى محله و جلس واضعا رأسه بين ركبتيه منتظرا للسبع او الموت، فما لبث الا و قد اتى اليه رجل بذلك البعير فقال له اركب حتى ابلغك الى رفقائك فيدخله ذلك الوقت من السرور ما لا يحصى فاللّه سبحانه افرح بتوبة المؤمن من ذلك الرجل، و في عرف العوام ليس صحبة الا من بعد عتبه و هذا جار في التجارب كما لا يخفى على المتتبع اذا عرفت هذا.

ص:189

فأعلم انه قد بقى الكلام في ادعية الائمة عليهم السّلام و اطوارهم و اعترافهم بالذنوب و كثرة بكائهم عليها خصوصا سيد الساجدين عليه السّلام فان صحيفته الشريفة قد تضمنت استقالته من الذنوب و حزنه عليها و نحن قد تقرر باجماعنا ان الائمة عليهم السّلام منزّهون عن انواع الذنوب فكيف صدر منهم هذه المقالات مع انه لم ينقل احد من المخالفين مع تكثرهم في كل الاعصار و تفحصهم على طعن عليهم بوجه من الوجوه يتعلقون به في التشنيع على مذهبنا و على الائمة عليهم الطاهرين الاسلام فلم يظفروا به فلم تنع عليهم زلة و لا ذكر فيهم من المساوئ شيء، و حينئذ فما وجه هذه الاعترافات منهم.

فنقول قد ذكرنا في شرحنا على الصحيفة وجوها كثيرة بعضها من محققي اصحابنا و بعضها من سوانح البال فلنذكر هنا بعضا منها، الاول ما قاله بعض اهل العرفان من انّ مثل هذا انما هو تعليم منهم للامة كيف يتضرعون و يبكون على ذنوبهم و كيف يعترفون فان الانبياء عليهم السّلام قبلهم كان مناط تبليغهم الرسالة على التنزل الى مكالمات البشر بمقتضى عقولهم، حتى انه صلّى اللّه عليه و آله قال للحسين عليه السّلام و هو طفل كخ كخ يا حسين لّما أخذ تمر من تمر الصدقة، و لا يخفى من هذا لمن تتبع اطوارهم عليهم السّلام فان مدلول كلامهم في مناجاتهم انما هو صدره عن نار حزن كامنة في القلوب، و خوف قد احاط بمجامع اعضائهم مع امكان تعليم الامة مثل هذه التضرعات بالقول دون الفعل، و هذا الوجه هو الذي اختاره الغزالي في كتاب الاحياء بالنسبة الى ما صدر عن الانبياء عليهم السّلام من الاعتراف بالذنب و كثرة البكاء و التضرع، و قد عرفت ما يرد عليه.

الوجه الثاني انهم عليهم السّلام لما كانوا في هذه النشأة و الانسان لا يخلو فيها اما من فعل مكروه أو ترك مستحب، و ذلك كالصلوة في الثياب السود و كالنوم على جانب اليسار و نحو ذلك، فهم عليهم السّلام قد عدّوا هذه ذنوبا و انقطعوا الى اللّه سبحانه من تبعاتها، و الظاهر ان هذا ايضا غير تامّ لانهم عليهم السّلام اهل الشرع الانور، و قد كانوا يرتكبون مثل هذه الامور تعليما للاما بجواز تلك الافعال، حيث انه قد ورد النهي عن فعل ذلك المكروه بذلك الفعل المستحب فربما ادّى فعل ذلك المكروه الى الوجوب عليهم كما لا يخفى.

الثالث ما ذهب اليه شيخنا المعاصر (1)ايده اللّه تعالى منان صدور هذا و امثاله منهم عليهم السّلام ليس هو من باب الاخبار عن فعل سابق بل هو من قبيل التواضع الانشائي كقول علي بن الحسين عليهما السّلام انا مثل الذرة او دونها، و كما يقال في العرف عند التواضع انا مقصر في خدمتك يا فلان و انا عبدك، و هذا الوجه له وجه في الجملة، و ربما كان في الاخبار دلالة عليه.

ص:190


1- 1) هو العلامة المجلسي المولى محمد باقر الاصفهاني الشهير صاحب بحار الانوار.

الرابع و هو الذي قاله صاحب كشف الغمة و تلقته الاصحاب بالقبول و حاصله انهم عليهم السّلام اوقاتهم مستغرقة بذكره تعالى و خواطرهم متعلقة بالملك الاعلى و هم ابدا في المراقبة كما قال عليه السّلام اعبد اللّه كأنك تراه فان لم تره (فان لم تكن ترا خ ل) فأنه يراك، فهم ابدا متوجهون اليه منقلبون بكليتهم عليه، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية و المنزلة الرفيعة الى الاشتغال بالمأكل و المشرب و التفرغ للنكاح و غيره من المباحات عدّوه ذنبا و استغفروا منه، أ لا ترى ان بعض عبيد ابناء الدنيا لو قعد يأكل و يشرب و ينكح و هو يعلم انه بمرئ من سيده و مسمع لكان ملوما عند الناس و مقصرا فيما يجب عليه من خدمة سيده و مالكهن فما ظنك بسيد السادات و مالك الاملاك و الى هذا اشار صلّى اللّه عليه و آله بقوله انه ليران على قلبي و اني لاستغفر اللّه بالنهار سبعين مرة، و قوله حسنات الابرار سيئات المقربين فان قلوبهم عليهم السّلام اتمّ القلوب صفاءا و اكثرها ضياء و اعرفها عرفانا و كانوا مع ذلك قد عيّنوا لترشيع الملّة فلم يكن لهم بدّ من النزول الى الرخص و الالتفات الى حظوظ النفس مع ما كانوا ممتحنين به من الاحكام البشرية فكانوا اذا تعاطوا شيئا من ذلك اسرعت كدورة ما الى قلوبهم لكمال رقّتها و فرط نورانيتها فان الشيء كلما كان ارق و اصفى كان كدورات المكدرات عليه أبين و أهدى و كانوا عليهم السّلام اذا أحسوا بشيء من ذلك عدّوه على النفس ذنبا و استغفروا منه و هذا الوجه جيّد.

الخامس ان مراتبهم عليهم السّلام بالنسبة الى المعارف اليقينية و الحقائق الالهية كانت تزداد يوما بعد يوم، مثل جدهم صلّى اللّه عليه و آله فانه سبحانه قد جمع له جميع الكمالات البشرية عند آخر عمره الشريف، و في مدّة عمره كانت المعرفة و الوحي يتجدد عليه فاذا ترقّوا من درجة الى درجة أعلى منها عدوّا تلك السابقة ذنبا الى هذه اللاحقة، و هذا سرّ لطيف يدرك بالتأمل.

السادس ان العبد الممكن المتلوث بشوائب العجز و التقصير قابل للتلبّس بجميع المعاصي لو لا الالطاف الالهية و حينئذ فالاعتراف بالذنب انما بالنسبة الى المادة البشرية لا بالنظر الى العصمة الالهية فانها من غيرهم فهم على حدّ الذنب (المذنب خ ل) و لكن المانع من الغير و قد اشير الى هذا في قول الصديق عليه السّلام ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربي و ما حكاه سبحانه (من خ) في شأن حبيبه صلّى اللّه عليه و آله و لو لا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا، و قوله صلّى اللّه عليه و آله اللهم لا تكلني الى نفسي طرفة عين، فقالت له بعض زوجاته لو وكّلك الى نفسك ما كنت تفعل يا رسول اللّه، قال كنت فاعلا ما فعله اخي يونس بن متى.

و روى شيخنا الكليني طاب ثراه باسناده الى الباقر عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل اوحى الى داود عليه السّلام ان آت عبدي دانيال، فقل له انك عصيتني فغرفت لك و عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك فان عصيتني الرابعة لم اغفر لك، فأتاه داود عليه السّلام فقال يا دنيال انني رسول اللّه اليك،

ص:191

و هو يقول انك عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك فان عصيتني الرابعة لم اغفر لك، فقال له دانيال قد بلّغت يا نبي اللّه فلما كان في السحر قام دانيال فناجى ربه، فقال يا رب ان داود نبيك اخبرني عنك انني قد عصيتك فغفرت لي و عصيتك فغفرت لي و عصيتك فغفرت لي، و اخبرني عنك اني ان عصيتك الرابعة لم تغفر لي فوعزتك و جلالك لئن لم تعصمني لا عصينك ثم لا عصينك ثم لا عصينك قالها خمسا، فهذا اعتراف من دانيال النبي عليه السّلام بان المنع عن المعاصي انما هو من جهة الالطاف الالهية و العصمة الربانية، و قد كان بعض مشائخي ادام اللّه ايامه يعدّ هذا الوجه من الالهامات الربانية.

الوجه السابع و هو من الوجوه التي خطرت بالبال ان نعم اللّه سبحانه على العبد كلما كانت اكمل كان تكليفه اشد و هذا ظاهر و لا شك انه سبحانه قد اعطاهم من النعم ما لا يحدّ بحدّ، و من ذلك انه اوجب طاعتهم على سائر مخلوقاته، و خلق لاجلهم الجنان و النيران كما قال عليه السّلام لو اجتمع الناس على حب علي بن ابي طالب لما خلق اللّه النار فهم عليهم السّلام يريدون ان يشكروا اللّه سبحانه الشكر اللائق به الموازي لانعامه عليهم فلا يقدرون عليه فيعدّون عدم القدرة ذنبا، كما روى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله بكى ذات ليلة بكاءا كثيرا، فقالت زوجته ما يبكيك يا رسول اللّه و قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر قال صلّى اللّه عليه و آله أ فلا أكون عبدا شكورا، و لم لا افعل و قد انزل اللّه عليّ ان في خلق السموات الاية، و نظيره ما روى انه مرّ بعض الانبياء عليهم السّلام بحجر صغير يخرج منه ماء كثير فتعجب فانطقه اللّه تعالى فقال منذ سمعت قوله تعالى وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ انا ابكي من خوفه فسأله ان يجيره من النار فأجاره، ثم رآه بعد مدة مثل ذلك، فقال لم تبكي الان فقال ان ذاك بكاء الخوف و هذا بكاء الشكر و السرور.

الثامن انهم عليهم السّلام ملوك الامة و ساسة العباد و الذنب الذي يصدر من الرعية ينسب الى كبيرهم و العامل عليهم فهم عليهم السّلام قد عدّوا ذنوبنا ذنبا لهم كما روى في تفسير قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ ان المراد ذنب امتك و بقيت وجوه اخرى حررناها في الشرح المذكور من ارادها فليطلبها من هناك، و هذا كلام وقع في البين فلنرجع الى ما نحن فيه من مقدمات ابينا آدم عليه السّلام.

و هو انه علمه جبرئيل عليه السّلام مناسك الحج و طاف طواف النساء هو و زوجته قال له جبرئيل عليه السّلام قد حلّت لك زوجتك يا آدم فضمها اليك فضمها اليه و اما كيفية ابتداء النسل فرواه الصدوق (ره) باسناده الى زرارة قال سأل ابو عبد اللّه عليه السّلام عن بدأ النسل من آدم صلوات اللّه عليه كيف كان و عن بدأ النسل من ذرية آدم فان اناسا عندنا يقولون ان اللّه تعالى اوحى الى آدم ان يزوج بناته من بنيه و ان هذا الخلق كله اصله من الاخوة و الاخوات، فمنع ابو عبد اللّه عليه السّلام من ذلك

ص:192

و قال نبئت ان بعض البهائم تنكرت له اخته فلما نزى عليها و نزل ثم علم انها اخته قبض على غرموله أي ذكره باسنانه حتى قطعه فخرّ ميتا، و آخر تنكرت له امه ففعل هذا بعينه، فكيف الانسان في فضله و علمه غير ان جيلا من هذه الامة الذين يرون انهم رغبوا عن علم اهل بيوتات انبيائهم فأخذوه من حيث لم يؤمروا بأخذه فصاروا الى ما ترون من الضلال، و حقا أقول ما اراد من يقول هذا و شبهه الا تقوية لحجج المجوس.

ثم أنشأ يحدثنا كيف كان بدء النسل فقال ان آدم صلوات اللّه عليه ولد له سبعون بطنا فلما قتل قابيل هابيل جزع جزعا قطعه عن اتيان النساء فبقى لا يستطيع ان يغشى حوى خمسمائة سنة، ثم وهب اللّه له شيئا و هو هبة اللّه وه اول وصي اولى اليه من بني آدم في الارض، ثم رواه بعد يافث فلما ادركا و اراد اللّه ان يبلغ بالنسل ما ترون أنزل اللّه بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنة اسمها نزلة فأمره اللّه ان يزوجها من شيث ثم انزل اللّه بعد العصر من الغد حوراء من الجنة اسمها منزلة فأمر اللّه عز و جل آدم ان يزوجها يافث فزوجها منه فولد لشيث غلام و ولدت ليافث جارية فأمر اللّه عز و جل آدم عليه السّلام حين ادركا ان يزوج ابنة يافث من اين شيث ففعل فولد الصفوة من النبيين و المرسلين نسلهما، و معاذ اللّه ان يكون لك على ما قالوه من الاخوة و الاخوات و مناكحتهما و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة و ما تضمنّه اول الحديث من قوله فان اناسا عندنا يقولون المراد بهم جمهور المخالفين فانهم قالوا ان حوى امرأة آدم كانت تلد في كل بطن غلاما و جارية فولدت اول بطن قابيل و توأمته اقليميا، و البطن الثاني هابيل و توأمته ليوذا فلما ادركوا جميعا امر اللّه تعالى ان ينكح قابيل اخت هابيل و هابيل اخت قابيل فرضى هابيل و ابى قابيل لان اخته كانت حسناء، و قال ما امر اللّه سبحانه بهذا و لكن هذا من رأيك فأمرهما آدم ان يقربا قربانا فرضيا فانطلق هابيل الى افضل كبش في غنمه فقربه التماسا لوجه اللّه تعالى و مرضاة ابيه و اما قابيل فانه قرّب الزوان الذي يبقى في البيدر الذي لا يستطيع البقر ان تدوسه فقرب ضغثا منه لا يريد به وجه اللّه تعالى و لا رضا ابيه فقبل اللّه اللّه قربان هابيل و أتت نار بيضاء من السماء فأخذته و ردّ على قابيل قربانه فقال ابليس لقابيل انه يكون لهذا عقب يفتخرون على عقبك بان قبل قربان ابيهم فاقتله حتى لا يكون له عقب فقتله.

و هذه مقالة المخالفين و هي موافقة لمذاهب المجوس، فان المجوس كان لهم ملك فسكر ليلة فوقع على اخته و امه فلما أفاق ندم و شقّ ذلك عليه فقال للناس هذا حلال فامتنعوا عليه فجعل يقتلهم و حفر لهم الاخدود، و في خبر آخر انه احتج لهم على جوازه باولاد آدم من انهم قد كانوا ينكحون اخواتهم فقبله جماعة و بقوا عليه الى الان و من لم يقبله قتله، و العجب من صاحب روضة الشهداء كيف عوّل على هذا النقل من تزويج الاخوة الاخوات مع ورود الاخبار بخلافه،

ص:193

و اعجب منه شيخنا الطبرسي (ره) في كتاب مجمع البيان لم يذكر سوى مقالة المخالفين و لم يتعرض لهذه الاخبار بوجه مع انها من مرويات الصدوق (ره) و هو من المتقدمين، نعم روى هذا المعنى عن الباقر عليه السّلام لكن الرواية محمولة على التقية قطعا.

و اما حكاية القربان فقد حكاه اللّه سبحانه في سورة المائدة حيث قال و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما و لم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال انما يتقبل اله من المتقين، و ذلك لان الصدقة اذا لم يكن صاحبها ممن اتقى في تحصيلها او لم يخلص للّه سبحانه حال دفعها لا تقع من محل القبول بشيء، كما روى (في الاحتجاج خ ل) عن الصادق عليه السّلام انه قال ان اتبع هواه و اعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامة تعظمه و تصفه فاحببت لقاءه من حيث لا يعرفني لانظر مقداره و محله فرأيته في موصع قد احدق به خلق من غثاء العامة منتبذا عنهم متلثما انظر اليه و اليهم فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم و فارقهم و لم يقرّ فتفرقت العوام عنه لحوائجهم و تبعته اقتفى اثره، فلم يلبث اذ مرّ بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة فعجبت منه، ثم قلت في نفسي لعله معاملة ثم مرّ بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فعجبت منه ثم قلت في نفسي لعله معاملة ثم اقول و ما حاجته اذا الى المسارقة ثم لم أزل ابتعه حتى مرّ بمريض فوضع الرغيفين و الرمانتين بين يديه و مشى فتبعته حتى استقر في بقعة من الصحراء، فقلت له يا عبد اللّه لقد سمعت بك فأحببت لقاءك فلقيتك لكني رأيت منك ما شغل قلبي، قال و ما هو قال رأيتك مررت بخباز و سرقت منه رغيفين ثم بصاحب الرمان و سرقت منه رمانتين، قال فقال لي قبل كل شيء حدثني من انت قلت رجل من اهل بيت رسول اللّه، قال اين بلدك قلت المدينة، قال لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب قلت بلى قال فما ينفعك شرف اصلك مع جهلك بما شرفت به و تركك علم جدك و ابيك، قلت ما هو قال القرآن كتاب اللّه قلت و ما الذي جهلت منه، قال قول اللّه عز و جل مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاٰ يُجْزىٰ إِلاّٰ مِثْلَهٰا ، و اني سرقت الرغيفين كانت سيئتين و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين فهذه اربع سيئات فلما تصدقت بكل واحدة منها كانت اربعين حسنة فانقص من اربعين حسنة اربع سيئات يبقى لي ستة و ثلاثون، قلت ثكلتك امك أنت الجاهل بكتاب اللّه اما سمعت اللّه عز و جل يقول إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ، انك لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين فلما دفعتهما الى غير صاحبهما بغير امر صاحبهما كنت انما اضفت اربع سيئات الى اربع سيئات، فجعل يلاحظني فانصرفت و تركته قال الصادق عليه السّلام بمثل هذا التأويل القبيح المستنكر يضلّون و يضلّون.

ص:194

و هذا نحو تأويل معاوية لعنه اللّه لما قتل عمار بن ياسر فارتعجت فرائص خلق كثير و قالوا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمار تقتله الفئة الباغية، فدخل عمرو على معاوية و قال يا امير المؤمنين قد هاج الناس و اضطربوا، قال لما ذا؟ قال قتل عمار قال معاوية قتل عمار فما ذا، قال أ ليس قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمار تقتله الفئة الباغية؟ فقال له معاوية دحضت (1)في قولك أ نحن قتلناه انما قتله علي بن ابي طالب لما القاه بين رماحنا فاتصل ذلك بعلي بن ابي طالب عليه السّلام فقال فاذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الذي قتل حمزة لما القاه بين رماح المشركين.

و بالجملة فابتداء النسل على ما عرفته، نعم روى الصدوق طاب ثراه قال ان اللّه تبارك و تعالى انزل على آدم حوراء من الجنة فزوجها احد ابنيه و تزوج الاخر ابنة الجان فما كان في الناس من جمال كثير أو حسن خلق فهو من الحوراء و ما كان منهم (فيهم) من سوء خلق فهو من ابنة الجان، و وجه الجمع بين هذا و ما تقدم اما حمل هذين الولدين على غير يافث و شيث لكن لما اختلط النسل في المراتب اللاحقة سرى اخلاق ابنة الجان في ذراري آدم عليه السّلام و اما بأن يكون كل واحد من يافث و شيث قد زوج زوجتين و على التقادير كلها يستلزم بقاء بنات آدم بلا زواج الا ان يجوز تزويج العمات دون الاخوات، هذا حال الخليفة الاول و هو آدم عليه السّلام و قد بقى له احوال سماوية و كذا لذريته فلنرجع الى احوال السماء حتى اذا فرغنا منها انتلقنا الى احوال الارض و اهلها.

فان قلت ما معنى قولك ان آدم هو الخليفة الاول و كم الخلفاء بعده، قلت قد روى ان عليا عليه السّلام كان يمشي مع النبي صلّى اللّه عليه و آله في بعض شوارع المدينة و اذا برجل اعرابي له لحية طويلة فسلّم و قال السّلام عليك يا امير المؤمنين السّلام عليك يا رابع الخلفاء ثم انه غاب عن اعينهم فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله أ تدري يا علي معنى ما قال، هذا هو اخوك الخضر قال قال لا قال اما الخليفة الاول فهو ابوك آدم حيث قال تعالى وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً ، و اما الثاني فهو هارون حين قال له موسى فاخلفني في قومي و اما الثالث فهو داود حيث قال تعالى يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ و اما الرابع فهو أنت يا علي فانك خليفتي من بعدي و قاضي ديني.

و سأل الصادق عليه السّلام عن آدم و علي عليهما السّلام ايهما افضل فقال ان اللّه تعالى اباح الحنطة لعلي عليه السّلام فلم يأكل منها تواضعا للّه تعالى حتى قبض، و اما آدم فقد نهاه عنها فما لبث حتى أكل منها فاين علي من آدم و من جهة خلق هذه الابدان من التراب السابق روى انه سأل جعفر بن محمد

ص:195


1- 1) دحضت الحجة بطلت.

عليه السّلام لم صار الناس يكلبون ايام الغلا على الطعام و يزيد جوعهم على العادة في الرخص، قال لانهم بنوا من الارض فاذا قحطت قحطوا و اذا خصبت خصبوا و حيث انّا نريد بيان عالم الذر و اخذ الميثاق في عالمي الارواح و الذر و كيفية احاديث الطينة و هذا كله مما يتوقف على الروح كما سيأتي فلا بأس بالكلام فيها و اللّه الموفق للصواب.

نور روحاني

يكشف عن الروح و توابعها

الروح جوهر درّاك يتعلق بالبدن لتدبيره، و اعلم ان ارباب العلل قد اتفقوا على حدوث النفوس الناطقة اذ لا قديم عندهم الا اللّه لكنهم اختلفوا في انها هل تحدث مع حدوث البدن او قبله فقال بعضهم تحدث معه لقوله تعالى بعد تعداد اطوار البدن ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ ، و قال بعضهم بل قبله لقوله صلّى اللّه عليه و آله خلق الارواح قبل الاجساد بألفي عام، اقول الاخبار الدالة على ان الروح مخلوقة قبل البدن بالفي عام أو اكثر ما وردت به الاخبار مستفيضة بل متواترة حتى لا يبقى الريب في تقدمها.

و قوله صلّى اللّه عليه و آله بألفي عام المراد به تقدمها على نوع البدن و ان كان واحدا، و هو بدن ابينا آدم عليه السّلام ول فكل روح بالنظر الى البدن التي خلقت له متقدمة عليه بآلاف من السنين كما لا يخفى، و قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ المراد به افاضة النفس على البدن كما هو المصرح به في كلام الصادقين عليهم السّلام.

و اما الحكماء فانهم قد اختلفوا في حدوثها فقال به ارسطو و من تبعه و منعه من قبله و قالوا بقدمها، و اما حقيقتها فلم تظهر لنا و لذا قال تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً، فان المنقول عن ابن عباس و ابن مسعود و الجبائي و جماعة انهم سأله عن هذه الروح التي في البدن فعدل عن جوابهم لعلمه بأنه الاصلح، و قيل ان اليهود قالت لكفار قريش سلوا محمدا عن الروح فان اجابكم فليس بنبي و ان لم يجبكم فهو نبي فانا نجد في كتبنا ذلك، فأمره سبحانه بالعدول عن جوابهم، و هذا يدل على ان الانبياء المتقدمين لم يتكلموا في حقيقة الروح للامة لانه الاصلح بحالهم، و المذاهب المنقولة فيها بين اهل العلم متكثرة و قد ضبطها شيخنا البهائي نور اللّه ضريحه في كتاب الكشكول حيث قال المذاهب في حقيقة النفس اعني ما يشير كل أحد يقوله انا كثيرة و الدائرة منها على الالسنة و المذكورة في الكتب المشهورة اربعة عشر مذهبا.

ص:196

احد هذا الهيكل المحسوس المعبّر عنه بالبدن و ثانيها انها القلب اعني العضو الصنوبري، اللحماني المخصوص، و ثالثها انه الدماغ، و رابعها انها اجزاء لا تتجزئ في القلب و هو مذهل النظّام و متابعيه، و خامسا انها الاعضاء الاصلية المتولدة من المني و سادسها انها المزاج، و سابعها انها الروح الحيواني و يقرب منه ما قيل انها جسم لطيف سار في البدن كسريان الماء في الورد و الدهن في السمسم و ثامنها انها الماء و تاسعها انها النار و الحرارة الغريزية، و عاشرها انها النفس و حاي عشرها انها هي الواجب تعالى عما يقولون علوا كبيرا، و ثاني عشرها انها هي الاركان الاربعة، و ثالث عشرها انها صورة نوعية قائمة بمادة البدن و هو مذهب الطبيعين.

و رابع عشرها انها جوهر مجرد عن المادة الجسمانية و عوارض الجسمانيات لها تعلّق بالبدن تعلق التدبير و التصرف و الموت هو قطع هذا التعلق، و هذا هو مذاهب الحكماء الالهيين و اكابر الصوفية و الاشراقيين و عليه استقر رأي المحققين من المتكلمين كالامام الرازي و الغزالي و المحقق الطوسي و غيرهم من الاعلام و هو الذي اشارت اليه الكتب سماوية و انطوت عليه الانباء النبوية و انقادت اليه الامارات الحسية و المكاشفات الذوقية انتهى كلامه و الانصاف ان الروح و ان طوى عنّا الاطلاع على حقيقتها و لذا قال الاكثر المراد من قوله عليه السّلام من عرف نفسه فقد عرف ربه انه لا يمكن معرفة النفس كما لا يمكن معرفة الرب، لكن الذي اشارت اليه الكتب و الاخبار هو ما قيل انه يتقرب من المذهب السابع و هو انها جسم لطيف سار في البدن و ليست مجردة.

قال في مجمع البيان اختلف العلماء في ماهية الروح فقيل انه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان و هو مذهب اكثر المتكلمين و اختاره الاجلّ المرتضى علم الهدى و قيل هو جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حيوة، عن علي بن عيسى قال لكل حيوان روح و بدن الا ان فيهم من الاغلب عليه الروح، و منهم من الاغلب عليه البدن، و قيل ان الروح عرض ثم اختلف فيه فقيل هو الحياة التي يتهيأ بها المحلّ لوجود القدرة و العلم و الاختيار، و هو مذهب الشيخ المفيد ابي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان رضي اللّه عنه و البلخي و جماعة من المعتزلة البغدايين و قي هو معنى في القلب عن الاسواري و قال بعض العلماء ان اللّه تعالى قد خلق الروح من ستة اشياء من جوهر النور و الطيب و البقاء و الحياة و العلم و العلو أ لا ترى انه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين و يسمع بالاذنين و يكون طيبا فاذا خرج من الجسد نتن و يكون باقيا فاذا فارقه الروح بلى و فنى، و يكون حيا و بخروجه يكون ميتا، و يكون عالما فاذا خرج منه الروح لم يكن شيئا و يكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ و اجسامهم قد بليت في التراب و لا يخفى ان اكثر هذه المذاهب التي نقلها الشيخ الطبرسي (ره) لم يتعرض لنقلها شيخنا الشيخ بهاء الدين قدس اللّه

ص:197

روحه مع انه في مقام حصر المذاهب المنقولة في الكتب و ما نقل عن الاجل علم الهدى طاب ثراه و ان لم يكن عين المذهب الذي نقل انه قريب من السابع لكنه يول اليه، و الآيات و الاخبار كما عرفت انما اشارت اليه، و ذلك لان المجرد على تفسيرهم انه الموصوف بلا مكان فهو مجرد عن المكان و الالات و غيرها و لا ريب ان الاخبار قد اشتملت على اتصاف الروح باوصاف الاجسام من الصعود و الهبوط و الطيران و زيارة العرش و الجلوس حلقا.

روى عن الصادق عليه السّلام انه قال ارواحنا تزور العرش في كل ليلة جمعة و تستفيد منه العلوم، و لولاه لنفد ما عندنا، و كما رواه الكليني قدس اللّه روحه باسناده الى العرني قال خرجت مع امير المؤمنين عليه السّلام الى الظهر بوادي السّلام كأنه يخاطب الاقوام فقمت لقيامه حتى عييت ثم جلست حتى مللت و فعل (فعلت خ) ذلك غير مرة ثم عرضت على امير المؤمنين عليه السّلام الجلوس، فقال يا حبة ان هو الا محادثة مؤمن او موانسة، و لو كشف لك لرايتهم حلقا حلقا يتحادثون، فقلت اجسام او ارواح فقال ارواح، و ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الارض الا قيل لروحه الحقي بوادي السّلام، و انها لبقعة من جنة عدن، و في سؤال الزنديق عن الصادق عليه السّلام اخبرني الروح أغير الدم، قال نعم الروح على ما وصفت لك، مادتها من الدم فاذا جمد فارق الروح البدن، قال فهل توصف بخفة و ثقل و وزن، قال الروح بمنزلة الريح في الزق فاذا نفخت فيه امتلاء الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه و لا ينقصه خروجها منه، كذلك الروح ليس لها ثقل و لا وزن، و هذا الحديث كما لا يخفى ظاهر في عدم تجردها.

و روى ايضا عن الصادق عليه السّلام ان ارواح المؤمنين لفي شجرة في الجنة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها، و عنه ايضا انه عليه السّلام قال ان الارواح في صفة الاجساد في شجر في الجنة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها، فاذا قدمت الروح (روح ظ) عليهم يقولون دعوها فانها أقبلت من هو عظيم ثم يسألونها الى غير ذلك من الاخبار المتضمنة لتنعم الروح و تعذيبها و سيرها من مكان الى مكان و اقامتها و ترفرفها فوق تابوت الميت حتى يجعل في القبر فتدخل فيه، و تأويل هذا بارادة البدن المثالي الذي تحلّ فيه في وقت ما في كل هذه الاوقات خلاف الظاهر و نقل عن شيخنا المفيد (ره) أنه كان يقول بتجرد النفس فتاب الى اللّه سبحانه و قال قد ظهر لنا انه لا مجرد في الوجود الا اللّه.

و اما تعلقها بالبدن فقال الحكماء و المتكلمون ليس هو تعلقا ضعيفا يسهل زواله بادنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه و الا لتمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشية من غير حاجة الى امر آخر، و ليس ايضا تعلقا في غاية القوة بحيث اذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الاعراض و الصور المادية بمحالها لما ذهبوا اليه من انها مجردة بذواتها غنية عما تحل فيه، بل

ص:198

هو تعلق متوسط بين بين كتعلق الصانع بالالات التي يحتاج اليها في افعاله المختلفة و كتعلق العاشق بالمعشوق عشقا جبليّا الهاميا فلا ينقطع ما دام لبدن صالحا لان يتعلق به النفس، أ لا ترى انها تحبه و لا تمله مع طول الصحبة و تكره مفارقته، و ذلك لتوقف كمالاتها و لذاتها العقلية و الحسية عليه، فانها في مبدأ خلقتها خالية عن الصفات الفاضلة كلها فاحتاجت الى آلات تعينها على تلك الكمالات و تحتاج الى ان تكون تلك الالات مختلفة فيكون لها بحسب كل آلة فعل خاص حتى اذا حاولت فعلا خاصا كالابصار مثلا التفت الى العين فتقوى على الابصار التام، و كذا الحال في سائر الافعال، و لو اتحدت الالات لاختلطت الافعال و لم يحصل لها شيء منها على الكمال فاذا حصلت لها الاحساسات توصلت منها الى الادراكات الكلية و نالت حظها من العلوم و الاخلاق المرضية، و ترفت الى لذاتها العقلية بعد احتظائها باللذات الحسية فتعلقها بالبدن على وجه التصرف و التدبير كتعلق العاشق في القوة بل اقوى بكثير.

اقول و بناءا على ما قاله الاجل علم الهدى و هو الاولى يكون تعلقها بالبدن من باب تعلق الاحوال بمحالها.

و اعلم انه قد ورد في اخبار اهل البيت عليهم السّلام تعدد الارواح، رواه جابر عن الباقر عليه السّلام قال خمسة ارواح في المقربين، روح القدس و به علموا جميع الاشياء و روح الايمان و به عبدوا اللّه، و روح القوة و به جاهدوا العدو و عالجوا المعاش، و روح الشهوة و به اصابوا لذة الطعام و النكاح و روح البدن و به يدبّون و يدرجون، و اربعة لاصحاب اليمين لفقد روح القدس منهم، و ثلاثة لاصحاب الشمال لفقد روح الايمان منهم، و على هذا نزّل ما روى عنه عليه السّلام لا يزني الزاني و هو مؤمن و ذلك ان روح الايمان تخرج من بدنه الى ان يفرغ فان عاد الى التوبة عادت تلك الروح الى بدنه و الا فارقته، و كذا معنى لا يسرق السارق و هو مؤمن، و ما روى من ان المؤمن لا يكذب كله منزّل على هذا فان روح الايمان تفارقه حال صدور الذنب منه و اذا رجع رجعت كما ورد في الروايات و اذا نام لم تفارقه روح الحياة و ان فارقه غيرها، كما سيأتي تحقيقه ان شاء اللّه تعالى في نور المنام اذا عرفت هذا.

فاعلم ان قدماء الحكماء قالوا ان للحيوانات نفوسا ناطقة مجردة، و هو مذهب الشيخ المقتول، و قد صرّح الشيخ الرئيس في جواب اسؤلة بهمنبار ان الفرق بين الانسان و الحيوانات في هذا الحكم مشكل، و قال القيصري في شرح فصوص الحكم ما قال المتأخرون من ان المراد بالنطق ادراك الكليات لا التكلم، مع كونه مخالفا لوضع اللغة لا يقيدهم لانه موقوف على ان النفس الناطقة المجردة للانسان و لا دليل لهم على ذلك و لا شعور لهم بأن الحيوانات ليس لها ادراك الكليات و الجهل بالشيء لا ينافي وجوده، و امعان النظر فيما يصدر عنها من العجائب يوجب ان

ص:199

يكون لها ادراك الكليات انتهى، و كلام القيصري يعطي ان مراد المتقدمين بالنطق هو المعنى اللغوي و بذلك صرّح ابو علي بن سينا.

نور ميثاقي يشتمل على التكليف الاول

اعلم ان الاخبار قد استفاضت بل تواترت بأن هذه الارواح قبل دخولها في هذه الاجسام قد حصل لها نوع من التكليف الالهي لما كانت في عالم الملكوت، و قد أخذ اللّه سبحانه عليها العهود المكررة و المواثيق المغلظة بأنه رب و واحد لا شريك له فأقروا عموما، و اما الاقرار بالولاية لعلي عليه السّلام و اهل بيته ففي أحد المواثيق، و لعله الميثاق الاول و هي ارواح خالصة قبل ان تباشر الذرات قد اقرت و اذعنت، و من ثم قال عليه السّلام قد اخذ اللّه ولاية الائمة عليهم السّلام على الناس من يوم العهد و الميثاق، و في احد المواثيق قد انكرت و لم تبادر الى القبول فمن ثم كانت السعادة و الشقاوة من هناك، و من هذا قال سيد الموحدين عليه السّلام ان للّه سبحانه قد كتب اسامي شيعتنا و اسامي آبائهم و امهاتهم من وجد منهم و من لم يوجد الى يوم القيامة بصحيفة، و تلك الصحيفة عندنا، و كانت الكتابة في ذلك الميثاق و هذه الصحيفة الان بعد ما توارثها الائمة عليهم السّلام انتهت نوبتها الى مولانا صاحب الزمان عليه السّلام فهي الان عنده، و كان اذا اتى رجل الى علي عليه السّلام و قال انا شيعتك كذّبه علي عليه السّلام و قال لست ارى لك اسما في صحيفة الشيعة، فيكون ذلك الرجل مدعيا و كان بعض خوّاص الشيعة اذا دخل على الصادق عليه السّلام رآه يتصفح كتابا فسأله عنه فيقول هذا الكتاب الذي اسماء شيعتي الى يوم القيامة، فيقول عليه السّلام أحب ان ترى اسمك و اسم ابيك فيقول نعم، فيطلعه عليه و هذا لا يكون من الارواح الا من بعد ما اعطاه اللّه سبحانه نوعا من الفهم و الشعور تفهم به معنى التكليف و الثواب و العقاب، لانه صار ذلك التكليف الاولى مناطا لاكثر احكام هذا التكليف الاخرى.

روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى ابن اذينة عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال كنّا جلوسا عنده فذكرنا رجلا من اصحابنا فقلنا فيه حدة فقال من علامة المؤمن ان يكون فيه حدة، قال قلنا له ان عامّة اصحابنا فيهم حدة فقال ان اللّه تبارك و تعالى في وقت ما ذرأهم امر اصحاب اليمين و انتم هم ان يدخلوا النار فدخلوها فاصابهم و هج فالحدة من ذلك الوهج، و امر اصحاب الشمل و هم مخالفونا ان يدخلوا النار فلم يفعلوا فمن ثم لهم سمت و لهم وقار و الآيات و الاخبار دالة على أخذ الميثاق في العالم الاول.

اما الآيات فقال عز من قائل و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و اشهدهم على انفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا ان يقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين، او يقولوا

ص:200

انما اشرك اباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون، قال اكثر المفسرين معناه ان اللّه تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر فعرضهم على آدم فقال اني آخذ على ذريتك ميثاقهم ان يعبدوني و لا يشركون بي شيئا و عليّ ارزاقهم، ثم قال أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا انك ربنا فقال للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا و قيل ان اللّه تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه و يفهمونه، ثم ردهم الى صلب آدم و الناس محبوسون باجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه في ذلك الوقت و كل من ثبت على الاسلام فهو على الفطرة الاولى و من كفر و جحد فقد تغيّر عن الفطرة الاولى، و في بعض الاخبار المعتبرة ان الخطاب هكذا أ لست بربكم و محمد نبيكم و علي امامكم قالوا بلى فحذفوا تمام الاية كما تصرفوا في غيره من الآيات فيكون هذا الميثاق مما اقروا فيه ايضا بولاية الائمة عليهم السّلام فيكون عدم القبول لها في ميثاق آخر جمعا بين الاخبار.

و اعلم ان تأويل الاية على هذا المذكور مما دلّت عليه الاخبار النقية السند و ذهب اليه جمع اكثير من المفسرين، و قد ردّه المرتضى طاب ثراه و شيخنا الطبرسي (ره) قالوا ان اللّه سبحانه قال وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ و لم يقل من آدم، و قال مِنْ ظُهُورِهِمْ و لم يقل من ظهره، و قال ذُرِّيَّتَهُمْ و لم يقل ذريته، ثم اخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا انهم كانوا عن ذلك غافلين او يعتذروا بشرك آبائهم و انهم نشأوا على دينهم و هذا يقتضي ان يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول ولد آدم لصلبه و ايضا فان هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما ان يكون قد جعلهم اللّه عقلاء او لم يجعلهم كذلك فان لم يجعلهم عقلاء فلا يصح ان يعرفوا التوحيد و ان يفهموا خطاب اللّه تعالى، و ان جعلهم عقلاء و أخذ عليهم الميثاق فيجب ان يتذكروا ذلك و لا ينسوه، لان أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه الا ان يكون ذاكرا له فيجب ان نذكر نحن الميثاق، و لانه لا يجوز ان ينسى الجمع الكثير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه و ميّزوه حتى لا يذكره واحد منهم الى غير ذلك من الاعتراضات الظاهرة الدفع التي لا ينبغي ان تذكر في معارضة خبر من الاخبار فارتكبوا في تأويل الاية معنى آخر، و هو انه سبحانه أخرج بني آدم منا صلاب آبائهم الى ارحام امهاتهم ثم رقاها درجة درجة علقة ثم مضغة ثم انشأ كلا منهم بشرا سويا ثم حيا مكلفا و اراهم آثار صنعته و مكنّهم من معرفة دلائل حتى كأنه اشهدهم و قال لهم أ لست بربكم قالوا بلى، فعلى هذا يكون معنى اشهدهم على انفسهم دلّهم بخلقه على توحيده و انما اشهدهم على انفسهم بذلك لما جعلهم في عقولهم من الادلة على وحدانيته و ركّب فيهم من عاجئب خلقته و غرائب صنعته و في غيرهم فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على انفسهم و كانوا في مشاهدة ذلك و ظهوره فيهم على الوجه الذي اراده اللّه و تعذّر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقرّ و ان لم يكن هناك اشهاد صورة و حقيقة، و العجب ان هذا المعنى مع احتياجه الى التأويل في كل ظواهر لفظ

ص:201

الاية و مع عدم اعتضاده بخبر يدل عليه كيف خرّجوا عليه و اهملوا ذلك المعنى الاول مع تظافر دلالة الاخبار عليه و كلام المفسرين، و من هذا ذهب ابو الهذيل في كتاب الحجة ان الحسن البصري و اصحابه كانوا يذهبون الى ان نعيم الاطفال في الجنة ثواب عن ايمانهم في الذر و اما الاخبار.

فمنها ما رواه شيخنا الكليني طاب ثراه بسند صحيح عن حبيب السجستاني قال سمعت ابا جعفر عليه السّلام يقول ان اللّه عز و جل لما اخرج ذرية آدم من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له و بالنبوة لكل نبي فكان اول من أخذ عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال اللّه عز و جل لآدم انظر ما ترى قال فنظر آدم عليه السّلام الى ذريته و هم ذر قد ملأوا السماء، قال آدم عليه السّلام يا رب ما أكثر ذريتي و لامر ما خلقتهم فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم، قال اللّه عز و جل يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً و يؤمنون برسلي و يتبعونهم، قال آدم يا رب فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض و بعضهم له نور كثير و بعضهم له نور قليل و بعضهم ليس له نور، فقال اللّه عز و جل كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم قال آدم يا رب أ فتأذن لي في الكلام فأتكلم قال اللّه عز و جل تكلم فان روحك من روحي و طبيعتك خلاف كينونتي، قال آدم يا رب فلو كنت خلقتهم على مثال واحد و طبيعة واحدة و جبلّة واحدة و الوان واحدة و اعمار واحدة و ارزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض و لم يكن بينهم تحاسد و لا تباغض و لا اختلاف في شيء من الاشياء.

قال اللّه تعالى يا آدم برحي نطقت و يضعف قوتك تكلفت ما لا علم لك به و انا الخالق العليم و بعلمي خالفت بين خلقهم و بمشيئتي يمضي فيهم امري و الى تدبيري و تقديري صائرون و لا تبديل لخلقي، انما خلقت الجن و الانس ليعبدوني و خلقت الجنة لمن عبدني و اطاعني منهم و اتبع رسلي و لا ابالي، و خلقت النار لمن كفر بي و عصاني و لم يتبع رسلي و لا ابالي، و خلقتك و خلقت ذريتك من غير حاجة بي اليك و اليهم و انما خلقتك و خلقتهم لابلوك و ابلوهم ايّم احسن عملا في دار الدنيا في حياتكم و قبل مماتكم، فلذلك خلقت الدنيا و الاخرة و الحياة و الموت و الطاعة و المعصية و الجنة و النار، و كذلك اردت في تقديري و تدبيري و بعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم و اجسامهم و الوانهم و اعمارهم و ارزاقهم و طاعتهم و معصيتهم، فجعلت منهم الشقي و السعيد و البصير و الاعمى و القصير و الطويل و الجميل و الذميم و العالم و الجاهل و الغني و الفقير و المطيع و الصحيح و السقيم و من لا عاهة له، فينظر الصحيح الى الذي به العاهة فيحمدني على عافية و ينظر الذي به العاهة الى الصحيح فيدعوني و يسألني ان اعافيه و يصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، و ينظر الغني الى الفقير فيحمدني و يشكرني، و ينظر الفقير الى الغني فيدعوني و يسألني و ينظر المؤمن الى الكافر فيحمدني على ما هديته فلذلك خلقتهم لابلوهم في السراء

ص:202

و الضراء و فيما اعافيهم و فيما ابتليهم و فيما اعطيهم و فيما امنعهم، و ان اللّه الملك القادر و لي ان امضي جميع ما قدرت على ما دبّرت و لي ان اغير من ذلك ما شئت، و اقدّم من ذلك ما أخرّت و أؤخر ما قدمت من ذلك و أنا اللّه الفعال لما أيريد لا أسأل عما أفعل و أنا أسأل خلقي عما يفعلون.

و في قوله سبحانه و لي ان أغير من ذلك ما أشئت أشارة الى أنه لا يجوز لك ان تقول ان الأمر قد فزع منه كما قالت اليهود و تابعهم جمهور المخالفين من حيث لا يشعرون فانه سبحانه خلقهم على ما رآه آدم عليه السّلام و لكن اللّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب و سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى في نور الاجال و الأعمار، و في الروايات أن تكليف اهل الشمال بدخول النار قد وقع مرارا كثيرة، قال الصادق عليه السّلام في حديث طويل لما اراد ان يخلق آدم خلق (تلك خ) تينك الطينتين ثم فرقهما فرقتين، فقال لاصحاب اليمين كونوا خلقا بأذني فكانوا خلقا بمنزلة الذرّ يسعى، و قال لاهل الشمال كونوا خلقا فكانوا خلقا بمنزلة الذر يدرج، ثم رفع لهم نارا فقال لهم ادخلوها باذني فكان اول من دخلها محمد صلّى اللّه عليه و آله ثم اتبعه اولوا العزم من الرسل و اوصيائهم و اتباعهم، ثم قال لاصحاب الشمال ادخلوها باذني فقالوا ربنا خلقتنا لتحرقنا فعصوا فقال لاصحاب اليمين اخرجوا باذني من النار فخرجوا لم تكلم النار منهم كلما و لم يؤثر فيهم اثرا، فلما رآهم اصحاب الشمال قالوا ربنا نرى اصحابنا قد سلموا فاقلنا و مرنا بالدخول، قال قد اقلتكم فادخلوها فلما دنوا و اصابهم الوهج رجعوا فقالوا يا ربنا لا صبر لنا على الاحتراق فعصوا فأمرهم بالدخول ثلاثا كل ذلك يعصون و يرجعون، و أمر اولئك ثلاثا كل ذلك يطيعون و يدخلون و يخرجون فقال لهم كونوا طينا باذني فخلق منه آدم، قال فمن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء و من كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء الحديث، و فيه دلالة على ان هذا التكليف للارواح المتعلقة بالذرات قبل ان يخلق اللّه آدم، فلما كلّفها و تبين حالها جمعها و خلق منها آدم و طينته.

و اما أخذ العهد و الميثاق عليهم بقوله أ لست بربكم فالذي يظهر من الحديث السابق انه قد وقع بعد هذا التكليف و بعد ان خلق آدم و صوره فأخرج تلك الذرات من ظهوره و علّق بها الارواح فأخذ عليها العهد و الميثاق، و لا تستبعد مثل هذا بأن بدن آدم عليه السّلام وحده كيف صار معدنا لكل ذرات ذراريه، لانك قد تحققت كبر بدنه المبارك و عظمته و ان رجليه كانتا على الصفا و رأسه في باب من ابواب السماء مع ان الذرات في غاية الصغر و الحقارة و في هذا اشارة لطيفة الى ان من كان اعظم احواله و احسنها كونه ذرة لم يحسن منه التجبر و الكبرياء و عدم امتثال الاوامر و النواهي، فكيف تسئل عن احواله الاخرى و هي كونه تارة منيا و أخرى دما و لحما ثم يتدرج من النجاسة و يترقى الى ان يكون ظرفها و معدنها ثم يصير الى حالة نجاسته الاولى و يجب على كل من

ص:203

مسّه و لاقاه ان يغتسل عن مباشرته فهو اسوء حالا من الكلب، و من هذا قال عليه السّلام يا بن آدم انّى لك و الكبر و الفخر فان اولك جيفة و آخرك جيفة و فيما بينهما حامل الجيف، و الاقرار بالربوبية لما استسهلوه لعدم النار و التكليف فيه اقروا به و لما اراد سبحانه امتحانهم بما فيه كلفة فصاروا من هناك فرقتين بالاختيار و العلم و العقل و التكليف كما في احوال هذه النشأة، و هذه العهود التي اخذت على الخلائق قد اودعها اللّه سبحانه الحجر الاسود.

و في الروايات عن الطاهرين عليهم السّلام ان اللّه عز و جل لما أخذ الميثاق له بالربوبية و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله بالنبوة و لعلي عليه السّلام بالوصية اصطكت فرائص الملائكة و أول من اسرع الى الاقرار بذلك الحجر فلذلك اختاره اللّه عز و جل و القمه الميثاق، و هو يجيء يوم القيامة و له لسان ناطق و عين ناظرة يشهد لكل من وافاه الى ذلك المكان و حفظ الميثاق، و انما اخرج الحجر من الجنة ليذكر آدم عليه السّلام ما نسى من العهد و الميثاق و في الرواية ايضا انه انما يقبّل الحجر و يستلم ليؤدى الى اللّه عز و جل العهد الذي أخذ عليهم في الميثاق، و انما وضع اللّه عز و جل الحجر في الركن الذي هو فيه و لم يضعه في غيره لانه تبارك و تعالى حين أخذ الميثاق أخذه في ذلك المكان.

اقول معنى هذا و اللّه العالم انه قد ورد في الروايات السابقة ان الركن كان كرسيا لادم عليه السّلام في الجنة يجلس عليه و الحجر قد كان فيه و هو في الجنة و في وقت أخذ الميثاق فلما انزلهما اللّه سبحانه الى بيته بقيا على ما كانا عليه و هما في الجنة، و كان عمر اذا قبّل الحجر قال، اني لا علم انك حجر لا تضرّ و لا تنفع، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبّلك فأقبلك لتقبيله اياك، فلما بلغ كلامه الى علي عليه السّلام كذّبه، و قال ان هذا الحجر ملك عظيم المحل يشهد يوم القيامة لمن صافحه، و من هنا ورد انه اذا استلم الحجر قال امانتي اديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة الدعاء.

و في الرواية ايضا انما يستلم الحجر لان مواثيق الخلائق فيه، و كان اشدّ بياضا من اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم، و لو لا ما مسّه من ارجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة الا برأ، و أما التنافر و الالفة في هذا العالم فهما مسببان عنهما في ذلك العالم، و من هذا قال الصادق عليه السّلام لم تتواخوا على هذا الامر و انما تعارفتم عليه يعني به كما قال المحدثون رضوان اللّه عليهم انكم لم تتواخوا على امر الدين ايها الشيعة في هذا العالم بل اللّه سبحانه هو الذي آخى بينكم في عالم الارواح، و انتم في هذا العالم تجددون تلك الاخوة و المحبة و تتعارفون و قد روى انه سأل الصادق عليه السّلام فقيل له يا ابن رسول اللّه اني أرى الرجل في النظرة الاولى لم اره قبل ذلك فيميل قلبي اليه و احبه من تلك الساعة، و اظنّ اني رأيته قبل ذلك و اقول لا ادري اني رأيت هذا الرجل، و بعض الناس اعاشره، و اجاوره مدّة مديدة من العمر و كلما رأيته كأني غريب منه و هو غريب مني لعدم الالفة.

ص:204

فأجاب عليه السّلام بما حاصله ان الارواح قد توافقت و ائتلفت في العالم الاول و تناكرت و اختلفت فيه ايضا، و نسيت احوال ذلك العالم بما حصل لها من الاشتغال، بعلائق هذه الابدان لكن اذا نظرت الى من الفته في العالم القديم تشوقت اليه و عرفته معرفة ما و مالت بالالفة اليه، و اذا رأيت من تناكرت معه في ذلك العالم لم تنعطف عليه في هذا العالم، و لم خالطته المخالطة التامة و المعاشرة الطويلة، و من هذا ما وقع في الاخبار الخاصة في سبب الحزن و الفرح من غير سبب يعرفه الانسان و حاصله كما قال عليه السّلام ان الانسان يكون له أخ و محب بعيد عنه و يصل اليه اسباب الحزن و الفرح على بعده و الروح من هيهنا يصير لها نوع من الاطلاع على حزن ذلك الاخ البعيد و فرحه فتفرح و تحزن في مكانها و السبب غير معروف في الظاهر، و من ثمّ اذا كان لبعض الارواح علاقة شديدة مع البعض الاخر يكون الحزن و الموت الذي يحيط بتلك النفس البعيدة معلوما بالمنام او غيره لهذه النفس فاذا ضبط التاريخ كان وقت الاطلاع هنا موافقا لوقت الوقوع هناك، و له اسباب اخرى ايضا يأتي بيانها في نور الفرح و السرور ان شاء اللّه تعالى و الدالّ على ذلك كلّه قوله صلّى اللّه عليه و آله الارواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف و هذا حديث مستفيض رواه العامة و الخاصة و جعلوه هو المراد من هذه المقالة.

قال ابن الاثير مجنّدة أي مجموعة كما يقال الوف مؤلفة و معناه الإخبار عن مبدأ كون الارواح و تقدمها على الاجساد انها خلقت اول خلقها على قسمين من ائتلاف و اختلاف كالجنود المجموعة اذا تقابلت و تواجهت، و معنى تقابل الارواح ما جعلها اللّه من السعادة و الشقاوة و الاخلاق في مبدأ الخلق، يقول ان الاجساد التي فيها الارواح تلتقي في الدنيا و تأتلف و تختلف على حسب ما خلقت عليه، و لهذا ترى الخيّر يحبّ الاخيار و يميل اليهم، و الشرير يحبّ الاشرار و يميل اليهم.

و روى عن الباقر عليه السّلام قال ان العباد اذا ناموا خرجت ارواحهم الى السماء فما رأت الارواح في السماء فهو الحق و ما رأت في الهوى فهو الاضغاث الا و ان الارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، و ما تناكر منها اختلف فاذا كانت الروح في السماء تعارفت و تباغضت فاذا تعارفت في السماء تعارفت في الارض، و اذا تباغضت في السماء تباغضت في الارض و حيث عرفت مثل هذا فلا بأس بمعرفة احوال الطينة لانها مناط فوائد كثيرة.

ص:205

نور طيني

يكشف عن احوال طينة المؤمن و غيره

اعلم ان اللّه سبحانه بمقتضى حكمته خلق طينة المؤمن من اعلى عليين و هو اعلى مكان في الجنة و طينة الكافر و هو غير المؤمن من سجيل و هي اسفل مكان في النار لكنه خلط بين الطينتين لمصالح كثيرة، روى الصدوق قدس اللّه روحه في آخر كتاب علل الشرائع مسندا الى ابي اسحاق الليثي قال قلت لابي جعفر عليه السّلام يا ابن رسول اللّه اخبرني عن المؤمن المستبصر اذا بلغ في المعرفة و كمل هل يزني، قال اللهم لا قلت فيلوط، قال اللهم لا قلت فيسرق قال اللهم لا قلت فيشرب الخمر قال اللهم لا قلت فيأتي كبيرة من هذه الكبائر او فاحشة من هذه الفواحش قال لا قلت فيذنب ذنبا قال نعم هو مؤمن مذنب ملّم قلت ما معنى ملمّ قال الملمّ بالذنب الذي لا يلزمه و لا يصرّ عليه، قال فقلت سبحان اللّه ما اعجب هذا لا ينزني و لا يلوط و لا يسرق و لا يشرب الخمر و لا يأتي كبيرة من الكبائر و لا فاحشة فقال لا عجب من امر اللّه ان اللّه عز و جل يفعل ما يشاء و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون فممّ عجبت يا ابا ابراهيم سل و لا تستحسر و لا تستنكف، فان هذا العلم لا يتعمله مستكبر و لا مستحسر قلت يا ابن رسول اللّه اني اجد من شيعتكم من يشرب و يقطع الطريق و يخيف السبيل و يزني و يلوط و يأكل الربى و يرتكب الفواحش و يتهاون بالصلاة و الصيام و الزكوة و يقطع الرحم و يأتي بالكبائر فكيف هذا و لم ذاك؟ فقال يا ابا ابراهيم و هل يختلج في صدرك شيء غير هذا قلت نعم يا ابن رسول اللّه أخرى اعظم من ذلك، فقال ما هي يا ابا اسحاق، قال فقلت يا ابن رسول اللّه و أجد من اعدائكم و من ناصبيكم من يكثر من الصلوة و من الصيام و يخرج الزكوة و يتابع بين الحج و العمرة، و يحرص على الجهاد و يصل الارحام و يقضي حقوق اخوانه و يواسيهم من ماله، و يتجنب شرب الخمر و الزنا و اللواط و سائر الفواحش فممّ ذاك فسّره لي يا ابن رسول اللّه، و برهنه و بينه فقد و اللّه كثر فكري و اسهر ليلي و ضاق ذرعي، فتبسّم الباقر عليه السّلام ثم قال خذ اليك يا ابا ابراهيم بيانا شافيا فيما سألت، و علما مكنونا من خزائن علم اللّه و سره، اخبرني يا ابا ابراهيم كيف تجد اعتقادهما قلت يا ابن رسول اللّه اجد محبيكم و شيعتكم على ما هم فيه مما وصفته من افعالهم لو اعطى احدهم ما بين المشرق و المغرب ذهبا و فضة لان يزول عن ولايتكم و محبتكم الى موالات غيركم و الى محبتهم ما زال و لو ضربت خيائيمه بالسيوف فيكم و لو قتل فيكم و لا ارتدع و لا رجع عن محبتكم و ولايتكم و ارى الناصب على ما هو عليه مما وصفته من افعالهم لو اعطى احدهم ما بين المشرق و المغرب ذهبا و فضة ان يزول عن محبة الطواغيت و موالاتهم الى مولاتكم ما فعل و لا زال و لو ضربت خياشيمه بالسيوف فيهم و لو قتل

ص:206

فيهم ما ارتدع و لا رجع، و اذا سمع احدهم منقبة لكم و فضلا اشمأز من ذلك و تغيّر لونه و يرى كراهية ذلك في وجهه بغضا لكم و محبة لهم، قال فتبسم الباقر عليه السّلام ثم قال يا ابا ابراهيم من هيهنا هلكن العاملة الناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية، و من اجل ذلك قال اللّه عز و جل و قدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا، ويحك يا ابا ابراهيم أ تدري ما السبب و القصة في ذلك و ما الذي قد خفى على الناس منه، قلت يا ابن رسول اللّه فبينه لي و اشرحه و برهنه، قال يا ابا ابراهيم ان اللّه تبارك و تعالى لم يزل عالما قديما خلق الاشياء لا من شيء، و من زعم ان اللّه عز و جل خلق الاشياء من شيء فقد كفر لانه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الاشياء قديما معه في ازليته و هويته كان ذلك الشيء ازليا، بل خلق عز و جل الاشياء كلها لا من شيء و مما خلق اللّه عز و جل ارضا طيبة ثم فجر منها ماءا عذبا زلالا فعرض عليها ولايتنا اهل البيت فقبلتها فأجرى بذلك الماء عليها سبعة ايام ثم طبقها و عمها ثم نصب ذلك الماء عنها فأخذ من صفوة ذلك الطين طينا فجعله طين الائمة عليهم السّلام ثم أخذ من ذلك الطين فخلق منه شيعتنا و لو ترك طينكم يا ابا ابراهيم على حاله كما ترك طيننا لكنتم انتم و نحن شيئا واحدا، قلت يا ابن رسول اللّه فما فعل بطيننا، قال اخبرك يا ابا ابراهيم خلق اللّه عز و جل بعد ذلك ارضا سبخة خبيثة منتنة ثم فجر منها ماءا اجاجا آسنا مالحا فعرض عليها ولايتنا اهل البيت فلم تقبلها فأجرى ذلك الماء عليها سبعة ايام حتى طبقها و عمها، ثم نصب الماء عنها ثم أخذ عصارة ذلك الطين فخلق منه الطغاة و ائمتهم، ثم مزجه بثفل طينتكم و لو ترك طينهم على حاله و لم يمزجه بطينكم لم يشهدوا الشهادتين و لا صلّوا و لا صاموا و لا زكوا و لا حجّوا و لا ادوّا امانة و لا اشبهوكم في الصور و ليس على المؤمن اكره من ان يرى صورة عدوه مثل صورته، قلت يا ابن رسول اللّه فما صنع بالطينتين، قال مزج بينهما بالماء الاول و الماء الثاني ثم عركها عرك الاديم.

ثم أخذ من ذلك قبضة فقال هذه الى الجنة و لا ابالي، و أخذ قبضة أخرى و قال هذه الى النار و لا ابالي، ثم خلط بينها فوقع من سنخ المؤمن و طينته على سنخ الكافر و طينته، و وقع من سنخ الكافر و طينته على سنخ المؤمن و طينته، فما رايته من شيعتنا من زنا و لواط و ترك الصلوة، او صيام او حج أو جهاد او خيانة، او كبيرة من هذه الكبائر فهو من طينة الناصب و عنصره الذي قد مزج فيه لان من سنخ الناصب و عنصره و طينته اكتساب المآثم و الفواحش و الكبائر، و ما رأيت من الناصب و مواظبته على الصلوة و الصيام و الزكوة و الحج و الجهاد، و ابواب البر فهو من طينة المؤمن و سنخه الذي قد مزج فيه، لان سنخ المؤمن و عنصره و طينته اكتساب الحسنات، و استعمال الخير و اجتناب المآثم فاذا عرضت هذه الاعمال كلها على اللّه عز و جل قال انا عدل لا اجور و منصف لا اظلم و حكم لا احيف و لا اميل و لا اشطط الحقوا الاعمال السيئة التي اجترحها

ص:207

المؤمن لسنخ الناصب و طينته، و الحقوا الاعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن و طينته، ردوها كلها الى اصلها فاني انا اللّه لا اله الا انا عالم السر و أخفى، و انا المطلع على قلوب عبادي لا احيف و لا اظلم و لا الزم احدا الا ما عرفتته منه قبل ان اخلقه، ثم قال الباقر عليه السّلام إقرأ هذه الاية قلت يا ابن رسول اللّه أية آية، قال قوله تعالى قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاّٰ مَنْ وَجَدْنٰا مَتٰاعَنٰا عِنْدَهُ إِنّٰا إِذاً لَظٰالِمُونَ، هو في الظاهر ما تفهمونه و هو في الباطن هذا بعينه يا ابا ابراهيم ان للقرآن ظاهرا و باطنا و محكما و متشابها و ناسخا و منسوخا ثم قال اخبرني يا ابا ابراهيم عن الشمس اذا طلعت و بدا شعاعها في البلدان أ هو باين من القرص، قلت في حال طلوعه باين قال أ ليس اذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود اليه قلت نعم قال كذلك يعود كل شيء الى سنخه و جوهره و اصله فاذا كان يوم القيامة نزع اللّه سنخ الناصب و طينته مع ثقله و اوزاره من المؤمن، فيلحقها بالناصب و ينزع سنخ المؤمن و طينته مع حسناته و ابواب بره و اجتهاده من الناصب، فيلحقها كلها بالمؤمن أ فترى هيهنا ظلما أو عدوانا، قلت لا يا ابن رسول اللّه قال هذا و اللّه القضاء الفاصل، و الحكم القاطع، و العدل البيّن لا يسأل عما يفعل، و هم يسألون هذا يا ابا ابراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين.

قال الليثي فقلت يا ابن رسول اللّه ما اعجب هذا حسنات اعدائكم فتردّ على شيعتكم و تأخذ سيئات محبيكم فترد على مبغضيكم، قال أي و اللّه الذي لا اله الا هو فالق الحبة و بارئ النسمة و فاطر الارض و السماء، ما اخبرتك الا بالحق و لا انبأتك الا بالصدق و ما ظلمهم اللّه و ما اللّه بظلام للعبيد و ان ما اخبرتك به لموجود في القرآن كله، قلت هذا بعينه يوجد في القرآن، قال نعم يوجد في اكثر من ثلاثين موضعا، في القرآن أ تحب ان اقرأ ذلك عليك قلت بلى يا ابن رسول اللّه فقال قال اللّه عز و جل قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنٰا وَ لْنَحْمِلْ خَطٰايٰاكُمْ وَ مٰا هُمْ بِحٰامِلِينَ مِنْ خَطٰايٰاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَ أَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ الاية، قال ازيدك يا ابا ابراهيم قلت بلى يا ابن رسول اللّه قال ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة و من اوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون أ تحب ان ازيدك قلت بلى يا ابن رسول اللّه قال فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً ، يبدّل اللّه سيئات شيعتنا حسنات و يبدّل اللّه حسنات اعدائنا سيئات و جلال اللّه و وجه اللّه ان هذا لمن عدله و انصافه لا رادّ لقضائه و لا معقّب لحكمه و هو السميع العليم.

الم أبين لك امر المزج و الطينتين من القرآن قلت بلى يا ابن رسول اللّه قال اقرأ يا ابا ابراهيم الذين يجتنبون كبائر الاثم و الفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة هو اعلم بكم اذ انشأكم من الارض، يعني من الارض الطيبة و الارض المنتنة فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى

ص:208

يقول لا يفتخر احدكم بكثرة صلاته و صيامه و زكوته و نسكه لان اللّه عز و جل اعلم بمن اتقى منكم فان ذلك اللمم و هو المزج ازيدك يا ابا ابراهيم قلت بلى يا ابن رسول اللّه قال كما بدأوكم تعودون فريقا هدى و فريقا حقّ عليهم الضلالة انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون اللّه يعني ائمة دون ائمة الحق، و يحسبون انهم مهتدون خذها اليك يا ابا اسحاق فو اللّه انه لم عزيز احاديثنا، و باطن سرائرنا و مكنون خزائنا و انصرف و لا تطلع على سرّنا أحدا الا مؤمنا مستبصرا فانك ان اذعت سرنا بليت في نفسك و مالك و اهلك و ولدك.

و عن علي بن الحسين عليهما السّلام قال ان اللّه تعالى خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم و ابدانهم و خلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، و جعل ابدان المؤمنين من دون ذلك و خلق الكفار من طينة سجين قلوبهم و ابدانهم فخلط بين الطينتين فمن هذا يلد المؤمن الكافر و يلد الكافر المؤمن، و من هنا يصيب المؤمن السيئة، و من هنا يصيب الكافر الحسنة فقلوب المؤمنين تحنّ الى ما خلقوا منه و قلوب الكافرين تحنّ الى ما خلقوا منه، و قال الصادق عليه السّلام الطينات ثلاث طينة الانبياء، و المؤمن من تلك الطينة الا ان الانبياء هم من صفوتها هم الاصل، و لهم فضلهم و المؤمنون الفرع من طين لازب كذلك لا يفرّق اللّه عز و جل بينهم و بين شيعتهم.

و قال طينة الناصب من حماء مسنون، و ام المستضعفون فمن تراب لا يتحوّل لمؤمن عن ايمانه و لا ناصب عن نصبه و للّه فيهم المشيئة و في آخر عن الصادق عليه السّلام قال اللّه عز و جل لما اراد ان يخلق آدم عليه السّلام بعث جبرئيل عليه السّلام في اول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة من السماء السابعة الى السماء الدنيا و أخذ من كل سماء تربة و قبض قبضة أخرى من الارض السابعة العليا الى الارض السابعة القصوى، فأمر اللّه عز و جل كلمته فأمسك القبضة الاولى بيمينه و القبضة الاخرى بشماله، ففلق الطين فلقتين فذرأ من الارض ذروا و من السموات ذروا فقال للذي بيمينه منك الرسل و الانبياء و الاوصياء الصديقون و المؤمنون و السعداء و من اريد كرامته فوجب لهم ما قال كما قال و قال للذي بشماله منك الجبارون و المشركون و الكافرون و الطواغيت و من اريد هوانه و شقوته، فوجب لهم ما قال كما قال.

ثم ان الطينتين اختلطتا جميعا، و ذلك قول اللّه عز و جل فٰالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوىٰ فالحب طينة المؤمنين التي القى اللّه تعالى عليها محبته، و النوى طينة الكافرين الذين ناؤا عن كل خير و انما سمّى النوى من اجل انه نئا عن كل خير و تابعد منه، و قال اللّه عز و جل يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ، فالحي الذي يخرج من الميت هو المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر و الميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن و الميت الكافر و ذلك قوله عز و جل أو من كان ميتا فأحييناه فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر و كان حيوته حين

ص:209

فرّق اللّه عز و جل كذلك يخرج اللّه عز و جل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها الى النور و يخرج الكافر من النور الى الظلمة بعد دخوله الى النور و ذلك قوله عز و جل لِيُنْذِرَ مَنْ كٰانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ .

و قال الصادق عليه السّلام ان اللّه خلقنا من عليين و خلق ارواحنا من فوق ذلك و خلق ارواح شيعتنا من عليين، و خلق اجسادهم من دون ذلك فمن اجل ذلك القرابة بيننا و بينهم و قلوبهم تحنّ الينا، و عن الصادق عليه السّلام ان اللّه خلقنا من نور عظمته ثم صوّر خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فاسكن ذلك النور فيه فكنّا نحن خلقا و بشرا نورانيين، لم يجعل لاحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا، و خلق ارواح شيعتنا من طينتنا و ابدانهم من طينة مخزونة مكنونة اسفل من ذلك الطينة، و لم يجعل اللّه لاحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا، الا للانبياء و لذلك صرنا نحن و هم الناس و سائر الناس همج الناس و الى النار.

اقول هذا بعض احاديث الطينة، و قد روى في هذا المعنى اخبار كثيرة باسانيد متعددة، تركنا نقلها حذرا من التطويل، و لانها في المعنى راجعة الى ما ذكرناه، و لا بدّ من الكلام على هذه الاخبار و الكشف عن معناها، لان ظاهرها ان يكون الانسان في هذا العالم مجبورا على كل افعاله و ليس له اختيار اذ افعاله بمقتضى الطينة، فيخرج هو عن حالة الاختيار و يكون هذه الاخبار دليلا لمن قال بأن العبد مجبور على افعاله، كالاشاعرة و من حذى حذوهم فنقول الكلام فيها يتمّ ببيان امرين الاول في تصحيح الفاظها فنقول قول ابي اسحاق الليثي المؤمن المستبصر المراد به من يكون له بصيرة تامة في امور الدين و اما قوله عليه السّلام اللهم لا في الزنا و ما بعده و نفيه هذه الكبائر فهو اشارة الى ما يحققه عليه السّلام بعيد هذا من ان سبب ارتكاب المؤمن هذه الكبائر هو مزج الطينتين فهذه الذنوب و ان صدرت منه ظاهرا و هو آلة لها لكنها في الحقيقة قد كان مصدرها غيره و هو الماء الذي دخل في طينته حال المزج بطينة الكافر، فالكافر في الحقيقة هو الفاعل لهذه الافعال.

و قوله عليه السّلام ملمّ و ما ذكره في تفسيره اشارة الى قوله سبحانه في صفة المؤمنين وَ يَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ، فالزنا و ما ذكر بعده من كبائر الذنوب و فواحشها، و اللمم ما قل من الذنب و صغر، و من قولهم المّ بالمكان اذا قلّ فيه لبثه و المّ بالطعام قلّ منه اكله كالنظرة و الغمزة و القبلة و قيل المراد باللمم كل ذنب لم يذكر اللّه عليه حدا و لا عقابا، و قوله عليه السّلام و لا تستحسر معناه، و لا تمل استفعال من حسر اذا اعيا و تعب، و قوله فكيف هذا و لم ذاك أي كيف صدرت منه هذه الذنوب و لم نفيها عنه سابقا مع وقوعها منه ظاهرا، و يجوز ان يكون قوله عليه السّلام و لم ذاك تأكيدا لسابقه بقرينة ما سيأتي و قوله و ضاق ذرعى معناه اني عجزت عن البلوغ اليه من قولهم مددت ذرعي اليه، فبلغت ذراعي، و مددت اليه فقصر عنه

ص:210

ذراعي، لان تناول المحسوسات انما يكون باليد غالبا و اتسع فيه فاستعمل في تناول المعقولات و الطواغيت هم فلان و فلان و فلان و من حذى حذوهم.

و قوله عليه السّلام العاملة الناصبة اشارة الى الاية، و هي هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ اَلْغٰاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خٰاشِعَةٌ عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً تُسْقىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ، و فسّرت تارة بأنها عاملة في النار عملا تتعب فيه، و هو جرّها السلاسل و الاغلال و ارتقاؤها دائبة في صعودها و هبوطها، و أخرى بأنها عملت و نصب في الدنيا في اعمال لا يجديها نفعا في الاخرة و هذا يؤال الى ما اراده عليه السّلام هنا فان المراد هنا انها عاملة لاعمال الخير ظاهرا، و لكنها نصبت العداوة لاهل بيت نبيها و لمحبيهم فلا ينفعها ما عملت و الآنية الحارة التي بلغت منتهاها، و قوله و قدمنا الى ما عملوا من عمل الاية، فالمراد بها اعمالهم الحسنة كصلة الرحم و العبادات، و الهباء ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار، و في الاخبار ان اللّه سبحانه في القيامة يأمر لجماعة باعمالهم الحسنة فتؤتى اليهم و هم ينظرون اليها من بعيد بيضاء نقية كالثياب القبطية، فيفرحون بها فيكونون في اشد ما يكون من الحاجة اليها، فاذا قربت اليهم ارسل اللّه اليها ريحا عاصفة، ففرقتها في الهواء و جعلتها هباءا منثورا، و هذا هو احد معاني قوله سبحانه وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ.

و قوله عليه السّلام فعرض عليها ولايتنا اهل البيت، يدلّ على ما قدّمناه من ان اللّه سبحانه قد اعطى الجمادات نوعا من الشعور، و الفهم تعرف به خالقها و مبدعها، و تسبحه و تعرف به اولياءه الحجج على الخلق و به قبلت بعضها ولاية الائمة عليهم السّلام فمن قبلتها كانت ارضا حلوة محلا للنماء و الزرع، و من لم يقبلها من الارض كانت مالحة منتنة سبخة ليس فيها مدخل للخير بوجه من الوجوه و قد عرضت على الحيتان فمن قبلها صار مباركا حلال الاكل و من لم يقبلها كان خبيثا حرام الاكل لا يأكله الا المخالفون كالجري و اشباهه و كذلك الطيور فانه قد روى ان العصفور يحب فلانا و فلانا، و هو سني فينبغي قتله بكل وجه و اعدامه و اكله و كذا ضروب المخلوقات و الثمار الحلوة و المرة و البقول.

و قوله اجاجا آسنا الاجاج المالح الشديد المملوحة، و الاسن المتغير الريح و السنخ الاصل من كل شيء و اما قوله و اوزار الذين يضلونهم بغير علم الاية، فانطباقه على ما هنا مشكل، و ذلك لان مخالفينا لم يضلونا و يمكن ان يراد اما اضلال علمائهم لجهالنا فانه قد يقع و ان كان نادرا، و اما ان يكون تشبيها و تمثيلا لحمل الاوزار، و فايدته نفي الاستبعاد من ان يكون الانسان في القيامة يحمل اوزار غيره و آثامه و لعل هذا هو الاولى، و الاصوب في الجواب ان يقال المراد ان ما يقع من المؤمنين من الذنوب و المعاصي انما هو سبب مزج الطينة و سراية ماء طينة الكافر، فكان الذي اضلّ

ص:211

المؤمن حتى ارتكب الفواحش هو الكافر، فالكافر قد اضل المؤمن و هو لا يعلم، لان مناطه ما وقع في العالم الاول و كل منها قد نسيه.

و اما قول علي بن الحسين عليهما السّلام من طينة عليين فالمراد بالعليين اما السماء السابعة، و اما اعلى مكان في الجنة كما قاله اهل اللغة و سجين اسفل مكان في النار و قوله عليه السّلام قلوبهم و ابدانهم الظاهر ان المراد بالقلوب هنا الارواح بقرينة ما سيأتي اطلق عليها لشدة العلاقة بينهما فان اهل المعقول من الحكماء و الاطباء قالوا ان الروح انما تتعلق اولا بالقلب و تنبعث منه الى الاعضاء.

و قوله لازب قال في القاموس لزب الطين ككرم لزق و صلب، و قوله من حماء مسنون الحمأ الطين الاسود المنتن، و المسنون المنتن، و اما قوله و اما المستضعفون الظاهر ان المراد منهم مستضعفوا المخالفين، و هم من لم يعاند على الحق و لم يتعصب عليه و لم يبغض احدا من المؤمنين على الدين، و هم طائفة من جهّال اهل الخلاف و قول الصادق عليه السّلام بعث جبرئيل عليه السّلام (ا ه) لا ينافي متقدم، من ان الملك الذي اخذ الطينة هو ملك الموت، و اما جبرئيل فقد رجع عن اخذ التربة، لان التي رجع عن اخذها جبرئيل عليه السّلام هي طينة ابينا آدم وحدها و هذه المأخوذة هي طينه كل المخلوقات من آدم و اولاده و يحتمل العكس.

الامر الثاني في الكشف عن معناها فنقول قد سلك الاصحاب رضوان اللّه عليهم فيها مسالك مختلفة اولها ما صار اليه سيدنا الاجل علم الهدى طاب ثراه من انها اخبار آحاد مخالفة للكتاب و الاجماع فوجب ردها، فلذلك طرحها كما هو مذهبه في اخبار الاحاد اينما وردت، و ذلك لان الكتاب و الاجماع قد دلاّ على ان صدور الحسنة و السيئة انما هو باختيار العبد و ليس فيه مدخل للطينة بوجه من الوجوه.

و الجواب ان اصحابنا قد رووا هذه الاخبار بالاسانيد المتكثرة في الاصول و غيرها فلم يبق مجال في انكارها، و الحكم عليها بانها اخبار آحاد بل صارت اخبارا مستفيضة بل متواترة، و اما مخالفتها للكتاب و الاجماع فسيأتي الجواب عنه.

و ثانيها ما ذهب اليه ابن ادريس (ره) من انها اخبار متشابهة يجب الوقوف عندها و تسليم امرها اليهم عليهم السّلام فان كلامهم متنوع كالقرآن الى محكم و متشابه و نحو ذلك، و هذا اقرب من الاول و اسلم عاقبة منه لكن يرد عليه ان هذه الاخبار قد القاها الائمة عليهم السّلام الى آحاد الشيعة، للتفهم و التعليم و ان يعتقدوا معانيها كما القيت اليهم و لعلهم قد فهموا معانيها بقرائن الحال و المقال.

و ثالثها ما صار اليه بعض المحدثين من حملها على المجاز و الكناية كما يقال في العرف لمن اصدى خيره الى عباد اللّه و حسن خلقه، هذا رجل قد عجنت طينته بفعل الخير و حب الكرم

ص:212

و التقوى، و هذا في غاية البعد بل حمل هذه الاخبار خصوصا الخبر الاول على مثل هذا غير محتمل بوجه من الوجوه، و ان احتمله بعض اخبار هذا الباب.

و رابعها و هو المشهور في تأويل هذه الاخبار و ما ضاهاها مما ظاهره الجبر و نفي الاختيار الوارد في كل الاخبار من انه منمزّل على العلم الالهي، فانه سبحانه قد علم الاشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها، و قد علم في الازل احوال الخلق في الابد و ما يأتونه و ما يذرونه بالاختيار منهم، فلما علم منهم هذه الاحوال و انها تقع باختيارهم عاملهم هذه المعاملة كالخلق من الطينة الخبيثة المنتنة، و الاحوال السابقة روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى ابن ابي عمير، قال سألت ابا الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الشقي من شقى في طبن امه، و السعيد من سعد في بطن امه، فقال الشقيي من علم اللّه عز و جل و هو في بطن امه انه سيعمل اعمال الاشقياء و السعيد من علم اللّه عز و جل و هو في بطن امه انه سيعمل اعمال السعداء، قلت فما معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله اعملوا فكلّ مسيّر لما خلق له فقال ان اللّه عز و جل خلق الجن و الانس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عز و جل و ما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون فيسّر كلاّ لما خلق فالويل لمن استحب العمى على الهدى، و هذا الحديث الشريف يكشف عن فرد واحد من افراد هذه المقالة، و لكن الظاهر ان حكم ما عداه حكمه لاتحاد الطريق.

و خامسها ما خطر بالبال و لكن اخذا من الطاهرين عليه السّلام و حاصله انه قد تحققت من الانوار السابقة ان خلق الارواح قد كان قبل خلق عالم الذر، و قد اججّ سبحانه نارا و كلّف تلك الارواح بالدخول، فمنهم من بادر الى الامتثال و منهم من تأخر عنه و لم يأت له، فمن هناك جاء الايمان و الكفر و لكن بالاختيار فلما اراد سبحانه ان يخلق لتلك الارواح ابدانا تتعلق بها لكل نوع من الارواح مناسبا له من الابد ان كان جعل للارواح الطيبة ابدانا مثلها، و كذا للارواح الخبيثة، فيكون ما صنع بها سبحانه جزاءا لذلك التكليف السابق، نعم لما مزج الطينتين اثر ذلك المزج في قبولا الاعمال الحسنة و ضدّها، فان قلت اذا كان الحال على هذا المنوال فلأي شيء قال الصادق عليه السّلام لابي اسحاق الليثي لا تطلع على سرنا احدا الا مؤمنا و ان اطلعت غيره على هذا ابتليت في نفسك و مالك و اهلك، و ما معنى هذه التقية و من أي فريق يكون.

قلت يجوز ان يكون هذه التقية من المخالفين فانهم اذا فهموا هذا العلم علموا من القرائن ان ليس المراد باهل الشمال المذكورين في الخبر الا همّ و مثل هذا مما يتقي فيه قطعا، و يجوز ان يكون تقية او اتقاءا على الشيعة فانّ عوامهم اذا سمعوا بمثل هذا اقبلوا على الاتيان بانواع المحارم و الذنوب، فيكونون قد اتوا ذنوبا تزيد على ما يقتضيه مزج الطينتين، لانك قد تحققت ان اللمم و هي الصغائر القليلة قد يفعل المؤمن بمقتضى مادته و طبيعته، و اما الكبائر كالزنا و اللواط و نحو

ص:213

ذلك فهو انما يفعلها بمقتضى ما وصل اليه من خلط الطينات، فاذا اطلع على مثل هذا الحديث، و تعمّد افعال الكبائر لحصول اللذة الدنيوية، و لعلمه بأن وبالها الاخروي انما هو على غيره، فقد أتى بفعل من مادته و طبيعته، و زاد على ما اتى اليه من خبث المزج، لان معاصي المزج هي المعاصي المتعارفة الوقوع في كل الاعصار بمقتضى الدواعي، و اما اذا كان الداعي ما عرفت من انها ذنوب على الغير و ان فعلها هو فلا يكون فعلها من المعاصي المتعارفة، فيكون انما اتى بها منه و من مادته لا من قضية المزج، فتأمل و تفكّر في هذا المقام و قد بقى هيهنا ابحاث شريفة و شّحنا بها شرحنا على الصحيفة.

نور علمي تقديري

نور يكشف عن بعض احوال علمه القديم و تقديره الازلي سبحانه و تعالى

اعلم ان المليين قد ذهبوا الى ان علمه تعالى يعمّ المفهومات كلها، الممكنة و الواجبة و الممتنعة و يحيط بالكليات على الوجه الكلي، و بلجزئيات على الوجه الجزئي، و قد خالف في هذا الدهرية و قدماء الفلاسفة، و افترقوا ستّ فرق.

الفرقة الاولى من الدهرية ذهبوا الى انه لا يعلم نفسه قالوا لان العلم نسبة و النسبة لا تكون الا بين شيئين متغايرين، و لا تغاير بين الشيء و نفسه، و الجواب منع كون العلم نسبة بل هو اما عين الذات او صفة حقيقية ذات نسبة الى المعلوم، و نسبة الصفة الى الذات ممكنة سلّمنا كونه نسبة لكن لا نسلّم ان الشيء لا ينسب الى ذاته نسبة علمية، فان التغاير الاعتباري كاف لتحقق هذه النسبة، و كيف لا يكون كذلك و أحدنا يعلم نفسه مع عدم التغاير بالذات.

الفرقة الثانية من قدماء الفلاسفة من قال أنه لا يعلم شيئا أصلا تعالى عما يقول الكافرون علوا كبيرا، و دليلهم أنه لو علم لعلم نفسه، اذ على تقدير كونه عالما بشيء يعلم أنه يعلمه و ذلك يتضمن علمه بنفسه، و قد بينا امتناعه في مذهب الفرقة الاولى، و الجواب ان مبنى هذا القول على قول الفرقة الاولى، و قد عرفت الجواب عنه.

الفرقة الثالثة قالوا انه عالم بذاته و لكن ليس عالما بغيره، و استدلوا عليه بان العلم بالشيء غير العلم بغيره من الاشياء الاخر و الا يلزم ان من علم شيئا علم جميع الاشياء لان العلم به عين العلم بها و هو باطل، و اذا كان العلم بهذا الشيء مغايرا للعلم بذلك الشيء فيكون له بحسب كل معلوم علم على حدحة، فيكون في ذاته كثرة متحققة غير متناهية و هي العلوم بالمعلومات التي لا

ص:214

تتناهى، و ذلك محال و الجواب ان العلم واحد و التكثر انما هو واقع في الاضافات بالنسبة الى المعلومات و العلم واحد لكنه كثير الاضافات و التعلقات.

الفرقة الرابعة قالوا انه لا يعقل غير المتناهي، اذ المقول متميز عن غيره و غير المتناهي لا يتميز عن غيره بوجه من الوجوه، و الا كان له حدّ و طرف يتميز به عن الغير و اذا كان كذلك فهو غير متناه، و الجواب انه معقول له حيث عدم التناهي يعني ان المجموع من حيث هو مجموع متميز عن غيره بوصف اللاتناهي، و معقول بحسبه او نقول ان المعقول، هو كل واحد واحد من غير المتناهي، و هو متميز عن غيره من تلك الاحاد و من غيرها، و لا يضر في تميز كل واحد واحد عدم تميّز الكل من حيث هو كل او نقول لا نسلّم ان المعقول المتميز يجب ان يكون له حدّ و نهاية يمتاز بهما عن غيره و انما يكون كذلك ان لو كان تعقله بتميزه منم غيره منحصرا في الحد و النهاية، و هو ممنوع لان وجوه التمييز لا تنحصر فيه.

الفرقة الخامسة و هم جمهور الفلاسفة قالوا انه سبحانه لا يعلم الجزئيات المتغيرة و استدلوا عليه بأنه اذا علم مثلا ان زيدا في الدار الان ثم خرج زيد عنها فاما ان يزول ذلك العلم و يعلم أنه ليس في الدار، او يبقى ذلك العلم بحاله، و الاول يوجب التغيّر في ذاته من صفة الى اخرى و الثاني يوجب الجهل و كلاهما نقص يجب تنزيهه تعالى عنه، و قالوا و كذلك لا يعلم الجزئيات المتشكلة و ان لم يكن متغيّرة، كأجرام الافلاك الثابتة على اشكالها، لان ادراكهما إنما يكون بآلات جسمانية و كذا الحال في الجزئيات المتشكلة المتغيّرة اذ قد اجتمع فيها المانعان، بخلاف الجزئيات التي ليست متشكلة و لا متغيرة فانه يعلمها بلا محذور كذاته تعالى و ذوات العقول، و الجواب منع لزوم التغيّر فيه فان التغير إنما هو في الاضافات لان العلم اما اضافة مخصوصة او صفة حقيقية ذات اضافة، فاللازم انما هو تغيّر الاضافات فقط، فلا يلزم التغيّر في صفة موجودة، بل في امر اعتيادي و هو جايز و ادراك التشكل انما يحتاج الى آلة جسمانية اذا كان العلم حصول الصورة، و اما اذا كانت اضافة محضة او صفة حقيقية ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة اليها.

الفرقة السادسة منهم قالوا ان اللّه سبحانه لا يعلم الجميع بمعنى سلب الكل، أي رفع الايجاب الكلي لا بمعنى السلب الكلي كما زعمته الفرقة الثانية، قالوا انه لو علم كل شيء فاذا علم شيئا علم ايضا علمه به، لان هذا العلم شيء من الاشياء و مفهوم من المفهومات و كذا علم علمه بعلمه لانه شيء آخر و يلزم التسلسل في العلوم و الجواب انه تسلسل في الاضافات لا في امور موجودة، و التسلسل في الاضافات غير ممتنع، هذا محصّل مقالاتهم مجملا، و هو تعالى علوا كبيرا عن هذه المقالات و اشباهها، و سبحان من يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة السوداء، و ما ذهبوا الى هذه السخيفة الا لعدم اعتقادهم بأن الرازق على الاطلاق هو

ص:215

الباري سبحانه اذ لو صاروا اليه لما وسعهم القول بهذه المزخرفات لانه سبحانه قد ضمن ارزاق مخلوقاته في كل احوالها جزئية و كليّة و ايصال الرزق في كل الاحوال فرع على العلم فيها كما لا يخفى.

و في الرواية ان موسى عليه السّلام قال يوما يا رب اريد ان اطلع على رزاقك للعباد، فقال له اذا كان غدا فأمض الى ساحل البحر و انظر ما ترى، فلما كان من الغد أقبل الى الساحل فرأى حيوانا صغيرا يعدو من البر و في فمه طعمة، فأقبل حتى وصل الى جرف البحر فطلعت ضفدع من البحر و أخذت تلك الطعمة من فيه فغاصت تحت الماء، فقال اللّه تعالى لموسى عليه السّلام إضرب البحر حتى يصير لك في طريق و اتبع الضفدع فتبعها في بطن البحر و هي تسعى حتى بلغت بطن البحر و اذا فيه صخرة سوداء مربعة و فيها ثقب فخرجت نملة من ذلك الثقب و أخذت الطعمة من فم الضفدع و دخلت، فأمر موسى بفلق الصخرة فلما فلقها نصفين رأى في بطنها دودة عمياء و رأى تلك الطعمة في فم تلك الدودة تأكل منها، فقال موسى سبحانك عجبا لمن عرفك كيف يهتم لرزقه.

و حكى في بعض السير و التواريخ ان ملكا من الملوك كان جالسا يتغذّى و فوق طعامه دجاجة مطبوخة فلم يشعر الا و قد انكبت عليه حداة من الهوى فأخذت تلك الدجاجة من فوق فغضب لهذا و ركب فرسه مع جماعة من عسكره فطلب الحداة حتى امعنوا في طلبها، فوصلت الى جبل عال و مضت الى خلف الجبل فنزلوا عن خيولهم و رقّوا ذلك الجبل فلما صعدوا الى قلّته و نظروا الى خلف الجبل رأوا تلك الحداة قد أتت و نزلت على رجل مضروبة بالاوتاد يداه و رجلاه و ملقى على قفاه، فقربت اليه الحداة و جعلت تقطع لحم تلك الدجاجة بمنقارها و مخاليبها و تضعه في فم ذلك الرجل حتى يأكله، فلما فرغت من هذا طارت الى عين الماء في ذلك الجبل و حملت اليه ماءا في حوصلتها و أتت اليه و سقته اياه ثم طارت فأتى اليه ذلك السلطان مع اصحابه و حلّوا اوتاده و اجلسوه و سألوه عن قصته فقال اني تاجر و قد قطع اللصوص عليّ هذا الطريق فأخذو مالي و اتفقوا على ان يحبسوني فوق هذا الجبل بهذه الاوتاد، فلما مضوا عني و بقيت يوما على هذه الحال أتت الىّ هذه الحداة مع طعمة و ماء و صارت تتعاهدني في كل يوم مرتين كما شاهدتم، فلما رأى السلطان كيف يوصل اللّه سبحانه روقه الى عباده قال لعن من يهتّم للرزق فترك الملك و اشتغل بالعبادة حتى مات، و من هذا النحو كثير لا نطول بذكره الكتاب و لنرجع الى ما نحن بصدده فنقول.

قد ذهب الاشاعرة و هم اكثر المخالفين الى ان عمله سبحانه بالاشياء في الازل على لوقوعها في الابد، فكل ما يقع في هذا العالم من الفسوق و المعاصي فهو مستند و معلول لذلك العلم القديم، و حتى ان بعضهم ربما لاط او زنى و لما عنّف اجاب بان اللّه سبحانه قد علم مني

ص:216

ذلك في الازل فلو لم افعله لكان قد انقلب علمه سبحانه جهلا، فهو على عيانه يرى ان له الاجر و الاحسان على اللّه تعالى حيث انه لم يخالف علمه سبحانه و تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، و من هذا الاصل ذهبوا الى ذلك الفرع الذي امتازوا به عن جميع الملل و الاديان، و هو القول بأن العبد ليس له قدرة و لا اختيار على افعاله بل المؤثر فيها و الموجد لها هو اللّه سبحانه، فهو الذي جبّر عبده على الكبائر و المعاصي و مع هذا عاقبه عليها لانه لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.

و التحقيق ان علمه سبحانه تابع للمعلوم و المعلوم كاشف عنه فعلى أي نحو وقع المعلوم يكون كاشفا عن ان اللّه سبحانه قد علمه على هذا النحو، لان علمه الازلي غير معلوم لنا و انما نعلمه بوقوع المعلومات، و الاشاعرة قالوا ان المعلوم تابع للعلم و نحن نقول ان العلم تابع للمعلوم، و سيأتي تحقيقه ان شاء اللّه تعالى في نور افعال العباد.

و اما القدرة و مساوقه و هو الفضا فالكلام فيهما مشكل و مع ذلك فقد ورد النهي عنه عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام روى الصدوق باسنادع الى الاصبغ بن نباتة قال قال امير المؤمنين عليه السّلام في القدر الا ان القدر سرّ من سر اللّه و حرز من حرز اللّه مرفوع في حجاب اللّه مطوي عن خلق اللّه مختوم بختام اللّه سابق في علم اللّه وضع اللّه العباد عن علمه، و رفعه فوق شهاداتهم و مبلغ عقولهم، لانهم لا ينالونه بحقيقة الربانية و لا بقدرة الصمدانية و لا بعظمة النورانية و لا بغرة الوحدانية لانه بحرز آخر خالص للّه عز و جل، عمقه ما بين السماء و الارض و عرضه ما بين المشرق و المغرب اسود كالليل الدامس كثير الحيّات و الحيتان يعلو مرة و يسفل أخرى في قعرها شمس تضيء، لا ينبغي ان يطلّع عليها الا اللّه الواحد الفرد فمن تطلّع عليها فقد ضادّ اللّه عز و جل في حكمه و نازعه في سلطانه و كشف عن ستره و سرّه و باء بغضب من اللّه و مأويه جهنم و بئس المصير.

فهذا مما يدلّك على ان تحقيق هذا المقام مما حجب عن ابصار العقول فلا ينبغي التفّكر فيه لانه يؤل الى مكان دقيق فيرجع العقل عنه متلبسا بمذهب اهل الحبر، و لكن لا بدّ لنا من الكلام في نوعين من انواع الاحاديث.

النوع الاول الاخبار الدالة على أنه سبحانه قد قضى و فعل ما كان و ما يكون و لم يبق شيء من افعاله الابدية تحتاج الى صنع جديد فهو قد فرغ من الامر، منها ما رواه علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير عن هشام عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال اوّل ما خلق اللّه القلم فقال له اكتب فكتب ما كان و ما هو كائن الى يوم القيامة، رواه ايضا باسناده الى عبد الرحيم القصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن نون و القلم، قال ان اللّه تعالى خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر في الجنة كن مدادا فجمد النهر و كان اشدّ بياضا من الثلج و أحلى من الشهد

ص:217

ثم قال للقلم اكتب قال يا رب و ما اكتب، قال اكتب ما كان و ما هو كائن الى يوم القيامة، فكتب القلم في رقّ اشد بياضا من الفضة و اصفى من الياقوت، ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد و لا ينطق ابدا، فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها او لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام و احدكم يقول لصاحبه انسخ ذلك الكتاب أو ليس بنسخ من كاب آخر من الاصل و هو قوله انا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون.

و روى الصدوق طاب ثراه هذا المضمون باسانيد متعددة و كذا رواه العياشي ايضا و روى الصدوق طاب ثراه انه هبط جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قباء اسود و منطقة فيها خنجر، فقال يا جبرئيل ما هذا الزي فقال زي ولد عمك العباس، يا محمد ويل لولدك من ولد عمك العباس فخرج النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال يا عمّ ويل لولدي من ولدك، قال رسول اللّه أ فأجاب نفسي قال جرى القلم بما فيه، و من هذا الحديث اوحى اللّه الى نبي من انبيائه قل للمؤمنين لا يلبسوا لباس اعدائي و لا يطعموا مطاعم اعدائي و لا يسلكوا مسالك اعدائي فيكونوا اعدائي كما هم اعدائي قال الصدوق (ره) في عيون اخبار الرضا عليه السّلام لباس الاعداء هو السواد و مطاعم الاعداء النبيذ و المشكر و الفقاع و الطين و الجري و المارماهي و الزمار و الطافي (1)و كل ما ليس له فلوس من السمك و الارنب و الضبّ و الثعلب، و ما لم يدّف من الطير و ما استوى طرفاه من البيض و الدبا بالدال من الجواد و هو الذي لا يستقلّ بالطيران و الطحال و مسالك الاعداء مواضع التهمة و مجالس شرب الخمر و المجالس التي فيها الملاهي و مجالس الذين لا يقضون بالحق، و المجالس التي يعاب فيها الائمة عليهم السّلام و المؤمنون و مجالس اهل المعاصي و الظلم و الفساد. .

فاما لبس السواد للتقية فلا بأس فيه كما رواه حذيفة انه قال كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام بالحيرة فأتاه رسول ابي العباس الخليفة يدعوه، فدعا بممطر أحد وجهيه اسود و الاخر ابيض فلبسه ثم قال عليه السّلام اما اني البسه و انا اعلم انه لباس اهل النار، فاذا صحّت هذه الروايات من قوله جرى القلم بما فيه، فقد صح مذهب من قال ان اللّه سبحانه قد فرغ من الامر موافقا لما قالته اليهود، فانهم قالوا انه تعالى خلق ما خلق و صنع و قدّر يوم الاثنين و الثلاثا و الاربعا و الخميس و الجمعة و فرغ يوم السبت منكل شيء فمن هذا اتخذوه عيدا لانه وقت فراغه سبحانه من جميع اشغاله حتى ردّ اللّه عليهن باللعن و انه ليس كما يقولون بل هو كل يوم في شأن و حال يقضى و يحكم و يعزل و ينصب و يمحو و يثبت.

ص:218


1- 1) الطافي السمك الذي يموت في الماء يعلو فوق وجهه يقال طفأ الشيء فوق الماء يطفو طفوا اذا علا و لم يرسب و رسب الشيء في الماء رسوبا سفل فيه.

قلت هذه الاخبار مجملة، و قد روى في هذا المعنى اخبار مفصلة منها ما روى في تفسير قوله تعالى، وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ الاية ان الولد اذا كمل له اربعة اشهر في بطن امه بعث اللّه ملكين خلاّقين فيقتحمان في بطن امه من فمها فيصلان الى الرحم، و فيها الروح القديمة المنقولة في اصلاب الرجال و ارحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء و يشتقان له السمع و البصر و سائر الجوارح، ثم يوحي الى الملكين اكتبا عليه قضائي و قدري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان فيرفعان رؤوسهما فاذا اللوح يقرع جبهته و فيه صورته و رؤيته و اجله و ميثاقه شقيّا أو سعيدا و جميع شأنه، فيملى احدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح و يختمان الكتاب و يجعلانه بين عينيه و الحديث طويل اخذنا منه موضع الحاجة.

و منها ما رواه شيخنا الكليني طاب ثراه عن الباقر عليه السّلام قال أن اللّه تبارك و تعالى عالم بما غاب عن خلقه فما يقدّر من شيء و يقضيه في علمه قبل ان يخلقه و قبل ان يقضيه الى ملائكته فذلك علم موقوف عنده اليه فيه المشيئة فيقضيه اذا اراد و يبدو له فلا يقضيه فأمّا العلم الذي يقدّره اللّه عز و جل و يقضيه و يمضيه فهو العلم الذي انتهى الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم الينا و نحو ذلك من الاخبار الدالة على ان علمه سبحانه نوعان منه، ما علّمه ملائكته و رسله لتسعى به في ما بين السموات و الارض فذلك لا يكون فيه محو و لا اثبات و لا تغيير و لا تبديل، و علم استأثر به في أم الكتاب و هو اللوح المحفوظ الذي تدخل فيه انواع التغييرات و المحو و الاثبات.

فان قلت اذا كان ذلك العلم مما يتغير لزم التغير في علمه القديم فيلزم التغير في الذات لانها عين العلم، قلت ذلك المتغير هو العلم الذي ابرزه الى القلم و اللوح المحفوظ و كتبا فيه لا العلم الذي هو عين الذات، بل انما يقع التغيير و التبديل في العلوم المكتوبة في الدفاتر الالهية بسبب العلم القديم الذي علم به الاشياء قبل وجودها، و اما العلم القديم الذاتي فلا يقال له تقدير و لا حكم و لا مكتوب، نعم اذا برز الى الوجود الخارجي اتصف بهذه الصفات، كما ان السلطان اذا علم انه يصنع غدا في ملكه الفعل الفلاني فقبل امره به و ابرازه الى الوجود لا يتصف بالقضاء و الحكم و الامر نعم يتصف بالتقدير لمكان التروي و التفكر في حقه لا في حق اللّه سبحانه.

فصار الحاصل ان الذي كتبه القلم و ختم عليه و قوله جرى القلم بما فيه علوم تداخلها المشيئة و التغيير لمكان المصالح بل و بما وقع المحو و الاثبات في العلوم الخارجة الى الانبياء كما قال امير المؤمنين عليه السّلام لو لا آية في كتاب اللّه لاخبرتكم بما كان و ما يكون الى يوم القيامة و هي قوله تعالى يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ و كما وقع في شأن الذي اخبر عيسى عليه السّلام بموته فلما كان الغد و لم يمت، قال له الحواريون يا روح اللّه لم يمت فقام معهم اليه فرأى الرجل حاملا حزمة حطب، فقال له ضعها في الارض فلما وضعها قال له حلّها فحلها فرأى فيها حية سوداء عاضة

ص:219

على حجر صلب فقال له يا عبد اللّه هذا قد ارسل اليك ليقتلك فما فعلت في يومك حتى كفّ اللّه عنك فقال يا روح اللّه كان عندي رغيف فتصدقت به على فقير، فقال نعم هذا الحجر الذي في فم هذا الثعبان هو الرغيف الذي تصدقت به، و قد وقع مثله في اخبارات محمد صلّى اللّه عليه و آله و هذا لا يلزم منه تكذيب الانبياء عليهم السّلام لاشتماله على تصديقهم في الاخبار و ظهور معجزة على يديهم و ان المحو و الاثبات انما كان لهذا السبب الخاص.

النوع الثاني في اخبار القضاء الدالة على انه تعالى قضى كل شيء الخير و الشر و افعال العباد كلها، روى الصدوق (ره) باسناده الى الحسن (الحسين خ) بن علي عليهما السّلام قال سمعت ابي علي بن ابي طالب عليه السّلام يقول الاعمال على ثلثة احوال فرائض و فضائل و معاص، فاما الفرائض فبأمر اللّه عز و جل و برضاء اللّه و بقضاء اللّه و تقديره و مشيته و علمه، و اما الفضائل فليست بأمر اللّه و لكن برضاء اللّه و بقضاء اللّه و بقدر اللّه و مبشية اللّه، و اما المعاصي، فليست بأمر اللّه و لكن بقضاء اللّه و بقدره و بمشيته و بعلمه ثم يعاقب عليها، و عن الصادق عليه السّلام انه جاء اليه رجل فقال له بأبي أنت و أمي عظني موعظة، فقال عليه السّلام ان اللّه تبارك و تعالى تكفل الرزق فاهتمامك لماذا و ان كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا، و ان كان الحساب حقا فالجمع لماذا، و ان كان الخلف من اللّه عز و جل حقا فالبخل لماذا و ان كان العقوبة من اللّه عز و جل النار فالمعصية لماذا، و ان كان الموت حقا فالفرح لماذا و ان كان العرض على اللّه عز و جل حقا فالمكر لماذا، و ان كان الشياطان عدوا فالغفلة لماذا، و ان كان الممر على الصراط فالعجب لماذا، و ان كان كل شيء بقضاء و قدر فالحزن لماذا، و ان كان الدنيا فانية فالطمأنينة فيها لماذا، الى غير ذلك من الاخبار الدالة على انه تعالى قد قضى الخير و الشر و قضى جميع افعال العباد و قدّرها قبل خلق العالم بألفي عام و ظاهرها يوافق مذهب الاشاعرة القائلين بأن افعال العباد مخلوقة للّه تعالى، و العبد محل للفعل و ليس لقدرة العبد مدخل في افعاله، قلت الجواب عن هذا هو انه قد ذكر جماعة من قدماء المحدثين ان القضاء يقال على عشرة معان:

اولها العلم و منه قوله تعالى إِلاّٰ حٰاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضٰاهٰا يعني علمها، و ثانيها الاعلام و منه قوله عز و جل وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ، و قوله قَضَيْنٰا إِلَيْهِ ذٰلِكَ اَلْأَمْرَ أي اعلمناه، و ثالثها الحكم و منه قوله تعالى يوم يَقْضِي بِالْحَقِّ يعني يحكم، و روى يزيد بن معاوية الشاميّ قال دخلت على الرضا عليه السّلام بمرو، فقت له يا ابن رسول اللّه روى لنا عن الصادق عليه السّلام انه قال لا جبر و لا تفويض و لكن امر بين امرين فما معناه فقال عليه السّلام من زعم ان اللّه عز و جل فعل افعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، و من زعم ان اللّه فوّض امر الخلق و الرزق الى حججه فقال قال بالتفويض، فالقائل بالجبر كافر و القائل بالتفويض مشرك فقلت له يا ابن رسول اللّه فما امر بين امرين؟ قال وجود

ص:220

السبيل الى اتيان ما امروا به و ترك ما نهوا عنه، فقلت فهل للّه مشيئة و ارادة في ذلك، فقال اما الطاعات فارادة اللّه و مشيئته فيها الامر بها و الرضا لها و المعاونة عليها، و ارادته و مشيئته في المعاصي النهي عنها و السخط لها و العقوبة عليها و الخذلان لها، فقلت فلله فيه القضا، قال نعم ما من فعل فعله العباد من خير او شرّ الا و للّه فيه القضا، فقلت فما معنى هذا القضا، قال الحكم عليهم بما يستحقونه على افعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الاخرة.

و رابعها القول و منه قوله تعالى يَقْضِي بِالْحَقِّ أي يقول بالحق، و خامسها الحتم كما قال فلما قضينا عليه الموت يعني حتمناه فهو القضاء الحتم.

سادسها الامر و منه قوله و قضى ربك الا تعبدوا إلا اياه يعني امر ربك، و سابعها الخلق كما قال و قضاهنّ سبع سموات في يومين يعني خلقهنّ، و ثامنها الفعل و منه فاقض ما انت قاض أي افعل ما انت فاعل، و تاسعها الاتمام نحو فلما قضى موسى الاجل أي اتمه و قوله ايّما الاجلين قضيت أي اتممت، العاشر الفراغ من الشيء و منه قوله عز و جل قضى الامر الذي تستفتيان، و قول القائل قد قضيت لك حاجتك اذا تحققت هذا.

فاعلم ان القضاء في كل خبر ينزل على معنى من المعاني الماسبة له فما وقع في الروايات من قولهم عليهم السّلام ان الاشياء كلها بقضاء اللّه و بقدره تبارك و تعالى بمعنى ان اللّه عز و جل قد علمها و علم مقاديرها، و له عز و جل في جميعها حكم من خير او شر فما كان من خير فقد قضاه بمعنى انه امر به و حتمه و جعله حقا و علم مبلغه و مقداره، و ما كان من شر فلم يأمر به و لم يرضه و لكنه عز و جل قضاه و قدره بمعنى انه علم بمقداره و مبلغه و حكم فيه بحكمه و اما المعاصي فقضاء اللّه عز و جل فيها حكمه فيها و مشيئته فيها نهيه عنها، و قدره فيها علمه بمقاديرها و مبالغها، و هذا كله مأخوذ من كلام قدماء المحدّثين الذين لا يتكلمون الا عن الاخبار الواضحة، و من الاخبار الواردة بظواهر مثل ما تقدّم من ايهامها كون الضلال و الاضلال عنه تعالى لفظ الفتنة فانه قد نسب في الآيات و الاخبار اليه سبحانه و الجواب ايضا ان الفتنة كما يستفاد من الاحاديث و المحدثين يقال على عشرة اوجه.

اولها الضلال و هو ظاهر، و ثانيها الاختبار و منه و فتّناك فتونا، و قوله ان يقولوا آمنا و هم لا يفتنون، و ثالثها الحجة نحو ثم لم تكن فتنتهم الا ان قالوا و اللّه ما كنا مشركين و رابعها الشرك نحو قوله تعالى وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ، و خامسها الكفر و منه الا في الفتنة سقطوا يعني في الكفر، و سادسها الاحراق بالنار نحو ان الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات الاية، يعني احرقوا في الكفر، و سابعها العذاب و منه يوم هم على النار يفتنون يعني يعذبون و قوله ذوقوا فتنتكم هذا يعني عذابكم و قوله و من يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئا و ثامنها القتل نحو ان خفتم ان يفتنكم

ص:221

الذين كفروا و قوله فما آمن لموسى الا ذرية من قومه على خوف من فرعون و ملأه ان يفتنهم، و تاسعها الصد نحو و ان كادوا ليفتنونك عن الذي اوحينا اليك يعني ليصدونك.

و عاشرها شدّة المحنة نحو ربنا لا يجعلنا فتنة للذين كفروا، و قوله ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي محنة فيفتنوا بذلك و يقولوا في انفسهم لم نقتلهم و الا و دينهم الباطل و ديننا الحق فيكون داعيا لهم الى النار على ما هم عليه من الكفر و الظلم، و زاد علي بن ابراهيم على هذه الوجوه وجها آخر و هو المحبة نحو قوله عز و جل أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ أي محبة، و الذي روى في ذلك ان وجوه الفتنة عشرة على ما قاله الصدوق (ره) و ان الفتنة في هذا الموضع ايضا المحنة بالنون لا المحبة بالباء، و تصديق ذلك قول النبي صلّى اللّه عليه و آله الولد مجهلة محنة منجلة رواه الصدوق قدس اللّه روحه.

و اما قول الصادق عليه السّلام ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن ففيه وجوه اربعة الاول ما قاله شيخنا المفيد نور اللّه ضريحه من ان هذا مخصوص بافعاله تعالى دون افعال المكلفين يشهد بذلك قوله و اللّه لا يحب الفساد و ما اللّه يريد ظلما للعباد، و يكون حاصل معناه ان كل فعل يريد اللّه وقوعه فانه يقع و كذا ما لم يرد وقوعه فانه لا يقع بخلاف العباد فان كل ما يريدون فعله لا يدخل تحت قدرتهم، الثاني القول بعمومه و شموله لافعال المكلفين لكن المشيئة فيه بمعنى العلم كما هو الوارد في بعض الروايات مثل المشيئة في قوله تعالى وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ أي ما تريدون شيئا الا ان اللّه سبحانه قد علمه في الازل لكن قد تحققت ان علمه تعالى ليس علة للمعلول كما لا يصير علمنا بان الشمس تطلع غدا علة في طلوعها.

الثالث ان يكون المشيئة في كل فقرة قد استعملت بواحد من معانيها ففي قوله عليه السّلام ما شاء اللّه كان بمعنى الارادة، و في قوله ما لم يشأل لم يكن بمعنى العلم جمعا بين العقل و النقل، الرابع ان يكون المشيئة في اللفظين بمعنى الارادة لكنها في الثاني مجاز عن عدم الحيلولة و منع الالطاف الربانية الحاجزة عن افعال المساوى و الذنوب، فيكون من قبيل قوله تعالى يدي من يشاء و يضلّ من يشاء فان الاضلال كما توافق عليه العقل و النقل لا يريده اللّه سبحانه و لا يأمر به لكنه عبارة عن تخلية المرء و نفسه، و قد تقدّم في دعائه صلّى اللّه عليه و آله رب لا تكلني الى نفسي طرفة عين، و حكاية دانيال و داود قد تقدمت ايضا و على هذا يحمل كل ما ورد في القرآن الشريف و السنة من الالفاظ الموهمة لنسبة الاضلال اليه سبحانه.

فان قلت كيف جاز الخطاب منه سبحانه للعباد بمثل هذه الالفاظ الموهمة حتى تمسّك بها اهل الجبر في صحة مذهبهم السخيف و اعتمدوا عليها و جعلوها دلائلهم على ان العبد ليس له اختيار في فعل من افعاله مقل قوله تعالى وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ و مثل قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ، و مثل قوله يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ و يضلّ من يشاء الى غير ذلك من الآيات و الاخبار.

ص:222

قلت ان القرآن بحر واسع ظاهره انيق و باطنه عميق قد اشتمل على انحاء الكلام و التعبيرات الواقعة في كلام العرب المتداولة فيما بينهم من المجاز و الكناية و الاستعارة و إطلاق السبب على المسبب و عكسه و لا يميز مواقع كلامه تعالى بعضها عن بعض الا منم خاطبه اللّه به و اطلعه على جميع معانيه، و ليس هو الا النبي صلّى اللّه عليه و آله و امره اللّه سبحانه بان يعلّمه اهل بيته المعصومين عليهم السّلام و يجب على الناس ان يرجعوا اليهم في اخذ علوم القرآن، فهذه الالفاظ الموهمة انما هي موهمة عندنا و ليس نحن مما خوطبنا به حتى يلزم الاغراء بما له ظاهر و اريد خلاف ظاهره، و الذين خوطبوا به قد فهموا معانيه منه تعالى من غير ابهام، و لذا سمّاهم تراجمة وحيه، و ليس هذا الا من باب ان يكون سلطان له رعية لا يفهمون كلامه فيجعل بينهم و بيه مترجما في تفهيم كلام ذلك السلطان للرعية فهو يخاطب المترجم و يفهمه ما اراد و المترجم يفهم الرعية معنى كلام السلطان، فليس للرعية ان يعترضوا و يقولوا ان هذا السلطان قد خاطبنا بما لا نفهم لانه لم يخاطبهم بل خاطب المترجم، و ليس لهم ايضا ان يأتوا الى كلام الملك و يحاولوا فهم معناه لعدم قابليتهم لفهمه لانه رموز و كنايات بينه و بين من وجه الخطاب اليهم فربما فهموا من كلامه غير ما اراد كما اتفق في تفاسير الجمهور من حمل كلام الباري سبحانه على المحامل التي ارادوها بآراعهم الفاسدة.

و من هذا ذهب بعض مشائخنا المحققين الى ان القرآن كله متشابه بالنسبة الينا لا يجوز لنا ان نتكلم في محكمه على ما هو الظاهر منه، حتى انه قد سأله بعض الافاضل و انا كنت من الحاضرين في مسجد الجامع من شيراز فقال له ما تقول في قل هو اللّه احد فانها آية محكمة ظاهرة الدلالة على معناها، فأجابه بأنّ الاحد ما معناه و ما مبدء اشتقاقه و ما الفرق بينه و بين الواحد، و اطال الكلام في مثل هذا و طبق عليه ما روى من قوله عليه السّلام من فسّر القرآن برأيه فقد كفر، فان ظاهره شمول كلّ آياته و لما انتهى بنا الحال الى هنا فلا بأس بتحقيق هذا المقام و لم نر من حققه سوى شيخنا شيخ الطائفة طاب ثراه في تفسير التبيان و هذا كلامه.

و اعلم ان الرواية ظاهرة في اخبار اصحابنا في ان تفسير القرآن لا يجوز الا بالاثر الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله او عن الائمة عليهم السّلام الذين قولهم حجة كقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و ان القول فيه بالرأي لا يجوز، و روت العامة ايضا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد اخطأ و كره جماعة من التابعين و فقهاء المدينة القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب و عبيدة السلماني و نافع بن محمد بن القسم و سالم بن عبد اللّه و غيرهم و رووا عن عائشة انها قالت لم يكن النبي صلّى اللّه عليه و آله يفسّر القرآن الا ان يأتي به جبرئيل عليه السّلام و الذي نقوله في ذلك انه لا يجوز ان يكون في كلام اللّه تعالى و كلام نبيه صلّى اللّه عليه و آله تناقض و تضادّ و قد قال تعالى إِنّٰا جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، و قال بلسان

ص:223

عربي، و قال و ما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه، و قال فيه تبيان كل شيء، و قال و ما فرطنا في الكتاب من شيء فكيف يجوز ان يصفه بأنه عربي و انه بلسان قومه و انه بيان للناس و لا يفهم من ظاهره شيء و هل ذلك الا وصف له باللغز و المعمى الذي لا يفهم المراد به الا بعد تفسيره و ذلك منزّه عن القرآن.

و قد مدح اللّه تعالى اقواما على استخراج معاني القرآن فقال لعلمه الذين يستنبطونه منهم، و قال تعالى في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن أ فلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها، و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله اني صلّى اللّه عليه و آله اني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي فبين ان القرآن حجة كما ان العترة حجة و كيف يكون حجة ما لا يفهم منه شيء و روى عنه عليه السّلام قال اذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فاقبلوه و ما خالفه فاضربوا به عرض الحائط، و روى مثل ذلك عن ائمتنا عليهم السّلام و كيف يكون العرض على كتاب اللّه و هو لا يفهم منه شيء و كلّ ذلك يدلّ على ان ظاهر هذه الاخبار متروك و الذي نقول ان معاني القرآن على اربعة اقسام.

احدها ما اختص اللّه تعالى بالعلم به فلا يجوز لاحد تكّلف القول فيه و لا تعاطى معرفته و ذلك مثل قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ ، و مثل قوله إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ الاية، فتعاطى معرفة ما اختصّ العلم به خطأ، و ثانيها ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه، مثل قوله تعالى وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ، و مثل قوله قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ، و غير ذلك، و ثالثها ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا مثل قوله تعالى أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ، و قوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، و قوله تعالى وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ، و قوله فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، و ما اشبه ذلك فأن تفاصيل اعداد الصلاة و عدد ركعاتها و تفصيل مناسك الحج و شروطه و مقادير النصاب في الزكوة لا يمكن استخراجه الا ببيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و وحي من جهة اللّه تعالى فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع و يمكن ان يكون الاخبار متناولة له.

و رابعها ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما، و يمكن ان يكون كل واحد منها مرادا فأنه لا ينبغي ان يقدم أحد فيقول ان مراد اللّه منه بعض ما يحتمل الا بقول نبي أو امام معصوم، بل ينبغي ان يقول ان الظاهر يحتمل الامور و كل واحد يجوز ان يكون مرادا على التفصيل و اللّه اعلم بما اراد، و متى كان اللفظ مشتركا بين شيئين او ما زاد عليهما و دلّ الدليل على أنه لا يجوز ان يريد الا وجها واحدا جاز ان يقال انه هو المراد، و متى قسمنا هذه الاقسام نكون قد قبلنا هذه الاخبار و لم نردها على وجه يوحش نقلتها و المتمسكين بها، و لا منعنا بذلك

ص:224

من الكلام في تأويل الاي جملة، و لا ينبغي لاحد ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد مفصلا ان يقلد احدا من المفسرين الا ان يكون التأويل مجمعا عليه فيجب اتباعه لمكان الاجماع لان من المفسرين من حمدت طرائقه و مدحت مذاهبه كابن عباس و الحسن و قتادة و غيرهم، و فيهم من ذمت مذاهبه كأبي صالح و السدي و الكلبي و غيرهم هذا في الطبقة الاولى.

و اما المتأخرون فكلّ واحد منهم نصر مذهبه و تأوّل على ما يطابق اصله فلا يجوز لاحد ان يقلد احدا منهم بل ينبغي ان يرجع الى الادلة الصحيحة، اما العقلية او الشرعية من اجماع عليه او نقل متواتر به عمّن يجب اتباع قوله، و لا يقبل في ذلك خبر واحد و خاصة اذا كان مما طريقه العلم، و متى كان التأويل مما يحتاج الى شاهد من اللغة فلا يقبل من الشاهد الا ما كان معلوما بين اهل اللغة شايعا فيما بينهم، فأما ما طريقه الاحاد من الابيات النادرة فأنه لا يقطع بذلك و لا يجعل شاهدا على كتاب اللّه و ينبغي ان يتوقف فيه، و يذكر ما يحتمله و لا يقطع على المراد منه بعينه، فانه متى قطع على المراد كان مخطئا و ان اصاب الحق، كما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله قال ذلك تخمينا و حدسا و لم يصدر ذلك عن حجة قاطعة و ذلك باطل بالاتفاق انتهى. و هو كلام رشيق انيق، و يستفاد من آخره ان القول فيما يدرك من القرآن بقواعد لعربية تخمينا و تشهيا خطأ ايضا و ان اصاب و قد اشار الى هذا المحقق الشريف في حاشية الكشاف و يظهر من كلام الشيخ (ره) انّ اللفظ اذا احتمل وجوها و لم يذكر المتقدمون الا وجها واحدا منها لم يجز للمتأخر ان يحمل الاية على غيره.

و ذهب الاجل المرتضى (ره) في الذريعة الى جوازه و هذه عبارته و الذي يوضح ما ذكرناه انا اذا تأولنا قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ على ان المراد بها الانتظار لا الرؤية، و فرضنا انه لم ينقل عن المتقدمين الا هذا الوجه دون غيره جاز للمتأخر ان يزيد على هذا التأويل و يذهب الى ان المراد أنهم ينظرون الى نعم اللّه لان الغرض في التأويل جميعا انما هو ابطال ان يكون اللّه تعالى في نفسه مرئيا و التأويلان مشتركان في دفع ذلك، و قد قام كل واحد مقام صاحبه في الغرض المقصود و جرى التأويلان مجرى الادلة في انه يغني بعضها عن بعض، ثم قال و قد خالفت في هذا المذاهب انتهى. و لا بأس به غير ان مراده بالمذاهب بعضها فان المخالف في ذلك بعض العامة و اما اكثرهم فمعترفون بان استنباط المعاني على قوانين اللغة العربية مما لا قصور فيه بل يعدونه فضلا و كمالا كما يعلم من تتبع كلامهم و ما ذكره من جواز التأويل لا يخلو من قوة و قد بقى من عالم الملكوت احوال كثيرة كالاجال و الارزاق نذكرها ان شاء اللّه تعالى في الانوار الارضية.

و اما خلق النهار و الليل و ان ايهما اسبق فروى عن الرضا عليه السّلام انه قد سألني رجل بالمدينة فقال النهار خلق قبل ام الليل، و كان الفضل بن سهل و المأمون حاضرين فقلت لهم فما عندكم

ص:225

فقال الفضل للرضا عليه السّلام أخبرنا بها، قال من القرآن ام من الحساب فقال له الفضل من جهة الحساب، قال علمت يا فضل ان طالع الدنيا الرسطان و الكواكب في موضع شرفها فزحل في الميزان و المشتري في السرطان و الشمس في الحمل و القمر في الثور، فذلك يدل على كينونة الشمس في الحمل في العاشر من الطالع في وسط الدنيا فالنهار خلق قبل الليل، و في قوله تعالى لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ، أي قد سبقه النهار، و اما سبب الظلمة فروى ابو ولاّد قال قال ابو عبد اللّه عليه السّلام ان اللّه تعالى خلق حجابا من ظلمة مما يلي المشرق و وكّل به ملكا فاذا غابت الشمس اغترف ذلك الملك غرفة بيديه ثم استقبل بها المغرب يتبع الشفق و يخرج من بين يديه قليلا قليلا و يمضي فيوافي المغرب عند سقوط لشمس فيسرح في الظلمة، ثم يعود الى المشرق فاذا طلع الفجر نشر جناحيه فاستاق الظلمة من المشرق الى المغرب يوافي بها المغرب عند طلوع الشمس.

نور يشتمل على العجائب

الواقعة بين السماء و الارض اعلم ان الحكماء و متابعيهم ذهبوا الى ان طبقات العناصر سبع اعلاها الطبقة النارية الصرفة، و هي كرة محدبها مماس لمقعر فلك القمر و تحته طبقة نارية مخلوطة من النار الصرفة و الاجزاء الهوائية الحارة تتلاشى في هذا الطبقة الادخنة المرتفعة، و تتكون فيه الكواكب ذوات الاذناب و النيازك و ما يشبهها بل قيل ان فيها تكون الشهب، ثم الطبقة الزمهريرية و هي الهواء الصرف الي برد لمجاورة الارض و الماء و لم يصل اليه اثر انعكاس الاشعة، و المشهور بينهم ان هذه الطبقة منشأ السحب و الرعد و البرق و الصواعق فلا يكون هواءا صرفا ثم الطبقة البخارية و هي الهوائية المخلوطة مع المائية، ثم الطبقة الترابية و هي ما فيه ارضية و هوائية ثم الطبقة الطينية و هي ارضية مع مائية، ثم الطبقة الارضية الصرفة التي هي قريبة من المركز، هذا المحصل و في طبقات العناصر اقوال مختلفة لا فائدة في استقصائها.

و تفصيل القول في هذه الامور على ما قالوه هو ان حرّ الشمس و غيرها يصعد الى الجو اجزاءا إمّا هوائية و مائية مختلطتين و هو البخار و صعوده ثقيل، و إمّا نارية و ارضية و هو الدخان و صعوده خفيف، و قلّما يصعد ان سازجين بل يتصاعد البخار و الدخان في الاغلب ممتزجين، و منهما تتكون جميع الاثار العلوية على زعم الحكماء اما البخار فان قل و اشتد الحر في الهوى خلل الاجزاء المائية و قلّبها الى الهوائية و بقى الهواء الصرف، و ان كان البخار كثيرا و لم يكن في الهواء من الحرارة ما يخللّه، فان وصل ذلك البخار بصعوده الى الطبقة الزمهريرية التي هي الهواء البارد جمعه ببرودة و تكاثف فصار سحابا و تقاطرت الاجزاء المائية، اما بلا جمود اذا لم يكن

ص:226

البرد شديد و هو المطر، و إمّا مع جمود كما اذا كان البرد شديدا، فان كان الجمود قبل الاجتماع و التقاطر و صيرورته حبّات كبارا فهو الثلج، و ان كان الجمود فهو البرد بفتح الراء و ان لم يصل البخار الصاعد الى الزمهريرية فإمّا ان يكون كثيرا و قليلا فالكثير قد ينعقد سحابا ماطرا كما حكوه عن ابن سينا من انه شاهده في بعض الجبال، و قد لا ينعقد فهو الضباب (1)المجاور للارض و هذا القليل الذي لم يصل الى الطبقة الزمهريرية قد يتكاثف ببرد الليل فينزل نزولا ثقيلا في اجزاء صغار لا يحسن بنزولها الا عند اجتماع شيء يعتدّ به، فاما بلا جمود بعد النزول و هو الطلّ (2)او معه و هو الصقيع و نسبته الى الطلّ كنسبة الثلج الى المطر.

و قد يتكون السحاب من انقباض الهواء بالبرد الشديد فيحصل حينئذ منه الاقسام المذكورة و اما الدخان فربما يخالط السحاب ان يرتفع ابرخة و ادخنة كثيرة مختلطة الى الطبقة الزمهريرية فيتكاثف البخار و ينعقد سحابا فينحس ذلك الدخان في جوف السحاب فيحرقه امام في صعوده بالطبع لبقائه على حرارته المقتضية لتصعيده او عند هبوطه للتكائف بالبرد الشديد فيحدث من خرق الدخان للسحاب و مصاكته اياه صوت هو الرعد و قد يشتعل الدخان بقوة التسخين و ذلك لانه شيء لطيف و فيه مائية و ارضية عمل فيها الحرارة و الحركة عملا قرب مزاجه من الدهنية فصار بحيث يشتعل بأدنى سبب فكيف لا يشتعل بالتسخين القوى الحاصل من الحرارة الشديدة و المصاكة، و اذا اشتعل فاللطيف منه ينطفي سريعا و هو البرق و كثيفه لا ينطفي حتى يصل الى الارض و هو الصاعقة و اذا وصل اليها فربما صار لطيفا ينفد في المتخلل و لا يحرقه.

و حكوا في كتبهم ان صبيا كان في صحراء فأصابت ساقيه صاعقة فسقط رجلاه و لم يخرج منه دم لحصول الكي بحرارتها، و قد يصل الدخان الى كرة النار لانه اجزاء ارضية يابسة فتحفظ الحرارة التي تصعدها بخلاف البخار، فاذا وصل الدخان الى تلك الكرة فيحترق الدخان كالشمعة التي تطفى و يحاذى بها من تحت شمعة مشتعلة فيشتعل الدخان الواصل الى الشمعة الفوقانية و تتصل النار التي وقعت في ذلك الدخان بالشمعة السفلانية فتشعل بهذه النار فما كان من ذلك الدخان لطيفا صار مشتعلا و نفذ النار فيه بسرعة فرأى ذلك لمشتعل كأنه كوكب ينقضّ و هو الشهاب، و ما كان منه كثيفا لا في الغاية تعلّق به النار تعلقا تاما م نغير اشتعال بل ثبت فيه الاحتراق و دام متصلا لا ينطفي اياما و شهورا و يكون على صورة ذوابة او ذنب او رمح او حيوان له قرون.

ص:227


1- 1) الضباب كسحاب جمع ضبابة كسحابة و هو ندى يغشي الارض بالغدوات و في الصحاح سحابة تغشي الارض الدخان.
2- 2) الطل المطر الضعيف القطر و الجمع الطلال بالكسر.

و حكى ان بعد المسيح عليه السّلام بزمان كثير ظهر في السماء نار مضطربة من ناحية القطب الشمالي و بقيت السنة كلها و كانت الظلمة تغشى العالم من تسع ساعات من النهار الى الليل حتى انه لم يكن أحد يبصر شيئا و كان ينزل من الجو شبه الهشيم (1)و الرماد و اذا كان البحار غليظا او كثيفا جدا تعلّق به النار تعلقا ما فيحدث في الجو علامات سود او حمر على حسب غلط المادة، فاذا كانت غليظة ظهرت الحمرة و اذا كانت اغلظ ظهر السواد، و قد تقف الذوابات و نحوها تحت كوكب فيدبرها الفلك معه مشايعة اياه فيرى كأن لذلك الكوكب ذوابة او ذنبا او قرنا، و ان اتصل الدخان بالارض تشتعل النار فيه نازلة الى الارض و يسمى الحريق و اما اسباب الهوى فقد ذكروا فيه ان الدخان قد ينكسر حرّه عند الوصول الى الكرة الزمهريرية فيرجع بطبعها الى الارض، و قد لا ينكسر و حينئذ يصعد و يصادم كرة النار فيرجع و يمتدّ بمصادمة كرة النار المتحركة بحركة الفلك رجوعا الى جهات مختلفة فيتموج الهواء و يضطرب و هو الريح، و الريح كما يحدث بهذا يحدث ايضا بان يتخلل الهواء فيندفع عن مكانه بواسطة عظم مقداره فيدافع ما يجاوره فيطاوعه و يدافع ذلك المجاور ايضا، فيتموج الهوى و يتضعف تلك المدافعة شيئا فشيئا الى غاية ما فيقف، و قد تحدث رياح مختلفة الجهة دفعة فتدافع تلك الرياح الاجزاء الارضية فتنضغط الارضية بينها مرتفعة كأنها تلوى على نفسها و هي الزوايع و الاعصار، و يقال له بالفارسية (كردباد) .

و اما مهبّ الرياح فغير منحصرة حقيقة في عدد الا انهم جعلوا اصولها اربعة هي نقطة المشرق و المغرب و الشمال و الجنوب، و العرب تسمي الرياح التي تهب منها بالقبول و الدبور و الشمال و الجنوب، و تسمى التي تهبّ مما بينها نكبا، و هذا كله انما قال به الفلاسفة لاجل نفيهم القادر المختار، فأحالوا اختلاف الاجسام بالصور الى استعداد في موادّها يقتضي اختلاف الصور الحالة فيها، و احالوا اختلاف آثارها الى صورها المتباينة و امزجتها المخالفة، و احالوا كلّ هذا الى حركات الافلاك و اوضاعها و اما المتكلمون فقالوا الاجسام متجانسة بالذات لتركبها من الجواهر الافراد، و انها متماثلة لا اختلاف فيها و انما يعرض الاختلاف للاجسام لا في ذواتها بل بما يحصل فيها من الاعراض بفعل القادر المختار، هذا محصّل مقالتهم و هي عن الشرع بمعزل فانه قد ورد في الشريعة الغرا لكل واحد من هذه الامور اسباب من جهة القادر المختار دلّنا عليها من رأى السموات و صعد اليها و مشى فوقها و شاهدها عيانا و هو النبي الامي صلّى اللّه عليه و آله و لنشرع الان في بيان اسبابها من الآيات و الاخبار فنقول.

ص:228


1- 1) الهشيم اليابس من النبيت و تهشم و تكسر هشمت الشيء كسرته.

اما الشهب فقال تعالى إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ مٰارِدٍ، لاٰ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جٰانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ وٰاصِبٌ إِلاّٰ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ ثٰاقِبٌ، فانه سبحانه في مقام الامتنان على عبيده بأنه زيّن لهم هذه السماء الدانية اليهم و هو الاولى بزينة الكواكب الظاهرة المشاهدة و حفظها من صعود الشياطين اليها بانهم اذا صعدوا اليها لاستماع ما تقوله الملائكة قذفوهم بالشهب من كل جانب من جوانب السموات دحورا أي طردا، و لهم عذاب في القيامة واصب أي دائم، الا من خطف الخطفة و التقدير انهم لا يسمعون الى الملائكة الا من وثب الوثبة الى قريب من السماء لتسلب السماع بسرعة فأتبعه شهاب ثاقب أي فلحقته نار محرقة، و قد اوضح في موضع آخر عن رؤيتنا لتلك الشهب فقال الا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين لانهم كانوا يسترقون السمع و يستمعون الى كلام الملائكة و يلقون ذلك الى ضعفة الجن و كانوا يوسوسون بها في قلوب الكهنة و يوهمونهم انهم يعرفون الغيب، و قد كان الشيطان بعد ان طرد الى الارض يصعد الى السموات و يطلّع على ما في عالم الملكوت فلما ولد عيسى عليه السّلام منع عن ما فوق السماء الرابعة، و لما ولد النبي صلّى اللّه عليه و آله منع من السموات كلها فهذه الشهب المشاهدة هي النيران السماوية التي تطرد الملائكة بها الشياطين المخترقة للسمع.

و قد رام بعض المتكلفين التوافق بين هذا و بين قول الفلاسفة السابق بأن يكون احتراق تلك الاجرام مقارنة لصعود الشياطين و رمى الملائكة لهم، و لا يخفى انه صلح من غير تراضي الخصمين مع ان مفاسده مما لا تحصى كثرة، و اما السحاب فهو مخلوق من مخلوقاته سبحانه لا يصال الارزاق الى عباده، و لها مكان خاصّ تستقرّ فيه فاذا اراد اللّه سبحانه ان يحملها المياه امر الملائكة المؤكلين بها فيسوقونها الى البحر على مقدار احتياج العباد، و ميكائيل عليه السّلام على البحر فيكيل لها الماء و يأمرها بالمسير الى المكان الذي يريده، و يجعل مع كل سحابة ملكا يسوقها، و هو اصغر من الزنبور و اكبر من الذبابة، و في يده سوط يسوقها فالرعد صوته و البرق سوطه، و قد شاهدنا نحن و غيرها من السحاب نوعا من الشعور، و هو انه ربما استقر و سكن على رؤوس الجبال اما في ذهابه او ايابه فاذا اتى الانسان نحوه و قرب اليه ارتفع من بين يديه سريعا حتى انه ربما اصطادوه كما يصطادون الحيوانات، و ذلك انهم يجعلون كلابا في راس جبل طويل و يحفرون لهم حفائر في رؤوس الجبال فيخفون انفسهم فيها، فاذا وقع السحاب على الجبال خرجوا بسرعة من الحفيرة، فاذا ارتفع رموه بذلك الجبل فيعلق بالكلاب منه قطعة تنعزل من السحابة فيأخذونها لمصالح كثيرة، و قد رأيناها على هيئة بيت الزنبور لاجل ان تكون غربالا للمطر حتى يقع متقاطرا و الا خرّب البلاد التي وقع فيها كما في وقت طوفان نوح عليه السّلام، و يجوز ان يكون ذلك الاحساس للملك الموكل بالسحابة فتأمل.

ص:229

روى الكليني باسناده الى العزرمي رفع قال قال امير المؤمنين عليه السّلام و سأل عن السحاب اين يكون قال يكون على شجر كثيب على شاطئ البحر يأوي اليه فاذا اراد اللّه عز و جل ان يرسله ارسل ريحا فأثارته، و وكّل به ملائكة يضربونه بالمخاريق و هو البرق فيرتفع ثم قرء هذه الاية وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ، و الملك اسمه الرعد.

و اما الامطار فقد تقدّم ان المطر الاول يأتي من بحر تحت العرش و هو الذي ينبت به ارزاق الحيوانات، و البعض الاخر يأتي من البحر من الملك الموكل به، و هو ميكائيل و في الحديث ان اللّه سبحانه قد خلق في السماء من برد و جبالا من ثلج و جبالا من الجمد، فاذا اراد ان يمطر منه امطر، و ذهب افلاطون الى ان لكل قطرة من المطر و الثلج و كلّ حبة من حب الغمام و كل شجر و نبت و حيوان عقلا مربيا له في العالم العلوي يحصل منه نماه و نشوه، و تفاضلها في هذا العالم لونا و طعما و رايحة و انما هو باعتبار تفاوت مراتب تلك العقول المربية، و بالغ متابعوه في هذا المعنى حتى قالوا ان لكل ريشة من الطاووس عقلا يستند اليه اختلاف الوان ذلك الريش، و التوفيق بين القولين بأن البخار ينعقد حال هذه الارادات لا يخلو من تكلّف لان غرض الفلاسفة هو عدم اسناد هذه الامور اليه سبحانه بناء على ذلك الاصل الضعيف، و هو ان الواحد لا يصدر عنه الا فعل واحد مع انه سبحانه على ما يشاء قدير.

و اما الرياح فهي من اقوى جنود اللّه سبحانه و منها رياح رحمة، و منها رياح عذاب و نقمة كما قال سبحانه انا أَرْسَلْنَا اَلرِّيٰاحَ لَوٰاقِحَ، و قال الريح العقيم فانها تعقم الشجر من حمل الثمار و تعقم ارحام النساء و اصلاب الرجال، كما روى ان اللّه سبحانه لما اراد إهلاك قوم نوح ارسل الريح العقيم فهبت عليهم فعقمت الاصلاب و الارحام فبقوا اربعين سنة لا يولد لهم مولود حتى اغرقهم لان الاطفال لا ذنب لهم و قول نوح عليه السّلام لا يلدوا الا فاجرا كفارا لعله اراد انهم لما بلغوا كانوا كذلك، او انه اشار الى ان ولد الكافر يجري عليه ما جرى على ابويه من الاسم و بعض الاحكام، قال صاحب الغريبين لم يأت لفظ الريح الا بالشر و الرياح الا في الخير، قال اللّه تعالى و عٰادٍ إِذْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلرِّيحَ اَلْعَقِيمَ، و قد صلى علي بن الحسين عليه السّلام في الصحيفة على الملائكة القوّام على خزائن الرياح، قال الباقر عليه السّلام ان الريح العقيم ريح عذاب تخرج من تحت الارضين السبع و ما خرجت منها ريح قطّ الا على قوم عاد حين غضب اللّه عليهم.

و روى الكليني طاب ثراه في حديث طويلا عن الباقر عليه السّلام قال فأما الرياح الاربع الشمال و الجنوب و الصبا و الدبور، فانما هي اسماء الملائكة الموكلين بها، فاذا اراد اللّه ان يهبّ شمالا امر الملك الذي اسمه الشمال فيهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فيضرب بجناحيه فتفرقت ريح الشمال حيث يريد اللّه من البر و البحر و اذا اراد اللّه ان يبعث جنوبا امر الملك الذي

ص:230

اسمه جنوب فيهبط على البيت الحرام، فقام على الركن الشامي فضرب بجناحيه ريح الجنوب في البر و البحر حيث يريد اللّه و اذا اراد اللّه ان يبعث الصبا امر الملك الذي اسمه الصبا فيهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحيه فتفرقت ريح الصبا حيث يريد اللّه عز و جل في البر و البحر و اذا اراد اللّه ان يبعث دبورا امر الملك الذي اسمه الدبور فيهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب على جناحيه فتفرقت ريح الدبور حيث يريد اللّه من البر و البحر، ثم قال ابو جعفر عليه السّلام اما تسمع لقوله ريح الشمال و ريح الجنوب و ريح الدبور و ريح الصبا انما يضاف الى الملائكة الموكلين بها و قال عليه السّلام و اما الريح العقيم فانها ريح عذاب لا تلقح شيئا من الارحام و لا شيئا من النبات، و هي ريح تخرج من تحت الارضين السبع و ما خرجت منها ريح قط الا على قوم عاد و الحديث طويل و قد تقدم تمامه.

و عن العزرمي قال كنت مع ابي عبد اللّه عليه السّلام جالسا في الحجر تحت الميزاب و رجل يخصم رجلا، و احدهما يقول لصاحبه و اللّه ما تدري من ابن تهب الريح فلما اكثر عليه قال له ابو عبد اللّه عليه السّلام فهل ترى انت قال لا و لكني اسمع الناس يقولون فقلت انا لابي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك من اين تهب الريح؟ فقال ان الريح مسجونة تحت هذا الركن الشامي فاذا اراد اللّه عز و جل ان يخرج منها شيئا اخرجها، اما جنوب فجنوب او شمال فشمال او صباء فصباء او دبور فدبور، ثم قال عليه السّلام من آية ذلك انك لا تزال ترى هذا الركن متحركا ابدا في الشتا و الصيف و الليل و النهار و لا منافاة بين الخبرين لان قوله عليه السّلام مسجونة تحت هذا الركن يجوز ان يكون كناية عن كونه محلا للرياح التي تحصل من وقوف الملائكة عليه و يجوز ان يكون اشارة الى تنوعه انواعا.

فان قلت يلزم ان يكون مهبّ الرياح كلها جهة القبلة مع ان الذي ذكره الفقهاء و غيرهم ان الجنوب محلها ما بين مطلع سهيل الى مطلع الشمس في الاعتدالين، و الصبا محلها ما بين مطلع الشمس الى الجدي، و الشمال محلها من الجدي الى مغرب الشمس في الاعتدال، و الدبور محلها من مغرب الشمس الى سهيل، قلنا هذا غير لازم لان جناح الملك لعظمته يمكنه ان يحركه بأي نحو اراد، و قد روى ان ريح الشمال اذا خرجت من محلها تخرج لكنها تمرّ على وادي السّلام و هي جنة الدنيا الواقعة بظهر الكوفة فتكتسب منها اللطافة و البرودة و اما الجنوب فهي تخرج من محلها باردة لكنها تمرّ على برهوت واد في المن و هو نار الدنيا فتصير حارة بمرورها عليه.

و اما الذي رويناه في نور اول المخلوقات من انه تعالى اول ما خلق الماء، ثم خلق الريح من الماء فالظاهر ان المراد به جوهر شفاف مغاير لهذه الرياح، و يجوز ان يكون مادة لها كما كان لغيرها، و روى ابو بصير قال سألت ابا جعفر عليه السّلام عن الرياح الاربع الشمال و الجنوب و الصبا و الدبور، و قلت له ان الناس يقولون ان الشمال من الجنة و الجنوب من النار، فقال ان للّه عز و جل

ص:231

جنودا من الريح يعذب بها من عصاه موكّل لكل ريح منهنّ ملك مطاع، فاذا اراد اللّه عز و جل ان يعذب قوما بعذاب اوحى اللّه الى الملك الموكل بذلك النوع من الريح الذي يريد ان يعذبهم بها، فيأمر بها الملك فتهيج كما يهيج الاسد المغضب و لكل ريح منهن اسم تسمع لقول اللّه عز و جل انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا في و م نحس مستمر.

و قال عز و جل اَلرِّيحَ اَلْعَقِيمَ و قال فَأَصٰابَهٰا إِعْصٰارٌ فِيهِ نٰارٌ و الاعصار التي فيها نار و ما ذكر في الكتاب من الرياح التي يعذب بها من عصاه و للّه عز و جل رياح رحمة لواقح و رياح تهب السحاب فتسوق السحاب و رياح تحبس السحاب بين السماء و الارض، و رياح تعصره فتمطر باذن اللّه عز و جل و رياح تفرق السحاب و رياح مما اعدّ اللّه عز و جل في الكتاب و قال الصادق عليه السّلام نعم الريح الجنوب تكسر البرد عن المساكين و تلقح الشجر و تسيل الاودية.

و قال علي عليه السّلام الرياح خمسة منها العقيم فنعوذ باللّه من شرها و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا هبّت ريح صفراء او حمراء او سوداء تغيّر وجهه و اصفّر و كان كالخائف الوجل حتى تنزل من السماء قطرة من مطر فيرجع اليه لونه، و يقول جائتكم بالرحمة، و روى انه قال كامل كنت مع ابي جعفر عليه السّلام فهبّت ريح شديدة فجعل ابو جعفر عليه السّلام يكبّر ثم قال ان التكبير يردّ الريح، و قال عليه السّلام ما بعث اللّه عز و جل ريحا الا رحمة او عذابا فاذا رأيتموها فقولوا اللهم انا نسألك خير ما ارسلت له، و نعوذ بك من شرها و شرّ ما ارسلت له و كبروا و ارفعوا اصواتكم بالتكبير فانه يسكرها، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تسبوا الرياح فانها مأمورة، و لا الجبال و لا الساعات و لا الايام و لا الليالي فتأثموا و ترجع اليكم.

اقول ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله فتأثموا هو التحريم لان المكروه خال منا لاثم و لم يذكره احد من الاصحاب رضوان اللّه عليهم سوى ظاهر ابن بابويه، و القول بالتحريم غير بعيد لان الريح و ما ذكر معها جند من جنود اللّه و مخلوقات من خلقه خلقها لمصالح العباد و لاستعتابهم و للشهادة عليهم، كما في الحديث ان الايام تتجسم و تأتي في القيامة تشهد للانسان او عليه فلا تستحق السب و اللعن، و السب ليس هو خصوص اللعن بل ما يتناوله مع الشتم و في الحديث ان اللعنة اذا خرجت من صاحبها ترددت فان رأت محلا علّقت به و الا رجعت الى صاحبها و هو اولى بها، و لا شكّ ان هذه الامور ليست محلا لتلك اللعنة فهي ترجع الى صاحبها و من هنا حصل له الاثم.

و روى ان رجلا نازعته الريح فلعنها فقال عليه السّلام لا تلعهنا فانها مأمورة، و انه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه، و قال صلّى اللّه عليه و آله لا يأتي على الناس زمان الا و الذي بعده شر منه، لا تسبوا الدهر فان اللّه هو الدهر و معناه كما قيل لا تسبوا الدهر فان اللّه مصرّف الدهر و مقلبه و لا فعل للدهر بحال، فحذف المضاف و اقام المضاف اليه مقامه، و قال بعض الافاضل المعتمد في

ص:232

الحديث ان الملحدين و من نفي الصانع منهم نسبوا افعال اللّه تعالى المختصة به من الموت و الحياة و الصحة و المرض الى الدهر جهلا منهم و يذمون الدهر و يسبّونه من حيث انهم اعتقدوا ان هذه الافعال صادرة منه، فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال لا تسبوا الدهر أي لا تسبوا من فعل بكم هذه الافعال ممن تتقدون أنه الدهر فأن اللّه تعالى هو الفاعل لهذه الافعال، و انما قال فان اللّه هو الدهر من حيث إنهم نسبوا افعال اللّه الى الدهر أي من جعلتموه دهرا باعتقادكم الفاسد.

و قد حكى اللّه ذلك عنهم في قوله ما هي الا حيوتنا الدنيا نموت و نحيى و ما يهلكنا الا الدهر، و في سؤال النزديق للصادق عليه السّلام في حديث طويل قال فاخبرني ما جوهر الريح قال الريح هواء اذا تحرك يسمى ريحا و اذا سكن يسمى هواءا و به قوام الدنيا و لو كفّت الريح ثلاثة ايام لفسد كل شيء على وجه الارض و نتن، و ذلك لان الريح بمنزلة المروحة تذهب و تدفع الفساد عن كل شيء و تطيبه فهي بمنزلة الروح اذا خرجت عن البدن نتن البدن و تغيّر تبارك اللّه احسن الخالقين.

و في كتاب الاحتجاج روى عن علي بن يقطين انه قال امر ابو جعفر الدوانيقي يقطين ان يحفر بئرا بقصر العبادي فلم يزل في حفرها حتى مات ابو جعفر و لم يستنبط منها الماء، فأخبر المهدي بذلك فقال احفر ابدا حتى يستنبط الماء و لو انفقت جميع ما في بيت المال، قال فوجّه يقطين أخاه ابا موسى في حفرها فلم يزل يحفرها حتى ثقبوا ثقبا في اسفل الارض فخرجت منه الريح قال فهالهم ذلك فاخبروا به ابا موسى، فقال انزلوني فانزل و كان رأس البئر اربعين ذراعا في اربعين ذراعا فاجلس في شق محمل و دلي في البئر فلما صار في قعرها نظر الى هول و سمع دوي الريح في اسفل ذلك فأمرهم ان يوسعوا لخرق فجعلوه شبه الباب العظيم، ثم دلى فيه رجلان في شقّ محمل فقال ائتوني بخبر هذا ما هو قال فنزلا في شقّ محمل فمكثا مليا ثم حركا الحبل فاصعدا فقال لهما ما رأيتما قالا امرا عظيما رجالا و نساءا و بيوتا و آنية و متاعا كله ممسوخ من حجارة، فأما الرجال و النساء فعليهم ثيابهم فمن بين قاعد و مضطجع و متكي فلما مسسناهم فاذا ثيابهم تنفش شبه الهبا، و منازل قائمة، قال فكتب بذلك ابو موسى الى المهدي فكتب المهدي الى المدينة الى موسى بن جعفر عليهما السّلام يسأله ان يقدم عليه فقدم اليه فأخبره فبكى بكاءا شديدا و قال يا امير المؤمنين هؤلاء بقية قوم عاد غضب اللّه عليهم فساخت بهم منازلهم هؤلاء اصحاب الاحقاف قال فقال له المهدي يا ابا الحسن و ما الاحقاف قال الرمل.

و الحاصل ان الرياح من جنوده سبحانه و تعالى عما يقول الفلاسفة علوا كبيرا و اما الصاعقة فهي نار تتكون من ضرب مخاريق الملائكة للسحاب، و هو جسم كثيف اذا وقع على الارض شقّها، قالوا انه لا يسكن الا اذا وصل الى الماء و ذكروا من خواصه انه اذا نزل على ذهب

ص:233

او فضة في معدن اذابه و اذا جعل ذلك الذهب في كيس او نحوه فلا يغيّر جوهره و لا يذيبه، و زعم ابن سينا في شفائه ان السيوف التي تمدحها الشعراء متخذة من حديد الصواعق.

و من المكونات في الهوى الذرات روى الصدوق (ره) مسندا الى علي عليه السّلام و قد سأل مما خلق اللّه عز و جل الذر الذي يدخل في كوّة البين فقال ان موسى عليه السّلام لما قال رب ارني انظر اليك قال اللّه عز و جل ان استقر الجبل لنوري فانك ستقوى على ان تنظر اليّ و ان لم يستقرّ فلا تطيق ابصاري لضعفك، فلما تجلّى اللّه تبارك و تعالى للجبل تقطع ثلاث قطع، فقطعة ارتفعت في السماء و قطعة غاصت تحت الارض، و قطعة بقيت فهذا الذر من ذلك الغبار غبار الجبل اقول يجوز ان يكون معناه ان مادة الذر هو ذلك الجبل المتقطع لا انّ كل ذر منه فان المشاهد ان بعض الذر يرتفع من الاجسام المحسوسة و يشاهد في الكوة لكن يكون هذا الذر قد انضاف الى ذلك الذر.

و من جملة كائنات الهوى الشياطين و الجن و هما عند الملّيين اجسام تتشكل بأي شكل شائت و تقدر على ان تتولّج في بواطن الحيوانات و تنفذ في (من) منافذها الضيقة نفوذ الهوى، و قد اختلفوا في اختلافهما بالنوع مع اتفاقهم على انهما من اصناف المكلفين، و اما الفلاسفة فقد انكروها رأسا و قالوا ان ما يتوهمه (هم) الناس كونه جنا فانما هو خيالات و اخلاط من السوداء و الصفراء و غير ذلك و قد استندوا في نفيهما الى خيالات و همية سموها دلائل عقلية لا نطول الكتاب بذكرها لظهور فسادها.

و قال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة فالخيرة من المفارقة عن الابدان تتعلق بالخيرة من المقارة لها نوعا من التعلق و تعاونها على الخير و السداد و هي الجن، و الشريرة منها تتعلق بالشريرة و تعاونها على الشر و الفساد و هي الشياطين و المفهوم من الآيات و الاخبار انهما نوعان متقاربان في الذات و الصفات داخلان تحت قلم التكليف، الا ان المسلمين من الجن اكثر من مسلمي الشياطين و الا فالشياطين فيهم المؤمن ايضا، روى الصفار و غيره قال قال ابو عبد اللّه عليه السّلام بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم جالس اذ اتاه رجل طويل كأنه نخلة فسلّم عليه، فقال من انت يا عبد اللّه فقال الهام بن الهيم بن لاقيس بن ابليس، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كم اتى لك، قال انا ايام قتل قابيل هابيل غلام افهم الكلام و انهى عن الاعتصام و آمر بقطيعة الارحام و افسد الطعام، و لكني تبت على يدي نوح و كنت معه في السفينة (سفينته خ ل) و عاتبته على دعائه على قومه حتى بكا و ابكاني، و قال لا جرم اني على ذلك من النادمين، و كنت مع ابراهيم حين القى في النار، و علمني موسى سفرا من التورية، و عيسى سفرا من الانجيل، و قال ان ادركت محمدا صلّى اللّه عليه و آله فاقرأه مني السّلام فدفعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى علي عليه السّلام و علمه سورا من القرآن الحديث.

ص:234

و اما مادة خلقتهما فالمشهور انهام من النار كما قال تعالى وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نٰارِ اَلسَّمُومِ، و قوله وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مٰارِجٍ مِنْ نٰارٍ، و المارج هو لهب النار الخالص من الدخان، فعلى هذا يكون عنصره واحدا، و قيل هو مركب من العناصر الاربعة الا ان الاغلب عليه النار فلذا كان هو المنسوب اليه، و يؤيده ان في الآيات ذكر خلق الانسان معه هكذا خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ كَالْفَخّٰارِ وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مٰارِجٍ مِنْ نٰارٍ و الصلصال الطين اليابس، و الفخار الطين المطبوخ بالنار، فلذا لم يذكر للانسان سوى الطين لكونه الاغل فيه، و من ثم كان المكان الطبيعي للجسم هو مكان اغلب عناصره، و قد ثبت هذا بالبرهان و المراد بالجان في هذه الآيات على ما قاله اكثر المفسرين ابو الجنّ، و قال الحسن هو ابليس ابو الجن فيكون النوع واحدا و قد تواترت الاخبار ببقائهما بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله الى يوم القيامة.

اما الشياطين فلا خلاف فيه بين المسلمين و اما الجن فقد نقل لي شيخنا الثقة ان الفاضل القزويني (1)دام اللّه ايامه قد انكر وجودهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال انه دعا عليهم فماتوا جميعا و الى هذا ذهب سلطان العلماء قدس اللّه روحه و حكى لي ابنه المقدس العدل ان اباه كان يتعمد في الليالي للاماكن الموحشة المظلمة لعله يرى احدا منهم فلم يتّفق له قال ولده فقلت له انهم لا يظهرون على من له قوة قلب و انما يظهرون على ضعفاء القلوب، و بالجملة فان عليا عع قد قاتلهم زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله فاسلم منهم جماعة و عيّن عليهم خليفة منهم، و كانت خلائه عليهم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله كلما مات خليفة عيّن عليه السّلام لهم موضعه خليفة.

و هكذا روى شيخنا المفيد قدس اللّه روحه في ارشاده مسندا الى ابن عباس قال لما خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله الى بني المصطلق جنّب عن الطريق فادركه الليل و نزل بقرب واد وعر، فلما كان في آخر الليل هبط جبرئيل عليه السّلام يخبره ان طائفة من كفّار الجن قد استنبطوا الوادي يريدون كيده عليه السّلام و إيقاع الشر باصحابه عند سلوكهم اياه فدعى امير المؤمنين فقال له اذهب الى هذا الوادي فسيعرض لك من اعداء اللّه الجن من يريدك فادفعهم بالقوة التي اعطاك اللّه عز و جل و تحصّن منهم باسماء اللّه عز و جل التي خصّك بعلمها و انفذ معه مائة رجل من اخلاط الناس و قال لهم كونوا معه و امتثلوا امره فتوجه امير المؤمنين عليه السّلام الى الوادي فلما قرب من شفيره امر المائة الذين صحبوه ان يقفوا بقرب الشفير و لا يحدثوا شيئا حتى يؤذن لهم، ثم تقدم فوقف على شفير الوادي و تعوّذ باللّه من اعدائه و سمى اللّه عز اسمه و اومى الى القوم الذين اتبعوه ان يتقربوا منه، فقربوا و كان بينه و بينهم فرجة مسافتها غلوة سهم ثم رام الهبوط الى الوادي فاعترضت ريح عاصف كاد

ص:235


1- 1) هو العالم الفاضل الشهير المولى خليل القزويني رحمه اللّه المتوفى (1089) ه له آراء و اقوال غريبة و اعوجاج في السليقة و كلمات عجيبة في فهم عبارات الائمة عليهم السّلام راجع الى روضات الجنات و [1]غيرها.

ان تقع على وجوههم لشدتها و لم تثبت على الارض من هول الخصم و من هول ما لحقهم فصاح امير المؤمنين عليه السّلام اما علي بن ابي طالب بن عبد المطلب وصي رسول اللّه و ابن عمه اثبتوا ان شئتم، فظهر للقوم اشخاص على صورة الزطّ (1)خيّل في ايديهم شعل النيران قد اطمأنوا و اطافوا بجنبات الوادي، فتوغلّ امير المؤمنين عليه السّلام بطن الوادي و هو يتلوا القرآن و يومي بسيفه يمينا و شمالا، فما لبثت الاشخاص حتى صارت كالدخان الاسود و كبّر امير المؤمنين عليه السّلام ثم صعد من حيث هبط فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى اسفر الموضع عما اعتراه.

فقال له اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما لقيت يا ابا الحسن فلقد كدنا ان نهلك خوفا و اشفقنا عليك اكثر مما لحقنا، فقال عليه السّلام انه لما تراءى لي العدو، جهرت فيهم باسماء اللّه فتضاءلوا، و علمت ما حلّ بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خائف منهم، و لو بقوا على نياتهم لاتيت على آخرهم و قد كفى اللّه كيدهم و كفى المؤمنين شرهم و ستسبقني بقيتهم الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يؤمنون به و انصرف امير المؤمنين عليه السّلام بمن معه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اخبره الخبر فسرى (فسر ظ) عنه و دعى له بخير، و قال له قد سبقتك يا علي من اخافه اللّه بك و اسلم و قبلت اسلامه، ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطع (قطعوا خ) الوادي آمنين غير خائفين اقول هذا الحديث رواه العامة و الخاصة، و مثله قتاله عليه السّلام مع جنّ وادي البصرة، و ايضا في المدينة الطيّبة قد قاتلهم و في زمن خلافته اتاه الثعبان و هو على المنبر في مسجد الكوفة و كان ابن خليفته على الجن و قد كان مات ابوه فخلفه موضع ابيه و كان اسمه عمرو بن عثمان و خرج ذلك الثعبان من الباب التي اشتهرت بباب الثعبان، و لما اشتهر ذلك الباب بهذا الوصف ربط به بنو امية فيلا ليقال له باب الفيل، فانكار الجن في هذه الاعصار انكار للضروريات، و قد كان منهم رجل اسمه عبد علي و امرأة اسمها حنّاء يطرقان محلتنا في بعض الايام لاجل بعض مصالحهما، فحصل بينهما و بين اهل تلك المحلة نوع صداقة ربما سألناهما عن احوال ما غاب عنّا من البلدان و عن اهلها و احوالهم ذلك اليوم و يكون كما قالا.

و كان للصادق عليه السّلام جماعة من الجنّ يخدمونه و يرسلهم الى الاماكن البعيدة روى عن سدير الصيرفي قال اوصاني ابو جعفر عليه السّلام بحوائج له بالمدينة فخرجت فبينا انا في فج الروحا، و هو موضع بين الحرمين على ثلاثين ميلا، اذ انسان يلوى بثوبه قال فملت اليه و ظننت انه عطشان فناولته الاداوة، فقال لي لا حاجة لي بها و ناولني كتابا طينه رطب، قال فلما نظرت الى الخاتم فاذا

ص:236


1- 1) الزط بضم الزاي و تشديد المهملة جنس من السودان و الهنود و هندي و هنود مثل زنجي و زنوج و زنوج و زط زطا الذباب: صوت في اقرب الموارد: الزط طائفة من اهل الهند معرب جت و اليهم تنسب الثياب الزطية الواحد زطى فلان.

خاتم ابي جعفر عليه السّلام فقلت متى عهدك بصاحب الكتاب، قال الساعة، و اذا بالكتاب اشياء يأمرني بها ثم التفت فاذا ليس عندي احد قال ثم قدم ابو جعفر عليه السّلام فلقيته، فقلت له جعلت فداك رجل أتاني بكتابك و طينه رطب فقال يا سدير ان لنا خدما من الجن فاذا اردنا السرعة بعثناهم، و في رواية اخرى قال ان لنا اتباعا من الجن كما ان لنا اتباعا من الانس فاذا اردنا امرا بعثناهم.

و روى عن النعمان بن بشير قال، كنت مزاملا (1)جابر بن يزيد الجعفي فلما ان كنّا بالمدينة دخل على ابي جعفر عليه السّلام فودعه و خرج من عنده و هو مسرور، حتى وردنا الاخيرجة اول منزل يعدل من فيد الى المدينة يوم الجمعة فصلينا الزوال، فلما نهض بنا البعير اذا انا برجل من طوال آدم مع كتاب فناتوله جابرا فتناوله فقبّله و وضعه على عينيه و اذا هو من محمد بن علي الى جابر بن يزيد، و عليه طين اسود رطب فقال له متى عهدك بسيدي، فقال الساعة فقال له قبل الصلوة او بعد الصلوة، فقال بعد الصلوة قال ففكّ الخاتم فأقبل يقرء و يقبض وجهه حتى اتى على آخره، ثم امسك الكتاب فما رأيته ضاحكا و لا مسرورا حتى وافى الكوفة، فلما وافينا الكوفة ليلا بتّ ليلتي فلما اصبحت اتيته إعظاما له فوجدته قد خرج عليّ و في عنقه كعاب قد علقها و قد ركب قصبة و هو يقول أجد منصور بن جمهور اميرا غير مأمور.

و ابياتا من نحو هذا فنظر في وجهي و نظرت في وجهه فلم يقل لي شيئا و لم اقل له و أقبلت ابكي لما رأيته، و اجتمع عليّ و عليه الصبيان و الناس و جاء حتى دخل الرحبة فأقبل يدور مع الصبيان و الناس يقولون جنّ جابر بن يزيد، فو اللّه ما مضت الايام و الليالي حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك الى واليه، ان أنظر رجلا يقال له جابر بن يزيد الجعفي، فاضرب عنقه و ابعث اليّ برأسه فالتفت الى جلسائه فقال لهم من جابر بن يزيد الجعفي، قالوا اصلحك اللّه كان رجلا له فضل و علم و حديث و حجّ فجنّ و هو اذا في الرحبة مع الصبيان على الصقب يلعب معهم، قال فاشرف عليه فاذا هو مع الصبيان يعلب على القصب فقال الحمد للّه الذي عافاني من قتله، قال و لم تمض الايام حتى دخل منصور بن جمهور الكوفة، فصنع ما كان يقول جابر.

و الحاصل انه بقى متكلفا للجنون كل زمان هشام فلما جاء خبر نعيه فما اصبح الصباح الا و قد جلس جابر في مسجد المدينة يحدث الناس عن الباقر عليه السّلام و ذلك الرسول الذي ناوله الكتاب كان من الجانّ، و قد كان جماعة من الجانّ يصعدون النخل عند رجل من اهل بلدتنا و قد كان منفردا بمنزله و كان منزله في بستان نخل له فاذا صعدوا رموه بالحجارة و كان يشاهدهم و يسمع كلامهم و كانهم قصدوا اخراجه من ذلك المنزل فجمع رجالا ذات ليلة، و لما شاهدوا الجن على

ص:237


1- 1) الوميل الذي يزاملك أي يعادلك في المحمل و الزميل الرفيق في السفر الذي يعينك على امورك و الزميل الرديف.

رأس النخلة صعدوا اليهم فرموا بأنفسهم الى الماء و بقى منهم عباة صغيرة قصيرة ليس على صنعة الناس بل صنعتها على نمط غريب.

و اعلم ان جماعة منهم و هو نوع من الغول الجاني يسكن بلادنا الجزائر في الشطوط و المياه و يسمونه طنطلا بلغتهم و هو اسود البدن طوله كطول النخلة اجعد الشعر اقدامه كحافر الفيل، و قد شاهده بعض ثقاة اخواننا في شط الفرات، و من خواصه انه يأتي الى الانسان اذا تفرد به فيركبه، و ربما اضر بذلك الشخص ركوبه و يخاف من الجري خوفا كثيرا و ذلك انهم عرفوه بهذه الصفة، فاذا اصطادوا السمك صادوا جرية و حفظوها معهم حتى اذا جاء اليهم ذلك الغول، و اراد الاضرار بهم اخرجوا اليه تلك الجرية و ضربوه بها حتى يرمي بنفسه الى الماء فلا يرونه بعد هذا، و الجن و الشياطين يسكنون الهوى و المياه و كذا بعض الملائكة و من ثم كره تطميح البول في الهواء و كذا كره البول في الماء و دخول الانهار و المياه بغير ازار استحياء من ساكنيها و لئلا يؤذيهم فيؤذونه.

و اما اكل الجانّ فهو العظام و ما شابهه اما بالاكل حقيقة و اما انهم يشمونها فيشبعون و كلاهما قد روى في الاخبار، و من ثم كره انتهاك العظام و هو المبالغة في اخذ ما عليها من اللحم، و قال عليه السّلام انها طعام من الجن (الجان) فاذا انتهكت العظم اخذوا من طعامك ما قابله، و الجمع بين الخبرين إمّا بتعدد انواعهم بان يكون منهم من يشمّ العظام و منهم من يأكلها و اما بالقول بأن العظام طعامهم تارة يأكلونها، و تارة أخرى يشمونها و تكون غذاء لهم على التقديرين، و الحق ان هذا طعامهم المعتاد و الا فهم يأكلون من طعامنا ايضا فأنه قد شوهد متواترا ان الناس يصنعون طعاما خاصا لهم في بعض الاوقات و يضعونه في مكان خاص بالقرب منهم و لعلهم يشاهدونه في بعض الاحوال، و تأكله الجان و في الروايات عن الطاهرين عليهم السّلام ان الطعام اذا حضر بين ايدي الجماعة حفته ملائكة و شياطين، فاذا ذكروا اسم اللّه قبل الاكل او ذكره واحد منهم اقبل الملائكة على الشياطين فطردوهم، و ان لم يذكروا اسم اللّه على الطعام قربت الجن و الشياطين فأكلوا معهم، و من هنا ترى الطعام يؤكل سريعا و لم يشبع القوم، و يقال ليس لهذا الطعام بركة و سيأتي تمام هذا البحث في آداب الاكل ان شاء اللّه تعالى، و اما طعام دوابهم فقد روى انه الروث، و هو ايضا إما بالاكل او بالشمّ، و قد عرفت ان من جملة ما في الهوى البحر المكفوف بقدرته سبحانه، و فيه انواع المخلوقات و ما يعلم خلق ربك الا هو هذا مجمل ما في العالم العلوي و أتت نوبة العالم السفلي.

ص:238

نور ارضي

اعلم ان اللّه سبحانه قد تمدّح في معرض الامتنان بخلق الارض فقال أ لم نجعل الارض مهادا و الجبال اوتادا و قوله فمهدنا فنعم الماهدون، فنحن كالاطفال و الارض مهدنا و هو تعالى المربي لنا و المنعم، و من هذا نعت به نفسه كل وصف فقال الحمد رب العالمين أي مربيهم و مرقّيهم في المراتب الحسية و المعنوية الى درجات الكمال و الارض طبقات كما ان السموات طبقات و قد اختلف الاخبار في ترتيب ما تحت الارض، ففي كثير منها ان قرار الارض على عاتق ملك و قد ما ذلك الملك على صخرة و الصخرة على قرن ثور و الثور قوائمه على ظهر الحوت في اليّم الاسفل، و اليمّ على الظلمة و الظلمة على العقيم، و العقيم على الثرى، و ما يعلم تحت الثرى الا اللّه تعالى.

و في خبر آخر عن الصادق عليه السّلام قال فيه ان اللّه خلق النهار قبل الليل و الشمس قبل القمر و الارض قبل السماء و وضع الارض على الحوت في الماء و الماء على صخرة مجوفة و الصخرة على عاتق ملك، و الملك على الثرى، و الثرى على الريح العقيم، و الريح على الهوى تمسكه القدرة، و ليس تحت الريح العقيم الا الهوى و الظلمات، و لا وراء ذلك سعة و لا ضيق و لا شيء يتوهّم، ثم خلق الكرسي فحشاه السموات و الارض، و الكرسي اكبر من كل شيء خلق اللّه، ثم خلق العرش فجعله اكبر من الكرسي، و يمكن الجمع بين الخبرين بحمل الحوت و الثور على انهما ملكان بشكل الحوت احدهما و بشكل الثور الاخر كما في حامل العرش، فان كل واحد بصورة حيوان كما تقدم، او ان يقال بتعدد الهقيم فتكون واحدحة حاملة للثرى، و الاخرى محمولة له و نحو ذلك.

فان قلت ما معنى قولهم عليهم السّلام انه عند الثرى ينقطع علم العلماء كما قال في الحديث الاول و ما يعلم تحت الثرى الا اللّه تعالى مع ما ورد من شمول علم الائمة عليهم السّلام و احاطته بما فوق الثرى و ما تحته قلت يجوز ان يكون معناه ان العلم المأذون لهم في تبليغه للأمة و إلقائه اليهم هو ما ينتهي الى الثرى فاذا انتهى الحال اليه انقطع العلم المأذون لهم بتبليغه و يجوز ان يكون من اسرار الحرف الذي هو جزء من الاسم الاعظم الذي امتاز اللّه سبحانه بعلمه و لم يعلمه نبيا فمن دونه كما سبق في الانوار المتقدمة.

فان قيل كيف بيّن عليه السّلام في الحديث الاخير ما تحت الثرى من العقيم و الهوى قلت يجوز ان يكون المراد بما تحت الثرى من العلم الذي حجب عن الناس هو العلم بتفاصيله مفصلا بأن يكون للظلمات و الهوى التي هي تحت الثرى احوال غريبة و اوضاع عجيبة حجب علمها عن ان يعلم

ص:239

للخلايق او انه تعالى استأثر به لا بذلك المجمل و يؤيده انه قد ورد في الاحاديث تفاصيل احوال ما فوق الثرى و عدم ذكر احوال التي تحته.

و اعلم انه قد وقع الخلاف بين الحكماء و المنجمين في سكون الارض و تحركها فذهب الاكثر الى انها ساكنة غير متحركة و ذهب آخرون الى انها هاوية أي متحركة الى اسفل دائما ابدا فلا تزال الارض تنزل في خلاء غير متناه لما في طبيعتها من الاعتماد و الثقل الهابط، و ذهب ثالث الى انها تدور متحركة على مركز نفسها من المغرب الى المشرق خلاف الحركة اليومية و الحركة اليومية لا توجد على هذا التقدير و انما يتخيل بسبب حركة الارض ان يتبدّل الوضع من الفلك بالقياس الينا دون اجزاء الارض اذ لا يتغيّر الوضع بيننا و بينها فانا على جزء معين منها فانها اذا تحركت من المغرب الى المشرق ظهر علينا من جانب المشرق كواكب كانت مخفية عنّا بحدبة الارض و خفى عنّا بحدبتها من جانب المغرب كواكب كانت ظاهرة علينا فيظنّ لذلك ان الارض ساكنة في مكانها و المتحرك هو الفلك فيكون حينئذ متحركا من المشرق الى المغرب و ذلك كراكب السفينة فانه يرى السفينة ساكنة مع حركتها حيث لا يتبدّل وضع اجزائها منه و يرى الشطّ متحركا مع سكونه حيث يتبدّل وضعه منه مع ظنّ انه ساكن في مكانه و كذلك يرى القمر سائرا الى الغيم حين يسير الغيم اليه و غير ذلك من الامور التي يغلط بها الحسّ.

و اما الوارد في الشريعة المطهرة فهو كونها ساكنة و ان الجبال اوجبت سكونها قال اللّه تعالى وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ و قال تعالى وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً روى عن ابن عباس انه قال ان الارض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة فأرساها اللّه تعالى بالجبال و ذكروا لهذا وجوها أحدها ما قاله الرازي في التفسير و هو انّ السفينة اذا القيت على وجه الماء فأنها تميل من جانب الى جانب و تضطرب فاذا وقعت الاجرام الثقيلة فيها استقرت على وجه الماء فكذلك لمّا خلق اللّه تعالى الارض على وجه الماء اضطربت و مادت فخلق اللّه تعالى عليها هذه الجبال و وتدها بها فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل الجبال ثم اعترض على هذا و حاصله ان حركات الاجسام طبيعية و لا شك ان الارض اثقل من الماء و الاثقل يغوص في الماء و لا يبقى طائفا عليه فامتنع ان يقال انها كانت تميد و تضطرب بخلاف السفينة فانها متخذة من الخشب و في داخل الخشب تجويفات غير مملوة فلذلك تميد و تضطرب على وجه الماء فاذا ارسيت بالاجسام الثقيلة استقرت و سكنت فظهر الفرق.

و اجاب عن هذا الاشكال شيخنا المحقق ادام اللّه ايامه بان الارض و ان كانت ثقيلة و في طبعها طلب المركز لكنّ الماء يحركها بأمواجه حركة قسرية و يزيلها عن مكانها الطبيعي بسهولة،

ص:240

فكانت تميد و تضطرب بأهلها و تغوص قطعة منها و تخرج قطعة و لما ارساه اللّه تعالى بالجبال و ثقّلها قاومت الماء و امواجها بذلك الثقل فكانت كالاوتاد مثبتة لها.

و ثانيها ما قاله الرازي ايضا بعد ان زيّف الوجه الاول بايراد اشكالات كما هو شأنه في التشكيك حتى ان المحقق الداماد قدس اللّه زكي ترتبته سمّاه شيخ المشككين لكثرة تشكيكه في المسائل، قال و الذي عندي في هذا الموضع المشكل ان يقال انه ثبت بالدلائل اليقينة ان الارض كرة، و ان هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات و تضريسات تحصل على وجه هذه الكرة، اذا ثبت هذا فنقول اذا فرضنا هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الارض كرة حقيقية خالية عن هذه الخشونات و التضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لان الجرم البسيط المستدير و ان لم يجب كونه متحركا بالاستدارة عقلا الا انه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه اما اذا حصل على سطح كرة الارض هذه الجبال و كانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال انما يتوجه طبعه الى مركز العالم، و توجه ذلك العالم نحو مركز العالم بثقله العظيم و قوته الشديدة يكون جاريا مجرى الوتد الذي يمنع كرة الارض من الاستدارة فكان تخليق هذه الجبال على الارض كالاوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها من الحركة المستديرة او كانت مانعة للارض عن الميد و الميل و الاضطراب بمعنى انها منعت الارض عن الحركة المستديرة، فهذا ما وصل اليها خاطري في هذا الباب و اللّه اعلم، و اعترض بعض افاضل العصر عليه بوجوه كثيرة لا نطول الكلام بذكرها.

و ثالثها ما قاله بعض مشائخنا من ان يكون مدخلية الجبال بعدم اضطراب الارض بسبب اشتباكها و اتصال بعضها في بعض اعماق الارض بحيث يمنعها عن تفتت اجزائها انفكاكها، فهي بمنزلة الاوتاد و المسامير المثبتة في الابواب المركبة من قطع الخشب بحيث تصير سببا لالتزاق بعضها ببعض، و هذا معلوم ظاهر لمن حفر الابار في الارض فانها تنتهي عند المبالغة في حفرها الى الاحجار الصلبة.

و رابعها ما قاله بعض المحدثين من ان المراد بالجبال و الرواسي الانبياء و الاولياء و العلماء و بالارض الدنيا، اما وجه التجوّز بالجبال عن الانبياء و العلماء فلان الجبال لما كانت على غاية من الثبات و الاستقرار و مانعة لما يكون تحتها من الحركة و الاضطراب عاصمة لما يلتجي اليها من الحيوان عما يوجب له الهرب فيسكن بذلك اضطرابه و قلقلته اشبهت الاوتاد من بعض هذه الجهات، ثم لما كانت الانبياء و العلماء هم السبب في انتظام امور الدنيا و عدم اضطراب احوال اهلها كانوا كالاوتاد للارض فلا جرم صحّت استعارة لفظ الجبال لهم، و لذلك يقال في العرب فلان جبل منيع يأوي اليه كل ملهوف، اذا كان يرجع اليه في المهمات و الحوائج و العلماء اوتاد اللّه

ص:241

في الارض، و الحق ان العلماء و ان ورد في الاخبار اطلاق الاوتاد عليهم بل قد فسّر بهم اوتاد الآيات الا ان ذلك تفسير لباطن الآيات، و اما الظاهر فقد فسرت في الاخبار ايضا فالاعراض عن ارادة الظاهر و الاقتصار على ارادة بواطن الآيات كما هو أدب بعض المعاصرين ليس من دأب المحققين.

و اعلم ان وراء هذه الارض ارضا أخرى روى عجلان بن ابي صالح قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن قبّة آدم فقلت له هذه قبة آدم، فقال نعم و للّه قباب كثيرة ان خلف مغربكم هذا تسعة و ثلاثين مغربا ارضا بيضاء مملوة خلقا يستضيئون بنورها لم يعصوا اللّه طرفة عين لم يدروا ان اللّه عز و جل خلق آدم ام لم يخلقه يبرأون عن فلان و فلان و فلان قيل كيف هذا و كيف يبرأون من فلان و فلان و فلان، و هم لا يدرون ان اللّه خلق آدم ام لم يخلقه فقال للسائل عن ذلك أ تعرف ابليس، فقال لا الا بالخبر، فقال أ فأمرت بلعنته و البراءة منه قلن (قال ظ) نعم قال و كذلك امر هؤلاء.

و روى جابر بن يزيد عن ابي جعفر عليه السّلام قال ان وراء شمسكم هذه اربعين عين شمس ما بين عين شمس الى عين شمس أخرى اربعون عاما، فيها خلق كثير ما يعلمون ان اللّه خلق آدم أم لم يخلقه، و ان من وراء قمركم هذا اربعين قرصا ما بين القرص الى القرص اربعون عاما، فيها خلق كثير ما يعلمون ان اللّه خلق آدم ام لم يخلقه، قد الهموا كما الهمت النحل لعنة الاول و الثاني و الثالث في كل الاوقات، و قد و كلّ بهم ملائكة متى لم يعلنوا عذّبوا، و سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما خلف جبل قاف، قال خلفه سبعون ارضا من ذهب و سبعون ارضا من فضة و سبعون ارضا من مسك و خلفه سبعون ارضا سكانها الملائكة لا يكون فيها حرّ و لا برد، و طول كل ارض مسيرة عشرة آلاف سنة، قيل و ما خلف الملائكة قال حجاب من ظلمة، قيل و ما خلفه، قال حجاب من ريح قيل و ما خلفه قال حجاب من نار، قيل و ما خلف ذلك قال علم اللّه تعالى و قضائه و سأل عن عرض قاف و طوله و استدارته فقال عليه السّلام عرضه مسيرة الف سنة من ياقوت احمر قصته (1)ن فضة بيضاء و زّجه من زمردة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور ذوابة بالمشرق و ذوابة بالمغرب و الاخرى في وسط السماء عليها مكتوب الاول بسم اللّه الرحمن الرحيم، الثاني الحمد للّه رب العالمين، الثالث لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه.

و اعلم ان من جملة حوادث الارض الزلازل و ذكر الحكماء في سببه ان البخار اذا احتبس في الارض يميل الى جهة و يبرد بالارض فقلب مياها مختلطة بأجزاء بخارية ان قلّ، فاذا كثر

ص:242


1- 1) القصة و القصة و القص الجص لغة حجازية و قيل الحجارة من الجص و قد قصص داره أي جصصها و في الحديث نهى رسول اللّه ص عن تقصيص القبور و هو بناؤها بالقصة (لسان العرب) . [1]

بحيث لا تسعه الارض اوجب انشقاق الارض و انفجار العيون، و اذا غلظ البخار بحيث لا ينفذ في مجاري الارض بأن كانت الارض كثيفة عديمة المسام اجتمع فجنح طالبا للخروج و لم يمكنه النفوذ فزلزلت الارض و ربما قويت المادة على شقّ الارض فيحدث صوت هائل، و قد تخرج نار لشدة الحركة المقتضية لاشتعال البخار و الدخان الممتزجين على طبيعة الدهن، هذا كلامهم قاتلهم اللّه و اخزاهم، و اما الذي ورد عن الائمة الطاهرين عليهم السّلام.

فمنها ما رواه الصدوق عن الصادق عليه السّلام قال ان ذا القرنين لما انتهى الى السد جاوزه فدخل في الظلمات فاذا هو بملك قائم على جبل طوله خمسمائة ذراع، فقال له الملك يا ذا القرنين اما كان خلفك مسلك، فقال له ذو القرنين من انت قال انا ملك من ملائكة الرحمن موكّل بهذا الجبل و ليس من جبل خلقه اللّه الا و له عرق متّصل بهذا الجبل، فاذا اراد اللّه عز و جل ان يزلزل مدينة اوحى اليّ فزلتها، و منها ما روى عنه عليه السّلام أنه قال ان اللّه تبارك و تعالى خلق الارض فأمر الحوت فحملتها فقالت حملتها بقوتي فبعث اللّه عز و جل اليها حوتا قدر قشر فدخلت في منخرها فاضطربت اربعين صباحا، فاذا اراد اللّه ان يزلزل ارضا ترائت لها تلك الحوتة الصغيرة فزلزلت الارض خوفا، و منها ما روى عنه عليه السّلام انه قال ان اللّه تبارك و تعالى امر الحوت ان تحمل الارض و كل بلد من البلدان على فلس من فلوسه، فاذا اراد اللّه تبارك و تعالى ان يزلزل ارضا امر الحوت ان تحرّك ذلك الفلس فتحركه، و لو رفع الفلس لانقلت الارض باذن اللّه عز و جل و هذه العلل كلها حق و كلها اسباب و يجمعها ارادة الاستعتاب و التوبة من العباد بعد صدور الذنوب الموبقة منهم.

و لقد حدث في عشر الثمانين بعد الالف زلازل بطوس حتى خرّبت البنيان و اهلكت النفوس فذهب من المشهد الرضوي على صاحبه افضل الصلوات الاف من الانفس من الرجال و النساء و تصدّعت قبته عليه السّلام و ذهب من نيشابور فوق اربعة الاف انسان، و قد حدث في شيروان زلازل انقلبت منها بلاد كثيرة و تحولت بها رساتيق من اماكنها الى امكنة بعيدة عن مكانها الاول و ذهبت انفس لا يحصى عددها الا اللّه سبحانه، و كذلك حدث في سنة التاسعة و الثمانين بع الالف و هي سنة تاريخ تأليف هذا الكتاب زلازل في بلاد طبرستان حتى ساخت منها بعض البلدان تحت الارض و انقبلت به بعض البلاد و هلكت النفوس، و روى عن الصادق عليه السّلام قال اذا فشت ظهرت اربعة، اذا فشا الزنا ظهرت الزلازل، و اذا امسكت الزكوة هلكت الماشية، و اذا جار الحكام في القضا امسك القطر من السماء و اذا خفرت الذمة نصر المشركون و خفر الذمة نقض العهد.

ص:243

و روى ان الارض التي يزنى عليها تضج الى اللّه تعالى شاكية، بل ورد ان سبب الوبا هو الزنا و ذلك ان الارض لا تقبل غسالة الزاني فيصير ذلك الماء بخارا فيرتفع الى السماء فلا تقبله السماء ايضا فينزل على جنسه على الابار و العيون و الغدر ان و الانهار و البحار فيتكيّف الهوى عند مرور البخار عليه مرتين بشمومها و سمومها، و يتكيّف المياه ايضا و أشدّ ما يحتاج اليه الناس في استقامة الامزجة و يخافون منه في انحرافها هو الهوى ثم الماء فيتنفسون في ذلك الهوى المسموم و يشربون من ذلك الماء فتحصل المواد الفاسدة في امزجتهم فتنزل و تظهر في بعض الاعضاء، و لهذا يكثر وقوعه على الاطفال الضعيفة الامزجة و الغرباء الغير المعتاد لهواء تلك الارض، و روى انه سبب الطاعون و ذلك ان الزنا اذا كثر في ارض سلّط اللّه على اهلها جنودا من الجن يحاربونهم و يطعنونهم بحرابهم و يجردونهم و يروعونهم بالتشكل و التخيل في عيونهم فتارة يتمثلون بصور الكلاب و الذئاب و طورا بصور الطوايف المبتدعة الهائلة الصور.

و في الروايات ان يوشعا عليه السّلام قاد بني اسرائيل بعد موت موسى عليه السّلام من التيه الى بلدة الجبابرة و حاصروها فطلب اهلها ان يدعو بلعم على يوشع كما دعى على موسى عليه السّلام فقال لهم و ما دعاء الكافرين الى في ضلال، و لكن اخرجوا اليهم الزواني و الفواحش، ففعلوا فاختلط الرجال بالنساء و كثر الزنا فيما بين جنود يوشع فوقع فيهم الطاعون فهلك خلق كثير فأمر يوشع عساكره (عينا ظ) فطعن رجلا على امرأة حتى نفذ الرمح من ظهر الرجل و خرج من ظهر المرأة فرفعهما على سنان الرمح و نصب الرمح في وسط المعسكر و هما على السنان، فأمر مناديا ينادي في العسكر الا من زنى بعد اليوم فاني اصنع به ما صنعت بهذين فانقطع فعل الزنا و ارتفع الطاعون، و عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال اياكم و الزنا فان فيه عشر خصال نقصان العقل و الدين و الرزق و العمر، و آفة الهجران، و غضب الرحمن و هجوم النسيان، و بغض اهل الايمان و ذهاب ماء الوجه و ردّ الدعاء و العبادة، و لا يستبعد مثل هذه التاثيرات، فقد روى ان آدم عليه السّلام تقيأ ما اكل من شجرة الحنطة على الارض بعد ما بي في بطنه ثلاثين يوما فنبت منه السموم المعدنية و النباتية، و ما بقي من قوته في صلب آدم تولّد قابيل فاذا كان الحرام في بطن آكله سمّا مضرا له و لغيره الى ان ظهر اثره في نطفته و نسله فليس بعجيب.

و من تأثيرات الزنا و مقدماته سرايته الى الزاني و محرماته، روى ان رجلا سقّاء كان في بلاد بخارى و كان يجيء دار صائغ منذ ثلاثين سنة و لم يصدر منه نظر سوء قطّ، فيوما جعل السقاء يمسك زوجة الصايغ من زندها و يلمسها و يقبلها و يضمها الى نفسه حتى فعل غير الجماع من دواعيه، فراخ السقّاء و جاء الصايغ فسألته امرأته عن فعله في السوق ذلك اليوم و الحتّ عليه في الصدق قال ان امرأة كشف زندها لتدخلها في السوار فلما رأيت ساعدها لمستها بسكر الشهوة،

ص:244

و قبلت المرأة و فعلت بها غير الجماع من دواعيه فكبّرت زوجته و اخبرته بقصة السقاء، و روى عن النبي ص انه قال لكل عضو من ابن آدم حظّ من الزنا فالعين زناها النظر، و اللسان زناه الكلام، و الاذنان زناهما السمع و اليدان زناهما البطش، و الرجلان زناهما المشي، و الفرج يصّدق ذلك و يكذبه، و روى ايضا انه كان في زمان داود عليه السّلام رجل فاسق فأتى يوما الى امرأة رجل فقير ليزني بها فلما اشتغل بالزنا وقع في قلبه ان رجلا يزني بامرأته فلما اتى منزله وجد رجلا فوق بطن امرأته فأخذه الى داود عليه السّلام ليقيم عليه الحد، فأوحى اللّه تعالى الى داود قل له كما تدين تدان، زنيت بامرأة الرجل الفلاني فزنى رجل بامرأتك و في الحديث ان من زنى فقد زنى به فان لم يكن به فبأولاده و ذراريه، و قد عدّ الزنا من الكبائر، و من هذا كان للمتعفف منه و التائب بعد فعله درجة في الدنيا و الاخرة لا يدانى فيها.

روى الكليني قدس اللّه روحه باسناده الى اسحاق بن عمار عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال كان ملك في بني اسرائيل و كان له قاض، و للقاضي أخ و كان رجلا صدقا، و كان له امرأة قد ولّدتها الانبياء فاراد الملك ان يبعث رجلا في حاجة فقال للقاضي إيتني رجلا ثقة، فقال ما اعلم احدا اوثق من اخي فدعاه ليبعثه فكره ذلك الرجل و قال لاخيه اني اكره ان اضيع امرأتي فعزم عليه فلم يجد بدا من الخروج، فقال لاخيه يا اخي اني لست اخلف شيئا أهم اليّ من امرأتي فاخلفني و توّل قضاء حاجتها، قال نعم فخرج الرجل و قد كانت المرأة كارهة لخروجه و كان القاضي يأتيها و يسألها عن حوائجها و يقوم بها، فأعبجته فدعاها الى نفسه فأبت عليه فحلف عليها لئن لم تفعلي لاخبرنّ الملك انها قد فجرت فقالت اصنع ما بدا لك لست اجيبك الى شيء مما طلبت، فأتى الملك فقال ان امرأة اخي فجرت و قد حقّ ذلك عندي فقال له الملك طهّرها فجاء اليها فقال ان الملك قد امرني برجمك فرجمها و معه الناس فلما طنّ انها قد ماتت تركها و انصرف و جنّها الليل و كان بها رمق فتحركت و خرجت من الحفرة ثم مشت على وجهها حتى خرجت من المدينة.

فانتهت الى دير فيه ديراني فنامت على باب الدير فلما اصبح الديراني فتح الباب فرءاها فسألها عن قصتها فخبرته فرحمها و ادخلها، و كان له ابن صغير لم يكن له غيره و كان حسن الحال فداواها حتى برأت من علتها و اندملت، ثم دفع اليها ابنه فكانت تربيه و كان للديراني قهرمان يقوم باوامره فأعجبته فدعاها الى نفسه فأبت فجهد بخا فأبت فقال لها لئن لم تفعل لاجهدنّ في قتلك، فقالت اصنع ما بدا لك فعمد الى الصبي فدقّ عنقه و اتى الديراني، فقال له عمدت فاجرة فجرت فدفعت اليها ابنك فقتلته، فجاء الديراني فلما رآه قال لها ما هذا فقد تعلمين صنيعي بك فأخبرحته بالقصة فقال لها ليس تطيب نفسي ان تكوني عندي فاخرجي فاخرجها ليلا و دفع اليها عشرين درهما و قال لها تزودي هذه الليلة حسبك فخرجت ليلا.

ص:245

فأصبحت في قرية فاذا فيها مصلوب على خشبة و هو حيّ فسألت عن قصته فقالوا لها عليه دين عشرون درهما و من كان عليه دين عندنا عشرون درهما لصاحبه صلبه حتى يؤدي الى صاحبه، فأخرجت العشرين درهما و دفعتها الى غريمه و قالت لا تقتلوه فانزلوه عن الخشبة فقال لها ما احد اعظم عليّ منّة منك نجيتني من الصلب و من الموت انا معك حيث ما ذهبت، فمضى معها و مضت حتى انتهيا الى ساحل البحر فرأى جماعة و سفنا فقال لها اجلسي حتى اذهب انا اعمل لهم و استطعم و آتيك به، فأتاهم فقال لهم ما في سفينتكم هذه قالوا هذه تجارات و جواهر و عنبر و اشياء من التجارة، و اما هذه فنحن فيها قال و كم يبلغ ما في سفينتكم هذه، قالوا كثيرا لا نحصيه قال فان معي شيئا خطيرا هو خير مما في سفينتكم، قالوا و ما معك، قال جارية لم تروا مثلها قطّ، قالوا فبعناها قال نعم على شرط ان يذهب بعضكم فينظر اليها ثم يجيء و يشتريها و لا يعلمها و يدفع اليّ الثمن و لا يعلمها حتى امضي انا، فقالوا ذلك لك فبعثوا من نظر اليها فقال ما رأيت مثلها قطّ فشتروها منه بعشرة الاف درهم، و دفعوا اليه الدراهم و مضى لها فلما امعن اتوها فقالوا لها قومي و ادخلي السفينة، قالت لم؟ قالوا اشتريناك من مولاك، قالت ما هو بمولاي قالوا تقومين او لنحملنّك فقامت و مضت معهم، فلما انتهوا الى الساحل لم يأمن بعضهم بعضا عليها فجعلوها في السفينة الى فيها الجواهر و التجارة، و ركبوا في السفينة الاخرى فدفعوها فبعث اللّه عز و جل ريحا فغرقتهم و سفينتهم و نجت السفينة التي كانت فيها حتى انتهت الى جزيرة من جزائر البحر، فخرجت من السفينة و ربطتها ثم دارت في الجزيرة فاذا فيها ماء و شجر فيه ثمر فقالت هذا ماء اشرب منه و ثمر آكل منه اعبد اللّه في هذا الموضع.

فأوحى اللّه الى نبي من انبياء بني اسرائيل ان يأتي ذلك الملك فيقول له ان في جزيرة من جزائر البحر خلقا من خلقي فاخرج انت و من في مملكتك حتى تأتوا خلقي هذا و تقروا له بذنوبكم، ثم تسألوا من ذلك الخلق ان يغفر لكم فان غفر لكم غفرت لكم فخرج الملك بأهل مملكته الى تلك الجزيرة فرأوا امرأة فتقدّم اليها الملك فقال لها ان قاضيّ هذا أتاني فخبّرني ان امرأتي اخيه فجرت فأمرته برجمها و لم تقم عندي البينة فأخاف ان اكون قد تقدمت على ما لا يحلّ لي فأحب ان تستغفري لي، فقالت غفر اللّه لك اجلس، ثم اتى زوجها و لم يعرفها فقال لها انه كان لي امرأة و كان من فضلها و صلاحها و اني خرجت عنها للسفر و هي كارهة لذلك، فأخبرني اخي انها فجرت فرجمها و انا اخاف ان اكون قد ضيعتها فاستغفري لي غفر اللّه لك، فقالت غفر اللّه لك اجلس فأجلسته الى جنب الملك.

ثم اتى القاضي فقال انه كان لاخي امرأة و انها اعجبتني فدعوتها الى الفجور فابت فأعلمت الملك انها قد فجرت فأمرني برجمها فرجمتها و انا كاذب عليها فاستغفري لي فقالت غفر

ص:246

اللّه لك، ثم اقبلت على زوجها فقالت إسمع، ثم تقدم الديراني فقصّ قصته و قال اخرجتها بالليل و انا اخاف ان يكون قد لقيها سبع فقتلها فقالت غفر اللّه لك اجلس، ثم تقدم القهرمان فقصّ قصته فقالت للديراني اسمع غفر اللّه لك، ثم تقدم المصلوب فقصّ قصته فقالت لا غفر اللّه لك، ثم اقبلت على زوجها فقالت انا امرأتك و كل ما سمعت فانما هو قصتي و ليست لي حاجة في الرجال فانا احب ان تأخذ هذه السفينة و ما فيها و تخلّي سبيلي فأعبد اللّه عز و جل في هذه الجزيرة فقد ترى ما لقيت من الرجال ففعل و أخذ السفينة و ما فيها و انصرف الملك و اله مملكته.

فانظر الى تقوى هذه المرأة كيف عصمها من الرجم و من تهمة القهرمان و من رقّ التجار، ثم انظر ما بلغ من كرامتها على اللّه حيث جعل رضاه مقرونا برضاها و مغفرته بمغفرتها، و كيف جعل من نصب لها مكرا و هيأ لها مكروها خاضعا لها طالبا منها المغفرة و الرضا و كيف رفع قدرها و نوّه بذكرها حيث امر نبيه بأن يحشر اليها الملوك و القضاة و العباد و يجعلوها بابا الى اللّه تعالى و ذريعة الى رضوانه، و اعجب من هذا أنه سبحانه لم يجر على لسان أحد منهم ذنبا من الذنوب سوى الذنب الذي اتوه الى المرأة مع ان ذنوب كل واحد منهم لا تكاد تحصى، خصوصا القاضي فان هذا الذنب الذي ذكره حسنة منه بالنسبة الى باقي ذنوبه، و لعمرك ان قضاة زماننا انما تعدّ حسناتهم و افعالهم الجميلة مثل ذنب ذلك القاضي فانظر الى افعالهم السيئة و الى ذنوبهم كيف تكون.

و روى عن الصادق عليه السّلام قال كان عابد في بني اسرائيل لم يقارف من امر الدنيا شيئا، فنخر ابليس نخرة فاجتمع جنوده فقال من لي بفلان بن فلان فقال بعضهم انا له، قال من اين تأتيه قال من ناحية النساء قال لست له لم يجرب النساء، قال آخر فانا له من ناحية الشراب و اللذات قال لست له، قال آخر فأنا له من ناحية البر قال انطلق فأنت صاحبه، فانطلق الى موضع الرجل فأقام حذاه يصلي، قال و كان الرجل ينام و الشيطان لا ينام و يستريح و الشيطان لا يستريح فتحوّل اليه الرجل و قد تقاصرت اليه نفسه و استصغر عمله، فقال يا عبد اللّه بأي شيء قويت على هذه الصلوة، فلم يجبه، ثم اعاد عليه، فقال يا عبد اللّه اني اذنبت ذنبا و انا تائب منه فاذا ذكرت الذني قويت على الصلاة، قال فأخبرني عن ذنبك حتى اعمله و اتوب فاذا فعلته قويت على الصلاة، قال ادخل المدينة و سل عن فلانة البغيّة فاعطها درهمين و نل منها، قال و من اين لي درهمين ما ادري ما الدرهمين فتناول الشيطان من تحت قدميه درهمين فناوله اياهما، قال فقدم المدينة بجلابيبه فسأل عن منزل فلانة البغيّة فأرشدوه الناس، فظنوا انه جاء يعظها فارشدوه فجاء اليها فرمى اليها بالدرهمين و قال قومي، فقامت و دخلت منزلها، و قالت ادخل و قالت انك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها فاخبرني، فاخبرها فقالت له يا عبد اللّه ان ترك الذنب اهون من طلب التوبة

ص:247

و ليس كل من طلب التوبة وجدها، و انما ينبغي ان يكون هذا شيطان مثّل لك، فانصرف و ماتت من ليلتها فاصبحت فاذا على بابها مكتوب احضروا فلانة فانها من اهل الجنة، فارتاب الناس و مكثوا ثلاثا لا يدفنونها ارتيابا في امرها، فأوحى اللّه عز و جل الى نبي من بني اسرائيل لا اعلمه الا موسى بن عمران ان إئت فلانة فصلّ عليها و مر الناس ان يصلوا عليها فأني قد غفرت لها، و أوجبت لها الجنة بتثبيطها فلان عبدي عن معصيتي، فانظر رحمك اللّه كيف استحقت هذه المرأة التي صرفت عمرها في الزنا مراتب الرحمة بمنعها عبدا من عباد اللّه عن الزنا.

و في الرواية عن الصادق عليه السّلام ان امرأة كانت في سفينة فانكسرت السفينة و خرجت المرأة على لوح الى جزيرة في البحر، فمشت ساعة و كان هناك رجل قاطع طريق تلك الجزيرة فلما رأى تلك المرأة قال لها انت من الانس ام من الجن، فما تمّ كلامه حتى جلس منها مجلس الرجل من المرأة فارتعدت خوفا، فقال لها مم تخافين، قالت من اللّه الذي ينظر الينا، قال لها أفعلت هذا الفعل من قبل هذا؟ قالت لا فقام من فوقها و قال انا احقّ منك بالتوبة لاني فعلت هذا مرارا بالاختيار و انت لم تفعليه و انا قد اضطررتك الى هذا فأنا تائب الى اللّه تعالى، فأخذ المرأة و سار معها الى البلد فلقيا في الطريق رجلا عابدا فترافقا معه في الطريق، فلما حميت عليهم الشمس قال العابد لذلك الرجل يا اخي تعال ندعوا اللّه ان يظللنا بغمامة نمشي تحتها، فقال له الرجل يا اخي ليس لي وجه ابيض عن اللّه تعالى و لا لي سابقة عمل ارجو به قبول الدعاء لكن ادع أنت، فقالوا ادعو انا و انت تؤمن على دعائي فدعى الراهب و امّن ذلك الرجل فاظلتهم سحابة فسارا تحتها فلما بلغا مفترق الطريقين تبعت السحابة ذلك الرجل و بقى العابد يمشي تحت الشمس فرجع العابد و قال له يا اخي أ لم تقل أنه ليس لك سابقة عمل و هذه السحابة قد سارت معك فاخبرني بما صنعت، فحكى الخبر و ماجرى من معاملة المرأة و انصرف معه السحابة.

و روى انه كان في بني اسرائيل امرأة بغية و كانت مفتتنة بجمالها و كان باب دارها ابدا مفتوحا، و هي قاعدة في دارها على السرير بحذاء الباب و كلّ من نظر اليها افتتن بها، فان اراد الدخول عليها احتاج الى احضار عشرة دنانير حتى تأذن له بالدخول فمرّ ببابها عابد فوقع بصره عليها فافتتن بها و لم يملك نفسه حتى باع قماشا له و اتى اليها بالدنانير، فأخذتها و جلس معها على السرير فلما مدّ يده اليها وقع في قلبه ان اللّه يراني على هذه الحالة فوق عرشه، و انا في الحرام و قد حبط عملي كله، فتغير لونه فنظرت اليه فقالت له أي شيء اصابك، قال اني اخاف اللّه فاذني لي بالخروج، فقالت له ويحك ان كثيرا من الناس يتمنون الذي وجدته فقال لها اني اخاف اللّه و الملك لك حلال فاذني لي بالخروج فخرج من عندها و هو يدعو بالويل و الثبور و يبكي على نفسه، فوقع الخوف في قلب المرأة، فقالت ان هذا الرجل اول ذنب اذنبه و قد دخل عليه من الخوف ما دخل

ص:248

و اين اذنبت منذ كذا و كذا سنة، و ان ربه الذي يخاف منه هو ربي و خوفي منه ينبغي ان يكون اشد، فتابت الى اللّه و اغلقت بابها و لبست ثيابا خلقة و اقبلت على العبادة فقالت في نفسها اني لو انتهيت الى ذلك الرجل فلعله يتزوجني فأكون عنده فأتعلّم منه امر ديني و يكون عونا لي على عبادة اللّه فتجهزت و حملت اموالها و خدمها فانتهت الى تلك القرية و سألت عنه فأخبر العابد انها قد قدمت امرأة تسأل عنك فخرج العابد اليها، فلما رأته المرأة كشف عن وجهها ليعرفها فلما رءاها عرفها و تذكر الامر الذي كان بينه و بينها فصاح صيحة و خرجت روحه فبقيت المرأة حزينة، و قالت اني خرجت لاجله و قد مات فهل له من اقربائه احد يحتاج الى امرأة؟ فقالوا ان له اخا صالحا و لكنه معسر ليس له مال فتزوجته فولد له منها خمسة اولاد كلهم صاروا انبياء في بني اسرائيل.

و من ذلك ما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه كان في بني اسرائيل عابد و كان قد اوتي جمالا و حسنا و كان يعمل القفاف بيده فيبيعها، فمرّ ذات يوم بباب الملك فنظرت اليه جارية لامرأة الملك فدخلت اليها فقالت لها هيهنا رجل ما رأيت احسن منه يطوف بالقفاف يبيعها، فقالت ادخليه عليّ فأدخلته فلما دخل نظرت اليه فاعجبها، فقالت له اطرح هذه القفاف، و خذ هذه الملحفة، و قالت لجاريتها هاتي الدهن يا جارية فقضى منه حاجتنا و يقضيها منّا، و قالت نغنيك عن بيع هذا، فقال ما اريد ذلك مرارا فقالت و ان لم ترده فانك غير خارج حتى نقضي حاجتنا منك و امرت بالابواب فاغلقت فلما رأى ذلك قال هل فوق قصركم هذا متوضأ؟ قالت نعم يا جارية إرقى له بوضوء فلما رقى جاء الى ناحية السطح فرأى قصرا مرتفعا و لا شيء يتعلق به ليرسل نفسه من السطح فجعل يعاتب نفسه و يقول يا نفس منذ سبعين سنة تطلبين رضاء ربك حريصة عليه في الليل و النهار ثم جاءتك عشية واحدة تفسد عليك هذا كله، انت و اللّه خائبة ان جاءتك هذه العشية ارسلي نفسك من هذا السطح تموتين فتلقى اللّه ببقية عملك فجعل يعاتبها.

قال صلّى اللّه عليه و آله فلما تهيأ ليلقى نفسه قال اللّه سبحانه لجبرئيل عليه السّلام يا جبرئيل قال لبيك و سعديك، قال عبدي يريد ان يقتل نفسه فرارا من سخطي و معصيتي فالقه بجناحك لا يصيبه مكروه، فبط جبرئيل عليه السّلام جناحه فأخذه بيده ثم وضعه وضع الوالد الرحيم لولده قال فأتى امرأته و ترك القفاف و قد غابت الشمس فقالت له امرأته اين ثمن القفاف فقال لها ما اصبت لها اليوم ثمنا، فقالت فعلى أي شيء نفطر الليلة قال نصبر ليلتنا هذه ثم قال لها قومي فاسجري تنورك فانّا نكره ان يرى جيراننا اننا لم نسجر التنور فأنهم اذا لم يروا انّا سجرنا التنور اشتغلت قلوبهم بنا، فقامت و سجرت، ثم جاءت و قعدت فجاءت امرأة من جيرانها، فقالت يا فلانة هل عندك وقود؟ فقالت نعم ادخلي و خذي من التنور، فدخلت ثم خرجت فقالت يا فلانة ما لي اراك جالسة

ص:249

تتحدثين مع فلان يعني زوجها و قد نضج خبزك في التنور يريد ان يحترق، فقامت فاذا التنور محشو خبزا نقيا فجعلته في جفنة ثم جاءت به الى زوجها، فقالت له ان ربك لم يصنع بك هذا الا و أنت عليه كريم فادع اللّه ان يبسط علينا بقية عمرنا في معاشنا، قال لها تصبري على هذا فلم تزل به حتى قال نعم افعل فقام في جوف الليل يصلي و دعا اللّه تعالى، و قال اللّه ان زوجتي قد سألتني فاعطها ما تتوسع به في بقية عمرها فانفرج السقف فنزلت اليه كفّ عليها ياقوتة بيضاء اضاء لها البيت كما يضيء الشمع، فغمز رجلها و كانت نائمة فقال لها اجلسي و خذي ما سألت فقالت لا تعجل كنت قد رأيت في المنام كأني انظر الى كراسي مصفوفة من ذهب مكلل بالياقوت و الزبرجد فيها ثلمة، فقلت لمن هذا قالوا هذا مجلس زوجك فقلت فمم هذه الثلمة فقالوا من اشتغاله بدعاء استجابة ما سألته منه فما لي حاجة في شيء أثلم عليك مجلسك أدع ربك فدعا فرجع الكف.

و قد نقل في بعض التفاسير ان رابعة العدوية قال دخلت ذات يوم على تبة و هو فيما فيه من الزهد و العبادة، فقلت له كيف بدء توبتك، قال اني كنت في حداثتي مولعا بالنساء، و كان يهواني بالبصرة اكثر من الف امرأة فخرجت ذات يوم فاذا انا بامرأة لا يتبين منها غير عينيها فكأنما قدحت من قلبي نارا، و كلمتها فلم تكلمني فقلت لها ويحك انا عتبة الذي تعشقني اكثر نساء البصرة و اكلمك فلا تكلمني، قالت فما الذي تريد مني، قلت اجيء الى ضيافتك قالت يا هذا انا مغطاة فكيف احببتني، قلت لها ان عينيك قد افتتناني قالت صدقت اني غفلت عنهما فتعال الى منزلي لتنال حاجتك فذهبت معها حتى ادخلتني دارا ما رأيت فيها شيئا من الاساس، فقلت لها ما لي أرى الدار فارغة فقالت حولّنا القماش عنها الى الدار التي قال اللّه عز و جل تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

اياك ان تبيع الجنة بالبدنيا و الحوريات بالادميات، فقلت لها دعيني من هذه التقوى و اقضي حاجتي، فقالت و لا بدّ من ذلك فقلت نعم فدخلت الى بيت آخر و تركتني فاذا في البيت الاخر عجوز، فصاحت الصبية الى العجوز و قالت لها ايتني بكوز فيه ماء اتوضوء فتوضأت و صلّت الى نصف الليل و انا متفكر فقالت للعجوز اعطيني طبقا و قطعة قطن فقدمت ذلك اليها، و بعد ساعة صاحت العجوز و قالت انا للّه و انا اليه راجعون و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم، فنظرت فاذا الجارية قد قلعت عينيها جميعا و قد طرحتهما على قطعة القطن في الطبق و العينان يلعبان في الشحم، فخرجت العجوز بهما اليّ و قالت خذ ما كنت تعشقهما لا بارك اللّه لك فيهما، لقد حيرتنا حيّرك اللّه كانت هذه الصبية تخرج و تشتري و تبيع لنا و نحن عشرة نسوة في هذه المحلة فقد حيرتنا حيرك اللّه فلما سمعت كلام العجوز غشى عليّ و مرّت عليّ تلك الليلة و انا افكر فلما اصبحت حملت الى منزلي و بقيت في منزلي اربعين يوما عليلا فكان هذا سبب توبتي.

ص:250

و فيه ان زليخا قعدت على ممر يوسف فلما اخبرتها جاريتها بدنوه منها قالت يا يوسف بحق الذي اعزك و اذلني ان تقف ساعة و لا تغيب عني، فقال يا زليخا اين مالك و جمالك، قالت ذهبا في سبيلك، قال و اين عينيك، قالت ذهبت في البكاء عليك، قال و اين عشقك، قالت في صدري كما كان، فقال فأين برهانك، قالت ناولني سوطك فناولها اياه فتأوهت و نفخت فيه فاحترق السوط بنفسها، فألقاه يوسف من يده و صرف عنان الفرس فرارا، فقالت يا يوسف انك بدعوى الرجولية لم تكن مثل المرأة فاني حفظت تلك النار في صدري منذ اربعين سنة و لم انهزم كانهزامك.

و في اخبارنا عن الائمة عليهم السّلام ان زليخا ارادت ان تقف يوما على طريق يوسف تشكو اليه الحاجة فقالوا لها انك فعلتي ما فعلتي معه و نحن نخاف عليك منه، فقالت زليخا لكني لا اخاف منه لانه رأيته يخاف اللّه و انا لا اخاف من يخاف اللّه، فوقفت على طريقه فلما قرب منها قالت يا يوسف الحمد للّه الذي جعل العبيد بطاعتهم له ملوكا و جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، فوقف لها يوسف عليه السّلام و قال لها ما حملك على الامر الذي اردته مني، قالت حسنك و جمالك و انه ليس كان في مصر مثلي في الحسن و كان زوجي عنينا فقال لها يوسف عليه السّلام يا زليخا كيف لو رأيت نبيا يكون في آخر الزمان اسمه محمد صلّى اللّه عليه و آله أحسن مني وجها و اسمح كفا فقالت آمنت بذلك النبي و صدّقت به فقال كيف تؤمنين به و لم ترينه قالت لانك لما ذكرت اسمه وقع حبّه في قلبي، فأوحى اللّه سبحانه جبرئيل عليه السّلام الى يوسف عليه السّلام لما صدّقت زليخا بنبيي و لم تره اعطيتها ما تسأل، فقال لها يوسف عليه السّلام يا زليخا هذا جبرئيل عليه السّلام يقول إسألي ما اردت، قال أسأل خصالا ثلاثا:

الاولى ان يرجع اليّ شبابي، الثانية ان تكون انت زوجي، الثالثة ان اكون معك في الجنة فمسح جبرئيل عليه السّلام جناحه عليها فصارت الى شبابها فزوجها جبرئيل عليه السّلام يوسف عليه السّلام و في الجنة تكون معه و هذا عاقبة الصبر عن الزنا و هو الوصول الى المطلوب حلالا.

و روى ان مؤذنا لعلي عليه السّلام كان يدخل منزله فرأى فيه خادمة فهواها و كلما التقى معها قال اصبر الى ان يحكم اللّه لي و هو خير الحاكمين، ثم ان الخادمة أتت عليا عليه السّلام و اخبرته بهوى المؤذن اياها، فقال لها عليه السّلام ما قال لك قالت كلما رءاني قال اصبر حتى يحكم اللّه، فطلبه علي عليه السّلام قال يا فلان الان حكم اللّه فزوجها اياه فاستمتع منها حلالا.

و في رواية ان رجلا عشق جارية لجاره فأتى مولانا الصادق عليه السّلام فأخبره فقال له قل كلما رأيتها اللهم اني اسألك من فضلك فكان يكرر هذا الكلام فبعد مدّة اراد مولى الجارية السفر فأتى الى ذلك الرجل ليودعه اياها، فقال يا فلان انا عزب و جاريتك ما احبّ ان تبقى عندي، فقال اقوّمها عليك بقيمة فتنال منها حلالا، فاذا قدمت من سفري انت مخيّر بين ان تعطيني الثمن او

ص:251

الجارية، فدفعها و استمتع منها ثم ان الخليفة احتاج الى جواري فوصفت له الجارية بعد مدة فدفع مالا جزيلا الى ذلك الرجل و باعها من الخليفة، ثم لما قدم صاحبها (ر خ) دفع الرجل ذلك المال اليه فقال يا اخي ما آخذ منك الا القيمة التي قومتها عليك، و هذا كله مالك فأخذه فانظر الى عاقبة الصبر كيف استفاد منه التمتع بالجارية و المال.

و من هذا الباب ما رواه صاحب الروضة قال كان رجل من اهل بيت المقدس ورد الى مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو حسن الشباب مليح الصورة، فزار حجرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و قصد المسجد و لم يزل ملازما مشتغلا بالعبادة صائم النهار قائم الليل، و ذلك في زمان خلافة عمر بن الخطاب حتى كان اعبد الناس، و الخلق يتمنى ان يكون مثله و كان عمر يأتي و يسأله ان يكلفه حاجة فيقول له المقدسي الحاجة الى اللّه، و لم يزل كذلك حتى عزم الناس على الحج فجاء الى عمر بن الخطاب و قال يا ابا حفص اني قد عزمت على الحج و معي وديعة احب ان تستودعها مني الى حين عودي من الحج، فقال عمر هات الوديعة فأحضر الشاب حقا من عاج عليه قفل من حديد مختوم بخاتم الشاب فتسلمه و خرج الشاب مع الوفد و خرج عمر الى مدقدم الوفد و قال له اوصيك بهذا المقدسي خيرا، فرجع عمر و كان في الوفد امرأة من اهل الشام فما زالت تلاحظ المقدسي و تنزل بقربه حيث نزل فلما كان في بعض الايام دنت منه و قالت له يا شاب اني و اللّه ارق لهذا الجسم الناعم المترف كيف يلبس الصوف، فقال لها يا هذه جسم يأكله الدود و مصيره التراب هذا له كثير، فقالت اني اخاف على هذا الوجه المضيء كيف تشعثه الشمس، فقال لها يا هذه إتقي اللّه و كفّي فقد اشغلتني بكلامك عن عبادة ربي، فقالت له لي اليك حاجة فان قضيتها فلا كلام و ان لم تقضها فما انا بتاركتك حتى تقضيها، فقال لها و ما حاجتك؟ قالت له حاجتي ان تواقعني فزرجها و خوّفها من اللّه عز و جل فلم يردعها ذلك، قالت و اللّه ان لم تفعل ما آمرك به لارمينّك بداهية من دواهي النساء و مكرها فلا تنجو منها، فلم يلتفت اليها و لم يعبأ بكلامها فلما كان في بعض الليالي و قد سهر اكثر ليله من عبادة ربه، ثم رقد في آخر الليل و غلب عليه النوم فأتته و تحت راسه مزادة فيها زاده فانتزعها من تحت رأسه و طرحت فيها كيسا فيه خمسمائة دينار ثم اعادتها تحت رأسه فلما ثور الوفد قامت الملعونة من نومها و قالت انا باللّه و بالوفد مستجيرة، و انا امرأة مسكينة و قد سرق مالي و نفقتي انا باللّه و بكم فجلس المقدم على الوفد و امر رجلا من الانصار و رجلا من المهاجرين ان يفتشا الفريقين ففتشوا (ففتشا خ) فلم (يجدا) يجدوا شيئا، و لم يبق من الوفد رجل الا و قد فتّش رحله غير المقدسي فأخبروا مقدم الوفد بذلك، فقالت الملعونة يا قوم ما ضركم لو فتشتموه فله اسوة بالمهاجرين و الانصار، و ما يدريكم ان يكون ظاهره مليحا و باطنه قبيحا و لم تزل بهم حتى حملتهم على تفتيش رحله، فقصده جماعة من الوفد و هو قائم يصلي

ص:252

فلما رعاهم أقبل اليهم فقال ما بالكم و ما حاجتكم، فقالوا له هذه الامرأة الشامية ذكرت انه سرق نفقتها و قد فتشّنا رحل الوفد بأجمعه و لم يبق منهم غيرك و نحن لا نتقدم الى رحلك الا بأذنك، لما سبق من وصية عمر في حقك، فقال لهم يا قوم ما يضرني ذلك ففتشوا ما احببتم و هو واثق من نفسه، فأول ما نفضوا المزادة التي فيها زاده وقع منها الهميان، فصاحت الملعونة اللّه اكبر هذا و اللّه كيسي و مالي فيه كذا و كذا دينار و فيه عقد لؤلؤ و وزنه كذا و كذا مثقال فنظروا فوجدوه كما قالت فمالوا عليه بالضرب الموجع و السبّ و الشتم، و هو لا يردّ جوابا فسلسلوه و قادوه الى مكة راجلا، فقال لهم يا وفد اللّه بحق هذا البيت الحرام الا ما تصدقتم علي و تركتموني حتى اقضي الحج و اشهد اللّه و رسوله على اني اذا قضيت الحج رجعت اليكم، فأوقع اللّه الرحمة في قلوبهم فأطلقوه فلما قضى مناسكه و ما عليه من الحج و الفرائض عاد الى القوم، و قال لهم هنا أنا عدت اليكم فافعلوا بي ما تريدون فقال بعضهم لبعض لو اراد المفارقة لما عاد اليكم فاتركوه، فتركوه و رجع الوفد طالبا مدينة النبي صلّى اللّه عليه و آله فأعوزت تلك المرأة الملعونة الزاد في الطريق فوجدت راعيا فطلبت منه الزاد فقال لها عندي ما تريدين غير اني لا ابيعه فان اردتي ان تمكنيني من نفسك اعطيتك ففعلت و أخذت منه زادا.

فلما انحرفت عنه اعترض لها ابليس فقال لها يا فلانة انت حامل فقالت ممن فقال لها من الراعي فقالت وا فضيحتاه فقال لها مع رجوعك الى الوفد فقولي لهم اني سمعت قراءة المقدسي فقربت منه، فلما غلبني النوم دنى مني و واقعني و لم اتمكن من الدفاع عن نفسي و قد حملت منه و انا امرأة من الانصار و خلفي جماعة، ففعلت الملعونة ما اشار اليها ابليس فلم يشكوا في قولها لما عاينوا من وجود الكيس في رحله فعكفوا على الشاب المقدسي، و قالوا يا هذا ما كفاك السرقة حتى فسقت فأوجعوه ضربا و شتما و سبا و اعادوه الى السلسلة و هو لا يرد جوابا، فلما قربوا من المدينة على مشرفه و آله السّلام خرج عمر بن الخطاب و معه جماعة من المسلمين للقاء الوفد، فلما قرب من الوفد لم يكن له همّة الا السؤال عن المقدسي، فقالوا له يا ابا حفص ما اغفلك عن المقدسي فقد سرق و فسق و قصوا عليه القصة، فأمر باحضاره بين يديه فأتوا به و هو مسلسل فقالوا له يا ويلك يا مقدسي تظهر بخلاف ما ننظر فيك حتى سرقت و فضحك اللّه تعالى، لانكلنّ بك اشد النكال و هو لا يرد جوابا، و اجتمع الناس ينظرون ما ذا يفعل به فبينما هم كذلك و اذا بالنور قد سطع، فتأملوه فاذا هو عيبة علم النبوة علي بن ابي طالب عليه افضل الصلوة و السّلام فقال ما هذا الوهج في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا يا امير المؤمنين ان الشاب المقدسي الزاهد سرق و فسق، فقال عليه السّلام و اللّه ما سرق و لا فسق و لا حجّ أحد غيره، فلما اخبروا عمر بذلك قام قائما

ص:253

على قدميه و اجلسه موضعه، فنظر الى الشاب المقدسي و هو مسلسل مطرق الى الارض و الامرأة قاعدة.

فقال امير المؤمنين محل (حلال خ) المشكلات و كاشف الكربات يا ويلك قصّي علي قصتك فانا باب مدينة العلم، فقالت يا امير المؤمنين ان هذا الشاب سرق مالي و قد شاهده الوفد في مزادته و ما كفاه ذلك حتى كنت ليلة من الليالي قريبة منه فاستغرني بقرائته و استنامني فوثب اليّ و واقعني و ما تمكنت من المدافعة عن نفسي خوفا من الفضيحة و قد حملت منه فقال لها امير المؤمنين عليه السّلام كذبت يا ملعونة فيما ادعيت ثم قال يا ابا حفص ان الشاب مجبوب ليس له احليل و احليله في حقّ من عاج، ثم قال عليه السّلام يا مقدسي اين الحق فرفع المقدسي رأسه و قال له يا علي من يعلم ذلك يعلم اين الحق، فالتفت علي عليه السّلام الى عمر و قال له يا ابا حفص قم هات وديعة الشاب، فأرسل العمر فاحضر الحقّ بين يدي امير المؤمنين عليه السّلام فأمر بفتحه ففتحوه فاذا هو خرقة حرير و فيها احليل الشاب فعند ذلك قال الامام عليه السّلام يا مقدسي قم فقام فقام جردوه من ثيابه لتنظروا و تتحققوا من اتهمه بالفسق، فجردوه من اثوابه فاذا هو مجبوب، فعند ذلك ضج الناس بالتكبير فقال لهم الامام عليه السّلام اسكتوا و اسمعوا مني الحكومة اخبرني بها حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثم قال ويلك يا معلونة فقد تجرأت على اللّه أ لم تأتي اليه و قلت له كيت و كيت أبى ذلك، فقلت له و اللّه لارمينك بحيلة من حيل النساء لا تنجو منها ابدا، فقالت بلى يا امير المؤمنين قد كان ذلك، ثم قال عليه السّلام فأتيته و هو نائم فوضعت الكيس في مزادته فقرّي فقالت نعم يا امير المؤمنين فقال اشهدوا عليها ثم قال عليه السّلام حملك هذا من الراعي الذي طلبت منه الزاد فقال انا لا ابيع الزاد و لكن مكنيني من نفسك و خذي حاجتك، ففعلت ذلك و اخذت الزاد و هو كذا و كذا، فقالن صدقت يا امير المؤمنين فضجّ العالم فسكتّهم امير المؤمنين عليه السّلام.

و قال لها لما خرجت من الراعي عرض لك شيخ صفته كذا و كذا فناداك و قال لك يا فلانة انك حامل من الراعي فصرخت و قلت وا فضيحتاه، فقال لا بأس عليك قولي للوفد ان المقدسي استنامني و واقعني و قد حملت منه فيصدقوك لما ظهر لهم من سرقته ففعلت ما قال لك الشيخ، فقالت نعم فقال لها عليه السّلام أ تعرفين ذلك الشيخ فقالت لا قال هو ابليس لعنة اللّه عليه فتعجب الناس من ذلك، فقال عمر يا ابا الحسن ما تريد ان تفعل بها قال يحفر لها في مقابر اليهود و تدفن الى نصفها و ترمى بالحجارة ففعل بها ذلك كما امر مولانا امير المؤمنين عليه السّلام و اما المقدسي فانه لم يزل ملازما لمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى قبض رضي اللّه عنه فعند ذلك قام عمر و هو يقول لو لا علي لهلك عمر، ثم انصرف الناس و قد تعجبوا من حكومة علي عليه السّلام.

ص:254

و من ذلك ما رواه الصدوق باسناده الى الدوسي قال دخل معاذ بن جبل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باكيا فسلّم فرّد عليه السّلام ثم قال ما يبكيك يا معاذ قال يا رسول اللّه ان بالباب شابا طري الخدّ نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله ادخل عليّ الشاب يا معاذ، فأدخله عليه فسلّم على النبي صلّى اللّه عليه و آله فردّ عليه السّلام ثم قال ما يبكيك يا شاب؟ قال كيف لا ابكي و قد ركبت ذنوبا ان اخذني اللّه عز و جل على بعضها ادخلني نار جهنم و لا اراني الا و سيأخذني بها و لا يغفر لي ابدا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هل اشركت باللّه شيئا؟ قال اعوذ باللّه ان اشرك بربي شيئا، قال أ قتلت النفس التي حرم اللّه عليك، فقال لا فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله يغفر اللّه لك ذنوبك و ان كانت مثل الجبال الرواسي، قال الشاب، فانها اعظم من الجبال الرواسي، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله يغفر اللّه لك ذنوبك و ان كانت مثل الارضين السبع و بحارها و رمالها و اشجارها و ما فيها من الخلق فقال الشاب و انها اعظم من الارضين السبع و بحارها و رمالها و اشجارها و ما فيها من الخلق فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله يغفر اللّه لك ذنوبك و ان كانت مثل السموات و نجومها و مثل العرش و الكرسي فقال و انها اعظم من ذلك.

قال فنظر النبي صلّى اللّه عليه و آله اليه كهيئة الغضبان ثم قال ويحك يا شاب ذنوبك اعظم ام ربك فخرّ الشاب على وجهه و هو يقول سبحان اللّه ربي ما شيء اعظم من ربي، ربي اعظم يا نبي اللّه من كل عظيم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله فهل يغفر الذنب العظيم الا الربّ العظيم فقال الشاب لا و اللّه يا رسول اللّه، ثم سكت الشاب فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله ويحك يا شاب الا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك، قال بلى أخبرك اني كنت انبش القبور سنين و اخرج الموتى و انزع الاكفان عنهم، فمات جارية من بعض بنات الانصار فلما حملت الى قبرها و دفنت و انصرف عنها اهلها و جنّ عليها الليل أتيت قبرها فنبشتها ثم استخرجتها و نزعت ما كان عليها من اكفانها، و تركتها مجردة على شفير قبرها و مضيت منصرفا فأتاني الشيطان فأقبل يزينها و يقول اما ترى بطنها و بياضها، اما ترى و ركيها فلم يزل يقول لي هكذا حتى رجعت اليها و لم املك نفسي حتى جامعتها و تركتها مكانها، فاذا انا بصوت من ورائي يقول يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين يوم يقفني و اياك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى و نزعتني من حفرتي و سلبت اكفاني و تركتني اقوم جنبة الى حسابي فويل لشبابك من النار، فما اظن اني اشمّ ريح الجنة ابدا فما ترى لي يا رسول اللّه.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله تنحّ عني يا فاسق اني اخاف ان احترق بنارك فما اقربك من النار، ثم لم يزل صلّى اللّه عليه و آله يقول و يشير اليه حتى امعن من بين يديه فذهب فأتى المدينة فتزود منها و خرج و اتى بعض جبالها فتعبّد فيها و لبس مسحا و غلّ يديه جميعا الى عنقه و نادى يا رب هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا رب انت الذي تعرفني زلّ مني ما تعلم يا ربي و سيدي اني اصبحت من

ص:255

النادمين و أتيت نبيك تائبا فطردني و زادني خوفا فاسألك باسمك و جلالك و عظمة سلطانك ان لا تخيب رجائي، سيدي و لا تبطل دعائي و لا تقنطني من رحمتك، فلم يزل يقول ذلك اربعين يوما و ليلة و يبكي له السباع و الوحوش، فلما تمتّ اربعون يوما و ليلة رفع يديه الى السماء و قال اللهم ما فعلت في حاجتي ان كنت استجبت دعائي و غرفت خطيئتي فأوح الى نبيك عليه السّلام و ان لم تستجب لي دعائي و لم تغفر لي خطيئتي و اردت عقوبتي فعجّل بنار تحرقني او عقوبة في الدنيا تهلكني و خلّصني من فضيحة يوم القيامة، فأنزل اللّه تبارك و تعالى على نبيه صلّى اللّه عليه و آله و الذين اذا فعلوا فاحشة يعني لزنا او ظلموا انفسهم، يعني بارتكاب ذنب اعظم من الزنا، و هو نبش القبور و اخذ الاكفان، ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم، يقول خافوا فعجلوا التوبة، و من يغفر الذنوب الا اللّه، يقول اللّه عز و جل اتاك عبدي يا محمد تائبا فطردته فأين يذهب و الى من يقصد و من يسأل ان يغفر له ذنبا غيري، ثم قال عز و جل وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ، يقول لم يقيموا على الزنا و نبش القبور و اخذ الاكفان، اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم و جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها و نعم اجر العاملين.

فلما نزلت هذه الاية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج و هو يتلوها و يبتسم فقال لاصحابه من يدلني على ذلك الشاب لتائب، قال معاذ انا ادلّك عليه يا رسول اللّه بلغنا انه في موضع كذا و كذا، فمضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باصحابه حتى انتهوا الى ذلك الجبل فصعدوا اليه يطلبون الشاب، فاذا هم بالشاب قائم بين صخرتين مغلولة يداه الى عنقه قد اسوّد وجهه و تساقطت اشفار عينيه من البكاء، و هو يقول قد احسنت خلقي و احسنت صورتي فليت شعري ما ذا تريد بي أ في نارك تحرقني ام في جوارك تسكنني، و يقول اللهم انك قد اكثرت الاحسان اليّ و انعمت عليّ فليت شعري ما ذا يكون آخر امري الى الجنة تزفني ام الى النار تسوقني، اللهم خطيئتي اعظم من السموات و الارض و من كرسيك الواسع العظيم و عرشك العظيم فليت شعري تغفر لي خطيئتي ام تفضحني بها يوم القيامة، فلم يزل يقول نحو هذا و هو يبكي و يحثوا التراب على رأسه و قد احاطت به السباع و صفّت فوق راسه الطير و هم يبكون لبكائه فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأطلق يديه من عنقه و نفض التراب عن رأسه و قال يا بهلول إبشر فانك عتيق اللّه من النار، ثم قال لاصحابه هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه السّلام ما انزل اللّه عز و جل فيه و بشرّه بالجنة.

فان قلت كيف اطمعه النبي صلّى اللّه عليه و آله في قبول التوبة اولا و ان ذنبه قابل للغفران و ان كان اثقل من السموات و ما ذكر ثم لما ذكر ذنبه اعرض عن قبول توبته و طرده و منعه.

ص:256

قلت يمكن التقصي عن هذا بوجوه، الاول ان يكون ذنبه اثقل من الارضين و السموات كما ورد في الاخبار من ان بعض الذنوب من الكبائر اثقل من العرش و ما تحته كما ان بعض الطاعات كذلك فيكون قد اطمعه صلّى اللّه عليه و آله في قبول التوبة، فلما رأى عظن ذنبه اعرض عنه.

الثاني انه عليه السّلام انما منّاه بالتوبة لظنه ان ذنبه و جرحه (مه) من حقوق اللّه سبحانه فلما أظهره كان من حقوق الناس فلم يكن له صلّى اللّه عليه و آله يد على قبول توبته حتى قبلها اللّه سبحانه، الثالث انه تهديد و سياسة للامة حتى لا يقدموا على مثل هذه العظائم من الذنوب كما كان دأبه صلّى اللّه عليه و آله فأنه قد امر باحراق البيوت على من لم يحضر صلاة الجماعة معه مع انها سنة و تطوّع و امثال هذه الحكايات و الاخبار كثيرة لا نطوّل الكتاب بذكرها و كفى به قوله صلّى اللّه عليه و آله من عشق فعفّ فمات دخل الجنة، و سيأتي لهذا مزيد بيان في نور العاشقين ان شاء اللّه تعالى.

نور في سلسلة النبوة و الوصاية

روى الصدوق عن الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انا سيد النبيين و وصيي سيد الوصيين و اوصياؤه سادة الاوصاء، ان آدم عليه السّلام سأل اللّه عز و جل ان يجعل له وليا صالحا، فأوحى اللّه تعالى اني اكرمت الانبياء بالنبوة ثم اخترت خلقا فجعلت خيارهم الاوصياء، فأوحى اللّه تعالى ذكره اليه يا آدم اوص الى شيث و هو هبة اللّه بن آدم و أوصى شيث الى ابنه شبان بالشين المثلثة و الباء الموحدة و هو ابن نزلة الحوراء التي انزلها اللّه تعالى على آدم من الجنة فزوجها ابنه شيثا، و اوصى شبان الى محلث بالحاء المهملة و الثاء المثلثة، و اوصى محلث الى محوق بالحاء المهملة و القاف، و اوصى محوق الى عثميا بالثاء المثلثة و الياء المثناة بعد الميم، اوصى عثميا على اخنوخ و هو ادريس النبي عليه السّلام و اوصى ادريس الى ناخور بالنون و الخاء المعجمة، و دفعها ناخور الى نوح عليه السّلام و اوصى نوح الى سام، و اوصى سام الى عثامر بالعين المهملة و الثاء المثلثة و الراء اخيرا و اوصى عثامر الى برغيثاشا بالغين المعجمة بعدها ياء تحتانية و بعد الياء ثاء مثلثة و آخر الحروف الف قبلها شين مثلثة، و اوصى برغيثاشا الى يافث و اوصى يافث الى برة و اوصى برة الى جفشية بالجيم و الفاء و الشين المعجمة بعدها ياء تحتانية، و اوصى جفشية الى عمران و دفعها عمران الى ابراهيم الخليل عليه السّلام.

و اوصى ابراهيم عليه السّلام الى ابنه اسماعيل عليه السّلام و اوصى اسماعيل عليه السّلام الى اسحاق و اوصى اسحاق الى يعقوب و اوصى يعقوب الى يوسف و اوصى يوسف الى بثريا (برثيا ظ) بالباء الموحدة و الثاء المثلثة و اوصى بثريا (برثيا ظ) الى شعيب و دفعها الشعيب الى موسى بن عمران و اوصى موسى بن عمران عليه السّلام الى يوشع بن نون، و اوصى يوشع بن نون الى داود و اوصى داود الى

ص:257

سليمان عليه السّلام و اوصى سليمان الى آصف بن برخيا، و اوصى آصف بن برخيا الى زكريا و دفعها زكريا الى عيسى بن مريم، و اوصى عيسى بن مريم الى شمعون بن حمون الصفا و اوصى شمعون الى يحيى بن زكريا و اوصى يحيى بن زكريا الى منذر، و اوصى منذر الى سليمة و اوصى سليمة الى بردة، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دفعها اليّ بردة و انا ادفعها اليك يا علي، و انت تدفعها الى وصيك و يدفعها وصيك الى اوصيائك من ولدك واحدا بعد واحد حتى تدفع الى خير اهل الارض بعدك، و لتكفرنّ بك الامة و ليختلفنّ عليك اختلافا شديدا و الثابت عليك كالمقيم معي و الشاذ عنك في النار و النار مثوى الكافرين.

و قال جابر بن عبد اللّه الانصاري قال دخلت على فاطمة عليها السّلام و بين يديها لوح فيه اسماء الاوصياء من ولدها فعددت اثنى عشر احدهم القائم ثلثة منهم محمد و اربعة منهم علي عليهم السّلام.

فان قلت اذا كان اسماء الائمة عليهم السّلام مكتوبا في لوح فاطمة عليها السّلام و في الدفاتر السماوية قبل خلق آدم و بعده فما معنى ما روى من قول ابي عبد اللّه عليه السّلام لابنه موسى عليه السّلام لما مات اسماعيل ما بدا للّه في شيء مثل ما بدا له في اسماعيل، و قوله عليه السّلام يا بني احدث للّه شكرا فقد احدث فيك عهدا، فان ظاهرها كما فهم بعض المحدثين ان الامامة كانت في اسماعيل فبدا للّه تعالى فيه بمعنى انه رفع ذلك الحكم الثابت فيه، و هو الامامة الى غيره و هو موسى عليه السّلام.

قلت ليس معناه ما قالوه بل معناه و اللّه العالم ان الشيعة كانت تعتقد ان الامامة في اسماعيل لانه اكبر الاولاد، و رووا ان الامامة في الاكبر فلما مات اسماعيل زمن ابيه ظهر للشيعة انه ليس بامام فذاك البدا الذي بدا للّه هو في ظاهر الحال عند الشيعة لا في الواقع و نفس الامر، و كذا معنى قوله عليه السّلام احدث فيك عهدا معناه انه كشف عن امامتك للخلائق بعد ان كنت اماما عنده، و من كون اسماعيل كان هو الاكبر و كان الناس يزعمون انه الامام بقي طائفة من الشيعة على ذلك الاعتقاد و قالوا انه حي لم يمت و انه الامام بعد ابيه و هم الاسماعيلية، و ستأتي مقالتهم ان شاء اللّه تعالى عند تعداد الفرق الاسلامية.

و اما قوله عليه السّلام في الحديث الاول و دفعها زكريا الى عيسى بن مريم الى قوله يحيى بن زكريا فهو مناف لما اشتهر في الكتب من ان يحيى عليه السّلام قتل قبل ابيه و من ثم ذهب بعض المحققين الى تخطئة المشهور لهذا و لرواية بريد (يزيد ظ) الكناسي المذكورة في باب حالات الائمة عليهم السّلام، و يمكن ان يقال ان زكريا بعد دفعها الى عيسى عليه السّلام كان باقيا حتى قتل يحيى.

و اما تاريخ الدنيا من خروج آدم عليه السّلام من الجنة الى الارض الى هذه السنة و هي سنة تأليف هذا الكتاب سنة التاسعة و الثمانين بعد الالف فقد ذكر اهل التواريخ ان من خروج آدم من الجنة

ص:258

الى طوفان نوح الفين و مأتين و خمسين سنة، و من نوح الى ابراهيم الفا و مائة و اثنين و اربعين سنة و من ابراهيم الى موسى خمسمائة و ستة و ستين سنة، و من موسى الى داود خمسمائة و تسعين سنة، و من داود الى عيسى الفا و ثلثة و خمسين سنة و من عيسى الى محمد صلّى اللّه عليه و آله ستمأة و ستين سنة و حيث انتهى الحال الى هنا فلنذكر اعمار بعض الانبياء و الاوصياء عليهم السّلام.

فنقول ذكر صاحب كتاب شذور العقود و كتاب مفاتح التنزيل ان آدم عليه السّلام عاش تسعمائة و ثلاثين سنة و لم يمت حتى بلغ ولده و ولد ولده اربعين الفا، و اما حوى فعاشت بعده سنة و دفنت معه، و قد ورد في جملة من الاخبار ان آدم و نوح ضجيعان لامير المؤمنين عليه السّلام في قبره، و في قصص الراوندي روى الباقر عليه السّلام ان عمر آدم منذ خلقه اللّه الى ان قبضه سبعمائة و ست و ثلاثون سنة، و دفن بمكة و كان بين آدم و نوح صلوات اللّه عليهما الف و خمسمائة سنة، و اما شيث فقد ولد بعد هابيل بخمس سنين و لم يعقب من ولد ابيه غيره و اليه تنتهي سلسلة جميع الناس و عاش تسعمائة و اثنى عشر سنة.

و اما ادريس عليه السّلام و هو اخنوخ سمي لكثرة درسه لكتب اللّه تعالى فقد رفع الى السماء بعد ثلثمائة و خمس و ستين سنة، و اما نوح عليه السّلام فقد عاش الفي سنة و خمسمائة سنة منها ثمانمائة سنة قبل ان يبعث و الف و سنة الا خمسون عاما و هو في قومه يدعوهم و مائتا سنة في عمل السفينة و خمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة، و اما هود فقد عاش ثمانمائة و سبعا، و اما صالح و هو من اولاد ثمود فقد توفي بمكة و عمره ثمانية و خمسين سنة، و اما ابراهيم عليه السّلام بن تارخ فقد عاش مأة و خمسا و سبعين، و اما اسماعيل عليه السّلام فقد عاش مأة و عشرين سنة و ولد و لابيه اربع و ثمانون و اما اسحاق عليه السّلام فقد عاش مأة و ثمانين و ولد و لابيه مأة سنة، و اما يعقوب عليه السّلام فعمره مأة و ست و اربعون، و هو والد الاسباط كلهم، و اما يوسف الصديق عليه السّلام فعمره مأة و عشرين سنة، و اما لوط عليه السّلام فهو اول من آمن بابراهيم و كان ابن اخته و قيل ان خالته.

و اما شعيب عليه السّلام فقد عاش عمرا طويلا و تزوج بنت لوط عليه السّلام و الان له مدفن قريب بلد شوشتر، و ذكر جماعة من اهل التاريخ ان عسكر الاسلام لما فتح شوشتر أتوا الى مكان وراء حجرة مبنية و عليها قفل حديد و رأوا رجلا كبير السن خارج تلك الحجرة فسألوه عن احوال ما في الحجرة فقال ان آبائي كانوا يخدمون خارج الحجرة و يذكرون ان في داخلها شعيب النبي، و انا اخدمها على ذلك الحال و لا رأيت الى الان ما في بطن هذه الحجرة، فأتى مقدم العسكر و حلّ الحجرة و دخلها مع جماعة من المسلمين فرأوا سريرا و عليه شيه شائب و هو ميت حسن الوجه طري الجسد فكتبوا الى عمر بن الخطاب لان الفتح كان زمان خلافته، فكتب اليهم ان ادفنوه

ص:259

فدفنوه حيث قبره الان في قرب بلاد شوشتر، و قد وصلنا اليه مرارا و زرناه، و اما ايوب بن الموص فقد تزوج بنت يعقوب و هي التي ضربها بالضغث.

و اما موسى بن عمران عليه السّلام فقد عاش مأة و ستا و عشرين سنة، و اما هارون عليه السّلام فعمره مأة و ثلاث و ثلاثون سنة توفي قبل موسى بثلاث سنين، و اما يوشع فهو ابن نون بن ابراهيم بن يوسف عليه السّلام، و اما الخضر فهو ابن ملكان بن قالع بن هود، و اما يونس فهو ابن متى المرسل الى اهل نينوى من اهل الموصل، و اما إلياس فهو من سبط يوشع بن نون، و اما اليسع فقد كان تلميذ إلياس عليه السّلام و نبّاه اللّه تعالى، و اما ذو الكفل فهو نبي بعث قبل عيسى عليه السّلام، قيل سمي بذبك لانه كفل سبعين نبيا و نجّاهم من العذاب و ما طالوت فقد تزوج داود ابنته و سمى طالوت لطوله، و اما داود بن ايشى فعمره مأة و اربعون سنة، و اما سليمان عليه السّلام فعمره و سبعمأة و اثنتى عشرة سنة و ملك ثلاثا و عشرين سنة و اما زكريا بن آزر من اولاد داود فعمره تسع و تسعون سنة، و اما ارميا فهو الذي بعثه اللّه الى اهل بيت المقدس فكفروا فسلّط اللّه عليهم بخت نصر، و اما حيقوق فهو نبي بعد موسى عليه السّلام على دينه.

و اما دانيال و عزيز فقد اسرهما بخت نصر فنجاهما اللّه تعالى منه و مال دانيال بناحية الشوش و دفن فيها، و الشوش بلد كبير في ناحية شوشتر لكنها هذا الان من توابع الحويزة و قد خربت و صارت تلاّ من التراب و قد وصلنا اليها مرارا و شاهدنا فيها اثارا غريبة و اطوار عجيبة و قبر دانيال عليه السّلام قريب منها يتّبرك به الناس و قد شوهد (شاهدوا خ) له كرامات كثيرة، و في بعض الروايات ان اهل الشوش شكوا الى احد المعصومين عليهم السّلام كثرة الامطار فكتب اليهم ان عظام اخي دانيال تحت السماء و السماء تهطل (1)موعا عليه فواروه تحت التراب حتى تسكن عنكم الامطار، فواروه تحت التراب و قريب من قبره المبارك النهر الذي حفره شايور ذو الاكتاف، و قد عمل قريبا من القبر حوض كبير فيه سمك كثير شاهدناها لما وصلنا الى زيارته، و قد الفت الزائرين حتى كنّا قد نجلس على جوف النهر و نضع الخبز في ايدينا و تظهر الحيتان من الماء تأكله من ايدينا شيئا فشيئا، و الشوش في لغة الفرس القديمة اسم للشيء الحسن و لما بنوا شوشتر سموها بهذا الاسم و معناه الاحسن يعني انها احسن من الشوش، و في قبته صخرة اذا وقف عليها الانسان و حركها تحركت مستديرة و الانسان فوقها ثم تبقى على الحركة حتى ينزل الانسان من فوقها، و اما جرجيس فهو من اهل فلسطين بعثه اللّه بعد المسيح الى ملك الموصل.

ص:260


1- 1) تهطل المطر: نزل متتابعا عظيم القطر:

و اما خالد بن سنان و هو من العرب فقد بعث بعد عيسى عليه السّلام و اما حنظلة بن صفوان فقد كان في زمن الفترة بين عيسى و النبي صلّى اللّه عليه و آله و اما ما ورد في الدعاء من قوله عليه السّلام اللهم صلّ على الابدال و الاوتاد، فروى عن علي عليه السّلام ان الابدال بالشام و هم الخيار من الناس، قيل ان الارض لا تخلو من القطب و اربعة اوتاد و اربعين ابدالا و سبعين نجيبا و ثلثمأة و ستين صالحا، لان الدنيا كالخيمة و المهدي كالعود و تلك الاربعة اطنابها و قد تكون الاوتاد اكثر من اربعة و الابدال اكثر من اربعين و النجباء اكثر من سبعين و الصالحون اكثر من ثلثمأة و ستين، و الظاهر كما قيل ان الياس و الخضر عليهما السّلام من الاوتاد فهما ملاصقان لدائرة القطب.

و اما صفة الاوتاد فهم قوم لا يغفلون عن ربهم طرفة عين و لا يجمعون من الدنيا الا البلاغ و لا تصدر منهم هفوات الشرّ و لا يشترط فيهم العصمة من السهو و النيسان بل من فعل القبيح، و يشترط ذلك في القطب، و اما الابدال فدون هؤلاء في المراقبة و قد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكر و لا يتعهدون (يتعاهدون خ) ذنبا، و اما النجباء فهم دون الابدال.

و اما الصالحون فهم المتقون الموصوفون بالعدالة، و قد يصدر منهم الذنب فيتداركونه بالاستغفار و الندم، قال اللّه تعالى إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ ، قيل اذا نقص احد من الاوتاد الاربعة وضع بدله من الاربعين و اذا نقص احد من الاربعين وضع بدله من السبعين، و اذا نقص احد من السبعين وضع بدله من الثلاثمأئة و ستين، و اذا نقص أحد من الثلاثمأئة و ستين وضع بدله من سائر الناس و اللّه العالم.

نور في مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و عدد اولاده و زوجاته

اما النبي صلّى اللّه عليه و آله فالمشهور بيننا ان مولده الشريف سابع عشر ربيع الاول يوم الجمعة عند طلوع الشمس، و اما الجمهور فالمشهور بينهم ان تولده ثاني عشر ذلك الشهر و وافقهم شيخنا الكليني (1)على ذلك، و لعل بعض الاخبار الواردة به محمولة على التقية، فان قلت كيف طريق تصحيح قول الكليني طاب ثراه ان امه حملت به في ايام التشريق عند الجمرة الوسطى، و ذلك انه يلزم على هذا ان يكون صلّى اللّه عليه و آله بقى في بطن امه ثلاثة اشهر او سنة و ثلاثة اشهر و على التقديرين يكون خارقا للعادة فيكون من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله مع ان العلماء و اهل السير و التواريخ لم يذكروه و لو كان كذلك لنقل البتة.

ص:261


1- 1) و وافقهم ايضا من الامامية على ابن الحسين المسعودي المؤرخ الكبير صاحب مرج الذهب و اثبات الوصية ذلك الكتاب القيم النفيس.

قلت ذكر جماعة من مشايخنا قدس اللّه ارواحهم أنه مبني على النسئ المراد من قوله تعالى إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيٰادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ ، و ذلك ان المشركين كانوا يؤخرون موسم الحجّ فمرة كانوا يحجون في صفر و مرة أخرى في محرم، و هكذا تبعا لاعتدال الوقت و الهوى و كان حجهم في سنة تولده في جمادي الاخرة، و يؤيده ما رواه ابن طاووس في كتاب الاقبال انه صلّى اللّه عليه و آله حملت به امه ثمان عشر مضت من جمادي الاخرة، و لما فتح النبي صلّى اللّه عليه و آله مكة كان حجهم في شهر ذي الحجة فقال صلّى اللّه عليه و آله الان دار الزمان كما كان فلا يجوز لاحد تغييره و لا تبديله، و قد بقي بمكة بعد مبعثه ثلاثة عشر سنة ثم هاجر الى المدينة و مكث بها عشر سنين ثم قبض لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاول يوم الاثنين (1)و قال الكفعمي و جماعة ان وفاته صلّى اللّه عليه و آله لليلتين بقيتا من صفر.

و اما نسبه الظاهر فهو محمد بن عبد اللّه بن عد المطلب و اسمه شيبة الحمد بن هاشم و اسمه عمرو بن عبد مناف و اسمه المغيرة، بن قصي و اسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر و هو قريش، بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، روى عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال اذا بلغ نسبي عدنان فامسكوا و روى عن ام سلمة زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله قالت سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول معد بن عدنان بن ادد بن زيد بن ثرا بن اعراق الثرى، قالت ام سلمه زيد هميسع و ثرا بنت و اعراق الثرى اسماعيل بن ابراهيم، ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عادت و ثمود و اصحاب الرس و قرونا بين ذلك كثيرا لا يعلمهم الا اللّه.

ذكر الشيخ ابو جعفر بن بابويه عدنان بن ابن ادد بن زيد بن تعدد (يقدد خ) بن تعدم (تقدم خ) بن الهميسع بن بنت بن قيدار بن اسماعيل، و قيل ان الاصح الذي اعتمد عليه اكثر النساب و اصحاب التواريخ ان عدنان بن هواد بن ادد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن بنت بن حمل بن قيدار بن اسماعيل بن ابراهيم عليه السّلام بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن ارغون بن قالع بن عاير و هو هود النبي عليه السّلام بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السّلام بن ملك بن متشولخ بن اخنوخ و هو ادريس عليه السّلام بن بارد (مارد خ) بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم ابي البشر عليه السّلام.

و أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف و اما جدته ام ابيه فهي فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم، و ام عبد المطلب سلمى بنت عمر من بني النجار، و ام هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال من بني سليم و صدع بالرسالة يوم السابع و العشرين من رجب و له يومئذ اربعون سنة، و قبض يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة و هو ابن ثلاث و ستين كذا في اعلام

ص:262


1- 1) هذا هو المشهور عند جمهور العامة و اما الامامية فالمشهور بينهم انه توفى صلّى اللّه عليه و آله في الثامن و العشرين في شهر صفر.

الورى، و ذكر انه ايضا عاش ثلاثا و ستين سنة منها مع ابيه سنتين و اربعة اشهر و مع جده عبد المطلب ثماني سنين ثم كفله عمه ابو طالب بعد وفاة جده عبد المطلب، و ذكر محمد بن اسحاق ان اباه عبد اللّه مات و امه حبلى، و قيل ايضا انه مات و النبي صلّى اللّه عليه و آله ابن سبعة اشهر، و ذكر ابن اسحاق ان آمنة توفيت و النبي صلّى اللّه عليه و آله ابن ست سنين و هذا لم نتحققه، روى عن ربدة قال انتهى النبي صلّى اللّه عليه و آله الى رسم قبر فجلس و جلس الناس حوله فجعل يحرّك رأسه كالمخاطب ثم بكى، فقيل ما يبكيك يا رسول اللّه، قال هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في ان ازوره قبرها فاذن لي فادركتني رقتها فبكيت فما رأيت اكثر باكيا من تلك الساعة.

و تزوج خديجة بنت خويلد و هو ابن خمس و عشرين سنة، و توفي عمه ابو طالب ولد ست و اربعون سنة و ثمانية اشهر و اربعة عشرون يوما، و توفيت خديجة بعده بثلثة ايام و سمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك العام عام الحزن، و اقام بمكة بعد البعثة ثلاث عشر سنة ثم هاجر منها الى المدينة بعد ان استتر في الغار ثلاثة ايام، و دخل المدينة يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الاول و بقي بها عشر سنين ثم قبض صلّى اللّه عليه و آله و سببه ان امرأة يهودية طلبته للضيافة و قدّمت اليه سخلة مسمومة، فلما مدّ يده ليأكل تكلمت السخلة و قالت انا مسمومة فلا تأكل مني، فأتاه جبرئيل عليه السّلام فقال له صلّى اللّه عليه و آله قل بسم اللّه و كل انت و اصحابك فسمّوا (فسمى خ) و اكلوا بعده امرهم جبرئيل عليه السّلام بالحجامة فاحتجموا، و كان في كل سنة تطلع الجراحات في بدنه الشريف من آثار ذلك السم حتى انه مات بذلك السم ليكون له ثواب الشهادة، و قيل انها اهدت اليه كراعا مسموما لانه كان يحب اكل الكراع و ذلك ان آدم عليه السّلام قرّب قربانا عن الانبياء و سمى لكل نبي عضوا من تلك الشاة فسمى للنبي صلّى اللّه عليه و آله الكراع و من ذلك كان يكثر اكله، و قال صلّى اللّه عليه و آله ما زالت تلك الاكلة معي حتى قطعت انياط قلبي، و من هنا قال عليه السّلام ما منّا الا قتيل او مسوم، و اما ازواجه صلّى اللّه عليه و آله.

فأول امرأة تزوجها خديجة بنت خويلد و كانت قبله عند عتيق بن عايد المخزومي فولدت له جارية، ثم تزوجها ابو هالة الاسدي فولدت له هند بن ابي هالة، ثم تزوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ربى ابنها هندا، فأول ما حملت و ولدت عبد اللّه بن محمد و هو الطيب الطاهر و ولدت له القاسم و قيل ان القاسم اكبر ولده و كان يكنى به و الناس يغلطون فيقولون ولد له منها اربع بنين، القاسم و عبد اللّه و الطيب و الطاهر، و انما ولدت له ابنان و اربع بنات زينب و رقية و ام كلثوم و فاطمة، فأما زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتزوجها ابو العاص بن الربيع في الجاهلية فولدت له جارية اسمها امامة تزوجها علي بن ابي طالب عليه السّلام بعد وفات فاطمة عليها السّلام و قتل امير المؤمنين عليه السّلام و عنده امامة فخلف عليها بعده المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و ماتت زينب بالمدينة لسبع سنين من الهجرة.

ص:263

و اما رقية فتزوجها عتبة بن ابي لهب فطلقها قبل ان يدخل بها و لحقها منه اذى فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله اللهم سلّط على عتبة كلبا من كلابك فتناوله الاسد من بين اصحابه، و تزوجها بعد بالمدينة عثمان بن عفان فولدت له عبد اللّه و مات صغيرا نقره ديك على عينيه فمرض و مات، و توفيت بالمدينة زمان بدر فتخلّف عثمان على دفنها و منعه ذلك ان يشهد بدرا و قد كان عثمان هاجر الى الحبشة و معه رقية، و اما ام كلثوم فتزوج ايضا عثمان بعد اختها رقية و توفيت عنده، و ذلك انه ضربها ضربا مبرحا فماتت منه و قد تقدم اختلاف اصحابنا رضوان اللّه عليهم في ان رقية و ام كلثوم هل هما ربيبتاه صلّى اللّه عليه و آله ام ابنتاه و الحال عندنا لا يتفاوت لان عثمان في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان مظهر للاسلام و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يريد تأليف قلوبهم و دخول الاسلام اليها، فكان يلاطفهم بانواع اللطائف من الاموال و المناكحات و غيرها.

و اما فاطمة عليها السّلام فالاظهر في روايات اصحابنا رضوان اللّه عليهم انها ولدت سنة خمس من المبعث بمكة في العشرين من جمادي الاخرة و ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قبض و لها ثماني عشرة سنة و سبعة اشهر، و روى عن جابر بن يزيد قال سأل الباقر عليه السّلام كم عاشت فاطمة عليها السّلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال اربعة اشهر، و توفيت و لها ثلاث و عشرون سنة و هذا قريب مما روته العامة، و ذكر ابو سعيد الواعظ ان جميع اولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ولدوا قبل الاسلام الا فاطمة و ابراهيم، و اما ابراهيم فهو من مارية القبطية ولد بالمدينة سنة ثمان من الهجرة و مات بها و له سنة و ستة اشهر و ايام و قبره بالبقيع.

و الثانية من زوجها سودة بنت زمعة و كانت قبله عند السكران بن عمرو فمات عنها بالحبشة مسلما، و الثالثة عايشة بنت ابي بكر تزوجها بمكة و هي بنت سبع و لم يتزوج بكرا غيرها و دخل بها و هي بنت تسع لسبعة اشهر من مقدم المدينة و بقيت الى خلافة معاوية لعنه اللّه، و الرابعة ام شريك التي وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه و آله و اسمها عرنة بنت دودان بن عوف، و كانت قبله عند ابي العكر بن سمى الازدي فولدت له شريكا، و الخامسة حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها لما مات زوجها خنيس السهمي، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد وجهه الى كسرى فمات و لا عقب له و ماتت بالمدينة في خلافة عثمان، و السادسة ام حبيبة بنت ابي سفيان و اسمها رملة و كانت تحت عبيد اللّه بن جحش الاسدي، و السابعة ام سلمة و هي بنت عمته عاتكة بنت عبد المطلب.

و الثامنة زينب بنت جحش و هي بنت عمته ميمونة بنت عبد المطلب و كانت قبله عند زيد بن حارثة و هي التي ذكرها اللّه سبحانه في كتابه، و التاسعة زينب بن خزيمة الهلالية من ولد عبد مناف، و كانت قبله عند عبيدة الحارث و كانت يقال لها ام المساكين و العاشرة ميمونة بنت الحارث و كانت قبله عند ابي مرة العامري، و الحادية عشر حورية بنت الحارث من بني المصطلق سباها

ص:264

فاعتقها و تزوجها، و الثانية عشر صفية بنت حيّ من خيبر اصطفاها لنفسه من الغنيمة ثم اعتقها و تزوجها و جعل عتقها صداقها، و هذه اثنتا عشرة امرأة دخل بهنّ.

و قد تزوج صلوات اللّه عليه و آله عالية بنت ظبيان و طلقها حين دخلت عليه و تزوّج ابنة قيس فمات قبل ان يدخل بها، و تزوج فاطمة بنت ضحّاك و خيرها حين نزلت عليه آية التخيير فاختارت الدنيا و فارقها (قته خ) و كانت بعد ذلك تلتقط البعرة و تقول انا الشقية اخترت الدنيا، و تزوّج سنا بنت الصلب فماتت قبل ان تدخل عليه، و تزوج اسماء بنت النعمان، فلما ادخلت عليه قالت اعوذ باللّه منك، فقال الحقي بأهلك و كان بعض ازواجه علّمتها ذلك فطلقها و لم يدخل بها، و تزوج الملكية الليثية فلما دخل عليها قال لها هبي لي نفسك، فقالت و هل تهب المليكة نفسها فالحقها باهلها، و تزوج عمرة بنت يزيد فرأى بها بياضا فقال دلّستم عليّ فردها، و تزوّج ليلى بنت الحطيم فقالت اقلني فاقالها.

و خطب امرأة ن بني مرّة فقال ابوها ان بها برصا و لم يكن بها فرجع فاذا هي برصاء، و خطب امرأة فوصفها ابوها ثم قال ازيدك انها لم تمرض قطّ فقال صلّى اللّه عليه و آله ما لهذه عند اللّه من خير، و قيل انه تزوجها فلما قال ذلك ابوها طلقها، فهذه احدى و عشرون امرأة و مات عن عشر واحدة منهنّ لم يدخل بها، و قيل عن تسع عايشة و حفصة و ام سلمة و ام حبيبة و زينب بنت جحش و ميمونة و صفية و حويرة و سودة، و كانت سودة ثد وهبت ليلتها لعايشة حين اراد طلاقها و قالت لا رغبة لي في الرجال و انما اريد ان احشر في ازواجك.

و اما مواليه صلّى اللّه عليه و آله فزيد بن حارثة و كان لخديجة اشتراه لها حكيم بن حزام باربعمائة درهم، فوهبته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاعتقه و زوجه ام يمن، فولدت له اسامة فتبنّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان يدعى زيد بن رسول اللّه، حتى انزل اللّه ادعوهم لابائهم، و ابو رافع اسمه اسلم و كان العباس و هبه له، فلما اسلم العباس بشّر ابو رافع النبي صلّى اللّه عليه و آله باسلامه فاعتقه و زوجه سلمى مولاته، فولدت له عبيد اللّه بن ابي رافع فلم يزل كاتبا لامير المؤمنين عليه السّلام ايام خلافته، و سفينة و اسمه رياح اشتراه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاعتقه، و ثوبان من حمير اشتراه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اعتقه، و يسار و كان عبدا نوبيا اعتقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و شقران و اسمه صالح، و ابو كبشة و اسمه سليمان، و ابو ضميرة اعتقه و كتب له كتابا فهو في يد ولده و مدغم و ابو مويهبة و انيسة و فضالة و طهان و ابو ايمن، و ابو هند و ابحشة و صالح و ابو سلمى و ابو عسيب و ابو عبيد، و افلح و رويقع و ابو ليقط و ابو رافع الاصغر و يسار الاكبر و كركرة و رياح و ابو لبابة و ابو البشير.

و اما مولياته فان صاحب الاسكندرية اهدى اليه جاريتين احدهما مارية القبطية ولدت له ابراهيم و وهب الاخرى لحسان بن ثابت، و ام ايمن خاصة النبي صلّى اللّه عليه و آله و كانت سوداء ورثها من

ص:265

امه، و كان اسمها بركة فاعتقها و زوجها عبيد اللّه الخزرجي بمكة فولدت له ايمن فمات زوجها فزوجها النبي صلّى اللّه عليه و آله من زيد، فولدت له اسامة اسود يشبهها فاسامة و ايمن اخوان لام ريحانة بنت شمعون غنمها من قريضة، و اما خدمه من الاحرار فانس بن مالك و هند و اسماء انتا خارجة.

نور في بعض احوال الائمة عليهم السّلام

اما امام الموحدين امير المؤمنين عليه السّلام فولد بمكة في البيت الحرام (1)يوم الجمعة ثالث عشر من شهر اللّه الاصم رجل بعد عام الفيل بثلاثين سنة، و لم يولد في بيت اللّه قطّ غيره، و لقبه امير المؤمنين و لم يجوز اصحابنا ان يطلق هذا اللفظ لغيره من الائمة عليهم السّلام و قالوا انه انفرد بهذا اللقب و لا يجوز ان يشاركه في ذلك غيره كما سبق و قبض عليه السّلام ليلة الجمعة لتسع بقين من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة، و اما اولاده عليه السّلام فهم سبعة و عشرون ولدا ذكرا و انثى، الحسن و الحسين عليهما السّلام، و زينب الكبرى و زينب الصغرى المكنّاة بأم كلثوم امهم فاطمة البتول، و محمد المكنّى بأبي القاسم امه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية، و العباس و جعفر و عثمان و عبد اللّه الشهداء مع اخيهم بكربلا امهم بنت البنين بن خزام و كان العباس يكنى ابا قربة لحمله الماء لاخيه الحسين عليه السّلام و قتل و له اربع و ثلاثون سنة و عمرو و رقية امهما ام حبيب بن ربيعة، و كانا تؤأمين، و محمد الاصغر المكنى بأبي بكر و عبيد اللّه الشهيدان مع اخيهما الحسين عليه السّلام امهما ليلى بنت مسعود الدارمية، و يحيى امه اسماء بنت عميس الخثعمية و توفي صغيرا قبل ابيه و اخوته لامه عبد اللّه و محمد و عون ابناء جعفر بن ابي طالب و محمد بن ابي بكر و ام الحسن و رملة امهما ام سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي، و نفيسة و هي ام كلثوم الصغرى و زينب الصغرى و رقية الصغرى و ام هانئ و ام الكرام و الجمانة المكنّاة بأم جعفر و امامة ام سلمة و ميمونة و خديجة و فاطمة لامهات اولاد شتى.

و اعقب عليه السّلام من خمسة بنين الحسن و الحسين و محمد و عباس و عمر، و قد مرّ ان فاطمة عليها السّلام اسقطت بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله ذكرا و قد سمّاه النبي صلّى اللّه محسنا، و قد سبق سبب اسقاطها له و هو ضرب غلام ذلك الرجل الخيّر لها، و كونه ضعط بطنها على الباب و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فعلى هذا يكون اولاده عليه السّلام ثمانية و عشرين ولدا، اما زينب الكبرى بنت فاطمة البتول فتزوجها عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب و ولد له منها علي و جعفر و عون الاكبر و ام كلثوم اولاد عبد بن جعفر، و اما ام كلثوم التي تزوجها عمر فقد مرّ تحقيق معنى ذلك التزويج، و اما رقية

ص:266


1- 1) هذا هو المعروف بين المسلمين لا شك فيه لاحد.

بنت علي عليه السّلام فكانت عند مسلم بن عقيل فولدت له عبد اللّه قتل بالطف و عليا ابني مسلم، و اما زينب الصغرى فكانت عند محمد بن عقيل فولدت له عبد اللّه و فيه العقب من ولد عقيل.

و اما ام هانئ فكانت عند عبد اللّه الاكبر بن عقيل بن ابي طالب فولدت له محمدا قتل بالطف و عبد الرحمن و اما ميمونة فكانت عند عبد اللّه الاكبر بن عقيل بن ابي طالب فولدت له عقيلا، و اما نفيسة فكانت عند عبد اللّه الاكبر بن عقيل فولدت له ام عقيل و اما زينب الصغرى فكانت عند عبد الرحمن بن عقيل فولدت له سعدا و عقيلا، و اما فاطمة بنت علي عليه السّلام فكانت عند ابي سعيد بن عقيل فولدت له حميدة، و اما امامة بنت علي عليه السّلام فكانت عند الصلت بن عبد اللّه بن نوفل الحارث.

و اما الحسن الزكي الطيب الطاهر فقد ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة و كنيته ابو محمد و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و له سبع سنين و اشهر و قيل ثماني سنين و قام بالامر بعد ابيه و له سبع و ثلثون سنة، و اقام في خلافته ستة اشهر و ثلثة ايام و وقع الصلح بينه و بين معاوية لعنه اللّه في سنة احدى و اربعين و انما هادنه عليه السّلام خوفا على نفسه اذ كتب جماعة من رؤساء اصحابه بالسر اليه بالطاعة و ضمنوا له تسليمه اليه عند دنوهم من عسكره، و لم يكن منهم من يؤمن غائلته الا خاصة من شيعته لا يقومون بأجناد الشام و كتب اليه معاوية في الهدنة و الصلح و بعث بكتب اصحابه اليه فصالحه و شرط الحسن عليه السّلام شروطا، و ما و فى معاوية بواحد منها فخرج الحسن عليه السّلام الى المدينة و اقام بها عشر سنين و مضى الى رحمة اللّه تعالى لليلتين بقيتا من صفر سنة خمسين من الهجرة و له سبع و اربعون سنة و اشهر مسموما، سمته زوجته جعدة بنت الاشعث بن قيس و كان معاوية لعنه اللّه قد دسّ اليها من حملها على ذلك و ضمن لها ان يزوجها من يزيد و اوصل اليها مأة الف درهم فسقته السم، و بقى عليه السّلام اربعين يوما مريضا و تولّى اخوه الحسين عليه السّلام تجهيزه و دفنه عند جدته فاطمة بنت اسد بالبقيع.

و اما اولاد الحسن عليه السّلام فهم ستى عشر ذكرا و انثى، زيد بن الحسن و اختاه ام الحسن و ام الحسين امهم ام بشير بنت ابي مسعود الخزرجية، و الحسن بن الحسن امه خولة بنت منظور الفزارية و عمر بن الحسن و اخواه عبد اللّه و القاسم ابنا الحسن عليه السّلام قتلا مع الحسين عليه السّلام بكربلا امهم ام ولد، و عبد الرحمن بن الحسن امه ام ولد و الحسين بن الحسن الملقب بالاثرم و اخوه طلحة و اختها فاطمة امهم ام اسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه التيمي و ابو بكر قتل مع الحسين عليه السّلام، و ام عبد اللّه و فاطمة و ام سلمة و رقية لامهات اولاد شتى و كان زيد بن الحسن عليه السّلام يلى صدقات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان جليل القدر و مات و له تسعون سنة و خرج من الدنيا و لم يدّع الامامة و لا ادعى له مدّع من الشيعة. ؟

ص:267

و اما الحسن بن الحسن فكان جليلا فاضلا و كان يلي صدقات امير المؤمنين عليه السّلام و روى انه خطب الى عمه الحسين عليه السّلام واحدة ابنتيه فقال له الحسين عليه السّلام يا بني اختر احبهما اليك، فاستحى الحسن فقال الحسين عليه السّلام فاني قد اخترت لك ابنتي فاطمة فهي اكثرهما شبها بأمي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان عبد اللّه بن الحسن قد زوجه الحسين عليه السّلام ابنته (1)فقتل قبل ان يبنى بها.

و اما الحسين عليه السّلام فمولده بالمدينة يوم الثلاثا و قيل يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان، و قيل لخمس منه سنة اربع من الهجرة، و قيل ولد آخر شهر ربيع الاول سنة ثلاث من الهجرة و لم يكن بينه و بين اخيه الحسن عليه السّلام الا الحمل و الحمل ستة اشهر و عاش عليه السّلام سبعا و خمسين سنة و خمسة اشهر، و كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبه سنين و مع امير المؤمنين عليه السّلام سبعا و ثلثين سنة، و مع اخيه الحسن عليه السّلام سبعا و اربعين سنة، و كانت مدة خلافته عشر سنين و اشهرا، و قتل صلوات اللّه عليه يوم عاشوراء يوم الاثنين، و قيل يوم الجمعة سنة احدى و ستين من الهجرة.

و اما كيفية مقتله فنفرد له ان شاء اللّه تعالى نورا في مصائب المؤمنين، و اما اولاده عليه السّلام فهم ستة علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام امه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار، و علي الاصغر امه ليلى بنت ابي مرة بن مسعود الثقفية، و جعفر بن الحسين و امه قضاعية و مات في زمن ابيه و لا عقب له، و عبد اللّه قتل مع ابيه صغيرا و هو في حجره و سكينة بنت الحسين و امها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، و فاطمة بنت الحسين عليه السّلام و امها ام اسحاق بن طلحة بن عبد اللّه.

و اعلم انه قد وقع خلاف بين علمائنا رضوان اللّه عليهم في علي المقتول في واقعة الطفوف هل هو علي الاصغر او علي الاكبر، فذهب شيخنا الشهيد (ره) في الدروس و ابن ادريس في سرائره و الكفعمي في مصباحه الى ان المقتول مع ابيه هو علي الاكبر الذي امه تليلى بنت ابي مرة، و هو اول قتيل في الواقعة و ولده في امارة عثمان، و ذهب جماعة و منهم صاحب اعلام الورى الى ان المقتول هو علي الاصغر و هو ابن الثقفية، و ان علي الاكبر هو زين العابدين عليه السّلام امه شهربانو بنت كسرى، قال محمد بن ادريس و الاولى الرجوع الى اهل هذه الصناعة السابقين و اهل السيرة و التواريخ مثل الزبير بن بكّار و ابو الفرج الاصفهاني و البلاذري و المزني و العمري و ابن قتيبة و الطبري و ابي الازهري و الدينوري، و صاحب كتاب الانوار و هؤلاء كلهم اتفقوا على ان المقتول المدفون مع ابيه هو علي الاكبر الذي امه الثقفية، و لا فائدة تبنى على مثل هذا الخلاف سوى الاطلاع على احوالهم عليهم السّلام، و اما القائم على باب الحسين عليه السّلام فهو رشيد الهجري.

ص:268


1- 1) و هي سكينة عليها السّلام كما صرح به الامام الطبرسي ره في اعلام الورى [1]انظر ص 127.

و اما سيد الساجدين و زين العابدين عليه السّلام فيكنّى بأبي محمد و ابي القاسم، و من القابه عليه السّلام ذو الثفنات و ذلك ان موضع السجود كنقرة البعير من كثرة السجود ولد بالمدينة يوم الجمعة يوم الخميس في النصف من جمادي الاخرة و قيل لتسع خلون من شعبان سنة ثمان و ثلاثين من الهجرة، و قيل سنة ستت و ثلاثين، و في اعلام الورى ان عليا عليه السّلام ولىّ حريث بن جابر الحنفي جانبا من بلاد المشرق فبعث اليه بأبنتي يزدجرد بن شهريار فنحل ابنه الحسين عليه السّلام احدهما فأولدها زين العابدين عليه السّلام و نحل اخرى محمد بن ابي بكر فولدت له القاسم بن محمد بن ابي بكر، فهما ابنا خالة و توفي صلوات اللّه عليه يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة خمس و تسعين من الهجرة، و كانت مدة امامته بعد ابيه اربعا و ثلاثين سنة، و مات و له سبع و خمسون سنة، و كان في ايام امامته عليه السّلام بقية ملك يزيد بن معاوية و ملك معاوية بن يزيد و مروان بن الحكم و عبد الملك بن مروان و توفي في زمان ملك الوليد بن عبد الملك و قد مات مسموما سمّه هشام بن عبد الملك لعنه اللّه تعالى.

و اما اولاده عليه السّلام فهم خمسة عشر ولدا محمد الباقر عليه السّلام امه ام عبد اللّه فاطمة بنت الحسن بن علي بن ابي طالب عليه السّلام و ابو الحسين زيد و عمر امهما ام ولد، و عبد اللّه و الحسن و الحسين امهم ام ولد، و الحسين الاصغر و عبد الرحمن و سليمان لام ولد و علي كان اصغر ولده عليه السّلام و خديجة امهما ام ولد و محمد الاصغر امه ام ولد، و فاطمة و عليّة و ام كلثوم و كان زيد بن علي بن الحسين افضل اخوته بعد اخيه الباقر عليه السّلام و كان عابدا ورعا سخيّا شجاعا و ظهر بالسيف يطلب ثارات الحسين عليه السّلام، و يدعوا الى الرضا من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله فظنّ الناس انه يريد بلك نفسه، و جاءت الرواية ان سبب خروجه بعد الذي ذكرناه انه دخل عليه السّلام على هشام بن عبد الملك و قد جمع هشام اهل الشام ان يتضايقوا له في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول الى قربه، فقال له زيد انه ليس من عباد اللّه احد فوق ان يوصي بتقوى اللّه، و لا من عباده احد دون ان لا يوصي بتقوى اللّه و انا اوصيك بتقوى اللّه يا هشام فافقه، فقال له هشام انت المؤهّل نفسك للخلافة و ما انت و ذاك لا امّ لك و انما انت ابن امة، فقال له زيد اني لا اعلم احدا اعظم منزلة عند اللّه من نبي و هو ابن امة ن فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعثه و هو اسماعيل بن ابراهيم عليه السّلام فالنبوة اعظم منزلة عند اللّه ام الخلافة، و بعد فما يقصر برجل ابوه (جده ظ) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو ابن علي بن ابي طالب عليه السّلام، فوثب هشام عن مجلسه و دعا قهرمانه و قال لا يبيتن هذا في عسكري، فخرج زيد و هو يقول انه لم يكره قوم قطّ حرّ السيوف الا ذلّوا، و كان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين و مائة، و كان سنّه يوم قتل اثنين و اربعين سنة.

ص:269

و اما الامام الباقر عليه السّلام فمولده بالمدينة سنة سبع و خمسين من الهجرة يوم الجمعة غرّة شهر رجب، و قيل الثالث من صفر، و قبض عليه السّلام سنة اربع عشر و مأة في ذي الحجة، و قيل في شهر ربيع الاول و قد تمّ عمره سبعا و خمسين سنة و مات مسموما سمّه ايضا هشام بن عبد الملك في وقت ملكه، امه ام عبد اللّه فاطمة بنت الحسن عليه السّلام فهو هاشمي من هاشميين علوي من علويين، و قبره بالبقيع الى جانب ابيه زين العابدين عليه السّلام، عاش مع جدّه الحسين عليه السّلام اربع سنين، و مع ابيه تسعا و ثلاثين سنة و كانت مدة امامته ثماني عشرة سنة، و كان في ايام امامته بقية ملك الوليد بن عبد الملك و سليمان بن عبد الملك و عمر بن عبد العزيز و يزيد بن عبد الملك و هشام بن عبد الملك و توفي في ملكه، و اما اولاده عليه السّلام فهم سبعة ابو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام و كان يكنّى به، و عبد اللّه بن محمد و امهما ام فروة بنت القاسم بن محمد بن ابي بكر، و ابراهيم و عبيد اللّه و امهما ام حكيم بنت اسد بن المغيرة الثقفية، و علي و زينب لام ولد، و ام سلمة لام ولد و قيل ان لابي جعفر عليه السّلام ابنة واحدة فقط ام سلمة و اسمها زينب.

و اما الصادق عليه السّلام فولد بالمدينة لثلث عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الاول سنة ثلاث و ثمانين من الهجرة، و مضى عليه السّلام في النصف من رجب و يقال في شوال سنة ثمان و اربعين و مأة و له خمس و ستون سنة، اقام منها مع ابيه وجده اثنتى عشرة سنة، و بعد ابيه ايام امامته اربعا و ثلاثين سنة، و كان في ايام امامته بقية ملك هشام بن عبد الملك و ملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك و ملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك و ملك ابراهيم بن الوليد و ملك مروان بن محمد الحمار، ثم صارت المسودة من اهل خراسان مع ابي مسلم الخراساني سنة اثنين و ثلثين و مأة، فملك ابو العباس عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس الملقب بالسفاح اربع سنين و ثمانية اشهر، ثم ملك اخوه ابو جعفر الملقب بالمنصور احدى و عشرين سنة واحد عشر شهرا، و توفي الصادق عليه السّلام بعد عشر سنين من ملكه قد سمّه بعنب و دفن بالبقيع.

و اما اولاده عليه السّلام فهم عشرة، اسماعيل و عبد اللّه و ام فروة امهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن ابي طالب، و موسى و اسحاق و فاطمة و محمد لام ولد اسمها حميدة البربرية، و العباس و علي و اسماء لامهات اولاد شتى، اما اسماعيل فكان اكبر اخوته فمات في حيوة ابيه بالعريض و حمل على رقاب الرجال الى المدينة حتى دفن بالبقيع و روى ان ابا عبد اللّه عليه السّلام جزع عليه جزعا شديدا و تقدم سريره بغير حذاء و لا رداء و امر بوضع سريره على الارض قبل دفنه مرارا كثيرة، و كان يكشف عن وجهه و ينظر اليه يريد بذلك تحقيق امر وفاته عند الظانين خلافته من بعده، و ازالة الشبهة عنهم في حيوته و لما مات اسماعيل انصرف عن القول بامامته بعد ابيه من كان يظنّ كذلك و اقام على حيوته طائفة ممن لم يكونوا من خواص ابيه بل كانوا من الاباعد و لما مات

ص:270

الصادق عليه السّلام انتقل جماعة منهم الى القول بامامة موسى بن جعفر عليهما السّلام، و افترق الباقون منهم فريقين فريق منهم رجعوا عن حيوة اسماعيل و قالوا بامامة ابنه محمد بن اسماعيل لظنهم ان الامامة كانت في ابيه و ان الابن احق بمقام الاب من الاخ، و فريق منهم ثبتوا على حيوة اسماعيل و هذان الفريقان يسميان الاسماعيلية.

و اما عبد اللّه بن جعفر فانه كان اكبر اخوته بعد اسماعيل و لم يكن له منزلة عند ابيه و كان متهما بالخلاف على ابيه في الاعتقاد و ادّعى الامامة بعد وفاة ابيه فاتبعه جماعة و رجع اكثرهم الى القول بامامة موسى عليه السّلام لما ظهر عندهم براهين امامته، و لم يبق الا طائفة يسيرة تسمى الفطحية، و ذلك لان عبد اللّه كان افطح الرجلين، او لان داعيهم الى ذلك رجل اسمه عبد اللّه بن افطح، و اما محمد بن جعفر فكان يرى رأي الزيدية في الخروج بالسيف، و كان سخيّا شجاعا و كان يصوم يوما و يفطر يوما و يذبح كل يوم كبشا للضيافة، و خرج على المأمون سنة تسع و تسعين و مأة فخرج لقتاله عيسى الجلودي فهزم اصحابه و اخذه و انفذه الى المأمون، فوصله و اكرمه و كان مقيما معه بخراسان و اما اسحاق بن جعفر فكان ورعا فاضلا مجتهدا و كان يقول بامامة اخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام.

و اما علي بن جعفر فكان من الورع بمكان لا يدانى فيه و كذلك من الفضل و لزم اخاه موسى بن جعفر عليهما السّلام و قال بامامته و امامة الرضا و الجواد عليهم السّلام و كان اذا رأى الجواد مع الصبيان يقوم اليه من المسجد بين جماعة الشيعة و ينكب على اقدامه و يمسح شيبه على تراب رجليه و يقول قد رأى اللّه هذا الصبي اهلا للامامة فجعله اماما و لم تر شيبتي هذه اهلا للامامة لا جماعة من الشيعة كانوا يقولون له انت امام فادّع الامامة و كان لا يقبل منهم قولا، و روى ان الجواد عليه السّلام اذا ارد ان يفصد لاخذ الدم يقول علي بن جعفر للفصّاد تعال افصدني حتى اذوق حرارة الحديد قبل الجواد عليه السّلام و اما من كان ملازما لباب الصادق عليه السّلام فهو المفضل بن عمر و من هذا قال المفيد طاب ثراه في ارشاده ان المفضل من شيوخ اصحاب ابي عبد اللّه عليه السّلام و خاصّته و بطانته و ثقاته من الفقهاء الصالحين، و اكثر اصحابنا من اهل الرجال ضعّفوه بارتفاع القول و بموافقة اخباره لاخبار الغلاة.

يستفاد من كلام ابن طاووس و المفيد و جماعة من القدماء ان الائمة عليهم السّلام كانوا يخصّون بعض الشيعة باسرار الاحاديث و لم يحدثوا بها غيرهم لعدم احتمال الغير لها، فاذا حدّث الخواص بتلك الاحاديث ردّت عليهم و اتهموا في روايتها و نسبوا الى ارتفاع القول و الغلو، و الى انها احاديث اختلفوها حيث انه لم يشاركهم في نقلها من الائمة عليهم السّلام غيرهم، كمحمد

ص:271

بن سنان و المفضل بن عمر و نحوهما من الابواب فقد ذمه قوم بما مدحه آخرون، و كم من فرق بين المذهبين و قد حققنا المقام في كتاب كشف الاسرار في شرح الاستبصار و اللّه الموفق للصواب.

و اما الكاظم عليه السّلام فقد ولد بالابواء و هو منزل بين مكة و المدينة لسبع خلون من صفر سنة ثمان و عشرين و مأة و قبض عليه السّلام ببغداد في حبس السندي بن شاهك لخمس بقين من رجب و قيل لسبع خلون من رجب سنة ثلاث و ثمانين و مأة، و له يومئذ خمس و خمسون سنة، و امه ام ولد، يقال لها حميدة البربرية، و كنيته ابو الحسن و هو ابو الحسن الاول و ابو ابراهيم و ابو علي و يعرف بالعبد (بعبد) الصالح و كانت مدّة امامته عليه السّلام خمسا و ثلاثين سنة، و قام بالامر و له عشرون سنة، و كانت في ايام امامته بقية ملك المنصور ابي جعفر ثم ملك ابنه المهدي عشر سنين و شهرا ثم ملك ابنه الهادي موسى بن محمد سنة و شهرا ثم ملك هرون بن محمد الملقب بالرشيد، و استشهد عليه السّلام بعد مضي خمس عشر سنة من ملكه سمّه هارون في رطب، و قيل في طعام قدمه اليه و قد كان عليه السّلام يعلم ان هارون يسمه في الرطبات و كذلك باقي الائمة عليهم السّلام.

فان قلت اذا كان الحال على هذا فكيف جاز تناول ذلك الطعام المسموم و هل هذا الا اعانة على النفس و الالقاء بالايدي الى التهلكة المنهي عن كل منهما، قلت قد روى عن ابراهيم بن ابي محمود قال قلت لابي الحسن الرضا عليه السّلام الامام يعلم متى يموت فقال نعم، قلت حيث بعث اليه يحيى بن خالد بالرطب و الريحان المسمومين علم به قال نعم قلت فأكله و هو يعلم فيكون معينا على نفسه فقال لا انه يعلم قبل ذلك ليتقدم فيما يحتاج اليه فاذا جاء الوقت القى اللّه على قلبه النسيان ليمضي فيه الحكم، و هذا الحديث يكشف عن الشهبة الواردة على كثير من احوال الائمة عليهم السّلام التي كانت السبب في موتهم كما لا يخفى و كفّن فيه حبرة استعملت بالفي و خمسمائة دينار عليه القرآن كله.

و اما عدد اولاده عليه السّلام فهم سبعة و ثلاثون ولدا ذكرا و انثى، الامام علي الرضا عليه السّلام و ابراهيم و العباس و القاسم لامهات اولاد، و احمد و محمد و حمزة لام ولد و عبد اللّه و اسحاق و عبيد اللّه و زيد و الحسين و الفضل و سليمان لامهات اولاد، و فاطمة الكبرى و فاطمة الصغرى و رقية و حكيمة و ام ابيها و رقية و الصغرى و كلثم و ام جعفر و لبابة و زينب و خديجة و علية و آمنة و حسنة و بريهة و عايشة و ام سلمة و ميمونة و ام كلثوم، و كان احمد بن موسى عليه السّلام كريما و كان موسى عليه السّلام يحبه، و كان محمد بن موسى عليه السّلام صالحا ورعا و هما مدفونان في شيراز و الشيعة تتبرك بقبورهما و تكثر زيارتهما و قد زرناهما كثيرت، و اما ابراهيم بن موسى عليه السّلام فكان شجاعا كريما و اما والد مؤلف الكتاب عفا اللّه عنه فهو السيد عبد اللّه و نسبه هكذا نعمة اللّه بن السيد عبد اللّه بن السيد محمد بن السيد حسين بن السيد احمد بن السيد محمود بن السيد غياث الدين بن السيد

ص:272

مجد الدين بن السيد نور الدين بن السيد سعد الدين بن السيد عيسى بن السيد موسى بن السيد عبد اللّه بن الامام الهمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السّلام اولئك آبائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا يا جرير المجامع.

و قد احسن ابو نواس حيث قال في مدح الرضا عليه السّلام:

مطهرون نقيات ثيابهم تجري الصلوة عليهم اينما ذكروا

من لم يكن علويا حين تنسبه فما له من قديم الدهر مفتخر

فانتم الملأ الاعلى و عندكم علم الكتاب و ما جائت به السور

فقال له الرضا عليه السّلام قد جئتنا بابيات ما سبقك اليها احد و قد مدحه حين جعله المأمون و لي عهده و خطب و ضرب الدراهم باسمه و اعطى الشعراء الجوائز على مدحه فمدحوه سوى ابي نواس فعاتبه الخليفة على تركه المدح الرضا عليه السّلام فقال:

قيل لي انت اوحد الناس طرا في المعاني و في الكلام النبيه

لك من جوهر الكلام بديع يثمر الدر في يدي مجتنيه

فعلى ما تركت مدح ابن موسى و الخصال التي تجمعّن فيه

قلت لا اهتدي لمدح امام كان جبرئيل خادما لابيه

و قد كان جدنا المرحوم ورد الى الجزائر فبقى فيها و الان له ذراري كثيرة و اولاد و احفاد كثر اللّه العلويين في مشارق الارض و مغاربها، و اما ابوابه عليه السّلام فهو محمد بن الفضل بن عمرو و هو مجهول الحال في كتب الرجال و لكن كونه من الابواب مما يدلّ على مدحه بل على توثيقه، فيكون حديثه صحيحا و كثيرا ما اهمل الرجاليون توثيق من لا يختلج الريب في حسن حاله، و قد ذكرنا وجهه في شرح تهذيب الحديث.

و اما الامام علي الرضا عليه السّلام فقد ولد بالمدينة سنة ثمان و اربعين و مأة بعد الهجرة و يقال انه ولد لاحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، يوم الجمعة سنة ثلث و خمسين و مأة بعد وفاة ابي عبد اللّه عليه السّلام بخمس سنين و قيل يوم الخميس و أمه ام ولد يقال لها ام البنين و اسمها نجمة، و يقال لها سكن النوبية، و يقال تكتم و كانت من اشراف العجم، و قد سمه المأمون لعنه اللّه في رمان و عنب و قد غسله ابنه الجواد عليه السّلام اتى اليه من المدينة بطي الارض و هو مريض فأخذ منه علوم الامامة و جهزه ثم تركه فلما دخل عليه المأمون رآه كأنه لم يغسل و لم يكفن و لم يصلّ عليه، و له

ص:273

من الاولاد ثلاثة اولاد و اما من كان بابه فهو عمر بن الفرات و قد ذكر اهل الرجال في شأنه انه كاتب بغدادي غال و هذا ايضا من ذاك لان وصفه بالغلو لما تقدم فيكون دليلا على علو رتبته.

و اما الامام ابو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السّلام فقد ولد في شهر رمضان سنة خمس و تسعين و مأة لسبع عشر ليلة مضت من الشهر و قيل للنصف من ليلة الجمعة و في رواية اين عياش ولد يوم الجمعة لعشر خلون من رجب و قبض عليه السّلام ببغداد في آخر ذي القعدة سنة عشرين و مأتين، و له يومئذ خمش و عشرون سنة، و كانت مدة خلافته لابيه سبع عشرة سنة، و كانت في ايام امامته بقية ملك المأمون و قبض عليه السّلام في اول ملك المعتصم و امه ام ولد يقال لها خيزران و كانت نوبية، و دفن في مقابر قريش في ظهر جده موسى عليه السّلام مات مسموما قد سمه المعتصم، و اما وكيل بابه فهو عمر بن الفرات ايضا و له من الاولاد علي ابنه الامام عليه السّلام و موسى، و من البنات حليمة و خديجة و ام كلثوم، و يقال انه خلف فاطمة و امامة ابنتيه و لم يخلف غيرهم.

و اما الامام ابو الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى عليهم السّلام فقد ولد بالمدينة للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشر و مأتين، و في رواية ابن عياش يوم الثلاثا الخامس من رجب و قبض عليه السّلام بسر من رأى في رجب سنة اربع و خمسين و مأتين و له يومئذ احد و اربعون سنة و اشهر، و كانت مدة امامته ثلاثا و ثلثين سنة، و امه ام ولد يقال لها سمانة و لقبه النقي و العالم و الفقيه و الامين و الطيب و يقال له ابو الحسن الثالث، و كانت في ايام امامته عليه السّلام بقيت ملك المعتصم ثم ملك الواثق خمس سنين و سبعة اشهر ثم ملك المتوكل اربعة عشر سنة ثم ملك ابنه المنتصر ستة اشهر ثم ملك المستعين و هو احمد بن محمد بن المعتصم سنتين و تسعة اشهر ثم ملك المعتز و هو الزبير بن المتوكل ثماني سنين و ستة اشهر و في آخر ملكه استشهد و لي اللّه علي بن محمد سمّه المعتزّ لعنه اللّه تعالى و اما وكيل بابه فهو عثمان بن سعيد و هو على باب ابنه الحسن و باب صاحب الدار عليهم السّلام، و قد وثقه الاصحاب و اثنوا عليه و له عليه السّلام من الاولاد ابنه الحسن عليه السّلام الامام بعده و الحسين و محمد و جعفر الملقب بالكذاب و ابنته غالية.

و امام الامام الحسن العسكري عليه السّلام فقد كان مولده بالمدينة يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الاول سنة اثنتي و ثلثين و مأتين و قبض عليه السّلام بسر من رأى لثمان خلون من شهر ربيع الاول سنة ستين و مأتين و له يومئذ ثمان و عشرون سنة، امه ام ولد يقال لها حديثة و كانت مدة خلافته ست سنين و لقبه الهادي و السراج، و العسكري عليه السّلام و كان ابوه وجده يعرف كل منهم في زمانه بابن الرضا و كانت في سني امامته بقية ملك المعتز اشهرا ثم ملك المهتدي احد عشر شهرا و ثمانية و عشرين يوما ثم ملك احمد المعتمد على اللّه ابن جعفر المتوكل عشرين سنة واحد عشر

ص:274

شهرا و بعد مضي خمس سنين من ملكه سمّه المعتمد و دفن في بيته بسرّ من رأى في البيت الذي دفن فيه ابوه عليه السّلام.

نجزّ الجزء الاول من الكتاب على حسب تجزئتنا في الطبع و يتلوه الجزء الثاني و اوله (نور في بيان بعض احوال مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه) و نسأل اللّه التوفيق لاتمامه، و الحمد للّه اولا و آخرا، و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين.

و قد تصدى لتصحيحه و بذل الجهد فيه العبد الحقير عيسى الاهري و عمران الغريبدوستي و وفقنا اللّه تعالى لاتمامه في شهر ذي الحجة الحرام سنة 1378 ه.

ص:275

محتويات الجزء الاول

(الباب الاول) يشتمل على أنوار 11

نور، في معرفة الباري سبحانه 11

نور الهي 15

نور نبوي 16

نور امامي 21

نور علوي 22

فايدة 32

نور مرتضوي 33

نور علوي 79

نور سماوي 84

نور غديري 97

نور صلواتي 101

نور في ابتداء خلق الدنيا 109

نور سماوي يكشف عن ابتداء خلق السموات 112

نور عرشي 122

يكشف عن بعض احوال العرش و الكرسي 122

نور حجابي يكشف عن بعض ما فوق العرش 125

نور قمري يتعلق باحوال القمر 127

نور شمسي 136

نور نجومي 138

نور في بعض الامور التابعة للكواكب 148

نور ملكي يكشف عن بعض احوال الملائكة 150

نور ملوكتي 158

في بعض ما في عالم الملكوت 158

نور يكشف عن مكان الجنة و النار الاخرويتان 163

نور آدمي 164

ص:276

في ابتداء خلق ابينا آدم و امنا حوى عليهما السّلام 164

نور روحاني 196

يكشف عن الروح و توابعها 196

نور ميثاقي يشتمل على التكليف الاول 200

نور طيني 206

يكشف عن احوال طينة المؤمن و غيره 206

نور علمي تقديري 214

نور يكشف عن بعض احوال علمه القديم و تقديره الازلي سبحانه و تعالى 214

نور يشتمل على العجائب 226

نور ارضي 239

نور في سلسلة النبوة و الوصاية 257

نور في بعض احوال الائمة عليهم السّلام 266

ص:277

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:جزایری، نعمت الله بن عبدالله، ق 1112 - 1050

عنوان قراردادی:[الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه]

عنوان و نام پديدآور:الانوار النعمانیه/ تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

مشخصات نشر:بیروت - لبنان - دارالقاریء 1429

مشخصات ظاهری:4ج

عنوان دیگر:الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه

موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه

موضوع:ادبیات عربی -- مجموعه ها

موضوع:احادیث شیعه -- قرن ق 12

ص :1

ادامة الباب الثاني

الانوار النعمانیه

تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

ص :2

نور في بيان بعض احوال مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه

و الكلام هنا يقع في امور:

الاول تحقيق الخلاف بين الشيعة و مخالفيهم في وجوده الان و نقل بعض الدلائل من طريق المخالفين.

إعلم وفقك اللّه تعالى ان اخبار الشيعة التي نقلوها من النبي و الائمة عليهم السّلام في المهدي الذي بشرت به المسلمون في جميع الاعصار تواترت على أنه هو صاحب الزمان ابن مولانا الامام الحسن العسكري عليهما السّلام و اما مخالفونا من جميع فرق الاسلام فقد اجمعوا على وقوع البشارة بالمهدي عليه السّلام و انما خالفوا في وقت ولادته و تعيين امه و ابيه،و اما انكاره مطلقا فلا يمكنهم لتواتر الاخبار من طرقهم في هذا المعنى،من ذلك ما رووه في الجمع بين الصحاح الستة عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المهدي مني اجلى الجبهة اقنى الانف يملأ الارض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما يملك سبع سنين و في رواية كتاب المصابيح تسع سنين.

و من ذلك ما رووه في الجمع بين الصحاح الستة ايضا عن ابي اسحاق قال قال علي عليه السّلام و نظر الى ابنه الحسين عليه السّلام و قال ان ابني هذا سيد كما سماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سيخرج من صلبه رجل باسم نبيكم يشبهه في الخلق يملأ الارض عدلا،و في كتاب كشف المخفي في مناقب المهدي مأة و عشرة احاديث من طرق رجال الاربعة مذاهب تركنا نقلها طلبا للاختصار،و اما الاشارة الى اماكنها فمنها من صحيح البخاري ثلاثة احاديث و من الجمع بين الصحيحين للحميدي حديثان و من الجمع بين الصحاح الستة لرزين بن معاوية العبدي احد عشر حديثا،و من كتاب الحافظ من مسند احمد بن حنبل سبعة احاديث و من تفسير الثعلبي خمسة احاديث،و من غريب الحديث لابن قتيبة الدينوري ستة احاديث و من كتاب الفردوس لابن شيرويه الديلمي اربعة احاديث، و من كتاب الدار قطني في مسند سيدة النساء فاطمة عليها السّلام ستة احاديث و من كتاب الحافظ ايضا في مسند علي بن ابي طالب ثلاثة احاديث و من كتاب المبتدأ للكسائي حديثان،و من كتاب المصابيح لابي محمد الحسين بن مسعود الفرا خمسة احاديث و من كتاب الملاحم لاحمد بن جعفر المناري اربعة و ثلاثون حديثا و من كتاب الخضرمي المعروف بالمطين ثلاثة احاديث و من كتاب الرعاية لاهل الرواية ثلاثة احاديث و منها خبر سطيح برواية الحميدي ايضا و من كتاب الاستيعاب لابي عمر يوسف بن عبد البر النميري حديثان و هذه الاخبار على كثرتها قد تضمنت خلقه و خلقه و ولادته و احواله على التفصيل.

و المخالفون قالوا انا لا ننكر المهدي و انه من اولاد فاطمة عليها السّلام و انه يملأ الارض عدلا و لكن وجوده و ولادته في الزمان المستقبل عند خروج الدجال و اقوى دلائلهم على هذا استبعاد طول

ص:3

عمر الشريف فان بنية الانسان على ما هو المشاهد يأخذها السنّ و يهدمها طول العمر و العناصر لا يبقى تركيبها ازيد من العمر المتعارف،و لا يخفى ان هذا سؤال ركيك لا يحتاج الى الجواب لانه قد تواتر كثير من الاخبار بطول عمر جماعة من الانبياء و غيرهم من المعمرين و هذا الخضر عليه السّلام على طول السنين و اصحاب الكهف لبث ثلثمائة سنين و ازدادوا تسعا و هم احياء كالنيام فهؤلاء المجوفون المحتاجون الى طعام و شراب قد بقوا هذه المدة بغير طعام و لا شراب و بقوا زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله حيث بعث الصحابة على البساط للتسليم عليهم فلم يكلّم احدا من الصحابة الا امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام و اعتذروا عن عدم تكلمهم الصحابة بأنه لم يؤذن ان تكلّم الا نبيا او وصيه كما رواه الثعلبي و غيره من الجمهور.

و من المعمرين علي بن عثمان بن خطاب بن مرة بن مؤيد معمّر المغربي ابو الدنيا قال الصدوق طاب ثراه حدثنا ابو سعيد عبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب بن نصر الشجري قال حدثنا ابو بكر محمد بن الفتح المزكى و ابو الحسن علي بن الحسن حكما الملاشكي ختن ابي بكر قالا لقينا بمكة رجلا من اهل المغرب فدخلنا عليه مع جماعة من اصحاب الحديث ممن كان حضر الموسم في تلك السنة و هي سنة تسع و ثلثمائة،فرأيناه رجلا اسود الرأس و اللحية كأنه ش بال و حوله جماعة من اولاد اولاد اولاده و مشايخ من اهل بلده ذكروا انهم من اقصى بلاد المغرب بقرب باهرق العليا و شهدوا هؤلاء المشايخ انا سمعنا آبائنا حكوا عن آبائهم و اجدادهم انا عهدنا هذا الشيخ المعروف بابي الدنيا معمر و اسمه علي بن عثمان و ذكر انه همداني و ان اصله من صنعاء اليمن فقلنا له انت رأيت علي بن ابي طالب عليه السّلام فمال بيده ففتح عينيه و قد كان وقع حاجباه على عينيه ففتحهما كانهما سراجان و قال رأيته بعيني هاتين و كنت خادما له و كنت معه في وقعت صفين و هذه الشجة من دابة علي عليه السّلام و ارانا اثره على حاجبه الايمن و شهد الجماعة الذين كانوا حوله من المشايخ و من حفدته و اسباطه بطول العمر انهم منذ ولدوا عهدوه على هذه الحالة، قالوا و كذا سمعنا من آبائنا و اجدادنا ثم انا فاتحناه و سايلناه عن قصته و حاله و سبب طول عمره فوجدناه ثابت العقل يفهم ما يقال و يجيب عنه بلبّ و عقل فذكر انه كان له والد قد نظر في كتب الاوايل و قرأها و قد كان وجد فيها ذكر نهر الحيوان و انها تجري في الظلمات و انه من شرب منها طال عمره فحمله الحرص على دخول الظلمات فتحمل و تزود حسب ما قدر انه يكتفي به في مسيره و اخرجني معه و اخرج معنا خادمين و باذلين و عدّة اجمال لبون و روايا و زاد و انا يومئذ ابن ثلاث عشر سنة فسار بنا الى ان وافينا طرف الظلمات ثم دخلنا فسرنا فيها نحو سنة ايام بلياليها و كنّا نميز بين الليل و النهار بأن النهار كان يكون اضوء قليلا و اقلّ ظلمة من الليل فنزلنا بين جبال و اودية و ذكوات و قد كان والدي رحمه اللّه وجد في الكتب التي قرأها ان مجرى نهر الحيوان في ذلك الموضع فأقمنا في تلك البقعة اياما حتى فنى الماء الذي كان معنا و اسقينا جمالنا و لو لا ان

ص:4

جمالنا كانت لبون لهلكنا و تلفنا عطشا،و كان والدي يطوف في تلك البقعة في طلب النهر و يأمرنا ان نوقد نارا ليهتدى اذا اراد الرجوع الينا فمكثنا في تلك البقعة نحوا من خمسة ايام و والدي يطلب النهر فلا يجده،و بعد الاياس عزم على الانصراف حذرا من التلف لفناء الزاد و الماء و الخدم الذين كانوا معنا ضجروا و خشوا التلف على انفسهم،فألحوا على والدي بالخروج من الظلمات، فقمت يوما من الرحل لحاجتي فتباعدت من الرحل قد رمية سهم،فعثرت بنهر ماء ابيض اللون عذبا لذيذا لا بالصغير من الانهار و لا بالكبير يجري جريا لينا فدنوت منه و غرفت منه بيدي غرفتين او ثلاثا فوججدته عذبا باردا لذيذا،فبادرت مسرعا الى الرحل و بشرت الخدم بأني قد وجدت الماء،فحملوا معنا من القرب و الادوات لنملأها،و لم اعلم ان والدي في طلب ذلك النهر و كان سروري بوجود الماء لما كنا عدمنا الماء و فنى ما كان معنا،و كان والدي في ذلك الوقت مشغولا بالطلب فجهدنا فطفنا ساعة هوية على ان نجد النهر فلم نهتد اليه حتى ان الخدم كذبوني و قالوا لي لم تصدق،فلما انصرفنا الى الرحل و انصرف والدي اخبرته بالقصة،فقال لي يا بني الذي اخرجني الى ذلك المكان و تحمل الخطر كان لذلك النهر و لم ارزق انه و رزقته انت،و سوف يطول عمرك حتى تمل الحياة و رحلنا منصرفين و عدنا الى اوطاننا و بلدنا،و عاش والدي بعد ذلك سنينات ثم توفى رحمة اللّه عليه.

فلما بلغ سني قريبا من ثلثين سنة و كان قد اتصل بنا وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و وفاة الخليفتين من بعده خرجت حاجا فلحقت آخر ايام عثمان،قال فمال قلبي من جماعة اصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله الى علي بن ابي طالب عليه السّلام فأقمت معه اخدمه،و شهدت معه وقايع و في وقعة صفين اصابتني هذه الشجة من دابته،فما زلت مقيما معه الى ان مضى لسبيله عليه السّلام فالحّ عليّ اولاده و حرمه ان اقيم عندهم فلم اقم،و انصرفت الى بلدي و خرجت ايام بني مروان حاجا انصرفت مع اهل بلدي و الى هذه الغاية ما خرجت في سفر الا ان الملوك في بلاد المغرب يبلغهم خبري و طول عمري فيشخصوني الى حضرتهم ليروني و يسألوني عن سبب طول عمري و عما شاهدت،و كنت اتمنى و اشتهي ان احجّ حجة أخرى فحملني هؤلاء حفدتي و اسباطي الذين ترونهم حولي و ذكر انه ق سقطت اسنانه مرتين او ثلاثة،فسألناه ان يحدثنا بما سمعه من امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام فذكر انه لم يكن له حرص و لا همة في العلم في وقت صحبته لعلي بن ابي طالب عليه السّلام و الصحابة ايضا كانوا متوافرين فمن فرط ميلي الى علي عليه السّلام و محبتي له لم اشتغل بشيء سوى خدمته و صحبته،و الذي كنت اتذكره مما كنت سمعته منه قد سعه منمي عالم من الناس ببلاد المغرب و مصر و الحجاز،و قد انقرضوا و تفانوا و هؤلاء اهل بلدي و حفدتي قد دونوه،فاخرجوا الينا النسخة و اخذ يملي علينا من حفظه.

ص:5

حدثنا ابو الحسن علي بن عثمان ابو الدنيا قال حدثني علي بن ابي طالب عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قرأ قل هو اللّه احد مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن،و من قرأها مرتين فكأنما قرأ ثلثي القرآن،و من قرأها ثلاثا فكأنما قرأ القرآن كله،و هذا الرجل ساكن في المغرب و اسم بلده طنجه،و حدّث ابو الدنيا قال حضرت مع علي عليه السّلام الجمل و الصفين فكنت بين الصفين واقفا عن يمينه اذ سقط سوطه من يده فأكببت آخذه و ادفعه اليه و كان لجم دابته حديدا مدمجا،فرفع الفرس رأسه فشجني هذه الشجة التي في صدري فدعاني امير المؤمنين عليه السّلام فتفل فيها و اخذ حفنة (1)من تراب فتركه عليها،فو اللّه ما وجدت لها الما و لا وجعا ثم اقمت معه حتى قتل صلوات اللّه عليه و صحبت الحسن بن علي عليهما السّلام حين ضرب بساباط المدائن،ثم بقيت معه بالمدينة اخدمه و اخدم الحسين عليه السّلام حتى مات الحسن عليه السّلام مسموما،ثم خرجت مع الحسين بن علي عليهما السّلام حتى حضرت كربلاء و قتل عليه السّلام و خرجت هاربا بدابتي(بديني خ)و انا مقيم بالمغرب انتظر خروج المهدي و عيسى بن مريم عليهما السّلام.

قال ابو محمد العلوي رضي اللّه عنه و من عجيب ما رأيت من هذا الشيخ علي بن عثمان و هو يحدث فنظرت الى عنفقته (2)قد احمرت ثم ابيضت،فجعلت انظر الى ذلك لانه لم يكن في رأسه و لا في لحيته و لا في عنفقته بياض،قال فنظر الى نظري الى لحيته و عنفقته فقال ما ترون ان هذا يصيبني اذا جعت،و اذا شبعت رجعت الى سوادها،فدعا بالطعام فأكل اكل شاب فأسوّدت عنفقته شيئا فشيئا حتى رجعت الى سوادها.

قال مؤلف الكتاب رضي اللّه عنه حدثني اوثق مشايخي السيد هاشم الاحسائي في شيراز في مدرسة الامير محمد عن شيخه العادل الثقة الورع الشيخ محمد الحرفوشي اعلى اللّه مقامه في دار المقامة انه دخل يوما مسجدا من مساجد الشام،و كان مسجدا عتيقا مهجورا فرأى رجلا حسن الهيئة في ذلك المسجد فأخذ الشيخ في المطالعة في كتب الحديث،ثم ان ذلك الرجل سأل الشيخ عن احواله و عمّن نقل الحديث فأخبره الشيخ،ثم ان الشيخ سأله عن احواله و عن مشايخه فقال ذلك الرجل انا معمّر ابو الدنيا و اخذت العلم عن علي بن ابي طالب عليه السّلام و عن الائمة الطاهرين عليهم السّلام،و اخذت فنون العلم عن اربابها و سمعت الكتب من مصنفيها،فاستجازه الشيخ في كتب الاحاديث الاصول و غيرها و في كتب العربية و الاصول،فاجازه،و قرأ عليه الشيخ بعض الاخبار في ذلك المسجد توثيقا للاجازة،فمن ثم كان شيخنا الثقة قدس اللّه روحه يقول يقول لي يا بني ان سندي الى المحمدين الثلاثة و غيرهم من اهل الكتب قصير،فاني اروي عن الفاضل

ص:6


1- (1) الحفنة ملا الكف.
2- (2) العنفقة شعيرات بين الشفة الشفلى و الذقن جمع عنافق.

الحرفوشي عن الامام علي بن ابي طالب عليه السّلام،و كذا الى الصادق و الكاظم عليهما السّلام الى آخر الائمة، و كذلك روايتي لكتب الاصول مثل الكافي و التهذيب و من لا يحضره الفقيه و اجزتك ان تروي عني بهذه الاجازة،فنحن نروي الكتب الاربعة عن مصنفيها بهذا الطريق.

و من المعمرين ذات العماد قال الصدوق طاب ثراه اخبرنا محمد بن هارون الزنجاني فيما كتب الي،قال حدثنا معاذ بن المثنى العنبري،قال حدثنا عبد اللّه بن اسما،قال حدثنا جويرية عن سفيان عن منصور عن ابي و ابل،قال ان رجلا يقال له عبد اللّه بن قلابة خرج في طلب إبل له قد شردت،فبينما هو في صحاري عدن في تلك الفوات اذا هو قد وقع على مدينة عليها حصن حول ذلك الحصن قصور كثيرة و اعلام طوال،فلما دنى منها ظنّ ان فيها من يساله عن ابله فلم ير داخلا و لا خارجا فنزل عن ناقته و عقلها و سلّ سيفه و دخل من باب الحصن فاذا هو ببابين عظيمين،لم ير في الدنيا شيئا اعظم منهما و لا اطول و اذا خشبهما من اطيب عود و عليهما نجوم من ياقوت اصفر فاذا هو بمدينة لم ير الراؤن مثلها قطّ،و اذا هو بقصور كل معلق تحته اعمدة من زبرجد و ياقوت،و فوق كل قصر منها غرفة و فوق الغرف غرف مبنية بالذهب و الفضة و اللؤلؤ و الياقوت و الزبرجد،و على كل باب من ابواب تلك القصور مصاريع مثل مصاريع باب المدينة من عود طيب قد نضدت عليه اليواقيت،و قد فرشت تلك القصور باللؤلؤ و بنادق المسك و الزعفران،فلما رأى ذلك و لم ير هناك احدا فزعه ذلك،ثم نظر الى الازقة فاذا في كل زقاق منها اشجار قد اثمرت تحتها انهار تجري فقال هذه الجنة التي وصف اللّه عز و جل لعباده في الدنيا، فالحمد للّه الذي ادخلني الجنة فحمل من لؤلؤها و من بنادق المسك و الزعفران و لم يستطع ان يقلع من زبرجدها و لا من ياقوتها،لانه كان مبنيا في ابوابها و جدرانها و كان اللؤلؤ و بنادق الزعفران منثورا بمنزلة الرمل في تلك القصور و الغرف كلها،فأخذ منها ما ارادوا و خرج حتى اتى ناقته فركبها،ثم سار يقفو اثر ناقته حتى رجع الى اليمن و اظهر ما كان معه و اعلم الناس امره، و باع بعض ذلك اللؤلؤ و كان إصفار و تغير منم طول ما مرّ عليه من الليالي و الايام.

فشاع خبره و بلغ معاوية بن ابي سفيان فأرسل رسولا الى صاحب صنعاء،ثم كتب باشخاصه فشخص حتى قدم على معاوية فخلا به و سأله عما عاين فقص عليه امر المدينة و ما رأى فيها،و عرض عليه ما حمله منه(منها)من اللؤلؤ و بنادق المسك و الزعفران،فقال و اللّه ما اعطى سليمان بن داود مثل هذه المدنية،فبعث معاوية الى كعب الاحبار فدعاه و قال له يا ابا اسحاق هل بلغك ان في الدنيا مدينة مبنية بالذهب و الفضة و عمدها زبرجد و ياقوت،و حصباء قصورها و غرفها اللؤلؤ و انهارها في الازقة تجري تحت الاشجار،قال كعب اما هذه المدينة فصاحبها شداد بن عاد الذي بناها،و اما المدينة فهي إرم ذات العماد و هي التي وصفها اللّه عز و جل في كتابه المنزل على نبيه المرسل محمد صلّى اللّه عليه و آله و ذكر انه لم يخلق مثلها في البلاد،قال معاوية حدثنا بحديثها.

ص:7

قال ان عاد الاولى بعماد قوم كان له ابنان سمى احدهما شديدا و الاخر شدادا فهلك عاد و بقيا و ملكا و تجبرا و اطاعهما الناس في الشرق و الغرب،فمات شديد بقى شداد فملك وحده و لم ينازعه احد و كان مولعا بقراءة الكتب و كان كلما سمع بذكر الجنة و ما فيها من البنيان و الياقوت و الزبرجد و اللؤلؤ رغب ان يفعل مثل ذلك في الدنيا عتوا على اللّه عز و جل،فجعل على صنعتها مأة تحت كل واحد منهم الف من الاعوان،فقال انطلقوا الى اطيب فلاة في الارض و اوسعها فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب و فضة و ياقوت و زبرجد و لؤلؤ و اصنعوا تحت تلك المدينة اعمدة من زبرجد و على المدينة قصور و على القصور غرف و فوق الغرف غرف،و اغرسوا تحت القصور في ازقتها اصناف الثمار كلها و ارجوا فيها الانهار حتى تكون تحت اشجارها،فانى اقرأ في الكتاب صفة الجنة و انا احب انا جعل مثلها في الدنيا،قالوا كيف نقدر على ما و صفت لنا من الجواهر و الذهب و الفضة حتى يمكننا ان نبني مدينة كما و صفته،قال شداد لا تعلمون ان ملك الدنيا بيدي،قالوا بلى قال فانطلقوا الى كل معدن من معادن الجواهر و الذهب و الفضة فوكّلوا بها حتى تجمعوا ما تحتاجون اليه و خذوا جميع ما تجدونه في ايدي الناس من الذهب و الفضة.

فكتبوا الى كل ملك في الشرق و الغرب فجعلوا يجمعون انواع الجواهر عشر سنين فبنوا هذه المدينة في مدة ثلثمائة سنة،و عمر شداد تسع مأة سنة،فلما اتوه فاخبروه بفراغهم منها قال انطلقوا فاجلعوا عليها حصنا،و اجعلوا حول الحصن الف قصر عند كل قصر الف علم يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي،فرجعوا و عملوا ذلك كله له ثم آتوه فأخبروه بالفراغ منها كما امرهم به،فأمر الناس بالتجهيز الى إرم ذات العماد فأقاموا في جهازهم اليها عشر سنين ثم سار الملك يريد إرم ذات العماد فلما كان من المدينة على مسير يوم و ليلة بعث اللّه عز و جل عليه و على جميع من كان معه صيحة من السماء فاهلكتهم جميعا،و ما دخل إرم و لا احد ممن كان معه فهذه صفة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد،و اني لاجد في الكتب ان رجلا يدخلها و يرى ما فيها ثم يخرج فيحدث بما رأى فلا يصدق و سيدخلها اهل الدين في آخر الزمان.

اقول اذا جاز ان يكون في الارض جنة مغيبة عن الناس لا يهتدى الى مكانها احد من الناس و لا يعلمونها و يتعقدون صحة كونها من طريق الاخبار لا يقبلون من طريق الاخبار كون القائم عليه السّلام الان في غيبته،و اذا جاز ان يعمر شداد بن عاد تسعمائة سنة فكيف لا يجوز ان يعمّر القائم مثلها و اكثر منها.

و من المعمرين عبيد بن شريد الجرهمي قال الصدوق طاب ثراه حدثنا ابو سعيد عبيد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب الشجري،قال وجدت في كتاب لاخي ابي الحسن بخطه يقول سمعت بعض اهل العلم ممن قرأ الكتب و سمع الاخبار ان عبيد بن شريد الجرهمي عاش ثلاثمائة و خمسين سنة فادرك النبي صلّى اللّه عليه و آله فأسلم و حسن اسلامه و عمّر بعد ما قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى قدم الى

ص:8

معاوية في ايام تغلّبه و ملكه فقال له معاوية اخبرني يا عبيد عما رأيت و سمعت و من ادركت و كيف رأيت الدهر،فقال له اما الدهر فرأيت ليلا يشبه ليلا و نهارا يشبه نهارا و مولودا يولد و ميتا يموت و لم ادرك اهل زمان الا و هم يذمون زمانهم،و ادركت من قد عاش الف(ثلثمائة خ)سنة فحدثني عمن كان قبله قد عاش الف(الفي خ)سنة فأما ما سمعت فأنه حدثني ملك من ملوك حمير انّ بعض ملوك التبابعة ممن دانت له البلاد كان يقال له ذو سرح كان اعطى الملك في عنفوان شبابه و كان حسن السيرة في اهل مملكته مجيبا فيهم مطاعا،فملكهم سبعمائة سنة و كان كثيرا ما يخرج في خاصته الى الصيد و النزهة،فخرج يوما في بعض تنزهه فأتى على حيتين احديهما بيضاء كأنها سبيكة فضة و الاخرى سوداء كأنها حممة و هما تقتتلان و قد غلبت السوداء البيصاء و كادت تأتي على نفسها،فأمر الملك بالسوداء فقتلت و امر بالبيضاء فاحتملت حتى انتهى بها الى عين ماء نقي عليها شجرة فأمر فصب عليها من الماء فسقيت حتى رجع اليها نفسها فافاقت فخلّى سبيلها فانسابت الحية و مضت لسبيلها و مكث الملك يومه في تصيده و نزهته،فلما امسى و رجع الى منزله و جلس على سريره في موضع لا يصل اليه حاجب و لا احد فبينما هو كذلك اذ رأى شابا آخذا بعضادتي الباب و به من الشباب و الجمال شيء لا يوصف فسلم عليه فذعر منه الملك،فقال له من أنت و من اذن لك في الدخول علي في هذا الموضع الذي لا يصل الي فيه حاجب و لا غيره،فقال له الفتى لا ترع ايها الملك اني لست بانسي و لكني فتى من الجن اتيتك لا جازيك ببلائك الحسن الجميل عندي،قال الملك و ما بلائي عندك قال انا الحية التي احييتني في يومك هذا بالاسود الذي قتلته و خلصتني منه كان غلاما لنا تمرد علينا و قد قتل من اهل بيتي عدّة كان اذا خلى بواحد منّا قتله،فقتلت عدوي و احييتني فجئتك لا كافيك ببلائك عندي،و نحن ايها الملك الجن لا الجن،فقال له الملك و ما الفرق بين الجن و الجنّ؟ثم انقطع الحديث من الاصل الذي كتب فلم يكن هناك بتمامه.

الامر الثاني في كيفية تولده عليه السّلام و ما يتبعها من المقدمات رويناه باسانيدنا الى الصدوق طاب ثراه قال حدثنا محمد بن علي بن محمد النوفكي قال حدثنا ابو العباس البغدادي قال حدثنا احمد القمي قال حدثنا محمد الشيباني قال وردت كربلاء سنة ستى و ثمانين و مأتين قال وزرت قبر غريب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم أتيت الى مشهد الكاظم عليه السّلام فرأيت شيخا قد انحنى صلبه و تقوّس منكباه و هو يقول لاخر معه عند القبر يا ابن اخي لقد نال عمّك شرفا بما حمله السيدان من غوامض الغيوب و شرايف العلوم التي لا لم يحملها الا سلمان و قد اشرف عمك على استكمال المدة و ليس يجد في اهل الولاية رجلا يفضي اليه بسره،قلت يا نفس لا يزال العنا و المشقة ينالان منك و قد قرع سمعي من الشيخ لفظة تدلّ على علم جسيم و اثر عظيم فقلت ايها الشيخ من السيدان؟قال النجمان المغيبان تحت الثرى بسر من رأى،قلت فانا اقسم بالموالاة و شرف محل هذين السيدين من الامامة

ص:9

و الوراثة اني خاتطب علمهما و طالب آثارهما و باذل من نفسي الايمان المؤكدة على حفظ اسرارهما قال ان كنت صادقا فيما تقول فاحضر ما صحبك من الاثار عن نقلة اخبارهم فلما فتش الكتب و تصفح الروايات منها قال صدقت انا بشر بن سليمان النخّاس من ولد ابي ايوب الانصاري احد موالي ابي الحسن و ابي محمد عليهما السّلام و جارهما بسر من رأى قلت فاكرم اخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما.

قال كان مولانا علي العسكري عليه السّلام فقهني في امر الرقيق فكنت لا ابتاع و لا ابيع الا بأذنه فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كملت معرفتي فيه فاحسنت الفرق بين الحلال و الحرام فينما اذا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى و قد مضى هوى من الليل اذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعا فاذا انا بكافور الخادم رسول مولانا علي بن محمد عليه السّلام يدعوني اليه فلبست ثيابي و دخلت عليه فرأيته يحدّث ابنه ابا محمد عليه السّلام و اخته حكيمة من وراء الستر فلما جلست قال يا بشر انك من ولد الانصار و هذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف فانتم ثقاتنا اهل البيت و اني مزكيك و مشرفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة في الموالاة بها شيء اطلعك عليه و انفذك في تتبع امره و كتب كتابا ملصقا بخط رومي و لغة رومية و طبع خاتمه بها و اخرج شنتقة(ظ)صفراء فيها مائتان و عشرون دينارا فقال خذها و توجه بها الى بغداد و احضر معبر الفرات ضحوة كذا فاذا وصلت الى جانبك زواريق السبايا و برز الجواري منها فسيحدث بهن طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس و شرذام من فتيان العراق فاذا رأيت ذلك فاشرف من العبد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك الى ان يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا لابسة خزين صفيفين(صففين ظ) تمنع من السفور و لمس المعترض و الانقياد لمن يحاول لمسها او يشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخاس فتصرخ صرخة رومية فاعلم انها تقول و اهتك ستراه فيقول بعض المبتاعين على ثلثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة فتقول بالعربية لو برزت في زي سليمان على مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فاشفق على مالك فيقول النخاس فما الحيلة و لا بد من بيعك فتقول الجارية و ما العجلة و لا بد من اختيار مبتاع يسكن الى امانته و وفائه،فعند ذلك قم الى عمر بن يزيد النخّاس و قل له ان معي كتابا ملصقا لبعض الاشراف كتبه بلغة رومية و خطّ رومي و وصف فيه كرمه و وفاه و ميله و سخاه فناولها لتتأمل منه اخلاق صاحبه فان مالت اليه و رضيته فانا وكيله في ابتياعها منك.

قال بشر بن سليمان فامتثلت بجميع ما حدّه لي مولاي ابو الحسن عليه السّلام في امر الجارية فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا،و قالت لعمر بن يزيد النخاس بعنى من صاحب هذا الكتاب و حلفت انه متى امتنع من بيعها قتلت نفسها فما زلت اشاحه في ثمنها حتى استقر الامر فيه على مقدار ما كان اصحبنيه مولاي من الدنانير في الشنقة(الشنتقة ظ)الصفراء فاستوفاه مني و تسلمت

ص:10

منه الجارية ضاحكة مستبشرة و انصرفت بها الى حجرتي التي كنت آوي اليها ببغداد فما اخذها القرار حتى اخرجت كتاب مولانا من جيبها و هي ثلثمه و تضعه على خدها و تطبقه على جفنها و تمسحه على بدنها فقلت تعجبا منها أ تثلمين كتابا و لا تعرفين صاحبه قالت ايها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ اولاد الانبياء اورعني سمعك و فرّغ لي قلبك انا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم من ولد الحواريين تنسب الى وصي المسيح شمعون انبأك العجب ان جدي قيصر اراد ان يزودجني من ابن اخيه و انا من بنات ثلاث عشرة سنة فجمع في قصره من نسل الحواريين من القسيسين و الاحبار و الرهبان ثلثمائة رجل و من ذوي الاخطار منهم سبعمائة رجل و جمع من امراء الاجناد و قوّاد العساكر و نقباء الجيوش و ملوك العشاير اربعة آلاف و ابرز من ملكه عرشا مصنوعا من اصناف الجواهر الى صحن القصر فرفعه فوق اربعين مرقاة فلما صعده ابن اخيه و احدثت به الصلبان و قامت الاساقفة عكّفا و نشرت اسفار الانجيل تساقطت الصلبان من الاعالي فلصقت بالارض و تقوضت الاعمدة فانهارت الى القرار و خرّ الصاعد من العرش مغشيا عليه فتغيرت الوان الاساقفة و ارتعدت فرائضهم فقال كبيرهم لجدي ايها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي و المذهب الملكاني فتطير جدي من ذلك تطيرا شديدا و قال للاساقفة اقيموا هذه الاعمدة و ارفعوا الصلبان و احضروا اخا هذا المدبر العاثر المنكوس جدّه لازوج هذه الصبية منه فيدفع نحوسكم عنه بسعوده فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الاول و تفرق الناس و قام جدي قيصر مغتما فدخل قصره و اغتم و ارخيت الستور فأريت في تلك الليلة كان المسيح و شمعون و عدّة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي و رفعوا به منبرا يباري السماء علوا و ارتفاعا في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه فدخل محمد صلّى اللّه عليه و آله مع فتية من بنيه فيقوم اليه المسيح فيعتنقه فيقول يا روح اللّه اني جئتك خاطبا من وصيك شمعون فتاته مليكة لاني هذا و اومئ بيده الى ابي محمد صاحب هذا الكتاب فنظر المسيح الى شمعون فقال له قد اتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال قد فعلت.

فصعد ذلك المنبر و خطب محمد صلّى اللّه عليه و آله و زوجني من ابنه المسيح و شهد بنو محمد و الحواريون فلما استيقظت من نومي اشفقت ان اقص هذه الرؤيا على ابي و جدي مخافة القتل فكنت اسرها في نفسي و لا ابديها لهم و ضرب صدري بمحبة ابي محمد حتى امتنعت من الطعام و الشراب و ضعفت نفسي و دقّ شخصي و مرضت مرضا شديدا فما بقي في مدائن الروم طبيب الا احضره جدي و سأله عن دوائي فلما برح به اليأس قال يا قرة عيني فهل ببالك شهوة فازودها في هذه الدنيا فقلت يا جدي ارى ابواب الفرج عليّ مغلقة فلو كشفت العذاب عن من في سجنك من اسارى المسلمين و فككت عنهم الاغلال و تصدقت عليهم و منيتهم الخلاص رجوت ان يهب المسيح و امه لي عافية و شفاء فلما فعل ذلك تجلدّت في اظهار الصحة في بدني و تناولت يسيرا من

ص:11

الطعام فسر بذلك جدي و اقبل على اكرام الاسارى و اعزازهم فأريت ايضا بعد اربع ليال كان سيدة النساء قد زارتني و معها مريم بنت عمران و الف من وصائف الجنان فتقول لي مريم هذه سيدة نساء ام زوجك ابي محمد فاتعلق بها و ابكى و اشكوا اليها امتناع ابي محمد من زيارتي فقالت سيدة النساء ان ابني ابا محمد لا يزورك و انت مشركة باللّه على دين مذهب النصارى و هذه اختي مريم تبرأ الى اللّه عز و جل من دينك فان ملت الى رضاء اللّه و رضاء المسيح و مريم منك و زيارة ابي محمد اياك فقولي اشهد ان لا الا اللّه و ان ابي محمدا رسول اللّه فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء الى صدرها و طيبت نفسي و قالت الان توقعي زيارة ابي محمد فاني منفذته اليك فانتبهت و انا اقول وا شوقاه الى لقاء ابي محمد فرأيت كأني اقول له لك جفوتني يا حبيبي بعد ان شغلت قلبي بجوامع حبك قال ما كان تأخيري منك الا لشركك و قد اسلمت فاني زائرك كل ليلة الى ان يجمع اللّه شملنا في العليان فما قطع عني زيارته بعد ذلك الى هذه الغاية.

قال بشر فقلت و كيف وقعت في الاسارى فقالت اخبرني ابو محمد ليلة من الليالي ان جدّك سيسري جيوشا الى قتال المسلمين يوم كذا و كذا ثم يتبعهم فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصائف من طريق كذا ففعلت فوقع علينا طلايع المسلمين حتى كان من امري ما رأيت و شاهدت و ما شعر بأني ابنة ملك الروم الى هذه الغاية احد سواك و ذلك باطلاعي اياك عليه و قد سألني الشيخ الذي دفعت اليه في سهم الغنيمة عن اسمي فانكرته و قلت نرجس اسم الجواري قلت العجب انك رومية و لسانك عربي قالت بلغ من ولوع جدي بي و حمله اياي على تعليم الاداب ان امر امرأة ترجمان له في الاختلاف اليّ و كانت تقصدني صباحا و مساء و تفيدني العربية حتى استمر عليها لساني و استقام قال بشر فلما انكفأت بها الى سر من رأى دخلت على مولانا ابي الحسن العسكري عليه السّلام قال لها كيف اراك اللّه عز الاسلام و ذلّ النصرانية و شرف اهل بيت محمد صلوات اللّه عليه و آله،قالت اصف لك يا ابن رسول اللّه ما انت اعلم به مني قال فاني احب ان اكرمك فأيما احب اليك عشرة الاف درهم ام بشرى لك فيها شرف الابد،قالت بل البشرى قال فابشري بولد يملك الدنيا شرقا و غربا فيملأ الارض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا قالت ممن قال ممن خطبك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة كذا من شهر كذا من سنة بالرومية قالت من المسيح و وصيه قال ممن زوجك المسيح قالت من ابنك ابي محمد قال فهل تعرفينه قالت و هل خلوت ليلة من زيارته اياي منذ الليلة التي اسلمت فيها على يد سيدة النساء امه فقال ابو الحسن عليه السّلام يا كافور ادع لي اختي حكيمة فلما دخلت عليه قال عليه السّلام ها هيه فاعتنقتها طويلا و سألت بها كثيرا فقال مولانا يا بنت رسول اللّه اخرجيها الى منزلك و علميها الفرائض و السنن فانها زوجة محمد و ام القائم عليه السّلام.

ص:12

و بالاسانيد المتكثرة عن حكيمة قالت بعث اليّ ابو محمد بن علي عليهما السّلام فقال يا عمة اجعلي افطارك الليلة عندنا فانها ليلة النصف من شعبان فان اللّه تبارك و تعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة و هو حجبته في ارضه،قالت فقلت له و من امه قال لي نرجس قلت له و اللّه جعلني فداك ما بها اثر فقال هو ما اقول لك قالت فجئت فلما سلّمت و جلست جائت تنزع خفي و قالت لي يا سيدتي كيف امسيت فقلت بل انت سيدتي و سيدة اهلي قالت فانكرت قولي و قالت ما هذا يا عمة؟قالت قلت لها يا بنية ان اللّه تبارك و تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا و الاخرة،قالت فخجلت و استحيت فلما ان فرغت من صلاة العشاء الاخرة افطرت و اخذت مضجعي فرقدت فلما ان كان في جوف الليل قمت الى الصلاة ففرغت من صلاتي و هي نائمة ليس لها حادث ثم جلست معقبة ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة و هي راقدة،ثم قامت فصلّت و نامت قالت حكيمة فخرجت اتفقد الفجر فاذا انا بالفجر الاول كذنب السرحان و هي نائمة قالت حكيمة فدخلني الشكوك فصاح بي ابو محمد عليه السّلام من المجلس لا تعلجي يا عمة فهاك الامر قد قرب،قالت فقرئت الم السجدة و يس فبينما انا كذلك اذ انتهبت فزعة فوثبت اليها فقلت اسم اللّه عليك،ثم قلت لها تحسين شيئا؟قالت نعم يا عمة فقلت لها اجمعي نفسك و اجمعي قلبك فهو ما قلت لك.

قالت حكيمة ثم اخذتني فترة و اخذتها فترة فانتبهت بحس سيدي فكشف الثوب عنه فاذا انه به عليه السّلام ساجدا يتقلى الارض بمساجده فضممته عليه السّلام اليّ فاذا انا به نظيف منظف فصاح بي ابو محمد عليه السّلام عليّ اليّ يا عمة فجئت به اليه فوضع يده تحت اليتيه و ظهره و وضع قدمه في صدره ثم دلى(ادلى ظ)لسانه في فيه و امر يده على عينيه و سمعه و مفاصله ثم قال تكلم يا بني فقال اشهد ان لا اله الا اللّه و اشهد ان محمدا رسول اللّه ثم صلى على امير المؤمنين و على الائمة الى ان وقف على ابيه ثم احجم قال ابو محمد عليه السّلام يا عمة اذهبي به الى امه ليسلّم عليها و ائتني به فذهبت به فسلّم و رددته و وضعته عليه السّلام في المجلس ثم قال يا عمة اذا كان يوم السابع فأتينا قالت حكيمة فلما اصبحت جئت لا سلم على ابي محمد عليه السّلام و كشفت الستر لافتقد سيدي فلم اره فقلت له جعلت فداك ما فعل سيدي؟قال يا عمة استودعناه الذي استودعته ام موسى،قالت حكيمة فلما كان يوم السابع جئت و سلّمت و جلست فقال هلمي اليّ ابني،فجئت بسيدي عليه السّلام و هو في الخرقة ففعل به كفعلته الاولى ثم ادلى لسانه في فيه كأنه يغذيه لبنا او عسلا ثم قال تكلّم يا بني فقال عليه السّلام اشهد ان لا اله الا اللّه و ثنى بالصلوة على محمد و علي امير المؤمنين و على الائمة صلوات اللّه عليهم اجمعين حتى وقف على ابيه عليه السّلام ثم تلا هذه الاية بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوٰارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَحْذَرُونَ قال موسى فسألت عقبة الخادم عن هذا فقال صدقت حكيمة.

ص:13

و في حديث آخر رواه محمد بن عبد اللّه الطهوري عن حكيمة و ساق الحديث الى ان قالت قال ابو محمد عليه السّلام اذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لان مثلها مثل ام موسى لم يظهر بها الحبل و لم يعلم بها احد الى وقت ولادتها لان فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى عليه السّلام،قالت حكيمة فعدت الى نرجس و اخبرتها بما قال و سألتها عن حالها فقالت يا مولاتي ما أرى بي شيئا من هذا قالت حكيمة فلم ازل ارقبها الى طلوع الفجر حتى اذا طلع الفجر و ثبت فزعة فضممتها الى صدري و سمّيت عليها،فصاح بي ابو محمد عليه السّلام و قال اقرأي عليه انا انزلناه في ليلة القدر،فأقبلت اقرأ عليها و قلت لها ما حلك قالت ظهر الامر الذي اخبرك به مولاي فأقبلت اقرأ عليها كما امرني فاجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما اقرأ و سلّم علي قالت حكيمة ففزعت لما سمعت فصاح بي ابو محمد عليه السّلام لا تعجبي من امر اللّه ان اللّه عز و جل ينطقنا صغارا بالحكمة و يجعلنا حجة في ارضه كبارا فلم يستتم الكلام حتى غيّبت عني نرجس فلم ارها كأنه ضرب بيني و بينها حجاب فعدوت نحو ابي محمد عليه السّلام و انا صارخة فقال ارجعي يا عمة فانك ستجديها في مكانها قالت فرجعت فلم البث ان كيف الغطاء الذي كان بيني و بينها و اذا انا بها و عليها من اثر النور ما غشيني(غشى بصري ظ)و اذا انا بالصبي عليه السّلام ساجد لوجهه جاث على ركبتيه رافع سبباته نحو السماء و هو يقول اشهد ان لا اله الا اللّه و ان جدي رسول اللّه و ان ابي امير المؤمنين ثم عدّ اماما اماما الى ان بلغ نفسه،فقال اللهم انجز لي وعدي و اتمم لي امري و ثبت و طأتي و املأ الارض بي عدلا و قسطا فصاح بي ابو محمد عليه السّلام فقال يا عمة تناوليه فتناولته و أتيت به نحوه،فلما مثلت بين يدي ابيه و هو على يدي سلّم على ابيه فتناوله الحسن عليه السّلام مني و الطير ترفرف على رأسه،و ناوله لسانه ليشرب منه ثم قال امضي به الى امه لترضعه و رديه اليّ،قالت فناولته امه فارضعته فرددته الى ابي محمد عليه السّلام و الطير ترفرف على رأسه فصاح بطير منها فقال له احمله و احفظه و رده الينا في كل اربعين يوما فتناوله الطير و طار به في جو السماء و اتبعه سائر الطيور فسمعت ابا محمد عليه السّلام يقول استودعك الذي اودعته ام موسى فبكت نرجس فقال اسكتي فان الرضاع محرم عليه الا من ثدييك و سيعاد اليك كما ردّ موسى الى ام موسى،و ذلك قوله عز و جل فَرَدَدْنٰاهُ إِلىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهٰا وَ لاٰ تَحْزَنَ قالت حكيمة قلت فما هذا الطير؟قال هذا روح القدس الموكل بالائمة عليهم السّلام يوفقهم و يسددهم و يزينهم بالعلم.

قالت حكيمة فلما ان كان بعد اربعين يوما ردّ الغلام و وجّه الى ابن اخي عليه السّلام فدعاني و دخلت عليه فاذا انا بصبي متحرك يمشي بين يديه،فقلت سيدي هذا ابن سنتين فتبسم عليه السّلام ثم قال ان اولاد الانبياء و الاوصياء اذا كانوا أئمة ينشأون بخلاف ما ينشؤ غيرهم،و ان الصبي منّا اذا أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة و ان الصبي منّا ليتكلم في بطن امه و يقر القرآن و يعبد ربه عز و جل عند الرضاع و تطيعه الملائكة و تنزل عليه بالسلام صباحا و مساء،قالت حكيمة فلم أزل ارى

ص:14

ذلك الصبي في كل اربعين الى ان رأيته رجلا قبل مضي ابي محمد عليه السّلام بأيام قلائل فلم اعرفه، فقلت لابن اخي من هذا الذي تأمرني ان اجلس بين يديه،فقال لي ابن نرجس و هذا خليفتي من بعدي و عن قليل تفقدوني فاسمعي له و اطيعي،قالت حكيمة فمضى ابو محمد عليه السّلام بعد ذلك بأيام قلائل فافترق الناس كما ترى و و اللّه اني لاراه صباحا و مساء،و انه لينبأني عمّا يسألوني عنه فأخبرهم و و اللّه اني لاريد ان اسئله عن الشيء فيبدأني به و أنه ليرد عليّ الامر فيخرج اليّ من جوابه من ساعته من غير مسألة،و قد اخبرني البارحة بمجيئك اليّ و امرني ان اخبرك بالحقّ قال محمد بن عبد اللّه فو اللّه لقد ابخرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها احد الا اللّه عز و جل فعلمت ان ذلك صدق و عدل من اللّه عز و جل قد اطّلعهم على ما لم يطّلع عليه احدا من خلقه و عن ابي جعفر العمري قال لما ولد السيد عليه السّلام قال ابو محمد عليه السّلام ابعثوا الى ابي عمرو فبعث اليه فصار فقال له اشتر عشرة آلاف رطل خبزا و عشرة آلاف رطل لحما و فرقه و احسبه قال علي بن هاشم و عقّ عنه بكذا و كذا شاة.

و كان مولده عليه السّلام ليلة النصف من شعبان سنة ستة و خمسين و مأتين و تاريخ ولادته بحساب الجمل نور،و كان وكيله عثمان بن سعيد فلما مات عثمان اوصى الى ابنه محمد بن عثمان و اوصى ابو جعفر الى ابي القاسم الحسين بن روح و اوصى ابو القاسم الى ابي الحسن علي بن محمد السيمري رضي اللّه عنهم،فلما حضرت السيمري الوفاة سأل ان يوضي فقال للّه امر هو بالغه، فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السيمري رضي اللّه عنه،و قال وكيله لعمري ان صاحب هذا الامر ليحضر الموسم كل سنة سرى الناس و يعرفهم و يرونه و لا يعرفونه،و لو اردنا ذكر اسماء الرجال الذي رأوه و الذين خرجت منه عليه السّلام التوقيعات اليهم و ما بيّنه عليه السّلام للشيعة من غوامض العلوم و مغيبات الاسرار لاحتجنا الى تأليف كتاب آخر لكن شيخنا الصدوق طاب ثراه قد ذكر بعض هذا في كتاب اكمال الدين و اتمام النعمة،و يا للّه العجب العجيب كيف كذبنا المخالفون في هذه الدعوى مع اننا ألوف و عضدونا بالاخبار المروية عن طرقهم،و مثل الاخبار السالفة و صدقوا ابا هريرة في رواية اثنى عشر الف حديث تفرد بروايتها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله فجعلوها مستندا لامور دينهم و لاصولهم و فروعهم هب اننا كفّار بزعمهم لكن الكفار اذا اجتمع منهم آلاف او اقل فاخبروا بقدوم رجل كنا سمعنا اخباره عن الصادقين لكنا ما علمنا سابقا يوم قدومه فاذا اخبرنا طوائف من الناس بقدومه علمنا علما مستندا الى التواتر ان هذا الخلق الكثير لا يجتمعون على مثل هذا الخبر الا ان يكونوا صادقين فيه،و ذلك انك قد عرفت ان الاسلام كلها قد بشرت بالمهدي لكن الشيعة تقول ان المهدي هو ابن الحسن العسكري عليه السّلام لان العلاقات المنقولة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن اهل بيته من كيفية الخلقوا لخلق و غيرها قد وجدت فيه فيكون هو الامام و المخالفون قالوا نحن لا ننكر المهدي من ولد فاطمة و انه امام سيظهر بالسيف لكن نقول انه الى الان لم يتولد

ص:15

و سيولد عند خروج الدجال و نزول عيسى بن مريم عليه السّلام من السماء و الجواب عن هذه الشبهة من وجوه.

اولها انه اذا وجدت العلامات المشار اليها ف ابن الحسن و لم نقطع عليه بأنه المهدي لزم الدليل بدون المدلول فلم تكن تلك العلامة علامة هذا خلف.

و ثانيها ان قولكم يحتمل ان يتولد بعد هذا من يجمع تلك الصفات احتمال مرجوح و ما نقوله نحن ارجح لحصوله بالفعل،و الاحتمال المرجوح لا يجوز لنا اهمال العمل بالدليل الراجح لاجله لانا لو جوزنا ذلك لامتنع العمل بأكثر الادلة المثبتة للاحكام،اذ ما من دليل الا و احتمال تجدد ما يعارضه متطرق اليه مع انه لم يمنع من العمل به وفاقا.

و ثالثها ان اللّه سبحانه لما انزل في التورية على موسى عليه السّلام انه يبعث النبي العربي في آخر الزمان خاتم الانبياء و نعته باوصافه و جعلها علامة و دلالة على اثبات حكم النبوة له،و صار قوم موسى يذكرونه بصفاته و يعلمون انه يبعث و كانوا يتهددون المشركين به و يقولون يظهر نبي نعته كذا و كذا نستعين به على قتالكم،فلما بعث وجدوا العلامات كلها اخبروا بها فانكروه و قالوا ليس هو هذا بل هو غيره و لكنه سيأتي في آخر الزمان،فلما جنحوا الى الاحتمال و اعرضوا عن العمل بالعلامات و الدلائل انزلت الآيات القرآنية ناعية عليهم هذا الجنوح مثبتة لهم اوصاف الكفار المعاندين و لكن يلزم على قول المخالفين ان يكون اليهود معذورين بالاخذ بذلك الاحتمال، و بالجملة فهذه الشبهة ضعيفة جدا و الاجوبة عنها كثيرة.

الامر الثالث في بعض التوقيعات التي وردت من مولانا صاحب الزمان عليه السّلام الى بعض علمائنا،قال شيخنا الطوسي(ر ه)ورد من الناحية المقدسة حرّسه اللّه تعالى و رعاها في ايام بقيت من صفر المظفر سنة عشرين و اربعمائة على الشيخ المفيد ابي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان (ر ه)ذكر موصله انه تحمله من ناحية متصلة بالحجاز نسخته الاخ السديد و الولي الرشيد الشيخ المفيد ابو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان ادام اللّه اعزازه من مستودع العهد المأخوذ على العباد،بسم اللّه الرحمن الرحيم اما بعد سلام اللّه عليك ايها الولي الملخص في الدين المخصوص فينا باليقين فانا نحمد اللّه اليك الذي لا اله الا هو و نسأله الصلوة على سيدنا و مولانا و نبينا محمد و آله الطاهرين و نعلمك ادام اللّه توفيقك لنصرة دين الحق و اجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق،أنه قد اذن لنا في تشريفك بالمكاتبة و تكليفك فيها ما تؤديه عنّا الى موالينا قبلك أعزهم اللّه بطاعته و كفاهم المهم برعايته لهم و حراسته،فقف ايدك اللّه بعونه على اعدائه المارقين عن دينه على ما نذكره،و اعمل في تأديته الى من تسكن اليه بما نرسمه ان شاء اللّه تعالى،نحن و ان كنا

ص:16

ثاوين (1)بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي ارانا اللّه تعالى لنا من الصلاح و لشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين،فاننا نحيط علما بأنبائكم و لا يعزب عنّا شيء من اخباركم،و معرفتنا بالاذلال الذي اصابكم مذ جنح كثير منكم الى ما كان السلف الصالح عنه شاسعا،و نبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهوركم كأنهم لا يعلمون،انا غير مهملين لا عانتكم و لا ناسين لذكركم و لو لا ذلك لنزل بكم البلوى و لاصطلمكم (2)الاعداء،فاتقوا اللّه جل جلاله و ظاهروا على انتباشكم (3)من فتنة تونسها قد اطافت عليكم يهلك فيها من حم (4)اجله و يحمي عنها من ادرك امله،و هي امارة لازوف حركتنا و مباثتكم و نهينا و اللّه متم نوره و لو كره المشركون اعتصموا بالتقية من شبّ نار الجاهلية بحششها عصب اموية يهول بها فرقة مهدوية انا زعيم بنجاة من لم يرم منكم فيها المواطن الخفية و سلك في الظعن منها السبل المرضية اذا حلّ جمادي الاولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه و استيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه،و سيظهر لكم في السماء آية جليّة و من الارض مثلها بالسوية،و يحدث بأرض المشرق ما يحزن و يقلق،و يغلب من بعد على العراق طوائف عن الاسلام فراق فضيق بسوء فعالهم على اهله الارزاق،ثم تتفرج الغمة من بعد بوار طاغوت من الاشرار،ثم يسر بهلاكه المتقون الاخيار،و ينفق لمن يريد الحج من الافاق مما يأملونه على توفير عليه منهم و انفاق،و لنا في تيسير حجهمّ(حجتهم ظ)على الاختيار منهم و الوفاق شأن يظهر على نظام و اتساق فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من محبتنا و ليجتنب ما يدنيه من كراهتنا و سخطنا،فان امرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة و لا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة،و اللّه يلهمكم الرشد و يلطف لكم في التوفيق برحمته.

نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السّلام،هذا كتابنا ايها الاخ الولي و المخلص في و دنا الصفي،و الناصر لنا الوفي،حرسك اللّه بعينه التي لا تنام فاحفظ به و لا تظهر على خطّنا الذي سطرناه بما له ضمنّاه احدا،وادّ ما فيه الى من تسكن اليه و اوص جماعتهم بالعمل عليه ان شاء اللّه و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله الطاهرين،و ورد عليه كتاب آخر من قبله صلوات اللّه عليه يوم الخميس الثالث و العشرين من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة و اربعمائة.

نسخته من عبد اللّه المرابط في سبيله الى ملهم الحق و دليله بسم الرحمن الرحيم سلام عليك ايها الناصر للحق الداعي ليه بكلمة الصدق،فانا نحمد اليك اللّه الذي لا اله الا هو الهنا و اله آبائنا الاولين،و نسأله الصلوة على سيدنا و مولانا محمد خاتم النبيين و على اهل بيته الطاهرين،

ص:17


1- (3) ثوى بالمكان يثوى بالد اذا اقام فيه و منه قوله تعالى: ثٰاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي مقيما عندهم.
2- (4) الاصطلام الاستيصال.
3- (5) النوش التناول و لطلب و المشي و الاسراع في النهوض و النووش القوى و التناوش التناول كالانتياش.
4- (6) أي دنا و حضر.

و بعد فانا كنا نظرنا مناجأتك عصمك اللّه بالسبب الذي و هبه لك من اوليائه،و حرسك من كيد اعدائه و شفعنا ذلك الان من مستقر لنا بلصب(بصلت خ)في شمراخ من بهما صرنا اليه آنفا من عماليك الجأنا اليه السبادين من الايمان،و يوشك ان يكون هبوطنا منه الى صحيح من غير بعيد من الدهر و لا تطاول من الزمان،و يأتيك نبأ منا بما يتجدد لنا من حال فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة الينا بالاعمال،و اللّه موفقك لذلك برحمته و ليكن حرسك اللّه بعينه التي لا تنمام ان تقابل لذلك،ففيه تبل نوس قوم حرثت باطلا لاسترهاب المبطلين و يبتهج لذمارها المؤمنون و يحزن لذلك المجرمون و آية حركتنا من هذه اللوثة الحادثة بالجرم المعظم من رجس منافق مذمم مستحل للدم المحرم،يغمد بكيده اهل الايمان و لم يبلغ بذلك غرضه من الظلم لهم و العدوان لاننا من وراءه حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن تلك الارض و السماء،فلتطمئن بذلك من اوليائنا القلوب و ليتقوا منه بالكفاية منه و ان راعتهم به الخطوب و العاقبة فيه بجميع صنع اللّه سبحانه يكون حميدة لهم بما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب و نحن نعهد اليك ايها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين ايدك اللّه بنصره الذي ايد به السلف من اوليائنا الصالحين انه من اتقى ربه من اخوانك في الدين و اخرج مما عليه الى مستحقيه كان آمنا من الفتنة المضلة و محتنها المظلمة المضلة،و من يبخل منهم بما ارعاه اللّه من نعمته على من امره بصلته فانه يكون خاسرا بذلك لاولاه و اخريه(آخرته خ)و لو ان اشياعنا وفقهم اللّه لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا،و لتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة و صدقها بنا منهم،فما يحبسنا عنهم الا ما يتصل بنا ما نكرهه و لا نؤثره منهم و اللّه المستعان و هو حسبنا و نعم الوكيل و صلواته على سيدنا البشير النذير محمد و آله الطاهرين و سلّم و كتب في غرّة شوال اثتنى عشرة و اربعمائة.

نسخة التوقيع باليد العليا صلوات اللّه تعالى على صاحبها،هذا كتابنا اليك ايها الولي المهلم للحق العلي باملائنا و خطّ ثقتنا فاخفه عن كل احد،و اطوه و اجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن الى امانته من اوليائنا شملهم اللّه ببركاته و دعائنا ان شاء اللّه و الحمد للّه و الصلوة على محمد و آله الطاهرين،و التوقيعات التي خرجت منه عليه السّلام كثيرة جدا حتى لو اريد حصرها لجائت كتابا كبير الحجم.

و في توقيعه عليه السّلام الى علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي لما كتب اليه يطلب منه الدعاء بحصول ولد فجاء التوقيع،قد قبل اللّه الدعاء و سيولد لك ولدان فسم احدهما محمدا و الاخر حسينا،فرزقه اللّه سبحانه الولدين كما قال عليه السّلام،و كان الصدوق طاب ثراه يذكر ان جميع ذلك التوقيع عنده بخطّ الامام عليه السّلام و كان يفتخر به،و يقول اني ولدت بدعاء مولانا صاحب الزمان عليه السّلام و له الفخر بذلك.

ص:18

نور في غيبته عليه السّلام

و في بيان السبب فيها و ذكر الجواب عمّا اورد عليها من شبه المخالفين،اعلم ايدك اللّه تعالى بتوفيقه ان الغيبة المشار اليها انما تكون فريبة في الانظار اذا لم يسبق مثلها من حجج اللّه على الخلق،و مثل هذه الغيبة التي قد وقع النزاع فيها بيننا و بين المخالفين لنا من الزيدية و اهل السنة قد وقعت من الانبياء السابقين عليهم السّلام.

فأولهم ادريس و آخرهم محمد صلّى اللّه عليه و آله،اما ادريس عليه السّلام فقد غاب عن شيعته حتى آل الامر الى ان تعذر عليهم القوت،و قتل الجبار من قتل منهم و افقر و اخاف باقيهم ثم ظهر عليه السّلام فوعد شيعته بالفرج و بقيام القائم من ولده و هو نوح عليه السّلام،ثم رفع اللّه عز و جل ادريس عليه السّلام فلم تزل الشيعة يتوقعون قيام نوح عليه السّلام قرنا بعد قرن و خلفا عن سلف صابرين من الطواغيت على العذاب المهين حتى ظهرت نبوة نوح عليه السّلام و اما صالح عليه السّلام فقد غاب عن قومه زمانا،و كان يوم غاب عنهم كهلا فلما رجع اليهم لم يعرفوه من طول المدة و ما ابراهيم عليه السّلام فانّ غيبته تشبه غيبة مولانا القائم عليه السّلام لان اللّه سبحانه غيبّ اثر ابراهيم عليه السّلام في بطن امه حتى حوّله عز و جل بقدرته من بطنها الى ظهرها،ثم اخفى امر ولادته الى وقت بلوغ الكتاب اجله،و ذلك ان منجم نمرود اخبره بأن مولودا يولد في ارضنا فيكون هلاكنا على يديه،و كان فيما اوتي المنجم من العلم انه سيحرق بالنار و لم يكن اوتي ان اللّه تعالى سينجيه،فحجب النساء عن الرجال فلما حملت ام ابراهيم عليه السّلام بعث القوابل اليها فلم يعرفن شيئا من الحمل،فلما ولد ذهبت به امه الى غار ثم ارضعته و جعلت على الباب صخر ثم انصرفت عنه فجعل اللّه عز و جل رزقه في ابهامه فجعل يمصها و يشرب لبنا و جعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة،فجعل يكبر في الغار و يشب حتى قام بأمر اللّه تعالى،و قد غاب غيبة أخرى سار فيها بالبلاد.

و اما غيبة يوسف عليه السّلام فأنها كانت عشرين سنة و كان هو بمصر و يعقوب عليه السّلام بفلسطين و بينهما مسيرة تسعة ايام،فاختلف الاحوال عليه في غيبته حتى أنه روى عن الصادق عليه السّلام أنه قدم اعرابي على يوسف عليه السّلام ليشتري منه طعاما فباعه،فلما فرغ قال له يوسف عليه السّلام اين منزلك قال بموضع كذا و كذا،فقال له اذا مررت بوادي كذا و كذا فقف فناد يا يعقوب فأنه سيخرج اليك رجل عظيم جميل جسيم و سيم،فقل له رايت رجلا بمصر و هو يقرئك السّلام و يقول ان وديعتك عند اللّه عز و جل لن تضيع،قال فمضى الاعرابي حتى انتهى الى الموضع،فقال لغلمانه احفظوا عليّ الابل ثم نادى يا يعقوب فخرج اليه رجل اعمى طويل جميل يتقي الحايط

ص:19

بيده حتى اقبل،فقال له الرجل انت يعقوب،فقال نعم فأبلغه ما قال له يوسف قال فسقط مغشا عليه ثم افاق،فقال له يا اعرابي الك حاجة الى اللّه عز و جل،فقال نعم اني رجل كثير المال و لي بنت عمّ ليس يولد لي منها فأحب ان تدعو اللّه عز و جل أن يرزقني ولدا قال فتوضأ يعقوب عليه السّلام و صلى ركعتين،ثم دعا سبحانه عز و جل فرزق اربعة ابطن او قال ستة في كل بطن ابنان،و كان يعقوب عليه السّلام يعلم ان يوسف حي لن يموت و ان اللّه تعالى ذكره سيظهره له بعد غيبته.

و الدليل عليه انه لما رجع اليه بنوه يبكون قال لهم يا بني ما لكم تبكون و تدعون بالويل و الثبور و ما لي لا ارى فيكم حبيبي يوسف؟قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب و ما انت بمؤمن لنا و لو كنّا صادقين،و هذا قميصه قد اتيناك به،قال القوه اليّ فالقوه على وجهه فخرّ مغشيا عليه،فلما افاق قال لهم يا بني ا لستم تزعمون ان الذئب اكل حبيبي يوسف،قالوا نعم،قال ما لي لا اشمّ ريح لحمه و مالي ارى قميصه صحيحا،هبوا ان القميص انكشف من اسفله أ رأيتم ما كان في منكبيه و عنقه كيف خلص اليه الذئب من غير ان يخرقه؟ان هذا الذئب لمكذوب عليه و ان ابني لمظلوم،بل سولت لكم انفسكم امرا فصبر جميل و اللّه المستعان على ما تصفون و تولى عنهم ليلتهم لا يكلمهم،و اقبل يرثي يوسف عليه السّلام و يقول حبيبي يوسف الذي كنت اوثره على جميع اولادي فاختلس مني حبيبي يوسف الذي كنت ارجوه من بين اولادي فاختلس مني حبيبي الذي كنت اوسدّه يميني و ادثره بشمالي فاختلس مني حبيبي يوسف الذي كنت اونس به وحشتي،واصل به وحدتي فاختلس مني حبيبي يوسف ليت شعري في أي الجبال طرحوك او في أي البحار غرقوك،حبيبي يوسف ليتني كنت معك فيصيبني ما اصابك،و قال الصادق عليه السّلام ان يعقوب عليه السّلام قال لملك الموت اخبرني عن الارواح تقبضها مجتمعة او متفرقة قال فهل قبضت روح يوسف في جملة ما قبضت من الارواح قال لا فعند ذلك قال لبنيه يا بني اذهبوا فتحسسوا (1)من يوسف و أخيه،فحال العارفين في وقتنا هذا بصاحب الزمان عليه السّلام حال يعقوب عليه السّلام في معرفته بيوسف و غيبته،و حال الجاهلين به عليه السّلام و بغيبته و المعاندين في امره حال اخوت يوسف الذين بلغ من جهلهم بأمر يوسف و غيبته ان قالوا لابيهم يعقوب عليه السّلام تاللّه انك لفي ضلالك القديم.

و اما غيبة موسى عليه السّلام فقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه لما حضرت يوسف الوفاة جمع شيعته و اهل بيته فحمد اللّه و اثنى عليه،ثم حدثهم شدة تنالهم،يقتل فيها الرجال و تشق فيها بطون الحبالى و تذبح الاطفال حتى يظهر الحق في القائم من ولد لاوى بن يعقوب،و هو رجل اسمر

ص:20


1- (7) تحسس الخبر:سعى في ادراكه.تحسس الشيء.تعرفه و تطلبه بالحاسة تحسس منه:تخبر خبره.

طويل و نعته لهم بنعته فتمسكوا بذلك و وقعت الغيبة و الشدة على بني اسرائيل و هم منتظرون قيام القائم اربعمائة سنة،حتى اذا بشروا بولادته و رأوا علامات ظهوره اشتدت البلوى عليهم و حمل عليهم بالحجارة و الخشب،و طلب الفقيه الذي كانوا يستريحون الى احاديثه فاستتر فواسلهم،و قالوا كنّا مع الشدة نستريح الى حديثك،فخرج بهم الى بعض الصحارى و جلس يحدثهم حديث القائم و نعته و قرب الامر و كانت له فترة فبينا هم كذلك اذا طلع عليهم موسى عليه السّلام و كان في ذلك الوقت حدث السن و خرج من دار فرعون يظهر النزهة فعدل عن موكبه و اقبل اليهم و تحته بغلة و عليه طيلسان خزّ فلما رآه الفقيه عرفه بالنعت فقام اليه و اكبّ على قدمه فقبلها.

ثم قال الحمد للع الذي لم يمتني حتى رأيتك فلما رأى الشيعة ذلك علموا انه صاحبهم فأكبوا على الارض شكرا للّه عز و جل فلم يزدهم على ان قال ارجوا ان يعجل اللّه فرجكم ثم غاب بعد ذلك و خرج الى مدينة مدين،فاقام عند شعيب ما اقام فكانت الغيبة الثانية اشدّ عليهم من الاولى و كانت نيفا و خمسين سنة-،و اشتدت البلوى عليهم و استتر الفقيه فبعثوا اليه بأنه لا صبر لنا على استتارك عنّا فخرج الى بعض الصحاري و استدعاهم،و طيّب نفوسهم و اعلمهم ان اللّه عز و جل اوحلى اليه انه مفرج عنهم بعد اربعين سنة،فقالوا بأجمعهم الحمد للّه عز و جل،فاوحى اللّه اليهم قل لهم قد جعلتها ثلاثين سنة لقولهم الحمد للّه،فقالوا كل نعمة من اللّه فاوحى اللّه اليه قل لهم قد جعلها عشرين سنة فقالوا لا يأتي بالخير الا اللّه فاوحى اللّه اليه قد جعلتها عشرا،فقالوا لا يصرف السوء الا اللّه،فاوحى اللّه اليه قل لهم لا يبرحوا فقد اذنت في فرجهم فبينما هم كذلك اذ طلع موسى عليه السّلام راكبا حمارا،فاراد الفقيه ان يعرّف الشيعة ما يستبصرون به فيه و جاء موسى حتى وقف فسلّم فقال الفقيه ما اسمك فقال موسى قال ابن من قال ابن عمران،قال ابن من قال ابن قاهب بن لاوى بن يعقوب قال بما ذا جئت قال بالرسالة من عند اللّه عز و جل فقام اليه فقبّل يده،ثم جلس بينهم و طيّب نفوسهم و امرهم امره ثم فرقهم و كان بين ذلك لوقت و بين فرجهم بغرق فرعون اربعون سنة،و قال الصادق عليه السّلام في القائم عليه السّلام شبه موسى بن عمران و هو خفاء مولده و غيبته عن قومه،فقال له رجل و كم غاب موسى عن اهله و قومه فقال ثمان و عشرون سنة.

و قال الباقر عليه السّلام في صاحب هذا الامر اربع سنن من اربعة انبياء سنّة من موسى و سنّة من عيسى و سنّة من يوسف و سنّة من محمد صلّى اللّه عليه و آله فاما من موسى عليه السّلام فخائف يترقب و اما من يوسف عليه السّلام فالسجن،و اما من عيسى عليه السّلام فيقال انه مات،و لم يمت،و اما من محمد صلّى اللّه عليه و آله فالسيف،و في رواية أخرى ان سنّى من يوسف عليه السّلام أنه يعرف الناس و الناس لا يعرفونه مثل

ص:21

يوسف عليه السّلام بالنسبة الى اخوته لما وردوا عليه في مصر،و اما غيبة اوصياء موسى عليه السّلام الى زمان المسيح عليه السّلام و ذلك انه ورد في الروايات عن الطاهرين عليهم السّلام ان يوسع بن نون وصي موسى عليه السّلام قام بالامر بعد موته صابرا من طواغيت زمانه على الجهد و البلاء حتى مضى منهم ثلاث طواغيت فقوى بعدهم امره فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى عليه السّلام بصفرا بنت شعيب امرأة موسى عليه السّلام في مأة الف رجل فقاتلوا يوشع بن نون عليه السّلام فغلبهم،و قتل منهم مقتلة عظيمة و هزم الباقين باذن اللّه و اسر صفرا بنت شعيب،و قال لها قد عفوت عنك في الدنيا الى ان نلقى نبي اللّه موسى عليه السّلام فاشكو ما لقيت منك و من قومك فقالت صفرا وا ويلاه و اللّه لو ابيحت لي الجنة لاستحييت ان ارى فيها رسول اللّه و قد هتكت حجابه عني و خرجت على وصيه بعده.

قول و قد وقع مثل هذا في هذه الامة حذو النعل بالنعل،فان وصي نبي هذه الامة انما استقل بالامر بعد مضى الطواغيت الثلاثة،و لما استقل خرجت عليه اخت صفراء و هي حميراء اخرجها المنافقان الى ان اسرها علي عليه السّلام في حرب البصرة و لكن الفرق بين الامر أتين بأن الاولى ندمت على ما فعلته و الثانية لم تندم.

ثم ان الائمة عليهم السّلام قد استتروا بعد يوشع الى زمان داود عليه السّلام اربعمائة سنة و كانوا احد عشر فكان قوم كل واحد منهم يختلفون اليه و يأخذون منه معالم دينهم حتى انتهى الامر الى آخرهم فغاب عنهم ثم ظهر و بشرهم بداود عليه السّلام و اخبرهم ان داود عليه السّلام هو الذي يأخذ الملك من جالوت و جنوده و يكون فرجهم في ظهوره و كانوا ينتظرونه فلما كان زمان داود عليه السّلام كان له اربع اخوة و لهم اب شيخ كبير و كان داود عليه السّلام من بينهم خامل الذكر و هو اصغرهم فخرجوا الى قتال جالوت مع طالوت،و خلّفوا داود يرعى الغنم تحقيرا لشأنه فلما اشتدت الحرب و اصاب الناس جهد،رجع ابوه و قال لداود احمل الى اخوتك طعاما فخرج داود و القوم متقاربون فمر داود على حجر فناداه يا داود خذني فاقتل بي جالوت فاني خلقت لقتله فأخذه و وضعه في مخلاته التي كانت تكون فيها حجارته التي كان يرمي بها غنمه.

فلما دخل العسكر رآهم يعظمون امر جالوت فقال لهم ما تعظمون من امره فو اللّه لئن عاينته لاقتلنه فأدخلوه على طالوت فقال له يا فتى ما عندك من القوة قال قد كان الاسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه و افكّ لحييه من الشاة و اخلصها من فيه و قد كان اللّه اوحى الى طالوت انه لا يقتل جالوت الا من لبس درعك فملأها فدعا بدرعه فلبسها داود فاستوى عليه فراه ذلك طالوت و من حضره من بني اسرائيل فلما اصبحوا و التقى الناس قال داود اروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فرماه فصكّ بين عينيه و قتله فقال الناس قتل داود جالوت فاجتمعت عليه بنو اسرائيل و انزل اللّه سبحانه عليه الزبور و ليّن له الحديد و امر الجبال

ص:22

و الطيران ان تسبح معه،و اعطاه صوتا لم يسمع بمثله حسنا و اقام في بني اسرائيل نبيا و هكذا يكون سبيل القائم عليه السّلام فان له سيفا مغمدا اذا حان وقت خروجه اقتلع ذلك السيف من غمده و انطقه اللّه عز و جل فناداه السيف اخرج يا و لي اللّه فلا يحل لك ان تقعد عن اعداء اللّه فيخرج فيقتلهم.

ثم ان داود عليه السّلام اراد ان يستخلف سليمان لان اللّه عز و جل اوحى اليه يأمره بذلك فلما اخبر بني اسرائيل ضجّوا من ذلك و قالوا تستخلف علينا حدثا و فينا من هو اكبر منه فدعا اسباط بني اسرائيل و قال لهم قد بلغني مقالتكم فاروني عصيكم فأي عصا اثمرت فصاحبها و لي الامر من بعدي،فقالوا رضينا فقال ليكتب كل واحد منكم اسمه على عصاه فكتبوا،ثم جاء سليمان عليه السّلام فكتب عليها اسمه ثم ادخلت بيتا و اغلق الباب و حرسته رأوس اسباط بني اسرائيل فلما اصبح فتح الباب فاخرج عيصهم و قد اورقت و عصى سليمان قد اثمرت فسلموا ذلك لداود فقال ان هذا خليفتي من بعدي ثم اخفى سليمان بعد ذلك امره و تزوج بامرأة و استتر عن شيعته ما شاء اللّه،ثم ان امرأته قالت له ذات يوم بأبي انت و امي ما اكمل خصالك و اطيب ريحك و لا اعلم لك خصلة اكرهها الا انك في مؤنة ابي فلو دخلت السوق فتعرضت لرزق اللّه رجوت ان لا يخيبك فقال لها سليمان اني و اللّه ما عملت عملا قطّ و لا احسنه فدخل السوق يومه ذلك فرجع و لم يصب شيئا فقال لها ما اصبت شيئا قالت لا عليك ان لم يكن اليوم غدا،فلما كان من الغد خرج الى السوق فجال يومه فلم يقدر على شيء فرجع فأخبرها فقالت يكون غدا ان شاء اللّه تعالى فلما كان اليوم الثالث مضى حتى انتهى الى ساحل البحر فاذا هو بصياد،فقال له هل لك ان اعينك و تعطينا شيئا قال نعم فأعانه فلما فرغ اعطاه الصياد سمكتين فأخذها و حمد اللّه عز و جل ثم انه شقّ بطن احديهما فاذا هو بخاتم في بطنها فأخذه فصيّره في ثوبه و حمد اللّه عز و جل و اصلح السمكتين و جاء بهما الى منزله ففرحت امرأته بذلك فرحا شديدة و قالت له اني اريد ان تدعو والديّ حتى يعلما انك قد كسبت فدعاهما فأكلا معه فلما فرغوا قال لهم هل تعرفوني قالوا لا و اللّه الا انا لم نر خيرا منك قال فاخرج خاتمه فلبسه فخرّ عليه الطير و الريح و غشيه الملك،و حمل الجارية و ابويه الى بلاد اصطخر و اجتمعت عليه الشيعة،و استبشروا به ففرج اللّه عنهم مما كانوا فيه من حيرة غيبته فلما حضرته الوفاة اوصى الى آصف بن برخيا بأمر اللّه تعالى فلم يزل بينهم يختلف اليه الشيعة و يأخذون منه معالم دينهم ثم غيب اللّه تعالى آصف غيبة طال امدها ثم ظهر لهم فبقى بين قومه ما شاء اللّه ثم انه و دعهم فقالوا له اين الملتقى؟قال على الصراط و غاب عنهم ما شاء اللّه فاشتدت البلوى على بني اسرائيل بغيبته و تسلّط عليهم بخت نصّر فجعل يقتل من يظفر به منهم

ص:23

و يطلب من يهرب و يسبى ذراريهم فاصطفى من السبي من اهل بيت يهود اربعة نفر فيهم دانيال،و صاطفى من ولد هارون عزيرا و هم حينئذ صبية صغار فمكثوا في يده و بنو اسرائيل في العذاب المهين و الحجة دانيال عليه السّلام اسير في يد بخت نصّر تسعين سنة فلما عرف فضله و سمع ان بني اسرائيل ينتظرون خروجه و يرجون الفرج في ظهوره،و على يده امر ان يجعل في جبّ عظيم واسع،و يجعل مه الاسد ليأكله فلم يقربه و امر ان لا يطعم و كان اللّه تبارك و تعالى يأتيه بطعامه و شرابه على يدي نبي من انبيائه فكان دانيال يصوم النهار و يفطر بالليل على ما يدلى اليه من الطعام،و اشتدت البلوى على شيعته و قومه المنتظرين لظهوره و شكّ اكثرهم في الدين لطول الامد،فلما تناهى البلا بدانيال عليه السّلام و قومه رأى بخت نصّر في المنام كأن ملائكة السماء هبطت الى الارض افواجا الى الجبّ الذي فيه دانيال مسلّمين عليه يبشرونه بالفرج،فلما اصبح ندم على ما أتى الى دانيال فأمر بأن يخرج من الجب فلما خرج اعتذر اليه ما ارتكب منه ثم فوّض اليه النظر في امور ممالكه و القضاء بين الناس،فظهر من كان مستترا من بني اسرائيل و رفعوا رؤوسهم و اجتمعوا الى دانيال عليه السّلام موقنين بالفرج فلم يلبث الا القليل على تلك الحال،و افضى الامر بعده الى عزير،فكانوا يجتمعون اليه و يأنسون به،و يأخذون منه معالم دينهم فغيّب اللّه عنهم شخصه مأة عام ثم بعثه و غابت الحجج بعده،و اشتدت البلوى على بني اسرائيل حتى ولد يحيى بن زكريا عليها السّلام و ترعرع،فظهر و له تسع سنين،فقام في الناس خطيبا فحمد اللّه و اثنى عليه و ذكرهم بأيام اللّه عز و جل و اخبرهم ان من محن الصالحين انما كانت لذنوب بني اسرائيل و ان العاقبة للمتقين،و وعدهم الفرج بقيام المسيح عليه السّلام بعد نيف و عشرين سنة من هذا القول.

فلما ولد المسيح عليه السّلام اخفي اللّه ولادته،و غيّب شخصه لان مريم عليها السّلام لما حملته انتبذت به مكانا قصيّا (1)ثم ان زكريا عليه السّلام و خالتها اقبلا يقفيان اثرها حتى هجما عليها،و قد وضعت ما في بطنها و هي تقول يا ليتني متّ قبل هذا و كنت نسيا منسيا فاطلق اللّه تعالى ذكره لسانه بعذرها و اظهار حجتها فلما ظهر اشتدت البلوى و الطلب على بني اسرائيل و اكبّ الجبابرة و الطواغيت عليهم حتى كان من امر المسيح عليه السّلام ما قد اخبر اللّه به و استتر شمعون بن حمون و الشيعة،ثم افضى بهم الاستتار الى جزيرة من جزائر البحر،فاقاموا بها ففجر اللّه لهم فيها العيون العذبة، و اخرج لهم من كل الثمرات و جعل لهم فيها الماشية،و بعث اليهم سمكة تدعى القمل لا لحم لها و لا عظم و انما هي جلد و دم،و خرجت من البحر و اوحى اللّه عز و جل الى النحل ان يركبها،فركبتها فأتت بالنحل الى تلك الجزيرة،و نهض النحلة و تعلّق بالشجر،فغرس و بنى و كنز العسل،و لم يكونوا يفقدون شيئا من اخبار المسيح عليه السّلام.

ص:24


1- (8) أي مكانا بعيدا.

و اما المسيح عليه السّلام فقد روى انه كان له غيبات يسبح فيها في الارض فلا يعرف قومه و شيعته خبره،ثم ظهر فأوصى الى شمعون بن حمون عليه السّلام فلما مضى شمعون غابت الحجج بعده و اشتد الطلب و عظمت البلوى و درس الدين،و اميتت الفروض و السنن فذهب الناس يمينا و شمالا لا يعرفون ايا من أي فكانت مأتين و خمسين سنة،و قال الصادق عليه السّلام كان بين عيسى و بين محمد صلوات اللّه عليهما خمسمائة عام،منها مأتين و خمسون عاما ليس فيها نبي و لا عالم ظاهر قلت فما كانوا قال كانوا متمسكين بدين عيسى عليه السّلام و اما النبي صلّى اللّه عليه و آله فغيبته المشهورة قد كانت في الغار،و كل المسلمين اطبقوا على انّغيبته في الغار انما كانت تقية من المشركين و خوفا على نفسه حتى انه لو لم يذهب الى الغار لقتلوه،لانهم قد كانوا مهدّوا له القتل،و سوّل لهم الشيطان و علّمهم لطائف الحيل في قتله،و أخذ معه ابا بكر خوفا منه لئلا يدلّ على الناس عليه كما قالوه في كتبهم.

و روى سعد بن عبد اللّه القمي قال بليت بأشد النواصب منازعة فقال لي يوما ان الصديق فوق الصحابة بسبب سبق الاسلام الا تعلمون ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انما ذهب به ليلة الغار لانه خاف عليه كما خاف على نفسه،و لما علم انه يكون الخليفة في امته و اراد ان يصونه كما يصون صلّى اللّه عليه و آله خاصة نفسه كي لا يختلّ حال الدين من بعده و يكون الاسلام منتظما و قد انام عليا على فراشه،لما كان في علمه انه لو قتل لا يختل الاسلام لقتله لانه يكون من الصحابة من يقوم مقامه لا جرم لم يبال من قتله،فأتى سعد بهذه المسألة مع عدة مسائل،و دخل على مولانا الحسن العسكري عليه السّلام و كان صاحب الزمان عليه السّلام طفلا يلعب بين يديه فأمر الحسن العسكري عليه السّلام ذلك الطفل ان يجيب عن تلك المسائل.

فأجاب حتى انتهى الى هذه المسألة فقال يا سعد من ادعى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو خصمك ذهب بمختار هذه الامة مع نفسه الى الغار فانه خاف عليه كما خاف على نفسه لما علم انه الخليفة من بعده على امته لانه لم يكن من حكم الاختفاء ان يذهب بغيره معه و انما اقام عليا عليه السّلام على مبيته لانه علم انه ان قتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون بقتل ابي بكر،لانه يكون لعلي من يقوم مقامه في الامور لم لم تنتقض عليه بقولك او لستم تقولون ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال ان الخلافة من بعدي ثلاثون سنة و صيرها موقوفة على اعمار هذه الاربعة ابي بكر و عمر و عثمان و علي فانهم كانوا على مذهبكم خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فان خصمك لم يجد بدا من قوله بلى، ثم قل له فاذا كان الامر كذلك فكما كان ابو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلثة خلفاء امته من بعده،فلم ذهب بخليفة واحد و هو ابو بكر الى الغار و لم يذهب بهذه،فعلى هذا الاساس يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله مستخفا بهم دون ابي بكر،فأنه يجب عليه ان يفعل بهم ما فعل بأبي بكر فلما

ص:25

لم يفعل ذلك بهم يكون متهاونا بحقوقهم و تاركا للشفقة عليهم بعد ان كان يجب عليه ان يفعل بهم جميعا على ترتيب خلافتهم كما فعل بأبي بكر الحديث.

و بالجملة فغيبة هؤلاء الانبياء و الاوصياء كما لا تقدح في نبوتهم و وصايتهم،كذلك غيبة مولانا صاحب الزمان عليه السّلام مع قوله صلّى اللّه عليه و آله يجرى في هذه الامة ما جرى في الامم السابقة،حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة،و لم تقع غيبة لوصي في الامة الا به عليه السّلام و قد نقل مخالفونا هذا الحديث و صححوه و كذلك هو عندنا صحيح ايضا،و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية فاضطروا الى بيان المراد من الامام فيه فاكثرهم قالوا ان المراد به سلاطين العصر و الحكام لانهم المراد بزعمهم من قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ سواء كانوا فجّارا او كفارا،فمن مات و لم يعرف حاكم عصره الفاسق المتجاهر باللواطة و شرب الخمور و سفك الدماء و انواع الظلم و الجور مات على دين الكفر و الضلال،و نحن نقول لهم ان فائدة معرفة مثل هذا السلطان المأمور بها المؤكدة بانواع التأكيد ما المراد منها،ان كان المراد منها الرجوع اليه في الاحكام الشرعية و العمل بأقواله و افعاله فقد عرفت أنه جاهل فاسق لا يعرف الاحكام و لا يعمل بها و لا يأمر بها بل هو تايه في غيّه يأمر الناس بمثل افعاله كما هو المشاهد من سلاطين عصرنا من الشيعة و اهل السنة،فان من وافقهم على شرب الخمور و نحوها رفعوا درجته و اقبلوا عليه بانواع اللطف و من لم يوافقهم ابعدوه عنهم،و ان كان المراد مجرّد معرفته و كونه فلان بن فلان من غير فائدة تترتب عليها فهذا محال في العقول.

و بعض المخالفين لما تفطن لما قلناه قال المراد من الامام في الحديث هو كتاب اللّه فاضطره الامر الى ان الظاهر من الحديث و من قوله امام زمانه هو التغيّر و التبدّل على ذلك الامام لانه لم يقل من مات و لم يعرف الامام فتحيّر في المراد من الخبر و لقى اللّه سبحانه على تلك الحيرة، و هذا شأن علمائهم و اهل مذهبهم.

و قد نقل لي انّ الفاضل الدواني صاحب حاشية القديم كان يدرّس في الاحاديث فلما وصل الى هذا الحديث قال لتلامذته ما المراد من الامام هنا فقد قالت الشيعة هو المهدي الان و انتم أي شيء تقولون؟فقالوا المراد سلطان العصر،و هو الحاكم كما هو مذهبهم،و سلطان ذلك العصر من سلسلة الصفوية و هو الشاه اسماعيل عليه الرحمة و الرضوان و هو شيعي، و الدواني و تلامذته كانوا من المخالفين،فقال لهم اذن قد اوجب اللّه علينا معرفة هذا السلطان الرافضي و العمل باقواله،و هو بالفعل يأمرنا بترك هذا الدين و الدخول في دين الشيعة فيجب علينا متابعة و قبول قوله،ثم انه غضب من هذا الدين،و الدخول في دين الشيعة فيجب علينا

ص:26

متابعته و قبول قوله،ثم انه غضب من كلامهم و هو ايضا حيران لم يهتد الى المراد من الامام، فقام من مجلس الدرس و حلف أنه لا يعود الى تدريس الحديث فلزم علم الحكمة و مباحثته و مدارسته،و اعتقاد ما يعتقدونه فتاب من الكفر و دخل في الزندقة.

و لما أتى اسماعيل اعلى اللّه مقامه الى شيراز،و كان اكثر علمائها من المخالفين احضرهم و امرهم بلعن المتخلفين الثلثة،فامتنعوا عن اللعن لان التقية لا تجوز عندهم في اللعن و اضرابه، فأمر بقتلهم ثم قيل له ان واحدا من افاضلهم،و هو شمس الدين الخفري صاحب الحاشية على الهيات التجريد قد بقى فأرسل اليه و امره بلعن الثلثة فلعنهم لعنا شنيعا فسلم من القتل و لما خرج من عنده استقبله اهل نحلته،و قالوا كيف ارتددت عن دينك و لعنت ائمتك الثلثة، فاجابهم بالفارسية(يعني از براي دو سه عرب كون برهنه مرد فاضلى همجو من كشته شود) يعني لاجل خاطر هؤلاء الاعراب الثلثة مكشوف الدبر اقتل انا مع ما انا عليه من الفضل و الكمال،و هذا حالهم لانهم يلعنون ائمتهم اذا اعطوا درهما و اقل منه كما شاهدناهم في النجف الاشرف و الحلة و غيرها.

و مما يناسب هذا المقام كلام ذكره علي بن طاووس(ر ه)في بعض كتبه و حاصله انه اجتمع يوما في بغداد مع فضلائها،فانجرّ الكلام بينهما الى ذمر المهدي عليه السّلام و ما يدعيه الامامية من حيوته في هذه المدة الطويلة فشنّع ذلك الفاضل على من يصدّق بوجوده،و يعتقد طول عمره الى ذلك الزمان و انكره انكارا شديدا بليغا.

قال السيد(ر ه)فقلت له انك تعلم انه لو حضر اليوم رجل و ادّعى أنه يمشي على الماء لاجتمع لمشاهدته كل اهل البلد،فاذا مشى على الماء و عاينوه و قضوا تعجبهم منه،ثم جاء في اليوم الثاني آخر و قال انا امشي على الماء ايضا،فشاهدوا مشيه عليه لكان تعجبهم اقل من الاول،فاذا جاء في اليوم الثالث آخر و ادّعى انه يمشي على الماء فربما لا يجتمع للنظر اليه الاّ قليلا ممن شاهد الاولين فاذا مشى سقط التعجب بالكلية،فاذا جاء رابع و قال انا ايضا امشي على الماء كما مشوا فاجتمع عليه جماعة ممن شاهدوا الثلاثة الاول ثم اخذوا ليتعجبوا (يتعجبون خ)منه تعجبا زايدا على تعجبهم من الاول و الثاني و الثالث لتعجب العقلاء من نقص عقولهم و خاطبوهم بما يكرهون،و هذا بعينه حال المهدي عليه السّلام فانكم رويتم ان ادريس حيّ موجود في السماء من زمانه الى الان و رويتم ان الخضر كذلك في الارض حي موجود من زمنه الى الان،و رويتم ان عيسى عليه السّلام حيّ موجوده في السماء،و أنه سيعود الى الارض اذا ظهر المهدي،و يقتدى به،فهذه ثلثة نفر من البشر قد طالت اعمارهم زيادة على المهدي عليه السّلام فكيف لا تتعجبون منهم و يتعجبون من ان يكون لرجل من ذرية النبي صلّى اللّه عليه و آله اسوة بواحد منهم،

ص:27

و تنكرون ان يكون من جملة آياته صلّى اللّه عليه و آله ان يعمّر واحد من عترته و ذريته زيادة على ما هو المتعارف من الاعمار في هذا الزمان و اللّه الهادي،و الحق ان بعض اهل الانصاف منهم قد اعترف بوجوده في ظاهر كلامه.

قال محي الدين الاعرابي (1)في كتاب الفتوحات المكية ان للّه خليفة يخرج من عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ولد فاطمة عليها السّلام،يواطي اسمه اسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جدّه الحسين بن علي صلوات اللّه عليهم يبايع بين الركن و المقام يشبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخلق بفتح الخاء.و ينزل عنه في الخلق بضم الخاء اسعد الناس اليه(به)اهل الكوفة يعيش خمسا او سبعا او تسعا،يضع الجزية و يدعو الى اللّه بالسيف،و يرفع المذاهب عن الارض فلا يبقى الا الدين الخالص اعداؤه مقلّدة العلماء اهل الاجتهاد لما يرونه يحكم بخلاف ما ذهب اليه ائمتهم،فيدخلون كرها تحت حكمه خوفا من سيفه يفرح به عامة المسلمين اكثر من خواصهم يبايعوه العارفون من اهل الحقائق عن شهود و كشف بتعريف الهلي،له رجال الهيون يقيمون دعوته و ينصرونه،و لو لا ان السيف بيده لافتى الفقهاء بقتله،و لكن اللّه يظهره بالسيف و الكرم فيطمعون و يخافون و يقبلون حكمه من غير الايمان و يضمرون خلافه،و يعتقدون فيه اذا حكم فيهم بغير مذهب ائمتهم أنه على ضلال في ذلك لانهم يعتقدون ان اهل الاجتهاد و زمانه قد انقطع و ما بقى مجتهد في العالم،و ان اللّه لا يوجد بعد ائمتهم احدا له درجة الاجتهاد،و اما من يدعي التعريف الالهي بالاحكام الشرعية فهو عندهم مجنون فاسد الخيال انتهى.و هو كلام انيق بل ربما لاح منه حسن الاعتقاد،و الرد على اهل الرأي و القياس كأبي حنيفة و اضرابه،و لكنّ الظاهر أنه كان خال من التعصب،و ان كان صاحبه منهم.

و اما شبه المخالفين التي اوردوها،في هذا المقام فهي انواع الاولى قولهم ما الوجه في غيبته على الاستمرار و الدوام،حتى صار ذلك سببا لانكار وجوده،و نفي ولادته و آباؤه عليهم السّلام و ان لم يظهروا الدعاء الى نفوسهم فيما يتعلق بالامامة فقد كانوا ظاهرين يفتون في الاحكام لا يمكن احدا نفي وجودهم و هذه المسألة ربما سأل عنها الشيعة ايضا لكن سؤالهم على وجه الاستفهام و الاستعلام،و سؤال المخالفين عنها على وجه النفي و الانكار،و الجواب عن هذه المسألة بوجوه:

الاول:ما ذكره سيدنا الاجل المرتضى قدس اللّه روحه،حيث قال ان النقل اذا دلّ على وجوب الامامة و انّ كل زمان كلّف فيه المكلفون،الذين يقع منهم القبيح و الحسن و يجوز عليهم

ص:28


1- (9) كذا في النسخ و الظاهر ان الصحيح:العربي.

الطاعة و المعصية لا يخلو من امام لانّ خلوّه من الامام اخلال بتمكينهم،و قادح في حسن تكليفهم.

ثم دلّ العقل على ان ذلك الامام لا بدّ ان يكون معصوما من الخطل مأمونا منه كل قبيح و ثبت ان هذه الصفة التي دلّ العقل على وجوبها،لا توجد الا فيمن يدّعي الامامية امامته و تعرى منها كل من يدعي له الامامة سواه فالكلام في علّة غيبته و سببها واضح بعد ان تقررت امامته لانا اذا علمنا انه الامام دون غيره و رأيناه غائبا عن الابصار علمنا انه لم يغب مع عصمته و تعيّن فرض الامامة فيه و عليه الا لسبب اقتضى ذلك و مصلحة استدعته،ضرورة حملته عليه،و ان لم نعلم وجهه على التفصيل،لان ذلك مما لا يلزم علمه و جرى الكلام في الغيبة و وجهها مجرى العلم بمراد اللّه تعالى،من الآيات المتشابهات في القرآن التي ظاهرها الجبر او التشبيه،فانا نقول اذا علمنا حكم(حكمة خ)اللّه سبحانه و أنه لا يجوز ان يخبر بخلاف ما هو عليه من الصفات،علمنا على الجملة ان لهذه الآيات وجوها صحيحة بخلاف ظاهرها،يطابق مدلولة أدلّة العقل و ان غاب عنّا العلم بذلك مفصلا،فان تكلفنا الجواب عن ذلك و تبرعنا بذكره فهو فضل منّا غير واجب،و كذلك الجواب لمن سأل عن الوجه في ايلام الطفل وجهة المصلحة في رمي الجمار و الطواف بالبيت،و ما اشبه ذلك من العبادات على التفصيل و التعيين، فاذا عوّلنا على حكمة القديم سبحانه و أنه لا يجوز ان يفعل قبيحا فلا بدّ من وجه حسن في جميع ذلك و ان جهلنا بعينه و ليس يجب علينا بيان ذلك الوجه و انه ما هو و في هذا سدّ الباب على مخالفينا في سؤالاتهم و قدع التطويلات عنهم،الا اننا تبرعنا بإيراد الوجه في غيبته عليه السّلام على سبيل الاستظهار و بيان الاقتدار و ان كان ذلك غير واجب علينا في حكم النظر و الاعتبار.

و الذي يدل على هذا الوجه ما رواه عبد اللّه بن الفضل الهاشمي قال سمعت الصادق عليه السّلام يقول ان لصاحب هذا الامر غيبة لا بدّ منها يرتاب فيها كل مبطل،فقلت له فلم جعلت فداك قال الامر لم يؤذن لنا في كشفه لكم،قلت فما وجه الحكمة في غيبته قال وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج اللّه تعالى ذكره،ان وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف الا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة لمّا اتاه الخضر عليه السّلام من خرق السفينة و قتل الغلام و اقامة الجدار لموسى عليه السّلام الى وقت افتراقهما،يا ابن الفضل ان هذا الامر امر من اللّه، و سرّ من سر اللّه و غيب من غيب اللّه،و متى علمنا أنه عز و جل حكيم صدّقنا بأن افعاله كلها حكمة و ان كان وجهها غير منكشف.

الوجه الثاني:ما ذكره سيدنا المرتضى ايضا،و هو أنه انما غاب لخوفه على نفسه و من خاف على نفسه احتاج الى الاستتار فأما لو كان خوفه على ماله او على الاذى على نفسه،

ص:29

لوجب عليه ان يتحمل ذلك لازاحة علّة المكلفين لانه عليه السّلام لو قتل لم يكن له من يخلفه،و يقوم مقامه لان عليه تدور رحى القيامة،و دولة آخر الدول بخلاف آبائه الطاهرين عليهم السّلام،فأنهم لما ظهروا كانوا يعلمون أنهم لو قتلوا كان عندهم من يقوم مقامهم،مع ان خوفه عليه السّلام اكثر و ذلك لان الائمة الماضين من آبائه عليهم السّلام قد اسروا الى شيعتهم ان صاحب السيف هو الثاني عشر منهم،و أنه الذي يملأ الارض عدلا و أن دولته تغلب على كل الدول،و في ظهوره هلاك دول الطغاة،فكانت السلاطين الظلمة يتوفقون عن اتلاف آبائه عليهم السّلام لعلمهم أنهم لا يخرجون بالسيف،و يتشوقون الى حصول الثاني عشر ليقتلوه و يبيدوه.

و لهذا لما دفن مولانا الحسن العسكري عليه السّلام اضطرب السلطان و اصحابه في طلب ولده و كثر التفتيش في المنازل و الدور،و توقفوا عن قسمة ميراثه،و لم يزل الذين و كّلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها لحبل ملازمين لها سنتين و اكثر حتى يتبين لهم بطلان الحبل،فقسّم ميراثه بين أمه و اخيه جعفر،و ادّعت امه وصيته و ثبتت عند القضاة و السلطان على ذلك يطلب اثر ولده فجاء جعفر بعد قسمة الميراث الى السلطان،فقال له اجعل لي مرتبة ابي و اخي و اوصل اليك في كل سنة عشرين الف دينار،فزبره و اسمعه و قال له يا احمق ان السلطان جرّد سيفه و سوطه في الذين زعموا ان اباك و أخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه فان كنت عند شيعة ابيك و اخيك اماما فلا حاجة بك الى السلطان و ان لم تكن عندهم بتلك المنزلة لم تنلها بالسلطان،و قد كان عليه السّلام مع غيبته عن الناس يظهر لخاصّة مواليه و شيعته،و يخرج منه التوقيعات في فنون المسائل و الاحكام،و بقى على هذا الحال ستين سنة،حتى اشتدّ الامر و كثر الكلب عليه،و التفحص عن خواصه و مواليه فخاف على نفسه و على خواص شيعته،و ذلك في دولة الخليفة المعتضد،فغاب هذه الغيبة الكبرى الى الان نرجو من اللّه ان يوفقنا لتقبيل اعتابه.

روى عن شقيق الحاجب قال بعث الينا المعتضد،و امرنا ان نركب و نحن ثلاثة نفر،و قال الحقوا بسامرّة و اكبسوا دار الحسن بن علي عليهما السّلام،فأنه توفي و من رأيتم في داره فالزموه،فكبسنا الدار فاذا سرداب،فدخلناها و كان بحر فيها و في اقصاه حصير و قد علمنا انه على الماء و فوقه رجل من احسن الناس هيئة،قائم يصلي فلم يلتفت الينا و لا الى شيء من اسبابنا،فسبق احمد بن عبد اللّه ليتخطى،فغرق في الماء و ما زال يضطرب حتى مددت يدي اليه،فخلّصته و اخرجته فغضى عليه،و بقى ساعة،و عاد صاحبي الثاني الى فعل ذلك،فناله مثل ذلك فبقيت مبهوتا فقلت لصاحب البيت المعذرة الى اللّه و اليك فو اللّه ما علمت كيف و الى من نجى و انا تائب الى اللّه،فما التفت الى بشيء مما قلت و انصرفنا الى المعتضد،فقال اكتموه و الا ضربت رقابكم و حاصل هذا الجواب انّ العلّة في غيبته عليه السّلام انما هي الخوف من القتل،و يؤيده ما رواه زرارة

ص:30

بالاحاديث المتكثرة عن الصادقين عليهما السّلام انهما قالا للغلام غيبة قبل قيامه قيل و لم؟قال يخاف على نفسه الذبح.

الوجه الثالث:أنه لو كان ظاهرا لم يسعه الا موافقة الطواغيت بسبب التقية التي سلكها آباؤه عليهم السّلام انتظارا للوقت الذي يأمره اللّه تعالى بالقيام فيه،و لما كان هو الحجة البالغة،و القائم بالسيف لتطهير الارض من الارجاس اقتضت الحكمة البالغة ان لا يكون لاحد عليه سبيل، و يؤيده ما روى عن الباقر و الصادق و الرضا عليهم السّلام لما سألوا عن العلة في الغيبة،فقالوا العلة فيها لئلا يكون لاحد في عنقه بيعة اذا خرج بالسيف و ذلك ان كل واحد من آبائه الطاهرين عليهم السّلام قد وقع في عنقه بيعة لواحد من طواغيت زمانه حتى أنه كان من جملة اعتذار علي عليه السّلام عن القعود عن الخلافة أنه قد اضطر اولا للبيعة مع الثلاثة اوائل تخلّف كل واحد منهم و لما وقعت البيعة في عنقه لم يمكنه نقضها اتقاء على نفسه،لان نقض البيعة عندهم ارتداد.

الرابع أنه قد استفاض في اخبار العامة و الخاصة،انه يجري في هذه الامة ما جرى في الامم السابقة،حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة،فتكون هذه الغيبة لذلك المعنى،و يدل عليه ما رواه حنان بن سدير،عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال ان للقائم منّا غيبة يطول امدها،فقلت و لم ذاك يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟قال لان اللّه عز و جل ابى الا ان يجري فيه سنن الانبياء عليهم السّلام في غيباتهم،و أنه لا بدّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم،قال اللّه تبارك و تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي سنن من كان قبلكم،يعني يجري عليكم حالات الامم السابقة،حالة بعد حالة و في وقت بعد وقت.

الخامس ما روى عن الصادق عليه السّلام من ان العلة في الغيبة و تأخر هذا الامر انقضاء الدول الباطلة،حتى لا يقول احد منهم لو ملكت و تمكنت لعدلت و لفعلت الاحسان فمكنهم اللّه سبحانه اولا لان دولة المهدي و آل محمد عليهم السّلام هي آخر الدول و تتصل بالقيامة كما في الاخبار المتواترة فلا يبقى لاحد حجة كلام على اللّه سبحانه.

السادس ما رواه محمد بن ابي عمير عمّن ذكره عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له ما بال امير المؤمنين عليه السّلام لم يقاتل مخالفيه في الاول؟قال لان(لاية ظ)في كتاب اللّه عز و جل و لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً99، قال قلت ما يعني بتزايلهم،قال ودائع مؤمنون (منين ظ)في اصلاب قوم كافرين،و كذلك القائم عليه السّلام لن يظهر ابدا حتى يخرج ودائع اللّه عز و جل فاذا خرج ظهر على من ظهر من اعداء اللّه عز و جل فقتلهم و الاخبار الواردة بهذا المعنى متكثرة جدا و العلل المروية في الاخبار كثيرة،و لا تنفي بينها لانك قد عرفت ان علل الشرع معرّفة لا مؤثرة.

ص:31

الشبهة الثانية قولهم،اذا كانت العلة في غيبة الامام خوفه من الظالمين و اتقاؤه من المخالفين،و هذه العلة منفية عن اوليائه فيجب ان يكون ظاهرا لهم،او يسقط عنهم التكليف الذي امامته لطف فيه،و قد اجاب الاصحاب رضوان اللّه عليهم عن هذه الشبهة بأمور.

الاول ان غيبته عن اوليائه ليس لعلة الخوف،مثل اعدائه بل لخوف من اشاعتهم خبره، و التحدث منهم بذلك على وجه التشرف بذكره،و الاحتجاج بوجوده،فيؤدى ذلك الى علم اعدائه بمكانه فيعقب علمهم بذلك ما ذكرناه من وقوع الضرر به.

الثاني ان غيبته عن اعدائه للتقية منهم،و غيبته عن اوليائه للتقية عليهم،و الاشفاق من وقوع الضرر بهم،اذ لو ظهر للقائلين بامامته،و شاهده بعض اعدائه،و اذاع خبره طولب اوليائه به اذا فات الطالب بالاستتار اعقب ذلك عظيم المكروه و الضرر باوليائه و هذا معروف بالعادات.

الثالث ان في القائلين بامامته من لا يرجع عن الحق و عن اعتقاد امامته و القول بصحتها على حالة من الاحوال،فأمره اللّه تعالى بالاستتار ليكون المقام على الاقرار بامامته مع الشبهة في ذلك و شدّة المشقة اعظم ثوابا منه على الاقرار بامامته مع المشاهدة له فكانت غيبته عن اوليائه لهذا الوجه،و لم يكن التقية عندهم،و يؤيده قوله تعالى في اول سورة لبقرة الم ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ فان المراد بالغيب على ما وقع في الاخبار المستفيضة هو الامام الغائب عن انظارهم، فقد مدحهم اللّه سبجحانه على هذه الخصلة،و في الحديث ان واحدا من الصحابة قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله افضل الناس اصحابك يا رسول الله؟فقال صلّى اللّه عليه و آله لا بل افضل الناس قوم يؤمنون بسواد على بياض لان الحجة تغيب عنهم،و قال عليه السّلام اذا غاب الحجة فالقابض على دينه كالقابض (1)على جمر الغضا لان الايمان في حالة الامتحان و الشدة اكثر ثوابا من غيره كما قال الصادق عليه السّلام و اللّه لتبلبلنّ بلبلة و لتغربلن غربلة و لتساطن سوط القدر فيجعل اعلاكم اسفلكم و اسفلكم اعلاكم.

الرابع و هو الذي عوّل عليه المرتضى قدس اللّه روحه حيث قال اولا انا لا نقطع على أنه لا يظهر لجميع اوليائه فان هذا امر مغيب عنّا و لا يعرف كل منا الا حال نفسه فاذا جوّزنا ظهوره لهم كما جوزنا غيبته عنهم فنقول في علة عنهم ان الامام عليه السّلام عند ظهوره من الغيبة انما يميز شخصه و يعرف عينه بالمعجز الذي يظهر على يديه لان النصوص الدالة على امامته لا تميّز شخصه عن غيره كما ميزّت اشخاص آبائه عليهم السّلام و المعجز انما يعلم دلالته بضرب من الاستدلال

ص:32


1- (10) الغضا شجر من الاثل خشبة من اصلب الخشب و جمرة يبقى زمنا طويلا لا ينطفئ الواحدة منه غضاة.

و الشبهة تدخل في ذلك فلا يمتنع ان يكون كل من لم يظهر له من اوليائه فانّ(ان ظ)المعلوم من حاله أنه متى ظهر له قصّر في النظر في معجزه و لحق بهذا التقصير بن يخاف منه من الاعداء.

الشبهة الثالثة قال المخالفون اذا كان الامام غائبا بحيث لا يصل اليه احد من الخلق و لا يتنفع به فما الفرق بين وجوده و عدمه و هلاّ جاز ان يميته اللّه او يعدمه حتى اذا علم ان الرعية تمكنه و تسلّم له اوجده او احياه كما جاز ان يبيحه الاستتار حتى يعلنم منها التمكين له فيظهره و الجواب عن هذه الشبهة بوجوه،احدها انا لا نقول و لا نقطع على ان الامام عليه السّلام لا يصل اليه احد فهذا امر غير معلوم ان كثيرا من الناس من العامة و الخاصة قدر رآه و انتفع منه نوعا من الانتفاع سواء عرفه وقت الرؤية او لم يعرفه لكن ظهر له بالقرائن المفيدة للقطع بعد الرؤية ان ذلك هو الامام عليه السّلام نقل صاحب كشف الغمة حكاية وقعت في زمانه قال كان في بلاد الحلة شخص يقل له اسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقل لها هرقل قال أنه مات في زماني و ما رأيته لكن حكى لي والده شمس الدين قال حكى لي والدي أنه خرج فيه و هو شاب على فخذه الايسر توثة مقدار قبضة الانسان و كانت في كل ربع تنشق و يخرج منها دم و قيح يقطعه المها عن كثير من اشغاله و كان مقيما بهرقل فحضر الى الحلة يوما و دخل الى مجلس السعيد رضي الدين علي بن طاووس رحمة اللّه عليه و شكى اليه ما يجد و قال اريد ان اداويها فاحضر له اطباء الحلة و اراهمل الموضع فقالوا هذه الجراحة فوق العرق الاكحل و علاجها خطر و متى قطعت خيف ان ينقطع العرق فيموت فقال له السيد رضي الدين انا متوجه الى بغداد و ربما كان اطباؤها اعرف و احذق من هؤلاء فاصحبني فاصعد معه فاحضر الاطباء فقالوا كما قال اولئك فضاق صدره فقال له السعيد ان الشرع قد فسح لك في الصلوة في هذه الثياب و عليك الاجتهاد في الاحتراس و لا تغزر بنفسك فاللّه تعالى قد نهى عن ذلك و رسوله.

فقال والدي اذا كان الامر همذا و قد حصلت في بغداد فاتوجه الى زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرفه السّلام ثم انحدر الى اهلي فحسن له ذلك فترك ثيابه و نفقته عند السعيد رضي الدين قال زرت المشهد و نزلت السرداب و استغثت باللّه تعالى و بالامام عليه السّلام و قضيت بعض الليل في السرداب و بقيت في المشهد الى الخميس ثم مضيت الى دجلة و اغتسلت و لبست ثوبا نظيفا و ملأت ابريقا كان معي و صعدت اريد المشهد فرأيت اربعة فرسان خارجين من باب السور و كان حول المشهد قوم من الشرفاء قوم يرعون اغنامهم حسبتهم منهم و فيهم شيخ منقب بيده رمح و منهم فارس عليه فرجية ملونة فوق السيف و هو متحنّك فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق و وضع كعب رمحه في الارض و وقف شابان عن يسار الطريق و بقى صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي ثم سلموا عليه فرد عليهم السّلام،فقال له صاحب الفرجية

ص:33

انت غدا تروح الى اهلك فقال له نعم فقال تقدم حتى ابصر ما يوجعك قال فكرهت ملامستهم و قلت اهل البادية ما يكادون يتحرزون من النجاسة و انا قد خرجت من الماء و قميصي مبلول، ثم اني مع ذلك تقدمت اليه فلزمني بيدي و مدني اليه و جعل يلمس جانبي من كتفي الى ان اصابت يده توثة فعصرها بيده فاوجعني ثم استوى في سرج فرسه كما كان فقال لي الشيخ افلحت يا اسماعيل فتعجبت من معرفته باسمي فقلت افلحنا و افلحتم ان شاء اللّه.

قال فقال هذا هو الامام قال فتقدمت و احتضنته و قبّلت فخذه ثم أنه ساق و انا و امشي معه محتضنة فقال ارجع فقلت لا افارقك ابدا فقال المصلحة رجوعك فأعدت عليه مثل القول الاول،فقال الشيخ يا اسماعيل اما تستحي يقول لك الامام مرتين ارجع و تخالفه فجبهني بهذا القول فوقفت و تقدّم خطوات و التفت اليّ و قال اذا وصلت بغداد فلا بد ان يطلبك ابو جعفر يعني الخليفة المستنصر فاذا حضرت عنده و اعطاك شيئا فلا تأخذه و قل لولدنا الرضي ليكتب لك الى علي بن عوض فأنني اوصيه يعيطك الذي تريد ثم سار و اصحابه معه فلم ازل قائما ابصرهم حتى بعدوا و حصل عندي اسف لمفارقته فقعدت على الارض ساعة ثم مشيت الى المشهد فاجتمع القوم حولي و قالوا نرى وجهك متغيرا اوجعك شيء قلت لا قالوا خاصمك احد قلت لا ليس عندي مما تقولون خبر لكن اسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم فقالوا هم الشرفاء ارباب الغنم فقلت لا بل هو الامام عليه السّلام فقالوا الامام هو الشيخ او صاحب الفرجية الملونة قلت بل صاحب الفرجية فقالوا أريته المرض الذي فيك؟فقلت هو قبضه بيده و اوجعني ثم كشفت رجلي فلم ار ذلك المرض فتداخلني الشكّ من الدهش فاخرجت رجلي الاخرى فلم ار شيئا فانطبق الناس عليّ و مزقوا ثوبي فادخلني القوّام الخزانة،و منعوا الناس عني و لما رجع الى بغداد حضر رضي الدين و الخليفة و احضر الاطباء فلما رأوها قد زالت بالكلية و قد كانوا رأوها سابقا صاح واحد منهم و قال هذا و اللّه عمل المسيح و امثال هذه الكرامات قد وقعت منه عليه السّلام كثيرا.

على ان من جملة منافعه عليه السّلام بالنسبة الى العلماء و المجتهدين ما كان يذهب اليه شيخنا صاحب التفسير الموسوم بنور الثقلين قدس اللّه زكيّ تربته و اعلى في عليّين رتبته و هو ان المسائل الخلافية بين الاصحاب التي لم يعلم القائل بالطرف الاخر منها احتمالا راجحا عنده ان يكون ذلك القول قولا له عليه السّلام اوقع الخلاف في المسألة حتى لا تجتمع علماء الشيعة على الخطاء و حتى يتجرى على موافقة ذلك القول لان المسألة اذا كانت اجماعية يتقاعد المجتهدون اللاحقون عن القول بخلافها و ان اداهم الدليل اليه كما سمعته من بعض المجتهدين من انّ الحديث الصحيح اذا وجد و لم يعلم به قائل من الاصحاب يجب ردّه او تأويله و هذا مذهب

ص:34

جماعة منهم و كأنهم اخذوه من مقبولة عمر بن حنظلة و غيرها مما اشتمل على قوله عليه السّلام خذ بما اشتهر بين اصحابك ففهموا منه كون المراد الاشتهار في الفتوى لكن الظاهر من سياق تلك الاخبار ان المراد به الاشتهار في النقل لان تلك الاحاديث انما وردت في تعارض الخبرين المنقولين عن المعصوم عليه السّلام و حينئذ فالمراد الاخذ بالحديث الذي اشتهر نقله بين الاصحاب و ترجيهه على ما لم يشتهر و لاجل ما نقلناه عنه(ر ه)كان يذهب الى قوة القول الذي لم يعلم قائله و لا نسبه.

و ثانيها ان في انتظار خروجه عليه السّلام كل يوم و ساعة اجر جزيل و ثواب جليل و يؤيده ما رواه العلاء بن سيابه عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال من مات منكم على هذا الامر منتظرا له كان كمن ان في فسطاط القائم عليه السّلام و روى عبد الحميد الواسطي عن الباقر عليه السّلام قال قلت له اصلحك اللّه لقد تركنا اسواقنا انتظارا لهذا الامر فقال يا عبد الحميد أ ترى من حبس نفسه على اللّه عزّ و جل لا يجعل اللّه عز و جل له مخرجا رحم اللّه عبدا حبس نفسه علينا رحم اللّه عبدا احيا امرنا قال قلت فان مت قبل ان ادرك القائم قال القائل منكم ان ادركت قائم آل محمد صلوات اللّه عليهم نصرته كالمقارع معه بسيفه لا بل كالشهيد معه و قال الصادق عليه السّلام لعمّار اما و اللّه يا عمّار لا يموت منكم ميّت على الحال التي انتم عليها الا كان افضل عند اللّه عز و جل من كثير ممن شهد بدرا واحدا فابشروا و كان عليه السّلام اذا ذكر اصحابه القائم عليه السّلام و تمنوا لقائه يقول الذي عليكم هو العزم و الانتظار و تنالون به ثواب الشهادة و ان متم على فرشكم،مع انهم لو بقوا الى وقت خروجه لم يعاونه منهم الا الاقل كما وقع للحين عليه السّلام و شيعة ابيه فانهم كاتبوه و لما قدم عليهم اسلموه الى القتل و يا ليتهم كفّوا عن قتاله و معاونة الظالمين عليه و الحال في صاحب الزمان عليه السّلام ذلك الحال بعينه فيكون ثواب الانتظار لهم افضل من ثواب حضورهم معه و هذا احد معاني قوله عليه السّلام نية المؤمن خير من عمله و ذلك انهم بهذه النية بلغوا درجات الشهداء و لو ادركوه لربما لم يدركوها بل يمكن ان يدركوا نقيضها مع انه قد روى في الاخبار عن الصادقين عليهم السّلام ان الشيعة لم تزل تربّى بالاماني فبهذه التنميات من احتمال خروجه هذا اليوم و هذا اليوم و هذا العام يسهل الخطب على الشيعة من ظلم الظالمين لهم و دخولهم في باب التقية من كل وجه.

فلقد رأينا جماعة من اهل الخلاف يفضلون اليهود و النصارى علينا و اذا سافرنا معهم يأخذون العشور منّا و يتركون الكفار من غير ان يفتشوا لهم متاعا و هذا امر عظيم لا يسهله الا احتمال قرب الفرج بخروجه عليه السّلام و لا يخفى ان هذا انما يتم على تقدير وجوده و استتاره اما لو كان ميتا او لم يوجد اصلا فلا انتظار اصلا و الذي يؤيد هذه المقالة من ان ثواب انتظار الفرج خير لهم من ثواب الحضور ما ورد في الروايات عن الصادق عليه السّلام من ان اناسا من الشيعة كانوا

ص:35

يحرصونه على القيام بالسيف و كانوا يقولون ان لك شيعة في العراق لو حملتهم على اطراف الاسنة لمشوا عليها فقال قائل منهم هذا الكلام و هم يمشون فنظر عليه السّلام الى غنيمات ترعى فقال لو كان لنا من الشيعة من يوافقنا في القلب و اللسان على امر الخروج بعدد هذه الاغنام لخرج القائم منّا قال الراوي فعددتها فاذا مجموعها سبعة عشر شاة و مرة أخرى ايضا الحوّا عليه في امر الخروج و في ان الشيعة كثيرون فلا يسعك الجلوس فأمر عليه السّلام بنار فاوقدت(فوقدت)فقال ايكم يدخل هذه النار فتقاعدوا عنها و لم يدخلها احد فقال ان شأن القائم عليه السّلام اذا خرج و الدخول معه مثل الدخول في هذه النار فمن دخل منكم هذه النار قدر على معاونة القائم و الجهاد معه.

و ثالثها ما قاله شيخنا الطبرسي في بعض كتبه من ان الفرق بين وجوده غائبا عن اعدائه للتقية و هو في اثناء تلك الغيبة منتظر ان يمكنوه فيظهر و يتصرف و بين عدمه واضح و هو ان الحجة هناك فيما فات من مصالح العباد لازمة للّه تعالى و هيهنا الحجة لازمة للبشر لانه اذا خيف فغيب شخصه عنهم كان ما يفوتهم من المصلحة عيقب فعل كانوا هم السبب فيه منسوبا اليهم يلزمهم في ذلك الذم و هم المؤاخذون به الملامون عليه و اذا اعدمه اللّه تعالى كان ما يفوت العباد من مصالحهم و يحرمونه من لطفهم و انتفاعهم به منسوبا الى اللّه تعالى لا حجة فيه على العباد و لا لوم يلزمهم.

و رابعها ما قاله المرتضى طاب ثراه من ان شيعته و اوليائه اذا جوّزوا ان يكون الامام بحيث يراهم و يعرفهم و لا يعرفونه كان اردع لهم عن فعل المعاصي بخلاف ما اذا كان ظاهرا و هو في ناحية و هم في ناحية اخرى و ان اطلع عليهم اطلاعا علميا لان العادة جرت بقوة الاطلاع الحسي و شدّة تأثيره و الا فاطلاع اللّه على العباد موجود في سائر احوالهم،و كذلك المعصومين عليهم السّلام كما ورد في تفسير قوله تعالى وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ان المراد بالمؤمنين الائمة عليهم السّلام،و الا فغيرهم من المؤمنين لا يعلم بعمل من غاب عن عينه،و ذلك الاطلاع بما روى ان الملائكة الذين يكتبون اعمال الناس و هم رقيب و عتيد اذا كتبوا اعمال اليوم و ارادوا آخر النهار العروج الى عالم الملكوت يأتون اولا بصحائف الاعمال الى امام العصر فيعرضونها عليه،و يطلّع على تلك الاعمال ثم يعرجون بها،ثم انه عليه السّلام يصلح من اعمال شيعته ما يكون قابلا للاصلاح اما بالاستغفار له او بالشفاعة له عند ربه او بالتفويض اليه و من ثم كانوا عليهم السّلام يطلبون من شيعتهم ان يعملوا اعمالا قابلة للاصلاح،و ذلك كالكتاب الذي فيه غلط فانّ منه ما يكون قابلا للمقابلة و التصحيح و منه ما يكثر غلطه حتى يعطل عن الانتفاع به.

ص:36

و خامسها ما ورد في مكاتبة رواها شيخنا محمد بن يعقوب عن اسحاق بن يعقوب قال سألت محمد بن عثمان العمري و هو وكيل الناحية ان يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السّلام اما ما سألت عنه ارشدك اللّه و ثبتك من امر المنكرين لي من اهل بيتنا و بني عمّنا:فاعلم انه ليس بين اللّه عز و جل و بين احد قرابة، و من انكرني فليس مني و سبيله سبيل ابن نوح و اما سبيل عمي جعفر و ولده فسبيل اخوة يوسف عليه السّلام الى ان قال عليه السّلام و اما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس اذا غيبها عن الابصار السحاب،و اني امان لاهل الارض كما ان النجوم امان لاهل السماء،فاغلقوا ابواب السؤال عمّا لا يعينكم،و لا تتكلفوا علم ما قد كفيتم و اكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فان ذلك فرجكم،و السّلام عليك يا اسحاق بن يعقوب و على من اتبع الهدى.

الشبهة الرابعة قالوا انه قد وقع الاجماع على أنه لا نبي بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انتم ايها الشيعة قد زعمتم ان القائم عليه السّلام اذا قام لم يقبل الجزية من اهل الكتاب و انه يقتل من بلغ العشرين و لم يتفقه في الدين،و يأمر بهدم المساجد و المشاهد،و أنه يحكم بحكم داود عليه السّلام لا يسأل عن بيّنة و اشباه ذلك مما ورد في اخباركم،و هذا يكون نسخا للشريعة و ابطالا لاحكامها فقد اتيتم بمعنى النبوة و ان لم تتلفظوا باسمها فما جوابكم؟

و الجواب عنها ما قاله صاحب كتاب اعلام الورى من انا لم نعرف ما تضمنه السؤال من انه عليه السّلام لم يقبل الجزية من اهل الكتاب و انه يقتل من بلغ العشرين و لم يتفقه في الدين فاما هدم المساجد و المشاهد فقد يجوز ان يختص بهدم ما بنى من ذلك على غير تقوى اللّه تعالى و على خلاف ما امر اللّه سبحانه(و هذا ظ)فهذا مشروع فقد فعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و اما ما روى منانه يحكم بحكم آل داود و لا يسأل عن بينة فهذا ايضا غير مقطوع به،و ان صحّ فتأويله انه يحكم بعلمه فيما يعلم،و اذا علم الامام عليه السّلام و الحاكم امرا من الامور فعليه ان يحكم بعلمه و لا يسأل البينة و ليس في هذا نسخ الشريعة،على ان هذا الذي ذكروه من ترك قبول الجزية و استماع البينة لو صحّ لم يكن ذلك نسخا للشريعة لان النسخ هو ما تأخر دليله عن الحكم المنسوخ و لم يكن مصاحبا له،فأما اذا اصطحب الدليلان فلا يكون احدهما ناسخا لصاحبه و ان كان يخالفه في الحكم،و لهذا اتفقنا على ان اللّه سبحانه لو قال الزموا السبت الى وقت كذا ثم لا تلزموه ان ذلك لا يكون نسخا لان الدليل الرافع مصاحب للدليل الموجب،و اذا صحت هذه الجملة و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد اعلمنا بأن القائم عليه السّلام من ولده يجب اتباعه و قبول احكامه فنحن اذا صرنا الى ما يحكم فينا و ان خالف بعض الاحكام المتقدمة كنّا غير عاملين بالنسخ لان النسخ لا يدخل

ص:37

فيما يصطحب الدليلان،و لهم شبه اخرى واهية رأينا الاعراض عن نقلها هو الاولى لظهور وهنها.

نور اسمي يكشف عن أنه هل يجوز تسميته عليه السّلام باسمه ام لا؟

اعلم أنه قد وقع الخلاف بين اصحابنا رضوان اللّه عليهم في هذه المسألة،فذهب شيخنا المفيد و الشيخ الطبرسي قدس اللّه روحيهما و جماعة من المتأخرين الى تحريم تسميته عليه السّلام باسمه و ذهب جماعة منهم صاحب كشف الغمة و المحقق خاجا نصير الدين الطوسي و من المتأخرين شيخنا البهائي(ر ه)الى الجواز،و انما جاء هذا الاختلاف من اختلاف الاخبار اما الذي يدل على القول الاول فأخبار.

منها ما روى عن محمد بن همّام قال سمعت محمد بن عثمان العمري يقول خرج توقيع بخطّ اعرفه من سماني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة اللّه،و منها ما رواه الصدوق طاب ثراه في الصحيح عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال صاحب هذا الامر رجل لا يسميه باسمه الا كافر، يعني و اللّه اعلم من كان شبيها بالكافر في مخالفة اوامر اللّه و نواهيه اجتراء و معاندة،و هذا كما تقول لا يجترى على هذا الا اسد،و منها ما رواه الريان بن الصلت قال سأل الرضا عليه السّلام عن القائم عليه السّلام فقال لا يرى جسمه و لا يسمى اسمه،و منها ما روي عن الباقر عليه السّلام قال سأل عمر امير المؤمنين عليه السّلام عن القائم(المهدي خ)عليه السّلام فقال يا ابن ابي طالب اخبرني عن المهدي،قال اما اسمه فلا ان حبيبي و خليلي عهد اليّ ان لا احدّث باسمه حتى يبعثه اللّه عز و جل،و هو فيما استودع اللّه عز و جل رسوله صلّى اللّه عليه و آله في علمه،و منها ما روى عن ابي هاشم الجعفري قال سمعت ابا الحسن العسكري عليه السّلام يقول الخلف من بعدي الحسن ابني فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف،قلت و لم جعلني اللّه فداك،قال لانكم لا ترون شخصه و لا يحلّ لكم ذكره باسمه، قلت فكيف نذكره؟قال قولوا الحجة من آل محمد صلوات اللّه عليه و سلامه،و منها ما رواه ابن ابي يعفور قال قال ابو عبد اللّه عليه السّلام الخامس من ولد السابع يغيب عنهم شخصه و لا يحلّ لهم تسميته،و قد روى صفوان بن مهران عنه عليه السّلام مثله،و منها ما روى عن عبد اللّه الصالحي قال سألني اصحابنا بعد مضي ابي محمد عليه السّلام ان اسأل عن الاسم و المكان،فخرج الجواب ان دللتهم على الاسم اذاعوه،و ان عرفوا المكان دلّوا عليه،و منها ان الائمة عليهم السّلام لما عبروا عن اسمه الشريف عبروا عنه بالحروف المقطعة،و هو(م ح م د)و مثل قولهم في التعبير اسمه اسم رسول اللّه،و نحو ذلك من الكتابات.

ص:38

و اما اهل القول الثاني فقد حملوا هذه الاخبار على حالة الخوف كما كان في زمن غيبة الصغرى و قبل ولادته و بعدها،و كون علي عليه السّلام لم يسمه لعمر بن الخطاب يرجع الى حال الخوف عليه ايضا لان الحسين عليه السّلام على ما قاله بعض الاعلام ما قتله الا يوم السقيفة كما تقدم، و استدلوا على الجواز عن ارتفاع الخوف كما في هذه الاعصار بأمور.

الاول ما روى عن علان الرازي قال اخبرني بعض اصحابنا انه لما حملت جارية ابي محمد عليه السّلام قال ستحملين ذكرا و اسمه محمد،و هو القائم من بعدي.

الثاني ما روى عن علي بن احمد الرازي قال خرج بعض اخواني من اهل الري مرتادا بعد مضي ابي محمد عليه السّلام فبينما هو في مسجد الكوفة مغموم مفكر فيما خرج له يبحث حصاء المسجد بيده فظهرت له حصاة مكتوب فيها محمد قال الرجل فنظرت الى الحصاة فاذا فيها كتابة ثابتة مخلوقة غير منقوشة.

الثالث ما رواه العطار قال حدثني الخيزران عن جارية له كان اهداها لابي محمد عليه السّلام، فلما اغار جعفر الكذاب على الدار جائته فارّة من جعفر فتزوج بها قال فحدثتني انها حضرت ولادة السيد عليه السّلام و ان ابا محمد عليه السّلام حدّث ام السيد بما يجري على عياله،فسألته ان يدعو اللّه لها ان يجعل ميتتها قبله فماتت في حياة ابي محمد عليه السّلام و على قبرها لوح مكتوب عليه هذا قبر ام محمد.

الرابع ما رواه العلوي عن ابي غانم الخادم قال ولد لابي محمد عليه السّلام ولد فسماه محمدا فعرضه على اصحابه يوم الثالث،و قال هذا صاحبكم من بعدي و خليفتي عليكم الحديث.

الخامس ان الحسن العسكري عليه السّلام قد كنّى بأبي محمد و ليس له ولد اسمه محمد سوى صاحب الدار عليه السّلام.

و الارجح في النظر هو القول الاول،اما اولا فلتكثر الاخبار الواردة فيه فأنه قد بقى منها اخبار كثيرة لم نذكرها روما للاختصار،و اما ثانيا فلان ظاهر بعضها و صريح البعض الاخر هو امتداد وقت التحريم الى ان يقوم بالسيف،و اما ثالثا فلان هذه الاخبار غير صريحة بل و لا ظاهرة في جواز تسميته عليه السّلام بالنسبة الينا كما لا يخفى و اما كنيته عليه السّلام فلعلها صارت له بمنزلة الاسم العلمي من غير التفات الى الولد،كما في ابي الحسن الاول و ابي الحسن الثاني و الثالث، و لعل الحكمة في النهي عن الاسم خفية علينا كما في وجه الحكمة في علّة الغيبة على ما تقدم في بعض الاخبار.

اذا عرفت هذا فقد قال صاحب كشف الغمة من العجب ان الشيخ الطبرسي و الشيخ المفيد رحمهما اللّه تعالى قالا لا يجوز ذكر اسمه و لا كنيته،ثم يقولان اسمه اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله

ص:39

و كنيته كنيته و هما يظنّان انهما لم يذكرا اسمه و لا كنيته و هذا عجيب،و الذي اراه ان المنع كان في وقت الخوف و الطلب له و السؤال عنه،و اما الان فلا و اللّه العالم انتهى،و الظاهر ان تعجبه من الشيخين ليس على ما ينبغي لان ذلك القول منها ليس ذكرا لاسمه بل هو تفهيم و تعليم بطريق الاشارة و الكناية و لا يكون من باب ذكر الاسم في مجاري العرف و العادات.

بقى الكلام في حديث رواه الفريقان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يبعث اللّه رجلا من اهل بيتي يواطي اسمه اسمي و اسم ابيه اسم ابي يملأ الارض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا،و هذا هو احد الشبه التي اوردها المخالفون لان اسم ابي المهدي عليه السّلام الحسن العسكري و اسم ابي النبي صلّى اللّه عليه و آله عبد اللّه،فلا يكون المهدي هو ابن الحسن العسكري بل يكون غيره،و قد اجاب عن هذا الفاضل الاربلي بما حاصل انه قد ورد في الكلام الفصيح اطلاق لفظ الاب على الجد الاعلى،قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ و قال تعالى حكاية عن يوسف وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبٰائِي إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ و في حديث المعراج قلت من هذا؟قال هذا ابوك ابراهيم،و كذلك ورد ايضا اطلاق الاسم على الكنية و الصفة،روى الصاعدي(الساعدي خ)عن علي عليه السّلام و اللّه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سمّاه(ني ظ)بأبي تراب و لم يكن له اسم احب اليه منه فاطلق الاسم على الكنية:و قول الشاعر و من وصفك فقد سمّاك للعرب.

و اذا تحققت هذا وضح لك الجواب،و هو ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان له سبطان ابو محمد الحسن و ابو عبد اللّه الحسين،و لما كان الحجة عليه السّلام من ولد ابي عبد اللّه الحسين و كان كنية الحسين عليه السّلام ابا عبد اللّه اطلق النبي صلّى اللّه عليه و آله الاسم على الكنية لاجل المقابلة بالاسم في حق ابيه و اطلق على الجد لفظ الاب،فكأنه قال صلّى اللّه عليه و آله يواطي اسمه اسمي،و هو ظاهر،و كنية جدّه اسم ابي اذ هو ابو عبد اللّه و ابي عبد اللّه لتكون تلك الالفاظ المختصرة جامعة لجميع صفاته،و لاعلام انه من ولد ابي عبد اللّه الحسين عليه السّلام بطريق جامع موجز لا من ولد الحسن عليه السّلام.

نور في بلاد عليه السّلام

و مساكن اولاده الطاهرين حال هذه الغيبة الكبرى ذكر المولى الفاضل الملقب بالرضا علي بن فتح اللّه الكاشاني رحمه اللّه قال روى الشريف الزاهد ابو عبد اللّه محمد بن علي بن الحسين بن عبد اللّه(عبد الرحمن خ)العلوي الحسيني في كتابه باسناده عن الاجل العالم الحافظ حجة الاسلام سعيد بن احمد بن الرضي عن الشيخ الاجل المقري حظير الدين حمزة المسيب بن الحارث،أنه حكى في داري بالظفرية بمدينة السّلام في ثامن عشر شعبان سنة اربع

ص:40

و اربعين و خمسمائة،قال حدثني شيخي العالم ابو القاسم عثمان بن عبد الباقي بن احمد الدمشقي في سابع عشر جمادي الاخرة سنة ثلاث و اربعين و خمسمائة،قال حدثني الاجل العالم الحجة كمال الدين احمد بن محمد بن يحيى الانباري بداره بمدينة السّلام ليلة الخميس عاشر شهر رمضان سنة ثلاث و اربعين و خمسمائة،قال كنّا عند العزيز عون الدين يحيى بن هبيرة في رمضان بالسنة المقدّم ذكرها و نحن على طبقه و عنده جماعة فلما افطر من كان حاضرا و تقوّض اكثر من حضر اردنا الانصراف فأمرنا بالتمسي عنده و كان في مجلسه تلك الليلة شخص لا اعرفه و لم اكن رأيته من قبل و رأيت الوزير يكثر اكرامه و يقرّب مجلسه و يصغي اليه و يسمع قوله دون الحاضرين،فتجاوبنا الحديث و المذاكرة حتى امسينا و اردنا الانصراف فعرفنا بعض اصحاب الوزير ان الغيث ينزل و انه يمنع من يريد الخروج،فاشار الوزير بمبيتنا عنده فأجبنا فتحادثنا فافضى الحديث حتى تحادثنا في الاديان و المذاهب و رجعنا الى دين الاسلام و تفرّق المذاهب فيه فقال الوزير اقل طائفة مذهب الشيعة و ما يمكن ان يكون اكثر منهم في خطتنا هذه و هم الاقل من اهلها،و أخذ يذّم احوالهم و يحمد اللّه على قلتهم في اقاصي الارض فالتفت الشخص الذي كان الوزير ملتفتا اليه مقبلا عليه و مصغيا اليه،فقال ادام اللّه ايامك احدث بما عندي فيما تفاوضتم فيه او اعزب عنه،فصمت الوزير ثم قال قل ما عندك.

فقال خرجت مع والدي سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة من مدينتنا و هي المعروف بالناهية (1)و لها الرستاق الذي(التي خ)تعرفه(فها خ)التجار و عدة ضياعها الف و مائتا ضيعة،في كل ضيعة من الخلق ما لا يحصى عددهم الا اللّه تعالى و هم قوم نصارى و جميع الجزائر التي كانت حولهم على دينهم و مسير بلادهم عشرين يوما،و كلّ من في البر من الاعراب و غيرهم نصارى و تتصل بالحبشة و النوبة و كلهم نصارى،و تتصل بالبربر و هم على دينهم فان حدّ هذا كان يملأ كل من في الارض و لم يضف اليهم الافرنج و الروم و غير خفي ما بالشام و العراق و اتفق اننا سرنا في البحر و اوغلنا و تعدينا الجهات التي كنّا نصل اليها و رغبنا في المكاسب و لم نزل على ذلك حتى وصلنا على جزائر عظيمة كثيرة الاشجار مليحة الجدر،فيها المدن الممدودة و الرساتيق،فأول مدينة وصلنا اليها وارسى المركب بها و قد سألنا الناخذا أي شيء هذه الجزيرة؟فقال و اللّه ان هذه جزيرة لم اصل اليها و لم اعرفها و انا و انتم في معرفتها

ص:41


1- (11) الناهية بالنون كذا فيما وقفنا عليه من نسخ الكتاب المطبوعة و المخطوطة و ليس لها بهذا الاسم ذكر في معجم البلدان لياقوت الحمري المتوفى(626)ه و ذكرها العلامة المحدث النوري(ر ه)في الجنة المأوى ص 255 و في كتابه(نجم ثاقب)ص 160(الباهية)بالباء الموحدة و ليس لها ايضا ذكر في معجم البلدان مع كون ياقوت قريب العصر من الوزير ابن هبيرة المتوفى(560)ه الذي وقع ذكر(الناهية)او(الباهية)في مجلسه.

سواء،فلما ارسينا بها و صعد التجّار الى مشرعة تلك الجزيرة و سألنا ما اسمها؟فقيل هي المباركة فسألنا عن سلطانهم و ما اسمه؟فقالوا اسمه الطاهر،فقلنا و اين سرير ملكه،فقيل بالزاهرة و ان بينكم و بينها مسيرة عشرة ليال في البحر و خمسة و عشرين ليلة في البر،و هم قوم مسلمون فقلنا من يقبض زكوة ما في المركب لنشرع في البيع و الابتياع قالوا تحضرون عند نائب السلطان فقلنا و اين اعوانه فقالوا الاعوان له في داره و كل من عليه حقّ يحض عنده فيسلّم اليه فتعجبنا من ذلك فقلنا الا تدلونا عليه؟قالوا بلى و جاء معنا من ادخلنا داره فراينا رجلا صالحا عليه عباة و تحته عباة و هو مفترشها،و بين يديه دواة يكتب فيها من كتاب ينظر اليه فسلّمنا عليه فردّ علينا السّلام و حيّانا،فقال من اين اقبلتم فقلنا من كذا و كذا فقال كلكم مسلمون؟فقلنا لا بل فينا المسلم و اليهودي و النصراني،فقال يزن اليهودي جزيته و النصراني جزيته و يناظر المسلم عن مذهبه،فوزن والدي عن خمسة نفر نصارى عنه و عني و عن ثلاثة نفر كانوا معه،ثم وزن تسعة نفر كانوا يهودا،و قال للمسلمين هاتوا مذاهبكم،فشرعوا معه في مذاهبهم،فقال لستم مسلمين و انما خوارج و اموالكم تحلّ للمسلم المؤمن و ليس بمسلم من لم يؤمن باللّه و رسوله و بالوصي و الاوصياء من ذريته حتى مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه و عليهم اجمعين، و ضاقت بهم الارض و لم يبق الا أخذ اموالهم.

ثم قال لنا يا اهل الكتاب لا معارضة لكم فيما معكم حيث اخذت منكم الجزية فلما عرف اولئك ان اموالهم معرضة للنهب سألوا ان يحملهم الى سلطانه فأجاب سؤالهم و تلى لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، فقال للزبان و هو الدليل و قلنا للنواخذة (1)هؤلاء قوم عاشرناهم و صاروا رفقة و ما نحبّ ان نتخلف عنهم انما نحب ان نكون معهم حتى نعلم ما يستقر حالهم، فقال الزبان و اللّه ما اعلم هذا البحر اين المسير فيه،فأستأجر زبانا و رجالا و قلعنا القلع و سرنا ثلاثة عشر يوما بلياليها حتى كان قبل طلوع الشمس قال الزبان هذه و اللّه اعلام الزاهرة و منارها و جدرها قد بانت،فسرنا حتى تصاحى النهار فقدمنا الى مدينة لم تر العيون احسن منها و لا اخف على القلب و لا ارق من نسيمها و لا اطيب من هواها و لا اعذب من مائها و هي راكبة البحر على جبل من صخر ابيض كأنه لون الفضة و عليها سور الى ما يلي البحر و البر و الانهار منخرقة في وسطها يشرب منها اهل الدور و الاسواق و تأخذ منها الحمامات،و فواضل الانهار ترمى على البحر و مدى الانهار فرسخ و نصف او دونه و تحت ذلك الجبل بساتين المدينة و اشجارها و مزارعها عند العيون،و ثمار تلك الاشجار لا يرى اطيب منها و لا اعذب و يرعى الذئب و النعجة عيانا،و لو قصد قاصد الى تخلية دابته في زرع غيره لما رعته و لا قطعت منه قطعة،

ص:42


1- (12) جمع ناخذا معرب ناخذا.

و لقد شاهدت السباع و الهوام رابضة في جنب تلك المدينة،و بنوا آدم يمرون عليها فلا تؤذيهم، فلما قدمنا المدينة صعدنا فرأينا مدينة عظيمة كثيرة الخلق وسيعة الربعة فيها الاسواق الكثيرة و المعاش(شر خ)العظيم و يرد اليها الخلق من البر و البحر و اهلها على احسن الوجوه قاعدون لا يكون على وجه الارض من الامم و الاديان مثلهم و امانتهم حتى ان المتعيّش بسوق المدينة يرد اليه من يبتاع منه حاجته اما بالوزن او بالذراع فيبايعه ليها ثم يقول يا هذا زن لنفسك و ابتزن لنفسك فهذه صورة مبايعتهم لا يسمع منهم لغو المقال و لا النميمة و لا يسبّ بعضهم بعضا و اذا نادى المؤذن للاذان لا يتخلف منهم مختلف ذكرا كان او انثى الا سعى الى الصلوة، حتى اذا قضيت الصلوة للوقت المفروض رجع كل منهم الى بيته حتى يكون وقت صلاة أخرى فيكون الحال كما كانت.

فلما دخلنا المدينة و ارسينا بمشرعنا امر بحضورنا عند السلطان فحضرنا داره و دخلنا الى بستان في وسطه قبّة من فضة و السلطان في تلك القبة و عنده جماعة،و في باب القبة ساقية تجري،فوافينا القبة و قد اقام المؤذن الصلوة،فل يكن اسرع من امتلاء البستان بالناس و اقيمت الصلوة و صلّى بهم جماعة،فلا و اللّه لم تنظر عيني اخضع للّه منه و لا الين جانبا لرعيته فصلّى من صلّى مأمونا،فلما قضيت الصلوة التفت و قال هؤلاء القادمون؟قلنا نعم و كانت تحيّة الناس له و مخاطبتهم يا ابن صاحب الامر،فقال على خير مقدم فقال انتم تجار ام ضيفان؟فقلنا تجّار فقال من فيكم المسلم و من فيكم اهل الكتاب فعرفناه ذلك،فقال ان للاسلام فرقا و شعبا فمن أي قبيل انتم،و كان معنا شخص يعرف بالمعزي اسمه آذربهان بن احمد الاهوازي يزعم أنه على مذهب الشافعي،فقال انا رجل شافعي قال فمن على مذهبك من الجماعة،قال كلنا الا هذا حسان بن عنب فانه رجل مالكي فقال انت تقول بالاجماع،قال نعم قال اذا تعمل بالقياس،ثم قال باللّه يا شافعي تلوت ما انزل يوم المباهلة،قال نعم قال ما هو قوله تعالى فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَى الْكٰاذِبِينَ فقال باللّه عليك من ابناء الرسول و من نسائه و من نفسه؟فأمسك آذربهان،فقال باللّه هل بلغك او اتاك ان غير الرسول و الوصي و البتول و السبطين دخل تحت الكساء؟قال لا فقال و اللّه لم تنزل هذه الاية الا فيهم و لا خصّ بها سواهم ثم قال باللّه عليك هل تلوت قوله تعالى إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قال نعم قال باللّه عليك من عنى بذلك فأمسك فقال و اللّه ما عنى بها الا اهلها،ثم بسط لسانه و تحدّث بحديث امضى من السهام و اقطع من الحسام،فقطع الشافعي و وافقه عند ذلك فقال عفوا يا ابن صاحب الامر انسب لي نسبك.

ص:43

فقال انا طاهر بن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السّلام الذي انزل اللّه فيه وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ هو و اللّه الامام المبين،و نحن الذين انزل اللّه في حقنا ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يا شافعي نحن ذرية الرسول نحن اولوا الامر،فخرّ الشافعي مغشيا عليه لما سمع منه ثم افاق و آمن به،و قال الحمد للّه الذي منحني الاسلام و الايمان و نقلني من التقليد الى اليقين،ثم امر لنا باقامة الضيافة فبقينا على ذلك ثمانية ايام و لم يبق في المدينة احد الا جاء الينا و حادثنا،فلما انقضت الايام الثمانية سأله اهل المدينة ان يقوموا لنا بالضيافة ففتح لهم في ذلك فكثرت الاطعمة و الفواكه و عملت لنا الولائم و بقينا في تلك المدينة سنة كاملة،فعلمنا و تحققنا ان تلك المدينة مسيرة شهرين،و بعدها مدينة اسمها الرايقة سلطانها القاسم بن صاحب الامر مسيرة ملكها شهرين و هي على تلك القاعدة و لها دخل عظيم،و بعدها مدينة اسمها الصافية سلطانها ابراهيم بن صاحب الامر و بعدها مدينة اخرى اسمها ظلوم سلطانها عبد الرحمن بن صاحب الامر مسيرة رستاقها و ضياعها شهران،و بعدها مدينة اخرى اسمها عناطيس سلطانها هاشم بن صاحب الامر و هي اعظم دخلا و مسير ملكها اربعة اشهر،فيكون مسيرة هذه المدن الخمس و المملكة مقدار سنة لا يوجد في اهل تلك الخطط الضياع غير المؤمن الشيعي الموحد القائل بالبرائة و الولاية الذي يقيم الصلوة و يؤتي الزكوة و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر سلاطينهم اولاد امامهم يحكمون بالعدل و به يأمرون،و ليس على وجه الارض مثلهم،و لو جمع اهل الدنيا لكانوا اكثر عددا منهم على اختلاف الاديان و المذاهب و لقد اقمنا عندهم سنة كاملة نترقب ورود صاحب الامر اليهم لانهم زعموا انها سنة وروده،فلم يوفقنا للنظر اليه.

و اما آذربهان و حسان فإنهما اقاما بالزاهرة يرقبان رؤيته،و قد كنا لما استكثرنا هذه المدن و اهلها و دخلها سألنا عنها،فقيل انها عمارة صاحب الامر و استخراجه فلما سمع عون الدين نهض و دخل حجرة لطيفة و قد تقضّى الليل فأمر باحضارنا واحدا واحدا و قال اياكم اعادة ما سمعتم و اجرائه على الفاظكم و تأكد علينا فخرجنا من عنده و لم يعد احد منّا مما سمعه حرفا واحدا حتى هلك،و كنا اذا حضرنا موضعا و اجتمع احدنا بصاحبه قال أ تذكر شهر رمضان؟ فنقول ستر الحلال شرط فهذا ما سمعته و رويته و الحمد للّه رب العالمين،اقول قد وقع في بعض توقيعاته عليه السّلام الى شيخنا المفيد(ر ه)اننا في اليمن بواد يقال له شمروخ و شمريخ(شمر خ)و لعلّ هذا هو اسم المكان الذي يختصّ به عليه السّلام.

ص:44

نور في علامات ظهوره عليه السّلام

اعلم ان من جملتها خروج الدجال فلا بأس بنقل بعض احواله و علامات خروجه لانها علامات ايضا لظهور المهدي عليه السّلام،روى الصدوق قدس اللّه روحه باسناده الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال انه صلّى اللّه عليه و آله صلّى ذات يوم بأصحابه الفجر،ثم قام باصحابه حتى اتى باب دار بالمدينة فطرق الباب،فخرجت اليه امرأة فقالت ما تريد يا ابا القاسم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا امّ عبد اللّه استأذني لي على عبد اللّه فقالت يا ابا القاسم و ما تصنع بعبد اللّه؟فو اللّه أنه لمجهود في عقله يحدث في ثوبه،و انه ليراودني على الامر العظيم فقال استأذني عليه فقالت أ فلى ذمتك؟قال نعم قالت ادخل فدخل فاذا هو في قطيفة له يهيئم فيها فقالت امه اسكت و اجلس هذا محمد صلّى اللّه عليه و آله قد اتاك،فسكت و جلس فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله ما لها لعنها اللّه لو تركتني لاخبرتكم أ هو هو ثم قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ما ترى؟قال ارى حقا و باطلا و ارى عرشا على الماء فقال اشهد ان لا اله الا اللّه و انى(محمد خ)رسول اللّه.

فقال بل تشهد ان لا اللّه و اني رسول اللّه،فما جعلك اللّه بذلك احق مني؟فلما كان في اليوم الثاني صلّى عليه السّلام بأصحابه الفجر ثم نهض و نهضوا القوم معه حتى طرق الباب،فقالت أمه ادخل فدخل فاذا هو في نخلة يغرّد فيها،فقالت له امه اسكت و انزل هذا محمد قد اتاك، فسكت فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله ما لها لعنها اللّه لو تركتني لاخبرتكم أ هو هو فلما كان في اليوم الثالث صلى عليه السّلام باصحابه الفجر ثم نهض و نهض القوم معه حتى أتى ذلك المكان فاذا هو في غنم له ينعق بها،فقالت له امه اسكت و اجلس هذا محمد قد اتاك،فسكت و قد كانت نزلت في ذلك اليوم آيات من سورة الدخان فقرأها عليهم النبي صلّى اللّه عليه و آله في صلاة الغداة،ثم قال أ تشهد ان لا اله الا اللّه و اني رسول اللّه فقال بل تشهد ان لا اله الا اللّه و اني رسول اللّه،و ما جعلك بذلك احق مني؟فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله اني قد خبأت لك خباء فما هو،فقال الدخ الدخ،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله إخس انك لن تعدوا اجلك و لن تبلغ املك و لن تنال الا ما قدّر لك.

ثم قال لاصحابه ايها الناس ما بعث اللّه نبيا الا انذر قومه الدجال،و ان اللّه عز و جل اخره الى يومكم هذا فما تشابه عليكم من امره فان ربكم ليس بأعور انه يخرج على حمار عرض ما بين اذنيه ميل،يخرج و معه جنة و نار و جبل من خبز و نهر من ماء اكثر اتباعه اليهود و النساء و الاعراب يدخل آفاق الارض كلها الا مكة و لا بيتها و المدينة و لا بيتها.

قال المؤلف عفى اللّه عنه قوله صلّى اللّه عليه و آله لو تركتني لاخبرتكم(آه)يجوز ان يكون اشار لي قوم ام الدجال أ فلى ذمتك،فيكون معناه أ فلى عهد منك بأن لا تخبر احدا بحقيقة هذا الولد و منتهى عاقبة امره،و ما يصدر منه بأن تكون عالمة بمجمل احوال ابنها فلما اعطاها صلّى اللّه عليه و آله ذلك

ص:45

العهد و الذمام او لا منعه من بيان احواله لاصحابه عليه السّلام كما ينبغي،و قول الدجال لعنه اللّه تعالى ارى عرشا على الماء،يجوز ان يراد به السماء فيكون معنى حقا،و يجوز ان يكون اشارة الى قوله تعالى وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمٰاءِ فأسنده الى نفسه لما سيأتي في احواله من ادّعاء الالهية، و اما قوله الدخ الدخ بالدال المهملة و الخاء المعجمة فقال في النهاية داخ يدوخ اذا ذلّ،فالدخ هو الذلّ و حينئذ فيجوز ان يكون معناه أنه صلّى اللّه عليه و آله قال قد خبأت لك شيئا فما هو؟فقال الدجال هو الذلّ يعني تكون امتك تصير ذليلة لي و تتبع امري،فقال له صلّى اللّه عليه و آله إخس لا يطيعك الا من هو مثلك في الشقاوة.

و روى الصدوق طاب ثراه عن ابن سبرة قال خطبنا علي بن ابي طالب عليه السّلام فحمد اللّه و اثنى عليه،ثم قال سلوني ايها الناس قبل ان تفقدوني ثلاثا،فقام اليه صعصعة بن صوحان فقال يا امير المؤمنين متى يخرج الدجال؟فقال له عليه السّلام اقعد فقد سمع اللّه كلامك و علم ما اردت،و اللّه ما المسؤل منه بأعلم من السائل،و لكن لذلك علامات و هنات يتبع بعضها بعضا كحذو النعل بالنعل فان شئت انبأتك بها قال نعم يا امير المؤمنين فقال احفظ فان علامة ذلك اذا أمات الناس الصلوة و اضاعوا الامانة و استحلوا الكذب و اكلوا الربوا،و اخذوا الرشا و شيدوا البنيان،و باعوا الدين بالدنيا و استعملوا الشفهاء و شاوروا النساء و قطعوا الارحام، و اتبعوا الاهواء و استخفوا بالدماء و كان الحلم ضعفا و الظلم فخرا،و كانت الامراء فجرة و الوزراء ظلمة،و العرفاء خونة و القرّاء فسقة و ظهرت شهادة الزور و استعلن الفجور،و قول البهتان و الاثم و الطغيان و حليّت المصاحف و زخرفت المساجد و طوّلت المنارات و اكرم الاشرار و ازدحمت الصفوف و اختلفت القلوب،و نقضت العهود و اقترب الموعود و شارك النساء ازواجهنّ في التجارة حرصا على الدنيا،و علت اصوات الفساق و استمع منهم،و كان زعيم القوم ارذلهم و اتقى الفاجر مخافة شره و صدق الكاذب و اؤتمن الخائن،و اتخذت القنيات و المعازف،و لعن آخر هذه الامة اولها،و ركب ذوات الفروج السروج و تشبه النساء بالرجال و الرجال بالنساء،و شهد الشاهد من غير ان يستشهد،و شهد الاخر قضاء لحق الذمام بغير حق عرفه و تفقه لغير الدين،و آثروا عمل الدنيا على عمل الاخرة،و لبسوا جلود الضان على قلوب الذئاب،و قلوبهم انتن من الجيف و امرّ من الصبر،فعند ذلك الوحأ الوحأ ثم العجل العجل، خير المساكن يومئذ بيت المقدس ليأتين على الناس زمان يتمنى احدهم أنه من سكانه.

فقام اليه الاصبغ بن نباتة فقال يا امير المؤمنين من الدجال؟فقال الا ان الدجال صائد بن الصيد فالشقي من صدقه و السعيد من كذبه،يخرج من بلدة يقال لها اصبهان من قرية تعرف باليهودية،عينه اليمنى ممسوحة و العين الاخرى في جبهته تضيء كأنها كوكب الصبح؟فيها علقة

ص:46

كأنها ممزوجة بالدم،بين عينيه مكتوب كافر يقرأه كل كاتب و امي يخوض البحار و تسير معه الشمس،بين يديه جبل من دخان و اخلفه جبل ابيض يرى الناس انه طعام،يخرج حين يخرج في قحط شديد تحته حمار اقمر خطوة حماره ميل،تطوى له الارض منهلا لا يمرّ بماء الا غار الى يوم القيامة،ينادي باعلى صوته يسمع ما بين الخافقين من الجن و الانس و الشياطين،يقول اليّ اوليائي انا الذي خلق فسوى و قدّر فهدى انا ربكم الاعلى،و كذب عدو اللّه انه اعور يطعم الطعام و يمشي في الاسواق و ان ربكم جلّ و عز ليس بأعور و لا يطعم و لا يمشي و لا يزول الا و ان اكثر اتباعه يومئذ اولاد الزنا و اصحاب الطيالسة الخضر،يقتله اللّه عز و جل بالشام على عقبة تعرف بعقبة افيق لثلاث ساعات من يوم الجمعة على يدي من يصلي المسيح عيسى بن مريم خلفه،الا ان بعد ذلك الطامة الكبرى،قلنا و ما ذلك يا امير المؤمنين؟قال خروج دابة الارض من عند الصفا معها خاتم سليمان و عصى موسى،يضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع فيه هذا مؤمن حقا،و يضعه على وجه كل كافر فيكتب فيه كافر حقا حتى ان المؤمن لينادي اليوم ويل لك يا كافر و ان الكافر ينادي طوبى لك يا مؤمن وددت اني اليوم مثلم فأفوز فوزا عظيما،ثم ترفع الدابة رأسها فيراها من بين الخافقين باذن اللّه عز و جل،و ذلك بعد طلوع الشمس من مغربها فعند ذلك ترفع التوبة فلا توبة تقبل و لا عمل يرفع و لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل او كسبت في ايمانها خيرا.

فان قلت قد روى الصدوق طاب ثراه هذا المضمون باسانيد متعددة من انه في زمن المهدي عليه السّلام لا تقبل توبة من لم يتب قبل ظهوره و هذا بظاهره ينافي ما روى في الاخبار المستفيضة من أنه عليه السّلام اذا ظهر ضرب الناس بسيفه و بسوطه حتى يدخلوا في دينه طائعين او كارهين،فيجيء تأويل قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فان ظهور دينه على جميع الاديان انما يكون في زمان المهدي عليه السّلام على ما نطقت به الاخبار،قلت قد كنت كثيرا افكر في تلك الاخبار و اطلب وجه الجمع بينهما حتى وفق اللّه تعالى للوقوف على حديث يجمع بين هذه الاخبار و حاصله ان المهدي عليه السّلام اذا خرج احيا اللّه سبحانه له جماعة ممن محّض الكفر محضا كما سيأتي بيانه،فهؤلاء الاحياء الذين تقدم موتهم و رأوا العذاب عيانا و عذبوا به اضطروا الى الايمان لا يقبل المهدي عليه السّلام منهم توبة،لان توبتهم في هذا الحال مثل توبة فرعون لما ادركه الغرق،فقال عز و جل في جوابه آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ،فلم يقبل له توبة،و مثل توبة من بلغت روحه الى حلقه و تغرغرت في صدره و رأى مكانه من النار و عاينه فأنه اذا تاب لا يقبل له توبة ايضا،فالمراد بالنفس التي لا ينفعها

ص:47

ايمانها هذه النفس و اما الاحياء الذين يكونون في ظمان ظهوره عليه السّلام و لم يسبق عليهم الموت فلا يقبل عليه السّلام منهم الا القتل او الايمان.

و قال الصادق عليه السّلام خمس قبل قيام القائم،اليماني و السفياني و المنادي ينادي من السماء،و خسف بالبيداء و قتل النفس الزكية،و عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تقوم الساعة حتى يخرج المهدي من ولدي،و لا يخرج المهدي حتى يخرج ستون كذابا كلهم يقول انا نبي،و قال الصادق عليه السّلام لا يخرج القائم حتى يخرج قبله اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو الى نفسه،و عن محمد بن مسلم قال سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول ان قدّام القائم علامات تكون من اللّه تعالى للمؤمنين،قلت فما هي جعلني اللّه فداك؟قال قول اللّه عز و جل وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ يعني المؤمنين قبل خروج القائم بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرٰاتِ وَ بَشِّرِ الصّٰابِرِينَ قال لنبلونكم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم،و الجوع بغلاء الاسعار،و نقص من الاموال بفساد التجارات و قلّة الفضل فيها، و نقص الانفس بالموت الذريع و نقص من الثمرات قلة ريع ما يزرع و قلة بركات الثمرات و بشر الصابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم عليه السّلام ثم قال لي يا محمد هذا تأويله و ما يعلم تأويله الا اللّه و الراسخون في العلم.

و قال الصادق عليه السّلام ليس بين قائم آل محمد و بين قتل النفس الزكية الا خمس عشر ليلة، و عن امير المؤمنين عليه السّلام قال بين يدي القائم موت احمر و موت ابيض و جراد في حينه و جراد في غير حينه كالوان الدم،فأما الموت الاحمر فالسيف،و اما الموت الابيض فالطاعون،و عن الباقر عليه السّلام ان من علاماته خسف قرية من قرى الشام تسمى الجابية،و نزول الترك الجزيرة و نزول الروم الرملة،و اختلاف كثير عند ذلك في كل ارض حتى تخرب الشام و يكون سبب خرابها اجتماع ثلاث رايات فيها،راية الاصهب و راية الابقع و راية السفياني،و عن البجلي قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن اسم السفياني قال و ما تصنع باسمه اذا ملك كور الشام الخمس،دمشق و حمّص و فلسطين و الاردن و قنسرين فتوقع الفرج،قلت يملك تسعة اشهر قال لا و لكن يملك ثمانية اشهر لا تزيد يوما،و قال امير المؤمنين عليه السّلام يخرج ابن آكلة الاكباد من الوادي اليابس و هو رجل ربعة وحش الوجه ضخم الهامة بوجهه اثر جدرى اذا رايته حسبته اعور اسمه عثمان بن عنبسه و هو من ولد ابي سفيان حتى يأتي ارضا ذات قرار و معين فيستوي على منبرها.

و عن الباقره في قوله إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمٰاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنٰاقُهُمْ لَهٰا خٰاضِعِينَ قال سيفعل اللّه ذلك بهم،قال فقلت من هم؟قال بنو امية و شيعتهم،قلت و ما الاية قال ركود الشمس ما بين زوال الشمس الى وقت العصر،و خروج صدر رجل و وجهه في عين الشمس

ص:48

يعرف بحسبه و نسبه،و ذلك في زمان السفياني و عندها يكون بواره و بوار قومه،و عن محمد بن مسلم عن احدهما عليهما السّلام قال اذا رأيتم نارا من المشرق كهيئة البردى العظيم تطلع ثلاثة ايام او سبعة الشك من العلى (1)فتوقعوا فرج آل محمد ان اللّه عزيز حكيم.

و عن الصادق عليه السّلام قال خروج السفياني و اليماني و الخراساني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد و ليس فيها راية اهدى من راية اليماني لانه يدعو الى الحق،و سأل رجل ابا الحسن عليه السّلام عن الفرج فقال اذا ركزت رايات قيس بمصر و رايات كندة بخراسان،و قال عليه السّلام سنة الفتح ينشق الفرات حتى تدخل ازقة الكوفة،و قال عليه السّلام يزجر الناس قبل قيام القائم عن معاصيهم بنار تظهر في السماء و حمرة تجلل السماء،و خسف ببغداد،و خسف ببلدة بصرة، و دماء تسفك فيها خراب دورها و فناء يقع في اهلها و شمول اهل الطرق خوف لا يكون لهم معه قرار،و قال ابو جعفر الباقر عليه السّلام آيتان تكون قبل قيام القائم كسوف الشمس في النصف من شهر رمضان و القمر في آخر الشهر،قال فقلت يا ابن رسول اللّه تنكسف الشمس في النصف و القمر في آخر الشهر،فقال عليه السّلام انا اعلم بما قلت انهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم عليه السّلام و ذلك ان الذي جرت به العادة و به قال المنجمون ان خسوف القمر لا يكون الا في الثالث عشر من الشهر او الرابع عشر او الخامس عشر منه لا غير و ذلكعند تقابل الشمس و القمر على هيئة مخصوصة،و ان كسوف الشمس لا يكون الا في السابع و العشرين من الشهر او الثامن و العشرين من الشهر او التاسع و العشرين من الشهر و ذلك عند اقترانهما على هيئة مخصوصة كما سبق،و قال الصادق عليه السّلام ينادي مناد باسم القائم عليه السّلام،قلت خاص او عام،قال بل عام يسمع كل قوم بلسانهم قلت فمن يخالف القائم و قد نودي باسمه؟قال لا يدعهم ابليس حتى ينادي في آخر الليل يشكك الناس.

و قال الثمالي لابي عبد اللّه عليه السّلام كيف يكون النداء قال ينادي مناد من السماء اوّل النهار الا ان الحق في علي و شيعته،ثم ينادي ابليس في آخر النهار الا ان الحق في عثمان و شيعته، و يرتاب عند ذلك المبطلون،و قل الصادق عليه السّلام الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلث و عشرين مضى من شهر رمضان.

و قال عليه السّلام لا يكون هذا الامر حتى يذهب ثلثا الناس فقيل له فاذا ذهب ثلثا الناس فما يبقى؟قل اما ترضون ان تكونوا الثلث الباقي؟و قال الصادق عليه السّلام اذا هدم حائط مسجد الكوفة مما يلي دار عبد اللّه بن مسعود فعند ذلك زوال ملك الروم،و عند زواله خروج القائم عليه السّلام،و من علاماته طلوع نجم بالمشرق يضيء كما يضيء القمر ثم ينعطف حتى يكاد يلتقي

ص:49


1- (13) اسم راو من رواة هذه الرواية.

طرفاه،و عقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة بغداد و اختلاف من العجم و سفك دماء فيما بينهم، و خروج العبيد عن طاعة ساداتهم و قتلهم مواليهم و غلبة العبيد على بلاد السادات،و قد بقى بعض العلامات تركنا ذكرها روما للاختصار.

نور في تعيين وقت ظهوره عليه السّلام

إعلم ان اخبارهم عليهم السّلام قد وردت بعدم تعيين الوقت لمصالح كثيرة،و ذلك ان شيعتهم لم تزل تحيى على هذه الامر و الرجاء له و به سهل عليهم كلّ خطب،فنشأ عليه قوم و مات عليه و آخرون،و لو وقّت و عيّن لانقطع رجاء من علم انه لا يدركه و لفاته ثواب توقع الفرج و انتظاره كما حكيناه سابقان روى شيخنا الكليني(ر ه)في الصحيح عن ابي حمزة الثمالي قال سمعت ابا جعفر عليه السّلام يقول ان اللّه تبارك و تعالى قد كان وقّت هذا الامر في السبعين فلما ان قتل الحسين صلوات اللّه عليه إشتدّ غضب اللّه على اهل الارض فأخره الى اربعين و مأة فحدثناكم فاذعتم الحديث و كشفتم قناع الستر و لم يجعل اللّه له بعد ذلك وقتا و عندنا،و يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده ام الكتاب،قال ابو حمزة فحدّثت بذلك ابا عبد اللّه عليه السّلام فقال قد كان ذلك،و عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن القائم فقال(قال خ)كذب الوقّاتون انا اهل بيت لا نوقّت.

و عن الفضيل بن يسار عن ابي جعفر عليه السّلام قال قلت لهذا الامر وقت؟فقال كذب الوقّاتون كذب الوقّاتون كذب الوقّاتون ان موسى عليه السّلام لما خرج وافدا الى ربه و اعدهم ثلثين يوما فلما زاد اللّه على ثلثين عشرا قال قومه قد اخلفنا نموسى فصنعوا ما صنعوا فاذا حدثناكم بالحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا صدق اللّه توجروا مرتين،و روى عن الحسن بن علي بن يقطين عن اخيه الحسن عن ابيه علي بن يقطين قال قال لي ابو الحسن عليه السّلام الشيعة تربّى بالاماني منذ مأتي سنة،قال و قال يقطين لابنه علي بن يقطين ما بالنا قيل لنا و كان و قيل لكم فلم يكن قال فقال له علي ان الذي قيل لنا و لكم كان من مخرج واحد غير ان امركم حضر فأعطيتم محضه فكان كما قيل لكم،و ان امرنا لم يحضر فعللّنا بالاماني،فلو قيل لنا ان هذا الامر لا يكون الا الى مأتي سنة او ثلثمائة لقست القلوب و لرجع عامّة الناس عن الاسلام و لكن قالوا ما اسرع الامر و اقربه تألفا لقلوب الناس و تقريبا للفرج.

فان قلت ما معنى الحديث الاول و كيف يستقيم ان يكون امر الخروج في السبعين او بعدها قبل ولادة المهدي عليه السّلام مع انه هو القائم الذي يملأها عدلا،قلت معناه و اللّه العالم ان كل واحد من الائمة عليهم السّلام قابل للقيام بأمر السيف،و لو لم يحصل من الخلق ما افضى الى التأخير

ص:50

لكان الحسين عليه السّلام اة من بعده قد قام بالامر و خلفه بالقيام من بعده من الائمة عليهم السّلام حتى ينتهي النوبة الى المهدي عليه السّلام فيكون قائما ايضا لكن بلا تعب و جهاد شديد،و بالجملة فهم عليهم السّلام ليس بينهم تنافس و تنازع في الدولة على حدّ غيرهم من اهل الدنيا،فلا تفاوت بين ان يكون كل واحد منهم هو القائم و لكن للّه عز و جل حكمة هو بالغها و اللّه على ما يشاء قدير.

و الظاهر ان المراد في السبعين ان يكون ابتداؤها من الهجرة،و يؤيده ان خروج الحسين عليه السّلام انما كان في حدود السبعين و استشراف امر ابي الحسن الرضا عليه السّلام انما كان بعد اربعين و مأة بقليل،و قيل ان ابتداء السبعين من الغيبة المهدوية و ذلك انه غاب عليه السّلام و هو ابن تسع سنين و قيل احدى عشر سنة.

اذا تحققت هذا فاعلم انه قد وردت اخبار مجملة و قد نقلها الاصحاب على اجمالها و لم يتعرضوا لبيان معناها و ذلك انها اخبار متشابهة يجب عليما الاذعان لها من باب التسليم،و لما انتهت النوبة الى شيخنا المحقق رئيس المحققين و خاتمة المجتهدين المولى المجلسي صاحب كتاب بحار الانوار ادام اللّه ايام أفاداته،و اجزل في الاخرة مثوباته و سعاداته،توجه الى ايضاحها و تفسيرها،و طبّق بعضها على وقت تعيين ظهور الدولة الصفوية اعلى اللّه منار بنيانها،و شيّد رفيع اركانها،و طبق البعض الاخر على تعيين وقت ظهور مولانا صاحب الزمان عليه الف سلام فلننقل تلك الاخبار على وجهها ثم نذكر ما افاده سلّمه اللّه تعالى من البيان و الايضاح.

الحديث الاول ما رواه الشيخ الاجل المحدث محمد بن ابراهيم النعماني في كتاب الغيبة بسنده الى ابي خالد الكابلي عن الباقر عليه السّلام انه قال كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه ثم يطلبونه فلا يعطونه فاذا رأوا ذلك وضعوا سيفوهم على عواتقهم،فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يقوموا و لا يدفعونها الا الى صاحبكم قتلاهم شهداء،قال أدام اللّه ايامه انه لا يخفى على اهل البصائر انه لم يخرج من المشرق سوى ارباب السلسلة الصفوية و هو الشاه اسماعيل اعلى اللّه مقامه في دار المقامة،و قوله عليه السّلام لا يدفعونها الا الى صاحبكم،المراد به القائم عليه السّلام فيكون في هذا الحديث اشارة الى اتصال دولة الصفوية بدولة المهدي عليه السّلام فهم الذين يسلمون الملك له عند نزوله بلا نزاع و جدال.

الحديث الثاني ما رواه النعماني ايضا في ذلك الكتاب باسناد معتبر الى الصادق عليه السّلام قال بينا امير المؤمنين عليه السّلام يحدّث في الوقايع التي تجري بعده الى ظهور المهدي عليه السّلام فقال له الحسين عليه السّلام يا امير المؤمنين في أي وقت يطهر اللّه الارض من الظالمين فقال عليه السّلام لا يكون هذا حتى تراق دماء كثيرة على الارض بلا حق،ثم انه عليه السّلام فصّل احوال بني امية و بني العباس في حديث طويل اختصره الراوي،فقال امير المؤمنين عليه السّلام اذا قام القائم بخراسان و غلب على ارض

ص:51

كوفان و ملطان،و تعدى جزيرة بني كاوان و قام منّا قائم بجيلان،و اجابته الابر و الديلم، و ظهرت لولدي رايات الترك متفرقات في الاقطار و الحرمات و كانوا بين هنات و هنات اذا خرجت البصرة و قام امير الامرة،فحكى عليه السّلام حكاية طويلة ثم قال اذا جهزت الالوف و صفّت الصفوف و قتل الكبش الخروف هناك يقوم الاخر و يثور الثائر و يهلك الكافر،ثم يقوم القائم المأمول و الامام المجهول له الشرف و الفضل،و هو من ولدك يا حسين لا ابن مثله،يظهر بين الركنين في ذرّ يسير يظهر على الثقلين و لا يترك في الارض الادنين،طوبى لمن ادرك زمانه و لحق اوانه و شهد ايامه.

قال ضاعف اللّه ايام سعادته جزيرة بني كاوان جزيرة حول البصرة،و اهل الابر جماعة في قرب استرآباد و الديلم هم اهل قزوين و ما والاها،و الحرمات الامكنة الشريفة قوله هنات و هنات أي حروب عظيمة و وقايع كثيرة في وقت خراب البصرة،و المراد بالقائم المأمول هو المهدي عليه السّلام،و المراد بالركنين ركنا الكعبة و هو الركن و الحطيم الذي هو محل خروجه عليه السّلام، و قوله ذر يسير المراد به الجماعة القليلة و هم عدد شهداء بدر،و قوله يظهر على الثقلين يعني به أنه عليه السّلام يغلب على الجن و الانس سميّا به لانهما يثقلان الارض بالاستقرار فوقها،او لانهما اشرف المخلوقات السفلية و العرب تسمى الشريف ثقلا لحمله و رزانته،و قيل أنما سميّا به لانهما قد ثقلا بالتكاليف فهما ثقلان بمعنى مثقلان،و قوله الادنين جمع ادنى و هم ارازل الناس و ادناهم و المراد بهم الظالمون و الكافرون،ثم قال سلّمه اللّه تعالى الظاهر ان المراد باهل الخروج من خراسان هم امراء الترك مثل جنكيزخان و هلاكوخان،و المراد بالخوارج من جيلان هو الشاه المؤيد الشاه اسماعيل،و من ثم اضافه عليه السّلام الى نفسه و سمّاه ولده،و المراد بأميرة الامرة اما ذلك السلطان المذكور او غيره من السلاطين الصفوية،و قوله و قتل الكبش الخروف الظاهر انه اشارة الى المرحوم صفي ميرزا فان اباه و هو المرحوم الشاه عباس الاول قد قتله،و قوله يقوم الاخر به المراد به المرحوم الشاه صفي فانه اخذ دمه.

و اول من قتله هو الذي باشر قتل ابيه صفي ميرزا،و قوله عليه السّلام ثم يقوم القائم المأمول اشارة ايضا الى اتصال الدولة الصفوية بالدولة المهدوية على صاحبها السّلام.

الحديث الثالث رواه الشيخ الاجل محمد بن مسعود العياشي و هو من ثقات المحدثين في كتاب التفسير عن ابي لبيد المخزومي عن الباقر عليه السّلام بعد ما ذكر ملك شقاوة بني العباس قال يا ابا لبيد ان في حروف القرآن المقطعة لعلما جما،ان اللّه تعالى انزل الم ذٰلِكَ الْكِتٰابُ، فقام محمد صلّى اللّه عليه و آله حتى ظهر نوره و ثبتت كلمته و ولد يوم ولد،و قد مضى من الالف السابع مأة و ثلث سنين،ثم قال و تبيانه في كتاب اللّه في الحروف المقطعة اذا عددتها من غير تكرار،و ليس من

ص:52

الحروف المقطعة حرف ينقضي الا و قيام قائم من بني هاشم عند انقضائه،ثم قال الالف واحد و اللام ثلاثون،و الميم اربعون و الصاد تسعون فذلك مأو و واحد و ستون،ثم كان بدو خروج الحسين بن علي عليه السّلام الم اللّه،فلما بلغت مدته قام قائم ولد العباس عند المص و يقوم قائمنا عند انقضائها بالر،فافهم ذلك و عه و اكتمه.

قال ذلك المحقق ايده اللّه تعالى قوله عليه السّلام من الالف السابع المراد به في ابتداءه خلق ابينا آدم عليه السّلام ثم قال ايده اللّه تعالى ان في هذا الحديث في غاية الاشكال و قد ذكرنا له وجوها في كتاب بحار الانوار و لنذكر هنا وجها واحدا و لكنه مبني على تمهيد مقجمة،و هي ان المعلوم من كتب الحساب المعتبرة ان حساب ابجد له اصطلاحات مختلفة و مناط حساب هذا الحديث على اصطلاح اهل المغرب و قد كان شائعا بين العرب في الاعصار السابقة،و هو هذا صعفض قرست ثخذ ظغش،فالصاد عندهم ستون و الضاد تسعون و السين ثلثمائة و الظاء ثمانمائة و الغين تسعمائة و الشين الف و باقي الحروف على موافقة المشهور.

اذا عرفت هذه المقدمة فاعلم ان تاريخ ولادة نبينا صلّى اللّه عليه و آله يظهر من جميع فواتح السور و لكن باسقاط الحروف المكررة مثلا الم و الر و حم و غيرها من المكررات لا يؤخذ منه بالحساب الاة احد و كذلك الحروف المبسوطة مثل الف را لا يحسب منه الا ثلثة و كذا لام واو نحو ذلك و حينئذ فالف لام ميم الف لام ميم صاد الف لام را الف لا ميم را كاف ها يا عين صاد طاها طا سين ميم طاسين ياسين صاد حاميم حا ميم عين سين قاف قاف نون،اذا عددت حروفها تكون مأة و ثلثا من وقت خلق ابينا آدم عليه السّلام الى وقت النبي صلّى اللّه عليه و آله يكون على وفق هذا الحديث ستة آلاف سنة و مأة و ثلثون(ثلث سنين ظ)و الاول من كل الف سنة تاريخ،و اول كل سابع من الاف مأة و ثلاث سنين يكون قد مشت،و عدد هذه الحروف ايضا يكون مأة و ثلاثة على ما عرفت،فيكون الم الذي في اول سورة البقرة اشارة الى مبعث نبينا صلّى اللّه عليه و آله،و قوله عليه السّلام و ليس حرف ينقضي الا و قيام القائم من بني هاشم عند انقضائه واضح على هذا،و ذلك اول دولة بني هاشم ابتداؤها من عبد المطلب و من ظهور دولة عبد المطلب الى ظهور دولة نبينا صلّى اللّه عليه و آله احدى و سبعين سنة تقريبا عدد الم بحساب ابجد على ترتيب القرآن بعد الم البقرة و الم آل عمران،و هو اشارة الى خروج الحسين عليه السّلام فانه من ابتداء رواج دولة النبي صلّى اللّه عليه و آله الى وقت خروج الحسين عليه السّلام احدى و سبعون سنة تقريبا،و ايضا بحسب ترتيب سور القرآن المص و هو اشارة الى خروج بني العباس فانهم من بني هاشم ايضا و ان كانوا غير محققين في امر الخروج و بحساب ابجد على طريق المغاربة مأة و واحد و ثلاثون،و من اول بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله الى وقت ظهور دولتهم مأة و واحد و ثلثون و ان كان الى زمان بيعتهم اكثر.

ص:53

و يحتمل ان يكون ابتداء هذا التاريخ من وقت نزول سورة الاعراف فيكون مطابقا لوقت بيعتهم و على حساب المص على طريق المغاربة بينى الحديث المروي في كتاب معاني الاخبار و سنذكره ان شاء اللّه تعالى،و اما كون قيام القائم عليه السّلام مبنيا على حساب الر فالّذي يخطر بخاطري ان الر قد وقع في القرآن في خمسة مواضع و ينبغي ان يحسب كله بقرينة انه عليه السّلام لم يتعرض لبيانه كما تعرض لبيان الم و مجموعه الف و مأة و خمس و خمسون سنة تقريبا من سنة تحرير هذه الرسالة،و هو سنة الف و ثمان و سبعون من الهجرة فيكون قد بقى من وقت خروجه عليه السّلام(سبعة و سبعون ظ)خمس و ستون سنة لما كان مبدأ هذه التواريخ من اوائل البعثة،هذا محصل كلامه سلّمه اللّه تعالى.

اقول ما ذكره ايّده اللّه تعالى و ان كان احتمالا قريبا و التفأل بالخير الا انا لم نتحقق بل و لا نظنّ ارادة هذا المعنى من الخبر بل الحق انه من قبيل الاخبار المتشابهة التي لا يمكن الوصول الى بيان حقيقتها كيف لا و تحت نتوقع الفرج صبحا(صباحا)و مساء،و على ما قاله سلمه اللّه تعالى لا تبلغه اعمارنا على تقدير بلوغها العمر المعتاد فان قضت علينا المنون فانا للّه و انا اليه راجعون،و نرجوا من اللّه سبحانه ان يشرفنا بلقائه انه كريم رحيم.

نور في كيفية رجعته عليه السّلام

و في بيان سيرته و من يرجع في عصره من الانبياء و الاوصياء عليهم السّلام،روى الحسن بن محبوب عن علي بن ابي حمزة عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال لا يخرج القائم الا في وتر من السنينسنة احدى او ثلاث او خمس او سبع او تسع،و قال عليه السّلام ينادي باسم القائم في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان،و يقوم يوم عاشورا و هو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي عليهما السّلام لكأني به في يوم السبت العاشر من المحرم قائما بين الركن و المقام و جبرئيل بين يديه ينادي بالبيعة له،فتصير اليه شيعته من اطراف الارض تطوي لهم طيا حتى يبايعوه فيملأ اللّه به الارض عدلا كما ملئت جورا و ظلما.

و روى صاحب منتخب البصائر بسند معتبر الى المفضل بن عمر قال سألت سيدي الصادق عليه السّلام هل للمهدي عليه السّلام من وقت موقّت يعلمه الناس؟فقال حاش للّه ان يوقّت ظهوره بوقت يعلمه شيعتنا،قلت يا سيدي و لم ذلك؟قال لانه هو الساعة التي قال اللّه عز و جل و يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّٰاعَةِ قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ، و هي الساعة التي قال اللّه عز و جل يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا و قال وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّٰاعَةِ و لم يقل عند احد،و قال اِقْتَرَبَتِ السّٰاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ قلت فما معنى ما يروون؟قال يقولون متى

ص:54

ولد متى يظهر شكّا في قضاء اللّه،اولئك الذين خسروا الدنيا و الاخرة،قلت أ فلا نوقت(توقّت خ)فقال يا مفضل ان من وقّت لمهدينا وقتا فقد شارك اللّه في علمه و ادّعى انه اظهر سرّه،قال المفضل يا مولاي و كيف بدو ظهور المهدي؟فقال يا مفضل يظهر بغتة و ينادي باسمه و كنيته و نسبه و يكثر ذلك على المحقّين و المبطلين لتسكن فيهم الحجة على انا قد قصصنا و دللنا عليه و سمّيناه و قلنا سمي جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لئلا يقول الناس ما عرفنا له اسما و لا كنية،قال المفضل يا مولاي فما تأويل قول اللّه عز و جل لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؟ و قال قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّٰهِ قال فو اللّه ليرفع الاختلاف بين اهل الملل و الاديان و يكون الدين كله واحدا،كما قال تعالى وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخٰاسِرِينَ.

قال المفضل فقلت يا مولاي لم سمّى الصابئون؟قال لانهم صبوا الى تعطيل الاديان و الرسل و الملل و الشريعة،قال المفضل ففي أي بقعة يظهر المهدي؟قال لا تراه عين وقت ظهوره إلا رأته كل عين و ذلك انه يغيب آخر يوم من سنة ست و ستين و مأتين و لا تراه عين احد حتى يراه كل احد،ثم يظهر بمكة و و اللّه يا مفضل كأني انظر اليه داخل مكة و عليه بردة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و على رأسه عمامته و في رجليه نعل رسول اللّه المخصوفة،و في يده عصى النبي صلّى اللّه عليه و آله بين يديه عنزا عجافا حتى يصل بها نحو البيت حتى لا يعرفه احد قال المفضل يا سيدي كيف يظهر قال يظهر وحده و يأتي البيت وحده الى الكعبة و يجنّ عليه الليل،و اذا نامت العيون و غسق الليل نزل اليه جبرئيل و ميكائيل و الملائكة صفوفا،فيقول له جبرئيل يا سيدي قولك مقبول و امرك جار فيمسح يده على وجهه و يقول اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي صَدَقَنٰا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشٰاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعٰامِلِينَ، و يقف بين الركن و المقام و يصرخ صرخة يا معشر نقبائي و اهل خاصتي و من خلقهم اللّه لظهوري على وجه الارض ايتوني طائعين،فترد صيحته عليهم و هم على تجايرهم و على فرشهم في شرق الارض و غربها،فيسمعونه في صيحة واحدة في اذن كل رجل فيجيئون نحوه و لا يمضي لهم الا كلمحة بصر حتى يكونوا كلهم بين يديه بين الركن و المقام،فيأمر اللّه عز و جل بنور فيصير عمودا من الارض الى السماء يستضيء به كل مؤمن على وجه الارض،و يدخل عليه نور في جوف بيته فتفرح نفوس المؤمنين بذلك النور و هم لا يعلمون بظهور قائمنا،ثم يصبحون وقوفا بين يديه و هم ثلثمائة و ثلثة عشر رجلا بعدّة اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر.

قال المفضل فالاثنان و سبعون رجلا الذين قتلوا مع الحسين عليه السّلام يظهرون معه قال نعم يظهرون معه و فيهم الحسين عليه السّلام في اثنى عشر الفا من المؤمنين من شيعة علي عليه السّلام عليه عمامة

ص:55

سوداء يا مفضل سيدنا القائم يسند ظهره الى الحرم و يمدّ يده فترى بيضاء من غير سوء،و يقول هذه يد اللّه ثم يتلو هذه الاية إِنَّ الَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اللّٰهَ يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فيكون اول من يقبل يده جبرئيل عليه السّلام ثم يبايعه الملائكة و نجباء الجنّ ثم نقباء المؤمنين،و يصبح الناس بمكة فيقولون قد رأينا الليلة عجبا لم نر مثله و يقول بعضهم لبعض انظروا هل تعرفون احدا ممّن فيقولون لا نعرف احدا منهم الا اربعة من اهل مكة و اربعة من اهل المدينة،و يكون هذا اول طلوع الشمس من ذلك اليوم،فاذا طلعت الشمس و اضائت صاح صائح بالخلائق من عين الشمس بلسان عربي مبين يسمع من في السموات و الارضين يا معشر الخلائق هذا مهدي آل محمد و يسميّه باسم جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايعوه تهتدوا،و لا تخالفوا امره تضلوا،فأول من يقبّل يده الملائكة ثم الجن ثم النقباء فيقولون سمعنا و اطعنا،و لا يبقى ذو اذن الا يسمع ذلك النداء، و يقبل الخلائق من البدو و الحضر و البر و البحر يحذّر بعضهم بعضا ما سمعوه بآذانهم،فاذا دنت الشمس من المغرب صرخ صارخ من مغربها يا معشر الخلائق ظهر بكم مولى الناس من ارض فلسطين و هو عثمان بن عنبسة اموي من ولد يزيد بن معاوية لعنهم اللّه تعالى فبايعوه تهتدوا و لا تخالفوا عليه تضلوا،فيردّ عليه الملائكة و الجن و النقباء قوله و يكذبونه،و يقولون سمعنا و عصينا، و لا يبقى ذو شكّ و لا مرتاب الا ضلّ بالنداء الثاني و المنادي هو الشيطان.

و سيدنا القائم مسند ظهره الى الكعبة و يقول يا معشر الخلائق الا و من اراد ان ينظر الى آدم و شيث فها انا ذا آدم و شيث،الا و من اراد ان ينظر الى نوح و اينه سام فها انا ذا نوح و ابنه سام،الا و من اراد ان ينظر الى ابراهيم و ولده(و ابنه خ)اسماعيل فها انا ذا ابراهيم و اسماعيل،الا و من اراد ان ينظر الى عيسى و شمعون فها انا ذا عيسى و شمعون الا و من اراد ان ينظر الى محمد و امير المؤمنين فها انا ذا محمد و امير المؤمنين،و من اراد ان ينظر الى الحسن و الحسين فها انا ذا الحسن و الحسين،الا و من اراد ان ينظر الى الائمة من ولد الحسين فها انا ذا الائمة اجيبوا مسألتي فاني انبأكم بما نبأتم به او لم تنبأوا به،و من كان يقرأ الكتب و الصحف فليسمع مني،ثم يبتدئ بالصحف التي انزلها اللّه لادم و شيث فتقول امة آدم و شيث هذه و اللّه هي الصحف حقا،و لقد رأينا ما لم نعلمه فيها و ما كان اسقط منها و بدّل و حرّف ثم يقرأ صحف نوح و صحف ابراهيم و التورية و الانجيل و الزبور فيقول اهل التورية و الانجيل و الزبور هذه و اللّه صحف ابراهيم حقا،و ما اسقط و بدّل و حرّف منها،هذه و اللّه التورية الجامعة و الانجيل الكامل،و انها اضعاف ما ترى فيها،ثم يتلوا القرآن فيقول المسلمون هذا و اللّه القرآن و ما حرّف و ما بدّل.

ص:56

ثم تظهر الدابة بين الركن و المقام فيكتب في وجه المؤمن مؤمن و في وجه الكافر كافر،ثم يظهر السفياني و يسير جيشه الى العراق،فيخربه و يخرب الزوراء و يتركهما و يخرب الكوفة و المدينة و تروث بغالهما في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جيش السفياني يومئذ ثلثمائة الف رجل بعد ان خرب الدنيا،ثم يخرج الى البيدا،يريد مكة و خراب البيت،فلما صاروا بالبيداء عن يسارها صاح بهم صائح يا بيدا بيديهم،فتبلعهم الارض بخيلهم فيبقى اثنان،فينزل ملك فيحوّل وجوههما الى ورائهما و يقول لمبشّر امض الى المهدي و بشرّه بهلاك جيش السفياني و قال للذي اسمه نذير امض الى السفياني فعرفه بظهور المهدي مهدي آل محمد،فيمضي مبشّر الى المهدي فيعرفه بهلاك جيش السفياني و ان الارض التي انفجرت لم تبق من الجيش عقال ناقة، فيمسح المهدي عليه السّلام على وجهه فيستوي و يبايع المهدي و تظهر الملائكة و الجن و يخالط الناس و يسيرون معه و ينزلون ما بين الكوفة و النجف،و يكون عدّة اصحابه ستة و اربعين الفا من الملائكة و مثلها من الجنّ،ثم ينصره و يفتح على يديه.

قال المفضل الجن و الملائكة تظهر للناس في ذلك الزمان؟قال نعم كما يظهر الناس بعضهم لبعض،فقال له المفضل ما يصنع بأهل مكة فقال يدعوهم بالحكمة و الموعظة ثم ينصب عليهم خليفة من اهل بيته و يتوجه الى المدينة،فقال المفضل ما ينصع بالكعبة فقال انه يهدم هذا البيت و يبنيه على بناء ابراهيم و اسماعيل عليهما السّلام،و كذلك يهدم جميع ما بناه الظالمون في كل الاقاليم و كذلك يهدم مسجد الكوفة و يصنعه على الاول فقال المفضل أ يقيم في مكة؟قال لا و لكن ينصب عليهم خليفة من اهل بيته فاذا خرج من مكة قصد اهل مكة الى خليفته فقتلوه، فيرجع المهدي عليه السّلام اليهم و يخوّفهم العقوبات فيتوبون فينصب عليهم خليفة منهم،فاذا خرج من مكة عمدوا اليه ايضا فقتلوه،ثم ان المهدي عليه السّلام يرسل اليهم عساكر من الجنّ و النقباء فمن آمن تركوه و من ابى قتلوه و ما يؤمن به من مأة واحد،فقال له المفضل يا سيدي اين يكون منزل المهدي و محلّ اجتماع المؤمنين معه،فقال ان سرير ملكه يكون بلد الكوفة و مجلسه و موضع حكمه مسجدها،و مكان بين المال و قسمة الغنائم مسجد السهلة،و موضع انفراده و نزاهته النجف الاشرف،فقال له المفضل يكون جميع المؤمنين في الكوفة،فقال بلى و اللّه ما من مؤمن الا و هو اما فيها او في قربها او يكون قلبه مائلا اليها،و يكون قيمة الارض منها قيمة موضع كل شاة الفا درهم،و يكون سعة بلدها ثمانية عشر فرسخا،و تتصل قصورها بأرض كربلا و تكون كربلا ملجأ للمؤمنين.

ثم انه عليه السّلام تنفّس فقال يا مفضل ان بقاع الارض تفاخرت ففخرت الكعبة على بقعة كربلا،فاوحى اللّه عز و جل اليها ان اسكتي يا كعبة و لا تفخري على كربلا فانها البقعة المباركة

ص:57

التي قال اللّه فيها لموسى عليه السّلام إِنِّي أَنَا اللّٰهُ و هي موضع المسيح و امه وقت ولادته،و انها الدالية التي غسل بها رأس الحسين بن علي عليهما السّلام،و هي التي عرج منها محمد صلّى اللّه عليه و آله،و قال المفضل يا سيدي يسير المهدي الى اين قال الى مدينة جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاذا وردها كان له فيها مقام عجيب،يظهر فيه سرور المؤمنين و خزي الكافرين فقال المفضل يا سيدي ما هو ذاك؟ قال يرد الى قبر جده فيقول يا معشر الخلائق هذا قبر جدي فيقولون نعم يا مهدي آل محمد، فيقول و من معه في القبر فيقولون صاحباه(مصاحباه خ)و ضجيعاه ابو بكر و عمر فيقول عليه السّلام و هو اعلم الخلق من ابو بكر و عمر و كيف دفنا من بين الخلق مع جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عسى ان يكون المدفون غيرهما فيقول الناس يا مهدي آل محمد ما هيهنا غيرهما و انهما دفنا معه لانهما خليفتاه و آباء زوجتيه فيقول هل يعرفهما احد فيقولون نعم نحن نعرفهم بالوصف،ثم يقول هل يشكّ احد في دفنهما هنا؟فيقولون لا،فيأمر بعد ثلاثة ايام و يحفر قبورهما و يخرجهما، فيخرجان طريين كصورتهما في الدنيا فيكشف عنهما اكفانهما و يأمر برفعهما على دوحة يابسة نخرة فيصلبهما عليها،فتتحرك الشجرة و تورق و ترفع و يطول فرعها،فيقول المرتابون من اهل ولايتهما هذه و اللّه الشرف حقا و لقد فزنا بمحبتهما و ولايتهما،فينشر خبرهما فكلّ من بقلبه حبّة خردل من محبتهما يحضر المدينة فيفتنون بهما،فينادي مناد المهدي عليه السّلام هذان مصاحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن احبهما فليكن في معزل و من ابغضهما يكن في معزل فيتجزء الخلق جزئين،موال و معاد،فيعرض على اوليائهما البرائة منهما،فيقولون يا مهدي ما كنّا نبرأ منهما،و ما كنّا نعلم ان لهما عند اللّه هذه الفضيلة فكيف نبرأ منهما و قد رأينا منهما ما رأينا في هذا الوقت من نضارتهما و غضاضتهما و حيوة الشجرة بهما،بلى و اللّه نبرأ منك و ممن آمن بك و ممن لا يؤمن بهما و ممن صلبهما و اخرجهما و فعل ما فعل بهما فيأمر المهدي عليه السّلام ريحا فتجعلهم كأعجاز نخ لخاوية ثم يأمر بانزالهما فينزلان فيحيهما باذن اللّه و يأمر الخلائق بالاجتماع،ثم يقصّ عليهم قصص فعالهم في كل كور و دور حتى يقصّ عليهم قتل هابيل بن آدم و جمع النار لابراهيم و طرح يوسف في الجب و حبس يونس في بطن الحوت،و قتل يحيى و صلب عيسى و عذاب جرجيس و دانيال،و ضرب سلمان الفارسي و إشعال النار على باب امير المؤمنين و فاطمة و الحسنين عليهم السّلام و ارادة احراقهم بها،و ضرب الكبرى فاطمة الزهراء بسوط و رفس بطنها و اسقاطها محسنا،و سمّ الحسن و قتل الحسين عليه السّلام و ذبح اطفاله و بني عمّه و انضاره و سبي ذراري رسول اللّه و اراقة دماء آل محمد،و كل دم مؤمن و كل فرج نكح حراما و كل رباء اكل و كل خبث و فاحشة و ظلم منذ عهد آدم على قيام قائمنا،كل ذلك يعدده عليهما و يلزمها اياه

ص:58

و يعترفان به،ثم يأمر بهما فيقتص منهما في ذلك الوقت مظالم من حضر ثم يصلبهما على الشجرة و يأمر نارا تخرج من الارض تحرقهما و الشجرة ثم يأمر ريحا فتنسفهما في اليم نسفا.

قال المفضل يا سيدي هذا آخر عذابهما؟قال هيهات يا مفضل و اللّه ليردنّ و ليحضرنّ السيد الاكبر محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الصديق الاعظم امير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الائمة عليهم السّلام و كلّ من محضّ الايمان محضا و كل من محضّ الكفر محضا و ليقتصنّ منهما بجميع المظالم ثم يأمر بهما فيقتلان في كل يوم و ليلة الف قتلة و يردان الى اشد العذاب ثم يسير المهدي الى الكوفة فينزل ما بين الكوفة و النجف في ستة و اربعين الفا من الجنّن ثلثمائة و ثلثة عشر من النقباء،فقال له المفضل يا سيدي فالزوراء التي تكون في بغداد ما يكون حالها في ذلك؟فقال تكون محلّ عذاب اللّه و غضبه و الويل لها من الرايات الصفر و من الرايات التي تسير اليها في كل قريب و بعيد و اللّه لينزلنّ بها من صنوف العذاب ما نزل بسائر الامم المتمردة من اول الدهر الى آخره،و لينزلن بها من العذاب ما لا عين رأت و لا أذن سمعت،و سيأتيها طوفان بالسيوف فالويل لمن اتخذ بها مسكنا و اللّه ان بغداد تعمر في بعض الاوقات حتى ان الرائي يقول هذه هي الدنيا لا غيرها،و يظنّ ان بناتها حور العين و اولادها اولاد الجنّة،و يظن ان لا رزق اللّه الا فيها،و يظهر فيه الكذب على اللّه و الحكم بغير الحق و شهادة الزور و شرب الخمور و الزنا و اكل مال الحرام و سفك الدماء،ثم بعد ذلك يخربها اللّه تعالى بالفتن و على يدي هذه العساكر حتى المارّ عليها لا يرى منها الرسوم بل يقوم هذه ارض بغداد.

ثم يخرج الفتى الصبيح و هو الحسني من نحو الديلم و قزوين فيصيح بصوت له فصيح يا آل محمد اجيبوا الملهوف،فتجيبه كنوز الطالقان كنوز و لا كنوز من ذهب و لا من فضة بلهي رجال كزبر الحديد،لكأني انظر اليهم على البرازين الشهب بأيديهم الحراب يتعاوون شوقا الى الحراب كما تتعاوى الذباب اميرهم رجل من بني تيم يقال له شعيب بن صالح،فيقبل الحسني فيهم و وجهه كدائرة القمر فيأتي على الظلمة و يقتلهم حتى يرد الكوفة و قد جمع بها اكثر اهل الارض فيتصلّ به و باصحابه خبر المهدي،فيقولون يا ابن رسول اللّه من هذا الذي نزل بساحتنا،فيقول الحسني اخرجوا بنا اليه حتى ننظر من هو و ما يريد و هو يعلم و اللّه انه المهدي و انه يعرفه،فيخرج الحسني و بين يديه اربعة آلاف رجل و في اعناقهم المصاحف و عليهم المسوح مقلدين سيوفهم فيقبل الحسني حين ينزل بقرب المهدي عليه السّلام فيقول اسألوا عن هذا الرجل من هو و ما ذا يريد؟فيخرج بعض اصحاب الحسني الى عسكر المهدي فيقول ايها العسكر الحائل من انتم حيّاكم اللّه و من صاحبكم و ما ذا يريد؟فيقول اصحاب المهدي هذا مهدي آل محمد و نحن انصاره من الجن و الانس و الملائكة،ثم يقول الحسني خلّوا بيني و بين هذا فيخرج اليه

ص:59

المهدي فيقفان بين العسكرين،فيقول الحسني ان كنت مهدي آل محمد فأين عصا جدي رسول اللّه و خاتمه و بردته و ردعه و عمامته السحاب،و فرسه و ناقته العضباء و بغلته دلدل و حماره يعفور و نجيبه البراق و تاجه و المصحف الذي جمعه ابي امير المؤمنين بغير تغيير و لا تبديل، فيحضر له السفط الذي فيه جميع ما طلبه.

و قال عليه السّلام ان في السفط تركات جميع النبيين حتى عصى آدم و نوح و تركة هود و صالح و مجمع ابراهيم و صاع يوسف و مكتل شعيب و ميزانه،و عصى موسى و تابوته الذي فيه بقية(مما خ ل)ما ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة و درع داود و خاتم سليمان و عصاه و تاجه و رجل عيسى و ميراث النبيين و المرسلين في ذلك السفط،فيأخذ المهدي العصا و ينصبها فوق حجر صلب فتصير شجرة عظيمة يستظل تحتها كل ذلك العسكر فيقول الحسني اللّه اكبر يا ابن رسول اللّه مد يدّك ابايعه فيبايعه الحسني و سائر عسكره الا اربعة آلاف من اهل المصاحف و المسوح المعروفون بالزيدية فيقولون ما هذا الا سحر عظيم فيختلط العسكران،و يقبل المهدي عليه السّلام على هذه الطائفة فيعظهم و يزجرهم الى ثلاثة ايام فلا يزدادون الا بعدا و طغيانا و كفرا، فيأمر المهدي بقتلهم فكأني انظر اليهم قد ذبحوا على مضاجعهم كلهم يتمرغون في دمائهم و تتمرغ المصاحف،فيقبل بعض اصحابه فيأخذ تلك المصاحف فيقول المهدي دعوها تكون عليهم حسرة كما بدّلوها و غيروها و حرفوها و لم يعملوا بما حكم اللّه فيها.

قال المفضل ثم ما ذا يعمل يا سيدي؟قال ثم تثور سراياه الى السفياني الى دمشق فيأخذونه و يذبحونه على الصخرة،ثم يظهر الحسين بن علي عليه السّلام في اثنى عشر الف صدّيق و اثنين و سبعين رجلا من اصحابه الذين قتلوا معه يوم عاشورا فيا لك عندها من كرة زهراء و رجعة بيضاء،ثم يخرج الصديق الاكبر امير المؤمنين و تنصب له القبة البيضار على النجف و تقام اركانها،ركن بالنجف و ركن في هجر و ركن بصنعاء اليمن و ركن بأرض طيبة و ركن بأرض البحرين،كأني انظر الى مصابيحها تشرق في السماء و الارض كأضوء من الشمس و القمر فعندها تبلى السرائر و تذهل كل مرضعة عما ارضعت و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّه شديد،ثم يظهر السيد الاجل محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في انصاره و المهاجرين اليه و يحضر مكذبوه و يحضر الشاكون فيه،و يحضر الكافرون القائلون انه ساحر و كاهن و مجنون و معلّم و شاعر و ناطق عن الهوى و من حاربه و قاتله حتى يقتص منهم و يجازون بافعالهم منذ وقت ظهر الى ظهور المهدي اياما اياما و وقتا وقتا و يحق تأويل هذه الاية وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوٰارِثِينَ الاية.

ص:60

قال المفضل ما المراد بفرعون و هامان في الاية؟فقال ابو بكر و عمر قال المفضل قلت يا سيدي و رسول اللّه و امير المؤمنين يكونان مع المهدي؟فقال لا بدّ ان يطاءا الارض أي و اللّه حتى ما وراء جبل قاف و ما في الظلمات و جميع البحور،و يقيم دين اللّه في جميع الاماكن و كأني ارى يا مفضل اننا(معاشر ظ)ايها(أي خ ل)الائمة واقفون عند جدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نشكو اليه ما صنع بنا هذه الامة من بعده من تكذيبنا و سبّنا و اخافتنا بالقتل و الاخراج من حرم اللّه و رسوله و قتلنا و حبسنا،فيبكي النبي صلّى اللّه عليه و آله و يقول قد فعلوا بكم ما فعلوا بجدكم فاوّل من يشكوا اليه فاطمة من ابي بكر و عمر فتقول له انهما اخذا فدك مني بعد ما اقمت البراهين عليهما فلم ينفع و الكتاب الذي كتبته لي على فدك اخذه مني عمر بحضور المهاجرين و الانصار و تفل فيه و مزقه فأتيت الى قبرك شاكية و ابو بكر و عمر بسقيفة بني ساعدة مضوا الى المنافقين و تواطئوا معهم و غصبوا خلافة زوجي فأتوا اليه ليبايعهم فأبى فجمعوا حطبا و وضعوه على باب البيت ليحرقوا اهل البيت فصحت و قلت ما هذه الجرأة على اللّه و على رسوله يا عمر تريد ان تقطع نسل الانبياء فقال عمر اسكتي ليس محمد موجودا حتى ينزل عليه الملائكة بالامر و النهي قولي لعلي يبايع ابا بكر و الا اضرمنا النار في بيتكم،فقلت اشكو الى اللّه كيف فعلوا بنا بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و غصبوا حقنا فصاح عمر دعينا من هذه الحماقات،أ لم تعلمي ان اللّه تعالى لن يجمع النبوة و الامامة لكم،فرفع سوطه و ضربني به فكسر يدي و عصر الباب على بطني فاسقط مني ولدي المحسن فصحت وا ابتاه وا رسول اللّه قد كذّبوا ابنتك و ضربوها بالسوط و اسقطوا منها ولدها المحسن،فاردت يا رسول اللّه ان اكشف القناع عن رأسي و انشر شعري و اشكو الى اللّه فمنعني علي بن ابي طالب و قال ان اباك قد كان بعث رحمة للامة فلا تكوني انت السبب في عذابهم و لا تنشري شعرك و اللّه ان رفعت راسك بالدعاء ليهلكن اللّه ما في الارض و الهوى فرجعت الى البيت و بقيت مريضة من ذلك الضرب صرت شهيدة منه.

ثم يقوم بعدها امير المؤمنين عليه السّلام فيطيل الشكاية و يقول يا رسول اللّه اني حملت الحسنين ليلا الى بيوت المهاجرين و الانصار الذين اخذت لي البيعة منهم مرارا و طلبت منهم النصرة فوعدوني و لما اصبح الصباح لم ار احدا منهم فصار حالي معهم كحال هرون في بني اسرائيل بعد موسى فلما رجع اليه موسى قال له هرون اِبْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كٰادُوا يَقْتُلُونَنِي فصبرت في جنب اللّه على البلاء الذي لم يتحمله غيري من اوصياء الانبياء حتى قتلوني بضربة ابن ملجم،ثم يقوم الحسن عليه السّلام فيقول يا جدّا انه لما اتصل خبر شهادة ابي لمعاوية لعنه اللّه ارسل زيادا و هو ولد زنا مع مأة الف و خمسين الفا من الرجال الى الكوفة ليأخذ عليّ و على اخي الحسين و اهل بيتنا البيعة لمعاوية،و من لم يقبل منا يضرب عنقه و يرسل برأسه الى

ص:61

معاوية فدخلت المسجد و صعدت المنبر وعظت الناس و دعوتهم الى دينك و خوّفتهم عقابك فلم يجبني منهم الا عشرون فرفعت طرفي في السماء و قلت اللّه اشهدها بأني دعوتهم الى دينك و خوّفتهم عقابك فلم يطيعوا اللهم ارسل عليهم البلاء و العذاب،فنزلت و توجهّت الى جانب المدينة فتبعوني و قالوا ان هذا عسكر معاوية قد وصل الى الانبار و غار على اهله و اخذ اموالهم و سبى ذراريهم فامض معنا حتى نجاهده بالسيوف فقلت لهم انه لا وفاء لكم فأرسلت معهم جماعة و قلت لهم انكم اذا بلغتم معاوية نقضتم بيعتي و تضطروني الى الصلح مع معاوية فما صار الا ما اخبرتهم به ثم يقوم الحسين المظلوم عليه السّلام مخضبا بدمه مع جميع الشهداء فينظر النبي صلّى اللّه عليه و آله اليهم فيبكي و يبكي لبكائه اهل السموات و الارض،و تصيح فاطمة عليها السّلام صوتا تزلزل الارض و امير المؤمنين و الحسن في جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فاطمة عليها السّلام في جانب يساره فيحضر حمزة و جعفر و تأتي خديجة و فاطمة بنت اسد و معهما المحسن بن فاطمة و هما(هم ظ)يبكون فبكى الصادق عليه السّلام و قال لا اقر اللّه عينا لا تبكى عند ذكر هذه القصة و بكى المفضل فقال يا سيدي ما ثواب ما يبكي لمصابكم فقال ثوابه لا يحصى ان كان من الشيعة.

فقال له المفضل ثم ما يكون بعد هذا يا سيدي قال ان فاطمة تقوم و تقول يا رب اوف بما وعدتني في امر من ضربني و قتل اولادي فتبكي لاجلها اهل السموات و الارض و لا يبقى احد من ظالمينا و الذين اعانوا علينا و الذين رضوا لهم بافعالهم الا و يقتل في ذلك اليوم الف مرة، فقال له المفضل يا سيدي ان في شيعتك من لا يعتقد انك ترجع مع مواليك و اعدائك فقال يا مفضل اما سمعوا الاحاديث من رسول اللّه و منّا بالرجعة اما سمعوا قوله تعالى وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذٰابِ الْأَدْنىٰ دُونَ الْعَذٰابِ الْأَكْبَرِ فالعذاب الادنى هو وقت خروجنا و العذاب الاكبر هو عذاب القيامة ان جماعة من شيعتنا يقولون معنى الرجعة ان الملك يرجع الى آل محمد فيكون مهديهم سلطانا ويلهم على هذا ما اخذ اللّه منا الملك حتى يرجعه الينا بل فينا ملك النبوة و الامامة و الدنيا و الاخرة دائما،اما سمعوا قوله تعالى وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوٰارِثِينَ.

قال ثم بعد هذا يقوم جدي علي بن الحسين و ابي محمد الباقر فيشكون الى جدهما من فعل الظالمين،ثم اقوم انا اشكو اليه من منصور الدوانيقي و يقوم ابني موسى فيشكو من هارون الرشيد ثم يقوم علي بن موسى الرضا و يشكو من المأمون الملعون،ثم يقوم محمد التقي فيشكو من المأمون و غيره،ثم يقوم علي النقي فيشكو من المتوكل ثم يقوم الحسن العسكري فيشكو من المعتز،فيقوم المهدي و معه ثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ملطّخ بالدم كان عليه يوم احد و شجوا رأسه و كسروا ضرسه فيه و الملائكة حافة به فيقول يا جدّ انك و صفتني للناس و عرفتهم اسمي و نسبي

ص:62

و كنيتي فانكروني و لم يطعني منهم احد فقال بعضهم لم يتولد و قال آخرون انه مات و لو كان حيا لما غاب هذه الغيبة الطويلة فصبرت الى ان امرني اللّه بالخروج فخرجت فيقول النبي صلّى اللّه عليه و آله الحمد للّه الذي صدقنا وعده و اورثنا الارض تنبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم اجر العاملين، و يقول و هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ثم يقرأ إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اللّٰهُ نَصْراً عَزِيزاً فقال المفضل ما ذنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي غفره اللّه له؟فقال يا مفضل ان النبي صلّى اللّه عليه و آله دعى اللّه ان يحمله ذنوب شيعته و شيعة علي و شيعة الائمة ما تقدّم منها و ما تأخر الى يوم القيامة و ان لا يفضحه بين الانبياء بذنوب الشيعة التي تحملها فأخبره اللّه سبحانه انه غفر له جميع تلك الذنوب التي تحملها، فبكى المفضل و قال يا سيدي هذا الفضل كله من بركاتكم فقال يا مفضل هذا كله انما هو لك و لامثالك من الشيعة فقال يا مفضل لا تخبر بهذا الحديث احدا من الذين يطلبون الرخص في المعاصي و يتركون العبادات لمكان هذه الاخبار فلا تنفعهم شفاعتنا لان اللّه تعالى يقول لاٰ يَشْفَعُونَ إِلاّٰ لِمَنِ ارْتَضىٰ.

فقال له المفضل قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و قرائته لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اما ظهر و غلب دينه على جميع الاديان فقال يا مفضل لو غلب دينه على الاديان لما بقى في الدنيا دين اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و غيرهم فلا يكون هذا الاّ في زمن المهدي عليه السّلام و كذا يكون تأويل هذه الاية و هي قوله وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ فقال عليه السّلام ان المهدي يرجع الى الكوفة فيمطر اللّه عليهم جرادا من ذهب كما امطره على ايوب عليه السّلام فيسقمه بين اصحابه،و يقسم بينهم كنوز الارض من ذهبها و فضتها فقال له المفضل يا سيدي اذا مات المؤمن و علمه دين من اصحابه ما يفعل معه؟فقال يا مفضل اول ما يظهر المهدي ينادي مناديه من له على مؤمن دين فليتكلم حتى اعطيه دينه فيطعي ديون الشيعة كلها حتى رأس الثوم و حبة الخردل و الحديث طويل.

و روى الصدوق و جعفر بن قولويه و محمد بن ابراهيم النعماني باسانيدهم الى الصادق عليه السّلام قال كأني انظر الى القائم في النجف الكوفة لابس درع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله راكب فرسا سودا اغرّ الجبهة فيحركه و يظهر للناس بقدرة اللّه لكل بلدان المهدي يريد بلادهم فينشر علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمود من العرش و اجزاؤه من النصر و الظفر فلا يتوجه بذلك العلم الى قوم الا اهلكهم اللّه تعالى فاذا حرّك ذلك العلم لم يبق مؤمن الا صار قلبه كقطع الحديد و اعطاه اللّه قوة اربعين رجلا فيدخل هذا الفرح على المؤمنين و هم في قبورهم فيتزاؤرون في القبور

ص:63

و يبشرون بعضهم بعضا بخروج المهدي و تظهر معه ثلاثة عشر الفا من الملائكة و ثلثمائة عشر ملكا من الذين كانوا مع نوح في السفينة و مع ابراهيم لما القى في النار و مع موسى لما شقّ له البحر و مع عيسى لما رفع الى السماء و الاربعة آلاف ملك الذين نزلوا لنصرة الحسين عليه السّلام فلم يرخص لهم فبقوا عند قبره شعثا غبرا يبكون عليه،و كبيرهم ملك اسمه منصور يستقبلون كلّ من يمضي الى زيارة الحسين عليه السّلام و يشايعون كل من يودعه راجعا و يعودون كلّ من يمرض من زوّاره و يمشون تحت جنازة موتاهم و يستغفرون لهم و هم في الارض ينتظرون خروج المهدي عليه السّلام.

و في الروايات عن الصادقين عليهم السّلام ان اللّه سبحانه خيّر ذا القرنين بين السحاب الذلول أي الخالي من الرعد و الصوت و بين السحاب الصعب و هو ما فيه رعد و برق فاختار الاول و بقى الثاني للمهدي عليه السّلام فيركب عليها و يطوف السموات السبع و الارضين السبع و يسخّر اللّه له الرياح كلها و له من القوة ما لو قبض بيده الشجرة العظيمة لقلعها من اصلها و اذا صاح بين الجبلين صار صخرة رمادا و لا يبقى مكان في الدنيا الا وصل اليه و تظهر له المعادن كلها و اذا توجه الى جهاد بلاد من البلدان وقع الرعب في قلوبهم من مسيرة شهر و يعرف كلّ من يراه انه مؤمن او كافر صالح او فاسق و يحكم بحكم داود سليمان بعلمه الذي علّمه اللّه سبحانه لا يسأل البينة و لا الشهود،و يانما توجّه ظلّله السحاب و ينطق السحاب بلسان فصيح هذا مهدي آل محمد يملأ الارض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا و تطوى الارض له و لاصحابه،و من علاماته ان ليس له ظل على الارض فاذا خرج من مكة نادى مناديه بان لا يحمل احد من العسكر طعاما و لا ماء و معه حجر موسى عليه السّلام فاذا وصل الى المنزل نصبه و انفجرت منه اثنتا عشر عينا فيروى و يشبع من شرب منها فاذا بلغ النجف و سكن فيها انفجر من تلك الصخرة ماء و لبن فيكون هو الغذا عوض الطعام و الشراب.

و في روايات اخرى انه يخرج من تلك الصخرة ماء و طعام و علف لهم و لدوابهم و يخرج عليه السّلام و معه عصا موسى عليه السّلام اذا القاها من يده صارت ثعبانا و يكون ما بين فكيّها مقدار اربعين ذراعا و تلقف في حلقها كلّ ما يأمرها بابتلاعه،و يلبس ثوب ابراهيم الذي اتى به جبرئيل عليه السّلام لما رماه نمرود في النار فصارت عليه بردا و سلاما و هو قميص يوسف عليه السّلام الذي القوه على وجه يعقوب فارتدّ بصيرا و يخرج و هو لابس خاتم سليمان و معه تابوت بني اسرائيل الذي فيه جميع مواريث الانبياء و آثارهم و لم يبق كافر على وجه الارض و لو ان كافرا لجأ الى صخرة او شجرة لنادت الصخرة هذا الكافر عندي فاقتلوه،و يمسح يده على رؤوس المؤمنين فتتضاعف عقولهم و احلامهم و تصير كاملة و يكون المؤمن من القوة ما لو اراد قلع جبل الحديد لقلعه و يطيعهم كل

ص:64

شيء حتى سباع الهوى و تفخر بقاع الارض بعضها على بعض بأن واحدا من اصحاب القائم مشى عليها و ينزع اللّه الخوف و الحزن من قلوب المؤمنين و يلبسها قلوب اعدائهم و ينوّر اللّه سبحانه اسماعهم و ابصارهم حتى اذا كانوا في بلاد المهدي عليه السّلام في بلاد اخرى يكون لهم من السمع و البصر ما يرونه و يشاهدون انواره و يسمعون كلامه و مخاطباته معهم و يتكلمون معه و يدفع اللّه عنهم الضعف و الكسل و البلاء و الامراض و تنزل امطار(قطار خ)السماء بالبركات التي منعت منذ غصبوا خلافة امير المؤمنين عليه السّلام و يرتفع الحقد و البغضاء من بين المخلوقات حتى يرعى الذئب و الشاة و السبع و البقر،و حتى ان المرأة تخرج وحدها من العراق الى الشام و لا تضع رجلها الى فوق الورود و الازهار،مع انها لابسة حليّها و لا يضرها سارق و لا سبع و اوّل ما يظهر يقطع ايدي بني شيبة الذين معهم مفاتيح الكعبة في هذه الاعصار و يعقلها(يعلّقها خ) على الكعبة،و ينادي عليهم هؤلاء بنو شيبة سرّاق الكعبة،و يخرج اولاد قاتلي الحسين عليه السّلام فيقتلهم لانهم رضوا بصنع آبائهم و من رضي بفعل قبيح كان كمن اتاه،و يحيى عائشة و يعذبّها على ايذائها لفاطمة و مارية و يقتل مانع الزكوة و تنّور الارض بنوره،و ترفع الظلمة و لا يحتاج الناس الى الشمس و القمر،و يعمر كل واحد من المؤمنين الف سنة يولد له في كل سنة ذكر، و يبني في ظهر الكوفة مسجدا و يعلّق عليه الف باب،و يجري من عند قبر الحسين عليه السّلام نهرا الى النجف يصبّ ماؤه في بحر النجف،و تبني على ذلك النهر الارحية.

و قال الباقر عليه السّلام كأني انظر الى العجوز و على راسها زنبيل فيه حنطة تمضي لتطحنه من غير كراء،و يستقر هو و عياله في مسجد السهلة و يحزب المساجد المبنيّة و يجعلها عريشا كعريش مسجد موسى عليه السّلام و يهدم شرف المساجد و منارها و يوّسع الجادة حتى يجعلها ستين ذراعا و يهدم كل مسجد بني في الطريق،و يحزب كل روزنة(رازونة خ)و جناح الى الطريق و كذا الميازيب و البيوت التي تشرع الى الجوار،و يأمر اللّه الفلك بابطاء الحركة حتى يكون كل يوم من ايامه مقابل عشرة من هذه الايام و يهدم الكعبة و يبنيها على اساس ابراهيم و اسماعيل عليهما السّلام، و يهدم المسجد الحرام و مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يصنعها على ما كانت عليه في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و يردّ مقام ابراهيم عليه السّلام الى موضعه الاول من موضعه الان الذي وضعه فيه عمر،و يرفع البدع و يقيم السنن و يستغني الشيعة حتى لو انّ الانسان وضع زكوة ماله على عاتقه يحملها ليطلب الفقير لم يجده و لا يقبل من اهل الكتاب جزية و لا يقبل من احد سوى الاسلام و قد يكون الرجل قائما على رأس المهدي عليه السّلام ممتثلا لاوامره و نواهيه،فينظر اليه فيأمر المهدي عليه السّلام بضرب عنقه بسبب انه اضمر في قلبه شيئا قبيحا،و يخرج القرآن الذي الّفه امير المؤمنين عليه السّلام و لم يعمل به الاشقياء،و يرتفع هذا القرآن الى السماء و يعمل بذلك القرآن.

ص:65

و قال امير المؤمنين عليه السّلام كأني انظر الى الشيعة قد بنوا الخيام بمسجد الكوفة و جلسوا يعلّمون القرآن الجديد للناس و اذا بعث المهدي عليه السّلام واليا الى بلاد يقول ان كتابك في كفك فاذا ورد عليك حكم لم تعرف حكم اللّه فيه انظر الى كفّك فان اللّه يكتب لك حكم تلك القضية فيه حتى تعلمه،ثم يرسل عليه السّلام عسكرا الى اسطنبول فاذا وصلوا الى الخليج كتبوا شيئا على اقدامهم و مشوا على الماء فاذا شاهد الروم هذه الحالة منهم تعجبوا و قالوا كيف يكون حال المهدي،فيفتحون اثنى عشر بلادا و سلام الناس على المهدي عليه السّلام في ذلك الوقت،السّلام عليك يا بقية اللّه،و يظهر في مسجد الكوفة عين دهن و عين ماء طهور و عين ماء للشرب،فاذا استقرّ عليه السّلام في الكوفة بعث عساكرا الى الشام لقتل بني امية،فيهزمون الى بلاد الافرنج و يمنعونهم عن الدخول الى بلادهم،و يقولون ما ندخلكم بلدنا الا ان تدخلوا في ديننا و هو دين النصارى فينتصرون و يلبسون الزنّار و يدخلون بلاد الافرنج فاذا وصل عسكر المهدي عليه السّلام الى بلاد الافرنج طلبوا منهم الامان فيقولون لا امان لكم ان تدفعوا الينا بني امية،فيسلّمونهم اليهم فيقتلونهم كلهم و يصنع ما صنع النبي صلّى اللّه عليه و آله من العفو عمّا وقع في زمن الجاهلية و اجراء احكام الاسلام عليهم من حين نبوتّه فكذا المهدي عليه السّلام.

و روى الشيخ قطب الدين باسناده الى الباقر عليه السّلام قال ان الحسين عليه السّلام خطب خطبة قبل مقتله،فقال ان جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اخبرني يوما فقال يا بني ان الناس يحملونك على المسير الى العراق و فيها ارض هل محل ملاقاة الانبياء و اوصيائهم و اسمها عمورا،فتقتل شهيدا و يقتل جماعة من اصحابك و لكن لا يصل اليهم حرّ الحديد،ثم تلا قُلْنٰا يٰا نٰارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاٰماً عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ فكما ان النار صارت بردا و سلاما على ابراهيم عليه السّلام فكذلك تكون السيوف عليك و على اصحابك بردا و سلاما ثم قال الحسين عليه السّلام و اللّه ان اقتلونا ليكون مرجعنا ذلك الوقت الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فتمكث معه في ذلك العالم ما شاء اللّه،فأول من تنشق عنه الارض قبل القيامة انا و يكون خروجي موافقا لخروج امير المؤمنين و القائم عليهما السّلام فينزل عليّ من اللّه تعالى جنود من الملائكة لم تنزل قبل ذلك اليوم و ينزل عليّ جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و جماعة من الملائكة و ينزل محمد و عليّ و انا و اخي و جماعة كثيرة على خيول بلق من نور لم يركبها احد قبلنا،فيدفع النبي صلّى اللّه عليه و آله علمه و سيفه الى القائم عليه السّلام فتمكث ما شاء اللّه،و يظهر اللّه تعالى من مسجد الكوفة عينا من دهن و عينا من ماء و عينا من لبن،فيدفع اليّ امير المؤمنين عليه السّلام سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يرسلني الى المشرق و المغرب فما امر على عدو الا اهرقت دمه،و احرق كل صنم على وجه الارض حتى ابلغ الى الهند و افتح جميع بلدانها.

ص:66

و يحيى اللّه دانيال و يوشع فيأتيان الى امير المؤمنين عليه السّلام فيقولان صدق اللّه و رسوله فيما وعدكم فيبعث امير المؤمنين عليه السّلام معهم سبعين رجلا ليقتلو عساكر البصرة،و يرسل عسكرا الى بلاد الافرنج فيتفح بلدانها،و اقتل انا كل حيوان حرام اللحم و لم يبق على وجه الارض الا طيب حلال اللحم،و اعرض على اليهود و النصارى و سائر اهل الاديان او القتل فمن اسلم قبلت اسلامه و من لم يقبل قتلته بأذن اللّه تعالى،و لم يبق احد من الشيعة الا انزل اللّه سبحانه عليه ملكا يمسح الغبار عن وجهه و يطلعه على مكانه من الجنّة و لا يبقى ذو آفة و بلاء الا عافاه اللّه تعالى ببركة الائمة عليهم السّلام و ينزل اللّه بركات السماء الى الارض حتى ان الشجر ليحمل من الثمار حتى تنكسر اغصانه،و يأكل الشيعة ثمار الشتاء في الصيف و ثمر الصيف في الشتاء كما قال سبحانه وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ و يفتح اللّه على الشيعة من كراماته بحيث لا يخفى عليهم خبر حتى ان المؤمن ليخبر اهله في كل ما يصدر منهم.

و في الروايات ان الحسين عليه السّلام اوّل من تنشق عنه الارض و يحكم في الدنيا مدّة طويلة حتى يقع شعر حاجبيه على عينيه،و قد روى في تفسير قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنٰا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ان الحسين عليه السّلام يظهر مع السبعين الذين استشهدوا معه و على رؤوسهم التيجان،و في بعض الروايات انه يخرج مع الحسين عليه السّلام سبعين نبيا كما كانوا مع موسى عليه السّلام و كلهم يبلّغ الناس ان هذا الحسين بن علي عليهما السّلام قد خرج حتى لا يشكّ فيه احد،و حتى يعرفوا انه غير الدجال و غير الشيطان،و في ذلك الوقت يكون القائم عليه السّلام بينهم،فاذا استقر امر الحسين عليه السّلام في قلوب المؤمنين قرب اجل المهدي عليه السّلام و توفى فيتولى الحسين عليه السّلام غسله و كفنه و حنوطه و الصلوة عليه، لان الامام لا يغسله و لا يصلي عليه الا الامام،و في رواية اخرى ان الحسين عليه السّلام يملك الدنيا كلها بعد وفاة المهدي عليه السّلام ثلاثمائة سنة و تسع سنين،فاذا توفى الحسين عليه السّلام ظهر امير المؤمنين عليه السّلام حتى يكون نوبة دولته عليه السّلام.

و في الاخبار الكثيرة عن بريد العجلي انه سأل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه تعالى في اسماعيل إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ الْوَعْدِ ما المراد باسماعيل هذا أ هو ابن ابراهيم،فقال عليه السّلام لا بل هو اسماعيل بن حزقيل بعثه اللّه الى جماعة فكذبوه و سلخوا جلد وجهه و رأسه فبعث اللّه عليهم ملك العذاب و هو سطاطائيل فأتى الى اسماعيل و قال ان اللّه ارسلني اليك بما تأمر في عذابهم،فقال اسماعيل عليه السّلام لا حاجة لي في عذابهم،فأوحى اللّه سبحانه اليه ان كان لك حاجة اليّ فاطلبها،فقال يا ربّ انك اخذت علينا معاشر الانبياء ان نوحدك و نقرّ بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و بإمامة الائمة عليهم السّلام،و اخبرت الخلايق بما يفعل الظالمون بولده الحسين و وعدت الحسين

ص:67

عليه السّلام الرجوع الى الدنيا حتى يأخذ ثاره و ينتقم من ظالميه فحاجتي يا رب ان ترجعني في زمانه لاجل اخذ ثاري و اقتل من قتلني،فقبل اللّه حاجته و جعله من الذين يرجعون في زمان الحسين عليه السّلام و في رواية أخرى ان الحسين عليه السّلام يرجع الى الدنيا مع خمسة و سبعين الفا من الرجال.

و روى عاصم بن حميد عن الباقر عليه السّلام قال ان امير المؤمنين عليه السّلام خطب خطبة ذات يوم فحمد اللّه فيها و اثنى عليه بالوحدانية،و قال ان اللّه سبحانه قد تكلم بكلمة فصارت نورا فخلق منه نور النبي و نوري و نور الائمة و تكلّم بكلمة اخرى فصارت روحا فاسكنها في ذلك النور و ذلك النور مع تلك الارواح ركّبها في ابداننا معاشر الائمة،فنحن الروح المصفّاة و نحن الكلمات التامات و نحن حجة اللّه الكاملة على الخلق،فنحن كنّا نورا اخضر حيث لا شمس و لا قمر و لا ليل و لا نهار و لا مخلوق من المخلوقات،و كنا نسبح اللّه و نقدسه قبل خلق الخلق، فأخذ اللّه لنا العهد من ارواح الانبياء على الايمان بنا و على نصرتنا،و هذا معنى قوله سبحانه وَ إِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ فقال عليه السّلام يعني الايمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و نصرة وصيه،و هذه النصرة صارت قريبة،و قد اخذ اللّه الميثاق منّي و من نبيه لينصر كل منّا صاحبه،فأما انا فقد نصرت النبي صلّى اللّه عليه و آله بالجهاد معه و قتلت اعدائه و اما نصرته لي و كذا نصرة الانبياء عليهم السّلام فلم تحصل بعد،لانهم ماتوا قبل امامتي و بعد هذا سينصروني في زمان رجعتي،و يكون لي ملك ما بين المشرق و المغرب و يخرج اللّه لنصرتي الانبياء من آدم الى محمد يجاهدون معي،و يقتلون بسيوفهم الكفار الاحياء و الكفار الاموات الذين يحييهم اللّه تعالى،و اعجب و كيف لا اعجب من اموات يحييهم اللّه تعالى يرفعون اصواتهم بالتلبية فوجا فوجا لبيك يا داعي اللّه و يتخللون اسواق الكوفة و طرقها، حتى يقتلون الكافرين و الجبارين و الظالمين من الاولين و الاخرين حتى يحصل لنا ما وعدنا اللّه ثم تلا هذه الاية وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً.

قال عليه السّلام يعني يعبدونني و لا يتقون من احد لان لي رجعة بعد رجعة و حيوة بعد حيوة انا صاحب الرجعات و صاحب الصولات و صاحب الانتقامات و صاحب الدولة العجيبة انا حصن الحديد و انا عبد اللّه و اخو رسوله و انا أمين اللّه على علمه و صندوسرة و حجابه و صراطه و ميزانه و كلمته و انا أسماء اللّه الحسنى و امثاله العليا و اياته الكبرى انا صاحب الجنه في جنتهم و اهل النار في نارهم و انا الذى ازواج اهل الجنه و الى مرجع هذا الخلق في القيمه و على حسابهم و انا المؤذن على الاعراف و انا الذي اظهر اخر الزمان في عين الشمس و انا دابه

ص:68

الارض التي ذكرها اللّه في الكتاب اظهر اخر الزمان و معى عصى موسى و خاتم سليمان اضعه في وجه المؤمن و الكافر فتنقش فيه هذا مؤمن حقا و هذا كافر حقا،و انا امير المؤمنين و امام المتقين و لسان المتكلمين و خاتم اوصياء النبيين و وارثهم و خليفت اللّه على العالمين و انا الذي علمنى اللّه علم البلايا و المنايا و علم القضابين الناس و انا الذي سخر لي الرعد و البرق و السحاب الظلمة و النور و الرياح و الجبال و البحار و الشمس و القمر و النجوم ايها الناس إسألوني عن كل شىء و عن الصادق عليه السّلام ان الشيطان لما قال رب انظرني الى يوم يبعثون قال انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم فيخرج الشيطان مع عساكره و توابعه من يوم خلق آدم الى يوم الوقت المعلوم و هو آخر رجعه يرجعها امير المؤمنين عليه السّلام فقال الراوي لامير المؤمنين عليه السّلام من رجعة؟فقال ان له رجعات و رجعات،و ما من امام في عصر من الاعصار الا يرجع معه المؤمنون في زمانه و الكافرون فيه حتى يستولي اولئك المؤمنون على اولئك الكافرين فينتقمون منهم فاذا جاء الوقت المعلوم ظهر امير المؤمنين عليه السّلام مع اصحابه و ظهر الشيطان مع اصحابه، فيتلاقى العسكران على شطّ الفرات في مكان اسمه الروحا قريب الكوفة،فيقع بينهم حرب لم يقع في الدنيا من اوّلها و آخرها و كأني ارى اصحاب امير المؤمنين عليه السّلام قد رجعوا منهزمين حتى تقع ارجلهم في الفرات فعند ذلك يرسل اللّه سحابة مملوة من الملائكة يتقدمها النبي صلّى اللّه عليه و آله و بيده حربة من نور،فاذا نظر الشيطان اليه ادبر فارّا،فيقول له اصحابه الى اين تفرّ و لك الظفر عليهم فيقول اني أرى ما لا ترون اني اخاف من عقاب رب العالمين،فيصل النبي صلّى اللّه عليه و آله و يضربه ضربة بالحربة بين كتفيه فيهلك بتلك الضربة هو مع جميع عساكره،فعند ذلك يعبد اللّه على الاخلاص و يرتفع الكفر و الشرك،و يملك امير المؤمنين عليه السّلام الدنيا اربعين الف سنة و يولد لكل واحد من شيعته الف ولد من صلبه في كل سنة ولد،و عند ذلك يظهر البستانان عند مسجد الكوفة الذي قال اللّه تعالى مُدْهٰامَّتٰانِ و فيهما من الاتساع ما لا يعمله الا اللّه تعالى.

و قد روى في تفسير قوله وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللّٰهِ تُحْشَرُونَ ان اللّه سبحانه قد قرر لكل احد موتا و قتلا،فان كان قد مات قبل الرجعة قتل فيها،و ان كان قد قتل قبلها رجع حتى يموت فيها،و في الاخبار الكثيرة في تفسير قوله تعالى وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا ان تأيولها في الرجعة،لان في القيامة الكبرى يحشر اللّه الخلائق كلهم لا يغادر صغيرة و لا كبيرة كما في الآيات الاخر،و روى عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ان تأويلها في النواصب و السفياني انه يكون طعامهم في الرجعة العذرة،و في احاديث المعراج يا محمد ان عليا يكون في آخر من قبض روحه من الائمة و هو دابة الارض الذي يكلم الناس.

ص:69

و في الروايات عن الصادق عليه السّلام قال ان امير المؤمنين عليه السّلام يرجع مع ابه الحسين عليه السّلام رجعة،و ترجع معه بنو امية و معاوية و آل معاوية و كلّ من قاتله فيعذبهم بالقتل و غيره،و يرجع اللّه من اهل الكوفة ثلاثين الفا و من سائر الناس سبعين الفا و يتلاقون للحرب مع معاوية و اصحابه بصفين في الموضع الذي كان فيه ذلك الحرب فيقتلون معاوية و اصحابه في ذلك المكان،ثم يحيهم اللّه سبحانه مرة فيعذبهم مع فرعون و آل فرعون اشدّ العذاب،ثم يرجع امير المؤمنين عليه السّلام مرة اخرى مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و جميع الانبياء عليهم السّلام فيدفع النبي صلّى اللّه عليه و آله علمه الى امير المؤمنين عليه السّلام و يكون كل الانبياء تحت ذلك العلم،و يكون الائمة عليهم السّلام عمالا له في البلدان و حكاما من تحت يده فيعبد اللّه علانية بدون تقية،و يعطي اللّه نبيه من الملك ما يوازي ملك جميع الدنيا من اولها الى آخرها حتى يكون قد انجز له ما وعده و في الحديث انه اذا قرب قيام القائم يكون في جمادي الاخرة و عشرة ايام من رجب مطر ما رأى الخلائق مثله،فينبت عليه لحوم المؤمنين في قبورهم،كأني انظر اليهم قد اقبلوا من جانب جهينة ينفضون التراب من فوق وجوههم.

و في الرواية انه يقوم مع القائم سبعة و عشرون رجلا منهم خمسة عشر رجلا من قوم موسى الذين كانوا يهدون الناس بالحق و به يعدلون،و سبعة و هم اصحاب الكهف،و يوشع بن نون وصي موسى،و سلمان الفارسي،و ابو دجانة الانصاري و المقداد و مالك الاشتر فيكونون حكاما من جانبه،و روى انه اذا قام القائم بعث اللّه الى كل قبر من قبور المؤمنين ملكا يناديه هذا امامك قد ظهر فان اردت ان تحيى و تلحق به،و ان اردت ان تلقى في النعيم الى يوم القيامة في مكانك،و عن الصادق عليه السّلام ان النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا رجع ملك الدنيا خمسين الف سنة و ملكها امير المؤمنين عليه السّلام اربعة و اربعين الف عام،و روى في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرٰادُّكَ إِلىٰ مَعٰادٍ قال و اللّه ما تنقضي الدنيا حتى يرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امير المؤمنين عليه السّلام فيلتقيان في النجف و يبنى مسجدا في ظهر الكوفة يعلّق عليه اثنى عشر الف باب،و روى ابن طاووس ان عمر الدنيا مأة الف سنة يكون منها عشرون الف سنة ملك جميع اهل الدنيا و يكون ثمانون الف سنة منها مدّة ملك آل محمد.

و عن الصادق عليه السّلام قال كأني انظر الى سرير من النور و فوقه قبّة من الياقوت الاحمر مزيّنة بأنواع الجواهر و الحسين عليه السّلام جالس فوق ذلك السرير و في حوله تسعون الف قبّة خضراء و المؤمنون يأتون الى السلام عليه فوجا فوجا،فينادي مناد من اللّه تعالى ايها المؤمنون اسألوني حوائجكم فلقد ظلمتم و اوذيتم فيّ،فلا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا و الاخرة الا قضيتها، و يؤتى اليهم بطعامهم و شرابهم من الجنة،و قد ورد في الاخبار الكثيرة ان اللّه تعالى يرجع في

ص:70

دولة المهدي عليه السّلام جماعة من الاخيار و جماعة من الاشرار من محّض الايمان محضا او محض الكفر محضا،و الباقون ملهى عنهم الى يوم القيامة،و قد عرفت ان الآيات دالّة عليه ايضا و الاخبار الدالة على رجوع الحسين و امير المؤمنين عليه السّلام متواترة،و في رجوع سائر الائمة قريبة التواتر،فلقد نقل منها بعض مشايخنا تقريبا من مأتي حديث عن اربعين رجلا من ثقاة المحدثين من خمسين اصلا من الاصول المعتبرة.

و روى السيد بن طاووس في كتاب مصباح الزائر عن الصادق عليه السّلام انه قل من دعا بهذا الدعاء اربعين صباحا كان من انصار القائم عليه السّلام و ان مات قبل ظهوره عليه السّلام احياه اللّه تعالى حتى يجاهد معه،و يكتب له بعدد كل كلمة منه الف حسنة و يمحى عنه الف سئية و هو هذا الدعاء الشريف المبارك بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم ربّ النور العظيم و الكرسي الرفيع و رب البحر المسجور و منزل التورية و الانجيل و الزبور،و رب الظل و الحرور و منزل القرآن العظيم و رب الملائكة المقربين و الانبياء و المرسلين اللهم اني اسألك بوجهك الكريم و بنور وجهك المنير و ملكك القديم يا حي يا قيوم اسألك بإسمك الذي اشرقت به السموات و الارضون و بإسمك الذي يصلح به الاولون و الاخرون يا حي قبل كل حي يا حي بعد كل حي يا حي حين لا حي يا محيي الموتى و مميت الاعداء يا حي لا اله الا انت،اللهم بلّغ مولانا الامام الهادي المهدي القائم بأمرك صلوات اللّه عليه و على آبائه الطاهرين عن جميع المؤمنين و المؤمنات في مشارق الارض و مغاربها و سهلها و جبلها و برّها و بحرها عني و عن والدي من الصلوات زنة عرش اللّه و مداد كلماته و ما احصاه علمه و احاط به كتابه،اللهم اني اجدد له في صبيحة يومي هذا و ما عشت في ايامي ايام حيوتي عهدا و عقدا و بيعة له في عنقي لا احول عنها و لا ازول ابدا،اللهم اجعلني من انصاره و اعوانه و الذابين عنه و المسارعين اليه في قضاء حوائجه و الممتثلين لاوامره و نواهيه و المحامين عنه و السابقين الى ارادته و المستشهدين بين يديه،اللهم ان حال بيني و بينه الموت الذي جعلته على عبادك حتما مقضيا فاخرجني من قبري مؤتزرا كفني شاهرا سيفي مجردا قناتي ملبيا دعوة الداعي في الحاضر و البادي،اللهم ارني الطلعة الرشيدة و الغرة الحميدة، و اكحل ناظري بنظرة مني اليه و عجّل فرجه و سهّل مخرجه و اوسع منهجه و اسلك بي محجته و انفذ امره و اشدد ازره،و قو ظهره و اعمر اللهم به بلادك و احي به عبادك فانك قلت و قولك الحق ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت ايدي الناس فاظهر اللهم لنا وليك و ابن وليك و ابن بنت نبيك المسمى باسم نبيك(رسولك خ)حتى لا يظفر بشيء من الباطل الا مزقه و يحق الحق و يحققه،و اجعله اللهم مفزعا لمظلوم عبادك و ناصرا لمن لا يجد له ناصرا غيرك،و مجددا لما عطّل من احكام كتابك و مشيدا لما ورد من اعلام دينك و سنن نبيك صلّى اللّه عليه و آله و اجعله ممن حصنته من

ص:71

بأس المعتدين،اللهم سرّ نبيك محمد صلّى اللّه عليه و آله برؤيته و من تبعه على دعوته و ارحم استكانتا بعد اللهم اكشف هذه الغمة عن الامة بحضوره و عجّل لنا ظهوره انهم يرونه بعيدا و نريه قريبا برحمتك يا ارحم الراحمين.

و روى عن الصادق و الكاظم عليهما السّلام قالا لو قد قام لحكم بثلاث لم يحكم بهنّ احد قبله، يتقل الشيخ الزاني و مانع الزكوة،و يورث الاخ في الاظلة،و روى عن الصادق عليه السّلام انه قال رجل لعمّار بن ياسر يا ابا اليقظان آية في كتاب اللّه عز و جل افسدت قلبي و شككتني قال عمار و ايّ آية هي؟قال قوله عز و جل إِذٰا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ الاية،فأية دابة هذه؟قال عمار و اللّه ما اجلس و لا آكل و لا اشرب حتى اريكها، فجاء عمار مع الرجل الى امير المؤمنين عليه السّلام و هو يأكل تمرا و زبدا،فقال يا ابا اليقظان إجلس، فجلس عمّار و جعل يأكل معه فتعجب الرجل منه،فلما قام عمار قال الرجل سبحان اللّه يا ابا اليقظان حلفت ان لا تأكل و لا تشرب و لا تجلس حتى ترينيها؟قال عمار قد اريتكها ان كنت تعقل،و روى في تفسير قوله تعالى سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال في الرجعة اذا رجع امير المؤمنين عليه السّلام و يرجع اعدائه فيسمهم كما توسم البهائم على الخراطيم الانف و الشفتان.

و روى في تفسير قوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسٰانُ مٰا أَكْفَرَهُ ان الانسان هنا هو امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام أي ما ذا فعل و ما ذا اذنب حتى قتلتموه،ثم قال من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدّره ثم السبيل يسّره،قال سبيل الخير،ثم اماته فأقبره ثم اذا شاء انشره،قال في الرجعة،كلا لما يقضّ ما امره أي لم يقض ما قد امره،و في الروايات عن امير المؤمنين و الحسنين عليهم السّلام ان اللّه تعالى خلق خلقا على خلاف الجن و النسناس،يدبّون كما تدبّ الهوام في الارض، يأكلون و يشربون كما تأكل الانعام كلهم ذكران ليس فيهم اناث لم يجعل اللّه فيهم شهوة النساء و لا حبّ الاولاد و لا الحرص و لا طول الامل،و لا يلبسهم الليل و لا ايغشاهم النهار،ليسوا ببهائم و لا هوّام،لباسهم ورق الشجر،ثم اراد اللّه ان يفرقهم فرقتين فجعل فرقة خلف مطلع الشمس من وراء البحر،فكوّن لهم مدينة جابرسا طولها اثنا عشر الف فرسخ في اثني عشر الف فرسخ،و كوّن عليها سورا من حديد يقطع الارض الى السماء ثم اسكنهم فيها،و اسكن الفرقة الاخرى خلف مغرب الشمس من وراء البحر،و كوّن لهم مدينة جابلقا طولها و سورها كالاولى،و على كل مدينة منهما سبعون الف الف مصراع من ذهب،و فيها سبعون الف الف لغة،يتكلم كل امة خلاف لغة الاخرى،قال الحسن عليه السّلام و انا اعرف تلك اللغات و ما فيها،و ما عليهما حجة غيري و غير اخي لا يعلم بهما احد من اهل اوساط الارض و لا يعلمون بطلوع الشمس و لا غروبها لانها تطلع من دونهم و تغرب من دونهم و تغرب من دونهم و لكنهم

ص:72

يستضيئون بنور اللّه و لا يرون ان اللّه تعالى خلق شيئا من الكواكب فقيل يا امير المؤمنين فأين ابليس عنهم؟قال لا يعرفونه و لا سمعوا بذكره،و لم يكتسب احد منهم خطيئة لا يسقمون و لا يهرمون و لا يموتون الى يوم القيامة يعبدون اللّه لا يفترون،الليل و النهار عندهم سواء و انهم يبرأون من فلان و فلان قيل له كيف يتبرؤن من فلان و فلان و هم لا يدرون أخلق اللّه آدم أم لم يخلقه؟فقال عليه السّلام أ تعرف ابليس الا بالخبر و قد امرت بعلنه و البرائة منه،و قد وكّل اللّه تعالى بهم ملائكة متى لم يلعنوهما عذبوا،و فيهم جماعة لم يضعوا السّلام مذ كانوا ينتظرون قائمنا يدعون ان يريهم اللّه ايّاه،و يعمر احدهم الف سنة يتلون كتاب اللّه كما علمناهم،و ان فيما نعلمهم ما لو تلى على الناس لكفروا به و لهم خرجة مع الامام اذا قاموا يسبقون فيها اصحاب السلاح فيهم كهول و شبّان،اذا رأى شاب منهم الكهل جلس بين يديه جلسة العبد لا يقوم حتى يأمره،و اذا امرهم الآمر بأمر قاموا عليه ابدا حتى يكون هو الذي يأمرهم بغيره،لهم سيوف من حديد غير هذا الحديد لو ضرب احدهم بسيفه جبلا لقدّه،يغزوا بهم الامام الهند و الديلم،و الكرك و الترك و الروم و بربر.

و عن الصادق عليه السّلام قال قال امير المؤمنين عليه السّلام في قول اللّه عز و جل رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ قال اذا خرجت انا و شيعتي و خرج عثمان بن عفان و شيعته و نقتل بني امية فعندها يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

و اعلم ان الاخبار قد اختلف في مدة ملك القائم عليه السّلام على ما سبق،و من الاخبار ما رواه الخثعمي قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام كم يملك القائم عليه السّلام؟قال سبع سنين يطول له الايام و الليالي حتى تكون السنة من سنينه مكان عشر سنين من سنينكم(سنيكم خ)هذه،و في رواية ابي بصير قال قلت جعلت فداك كيف يطول السنون؟قال يأمر اللّه الفلك بالثبوت و قلّة الحركة فتطول الايام لذلك و السنون،قال قلت انهم يقولون ان الفلك اذا تغيّر فسد قال ذلك قول الزنادقة فأما المسلمون فلا سبيل لهم الى ذلك،و قد شقّ اللّه القمر لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و ردّ الشمس من قبله ليوشع بن نون،و أخبر بطول القيامة و أنه كألف سنة مما تعدّون.

و قال شيخنا الطبرسي قدّس اللّه روحه في اعلام الورى قد جائت الرواية الصحيحة بأنه ليس بعد دولة القائم دولة لاحد الا ما روى من قيام ولده عليه السّلام ان شاء اللّه تعالى،و لم ترد به الرواية على القطع و البتات،و أكثر الروايات ان القائم عليه السّلام لن يمضي من الدنيا الا قبل يوم القيامة بأربعين يوما يكون فيه الهرج و المرج،و تغلق فيه ابواب التوبة و هو علامة خروج الاموات و قيام الساعة،اقول الحق ان الاخبار الواردة في باب الرجعة مختلفة جدا مع كثرتها، فمن جملة اختلافها ترتيب ملك الائمة عليهم السّلام و كيفية حكمهم في الدنيا،أ هو على طريق الاجتماع

ص:73

ام على طريق الانفراد،و في أي دولة و ملك يتصّل بالقيامة من ملكهم عليهم السّلام،و الذي يخطر بالبال في وجه الجمع هو امران.

الاول ان ملكهم دولتهم و ان تعددت لكنها في حكم دولة واحدة سواء كان ملكهم في زمان واحد ام في ازمنة مختلفة،لانه لا تنافس بينهم في الملك سلطان كل واحد منهم ينسب الى الاخر لاتحاد الغرض لا كسلاطين الدنيا و اذا اجتمعوا عليهم السّلام في محل واحد فمن قدموه منهم في صلاة او غيرها كان هو المقدّم في ذلك الفعل ليس الا نعم اذا كان معهم في ذلك المكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امير المؤمنين عليه السّلام فالظاهر انه لم يتقدمهما احدّ من الائمة عليهم السّلام على ما ورد في كثير من الاخبار،و اما من قال بأن ذلك العصر لما كان منسوبا الى المهدي عليه السّلام فينبغي ان يكون هو رئيس تلك العصر و المتقدم فيه على غيره فكلامه خال عن التحقيق،و ذلك ان ذلك العصر منسوب اليهم كلهم عليهم السّلام لانه وقت سلطنة الكل و دولتهم لانه لم يملك احد منهم قبل ذلك الزمان ملكا بالاستقلال لان عليا عليه السّلام قد ملك سلطان لم يتمكن فيه من عزل شريح القاضي و لا من عزل من نصبه المختلفون الثلاثة،و لا قدر على محو بدعة ابتدعوها،بل يمكن ان يقال ان نسبة تلك الدولة المستقبلة الى امير المؤمنين عليه السّلام و الحسنين عليهما السّلام اكثر من نسبته الى المهدي عليه السّلام و ذلك لان الغرض الاصلي من تلك الدولة الاخذ بالحقوق الماضية و قصاص الظالمين على ما وقع منهم،و لم يقع ظلم على أحد من مخلوقات اللّه كعشر معشار ما وقع عليهما،و اما المهدي عليه السّلام فهو و ان وقع عليه ظلم عظيم لكنه لا يصل الى ذلك الحدّ و بالجملة فهي دولة واحدة و ملك غير متعدد فينسب عقيب هذا الى ذلك و بالعكس.

الثاني انك قد عرفت ان كل واحد من الائمة عليهم السّلام يقال له القائم و المهدي لوجود ذلك المعنى فيه،فما ورد في الاخبار من ان الدنيا لا تبقى بعد القائم اكثر من اربعين يوما يجوز ان يكون المراد منه امير المؤمنين و الحسين عليهما السّلام،و هذا بعض احوال القائم عليه السّلام،روى المعلى بن خنيس عن الصادق عليه السّلام قال ان يوم النيروز و هو اليوم الذي أخذ فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله العهد فيه بغدير خم فاقرّوا فيه بالولاية،فطوبى لمن ثبت عليها و الويل لمن نكثها،و هو اليوم الذي وجّه فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام الى وادي الجنّ فأخذ عليهم العهود و المواثيق،و هو اليوم الذي يظهر فيه قائمنا اهل البيت و ولاة الامر و يظفر بالدجال فيصلبه على كناسة الكوفة و ما من يوم نيرووز الا و نحن نتوقع فيه الفرج لانه من ايامنا،حفظه الفرس و ضيعتموه،ثم ان نبيا من بني اسرائيل سأل ربه ان يحيى القوم الذين خرجوا من ديارهم و هم الوف حذر الموت فأماتهم اللّه فأوحى اللّه اليه ان صبّ الماء عليهم في مضاجعهم فصبّ عليهم الماء في هذا اليوم فعاشوا و هم ثلاثون

ص:74

الفا،فصار صبّ الماء في يوم النيروز سنة ماضية لا يعرف سببها الا الراسخون في العلم و هو اوّل يوم من سنة الفرس.

و روى المعلّى ايضا قال دخلت على ابي عبد اللّه عليه السّلام صبيحة يوم النيروز فقال يا معلّى أ تعرف هذا اليوم؟قلت لا لكنّه يوم تعظمه العجم و تبارك فيه،قال كلا و البيت العتيق الذي ببطن مكة ما هذا اليوم الا لامر قديم افسّره لك تعلمه فقل لعلمي هذا من عندك احبّ اليّ من ان اعيش ابدا و يهلك اللّه اعدائكم،فقال يا معلّى يوم النيروز يوم النيروز هو اليوم لذي اخذ اللّه فيه ميثاق العباد ان يعبدوه و لا يشركوا به شيئا،و ان يدينوا برسله و حججه و اوليائه و هو اول يوم طلعت فيه الشمس و هبّت به الرياح اللواقح و خلقت فيه زهرة الارض و هو اليوم الذي احيى اللّه فيه القوم الذين خرجوا من ديارهم و هو الوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثم احياهم،و هو اليوم الذي هبط فيه جبرئيل عليه السّلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و امير المؤمنين عليه السّلام على منكبه حتى رمى اصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشمها.

و اما الدجال فقد عرفت في حديث الصدوق انه يخرج من اصبهان،و في الاخبار الكثيرة انه يخرج من سيستان بلدة من بلاد العجم،و يمكن الجمع بين الاخبار بأنّ له خروجا مكررا كما ان احواله مختلفة عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس اجمعين و اما الذي يقتله فهو المسيح عليه السّلام و لكن بحكم المهدي عليه السّلام بعد ان يفتح الدجال اكثر البلاد و تدخل الخلائق في سلطانه،اما رغبة في حطام الدنيا لما قد عرفت من انه اذا سار الى مكان تسير معه الجبال من الطعام امتحانا للخلق و ابتلاء حتى يتميز الزين من الشين فان ذلك الوقت هو الوقت الذي قال فيه الصادق عليه السّلام و اللّه لتغربلنّ غربلة و لتبلبلنّ بلبلة و لتساطنّ سوط القدر فيجعل اعلاكم اسفلكم،و اسفلكم اعلاكم، و يسبق سبّاقون قد كانوا مقصرين قبل خروج القائم و يتأخر من كان سابقا،و من هذا جاء التشبيه بسوط القدر من اختلاف احواله و كون العالي في بعض الاحوال يصير سافلا في الحال الاخرى و بالعكس كما وقع على الناس بعد موت النبي صلّى اللّه عليه و آله فلقد تأخر من كان متقدما و تقدّم من كان متأخرا أ لا ترى الى طلحة و الزبير مع سبقهما في الاسلام و شدّة جهادهما زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و استقامة احوالهما ذلك الزمان كيف انعكست قضيتهما حتى اخرجا المرأى و قاتلا معها إمامهما الذي بايعاه على رؤوس الاشهاد،و من هنا قال سبحانه أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا متروكا من الابتلاء و الامتحان و اما فلان و فلان و فلان فلم يكونوا في زمانه صلّى اللّه عليه و آله من السابقين في الايمان و الاسلام الا باللسان،كما نقل في الاخبار ان الخليفة الاول قد كان مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و صنمه الذي كان يعبده زمن الجاهلية معلّق بخيط في عنقه ساتره بثيابه،و كان

ص:75

يسجد و يقصد ان سجوده لذلك الصنم الى ان مات النبي صلّى اللّه عليه و آله فأظهروا ما كان في قلوبهم و قد تقدّم في مجمل احوالهم.

و اما المجتهدون منهم فقد انكروا رجعة المهدي عليه السّلام و شنّعوا علينا تشنيعا كثيرا نظما و نثرا و نسبونا في توقّع القائم عليه السّلام الى طلب المحال فكان شعراؤهم يخاطبون محبوبهم بأنّ طمعنا في و صالك قد صار كطمع الروافض في انتظار القائم،يعني ان ذلك محال و هذا مثله و اما ابو حنيفة فقد روى صاحب كتاب الاحتجاج انه قال يوما لمؤمن الطاق انكم تقولون بالرجعة؟قال نعم،قال ابو حنيفة فاعطني الان الف درهم حتى اعطيك الف دينارا اذا رجعنا،قال الطاقي فاعطني كفيلا بأنك ترجع انسانا و لا ترجع خنزيرا او قردة و اما شيخهم الغزالي فذهب في احيائه الى ان الرافضي اذا جاء يطلب بدمه نقول له ان الدم الذي تطلبه هدر في هذه الاوقات لانه موقوف على إمامك الغائب فاحضره لنا حتى نمكنك من دمك و الاخذ به،و نحن نقول له ان ذلك القاتل ان كان من جماعتكم قلنا الاذن في قتله من ائمتنا عليهم السّلام و انهم قالوا انّ دم المخالف كفارته و ديته تيس و التي خير منه،هذا اذا لم يقتل و اما اذا تعدّى على مواليه الشيعة و قتل منهم فهو من باب العبد اذا قتل مولاه فالاذن لنا حاصل في القتل لكن هذا الزمان زمان هدنة و تقية فتأخر هذا الحكم عنكم لمصالح،و اما اذا كان القاتل من الشيعة فان كنتم تخافون اللّه تعالى فارجعوهم الى علماء دينهم ليحكموا بحكم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فان قلت رويت في هذه الاخبار ان القائم عليه السّلام لا يقبل من احد من اهل الملل و الاديان الا القتل او الايمان،و قد روى الكليني طاب ثراه عن الباقر عليه السّلام انه اذا قام القائم عرض الايمان على كل ناصب فان دخل فيه بحقيقة و الا ضرب عنقه او يؤدي الجزية كما يؤديها اليوم اهل الذمة،و يشدّ على وسطه الهيمان و يخرجهم من الامصار الى السواد فما وجه التوفيق بين هذه الاخبار،قلت اما شيخنا المعاصر سلّمه اللّه تعالى فقد صار الى الاخبار السابقة،و اول هذا الخبر بأنه محمل على زمان اول ظهوره و ابتدائه و عند ما يستقل بالامر يقتل اهل الرايات و ذوي الرايات و الخروج يعمد الى النواصب فلا يقبل منهم الا الايمان او القتل،و اما نحن فالذي يظهر لنا هو تأويل تلك الاخبار و ان القتل فيها اما محمول على الاكثر باعتبار وقوعه برؤسائهم و من لا يقبل الجزية منهم،و اما بحمله(نحمله خ)على ارادة ما يعمّ الهوان و المذلة فان من كان منهم سلطانا في هذه الاعصار اذا حصل عليه أنواع الهوان و الذلّ كان القتل اهون عليه من تلك الحال،و يؤيده ان الشيعة في ذلك العصر يكونون حكّاما و لا ريب انهم يحتاجون الى رعايا يدخلون تحت حكمهم و يقومون بخدمتهم و لا يناسبه ان يكونوا من الشيعة ايضا بل ينبغي ان

ص:76

يكونوا من اهل المذاهب الباطلة و الاديان العاطلة،و لنرجع الان الى احوال امثالنا من الناس و لما كان الانسان محتاجا في اموره و اسفاره الى الايام و الساعات و سعودها و نحوسها فلنعقد له نورا.

نور في سعود الايام و نحوسها

اعلم ان الاخبار قد دلّت على ان كل من توكل على اللّه في جميع اموره من غير ملاحظة سعود الايام و نحوسها كان متكفلا بحفظه و حراسته،و قد روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى الصقر بن ابي دلف،قال سألت ابا الحسن الثالث عليه السّلام فقلت حديث روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله لا اعرف معناه،قال و ما هو قلت قوله لا تعادوا الايام فتعاديكم ما معناه فقال نعم نحن الايام ما دامت السموات و الارض،فألسبت اسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،واحد امير المؤمنين عليه السّلام،و الاثنين الحسن و الحسين عليهما السّلام،و الثلثا علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد عليهم السّلام،و الاربعا موسى بن جعفر و علي بن موسى و محمد بن علي و أنا،و الخميس ابني الحسن، و الجمعة ابن ابني و اليه تجمع عصابة الخلق،و هو الذي يملأها قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا،فهذا معنى الايام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الاخرة،ثم قال ودّع و اخرج فلا آمن عليك،اقول الظاهر ان ما اشار اليه عليه السّلام هو تأويل الحديث و بطنه و هو لا ينافي ارادة ظاهره ايضا،فان كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله كالقرآن في ان له ظاهرا و باطنا،و حينئذ فظاهره يرجع الى الردّ على من اخذ نحوس الايام و سعودها من اقوال المنجمين و اضرابهم،و فلا ينافي الاخبار الواردة بذم بعض الايام و الشهور،و حيث انتهى الحال الى هنا فلا بأس بذكر هذه الامور مفصلة من الاخبار و لنبتدء بذكر الشهور فنقول:

روى علي بن طاووس باسناده الى الامام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال ان اليوم الاول من الشهر خلق اللّه فيه آدم و هو يوم مبارك لطلب الحوائج و للدخول على الحكام و السلاطين،و لطلب العلم و التزويج،و للأسفار و البيع و الشراء و شراء الحيوانات و اذا ضلّ فيه حيوان او فقد فأنه يرجع الى صاحبه بعد ثمانية ايام،و اذا مرض فيه مريض فأنه يعافى بأذن اللّه تعالى،و اذا ولد فيه يكون فرحا مستبشرا مباركا الى آخر عمره.

اليوم الثاني خلقت فيه حوا و هو مبارك للتزويج و البنيان و كتابة السجلات و الديون و غيرها،و لطلب الحوائج و اذا مرض المريض في اوله يعافى بخلاف آخره و اذا ولد فيه مولود يكون حسن الرؤية و التربية.

ص:77

اليوم الثالث يوم نحس قد اخرج آدم و حواء فيه من الجنة،و ينبغي ان يكون حاجتك في اصلاحك امور بيتك و لا تخرج فيه الى اغراضك الخارجة عن البيت ما امكنك و لا تدخل فيه على السلاطين و لا تبع فيه و لا تشتر و كل عبد يأبق فيه فأنه يردّ الى مولاه و اذا مرض فيه المريض يصل الى مشقّة شديدة و اذا ولد فيه يكون واسع الرزق طويل العمر.

اليوم الرابع مبارك للزراعة و الصيد و البناء و شراء الحيوانات،و يكره فيه السفر فمن سافر يخاف عليه القتل او نهب المال او البلاء العارض،و فيه تولّد هابيل و يكون المولود فيه مباركا،و اذا ضلّ فيه الابق عسر رجوعه الى صاحبه لانه يلجأ الى ملجأ يعسر رجوعه منه.

اليوم الخامس يوم نحس قد تولّد فيه قابيل و فيه قتل هابيل فلا تلتمس فيه اغراضك و لا تخرج فيه من بيتك،و من حلف فيه يمينا جوزي عليه سريعا و المولود فيه يكون حسن الحال،و في حديث سلمان لا تدخل فيه على السلاطين.

اليوم السادس مبارك لطلب الحوائج و للتزويج و من سافر فيه البر او البحر رجع الى اهله بما طلب،و مبارك فيه شراء الدواب،و اذا ضاع ولد يرجع الى اهله سريعا و المولود يكون فيه حسن الحال سالما من الافات و هو مبارك للصيد و طلب المعاش،و في رواية سلمان ان الطيف الذي يرى فيه يظهر تفسيره بعد يوم او يومين.

اليوم السابع مبارك لطلب الحوائج و من شرع فيه بمشق او كتابة فأنه يصير كاملا على احسن الوجوه،و من ابتدء فيه ببناء او تزويج حسن العاقبة،و المولود فيه يكون حسن التربية واسع الرزق و هو يوم مبارك للصيد.

اليوم الثامن مبارك للحوائج و من دخل فيه على السلطان قضيت حاجته و يكره فيه سفر البر و البحر و ارتكاب الحروب،و المولود فيه يكون مبارك الولادة،و الابق فيه لا يحصل في اليد الا بتعب عظيم،و من ضلّ عن الطريق لا يصل اليه الا بعد مشقة شديدة و المريض فيه ينال فيه تعبا و مشقة،و في رواية أخرى انه مبارك لكل شيء الا للسفر و في رواية سلمان انه مبارك لكل شيء.

اليوم التاسع مبارك لابتداء الاغراض و الحوائج و مبارك للقرض و الزراعة و غرس الاشجار و للظفر على الاعداء و من سافر فيه لقى الخير و ينجو من فرّ فيه من العدو،و من مرض فيه سكن عنه الم المرض و كل ما ضاع فيه يصل الى اهله،و المولود فيه يكون مباركا على جميع الاحوال و موفقا و رزقه واسع،و في رواية سلمان ان من رأى فيه طيفا ظهر اثره في ذلك اليوم.

اليوم العاشر تولّد فيه نوح عليه السّلام و المولود فيه يكون عمره طويلا و رزقه واسعا و هو مبارك لبيع و الشراء و السفر،و اذا ضاع فيه شيء وجد و الابق فيه يرجع الى صاحبه و اذا مرض فيه

ص:78

مريض فهو حقيق بأن يوصي،و هو مبارك للبذر و الحرث و لبيع السلف و في رواية سلمان ان اثر الطيف الذي يرى فيه يظهر بعد عشرين يوما.

الحادي عشر تولّ فيه شيث عليه السّلام و هو مبارك لقضاء الحوائج و للبيع و الشراء،و للسفر، و ينبغي ان يحترز فيه عن الدخول على السلاطين،و الابق فيه يرجع باختياره سريعا،و المريض فيه يرجى له الشفاء سريعا،و من ولد فيه يكون طيّب العيش في حياته،و لكن لا بدّ له قبل موته من فرار من السلطان،و في رواية سلمان ان اثر الطيف فيه يظهر بعد عشرين يوما.

الثاني عشر مبارك للتزويج و لفتح الحوانيت و للشراكة و لسفر البحر،و في هذا اليوم لا ينبغي ان يصير الانسان واسطة بين اثنين،و المريض فيه يرجى له الشفاء،و المولود فيه يكون سل التربية و الابق فيه يرجع،المولود فيه يكون طويل العمر و لا يفتقر مدّة عمره.

الثالث عشر يوم نحس فليتحرز فيه عن الجدال و النزاع و الدخول على الملوك و السلاطين و حلق الرأس و مسحه بالدهن و جميع الحوائج،و الابق فيه لا يرجع و لا يحصل سريعا،و من مرض فيه يناله التعب،و المولود فيه لا يكون عمره طويلا،و في رواية سلمان ان اثر الطيف فيه يظهر الى تسعة.

اليوم الرابع عشر مبارك لطلب الحوائج و المولود فيه يكون ظالما،و يكون مبارك لطلب العلم،و البيع و الشراء و السفر و اخذ القرض و لركوب البحر،و يرجع الابق فيه و المريض فيه يعافى ان شاء اللّه تعالى و المولود فيه يكون طويل العمر راغبا في تحصيل العلوم و يكون غنيّا في آخر عمره،و في رواية سلمان انه مبارك للدخول على السلاطين و المنام فيه يقع بعد عشرين.

يوم الخامس عشر مبارك لجميع الامور الا لاخذ القرض و كتابة القبالة و الابق فيه يرجع سريعا و المريض فيه عافى سريعا،و المولود فيه يكون اخرسا،و في رواية سلمان ان المنام فيه يظهر اثره بعد ثلاثة ايام.

السادس عشر يوم نحس لا يصلح لطلب الحوائج و لكن يكون الشروع في البنيان مباركا فيه،و المسافر فيه يكون هالكا و الابق فيه يرجع سريعا،و الضالّ فيه عن الطريق يكون سالما و المريض فيه يعافى سريعا،و المولود فيه قبل الزوال يكون مجنونا،و اذا تولد بعد الزوال يكون حسن الحال،و في رواية سلمان ان المنام فيه يظهر اثره بعد يومين.

السابع عشر يوم وسط فاحذر فيه من المجادلة و من اعطاء القرض و اخذه فمن اعطى فيه قرضا لم يرجع اليه و من اخذ فيه قرضا لم يوفق لادائه،و المولود فيه يكون حسن الاحوال و في رواية أخرى ان الحجامة فيه موجبة للشفاء.

ص:79

الثامن عشر يوم مبارك لطلب الحوائج من البيع و الشراء و الحرث و السفر،و اذا تخاصم احد مع خصمه فيع غلب عليه،و القرض فيه يرجع الى صاحبه و من مرض فيه عوفى،و المولود فيه يكون مباركا.

التاسع عشر يوم مبارك قد تولّد فيه اسحاق عليه السّلام و السفر فيه مبارك و السعي في الرزق و في الحوائج و تعلّم العلوم،و لا يصلح فيه شراء الرقيق و الدواب و الضال و الابق فيه يرجع بعد خمسة عشر يوما و المولود فيه يوفق للخيرات.

العشرون من اوسط الايام و مبارك للسفر و قضاء الحوائج و للبناء و لصنع عريش الشجر و لشراء الدواب،و من ضلّ فيه عن الطريق خيف عليه الهلاك،و المريض فيه يكون صعب المرض و المولود فيه يكون ضيّق المعاش.

الحادي و العشرون يوم نحس فلا تطلب فيه الحوائج و احذر فيه من السلطان و الدخول عليه،و المسافر فيه يخاف عليه الهلاك و المتولّد فيه يكون فقير الاحوال،و في رواية اخرى انه لا ينبغي ان يفعل فيه الا ذبح الحيوانات.

الثاني و العشرون مبارك لطلب الحوائج و البيع و الشراء و للدخول على السلاطين و الصدقة فيه مقبولة و المريض فيه معافى سريعا،و المسافر فيه يرجع بعافية و في صحة،و في حديث آخر انه يوم خفيف يصلح فيه جميع الاغراض.

الثالث و العشرون تولّد فيه يوسف عليه السّلام و مبارك لطلب الحوائج و التجارات و للدخول على السلطان و للتزويج و المسافر فيه يرجع بغنيمة و خير و المولود فيه يكون حسن التربية.

الرابع و العشرون يوم نحس تولّد فيه فرعون فلا تلتمس فيه طلب الحوائج،و من تولّد يصعب عليه معاشه في الدنيا و لا يوفّق للخير،و في آخر عمره إما يقتل او يغرق و المريض فيه يطول عمره.

الخامس و العشرون يوم نحس فاحفظ نفسك فيه و لا تخرج فيه بغير حاجة و فيه ابتلاء (ابتلى خ)اللّه سبحانه قوم فرعون في مصر بآيات العذاب و المريض فيه يبتلى بمرض صعب لكن ينجو منه،و في رواية سلمان الجأ الى اللّه من شر هذا اليوم بالدعاء و الصلوة و عمل الخير.

السادس و العشرون مبارك للسفر و لجميع الامور الا للتزويج فان من تزويج فيه يقع الفراق بينه و بين زوجته لانه اليوم الذي فرّق اللّه فيه البحر لموسى عليه السّلام و المسافر لا ينبغي ان يدخل منزله في هذا اليوم،و المريض فيه يكون حاله صعبا و المولود فيه يكون طويل العمر.

السابع و العشرون مبارك للحوائج و المولود فيه يكون حسن الخلق و الخلق طويل العمر مع سعة المعاش محبوب القلوب،و في رواية أخرى انه مبارك فيه السفر.

ص:80

الثامن و العشرون مبارك للحوائج و فيه تولد يعقوب عليه السّلام و المولود فيه يكون كثير الهمّ و الغمّ و يبتلى بأمراض العين،و برواية سلمان ان الطيف فيه يظهر اثره بعد عشرين يوما.

التاسع و العشرون مبارك لجميع الحوائج و المولود فيه يكون حليما و من سافر فيه حصّل مالا كثيرا و من مرض فيه البسه اللّه العافية،و فيه ينبغي ان يكتب الانسان وصيته و في رواية اخرى انه مبارك لجميع الحوائج خصوصا للدخول على السلاطين و الدخول على الاخوان و المحبين و في رواية سلمان ان الطيف فيه يظهر اثره في ذلك اليوم.

الثلاثون مبارك للبيع و الشراء و التزويج،و المولود فيه يكون حليما مباركا و الابق فيه يرجع الى صاحبه و من ضيّع فيه شيئا لقيه و من استقرض فيه شيئا وفّق لادائه سريعا،و عن الكاظم عليه السّلام لا تترك فيه الحجامة فان تركته فيه لا تتركه في اليوم الرابع.

و اما الايام فالاول يوم الجمعة و هو يوم مبارك و هو عيد احسن الاعياد و يستحب فيه دخول الحمام و حلق الرأس و قصّ الاظفار و اخذ الشارب و يكره السفر فيه قبل الزوال لمكان الصلوة و بعد الزوال يكون السفر مباركا،و في بعض الاخبار ان فيه ساعة من احتجم فيها هلك فلذاكره فيه الحجامة،و في بعض الاخبار تخصيص الكراهة بوقت الزوال،و في بعض آخر ان الحجامة فيها لا بأس بها و عن الكاظم عليه السّلام ان من احتاج الى الحجامة في ليل او نهار فليقرأ آية الكرسي و لحتجم،و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه اذا برد الهوى دخل الى البيت يوم الجمعة للمنام و اذا خرج وقت الحر يخرج ايضا يوم الجمعة و في بعض الروايات ان النورة فيه تورث البرص،و في كثير من الاخبار ان النورة فيه لا بأس بها بل في بعضها تصريح بالاستحباب،و في الاخبار انه يوم نكاح و تزويج و يستحب فيه نسل الشعر و التطيب و لبس الثياب الفاخرة و شراء الثمار فيه لاهل المنزل و غسل الرأس بالسدر او الخطمى و هو مبارك لجميع الامور.

يوم السبت يوم مبارك قال النبي صلّى اللّه عليه و آله بارك اللّه لامتي في سبتها و خميسها،و يبارك فيه كل امر خصوصا الاسفار،و في الحديث انه لو تحرك حجر من موضعه يوم السبت لرده اللّه الى موضعه،و تقليم الاظفار و أخذ الشارب فيه حسن ايضا،و في الحديث ان من قلّم اظفاره يوم السبت و الخميس عافاه اللّه تعالى من وجع الضرس و العين،و ان الحجامة فيه تورث الضعف.

يوم الاحد متوسط من الايام و في الحديث انه مبارك للبناء و الاغراس.

يوم الاثنين انحس الايام و في الحديث ان انحس ايام السنة يوم عاشوراء و انحس ايام الاسبوع يوم الاثنين و هو يوم منسوب الى بني امية جعلوه عيدا لما قتلوا الحسين عليه السّلام،و قد مات فيه النبي صلّى اللّه عليه و آله فلا يبارك فيه شيء من الامور،و في بعض الاخبار ان الحجامة فيه في وقت العصر

ص:81

لا بأس بها و في بعض الاخبار ان الحجامة فيه كله لا بأس بها و قد ورد في الاحاديث النهي عن السفر فيه من غير غرض مهم،و في الروايات ان صبح الاثنين لاكثر الاغراض.

يوم الثلاثاء يوم مبارك قد الان اللّه فيه الحديد لداود عليه السّلام و ان من احتجم فيه و كان هو يوم الرابع عشر او السابع عشر او العشرين شافاه اللّه تعالى من اوجاع كل السنة و في الحديث ان فيه ساعة من احتجم و اتفق فيها لم ينقطع دمه حتى يهلك و ان مات كانت له حاجة مشكلة فليطلب قضاءها يوم الثلاثاء،و في بعض الاخبار النهي عن تقليم الاظفار فيه و في الخبر انه يوم حرب و يوم صلح فيه اخذ الدم.

يوم الاربعاء يوم نحس لاكثر الاغراض و قد ورد النهي فيه عن الحجامة و النورة و السفر و في بعض الروايات تجويز الحجامة و السفر فيه و اذا احتاج الى الحجامة فيه فالاحسن وقوعها في آخر النهار و في الخبر النهي عن الحجامة فيه اذا القمر في العقرب و في الحديث انه جيد لاكل الدواء.

يوم الخميس مبارك لجميع الحوائج خصوصا للحجامة و الاحسن وقوعها قبل الزوال، و يحسن فيه تقليم الاظفار و الاولى ان يترك ظفرا منها ليوم الجمعة،و في الحديث ان النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا احر(احتر خ)الهوى يخرج من البيت للمنام يوم الخميس،و ورد ايضا للدخول على الامراء و لقضاء الحوائج.

و في عيون الاخبار حديث طويل عن امير المؤمنين عليه السّلام قال فيه ثم قام اليه رجل فقال يا امير المؤمنين اخبرني عن يوم الاربعاء و تطيّرنا منه و ثقله و اي اربعاء هو؟فقال آخر اربعاء في الشهر و هو المحاق،و فيه قتل قابيل أخاه،و يوم الاربعاء القى ابراهيم عليه السّلام في النار،و يوم الاربعاء وضعوه في المنجنيق،و يوم الاربعاء اغرق اللّه فرعون و يوم الاربعاء جعل اللّه عز و جل عاليها سافلها،و يوم الاربعاء ارسل اللّه الريح على قوم عاد و يوم الاربعاء اصبحت كالصريم و يوم الاربعاء سلّط على نمرود البقّة،و يوم الاربعاء طلب فرعون موسى عليه السّلام ليقتله،و يوم الاربعاء خرّ عليهم السقف من فوقهم،و يوم الاربعاء امر فرعون بذبح الغلمان،و يوم الاربعاء خرّب بيت المقدس،و يوم الاربعاء حرّق مسجد سليمان بن داود باصطخر من كورة فارس و يوم الاربعاء قتل يحيى بن زكريا عليهما السّلام،و يوم الاربعا اظل فرعون اول العذاب و يوم الاربعا خسف اللّه عز و جل بقارون و يوم الاربعاء ابتلى ايوب عليه السّلام بذهاب اهله و ماله و ولده،و يوم الاربعاء ادخل يوسف عليه السّلام السجن و يوم الاربعاء قال اللّه عز و جل أَنّٰا دَمَّرْنٰاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ و يوم الاربعا اخذتهم الصيحة و يوم الاربعا عقروا الناقة،و يوم الاربعاء شجّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و كسرت رباعيته و يوم الاربعاء امطرت عليهم حجارة من سجيل،و يوم الاربعاء اخذت

ص:82

العمالقة التابوت،و سأله عن الايام و ما يجوز فيها من العمل فقال امير المؤمنين عليه السّلام يوم السبت يوم مكر و خديعة و يوم الاحد يوم غرس و بناء و يوم الاثنين يوم سفر و طلب و يوم الثلاثا يوم حرب و دم،و يوم الاربعا يوم شوم تتطيّر فيه الناس و يوم الخميس يوم الدخول على الامراء و قضاء الحوائج،و يوم الجمعة يوم خطبة و نكاح.

قال المؤلف عفى اللّه عنه الظاهر ان المراد باليوم في اكثر هذه الاخبار ما يشمل الليل ايضا و له شواهد من الاخبار،فان قلت ذكرت تقليم الاظفار و لم تذكر كيفيته،قلت قد وردت اكثر الاخبار مطلقة منها ما رواه الصدوق طاب ثراه عن الحسين بن ابي العلا انه قال للصادق عليه السّلام ما ثواب من اخذ من شاربه و قلّم في كل جمعة،قال لا يزال مطهرا الى الجمعة الاخرى، و قال الباقر عليه السّلام من أخذ من اظفاره و شاربه كلّ جمعة و قال حين يأخذه بسم اللّه و باللّه و على سنّة محمد و آل محمد صلوات اللّه عليهم لم يسقط من قلامة و لا جزازة الا و كتب اللّه عز و جل له بها عتق نسمة،و لم يمرض الا مرضه الذي يموت فيه و نحو ذلك من الاخبار،و هذا دليل على ان الترتيب غير منظور اليه و لكن المروي من فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله الابتداء بالمسبّحة من اليد اليمنى ثم الوسطى و هكذا الترتيب يبدأ باليسرى بالخنصر الى ان يختم بابهام اليمنى.

و قد ذكر له بعض المحققين نكتة لطيفة و هي ان اليد اشرف من الرجل فليبدأ بها و اليمنى اشرف من اليسرى،و اليمنى خمسة اصابع و المسبّحة افضل و هي المشيرة في كلمتي الشهادة من بين الاصابع،ثم بعدها ينبغي ان يبتدأ بما على يمينها اذا الشرع يستحب ادارة الطهور و غيره عن (على خ)اليمنى و ان وضعت ظهر اليد على الارض فالابهام هو اليمنى و ان وضعت الكف فالوسطى هي اليمنى و اليد اذا تركت بطبعها كان الكف مائلا الى جهة الارض اذ جهة حركت اليمنى الى اليسار و استتمام الحركة الى اليسار يجعل ظهر الكف عاليا فما يقتضيه الطبع،ثم اذا وضعت الكف على الكف صارت الاصابع في حكم حلقة دائرة فيقتضي ترتيب الدور الذهاب عن يميني المسبّحة الى ان يعود الى المسبحة فيقع البداية بخنصر اليسرى و الختم بابهامه و يبقى ابهام اليمنى،و انما قدّرت الكف موضوعا على الكف حتى تصير الاصابع كأشخاص في حلقة ليظهر ترتيبها و تقدير ذلك اولى من وضع الكفّ على ظهر الكف او وضع ظهر الكف على ظهر الكف فان ذلك لا يقتضيه الطبع.

قال و اما اصابع الرجل فالاولى عندي ان لم يثبت فيه نقل يبدء بخنصر اليمنى و يختم بخنصر اليسرى كما في التخليل فان المعاني التي ذكرناها لا تتجه هيهنا اذ لا مسبّحة في الرجل و هذه الاصابع في حكم صفّ واحد ثابت على الارض،فيبدأ من جانب اليمنى فان تقديرها حلقة بوضع الاخمص على الاخمص يأباه الطبع بخلاف اليدين انتهى كلامه،و في الفقيه انّ من

ص:83

قلّم اظفاره يوم الجمعة بيدأ بخنصره من اليد اليسرى و يختم بخنصره من اليد اليمنى و الاعتماد عندي على هذا و قد روى عكسه ايضا و اللّه سبحانه و تعالى اعلم بحقيقة الحال.

نور في بعض الاسباب الموجبة

لدفع نحوسة الايام و في احوال شهر محرم الحرام و احوال الكسوف و الخسوف اعلم ان التوكل على اللّه سبحانه من اقوى الاسباب فيه و كذلك الادعية المنقولة و آيات القرآن و التصدق فقد ورد في الحديث إقرأ آية الكرسي و احتجم في كل يوم و تصدّق و سافر في كل يوم تريد،و في الخبر ان الصدقة و الدعاء يردّان البلاء و قد أبرم ابراما و عن سهل بن يعقوب قال دخلت على الهادي عليه السّلام و كان عندي كتاب فيه اخبار عن الصادق عليه السّلام في اختيارات الايام فصححها لي فقلت له ان الانسان قد يضطر في اكثر اوقاته الى السفر في بعض الايام لاغراضه فما يفعل؟ فقال عليه السّلام يا سهل ان ولايتنا و محبتنا تحفظ شيعتنا من كلّ بلاء و مصيبة،لو انّ محبينا و موالينا يسلكون البر و البحر و يدخلون بين السباع و الاعداء من الجنّ و الانس لامنوا شرهم بولايتنا و محبتنا فاعتمد على اللّه و اخلص الولاية لنا ثم علّمه دعاء للاعتصام.

و اما احكام عاشوراء فقد روى الشيخ الراوندي في كتاب القصص عن الصدوق باسناده الى الصادق عليه السّلام قال ان في كتاب دانيال عليه السّلام ان المحرم اذا كان يوم السبت يكون الشتاء باردا و تغلو في الحنطة،و يكثر موت الاطفال و تسلم فيه الزراعة من الافات و يحصل في العنب و بعض الاشجار آفة و ترخص فيه الاسعار،و يقع فيه الطاعون في بلاد الروم و يكون حرب بين الروم و العرب و الظفر للعرب يغنمون اموال الروم و يأسرون ذراريهم و يكون الظفر للسلطان.

و اذا كان المحرم يوم الاحد يكون الشتاء معتدلا و يكون فيه مطر نافع،و يكون فيه انواع الموت و البلاء و يكون العسل قليلا في تلك السنة و يكون في الهوى اثر الطاعون و الوبا،و يكون في آخر السنة غلاء قليل في المأكولات يكون الغلاء للسلطان في آخره و اذا كان يوم الاثنين اول المحرم فانه يكون الشتاء صالحا و يكون في الصيف حرّ شديد و يكثر المطر في اوانه و يكثر العسل و يرخص الطعام و الاسعار في بلدان الجبال و تكثر الفواكه فيها و هي آذربيجان و عراق العجم و الاهواز و فارس،و قيل المراد ببلاد الجبال همدان و ما والاهما،و يكثر تلك السنة موت النساء و في آخر السنة يخرج خارجي على السلطان بنواحي المشرق،و يصيب بعض فارس غمّ و يكثر الزكام في ارض الجبل.

و اذا كان اول المحرم يوم الثلاثا فانه يكون الشتاء البرد و يكثر الغنم و العسل و يصيب بعض الاشجار و الكرم آفة من حدث يحدث في السماء،و يموت فيه خلق و يخرج على السلطان

ص:84

خارجي قوي و تكون الغلبة للسلطان و يكون في ارض فارس في بعض الغلات آفة،و تغلو الاسعار بها في آخر السنة،و اذا كان يوم الاربعاء اول المحرم فان الشتا يكون وسطا و يكون المطر في القيض صالحا نافعا مباركا و تكثر الثمار و الغلات في الجبال كلها و في ناحية المشرق الا انه يقع الموت في الرجال في آخر السنة،و يصيب الناس بأرض بابل و بالجبل آفة و ترخص الاسعار و تسكن مملكة العرب في تلك السنة و يكون الغلبة للسلطان.

و اذا كان يوم الخميس اول المحرم فأنه يكون الشتا ملائما و يكثر القمح و الفواكه و العسل بجميع نواحي المشرق،و تكثر الحمى في اول السنة و في آخره و بجميع ارض بابل في آخر السنة و يكون للروم على المسلمين غلبة ثم تظهر العرب عليهم بناحية المغرب و يقع بأرض السند حروب و الظفر لملوك العرب،و اذا كان يوم الجمعة فانه يكون الشتا بلا برد،و يقلّ المطر و ماء الاودية و العيون،و تقلّ الغلات بناحية الجبال مأة فرسخ في مأة فرسخ و يكثر الموت في جميع الناس،و تغلو الاسعار بناحية المغرب و يصيب بعض الاشجار آفة،و يكون للروم على الفرس كرّة شديدة و غلبة عظيمة.

و اما علامات كسوف الشمس في الاثنى عشر شهرا،فاذا انكسف الشمس في المحرم فان السنة تكون خصيبة الا انه يصيب الناس اوجاع كثيرة في آخرها و امراض،و يكون للسلطان الظفر على اعدائه و تكون زلزلة بعدها سلامة،و اذا انكسفت في صفر فأنه يكون فزع و جوع في ناحية المغرب،و يكون قتال في المغرب كثير،ثم يقع الصلح في ربيع الاول و الظفر للسلطان و اذا انكسفت في ربيع الاول فأنه يكون بين الناس صلح و يقل الاختلاف و الظفر للسلطان بالمغرب، و يقل البقر و الغنم و تتسع في آخر السنة الارزاق و يقع الوبا في البدو بالابل(بابل ظ)و اذا انكسفت في شهر ربيع الاول الاخر فأنه يكون بين الناس اختلاف كثير و يقتل منهم خلق عظيم و يخرج خارجي على الملك و يكون فزع و قتال و يكثر الموت في الناس.

و اذا انكشفت في شهر جمادي الاول فانه يكون السعة في جميع الناس بناحية المشرق و المغرب و يكون للسلطان الى الرعية نظر و يحسن السلطان الى اهل مملكته و يراعى جانبهم،و اذا انكسفت في جمادي الاخر فانه يموت رجل عظيم بالمغرب و يقع ببلاد مصر قتال و حروب شديدة و يكون ببلاد المغرب غلاء في آخر السنة،و اذا انكسفت في رجب فانه تعمر الارض و تكون امطار كثيرة و بناحية المشرق،و يكون جراد بناحية فارس و لا يضرهم ذلك.

و اذا انكسفت في شعبان تكون سلامة في جميع الناس من السلطان،و يكون للسلطان ظفر على اعدائه بالمغرب و يقع و باء في الجبال في آخر السنة و يكون عاقبته الى سلامة،و اذا انكسفت في شهر رمضان كان جملة الناس يطيعون عظيم فارس و يكون للروم على العرب كرة

ص:85

شديدة ثم يكون على الروم و يسبى منهم و يغنم و اذا انكسفت في شوال فأنه يكون في ارض الهند و الزنج قتال شديد و يكثر نبات الارض بالمشرق و اذا انكسفت في ذي القعدة فانه يكون مطر كثير متواتر و يقع خراب بناحية فارس.

و اذا انكسفت في ذي الحجة فانه يكون فيه رياح كثيرة و ينقص الاشجار و يقع بالارض من المغرب خراب و يغلو عليهم،و يخرج خارجي على الملك و يصيبه منه شدة و يقلّ طعام اهل فارس ثم يرخص الطعام في السنة الثانية.

في علامات خسوف القمر طول السنة اذا انكسف القمر في المحرم فانه يموت رجل عظيم و تنتقص الفاكهة بالجبال و يقع في الناس حكّة و يكثر الرمد بأرض بابل و يقع الموت و تغلو اسعارها و يخرج خارجي على السلطان و الظفر للسلطان و يقتلهم و اذا انكسف في صفر فأنه يكون جوع و مرض ببابل و بلادها حتى يتخوّف على الناس ثم يكون امطار كثيرة فيحسن نبات الارض و حال الناس و يكون بالجبال فاكهة كثيرة و اذا انكسف في شهر ربيع الاول فانه يقع في المغرب قتال و يصيب الناس يرقان و تكثر فاكهة البلاد بأرض ماه،و يقع الدود في البقول في الجبل و يقع خراب كثير بماه و اذا انكسف في شهر ربيع الاخر فانه يكثر الانداء و هي الرطوبات و المياه بالجبال و يكثر الخصب و المياه بالجبال،و تكون السنة مباركة و يكون للسلطان الظفر بالمغرب و اذا انكسف في جمادي الاولى فانه يهراق دماء كثيرة بالبدو و يصيب عظيم الشام بليّة شديدة،و يخرج خارجي على السلطان و الظفر للسلطان.

و اذا انكسف في جمادي الاخرة فأنه يقل الامطار و المياه بنينوى و يقع فيها جزع شديد و غلاء و يصيب ملك بابل الى المغرب بلاء عظيم و اذا انكسف في رجب فانه يكون بالمغرب موت و جوع و يكون في ارض بابل امطار و يكثر وجع العين في الامطار،و اذا انكسف في شعبان فان الملك يقتل او يموت ابنه،و يغلو الاسعار و يكثر جوع الناس.

و اذا انكسف في شهر رمضان يكون بالجبل برد شديد و ثلج و مطر و كثرة المياه و يقع بأرض فارس سباع كثيرة و يقع بأرض ماه موت كثير بالصبيان و النساء،و اذا انكسف في شوال فان الملك يغلب على اعدائه و يكون في الناس شرّ و بلية و اذا انكسف في ذي القعدة فانه تنفتح المدائن الشداد و تظهر الكنوز في بعض الارضين و الجبال،و اذا انكسف في ذي الحجة فانه يموت رجل عظيم بالمغرب و يدّعي رجل فاجر الملك.

قال مؤلف الكتاب عفى اللّه عنه هذه الملاحم علامات وصفها اللّه لنبيه دانيال و قد جربناها فرأيناها صادقة في كل الموارد و هو دليل على صحة الحديث الذي نقلت فيه.

ص:86

و اما الملحمة الاسكندرية فهي و ان لم تكن في الاعتبار مثل هذه الملحمة الا انها لا تخلو من قوة و اعتبار و موافقة التجارب فلذلك اردنا اختصارها هنا فنقول:

قد ذكر في تلك الملحمة ان الشمس اذا انكسف في شهر ايار مع طلوع الشمس دلّ على شمول الاضطراب سائر البلاد،و اضطراب امير الجبال و انتقال الملك عن السلطان الى غيره و على ان الملوك تتغير نياتهم على خواصهم و يستبدلون بهم و على ان المواشي تتناسل و كذلك البقر،و ان انكسفت و اظلم النهار فانه يشتد الرعود في تلك السنة و يكثر الامطار اذا مضى من هذا الشهر اثنان و عشرون يوما،و ان انكسفت و الضياء باق كان الحر شديدا بالنهار،و نهب في الناس و تفريق في اهل المدائن و زروعها و دوابهم و امتعتهم،و قتال بين الملوك و يكون في آذربيجان وقعة صعبة و امر شديد يجتمع الملوك بعضها الى بعض،و يذهب اموال اهل الشرق و الغرب،و ان كان كسوفها من قبل المشرق و ذلك في اوّل النهار،فان الملك يظفر على اعدائه و يهلكهم،و اذا انكسفت في حزيران في اول النهار يدلّ على تجدد سلطان في بلد الجبل غير سلطانه و على انه يقتل وجوه الناس و يدلّ على حسن حال المواشي و تناسلها و وقوع الوبا في السواحل و المواضع التي هي قريبة من البحر،و على انتقال الملك من بعض الملوك الى ولده و قتل والديه و انتشار الامور ببابل و اختلالها.

و ان انكسفت عند طلوعها وقع الشر و القتال بين ملكين و يهلكان جميعا و ان كان عند غروبها يدلّ على هلاك الغرب و هلاك رجل له قدر في بعض البلاد و ان كانت في وسط السماء فأمر يحدث في الارض و قتال بمصر و يقع فساد كبير في ارض بابل و ان انكسفت في تموز عند طلوعها تكثر الفتن و سائر المدن الملاصقة للمشرق و ظهور(يظهر ظ)الوباء في تلك السنة،و ان كان وسط السماء يدلّ على ارتفاع شأن ملك فارس و انقياد الملوك اليه،و يدلّ ايضا على كثرة الوبا في عموم البلاد في اكثر الارض و ان كان قبل المغرب يدلّ على خطب السنة و فساد التمور و على انه تطيع الملوك كلها ملك بابل،و تشدّ الروم على العرب و يغبلونهم.

و ان انكسفت في آب عند طلوعها يدلّ على قتال شديد و هرجة عظيمة صعبة،و ان كانت وسط السماء يدلّ على توسط حال السنة الا ان الحنطة يكثر بعضها و ينقص بعضها،و ان كان عند غروبها دلّ على كثرة الاراجيف المختلفة و القتال و يدلّ على امساك القطر و حسن امور الملك و يقتل اعدائه و تحسن نية السلطان و اولى الامر في اتباعهم و رعاياهم،و ان انكسفت في ايلول عند طلوعها اوجب الغلاء و اتصال الفتن و الشر و ان كانت وسط السماء فان بعض الملوك يقصد بلاد المغرب و يتصل الفتن في سائر البلاد،و يقل المطر و تفسد الخمور و تتعذر في

ص:87

هذه السنة و يقع الشر في ارض بابل و ان كان عند غروبها يدلّ على حين اهل نينوى و خراسان و كثرة التمور في تلك السنة.

و ان انكسفت و رأيت الشمس حمراء مستديرة في وقت الكسوف فأنه يدلّ على قتال شديد و سفك الدماء،و قال ذو القرنين انه يهلك الملك و تكون الاسعار صالحة و يهلك حصن من الحصون العظيمة و تكثر الاشجار و تصلح الارض،و يكون القتال و الحرب في ناحية مصر، و ان انكسفت في تشرين الاول في اول النهار فأنه يدلّ على هلاك رجل عظيم القدر و يموت الملك و تشتعل الحروب في الارض،و يظهر الجراد و ينقطع المطر و ان كانت وسط السماء فأنه يسقط رجل عظيم القدر و يكون فساد في آذربيجان و يصيب الدواب و الاغنام و ينقطع الغيث مدّة ثلاثة اشهر و ان انكسفت عند غروبها و قد الجراد في بلاد الروم.

و ان انكسفت في تشرين الثاني عند طلوعها و لم يتغير لونها و لم تسوّد فان السلطان يضعف امره،و يقع الغلا في ارض يونان مصر،و ان كانت في وسط السماء يدلّ على خصب السنة و حسن حالها و كثرة خيراتها مع كثرة العلل و الامراض التي تحدث آخر السنة و يدلّ ايضا على تعدي السلطان على اهل السواد و ينتقل بعض الملوك من مقر سريره الى مدينة اخرى يكون هلاكه فيها،و ان كان في آخر النهار فان الغلاء و الوباء يقعان في بلاد الروم،و يلحق العرب شدّة و يقع بينهم السيف و يكثر الغيث في البلاد و تقوى شوكة الملتصقة و ينقطع الطرقات، و ان انكسفت في كانون الاول دلّت على كثرة الخرابات و تشتد الرياح العواصف،و يقع الوبا في خراسان و فارس،و يكثر السمك و العصافير و يقع القتال في بلاد العرب و يكون الغالب الاضطراب في سائر المدن،و ينزعج ملك مصر من موضعه و ينحلّ نظام ملكه،و ان كانت بأسرها فأنه يكون جوع و موت ببابل و ارض موصل و بلد و فارس و يظهر مكر من العرب و ان كان بحمرة ينقص القمح و يكثر الشعير،و يكون قتل و فزع في المدينة و تكثر الاشرار و يهلك رؤساء قوم في ثلج و تنقص الخيرات و يقع الحروب.

و ان انكسفت في كانون الثاني ان كان جزؤيا يدل على خصب السنة و كثرة الخيرات و وفور الغلات و الثمار و اتصال الامطار و يدلّ على هرب رجل عظيم القدر من بلاد الروم و قصد فارس و دخوله على سلطانها و تتحارب السلاطين و يموت ملك مصر و تتقدم السفل و السقواط و تنحط اهل الشرف و يكثر المطر و البرد،و يظهر الجراد و تفسد الغلات و يكثر القتل و النهب في البلاد و يقهر الملك الصغير الكبير،و ان انكسفت كلها يهلك ملك حدث السنّ و يقع الغلا و القتل بمصر و يقتل الزنج ملكهم و يقتل النساء.

ص:88

ص:89

ص:90

ص:91

ص:92

ص:93

ص:94

حال الثمرات في خراسان و فارس،و ان ظهر من المغرب يدل على اضطراب الفتن و الحروب و ظفر من الملك بأعاديه،و ان ظهر في ازار من المشرق يدل على فتنة بين الملكين و ظفر احدهما بالاخر،و على الامطار و موت الاطفال،و ان ظهر من ناحية المغرب يدل على الوباء و انتقال من اماكنهم و كثرة الغلات و العصافير،و يظهر الجراد و يكون الغلاء بعد ذلك.

و اما احوال الزلازل فان كان في نيسان نهارا دلّت على حسن حال الفواكه و العنب و ان كان ليلا ينتقل الناس من اماكنهم،و ان كان في ايار نهارا دلت على كثرة الرخص و الخصب التام و المطر في اكثر البلاد،و ان كان ليلا فموت يقع في الناس و البقر و الغنم و حرب يقع في خراسان،و ان كان في حزيران نهارا دلّت على الغلاء في تلك السنة و قلّة المرعى،و ان كان ليلا يخرب مدينة بابل و يقع الموت في النساء،و يمرض خاصة الملك و يموت ملك نينوى و ان كان في تموز نهارا يدل على موت رجل جليل القدر و ان كان ليلا دلّت على ان خراسان مرضا و شرا عظيما في ايام الحصاد،و ان كان في آب نهارا دلّت عن حسن الطعام و كثرة القتال و السبي و تظهر اللصوص،و ان كان ليلا دلّت على ظهور اللصوص و قطع الطرق و فوران الحروب.

و ان كان في ايلول نهارا دلّت على كثرة التناسل و حسن حال الغلات و الثمار و موت رجل جليل القدر و ان كان ليلا يقع الحرب و ان كان في تشرين الاول نهارا دلّت على ظهور ملك يستولي على الدنيا و يفتقر الاغنياء و يستغني الفقراء و يكون موت في خراسان و ان كان ليلا تدل على اسقاط اهل الجبال،و ان كان في تشرين الثاني نهارا دلّت على كثرة الامراض و ان كان في كانون الاول نهارا دلت على موت الحيوانات،و ان كان في كانون الثاني نهارا دلّت على موت الاطفال و كثرة الخيرات و تكون امراض كثيرة و ان كان ليلا يدل على اضطراب الناس.

و ان كان في شباط نهارا يدل على اتصال الامطار و مرض الاطفال و اجتماع الجوش و تعصى الاولاد على آبائهم و لا يقبلون منهم و يقع الجوع و الوبا،و ان كان ليلا يدل على عموم الغم السائر البلدان و يتكلم الجنين في بطن امه و يكثر الشر و الامراض و يموت رجل عظيم،و ان كان في ازار نهارا يدل على كثرة اللصوص و يقتل الملك و تموت الناس ثم يكون في آخر السنة فرح و يكثر الطعام و يقع الجوع في بلاد الروم و يكثر الموت في هذه السنة،و ان كان ليلا يكون القتال بمصر و تكثر المياه و يظهر الموت في الناس و يصلح حال الاشجار و الثمار.

ص:95

نور في ذكر الشهور الاثنى عشر

و ما وقع فيها على طريق الاجمال،قال الشيخ الطوسي(ر ه)ان اول السنة هو شهر رمضان و لكن اهل التواريخ يجعلون اولها محرم الحرام،فنجري على موافقتهم،و الا فالاخبار انما دلت على قول الشيخ(ر ه)المحرم سمي بذلك لتحريم القتال فيه و الغالب عند العرب، و اليوم الاول منه معظم عند ملوك العرب و فيه استجاب اللّه تعالى دعوة زكريا و فيه ادخل ادريس عليه السّلام الجنة و في ثالثه خلاص يوسف عليه السّلام من الجب،و في خامسه عبر موسى عليه السّلام البحر، و في سابعه كلّمه على الطور،و في تاسعه اخرج يونس عليه السّلام من بطن الحوت و قد كان في بطنها سبعة ايام و طافت به سبعة ابحر،و فيه ولد موسى و يحيى و مريم عليهم السّلام،و في عاشره الداهية الكبرى التي لا تطيق الالسنة ذكرها،و في سادس عشره جعلت القبلة البيت المقدّس،و في سابع عشره نزل العذاب على اصحاب الفيل و في الخامس و العشرين منه كانت وفاة السجاد عليه السّلام.

صفر سمي بذلك لاصفرار الشجر فيه و قيل ان محال العرب كانت تصفّر من اهلها و تخلو لانهم يخرجون الى الغارات عند انقضاء المحرم،و في اوله أدخل رأس الحسين عليه السّلام الى دمشق و هو عيد بني امية،و كان مقتل زيد بن علي بن الحسين عليهما السّلام و في ثالثه احرق مسلم بن عقبة باب الكعبة و رمى حيطانها بالنهار فتصدعت،و كان يقاتل عبد اللّه بن الزبير من جهة يزيد لعنه اللّه، و فيه ولد الباقر عليه السّلام و في سابعه توفي الحسن بن علي و ولد الكاظم عليهم السّلام،و في سابع عشره توفي الرضا عليه السّلام و في العشرين منه رجوع حرم الحسين عليه السّلام الى المدينة و في الثالث و العشرين منه عاد الامر الى بني العباس و استخلف السفاح و لليلتين بقيتا منه قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ربيع الاول سمي بذلك لارتباع الناس فيه و كذا ربيع الثاني لان صلاح احوالهم كانت في هذين الشهرين،في ربيع الاول في اول يوم منه كانت وفاة العسكري عليه السّلام و مصير الامر الى القائم عليه السّلام و في اول ليلة منه هاجر النبي صلّى اللّه عليه و آله من مكة الى المدينة سنة عشر من مبعثه و كان ذلك ليلة الخميس،و فيها كان مبيت علي عليه السّلام على فراش النبي صلّى اللّه عليه و آله و في صبيحة هذه الليلة صار المشركون الى باب الغار و اقام النبي صلّى اللّه عليه و آله في الغار ثلاثة ايام بلياليهنّ،و خرج في رابعه متوجها الى المدينة فوصلها يوم الثاني عشر،و في ثامنه وفاة العسكري عليه السّلام و في تاسعه العيد الاعظم و هو مقتل عمر بن الخطاب و قد تقدم و بعضهم زعم ان مقتله يوم الاثنين لاربع بقين من ذي الحجة سنة ثلث و عشرين من الهجرة،و في عاشره تزوج النبي صلّى اللّه عليه و آله بخديجة و عمره خمس و عشرين سنة و عمرها اربعون سنة و في مثله لثماني سنين من مولده كانت وفاة جدّه عبد المطلب سنة ثمان من عام الفيل و في ثاني عشره سنة اثنتين و ثلاثين و مأة كان انقضاء دولة بني امية و في رابع

ص:96

عشره كان موت يزيد لعنه اللّه و له يومئذ ثمان و ثلثون سنة و في سابع عشره كان مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و مولد الصادق عليه السّلام.

ربيع الاخر في رابعه ولد العسكري عليه السّلام و قيل في عاشره اول سنة الهجرة استقر صلاة الحضر و السفر،جمادي الاولى سميّ بذلك لانه صادف ايام الشتاء حين جمد و اشتد البرد و كذا جمادي الاخر و يسمى جمادي الاولى خمسة و الثاني جمادي ستة لان الاولى خامس المحرم و الثانية سادسه،و في نصفه كان مولد السجاد عليه السّلام و فيه كانت وقعة الجمل و نزول النصر على علي عليه السّلام،جمادي الاخرة و في اول يوم منه نزول الملك على النبي صلّى اللّه عليه و آله،و في ثالثه وفاة فاطمة عليها السّلام،و في نصفه هدم ابن الزبير الكعبة بيده لما تولّى الامر و جعل لها بابين يدخل من احدهما و يخرج من الاخر،ثم ردها عبد الملك بن مروان الى ما كانت عليه،و في مثله سنة ثلث و سبعين قتل عبد اللّه بن الزبير و له ثلاث و سبعون سنة،و في عشرينه سنة اثنتين من المبعث كان مولد فاطمة عليها السّلام،و قيل سنة خمسة من المبعث،و في سابع و عشرينه كانت وفاة ابي بكر و ولاية عمر.

رجب سمي بذلك لانه يرجب أي يعظم و يسمى الاصب بالباء لانصباب الرحمة فيه و يقال له الاصمّ لانه لا يسمع فيه حركة سلام لانه من الاشهر الحرم،و في اوّله ركب نوح عليه السّلام في السفينة،و في غرته يوم الجمعة ولد الباقر عليه السّلام،و في ثالثه كانت وفاة الهادي عليه السّلام و ذكر ابن عيّاش ان مولد الهادي عليه السّلام كان ثاني رجب او في خامسه على الخلاف و ذكر ان في عاشره كان مولد الجواد عليه السّلام و في ثالث عشر يوم الجمعة ولد علي بن ابي طالب عليه السّلام في الكعبة قبل النبوة باثنى عشر سنة و للنبي صلّى اللّه عليه و آله ثمان و عشرون سنة،و في نصفه خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله من الشعب و فيه بخمسة اشهر من الهجرة عقد النبي صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام على فاطمة عليها السّلام عقد النكاح و لها يومئذ ثلاثة عشر و روى تسعة او عشر و في هذا اليوم دعا ام داود و فيه حولت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة،و في الثاني و العشرين منه ملك معاوية،و في خامس و عشرينه كانت وفاة الكاظم عليه السّلام و في سابع و عشرينه مبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله.

شعبان سمي بذلك لتشعب العرب فيه الى طلب الغارات،و في ثانيه سن اثنتين من الهجرة فرض صيام شهر رمضان،و في ثالثه مولد الحسين عليه السّلام،و في نصفه مولد القائم عليه السّلام،و في عشرين منه النيروز المعتضدي.

رمضان سمي به لمصادفة شدة الرمضاء و هو شدة الحر،و قيل مأخوذ من الرمض و هو الاحتراق لاحتراق الذنوب فيه،و في الحديث ان رمضان من اسمائه تعالى فالشهر مضاف اليه، و من هذا جاء في الخبر لا تقولوا جاء رمضان و لا ذهب رمضان بل قولوا شهر رمضان،و فيه

ص:97

اوله سنة احدى و مأة كانت البيعة للرضا عليه السّلام و في عاشره سنة عشر من مبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل الهجرة بثلث سنين توفيت خديجة و توفي قبلها بثلاثة ايام في ذلك العام ابو طالب،و في نصفه مولد الحسن عليه السّلام و ليلة سبع عشر منه كانت ليلة بدر و هي ليلة الفرقان،و يوم سبعة عشر منه كانت الوقعة ببدر،و في ليلة تسع عشر منه يكتب و فد الحاج،و فيها ضرب امير المؤمنين عليه السّلام و في العشرين منه سنة ثمان فتحت مكة و فيه وضع علي عليه السّلام رجله على كتف النبي صلّى اللّه عليه و آله و نبذ الاصنام،و في الحادي و العشرين منه كان الاسراء بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و فيها رفع عيسى و قبض يوشع بن نون و موسى و علي بن ابي طالب عليهم السّلام.

و قال الطبرسي(ر ه)انزلت صحيفة ابراهيم لثلث مضين من رمضان،و التورية لست منه،و الانجيل لثلاث عشر،و الزبور لثماني عشر،و القرآن لاربع و عشرين و ليلة ثلث و عشرين من ليالي الاحياء و هي ليلة الجهني،و حديثه انه قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله ان منزلي ناء عن المدينة فمرني بليلة ادخل فيها فأمره النبي صلّى اللّه عليه و آله ان يدخل ليلة ثلث و عشرين و هي ليلة القدر،و في الحديث ان الثلاث الليالي هنّ ليالي القدر،قال ابو عبد اللّه عليه السّلام التقدير في ليلة تسع عشر و الابرام في ليلة احدى و عشرين،و الامضاء في ليلة ثلاث و عشرين،و هذه الليلة التي قال اللّه فيها انا انزلناه في ليلة القدر و ما ادريك ما ليلة القدر ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر،و هو مدة ملك بني امية كان الف شهر.

قال القاسم بن الفضل و علي بن مسلم حسبنا ملك بني امية فاذا هو الف شهر لا يزيد و لا ينقص،منها 1 سنو معاوية تسع عشر و ثمانية اشهر و اربعة عشرة يوما،2 و ملك يزيد لعنه اللّه تعالى ثلاث سنين و ثمانية اشهر و اربعة و عشرة يوما،3 و معاوية بن يزيد اربعون يوما،4 و مروان بن الحكم ستة اشهر و ثمانية عشرة يوما،5 و عبد الملك احدى و عشرون سنة و خمسون يوما،6 و الوليد بن عبد الملك تسع سنين و ثمانية اشهر و يومان،7 سليمان بن عبد الملك سنتان و تسعة اشهر و ثمانية عشرة يوما،8 و عمر بن عبد العزيز سنتان و تسعة و خمسة عشرة يوما،9 و يزيد بن عبد الملك اربع سنين و شهر،10 و هشام بن عبد الملك تسع عشر سنة و تسعة اشهر و ستة عشر يوما،11 و الوليد بن يزيد سنة و شهران و اثنان و عشرون يوما،12 و ابراهيم بن الوليد شهران و ثلثة ايام،13 و مروان بن محمد الى ان بويع العباس خمس سنين و شهران و عشرة ايام،فذلك تسعون سنة واحدة عشرة شهرا و ثمانية عشرة يوما،وضع من ذلك ايام الحسن عليه السّلام و هو خمسة اشهر و عشرة ايام،و ايام عبد اللّه بن الزبير و هي سبع سنين و عشرة اشهر و ثمانية ايام فصار الباقي بعد ذلك ثلاث او ثمانين سنة و اربعة اشهر يكون الف شهر سواء و ليالي

ص:98

الاحياء سبعة ليلتا الفطر و الاضحى و ليلة النصف من شعبان و اول ليلة من رجب و المحرم و ليلة عاشوراء و ليلة القدر.

شوال سمي بذلك لشولان الابل باذنابها في ذلك الوقت لشدة شهوة الضراب و لذلك كرهت العرب التزويج فيه و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انما سمي بذلك لان فيه شالت ذنوب المؤمنين أي ارتفعت و ذهبت و في اول يوم منه و هو العيد اوحى ربك الى النحل صنعة العسل،و في نصفه و قيل سابع عشره غزوة احد و مقتل حمزة عليه السّلام و فيه ردت الشمس على علي عليه السّلام و في آخره كانت اياك النحسات التي اهلك اللّه تعالى فيها عادا و قيل انها كانت ايام العجوز.

ذو القعدة سمي بذلك لقعودهم فيه عن الحرب و الغارات لكونه من الاشهر الحرم و في اول يوم منه و اعد اللّه تعالى موسى عليه السّلام ثلثين ليلة و في خامسه رفع ابراهيم و اسماعيل القواعد من البيت،و في خامس و عشرينه دحو الارض و في ليلته ولد ابراهيم و عيسى عليهما السّلام و في تاسع و عشرينه انزل اللّه الكعبة و هي اول رحمة نزلت من السماء.

ذو الحجة سمي بذلك لان مناسك الحج فيه و روى ان ميقات موسى ذو القعدة فأتمه اللّه بعشر ذي الحجة و في اوّله كان العزل لابي بكر عن برائة بعلي عليه السّلام و فيه ولد ابراهيم عليه السّلام و فيه اتخذه اللّه خليلا و فيه زوّج النبي صلّى اللّه عليه و آله فاطمة عليها السّلام و روى انه كان يوم السادس و قيل كان ذلك في رجب و في ثالثه تاب اللّه عز و جل على آدم عليه السّلام و في سابعه يوم الزينة التي غلب فيه موسة السحرة و ثامنه يوم التروية و تاسعه عرفة.

و قد وقع في الاخبار بوجه التسمية وجوه منها ان ابراهيم عليه السّلام رأى ليلة الثامن من ذي الحجة انه يذبح ولده اسماعيل فتروى ذلك اليوم و تفكّر في أنه هل هو اضغاث احلام ام من اللّه سبحانه الهام فعرفه في اليوم التاسع.

و منها ما روى من ان آدم و حوىّ تلاقيا بعد هبوطهما الى الدنيا و افتراقهما يوم الثامن فتروى آدم من معرفتها ذلك اليوم و عرفها يوم التاسع.

و منها ما روى من ان الحاج كانوا يقولون اذا ارادوا الخروج الى عرفات ترويتم من الماء، و اما التاسع فلقول جبرئيل عليه السّلام لادم اعترف بذنوبك،و في تاسعه سدّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ابواب مسجده الا باب علي عليه السّلام و فيه قتل هاني و مسلم في الكوفة،و قيل ان المعراج كان فيه و كذا ولادة عيسى عليه السّلام و عاشره يوم عيد الاضحى و الثلاثة بعده ايام التشريق،و ثامن عشره يوم الغدير و فيه آخى النبي صلّى اللّه عليه و آله بين اصحابه و فيه قتل عثمان بن عفان و ليلة تسع عشر منه دخل علي عليه السّلام على الزهراء و كانت ليلة جمعة و في احد و عشرينه انزلت توبة آدم و في رابع و عشرينه نام علي عليه السّلام على فراش النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو يوم تصدق امير المؤمنين عليه السّلام بخاتمه و هو يوم المباهلة،و روى ان يوم

ص:99

البساط الحادي و العشرين منه و في خامس و عشرينه نزلت سورة هل أتى في اهل الكساء و حيث انه قد تعارف التشأم من الايام و غيرها فلا بأس بذكره.

نور في التشام و حقيقته و اصابة العين و ما يناسبه

اعلم ان التشأم و هو الطيرة قد كان معروفا في اعصار الجاهلية و قد كانوا يتشأمون و يتطيرون(في خ)من امور كثيرة فلما جاء الشرع نهى عنها،روى شيخنا الكليني قدس اللّه ضريحه في الروضة عن النضر بن قرواش قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الجمال يكون فيها الجرب اعزلها من ابلي مخافة ان يعديها جربها و الدابة ربما صفرت لها حتى تشرب الماء فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام ان اعرابيا اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه اني اصيب الشاة و البقرة و الناقة بالثمن يسير و بها جرب فاكره شرائها مخافة ان يعدى ذلك الجرب ابلي و غنمي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا اعرابي فمن اعدى الاول ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا عدوى و لا طيرة و لا هامة و لا شومة و لا صفر و لا رضاع بعد فطام الحديث.و في حديث آخر قال الصادق عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كفّارة الطيرة التوكل.

و روى الجمهور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال الطيرة شرك و ما منّا و لكن اللّه يذهبه بالتوكل، هكذا جاء في الحديث مقطوعا،و لم يذكر المستثنى أي ما منا احد الا و يعتريه التطيّر و تسبق الكراهة الى قلبه فحذف اختصارا و اعتمادا على فهم السامع،و انما جعل الطيرة من الشرك لانهم كانوا يعتقدون ان التطير يجلب لهم نفعا و يدفع عنهم ضررا اذا عملوا بموجبه فكأنهم جعلوه شريكا للّه تعالى،و قوله و لكن اللّه يذهبه بالتوكل معناه ان الذنب الحاصل من عروض التطير يذهب بالتوكل فيكون كفارته كما في ذلك الحديث و في الاخبار ما يدل على الطيرة في الجملة منها ما رواه الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن ابي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال الشوم للمسافر في طريقه في سبعة الغراب الناعق عن يمينه و الكلب الناشر لذنبه و الذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل و هو مقع علي ذنبه يعوي ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا و الظبي السانح من يمين الى الشمال و البومة الصارخة و المرأة الشمطاء تلقى فرجها و الاتان العضباء يعني الجدعاء فمن اوجس في نفسه منهنّ شيئا فليقل اعتصمت بك يا رب من شر ما اجد في نفسي فاعصمني في ذلك قال فيعصم من ذلك و المراد من الطبي السانح المارّ من جانب اليمين الى الشمال و قد كانوا يتشأمون به كما يتيمنون بخلافه فأنه امكن للتمكن من رمي السهم للظبي،و الشمطاء مأخوذ من الشمط و هو بياض شعر الرأس يخالط سواده،و قوله تلقى فرجها معناه انك تستقبلها ذاهبا اليها او مقبلة اليك،و اما العدوى و هو سراية الامراض بالمخالطة فقد

ص:100

عرفت ان النهي ورد من الشارع عنها ايضا و لكن روى اعتبارها ايضا و النهي عن ارتكاب موجباتها منها ما روى عنه عليه السّلام انه قال لا يورد ممرض على مصحح و قال عليه السّلام فرّ من المجذوم فرارك من الاسد و زعم اهل الطلب ان المسريات سبع،الجذام،و الجرب و الجدري و الحصبة و البخر و الرمد و الامراض الوبائية و وجه الجمع بين اخبار هذا الباب وجوه.

اولها ان الطيرة و العدوى قد تسريان مع التوهم منهما،روى الصدوق باسناده الى الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اوحى اللّه عز و جل الى داود عليه السّلام يا داود كما لا تضرّ الطيرة من لا يتطير منها كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون.

و روى الكليني عن الصادق عليه السّلام انه قال الطيرة على ما تجعلها ان هوّنتها تهوّنت و ان شددتها تشددّت و ان لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا،و روى ان الحسن عليه السّلام مرّ يوما بجماعة من المجذومين و هم يأكلون و كان عليه السّلام صائما فقالوا هلّم الى الغذاء فقال اني صائم و خشى ان يكون قد حصل لهم بذلك كسر قلب فقال تأتوني الليلة جميعا لافطر معكم فأتوه عند المساء و اكل معهم على خوان واحد جبرا لقلوبهم،و روى مثل ذلك عن السجاد عليه السّلام و يكون هذا من باب ما روى من ان الباد نجان لما اكل فان كان قد اكل للدواء يكون دواء و ان كان قد اكل للداء يكون داء لان معناه انه اذا اكل و توّهم من اكله الداء يكون داء لان الذي يأكله يقصد المرض و الداء فانه لم يقع ابدا فيكون تأثير الطيرة و العدوى مسببا عن التوهّم منهما و هذا ليس بغريب، و في الشرع ما هو اغرب منه كما سيأتي في نور المنام ان شاء اللّه تعالى من الاخبار الدال على ان الطيف يقع على ما يعبّر و يفسّر فيكون تعبير الطيف سببا لوقوعه على أي نحو يعبر، و العادات شاهدة بمثل هذا فانا شاهدنا جماعة قد عوّدوا انفسهم حال السعي في طلب الحوائج التشأم من قول الذي يلقاهم و يسألهم فيقول يا فلان اين تريد فيرجعون و يدعون السعي في الحوائج حتى انهم لو مضوا على طلب تلك الحاجة لما قضيت و بعضهم قد عوّد التشأم من رؤية الاعور و قد رأينا من بالغ في التشأم حتى صار يتطير من النظر الى من لبس العباة السوداء و ربما حصل له بعض الضرر اذا ترك بعض عاداته فيرى حينئذ انه على صواب بارتكاب تلك المحظورات و غرض صاحب الشرع الانور سدّ هذا الباب و الالتجاء الى التوكل على جناب الحق و دفع نحوسة التشأم من المذكورات في الخبر السابق و غيرها بالدعاء و آيات القرآن،و لقد جربنا قرائة آية الكرسي لدفع كل هول و خوف من الحاليّات و المستقبلات،و من جملتها انه قد كنا في بعض الاسفار فغار علينا جماعة من اللصوص فشرعت انا في قرائة آية الكرسي فلما وصلوا الينا تشاوروا في امرهم ثم اتوا الينا بالسلام و التحيات الخاصة و قد كنّا ضللنا عن الطريق فأرسلوا معنا واحدا منهم الى ان وصلنا الى قريب المنزل و جربنا ان قرائتها في اول

ص:101

النهار و اول الليل يقي من طوارقهما و آفاتهما و قد اشرنا الى جماعة من الجنود و العساكر الذين يباشرون الحروب فكانوا يقرأونها و يدخلون بين الصفوف و يخرجون سالمين غانمين و كذلك في الاسفار فلقد سافرنا مع قوافل كل قافلة تزهو على الالف و كنت اقرأ آية الكرسي كل يوم اذا ركبنا و اذا حللنا ليلا و نهارا فلما رجعنا من ذلك السفر الطويل رجعناهم سالمون لم يتصدعوا بوجع و لا الم و لا فقد مال و لا وجه من الوجوه و مثل هذا قد جربناه كثيرا و في الخبر ان الانسان اذ قرء آية الكرسي مرة واحدة ارسل اللّه اليه ملكا يحفظه فاذا قرئها مرتين ارسل اللّه اليه ملكين يحفظانه فاذا قرئها ثلاثا ارسل اليه ملائكة ثلاثة يحفظونه،فاذا قرأها اربعا ارسل اليه اربعة من الملائكة يحفظونه فاذا قرأها خمسا قال اللّه سبحانه للملائكة تنّحوا عنه و دعوني انا احفظه فيحفظه الجبار عزّ و جل من جميع موارد الاذى.

و ثانيها ما ذكره شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه من ان النفي في قوله صلّى اللّه عليه و آله لا عدوى المراد به نفي ما كانوا يظنونه من ان الامراض تتعدى بأنفسها من غير مشية اللّه سبحانه فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله عن هذا الاعتقاد الفاسد من ان الطيرة و العدوى مؤثرة بنفسها من غير ارادة اللّه و مشيئته و قال لا عدوى و لا طيرة يعني انهما ليس لهما تأثير من انفسهما بل المؤثر هو مشيئته سبحانه المقارنة لوقتيهما و يؤيد هذا ان العدوى كثيرة الوقوع و يمكن ان يكون السبب في الوقوع ما مرّ في الوجه الاول.

و ثالثها ان النفي منصرف الى الكمال و الاستقلال و هو خبر لا المحذوف فيكون معناه لا عدوى و لا طيرة كاملة في الاسلام كما كانت في اعصار الجاهلية فقد رفع منها بميامن بركة النبي صلّى اللّه عليه و آله شدّة ذلك التأثير و قد بقى البعض و قد ورد الامر بخلاف ما يعمله المتطيرون روى الدقاق قال كتبت الى ابي الحسن الثاني عليه السّلام اسأله عن الحجامة يوم الاربعاء لا تدور فيكتب عليه السّلام من احتجم يوم الاربعاء لا تدور خلافا على اهل الطيرة عوفي من كل آفة و وقى من كل عاهة، و اما قوله في الحديث الاول و لا هامة فقد فسرّها صاحب النهاية بطير يتشأمون به و هو البومة و في هذه الاعصار يتشأمون بها ايضا مع انه قد روى في الاخبار ان البومة كانت تألف الناس في الحجور و على الموائد و البيوت فلما قتلوا الحسين عليه السّلام نفرت و ذهبت عنهم و ذهبت الى الدويان و المواضع الخربة تبكي على الحسين عليه السّلام و تنوح عليه بصوتها و مثل هذه لا يتشأم منها،و قيل ان العرب كانت تزعم ان روح القتيل الذي لا يدرك بثاره تصير هامة فيقول اسفرني اسفرني فاذا ادرك بثاره طارت،و قيل كانوا يزعمون ان عظام الميت و قيل روحه تصير هامة فتطير و يسمونه الصدى فنفاه الاسلام و نهاهم عنه.

ص:102

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و لا شوم كالتأكيد لما تقدمه قوله و لا صفر قال صاحب النهاية كانت العرب تزعم ان في البطن حيّة يقال له الصفر تصيب الانسان اذا جاع و تؤذيه و انها تعدى فأبطل الاسلام ذلك و يجوز ان يكون المراد به الصفير بقرينة انه لم يذكر و يظهر من بعض الاخبار كراهته.

بقي الكلام في المام العين و تاثيرها و هو مما لا يشكّ فيه فأنه قد ورد في الادعية الاستعاذة باللّه تعالى منها و من تأثيرها،و روى في الاخبار ان النبي صلّى اللّه عليه و آله لما اقام عليا اماما للناس يوم الغدير و رقى المنبر الذي علموه له من رحال الابل و أخذ في تعداد مدائح علي و النص عليه اتى المنافقون اليه و قالوا ما بقى لنا الا ان نصيبه بالعين حتى لا يتم امر بن عمه علي فينا فطفقوا فيما راموه فقال بعضهم انظروا الى عينيه كيف يجولان في رأسه لشدة ارادته هذا الامر في ابن عمه كأنهما علقتا دم،و اخذوا في مثل هذا التشبيه حتى اطلع اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله على كيدهم بقوله وَ إِنْ يَكٰادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصٰارِهِمْ لَمّٰا سَمِعُوا و هو ذكر علي بن ابي طالب عليه السّلام وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي ان محمدا مجنون في حبّ ابن عمه وَ مٰا هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ يعني ليس ما يقولون حقا بل هو مذكر للعالمين و قد كانت العرب اذا اشتهوا اكل اللحم عمد بعضهم الى الجمل الواقف الصحيح و اخذوا في تشبيهه حتى تصيبه عيونهم فيقع الى الارض من ساعته فبادروا الى نحره و اقتسام لحمه و في هذه الاعصار ايضا قد شاهدناه كثيرا.

و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله ان العين لتدخل الرجل القبر و الجمل القدر،و قال ايضا لا رقية الا من عين او حمة،و الحمة بالتخفيف لسعة العقرب و اشباهه،و معناه انه لاشء ينبغي ان يبالغ في التعويذ عليه الا تأثيرات العين فأن رفعها يحتاج الى انواع الرقيات و قيل معناه انه لا يجوز الرقيات المشتملة على القرائة و النفث الا من هذين الشيئين لان النفث قد ورد النهي عنه.

و قال الصادق عليه السّلام من اعجبه من اخيه شيء فليبارك عليه فان العين حق يقول بارك اللّه عليك في كذا،و قد امر النبي صلّى اللّه عليه و آله ان يكتب عوذة لولدي جعفر بن ابي طالب من عيون الناس،و قد كانوا في اعصار الماضية اذا ارادوا ان يصيبوا حيوانا او غيره بأعينهم يتجوّعون ثلاثة ايام ثم يأتون اليه فيشبهونه حتى يقتلونه،و بالجملة فتأثير العين مما لا ينبغي الشك فيه، و قول بعضهم انه اتفاقي و ان العين لا تأثير لها مما لا ينبغي نعم من قوى توكله على اللّه تعالى لا تأخذه عين و لا غيرها بل لا تضره السباع و الافات و حيث ان المناكحات من اهم امور الناس فلا بأس بذكر احوالها.

ص:103

نور في التزويج و احواله و احكامه

اعلم ان المقصود من ايجاد هذا العالم هو العبادة كما قال تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ و كلما كانت العبيد اكثر كانت الطاعة اوفر،و من ثم قوّى سبحانه داعي النكاح بالقائه الشهوة لانه كان يعلم ان الناس لو بقوا على داعي الثواب و تحصيل النسل لما ارتكبه الا القليل،و قد ورد من صاحب الشرع الانور من الحث عليه شيء كثير.

قال الصادق عليه السّلام من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا،و قال عليه السّلام التمسوا الرزق بالنكاح و من ترك التزويج مخافة العيلة فقد اساء الظن بربه لقوله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ و قال امير المؤمنين عليه السّلام افضل الشفاعات ان يشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع اللّه بينهما و قال صلّى اللّه عليه و آله تزوجوا فان مكاثر بكم الامم غدا يوم القيمه حتى ان السقط ليجىء محبنطئا على على باب الجنه فيقال له ادخل الجنة،فيقول لا حتى يدخل ابواى قبلى المحبنطى الممتلى غيظا و قال عليه السّلام ركعتان يصليهما متزوج افضل من صلاة رجل عزب يقوم ليله و يصوم نهار؛و قال عليه السّلام اراذل موتاكم العزاب.

و قال عليه السّلام يا معشر الشبّان من استطاع منكم الباه فليرّوح،و من لم يستطع فليد من الصوم فأنه له و جاء،و الوجاء قطع الذكر و الخصيتين،و عن ابي الحسن عليه السّلام قال جاء رجل الى ابي جعفر عليه السّلام فقال ابو جعفر عليه السّلام هل لك زوجة؟قال لا قال ما احب انّ لي الدنيا و ما فيها و ابيت ليلة و ليست لي زوجة،و قال عليه السّلام تزوّجوا و لا تطلقوا فأن الطلاق يهتز منّه العرش،و ان اللّه لا يحب الذواقين و الذواقات،و تزوجوا في الحجر الصالح فان العرق دساس،و قال عليه السّلام من تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسنى،و روى انه يكره التزويج في محاق الشهر،و ينبغي ان يختار من النساء النجيبة العفيفة الجميلة صاحبة الدين الولود،قال امير المؤمنين عليه السّلام تزوّج عيناء سمراء عجزاء مربوعة فأن كرهتها فعليّ الصداق،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذا اراد ان يتزوّج امرأة بعث اليها من ينظر اليها،و قال شمّى لبتّها فان طاب عرفها و ان درم كعبها عظم كعثبها اللبة صفحة العنق،و العرف الريح الطيبة و درم كبها أي كثر لحمه،و الكعثب الفرج.

و قال عليه السّلام اذا اراد احدكم ان يتزوج فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها فان الشعر احد الجمالين،و قال عليه السّلام ما استفاد امرأ فايدة بعد الاسلام افضل من زوجة مسلمة تسره اذا نظر اليها و تطيعه اذا امرها و تحفظه اذا غاب عنها في نفسها و ماله،و قال عليه السّلام الحياء عشرة اجزاء تسعة في النساء و واحد في الرجال،فاذا خفضت المرأة (1)ذهبت جزء من حيائها،و اذا تزوجت

ص:104


1- (16) الخفض في المرأة [1]الختان للرجل.

ذهب جزء،و اذا افترعت (1)ذهب جزء و اذا ولدت ذهب جزء،و بقى لها خمسة اجزاء فان فجرت ذهبت حياؤها كلها و ان عفت بقى لها خمسة اجزاء،و قال امير المؤمنين عليه السّلام خلق اللّه الشهوة عشرة اجزاء فجعل تسعة اجزاء في النساء و جزء واحدا في الرجال و لو لا ما جعل اللّه عز و جل فيهنّ من الحياء لكان لكل رجل تسع نسوة متعلقات به،و قال الصادق عليه السّلام ان اللّه جعل للمرأة صبر عشرة رجال فاذا هاجت بها كانت لها قوة شهوة عشر رجال.

و ينبغي ان يجتنب تزويج الجميلة اذا لم تكن من الانجاب فانه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ايها الناس اياكم و خضراء الدمن،قيل يا رسول اللّه و ما خضراء الدمن؟قال المرأة الحسناء في منبت السوء،و قال الصادق عليه السّلام اذا تزوّج لما لها و جمالها ام يرزق ذلك،فان تزوجها لدينها رزقه اللّه عز و جل جمالها و مالها.

و اما في الامم السابقة فقد كان الافضل لهم ترك التزويج و لذا مدح اللّه سبحانه يحيى بأنه كان سيدا و حصورا،و الحصور الذي لم يتزوج و كانوا يترهبون في الجبال و يعبدون اللّه سبحانه و يسيحون في الارض،و كان بعضهم يمزق ترقوته فيجعل فيها سلسلة و يشدّها في سوارى المسجد ملازمة للعبادة،و كان بعضهم يخصى نفسه حتى لا يكون له داعي الشهوة و لما جائت الملّة البيضاء نسخت تلك الاحكام كلها،فقال عليه السّلام من رغب من سنتي و هو النكاح فليس مني،و قال تعلموا من الديك خصالا السخاوة و الشجاعة و الغيرة و الايقاظ لوقت الصلاة و كثرة الطروقة و هو الجماع،و سهّل علينا ما كان مضيفا على الامم المتقدمين،فقال صلّى اللّه عليه و آله ان الاتكاء في المساجد رهبانية العربية فيكون مدحا لهم لانه قائم في الفضل مقام الترهب و هو ترك الدنيا للعبادة،و المراد بالاتكاء هنا متكأ لانتظار اوقات الصلوة و العلامة(ر ه)في المنتهى قال و يكره الاتكاء في المساجد لقوله عليه السّلام الاتكاء في المساجد رهبانية العرب فعقل منه ذم الاتكاء عكس ما قلناه،و جعل بدل الخصا الصوم لانه يقللّ الشهوة و يصفى الباطن،و من هذا جاء في الحديث القدسي كل عمل ابن آدم له الا الصوم فأنه لي و انا اجرى به،و هذا الحديث لا يخلو من اشكال حيث ان ظاهره التفضل على الصلوة،مع انه صلّى اللّه عليه و آله قال افضل اعمالكم الصلوة، و من هنا تصدّى المحققون لتأويله فذكروا له وجوها.

منها انه اختص ترك الشهوات و الملاذ في الفرج و البطن و ذلك امر عظيم يوجب التشريف،و اجيب بالمعارضة بالجهاد فان فيه ترك الحياة فضلا عن الشهوات و بالحج اذ فيه الاحرام و متروكاته كثيرة،و منها انه امر خفيّ لا يمكن الاطلاع فلذلك شرّف بخلاف الصلوة و الجهاد و غيرهما،و أجيب بأن الايمان و الاخلاص و افعال القلب الحسنة خفية مع تناول

ص:105


1- (17) افترع البكر:ازال بكورتها.

الحديث اياها،و منها ان خلاء الجوف تشبيه بأجلّ صفات الربوبية و هي العلم الذاتية و كذلك الاحسان الى المؤمنين و تعظيم الاولياء و الصالحين كل ذلك فيه التخلق تشبيها بصفات اللّه تعالى،و منها ان جميع العبادات وقع التقرّب بها الى غير اللّه الا الصوم فأنه لم يتقرب به الا اليه وحده،و أجيب بأنه يفعله اصحاب استخدام الكواكب،و منها ان الصوم يوجب صفاء العقل و الفكر بواسطة ضعف القوى الشهوية بسبب الجوع،و لذلك قال عليه السّلام لا تدخل الحكمة جوفا ملئ طعاما و صفاء العقل و الفكر يوجبان حصول المعارف الربانية التي اشرف احوال النفس الانسانية و اجيب بأن سائر العبادات اذا واظب عليها اورثت ذلك و خصوصا الصلوة، قال اللّه تعالى وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا، و قال تعالى اِتَّقُوا اللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ قال بعضهم لم ار فيه فرقا تقرّ به العين و يسكن اليه القلب و قال شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه و لقائل ان يقول هب ان كل واحد من هذه الاجوبة مدخول بما ذكر فلم لا يكون مجموعها هو الفارق فانه لا تجتمع هذه الامور المذكورة لغير الصوم و هذا واضح.

و منها ان اللّه سبحانه قد جعل لكل عبادة جزاء مذكورا مقررا سوى الصوم كقولك خط (1)هذا الثواب بكذا و ذاك بكذا و هذا الثواب اجعل مقدر اجرته الى و لا يلزم منه ان يكون افضل من غيره فتأمل،و اما قوله أجزى به فهو على صيغة المعلوم و معناه مضاعفة الجزاء من غير عدد و حساب،لان الكريم اذا توّلى بنفسه الجزاء اقتضى عظمته وسعته،و تقديم الضمير للتخصيص او للتأكيد و الاول انسب بالسياق،أي انا اجرى به لا غيري بخلاف باقي العبادات فان جزائها قد يفوّض الى الملائكة و ذهب شيخنا المعاصر أدام اللّه ايامه الى ان أجزى من باب المجهول و المعنى ان عبادي لا يجازوني على نعمائي بمثل الصوم و هو كما ترى.

و بالجملة فالتزويج مرغب فيه من جهة الشرع و كذلك مخالطة النساء،و في الروايات ان عثمان بن مظعون قدس اللّه روحه لما نظر الى الدنيا و فنائها و سمع من النبي صلّى اللّه عليه و آله المواعظ البالغة حمله ذلك على ان لبس الثياب الخلقة و ترك اهله و مضى الى بعض جبال المدينة ليتخلى للعبادة فجائت امرأته يوما الى بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله فلما دخل عليه السّلام البيت عرفها فقال هذه امرأة اخي عثمان،فقالت له زوجته نعم يا رسول اللّه لكن يا رسول اللّه زوجها فارقها و مال الى بعض الجبال للعبادة و من هذا امرأته لم تمسّ الطيب مدّة و لم تلبس افخر ثيابها.

فلما سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله كلامها خرج غضبانا يجرّ طرف ردائه على الارض فرقى المنبر و اجتمع الناس و امر باحضار عثمان،فأبلغ في الخطبة و قال أ تريدون دينا خيرا من ديني و سنّة

ص:106


1- (18) من الخياطة.

أهدى من سنتي،و اللّه لو كان اخي موسى حيا لما وسعه الا اتباعي انظروا الى ما افعل اني اصوم و افطر و اصلي و انام و انكح النساء و آكل و اشرب،ثم التفت الى عثمان و قال له ان اللّه سبحانه غنيّ عن ثيابك هذه الخشنة فقم و انزعها و ادخل على(الى خ)اهلك و خالطهم و اكتسب لهم فترك عثمان ما كان فيه.

نعم ذا علم أو ظنّ ان المرأة تحمله على ما لا قدرة له عليه فيرتكب بسببها المآثم و فعل الحرام حرم التزويج كما في بعض امصار هذه الاعصار،و روى الشيخ الجليل احمد بن فهد في كتاب التحصين عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليأتينّ على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه الا من يفرّ من شاهق الى شاهق و من حجر الى حجر كالثعلب بأشباله قالوا و متى ذلك الزمان؟قال اذا لم تنل المعيشة الا بمعاصي اللّه فعند ذلك حلّت العزوبة،قالوا يا رسول اللّه امرتنا بالتزويج،قال بلى و لكن اذا كان ذلك الزمان فهلاك الرجل على يدي ابويه فان لم يكن له ابوان فعلى يدي زوجته و اولاده،فان لم يكن له زوجة و لا ولد فعلى يدي قرابته و جيرانه،قالوا و كيف ذلك يا رسول اللّه؟قال يعيرونه بضيق المعيشة و يكلفونه ما لا يطيق حتى يوردوه موارد الهلاكة،و ان لم يكن كذلك ففي التزويج فضل عظيم لما ورد في ثواب خدمتهنّ.

روى عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام قال دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فاطمة عليها السّلام جالسة عند القدر و انا انقى العدس،فقال يا ابا الحسن قلت لبيك يا رسول اللّه،قال اسمع مني و ما اقول الا من امر ربي،ما من رجل يعينّ امرأته في بيتها الا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها و قيام ليلها،و اعطاه اللّه من الثواب مثل ما اعطاه الصابرين و داود النبي و يعقوب و عيسى عليهم السّلام،يا علي من كان في خدمة العيال و لم يأنف كتب اللّه تعالى اسمه في ديوان الشهداء و كتب له بكل يوم و ليلة ثواب الف و شهيد،و كتب له بكلّ قدم ثواب حجة و عمرة و اعطاه اللّه بكل عرق في جسده مدينة،يا علي ساعة في خدمة العيال في البيت خير من عبادة الف سنة،و الف حجة و الف عمرة و خير من عتق ال رقبة،و الف غزوة و الف مريض عاده و الف جمعة و الف جنازة و الف جايع يشبعهم و الف عار يكسوهم و الف فرس يوجهه في سبيل اللّه و خير له من الف دينار يتصدق به على المساكين و خير له من ان يقرأ التورية و الانجيل و الزبور و الفرقان و من الف اسير اعتقه،و خير له من الف بدية يعطى المساكين و لا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه في الجنة يا علي من لم يأنف من خدمة العيال دخل الجنة بغير حساب يا علي خدمة العيال كفارة الكبائر و يطفى غضب الرب و مهور الحور العين و يزيد في الحسنات و الدرجات يا علي لا يخدم العيال الا صديق او شهيد او رجل يريد اللّه به خير الدنيا و الاخرة

ص:107

و روى الصدوق عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال من اطاع امرأته اكبه اللّه على منخريه في النار فقيل و ما تلك الطاعة،فقال تدعوه الى النايحات و العرسات و الحمامات و الثياب الرقاق فيجيبها فان قلت ما معنى هذا الحديث.

قلت اما النايحات فلا يحرم خروج المرأة اليه كله لانه قد روى ان نساء الائمة عليهم السّلام كنّ يخرجن للتعزية و كان عليه السّلام يقول ان هذه حقوق الناس فلتقض الحقوق و كذلك العرسات فانه ورد ان ام سلمة و غيرها من نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله كنّ يخرجنّ الى عرسات اهل المدينة و حينئذ فالنهي في هذا الحديث محمول على ما اذا لم يكن خروجهنّ بقصد اداء الحقوق بل يكون بقصد التنزه و التفرّج و يكون في تلك المحافل و الامكنة آلات اللهو و الطرب الغير المحللة كما هو المعتاد في هذه الاعصار.

و اما الحمامات فلم نطّلع على خبر يرخص النساء دخولها و الاخبار متظافرة على المنع فقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال من كان يؤمن باللّه و اليوم الاخر فلا يبعث بحليلته الى الحمام، و قد خص هذا النهي شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه بحالة اجتماعهنّ اما مع الانفراد فلا بأس و استثنى من الكراهة مع الاجتماع حال الضرورة و قال الائتزار يخفف الكراهة و ان اجتمعنّ، اقول و على هذا يكون النهي عنه كالنهي عن الاولين لانه اذا خرجنّ لا لضرورة يكون خروجهنّ لاجل التنزه و التنعم و ذلك لا يندفع بالايتزار كما هو المعروف ايضا،و الظاهر ان هذه لا يكون من باب الضرورة نعم الضرورة غسل الجنابة و امثاله مع برودة الهوى و ظنّ الضرر بمباشرة الماء و الاولى ان لا يجيبها في هذا ايضا بل يعودها الغسل في المنزل أ لا ترى الى كثير من البلدان التي لم يوجد فيها الحمامات فان نساء اهلها قد اعتادوا على الغسل في منازلهم و العادة قاضية بكل شيء مع ان العادة في اكثر بلاد الحمامات اجتماع النساء في الدخول بغير ازار و لا ريب في تحريمه و ما يعلم او يظن انه وسيلة الى الحرام يكون حراما.

و اما الثياب الرقاق فيجوز ان يكون النهي عنا باعتبار عدم القدرة فاذا اجابها لزمه ارتكاب المآثم في تحصيلها كما هو عادة اكثر الناس و يجوز ان يكون راجعا الى الاسراف و ان كان قادرا عليه و يجوز ان يكون باعتبار كونه حاكيا ما تحته فيطلع على بدنها الاجانب و يحملها على التبرج و هذا كله حرام.

و ينبغي ان يزوج الكفو كما قال عليه السّلام من خطب اليكم فرضيتم دينه و امانته كائنا من كان فزوجوه الا تفعلوه تكن فتنة في الارض و فساد كبير،و قال صلّى اللّه عليه و آله انما انا بشر مثلكم أتزوج فيكم و ازوجكم الا فاطمة فان تزوجيها نزل من السماء،و قال عليه السّلام الكفو ان يكون عفيفا،و عنده يسار و قال صلّى اللّه عليه و آله من زوّج كرمته من فاسق فقد قطع رحمه و من شرب الخمر بعد ما حرمها اللّه

ص:108

فليس بأهل ان يزوج اذا خطب،و قد زوّج النبي صلّى اللّه عليه و آله ابنة عمه الزبير بن عبد المطلب للمقداد و قد كان وضيع النسب لكن الاسلام رفعه ليكون سببا و حجة على الامة،كما قال صلّى اللّه عليه و آله انكحت زيد بن حارثة زينب بنت جحش و انكحت المقداد صناعة بنت زبير بن عبد المطلب ليعلموا ان الشرف شرف الاسلام،و قال رجل للصادق عليه السّلام كيف يزوّج الحائك فقال عليه السّلام ان اللّه جعله كفوا للحور العين و زوّجه بهنّ فكيف لا ترضى انت ان يكون كفوا لابنتك،و اما تزويج الهاشميات لمن لم يكن هاشميا فالظاهر جوازه و حرمه بعض الاصحاب لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله لما نظر الى اولاد علي و جعفر بناتنا لبنينا و بنونا لبناتنا،و الظاهر انه محمول على الاستحباب.

و اما الجمع بين سيدتين فقد روى في الخبر النهي عنه و أنه يدخل الحزن على فاطمة عليها السّلام، و ذلك أنه لا بد له في العادات من ان يفضل واحدة منهما،و من فضّلها فقد اضرّ بابنة فاطمة الاخرى.

و ينبغي اختيار الاشكال و الاشباه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انكحوا الاكفاء و انكحوا فيهم و اختاروا لنطفكم،فان الخال احد الضجيعين،و عن الصادق عليه السّلام قال أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله رجل فقال يا رسول اللّه اني احمل اعظم ما يحمل الرجال فهل لي ان آتى بعض مالي من البهائم ناقة او حمارة،فان النساء لا يقربنّ على ما عندي؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يخلقك حتى خلق لك ما يحتملك من شكلك،فانصرف الرجل فلم يلبث ان عاد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له مثل مقالته اول مرة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأين أنت من السوداء العنطنطة (1)قال فانصرف الرجل فلم يلبث ان عاد فقال يا رسول اللّه اشهد انك رسول اللّه حقا اني طلبت من امرتني فوقعت على شكلي مما يحتملني و قد اقنعتني ذلك.

و ينبغي ان لا يتجاوز المهر الذي تزوّج النبي صلّى اللّه عليه و آله به و ازواجه و هو خمسمائة درهم كل درهم قيمته في هذا الزمان اثنا عشر غازيا و نصف تقريبا،روى عن الحسين بن خالد قال سألت ابا الحسن عليه السّلام عن مهر السنّة كيف صار خمسمائة؟فقال ان اللّه تبارك اوجب على نفسه ان يكبره مؤمن مأة تكبيرة و يسبحه مأة تسبيحة و يحمده مأة تحميدة و يهلله مأة تهليلة،و يصلي على محمد و آله مأة مرة،ثم يقول اللّه زوجني من الحور العين الا زوجه حورا عيناء و جعل ذلك مهرها،ثم اوحي اللّه الى نبيه صلّى اللّه عليه و آله ان سنّ مهور النساء خمسمائة درهم،ففعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ايما مؤمن خطب الى اخيه حرمته فبذل له خمسمائة درهم فلم يزوجه فقد عقّه و استحق من اللّه عزّ و جل الا يزوجه حوراء.

ص:109


1- (19) السوداء العنطنطة أي الطويلة العنق مع حسن قوام و المعنطنطة الطويل.

و الاولى ان يسوق اليها جميع مهرها قبل الدخول و الا فبعضه،و لو دخل بها و قد ساق اليها شيئا كما هو المعتاد من جملة المهر كما كان متعارفا في الازمان السابقة او من غيره كما في هذه الاعصار فهل يسقط باقي المهر بالدخول ام يستقر في ذمته دينا عليه مثل غيره من الديون، المشهور هو الثاني،و بعضهم على الاول و الاخبار الصحيحة دالة على سقوط المهر بالدخول، و في مكاتبات مولانا صاحب الزمان عليه السّلام ان المهر ان كان كتب عليه كاتب فهو دين و الا فهو قد سقط بالدخول،و يمكن توجيهه بأن المراد اذا كتب عليه كاتب كان قرينة على ارادة الزوجة له، اما اذا لم يكتب عليه كتاب يكون قرينة على ارادتها الاعراض عنه و ابراء ذمة الزوج من باقيه و ان لم تصرّح به كما شاهدناه في اكثر النواحي سيما القرى و البوادي،فأنه ليس منظورهم من العقد الا تحصيل علاقة الزوجية و اما ارادة المهر فلا تخطر لهم على بال،و هذه المسألة من مشكلات المسائل حيث انها من حقوق الناس و عموم البلوى بها،و الاولى في مثل هذا ايقاع صلح بين الزوجين او ورثتهما بحيث لا تأخذ المرأة كل ما بقى من المهر و لا تحرم منه كله.

و البكر البالغة العاقلة الرشيدة قد وقع الخلاف بين الاصحاب رضوان اللّه عليهم في اختيار العقد عليها على اقوال،و الذي يقضيه الجمع بين الاخبار هو ان الاختيار في النكاح اليها لا غير و اما الاخبار الدالة على ان اختيارها ال ابيها او جدها فطريق تأويلها اما الحمل على الاستحباب او على التقية و الاحتياط ظاهر لا يخفى.

اما الصيغة فهو انكحتك و زوجتك و هذا مما لا اشكال فيه،نعم لفظ الكتاب قد ورد بالفعلين بغير لفظ من الزايدة مثل فلما قضى زيد منها و طرا زوجناكها و ان انكحك احدى ابنتي و يؤيده ان الاقوى بين النحاة هو ان من لا تزاد في الكلام الموجب و اما الاخبار فأكثرها على زيادة من كقوله عليه السّلام اذا قال زوجتك من فلانة او من نفسي فهي امرأتك فزيدت من في الايجاب كما هو مذهب الكوفيين و الاخفش و حينئذ فالاولى هو الجمع بين الصيغتين عملا بالكتاب و السنة و بقول البصريين و الكوفيين،و لا خلاف بين علمائنا بوقوعه بصيغة الماضي.

اما الحال و الاستقبال فالمشهور بينهم العدم،و الاصح هو الجواز عند قصد الانشاء بها لان قربها منه اشد من صيغة الماضي،و لان صيغة الحال وردت في خبر سهل الساعدي لما أتت المرأة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله تطلب التزويج فقام رجل فقال زوجنيها يا رسول اللّه زوجتكها بما معك من القرآن،و قول العلاّمة طاب ثراه في المختلف و الوجه المنع لبعده عن الانشاء الموضوع له لفظ الماضي لا يخفى ما فيه بعد ما قدمناه،و اما الاستقبال فقد جوزه ابن حمزة و استدلّ عليه برواية ابان بن تغلب في المتعة اتزوجك متعة فاذا قالت نعم فهي امرأتك،و الاوضح هو الاستدلال بقوله تعالى أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ فان ظاهره يعطي ان هذا هو الايجاب و لعمرك ان فقهائنا

ص:110

رضوان اللّه عليهم قد ضيقوا المجال على الناس في ابواب صيغ العقود،و المفهوم من الاخبار اتساع الحال فيها و سنحررّه ان شاء اللّه في شرحينا على كتاب التهذيب و الاستبصار اذا بلغ الحال الى هناك.

و اذا اراد التزويج فليولم يوما أو يومين،و الثالث رياء و سمعة و هو واحد من المواضع الخمسة،و اما الاربعة فهي النفاس بالولد،و الختان و شراء الدار و قدوم الرجل من مكة و هذه الاربعة هي التي ورد التأكيد عليها،و اما هيئة زفافها فيستحب ان يكون كما روى من ان فاطمة عليها السّلام لما كانت ليلة زفافها اتى النبي صلّى اللّه عليه و آله ببغلته الشهباء و ثنّى عليها قطيفة،و قال لفاطمة عليها السّلام اركبي و امر سلمان ان يقودها،و النبي صلّى اللّه عليه و آله يسوقها فبينا هو في بعض الطريق اذ سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله صوتا فاذا هو بجبرئيل عليه السّلام في سبعين الفا من الملائكة فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله ما اهبطكم الى الارض؟قالوا جئنا نزف فاطمة عليها السّلام الى زوجها،و كبّر جبرئيل و كبّر ميكائيل و كبّرت الملائكة و كبّر محمد صلّى اللّه عليه و آله فوضع التكبير على العرايس من تلك الليلة.

و قال الصادق عليه السّلام زفّوا عرايسكم ليلا و اطعموا ضحى،و ظاهره تأخر الطعام و اكثر الاخبار دلّت على التقدم،و الظاهر هو التخيير كما لا يخفى مع ان الواو لا تفيد الترتيب.

و اما باقي الكيفيات فرواها ابو سعيد الخدري قال اوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال يا علي اذا دخلت العروس بيتك فاخلع خفّها حين تجلس و اغسل رجليها و صبّ الماء من باب دارك الى اقصى دارك فانك اذا فعلت ذلك اخرج اللّه من دارك سبعين الف لون من الفقر،و ادخل فيه سبعين الف لون من الغنى،و ادخل عليك سبعين لونا من البركة و ادخل عليك سبعين الف رحمة ترفرف على راس العروس حتى تنال بركتها كل زاوية في بيتك و تأمن العروس من الجنون و الجذام و البرص ان يصيبها ما دامت في تلك الدار،و امنع العروس في اسبوعها من الالبان و الخل و الكزبرة و التفاح الحامض من هذه الاربعة،قال علي عليه السّلام يا رسول اللّه لاي شيء امنعها من هذه الاشياء الاربعة،قال لان الرحم تعقم و تبرد من هذه الاربعة الاشياء عن الولد و الحصير في ناحية البيت خير من المرأة لا تلد،فقال علي عليه السّلام يا رسول اللّه ما بال الخلّ تمنع منه؟قال اذا حاضت على الخل لم تطهر ابدا بتمامه و الكزبرة تثير الحيض في بطنها و تشدّ عليها الولادة،و التفاح الحامض يقطع حيضها فيصير داء عليها،ثم قال يا علي لا تجامع امرأتك في اول الشهر و وسطه و آخره فان الجنون و الجذام و الخبل يسرع اليها و الى ولدها.

يا علي لا تجامع امرأتك بعد الظهر فانه ان قضى بينكما ولد في ذلك الوقت يكون احول و الشيطان يفرح بالاحول في الانسان،يا علي لا تتكلم عند الجماع فانه ان قضى بينكما ولد لا

ص:111

يؤمن من ان يكون اخرس و لا ينظرنّ احد الى فرج امرأته و ليغضّ بصره عند الجماع فان النظر الى الفرج يورث العمى في الولد،يا علي لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك فاني اخشى ان قضى بينكما ولد ان يكون مخنثا مؤنثا مخبّلا يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرء القرآن فاني اخشى عليهما ان ينزل نار من السماء فتحرقهما.

يا علي لا تجامع امرأتك الا و معك خرقة و مع اهلك خرقة و لا تمسحا بخرقة واحدة فتقع الشهوة على الشهوة فان ذلك يعقّب العداوة بينكما ثم يؤديكما الى الفرقة و الطلاق يا علي لا تجامع امرأتك من قيام فان ذلك من فعل الحمير و ان قضى بينكما ولد كان بوالا في الفراش كالحمير البوالة في كل مكان،يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الفطر فانه ان قضى بينكما ولد لم يكن ذلك الولد الا كثير الشرّ،يا علي لا تجامع امرأتك في ليلة الاضحى فانه ان قضى بينكما ولد يكون له ستة اصابع او اربع،يا علي لا تجامع امرأتك تحت شجرة مثمرة فانه ان قضى بينكما ولد يكون جلادا و قتالا او عريفا،يا علي لا تجامع امرأتك في وجه الشمس و تلألئها الا ان يرخى ستر فيستركما فأنه ان قضى بينكما ولد لا يزال في بؤس و فقر حتى يموت،يا علي لا تجامع اهلك بين الاذان و الاقامة فانه ان قضى بينكما ولد يكون حريصا على اهراق الدماء،يا علي اذا حملت امرأتك فلا تجامعها الا و أنت على وضوء فأنه ان قضى بينكما ولد يكون اعمى القلب بخيل اليد يا علي لا تجامع اهلك في النصف من شعبان فأنه ان قضى بينكما ولد يكون مشوما ذا شامة في وجهه.

يا علي لا تجامع اهلك في آخر درجة منه اذا بقى يومان فأنه ان قضى بينكما ولد يكون عشّارا أو عونا للظالم و يكون هلاك فئام من الناس على يديه،يا علي لا تجامع اهلك على سقوف البنيان فانه ان قضى بينكما ولد يكون منافقا مرائيا مبتدعا،يا علي اذا خرجت في سفر فلا تجامع اهلك في تلك الليلة فانه ان قضى بينكما ولد ينفق ماله في غير حقّ اللّه و قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ الشَّيٰاطِينِ، يا علي لا تجامع اهلك اذا خرجت الى سفر مسير ثلاثة ايام و لياليهنّ فانه ان قضى بينكما ولد يكون عونا لكل ظالم،يا علي عليك بالجماع ليلة الاثنين فانه ان قضى بينكما ولد يكون حافظ لكتاب اللّه راضيا بما قسم اللّه عز و جل له يا علي ان جامعت اهلك ليلة الثلاثا فقضى بينكما ولد فانه يرزق الشهادة بعد شهادة ان لا اله اللّه محمد رسول اللّه و لا يعدّ به اللّه مع المشركين،و يكون طيّب النكهة من الفم رحيم القلب سخيّ اليد طاهر اللسان من الغيبة و الكذب و البهتان،يا علي و ان جامعت اهلك ليلة الخميس فقضى بينكما ولد فانه يكون حاكما من الحكام او عالما من العلماء،و ان جامعتها يوم الخميس عند زوال الشمس عن كبد السماء فقضى بينكما ولد فان الشيطان لا يقربه حتى يشيب و يكون

ص:112

فهما و يرزقه اللّه عز و جل السلامة في الدين و الدنيا،يا علي و ان جامعتها ليلة الجمعة و كان بينكما ولد فأنه يكون خطيبا قوالا مفوها و ان جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الاخرة فانه يرتجى ان يكون له ولد من الابدال ان شاء اللّه تعالى،يا علي لا تجامع اهلك في اول ساعة من الليل فانه ان قضى بينكما ولد لا يؤمن ان يكون ساحرا مؤثرا للدنيا على الاخرة،يا علي احفظ وصيتي هذه كما حفظتها عن جبرئيل.

و قال الكاظم عليه السّلام من أتى اهله في محاق الشهر فليسلم لسقط الولد،و عن الباقر عليه السّلام قال يكره الجماع في ليلة ينكسف فيه القمر،و اليوم الذي تنكسف فيه الشمس و فيها بين غروب الشمس الى ان يغيب الشفق،و من طلوع الفجر الى طلوع الشمس و في الريح السوداء و الحمراء و الصفراء و الزلزلة،و لقد بات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند بعض نسائه فانكسف القمر في تلك الليلة فلم يكن منه شيء،فقالت له زوجته يا رسول اللّه بأبي أنت و امي أكل هذا البغض،فقال ويحك حدث هذا الحدث في السماء فكرهت ان اتلذذ و أدخل في شيء،لقد غير اللّه تعالى قوما و أن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم،و أيم اللّه لا يجامع احد زوجته في هذه الساعة التي و صفت فيرزق في جماعه ولدا و قد سمع هذا الحديث فيرى ما يحبّ.

و قال الصادق عليه السّلام لا تجامع في اول الشهر و لا في وسطه و لا في آخره فأنه من فعل ذلك فليسلم لسقط الولد فان تمّ او شك ان يكون مجنونا،أ لا ترى ان المجنون اكثر ما يصرع في اول الشهر و وسطه و آخره،و علّل في الكافي بأن الجن يكثرون غشيان نسائهم في اول ليلة من الهلال و في وسطه و في آخره،و الظاهر ان الوجه فيه ان هذا الولد يكون موافقا لاولاد الجن فهو (همزاد)فيكون وطي الانسان و ولادة ولده موافقا لوطي الجن و ولادة اولادهم،و قال عليه السّلام يكره الجنابة حين تصفر الشمس و حين تطلع و هي صفراء،و سأل محمد بن العيص أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال أجامع و انا عريان؟قال لا و لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها،و قال عليه السّلام لا تجامع في السفينة،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكره ان يغشى الرجل المرأة و قد احتلم حتى يغتسل من احتلامه الذي رآه،فأن فعل فخرج الولد مجنونا فلا يلومنّ الا نفسه،و من جامع امرأته و هي حايض فخرج الولد مجذوما او ابرص فلا يلومنّ الا نفسه،و عن الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذي نفسي بيده لو انّ رجلا غشى امرأته و في البيت صبي مستيقظ يراهما و يسمع كلامهما و نفسها ما افلح ابدا ان كان غلاما كان زانيا و ان كان جارية كانت زانية،و كان علي بن الحسين عليهما السّلام اذا اراد ان يغشى اهله اغلق الباب و ارخى الستور و اخرج الخدم،و ظاهر هذا الحديث تخصيص الصبي الممّيز،و في بعض الاخبار اطلاق و هو منزّل على هذا المقيد.

ص:113

فان قلت كيف حمل الاصحاب رضوان اللّه عليهم هذه النواهي على الكراهة مع ترتّب الافعال المحرمة عليها لان خروج الولد مجنونا او أجذم او ابرص او نحو ذلك من الافعال يحرم على الاب مع قدرته على رفع هذه الامراض بعدم استعمال الجماع في هذه الاوقات المخصوصة.

قلت قد خطر هذا الخاطر لشيخنا البهائي قدس اللّه روحه في موضع آخر و هو ما روى عن الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الماء الذي يسخن بالشمس لا تغتسلوا به و لا تعجنوا به فأنه يورث البرص،حيث ذكر ان الفقهاء رضوان اللّه عليهم حملوا هذا النهي على الكراهة،ثم تكلم عليهم بأن النهي حقيقة في التحريم كما هو المذهب المنصور في الاصول،ثم قال و لو نزّلنا عن ذلك و قلنا باشتراكه بين التحريم فتعليله صلّى اللّه عليه و آله بأن ذلك يورث البرص قرينة كون النهي للتحريم لوجوب اجتناب المظنون أ لا ترى ان الطبيب الحاذق لو نهى شخصا عن اكل شيء و قال انه يورث ضررا عظيما لوجب عليه اجتنابه فكيف بالنهي الصادر عنه صلّى اللّه عليه و آله على ان الضرر الذي جعله علّة للنهي لو لم يكن مظنونا لكان متساوي الطرفين و كان احتمال البرص و عدمه متساوين.

و الجواب عن هذا كله و هو ان النهي في كل من باب الامر في قوله تعالى وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ من أنه للارشاد و تفصيل هذا ان كثيرا من المحللات الشرعية قد ذكر لها الشارع ضررا بدنيا و كذلك الاطباء كالباذنجان و بعض البقول و بعض المطعومات،فاذا اخبر الشارع بترتب الضرر عليها فكيف احلها مع انه لم يحرم الا ما اضرّ بالبدن و سمّاه خبيثا،و حينئذ فحاصل معناه ان ترتب انواع هذا الضرر على هذه الامور اشد من ترتبها على غيرها لا ان بينهما عليّة و معلولية و سببية و مسببية او انه يحصل منه الظن بوقوع ذلك الضرر،أ لا ترى ان افلاطون و بطليموس و اساطين الحكماء ذكروا خوّاص المركبات و المفردات و بينوا ان في بعضها مفاسد للابدان و ذكروا وجه المفاسد مع انه لم يقل احد بحرمتها و لا احذق من هؤلاء الحكماء ان هذا كله من باب المعالجات و الادوية المتعارفة بالنسبة الى اصحاب الابدان،فمعنى قوله صلّى اللّه عليه و آله ان من جامع في هذه الاوقات يكون ولده كذا ان هذه الاوقات لها نسبة الى مثل هذه المذكورات في الاولاد لا ان بينهما ربطا يتعقبه الظن بهذا الترتب،أ لا ترى ان الولد يعلق كثيرا في تلك الاوقات من غير ان يترتب عليه تلك الامور المذكورة،و حينئذ فمعنى اخباره صلّى اللّه عليه و آله بأن من جامع في كذا يكون ولده كذا ما ذكرناه،و ذلك ان كلامهم عليهم السّلام منزّل على ما هو معروف في المحاورات شائع في الاستعمال و قد شاع في العرف قولهم لا تأكل كذا لانه يتعقبه ضرر كذا

ص:114

و ليس مرادهم الا ما حققنا،و اياك و الغفلة عن مثل هذا فأنه كثير الوقوع في الاخبار و الاشكال الذي اورده في مادة خاصة جار في كل المواد.

فان قلت مثل هذه المذكورات من أنواع الضرر هل تدفع و تزول بما ذكره صاحب الشرع في دفع نحوسة الايام،قلت الظاهر هذا و ذلك لان ما ذكره عليه السّلام عامّ في دفع كل نحوسة،اما آيات القرآن فقد ورد ان القرآن لما يقرأ فاذا قرئ بقصد رفع تلك النحوسات دخل في ذلك العموم خصوصا قرائة آية الكرسي فانا قد جربناها كما تقدم.

و اما الصدقات و أنواع الاذكار و الادعية المأثورة فالظاهر ان حكمها حكم القرآن ايضا، بل يمكن ان يقال ان التوكل على اللّه و قوة العزم و اخلاص النية ربما يدفعه ايضا كما يستفاد من ظواهر بعض الاخبار و عمومها.

رجعنا الى الكلام الاول فاذا دخلت العروس عليه و فعل معها هذه الافعال فلا يبادر الى الجماع ابتداء فيكون قد أخاف المرأة و فعل مثل الحمير بل ربما يمكن ان يقال ان ما ورد من صاحب الشرع من نزع خفّ العروس و جعله يده على ناصيته و قرائة الدعاء و صلاة ركعتين من الرجل و المرأة لاجل استقرار قلب العروس لانهما اجنبيان تلاقيا هذه الساعة،بل ينبغي المداعبة و المزاح و المطائبة،و هذا ليس مخصوصا بالعروس بل يجري في كل النساء فان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يمازح نسائه و يقبلهنّ قبل الجماع قال الصادق عليه السّلام ان احدكم ليأتي اهله فتخرج من تحته فلو اصابت زنجيا لتشبثت به فاذا أتى احدكم اهله فليكن بينهما مداعبة و هو المزاح فأنه اطيب للامر،و في موضع آخر ان الجماع من غير مزاج و تقبيل مثل فعل الحمير فان الحمار ينزو من غير مداعبة بل قيل ان الحمار يقدّم الشمّ على النزو فمن لم يفعل ما ذكر يكون اخس طبعا منه و في رسالة الامام علي بن موسى الرضا عليه السّلام التي وضعها في الطب الامر بالاكثار من المزاح عند المقاربة و الامر بتغميز ثدييها،و قد علله عليه السّلام بأن ماء المرأة يخرج من ثديها و شهوتها في وجهها فالمزاح و التقبيل طلبا لشهوتها حتى تريد منك مثل ما تريد انت منها و التغميز طلبا لنزول مائها حتى يتخلق الولد من المائين،و ذلك انه لا يتخلق من واحد كما ورد في بعض الاخبار،و لان ماء الرجل اذا تخلقت منه البنت وحده يكون اوصافها كأوصاف الرجال و هذا لا يكون مطلوبا في البنت،و ليكن عزمه بكل استمتاع اقامة السنة و طلب الولد و التحصّن من الزنا و النظر الى الاجانب حتى يكون قد فاز بالثواب الاجل و حصل له التلذذ العاجل،و لا يكون مطمح نظره افضاء الشهوة فأنه من افعال البهائم،بل روى ان البهائم تدرك هذا المعنى العالي،كما روى ان عصفورا قال لعصفورته في زمان سليمان عليه السّلام تعالى حتى اجامعك فيرزقنا اللّه ولد يثقل الارض بلا اله الا اللّه،فسمعه سليمان فقال ان هذه النية خير من ملك سليمان،و من ثم اهتم الشارع

ص:115

بأمر النطفة فلم يجوز للرجال اراقتها خارج الرحم،حتى انه لو فعل هذا كان الواجب عليه او يستحب ان يدفع الى الزوجة عشرة دنانير دية الماء و كذا الزوجة لو فعلت مثله.

و دية المطفة اذا القيت في الرحم فأخرجها مخرج عشرون دينارا،و لو افزعه مفزع حال الجماع فألقى مائه خارج الرحم فعشرة دنانير،و ان كانت المفزع هي المرأة فلا شيء لها منه، و كذا لو كان الرجل فلا شيء له و كانت الدية للأخر و دية العلقة و هي القطعة من الدم تتحول اليها النطفة اربعون دينارا،و في المضغة و هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ ستون دينارا،و في ابتداء تخلّق العظم من المضغة ثمانون دينارا،و في التام الخلقة قبل و لوج الروح فيه مأة دينار ذكرا كان الجنين ام أنثى،و قيل متى لم تتم خلقته ففيه غرة عبد أو امة صحيحا لا يبلغ الشيخوخة و لا ينقص سنّه عن سبع سنين لرواية ابي بصير و غيره،و الاول اشهر فتوى و اصح رواية،و لو و لجته الروح فدية كاملة للذكر و نصف للأنثى و ان خرج ميتا تيقن حيوته في بطنها و مع اشتباه كونه ذكرا او انثى يكون على الجاني نصف الديتين،و دية المسلم بالذهب الف دينار و بالفضة عشرة آلاف درهم لأنه قد كان في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله كل دينار قيمته عشرة دراهم لكن في هذه الاوقات ق ارتفعت قيمة الذهب فصار قيمة الدينار تزيد على عشرين درهما فبحسب هذا التفاوت تفاوتت الديتان تفاوتا كثيرا،لكن قد ورد في بعض الاخبار ان الاصل هو الدراهم منضما الى اصالة البرائة من الزائد،و هذه الدية اذا كانت صلحا عن القصاص لا تسقط العقاب الاخروي كالقصاص بل هما عقاب دنيوي،و ما ورد في الاخبار من أن الحد مسقط للذنب فالظاهر انه محمول على حقوق اللّه سبحانه كالزنا و شرب المسكرات و في الاخبار دلالة على هذا ايضا.

و قد ورد جواز العزل في مواضع منها المستمتع بها،و منها الامة،و منها الزوة السليطة، و منها الزوجة البذية،و منها الزوجة الناشزة،و وجه العلة ظاهر لا يحتاج الى البيان،فاذا اراد الجماع فليقل بسم اللّه الرحمن الرحيم حتى لا يشاركه الشيطان في ذلك الولد،فقد روى في دعاء المقاربة اللهم ان قضيت لي منها ولدا فاجعله مباركا سويا و لا تجعل للشيطان فيه شركا و لا نصيبا،قال الراوي قلت له عليه السّلام و كيف يكون شرك شيطان،فقال لي ان الرجل اذا دنى من المرأة و جلس مجلسه حضره الشيطان فان هو ذكر اسم اللّه تنحى الشيطان عنه و ان فعل و لم يسمّ ادخل الشيطان ذكره فكان العمل منهما جميعا و النطفة واحدة،قلت فبأي شيء يعرف هذا،قال بحبنا و ببغضنا،و من هذا يستفاد ان اكثر المخالفين لنا في المذهب شرك الشيطان.

و قد روى هذا في الاخبار،روى الصدوق(ره)باسناده الى علي عليه السّلام قال قد كنت جالسا عند الكعبة فاذا شيخ محدودب فقال يا رسول اللّه ادع لي بالمغفرة فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله خاب

ص:116

سعيك يا شيخ و ضلّ عملك،فلما ولّى الشيخ سألته عنه،فقال ذلك اللعين ابليس قال علي عليه السّلام فعدوت خلفه حتى لحقته و صرعته الى الارض و جلست على صدره و وضعت يدي على حلقه لاخنقه،فقال لا تفعل يا ابا الحسن فاني من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم،و اللّه يا علي اني لاحبك جدا و ما ابغضك احد الا شركت اباه في امه فصار ولد زنا فضحكت و خليّت سبيله.

و لعلك تقول ان مخالفينا يزعمون انهم لا يبغضون عليا و هذا زعم باطل،و قد روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان علامة بغض علي تقديم غيره و تفضيله عليه،و كلّ مخالفينا قد قالوا بهذا، و ما احسن قول علي عليه السّلام لما قال له رجل يا علي اني احبك و احب عثمان فقال له انت اعور اما ان تعمى و اما ان تستبصر،و اما دعاء المباشرة فهو اللهم ارزقني لدا و اجعله تقيا زكيا ليس في خلقه زيادة و لا نقصان،و اجعل عاقبته الى خير،و هو مروي عن الباقر عليه السّلام قال فاذا انزل الماء فليقل اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا و ينبغي المبادرة الى تزويج البنات خصوصا اذا ادركن فانهنّ كما قال عليه السّلام كالثمار تفسد بعد ادراكها اذا لم تقطف،و قال عليه السّلام من سعادة الرجل ان لا تطمث ابنته الا عند زوجها و كانوا يكرهون الاستعجال في كل الامور الا امور منها المبادرة بتزويج البنت و منها المبادرة بالتوبة بعد الذنب.

نور في تكون الاولاد في الرحم و بعض احوالهم

اعلم ان من قرر اللّه في صلبه اولادا في عالم الذر فلا بدّ ان يوجدوا منه و من لم يقرر في صلبه اولادا في ذلك العالم فهو محروم منهم،روى الكليني باسناده الى الصادق عليه السّلام قال كان علي بن الحسين عليهما السّلام لا يرى بأسا بالعزل يقرأ هذه الاية وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ فكل شيء اخذ اللّه منه الميثاق فهو خارج و ان كان على صخرة صمّاء،و لكن لا يقول ذلك الرجل ان الامر قد فرغ منه فما فائدة الدعاء في طلب الولد،لانه قد عرفت ان اللّه سبحانه جعل الامور مربوطة بأسبابها و جعل لنفسه المشيئة في كل شيء فلعل الحكمة القديمة اقتضت كون حصول الولد معلقا على الدعاء و اشباهه و دعاء طلب الولد قد روى عن الصادق عليه السّلام و هو اللهم لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين وحيدا وحيشا فيقصر شكري عن تفكري بل هب لي عاقبة صدقا ذكورا و انوثا آنس بهم من الوحشة و اسكن اليهم من الوحدة و اشكرك عند تمام النعمة يا وهّاب يا عظيم يا معظم،ثم اعطني في كل عافية شكرا حتى تبلغني منها رضوانك في صدق الحديث و اداء الامانة و وفاء العهد برحمتك يا ارحم الراحمين.

ص:117

و عنه عليه السّلام قال ادع و أنت ساجد رب هب لي من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء، رب لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين،و عن الباقر عليه السّلام اذا اصبح و امسي يقول سبحان اللّه سبعين مرة و يستغفر سبع مرات و يسبح تسع مرات،و يختم العاشرة بالاستغفار قال عليه السّلام استغفروا ربكم انه كان غفار يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين و يجعل لكم جنات و يجعل لكم انهارا،قال الراوي و قد جربت ذلك غير مرة و علمتها غير واحد من الهاشميين ممن لم يكن يولد فولد لهم ولد كثير و الحمد للّه و الماء الذي يكون مبدأ نشوء المؤمن ممزوج بماء الجنة،كما روى ان اللّه سبحانه اذا علم ذلك الوقت الذي يقارب المؤمن فيه زوجته ارسل ملكا و معه ماء من الكوثر فوضع ذلك الماء في الكوز التي يشرب منها فيشرب من ذلك الماء فاذا شارب قارب اهله فيكون النطفة بماء الكوثر و من ثم تلبس الايمان قلب ذلك الولد في عالم الطفولية فاذا وقعت النفطة في الرحم ارسل اللّه ملكا الى موضع قبره فجاء بشيء من ترابه و مزجه بتلك النفطة،فاذا شبّ حنت نفسه الى تلك البلد التي قرر فيها قبره،فاذا قرب الاجل هيأت اسباب السفر الى تلك البلاد و قوى عزمه عليه حتى يبلغ ذلك القبر.

فانظر كيف اعدّ اللّه سبحانه امكنة الموت و منازله قبل منازل الحياة و حبّب الى الانسان الرحيل اليه،و من هنا قال صلّى اللّه عليه و آله حب الوطن من الايمان فان المراد بالوطن في هذا الحديث على ما فهمه شيخنا البهائي(ر ه)و بعض المحققين هو الوطن الحقيقي و هو القبر الذي قال فيه عليه السّلام القبر اما روضة من رياض الجنة،و اما حفرة من حفر النيران و استدلوا عليه بأن المساكن المتعارفة من الامور الدنيوية و النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يأمر بحب الدنيا وقتا من الاوقات،بل الذي ورد عنه انما هو الحث على تركها و الرغبة عنها.

و الحق ان كلامه صلّى اللّه عليه و آله كما في الروايات مثل كلام القرآن في ان له ظاهرا و باطنا و في ان اللفظ الواحد منه يجمع المعاني المتكثرة و يكون كلها مراده(ة خ)حال القاء الكلام كما قال اوتيت جوامع الكلم،و المراد به ما قل لفظه و كثر معناه فيكون المراد بالوطن ما يتناول الوطنين الدنيوي و الاخروي،و ذلك ان الامور الضرورية للانسان من جهة الحياة قد وقع الحث من الشرع على احكامها و اتقانها و الميل اليها و الى اصلاحها،فقال صلّى اللّه عليه و آله اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا و اعمل لاخرتك كأنك تموت غدا،و اما تأويل بعضهم له حتى يراد به خلاف معناه الظاهر و هو ان يكون المراد منه ان الانسان اذا علم انه يعيش ابدا لم يكن له اهتمام بالمبادرة التي تدبير امور دنياه بل يسوفها و يؤخرها و يقول اذا كان العمر طويلا اتمكن من فعل هذا فيما بعد فلا يهتم بتعجيل امور الدنيا فيكون الفقرتان للترغيب في امور الاخرة و حدها فهو خلاف الظاهر من الخبر و من سياقه،و من ثم اورده المحدثون في الاصول في باب الحث على المعايش و المكاسب

ص:118

و ايضا هو خلاف العادات،و ذلك ان طول الامل و رجاء ان يبلغ العمر الى الثمانين و ما فوقها هو الذي حثنا و رغبنا في امور الدنيا و المبادرة اليها فكيف لو علمنا بالحيوة ابدا و هذا ظاهر و ايضا في حب الوطن نظام امر الدنيا المأمور به و ذلك ان بعض الناس على ما شاهدناهم لهم اوطان و بلاد لا يقدر غيرهم ان يقيم فيها يوما واحدا لكنها عندهم احبّ من بغداد و اصفهان و ذلك انهم لو كرهوها لما فيها من الضرر الذي لا يحتمله غيرهم لادّى الى خراب اكثر البلاد و ازدحام الناس في امكنة مخصوصة.

و ايضا فأنه صلّى اللّه عليه و آله لما هاجر الى المدينة و سكن فيها كان اذا اتاه آت من مكة يسأله عن ارضها و عن ازهارها و مياهها و يتشوق اليها،و يقول هي مسقط رأسي فيظهر الميل اليها من جهة كونه وطنا لا من جهة الشرف و الفضل فان لذلك مقاما آخر مع انه صلّى اللّه عليه و آله لقى من اهلها انواع الاذى لكنها

ديار بها حلّ الشباب تميمتي و اول ارض مسّ جلدي تربها

و كذلك الائمة عليهم السّلام كانوا يتشوقون الى اوطانهم و يظهرون الميل اليها و الحب لها لكونها اوطانا مع ان الاوطان و الديار ليستا من امور الدنيا.

و حيث انتهى الحال بنا الى هنا فلا بأس بتحقيق الدنيا و انها عبارة عن أي شيء و ما المراد بالدنيا التي اطبق اهل اللّه على ذمها،و ما المراد بالدنيا التي مدحها امير المؤمنين عليه السّلام في بعض مواطنه،و ذلك انه عليه السّلام سمع رجلا يذم الدنيا فقال ايها الذام للدنيا المنخدع بأباطيلها المغتر بغرورها،بم تذمها انت المتجرم عليها ام هي المتجرمة عليك،متى استهوتك ام متى غرتك، أ بمصارع آبائك من البلى ام بمضاجع امهاتك تحت الثرى كم عللت بكفيك و مرضت بيديك تبغي لهم الشفاء و تستوصف لهم الاطباء لم ينفع احدهم اشفاقك و لم تسعف فيه بطلبتك و لم تدفع عنه بقوتك،قد مثلت لك به الدنيا نفسك و بمصرعه مصرعك ان الدنيا دار صدق لمن صدقها و دار عافية لمن فهم عنها و دار غنى لمن تزود منها و دار موعظة لمن اتعظ بها،مسجد احباء اللّه و مصلى ملائكة اللّه و مهبط وحي اللّه و متجر اولياء اللّه اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها و قد اذنت ببينها و نادت بفراقها و نعت نفعها و اهلها فمثلت لهم ببلائها البلاء و شوقهم بسرورها الى السرور راحت بعافية و ابتكرت بفجيعة ترغيبا و ترهيبا و تخويفا و تحذيرا فذمها رجال غداة الندامة و حمدها آخرون يوم القيامة،ذكرتهم الدنيا و حدثتهم فصدقوا و وعظتهم فاتعضوا و لم يعهد منه عليه السّلام مدح للدنيا سوى هذا الموضع نعم روى عن

ص:119

النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال لا تسبوا الدنيا فنعم المطية (1)للمؤمن عليها يبلغ الخير و بها ينجوا من الشر، و اذا قال العبد لعن اللّه الدنيا قالت الدنيا لعن اللّه اعصانا لربه،و اما ذمه لها و انه طلقها ثلاث مرات لم يرجع فيها فهو مشهور و في الكتب مسكور،و حينئذ فما المراد ممن الدنيا المذمومة؟ فنقول قد غلط اكثر الناس في المراد منها فقيل هو الدهر،و قيل هي الاسباب،و قيل غير ذلك و هذا كله ظاهر البطلان،اما الدهر و الايام و الليالي فقد عرفت انه عليه السّلام نهى عن ذمها و سبها و ان من سبها كان آثما مع انها مخلوقاته سبحانه خلقها لانتفاعنا بها.

و اما الاموال فقد ورد في الاخبار نعم المال الصالح و الولد الصالح للعبد الصالح و لان بالاموال ينال ثواب الصدقات و اعانة المحتاج و اغاثة الملهوف،و كل مقام من المقامات،و اما الجاه و الاعتبار فلان منه قضاء حوائج الاخوان التي قال فيها الصادق عليه السّلام ان من طاف بالبيت اسبوعا كتب اللّه له ستة آلاف حسنة و محى عنه ستة آلاف سيئة،و رفع له ستة آلاف درجة،ثم قال و قضاء حاجة المؤمن افضل من طواف و طواف و طواف حتى عدّ عشرا،و اما المنازل و الدور فكذلك ايضا لأنه قد ورد ان الدار الواسعة من روح المؤمن في الدنيا و للاحتياج اليها في بقاء نوع الانسان.

فالحاصل ان الدنيا غير هذا كله و هي الحالة التي تبّعد الانسان من ربه و ان كان كانت هي الصلاة كما ان الاخرة هي الحالة التي تقرّب الانسان من ربه و ان كانت العيشية (2)و ذلك لانا شاهدنا من واظب على الصلوات و الاذكار من الصوفية و غيرهم و لم يكن لهم نية سوى اقبال الناس عليهم و توجههم اليهم في هذه الصلوة هي الدنيا و اما كون الامور الدنيوية في الظاهر امورا أخروية فقد بلغني ان جماعة من المؤمنين من اهل العراق قصدوا الشام لبعض مطالبهم فسكنوا في بعض خاناتها فخرجوا من سحر تلك الليلة(ذات ليلة خ)الى الحمّام او المسجد،فأخذهم غلمان العسس و قيدوهم و أتوا بهم اليه و اتفق في تلك الاوقات كثرة اللصوص في تلك البلاد،فلما اوقفوهم بين يديه و قالوا ان هؤلاء لصوص،و كان ذلك الرجل عظيم الهيكل عليه لباس الروم فلما رع بصره الى المؤمنين سألهم عن بلادهم و احوالهم،فقالوا له انا من اهل العراق،فعرفهم انهم من الشيعة،فقال هؤلاء لصوص من الرافضة فحلف ان

ص:120


1- (20) المطية:الداية التي تركب و في شرح شواهد مجمع البيان-مخطوط-:و هي الدابة التي تمطو في سيرها أي تسرع.
2- (21) العيشية.كذا في النسخ المطبوعة و لكن في النسخة المخطوطة:العسسية.و كذا في النسخة المطبوعة من الكتاب سنة(1269-1271 ه ق)و لعلها الصحيح بقرينة الحكاية الآتية:و العسس:الذين يطوفون بالليل يحرسون الناس و يكشفون اهل الريبة و هو جمع عاس.

يصنع بهم أنواع السياسات فأخذتهم غلمانه و أمر ان يحبسوا بمنزله حتى يجيء هو و يقتلهم، فأتوا بهم و حبسوهم،فلما كان قرب الصبح اقبل العسس الى منزله و هم قد تيقنوا القتل،فلما وصل الى بيته و تفرق عنه جلاوزته غلقوا بابه فخرج بعض خدّامه بثياب بيض فخلع تلك الثياب و فرش له مصلاّه،و اذا فيه سجدة و سبحة و قرآن و صحيفة،فصلّى بتضرع و استكانة و بكاء فلما استتم تعقيبه امر باحضار المؤمنين،فقال لهم ايها المؤمنون انا مثلكم شيعي و لي من غلاّت الاملاك ما يفضل عن مؤنتي،و ليس لي احتياج الى هذا المنصب و مع هذا في كل سنة اعطى السلطان مبلغا جزيلا حتى يعطوني هذا المحل،و ليس هذا و اللّه لا للخوف على امثالكم من الشيعة حتى لا ينال الضرر احدا منكم لان كل عسس تقدمني كان اذا ظفر بالشيعة انزل بهم انواع البلا،و قد شاهدنا مثله في اصفهان فهؤلاء قد حصلوا الجنة بكونهم اعساسا.

و في الحديث انه ربما دخل المسجد رجلان صالح و فاسق فلما خرجا كتب الصالح فاسقا و الفاسق صالحا،و ذلك ان الصالح اذا رأى اهل المسجد يدلّ عليهم بعبادته و يحقر اعمالهم بالنظر الى عمله،فتكون عبادته تلك من الامور الدنيوية،و اما الفاسق فأنه اذا نظر الى اهل العبادة في المسجد ندم على ما وقع منه من أنواع المعاصي فيكتب بهذا من الصالحين،فيكون أنواع فسقه وسيلة الى دخوله الجنة،و روى ان الرجل ربما اذنب الذنب فدخل به الجنة،فقيل له كيف ذلك؟قال لان ذلك الذنب يكون نصب عينه فيكون خائفا منه فيدخله اللّه الجنة بذلك الخوف منه و الفزع،و بالجملة فالدنيا المذمومة هي الحالات و الاسباب الحائلة بين العبد و مولاه و اما الممدوحة فهي تلك الحالات و الاسباب ايضا لكن من جهتها الاخرى،و هي جهة القرب اليه سبحانه (1).

و لنرجع الى ما كنّا فنقول ان اللّه سبحانه قال وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا الْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ و تفصيله على ما ورد في الاخبار ان النطفة اذا وقعت في الرحم بقيت اربعين يوما نطفة ثم تصير علقة حتى يتم لها اربعون يوما ثم تصير مضغة حتى يتمّ لها اربعون يوما فاذا كمل اربعة اشهر بعث اللّه ملكين خلاقين فيقتحمان في بطن المرأة من فمها فيصلان الى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في اصلاب الرجال و ارحام النساء فينفخان فيها روح الحياة و البقاء و يشقّان له السمع و البصر

ص:121


1- (22) روى ان عيسى عليه السّلام رآى الدنيا في صورة عجوز عليها كل زينة فقال لها كم تزوجت؟قالت لا احصهم كثرة قال لها اما تواعنك او طلقوك؟قالت قتلتهم كلهم فقال عليه السّلام تعسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بازواجك الماضين منه رحمه اللّه.

و ساير الجوارح،ثم يوحى الى الملكين اكتبا عليه قضائي و قدري و اشترطا الى البدا فيما تكتبان فيرفعان رأوسهما فاذا اللوح يقرع جبهته و فيه صورته و رؤيته و اجله و ميثاقه شقيّا او سعيدا و جميع شأنه فيملى احدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح و يختمان الكتاب و يجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما في بطن امه و ربما عتى فانقلب و لا يكون الا في عات او مارد.

فاذا بلغ اوان خروجه تاما او غير تام اوحى اللّه الى ملك يقال له زاجر فيزجره زجرة يفزع منها فيخرج باكيا من الزجرة و ينسى الميثاق،و عن ابي جعفر عليه السّلام ان النطفة تتردد في بطن المرأة تسعة ايام في كل عرق و مفصل منها،و للرحم ثلثة اقفال قفل في اعلاها مما يلي السرة من الجانب الايمن،و القفل الاخر وسطها،و القفل الاخر اسفل الرحم،فيوضع بعد تسعة ايام في القفل الاعلى فيمكث فيه ثلث اشهر فعند ذلك يصيب المرأة خبث النفس و التهوع،ثم ينزل الى القفل الاوسط فيمكث فيه ثلاثة اشهر،و صرة الصبي فيها مجمع العروق و عروق المرأة كلها منها يدخل طعامه و شرابه من تلك العروق،ثم ينزل الى القفل الاسفل فيمكث فيه ثلاثة اشهر فذلك تسعة اشهر ثم تطلق المرأة فكلما طلقت انقطع عرق من صرة الصبي فاصابها ذلك الوجع و يده على صرته حتى يقع الى الارض.

و قد ورد في تفسير قوله تعالى فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً ان المراد بها ملائكة التصوير فاذا دخلوا بطن المرأة و اخذوا في تصويره قالوا ما نصوره يا رب أذكر أم انثى؟فان كان ذكرا قالوا على أي صورة؟فيقول سبحانه احضروا صور آبائه الى آدم و صوروه على صورة واحد منها، و ان كان انثى يقول سبحانه احضروا صور امهاته الى حوى فصورها مثل صورة واحدة منها، و من هذا ورد انه لا يجوز للرجل ان يقول هذا الولد لا يشبهني و ينفيه لاجله لانه قد يكون على صورة واحد من آبائه و كذلك البنت و قد يشبه الولد غير آبائه،روى الصدوق(ر ه)باسناده الى الرضا صلوات اللّه عليه ان الملك قال لدانيال اني اشتهي ان يكون لي ابن مثلك فقال ما محلى من قلبك؟قال اجلّ محل و اعظمه،قال دانيال عليه السّلام فاذا جامعت فاجعل همتك فيّ قال ففعل الملك ذلك فولد ابن اشبه خلق اللّه بدانيال و سيأتي تحقيق الوجه في هذا ان شاء اللّه تعالى.

و اما شبهه للاقارب فقد ورد في سؤالات الخضر لامير المؤمنين عليه السّلام اخبرني عن الرجل كيف يذكر و ينسى و عن الرجل كيف يشبه ولده الاعمام و الاخوال؟فالتفت الى الحسن عليه السّلام فقال اجبه،فقال عليه السّلام اما ما ذكرت من امر الذكر و النسيان فان قلب الرجل في حق و على حق طبق فان صلى الرجل عند ذلك على محمد و آل محمد صلاة تامة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق فاضاء القلب و ذكر الرجل ما كان نسى؟و ان هو لم يصل على محمد و آل محمد او نقص

ص:122

من الصلوة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق فاظلم القلب و نسى ذلك الرجل ما كان ذكره.

و اما ما ذكرت من امر المولود الذي يشبه اعمامه و اخواله فان الرجل اذا أتى اهله ليجامعها فجامعها بقلب ساكن و عروق هادية و بدن غير مضطرب فاسكنت تلك النطفة في جوف الرحم فخرج الولد يشبه اباه و امه،و ان وقعت النطفة في حال اضطرابها على بعض العروق فان وقعت على عرق من عروق الاعمام اشبه اعمامه و ان وقعت على عرق من عروق الاحوال اشبه الولد اخواله الحديث،و يأمرهم بان يكتبوا تحته و للّه فيه المشيّة،و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله السعيد من سعد في بطن امه و الشقي من شقى في بطن امه،و قد تقدم معناه في حديث آخر من ان من كان في علم اللّه انه شقي يكتبه شقيا لكن قد تحققت ان علمه سبحانه ليس علة للمعلول،فاذا تم له اربعة اشهر امر اللّه الروح بأن تدخل في ذلك البدن،و ربما امتنعت فيلطف بها الملائكة حتى تدخل،و من هنا قال الصادق عليه السّلام اذا كان بأمرأة احدكم حبل و اتى عليه اربعة اشهر فليستقبل بها القبلة و ليقرأ آية الكرسي و ليضرب على جنبها و ليقل اللهم اني قد سميتها محمدا فأنه يجعله غلاما فان و في بالاسم بارك اللّه فيه و ان رجع عن الاسم كان للّه فيه الخيار ان شاء اخذه و ان شاء تركه.

و روى عن امير المؤمنين عليه السّلام ان النطفة تجول في الرحم اربعين يوما فمن اراد ان يدعو اللّه عز و جل في تلك الاربعين قب ان يخلق ثم يبعث اللّه عز و جل ملك الارحام فيأخذها فيصعد بها الى اللّه عز و جل فيقف ما شاء اللّه فيقول الهي أذكر أم أنثى فيوحى اللّه عز و جل ما يشاء و يكتبه الملك،ثم يقول الهي أشقي أم سعيد؟فيوحى اللّه عز و جل ما يشاء من ذلك و يكتب،فيقول الهي كم رزقه و ما اجله ثم يكتب و يكتب كل شيء يصيبه في الدنيا بين عينيه ثم يرجع به فيرده في الرحم فذلك قول اللّه عز و جل مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا ،و يكون غذاه دم الحيض يدخل الى بطنه من صرته حتى يخرج الى الدنيا فيحول اللّه ذلك الدم لبنا الى الثديين فاذا تمت مدة الحمل و هي ستة اشهر او تسعة اشهر او سنة ارسل اللّه الى ملك يقال له زاجر و هو المشار اليه في قوله تعالى فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فيدخل الى بطن المرأة و يزجر الولد زجرة عظيمة حتى ينتكس على رأسه لانه كان واقفا في بطن امه على رجليه و اما سائر الحيوانات فهي محتبية في بطون امهاتها واضعة رأسها بين رجليها و الكي الذي في يديها موضع منخريها.

و ذهب مخالفونا الى ان مدة الحمل قد تكون خمس سنين او اربع سنين،و ذلك لان محمد بن ادريس الشافعي قد سافر ابوه عن امه و بقى عنها مدة كثيرة فولدت ام الشافعي و أتت به

ص:123

بعد خمس سنين من سفر ابيه،فلما بلغ الشافعي و فهم الحكاية ذهب الى ان مدة الحمل قد تكون خمس سنين سترا على ما صنعته امه في غيبة ابيه و قد نقل هذا جمهور المخالفين و لما كان من الامور الغريبة و الكرامات العجيبة و باعثا لاتهام الروافض لهم ذكروا له علّة،و حاصلها ان محمد بن ادريس انما بقى في بطن امه هذه المدة الكثيرة لا ابا حنيفة كان حيا في الدنيا و كان الناس يستضيئون بأنوار قياساته فاستحى الامام الشافعي ان يخرج الى الدنيا و فيها الامام المعظم ابو حنيفة،فلما مات ابو حنيفة و اعلم اللّه الشافعي بموته خرج من بطن امه،فانظر الى سر هذه القبائح و الى الامام الشافعي كيف انفرد بهذه الفضيلة دون سائر مخلوقات اللّه سبحانه و لعمرك انهم لو قالوا انه ولد جار ابيه لكان اولى من هذه التكلفات كما ذكروه في النسب الشريف للخليفة الثاني.

و بالجملة فاذا زجره الملك من الظلمات الى أنوار الدنيا،و تلك الظلمات على ما قالوا هي ظلمة الرحم،و ظلمة المشيمة و هي بيت الاولاد و ظلمة البطن،و يجوز ان يكون الظلمات الثلاث عبارة عن تلك الاقفال المتقدمة فأول منزله ظلمات ثلاث و آخره ظلمات،و هي ظلمة القبر و ظلمة العمل و ظلمة الوحدة فانظر الى هذه الاحوال كيف حال صاحبها.

و قد تعسر ولادة المرأة فتحتاج الى العلاج و الدواء و لا دواء انفع من ادوية الائمة عليهم السّلام ففي الروايات عنهم عليهم السّلام انه يكتب و يعلّق على ساقها اليسرى بسم اللّه و باللّه محمد رسول اللّه كأنهم يوم يرونها الاية،اذا السماء انشقت و اذنت لربها و حقت و اذا الارض مدّت و القت ما فيها و تخلت،و لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين و ازدادوا تسعا اخرج بأذن اللّه من البطن الطيبة الى الارض الطيبة،منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى بأذن اللّه و قدرته و إسمه بسم الذي لا يضر مع اسمه داء في الارض و لا في السماء و هو السميع العزيز الوهاب،كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقون،او لم ير الذين كفروا ان السموات و الارض كانتا رتقا الى قوله أ فلا يؤمنون انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء و اليه ترجعون و اذا جاء نصر اللّه السورة،و اولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن.

و صورة أخرى يكتب في رقّ و يعلق على فخذها سبع مرات ان مع العسر يسرا،و مرة واحدة يا ايها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم الى قوله و تضع كل ذات حمل حملها و صورة أخرى يكتب على جنبها بسم اللّه و باللّه اخرج بأذن اللّه،منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى،و يصلي على النبي صلّى اللّه عليه و آله صورة أخرى بسم اللّه الرحمن الرحيم فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ،فهييء

ص:124

لكم من امركم رشدا، وَ عَلَى اللّٰهِ قَصْدُ السَّبِيلِ صورة اخرى يكتب على قرطاس أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا وَ جَعَلْنٰا مِنَ الْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ، وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهٰارَ فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ الْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مٰا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنْ نَهٰارٍ ،و يعلق على وسطها فاذا وضعت يقطع و لا يترك ان شاء اللّه تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا الاية،و روى انه يكتب إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و يسقى ماؤها و ينضح على فرجها،و روى انه يقرأ عندها إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، و من بعض احوال الطفل في بطن امه انه يتغذى من وقت و لوج الروح الى تسعة اشهر و لا يكون منه عذرة،و من هنا قال عليه السّلام ان اهل الجنة يأكلون و لا يتغوطون بل يصير عرقا يرشح من ابدانهم كرائحة المسك فقال له رجل اله نظير في الدنيا؟قال عليه السّلام نعم و ذلك ان الولد في بطن امه يبقى تسعة اشهر يأكل و لا يخرج منه شيء هذه احواله قبل الولادة.

و اما احواله بعدها فاعلم انه اذا خرج من بطن امه يخرج قابضا كفيّه و عند الموت يبسطها،و في تعليله قال امير المؤمنين عليه السّلام.

و في قبض كفّ الطفل عند ولادة دليل على الحرص المركب في الحيّ

و في بسطها عند الممات مواعظ الا فانظرني قد خرجت بلا شيء

و يخرج و هو باك ايضا و السبب في بكائه امور منها ما روى ان من سببه زجرة الملك له و هو في بطن امه فيخرج خائفا باكيا و منها ما روى في تفسير قوله تعالى إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ الشَّيْطٰانِ الرَّجِيمِ، انه ما من مولود الا و الشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان اياه الا مريم و ابنها و منها ما رواه المفضل بن عمر قال سألت جعفر بن محمد عليهما السّلام عن الطفل يضحك من غير تعجب و يبكي من غير الم،فقال يا مفضل ما من طفل الا و هو يرى الامام و يناجيه،فبكاؤه لغيبة شخص الامام عنه و ضحكه اذا اقبل اليه،حتى اذا اطلق لسانه اغلق ذلك الباب عنه،و ضرب على قلبه بالنسيان و هذا تعليل لمطلق بكائه،و منها ما رواه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تضربوا اطفالكم على بكائهم فان بكائهم اربعة اشهر شهادة لا اله الا اللّه و اربعة اشهر الصلوة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و اربعة اشهر الدعاء لوالديه.

و منها ما رواه المفضل في توحيده في علل الرضا (1)عليه السّلام ان الاطفال اذا خرجوا من بطون امهاتهم يخرجون و ابدانهم فيها رطوبات البطن الضارة بالبدن و هذه الرطوبات لا تخرج منه الا بالتعصّر و تشنج العروق،و لا يكون هذا الا حال البكاء و من ثم ورد النهي عن منعهم عن

ص:125


1- (23) هكذا وقعت العبارة فيما وقفنا عليه من نسخ الكتاب.

البكاء،و منها ان الولد اذا خرج الى دنيا واسعة المجال بعد ما كان في ظلمات لكن سبحانه يلهمه الموت و الفناء و الاستعداد لاهوالها و مصائبها و ما يجري عليه من التعب و العنا فيفهم هذا المعنى و يعقله فعند ذلك يشرع في البكاء فزعا و خوفا مما رآى،و من ثم كان يوم الولادة من الايام الثلاثة التي لا اصعب منها على ابن آدم و لهذا سلّم اللّه سبحانه فيها على يحيى بن زكريا و جعله سالما من آفات هذه الايام الثلاثة،فقال و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا،و كذلك قال عيسى عليه السّلام و السّلام عليّ يوم ولدت و يوم اموت و يوم ابعث حيا،و المراد بالسلام فيه على ما قاله المفسرون الامن من الاهوال و السلامة من الافات فجعل سبحانه يوم الولادة لا ليوم القيامة في المصائب و الاهوال.

فان قلت ما معنى ما روى من قول الصادق عليه السّلام اكبر ما يكون الانسان يوم يولد و اصغر ما يكون يوم يموت،قلت له معنان احدها ان يكون المراد بالكبر و الصغر الغرّة و الذل بحسب الدنيا و ثانيها ان يكون اكبريته باعتبار انه اول ايام تحصيل الكمال و القرب من اللّه بخلاف وقت الموت فانه وقت انقطاع تحصيل الكمال و هذان الوجهان للمحقق سلطان العلماء.

و ثالثها ان يوم الولادة اكبر باعتبار الاجتماع فيه بين الروح و البدن و يوم الموت هو يوم افتراقهما و رابعهما ان يوم الولادة الانسان خال فيه عن المعاصي بخلاف يوم الموت فانه قد تحمل من المعاصي و خامسها ان يوم الولادة اكبر احوال الانسان باعتبار استجماعه لجميع عمره بخلاف يوم الموت فيكون ردا على ما تعارف في العادات من قولهم هذا صغير السن و هذا كبير، و قد ذكرنا له وجوها اخرى في الهدية.

فاذا خرج يخرج على رأسه سوى الانبياء و الائمة عليهم السّلام فانهم يخرجون وقوفا على ارجلهم صونا لهم عن الانتكاس،و اما قول مولانا زين العابدين عليه السّلام في الدعاء الثاني من الصحيفة في الصلوة على النبي صلّى اللّه عليه و آله من انه ترك مكة التي هي مسقط رأسه ابتغاء وجه اللّه فالظاهر انه كناية عن محل الولادة فاذا تولّد اذّن في اذنه اليمنى و اقيم في اليسرى،و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انهما عصمة من الشيطان الرجيم،و ينبغي تحنيكه بالتمر و عن السجاد عليه السّلام انه اذا بشّر بالولد لم يسأل أذكر هو ام انثى حتى يقول سويّ فان كان سويّا قال الحمد للّه الذين لم يخلق مني شيئا مشوها.

و اما تهنية الولد فدعاؤه رزقك اللّه شكر الواهب و بارك لك في الموهوب و بلغ اشدّه و رزقك اللّه بره،و اما التوأم فأكبرهما ما رواه احمد بن اشيم عن بعض اصحابه قال اصاب رجل غلامين في بطن فهناه ابو عبد اللّه عليه السّلام ثم قال ايهما اكبر؟فقال الذي خرج اولا فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام الذي خرج آخر هو اكبر اما علمت انها حملت بذلك اولا،و ان هذا دخل على

ص:126

ذلك فلم يمكنه ان يخرج حتى خرج هذا فالذي يخرج آخرا هو أكبرهما،و الولد اذا خرج فتارة يشبه اباه و تارة يشبه عمه،و أخرى خاله و تارة لا يشبه احدا منهم.

روى الكليني طاب ثراه عن بعض اصحابه عن ابي جعفر عليه السّلام قال اتى رجل من الانصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال هذه ابنة عمي و امرأتي اني لا اعلم منها الا خيرا و قد اتتني بولد شديد السواد منتشر المنخرين،جعد قطط افطس الانف لا اعرف شبهه في اخوالي و لا في اجدادي فقال لامرأته ما تقولين؟قالت لا و الذي بعثك بالحق نبيا ما اقعدت مقعده مني مذ ملكني احدا غيره،قال فنكس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأسه مليا ثم رفع بصره الى السماء ثم اقبل على الرجل فقال يا هذا انه ليس من احد الا بينه و بين آدم تسعين عرقا كلها تضرب في النسب فاذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت من تلك العروق تسأل اللّه الشبه لها فهذا من تلك العروق التي لم يدركها اجدادك و لا اجداد اجدادك خذ اليك ابنك فقالت المرأة فرضيت عني يا رسول اللّه.

و عن الصادق عليه السّلام قال ان رجلا اتى بأمرأته الى عمر فقال ان امرأتي هذه سوداء و انا اسود و انها ولدت غلاما ابيض،فقال لمن بحضرته ما ترون فقالوا نرى ان ترجمها فانها سوداء و زوجها اسود و ولدها ابيض قال فجاء امير المؤمنين عليه السّلام و قد وجّه بها لترجم فقال للاسود أ تتّهم امرأتك؟فقال لا،قال فأتيتها و هي طامث،قال قد قالت لي في ليلة من الليالي اني طامث فظننت اننها تتقي البرد فوقعت عليها،فقال للمرأة هل اتاك و انت طامث؟قال نعم سله قد خرجت عليه و ابيت قال فانطلقا فانه ابنكما و انما غلب الدم النطفة فابيض و لو قد تحرك اسودّ فلما ايفع اسودّ.

و روى محمد بن حمران عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل خلق للرحم اربعة اوعية فما كان في الاول فللأب و ما كان في الثاني فللأم و ما كان في الثالث فللعمومة و ما كان في الرابع فللخؤلة،و كانت العرب تزعم ان الولد يشابه اباه اذا كان الرجل متشوقا الى الجماع و المرأة كارهة له و من هذا كانوا يتعمدون الى جماع نسائهم وقت رحيلهم و النساء على شغل بتجهيز امور الرحيل و هنّ في ذلك الوقت لا يردن الجماع و قد مدح بعض الشعراء بعضهم بقوله:

ممن حملن به و هن قواعد(قواعد خ ل) حبك النطاق فشب غير مهبّل

لانهن كنّ يتحرمنّ بمقانعهنّ وقت الارتحال لسوق الاظعان و ذلك ان الرجل اذا كان هو المتشوق كانت نطفته هي الغالبة على نطفة الام فيكون صورة الولد مشابهة لصورة ابيه و موصوفا بصفاته،و هذا هو السبب في انحطاط اولاد العلماء و الاكارم عن درجات ابيهم

ص:127

و وصفهم و ذلك انهم خصوصا العلماء انما شوقهم الى لذاتهم المعنوية و اما هذه اللذات الحسية كالنكاح و اضرابه فلا يهتمون بالتلذذ به كمال الاهتمام بل اكثر قصدهم بغشيانهم النساء انما هو امتثالهم السنة فيكون شوق المرأة الى تلك الحاجة ازيد و اعظم فيأتي الولد متصفا بأوصافها بعيد الوصول الى معالي ابيه و صفاته.

و وجه آخر قريب من هذا و يوافقه أقوال الاطباء و هو ان النطفة انما تتكون من الغذاء و كلما كان الغذاء الطف و الطبيعة متوجهة الى طبخه و نضجه و جره الى مجاريه كانت النطفة ارقّ و الطف،فأما العلماء و من نحى نحوهم فان طبايعهم الشريفة اجلّ من ان تتوجه الى الغذاء و طبخه و نضجه حتى يحسن تكون النطفة و نضجها الا القليل في قليل من الاقات و قال الصادق عليه السّلام من نعم اللّه عزّ و جل على الرجل ان يشبهه ولده و هذه النطفة هي التي روى عمار الساباطي قال سأل ابو عبد اللّه عليه السّلام عن الميت هل يبلى جسده؟قال نعم حتى لا يبقى لحم و لا عظم الا طينته التي خلق منها،فانها لا تبلى تبقى منه في القبر مستديرة حتى تخلق منها كما خلق اول مرة و قوله عليه السّلام مستديرة الظاهر انه مأخوذ من دار يدور دورانا يعني منتقلة من حال الى حال و من شأن الى شأن في جميع مراتب التغيير لكنها باقية في ذاتها حتى يخلق منها كالخلق اول مرة و قد يفسر بمعنى مدورة بناء على صيرورتها بسيطة او يجعل كناية على كثرة استمدادها بناء على ان الدائرة اوسع الاشكال،و لا يخفى ما في هذين من التكلّف و الركاكة.

فان قلت كيف طريق التوفيق بين هذا الخبر و بين ما رواه شيخنا في الكافي عن الصادق عليه السّلام و قد سأل عن علة تغسيل الميت غسل الجنابة فقال ان اللّه خلق خلاقين فاذا اراد ان يخلق خلقا امرهم فأخذوا من التربة التي قال في كتابه منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى فعجن النطفة بتلك التربة التي يخلق منها بعد ان اسكنها الرحم اربعين ليلة فاذا تمت له اربعة اشهر قال يا ربّ تخلق ما ذا؟فيأمرهم بما يريد من ذكر او انثى ابيض او اسود فاذا خرجت الروح من البدن خرجت هذه النطفة بعينها منه كائنا ما كان،صغيرا او كبيرا،ذكرا او انثى فلذلك يغسل الميت غسل الجنابة و ظاهر هذا الحديث ان تلك النطفة لا تصل معه الى القبر بل تخرج منه حال الموت اما قبل خروج الروح او بعده،و في الاخبار انها تخرج تارة من عينيه بهيئة الدموع و اخرى من فمه كالزبد قلت يمكن ان يقال في وجه الجمع امران.

الاول ان الخارج منه حال الموت هو نطفة المنمى و من ثم اوجبت الغسل و الذي يبقى معه في القبر انما هو التراب الذي يؤتى به الى النطفة و يمزج معها الثاني ان يكون الخارج منه وقت الموت بعض تلك النطفة و الباقي بعض آخر و قوله عليه السّلام فلذلك يغسل الميت غسل الجنابة

ص:128

المراد به انه يغسل غسلا كغسل الجنابة في هيئته و ترتيبه و ان كان ينوي فيه غسل الاموات لا غسل الجنابة.

و روى عن الصادق عليه السّلام انه قال غسل الميت مثل غسل الجنابة،و يستفاد من هذين الحديثين الدلالة على ما هو المشهور من وجوب الترتيب بين الجانب الايمن و الايسر في غسل الجنابة،و الشيخ و الاصحاب رضوان اللّه عليهم قد استدلوا على الترتيب بقول الرضا عليه السّلام في صحيح احمد بن محمد ثم افض على رأسك و جسدك و بصحيحة محمد بن مسلم عن احدهما عليهما السّلام ثم تصب على سائر جسدك و في معناهما روايات صحيحة و هي لا تدل على الترتيب بين الجانبين و من ثم ذهب الصدوقان و ابن الجنيد و صاحب المدارك الى استحباب الترتيب بين الجانبين(في غسل الاموات خ ل)و الاولى الاستدلالى عليه بذينك الحديثين،فان الترتيب بين الجانبين في غسل الاموات مما قد انعقد عليه الاجماع و دلت عليه الاخبار.

و اعلم ان هذه النطفة كما مزجت بتراب القبر فقد مزجت بغيره ايضا كما رويناه بأسنادينا الى اسحاق بن عمار قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام الرجل آتيه اكلمه ببعض كلامي فيعرفه كله و منهم من آتيه فأكلمه بالكلام فيستوفي كلامه كله ثم يرده عليّ كما كلمته و منهم من آتيه فأكلمه فيقول اعد عليّ،فقال يا اسحاق او ما تدري لم هذا؟قلت لا:قال الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرفه كله فذاك من عجنت نطفته بعقله،و اما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك فذاك الذي ركب عقله في بطن امه و اما الذي تكلمه بالكلام فيقول لك اعد عليّ فذاك الذي ركب عقله فيه بعد ما كبر فهو يقول اعد عليّ.

اقول فقد تفاوت بسبب هذا مراتب الناس في الشعور و الذكاء و به ايضا تفاوتت الناس في درجات الثواب و العقاب روى الديلمي عن ابيه قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام فلان من عبادته و دينه و فضله كذا و كذا،قال فقال كيف عقله؟فقلت لا ادري فقال ان الثواب على قدر العقل ان رجلا من بني اسرائيل كان يعبد اللّه عز و جل في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر طاهرة الماء،و ان ملكا من الملائكة مرّ به فقال يا رب ارني ثواب عبدك هذا فأراه اللّه عز و جل ذلك فأستقله الملك،فأوحى اللّه عز و جل اليه ان إصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي،فقال له من انت؟قال انا رجل عابد بلغنا مكانك و عبادتك بهذا المكان فجئت لأعبد اللّه معك فكان معه يومه ذلك فلما اصبح قال له الملك ان مكانك هذا لنزهة قال ليت لربنا حمارا فلو كان لربنا حمار لرعيناه في هذا الموضع فان هذا الحشيش يضيع،فقال له الملك و ما لربك حمار،فقال لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش،فأوحى اللّه عز و جل الى الملك انما اثيبه على قدر عقله.

ص:129

فان قلت كيف جاز ترتب ثواب العمل الاختياري على العقل الذي لا اختيار للانسان في تحصيله فعبادة هذا العابد لو وقعت من كامل العقل لكان ثوابها أزيد مع انها عمل واحد قلت الجواب عنه من وجوه الاول ان العقل و ان كان موهبيا لكن له حالات و ادوات كسبية يمكن تضاعفها و تزايدها بالممارسة و الكسب و معاشرة الانبياء و الاولياء و ارباب العقول و الاحلام و هذا شعبة من شعب تهذيب الاخلاق الذي ارسلت الانبياء له،و قد كان هذا العابد مقصرا في درجات التفكر و معاشرة من قد كان مكملا لحالات عقله التي كان يدرك بها ان اللّه سبحانه مستغن عن الحمار كما هو الموجود في تلك الاعصار من احوال اهل العبادة و عزلتهم عن الناس مع نقصانهم في الكمال الاختياري لهم و ذلك ان العزلة قد اشتملت على عين العلم و زاء الزهد،فان رفعت منها عين العلم صارت زلة أي ذنب اعظم الذنوب و ان رفعت منها زاء الزهد صارت علة كما في عزلة اكثر الصوفية فانه خالية من عين العلم و زاء الزهد.

الثاني ان العقل هنا المراد به العلم و اطلاقه عليه في الكتاب و السنة كثير جدا من باب اطلاق اسم السبب على المسبب و لا ريب ان تحصيله امر اختياري و به تقوى حالات العقل و شعبه و ذلك العابد لو كان حصّل العلم و طلبه من اهله لما خفى عليه ان اللّه ليس له حمار فقد قصر في تحصيل العلم و من ثم كان ثوابه قليلا.

الثالث ان العقل كلما اكمل كانت المعارضات و الموانع و جنود الشيطان عليه اكثر، و ذلك ان الشيطان و جنوده انما تكثر و ساسوهم و تسويلاتهم لارباب العقول و كلما كان العقل انقص كانت المعارضات له عن سلوك جادة الايمان اقل فكامل العقل لما كان كثير الجهاد لجنود الشيطان لازالة تلك الموانع كان ثوابه اكثر لكثرة اعماله الظاهرة و الباطنة التي منها ما عرفت و اما ناقص العقل فله ذلك العمل الظاهر و هو العبادة و القيام بها فاعماله اقل من اعمل ذلك الرجل فيكون كثرة الثواب و قلته هنا راجعة الى زيادة العمل و نقصانه و هذا هو العدل و ما كان ربك بظلام للعبيد.

نور في ايام رضاعه

و ما يكون فيها الى يوم فطامه اعلم ان في ارضاع الام لولدها ثوابا جزيلا،روى ابو خالد الكعبي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال ايما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئا من موضع الى موضع تريد به صلاحه نظر اللّه عز و جل اليها،و من نظر اللّه اليه له يعذبه فقالت ام سلمة رضي اللّه عنها ذهب الرجال بكل خير فأي شيء للنساء المساكين؟فقال عليه السّلام بلى اذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم المجاهد بنفسه و ماله في سبيل اللّه فاذا وضعت كان لها

ص:130

من الاجر ما لا تدري ما هو لعظمه،فاذا ارضعت كان لها بكل مصة كعدل عتق محرر من ولد اسماعيل عليه السّلام فاذا فرغت من رضاعه ضرب ملك على جنبها و قال استأنفي العمل فقد غفر اللّه لك.

و الارضاع ليس بواجب عليها و يجوز لها اخذ الاجرة من الاب ان لم يكن للولد مال، نعم يجب عليها ارضاع اللبا بكسر اللام و هو اول اللبن لان الولد لا يعيش بدونه و قدرّه بعضهم بثلاثة ايام و ظاهر الجوهري و ابن الاثير انه حلبة واحدة و مع ذلك يجوز لها اخذ الاجرة عليه و لو طلبت الام زيادة اجرة على الارضاع جاز للاب انتزاعه منها و تسليمه الى الغير و اما الامة فيجوز للمولى جبرها على مطلق الارضاع و اذا ارضع ابنه فليختر الحسان الوجوه النجيبة العفيفة الدينية،قال الصادق عليه السّلام لا تسترضع من ولدت من الزنا و لا ابنتها،و قال صلّى اللّه عليه و آله لا تسترضعوا الحمقاء فان اللبن يعدى و ان الغلام ينزع الى اللبن في الرعوبة و الحمق و اللبن يغلب الطباع و الولد يشب عليه و عن ابي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة يكون لها الخادم قد فجرت تحتاج الى لبنها قال مرها فلتحللها يطيب اللبن.

و اما الحضانة بفتح الحاء و هي تولية امور الاطفال لفائدة تربيته و احواله من تنظيفه و تكحيله و جعله في مهده و غسل خرقه و ثيابه فهي للام مدّة رضاعه اذا كانت حرّة مسلمة فاذا فصل عن الرضاع فالام احق بالانثى الى سبع سنين و قيل الى تسع و قيل الى سبع فيهما و الاول مع شهرته جامع بين الاخبار المطلقة و الاب احق بالذكر بعد فصاله الى البلوغ و احق بالانثى بعد السبع و الام احق من وصى الاب فان فقد الابوان فالحضانة لاب الاب فان فقد فللاقارب الاقرب منهم الى الولد فالاقرب على المشهور لاية و اولوا الارحام بعضهم اولى ببعض،فالجدة لام كانت ام الاب و ان علت اولى من العمة و الخالة كما انهما اولى من بنات العمومة و الخؤلة و كذلك الجدة الدنيا و الخالة و العمة اولى من العليا منهن و كذا ذكور كل مرتبة ثم ان اتحد الاقرب فالحضانة مختصة به،و ان تعدد اقرع بينهم و لو اجتمع ذكر و انثى ففي تقديم الانثى قول ذهب اليه العلاّمة في التحرير مع اعترافه بعدم النص،و كون الانثى اوفق لتربية الولد سيّما الصغير و الانثى و اطلاق الدليل المستفاد من الاية يقتضي التسوية بينهما كما يقتضي التسوية بين كثير النصيب و قليله،و من يمت بالابوين و بالام خاصة لاشراك الجميع في الارث و قيل ان الاخت من الابوين او الاب اولى من الاخت من الام و كذا الاب اولى من ام الام،و الجدة اولى من الاخوات،و العمة اولى من الخالة نظرا الى زيادة القرب او كثرة النصيب و فيه نظر لان المستند و هو الاية مشترك و مجرد ما ذكر لا يصلح دليلا و قيل لا حضانة لغير الابوين اقتصارا

ص:131

على موضع النص،و عموم الاية يدفعه و لو تزوجت الام سقطت حضانتها فان طلقت عادت الحضانة على المشهور اذا عرفت هذا.

فاعلم ان الحضانة حق لمن ذكر و لكن هل يجب عليه مع ذلك ام له اسقاط حقه منها فيه قولان للاصحاب و الظاهر عدم جواز اسقاطها حيث يستلزم تركها تضييع الولد الا ان حضانته حينئذ تجب كفاية كغيره من المضطرين و في اختصاص الوجوب بذي الحق نظر و ليس في الاخبار ما يدل على غير ثبوت اصل الاستحقاق و ينبغي لمن له الحضانة و للابوين ان لا يتأذيا من بكاء الاطفال فأنك قد تحققت ان في بكاء الاطفال ثوابا جزيلا و يزيد عليه ما رواه محمد بن مسلم قال كنت جالسا عند ابي عبد اللّه عليه السّلام اذ دخل يونس بن يعقوب فرأيته يأنّ فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام ما لي اراك تأنّ؟قال طفل لي تأذيت به الليل اجمع،فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام يا يونس حدثني ابي محمد بن علي عن آبائه عليهم السّلام عن جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان جبريل عليه السّلام نزل عليه و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام و فاطمة عليها السّلام يأنان فقال جبريل يا حبيب اللّه ما لكما تأنان؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من اجل طفلين لنا تأذينا ببكائهما فقال جبريل عليه السّلام يا محمد صلّى اللّه عليه و آله فأنه سيبعث لهذا القوم شيعة اذا بكى احدهم بكاؤه لا اله الا اللّه الى ان يأتي عليه سبع سنين فاذا أتى عليه السبع فبكاؤه استغفاره لوالديه الى ان يأتي على الحدّ فاذا جاز الحد فما اتى من حسنة فلوالديه و ما أتى من سيئة فلا عليهما.

فاذا اتى اليوم السابع فليعق عنه،روى عن العبد الصالح عليه السّلام قال العقيقة واجبة فاذا ولد للرجل فان احب ان يسميه من يومه فعل،و قال الصادق عليه السّلام كل مولود مرتهن بالعقيقة و عن عمر بن يزيد قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام اني و اللّه ما ادري كان ابي عقّ عني او لا قال فأمر ابو عبد اللّه عليه السّلام فعققت عن نفسي و انا شيخ و عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن العقيقة أ واجبة هي؟قال نعم واجبة و في الكافي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المولود مرتهن بعقيقة فكّه أبواه او تركاه و المراد انه مرتهن من الموت بعقيقة فان اراد بقائه عقّا عنه و ان ارادا موته تركا العقيقة،و بعض علمائنا كالمرتضى طاب ثراه نظر الى ظاهر هذه الاخبار فأوجب العقيقة و لكن الجمع بين الاخبار يقتضي الاستحباب و الاحتياط في عدم تركها لان الاخبار الدالة على الوجوب كثيرة و الاخبار الدالة على انها سنة يمكن حملها على ما علم وجوبه من سنته صلّى اللّه عليه و آله و الاحاديث الدالة على سقوطها يمكن حملها على الفقير الغير القادر.

و ينبغي ان لا يأكل من العقيقة ابو الولد و لا ام الولد و لا من كان في عيال بيته،و روى جواز الاكل مطلقا و تفصيل اعضائه،و قد روى جواز التصدق باللحم،و الاحسن هو الطبخ و دعاء المؤمنين،و اقلهم و لتخص القابلة بالرجل و الورك و في بعض الاخبار ان لها ربع العقيقة،

ص:132

و في بعضها ثلثها،و لو لم يكن قابلة تصدقت به الام و الدعاء المأثور عند ذبحها:بسم اللّه و باللّه اللهم ان هذه عقيقة عن فلان لحمها بلحمه و دمها بدمه و عظمها بعظمه اللهم اجعله وقاء لال محمد صلّى اللّه عليه و آله و ليكن قد حلق رأسه قبل الذبح و تصدق بوزنه ذهبا و الا فضة و يسميه في اليوم السابع بأحسن الاسماء بعد ان سمّاه محمدا،و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان من ولد له اربعة اولاد و لم يسم احدهم بأسمي فقد جفاني و قال عليه السّلام ليس في الارض دار فيها اسم محمد الا و هي تقدس كل يوم و عن الحسين عليه السّلام لو ولد لي مأة لاحببت ان لا اسمي احدا منهم الا عليا،و قال الرضا عليه السّلام لا يدخل الفقر بيتا فيه اسم محمد او احمد او علي او الحسن او الحسين،او طالب او جعفر او عبد اللّه او فاطمة من النساء.

و عن جابر قال اراد ابو جعفر عليه السّلام الى بعض شيعته ليعوده فقال يا جابر الحقني فتبعته فلما انتهى الى باب الدار خرج علينا ابن له صغير فقال له ابو جعفر عليه السّلام ما اسمك فقال محمد قال فبما تكنى؟قال بعلي فقال ابو جعفر عليه السّلام لقد احتظرت من الشيطان احتظارا شديدا ان الشيطان اذا سمع مناديا يا محمد يا علي ذاب كما يذوب الرصاص حتى اذا سمع مناديا ينادي باسم عدو من اعدائنا اهتزّ و اختال و قال عليه السّلام اصدق الاسماء ما سمّى بالعبودية،و افضلها اسماء الانبياء و قال عليه السّلام سمّوا اولادكم قبل او يولدوا فان لم تدروا أذكر ام انثى فسموهم بالاسماء التي تكون للذكر و الانثى فان اسقاطكم اذا لقوكم يوم القيامة و لم تسموهم يقول السقط لابيه الا سميتني و قد سمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله محسنا قبل ان يولد.

و قال الصادق عليه السّلام لا يولد لنا ولد الا سميناه محمدا فاذا مضى سبعة ايام فان شئنا غيرنا و ان شئنا تركنا و عن الرضا عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما من قوم كانت لهم مشهورة فحضر معهم محمدا أو احمد فأدخلوه في مشهورتهم الا كان خيرا لهم.

و قد ورد النهي عن الضرب و الاسائة الى من اسمه محمد بل ينبغي اكرامه و احترامه لاجل صاحب الاسم،و قال الصادق عليه السّلام ما من رجل يحمل له حمل فينوي ان يسميه محمدا الا كان ذكرا ان شاء اللّه تعالى و قال هيهنا ثلثة كلهم محمد،محمد،محمد قال و قال ابو عبد اللّه عليه السّلام الحامل يأخذ بيدها و يستقبل بها القبلة عند الاربعة اشهر و يقول اللهم اني قد سميته محمدا، ولد له غلام فان حوّل اسمه أخذ منه،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان له حمل فنوى ان يسميه محمدا أو عليا ولد له غلام و قال الصادق عليه السّلام جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه ولد لي غلام فماذ اسميه؟فقال سمّه بأحب الاسماء اليّ حمزة،و قال صلّى اللّه عليه و آله استحسنوا اسمائكم فأنكم تدعون بها يوم القيامة قم يا فلان بن فلان الى نورك،قم يا فلان بن فلان لا نور لك، و قال عليه السّلام انا لنكّني اولادنا في صغرهم مخافة النبز ان يحلق بهم،و قال عليه السّلام هذا محمد قد أذن لهم

ص:133

(لكم خ ل)في التسمية به فمن اذن لهم(لكم خ ل)في يس؟يعني التسمية و هو اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله،و فيه دلالة على كراهة التسمية به.

و قد نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن اسماء ان يتسمى بها منها حكم و حكيم،و خالد و مالك و حارث و ذكر انها ستة او سبعة لا يجوز ان يتسمى بها،و نهى عن اربع كنى عن ابي عيسى و عن ابي الحكم،و عن ابي مالك و عن ابي القاسم اذا كان الاسم محمدا،و نهى عن الكنية بأبي مرة و ينبغي ان لا يفرق بين الذكور و الاناث،بل يعتقد ان ثواب تربية البيت لما كان اجزل فالميل الى ارادتها افضل قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نعم الولد البنات المخدرات،من كانت عنده واحدة جعلها اللّه له سترا ممن فالميل الى ارادتها افضل قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نعم الولد البنات المخدرات من كانت عنده واحدة جعلها اللّه له سترا من النار،و من كانت عنده اثنتان ادخله اللّه بهما الجنة و جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و عنده رجل فأخبره بمولد فتغير لون الرجل فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله ما لك؟ قال خير قال قل قال خرجت و المرأة تمخض فأخبرت انها جارية فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله الارض تثقلها و السماء تظلها،و اللّه يرزقها و هي ريحانة تشمها ثم اقبل على اصحابه فقال من كانت له ابنة واحدة فهو مفدوح (1)و من كانت له ابنتان فيا غوثاه،و من كانت له ثلاث وضع عنه الجهاد و كل مكروه و من كانت له اربع فيا عباد اللّه عينوه يا عباد اللّه اقرضوه يا عباد اللّه ارحموه، و قال عليه السّلام من عال ثلاث بنات او ثلاث أخوات وجبت له الجنة.قيل يا رسول اللّه و اثنتين،قال و اثنتين قيل يا رسول اللّه و واحدة،قال و واحدة،و قال عليه السّلام البنات حسنة و البنون نعمة، فالحسنات يثاب عليها و النعم يسأل عنها،و روى انه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لرجل رآى معه صبيا من هذا؟قال ابني قال امتعك اللّه به اما لو قلت بارك اللّه فيه لك قدمته.

و ينبغي الاكثار من تقبيل الاطفال قال عليه السّلام اكثروا من قبلة اولادكم فان لكم بكل قبلة درجة في الجنة ما بين كل درجة الى درجة خمسمائة عام و قال امير المؤمنين عليه السّلام قبلة الولد رحمة و قبلة المرأة شهوة و قبلة الوالدين عبادة و قبلة الرجل أخاه دين و قبلة الامام العادل طاعة، و عن رفاعة قال سألت ابا الحسن عليه السّلام عن الرجل يكون له بنون و امهم ليست بواحدة أ يفضل احدهم على الاخر،قال نعم لا بأس به،قد كان ابي يفضلني و ينبغي ان لا يفضل الا لمزية في الولد،لما روى انه صلّى اللّه عليه و آله نظر الى رجل له ابنان فقبّل احدهما و ترك الاخر،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله فهلا واسيت بينهما.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قبّل ولده كتب اللّه له حسنة و من فرّحه فرّحه اللّه يوم القيامة و من علّمه القرآن دعى بالابوين فكسيا حلتين يضيء من نورهما وجوه اهل الجنة،و قال

ص:134


1- (1) فدحه فدحا الامر او الحمل او الدين اثقله و بهضه.

الصادق عليه السّلام جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال ما قبّلت صبيا قط فلما ولّى قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا رجل عندي انه من اهل النار.

و الارضاع ينبغي ان يكون من الثديين روى عن ام اسحاق زوجة الصادق عليه السّلام قالت نظر اليّ ابو عبد اللّه عليه السّلام و انا ارضع احد ابنيّ محمدا و اسحاق فقال يا ام اسحاق لا ترضعيه من ثدي واحد ارضعيه من كليهما يكون احدهما طعاما و الاخر شرابا،و قال عليه السّلام الرضاع واحد و عشرون شهرا فما نقص فهو جور على الصبي.

و يستحب الختان في اليوم السابع و كذا خفض الجواري و روى ان الارض تشكو الى اللّه من بول الاغلف و قال الصادق عليه السّلام كانت امرأة يقال لها ام حبيب تخفض الجواري فلما رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لها يا ام حبيب العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم قالت نعم يا رسول اللّه فقال لها يا ام حبيب اذا انت فعلتي فلا تنهكي أي لا تستأصلي و اسيمي فأنه اشرق للوجه و احظى عند الزوج،و قال عليه السّلام ثقب اذن الغلام من السنة و ختان الغلام من السنة و لما ولد الحسن عليه السّلام هبط جبرئيل عليه السّلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله بالتهنية في اليوم السابع و امره ان يسميه و يكنيه و يحلق رأسه و يعقّ عنه و يثقب اذنه و كذلك حين ولد الحسين عليه السّلام أتاه في اليوم السابع و امره بمثل ذلك قال و كان لهما ذو ابتان في القرن الايسر و كان الثقب في الاذن اليمنى في شحمة الاذن،و في اليسرى في اعلا الاذن،فالقرط في اليمنى و الشق في اليسرى،و قد روى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله ترك لهما ذو ابتين في وسط الرأس و هو اصح من القرن على ما قاله الكليني و روى عن سفيان السمط قال قال لي ابو عبد اللّه عليه السّلام اذا بلغ الصبي اربعة اشهر فاحجمه في كل اربعة اشهر في النقرة فانها تجفف لعابه و تهبط الحرارة من رأسه و جسده،و قال عليه السّلام يعيش لستة اشهر و سبعة اشهر و تسعة اشهر و لا يعيش لثمانية اشهر و كان الصادق عليه السّلام يكره القنازع (1)في رؤس الصبيان و قال عليه السّلام أتى صلّى اللّه عليه و آله بولد و له قنازع فأبى ان يدعو له و قال عليه السّلام في المرأة الحامل تأكل السفرجل فان الولد يكون اطيب ريحا و اصفى لونا و نظر عليه السّلام الى غلام جميل فقال ينبغي ان يكون ابو هذا الغلام اكل السفرجل.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليكن اول ما تأكل النفساء الرطب فان اللّه تعالى قال لمريم و هزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا،قال يا رسول اللّه فان لم يكن ابان الرطب قال تسع تمرات من تمر المدينة،فان لم يكن فسبع تمرات من تمر امصاركم فان اللّه عز و جل قال و عزتي و جلالي و ارتفاع مكاني لا تأكل نفساء يوم تلد الرطب فيكون غلاما الا كان حليما و ان كانت جارية كانت حليمة،و قال الرضا عليه السّلام اطعموا حبالاكم ذكر اللبان فانيكن في بطنها غلام

ص:135


1- (1) القنازع و هي ان يخلع الرأس الا قليلا و يترك وسط الرأس.

خرج زكي القلب عالما شجاعا و ان تكن جارية حسن خلقها و خلقتها و عظمت عجيزتها و حظت عند زوجها و اذا فصح بالكلام فليعلم التهليل و قوله تعالى قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً. الاية،و كلاهما مروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو حسن.

نور في احواله من فطامه الى وقت بلوغه

و هذه المدة هي ايام دولته و فراغته التي يفعل فيها ما اراد و لكن ليس فيها ذلك الالتذاد لعدم كمال العقل و وفور التمييز فتكون داخلة تحت ايام الطفولية التي تنقضي من غير معرفة باقضائها و يشير الى الاول بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله الولد سيد سبع سنين و عبد سبع سنين و وزير سبع سنين فان رضيت خلائقه لاحدى و عشر سنة و الا فاضرب على جنبه فقد اعذرت الى اللّه تعالى و الى الثاني قول امير المؤمنين عليه السّلام فيما نسب اليه في(من خ)الديوان.

اذا عاش امرأ ستين عاما فنضف العمر تمحقه الليالي

و نصف النصف يذهب ليس يدري لغفلته يمينا عن شمال

و ثلث النصف آمال و حرص و شغل بالمكاسب و العيال

و باقي العمر اسقام و شيب و همّ بارتحال و انتقال

خبّ المرء طول العمر جهل و قسمته على هذا النوال

فهذا حال صاحب الستين فكيف يكون حال صاحب الثلاثين و نحوها،و هذه الايام و ان كان قد رفع فيها التكليف لكن لم يرفع فيها التأديب و التعزير،قال الصادق عليه السّلام اذا بلغ الغلام ثلث سنين قل له سبع مرات لا اله الا اللّه ثم يترك حتى يتم له ثلث سنين و سبعة اشهر و عشرون يوما،ثم يقال له فقل محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبع مرات و يترك حتى يتم له اربع سنين ثم يقال له قل سبع مرات صلّى اللّه على محمد و آله محمد ثم يترك حتى يأتي له خمس سنين،ثم يقال له ايهما يمينك و ايهما شمالك فاذا عرف ذلك حوّل وجهه الى القبلة و يقال له اسجد ثم يترك حتى يتم له ست سنين،فيقال صلّ و علم الركوع و السجود حتى يتم له سبع سنين فاذا تمت له سبع سنين قيل له اغسل وجهك و كفيك فاذا غسلهما قيل له صلّ ثم يترك حتى يتم له تسع سنين فاذا تمت له علم الوضوء و ضرب عليه و امر بالصلوة و ضرب عليها فاذا تعلّم الوضوء و الصلوة غفر لوالديه انشاء اللّه تعالى.

و قال الصادق عليه السّلام دع ابنك يلعب سبع سنين و تؤدب سبعا و الزمه نفسك سبع سنين فان افلح و الا فأنه لا خير فيه،و قال عليه السّلام اهمل صبيك حتى تأتي عليه ست سنين ثم ادبه في الكتاب ست سنين ثم ضمه اليك سبع سنين فأدبه فان قبل و صلح و الا فخلّ عنه،و عن امير المؤمنين

ص:136

عليه السّلام قال يرخى عن الصبي سبعا و يؤدب سبعا و يستخدم سبعا و ينتهي طوله في ثلث و عشرين و عقله في خمسة و ثلاثين و ما كان بعد ذلك فالتجارب،و عنه عليه السّلام ان الصبي يشبّ في كل سنة اربع اصابع بأصبع نفسه،و قال الصادق عليه السّلام اذا أتى للصبي ست سنين وجب عليه الصلوة فاذا اطاق الصوم وجب عليه الصيام و في معناه أخبار كثيرة و يستفاد منها الدلالة على ان عبادات الصبي شرعية مخاطب بها من جهة الشارع و نسبة الولي اليه في الامر بها كنسبة الامر بالمعروف الى تارك المعروف و حينئذ فينوي الصلوة الشرعية المتطوع بها و لا ينوي الوجوب المصطلح كما قاله بعض الاصحاب فأنه لا وجه له و يدخل تحت نذر من نذر لمن يعبد اللّه عبادة شرعية و يثاب على فعلها بعد بلوغه كما يثاب ابواه(بعد خ)عليها و القول الاخر انها تمرينية فيسقط اكثر هذا.

و اما الوجوب المصطلح فهو بالاحترام و نحوه كما هو المشهور و به روايات ضعيفة اما الصحيح فقد رواه الصدوق طاب ثراه باسناده الى عبد اللّه بن سنان عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال اذا بلع الغلام اشده ثلاث عشر سنة و دخل في الاربع عشر سنة فقد وجب عليه ما يجب على المحتلمين احتلم او لم يحتلم و كتب عليه السيئات و كتب له الحسنات و جاز له كل شيء الا ان يكون ضعيفا او سفيها،و ظاهر بعض المحققين من المتأخرين العمل بها و هو غير بعيد.

و اما السرقة فيعفى عنه اول مرة فان سرق ثانيا ادب فان عاد ثالثا حكّت انامله حتى تمى،فان سرق رابعا قطعت انامله فان سرق خامسا يقطع كما يقطع البالغ و به روايات كثيرة.

و اعلم انه ينبغي للاباء المسارعة الى بر الاولاد قال ابو الحسن عليه السّلام اذا وعدتم الصبيان اوفوا لهم فانهم يرون انكم الذين ترزقونهم ان اللّه ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء و الصبيان،و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله من دخل السوق فأشترى تحفة فحملها الى عياله كان كحامل صدقة الى قوم محاويج،و ليبدأ بالاناث قبل الذكور فأنه من فرّح ابنته كان كأنما اعتق رقبة من ولد اسماعيل و في سبع سنين لعبه ينبغي للاب ان يتركه بحاله مع الصبيان و ان لا يحبسه معه و لا يمنعه من اللهو و اللعب و لا يكلفه المكتب الا بعد سبع او الست سنين،فقد روى عنه عليه السّلام انه يستحب عرامة الغلام في صغره ليكون حليما في كبره و ما ينبغي ان يكون الا هكذا.

و روى ان اكيس الصبيان اشدهم بغضا للكتاب و العرامة،قال في النهاية رجل عادم أي خبيث شرير و العرامة الشدة و القوة و الشراية و اذا اتت سنو تأديبه فأولاها ما رواه الصدوق طاب ثراه قال كان جابر بن عبد الانصاري يدور في سكك الانصار في المدينة و هو يقول عليّ خير البشر فمن ابى فقد كفر،يا معاشر الانصار ادبوا اولادكم على حب علي فمن ابى فانظروا في شأن امه،و قال الصادق عليه السّلام من جد برد حبنا على قلبه فليكثر الدعاء لامه فانها لم تخن اباه،

ص:137

و كان الصبي على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذا وقع الشك في نسبه عرضت عليه ولاية امير المؤمنين عليه السّلام فان قبلها الحق نسبه بمن ينتمي اليه و ان انكرها نفي.

و ينبغي ان يعلمه كسبا حلالا غير مكروه فان الكسب كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى في بابه بعضه حرام و بعضه مكروه روى عن الامام موسى بن جعفر عليهما السّلام قال جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه قد علّمت ابني هذا الكتاب ففي أي شيء اسلّمه قال اسلمه للّه ابوك و لا تسلمه في خمس،لا تسلمه سبّاء و لا صايغا،و لا قصابا،و لا حناطا و لا نخاسا فقال يا رسول اللّه و ما السبّاء،قال الذي يبيع الاكفان و يتمنى موت امتي للمولود من امتي احبّ اليّ مما طلعت عليه الشمس،و اما الصايغ فانه يعالج غبن امتي و اما القصاب فانه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه،و اما الحناط فأنه يحتكر الطعام على امتي و لئن يلقى اللّه العبد سارقا احب اليّ من ان يلقاه قد احتكر طعاما اربعين يوما،و اما النخاس فأنه قد اتاني جبرئيل فقال يا محمد ان شرّ امتك الذين يبيعون الناس.

و روى عن سدير الصيرفي قال قلت لابي جعفر عليه السّلام حديث بلغني عن الحسن البصري فان كان حقا فانا للّه و انا اليه راجعون قال و ما هو؟قلت بلغني ان الحسن كان يقول لو غلى دماغه من حر الشمس ما استظل بحائط صيرفي،و لو تفرثت كبده عطشا لم يستق من دار صيرفي ماء،و هو عملي و تجارتي و عليه نبتت لحمي و دمي و منه حجتي و عمرتي،قال فجلس عليه السّلام فقال كذب الحسن خذ سواء و اعط سواء،فاذا حضرت الصلوة فدع ما بيدك انهض الى الصلوة،اما علمت ان اصحاب الكهف كانوا صيارفة يعني صيارفة الكلام و لم يعن صيارفة الدراهم.

فان قلت الكلام انما هو في صيارفة الدراهم فاذا كان اهل الكهف صيارفة الكلام فكيف يكون حسن حالهم منافيا لذّم صيارفة الدراهم،قلت هذه الفقرة من الحديث قد استشكلها المحققون حتى ان بعضهم قال ان هذا التفسير من كلام الصدوق(ر ه)لا من كلام الامام عليه السّلام و يؤيده ان الحديث موجود في الاصول الاربعة و كلها خالية من هذا التفسير سوى كتاب الفقيه، و لكن سعد بن هبة اللّه الراوندي نقل في كتاب قصص الانبياء حديثا منسدا عن الكاهلي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام و ذكر اصحاب الكهف فقال لو كلفكم قومكم ما كلفهم قومهم ما فعلتم فعلهم فقيل له و ما كلفهم قومهم؟قال كلفوهم الشرك باللّه فاظهروا من حالهم الكفر و اسرّوا الايمان حتى جائهم الفرج،و قال ان اصحاب الكهف كذبوا فآجرهم اللّه و صدقوا فآجرهم اللّه و قال كانوا صيارفة الدراهم و قال خرج اصحاب الكهف على غير ميعاد فلما صاروا في الصحراء اخذ هذا على هذا و هذا على هذا العهد و الميثاق ثم قال اظهروا امركم فأظهروه فاذا

ص:138

هم على امر واحد،و قال ان اصحاب الكهف اسروا الايمان و اظهروا الكفر و ثوابهم على اظهار الكفر اعظم منه على اسرارهم الايمان قال و بلع التقية بأصحاب الكهف ان كانوا ليشدون الزنار و يشهدون الاعياد فأعطاهم اللّه تعالى اجرهم مرتين انتهى.و حينئذ فالفقرة التي في ذلك الحديث مأخوذة من هذا الحديث و قد ذكر المحققون لذلك وجوها.

اولها ما صار اليه المحقق صاحب المنتقى قدس اللّه روحه حيث قال غاية ما يوجه به متن الحديث ان سلم عن النقص و توافقت فيه النسخ ان يكون يعني بصيغة المفعول و كذلك لم يعن فيكون المراد ان الحسن و هم من تأويل ما روى في الصيارفة فان المعنى بها صيارفة الكلام لا صيارفة الدراهم على ما روى من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من التهديد لمن يصرف الكلام في المواعيد و غيرها و هذا الوجه لا يوافق حديث الراوندي كما لا يخفى.

و ثانيها ان صرف الكلام في مقام التقية امر ممدوح و ان كان في غيره مذموما و مقصود الامام عليه السّلام من بيان انهم صيارفة الكلام ترغب على استعمال التقية و في قوله عليه السّلام ما فعلتم فعلهم نوع شكاية من شيعة زمانه في الافشاء و ترك التقية فيكون هذا من باب التنظير كما ورد في الكافي في باب الكفالة و الحوالة عن حفض(بن خ)البختري قال ابطأت عن الحج فقال لي ابو عبد اللّه عليه السّلام ما أبطأ بك عن الحج؟فقلت جعلت فداك تكلّفت برجل فحضرني فقال عليه السّلام ما لك و للكفالات اما علمت انها اهلكت القرون الاولى ثم قال عليه السّلام ان قوما اذنبوا ذنوبا كثيرة فأشفقوا منها خوفا شديدا فجاء آخرون فقالوا ذنوبكم علينا فأنزل اللّه عز و جل عليهم العذاب ثم قال تبارك و تعالى خافوني و اجترأتم عليّ،فقد قاس عليه السّلام كفالة الاموال بكفالة الذنوب.

و ثالثها ان يكون الحسن قد فهم ان الذم متوجه الى مطلق الصراف فرّده عليه السّلام بأن اصحاب الكهف كانوا صيارفة الكلام،و لا يخفى بعده و كراهة الصياغة مستندة ايضا الى خلف الوعد كما قال عليه السّلام ويل لتجّار امتي من لا و اللّه و بلى و اللّه و ويل لصياغ امتي من اليوم و غد و كذا يكره الحياكة لانها رذالة و كذلك الحجامة قال الباقر عليه السّلام احتجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حجمه مولى لبني بياضه و اعطاه و لو كان حراما ما اعطاه فلما فرغ قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اين الدم؟ قال شربته يا رسول اللّه فقال ما كان ينبغي لك ان تفعله و قد جعل اللّه لك حجابا من النار و سأل الاعمش أ تجوز الصلوة خلف الحائك قال نعم علي غير وضوء و سأل أتقبل شهادته؟ فقال نعم اذا كان معه شاهدان عدلان.

ص:139

نور في بعض احوال الطفل في المكتب

اعلم انه اذا اراد ان يضع ولده في المكتب فليقصد المعلم العفيف صاحب الدين المرضي و الاخلاق الحميدة و ذلك ان المعلم يكسب الصبي دينه و اخلاقه كما هو المشاهد و ليضعه بين اترابه من الصبيان و الاولى ان لا يكون بينهم بالغ يحصل الريب منه الا ان يكون نائب المعلم و الاولى ان لا يكون بالغا ايضا،و لا يوضع الصبيان و البنات بمكتب واحد لئلا ينجر الى المحبة و التعشق بينهم مع انه ورد النهي من الشارع عن تعليم البنات سوى سورة النور و ذلك ان فيها حدّ الزاني بقوله تعالى اَلزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ و يتأكدا الكراهة في تعليم سورة يوسف و أحسن احوالهن المغزل قال عليه السّلام مروا نسائكم بالمغزل فأنه خير لهنّ و ازين و قال عليه السّلام المغزل في يد المرأة الصالحة كالرمح في يد المغازي المريد وجه اللّه.

و نهى عليه السّلام عن انزال النساء الغرف و ايضا في تعليمهن علم المكتب مظنة الاجتراء على تعلم علم السحر لانه اقرب اليهن من غيرهن و كانت العرب تمدح النساء بعدم تعلم السور قال عبيد بن حصين الملقب بالراعي من كثرة وصفه الابل:

هن الحرائر لا ربات اخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور

و الباء في بالسور زائدة للتأكيد،و ينبغي للمعلم اذا اتى بالصبي ان ينظر اليه اوّل نظرة بعين الهيبة و البطش حتى يخافه من ذلك و ان تكون آلة تأديبه للصيبان كالفلكة معلقة فوق رؤسهم ينظرون اليها و ان يخرج عنهم احيانا و يتركهم و انفسهم لئلا تموت قلوبهم من كثرة جلوسه معهم و لا شيء في الدنيا احب الى الطفل من مرض معلمه او غيبته و من ثم قال بعض الظرفاء لما خرجوا الى الاستسقاء فقال بعضهم اخرجوا الاطفال معكم فان دعائهم سريع الاجابة فقال ذلك الرجل دعنا من هذا الكلام لو كان لهم دعوة مستجابة لما بقى معلم على وجه الارض و ينبغي للمعلم ان يقسم لحظاته بين الصبيان الا ان يكون يعطي الاجرة من واحد ازيد من غيره و حينئذ فينبغي له كثرة التوجه اليه لانه انما يعطي لهذا و لما كان اول ما يتعلمه الصبي هو تعداد حروف الهجاء و بعده تعليم ابجد فلا بأس ببيان معناهما فنقول.

روينا بالاسانيد المتكثرة الى الرضا عليه السّلام قال ان اول ما خلق اللّه عز و جل ليعرّف به خلقه الكتابة الحروف المعجم و ان الرجل اذا ضرب على رأسه بعصى فزعم انه لا يفصح بعض الكلام فالحكم فيه ان تعرض عليه حروف المعجم ثم يعطى الدية بقدر ما لم يفصح منها و لقد حدثني ابي عن ابيه عن جدّه عن امير المؤمنين صلوات اللّه عليهم في ا ب ت ث قال الالف آلاء اللّه،و الباء بهجة اللّه،و التاء تمام الامر بقائم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و الثاء ثواب المؤمنين على اعمالهم الصالحة،ج ح خ فالجيم جمال اللّه و الحاء حلم اللّه عن المذنبين،و الخاء خمول ذكر اهل

ص:140

المعاصي عند اللّه عز و جل،د ذ فالدال دين اللّه و الذال من ذي الجلال،ر ز فالراء من الرأوف الرحيم،و الزاء زلالزل القيامة،س ش فالسين سناء اللّه و الشين شاء ما شاء و اراد ما اراد،و ما تشاؤون الا ان يشاء اللّه،ص،ض فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط و حبس الظالمين عند المرصاد و الضاد ضلّ من خالف محمدا و آل محمد صلّى اللّه عليه و آله ط ظ فالطاء طوبى للمؤمنين و حسن مآب و الظاء ظن المؤمنين باللّه خيرا و ظن الكافرين به سوء،ع غ فالعين من العلم و الغين من الغنى ف ق فالفاء فوج من افواج النار،و القاف قرآن على اللّه جمعه و قرانه ك ل فالكاف من الكافي و اللام لغو الكافرين في افترائهم على اللّه الكذب،م ن فالميم ملك اللّه يوم لا مالك غيره،و يقول اللّه عز و جل لمن الملك اليوم ثم ينطق ارواح انبيائه و رسله و حججه فيقولون للّه الواحد القهار فيقول اللّه جل جلاله اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ان اللّه سريع الحساب و النون نوال اللّه للمؤمنين و نكاله بالكافرين و ه فالواو ويل لمن عصى اللّه و الهاء هان على اللخ من عصاه لاى فلا الف لا اله الا اللّه و هي كلمة الاخلاص ما من عبد قالها مخلصا الا وجبت له الجنة،و الياء يد اللّه فوق ايديهم باسطة بالرزق سبحانه و تعالى عما يشركون ثم قال عليه السّلام ان اللّه تبارك و تعالى انظل هذه القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب.

و روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى الحسين عليه السّلام قال جاء يهودي الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و عنده امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال له ما الفائدة في حروف الهجاء فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام اجبه و قال اللهم وفقه و سدده،فقال علي بن ابي طالب عليه السّلام ما من حرف الا و هو اسم من اسماء اللّه عز و جل ثم قال اما الالف فاللّه الذي لا اله الا هو الحي القيوم و اما الباء فباق بعد فناء خلقه،و اما التاء فالتوّاب يقبل التوبة عن عباده،و اما الثاء فالثابت الكائن يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت و اما الجيم فجلّ ثناؤه و تقدست اسماؤه و اما الحاء حي عليم(حليم خ)و اما الخاء فخبير بما يفعله العباد و اما الدال فديان يوم الدين و اما الذال فذو الجلال و الاكرام و اما الراء فرؤف بعباده و اما الزاء فزين المعبودين و اما السين فالسميع البصير و اما الشين فالشاكر لعباده المؤمنين و اما الصاد فصادق في وعده و وعيده و اما الضاد فالضار النافع و اما الطاء فالطاهر المطهر و اما الظاء فالظاهر المظهر لاياته و اما العين فعالم بعباده و اما الغين فغياث المستغيثين و اما الفاء ففالق الحب و النوى و اما القاف فقادر على جميع خلقه و اما الكاف فالكافي الذي لم يكن له كفوا احد لم يلد و لم يولد و اما اللام فليطف بعباده و اما الميم فمالك الملك و اما النون فنور السموات و الارض من نور عرشه،و اما الواو فواحد صمد لم يلد و لم يولد و اما الهاء فهاد لخلقه و اما اللام الفا فلا اله الا اللّه وحده لا شريك له و اما الياء

ص:141

فيد اللّه باسطة على خلقه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا هو القول الذي رضى اللّه عز و جل من جميع خلقه فأسلم اليهودي.

و بعد ما يعلمّه هذه الحروف يعلمه ابجد و تفسيره على ما رواه صاحب المجالس باسناده الى امير المؤمنين عليه السّلام قال سأل عثمان بن عفان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه ما تفسير أبجد فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تعلّموا تفسير أبجد فأن فيها الاعاجيب كلها ويل لعالم جهل تفسيره فقيل يا رسول اللّه ما تفسير ابجد؟فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اما الالف فالاء اللّه حرف من اسمائه و اما الباء فبهجة اللّه و جلاله و جماله و اما الدال فدين اللّه و اما هوز فالهاء هاء الهاوية فويل لمن هوى في النار و اما الواو فويل لاهل النار و اما الزاء فزاوية اللّه في النار نعوذ باللّه مما في الزاوية يعني زوايا جهنم و اما حطي فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر و ما نزل به جبرئيل مع الملائكة الى مطلع الفجر و اما الطاء فطوبى لهم و حسن مآب،و هي شجرة غرسها اللّه عز و جل و نفخ فيها من روحه و ان اغصانها لترى لهم من وراء سور الجنة تنبت بالحلي و الحلل متدلية على افواهم و اما الياء فيد اللّه فوق خلقه سبحانه و تعالى عما يشركون و اما كلمن فالكاف كلام اللّه لا تبديل لكلمات اللّه و لن تجد من دونه ملتحدا و اما اللام فالمام اهل الجنة بينهم في الزيارة و التحية و السّلام و تلاوم اهل النار فيما بينهم و اما الميم فملك اللّه الذي لا يزول و دوام اللّه الذي لا يفنى و اما النون فنون و القلم و ما يسطرون فالقلم قلم من نور و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون و كفى باللّه شهيدا،و اما سعفص فالصاد صاع بصاع و فص بفص يعني الجزاء بالجزاء و كما تدين تدان ان اللّه لا يريد ظلما للعباد،و اما قرشت يعني قرشهم فحشرهم و نشرهم الى يوم القيامة،و قضى بينهم بالحق و هم لا يظلمون.

و قد روى تفسير آخر عن المسيح عليه السّلام و هو انه لما نشأ صار يدور مع الصبيان فبينما هو كذلك اذ وثب غلام منهم على آخر فوكزره برجله فقتله فجاء اهله و تعلقوا بالصبيان و قالوا من قتل هذا الغلام؟فقالوا قتله عيسى فقال القاضي لعيسى لم قتلت هذا الغلام فقال عيسى للقاضي اراك حاكما جهولا لم لا تسألني هل قتلت؟فقال القاضي اراك غلاما عاقلا قال له القاضي فما اسمك؟فقال عيسى بن مريم فقال القاضي يا عيسى لم قتلته فقال عيسى للقاضي بهذا امرتك ثم دنى عيسى من المقتول،ثم قال له قم بأذن اللّه الذي يحيي العظام و هي رميم قال فاستوى المقتول جالسا،فقال له عيسى من قتلك؟فقال قتلني فلان بن فلان و هذا عيسى بريء من دمي،فتعجب الناس من ذلك و اخذوا الغلام القاتل فقتلوه ثم ان المقتول بعد اقراره على من قتله عاد الى موته كما كان ثم اخذت مريم بيد عيسى فانطلقت به الى منزلها و قالت يا بني لا ترجع تلعب مع الصبيان و انطلق معي الى معلم رأيته هناك فلعلك ان تتعلم منه شيئا

ص:142

تنتفع به فقال يا اماه ان ربي قد اعطاني غنى عن تعليم المعلمين،و قد علمني التورية و الانجيل و انا في بطنك فقالت صدقت غير انك تكون عند معلم خير من ان تكون مع الصبيان قال فانطلقت به الى ذلك المعلم فقال له المعلم يا غلام فقال عيسى ايها المعلم انك لجاهل ينبغي لك اذا سلّموا اليك غلاما ان تعرف اسمه قبل ان تعلمه فتدعوه باسمه فقال المعلم صدقت فما اسمك؟قال عيسى بن مريم قال المعلم يا عيسى إقرء بسم اللّه فقال عيسى عليه السّلام عند ذلك بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال المعلم قل أبجد فقال عيسى عليه السّلام له ما معنى أبجد؟فغضب المعلم عند ذلك فقال له عيسى لا تغضب فان الانسان خلق و لا علم له فقال المعلم لعيسى ما ابجد فقال عيسى للمعلم قم من موضعك الى موضعي حتى اقعد مكانك ففعل المعلم ذلك فقال عيسى الالف آلاء اللّه و الباء بهاء اللّه و الجيم جمال اللّه و الدال دين اللّه قال المعلم احسنت يا عيسى فما هور قال عيسى اما الهاء فهو اللّه الذي لا اله الا هو و الواو ويل يومئذ للمكذبين و الزاء زبانية جهنم قال المعلم احسنت يا عيسى ثم قال المعلم فما حطى فقال عيسى اما الحاء فهي حطوط الخطايا عن المذنبين و الطاء شجرة طوبى و الياء يد اللّه على خلقه قال المعلم احسنت يا عيسى ثم قال فما كلمن؟قال عيسى اما الكاف فهو كلام اللّه و اما اللام فانها لقاء اهل الجنة بعضه ببعض،و اما الميم فانها ملك اللّه و اما النون فانها نساء اهل الجنة فقال المعلم احسنت يا عيسى فما صعفص،فقال عيسى عليه السّلام اما الصاد الاولى فصاع بصاع و اما العين فعلم اللّه و اما الفاء فانها افعاله الجميلة،و اما الصاد الاخرى فانها الصدق في اقواله،فقال احسنت يا عيسى ثم أخ بيده و انطلق به الى امه فقال لها خذي ولدك فانه علمني ما لم اكن احسنه و لا اعلمه.

و ينبغي للمعلم ان يعلم الصبيان هذه المعاني و ينسرها لهم و اما اجرة المعلم فقيل بتحريمه مطلقا و قيل بأن الحرام منه ما كان على تعليم القرآن و قيل لا يحرم الاجر الا على القدر الضروري منه كالفاتحة و السورة نعم قال اهل هذه الاقوال انه يعلم ليهدي اليه الهدية و لا يشارط من اول الامر فما يهدي اليه من جهة التعليم حلال اجماعا و الاولى القول بتحليل الاجر مطلقا،و حمل ما ورد فيه من النهي اما على التقية او على الكراهة و يؤيده ما رواه الشيخ عن ابي قرة قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام ان هؤلاء يقولون ان كسب المعلم سحت فقال كذبوا اعداء اللّه انما ارادوا ان لا يعلم القرآن و لو ان المعلم اعطاه رجل ديه ولده كان للمعلم مباحا.

و الذي يدل على كراهة الاجر قول الصادق عليه السّلام المعلم لا يعلم بالاجر و يقبل الهدية اذا اهدى ليه و عن اسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السّلام قال قلت له ان لنا جارا يكتب و قد سألني ان اسألك عن عمله قال مره اذا دفع اليه الغلام ان يقول لاهله اني اعلمه الكتاب

ص:143

و الحساب و ائتجر عليه بتعليم القرآن حتى يطيب له كسبه و عن حسان قال سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن التعليم قال لا تأخذ على التعليم اجرا قلت الشعر و الرسائل و ما اشبه ذلك اشارطه عليه قال نعم بعد ان يكون الصبيان عند سواء في التعليم لا تفضل بعضهم على بعض.

و اما قول من قال بتحريم الاجر على الواجب منه فهو تعويل على ما قاله كثير من العلماء من تحريم اخذ الاجرة على الواجبات كتغسيل الموتى و تكفينهم و نقلهم الى حفرهم و الاذان و هذه القاعدة لا تكاد تتم اما اولا فلانه قد ورد في بعض الموارد الخاصة جواز اخذ الاجر على الواجبات.

و اما ثانيا فلان هذه الواجبات الكفائية كثيرة جدا مع ان الاصحاب رضوان اللّه عليهم قاطعون بجواز اخذ الاجر عليها،و ذلك كالخياطة و الحياكة و التجارة و نحوها مما يحتاج اليه الانسان في تعيشه و بقائه،فان اهل هذه الصناعات لو تركوا القيام بها لوجبت على غيرهم ممن يمكنه القيام بها و لجاز للحاكم ان يضطرهم و يجبرهم عليها مع انها من الواجبات نعم قد ورد النهي عن جواز اخذ الاجرة على بعض الواجبات فيقتصر فيه على مورده،و ذلك كالاذان فانه قال صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام يا علي لا تتخذنّ مؤذنا يأخذ على الاذان اجرا،و روى الطاهرون عليه السّلام ابيهم علي عليه السّلام انه اتاه رجل فقال يا امير المؤمنين و اللّه اني لاحبك للّه فقال له و لكني ابغضك للّه، قال و لم؟قال لانك تبغي في الاذان و تأخذ على تعليم القرآن اجرا و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول من أخذ على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم القيامة و النهي فيه للمؤذن يمكن حمله على التحريم و اما على تعليم القرآن فهو محمول على الكراهة جمعا بين الاخبار مع جواز ان يحمل حديث الجواز على ما اذا لم يشارط في تعليم القرآن اجرا معلوما،و حمل هذا الحديث و ما روى(ورد خ)في معناه على ما اذا شارط عليه كما قاله الشيخ الطوسي(ر ه).

و اذا بلغ عشر سنين مميزا جازت وصاياه و تصدقاته و وقوفاته الى غير ذلك من موراد الخير قال الصادق عليه السّلام اذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيته و اذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته و ما تضمنه من جواز وصيته من بلغ العشر قد عمل به اكثر الاصحاب سوى ابن ادريس(ر ه)فانه اشترط البلوغ في كل تصرفاته و لم يعمل بهذا الخبر و ما في معناه لانها اخبار آحاد عنده و اما ابن سبع سنين فلم يذهب احد الى جواز وصيته سوى ما نسبه شيخنا الشهيد الثاني(ر ه)الى ابن بابويه و ذلك انه نقل هذا الخبر في كتابه و ذكر في اول الكتاب انه يعمل بكل ما اورده فيه و اما ابن الجنيد فقد جوّز وصايا من بلغ ثمان سنين.

ص:144

نور في وقت بلوغه و ما يتبعه من الاحوال

اعلم ان المشهور بين العلماء هو ان بلوغ الصبي يعتبر تارة بالامناء يقظة او نوما و تارة بالبلوغ خمس عشرة سنة و اخرى لا لانبات و الصبية ببلوغ التسع او بالحيض و وجه انها تشب بالتسع ما يشبه(يشب ظ)الولد بالخمس عشرة،و تحيض على التسع لحرارة الطبيعة فيها و من ثم انقطع نسلها،و يأست على الخمسين او الستين،و ذلك ان حرارتها شعلة تشب من التسع الى الخمسين فتخمد نارها سريعا و تبرد حرارتها الشديدة و اما الرجل فحرارته اقل منها فتكون بارزة الى الوجود تدريجا و نظير هذا في الحكايات ما روى ان هارون الرشيد دخل عليه فقير فسأله الرشيد لم تكون اعمار الفقراء اطول من اعمار الملوك و الاغنياء؟فقال له الفقير ذلك بسبب ان الاغنياء قد آتاهم اللّه ارزاقهم دفعة واححدة فأكلوها و فنيت اعمارهم لفنائهم ارزاقهم و ما الفقراء فأرزاقهم تأتيهم على سبيل التدريج و لم يكونوا يموتوا حتى تستكمل ارزاقهم فقال له هارون صدقت ثم انه امر له بعطية جزيلة فلما اخذها و صار الى منزله مات بعد مدة قليلة فاتصل خبره بهرون فقال انا دفعنا اليه رزقه دفعة واحدة فأكله فمات.

فاذا بلغ و تمّ بلوغه استقبلته التكاليف الالهية و كتبت اعماله و اقواله في الدفاتر السماوية و نزل اليه الكاتبان رقيب و عتيد فرقيب يكون معه على يمينه يكتب حسناته و عتيد معه على يساره يكتب سيئاته ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد سمى به لانه يقول لعتيد اذا اراد المبادرة بكتابة الذنب له رقبة لعله يتوب فيرتقبه سبع ساعات و اما عتيد فهو بمعنى الحاضر و ذلك لانه لا يفارقه في حال من الاحوال و من هذا كان علي عليه السّلام اذا اراد الدخول الى بيت الخلاء التفت الى كاتبيه فقال اميطا عني فلكما اللّه علي انم لا احدث حدثا حتى اخرج اليكما و هذان الكاتبان يكتبان اعمال اليوم الى الليل فيأتيان مع الصحيفتين الى امام العصر و يعرضانهما عليه فيقرأهما فما كان من صحيفة سيئآت شيعته استغفر اللّه لهم و اصلح ما كان يقبل الاصلاح و لهذا قال عليه السّلام لشيعته اذا اتتني صحيفة سيئاتكم فلتكن صحيفة قابلة للاصلاح يعني ينبغي ان يكون كالكتاب الذي فيه غلط لا ان يكون كله غلطا فانه لا يقبل الاصلاح و العرض على امام العصر انما يكون بعد العرض على روح النبي صلّى اللّه عليه و آله و من تقدم ذلك الامام من آبائه الطاهرين و ذلك لئلا يكون علم آخرهم ازيد من علم اولهم كما وردت به الرواية.

و روى انه صلّى اللّه عليه و آله قال حياتي خير لكم و مماتي خير لكم اما حياتي فقد قال اللّه سبحانه و تعالى وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ و ذلك ان بعض المنافقين قال اللهم ان كان ما يتلوه محمد من القرآن عندك فامطر علينا حجارة من السماء فقال تعالى سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ و قال صلّى اللّه عليه و آله ما دمت بينهم فلم ينزل عليهم العذاب و اما مماتي فهو ان اعمالكم تعرض عليّ

ص:145

خميس و جمعة فأستغفر لكم اللّه و اسأله التجاوز عن ذنوبكم و هذا كله هو المراد من قوله تعالى وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ فان المراد بالمؤمنين هنا الائمة عليهم السّلام على ما في الاخبار.

ثم بعد هذا العرض يصعدان باعماله الى موقف العرض و يأتي اليه ملكان آخران لكتابة اعمال الليل فيكتبان على الى طلوع الفجر ثم اذا ارادا العروج هبط ملكان آخران و يجتمع الاربعة اول وقت صلاة الصبح كما قال تعالى وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً و المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح من باب تسمية الكل باسم جزئه اشارة الى ارجحية طول القراءة فيها و معنى مشهودا انها تشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار فاذا بادر المكلف الى فعلها اول وقتها اثبتتها له ملائكة الليل و ملائكة النهار في صحائف الليل و النهار و كل ملكين يصعدان لا ينزلان الى يوم القيامة و في الحديث ان السبب فيه لا يشتهر بكثرة قبائحه بين الملائكة.

و تفصيل صعود الاعمال ما رويناه بالاسانيد الكثيرة عن خالد بن سعدان انه قال لمعاذ حدثني حديثا(بحديث خ)سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حفظته و ذكرته في كل يوم من شدته و دقته قال نعم ثم بكى بكاء طويلا ثم قال وا شوقاه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الى لقائه ثم قال بينما انا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذ ركب وارد فني ثم سرنا فرفع بصره الى السماء و قال الحمد يقضي في خلقه ما يشاء يا معاذ قلت لبيك يا رسول اللّه يا سيد المرسلين قال احدثك بحديث ان انت حفظته نفعك و ان انت ضيعته انقطعت حجتك عند اللّه عز و جل يا معاذ ان اللّه تعالى خلق سبع املاك قبل ان يخلق السموات فجعل في كل سماء ملكا قد جللها بعظمته و جعل لكل باب من ابواب السموات ملكا بوابا.

فيكتب الحفظة عمل العبد من حين يصبح الى حين يمسي ثم ترتفع الحفظة بعمله و له نور كنور الشمس حتى اذا بلغ سماء الدنيا فتزكيه و تكثره فيقول قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الغيبة فمن اغتاب لا ادع عمله يجاوزني الى غيري امرني بذلك ربي قال ثم تجيء الحفظة من الغد و معهم عمل صالح فتمر به تزكيه و تكثره حتى يبلغ السماء الثانية فيقول الملك الذي في السماء الثانية قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انما اراد بهذا رض الدنيا انا صاحب الدنيا لا ادع عمله يجاوزني الى غيري قال ثم تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجا بصدقة وصولة فتعجب به الحفظة و تجاوزه الى السماء الثالثة فيقول الملك قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و ظهره انا صاحب الكبر انه عمل و تكبّر على الناس في مجالستهم امرني ربي لا ادع عمله يجاوزني الى غيري،قال و تصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كالكوكب الدري في السماء له دوي بالتسبيح و الصوم و الحج،فتمرّ به الى السماء الرابعة فيقول لهم الملك قفوا

ص:146

و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و بطنه انا ملك العجب انه كان يعجب بنفسه و انه عمل و ادخل نفسه العجب امرني ربي لا ادلع عمله يجاوزني الى غيري.

قال و تصعد الحفظة بعمل العبد كالعروس المزفوفة الى بعلها فتمر به الى ملك السماء الخامسة بالجهاد و الصدقة ما بين الصلوتين و لذلك العمل ضوء كضوء الشمس فيقول الملك قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و احملوه على عاتقه انا ملك الحسد انه كان يحسد من يتعلم او يعمل للّه بطاعته و اذا رآى لاحد فضلا في العمل و العبادة حسده و وقع فيه،فيحمله على عاتقه و يلعنه عمله،قال و تصعد الحفظة بعمل العبد فتتجاوز السماء السادسة فيقول الملك قفوا انا صاحب الرحمة اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه و اطمسوا عينيه ان صاحبه لا يرحم شيئا اذا اصاب عبد من من عباد اللّه ذنبا للاخرة او ضرّا في الدنيا شمت به امرني ربي لا ادع عمله يجاوزني قال و تصعد الحفظة بعمل العبد بفقه و اجتهاد و ورع و به صوت كالرعد وضوء كضوء البرق و معه ثلاثة آلاف ملك فتمر به الى ملك السماء السابعة فيقول الملك قفوا و اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الحجاب احجب كل عمل ليس للّه تعالى انه اراد رفعة القواد و ذكرا في المجالس و صيتا في المدائن امرني ربي ان لا ادع عمله يجاوزني الى غيري ما لم يكن له (للّه خ)خالصا قاتل و تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجا من صلوا و زكوة و صيام و حج و عمرة و خلق حسن و صمت و ذكر كثير تشيعه ملائكة السموات و الملائكة السبعة بجماعتهم فيطأون الحجب كلها حتى يقوموا بين يديه سبحانه فيشهدوا له بعمل و دعاء فيقول انتم حفظة عمل عبدي و انا رقيب على ما في نفسه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي فيقول الملائكة عليه لعنتك و لعنتنا الحديث.و هو طويل ينبهك على ان العمل الصالح الخالص من الشوائب اقل قليل نسأل اللّه التوفيق للاخلاص فيه.

و يستفاد من هذا الحديث ان السماء لها ابواب و فرج و اليها صعود و هبوط و قد حمل بعض المحققين ما روي عن الرضا عليه السّلام من ان الصلوة لها اربعة آلاف باب على ابواب السماء التي يصعد اليها بالصلوة و الظاهر غير هذا و هو ان يكون المراد بالابواب الاحكام و يؤيده ما روي في حديث آخر من ان الصلوة لها اربعة آلاف حدّ و يمكن توجيه الحدود بان واجباتها الف كما ذكره شيخنا الشهيد في الالفية و تروك هذه الالف محرمات فهذان الفان و مستحباتها ايضا الف كما ذكر اكثره في النفلية و تروك هذه الالف مثلها من المكروهات فالمجموع اربعة آلاف،نعم ورد في كثير من الاخبار ان المؤمن اذا كات بكت عليه البقاع التي كان يعبد اللّه عليها و ملائكة اعماله و ابواب السماء التي كان يصعد منها بعمله.

ص:147

فان قلت ما معنى بكاء البقاع و الابواب و نحوها من الجمادات قلت قد ذكر له معان:

اولها ان البكاء الصادر منها انما هو بلسان الحال لا المقال و مثل هذا قد ورد في لسان العرب كثيرا و ذلك انهم ينسبون البكاء على الاحباب الى منازلهم و اطلالهم و نحوها و ثانيها ان الافعال المنسوبة الى الجمادات كالبكاء و التسبيح و التقديس و غير ذلك انما هو في الحقيقة لاهلها و لمن حل بها و هو من المجازات المشهورة.

و ثالثها ان اللّه سبحانه قد ركب في الجمادات نوعا من العلم و الشعور للخضوع و الانقياد لخالقا و بارئها و ان من شيء الا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم و من هذا قال بعضهم ان تسبيح الحصاة في كفّه صلّى اللّه عليه و آله ليس باعجاز انما الاعجاز في اسماعه الصحابة و هذا هو الذي دلّت عليه الاخبار فلا عدول عنه.

و بالجملة فرقيب و عتيد يكتبان عليه من اول بلوغه الى اربعين سنة و لكن يسامحونه هذه المدة و لا يشددان عليه في امر الكتابة لتظافر دواعي الشهوات و الاثام فاذا بلغ الاربعين اوحى اللّه الى ملكيه ان اكتبا و تحفظا على اعماله و لا تسامحوه في شيء فقد روى ان الذنب الواحد ربما كتبوه في سبعة ارقعة و ذلك لقلة الدواعي و للاخذ في انقاص الشهوات فاذا اتى ذنبا فقد اتاه من وجه شقائه لا من حيث الشهوة و كلما بلغ سنّه زاد التشديد عليه و من هذا قال عليه السّلام اني لا عجب كل العجب من رجلين و اللّه يبغضهما فقير متكبر و شيخ زان و في الرواية ان الرجل اذا شابت لحيته و بقى على ما كان عليه من مقارفة الذنب اتاه الشيطان و وقف بحياله و قال بأبي وجها لا يفلح ابدا انت مناي و مرادي فيسرجه و يلجمه و يركب على ظهره و يورده موارد الهلاك و ربما نزل عنه و قال ان ظهره لنا متى اردنا ركبناه.

و يجب على من دخل تحت قلم التكليف ان يبادر الى البحث و الفحص عن احوال طريقه و مذهبه الذي يوصله الى النجاة لان الاديان و المذاهب قد تشعبت بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و كل فرقة ادعت انها هي المحقة و انها من اهل الجنة و فسقت او كفرت غيرها و في الطريق المتواتر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان امة موسى افترقت بعده احدى و سبعين فرقة فرقة ناجية و الباقون في النار و ان في امة عيسى افترقت بعده اثنين و سبعين فرقة فرقة ناجية و الباقون في النار و ان امتي ستفترق بعدي ثلاثا و سبعين فرقة فرقة ناجية و الباقون في النار،و قد اخبر صلّى اللّه عليه و آله عن افتراق الامة بعده و ابتداعهم الاديان و رجوعهم القهقرى و الى هذا اشار قوله تعالى وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ.

و قد ذهب جمهور المخالفين الى ان اختلاف الامة بعده صلّى اللّه عليه و آله هو الاصلح و الاولى بحالهم و استدلوا عليه بالكتاب و السنة اما الكتاب فقوله تعالى وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و لذلك خلقهم أي للاختلاف خلقهم،فدل على ان اختلافهم حسن لانهم خلقوا لاجله كما قال وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ و اما السنة فما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله من قوله اختلاف امتي رحمة و الجواب اما عن الاية فقد ورد في تفسيرها عن اهل البيت عليهم السّلام ان المشار اليه في قوله و لذلك الرحمة المدلول عليها بالفعل فيكون حاصل المعنى ان ربك انما خلقهم ليرحمهم و يؤلف بينهم لكنهم اختاروا الاختلاف و التضاد فحرموا الرحمة منه سبحانه و تعالى و اما عن الحديث فقد روى عن الصادق عليه السّلام حين سأل عن معناه فقال عليه السّلام انما عنى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاختلاف الى البلاد لتحصيل العلوم و المعارف،كما قال تعالى فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ و كيف يأمر صلّى اللّه عليه و آله بالاختلاف مع استلزامه التضاد بين الامة و اختلاف الدين و هو واحد.

ص:148

و قد ذهب جمهور المخالفين الى ان اختلاف الامة بعده صلّى اللّه عليه و آله هو الاصلح و الاولى بحالهم و استدلوا عليه بالكتاب و السنة اما الكتاب فقوله تعالى وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ و لذلك خلقهم أي للاختلاف خلقهم،فدل على ان اختلافهم حسن لانهم خلقوا لاجله كما قال وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ و اما السنة فما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله من قوله اختلاف امتي رحمة و الجواب اما عن الاية فقد ورد في تفسيرها عن اهل البيت عليهم السّلام ان المشار اليه في قوله و لذلك الرحمة المدلول عليها بالفعل فيكون حاصل المعنى ان ربك انما خلقهم ليرحمهم و يؤلف بينهم لكنهم اختاروا الاختلاف و التضاد فحرموا الرحمة منه سبحانه و تعالى و اما عن الحديث فقد روى عن الصادق عليه السّلام حين سأل عن معناه فقال عليه السّلام انما عنى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاختلاف الى البلاد لتحصيل العلوم و المعارف،كما قال تعالى فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ و كيف يأمر صلّى اللّه عليه و آله بالاختلاف مع استلزامه التضاد بين الامة و اختلاف الدين و هو واحد.

و اما الداعي لهم الى هذه المقالة فهو ما وقع بين الصحابة بعده صلّى اللّه عليه و آله من التشاجر و الجدال كما وقع بين بني هاشم و بين تيم وعدي على الخلافة و كما في حكاية قتل عثمان و ان الذين قتلوه كانوا اكابر الصحابة و اجلائها حتى انه قد روى يوسف بن عبد اللّه النمري و هو من فضلائهم في كتاب استيعاب الرجال في احوال محمد بن ابي بكر ما هذا لفظه و كان علي عليه السّلام يثني على محمد بن ابي بكر و يفضله لانه كانت له عبادة و اجتهاد و كان ممن حضر قتل عثمان و قيل انه شارك في دمه انتهى،فاذا اقروا على علي عليه السّلام بأنه انما كان يعظم محمد لاجل قتل عثمان فيجب عليهم ان يبترأوا اما من علي عليه السّلام و محمد او من عثمان لان قتل امام المسلمين كفر باللّه باجماع المسلمين و كذا الرضا بقتله و الاعانة عليه.

و قد صرحوا في كتبهم ان عائشة ما خرجت في قتال البصرة الا لطلب دم عثمان حتى انها لما قالت هذا الكلام لام سلمة رضي اللّه عنها صرخت أم سلمة و قالت يا عائشة انت بالامس تشهدين على عثمان بالكفر لما منعك من ارث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سميته نعثلا باسم يهودي كان في المدينة و قلت اقتلوا تعثلا قتله اللّه،و الان تطلبين بدمه و تقولين انه امام المسلمين فقالت عائشة نعم لانه تاب و صار كالسبيكة و خرج من ذنوبه و لو انهم قتلوه ذلك الوقت لا طلبت بدمه هذا مع ان عثمان كان صاحب اولاد و كانوا اولياء دمه و عائشة اجنبية بالنسبة اليه، و الجهاد موضوع عن النساء و قد امر اللّه نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله بالاستقرار في المنازل و عدم الخروج منها فقال و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى،و لعمرك انها زادت على برتج الجاهلية الاولى بالوقوف بين صفوف العساكر حتى قتل لاجلها آلاف من المسلمين و كذلك الاختلاف الذي وقع بين علي عليه السّلام و معاوية الذي سموه خال المؤمنين باعتبار اخته ام حبيب و قد قتل في حرب صفين ثمانون الفا من الطرفين فما هذه الرحمة التي في هذا الاختلاف أ تكفير

ص:

بعضهم بعضا ام اهراق دماء المسلمين و ليس هذا الا من عجزهم عن جواب هذه المسألة و ظنهم الخير بالطرفين و هو غير محتاج اليه فان صحبة الانبياء لو كانت وحدها مظنة حسن الحال لكان القرب اليهم بالنبوة و الزوجية يفيده بالطريق الاولى و لما ورد الذم و التوبيخ لابن نوح و زوجته و زوجة لوط مع تمام العلاقة بينهم بالنسب و قبل الخوض في الاستدلال على المذهب الحق لا بدّ من تفصيل الفرق و اديانها و اختلاف اعتقاداتها الذي بانت بسببه الطوائف بعضها عن بعض و قد تعرّض بعضهم لمثل هذا لكن اما بايجاز مخلّ او باطناب ممل.

نور في بيان الفرق و اديانها و ما يتعلق به من المقدمات و اللواحق.

اشارة

اعلم اولا ان الناس ينقسمون الى اهل الديانات و هم اليهود و النصارى و المجوس و المسلمون و الى اهل الاراء و الاهواء مثل الفلاسفة و الدهرية و الصائبة و عبدة الكواكب و الاوثان و البراهمة و يفترق كل منهم فرقا فافترقت المجوس على سبعين فرقة و اليهود على احدى و سبعين فرقة و النصارى على اثنين و سبعين فرقة و المسلمون على ثلث و سبعين فرقة كما تقدم و الناجية ابدا من الفرق واحدة،لقوله صلّى اللّه عليه و آله لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق الى يوم القيامة.

و اما ضبط القواعد التي يبنى(يبتنى خ)عليها مناط الاختلاف كله فهي اربع على ما قيل اولها الصفات و التوحيد،و يندرج فيها صفات الذات و صفات الفعل و ما يجب على اللّه و ما يجوز عليه و ما يمتنع و فيها الخلاف بين الاشعرية و الكرامية و المجسمة و المعتزلة كما سيأتي.

و ثانيها القدر و المعدل و يندرج فيها مسائل لقضاء و القدر و الجبر و الكسب و ارادة الخير و الشر المقدور و المعلوم و فيها الخلاف بين القدرية و البخارية و الجبرية و الاشعرية و الكرامية، و ثالثها الوعد و الوعيد و الاسماء و الاحكام و يندرج فيها الايمان و التوبة و الوعد و الوعيد و الارجاء و التكفير و التضليل و فيها الخلاف بين المرجئة و الوعيدية و المعتزلة و الاشعرية و الكرامية.

و رابعها السمع و العقل و الرسالة و الامامة و يندرج فيه مسائل التحسين و التقبيح و الصلاح و الاصلح و اللطف و العصمة في النبوة و شرائط الامامة نصبا عند جماعة و اجماعا عند آخرين و كيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص و كيفية اثباتها على مذهب من قال بالاجماع و الخلاف فيها بين الشيعة و الخوارج و المعتزلة و الكرامية و الاشعرية و اصل الفرق الاسلامية اربعة القدرية،الصفائية،الخوارح،الشيعة،ثم يتركب بعضها مع بعض و ينشعب (يتشعب خ)عن كل فرقة اصناف فيصل الى ثلث و سبعين فرقة و يجب ان يدري ان السبب

ص:150

الاولى في الشبه التي انبعثت منها تفرق الاراء و المذاهب هو متابعة خطوات الشيطان في شبهاته الاولية و هي استقلاله بالرأي في مقابلة النص و اختياره الهوى في معارضة الامر و استبكاره بالمادة التي خلق منها و هي النار على مادة آدم عليه السّلام و هي الطين.

و انشعبت هذه الى سبع شبه حتى ارتكزت في اذهان الناس و سارت فيهم و زيّنها في اعينهم حتى صارت مذاهب مبتدعة و تلك الشبهات مسطورة في الاناجيل الاربعة و مذكورة في التورية متفرقة على شكل مناظرة بينه و بين الملائكة بعد الامر بالسجود و الامتناع عنه كما نقل عنه اني سلّمت ان الباري تعالى الهي و اله الخلق عالم قادر و لا يسأل عن قدرته و مشيته فانه مهما اراد شيئا قال له كن فيكون و هو عليك حكيم الا انه يتوجه على علمه و حكمته اسؤلة سبع قالت الملائكة و ما هنّ قال اولها انه علم قبل خلقي أي شيء يصدر مني فلم خلقني اولا و ما الحكمة في خلقه اياي ثانيها اذ خلقني على مقتضى ارادته و مشيئته فلم كلفني بمعرفته و طاعته و ما الحكمة في التكليف بعد ان لا ينتفع هو بطاعة و لا يتضرر بمعصية.

ثالثها اذ خلقني و كلفني فالتزمت تكليفه بالطاعة و المعرفة فعرفت و اطعت فلم كلفني بطاعة آدم و السجود له؟و ما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد ان لا يزيد ذلك في معرفتي و طاعتي؟رابعها اذا خلقني و كلفني على الاطلاق و كلفني بهذا التكليف على الخصوص فاذا لم اسجد فلم لعنني و اخرجني من الجنة و ما الحكمة في ذلك بعد ان لم ارتكب قبيحا الا قولي لا اسجد الا لك؟خامسها اذ خلقني و كلفني مطلقا و خصوصا فلم اطلع فلعنني و طردني فلم ادخلني الى آدم الجنة ثانيا حتى غررته بوسوستي فأكل من الشجرة المنهي عنها و اخرجه من الجنة معي و ما الحكمة في ذلك بعد ان لو منعني دخول الجنة استراح عني آدم و بقي خالدا فيها.

سادسها اذ خلقني و كلفني عموما و خصوصا و لعنني ثم ادخلني الجنة و كانت الخصومة بيني و بين آدم فلم سلّطني على اولاده حتى اراهم من حيث لا يرونني و يؤثر فيهم و سوستي و لا يؤثر فيّ حولهم و قوتهم و قدرتهم و استطاعتهم و ما الحكمة في ذلك بعد ان لو خلقهم على الفطرة فبعث سامعين مطيعين كان أحرى بهم و اليق بالحكمة؟سابعها سلّمت هذا كله خلقني و كلفني مطلقا و مقيدا و اذ لم اطع لعنني و طردني و اذا اردت دخول الجنة مكنني و اذ عملت عملتي اخرجني ثم سلطني على بني آدم حتى اذا استمهلته امهلني فقلت انظرني الى يوم يبعثون قال انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم و ما الحكمة في ذلك بعد ان لو اهلكني في الحال استراح خلق مني و ما بقي شرّ في العالم أ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر؟قال لعنه اللّه فهذه حجتي على ما ادعيته في كل مسألة.

ص:151

قال شارح الانجيل فأوحى اللّه تعالى الى الملائكة عليهم السّلام قولوا له انك في تسليمك الاول اني الهك و اله الخلق غير صادق و لا مخلص اذ لو صدقت اليّ اله العالمين لما احتكمت عليّ بلم، فانا اللّه الذي لا اله الا انا لا اسأل عما افعل و الخلق مسؤلون فهذه اصول الشبه و الخلق كلهم قديما و حديثا قد اخذوا بها في جدال الانبياء عليهم السّلام لان قولهم أبشر يهدوننا مثل قوله اسجد لمن خلقت طينا،و قوله تعالى وَ مٰا مَنَعَ النّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ الْهُدىٰ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَ بَعَثَ اللّٰهُ بَشَراً رَسُولاً ،فبين ان المانع من الايمان هو هذا المعنى كما قال في الاول مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ.

و المتقدمون و المستأخرون على طريقة واحدة كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل فاللعين الاول لما حكم العقل على من لا يحكم عليه العقول لزمه ان يجري حكم الخالق في الخلق و حكم الخلق في الخالق الاول غلو و الثاني تقصير فبان من الشبهة الاولى مذاهب الحلولية و التناسخية و المشبهة و الغلاة حيث غلوا في شخص من الاشخاص حتى وصفوه صفات الجلال و صار من الشبهة الثانية مذاهب القدرية و الجبرية و المجسمة حيث قصروا في وصفه تعالى بصفات المخلوقين و المعتزلة مشبهة الافعال و المشبهة حلولية الصفات و مذهب القدرية طلب العلة في كل شيء و ذلك من فعل اللعين الاول اذ طلب العلة في الخلق اولا و الحكمة في التكليف ثانيا و الفايدة في تكليف السجود لادم عليه السّلام ثالثا و عنه نشأ مذهب الخوارج اذ لا فرق بين قولهم لا حكم الا للّه فلا يحكم الرجال و بين قوله لا أسجد الا لك ءاسجد لبشر خلقته من صلصال،و قد اخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله بأنه يقع في هذه الامة ما وقع في الامم السالفة كما قال لتسلكن سب الامم قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه و ذلك ان الشبهات التي نشأت زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله مأخوذة من الشبهات الاولى بدليل انهم ما كانوا يرضون بحكمه في الامر و النهي سألوا عما منعوا عنه و جادلوا بالباطل و اعتمدوا على العقل في مقابلة النص أ لا ترى الى قول التميمي إعدل يا محمد فانك لم تعدل حتى قال له ان لم اعدل فمن يعدل فعاود اللعين و قال هذه قسمة ما اريد بها وجه اللّه و ذلك خروج على النبي صلّى اللّه عليه و آله و أخذ بجادة العقل الناقص في مقابلة النص الجلي.

و انظر الى قول المنافقين يوم احد هل لنا من شيء و قولهم لو كان لنا من الامر شيء ما قتلنا هيهنا،و قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا فهل ذلك الا تصريح بالقدر و قول طائفة من المشركين لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء و قول طائفة أنطعم من لو يشاء اللّه اطعمه فهذا تصريح بالجبر،فهذه احوالهم في صحة بدنه فاعتراضهم على حركاته و سكناته نشأت منها الشبهات.

ص:152

و انظر الى اختلافاتهم التي وقعت زمن مرضه صلّى اللّه عليه و آله روى محمد بن اسماعيل البخاري في مسنده عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه قال لما اشتد بالنبي صلّى اللّه عليه و آله مرضه الذي مات فيه قال ائتوني بدواة و قرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي ابدا فقال عمر ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد غلب عليه الوجع و في اكثر الاحاديث بهذا اللفظ ان الرجل ليهجر أي يتكلم من غير شعور و هو الهذيان فكثر اللفظ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع.

قال ابن عباس الرزية ما حال بيننا و بين رسول اللّه و قوله صلّى اللّه عليه و آله في مرضه جهزوا جيش اسامة لعن اللّه من تخلف عنها،فقال قوم يجب علينا امتثال امره و اسامة قد برز من المدينة و قال الاعرابيان قد اشتد مرض النبي صلّى اللّه عليه و آله فلا تسع قلوبنا مفارقته و كانا كاذبين في هذا القول،و انما الذي دعاهما الى التخلف عن جيش اسامة هو ارادة الوثوب على الخلافة التي تعاقدوا عليها زمن حيوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد فهما ان غرضه عليه من تأمير اسامة عليهما و اخراجهما من المدينة في ذلك الوقت ان تخلوا المدينة حتى لا ينازع احد عليا عليه السّلام في امر الخلافة فلما فهما هذا رجعا من خارج المدينة و دخلاها و اتفق انهما لما دخلا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قد غشى عليه فلما افاق قال كلاما معناه انه طرق المدينة طارق في هذه الساعة عليه لعنة اللّه و سيكون هلاك امتي على يديه.

و اما بعد موته فقد اختلفوا ايضا فقال العامة و الخاصة عن عمر انه قال من قال ان محمدا قد مات قتلته بسيفي هذا،و انما رفع الى السماء كما رفع عيسى عليه السّلام فقال له بعض الصحابة من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات و من كان يعبد اللّه فانه حي لا يموت و قرأ هذه الاية وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ فرجع القوم الى قوله فقال عمر كأني ما سمعت بهذه الاية حتى قرأها بعضهم فانظر الى جهل هذا الرجل بأحوال الانبياء و قد كان صلّى اللّه عليه و آله اكثر ما يحدث اصحابه في حيوته عن الموت و اهواله و موت الانبياء و موته هو صلّى اللّه عليه و آله فلعمرك لقد كان هذا الرجل أصم أذن الرأس كما كان أصم أذن القلب،و قد وقع الخلاف أيضا في موضع دفنه،فأراد أهل مكة من المهاجري رده الى مكة و دفنه بها لأنها موطنه و أراد أهل المدينة دفنه في المدينة لأنها دار هجرته و أرادة جماعة نقله الى بيت المقدس لأنها مدفن الأنبياء و منه معراجه الى السماء،فقال علي عليه السّلام ان اللّه لم يقبض روح نبيه الآ في أشرف البقاع فرجعوا الى قوله و هذا يدل على أنهم وقت مرضه صلّى اللّه عليه و آله ما كانوا ملازمين حتى يسمعوا منه موضع الدفن.

و أما الخلاف العظيم و هو الخلاف في الأمامة التي عمت بليته الخاص و العام و أهلك الأمة بعد نبيها فهو مشهور و في الكتب مسطور،و قد ظهر في زمان علي عليه السّلام الخوارج مثل الأشعث بن قيس و مسعود بن فدك التميمي و زيد بن حصين الطائي و غيرهم و كذلك ظهر في

ص:153

زمانه الغلاة في حقة مثل عبيد بن سبا و جماعة معه و من الفريقين إبتدات البدعة و الضلالة و صدق فيه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله يهلك فيك إثنان محب غال و مبغض قال،و أنقسمت الإختلافات بعده الى قسمين،أحداهما الإختلاف في الأمامة و الثاني الإختلاف في الأصول،و الأختلاف في الأمامة على وجهين،أحدهما القول بأن الإمامة ثبتت بالنض و التعيين،و الثاني بأن الإمامة ثبتت بالأتفاق و الأختيار،فمن قال ان الإمامة ثبتت بالأتفاق قال بأمامة كل من أتفقت عليه الأمة أو الجماعة معتبرة من الأمة،أما مطلقا أو بشرط أن يكون قرشيا على مذهب قوم أو بشرط يكون هاشميا على مذهب قوم الى شرايط آخر كما سيأتي،و من قال بالأول قال بأمامة معاوية و أولاده عليهم لعنة اللّه و الملئكة و الناس أجمعين.

و من قال ان الإمامة ثبتت بالنص إختلفوا بعد علي عليه السّلام،فمنهم من قال انه انما نص على ابنه محمد بن الحنفيه و هؤلئهم الكيسانية،ثم اختلفوا بعده فمنهم من قال انه لم يمت و يرجع فيملأ الأرض عدلا،و منهم من قال مات و أنتقلت بعده الى ابنه ابي هاشم،و أفترقوا هؤلاء ،فمنهم من قال المامة بقيت في عقبه وصية بعد وصية،و منهم من قال إنتقلت الى غيره ،و أختلفوا في ذلك الغير،فمنهم من قال هو بنان بن سمعان الهدى و منهم من قال هو علي بن عبد اللّه بن عباس،و منهم من قال هو عبد اللّه بن حرب الكندي و منهم من قال هو عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب،و هؤلاء كلهم يقولون ان الدين طاعة رجل،و أما من لم يقل بالنص على محمد بن الحنفية قال بالنص على لسان الحسن و الحسين عليهما السّلام و قال لا أمامة إلا في الأخوين الحسن و الحسين عليهما السّلام ثم هؤلاء إختلفوا،فمنهم من أجرى الإمامة في أولاد الحسن عليه السّلام،و قال بعده بأمامة أبنه الحسن ثم أبنه عبد اللّه ثم أبنه محمد ثم أخيه أبراهيم الأمامين،و قد خرجا أيام المنصور فقتلا،و من هؤلاء من يقول برجعة محمد الإمام و منهم من أجرى الوصية في أولاد الحسين عليه السّلام و قال بعده بامامة ابنه زين العابدين عليه السّلام،ثم أختلفوا بعده فقال الزيدية بامامة ابنه زيد،و مذهبهم ان كل فاطمي خرج و هو عالم زاهد شجاع سخي كان أماما واجب الإتباع،و جوزوا رجوع الإمامة الى أولاد الحسن عليه السّلام،ثم منهم وقف و قال بالرجعة،و منهم من ساق و قال بإمامة من هذا حاله في كل زمان.

و أما الأمامية فقالوا بإمامة الإمام محمد بن علي الباقر عليه السّلام نصا عليه،ثم بأمامة جعفر بن محمد عليه السّلام،ثم اختلفوا بعده في أولاده من المنصوص عليه،و هم خمسة محمد و أسمعيل و عبد اللّه و علي و الأمام موسى الكاظم عليه السّلام،فمنهم من قال بإمامة محمد و هم العمارية و منهم من قال بإمامة إسمعيل و أنكر موته و هم المباركية و من هؤلاء من وقف عليه و قال برجعته و منهم من ساق الامامة في اولاده نصا بعد نص الى هذا اليوم و هم الإسماعيلية،و منهم من قال بامامة

ص:154

عبد اللّه الأفطح و قال برجعته بعد موته:لأنه مات و لم يعقب و منهم من قال بأمامة موسى عليه السّلام نصا عليه فقال والده فيه و نص عليه،ثم هؤلاء إختلفوا،فمنهم من اقتصر عليه و قال برجعته إذ قال لم يمت هو و منهم من توقف في موته و هم الممطورية،و منهم من قطع بموته و ساق الإمامة الى أبنه علي الرضا عليه السّلام و هم القطعية،ثم هؤلاء إختلفوا في كل ولد بعده فالأثنا عشرية ساقوا الإمامة من علي الرضا الى إبنه محمد،ثم الى أبنه علي،ثم الى أبنه الحسن،ثم الى أبنه المهدي و غيرهم ساقوا الإمامة الى الحسن العسكري،ثم قالوا بامامة أخيه جعفر الكذاب هذا حاصل الإختلاف في الإمامة.

و أما الإختلاف في الاصول فحدثت في آخر ايام الصحابة مقالة معبد الجهني و غيلان الدمشقي و يونس الاسواري القول بالقدر و انكار اضافة الخير و الشر الى المقدّر،و نسج على منوالهم واصل بن عطا الغزال،و كان تلميذ الحسن البصري و تلمذ له عمر بن عبيد و زاد عليه في مسائل القدر و الوعيدية من الخوارج و المرجئة من الجبرية و القدرية إبتداء بدعهم في زمان الحسن و اعتزل عنهم و عن استاذه بالقول بالمنزلة بين المنزلتين فسمى هو و اصحابه معتزلة و قد تلمذ عنده زيد بن علي كما قيل و أخذ الاصول منه فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة،ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حسن فسرت ايام المأمون فخلطت منها هجها بمناهج الكلام و افردتها فنا من فنون العلم و سمته باسم الكلام إمّا لان اظهر مسألة تكلموا فيها و تقابلوا عليها هي مسألة الكلام فسمى النوع باسمها و اما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون العلم بالمنطق و المنطق و الكلام مترادفان.

اذا عرفت هذا كله فلنشرع الان في بيان الفرق فنقول من كبار الفرق الاسلامية المعتزلة و يسمون اهل العدل و التوحيد و هم اصحاب واصل بن عطاء إعتزل عن مجلس الحسن البصري و ذلك انه دخل على الحسن رجل فقال يا امام الدين ظهر في زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة،يعني وعيدية الخوارج و جماعة اخرى يرجئون الكبائر و يقولون لا يضرّ مع الايمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فكيف تحكم لنا ان نعتقد في ذلك فتفكر الحسن و قبل ان يجيب قال واصل انا اقول ان صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلق و لا كافر مطلق ثم قام الى اسطوانة من اسطوانات المسجد و اخذ يقرر على جماعة من اصحاب الحسن ما اجاب به من ان مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن و لا كافر و يثبت له المنزلة بين المنزلتين قائلا ان المؤمن استحق المدح و الفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنا و ليس بكافر ايضا لإقراره بالشهادتين و لوجود ساير اعمال الخير فيه فاذا مات بلا توبة خلّد في النار اذ ليس في الاخرة الا فريقان فريق في الجنة و فريق في السعير لكن يخفف عليه و يكون دركته فوق دركات الكفار فقال الحسن قد اعتزل عنا واصل

ص:155

فلذلك سمي هو و اصحابه معتزلة و يلقبون بالقدرية لاسنادهم افعال العباد الى قدرتهم قالوا ان من يقول بالقدر خيره و شره من اللّه تعالى اولى باسم القدرية منا لان مثبت القدر احق بان ينسب اليه من نافيه.

و اما في اخبار اهل البيت عليهم السّلام فيطلق هذا الاسم تارة على المعتزلة و اخرى على الاشاعرة و وجه المناسبة ظاهر و قوله عليه السّلام القدرية مجوس هذه الامة اشد انطباقا على المعتزلة لانهم اثبتوا خالقين كالمجوس و قد لقب المعتزلة انفسهم بأصحاب العدل و التوحيد و ذلك لقولهم بوجوب الاصلح و نفي الصفات القديمة و قالوا ان القدم اخص اوصاف اللّه لا يشاركه فيها ذات و لا صفة و قالوا بنفي الصفات الزائدة على الذات و ان كلامه سبحانه محدث مركب من الحروف و الاصوات و انه غير مرئي في الاخرة بالابصار و بأن الحسن و القبح عقليان و يجب عليه تعالى رعاية الحكمة و المصلحة في افعاله و ثواب المطيع و التائب و عقاب صاحب الكبيرة.

ثم انهم بعد اتفاقهم على هذه الامور المذكورة افترقوا عشرين فرقة يكفر بعضهم بعضا و كلهم على صدق في هذا الحكم منهم الواصلية اصحاب ابي حذيفة واصل بن عطا و اعتزالهم يدور على اربع مسائل.

اولها نفي الصفات قال الشهرستاني شرعت اصحابه في هذه المسألة بعد ما طالعوا كتب الفلاسفة و انتهى نظرهم الى ان ردّوا جميع الصفات الى كونه عالما قادرا ثم حكموا بأنهما صفتان ذاتيتان اعتباريتان للذات القديمة كما قاله الجبائي او حالان كما قاله ابو هاشم و ثانيهما قولهم بأن افعال العباد مستندة الى قدرتهم و امتناه اضافة الشر الى اللّه و ثالثها قولهم بالمنزلة بين المنزلتين على ما مر تفصيله و رابعها تخطئة احد الفريقين من عثمان و قاتليه و جوّزوا ان يكون عثمان لا مؤمنا و لا كافرا و ان يخلد في النار،و كذا علي عليه السّلام و متابعوه و حكموا بأن عليا و طلحة و الزبير بعد وقعة الجمل لو شهدوا على بافة بقل لم تقبل شهادتهم كشهادة المتلاعنين أي الزوج و الزوجة فان احدهما فاسق لا بعينه.

و منهم الهذيلية اصحاب ابي الهذيل حمدان العلاف شيخ المعتزلة و مقرر طريقهم اخذ العلم و الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل و عن واصل و قد انفرد اصحابه بعشر قواعد الاولى قوله بفناء مقدورات اللّه سبحانه و هذا قريب من مذهب جهم حيث ذهب الى ان الجنة و النار يفنيان و قالوا ان حركات اهل الجنة و النار ضرورية مخلوقة للّه اذ لو كانت مخلوقة لهم لكانوا مكلفين و لا تكليف لهم في الاخرة،الثانية ان اهل الخلدين تنقطع حركاتهم و يصيرون الى سكون دائم و يجتمع في ذلك السكون اللذات لاهل الجنة و الالام لاهل النار و انما ارتكب ابو الهذيلب هذا القول لانه التزم في مسألة حدوث العالم انه لا فرق بين حوادث لا اول لها و بين

ص:156

حوادث لا آخر لها فقال لا اقول ايضا بحركات لا اخر لها بل تصير الى سكون و توهم ان ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون و لذلك سمي المعتزلة ابها الهذيل جهمي الاخرة و قيل انه قدري الاولى جهمي الاخرة.

الثالثة قوله ان الباري عالم بعلم ذاته و قادر بقدرة و قدرته ذاته حتى بحيوة و حيوته ذاته قال الشهرستاني و قد اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا ان ذاته واحدة من جميع الجهات لا تعدد فيه اصلا بل جميع الجهات لا تعدد فيه اصلا بل جميع صفاته راجعة الى السلوب و الاضافات.

الرابعة قوله انه مريد بارادة حادثة لا في محل و اول من احدث هذه المقالة هو العلاف الخامسة قوله ان بعض كلامه تعالى لا في محل مثل قوله كن لانها التي كوّن بها الاشياء و بعضه في محل كالامر و النهي و الخبر و الاستخبار،السادسة قوله ان ارادته غير المراد و ذلك لان ارادته عبارة عن خلقه لشيء و خلقه للشيء مغاير لذلك الشيء بل الخلق عندهم قول لا في محل اعني كلمة كن.

السابعة قوله ان الحجحة بالتواتر فيما غاب لا تقوم الا بخبر عشرين فيهم واحد من اهل الجنة او اكثر و قالوا لا تخلوا الارض عن اولياء اللّه تعالى فهم معصومون لا يكذبون و لا يركبون شيئا من المعاصي فالحجة قولهم لا التواتر،الثامنة قوله في الاجال و الارزاق ان الرجل اذا لم يقتل مات في ذلك الوقت و لا يجوز ان يزاد في العمر او ينقص منه،و اما الارزاق فقال ان كل ما اكل منها فهو رزقه و ما حرم عليه فليس رزقا له أي ليس مأمورا بتناوله.

التاسعة قوله في الفكر ورد السمع يجب عليه ان يعرف اللّه تعالى بالدليل من غير خاطر و ان قصّر في المعرفة استوجب العقوبة ابدا و قال ايضا بطاعات لا يقصد بها التقرب الى اللّه سبحانه كالقصد الى النظر الاول فأنه لم يعرف اللّه بعد و الفعل عبادة،العاشرة قوله في الاستطاعة انها عرض من الاعراض غير السلامة و الصحة،و الفرق بين افعال القلوب و افعال الجوارح فقال لا يصح وجود افعال القلوب منه مع عدم القدرة و الاستطاعة معها في حال الفعل و جوّز ذلك في افعال الجوارح و قال بتقدمها فيفعل بها في الحال الاولى و ان لم يوجد الفعل الا في الحالة الثانية قال فحال يفعل غير حال فعل،و قال في الادراك و العلم الحادثين في غيره عند اسماعه و تعليمه ان اللّه يبدعهما فيه و ليسا من افعال العباد.

و منهم النظامية اصحاب ابراهيم بن سيار النظام و هو من شياطين القدرية طالع كتب الفلاسفة و خلط كلامهم بكلام المعتزلة و قد انفرد بثلثة عشر مسألة منها قوله لا يقدر اللّه ان يفعل بعباده في الدنيا ما لا صلاح لهم فيه،و لا يقدر ان يزيد في الاخرة او ينقص من ثواب

ص:157

و عقاب لاهل الجنة و النار،و توهموا ان غاية تنزيهه تعالى عن الشرور و القبائح لا يكون الا بسبب قدرته عليها فهم في ذلك كمن هرب من المطر الى الميزاب.

و منها قوله في الارادة ان الباري تعالى ليس موصوفا بها على الحقيقة فاذا و صفت بذلك شرعا في افعاله فالمراد بذلك انها خالقها و منشئها على حسب ما علم،و اذا وصف بكونه مريدا لافعال العبد فالمعنى انه آمر بها،و عنه أخذ الكعبي مذهبه في الارادة و منها قوله ان الانسان هو الروح و البدن آلتها،و قد اخذه النظام من الفلاسفة الا انه مال الى الطبيعيين منهم فقالوا الروح جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد و الدهن و منها قوله(له)ان الاعراض كالالوان و الطعوم و الروايح و غيرها اجسام فهم تارة يحكمون بأن الاعراض اجسام و أخرى بأن الاجسام اعراض.

و منها قولهم(له)ان الجوهر مؤلف من الاعراض المجتمعة و العلم مثل الجهل المركب و الايمان مثل الكفر في تمام الماهية و أخذوا هذه المقالة من الفلاسفة حيث حكموا بأن حقيقتها حصول الصورة في القوة العاقلة و الامتياز بينهما بأمر خارج هو مطابقة تلك الصورة لمتعلقها او عدجمن مطابقتها له و منها قولهم(له خ)ان اللّه خلق المخلوقات دفعه واحدة على ما هي عليه الان معادن و نباتا و حيوانا و انسانا و غير ذلك فلم يكن خلق آدم متقدما على خلق اولاده الا انه تعالى كمن بعض المخلوقات في بعض و التقدم و التأخر في الكمون و الظهور و هذه المقالة مأخوذة من كلام الفلاسفة القائلين بالخليط و الكمون و البروز،و منها قولهم(له)نظم القرآن ليس بمعجز انما المعجز اخباره بالغيب من الامور السالفة و الآتية صرف اللّه العرب عن الاهتمام بمعارضته حتى لو خلاهم لامكنهم الاتيان بمثله بل بأفصح منه.

و منها قولهم(له)المتواتر الذي لا يحصى عدده يحتمل الكذب و الاجتماع و القياس ليس شيء منها بحجة و منها قولهم(له)بالطفرة و ذلك انه لما وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزئ لما الزم مشيى نملة على صخرة من طرف الى طرف انها قطعت ما لا يتناهى و كيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى قال يقطع بعضها بالمشيء و بعضها بالطفرة و منها انهم مالوا الى وجوب النص على الامام و ثبوت النص من النبي صلّى اللّه عليه و آله على علي عليه السّلام لكن كتمه عمر و هم محقّون في هذا،و منها قولهم(له)ان من خان بالسرقة فيما دون نصاب الزكوة كمائة و تسعة و تسعين درهما و اربعة من الابل مثلا لو ظلم به على غيره بالغصب و التعدي لا يفسق.

و منهم الاسوارية اصحاب الاسوارى و افقوا النظامية فيما ذهبوا اليه و زادوا عليه ان اللّه تعالى لا يقدر على ما اخبر بعدمه او علم عدمه و الانسان قادر عليه لان قدرة العبد صالحة

ص:158

المضدين،على سواه فاذا قدر على احدهما قدر على الاخر فتعلق العلم او الاخبار من اللّه بأحد الطرفين لا يمنع مقدرية الاخرى للعبد.

و منهم الاسكافية اصحاب ابي جعفر الاسكاف قالوا اللّه لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان و المجانين فأنه يقدر عليه.

و منهم الجعفرية اصحاب جعفر بن جعفر بن مبشر وافقوا الاسكافية و زادوا عليهم متابعة ابن المبشر ان فساق الامة من هو شر من الزنادقة و المجوس و الاجماع من الامة على حد الشرب خطأ لان المعتبر في الحد هو النص و سارق الحبة فاسق منخلع عن الايمان.

و منهم البشرية هو بشر بن المعتبر كان من افضل علماء المعتزلة و هو الذي احدث القول بالتوليد قالوا الاعراض من الالوان و الطعوم و الروايح و غيرها كالادراكات من السمع و الرؤية تقع متولدة في الجسم من فعل الغير كما اذا كان اسبابها من فعله و قالوا اللّه قادر على تعذيب الطفل و لو عذبه لكان ظالما لكنه لا يستحسن ان يقال في حقه ذلك،بل يجب ان يقال و لو عذبه لكان الطفل بالغا عاقلا عاصيا مستحقا للعقاب و فيه تناقض كما قيل اذ حاصله ان اللّه يقدر ان يظلم و لو ظلم لكان عادلا.

و منهم المزدارية هو ابو موسى عيسى بن صبيح المزدار هذا لقبه و هو من باب الافتعال من الزياردة و هو تلميذ بشر أخذ العلم عنه و تزهد حتى سمى راهب المعتزلة قال:اللّه قادر على ان يظلم و يكذب و لو فعل كان الها ظالما كاذبا تعالى اللّه عما قاله الظالمون علوا كبيرا، و قال ان الناس قادرون على مثل القرآن و احسن منه نظما و بلاغة و قال ان من لابس السلطان كافر لابس لا يوارث أي لا يرث و لا يورث منه و كذا من قال بخلق الاعمال و بالرؤية كافر.

و منهم الهشامية اصحاب هشام بن عمرو الغوطي الذي كان مبالغا في القدر اكثر من مبالغة ساير المعتزلة قالوا لا يطلق اسم الوكيل على اللّه تعالى مع وروده في القرآن لاستدعائه موكلا،و لم يعلموا ان الوكيل في اسمائه بمعنى الحفيظ كما في قوله تعالى و ما انت عليهم بوكيل و لا يقال الّف اللّه بين القلوب مع انه مخالف لقوله ما الّفت بين قلوبهم و لكن اللّه الف بينهم و قالوا ان الاعراض لا تدل على كونه تعالى خالقا و لا تصلح دلالة على صدق مدّعى الرسالة انما الدال هو الاجسام و يلزمهم على ذلك ان فلق البحر و قلب العصا حيّة و احياء الموتى لا يكون دليلا على صدق من ظهر على يده و قالوا لا دلالة في القرآن على حرام و حلال و الامامة لا تنعقد مع الاختلافات بل لا بد من اتفاق الكل قال شارح المواقف قيل و مقصودهم الطعن في امامة ابي بكر اذ كانت بيعته بلا اتفاق من جميع الصحابة لانه بقى في كل طرف طائفة على خلافه و قالوا ايضا ان الجنة و النار لم يخلقا بعد اذ لا فائدة في وجودهما الان و قالوا لم يحاصر

ص:159

عثمان و لم يقتل مع كونه متواترا،و قالوا ان من افسد صلاة في آخرها و قد افتتحها اولا بشروطها فأول صلاته معصية و منهى عنه مع كونه مخالفا للاجماع.

و منهم الصالحية اصحاب الصالحي و من مذهبهم انهم جوّزوا قيام العلم و لقدرة و الارادة و السمع و البصر بالميت و يلزمهم جواز ان يكون الناس مع اتصافهم بهذه الصفات امواتا،و ان لا يكون الباري تعالى حيا و جوزوا خلو الجوهر من الاعراض كلها.

و منهم الحابطية و هو احمد بن حابط نسب اتباعه الى ابيه و هو من اصحاب النظام قالوا للعالم الهان قديم هو اللّه تعالى،و محدث هو المسيح و المسيح هو الذي يحاسب الناس في الاخرة،و هو المراد بقوله و جاء ربك و الملك صفا صفا،و هو الذي يأتي في ظلل من الغمام و هو المعنى بقوله ان اللّه خلق آدم على صورته و بقوله يضع الجبار قدمه في النار،و انما سمى المسيح لانه زرع الاجسام و احدثها قال الامدي و هؤلاء كفار مشركون.

و منهم الحربية و هم اصحاب فضل الحربي و مذهبهم مذهب الحابطية الا انهم زادوا التناسخ و ان كل حيوان مكلف و ذلك انهم قالوا ان اللّه سبحانه ابدع الحيوانات عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار و خلق فيهم معرفة و العلم به و اسبغ عليهم نعمه ثم ابتلاهم و كلّفهم بشكر نعمه فأطاعه بعض فأقرهم في دار النعيم التي ابتدأهم فيها و عصاه بعض في الجميع فأخرجهم من تلك الدار الى دار العذاب و هي النار و اطاعه بعض في البعض دون البعض فأخرجهم الى دار الدنيا و كساهم هذه الاجساد الكثيفة على صور مختلفة كصورة الانسان و سائر الحيوانات و ابتلاهم بالبأساء و الضراء و الالام و اللذات على مقادير ذنوبهم فمن كان معاصيه اقل و طاعته اكثر كانت صورته احسن و الامه اقل و من كان بالعكس فبالعكس و لا يزال يكون الحيوان في الدنيا في صورة بعد صورة ما دامت معه ذنوبه و هذا عين القول بالتناسخ.

و منهم المعمرية هم اصحاب معمر بن عباد السلمي قالوا ان اللّه لم يخلق شيئا غير الاجسام اما الاعراض فتخترعها الاجسام اما طبعا كالنار للاحراق و الشمس للحرارة و اما اختيارا كالحيوان للالوان قيل و من العجب ان حدوث الاجسام و فنائها عند معمر من الاعراض فكيف يقول انها من فعل الاجسام و قالوا لا يوصف اللّه بالقدم لانه يدل على التقادم الزماني و اللّه سبحانه ليس بزماني و قالوا ايضا ان اللّه لا يعلم نفسه و الا اتحد العالم و المعلوم و هو ممتنع و قالوا ان الانسان لا فعل له غير الارادة مباشرة كانت لو توليدا بناء على ما ذهبوا اليه من مذهب الفلاسفة في حقيقة الانسان.

ص:160

و منهم الثمامية هو ثمامة بن اشرش النميري كان جامعا بين سخافة الدين و خلاعة النفس،قالوا الافعال المتولدة لا فاعل لها اذ لا يمكن اسنادها الى فاعل السبب لاستلزامه استناد الفعل الى الميت فيما اذا رمى الى شخص و مات قبل وصوله اليه،و لا الى اللّه تعالى لاستلزامه صدور القبيح عنه تعالى،و قالوا ان اليهود و النصارى و المجوس و الزنادقة يصيرون في الاخرة ترابا لا يدخلون جنة و لا نارا و كذا البهائم و الاطفال و قالوا ان من لا يعلم خالقه من الكفار معذور،و المعارف كلها ضرورية و لا فعل للانسان غير الارادة و ما عداها حادث بلا محدث،و كان يقول ان العالم فعل اللّه بطبعه و اراد به ما يقوله الفلاسفة من الايجاب.

و منهم الخياطية اصحاب ابي الحسن بن ابي عمر الخياط قالوا باسناد الافعال الى العباد و تسمية المعدوم شيئا أي ثابتا متقررا في حال العدم،و سموا المعدوم ايضا جوهرا و عرضا، و قالوا ان ارادة اللّه كونه قادرا غير مكره و لا كاره،و ارادته في افعال نفسه الخلق أي كونه خالقا لها،و في افعال عباده الامر بها و كونه سميعا بصيرا معناه انه عالم بمتعلقهما.

و منهم الجاحظية هو عمرو بن بحر الجاحظ كان من الفضلاء البلغاء في ايام المعتصم و المتوكل و قد طالع كتب الفلاسفة و روّج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة اللطيفة قالوا المعارف كلها ضرورية و قالوا انه يمتنع انعدام الجواهر و انما تتبدل الجواهر و الاعراض باقية على حالها كما قيل في الهيولى و قالوا ان النار تجذب اليها اهلها لا ان اللّه يدخلهم فيها،و قالوا ان الخير و الشر من فعل العبد و القرآن جسد ينقلب تارة رجلا و أخرى إمرأة.

و منهم الكعبية هو ابو القاسم بن محمد الكعبي كان من معتزلة بغداد و تلميذ الخياط قالوا فعل الرب واقع بغير ارادته فاذا قيل انه تعالى مريد لافعاله اريد انه خالق لها و اذا قيل مريد لافعال غير خ أنه آمر بها.

و منهم الجبائية هو ابو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي من معتزلة البصرة قالوا ارادة الرب حادثة لا في محل و اللّه تعالى مريد بتلك الارادة موصوف بها و اللّه متكلم بكلام مركب من حروف و اصوات يخلقه في جسم،و المتكلم بذلك الكلام من فعل الكلام و خلقه لا من قام به و حلّ فيه و لا يرى اللّه في الاخرة،و العبد خالق لفعله و مرتكب الكبيرة لا مؤمن و لا كافر و اذا كات بلا توبة يخلد في النار و لا كرامات للاولياء و يجب على اللّه رعاية ما هو الاصلح و الانبياء معصومون و شارك ابو علي في هذا كله ايا هاشم ثم انفرد عنه بأن اللّه تعالى عالم بذاته بلا ايجاب صفة هي علم و لا حالة توجب العالمية و كونه تعالى سميعا بصيرا معناه انه حتى لا آفة به و يجوز الايلام للعوض.

ص:161

و منهم البهشمة انفرد ابو هاشم عن ابيه بامكان استحقاق الذمّ العقاب بلا معصية مع كونه مخالفا للاجماع و الحكمة و بأنه لا توبة عن كبيرة مع الاصرار على غيرها عالما بقبحه و يلزمه ان لا يصلح اسلام الكافر مع ادنى ذنب اصرّ عليه و لا توبة مع عدم القدرة فلا يصحّ توبة الكاذب عن كذبه بعد ما صار اخرس و لا توبة الزاني عن زناه بعد ما جبّ و لا يتعلق علم واحد بمعلومين على التفصيل و للّه احوال لا معلومة و لا مجهولة و لا قديمة و لا حادثة قال الامدي هذا تناقض اذ لا معنى لكون الشيء حادثا الا انه ليس قديما و لا لكونه مجهولا الا انه ليس معلوما.

الفرقة الثانية من الفرق الاسلامية الشيعية و هم الذون شايعوا عليا عليه السّلام و قالوا انه الامام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالنص،اما جليّا و إما خفيّا و اعتقدوا ان الامامة لا تخرج عنه و عن اولاده فان خرجت فاما بظلم يكون من غيرهم و اما بيعة منه او من اولاده و هم اثنان و عشرون فرقة اصولهم ثلاث فرق غلاة و زيدية و امامية اما الغلاة فثمانية عشر.

السبائية قال عبد اللّه بن سبأ لعلي عليه السّلام انت الاله حقا فنفاه علي عليه السّلام الى المدائن و قيل انه كان يهوديا فأسلم و كان في اليهودية يقول في يوشع بن نون و في موسى مثل ما قال في علي، و قيل انه اول من اظهر القول بوجوب امامة علي،و منه تشعبت اصناف الغلاة و قال ابن سبأ ان عليا عليه السّلام لم يمت و لم يقتل و انما قتل ابن ملجم شيطانا تصوّر بصورة علي و علي عليه السّلام في السحاب و الرعد صوته و البرق ضوئه و انه ينزل بعد هذا الى الارض و يملأها عدلا و هؤلاء يقولون عند سماع الرعد عليك السّلام يا امير المؤمنين.

الكاملية قال ابو كامل بكفر الصحابة بترك بيعة علي و يكفر علي بترك طلب الحق،و قال بالتناسخ في الارواح عند الموت و ان الامامية نور يتناسخ أي ينتقل من شخص الى آخر و قد يصير في شخص نبوة بعد ما كان في شخص آخر امامة.

البيانية قال بيان بن سمعان التميمي النهدي اليمني اللّه على صورة انسان و يهلك كله الا وجهه و روح اللّه حلت في علي ثم ابنه محمد بن الحنفية،ثم في ابنه هاشم ثم في بيانه ابنه.

المغيرية قال مغيرة بن سعيد العجلي اللّه على صورة رجل من نور على رأسه تاج و قلبه منبع الحكمة و لما اراد ان يخلق الخلق تكلم بالاسم الاعظم فطار فوقع تاجا على رأسه و ذلك قوله تعالى سَبِّحِ ؛اِسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى ثم انه كتب على كفه عمل العباد فغضب من المعاصي فعرق فحصل من عرقه بحران احدهما ملح مظلم و الاخر حلو نيّر ثم اطلع في البحر النير و ابصر في ظلّه فانتزعه فخلق منه الشمس و القمر و افنى الباقي من الظل نفيا للشريك و قال لا ينبغي ان يكون معي الها(شريكا خ)آخر ثم خلق الخلق من البحرين فالكفار من الظلم و المؤمنين من النير ثم ارسل محمدا و الناس في ضلال و عرض الامانة و هي منع على عن

ص:162

الامامة على السموات و الارض و الجبال فأبين ان يحملنها و اشفقن منها و حملها الانسان و هو ابو بكر و حملها بأمر عمر حين ضمن ان يعينه على ذلك بشرط ان يجعل ابو بكر الخلافة بعده به،و قوله تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطٰانِ الاية،نزلت في حق ابي بكر و عمر و هؤللاء يقولون ان الامام المنتظر هو زكريا بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السّلام و هو حي مقيم في جبل حاجز الى ان يؤمر بالخروج.

الجناحية قال عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر ذي الجناحين الارواح تتناسخ و كان روح اللّه في آدم ثم شيث ثم الانبياء و الائمة حتى انتهت الى علي و اولاده الثلاثة ثم الى عبد اللّه هذا،و قالت الجناحية هو ابي عبد اللّه حي مقيم في جبل باصفهان و سيخرج و انكروا القيمة و استحلوا المحرمات كذا نقل عنهم الشهرستاني و اللّه العالم.

المنصورية هو ابو منصور العجلي عزى نفسه الى الباقر عليه السّلام فتبرأ منه و طرده و ادعى الامامة لنفسه قالوا الامامة لمحمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام ثم انتقلت عنه الى ابي منصور و زعموا ان ابا منصور عرج الى السماء و مسح اللّه رأسه بيده و قال يا بني اذهب فبلّغ عني،ثم انزله الى الارض و هو الكسف المذكور في قوله تعالى وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمٰاءِ سٰاقِطاً يَقُولُوا سَحٰابٌ مَرْكُومٌ و كان قبل ادعائه الامامة لنفسه يقول الكسف علي بن ابي طالب و قالوا الرسل لا تنقطع ابدا و الجنة رجل امرنا بموالاته و هو الامام و النار بالضد أي رجل امرنا ببغضه و هو ضد الامام كأبي بكر و عمر و كذا الفرائض و المحرمات فان الفرائض اسماء رجال امرنا بموالاتهم و المحرمات اسماء رجال امرنا بمعاداتهم و مقصودهم بذلك ان من ظفر برجل منهم فقد ارتفع منه التكليف و الخطاب لوصوله الى الجنة.

الخطابية هو ابو الخطاب الاسدي عزى نفسه الى ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام فلما علم منه غلوه في حقه تبرأ منه فلما اعتزل عنه ادعى الامر لنفسه قالوا الائمة الانبياء و ابو الخطاب نبي و زعموا ان الانبياء فرضوا على الناس طاعة ابي الخطاب بل زادوا على ذلك و قالوا الائمة الهة و الحسنان ابناء اللّه و جعفر الصادق إله لكن ابو الخطاب افضل منه و من علي و هؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم و زعموا ان الامام بعد قتل ابي الخطاب هو معمر فعبدوا معمرا بعد ما كانوا يعبدون ابا الخطاب و قالوا الجنة نعيم الدنيا و النار آلامها و الدنيا لا تفنى و استباحوا المحرمات و ترك الفرائض و قال جماعة منهم ان كل مؤمن يوحى اليه استدلالا بقوله تعالى وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ أي بوحي من اللّه اليهم و فيهم من هو خير من جبرئيل و ميكائيل و هم لا يموتون ابدا بل اذا بلغوا النهاية يرفعون الى الملكوت و قال بعضهم الامام بعد ابي الخطاب عمر بن بيان العجلي الا انهم يموتون.

ص:163

الغرابية قالوا محمد بعلي اشبه من الغراب و الذباب بالذباب فبعث اللّه جبرئيل الى علي عليه السّلام فغلط جبرئيل في تبليغ الرسالة من علي الى محمد قال شاعرهم

غلط الامين عن حيدرة فيلعنون صاحب الريش يعني جبرئيل

الذمية لقبوا به لانهم ذموا محمدا لان عليا هو الاله و قد بعثه ليدعو الناس اليه فدعاهم الى نفسه و قال طائفة منهم بالهية محمد و علي و لهم في التقديم خلاف،فبعضهم يقدم محمدا و قال طائفة منهم بالهية اهل العبا الخمسة:محمد و علي و فاطمة و الحسنان،و هؤلاء زعموا ان هذه الخمسة شيء واحد و ان الروح حالة فيهم بالسوية لا مزية لواحد منهم على الاخر و لا يقولون فاطمة تحاشيا عن و صمة التأنيث.

الهشامية اصحاب الهشامين ابن الحكم و ابن سالم الجواليقي اتفقوا على ان اللّه جسد ثم اختلفوا فقال ابن الحكم هو طويل عريض عميق متساو و طوله و عرضه و عمقه و هو السبيكة البيضاء الصافية يتلألأ من كل جانب و له لون و طعم و رايحة و نبض و قالوا ان اللّه يقوم و يقعد و يتحرك و يسكن و له مشابهة بالاجسام لولاها لم يدل عليه و يعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه اليه،و هو سبعة اشبار بأشبار نفسه مماس للعرش بلا تفاوت بينهما و قالوا انه يعلم الاشياء بعلم لا قديم و لا حادث لانه صفة و الصفة لا توصف و كلامه صفة له لا مخلوق و لا غيره و الاعراض لا تدل على الباري انما الدال عليه هو الاجسام لما عرفت من مشابهته اياها و الائمة معصومون دون الانبياء لان النبي يوحى اليه فيقرب الى اللّه بخلاف الامام فانه لا يوحى اليه فوجب ان يكون معصوما و قال ابن سالم هو على صورة انسان له يد و رجل و حواس خمس و انف و اذن و عين و فم و له مرة سوداء و نصفه الاعلى مجوّف و الاسفل مصمت الا انه ليس لحما و دما.

اقول هذا ما نقله عنهما الشهرستاني و امل الذي تواتر من احوالهم عن اهل البيت عليهم السّلام فهو علو الشأن و ارتفاع المحل و التوحيد الحقيقي نعم ربما روى في اخبارنا مثل هذا المنقول و قد تأوّله اصحابنا تارة بالحمل على التقية و أخرى على حالهما قبل الاستبصار فانهما كانا قبل من جمهور المخالفين ثم استبصرا.

الزرارية هو زرارة بن اعين قالوا بحدوث الصفات للّه تعالى و قبل حدوثها له لا حيوة فلا يكون حينئذ حيا و لا عالما و لا قادرا و لا سميعا و لا بصيرا،أقول هذا النقل عن زرارة كالنقل عن الهشامين في كونه كذبا محضا،فان زرارة رجل من اعاظم الشيعة و نحن نعرف اقواله و اعتقاداته اكثر من الشهرستاني و غيره.

ص:164

اليونسية و هو يونس بن عبد الرحمن القمي قال ان اللّه تعالى على العرش تحمله الملائكة و هو اقوى من الملائكة مع كونه محمولا لهم كالكرسي يحمله رجلان و هو اقوى منهما،و هذا النقل ايضا كذب محض على يونس.

الشيطانية محمد النعمان الملقب بشيطان الطاق قال انه تعالى نور غير جسماني و مع ذلك هو على صورة انسان و انما يعلم الاشياء بعد كونها و هذا النقل ايضا افتراء و محمد بن النعمان هذا هو الملقب عند الشيعة بمؤمن الطاق،و قد مدحه الائمة عليهم السّلام و اثنوا عليه و كأن الشهرستاني اراد تكميل الفرق فأخذ في هذه الاباطيل.

الرزامية اتباع الرزام،قالوا الامامة بعد علي لمحمد بن الحنفية ثم ابنه عبد اللّه بن عباس ثم اولاده الى المنصور ثم حل الاله في ابي مسلم و انه لم يتقل و استحلوا المحارم و تركوا الفرائض و منهم من ادعى الالهية في المقنع.

المفوضة قالوا ان اللّه تعالى فوّض خلق الخلائق اليه و قيل فوّض خلق ذلك الى علي عليه السّلام و لقد وقع بين شيعي و سني مجادلة في ايه الافضل أ هو ابو بكر أم علي فتراضيا على ان يتحاكما الى اول طالع عليهما فطلع عليهما رجل فتحا كما اليه فقال الشيعي انا اقول علي افضل،و قال السني انا اقول ابو بكر افضل فقال ذلك الرجل ان عليا لو لم يخلق ابا بكر و عمر لما قيل فيه مثل هذا فاتفق ان ذلك الرجل كان من المفوضة او الغلاة.

البدائية جوّز و البداء على اللّه تعالى و ان يريد اللّه شيئا ثم يبدو له أي يظهر عليه ما لم يكن ظاهرا له،و يلزمه ان لا يكون الرب تعالى عالما بعواقب الامور هذا قول الشهرستاني و الاصح هو القول بالبداء كما قال اصحابنا رضوان اللّه عليهم و في اخبارنا عن الائمة عليهم السّلام انه ما عبد اللّه بشيء مثل البدا و ان اللّه تعالى لم يرسل نبيا حتى اقرّ للّه بالبدا و لكن ليس معنى البدا ما ذكروه بل معناه ظهور شيء للخلائق لم يكن ظاهرا لهم قبل ذلك و الا فهو ظاهر عنده سبحانه،و النسخ فرد من افراد البدا و قوله يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده ام الكتاب محقق و دال عليه.

النصيرية و الاسحاقية قالوا حلّ اللّه في علي فان ظهور الروحاني في الجسد الجسماني مما لا ينكر اما في جانب الخير فكظهور جبرئيل عليه السّلام بصورة البشر و اما في جانب الشر فكظهور الشيطان في صورة الانسان قالوا و لما كان علي و اولاده افضل من غيرهم و كانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بباطن الاسرار قلنا ظهر الحق تعالى بصورتهم و نطق بلسانهم و أخذ بأيديهم و من هيهنا اطلقنا الالهة على الائمة أ لا ترى ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قاتل المشركين و عليا قالت المنافقين فان النبي يحكم بالظاهر و اللّه يتولى السرائر.

ص:165

الاسماعيلية لقبوا بسبعة القاب بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب دون ظاهره فانهم قالوا للقرآن ظاهر و باطن و المراد منه باطنه لا ظاهره المعلوم من اللغة،و المتمسك بظاهره معذب بالمشقة في الاكتساب و باطنه مؤد الى ترك العمل بظاهره و تمسكوا في ذلك بقوله تعالى فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب،و هذا القول ظهوره(اخذوه خ) من المنصورية،و لقبوا ايضا بالقرامطة لان الذي دعى الناس الى مذهبهم رجل يقال به حمدان قرمط،و هي احدى قرى واسط و لقبوا ايضا بالحرمية لا باحتهم المحرمات و المحارم،و لقبوا ايضا بالسبعية لانهم زعموا ان الذين نطقوا بالشرايع سبعة آدم و نوح و ابراهيم و موسى و عيسى و محمد و المهدي سابع النطقا و بين كل اثنين من النطقا سبعة ائمة يتممون شريعة و لا بد في كل عصر من سبعة بهم يقتدون و بهم يؤمنون و بهم يهتدون و هم متفاوتون في الرتب امام يؤدي عن اللّه و هو غاية الادلة الى دين اللّه و حجة يؤدي عن الامام و يحمل علمه و ذو مصة يمص العلم من الحجة أي يأخذه منه،فهذه ثلاثة و ابواب و هم الدعاة فداع اكبر هو رابعهم يرفع درجات المؤمنين و داع مأذون يأخذ العهود على الطالبين من اهل الظاهر فيدخلهم في ذمة الامام و يفتح لهم باب العلم و المعرفة و هو خامسهم و مكلّب قد ارتفعت درجته في الدين و لكن لم يؤذن له في الدعوة بل في الاحتجاج على الناس،فهو يحتج و يرغب الى الداعي ككلب الصائد حتى اذا احتج من احد على اهل الظاهر و كسر عليه مذهبه بحيث رغب عنه و طلب الحق ادّاه المكلب الى الداعي المأذون ليأخذ عليه العهود قال الامدي و انما سمّوا مثل هذا مكلبا لانه مثله مثل الجارح يحبس الصيد على كلب الصائد على ما قاله تعالى و ما علّمتم من الجوارح مكلبين و هو سادسهم و مؤمن يتبع الداعي و هو الذي اخذ عليه العهد و آمن و ايقن بالعهد و دخل في ذمة الامام و حزبه و هو سابعهم قالوا ذلك الذي ذكرناه كالسماوات و الارضين و البحار و الايام الاسبوع و الكواكب السيارة فان كلا منها سبعة.

و من القابهم البابكية و ذلك ان طائفة منهم تبعت بابك الخرمي في الخروج بآذربيجان و لقبوا بالمحمرة للبسهم الحمرة في ايام بابك،و يلقبون بالاسماعيلية لاثباتهم الامامة لاسماعيل بن الامام جعفر الصادق عليه السّلام و هو اكبر اولاده و قيل لانتساب زعيمهم الى محمد بن اسماعيل واصل دعويهم الى ابطال الشرايع ان العبادية و هم طائفة من المجوس راموا عند قوة الاسلام تأويل الشرايع على وجوه تعود الى قواعد اسلافهم و ذلك انهم اجتمعوا فتذاكروا ما كان عليه اسلافهم من الملك و قالوا لا سبيل لنا الى دفع المسلمين بالسيف لغلبتهم على الممالك لكنا نحتال بتأويل شرايعهم الى ما يعود الى قواعدنا و نستدرج به الضعفاء منهم فان ذلك يوجب اختلافهم و اضطراب كلمتهم و رأسهم في ذلك حمدان قرمط فأخذوا في تأويل الشرايع كقولهم الوضوء

ص:166

عبارة عن موالاة الامام و التيمم هو الاخذ من المأذون عند غيبة الامام الذي هو الحجة و الصلوة هي عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى إِنَّ الصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ و الاحتلام عبارة عم افشاء سر من اسرارهم الى من ليس من اهله بغير قصد منه و الغسل تجديد العهد و الزكوة تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين و الكعبة النبي و الباب علي و الصفا هو النبي و المروة هو علي و الميقات و التلبية اجابة المدعو و الطواف بالبيت سبعا موالاة الائمة السبعة و الجنة راحة الابدان عن التكاليف و النار مشقتها بمزاولة التكاليف الى غير ذلك من مزخرفاتهم.

و من مذهبهم ان اللّه لا موجود و لا معدوم و لا عالم و لا جاهل و لا قادر و لا عاجز و كذلك في جميع الصفات و ذلك لان الاثبات الحقيقي يقتضي المشاركة بينه و بين الموجودات و هو تشبيه و النفي المطلق يقتضي المشاركة للمعدومات و هو تعطيل بل هو واهب هذه الصفات و رب المتضادات و قد خالطوا كلامهم بكلام الفلاسفة فقالوا انه تعالى ابدع بالامر العقل التام، و بتوسطه ابدع النفس التي ليست تامة فاشتاقت النفس الى العقل التام مستفيضة منه فاحتاجت الى الحركة من النقصان الى الكمال،و لم تتم الحركة الا بآلتها فحدثت الاجرام الفلكية و تحركت دورية بتدبير النفس فحدثت بتوسط الطبايع البسيطة العنصرية و بتوسط البسائط حدثت المركبات من المعادن و النبات و أنواع الحيوانات و افضلها الانسان لاستعداده لفيض الانوار القدسية عليه و اتصاله بالعالم و حيث كان العالم العلوي مشتملا على عقل كامل كلي و نفس ناقصة كلية تكون مصدرا للكائنات وجب في العالم السفلي عقل كامل يكون وسيلة الى النجاة و هو الرسول الناطق و نفس ناقصة تكون نسبتها الى الناطق في تعريف طرق النجاة نسبة النفس الاولى الى العقل الاول فيما يرجع الى ايجاد الكائنات و هي الامام الذي هو وحي ناطق و كما ان تحرك الافلاك بتحريك العقل و النفس كذلك تحرك النفوس الى النجاة بتحريك الناطق و الوحي و على هذا في كل عصر و زمان قال الامدي هذا ما كان عليه قدماؤهم و حين ظهر الحسن بن محمد الصباح جدد الدعوة على انه الحجة الذي يؤدي عن الامام الذي لا يخلو الزمان عنه و قد منع العوام عن الخواص في العلوم و الخواص عن النظر في الكتب المتقدمة كي لا يطلع على فضائحهم فلو يزالوا يستهزئون بالامور الشرعية و قد تحصنوا بالحصون و كثرت شوكتهم و خافت الملوك منهم فأظهروا اسقاط التكاليف و اباحة المحرمات و صاروا كالحيوانات العجماوات.

الزيدية و هم المنسوبون الى زيد بن علي عليهما السّلام و هم ثلاث فرق الجارودية و هو الذي سماه الباقر سرحوبا و فسره بأنه الشيطان يسكن البحر قالوا بالنص من النبي في الامام على امير

ص:167

المؤمنين عليه السّلام وصفا لا تسمية و الصحابة كفروا بمخالفته و تركهم الاقتداء بعلي بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و الامامة بعد الحسن و الحسين شورى في اولادهما فمن خرج منهم بالسيف و هو عالم شجاع فهو امام و اختلفوا في الامام المنتظر،فقال بعضهم هو محمد بن عبد اللّه بن الحسين بن علي الذي قتل بالمدينة في ايام المنصور و زعموا انه لم يقتل و ذهب آخرون الى انه محمد بن القاسم بن علي بن الحسين صاحب طالقان الذي اسر في ايام المعتصم و حمل عليه و حبسوه(حبسه خ) في داره حتى مات و قد انكروا موته و ذهب طائفة الى انه يحيى بن عمير صاحب الكوفة من اجناد زيد بن علي دعا الناس و اجتمع عليه خلق كثير و قتل في ايام المستعين باللّه و قد انكروا قتله.

السليمانية و هو سليمان بن جرير قالوا الامامة شورى فيما بين الخلق و انما تنعقد برجلين من خيار المسلمين و يصح امامة المفضول مع وجود الافضل و ابو بكر و عمر امامان و ان اخطأ الامة في البيعة لهما،مع وجود علي لكنه خطأ لم ينته الى درجة الفسق و كفروا عثمان و طلحة و الزبير و عائشة.

البترية هو بتر القومي و افقوا السليمانية الا انهم توقفوا في عثمان و اكثرهم ملقدون يرجعون في الاصول الى الاعتزال و في الفروع الى ابي حنيفة الا في مسائل قليلة.

الامامية قالوا بالنص الجلي على امامة علي و كفروا الصحابة و وقعوا فيهم و ساقوا الامامة الى جعفر الصادق عليه السّلام و بعده الى اولاده المعصومين عليهم السّلام و مؤلف هذا الكتاب من هذه الفرقة و هي الناجية ان شاء اللّه و قد تتبعنا كتب الفرق الاسلامية و رأينا ان الحق مع الامامية بالبراهين العقلية و النقلية و سيأتي ان شاء اللّه تعالى في النور الاتي.

الفرقة الثالثة من كبار الفرق الاسلامية الخوارج و هم سبع فرق المحكمة و هم الذين خرجوا على امير المؤمنين عليه السّلام عند التحكيم و كفروه و هم اثنا عشر الف رجل كانوا اهل صلاة و صيام و فيه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله يحقر احدكم صلاته في جنب صلاتهم و صومه في جنب صومهم و لكن لا يجاوز ايمانهم تراقيهم،قالوا من نصب من قريش و غيرهم و عدل فيما بين الناس فهو امام و ان غيّر السيرة و جار وجب ان يعزل او يقتل و لم يوجبوا نصب الامام بل جوّزوا ان لا يكون في العالم امام و كفّروا عثمان و اكثر الصحابة و مرتكب الكبيرة.

البيهشية هو بيهشة بن الهيصم بن جابر قالوا الايمان هو الاقرار و العلم باللّه و بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله فمن وقع فيما لا يعرف احلال هو ام حرام فهو كافر لوجود الفحص عليه حتى يعلم الحق و قيل لا يكفر حتى يرجع امره الى الامام فيحده و كل ما ليس فيه حد فهو مغفور، و قيل لا حرام الا في قوله تعالى قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الاية،و قالوا اذا كفر الامام

ص:168

كفرت الرعية حاضرا او غائبا و هذه الاقوال لطوائف من الحكماء و قال بعضهم السكر من شراب حلال لا يؤاخذ صاحبه.

الازارقة هو نافع بن الازرق قالوا كفر بالتحكيم و هو الذي انزل في شأنه و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد اللّه على ما في قلبه و هو الدّ الخصام و ابن ملجم محقّ في قتله و هو الذي فيه و من الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات اللّه و فيه قال شاعرهم عليه لعنة اللّه:

يا ضربة من تقي ما اراد بها الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

اني لا ذكره يوما فاحسبه او فى البرية عند اللّه ميزانا

و كذا عليه الف الف علنة من اللّه و الملائكة و الناس اجمعين و قالوا ايضا بكفر عثمان و طلحة و الزبير و عائشة و عبد اللّه بن عباس و سائر المسلمين معهم و قضوا تخليدهم في النار و كفّروا الذين قعدوا عن القتال و ان كانوا موافقين لهم في الدين و قالوا تحرم(بتحريم ح)التقية في القول و العمل و يجوز قتل اولاد المخالفين و نسائهم و لا رجم على الزاني المحصن اذ هو غير مذكور في القرآن و المرأة اذا قذفت احدا لا تحدّ لان المذكور في القرآن هو صيغة الذين و جوّزوا ان يكون النبي كافرا و ان كان بعد النبوة و قالوا ان مرتكب الكبيرة كافر النجدات هو نجدة بن عامر النخعي و هم فرق ثلث.

منهم العاذرية الذين عذروا الناس في الجهالات بالفروع و ذلك ان نجدة وجّه ابنه بجيش الى اهل القطيف فقتلوهم و اسروا نسائهم و نكحوهنّ قبل القسمة و اكلوا من الغنيمة قبلها ايضا فلما رجعوا الى نجدة و اخبروه بما فعلوا قال لم يسعكم ما فعلتم فقالوا لم نعلم انه لا يسعنا فعذرهم بجهالتهم فاختلف اصحابه بعد ذلك فمنهم من تابعه و قال النجدات كلهم لا حاجة للناس الى الامام بل الواجب عليهم رعاية النصفة فيما بينهم و يجوز لهم نصبه اذا توقفت عليه الامور و خالفوا الازارقة في غير التكفير.

و منهم الاصفرية اصحاب زياد بن الاصفر يخالفون الازارقة في تكفير من قعد عن القتال اذا كانوا موافقين لهم في الدين و في اسقاط الرجم فانهم لم يسقطوه و جوّزا التقية في القول دون العمل و قالوا المعصية الموجبة للحدّ لا يسمى صاحبها الا بها فيقال سارق مثلا و لا يقال كافر و ما لا حدّ فيه لعظمته كترك الصلوة و الصوم يقال لصاحبه كافر.

و منهم الاباضية هو عبد اللّه بن اباض قالوا مخالفونا من اهل القبلة كفّار غير مشركين يجوز مناكحتهم و غنيمة اموالهم من سلاحهم و كراعهم حلال عند الحرب دون غيره و دارهم دار الاسلام الا معسكر سلطانهم و قالوا تقبل شهادة مخالفيهم عليهم و مرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن بناء على ان الاعمال داخلة في الايمان و فعل العبد مخلوق للّه تعالى و مرتكب الكبيرة

ص:169

كافر كفر نعمة لا كفر ملّة و توفقوا في النفاق أ هو شرك ام لا و كفّروا عليا و اكثر الصحابة و افترقوا فرقا اربعا.

الاولى الخفضية هو ابو خفض بن ابي المقدام زادوا على الاباضية ان بين الايمان و الشرك معرفة اللّه تعالى فانها خصلة متوسطة بينهما فمن عرف اللّه و كفر بما سواه من رسول او جنّة او نار او بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك الثانية اليزيدية اصحاب يزيد بن انيسة زادوا على الاباضية ان قالوا سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء و ينزل عليه جملة واحدة و يترك شريعة محمد صلّى اللّه عليه و آله الى ملة الصابئية المذكورة في القرآن و قالوا ان اصحاب الحدود مشركون و كل ذنب شرك كبيرة او صغيرة الثالثة الحارثية اصحاب ابي الحارث الاباضب خالفوا الاباضية في القدر أي كون افعال العباد مخلوقة للّه تعالى و في كون الاستطاعة قبل الفعل.

الرابعة العجاردة زعموا ان العبد اذا اتى بما امر و لم يقصد اللّه كان ذلك طاعة العجاردة هو عبد الرحمن بن عجردة و هو آخر السبع من فرق الخوارج زادوا على النجدات بعد ان وافقوهم في المذهب وجوب البرائة عن الطفل يعني انه يجب ان يتبرئ عن الطفل حتى يدعى الى الاسلام بعد البلوغ و يجب دعاؤه الى الاسلام اذا بلغ و هم عشر فرق.

الاولى الميمونية و هو ميمون بن عمران قالوا باسناد الافعال الى قدر العباد و تكون الاستطاعة قبل الفعل و ان اللّه يريد الخير دون الشر و لا يريد المعاصي كما هو مذهب المعتزلة قالوا و اطفال الكفار في الجنة و يروى عنهم تجويز نكاح البنات للبنين و البنين للبنات،و جوّزوا ايضا نكاح بنات البنين و بنات البنات و بنات اولاد الاخوة و الاخوات و نقل عنهم انكار سورة يوسف فانهم زعموا انها قصة من القصص و لا يجوز ان تكون قصة العشق قرآنا.

الثانية من فرق العجاردة الحمزية هو حمزة بن ادرك وافقوا الميمونية الا انهم قالوا اطفال الكفار في النار،الثالثة منهم الشعيبية هو شعيب بن محمد و هم كالميمونية في بدعتهم الا في القدر الرابعة الحازمية هو حازم بن عاصم وافقوا الشعيبية و يحكى عنهم انهم يتوقفون في امر علي و لا يصرحون بالبرائة عنه كما يصرحون بالبرائة عن غيره،الخامسة الخلفية اصحاب خلف الخارجي و هم خوارج كرمان اضافوا القدر خيره و شره الى اللّه و حكموا ان اطفال المشركين في النار بلا عمل و شرك السادس الاطرافية و هم على مذهب حمزة و رئيسهم رجل من سجستان يقال له غالب الا انهم عذروا اهل الاطراف فيما لم يعرفوه من الشريعة اذا اتوا بما يعرف لزومه من جهة العقل و وافقوا اهل السنة في اصولهم.

السابعة المعلومية هم كالحازمية الا ان المؤمن عندهم من عرف اللّه بجميع اسمائه و صفاته و من لم يعرفه كذلك فهو جاهل لا مؤمن و فعل العبد مخلوق للّه تعالى.

ص:170

المجهولية مذهبهم كمذهب الحازمية ايضا الا انهم قالوا يكفي معرفته ببعض اسمائه فمن علمه كذلك فهو عارف ربه و فعل العبد مخلوق له التاسعة الصلتية هو عثمان بن ابي الصلت هم كالعجاردة لكن قالوا من اسلم و استجار بنا توليناه و تبرئنا من اطفاله حتى يبلغوا فيدعوا الى الاسلام فيقبلوا.

العاشرة من فرق العجاردة الثعالبة هو ثعلب بن عامر قالوا بولاية الاطفال صغارا كانوا او كبارا حتى يظهر منهم انكار الحق بعد البلوغ و نقل عنهم انهم يرون اخذ الزكوة من العبيد اذا استغنوا و اعطاؤها لهم اذا افتقروا و تفرّق الثعالبة اربع فرق الاولى الاخنسية اصحاب اخنس بن قيس كالثعالبة الا انهم امتازوا عنهم بأن توقفوا فيمن هو في دار التقية من اهل القبلة فلم يحكموا عليه باسمان و لا كفر و نقل عنهم تجويز نكاح المسلمات من مشركي قومهم.

الثانية المعبدية هو معبد بن عبد الرحمن خالفوا الاخنسية في تزويج المسلمات من المشركين و خالفوا الثعالبة في زكوة العبيد أي اخذها منهم و دفعها اليهم الثالثة الشيبانية هو شيبان بن سامة قالوا بالجبر و نفى القدرة الحادثة الرابعة المكرمية هو مكرم العجلي قالوا تارك الصلوة كافر لا لترك الصلوة بل لجهله باللّه فان من علم انه مطلع على سره و علنه و مجازيه على طاعته و معصيته و لا يتصور منه الاقدام على ترك الصلوة و كذا كل كبيرة فان مرتكبها كافر لجهله باللّه تعالى فاذا فرق الخوارج تسع عشر.

الفرقة الرابعة من كبار الفرق الاسلامية المرجئة لقبّوا به لانهم يرجئون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها و عن الاعتقاد او لانهم يقولون لا يضرّ مع الايمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهم يعطون الرجا فعلى هذا ينبغي ان لا يهمز لفظ المرجئة و فرقهم خمس اليونسية هو يونس النحري قالوا الايمان هو المعرفة باللّه و الخضوع و المحبة بالقلب فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن و لا يضر معها ترك الطاعات و ارتكاب المعاصي و لا يعاقب عليها و ابليس كان عارفا باللّه و انما كفر لاستكباره و ترك الخضوع للّه كما دلّ قوله تعالى أَبىٰ وَ اسْتَكْبَرَ وَ كٰانَ مِنَ الْكٰافِرِينَ.

العبدية اصحاب عبيد المكذب زادوا على اليونسية ان علم اللّه لم يزل شيئا غيره أي غير ذاته و كذا باقي صفاته و انه تعالى على صورة الانسان لما ورد في الحديث ان اللّه خلق آدم على صورة الرحمن.

الغسانية اصحاب غسان الكوفي قالوا ان الايمان هو المعرفة باللّه و برسوله و بما جاء من عندهما اجمالا لا تفصيلا،و هو أي الايمان يزيد و لا ينقص و لا لك الاجمال مثل ان تقول قد فرض اللّه الحج و لا ادري اين الكعبة و لعلها بغير مكة و بعث محمدا و لا ادري أ هو الذي بالمدينة

ص:171

او غيره و حرّم الخنزير و لا ادري أ هو هذه الشاة ام غيرها فان القائل بهذه المقالات مؤمن و مقصودهم بما ذكروه ان هذه الامور ليست داخلة في حقيقة الايمان و الا فلا شبهة في ان عاقلا لا يشك فيها و غسان كان يحكى ما ذهب اليه عن ابي حنيفة و بعده من المرجئة و قد كان المعتزلة في الصدر الاول يلقبون من خالفهم في القدر مرجئا.

الثوبانية اصحاب ثوبان المرجئ قالوا الايمان هو المعرفة و الاقرار باللّه و برسله و بكل ما لا يجوز في العقل ان يفعله و اما ما جاز في العقل ان يفعله فليس الاعتقاد به في الايمان و أخروا العمل كله عن الايمان قالوا لو عفى في القيمة عن عاص لعفى عن كل من هو مثله،و كذا لو اخرج واحدا من النار لا خرج كل من هو مثله.

الثومية اصحاب أبي معاذ الثومن قالوا الايمان هو المعرفة و التصديق و المحبة و الاخلاص و الاقرار بما جاء به الرسول و ترك كله او بعضه كفر ليس بعضه ايمانا و لا بعض ايمانا و من قتل نبيا او لطمه كفر لا لاجل القتل او اللطمة بل لانه دليل لتكذيبه له و بغضه.

الفرقة الخامسة من كبار الفرق الاسلامية النجارية اصحاب محمد بن الحسن النجار و هم موافقون لاهل السنة في خلق الافعال و ان الاستطاعة مع الفعل و ان العبد يكتسب فعله و موافقون للمعتزلة في نفي الصفات الوجودية و حدوث الكلام و نفي الرؤية بالابصار و فرقهم ثلاث الاولى البرغوثية قالوا كلام اللّه اذا قرى عرض و اذا كتب بأي شيء كان فهم جسم.

الثانية الزعفرانية قالوا كلامه غيره و كل ما هو غيره مخلوق و من قال كلام اللّه مخلوق فهو كافر.

الثالثة المستدركة على الزعفرانية و قالوا كلام اللّه مخلوق مطلقا لكنّا وافقنا السنة الواردة بان كلام اللّه غير مخلوق و الاجماع المنعقد عليه في نفيه و حملنا قولهم غير مخلوق على انه غير مخلوق على هذا الترتيب و النظم من هذه الحروف و الاصوات بل هو غير مخلوق على غير هذه الحروف و هذه حكاية عنها و قالوا اقوال مخالفينا كلها كذب حتى قولهم لا اله الا اللّه.

الفرقة السادسة من تلك الفرق الكبار الجبرية و الجبر اسناد فعل العباد الى اللّه و الجبرية متوسطة أي غير خالصة في القول بالجبر المحص بل هي متوسطة بين الجبر و التفويض تثبت للعبد كسبا في الفعل بلا تأثير فيه كالاشعرية و النجارية و خالصة لا تثبته كالجهمية و هم اصحاب جهم بن صفوان الترمذي قالوا لا قدرة للعبد اصلا لا مؤثرة و لا كاسبة بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها و قالوا ان اللّه لا يعلم لشيء قبل وقوعه و علمه حادث لا في محل و لا يتصف اللّه بما يتصف به غيره كالعلم و الحياة لانه يلزم منه التشبيه و الجنة و النار يفنيان بعد دخول اهلهما فيهما حتى لا يبقى موجود سوى اللّه سبحانه.

ص:172

الفرقة السابعة المشبهة شبهو اللّه بالمخلوقات و مثلوه بالحادثات و لاجل ذلك جعلوا فرقة واحدة منهم و ان اختلفوا في طريق التشبيه فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كالسبائية و البيانية و غيرهم القائلين بالتجسيم و الحركة و الانتقال و الحلول في الاجسام و منهم مشبهة الحشوية قالوا هو جسم لا كالاجسام مركب من لحم و دم و لا كاللحوم و الدماء و له الاعضاء و الجوارح و يجوز عليه الملامسة و المصافحة و الممانعة للمخلصين الذين يزورونه في الدنيا و يزورهم حتى نقل انه قال بعضهم اعفوني عن اللحية و الفرج و اسألوني عما رواه.

و منهم مشبهة الكرامية اصحاب ابي عبد اللّه محمد بن كرام و أقوالهم في التشبيه متعددة مختلفة غير أنها لا تنتمي الى من يعبأ به،قال زعيمهم ان اللّه على العرش من جهة العلو مماس له من الصفحة العليا و يجوز عليه الحركة و النزول؛و اختلفوا في أنه هل يملأ العرش أم لا بل هو على بعضه،و قال بعضهم ليس هو على العرش بل هو محاذ للعرش و أختلف أ ببعد متناه أم غير متناه؛و منهم من أطلق عليه لفظ الجسم؛ثم أختلفوا هل هو متناهمن الجهات كلها أو متناه من جهة التحت فقط أو لا أى ليس متناهيا بل هو غير متناه من جميع الجهات،و قال تجل الحوادث في ذاته و زعموا أنه أنما يقدر على الحوادث الحالة فيها دون الخارجة عن ذاته،و جوزوا إمامين في عصر واحد كعلي و معاوية إلا ان أمامة علي عليه السّلام على وفق السنة بخلاف أمامة معاوية،لكن يجب طاعة رعيته له و قالوا أن الأيمان قول الذر في الأزل بلى أي الأيمان و الإقرار الذي وجد من الذر حين قال تعالى (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ) و هو باق في الكل على السوية إلا المرتدين،و أيمان المنافق مع كفره كأيمان الأنبياء لإستواء الجميع في ذلك الأيمان،و الكلمتان ليستا بأيمان إلا بعد الردة،هذا ترتيب الفرق الأسلامية على نحو ما ذكره العضدي و الشريف و غيرهما و قالا بعد تعداد هذه الفرق

و أما الفرقة الناجية المستثناة الذين قال فيهم النبي صلّى اللّه عليه و آله هم الذين على ما أنا عليه و أصحابي فهم الأشاعرة و السلف من المحدثين و أهل السنة و الجماعة؛و يرد على هذا النقل أمور

الأول أنهم أهملوا كثيرا من الفرق الشيعة من الفرق العظيمة و ذكروا فرقا شاذة لا يعبأ بمن قال بها،فمن الفرق التي أهملوا ذكرها من الفرق الشيعية النادوسية أصحاب رجل يقال له ناووس؛و قيل آل قرية ناووسان قالت ان الصادق عليه السّلام حتى بعد و لن يمت حتى يظهر فيظهر امره و هو القائم المهدي و حكى ابو حامد الزوزني ان الناووسية زعمت ان عليا عليه السّلام مات و ستنشق عنه الارض يوم القيامة فيملأ الارض عدلا أقول المراد بالقيامة هنا القيامة الصغرى

ص:173

و هي زمن رجعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و رجعة اهل بيته في وقت ظهور المهدي كما تقدم الكلام فيه مفصلا.

و منها الافطحية قالوا بانتقال الامامة من الصادق عليه السّلام الى ابنه عبد الافطح و هو اخو اسماعيل من ابيه و امه،و كان اسن اولاد الصادق عليه السّلام و نقلوا عنه ان الامامة لا تكون الا في الولد الاكبر لكنهم لم ينقلوا آخر الحديث و هو قوله الا ان يكون به عاهة،و عبد اللّه كان افطح القدمين و الامام يجب ان يكون اكمل الناس خلقا و خلقا،و اما حكاية عمى يعقوب و شعيب و كسر ثنية النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم احد فلا يخلّ باستواء الخلقة الاصلية اذ هذه الامور قد عرضت لما طعنوا في السن،و كذا ما روى من سقوط بعض اسنان الائمة عليهم السّلام.

و منا الواقفية و هم الذين قد وقفوا على موسى بن جعفر عليهما السّلام و انكروا موته و قالوا انه حي و هؤلاء هم خواص شيعته و ذلك انهم كانوا وكلائه عليه السّلام على جمع اموال الصدقات و الاخماس من شيعته و كان بعضهم في قم و بعض في بغداد الى غير ذلك من البلدان و لما اتصل بهم خبر فوت الكاظم عليه السّلام طمعوا في الاموال فانكروا موته و قالوا انه حي و لم يدفعوا الاموال الى الرضا عليه السّلام فأنكروا امامته و لكن من قال من الشيعة بامامة الرضا عليه السّلام قال بامامة باقي الائمة عليهم السّلام و من هذا جاء في الحديث انه لا يزور الرضا عليه السّلام الا الخالص من الشيعة و قد رأيت في الكتب المعتبرة ان من الواقفية من وقف على الباقر عليه السّلام و منهم من وقف على الصادق عليه السّلام و في بعض الاخبار دلالة عليه.

الامر الثاني انه جعل الاشاعرة و هم المنسوبون الى علي بن اسماعيل الاشعري المنتسب الى ابي موسى الاشعري فرقة واحدة و جعلهم هم الفرقة الناجية،عليه السّلام انهم فرق اربع و هم الحنفية و الشافعية و المالكية و الحنبلية،و كل فرقة من هذه الاربع تخالف الفرقة الاخرى في كثير من مسائل الاصول و الفروع فكيف صارت هذه الفرق الاربع على اختلاف اقاويلها فرقة واحدة،و قد عدّ سابقا الخمرية و الشعيبية فرقتين مع انهما لم يختلفا الا في مسألة واحدة نعم وجه الجامع بين هذه الفرق الاربع هو الاتفاق بينهم على تأخير المؤمنين علي عليه السّلام عن درجته و وضع غيره فيها فصاروا فرقة واحدة لقوله عليه السّلام الكفر ملة واحدة.

الثالث جزمه بأن الفرقة الناجية هم الاشاعرة ما نعلم من اين أخذه أمن قولهم ان الخير و الشر من اللّه و ان العبد ليس له اختيار في افعاله و اقواله و انه مجبور على كل ما يصدر منه ام من قولهم بتعدد القدماء و هي صفاته الزائدة على ذاته و قد نهى اللّه سبحانه النصارى عن القول بالتثليث و هي الاقانيم الثلاثة قال الشهرستاني و يعنون بالاقانيم الصفات كالوجود و الحياة و العلم او الاب و الابن و روح القدس و قال في موضع آخر ان المراد بروح القدس أقنوم

ص:174

الحياة و قال شيخنا البهائي طاب ثراه في الكشكول النصارى مجموعون على ان اللّه تعالى واحد بالذات و يريدون بالاقانيم الصفات مع الذات و يعبرون عن الاقانيم بالاب و الابن و روح القدس يريدون بالاب الذات مع الوجود و بالابن الذات مع العلم و يطلقون عليه اسم الكلمة و يريدون بروح القدس الذات مع الحياة و اجمعوا على ان المسيح ولد من مريم و صلب و الانجيل الذي بأيديهم انما هو سيرة المسيح جمعه اربعة من الصحابة و هم متّى و لو قال(لوقا خ)و ماريوس و يوحنا و لفظة انجيل معناها البشارة و لهم كتب تعرف بالقوانين وضعها اكابرهم يرجعون اليها في الاحكام و العبادات و المشهور من فرقهم ثلاثة.

الاولى الملكانية يقولون قد حل جزء من اللاهوت في الناسوت و اتحدّ بجسد المسيح و تدرع به و لا يسمون العلم قبل تدرعه ابناء هؤلاء قد صرحوا بالتثليث و اليهم الاشارة بقوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلاٰثَةٍ و هؤلاء قالوا ان القتل و الصلب وقع على الناسوت لا اللاهوت.

الثانية اليعقوبية قالوا ان الكلمة انقلبت لحما و دما فصار المسيح هو الاله و اليهم الاشارة بقوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الثالثة النسطورية قالوا ان اللاهوت اشرق على الناسوت كاشراق الشمس على البلورة و القتل و الصلب انما وقع على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته،و المراد بالناسوت الجسد و باللاهوت الروح و قال سبحانه و لاٰ تَتَّخِذُوا إِلٰهَيْنِ اثْنَيْنِ و الاشاعرة كأنهم قد فهموا ان النهي انما ورد عن الالهين لا عن السبعة او الثمانية و حيث انتهى الكلام الى هنا فلا بأس بالاشارة الى بعض ما يرد على اعتقادهم الفاسد في شأن خلق الاعمال فنقول.

اما اصحاب مالك و اصحاب الشافعي و اصحاب احمد بن حنبل و من وافقهم على اعتقاد المجبرة فانهم اتفقوا جميعا على ان جميع ما في العالم من حركات و سكنات و مكروهات و محبوبات و مستحسنات و مستكرهات و مستقبحات فانها من فضل اللّه على العباد.

و ذكروا ان اللّه سبحانه قهرهم و منعهم عن الاختيار في كل مكروه او مراد يلحق بهؤلاء من كاتن منهم يقول ان اللّه يخلق الاعمال و العبد مكتسبا منه لان الكسب عندهم لا يوجبها و لا يوجدها و انما يوجبها و يوجدها على قولهم اللّه و انها صادرة عنه و لانه يقال لهم هل يقدر العبد على ترك الكسب فان قالوا نعم فقد قالوا بالاختيار و حصل الوفاق و ان قالوا لا يقدر على ترك الكسب فقد ساووا المجبرة في تصريحهم بان العباد مجبورون مقهورون ثم قيل لمن ثال ان العباد مجبورون ما معنى هذا لان معنى الجبر ان يكون العبد مختارا فيجبره غيره و يمنعه عن اختياره

ص:175

و انتم تزعمون ان العبد ما كان مختارا قط و لا كان له فعل على الحقيقة فما معنى قولكم ان العباد مجبورون.

و قد زاد على هذا اصحاب احمد بن حنبل ان اللّه جسم مستقر على عرشه بجوارح بشرية و بعضهم قال ان اللّه ينزل الى الارض في صورة شاب و رووا في ذلك اخبارا كثيرة يكذبها العقل و النقل و لم يتعرض الشهرستاني و لا غيره من علمائهم لنسبة هذا القول السخيف الا الى فرقة من فرق الشيعة لاجل التشنيع بها عليهم و قد كان الواجب عليهم نسبة هذا القول ايضا الى اصحاب الحنبلي و الا فنحن نبرأ من تلك الفرقة من الشيعة الذين يقولون بالجسم و نكفرهم و نلعنهم و انتم لا تكفرون اصحاب الحنبلي و لا تبرأون منهم بل ادرجتموهم في الفرقة الناجية و هم الاشاعرة بزعمكم.

و مما يستدل على بطلان مقالتهم من انه لا فاعل في العالم سوى اللّه انه يلزم ان يكون اللّه تعالى قد ارسل الرسل الى نفسه و انزل الكتب على نفسه و كان كل وعد و وعيد و تهديد صدر على لسان الملائكة و الانبياء و الرسل فانه يلزم ان يكون قد وعد نفسه و توعدها و هددها و لم يذهب الى هذا عاقل،و ايضا اذا جاز على زعمكم ان اللّه يضلّ العباد و يجبرهم على الفساد و يصدق بالمعجزات الكذابين كيف يبقى لهم طريق الى اثبات نبوة نبيهم و غيره من الانبياء و من اين يعرفون صحة شريعته؟و من اجل لزوم هذا عليهم قال صاحب الكشاف في كتاب الفائق فاما المجبرة فان شيوخنا كفروهم و حكى قاضي القضاة عن الشيخ ابي علي انه قال لمجبر كافر و من شك في كفره فهو كافر و مع هذا أ تزعمون ان صاحب الكشاف و الشيخ ابا علي من اهل الجنة و من اهل السنة و الجماعة و كل منكم يكفر الاخر،و لكن هذا القول هنا لكم فيه مطمح نظر في محل آخر و هو حروب الصحابة و تكفير بعضهم بعضا و قتله له مع انهم كلهم محقون و من اهل الجنة.

و العجب انهم صرحوا بأنه يجوز من اللّه في عدله و حكمته ان يجمع الانبياء و المرسلين و الملائكة المقربين فيخلدهم في النار و يجمع الكفار و الملاحدة و المنافقين و ابليس و جنوده فيخلدهم في الجنة و النعيم،و قالوا ان هذا انصاف منه و عدل و قد بنوا هذا على ذلك الاصل الفاسد و هو ان افعالهم من فعل اللّه فيهم و انهم بريئون منها بحيث لا يلامون على ما فعلوا فاذا كان الحال هكذا وجب على الانبياء ان يعذروهم في ترك قبول اقوالهم و اعجب منم هذا انهم قالوا متى اعتقدنا ان افعال العباد منهم صار العباد شركاء للّه فاقتضى التعظيم للّه ان تكون الافعال كلها التي من بني آدم و غيرها من اللّه فهذا اجلالهم لربهم و هو ان يصدر منه ما يصدر

ص:176

من اخس عبده من اقبح الافعال،و لعمرك انهم ما قدروا اللّه حق قدره مع ان حكاية الشركة للّه سبحانه لازم لمن قال منكم و هو اخياركم بالكسب فقد ادعيتم الشركة بين العبد و بين اللّه.

و من عجيب ما ذكروه قولهم متى اعتقدنا ان العباد يقدرون ان يفعلوا شيئا باختيارهم كان ذلك دليلا على عجز اللّه تعالى حيث يقع منهم لا يريده من المعاصي و لم يعلموا انه لا عجز يلحق المالك اذا جعل عبد مختارا لافعاله سوى فعل العبد ما يكره المولى ام يحب و لو اراد قهر عبد و موته فأي عجز هنا للمولى؟و يزيده ايضاحا ان السلطان اذا اقطع مملوكا اقطاعا، و قال له قد مكنتك و الرعية مدة معلومة عندي فان احسنت جازيتك بالاحسان و ان اسأت اليهم عاقبتك فمضى المملوك الى اقطاعه و ظلم الرعية و سار فيهم بخلاف ما يريد السلطان أ فيكون دليلا على عجز السلطان لو صبر حتى يأتي وقت المدة التي عينها للمجازاة على الاحسان او المؤأخذة على العصيان.

و من الدلائل على بطلان قولهم انهم يدّعون الاعتراف بصدق نبيهم و ثبوت كتابهم و قد تضمن حكاية اعتذار الكفار و الظالمين الى اللّه يوم القيامة بأنهم ظلمهم غير اللّه و ما تضمن الكتاب ان احدا منهم اعتذر الى اللّه و قال له انت يا رب قضيت علينا معصيتك و انت منعتنا من طاعتك فان يوم القيامة تنكشف الامور انكشافا واضحا فأقروا تارة ان المعاصي منهم فقالوا ربنا ارجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل و ما قالوا تعمل انت غير الذي كنت تعمل و قالوا و هم في النار ربما اخرجنا منها فان عدنا فانا ظالمون و ما قالوا فان عدت و قال بعضهم رب ارجعوني لعلي اعمل صالحا فيما تركت و ما قال لعلك تعنمل صالحا،و قال ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب اللّه و ما قال ما فرطت في جنبي،و اذا كان العباد ما فعلوا شيئا فما هذا التحسر و التفريط و على ما ذا ندم النادمون و بكى الباكون و من العجب ان الشياطان اعترف لهم انه هو الذي اضلهم و شهد اللّه عليه بذلك فينزهون الشيطان عن اعترافه و لا يقبلون شهادة اللّه عليه اما اعتراف الشيطان فهو في مواضع كثيرة منها قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ و اما شهادته سبحانه ففي مواضع ايضا منها قوله تعالى اَلشَّيْطٰانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلىٰ لَهُمْ فردوا على اللّه شهادته و نزهوا الشيطان عن اللّه و قالوا ما اضلهم الا اللّه.

و يدل ايضا على تنزيه اللّه من افعال عباده قولهم ربنا انا اطعنا سادتنا و كبرائنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب و العنهم لعنا كبيرا فلو كان هؤلاء قد وجدوا في القيامة ان الذي اضلهم هو اللّه وحده ما كانوا قد اعترفوا به على انفسهم و لا ادعوه على ساداتهم و كبرائهم و اوضح من هذا قولهم ربنا ارنا اللذين اضلانا من الجن و الانس نجعلهما تحت اقدامنا

ص:177

ليكونا من الاسفلين فاذا كان اللّه هو الذي فعل بهم لقالوا له انت الذي فعلت بنا فكيف تعذبنا كيف لا و بعضهم يكابره في القيامة و يجاحده حتى يقول و اللّه ربنا ما كنا مشركين فيقول تعالى انظر كيف كذبوا على انفسهم فمن اقدم على هذه المكابرة بالكذب لو كان يعلم ان اللّه فعل ذلك ما كان يحتاج الى هذه المكابرة و كان يقدر ان يقول يا رب انت فعلت و نحن ما فعلنا شيئا و قوله تعالى انظر كيف كذبوا على انفسهم يدل على تعجب منهم كيف انكروا انهم اشركوا فلو كان هو الذي فعل فيهم الشرك فممن كان يتعجب و لو كان هو الذي قهرهم يوم القيامة على هذا الجحود و الانكار فعهل كان يقع من احكم الحاكمين و اعدل العادلين ان يتعجب منهم و هو الذي فعل فيهم و هل يكون التعجب على قولهم الا من نفسه.

و من الدلائل ايضا قوله و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب اللّه عليه و لعنه و اعدّ له عذابا عظيما فاذا كان هو الذي قتل المؤمن فعلى من يغضب و لمن يتهدد و لعمرك قد افتضح هؤلاء الجماعة و ضحكت عليهم ارباب الملل فان الذي يقول ان اللّه منعني من الدخول في دينكم و لو جبرني(خيرني خ)على الدخول لدخلت و انا اردت و هو يمنعني.

و من اقوى دلائلهم على هذا المذهب الباطل قوله تعالى لا يسأل عما يفعل و هم يسألون و هو بالدلالة على بطلان مذهبهم اوضح و ذلك ان اقصى ما يدل عليه هو انه ليس لاحد ان يسأل اللّه سبحانه عن افعاله و لكن اللّه يسأل الناس عن افعالهم فلو كانت الافعال كلها منه لكانت متساوية فما كانت تحتاج الى التقسيم الى قسمين.

و من الدلائل على بطلان مقالتهم ما روى ان ابا حنيفة اجتاز يوما على موسى بن جعفر عليه السّلام و هو طفل في المكتب فاراد ابو حنيفة امتحانه فقال له المعصية ممن؟فقال عليه السّلام اجلس حتى اخبرك فجلس ابو حنيفة بين يديه فقال موسى عليه السّلام لا بد ان يكون المعصية من العبد او من ربه او منهما فان كانت من اللّه تعالى فهو اعدل و انصف من ان يظلم عبده الضعيف و يأخذه بما لم يفعل و ان كانت المعصية منهما فهو شريكه و القوي اولى بانصاف عبده الضعيف و ان كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الامر و اليه توجه النهي و له حق الثواب و حق العقاب و و جبن له الجنة و النار فقال ابو حنيفة ذرية بعضها من بعض و اللّه سميع عليم.

و من الدلائل على قولنا قول امير المؤمنين عليه السّلام كل ما استغفرت اللّه منه فهو منك و كل ما حمدت اللّه تعالى عليه فهو منه،و سأل الصادق عليه السّلام عن القدر فقال ما استطعت ان تلوم العبد عليه فهو فعله و ما لم تستطع ان تلوم العبد عليه فهو فعل اللّه تعالى يقول اللّه للعبد لم عصت لم فسقت فهذا فعل العبد و لا يقول له لم مرضت و لم طلت و لا قصرت لم ابيضضت لم اسوددت لانه فعل اللّه.

ص:178

و روى ان الفضل بن سهل سأل الرضا عليه السّلام بين يدي المأمون فقال يا ابا الحسن الخلق مجبورون فقال اللّه اعدل من ان يجبر ثم يعذب قال فمطلقون قال قال اللّه احكم من ان يهمل عبده و يكله الى نفسه.

و من الدلائل على بطلان مذهبهم قوله تعالى تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الارض و تخر الجبال هدّا فانه تعالى قد استعظم في القرآن مقالة المشركين هذه فاذا كان فعله(الفعل خ) فكيف يستعظمه على وجه الانكار و قيل للمجبرة ان اللّه تعالى يقول قد افلح من زكيها و قد خاب من دسيها من هذا الذي قد خاب؟فلم يكن لهم عن ذلك جواب و حكى ان بعض الجبرية اجتاز بعدلي راكب فقال له انل حتى اسألك مسألة فقال له العدلي أ فتقدر ان تسألني؟ قال لا قال أ فأقدر ان انزل اليك و اجيبك؟قال لا فقال للجبري كيف اطلب نزول من لا يقدر على سؤالي و لا اقدر على نزولي اليه و لا جوابي فانقطع الجبري و روى ان عدليا قال لمجبّر ممن الحق قال من اللّه قال فمن هو المحق؟قال اللّه قال له فممن الباطل؟قال من اللّه فقال له فمن هو المبطل؟فانقطع المجبر و لم يقدر على ان يقول اللّه المبطل و هو لازم له على مذهبه و روى ايضا ان جماعة من اليهود اجتمعوا الى ابي بحر الخاقاني فقالوا له انت سلطان عادل و منصف و في المسلمين في بلدك المجبرة و هم الذين تعتمدون عليهم في الافعال و الاقوال و هم يشهدون لنا اننا لا نقدر على الاسلام و لا على الايمان فجمع المجبرة قال لهم ما تقولون فيما قد ذكره اليهود من احتجاجهم عليكم؟فقالوا كذا نقول و انهم ما يقدرون على الاسلام و الايمان فطالبهم بالدليل على قولهم فلم يقدروا عليه فنفاهم عن بلده.

و من الدلائل على بطلان مقالتهم ان العدلي يقول للجبري عند المناظرة هذه المناظرة بيني و بينك في التحقيق او بين اللّه و بين نفسه فان كانت بيني و بينك فقد بطل ما تدعونه من انه لا فاعل سوى اللّه و ان كانت المناظرة بين اللّه و بين نفسه فهل تقبل العقول ان اللّه سبحانه يناظر نفسه لان المناظرين اذا كان احدهما محقا و الاخر مبطلا او احدهما عالما و الاخر جاهلا و كانت المناظرة كما زعموا بين اللّه و بين نفسه فكيف يتصور ان اللّه تعالى من جانب مبطل و من جانب محق و من جانب يوصف بجهل و من جانب عالم(يوصف بعلم خ)تعالى عما يقول الكافرون علوا كبيرا.

و من الدلائل التي يفحم بها اهل الجبر الذين يقولون لا فاعل سوى اللّه تعالى و ان كل فعل يظهر على العباد فهو فعل اللّه على التحقيق و ان يقال لهم ان كل انسان يعلم من نفسه انه يكون جاهلا ثم تصير عالما،ثم يكون شاكا فيصير متيقنا ثم يكون ظانا فيصير عالما و لا شبهة عند العقلاء ان الجهل و العلم و الشك و اليقين و الظن و العلم افعال،فمن هذا الجاهل و من هذا

ص:179

الشاك و من هذا الظان؟فان قلتم انه ربكم فقد كفرتم تحقيقا و صار كل واحد منكم زنديقا؟و ان قلتم انه العبد و هو الحق فقد تركتم مذهبكم و رجعتم الى الحق.

فان قال قائل ان الاشاعرة ما صرّحوا بمثل هذا فمن اين نسبت مثله اليهم قلت نعم قد صرّح به علماؤهم و المحققون منهم قال الرازي في كتاب الاربعين المسألة الرابعة و العشرون في بيان ان اللّه تعالى مريد لجميع الكائنات مذهب المعتزلة ان الارادة توافق الامر فكل ما امر اللّه تعالى به فقد اراده و كل ما نهى عن فقد كرهه مذهبنا ان الارادة توافق العلم و كل ما علم وقوعه فهو مراد الوقوع و كل ما علم عدمه فهو مراد العدم فعلى هذا ايمان ابي جهل مأمور به و غير مراد كفره منهي عنه و هو مراد هذا لفظه و يلزم عليه ان يكون ابو جهل قد غلب النبي صلّى اللّه عليه و آله بالاحتجاج بان يقول له ربك ما يريد منّا الاسلام و انت تريده و ايقاع ارادة ربك اوجب من ايقاع ارادتك فكان قد انقطع محمد صلّى اللّه عليه و آله و بانقطاعه ينقطع حجة من ارسله و ان كان الرازي يزعم ان محمدا صلّى اللّه عليه و آله ما يريد ايضا من الكفار الايمان فتكون حجتهم قد ازدادت قوة و يقولون له اذا كان اللّه تعالى قد ارسلك ما يريد الايمان منّا و انت ما تريده منّا فنحن ايضا ما نريد خلاف ارادتكم فعلام تحاربنا و تعادينا و قد وافقت ارادتنا و ارادة من ارسلك و كان ابلغ في ظهور حجة الكفار عليه و للقد كانت الجاهلية اقل كفرا من هذا الاعتقاد و الجاهلون باللّه ما بلغوا الى هذه الغاية من الكفر و الفساد لان اولئك ما عرفوه فيما نسبوا اليه خيرا و لا شرا او هؤلاء المجبرة ادعوا معرفته و نسبوا كل شر و كفر و ضرّ اليه فيعزّ على اللّه و على رسوله ما جنى هؤلاء عليه.

و ما احسن قول بعض المحققين انه يلزم على قول الرازي و من تابعه ان يكون قولهم نحو قول النصارى في عيسى بن مريم و النصيرية في علي بن ابي طالب لان عقلاء النصارى و النصيرية ما كان يخفى عليهم ان اللّه سبحانه غير هيكل عيسى و علي عليهما السّلام نعم رأوا ان الافعال الصادرة منهما خارجة عن طوق البشر فنسبوها الى انها من فعل اللّه و عبدوا فاعل تلك الافعال و غلطوا في التسمية،و هذا هو قول الرازي و من وافقه في انه لا فاعل سوى اللّه جل جلاله فانهم يلزمهم تصديق النصارى و النصيرية في ان افعال عيسى و افعال علي عليهما السّلام فعل اللّه و الفاعل لها هو اللّه جل جلاله الذي يستحق العبادة.

و اما الغزالي فهو ازهدهم و اورعهم و اعلمهم و قد قال في كتاب احياء العلوم و لا يجري في الملك و الملكوت طرفة عين و لا فلتة خاطر الا بقضاء اللّه و قدره و بارادته و مشيته فمنه الخير و الشر و النفع و الضر و الاسلام و الكفر و العرفان و النكر و و الفوز و الحسن و الغواية و الرشد و الطاعة و العصيان و الشرك و الايمان و نحو هذا قال في كتاب منهاج العابدين و هو آخر كتاب صنفه و ما خصّ بي الا خواصه كما قاله صاحب الطرائف.

ص:180

و من عجيب ما يقال لهم ان الافعال اذا كانت كلها فعل اللّه عندكم على التحقيق فقد صار كلامكم و امركم و نهيكم كالقرآن و الوحي و ككلام اللّه لموسى من الشجرة و ككلام اللّه للانبياء عن اللّه فما بقى بينكم و بينهم فرق و حصل القدح في الرسل و الطعن عليهم.

و اما الآيات الدالة على بطلان مقالتهم فهي متكثرة منها قوله سبحانه اللّه و لي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور و الذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات و لا شك ان الطاغوت غير اللّه تعالى و منها قوله سبحانه و قال الذين اشركوا لو شاء اللّه ما اشركنا و لا يباؤنا و لا حرّمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ان تتبعون الى الظن و ان انتم الا تخرصون.

و من عجيب جواب بعض اهل العدل لبعض المجبرة ان المجبر قال ما ترضى ان يكون من خلق المعاصي لك ربا؟فقال لا و اللّه و لا عبدا يعني لو كان عبد يخلق المعاصي ما رضيته ان يكون عبدي و روى ان ثمامة كان في مجلس المأمون و ابو العتاهية حاضر فسأل ابو العتاهية المأمون ان يأذن له في مناظرة ثمامة و الاحتجاج عليه و كان ابو العتاهية من الجبرية فحرك ابو العتاهية يده و قال من حرك هذه فقال له ثمامة و كان من اهل العدل حركها من امّه زانية فقال ابو العتاهية شتمني يا امير المؤمنين في مجلسك فقال ثمامة ترك مذهبه يا امير المؤمنين لانه يزعم ان اللّه حركها فلأي سبب غضب ابو العتاهية و ليس للّه ام فانقطع ابو العتاهية.

و يعجبني نقل حكاية غريبة و هي ان البهلول قد اجتاز يوما على مسجد ابي حنيفة و كان يعظ الناس على المنبر فوقف على باب المسجد فاذا ابو حنيفة يقول ان جعفر بن محمد يزعم ان للعباد افعالا تصدر منهم بالاختيار و هذا كذب لانه لا فعل في افعال العباد الا من اللّه و زعم ايضا ان الشيطان يعذب في النار و هذا كذب ايضا لانه مخلوق من النار و الجنس لا يعذب بجنسه و زعم ايضا ان اللّه موجود لا يجوز عليه الرؤية و هذا ايضا كذب لان كل موجود مرئي فلما سمع البهلول كلامه عمد الى مدرة كبيرة فرمى بها الى رأس ابي حنيفة و شجّه في رأسه و جرى الدم على وجهه فركب البهلول قصبته و مضى مع الاطفال فخرج ابو حنيفة و اتى شاكيا الى الخليفة هارون الرشيد فلما رآه غضب غضبا شديدا و امر باحضار البهلول فلما حضر سأله لم فعلت بامام المسلمين هذا الفعل؟فقال سله عن هذا اما قال ان جعفر بن محمد كذب في قوله ان للعبد فعلا بل الافعال كلها من اللّه فاذا كان هذا مذهبه فاللّه سبحانه الذي شجه بهذا المدر فما يكون تقصيري انا،و قال ايضا ان الجنس لا يتعذب من جنسه فهذا ابو حنيفة مخلوق من التراب و هذا المدر من التراب فلم تعذب ابو حنيفة به؟و ايضا قال ان كل ما هو موجود مرئي

ص:181

فسله عن هذا الالم الذي حصل له من هذه الشجة أ هو مرئي ام لا؟فافحم ابا حنيفة ثم مضى البهلول و تركه.

و روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا قيل و من القدرية يا رسول اللّه؟قال قوم يزعمون ان اللّه قدّر المعاصي و عذبهم عليها و روى الخوارزمي و غيره عن محمد بن علي الملكي باسناده قال ان رجلا قدم على النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اخبرني بأعجب شيء رأيت،قال رأيت قوما ينكحون امهاتهم و بناتهم و اخواتهم فاذا قيل لهم لم تفعلون هذا قالوا اقضاه اللّه علينا و قدّره فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله سيكون في امتي أقوام يقولون بمثل مقالتهم اولئك مجوس امتي و عن جابر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي و يقولون ان اللّه تعالى قدّرها عليهم الرادّ عليهم كالشاهر سيفه في سبيل اللّه.

و اما الحنابلة منهم فقد تحققت ان مذهبهم كون جسما و ذكر اسماعيل الهروي في كتاب الاعتقادات ان اعتقادهم كون اللّه تعالى له جوارح كالبشر فقال ان اللّه عاب الاصنام فقال الهم ارجل يمشون بها ام لهم ايد يبطشون بها،أم لهم أعين يبصرون بها؟ام لهم آذان يسمعون بها،قل ادعوا شركائكم و قال حكاية عن الخليل لما حاجّه قومه هل يسمعونكم اذ تدعون، و قال لابيه لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا و قال ان تدعوهم لا يسمعوا دعائكم و قال ابراهيم لقومه فأسألوهم ان كانوا ينطقون و عاب العجل او لم يروا انه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا،و قال أ فلا يرون ان لا يرجع اليهم قولا فلما عاب الطواغيت لعدم تلك الصفات علم و تبيّن انه تمدّح بها و انها حقائق فيه هذا لفظه،و لا يخفى ما فيه من الكفر و الزندقة و مراد اللّه سبحانه من هذه الآيات ظاهر و هو استعظام ما اتخذوه ربا لان من لا يقدر على نفع نفسه و لا على دفع الضرر عنها كيف يليق به مقام الربوبية.

و من مضحك الحنابلة قولهم ان اسمه عين مسماه و ان من قال الاسم غير المسمى فهو ملحد و رووا في افراد مسلم و البخاري عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال ان الامم تدعى يوم القيامة و ما كانت تعبد ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول من تنتظرون؟فيقولون ننتظر ربنا فيقول انا ربكم فيقولون حتى ننظر اليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم و يتبعونه و يعطي كل انسان منهم منافق او مؤمن نورا ثم يتبعونه و على جسر جهنم كلاليب و حسك يأخذون من شاء اللّه ثم يطفى نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون انظروا الى هذا الحديث الباطل المكذوب به على اللّه و على جابر.

و من عجائب ما نقلوه ما ذكره الحميدي في الجميع بين الصحيحين في مسند ابي سعيد الخدري من المتفق عليه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله يذكر فيه كيف تساقط الكفار في النار،ثم قال ما خذا لفظه حتى اذا لم يبق الا من كان يعبد اللّه من بر و فاجر أتاهم اللّه في ادنى صورة من التي

ص:182

رأوه فيها فيقول لهم ما تنتظرون؟قالوا فارقنا الناس في الدنيا افقر ما كنا اليهم و لم نصاحبهم فيقول انا ربكم الاعلى فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه الا اذن له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد اتقاء و ادبا الا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة، كلما اراد ان يسجد خرّ على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوه فيها اول مرة فيقول انا ربكم فيقولون انت ربنا.

اقول قوله فيكشف عن ساقه الظاهر انه اشارة الى خرافة اخرى رووها في كتبهم و هي انهم رووا بالاسانيد الكثيرة ان فاطمة عليها السّلام تأتي يوم القيامة فتقف تحت العرش تشكو ممن قتل ولدها و ظلمها فترجف الخلائق رجفة عظيمة،ثم ان اللّه سبحانه يقول لها يا فاطمة اعفى و اصفحي عمن فتل ولدك و ظلمك،كما عفوت انا عن نمرود لما صعد الى جانب السماء و رماني بسهم وقع في ساقي فجرحه و الى الان لم تندمل تلك الجراحة ثم يكشف عن ساقه فتنظر اليه فاطمة و هو معصبها بعصابة فتقول يا رب اذا غفرت انت عن النمرود و قد فعل بل كل هذا فانا قد عفوت عمن قتل ولدي ثم يدخلون كلهم الى الجنة فانظر رحمك اللّه الى هذه الاكاذيب و الاباطيل التي تضحك الثكلى عند سماعها.

و من ذلك ما رواه محمد بن عمر الرازي حيث قال انهم رووا ان اللّه ينزل كل ليلة جمعة لاهل الجنة على كثيب من كافور،و قد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين بطرق متعددة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله فأما النار فلا تمتلي حتى يضع اللّه تعالى رجله فيها فتقول قط قط و عزتك فهنالك تمتلي و يزوي(يتزوى خ)بعضها الى بعض و رووا في الجمع بين الصحيحين ان رجلا يقول في القيامة رب لا تجعلني اشقى خلقك فيضحك اللّه منه ثم يأذن له في دخول الجنة،و روى الرازي فيما زعم عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لما فرغ اللّه من خلقه استلقى على قفاه ثم وضع احدى رجليه على الاخرى ثم قال لا ينبغي لاحد ان يفعل مثل هذا.

و من خرافاتهم ما رواه ابن مقاتل في كتاب الاسماء رفعه و اسنده قال قيل يا رسول اللّه مم ربنا؟فقال لا من ماء الارض و لا من ماء السماء خلق خيلا فأجراها فعرقت الخيل فحلق نفسه من عرقها و ان اللّه ينزل في كل ليلة الى سماء الدنيا و انه رمدت عيناه فعادته الملائكة و ان البحر من بزاقه و ان على رأسه شعرا جعدا قططا.

و من ذلك ما رووه في الجمع بين الصحيحين من مسند ابي هريرة يرويه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في صفة حال الخلق يوم القيامة و انهم يأتون آدم يسألونه الشفاعة فيعتذر اليهم فيأتون نوحا فيعتذر فيأتون ابراهيم فيقولون يا ابراهيم انت نبي اللّه و خليل من اهل الارض اشفع لنا الى ربك فيقول ان ربي قد غضب عليّ غضبا لن يغضب قبله و لا يغضب بعده و اني كنت كذبت ثلاث

ص:183

كذبات اذهبوا الى غيري،فانظر الى هؤلاء المسلمين كيف وقعوا في اللّه و في انبيائه،و مع هذا يتوقعون و يجزمون بأنهم هم الفرقة الناجية.

و منه ايضا ما رواه في الجمع بين الصحيحين في الحديث الرابع و الاربعين من المنفق عليه من مسند ابي هريرة قال بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلّى اللّه عليه و آله بحرابهم اذ دخل عمر فأهوى الى الحصى يحصيهم بها،فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعهم يا عمر و روى الغزالي في كتاب الاحياء ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا و عنده جوار تغنين و تعلبنّ فجاء عمر فاستأذن فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله للجوار اسكتن فسكتن فدخل عمر فقضى حاجته ثم خرج،فقال لهن محمد نبيهم عدنّ الى الغنى،فقلن يا رسول اللّه من هذا الذي كلما جاء قلت اسكتن و كلما خرج قلت عدن الى الغنى؟فقالوا عن النبي انه قال ان هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل او نحو ذلك.

و رووا في صحاحهم عدّة احاديث تتضمن امثال ذلك فانظر الى هذا الحديث و تعجب من نقله و تصديقهم له،و ما تضمنه من ان عمر كان ارشد و اهدى من نبيهم،و مثل ذلك ما رواه في الجمع بين الصحيحين في الحديث السادس من المتفق عليه من مسند حذيفة اليمان قال كنت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله فانتهى الى بساطة فبال قائما فتنحيت فقال له ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ و مسح على خفيه فانظر الى هؤلاء الاقوام الذين رووا في كتبهم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله علّم الناس الاداب في البول و الخلا و سائر الامور الدينية و انه لا يبول احدهم قائما و يتباعد عن الناس وقت بوله،ثم يصدقون و يصححون انه بال قائما و انه امر حذيفة بأن يقرب منه و يطلع عليه في ذلك الحال.

و من ذلك ما روى في ذلك الكتاب من المتفق عليه من مسند عائشة قالت رأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله يسرني و انا انظر الى الحبشة و هم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله آمنّا يا بني رفدة يعني من الامن،و من الحديث المذكور عن عائشة ان ابا بكر دخل عليها و عندها جاريتان في ايام مني تلعبان بالدف و تضربان به،و النبي صلّى اللّه عليه و آله يتغشى بثوبه فانتهرها ابو بكر فكشف النبي صلّى اللّه عليه و آله وجهه فقال دعهما يا ابا بكر فانها ايام عبد و تلك الايام ايام منى.

و من الحديث المذكور عن عائشة قالت دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عندي جاريتان تغنيان فاضطجع على الفراش فدخل ابو بكر فانتهرني فقال من هؤلاء الشياطين عند النبي صلّى اللّه عليه و آله ؟فأقبل اليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا فانظر الى هؤلاء الاخيار كيف صدقوا ان نبيهم كان يفرّج زوجه على الذين يلعبون و ينبسط لهم في مثل هذه الرزائل مع ما رووه من غيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و كونه أغير من كل أحد مع انهم رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ادّاها اليك فان المساجد لم تبن لهذا فاذا لم يرض بانشاد

ص:184

الضالة في المسجد فكيف يرضى بأن يكون محلا للّعب و اللهو،ثم كيف يجوز ان يكون عمر و ابو بكر يستقبحان هذا الامر و النبي صلّى اللّه عليه و آله يمنعهما من استقباحهما و كيف استحسن هذا الامر لنفسه و زوجته ثم كيف يكون ابو بكر و عمر اعرف بالاداب حيث انكر المغنيات و الحبشة و هلا إقتديا به،و كان لهما فيه اسوة حسنة و كيف لا يسكتان كما سكت و حيث لم يسكتا فهلا قالا يا رسول اللّه ما سبب سكوتك عن الانكار.

و من ذلك ما رواه الغزالي في كتاب الاحياء في كتاب النكاح في الباب الثالث في ذكر حسن صحبة النبي صلّى اللّه عليه و آله لعائشة قال و روى انه صلّى اللّه عليه و آله كان يسابق عائشة في العدو فسبقته و سبقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض الايام فقال لها عليه السّلام هذا بتلك قال بعض المسلمين سبحان اللّه كيف يحسن من هذا الشيخ الغزالي و غيره نقل هذا الحديث على وجه التصديق به،و قد عرف اهل العقول و التجارب ان وقار النبوة و حرمة الرسالة و السكينة الالهية على ما تضمنه كتابهم يمنع محمدا صلّى اللّه عليه و آله ان يعدو مع عائشة برجله مثل الاطفال و الجهّال و ان العقل يشهد ان هذه الحكاية من جملة المحال و لو فعل هذا من هو دونه من العقلاء سقطت منزلته بين الفضلاء.

و يعجبني نقل نبذة من كتاب يوحنا الذمي قال بعد ان ذكر الاختلافات في المذاهب و الاديان و اوّل الشبهة و ان واضعها الشيطان كما قدمناه و آخر الشبهة و ان واضعها عمر بن الخطاب و اضرابه ما هذا لفظه قال يوحنا فلما رأيت هذه الاختلافات من كبار الصحابة الذين يذكرون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوق المنابر عم عليّ و غمّ عليّ الحال و كدت ان افتن في دينب فقصدت بغداد و هي اذا قبة الاسلام لاخاوض فيها علماء الاسلام(المسلمين خ)لانظر الحق و اتبعه فلما اجتمعت بعلماء المذاهب الاربعة قلت لهم انا رجل ذمي و قد هداني اللّه تبارك و تعالى للاسلام فأسلمت و قد اتيتكم لا تقبل عنكم معالم الدين و شرائع الاسلام،فقال كبيرهم و هو الحنفي يا يوحنا مذاهب الاسلام اربعة فاختر لنفسك واحدا منها ثم اشرع في قول ما تريد فقلت لهم اني رأيت تخالف المذاهب و علمت ان الحق منها واحد فأختاورا لي ما تعلمون انه الحق الذي كان عليه نبيكم،ثم قال الحنفي إنّا لا نعلم الحق الذي كان عليه نبينا،بل نعلم ان طريقته غير خارجة عن الفرق الاسلامية و كل من اربعتنا يقول انه محق لكن يمكن ان يكون مبطلا و يقول انه غيره مبطل لكن يمكن ان يكون غيره محقا.

و بالجملة ان مذهب ابي حنيفة انسب المذاهب كلها و اقيسها للحق و اطبقها للسنة و ارفعها عزا عند الناس اذ مذهبه مختار اكثر الامة و سلاطينها فعليك به تنج.

قال يوحنا فصاح به امام الشافعية و اظن انه كان بين الشافعي و الحنفي منازعات فقال له اسكت لا نطقت و اللّه لقد كذبت و تقوّلت و من اين انت و التمييز بين المذاهب و ترجيح

ص:185

المجتهدين ويلك ثكلتك امك أ لك وقوف على ما قاله ابو حنيفة و ما قاس برأيه فان المسمى بصاحب الرأي يجتهد في مقابلة النص و يستحسن في دين اللّه تعالى و يعمل به حتى اوقعه رأيه في الوهن في ان قال لو عقد في اقصى الهند على امرأة بكر و هي في الروم عقدا شرعيا ثم اتاها بعد سنين متعددة فوجدها حاملة و بين يديها اولاد يمشون فيقول لها ما هؤلاء فتقول له اولادك فيرافعها في ذلك الى القاضي الحنفي فيحكم ان الاولاد لصلبه يلحقون به ظاهرا و باطنا يرثهم و يرثونه فيقول ذلك المحارف و كيف ذلك و لم اقر بها قطّ.

فيقول القاضي يحتمل ان يكون قد احتملت و اطارت الريح منيّك في قطنة فوقعت في فرج هذه المرأة فحملت فهل يا حنفي هذا مطابق للكتاب و السنة؟قال نعم انما يلحق بها لانها فراشه،و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله الولد للفراش و للعاهر الحجر،و الفراش يتحقق بالعقد و لا يشترط فيه الوطئ فمنع الشافعي انه لا يصير فراشا بدون الوطئ فغلب الشافعي الحنفي بالحجة.

ثم قال الشافعي قال ابو حنيفة لو انّ امرأة تزّف الى بيت زوجها فعشقها رجل فادعى عند قاضي الحنيفية انه عقد عليها قبل الرجل الذي زفت اليه و ارشى المدعى فاسقين حتى شهدا له كذبا بدعواه فحكم القاضي بزوجية تلك المرأة فانها تحل عليه ظاهرا و باطنا عند ابي حنيفة،و تحرم على الرجل الاول ظاهرا و باطنا و تحل على الشهود الذين تعمدوا الكذب في شهاداتهم فانظروا ايها الناس هل هذا يصدر ممن عرف قواعد الاسلام قال الحنفي لا اعتراض لك عندنا ان حكم القاضي ينفذ ظاهرا و باطنا و هذا متفرع عليه.

و خصمه الشافعي و منع من ان ينفذ حكم القاضي ظاهرا و باطنا بقوله تعال و ان احكم بينهم بما انزل اللّه و لم ينزل اللّه تعالى ذلك.

ثم قال الشافعي قال ابو حنيفة لو ان امرأة غاب عنها زوجها انقطع خبره فجاء رجل و قال زوجك قد مات فاعتدت و بعد العدة عقد عليها رجل آخر و دخل بها و جائت منه باولاد، ثم غاب الرجل الثاني عنها و ظهر حياة الاول و حضر عندها،فان جميع اولاد الرجل الثاني يكونون اولاد الرجل الاول يرثهم و يرثونه فيا اولى العقول الباهرة هل يذهب الى هذا القول من له دراية او نظر،فقال الحنفي انما اخذ ابو حنيفة هذا من قوله:الولد للفراش و للعاهر الحجر،فاحتج عليه الشافعي بكون الفراش مشروطا بالدخول و غلبه.

ثم قال الشافعي و امامك ابو حنيفة قال لو عشق رجل امرأة مسلم و ادعى عند القاضي كذبا ان زوجها طلقها و جاء بشاهدين فشهدا له كذبا فحكم القاضي بطلاقها حرمت على زوجها الاول و جاز للمدعى نكاحها و للشهود ايضا و زعم ان حكم القاضي ينفذ باطنا و ظاهرا و قد عرفت ما فيه.

ص:186

فقال الشافعي و امامك ابو حنيفة قال اذا شهد اربعة رجال على رجل بالزنا فان صدقهم سقط الحد و ان كذبهم لزم فاعتبروا أي اولي الابصار،و قال ابو حنيفة لو لاط رجل بصبي و يوقبه(لم يمني)فلا حدّ عليه يعزّر،و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول من عمل عمل قوم لوط اقتلوا الفاعل و المفعول.

و قال ابو حنيفة ان من لف على ذكره و زنى بأمه و بنته جاز و قال ابو حنيفة لو غصب احد حنطة من مسلم فطحنها ملكها،فلو اراد صاحب الحنطة ان يأخذ حنطة و يعطي الغاصب الاجرة لم يجب على الغاصب اجابته و له منعه فلو قاتله فقتل صاحب الحنطة كان دمه هدرا، و لو قتل الغاصب قتل صاحب الحنطة به،و قال ابو حنيفة لو سرق سارق الف دينار و سرق الفا أخرى من آخر و مزجهما ملك الجميع و لزمه البدل و قال ابو حنيفة لو قتل المسلم التقي العالم كافرا قتل المسلم به و اللّه تعالى يقول في محكم كتابه و لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا،و قال ابو حنيفة لو قتل حر عبدا قيمته عشرة دراهم قتل الحر به،و اللّه تعالى يقول الحر بالحر و العبد بالعبد و الانثى بالانثى.

و قال ابو حنيفة لو اشترى احد امه و اختها و نكحهما لم يكن عليه حد و ان علم و تعمد و قد قال اللّه تبارك و تعالى و ان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف و قال ابو حنيفة لو عقد على امه او اخته عالما بانها امه او اخته و ادخل بها لم يكن عليه حد لان العقد شبهة،و قال لو نام رجل على طرف حوض من نبيذ فانقلب في نومه و وقع في الحوض ارتفعت جنابته و طهر،و قال ابو حنيفة لا تجب النية في الوضوء و لا في الغسل و في الصحيح انما الاعمال بالنيات،و قال لا تجب البسملة في الفاتحة و اخرجها عنها مع ان الخلفاء كتبوها في المصاحف بعد تجويد القرآن.

و قال لو سلخ جلد الكلب الميت و دبغ طهر و حل له شراب الماء و لبسه في الصلوة و هذا مخالف لنص تنجيسه المقتضى لتحريم الانتفاع به،بل يا حنفي في مذهبك انه يجوز للمسلم اذا اراد الصلوة ان يتوضأ بنبيذ و يلبس جلد كلب مدبوغ و يفرش تحته مثل ذلك و يسجد على عدرة يابسة و يكبر بالهندية و يقرأ بالعبرانية او الفارسية و يقول بعد الفاتحة(دو برك سبز)يعني مدها متان ثم يركع و لا يرفع رأسه ثم يسجد و يفصل بين السجدتين بمثل حد السيف و قبل التسليم يتعمد خروج الريح،فان صلاته صحيحة و ان اخرج الريح ناسيا بطلت صلاته،فاعتبروا يا اولي الابصار،أ يجوز لنبي ان يأمر امته بمثل هذه الصلوة فافحم الحنفي و امتلأ غيظا.

و قال يا شافعي اقصر فض اللّه فاك و اين انت و الاخذ على ابي حنيفة اين مذهبك من مذهبه فانما مذهبك بمذهب المجوس اليق لان في مذهبك انه يجوز للرجل ان ينكح ابنته من الزنا بل يجمع بين اختيه من الزنا و كذا عمته و خالته و اللّه تعالى يقول حرمت عليكم امهاتكم

ص:187

و بناتكم و اخواتكم و عماتكم و خالاتكم و بنات الاخ و بنات الاخت و امهاتكم اللاتي ارضعنكم و اخواتكم من الرضاعة و امهاتكم نسائكم و ربائكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم و حلائل ابنائكم الذين من اصلابكم و ان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف و هذه صفات حقيقية لا تتغير بتغير الشرائع و الاديان و لا تظننّ يا شافعي يا احمق ان منعهم من التوريث يخرجهم من الصفات الذاتية و لذلك يضاف فيقال بنته و اخته من الزنا.

قال يوحنا فانظروا يا اولي الابصار هل هذا الا مذهب المجوس و يا شافعي اما امامك فأباح للناس لعب الشطرنج مع ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لاعب النرد و الشطرنج كعابد الوثن،و امامك الشافعي اباح الرقص و الدف و القصب،قال يوحنا فطال بينهما الجدال فاحتمى الحنبلي للشافعي و احتمى المالكي للحنفي و وقع المالكي و الحنبلي،و كان مما وقع بينهما ان قال الحنبلي للمالكي ان مالكا ابدع في الدين بدعا اهلك اللّه تعالى عليها امما،و هو اباحها و اباح وطؤ المملوك و قد صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من لاط بغلام فاقتلوا الفاعل و المفعول و مالك يقول في المنظومة

و جايز نيك الغلام الامرد و جوّزوا للرجل المجرد

هذا اذا كان وحيدا في السفر و لم يجد انثى تفي الا الذكر

و انا رأيت مالكيا ادعى عند القاضي على آخر انه باعه مملوكا و المملوك لا يمكنه من و طيه،فاثبت القاضي انه عيب في المملوك له رده به،و ايضا امامك اباح لحم الكلب فرجع المالكي عليه و صاح به،و قال اسكت يا مجسم يا حلولي مذهبك اولى بالقبح لان عند امامك احمد بن حنبل ان اللّه تبارك و تعالى جسم يجلس على العرش و يفضل عن العرض بأربع اصابع،و انه ينزل كل ليلة جمعة من سماء الدنيا على سطوح المساجد في صورة امرد قطط الشعر له نعلان شراكهما من اللؤلؤ الرطب على حمار له ذوائب و علماء الحنابلة يبنون على سطوح المساجد معالف و يضعون فيها تبنا و شعيرا ليأكله منه حمار اللّه تعالى.

و من المشهور انه في ليلة جمعة صعد احد زهاد الحنبلية سطح مسجد الجامع يرتجي ان ينزل اللّه تعالى و اتفق انه كان على سطح الجامع غلام نفاط و كان قطط الشعر فلما وقع بصر الشيخ عليه ظنه ربه فوقع على قدميه يقبلهما و يقول سيدي ارحمني و لا تعذبني و يشتكي و يتضرع فبهت الغلام و ظنّ انه يريد منه فعلا قبيحا،فصاح بالناس و قال هذا الرجل يريد ان يفسق بي في سطح المسجد و أتى اليه جماعة النفاطين فأوجعوه ضربا و مضوا به الى الحاكم فحبسه الى الغد لينظر في حاله فسمع في ذلك علماء الحنابلة فأتوا الى الحاكم و اقسموا باللّه ان

ص:188

هذا الرجل مما لا يظن فيه هذا الامر و انما ظنّ انه ربه فاراد ان يقبّل قدميه فقبّح اللّه مذهبك يا حنبلي،فرع الحنبلي و الحنفي و المالكي و الشافعي رؤوسهم و علت اصواتهم و اظهروا قبائحهم حتى سأم كل من حضر من كلامهم فعاب العامة عليهم.

قال يوحنا فقلت لهم على رسلكم و اللّه اني نفرت من اعتقادكم فان كان الاسلام هذا فيا ويلاه و وا سواتاه،لكني اقسم عليكم باللّه الذي لا اله الا هو ان تقطعوا هذا البحث و تذهبوا فان القوم قد انكروا عليكم و قاموا و تفرقوا و بقوا اسبوعا لا يخرجون من بيوتهم و اذا خرجوا انكر الناس عليهم ثم اصطلحوا و اجتمعوا في المستنصرية فجلست اليهم و خاوضتهم و قلت لهم كنت اريد عالما من علماء الرافضة لتناظروه في مذهبه فهل يمكنكم ان تأتوني احدا منه؟فقال العلماء يا يوحنا الرافضة شرذمة قليلة و لا يستطيعون المناظرة بين المسلمين لقلتهم و كثرة مخالفيهم و لا يتظاهرون فضلا عن ان يستطيعوا المحاجة على مذهبهم فهم الاقلون عددا الارذلون قدرا.

قال يوحنا اما قولم انهم الاقلون و مخالفيهم الاكثرون فهذا مدح لهم لان اللّه تبارك و تعالى مدح القليل و ذم الكثير بقوله و قليل من عبادي الشكور،و ما آمن معه الا قليل و لا تجد اكثرهم شاكرين،و لكن اكثر الناس لا يعلمون.

قال العلماء يا يوحنا حالهم اعظم من ان يوصف لانا لو علمنا بأحد منهم فلا نزال نتربص بهم الدوائر حتى نقتلهم لانهم عندنا كفرة يحل علينا دمائهم و اموالهم فقال يوحنا اللّه اكبر هذا امر عظيم أ فتراهم بما استحقوا هذا أهم ينكرون الشهادتين قالوا لا،قال أهم لا يتوجهون الى قبلة الاسلام؟قالوا:بلى،قال أفهم ينكرون شيئا من الاحكام قالوا لا،قال يوحنا يا للّه العجب قوم يشهدون الشهادتين و يقرون بالاحكام كيف تحل دماءهم و اموالهم و النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول امرت ان أقاتل الناس حتى يقولون لا اله الا اللّه و اني رسول اللّه فاذا قالوها عصموا بها دماءهم و اموالهم الا بحق و حسابهم على اللّه قال العلماء يا يوحنا انهم ابدعوا في الدين فمنها انهم يدعون ان افضل الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علي بن ابي طالب و يفضلونه على الخلفاء الثلاثة و الصدر الاول من الامة اجتمعوا على ان فضل الخلفاء كترتيبهم.

قال يوحنا أ فتراكم اذا قال احد علي بن ابي طالب خير من ابي بكر تكفرونه قالوا نعم لانه خلاف الاجماع.

قال يوحنا فما تقولون في محدثكم الحافظ ابي نعيم؟قال العلماء انه مقبول الرواية صحيح النقل،قال يوحنا هذا كتابه المسمى بكتاب الثاقب روى فيه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال علي خير البشر من ابى فقد كفر،و قال ايضا علي خير هذه الامة بعد نبيها،و لا يشك في ذلك

ص:189

الا منافق،و في ذلك الكتاب ايضا انه قال علي خير من اخلفه بعدي و روى احمد بن حنبل في مسنده ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لفاطمة او ما ترضين اني زوجتك اقدم امتي سلما و اكثرهم علما و اعظمهم حلما و فيه ايضا انه قال اللهم ايتني بأحب خلقك اليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي بن ابي طالب.

قال يوحنا فيا امة الاسلام لا تقولوا هذا اذ من الجايز ان يكون هذا المدح لهم في زمنه صلّى اللّه عليه و آله و بعده حصل لبعضكم الارتداد فان امامكم و محدثكم الحميدي روى في الجمع بين الصحيحين في المتفق عليه انه صلّى اللّه عليه و آله قال سيؤتى برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب اصحابي اصحابي فيقال لي انك لا تدري ما احدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم عليه السّلام و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت انت الرقيب عليهم و انت على كل شيء شهيد ان تعذبهم فانهم عبادك و ان تغفر لهم فانك انت الغفور الرحيم قال فيقال لي انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقهم.

قال العلماء يا يوحنا هذا الذي ذكرته يدل على ارتداد بعض الصحابة لا انه يدل على ان ذلك البعض هو ابو بكر و عمر و اتباعهم و ما ندري ما الذي جرأهم على ذلك و من اين جاز لهم ذلك، قال يوحنا جرأهم على ذلك ائمتكم و علماؤكم كالبخاري و مسلم فانهم رووا انه لما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارسلت فاطمة عليها السّلام الى ابي بكر تسأله ميراثها من ابيها من فدك و ما بقى من خمس خيبر،فأبى ابو بكر ان يرد عليها شيئا فوجدت فاطمة على ابي بكر وجدا شديدا و هجرته و لم تكلم حتى ماتت و هي غضبانة عليه،و رووا ائمتكم ايضا في الجمع بين الصحيحين ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فال فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها و أخ الرافضة هذان الحديثان و ركبوا منه مقدمتين و هما ابو بكر آذى فاطمة و من آذى فاطمة آذى رسول اللّه و قال اللّه تعالى في كتابه ان الذين يؤذون اللّه و رسوله لعنهم اللّه في الدنيا و الاخرة و لو احتج احد عليكم بهذه الجملة لم يسعكم منع مقدمة من مقدماته،ثم اطال الكلام معهم و الزمهم بالزامات كثيرة فظهر من هذا كله فساد هذه المذاهب العاطلة و الاديان الباردة الباطلة.

نور في حقية دين الامامية و انه يجب اتباعه دون غيره

اعلم انه بعد موت النبي صلّى اللّه عليه و آله قد عمّت البلية كافة المسلمين و ذلك انه تعددت آراؤهم بحسب تعدد اهوائهم و صارت الى ثلث و سبعين فرقة اصولها و الا فهي اكثر من مائتي فرقة و الذي يدل على ان مذهب الامامية هو الحق وجوه.

منها انه اخلصها من شوائب الباطل و اعظمها تنزيها للّه تعالى و انبيائه و حججه و احسنها في مسائل الاصول و الفروع و لم يلتفتوا الى القول بالرأي و القياس اما باقي المسلمين فقد ذهبوا

ص:190

الى كل مذهب اما الاشاعرة فقالوا ان مع اللّه تعالى معاني قديمة موجودة في الخارج كالقدرة و غير ذلك فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما الى ثبوت معنى هو العلم لذاته و لا عالما لذاته و لا حيا لذاته و لا مدركا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات اليها فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره تعالى اللّه عن ذلك و لا يقولون هذه الصفات ذاتية و اعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأنه(بان خ)قال ان النصارى كفروا لانهم قالوا ان القدماء ثلاثة و الاشاعرة اثبتوا قدماء تسعة.

اقول فالاشاعرة لم يعرفوا ربهم بوجه صحيح بل عرفوه بوجه غير صحيح فلا فرق بين معرفتهم هذه و بين معرفة باقي الكفار لانه ما من قوم و لا ملة الا و هم يدينون باللّه سبحانه و يثبتونه و انه الخالق سوى شرذمة شاذة و هم الدهرية القائلون و ما يهلكنا الا الدهر و اسوء الناس حالا المشركين اهل عبادة الاوثان و مع هذا فهم انما يعبدون الاصنام لتقربهم الى اللّه سبحانه زلفى كما حكاه عنهم في محكم الكتاب بطريق الحصر فتكون الاصنام وسائل لهم الى ربهم فقد عرفوا اللّه سبحانه بذا الباطل و هو كون الاصنام مقربة اليه و كذلك اليهود حيث قالوا عزير ابن اللّه و النصارى حيث قالوا المسيح بن اللّه،فهما قد عرفاه سبحانه بأنه رب ذو ولد فقد عرفاه بهذا العنوان و كذلك من قال بالجسم و الصورة و التخطيط و ذلك لما عرفت في اول الكتاب من ان الكل قد طلبوا معرفته و خاضوا بحار وحدانيته و كانت مشايق و عرة و سبلا مظلمة فمن كان له دليل عارف عرف اللّه سبحانه،و من كان دليله اعمى مثله خاض معه بحار الظلمات و ما زاده كثرة السير الا بعدا،فالاشاعرة و متابعوهم اسوء حالا في باب معرفة الصانع من المشركين و النصارى و ذلك ان من قال بالولد او الشريك لم يقل انه تعالى محتاج اليهما في ايجاد افعاله و بدائع محكماته،فمعرفتهم له سبحانه على هذا الوجه الباطل من جملة الاسباب التي تورثت خلودهم في النار مع اخوانهم الكفار و افادتهم الكلمة الاسلامية حقن الدماء و الاموال في الدنيا فقد تباينا و انفصلنا عنهم في باب الربوبية فربنا من تفرد بالقدم و الازل و ربهم من كان شركاؤه في القدم ثمانية.

و وجه آخر لهذا لا اعلم الا اني رأيته في بعض الاخبار و حاصله انا لم نجتمع معهم على اله و لا على نبي و لا على امام و ذلك انهم يقولون ان ربهم هو الذي كان محمد صلّى اللّه عليه و آله نبيه و خليفته بعده ابو بكر،و نحن لا نقول بهذا الرب و لا بذلك النبي بل نقول ان الرب الذي خليفة نبيه ابو بكر ليس ربنا و لا ذلك النبي نبينا و وجه آخر لكنه جواب عن جواز لعن المتخلفين بل هو دال على وجوب اللعن و ذلك ان الامامة كالنبوة و الالهية مركبة من ايجاب و سلب اما الاله فمن قال اللّه اله و لم ينف عنه الشركاء و الاضداد فهو ليس بموحد باجماع المسلمين و لا مسلم

ص:191

ايضا اما النبوة فمن قال ان محمدا نبي و لم ينف نبوة من ادعاها كمسيلمة و نحوه فهو ليس بمسلم ايضا،فالسلب واجب فيها كالايجاب،و اما الامامة فهي كذلك ايضا فمن قال ان عليا امام و لم ينف امامة من ادعاها و نازعه عليها و غصبها فليس بمؤمن عند اهل البيت عليهم السّلام فظهر من هذا ان البرائة من اولئك الاقوام من اعظم اركان الايمان و مخالفونا قد خالفونا في هذا ايضا و من هذا التحقيق ظهر ان المراد بالقدرية في قوله صلّى اللّه عليه و آله القدرية مجوس هذه الامة هم الاشاعرة و ذلك ان نسبتهم اليهم قوية جدا كما لا يخفى.

و منها ما نقله العلامة الحلي عن شيخه نصير الدين الطوسي قدس اللّه روحيهما قال سألته عن المذاهب فقال بحثنا عنها و عن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ستفترق امتي على ثلث و سبعين فرقة واحدة منها ناجية و الباقي في النار،و قد عيّن صلّى اللّه عليه و آله الفرقة الناجية و الهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله مثل اهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا،و من تخلف عنها غرق و هوى،فوجدنا الفرقة الناجية في الفرقة الامامية لانهم باينوا جميع المذاهب و جميع المذاهب قد اشتركوا في اصول العقائد و هذا تحقيق متين و حاصله انه لو كان الفرقة الناجية غير الامامية لكان الناجي كلهم لا فرقة واحدة و ذلك لانهم متشاركون في الاصول و العقايد الموجبة لدخول الجنة و لا يخالفهم احد سوى الامامية فانهم اشترطوا في دخول الجنة ولاية الائمة الاثنى عشر و القول بامامتهم.

و منها انهم اخذوا دينهم عن الائمة المعصومين المشهورين عند العدو و الولي بالفضل و الورع و العبادة الذين نزلت في شأنهم سورة هل أتى و آية الطهارة و ايجاب المودة لهم،و آية الابتهال و غير ذلك،فهم جازمون بصحة دينهم و نجاتهم كجزم ائمتهم عليهم السّلام و اما غيرهم من الفرق فهم و ائمتهم شاكون في النجاة و متابعة الجازم اولى من متابعة الشاك.

و منها ان الامامية لم يذهبوا الى التعصب في غير الحق بخلاف غيرهم فقد ذكر الغزالي و المتوكل و كانا امامين للشافعية ان تسطيح القبور هو المشروع لكن لما جعلته الرافضة شعارا لهم عدلنا عنه الى التسنيم و ذكر الزمخشري و كان من ائمة الحنفية في تفسير قوله تعالى هو الذي يصلي عليكم و ملائكته انه يجوز بمقتضى هذه الاية ان يصلي على آحاد المسلمين لكن لما اتخذته الرافضة في ائمتهم منعنا عن غير النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال مصنف الهداية من الحنفية المشروع التختم في اليمين لكن لما اتخذته الرافضة عادة جعلنا التختم في اليسار و امثال ذلك فانظر بعين البصيرة الى من يغيّر الشرع و يبدّل الاحكام التي ورد بها الشرع مع انهم ابتدعوا اشياء اعترفوا بأنها بدعة كقول عمر متعتان كانتا محللتين في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انا انهى عنهما و اعاقب عليهما و كخروج طلحة و الزبير بعائشة و لا نعلم بأي وجه يلقون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع ان الواحد منّا لو

ص:192

تحدّث مع امرأة غيره و اخرجها من منزله و سافر بها كان اشد الناس عداوة له و كيف اطاعها على ذلك آلاف من المسلمين.

و بالجملة فاستقصاء الاخبار الدالة على حقية مذهب الامامية و الدلائل العقلية مما يوجب تطويل الكتاب.

تذييل في تفصيل بعض الكتب السماوية.

اشارة

اما التورية فهي خمسة اسفار السفر الاول يذكر فيه بدؤ الخلق و التاريخ من آدم الى يوسف عليهما السّلام،السفر الثاني فيه استخدام المصريين لبني اسرائيل و ظهور موسى عليه السّلام و هلاك فرعون و امامة هارون،و نزول الكلمات العشر و سماع القوم كلام اللّه،السفر الثالث يذكر فيه تعليم القرابين بالاجمال،السفر الرابع يذكر فيه عدد القوم و تقسيم الارض عليهم و احوال الرسل التي بعثها موسى عليه السّلام الى الشام و اخبار المن و السلوى و الغمام،السفر الخامس يذكر فيه بعض الاحكام و وفاة هارون و خلافة يوشع عليه السّلام و الربانيون و قد بقى من الفرق الاسلامية فرقتان الصوفية و النواصب فلا بأس بعقد ظلمة في بيان احوالهما.

(ظلمة حالكة في بيان أحوال الصوفية و النواصب)

إعلم أن هذا الأسم و هو التصوف كان مستعملا في فرقة من الحكماء الزايغين عن الطريق الحق،ثم قد استعمل بعدهم في جماعة من الزنادقة؛و بعد مجيء الأسلام أستعمل في جماعة من أهل الخلاف كالحسن البصري و سفيان الثوري و أبي هاشم الكوفي و نحوهم و قد كانوا في طرف من الخلاف مع الائمة عليهم السّلام،فأن هولاء المذكورين قد عارضوا الأئمة عليهم السّلام في أعصارهم و باحثوهم و أرادوا إطفاء نور اللّه،و اللّه متم نوره و لو كره الكافرون،و الذي وجد منهم في أعصار علمائنا رضوان اللّه عليهم قد عارضهم و رد عليهم و صنف علماؤنا(ر ض) كتبا في ذمهم و الرد عليهم خصوصا شيخنا المفيد(ر ه)فأنه قد أكثر من الرد على الحسين بن منصور الحلاج و متابعيه و له قصص و حكايات مذكورة في كتب أصحابنا مثل كتاب الغيبة و الأقتصاد للشيخ الطوسي(ر ه)؛و أنهم أدعوا الألهية له و ورود التوقيع من صاحب الأمر عليه السّلام بلعنه و هو الذي كان يقول ليس في جبتي سوى اللّه و كان يمنع أصحابة من السفر الى مكة للحج،و يقول طوفوا حولي فمكة بيت اللّه و أنا اللّه؛الى غير ذلك من أباطيله؛

و قد أستمر الحال الى هذه الأعصار و ما قار بها،ثم ان جماعة من علماء الشيعة طالعوا كتبهم و أطلعوا على مذاهبهم فرأوا فيها بعض الرخص و المسامحات مثل قولهم بأن الغناء المحرم

ص:193

هو الذي يستعمل في مجالس الشرب و أهل الفسوق كما صرح به الغزالي و أضرابه،فأباحوا أفراد الغناء و أنواعة لمتابعيهم و كانوا من أهل العلم؛و الناس يميلون الى من يسهل عليهم مثل هذه الأمور التي يحصل النفس إلتذاذ؛و كتركهم التزويج و الأقبال على الغلمان الحسان؛فان كل من كان عنده غلام مقبول او ولد حسن الصورة أتى به الى شيخ الصوفية و التمس منه أن يجعله خادما عنده؛ثم لم يظهر له حاله إلا عند ما يفتك بالولد و يفسق به؛فيأخذه أبوه منه لكن بعد خراب البصرة.

و العجب من بعض الشيعة كيف مال الى هذه الطريقة مع اطلاعه على انها مخالفة لطريقة اهل البيت عليهم السّلام اعتقادا و اعمالا،اما الاعتقاد فقد قالوا بالحلول و هو ان اللّه سبحانه قد حلّ بكل مخلوقاته حتى بالقاذورات تعالى اللّه عما يقول الكافرون و قد مثلوا حلول اللّه بهذه المخلوقات بالبحر وقت اضطراب امواجه فان ماء الامواج و ان كان متعددا الا انه كله ماء واحد في بحر واحد كثرة التموّج فهي واحدة بالحقيقة متعددة بالاعتبار فالمخلوقات كلها عين اللّه سبحانه و هو عينها و التعدد انما جاء من هذه العوارض الخارجية و التشخصات العارضة للمادة.

و كان من اعظم مشايخهم عندهم الشيخ العطار و لما سمع سلطان ذلك الزمان بكفره و اغوائه المسلمين ارسل اليه جلادا يأخذ رأسه فلما أتي اليه الجلاد و اخبره بما اتى به فقال الشيخ العطار،انت ربي بأي صورة شئت فتصور فان اردت قتلي فانا هذا ثم قتله،و من ذلك اعتقادهم ان السالك اذا عبد اللّه تعالى بلغ الى مرتبة اليقين حتى لا يحتاج الى العبادة بعد لقوله تعالى فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين،و اليقين عندهم هو العلم و المعرفة باللّه سبحانه و عند اهل البيت عليهم السّلام اليقين هو الموت.

و قد حكى العلامة الحلي قدس اللّه روحه في كتاب نهج الحق قال شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين عليه السّلام و قد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا و لم يصل ثم صلّوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص،فسألت بعضهم عن ترك ذلك الشخص لصلوته فقال و ما حاجة هذا الى الصلوة وثد وصل أ يجوز ان يجعل بينه و بين اللّه تعالى حاجبا؟فقلت لا فقال الصوة حاجب بين العبد و الرب،و فرّعوا على هذا الاصل جواز ان يكون بعض السالكين منهم أعلى درجة و افضل مرتبة من مراتب الانبياء و الائمة عليهم السّلام و ذلك ان السالك بزعمهم اذا فاق عبادة الانبياء فاق درجاتهم.

و قد وقع مثل هذا التجاوز لمراتب الانبياء لكثير من مشايخ الصوفية بزعمهم،و هذا الفرع منبي على ذلك الاصل،و هذا وهم باطل اذ لو استغنى عنها احد لاستغنى عنها سيد

ص:194

المرسلين و اشرف الواصلين و قد كان صلّى اللّه عليه و آله يقوم في الصلوة الى ان ورمت قدماه،و قد كان امير المؤمنين عليه السّلام الذي تنتهي اليه سلسلة اهل العرفان يصلي كل ليلة الف ركعة الى آخر عمره الشريف و كذا شأن جميع الاولياء و العارفين كما هو في التواريخ مسطور و على الالسنة مشهور.

و من اعتقاداتهم و اعمالهم الفاسدة انهم تركوا العبادات المأثورة عن اهل البيت عليهم السّلام و دوّنها الشيعة في كتبهم و اقبلوا على اختراع عبادات و اذكار لم تذكر في الشريعة و ليس هذا الا لقصد الخلاف على علماء اهل البيت حتى يكونوا في طرف النقيض فلا يقال لهم انهم مقلدوا العلماء فيزدادون بذلك اعتبارا من عوام الناس و غثائهم و ما علموا ان اللّه سبحانه لا يقبل من العبادات الا ما ارسل به حججه و قال على السنتهم و الا فقد عرفت سابقا ان الشيطان لم يتكبر على السجود للّه تعالى لكنه قال انا اسجد لك يا رب و لا اسج لادم و ذلك ان اللّه سبحانه يحب ان يطاع من حيث امر كما قال و اتوا البيوت من ابوابها.

و قد كان في زماننا رجل من الصوفية و يزعم انه من علماء الشيعة،كان يخطب اصحابه يوما فقال و هو على المنبر اني كتبت الاصول الاربعة يعني الكليني و التهذيب و الاستبصار و الفقيه و قرأتها و صححتها و لما رأيتها عديمة الفائدة بعتها بدرهم واحد و رميت ذلك الدرهم في الماء فانظر الى ايمان هذا الرجل عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس اجمعين و قد كان مع اصحابه في حضرة مولانا الرضا عليه السّلام مشغولين بذكرهم الجلي و هو ما اشتمل على الغناء و الرقص و الترنم و الوجد فهوى بعضهم على محجّر القبر الشريف فشجّ رأسه و سال دمه و بلغ الى المحجر فاحتال الخدمة في ازالة ذلك الدم،فقال شيخ الصوفية لا تحتالوا بهذه الحيل لازالة هذا الدم فان هذا من دم العشاق و دم العشاق طاهر،ثم لما لم يسمع الناس هذا منه موّه عليهم كلاما آخر و قال ان الشمس ذكروا انها من المطهرات فكيف لا يكون شمس الرضاه مطهرة لهذا الدم فقبل هذا الكلام منه بعض البهائم من اتباعه ثم بعد زمان قليل خذله اللّه سبحانه و سقط عن درجته و اعتباره و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

و رأيت في شيراز رجلا صوفيا و كان صاحب ذكر و حلقة و اتباع و كان كل ليلة جمعة يأتي الى قبة السيد الاجل السيد احمد بن الامام موسى الكاظم (1)عليه السّلام فيضع الذكر المعهود و قد كان غربا لم يتزوج نعم كان عنده ولد مقبول من اولاد شيراز و كان ذلك الرجل صاحب تحصيل لحطام الدنيا و كل ما يحصل في نهاره يعطيه ذلك الولد و يبقى لنفسه شيئا يسع قوت الشعير و كان اذا خرج من البلاد ثم دخل اليها يسئله بعض خواصه اين كنت؟فيقول كنت

ص:195


1- (1) هو احمد بن موسى المعروف عند الفرس(شاه جراغ)له قبة بشيراز.

ازرع الادميين،و قد استمر على هذا الحال برهة من الزمان فظهر عليه و على اصحابه انهم ارادوا الخروج و ادعى واحد منهم انه الرب و آخر انه النبي و ثالث انه الامام الى غير ذلك، فأخذهم حاكم تلك البلاد و امر بقتلهم و كنت من الحاضرين ذلك الوقت فلما آتوا بشيخهم الى الميدان ليقتلوه كانت اخته فوق سطح جدار تنظر الى ما يصنع بأخيها و تضحك فقيل لها لم تضحكين؟فقالت ان اخي هذا رجل شايب فاذا قتلوه يجيء بعد اربعين يوما بصورة شاب حسن الوجه قوي البدن فظهر انهم كانوا قائلين بالتناسخ ايضا.

و قد رأينا منهم في شيراز وقائع غريبة و اطوار عجيبة لا توافق الا مذاهب الملاحدة و الزنادقة و قد كان صاحب الكشاف شديد الانكار على الصوفية و قد اكثر في الكشاف من التشنيع عليهم في مواضع عديدة و قال في قوله تعالى قل ان كنتم تحبون اللّه الاية و اذا رأيت من يذكر محبة اللّه و يصفق بيديه مع ذكرها و يطرب و ينعر و يصعق فلا تشك في انه لا يعرف اللّه و لا يدري ما محبة اللّه و ما تصفيقه و طربه و نعيره و صعقته الا تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستجلبة (خ)معشقة)فسماها اللّه بجهله و دعا الى ربه ثم صفق و طرب و نعر و صعق على تصورها و ربما رأيت المني قد ملأ ازار ذلك المحب عند صعقته و حمقاء العامة حواليه قد ملأوا اردانهم بالدموع لما رقتهم من حاله.

و من ذلك الاعتقاد ان افضلهم الغزالي و قد ادعى في احيائه انه من اهل الكشف و انه قد انكشف له فضل ابي بكر على امير المؤمنين عليه السّلام و ادعى انه انكشف له ايضا عدم جواز سبّ يزيد لانه رجل مسلم و لو كان قاتلا الحسين عليه السّلام لم يجز سبّه ايضا لان غاية هذا انه فعل كبيرة و ذلك لا يجوز سبّه.

و انكشف له بطلان مذهب الامامية بعد ان ترك التدريس و انقطع في دمشق و مكة المشرفة نحوا من عشرين سنة ملازما للخلوة في آخر عمره و صنّف كتابا سماه المنقذ من الضلال يتضمن الرد على من يدعي العصمة و ابطال مذهبهم و سمّاهم اهل التعليم و ضرب لهم مثلا بأخذهم عن المعصوم بمن تلوث بجميع النجاسات ثم طلب ماء يستطهر(يتطهر خ)منها و سعى في طلب ذلك الماء فلم يجد ماء يطهره و يزيل عنه الاخباث فبقى مرتكشا في النجاسات طول عمره.

و تكرر منه في الاحياء و غيره قالت الروافض خذلهم اللّه و قال فيه انه لو جاء الينا رافضي و ادعى ان له طلب دم عند احد قلنا له ان دمك هدر لان استيفائه مشروط بحضور امامك فاحضره حتى يستوفي لك،و قد تقدم الجواب عن هذا و قد صرّح في كتابه المنقذ انه كان يستفيد من الانبياء و الملائكة مع مشاهدتهم على وجه القطع كلما يريد نعم ربما نسب اليه كتاب يسمى

ص:196

سرّ العالمين فيه مقالة يظهر منها ميله الى الحق و نطقه به ليكون حجة عليه و بعضهم انكر كون الكتاب له او ان المقالة ملحقة بالكتاب.

و اما اشليخ محي الدين الاعرابي و هو من اعاظم اجلائهم فقد حكى في فتوحاته انه اسرى به الى السماء مرارا متعددة و الظاهر انه قال انها تسع و ذكر هناك انه رأى ابا بكر الصديق لما بلغ الى العرش و قد كان رآى في كل سماء واحدا من الانبياء فكان درجته و درجة ابا بكر اعلى من درجات اولي العزم و ادعى في اول فصوص الحكم انه من املاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امره له بعين ما كتب و سمى نفسه خاتم الولاية لمنام رآه و غير ذلك من المكاشفات.

و العجب العجيب انهم كيف يصدقون بدعوى الكشف مع اختلاف آرائهم و مذاهبهم فمنهم الملحد و منهم السني و منهم الشيعي الى غير ذلك فاذا كانت هذه المكاشفات كلها صحيحة صحّت مذاهب الفرق فلا يكون الناجي فرقة واحدة بل جميع هذه الفرق ما هذا الا سفه و جنون.

و اما الاعمال و مخالفتهم بها فمن جملته ترك التزويج و من جملتها عبادات مبتدعة و اذكار مخترعة و من جملتها جلوسهم في بيت مظلم اربعين يوما لا يأكلون الا القليل من الغذا و يرتاضون في تلك المدة غاية الرياضة و يحرمون على انفسهم محللات الشرع و يقولون هذا لاجل صفاء القلب و من هذا زعموا انهم لقبوا بالصوفية لاشتقاقه من صفاء القلب و قد وهموا في هذا الاشتقاق.

و الصحيح انهم لقبوا به لانهم يلبسون الصوف كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى في الاخبار الواردة في ذمهم و الطعن عليهم،و من ذلك تركهم لطلب العلم و اقبالهم على تلك الرياضيات زعما منهم ان معرفة اللّه من جهة طلب العلم كسيئة و من تلك الرياضيات الهامية و من هنا سلك مذهب التصوف عوام الناس و صار الصوفي من غير ثيابه و لبس ثياب الصوف او كشف رأسه شتاء و صيفا كما هو عادة بعض الصوفية و الا فهم بمعزل عن العلم حتى عن معرفة قواعد التصوف.

روى شيخنا الكليني في كاب المعيشة من الكافي باسناده الى مسعدة بن صدقة قال دخل سفيان الثوري على ابي عبد اللّه عليه السّلام فرآى عليه ثيابا بيضا كأنها عرقى البيض فقال ان هذا اللباس ليس من لباسك فقال له اسمع مني و ع،ما اقول لك فانه خير لك عاجلا و آجلا ان انت متّ على السنة و الحق و لم تمت على بدعة اخبرني ابي ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان في زمن قفر جدب فاما اذا اقبلت الدنيا فاحق اهلها بها ابرارها لا فجارها و مؤمنوها لا منافقوها و مسلموها لا كفارها فما انكرت يا ثوري فو اللّه انني لمع ما ترى ما انى عليّ مد عقلت صباح و لا مساء

ص:197

و للّه في مالي حق امرني ان اضعه موضعا الا وضعته قال و أتاه قوم ممن يظهرون الزهد و يدعون الناس ان يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف فقالوا له ان صاحبنا حصر عن كلامك و لم تحضره حججه قال فقال لهم فهاتوا حججكم فقالوا ان حججنا من كتاب اللّه فقال لهم فادلوا بها احق ما اتبع و عمل به فقالوا يقول اللّه تعالى مخبرا عن قوم من اصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و يؤثرون على انفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شحّ نفسه فاولئك هم المفلحون فمدح فعلهم و قال في موضع آخر و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و اسيرا فنحن نكتفي بهذا.

فقال رجل من الجلساء اذا رأيناكم تزهدون في الاطعمة الطيبة و مع ذلك تأمرون الناس بالخروج من اموالهم حتى تتمتعوا انتم منها فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام دعوا عنكم ما لا ينتفع به اخبروني ايها النفر الكم علم بناسخ القرآن و منسوخه و محكمه من متشابهه الذي في مثله ضلّ من ضلّ و هلك من هلك من هذه الامة؟فقالوا له او بعضه(ببعضه ظ)فاما كله فلا.

فقال لهم فمن هيهنا اتيتم و كذلك احاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأما ما ذكرتم من اخبار اللّه تعالى ايانا في كتابه عن القوم الذين اخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كان مباحا جايزا و لم يكونوا نهوا عنه و ثوابهم منه على اللّه تعالى و ذلك ان اللّه تعالى امر بخلاف ما عملوا به فصار امره ناسخا لفعلهم و كان نهى اللّه رحمة للمؤمنين و نظرا لكيلا يضروا بأنفسهم و عيالاتهم منهم الضعفة الصغار و الولدان و الشيخ الفاني و العجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع فان تصدقت برغيفي و لا رغيف لي غيره ضعوا و هلكوا جوعا فمن ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمس تمرات او خمس قرص او دنانير او دراهم يملكها الانسان و هو يريد ان ينفقها فأفضلها ما انفقه الانسان على والديه ثم الثانية على نفسه و عياله ثم الثالثة على قرابته الفقراء ثم الرابعة على جيرانه الفقراء ثم الخامسة في سبيل اللّه و هو اخسها اجرا.

و يقول صلّى اللّه عليه و آله للانصارى حين اعتق عند موته خمسة او ستة من الرقيق و لم يملك غيرهم و له اولاد صغار لو اعلمتموني في امره ما تركتكم تدفنوه مع المسلمين يعول صبية صغارا يتكففون الناس ثم قال حدثني ابي ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال إبدأ بمن تعول الادنى فالادنى ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم قال و الذين اذا انفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما أ فلا ترون ان اللّه تعالى قال غير ما أراكم تدعون الناس اليه من الاثرة على انفسهم و سمّى من فعل ما تدعون الناس اليه مسرفا و في غير آية من كتاب اللّه يقول انه لا يحب المسرفين،فنهاهم عن الاسراف و نهاهم عن التقتير لكن امر بين امرين لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو اللّه ان يرزقه فلا يستجيب له.

ص:198

للحديث الذي جاء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان اصنافا من امتي لا يستجاب لهم دعاؤهم رجل يدعو على والديه و رجل يدعو على غريم ثم ذهب له بمال فلم يكتب له و لم يشهد عليه، و رجل يدعو على امرأته و قد جعل اللّه تعالى تخلية سبيلها بيده،و رجل يقعد في بيته و يقول رب ارزقني و لا يخرج في طلب الرزق فيقول اللّه تعالى له عبدي أ لم اجعل لك السبيل الى الطلب و التصرف في الارض بجوارح صحيحة فتكون قد اعذرت فيما بيني و بينك في الطلب لاتباع امري و لكيلا تكون كلا على اهلك فان شئت رزقتك و ان شئت قترت عليك و انت غير معذور عندي و رجل رزقه اللّه تعالى مالا كثيرا فانفقه ثم اقبل يدعو يا رب ارزقني فيقول اللّه تعالى الم ارزقك رزقا واسعا فهلا اقتصدت فيه كما امرتك و لم تسرف و قد نهيتك عن الاسراف و رجل يدعو في قطيعة رحم.

ثم علّم اللّه تعالى اسمه نبيه صلّى اللّه عليه و آله كيف ينفق و ذلك انه كانت عنده اوقية من الذهب فكره ان تبيت عنده فصدّق بها،فاصبح و ليس عنده شيء و جاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل و اغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه و كان رحيما رقيقا صلّى اللّه عليه و آله فأدّب اللّه تعالى نبيه فقال و لا تجعل يدك مغلولة الى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا،يقول ان الناس قد يسألونك و لا يعذرونك فاذا اعطيت جميع ما عندك من المال قد خسرت من المال فهذه احاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصدقها الكتاب و الكتاب يصدقه اهله من المؤمنين.

ثم قد علمتم فضل سلمان و أبي ذر و زهدهما فأما سلمان فكان اذا اخذ عطائه رفع منه قوت سنة حتى يحضر عطائه من قابل و قيل له يا ابا عبد اللّه أنت في زهدك تصنع هذا و انت لا تدري لعلك تموت اليوم او غدا،فكان جوابه ان قال ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم الفنا،اما علمتم يا جهلة ان النفس قد تلتاث على صاحبها اذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فاذا هي احرزت معيشتها اطمأنت.

و اما ابو ذر رضي اللّه عنه فكانت له نويقات و شويهات يحلبها و يذبح منها اذا اشتهى اهله اللحم او نزل به ضيف او رآى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور او من الشاة على قدر ما يذهب عنهم يقوّم اللحم فيقسمه بينهم و يأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم و من ازهد من هؤلاء؟و قد قال فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما قال و لم يبلغ من امرهما ان صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بالقاء امتعتهم و شيئهم و يؤثرون به على انفسهم و عيالاتهم.

اعلموا ايها النفر انه سمعت ابي يروي عن آبائه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال يوما ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن انه ان قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له و ان ملك

ص:199

ما بين مشارق الارض و مغاربها كان خيرا له و كلما يصنع اللّه تعالى به فهو خير له،فليت شعري هل يحيق بكم ما قد شرحت لكم منذ اليوم ام ازيدكم اما علمتم ان اللّه تعالى فرض على المؤمنين في اول الامر ان يقاتل الرجل منهم عشرة من المشرمين ليس له ان يولي وجهه عنهم من ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار،ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه ان يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من اللّه تعالى للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة و اخبروني ايضا عن القضاة اجورة هم حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته اذا قال اني زاهد و اني لا شيء لي فان قلتم جور ظلمكم اهل الاسلام و ان قلتم بل عدل خصمتم انفسكم.

اخبروني لو كان الناس كلهم كالذين تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم فعلى من كان يتصدق بكفارات الايمان و النذور و الصدقات من فرض الزكوة من الذهب و الفضة و التمر و الزبيب و ساير ما وجب فيه الزكوة من الابل و البقر و الغنم و غير ذلك و لو كان الامر كما تقولون لا ينبغي لاحد ان يحبس شيئا من عرض الدنيا الا قدمه و ان كان بهم خصاصة فبئس ما ذهبتم فيه و حملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه و سنّة نبيه صلّى اللّه عليه و آله و احاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل و ردّكم اياها بجهالتهم و ترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و الامر و النهي.

و اخبروني اين انتم عن سليمان بن داود حين سأل اللّه تعالى ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأعطاه اللّه ذلك و كان يقول الحق و يعمل به ثم لم نجد اللّه تعالى عاب عليه ذلك و لا احدا من المؤمنين و داود النبي عليه السّلام قبله في ملكه و شدّة سلطانه ثم يوسف النبي عليه السّلام حيث قال لملك مصر اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم فكان من امره الذي كان ان اختار مملكة الملك و ما حولها الى اليمن و اكنوا يمتارون الطعام من عنده لجماعة اصابتهم و كان يقول الحق و يعمل به فلم نجد احدا عاب ذلك عليه ثم ذو القرنين عبد احب اللّه فأحبه اللّه طوى له الاسباب و ملّكه مشارق الارض و مغاربها و كان يقول الحق و يعمل به ثم لم نجد احدا عاب ذلك عليه فتأدبوا ايها النفر بآداب اللّه تعالى للمؤمنين اقتصروا على امر اللّه و نهيه و دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به وردوا العلم الى اهله توجروا و تعذروا عند اللّه تعالى، و كونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه و محكمه من متشابهه و ما احل اللّه فيه مما حرم فانه اقرب لكم من اللّه و ابعد لكم من الجهل و دعوا الجهالة لاهلها فان اهل الجهل كثير و اهل العلم قليل و قد قال اللّه تعالى و فوق كل ذي علم عليم.

ص:200

و في حديث آخر انهم لما دخلوا عليه و سفيان الثوري لابس الصوف الخشن و الصادق عليه السّلام لابس الثياب الرقاق،فقال له سفيان ان جدك امير المؤمنين كان يلبس ما خشن من الثياب فلم لا تقتدي به؟فقال له الصادق عليه السّلام ان علي بن ابي طالب عليه السّلام كان في زمان ضيق و لم تتسع الدنيا على المسلمين كاتساعها في هذا الوقت و نحن قوم اذا وسع اللّه علينا وسعنا على انفسنا و اذا ضيق اللّه علينا ضيقنا على انفسنا و ان اللّه تعالى انما خلق الدنيا و ما فيها من الملاذ للمؤمن لا للكافر لانه لا قدر له عنده و لو كان علي عليه السّلام في هذا العصر لما وسعه الا ان يسلك مثل ما سلك اهله لئلا يقال له انه مراء و لئلا يشهر(يشتهر خ)بثيابه و مآكله مع ان امير المؤمنين عليه السّلام كان واليا و ينبغي لوالي المسلمين ان يكون في المعايش كواحد من فقراء المسلمين و قد قيل له يا امير المؤمنين انك تبيت جايعا و لك الملك؟فقال اخاف ان اشبع و واحد في اليمامة يبيت جايعا و حتى يسهل الفقر على اهله اذا نظروا الى الوالي مع ما هو عليه و اما انا فلست بوال و الملك قد غضب منا فلو كنت واليا لاقتديت به.

ثم قال عليه السّلام لسفيان الثوري ادن مني فدنا منه فمد عليه السّلام يده الى تحت ثياب سفيان فأخرج ثوبا حريرا كان سفيان لابسه تحت ثيابه الصوف لرفاهية بدنه و الثياب الصوف فوقه لخدع الناس،ثم اخذ عليه السّلام يد سفيان فقال انظر يا سفيان ما تحت ثيابي هذه الرقاق؟فنظر فاذا هو عليه السّلام ثوبا خشنا،فقال يا سفيان هذا تواضعا للّه و هذه الثياب الرقاق اظهارا لنعمة اللّه الى نحو ذلك من المعارضات كما روى انه رئيسهم و هو الحسن البصري كان مع امير المؤمنين عليه السّلام على شط الفرات فملأ قدحا من الماء و شرب منه و صبّ باقيه خارج الماء فقال له امير المؤمنين عليه السّلام قد اسرفت في ماء الفرات حيث لم تصب الماء فعارضه و قال انت اهرقت دماء المسلمين و لم تسرف فكيف اسرفت انا في هذا الماء.

فقال علي عليه السّلام اذا عرفت اني اسرفت في اراقة تلك الدماء فلم لا خرجت معهم الى جهادي؟فقال البصري اني لبست سلاحي و خرجت لمعونة اهل الشام،فلما خرجت من المنزل سمعت هاتفا يقول القاتل و المقتول في النار فرجعت،فقال عليه السّلام صدقت ذاك اخوك الشيطان.

و من جملة اعمالهم الفاسدة الذكر الذي يسمونه ذكرا و هو مشتمل على محرمات كثيرى و لقد احسن شيخنا الكاشي ادام اللّه ايامه حيث قال و منهم قوم يسمون بأهل الذكر و التصوف يدعون البرائة من التصنع و التكلف يلبسون خرقا و يجلسون حلقا يخترعون الاذكار و يتغنون بالاشعار يعلنون بالتهليل و ليس لهم الى العلم و المعرفة سبيل ابتدعوا شهيقا و نهيقا و اخترعوا رقصا و تصفيقا قد خاضوا في الفتن و اخذوا بالبدع دون السنن رفعوا اصواتهم بالنداء و صاحوا صيحة الشقاء أمن الضرب يتألمون ام من الطعن يتظلمون ام مع اكفائهم يتكلمون؟ان اللّه لا

ص:201

يسمع بالمساخ فاقصروا من الصراخ أ تنادون باعدا ام توقظون راقدا،تعالى اللّه لا تأخذه سنة و لا تحيط به الالسنة سبحوه تسبيح الحيتان في البحر و ادعوا ربكم تضرعا و خيفة و دون الجهر انه ليس منكم ببعيد بل هو اقرب اليكم من حبل الوريد.

و اما الداعي لهم اختراع هذا المذهب و شهرته فأمور الاول ما نقل ان خلفاء بني امية و بني العباس كانوا يحبون ان يحصلوا رجالا من اهل العبادة و الزهادة و التكلم ببعض المغيبات و ان لم يقع لاجل عارضات الائمة الطاهرين و علمهم و زهدهم و كمالاتهم حتى يصغروا في اعين الناس اهل البيت و اطوارهم فلم يجدوا احدا يقدم على هذا سوى هذه الفرقة الضالة، فمن هذا مال اليهم سلاطين الجور و بنوا لهم البقاع و حملوا اليهم الاموال و طالبوا منهم الدعاء في مطالب دنياهم و قاسوهم بأهل البيت عليهم السّلام و اين الثريا من يد التناول.

الثاني سهولة هذا المسلك و صعوبة طريق العلم فان العامي منهم قد يجلس في بيت ضيق مظلم اربعين يوما و ربما تراآى له اخوانه من الجن و الشياطين فاذا خرج صار من رؤسائهم و حصّل درجة العالم التي يحصلها في خمسين سنة و اكثر بل ربما كان اعتبار هذا بين رعاع الناس ازيد من اعتبار ذلك العالم الثال ان هذا المذهب شرك (1)لصيد الاولاد و جمع الاموال و الجاه و الاعتبار و نحو ذلك.

و اما الاخبار الواردة في ذمهم فهو كثيرة جدا منها ما رواه البزنطي في الصحيح عن الرضا عليه السّلام قال من ذكر عنده الصوفية و لم ينكرهم بلسانه او قلبه فليس منا و من انكرهم فكأنما جاهد الكفار بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في الصحيح ايضا عن البزنطي قال قال رجل للصادق عليه السّلام قد ظهر في هذا الزمان قوم يقال لهم الصوفية فما تقول فيهم؟فقال عليه السّلام انهم اعدائنا،فمن مال اليهم فهو منهم و يحشر معهم و سيكون اقوام يدّعون حبنا و يميلون اليهم و يتشبهون بهم و يلقبون انفسهم يأولون اقوالهم،الا فمن مال اليهم فليس منّا و انّا منهم براء و من انكرهم و ردّ عليهم كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و روى مسندا عن العسكري عليه السّلام انه خاطب ابا هاشم الجعفري فقال يا ابا هاشم سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة و قلوبهم مظلمة منكدرة السنّة فيهم بدعة و البدعة فيهم السنّة المؤمن بينهم محقّر و الفاسق بينهم موقّر امراؤهم جاهلون جائرون و علماؤهم في ابواب الظلمة سائرون اغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء و اصاغرهم يتقدمون على الكبراء كل جاهل عندهم خبير و كل محيل عندهم فقير لا يميزون بين المخلص و المرتاب و لا يعرفون الضأن من الذئاب علماؤهم شرار خلق اللّه على وجه الارض لانهم يميلون الى الفلسفة و التصوف

ص:202


1- (1) الشرك حبائل الصيد جمع شرك و اشراك.

و ايم اللّه انهم من اهل العدول و التحرف يبالغون في حب مخالفينا و يضلّون شيعتنا و موالينا فان نالوا منصبا لم يشبعوا من الرشا و ان خذلوا عبدوا اللّه على الريا،الا انهم قطّاع طريق المؤمنين و الدعاة الى نحلة الملحدين من ادركهم فليحذرهم و ليصن دينه و ايمانه،ثم قال يا ابا هاشم هذا ما حدثني ابي عن آبائه عن جعفر بن محمد عليهم السّلام و هو من اسرارنا فاكتمه الا عن اهله و في كتاب قرب الاسناد روى مسندا عن الصادق عليه السّلام في حال ابي هاشم الكوفي انه كان فاسدة العقيدة جدا،و هو الذي ابتدع مذهبا يقال له التصوف و جعله مفرّا لعقيدته الخبيثة و اكثر الملاحدة و جنّة لعقائدهم.

و روى مسندا فيذلك الكتاب عن محمد بن الحسين بن ابي الخطاب قال كنت مع الهادي علي بن محمد عليهما السّلام في مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله فأتاه جماعة من اصحابه منهم ابو هاشم الجعفري و كان رجلا بليغا و كانت له منزلة عظيمة عنده عليه السّلام ثم دخل المسجد جماعة من الصوفية و جلسوا في جانبه مستديرا و اخذوا بالتهليل فقال عليه السّلام لا تلتفتوا الى هؤلاء الخدّاعين فانهم خلفاء الشياطين و مخربوا قواعد الدين يتزهدون لإراحة الاجسام و يتهجدون لتصييد الانعام يتجوعون عمرا حتى يذبحوا للايكاف (1)حمرا لا يتهللون الا لغرور الناس،و لا يقللون الغذاء الا لملأ العساس (2)و اختلاس قلب الدفناس (3)يكلمون الناس باملائهم في الحب و يطرحونهم بادلائهم في الجب اورادهم الرقص و التصدية و اذكارهم الترنم و التغنية فلا يتبعهم الا السفهاء و لا يعتقدهم الا الحمقاء فمن ذهب الى زيارة احد منهم حيّا او ميتا فكأنما ذهب الى زيارة الشيطان و عبادة الاوثان و من اعان احدا منهم فكأنما اعان يزيد و معاوية و ابا سفيان فقال رجل من اصحابه و ان كان معترفا بحقوقكم قال فنظر اليه شبه المغضب و قال دع ذا عنك،من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا اما تدري انهما اخسّ طوائف الصوفية و الصوفية كلهم من مخالفينا و طريقهم مخالفة(مغايرة خ)لطريقتنا و ان هم الا نصارى و مجوس هذه الامة اولئك الذين يجتهدون في اطفاء نور اللّه و اللّه متم نوره و لو كره الكافرون.

و روى مسندا عن الرضا عليه السّلام انه لا يقول بالتصوف احد الا لخدعة او ضلالة او حماقة و اما من سمّى نفسه صوفيا للتقية فلا اثم عليه و علامته ان يكتفي بالتسمية فلا يقول بشيء من عقائدهم الباطلة،و في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لابي ذر(ر ه)يا ابا ذر يكون في آخر الزمان قوم

ص:203


1- (1) اكف و آكف ايكافا الحمار:شد عليه الاكاف أي البردغة و في كنز اللغة:ايكاف بهمزة فاء الفعل و باعتلال آن بالان كردن.
2- (2) العس القدح او الاناء الكبير.
3- (3) الدنفاس الاحمق.

يلبسون الصوف في صيفهم و شتائهم يرون الفضل بذلك على غيرهم اولئك تلعنهم ملائكة السموات و الارض و في مواعظ عيسى عليه السّلام يقول في كلام له فاحتفظوا من العلماء الكذابة الذين عليهم ثياب الصوف الحديث و الاخبار الواردة بهذا المعنى كثيرة جدا.

فان قلت بناء على ما ذكرت من ذم هذه الفرقة و ان اكثرهم من اهل الخلاف كيف رآهم الناس بعض الاحيان يخبرون عن الامر فيكون كما اخبروا و ربما استجيب دعائهم و قد يصدر منهم الافعال العجيبة و الامور الغريبة.

قلت قد ذهب جماعة من علمائنا رضوان اللّه عليهم الى ان وقوع تلك الامور اتفاقي لا مدخل لدعائهم و لا اخبارهم فيها بوجه من الوجوه و اما نحن فقد ظهر لنا من الاخبار غير هذا و حاصله ان اللّه سبحانه اخبر في كتابه فقال و من يرد حرث الدنيا نزد له في حرثه ما نشاء و ما له في الاخرة من خلاق،في الحديث ان اللّه تعالى لا يضيع عمل عامل برا كان او فاجرا و قد تقدم ان الشيطان لما صعد مع الملائكة الى السموات و قرأ في الالواح ان من عمل عملا جوري عليه سواء كان للدين او الدنيا و رآى ان الدنيا عاجلة عبد اللّه تعالى ستة آلاف سنة مضمرا في قلبه ان هذه العبادة لاجل طلب الدنيا،و بعد ما عصى طالب اللّه بثواب عبادته فأعطاه ما اضمر فهذه الحالة لرئيس الصوفية و عبّاد المخالفين اعني الشيطان فهؤلاء يعبدون اللّه و يريدون ما اراده الشيطان من الامور الدنيوية فلو اعطاهم اللّه سبحانه بعض مطالبهم المقصودة لهم حالة العبادة من الجاه و الاعتبار الدنيوي و يكون ذلك جزاء لاعمالهم و ليس لهم في الاخرة من خلاق لم يكن بعيدا أ لا ترى الى كفار الهند فانهم يريضون انفسهم رياضيات شاقة و يزعمون انها عبادة له سبحانه و كثيرا من الاخبارات و الحوادث يخبرون بها قبل وقوعها و ربما جرت على ايديهم الافعال العجيبة و الامور الغريبة،و ليس هذا الا جزاء لافعالهم التي زعموا انها عبادة.

و قد شاهدت في اصفهان في عشر السبعين بعد الالف من كفار الهند رافعا يديه الى السماء و قد يبستا و صارت اظفاره كالمناجل فرأيت الكفار يعظمونه و يسجدون له فسألتهم عن احواله فقالوا سبع سنين على هذه الحالة،و بقي له خمس سنين حتى يكون المجموع اثنتي عشرة سنة فاذا بلغ الى هذا العدد و هو على هذا الحال صار شيخا في العبادة يخبر بالاخبار الغائبة و تنكشف له الامور و رأيت انسانا جالسا في جانبه و الكفار تعظمه ايضا،فقيل لي ان هذا وقف على رجليه اثنتي عشر سنة لم يجلس على الارض الى غير ذلك من الرياضات.

و قد روى ان رجلا من الشيعة اتى موسى بن جعفر عليهما السّلام و هو في بغداد فقال يا ابن رسول اللّه رأيت هذا اليوم في ميدان بغداد رجلا كافرا و الناس مجتمعون حوله و هو يخبر كل انسان بما اضمره فهو يعلم الاسرار،فقال عليه السّلام فغدوا عليه فأتى عليه السّلام الى الميدان و رآى الناس

ص:204

حوله و هو يخبرهم عما في ضمائرهم فطلبه الامام عليه السّلام فقال له يا فلان انت رجل كافر و الاطلاع على ما في الضمائر مرتبة جليلة فما السبب في ان رزقك اللّه هذه المرتبة فقال يا عبد اللّه ما اوتيت هذا الا بأني اعمل خلاف ما تشتهيه نفسي و خلاف مطلوبها فقال عليه السّلام يا فلان اعرض الايمان على نفسك و انظر هل تقبله ام لا؟فتغشى في منديل و تفكر فلما رفع المنديل قال اني عرضت الاسلام عليها فأبت،فقال له اعمل على خلاف ارادتها كما هو عادتك التي اوتيت عليها هذه المرتبة فأسلم و حسن اسلامه و علّمه عليه السّلام شرائع الاحكام فكان من جملة اصحاب الامام عليه السّلام فقال له يوما يا فلان اضمرت انا شيئا فقل ما هو فلما رجع و تفكر لم يدر ما يقول فتعجب فقال يا ابن رسول اللّه كنت اعرف الضمائر و انا كافر فكيف لا اعرفها اليوم و انا مسلم؟فقال عليه السّلام ان ذلك كان جزاء لاعمالك و اليوم قد ذخر اللّه لك اعمالك ليوم القيامة فجزاؤها ذلك اليوم.

و قد سبق في تضاعيف هذا الكتاب حكاية الملكين الذين ارسلهما اللّه تعالى في امره فتلاقيا في الهوى فتسائلا فقال احدهما اني كنت في امر عجيب و هو ان سلطانا كافرا يعبد الاصنام قد مرض و اشتد مرضه فطلب الاطباء فقالوا له ان علاجك في سمكة و في هذه الايام ما توجد الا في البحر السابع فأنت ميت على كل حال فقال لبعض خدمه اذهبوا الى هذا البحر لعلكم تجدون هذه السمكة فامرني اللّه سبحانه ان ازجر تلك السمكة من ذلك البحر حتى تأتي الى ذلك البحر الذي هو قرب ذلك السلطان فاصطادوها و اكله فبرئ من مرضه.

فقال له الاخر و انا كنت في امر اعجب من هذا و هو ان رجلا صالحا عابدا في البلد الفلاني كان صائما نهاره و كان قد هيأ شيئا من بقول الارض لاجل الافطار و جعله في القدر و هو يغلي عليه فبعثني اللّه سبحانه الى ذلك القدر ان اكفيه حتى يبقى هذه الليلة بلا افطار و يصوم اليوم الثاني على ذلك الحال فلما عرجا الى محلهما قالا يا رب ما الحكمة في هذا فقال سبحانه ان ذلك الكافر لا يخلو من بعض العدل مع الرعية و اعمال الخير فأردت ان اكمل جزاء اعماله في الدنيا حتى اذا اتاني ليس له عندي حجة يحتج بها عليّ و اما ذلك المؤمن فأردت ان اكفّر ذنوبه حتى اذا اتاني نقيا من الذنوب فاسكنه في جواري.

اقول ربما اخّر اللّه سبحانه جزاء بعض اعمال الكفار ليوم القيامة تخفيفا في عذابهم روى ان رجلا مؤمنا قد اخافه سلطان بلاده فلحق ببلاد الكفار فاضافه رجل كافر قال عليه السّلام فاذا كان يوم القيامة قال اللّه تعالى لذلك الكافر لو كان في الجنة موضع لكافر لادخلتك الجنة فيأمر به الى النار و يقول لمالك يا مالك قل للنار هيديه و لا تؤذيه فتكون النار حوله من غير ان يصل حرها اليه،و يؤتى له بطعام طرفي النهار و امثال هذا كثيرة.

ص:205

و بالجملة فالاخبار الواردة بهذا المضمون متكثرة جدا و يتفرع عليها ما يفعله جمهور اهل الخلاف في اذكارهم و اوقاتهم من قبض الافاعي و الحيات بل و اكلها و دخول النار من غير ضرر فانها ايضا جزاء اعمالهم قهم قد حرموا لذات الجنان بمعانقة هذه الولدان،و جريان هذه الامور على ايديهم نعم ربما اشكل في هذا المقام امران.

الاول ان دخول النار قد ورد انه من معجزات الامامة و دلائلها فكيف جاز اجرائه على يدي غيره،روى المفضل بن عمر قال لما مضى الصادق عليه السّلام كانت وصيته الى موسى الكاظم عليه السّلام فادعى اخوه عبد اللّه الامامة و كان اكبر ولد جعفر عليه السّلام في وقته ذلك و هو المعروف بالافطح فأمر موسى عليه السّلام فمع حطب كثير في وسط داره و ارسل الى اخيه عبد اللّه يسأله ان يصير اليه، و مع موسى عليه السّلام جماعة من الامامية فلما جلس امر موسى بطرح النار في الحطب فاحترق و لا يعلم الناس السبب فيه حتى صار الحطب كلها نارا حمرا،ثم قام موسى و جلس بثيابه في وسط النار و اقبل يحدّث الناس ساعة ثم قام ينفض ثوبه و رجع الى المجلس فقال لاخيه عبد اللّه ان كنت تزعم انك الامام بعد ابيك فاجلس في ذلك المجلس قالوا فرأينا عبد اللّه تغيّر لونه و قام يجر ردائه حتى خرج من دار موسى عليه السّلام.

قلت دخول النار اذا قارن التحدي بالامامة و نحوها لم يجز ان يجري على يدي غير المعصوم بل قد نقل لي صحيحا ان اهل الخلاف مع شهرتهم بدخول النار و قبض الحيات و العقارب ربما عارضوا بعض عوام الشيعة و فخروا عليهم بالقدرة على مثال تلك الافعال و عدم قدرة الشيعة عليها،فيدخل الشيعي و السني الى النار فيحترق السني و يخرج الشيعي سالما مع ان دخول النار كان عمله.

الامر الثاني في ان شيعتنا في هذه الاعصار قد اقدروا على تلك الافعال التي قد خصّ بها جمهور المخالفين مثل دخول النار و غيرها و قد ظهر هذا في عشر السبعين بعد الالف في قرب الاهواز رجل قال ان علي بن الحسين عليهما السّلام قد ظهر عليه إمّا يقظة و اما نوما و اقدره على تلك الافعال و كان يعطي الناس الرخص في صنع تلك الافعال و ذلك بأن يبصق في فم من اراد تعليمه فيصير قادرا على تلك الافعال و لما وردن في حوالي تلك الاوقات الى بلادنا الجزائر اجتمع جماعة اهل نحلتنا و اوقدوا نارا و دخلوها فلما خمدت خرجوا و ثيابهم سالمين فكيف يكون مثل هذا.

قلت ان هذا و امثاله مما لا مدخل له في علم السحر و الشعبدة،نعم يجوز ان يكون السبب في صدره من شيعتنا و اقدار اللّه لهم عليه كسر شوكة مخالفينا فانهم كانوا يفتخرون بهذا على اهل مذهبنا زمانا طويلا و بها ضعف اعتقاد بعض عوام مذهبنا من ان مذهب الجمهور اذا

ص:206

كان باطلا كيف اجرى اللّه هذه الافعال على ايديهم و يعلموا ان جريان مثل هذا على يدي كفار الهند و نحوهم اشد و اكثر من هذا فلما كان سببا لافتخار مخالفينا و لضعف اعتقاد بعض عوامنا اجراه اللّه على يد بعض شيعتنا لاجل ذلك و من ثم لم يجره الا على يد عوام مذهبنا الذين لا يعرفون علما و لا عملا كاملا ليعلم ان هذا و اضرابه مما لا مدخل له في حقيقة الاديان و بطلانها و قد بقى في هذا المقام كلام طويل الذيل حررناه في المجلد الثاني من كتاب نوادر الاخبار.

و بالجملة فالتصوف ليس في لبس ثياب الصوف و اجتناب الثياب الفاخرة و لا في اكل الشعير و ترك ما انعم اللّه به من اللذات و انما التصوف العمل بأوامر الشريعة و نواهيها و ترك شبهاتها و الزهد فيها،قال الصادق عليه السّلام ليس الزهد في الدنيا باضاعة المال و لا تحريم الحلال بل الزهد في الدنيا ان لا تكون بما في يدك اوثق منك بما عند اللّه تعالى و قال امير المؤمنين عليه السّلام الزهد في الدنيا قصر الامل و شكر كل نعمة و الورع عن كل ما حرم اللّه تعالى،و ان اردت العالم الورع فهم علماء شيعتنا في جميع الاعصار و من ثم لم ينقم عليهم المخالفون الا بسبب المتخلفين و قد شكروا لهم عباداتهم و اعمالهم.

و قد كان في قريب من عصرنا مولانا الورع العالم المولى احمد الاردبيلي (1)و قد كان من سكّان النجف الاشرف و من جملة ورعه انه كان يستأجر دابة من النجف و يأخذها من صاحبها و يمضي الى زيارة الكاظميين و العسكريين عليهم السّلام فاذا اراد الرجوع ربما اعطاه بعض اهل بغداد من الشيعة كتابة ليوصلها الى بعض اهل النجف فيضع الكتابة في جيبه و يسوق الدابة و هو يمشي من بغداد الى النجف و يقول ان صاحب الدابة لم يأذن لي في حمل هذه الكتابة على دابته و كان اذا خرج من منزله يضع على رأسه عمامة كبيرة لاجل كل من طلب منه عمامة او مقنعة قطع له من تلك العمامة فاذا رجع الى المنزل ربما بقي على رأسه منها ذراع او اقل،و كان عام الغلاء يقاسم الفقراء في ما عنده من الاطعمة و يبقى لنفسه مثل سهم واحد منهم.

و قد اتفق انه فعل في بعض السنين الغالية هكذا فغضبت عليه زوجته و قالت تركت اولادنا في نثل هذه السنة يتكففون الناس فتركها و مضى عنها الى مسجد الكوفة للاعتكاف فلما كان اليوم الثاني جاء رجل مع دواب حملها الطعام الطيب من الحنطة الصافية و الطحين الناعم فقال هذا بعثه اليكم صاحب المنزل و هو معتكف في مسجد الكوفة فلما جاء المولى من اعتكافه

ص:207


1- (1) توفى قدس سره سنة(993)ه ق و دفن في جوار القبة العلوية البيضاء في مدينة العلم(النجف الاشرف)قال العلامة المجلسي(ر ه):(لم اسمع بمثله في المتقدمين و المتأخرين).

اخبرته زوجته بأن الطعام الذي ارسلته مع الاعرابي طعام حسن فحمد اللّه تعالى و ما كان له خبر فيه.

و قد حدثني اوثق مشايخي علما و عملا ان لهذا الرجل و هو المولى الاردبيلي تلميذا من اهل تفريش اسمه مير علاّم(فيض اللّه خ)و قد كان بمكان من الفضل و الورع قال ذلك التلميذ انه قد كانت لي حجرة في المدرسة المحيطة بالقبّة الشريفة فاتفق اني فرغت من مطالعتي و قد مضى جانب كثير من الليل فخرجت من الحجرة انظر في حوش الحضرة و كانت الليلة شديدة الظلام فرأيت رجلا مقبلا على الحضرة الشريفة فقلت لعلّ هذا سارق جاء ليسرق شيئا من القناديل فنزلت و أتيت الى قربه فرأيته و هو لا يراني فمضى الى الباب و وقف فرأيت القفل قد سقط و فتح له الباب الثاني و الثالث على هذا الحال فأشرف على القبر و ردّ السّلام فعرفت صوته فاذا هو يتكلم مع الامام عليه السّلام في مسألة علمية ثم خرج من البلد متوجها الى مسجد الكوفة فخرجت خلفه و هو لا يراني فلما وصل الى محراب المسجد سمعته يتكلم مع رجل آخر بتلك المسألة فرجع و رجعت خلفه فلما بلغ الى باب البلد اضاء الصبح فأعلنت نفسي له و قلت له يا مولانا كنت معك من الاول الى الاخر،فاعلمني من كان الرجل الاول الذي كلمته في القبة و من الرجل الاخر الذي كلمك في مسجد الكوفة؟فأخذ عليّ المواثيق اني لا اخبر احدا بسره حتى يموت.

فقال لي يا ولدي ان بعض المسائل تشتبه عليّ فربما خرجت في بعض الليل الى قبر مولانا امير المؤمنين عليه السّلام و كلمته في المسألة و سمعت الجواب و في هذه الليلة احالتي على مولانا صاحب الزمان و قال لي ان ولدنا المهدي هذه الليلة في مسجد الكوفة فامض اليه و سله عن هذه المسألة و كان ذلك الرجل هو المهدي عليه السّلام و هذه نبذة من بعض احواله فاعتبر احواله الباقية.

و قد روى في تفسير قوله تعالى و اما بنعمة ربك فحدّث قال عليه السّلام ليس التحديث بالقول و انما هو بالفعل حتى يرى اللّه اثر نعمته فوق عبده،و حتى لا يكون العبد من ربه بمنزلة الشاكي منه بمعنى انه ما اعطاني شيئا أ تحلّى به بين الناس نعم قد ورد في الاخبار الامر بالتواضع للّه تعالى في الثياب قال النبي صلّى اللّه عليه و آله يا ابا ذر من ترك لبس الجمال و هو يقدر عليه تواضعا للّه فقد كساه اللّه حلل الكرامة و اي شيء احسن منه و هو شعار الانبياء و الاوصياء.

و في الرواية انه اوحى الى موسى عليه السّلام يا موسى إرض بكسرة من شعير تسدّ بها جوعتك و بخرقة تواري بها عورتك و اصبر على المصائب و اذا رأيت الدنيا مقبلة عليك فقل انا للّه و انا اليه راجعون عقوبة عجّلت في الدنيا و اذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل مرحبا بشعار الصالحين.

ص:208

و اما عيسى روح اللّه فانه كان يقول خادمي يداي و دابتي رجلاي و فراشي الارض و وسادي الحجر و دفئي الشتاء مشارق الارض و سراحي في الليل القمر و ادامي الجوع و شعاري الخوف و لباسي الصوف و فاكهتي و ريحاني ما انبتت الارض للوحوش و الانعام أبيت و ليس لي شيء و اصبح و ليس على وجه الارض احد اغنى مني.

و اما نوح عليه السّلام ففي بعض الروايات انه عمّر الفي سنة و خمسمائة عام و مضى من الدنيا و لم يبن فيها بيتا،و روى انه كان يسكن هو و عياله تحت ظل الشجر فلما كبر سنه قال يا رب إئذن لي ببناء بيت يقيني الحر و البرد فاذن له ان يبني بيتا اذا نام فيه يكون نصفه في الظل و نصفه في الشمس فبناه فقد كان يوما جالسا خارج ذلك البيت فأتاه ملك الموت و قال يا نوح انتهى عمرك فقال نوح يا ملك الموت إئذن لي حتى انتقل من الشمس الى الظل فلما انتقل قال يا ملك الموت ما ارى عمري هذا الذي مضى الا هذه الساعة التي انتقلت فيها من الشمس الى الظل.

و في الروايات ان نبيا من بني اسرائيل مرّ على عابد يعبد اللّه على رأس جبل في وهج الشمس،فقال له يا عبد اللّه لم لا تصنع لك ظلا يقيك من الشمس فقال نعم يا اخي قد مرّ قبلك نبي فطلبت منه ان يسأل ربه عن قدر بقية عمري،و اخبرني انه قد بقي منه سبعمائة عام فقلت لهذا العمر القليل اصنع ظلالا و اشتغل تلك الساعة عن عبادة ربي فتركته فقال له النبي يا عابد كيف لو ترى اناسا في آخر الزمان اعمارهم لا تزيد على المأة و مع هذا يبنون البيوت بالجصّ و الصخر فقال يا رسول اللّه لو اتيت في زمانهم لقطعت ذلك العمر القليل بسجدة واحدة.

و اما نبينا صلّى اللّه عليه و آله فقد خرج من الدنيا و لم يضع لبنة على لبنه و رآى صلّى اللّه عليه و آله رجلا من اصحابه يبني بيتا بجصّ و آجر فقال عليه السّلام الامر اعجل من هذا و اما ابراهيم عليه السّلام فقد كان لباسه الصوف و أكله الشعير و اما يحيى بن زكريا عليهما السّلام فقد كان لباسه الليف و اكله ورق الشجر و اما سليمان عليه السّلام فقد كان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر و اذا جنّه الليل شدّ يديه الى عنقه فلا يزال قائما باكيا حتى يصبح و كان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده.

و اما نبينا صلّى اللّه عليه و آله فروى انه اصابه يوما الجوع فوضع على بطنه حجرا ثم قال الا رب مكرم لنفسه و هو لها مهين الا رب مهين و هو لها مكرم،الا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة في الاخرة،ناعمة يوم القيامة،الا رب كاسية ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة،الا رب متنعم متخوّض فيما أفاء اللّه على رسوله ما له في الاخرة من خلاق.

ص:209

و اما سيد الموحدين عليه السّلام فحاله في الزهد اشهر من ان يذكر قال سويد بن غفلة دخلت على امير المؤمنين عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة و هو جالس على حصير صغير ليس في البيت غيره، فقلت يا امير المؤمنين بيدك بيت المال و ليس ارى في بيتك شيئا مما يحتاج اليه البيت،فقال يا ابن غفلة ان اللبيب لا يتأثث في دار النقلة و لنا دار أمن قد نقلنا خير متاعنا اليها،و انا عن قليل اليها صائرون،و كان عليه السّلام اذا اراد ان يكتسى دخل السوق فيشتري الثوبين فيخير قنبرا بأجودهما و يلبس آخر،ثم يأتي النجار فيمدّ له احدى كميّه و يقول خذها بقدومك تخرج في مصلحة اخرى و يبقى الكم الاخرى بحالها و يقول هذه نأخذ فيها من السوق للحسن و الحسين عليهما السّلام.

و من هذا جمع بعض المحققين بين الاخبار بحمل الاخبار الدالة على استحباب لبس الخشن و اكل الجشب على من يعرف من نفسه النخوة و العجب و جماحة (1)لنفس فيكون ذلك المأكل و الملبس سوطا تخوفها به و تسوقها الى موافاة الاخيار،و اما من عرف من نفسه عكس هذا فيكون الاولى له استعمال نعم اللّه عليه من الملابس و الملاذّ و نحوهما،فان حالات النفس عجيبة فهي كحمار السوء ان جاع نهق و ان شبع زقط،فان اردت ان تعرفها فانظرها وقت ارادتها شهوتها فانك لو توسلت اليها بالانبياء و المرسلين و عرضت عليها الجنة و النار،و قلت لها هذه الجنة ان تركت هذا الذنب فهي مهيأة لك و ان فعلت فأنت من الداخلين الى هذه النار كانت حريصة على الاتيان بذلك الذنب و تركت كل تلك الوسائل و لو كانت جايعة(عر) عوصتها عن(على خ)تلك الوسائل رغيفا من خبز الشعير اقلعت عن ذلك الذنب و رضيت بذلك الرغيف فانظر كيف صار عندها رغيف الشعير احسن من وسيلة الانبياء و الجنة و النار و الحور العين،ما هذا الا عجب عجيب و امر غريب.

و اما الناصبي و احواله و احكامه فهو مما يتمّ ببيان امرين الاول في بيان معنى الناصب الذي ورد في الاخبار انه نجس و انه شرّ من اليهودي و النصراني و المجوسي و انه كافر نجس باجماع علماء الامامية رضوان اللّه عليهم فالذي ذهب اليه اكثر الاصحاب هو ان المراد به من نصب العداوة لآل بيت محمد صلّى اللّه عليه و آله و تظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج و بعض ما وراء النهر و رتبوا الاحكام في باب الطهارة و النجاسة و الكفر و الايمان و جواز النكاح و عدمه على الناصبي بهذا المعنى.

و قد تفطنّ شيخنا الشهيد الثاني قدّس اللّه روحه من الاطلاع على غرائب الاخبار فذهب الى ان الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة اهل البيت عليهم السّلام و تظاهر بالرقوع فيهم

ص:210


1- (1) جمح جمحا و جماحا و جموحا الفرس:تغلي على راكبه و ذهب به لا ينثني استعصى فهو جامع بلفظ واحد للمذكور لمؤنث جمع جوامع و منه جمحت المرأة زوجها اذا تركته و غادرت بيته الى اهلها.

كما هو حال اكثر المخالفين لنا في هذه الاعصار في كل الامصار،و على هذا فلا يخرج من النصب سوى المستضعفين منهم و المقلدين و البله و النساء و نحو ذلك و هذا المعنى هو الاولى، و يدلّ عليه ما رواه الصدوق قدس اللّه روحه في كتاب علل الشرايع باسناد معتبر عن الصادق عليه السّلام قال ليس الناصب من نصب لنا اهل البيت لانك لا تجد رجلا يقول انا ابغض محمدا و آل محمد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انكم تتولونا و انكم من شيعتنا و في معناه اخبار كثيرة.

و قد روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان علامة النواصب تقديم غير عليّ عليه و هذه خاصة شاملة لا خاصة و يمكن ارجاعها ايضا الى الاول بأن يكون المراد تقديم غيره عليه على وجه الاعتقاد و الجزم ليخرج المقلّدون و المستضعفون فان تقديمهم غيره عليه انما نشأ من تقليد علمائهم و آبائهم و اسلافهم و الا فليس لهم الى الاطلاع و الجزم بهذا سبيل.

و يؤيد هذا المعنى ان الائمة عليهم السّلام و خواصهم اطلقوا لفظ الناصبي على ابي حنيفة و امثاله مع ان ابا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لاهل البيت عليهم السّلام بل كان له انقطاع اليهم و كان يظهر لهم التودد نعم كان يخالف آرائهم و يقول قال علي و انا اقول،و من هذا يقوى قول السيد المرتضى و ابن ادريس قدّس اللّه روحيهما و بعض مشائخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين كلهم نظرا الى اطلاق الكفر و الشرك عليهم في الكتاب و السنة فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق، و لانك قد تحققت ان اكثرهم نواصب بهذا المعنى.

الثاني في جواز قتلهم و استباحة اموالهم قد عرفت ان اكثر الاصحاب ذكروا للناصبي ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات و النجاسات و حكمه عندهم كالكافر الحربي في اكثر الاحكام و اما على ما ذكرناه له من التفسير فيكون الحكم شاملا كما عرفت روى الصدوق طاب ثراه في العلل مسندا الى داود بن فرقد قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام ما تقول في قتل الناصب؟قال حلال الدم لكني اتقي عليك فان قدرت ان تقلب عليه حائطا او تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل فقلت فما ترى في ماله؟قال خذه ما قدرت.

و روى شيخ الطائفة نوّر اللّه مرقده في باب الخمس و الغنائم في كتاب التهذيب بسند صحيح عن مولانا الصادق عليه السّلام قال خذ مال الناصب حيث ما وجدت و ابعث الينا بالخمس و روى بعده بطريق حسن عن المعلّى قال مال الناصب حيث وجدت و ابعث الينا بالخمس قال ابن ادريس(ر ه)الناصب المعنى في هذين الخبرين اهل الحرب لانهم ينصبون الحرب للمسلمين،و الا فلا يجوز اخذ مال مسلم و لا ذمي على وجه من الوجوه انتهى و للنظر فيه مجال:

ص:211

اما اولا فلان الناصبي قد صار في الاطلاقات حقيقة في غير اهل الحرب و لو كانوا هم المراد لكان الاولى التعبير عنهم بلفظهم من جهة ملاحظة التقية لكن لما اراد عليه السّلام بيان الحكم الواقعي عبّر بما ترى و اما قوله لا يجوز اخذ مال مسلم و لا ذمي فهو مسلّم و لكن انّى لهم و الاسلام و قد هجروا اهل بيت نبيهم المأمور بودادهم في محكم الكتاب بقوله تعالى قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى فهم قد انكروا ما علم من الدين ضرورة و اما اطلاق الاسلام عليهم في بعض الروايات فلضرب من التشبيه و المجاز و التفاتا الى جانب التقية التي هي مناط هذه الاحكام.

و في الروايات ان علي بن يقطين و هو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين و كان من خواص الشيعى فأمر غلمانه و هدموا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم و كانوا خمسمائة رجل تقريبا فاراد الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل الى الامام مولانا الكاظم عليه السّلام فكتب عليه السّلام اليه جواب كتابه بأنك لو كنت تقدمت اليّ قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم و حيث انك لم تتقدم اليّ فكفر عن كل رجل قتلته منهم بتيس و التيس (1)خير منه فانظر الى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية اخيهم الاصغر و هو كلب الصيد فان ديته عشرون درهما و لا دية اخيهم الاكبر و هو اليهودي او المجوسي فانها ثمانمائة درهم و حالهم في الاخرة اخسّ و انجس.

بقي الكلام في احوال جماعة يسمّون القلندرية و حالهم انهم يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب كما قال عليه السّلام في بيان احوالهم فأبدانهم و وجوههم مسودة و قلوبهم اشدّ سوادا، و قد تركوا الكسب و طلب المعايش المأمور بهما و اقبلوا على الادبار و صاروا كلا على الناس اينما كانوا يتكففون الارزاق من جماعة ضعيفي الابدان و قوتهم و ابدانهم اشد من اغلب الناس،و حالهم في ترك العبادات خصوصا الصلاة مشهور حتى انه ورد في امثال العوام ان شيئين لا يطرقان ابواب السموات صعودا خبز الملاّ و صلاة القلندر و من اقبح اعمالهم اللواط و اضلال اولاد الناس من اهاليهم ليصحبونهم معهم،فهؤلاء كالصوفية بل هم اقبح افعالا منهم.

و قد صنّف بعض العلماء ممن قارب عصرنا رسالة شبّه فيها الدنيا برجل له رأس و قلب و يدان و رجلان الى غير ذلك من الاعضاء فشبّه الملوك بأنهم راسه و العلماء بأنهم قلبه و جعل اهل كلّ صنعة عضوا من اعضائه لان كل احد تراه فله دخل في الجملة في تمشية هذا العالم و لما اتى الى جماعة القلندرية و اشباههم شبّههم بشعر العانة و الابطين بجامع انهم لا يدخلون في

ص:212


1- (1) التيس من الغر و الجمع تيوس و اتياس.

تمشية هذا العالم بوجه من الوجود و ان الذي يصدر منهم الاضرار بالناس فهم كالشعر المذكور اذا طال فكما ان علاج دفع الشعر في ازالته بالنورة(و غيرها)نحوها فكذا ينبغي ازالة هؤلاء من وجه الارض حسما لمادة فسادهم و كثيرا ما رأوهم يشربون الخمر بدل الماء و الانسان يحسب انه ماء و كثيرا ما يكلفون الناس بالتكاليف الشاقة بان يصعدوا على مرتفع او يقفوا الى ميدان فيطلبون(فيطلبوا خ)اشياء كثيرة من الدراهم و الاقمشة و المأكولات و نحوها،و يريدون كلما طلبوا من شخص واحد،و ربما بقوا على هذه الحالة سنين و اعوام خذلهم اللّه و اخزاهم و اكثرهم يتعمد رواية قصيدة او نحوها في مدح امير المؤمنين او احد الائمة عليهم السّلام ليجعلها وسيلة الى تكففه الناس و سؤالهم و ايصالهم الضرر اليهم.

فان قلت قد ورد في الاخبار ان من تبسم في وجه تارك الصلوة فكأنما هدم البيت المعمور سبع مرات و كأنما قتل الف ملك من الملائكة المقربين و الانبياء المرسلين و لا ايمان لمن لا صلاة له و لا حظّ في الاسلام لمن لا صلاة له،و من احرق سبعين مصحفا و قتل سبعين نبيا،و زنا امّه سبعين مرة و افتض سبعين بكرا بطريق الزنا فهو اقرب الى رحمة اللّه من تارك الصلوة متعمدا، و من اعان تارك الصلوة بلقمة او كسوة فكأنما قتل سبعين نبيا،و من أخر الصلوة عن وقتها او تركها حبس على الصراط ثمانين حقبا كل حقبة ثلثمائة و ستون يوما كل يوم كعمر الدنيا فمن اقامها اقام الدين و من تركها فقد هدم الدين،فاذا قد روى مثل هذا فهل يباح اعطاء السائل الذي يظن او يعلم بالعادات تركه للصلوة؟

قلت هذه المسألة مشكلة و الكلام فيها يحتاج الى تأمل و تفكر و الذي يقتضيه ظاهر النظر هو ان الاصحاب رضوان اللّه عليهم قيّدوا الاخبار الدالة على تكفير تارك الصلوة بتاركها عمدا مستحلا لذلك الترك و من ثم ترتبت هذه العقوبات على ذلك الترك و لكن الاحاديث الواردة بكون تارك الصلوة كافرا خالية من هذا القيد بل ربما دلت على خلافه.

كما رواه الصدوق قدس اللّه روحه عن مسعدة بن صدقة قال سأل ابو عبد اللّه عليه السّلام ما بال الزاني لا تسميه كافرا و تارك الصلوة تسميه كافرا و ما الحجة في ذلك؟فقال لان الزاني و ما اشبهه انما يفعل ذلك لمكان الشهوة لانها تغلبه،و تارك الصلوة لا يتركها الا استخفافا بها و ذلك لانك لا تجد الزاني يأتي المرأة الا و هو مستلذ لاتيانه اياها قاصدا اليها و كل من ترك الصلوة قاصدا لتركها فليس يكون قصده لتركها اللذة فاذا نفيت اللذة وقع الاستخفاف و اذا وقع الاستخفاف وقع الكفر،فانه لو كان المراد الاستحلال لم يبق فرق بين الزاني و بين تارك الصلوة.

ص:213

و ايضا فانه من البعيد ان يدخل انسان في دين الاسلام و ينشأ عليه و يكون مستحلا لترك الصلوة و ذلك لانها من اضرّ ضروريات الدين فمن استحل تركها فمن اين له الدخول في الاسلام نعم ينبغي ان يقيد الترك المحكوم بكفر صاحبه بكونه على وجه الاستخفاف بها و الرغبة عنها لان تركها كما يمكن ان يكون على هذا الوجه يمكن ان يكون على وجه آخر مثل تركها للاشغال الدنيوية او للسأمة و الملال فيكون الترك على هذا فسقا و على ذلك كفرا و اما معنى الكفر فليس المراد به المعنى المصطلح الذي يقبه ترتب الاحكام عليه كالنجاسة و نحوها.

بل روى في الاحاديث المعتبرة ان الايمان درجات و الكفر درجات روى شيخنا الكليني قدس اللّه روحه عن عبد العزيز القراطيسي قال قال لي ابو عبد اللّه عليه السّلام يا عبد العزيز ان الايمان عشر درجات بمنزلة السلم (1)يصعدونه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى تنتهي الى العاشرة فلا تسقط من هو دونك فيسقط من هو فوقك و اذا رأيت من هو اسفل منك بدرجة فارفعه اليك برفق و لا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره فان من كسر مؤمنا فعليه جبره.

و في حديث آخر رواه عن الصادق عليه السّلام قال ان من المسلمين من له سهم من الايمان و منهم من له ثلاثة اسهم و منهم من له اربعة اسهم و منهم من له خمسة اسهم و منهم من له ستة اسهم،و منهم من له سبعة اسهم فلا ينبغي ان يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين و لا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة و لا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الاربعة و لا صاحب الاربعة على ما عليه صاحب الخمسة،و لا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة و لا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة.

و سأضرب لك مثلا ان رجلا كان جار و كان نصرانيا فدعاه الى الاسلام و زيّنه له فأجابه فأتاه سحرا فقرع عليه الباب فقال له من هذا؟قال انا فلان قال و ما حاجتك قال توضأ و البس ثوبيك و مر بنا الى الصلوة قال فتوضأ و لبس ثوبيه و خرج معه قال فصليا ما شاء اللّه ثم صليا الفجر ثم مكثا حتى اصبحا فقام الذي كان نصرانيا يريد منزله فقال له الرجل الى اين تذهب النهار قصير و الذي بينك و بين الظهر قليل قال فجلس معه الى الصلوة الظهر ثم قال و ما بين الظهر و العصر قليل قال فاحتبسه حتى صلّى العصر قال ثم قال و ما بين الظهر و العصر قليل فاحتبسه حتى صلّى العصر قال ثم قام و اراد ان ينصرف الى منزله فقال له هذا آخر النهار و اقل من اوله فاحتبسه حتى صلى المغرب ثم اراد ان ينصرف الى منزله فقال له انما بقيت صلاة واحدة،قال فمكث حتى صلى العشاء الاخرة،ثم تفرقا فلما كان سحيرا غدا عليه فضرب

ص:214


1- (1) يصعد منه خ 1.

عليه الباب فقال من هذا؟قال انا فلان قال و ما حاحتك؟قال توضأ و البس ثوبيك و اخرج فصلّ قال اطلب لهذا الدين من هو افرغ مني و انا انسان مسكين و عليّ عيال قال فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام ادخله في شيء اخرجه منه،او قال ادخله من هذا و اخرجه من مثل هذا.

و الاخبار الواردة بهذا المعنى كثيرة جدا و كذلك مراتب الكفر مقابلة لمراتب الايمان فالمؤمن اذا كان في المرتبة العاشرة مثلا من مراتب الايمان الذي هي منتهاه و سقط منها بترك ما يوجب الترقي اليها دخل في المرتبة الاولى من مراتب الكفر،و هكذا يخرج من عالي الايمان و يدخل في اول الكفر و يتضح على هذا معنى قوله تعالى و للّه على الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلا و من كفر بعد ذلك حيث سمى تارك الحج كافرا فانه ليس المراد به الكفر المصطلح الذي هو آخر مراتب الكفر بل المراد احدى درجاته الاولية التي دخل بها بسبب ترك مثل هذا الواجب و كذلك ما ورد في الكتاب و السنة من اطلاق الكفر على من ترك شكر نعمته سبحانه و تعالى و نحو ذلك من الاخبار المتضمنة لاطلاق الكفر على من اتى بذنب خاص من الذنوب.

و قد اشكل مثل هذا الاطلاق على بعض علمائنا حتى الجأته الضرورة الى ارتكاب التأويل في الفاظ الكفر اينما وردت و حينئذ فقوله تارك الصلوة كافر المراد بالترك تركها استخفافا كما سبق في رواية الصدوق و المراد بالكفر احد درجاته و مراتبه و حينئذ فقوله و من اعان تارك الصلوة بلقمة او كسوة المراد به تاركها استخفافا بشرط ان يعلم منه تركها.

و اما من تناله الالسن او من ظنّ به الترك في مجاري العادات فالظاهر انه غير داخل في هذا الحكم،لان الاصل في المؤمن حسن الحال و العدالة مع ما ورد من النهي عن التجسس عن احوال المسلمين و اوضاعهم،و اما قوله و من تبسم في وجه تارك الصلوة(ا ه)فهو على ظاهره و ذلك ان من درجات الامر بالمعروف و النهي عن المنكر هو ان تلقى اهل المعاصي بوجه مكفهر،كما جاء في الرواية فاذا لقيته متبسما فقد ضيعت واجبا و أتيت بحرام لان لازم التبسم التودد و المحبة.

بقي الكلام في جواز اطلاق الكافر على تارك الصلوة استخفافا و تهاونا على تارك الحج او نحوهما مما ورد في الروايات اطلاق هذا اللفظ عليه و هو لا يخلو من إشكال و ذلك ان كثيرا من الاحكام ورد في الروايات لها حكم و لا نقدر نحن على اطلاق ذلك الحكم او اللفظ على من اطلق عليه مثلا ورد من بات وده في بيت فهو ملعون و من سافر وحده فهو ملعون و من اكل زاده وحده فهو ملعون الى غير ذلك و لا يجوز لنا لعن من اتى شيئا من هذه الامور،و ذلك انه يجوز ان يكون الشارع اطلق عليه مثل هذه الالفاظ و تلك تغليظا عليه حتى لا يقدم على

ص:215

ارتكاب تلك الامور المنهي عنها.

كما ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال لو شهدت جنازة شارب الخمر لما صليت عليه،مع وجوبها علينا اجماعا و لما مات رجل من الصحابة مديونا و حضر النبي صلّى اللّه عليه و آله جنازته ما صلى عليه حتى ضمن دينه امير المؤمنين عليه السّلام و روى انه صلّى اللّه عليه و آله همّ باحراق جماعة ما كانوا يحضرون الجماعة معه و قد كانوا يصلون في بيوتهم الى غير ذلك،و ذلك ان صاحب الشرع يجوز له السياسات في الافعال و الاقوال حتى ترتدع الخلائق من اول الامر عن ذلك القبيح.

خاتمة هذا الكلام [في مراتب الإيمان]

قد عرفت ان للايمان درجات و احوالا و ينبغي ان تعلم ايضا انه قد ورد الخلاف بين علماء الاسلام في حقيقة الايمان و المذاهب فيه ثمانية:

الاول انه التصديق القلبي بما علم ثبوته من الدين و ضرورة كالتوحيد و النبوة و البعث و هذا هو مذهب جمهور الاشاعرة،الثاني ضمّ التصديق اللساني و هو مذهب الحنفية و عليه اكثر اصحابنا رضوان اللّه عليهم،الثالث ما ذهب اليه الكرامية من انه التصديق اللساني وحده.

الرابع اضافة الاعمال الى ما تقدم و هو قول المعتزلة و الخوارج و بعض علمائنا الخامس ما ذهب اليه جهم بن صفوان من انه المعرفة باللّه تعالى،السادس انه معرفة اللّه سبحانه و ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله اجمالا و اليه صار بعض علماء(فقهاء خ)الجمهور،السابع انه الطاعات المفترضة من الافعال و التروك دون النوافل و عليه الجبائيان،الثامن انه الطاعات كلها فرائضها و نوافلها.

و الذي يفهم من تتبع كلام الطاهرين عليهم السّلام ان النزاع الواقع بين الملل لفظي و ذلك انه قد ورد في الاخبار اطلاق الايمان على امور متفاوتة و درجات متباينة،و كل واحد من تلك الاقوال الثمانية يندرج في اطلاق من تلك الاطلاقات.

منها اطلاقه على ما يرادف الاسلام فيتناول بهذا الاطلاق جميع المسلمين و هو بهذا المعنى كثير الوقوع في الكتاب و السنة و لا فايدة له سوى حقن الدماء و حفظ الاموال في الدنيا، و اما في الاخرة فصاحبه مخلّد في النيران بالاجماع و منها اطلاقه على التصديق القلبي و الاقرار اللساني كما يكون في فسّاق المؤمنين الذين اصروا على ترك الاعمال و فائدته في الاخرى ان لا يخلد في النار و اما اصل الدخول فقد اختلف فيه لاختلاف الاخبار و مدلول الكثير منها ان مثل هذا المؤمني يدخل النار لكنه لا يخلد فيها.

ص:216

و منها اطلاقه على ما ذكر مع ترك الكبائر و فعل الفرائض التي يكون تركها كبيرة كالصلوة الزكوة و الحج،و على هذا قد دلّت الاخبار الكثيرة و غايته دخول الجنة،و قد عرفت ان ما روى من ان تارك الصلوة و الحج كافر فالمراد بكفره خروجه عن هذه المرتبة.

و منها اطلاقه على جميع الاعتقادات مع الاتيان بالواجبات و ترك المحرمات،و يترتب عليه مع ما سبق رفع الدرجات و الاقبال عليه بالكرامات و قد تحققت ايضا ان ما ورد من ان من فعل محرما من المحرمات خرج من الايمان يكون المراد به خروجه عن هذه المرتبة و منها اطلاقه على ما ذكر مع الاتيان بالمستحبات و ترك سائر المكروهات و فائدته تضاعف الدرجات و ما روى من ان من كان يؤمن باللّه فلا ينامنّ وحده او فلا يأكلنّ وحده أو فلا يبعث بحليلته الى الحمام،منزّل على هذه الدرجة من الايمان.

و منها اطلاقه على ما ذكر مع التوجه بكله الى عالم الملكوت و صرف الوقت في الاقبال على جنابه سبحانه و تعالى و هذا هو الايمان الكامل الذي لما وصفه امير المؤمنين عليه السّلام لهمام لم يطق سماعه بل غشى عليه و هذه المرتبة ينافيها فعل المباحات و من هذا تاب الانبياء و الائمة عليهم السّلام مما ينافيها من هذه الافعال و عدّوها ذنوبا،كما قال عليه السّلام حسنات الأبرار سيئات المقربين،و يدل على تنوع الأيمان ما رواه شيخنا الكلينى قدس اللّه روحه باسناد الى الزبيرى عن إبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له أيها العالم أخبرني أى الأعمال أفضل عند اللّه،قال ما لا يقبل اللّه شيئا الا به، قلت و ما هو؟قال الأيمان باللّه الذي لا اله إلا هو أعلى الإيمان درجة و أشرفها منزلة و أسناها حظا قال قلت أ لا تخبرني عن الايمان اقول هو و عمل أم قول بلا عمل فقال الايمان عمل و القول بعض ذلك العمل بفرض من اللّه بيّن في كتابه واضح نوره ثابتة حجته يشهد له الكتاب و يدعوه اليه قال قلت صفه لي جعلت فداك قال الايمان حالات و درجات و طبقات و منازل فمنه التام المنتهي تمامه و منه الناقص البيّن نقصانه و منه الراجح الزائد رجحانه قلت ان الايمان ليتمّ و يزيد و ينقص؟قال نعم،قلت كيف ذلك،قال ان اللّه تبارك و تعالى فرض الايمان على جوارح بن آدم و قسمه عليها و فرّقه عليها فليس من جوارحه جارحة الا و قد و كلّت من الايمان بغير ما وكلت به اختها فمنها قلبه الذي يعقل و يفقه و يفهم و هو امير بدنه الذي لا ترد الجوارح و لا تصدر الا عن رأيه و امره و ساق الحديث و ذكر فيه تكاليف الاعضاء كلها و الحديث طويل.

و يفيد ما تقدم توضيحا انه قد وقع في كلام الطاهرين عليهم السّلام تشبيه الايمان بشخص مشتمل على جميع ما في غيره من الاعضاء و الجوارح و المزينات و المحسنات فمن تلك الاعضاء اعضاء يكون قوام ذلك الشخص و وجوده به كالرأس و القلب و بازائها من الايمان التصديق القلبي و الاقرار اللساني و منها ما يكون به جلب منافعه و دفع مضاره لا اصل وجوده كاليدين

ص:217

و الرجلين و نحوهما و بازائها من الايمان فعل الواجبات و ترك المحرمات و منها ما يكون له مدخل في تحسين صورة الشخص و تزيينها كالحاجبين و اهداب العينين،و نحوهما و بأزائه من الايمان فعل المستحبات و ترك المكروهات و الى هذا ينظر قول سيد الساجدين عليه السّلام في دعائه و حلّني بحلية المتقين.

و اما تزايده و نقصانه كما جاء في ذلك الحديث فانما يجيء من تزايد الاعمال و نقصانها و ذلك انه قد ورد في الاحاديث تشبيه الايمان بالعين النابعة و لا ريب ان زيادة ماء العين و نقصانه انما يكون بتشريع الانهار و شقّها منه حتى يجري منها الماء على وجه الارض فلا تعفنها الرياح و كذلك عين الايمان النابعة من القلب تحتاج الى تشريع انهار تجري منها على الجوارح و الاعضاء فان كل عضو من الاعضاء بمنزلة نهر من انهار العين و ايضا العين تحتاج في كل زمان الى تنقيتها من الحماة المفسدة و مما يعرض لها بتطاول الايام و كذلك عين الايمان تحتاج الى التنقية مما يفسدها من حمأة الحسد و النفاق و الرياء و الكبر و العجب حتى يصفو ماءها فيبلغ به الصفاء الى قوله لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا.

و اعلم انه قد ظهر من التحقيق السابق النزاع لفظي و ذلك ان للايمان مراتب فكل واحد من الاقوال الثمانية عبارة عن درجة من درجات الايمان نعم يمكن ان يكون النزاع معنويا في صورة من الصور و هي ما روى في قضاء حوائج المؤمن و مواساته و اعانته و زيارته و نحو ذلك في ان المراد بهذا المؤمن صاحب أي درجة من الدرجات الايمانية قال شيخنا المعاصر ادام اللّه ايامه المراد من انضمت اعماله و تركه الكبائر الى حسن اعتقاده و ذلك لان الفاسق لا حرمة له عند اللّه سبحانه حتى يرغب في قضاء حوائجه كل ذلك الترغيب و هو كما قال.

لكن يبقى الكلام في ان من علم منه الفسق امس أ يحكم عليه اليوم بأنه فاسق ام لا؟ ذهب اليه اكثر الاصوليين الى الاول عملا بالاستصحاب و المستفاد من تتبع الاخبار عدم جواز الحكم عليه بالفسق الماضي و ذلك ان التوبة قائمة الاحتمال في كل ساعة فيجوز ان يكون قد تاب عن ذلك الذنب و يؤيد هذا ما ورد في دعاء صلاة الاموات من قوله عليه السّلام اللهم انا لا نعلم منه إلا خيرا،و ذلك ان الفاسق قد علم منه غير الخير فما وجه هذا الدعاء حينئذ؟و اجاب عنه المحققون بما ذكرنا و هو ان احتمال التوبة قائم فلعله قد تاب عن ذلك القبيح،و الايمان منه معلوم فخيره معلوم و شرّه غير معلوم لان ادنى الحال ان يشك في توبته و اذا قام الشك بطل العلم و حيث انك عرفت الفرقة الناجية فلا بد لك من الدخول في اعمالها و اشرف الاعمال هو الطهارة و الصلوة فلنعقد لهما نورا بانفرادهما.

ص:218

نور في الطهارة و الصلوة.

اعلم ان الطهارة الشرعية وضوء و غسل و تيمم في عرف اشرع و في اللغة هي النظافة و ازالة القذر و يجب ان تفكر و تعرف انك انما امرت بتطهير ظاهر الجلد و الثياب مع انهما أبعد عن ذاتك لاجل تطهير ما هو اشرف اعضائك و رئيسها و هو القلب فاجتهد في طهارته بالتوبة من نجاسات المعاصي و النفاق و الحسد و غيرها فان نجاسة الذنوب تؤثر في القلب ازيد مما تؤثره النجاسات الظاهرة بالثوب و البدن و ذلك ان هذه النجاسة تقع على الاعضاء التي يطّلع عليها المخلوقات فاذا صليت بهذه النجاسة الظاهرة مقتك المخلوق الذي هو مثلك و منعك من نظر الاخوة و الصداقة ان كان من اهل الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و اما اذا صليت مع نجاسة القلب مقتك الخالق و منعك من نظر الرحمة التي يترتب عليها سعادة الدارين و ايضا ان نجاسة القلب مما تحدث فيه رينا و وسخا فيعلو القلب حتى يصير منه اسود.

و في الروايات ان ذلك السواد ربما غلب عليه حتى ينتكس ذلك القلب فيصير اعلاه اسفله و اسفله اعلاه و يسمى القلب المنكوس فتكون البدعة في نظره سنّة و السنّة بدعة فيطبع اللّه على قلبه بخواتيم منع الالطاف فيكون ذلك القلب عرشا للشيطان و مناما و موضع استراحة يأمره اذا اراد و ينهاه اذا شاء و هذه الروايات تقلل التعجب من جماعة ينحتون اصناما فيظلون عاكفين على عبادتها و قد كان في زمن الفترة جماعة يعبدون صنما و كان موضوعا في ساحة بينهم فأتاه ثعلبان فبالا عليه ثم انهم عبدوه بعد هذا و ما استنكفوا عن عبادته سوى رجل واحد منهم حيث قال:

أ ربّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

و قال الخوارزمي ما انتفع كافر بمعبوده كانتفاع بني حضرمة فانهم كانوا يصنعون اصناما من التمر فيعبدونها اول النهار فاذا ارتفع النهار جاعوا اكلوها.

و في كفار الهند من يعبد الثور و رأيناهم يأخذون من روثه و يمزجونه بالزعفران و يلطخون به جباههم لقصد التيمن و التبرك و كذلك ما جرى في الاسلام من عبادتهم الثور و العجل و البقرة اعني المتخلفين الثلثة،حيث قدّموهم مع فرط جهلهم في الدين و اخذوا اقوالهم التي اقروا بأنها خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما قال الثاني متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انا محرمهما و معاقب عليها بكسر القاف مع معاقب و الفتح هو الاوجه.

و يعجبني جواب رجل من الجمهور لما تمتع امرأة فقال له اهل مذهبه كيف تمتعت و قد نهى عنها الخليفة عمر؟فقال ما تمتعت الا بقوله و ذلك انه قال متعتان كانتا على عهد رسول اللّه محللتين فقد اخذت بهذا الخبر من حديثه،و اما قوله فانا احرمهما و اعاقب عليهما فلم اعمل

ص:219

عليه و ذلك لان الاحكام الشرعية قد كملت عند موت النبي صلّى اللّه عليه و آله و لم ينزل الوحي لا على عمر و لا على غيره فمن اين جاء التحريم.

و يحكى في سبب تحريم عمر لمتعة النساء انه قد طلب امير المؤمنين عليه السّلام الى منزله ليلة فلما مضى من الليل جانب طلب منه ان ينام عنده فنام فلما اصبح الصبح خرج عمر من داخل بيته معترضا على امير المؤمنين عليه السّلام بأنك قلت انه لا ينبغي للمؤمن ان يبيت ليلة عزبا اذا كان في البلد،و ها انت هذه الليلة بتّ عزبا فقال امير المؤمنين عليه السّلام و ما يدريك انني بتّ عزبا و انا هذه الليلة قد تمتعت بأختك فلانة فاسرها في قلبه حتى تمكن من التحريم فحرمها،فمن اطاعه في تحريمها او تحريم غيرها فقد عبده و ذلك ان العبادة هي اطاعة المتكلم كما روى في تفسير قوله تعالى اتخذوا احبارهم و رهبانهم من دون اللّه و اللّه ما صاموا و لا صلوا و لا دعوهم الى هذا لما قبول منهم لكن احلّوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فقبلوا اقوالهم فمن ثم قال اربابا من دون اللّه و بيان قلّة العجب ان قلوبهم التي هي موضع الفيوض الربانية و التوفيقات السبحانية قد اسودت بنجاسات الذنوب فانتكست فمن هذا تراهم يعجبون منّا و من حبنا لاهل البيت و التمسك بشرائعهم و يستحسنون افعالهم القبيحة.

و قد نازعتني نفسي في نقل بعض ما رأيت من علمائهم فمنه انني في عشر الستين بعد الالف سافرت مع سلطان البصرة الى موضع شط بغداد لارادة التنزه فكنت يوما أعقب بعد صلاة الصبح الى ان طلعت الشمس؛فأتانى الخبر انا لسلطان لم يصل الى هذا الوقت فسألت خواصه عن السبب فقالوا ان امام جماعته كان مشغولا في الغسل عن الجنابة و كان اسمه الشيخ يحيى و كان فسطاطه قريبا من فسطاطنا و كان رجلا قد طعن في السن حتى تجاوز الثمانين فتعجبت و قلت ان الامام رجل كبير السن فكيف يحتلم؟فضحك من كان حاضرا من خواصه و قالوا ليس اغتساله من الاحتلام و انما هو من ولد يخدمه اسمه قادر و قد لاط فيه البارحة و ما سخن له الماء الى هذا الوقت فلما فرغ من الغسل مضى الى السلطان و صفّت الصفوف خلفه فكبروا و اقام و صلّى تلك الصلوة المقبولة بذلك الغسل المشروع اعاذنا اللّه من ثوابها و كان ذلك الشيخ شافعيا لا مالكيا حتى يحلل هذا و امثاله.

و من ذلك ايضا ان رجلا من علمائهم و هو الان في تاريخ تأليف الكتاب موجود في مشهد الحسين عليه السّلام و هو امام الجماعة في المشهد المقدس و اسمه ملا حسين و عنده اولاد موجودون رأيناهم و رأينا اباهم و قد حكى لي رجل عابد زاهد اثق بنقله و صلاحه عن ذلك الامام فقال ان هؤلاء اولاده و لما كان وقتهم قبل البلوغ كان الفساق كثيرا ما يأخذونهم الى منازلهم و يلوطون بهم و كان اذا قدم الى ذلك المشهد الشريف جماعة من اروام بغداد ارسلوا

ص:220

الى اولاد ذلك الامام فبقوا عندهم ليلا حتى يخرجوا من المشهد فاتى جماعة من خوّاص ذلك الامام و قالوا له ان اولادك يفعلون هذا الفعل و انت غير عالم به فانهاهم عنه.

فقال لهم قولوا لي الصدق ان احدهم اذا بات ليلة عند من يفعل به ذلك الفعل كم يعطيه درهما؟فقال يعطيه درهمين،فقال لهم ويل لكم و اللّه ان اباهم يعني نفسه الشريفة لما كان في سنهم كان يرضى طول ليلته بنصف درهم فاذا اعطى احدهم درهمين و ما يريد فسكتوا عنه فهذا حال ائمتهم اهل العبادة و الزهادة و الجمعة و الجماعة.

و اما علماؤهم من ارباب المعقول فافضلهم الملا ميرزا جان صاحب الحواشي و التحقيقات و قد كان عنده ولد يلوطون به فأخبره بعض تلاميذه عن حال ابنه فاجاب بان هذا الفعل لا ينقص من قوته الداركة شيئا و الاصل في الانسان تلك القوة و قد خلق لحراستها و اعمالها في العلوم و المعارف و اما هذه الاعضاء اللحمية فلا يبالي العاقل بما يجرى عليها.

و من ذلك ان الشيخ عبد السلام الذي كان في البصرة و بلغ في الزهد و علو الدرجة حتى كتب سلاطينهم اسمه على الاعلام التي تنشر في الحروب فكتبوا عليها لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه الشيخ عبد السّلام و لي اللّه قد صعد المنبر ذات يوم فقال من اراد ان يشتري مكانا من الجنة فليقبل فأقبلت البهائم اليه فباع مواضع الجنة و مساكنها كلا على قدر حاله حتى اخذ منهم اموالا كثيرة فلما فرغ من بيعها اقبل اليه رجل لم يكن حاضرا في البلد فقال يا شيخ اريد ان اشتري مكانا في الجنة و عندي اموال جزيلة ابدلها كلها على مكان فيها فأجابه ذلك الشيخ بأنه لم يبق من الجنة سوى مكاني و مكان دابتي فقال بعني مكانك و اكتف انت بمكان الدابة فباعه مكانه و بقي و لا مكان له في الجنة.

و قد كان هذا الشيخ يصلي ذات يوم في المسجد فقال في اثناء الصلوة كخ كخ فلما فرغ سأله اصحابه عن ذلك القول في الصلوة فقال اني رأيت و انا في الصلوة كلبا قد دخل المسجد الحرام و انتهى الى باب الكعبة فزبرته حتى خرج فتعجب الحاضرون من هذا الكشف العظيم حيث رآى و هو في البصرة كلبا في الكعبة فأتى رجل من الحاضرين الى زوجته و كانت شيعية و ذلك الرجل سني و حكى لها كرامة الشيخ و حثها على متابعة دينه فقالت له ان كنت تريد لتحولني الى دينك فاطلب هذا الشيخ الى الضيافة يوما حتى اتحول الى مذهبك في حضوره ففرح الرجل فواعد الشيخ يوما فقال للمرأة اصنعي هذا اليوم طعاما للشيخ و اصحابه فلما جلسوا وضعت الصحون بين ايديهم و على رأس كل صحن دجاجة و دجاجة صحن الشيخ وضعتها تحت الطعام فلما نظر الى صحنه غضب غضبا شديدا و امتنع عن الاكل و قل كيف ما وضعتم لي دجاجة فكانت المرأة واقفة تنظر الى ما يصنع الشيخ فلما رأت منه حالة الغضب

ص:221

اتت الى صحنه و اخرجت الدجاجة من تحت الطعام،و قالت يا شيخ انك في البصرة و رأيت الكلب وه في مكة حتى قطعت الصلوة لاجله،فكيف لا ترى الدجاجة التي هي امامك و ما بينك و بينها حايل سوى لقمة من الطعام؟فقال ذلك الشيخ هذه رافضية خبيثة،فقام و خرج و رجع زوج المرأة الى دين زوجته.

و من ذلك ان الشيخ حبيب الكهمري قد كان في البصرة و كان من اعاظم عبادهم و زهادهم،و قد كان فيه حصر البول فكان يوما من الايام جالسا مع الناس فأخذه حصر البول فتعصر و تشنجت عروقه و بقى ساعة على ذلك الحال حتى خرج منه من البول ما ابتل منه ثيابه فقالوا له لم جرى عليك هذا الحال؟فقال ان مركبا من مراكب البحر كان قد اشرف على الغرق فرأيته و هو في البحر فتناولت حبال ذلك المركب حتى نجيتهم من الغرق و قد ابتلّ ثوبي من ماء فأتوا الى ثوبه و مسحو ذلك الماء الذي في الثوب على وجوههم و لحاهم تبركا به.

و انه يجبني نقل حكاية فعلها رجل بحراني مع هذا الشيخ و هي ان ذلك الرجل البحراني قال لاصحابه يوما امضوا بنا الى الشيخ حبيب حتى نضحك على لحيته و نأخذ منه مبلغا من الدراهم فقالوا له ما نقدر على هذا الحال فقال لهم لكني انا اقدر فأتوا الى الشيخ و هو جالس بين تلاميذه فسلّم عليه و قال يا شيخ انا رجل من الشيعة و قد امنتك امانة و اريدها الان،فقال و ما هي قال انني كنت في البحر في اليوم الفلاني و قد اشرفت السفينة على الغرق فرمت التجار اموالهم في الماء و قالوا يا ماء هذا امانة الشيخ حبيب،فلما رأيتهم صنعت انا مثلهم و كان مالي الف درهم و اظن الماء لا يخونك في الامانة بل قد اداها اليك فتفكر الشيخ في نفسه و بهائمه جالسة حوله فقال نعم يا بحراني صدقت في كلامك هذا لان البحر في ذلك اليوم قد دفع الى امانات كثيرة من اهل تلك السفينة فعلّم علائم امامك فقال انها مصرورة في خرقة خضراء كذا صفتها و كذا فقال صدقت يا بحراني عندنا هذه الامانة فدخل البيت و وضع دراهم من ماله في خرقة خضراء فأتى بها الى البحراني و دفعها اليه،فقال البحراني نعم هذه امانتا.

و اما الكرامات التي ظهرت من قبور ائمتهم الاربعة فهي اكثر من ان تحصى،و اعظمها الكرامات التي شاهدها الناس من قبر ابي حنيفة و ذلك ان السلطان الاعظم شاه عباس الاول لما فتح بغداد امر بأن يجعل قبر ابي حنيفة كنيفا و قد واقف وقفا شرعيا بغلتين و امر بربطهما على رأس السوق حتى ان كل من يريد الغائط يركبها و يمضي الى قبر ابي حنيفة لقضاء الحاجة.

و قد طلب خادم قبره يوما فقال له ما تخدم في هذا القبر و ابو حنيفة الان في اسفل درك الجحيم؟فقال ان في هذا القبر كلبا اسود دفنه جدّك المرحوم الشاه اسماعيل لما فتح بغداد قبلك

ص:222

فأخرج عظام ابي حنيفة و جعل موضعها كلبا اسود فانا اخدم ذلك الكلب و كان صادقا في مقالته لان المرحوم شاه اسماعيل فعل مثل هذا.

و من كراماته ان حاكم بغداد طلب علماء اهل السنة و عبّادهم و قال لهم كيف الرجل الاعمى اذا بات تحت قبة موسى بن جعفر عليهما السّلام يرتّد اليه بصره و ابو حنيفة مع انه الامام الاعظم لم يسمع له بمثل هذه الكرامة فأجابوه بأن هذا يصدر ايضا من بركات ابي حنيفة فقال لهم احب ان ارى مثل هذا لا كون على بصيرة من ديني فأتوا رجلا فقيرا و قالوا له انا نعطيك كذا و كذا من الدراهم و الدنانير و قل اني اعمى و امش متكيا على العصا يومين او ثلاثة،ثم تبيت ليلة الجمعة عند قبر الامام ابي حنيفة فاذا اصبحت فقل الحمد للّه الذي ردّ عليّ بصري ببركات هذا صاحب القبر فقبل كلامهم ثم لما بات تلك الليلة تحت قبته اصبح بحمد اللّه و هو اعمى لا يبصر شيئا فصاح و قال ايها الناس حكايتي كذا و كذا و انا رجل صاحب عيال و حرفة فاتصل خبره بحاكم البلد فارسل اليه فقص عليه قصته و احتيالهم عليه فالزمهم بما يحتاج اليه من المعايش مدّة حيوته و نحو ذلك من الكرامات التي لا يحتمل هذا الكتاب نقلها و بالجملة فتصديق مثل هذه الخرافات و الاخذ بأقوال هؤلاء الجماعة الحمقى انما نشأ من القلب المنكوس.

و ينبغي ان تذكر بتخلّيك لقضاء الحاجة نقصك و حاجتك و ما تشتمل عليه من الاقذار و ما في باطنك كما قال سيد الموحدين عليه السّلام ابن آدم انّى لك و الفخر فان اولك جيفة و آخرك جيفة و في دار الدنيا حامل الجيف و النجاسات و قال عليه السّلام ما من عبد الا و به ملك موكل يلوي عنقه حتى ينظر الى حدثه ثم يقول له الملك يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من اين اخذته و الى ما صار فينبغي ان يقول عند ذلك اللهم ارزقني الحلال و جنبني الحرام.

و قد امر ايضا بقناع الرأس فوق العمامة لاظهار الحياء منه سبحانه فانه على حالة خسيسة كأنه لا يجب ان ينظر اليه احد مثل قاطع الطريق فانه ينقب و يتلثم كي لا يعرف في ذلك الحال فاذا كان على هذه الطريقة في الحياء من النجاسات و الظاهرة فكيف لا يكون كذلك مع النجاسات الباطنة و دفعها و كما ان من اخرج هذه النجاسات الظاهرة و دفعها يحصل له الاستراحة بدفعها و يحصل له الحالة القابلة لدخوله في الصلوة قال الصادق عليه السّلام سمّى المستراح مستراحا لاستراحة النفوس من اثقال النجاسات و استفراغ الكثيفات و القذر فيها فكذلك اذا اخرج النجاسات الباطنة عن باطنه يحصل له الاستراحة المعنوية و يسكن قلبه من دنسها و يخفّ لبّه من ثقلها و يصلح للوقوف على بساط الخدمة و التأهل للمناجاة.

و ايضا قد امرنا الشارع بالانحراف عن القبلة و تجنبها على الحالتين اشارة الى ان الكعبة لما نسبت اليه سبحانه بأنها بيته وجب تعظيمها و تنزيهها حتى عن المواجهة بالبول و الغائط حتى انه

ص:223

روى عن الرضا عليه السّلام من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها اجلالا للقبلة و تعظيما لها لم يقم من مقعده ذلك حتى يغفر له فاذا لم يرض سبحانه بمواجهة بيته الحسي المركب من الاحجار و الاخشاب بأن يواجه بالنجاسات مع ان بينه و بينه المسافات البعيدة فكيف يرضى بأن يكون بيته المعنوي و محل معرفته و محبته ملطخا بنجاسات المعاصي،كما قال سبحانه في الحديث لم تسعني سمائي و لا ارضي و لا عرشي و لا كرسيّ و لكن وسعني قلب عبدي المؤمن فجعل قلب المؤمن اجلّ و اوسع من العرش و الكرسي مع ما تقدم من احوالهما فينبغي لمن اراد الوقوف بين يديه تعالى ان يصبّ على قلبه ماء التوبة حتى يطهر ما نجس منه.

و كذا كره الشارع له الاكل على الخلا اشارة الى ان المأكول ينبغي ان يعظمه و ان يقبل عليه و ان يجلس له على احسن الاحوال لانه من اعظم نعمه تعالى،روى ان الباقر عليه السّلام دخل الخلا فوجد لقمة خبز في القذر فأخذها و غسلها و دفعها الى مملوك كان معه فقال تكون لآكلها اذا خرجت فلما خرج عليه السّلام قال للملوك اين اللقمة قال اكلتها يا ابن رسول اللّه قال انها ما استقرت في جوف احد الا وجبت له الجنة فاذهب فانت حرّ،فاني اكره ان استخدم رجلا من اهل الجنة،و هذا حال كل لقمة توجد في القذر فتغسل و توكل فقد نزّه الاكل عن بيت الخلا اذا تحققت هذا كله فاعلم انه قد بقي الكلام في مواضع.

الاول في تحقيق معنى القلب الذي قد امرت بطهارته من الرزائل و الاوساخ و امرت ايضا باحضاره في اوقات العبادات و بسببه تتفاوت مراتب الدرجات قال شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه (1)اعلم ان القلب يطلق على معنيين احدهما اللحم الصنوبري المشكل المودع في الجانب الايسر من الصدر و هو لحم مخصوص و في باطنه تجويف و في ذلك التحويف دم اسود،و هو منبع الروح و معدنه و هذا المعنى من القلب موجود للبهائم بل للميت و ليس هو المراد في هذا الباب و نظائره.

و المعنى الثاني لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلّق و تلك اللطيفة هي المعبّر عنها بالقلب تارة و بالنفس أخرى و بالروح أخرى و بالانسان ايضا،و هي المدرك العالم العارف و هو المخطب و المطالب و المعاقب و لها علاقة مع القلب الجسداني و قد تحير عقول اكثر الخلق في ادراك وجه علاقته و ان تعلقه به يضاهي لتعلق الاعراض بالاجسام و الاوصاف بالموصوفات او تعلق المستعمل للالة بالالة او تعلق المتمكن بالمكان و حيث يطلق القلب في الكتاب و السنة فالمراد منه هذا المعنى الذي يفقه و يعلم.

ص:224


1- (1) قاله في كتابه(اسرار الصلوة)المطبوع كرار.

و قد يكنى عنه بالقلب في الصدر كما قال الهل تعالى فانها لا تعمى الابصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور و ذلك لما عرفت من العلاقة الواقعة بينه و بين جسم القلب فانها و ان كانت متعلقة بسائر البدن و مستعملة له و لكنها تتعلق به بواسطة القلب فتعلقها الاول بالقلب و كأنه محلّه و مملكته و المجرى الاول لتدبيره و تصرفه فهما بالنسبة اليه كالعرش و الكرسي بالنسبة الى اللّه تعالى و لا يستقيم هذا التشبيه الا من بعض الوجوه كما لا يخفى و هذا المعنى من القلب في الجسد بمنزلة الملك.

و له فيه جنود و اعوان و اضداد و اوصاف و له قبول للاشراق و الظلمة كالمرآة الصافية التي تقبل انطباع الصور و الاشكال المقابلة لها،و تقبل الظلمة و الفساد و البعد عن الاعداد لذلك بسبب العوارض الخارجة المنفية لجوهرها و ربما وصل اشراقه و استنارته الى حدّ يحصل فيه جليّة الحق و ينكشف فيه حقيقة الامر المطلوب و الى مثل هذا القلب الاشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله اذا اراد اللّه بعبد خيرا جعل له واعظا من قلبه.

و مثال الاثار المذمومة الواصلة اليه المانعة له من الاستنارة و قبول الاسرار مثال دخان مظلم يتصاعد الى مرآة و لا يزال يتراكم عليه مرة بعد اخرى الى ان يسود و يظلم و يصير بالكلية محجوبا عن اللّه تعالى و هو الطبع و الرين اللذين اشير اليهما في القرآن في قوله ان لو نشاء اصبناهم بذنوبهم و نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون،ربط عدم السماع و الطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى في قوله تعالى و اتقوا اللّه و اسمعوا و قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فمهما تراكمت الذنوب طبع على القلب و عند ذلك يعمى عن ادراك الحق و صلاح الدين و يتهاون بالاخرة و بقصر همه على الدنيا و اذا قرعه سمعه امر الاخرة دخل من اذن و خرج من اخرى،و لم يستقر في القلب و لم يحركه الى التوبة و التدارك.

و هذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن و السنة كما في قوله صلّى اللّه عليه و آله قلب المؤمن اجود فيه سراج يزهر و قلب الكافر اسود منكوس و قول الباقر عليه السّلام ان القلوب ثلاثة قلب منكوس لا يعي شيئا من الخير و هو قلب الكافر،و قلب فيه نكتة سوداء فالخير و الشر فيه يختلجان فأيهما كانت منه غلب عليه و قلب مفتوح فيه مصابيح تزهر لا يطفى نوره الى يوم القيامة،فانظر الى قوله لا يطفى نوره الى يوم القيامة فانّ هذا حكم نور القلب بالمعنى الثاني لانه باق و ان خرب البدن بخلاف الاول.

و روى زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام قال ما من عبد الا و في قلبه نكتة بيضاء فاذا اذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء فان تاب ذهب السواد و ان تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فاذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه الى خير ابدا و هو قول اللّه عز و جل كلا بل

ص:225

ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون و قال تعالى ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون فأخبر ان جلاء القلب يحصل بالذكر و ان المتقين هم المتذكرون فالتقوى باب الذكر و الذكر باب الكشف و الكشف باب الفوز الاكبر.

و اعلم ان القلب مثاله مثال حصن و الشيطان عدوّ يريد ان يدخل الحصن و يملكه و يستولي عليه و لا يقدر على حفظ الحصن من العدو الا بحراسة ابواب الحصن و مداخله و مواقع تهمه فينبغي الاهتمام بمعرفة ذلك و الامر الجامع له الاقبال على اللّه و تخيّل انه واقف بين يديه فان لم تراه فانه يراك كما في الخبر فاذا اشعرت بذلك و تحققته و عملت به انسدّت الابواب دون و سادس اللعين و اقبل القلب على اللّه تعالى و تفرغ للعبادة.

و قد روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان العبد اذا اشتغل بالصلوة جاء الشيطان و قال له اذكر كذا اذكر كذا حتى يضلّ الرجل ان يدرك(يدري خ)كم صلّى و من هيهنا ظهر لك ان مجرد التلفظ بالذكر باللسان ليس هو الزاجر للشيطان بل لا بدّ معه من عمارة القلب بالتقوى و تطهيره من الصفات المذمومة التي هي اعوان ابليس و جنده و الا فالذكر من اقوى مداخل الشيطان و كذلك غيره من العبادات و لذلك قال تعالى ان الذي اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون فخصص ذلك ذلك بالمتقي و تأمل انت في منتهى ذكرك و عبادتك و افضل اعمالك و هو الصلوة فليس الخبر كالعيان فراقب قلبك اذا كنت في الصلوة كيف يتجاذبك الشيطان في الاسواق و البساتين و حساب العاملين و جواب المعاندين و غيرهم،و كيف يمرّ بك في اودية الدنيا و مهالكها حتى انك لا تتذكر ما نسيته في فضول الدنيا الا في صلاتك و لا يزدهم الشيطان على قلبك الا اذا صليت فلا جرم لا يطرد عنك الشيطان بصورة العبادة و ان تأدّى بها الواجب عليك و خرجت من عهدة الامر الالهي بل لا بد في دفعه مع ذلك من اصول اخرى و اصلاح الباطن من الرذائل التي هي اعوانه و جنده و الا لم يرد الا ضررا كما ان الدواء قبل الاحتماء لا يزيد المريض الا مرضا و الما ثم بعد ذلك يتصف بالفضائل و حينئذ يصير قلبه قابلا للاقبال مشفقا من التفريط و الاهمال قال اللّه تعالى الا بذكر اللّه تطمئن القلوب فاجعل هذه العلامة بينك و بين استقامة قلبك و اقباله اوقفنا اللّه و اياك بساط الاستقامة بمحمد و آله انتهى.

اقول ما ذكره طاب ثراه من تجاذب الشيطان في الاسواق مشاهد بالوجدان و يعجبني نقل حكاية حكاها رجل ثقة عادل و هو انه قال اني فكرت في قلبي انه قد جاء في الحديث ان من قبلت منه صلاة ركعتين لا يعذبه بعده فقلت اني امضي الى مسجد الكوفة و انفرد بصلوة ركعتين بحضور القلب و استجماع الشرائط فمضيت اليه و شرعت في صلاة الركعتين و فرّغت

ص:226

قلبي من وساوس الشيطان فعنّ على خاطري ان مسجد الكوفة ليس فيه منارة و لو اراد احد ان يبني فيه منارة فمن اين يأتي بالصخرة و الجص؟

فقلت لعله يستقيم من الموضع الفلاني فاذا بناها البنّاء يتمها في كم يوم و كيف يصنع رأسها فلما فرغت من صلاة الركعتين قارن فراغي من بناء المنارة فظهر لي انما اتيت الى مسجد الكوفة لبناء المنارة لا لصلوة ركعتين.

الموضع الثاني في الاستشهاد على ما ينبغي من احضار القلب في حال العبادة سيّما الصلوة التي هي عمود الدين و رأس الاعمال قال اللّه تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون و قال تعالى فويل للمصلين الذين هم على صلاتهم ساهون ذمهم على الغفلة عنها مع كونهم مصلّين لا لانهم سهوا عنها و تركوها و قال تعالى و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم و جلة أي يفعلونه في حال قلوبهم و الاتصاف بالوجل حال العمل مستلزم لحضور القلب على اتم وجه و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله الصلوة ميزان من وفى استوفى.

و قال صلّى اللّه عليه و آله اعبد اللّه كأنه تراه فان لم تراه فانه يراك و قال صلّى اللّه عليه و آله اما يخاف الذي يحوّل وجهه في الصلوة ان يحوّل اللّه وجهه وجه حمار و قال صلّى اللّه عليه و آله من صلّى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من امر الدنيا غفر اللّه له ذنوبه و عنه صلّى اللّه عليه و آله من حبس نفسه في صلاة فريضة فأتمّ ركوعها و سجودها و خشوعها ثم مجّد اللّه عز و جل و عظّمه و حمده حتى يدخل وقت صلاة اخرى لم يبغ بينهما كتب اللّه له كأجر الحاج المعتمر و كان من اهل عليين و عنه صلّى اللّه عليه و آله ان من الصلوة لما يقبل نصفها و ثلثها و ربعها و خمسها الى العشر،و ان منها لما يلفّ كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها و انما لك من صلاتك ما اقبلت عليه بقلبك.

و عن ابي حمزة الثمالي قال رأيت علي بن الحسين عليهما السّلام يصلّي فسقط ردائه عن منكبيه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته قال فسألته من ذلك،فقال ويحك أ تدري بين يدي من كنت ان العبد لا يقبل صلاة الا ما اقبل فيها فقلت جعلت فداك هلكنا فقال كلا ان اللّه يتم ذلك بالنوافل و عن ابي جعفر عليه السّلام قال ان اول ما يحاسب به العبد عن الصلوة فاذا قبلت قبل ما سواها ان الصلوة اذا ارتفعت في وقتها رجعت الى صاحبها و هي بيضاء مشرقة تقول حفظتني حفظك اللّه و اذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت الى صاحبها و هي سوداء مظلمة تقول ضيعتني ضيعك اللّه و عن سفيان قال سألت الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل الا من اتى اللّه بقلب سليم قال السليم الذي يلقى ربه و ليس فيه احد سواه.

الموضع الثالث في الدواء النافع لحضور القلب اعلم ان المؤمن لا بدّ ان يكون معظما للّه و خائفا و راجيا و مستحيا من تقصيره فلا ينفعك عن هذه الاقوال بعد ايمانه و ان كانت قوتها

ص:227

عنده بقدر قوة يقينه فانفكاكه عنها في الصلوة لا سبب له الا تفرق الفكر و تقسم الخاطر و غيبة القلب عن المناجاة و الغفلة عن الصلوة و لا يلهى عن الصلوة الا الخواطر الواردة الشاغلة.

فالدواء في احضار القلب هو دفع تلك الخواطر و لا يدفع الشيء الا بدفع سببه و سبب توارد الخاطر اما ان يكون امرا خارجا او امرا في ذاته باطنا اما الخارج فما يقرع السمع و يظهر للبصر فان ذلك قد يخطف الهمّ حتى يتبعه و يتصرف فيه ثم ينجرّ منه الفكر الى غيره و يتسلسل و يكون الابصار سببا للافتكار ثم يصير بعض تلك الافكار سببا للبعض الاخر و من قويت رتبته و علت همته لم يلهه ما يجري على حواسه و لكن الضعيف لا بدّ و ان يتفرق به فكره فعلاجه قطع هذه الاسباب بان يغضّ بصره و يصلي في بيت مظلم و لا يترك بين يديه ما شغل حسّه و يقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره و يحترز من الصلوة على الشوارع و في المواضع المنقوشة المصنوعة و على الفرش المزينة و لذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم بقدر ما يمكن الصلوة فيه ليكون ذلك اجمع للهم.

و ينبغي ان لا يعدل الى غمض العينين ما وجد السبيل الى القيام بوظيفة النظر و هي جعله قائما الى موضع سجوده و غيره من الامور المعلومة شرعا فان تعذّر القيام بها مع فتحهما فالغمض اولى لان الفائت من وظيفة الصلوة و صفتها بتقسم الخاطر اعظم منه مع الاخلال بوظيفة النظر.

و ليخطر بباله عند نظره الى موضع سجوده انه واقف بين يدي ملك عظيم يراه و يطّلع على سريرته و باطن قلبه و ان كان هو لا يراه فان التوجه اليه لا يكون الا بوجه القلب و وجه الرأس مثال و مضاف بالتبع و انه يخاف ان ولاه ظهر قلبه ان يطرده عن باب كرمه و يسلبه عن مقام خدمته و يبعده عن جناب قدسه و مقدّس حضرته و كيف يليق بالعبد ان يقف بين يدي سيده و يوليّ ظهره و يجعل فكره في غير ما يطلبه منه و لا ريب في ان هذا العبد مستحق للخذلان مستوجب للحرمان في الشاهد الخسيس و القياس البعيد فكيف في المقصد الاصلي و الملك الحقيقي و قد ورد في الحديث ان اللّه لا ينظر الى صوركم و لكن ينظر الى قلوبكم فبهذا و نظائره تجتمع الهمة و يصفو القلب و ينحصر بالنظر الى الامور الخارجية.

و اما الاسباب الباطنة فانه اشدّ فان من تشعبت به الامور في اودية الدنيا لم يحضر فكره في فنّ واحد بل لا يزال يطير من جانب الى جانب و غضّ البصر لا يعنيه فان ما وقع في القلب كاف في المشغل فهذا طريقه ان يرد النفس قهرا الى فهم ما يقرأه في الصلوة و يشغلها به عن غيره و يعنيه على ذلك ان يستعدّ قبل التحريم بأن يجدد على نفسه ذكر الاخرة و موقف المناجاة و خطر

ص:228

المقام بين يدي اللّه تعالى و هول المطلع و يفرغ قلبه قبل التحريم بالصلوة عمّا يهمه فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت اليه خاطره فهذا طريق تسكين الافكار.

فان كان لا يسكن هائج افكاره بهذا الدواء المسكن فلا ينجيه الا المسهل الذي يقمع مادة الداء من اعماق العروق و هو ان ينظر في الامور الشاغلة الصارفة له عن احضار القلب و لا شك انها تعود الى مهماته و انها انما صارت مهمات بشهواته فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات و قطع العلائق و كل ما يشغله عن صلاته فهو ضدّ دينه و جند ابليس عدوه فامساكه اضرّ عليه من اخراجه فيتخلص عنه باخراجه و قد روى ان بعضهم صلّى في حائط له فيه شجر فأعجبه ريش طائر في الشجر يلتمس مخرجا فأتبعه نظره ساعة لم يذكر كم صلى فجعل حائطه صدقة ندما و رجاء للعوض عما فاته و هكذا كانوا يفعلون قطعا لمادة الفكر و كفارة لما جرى من نقصان الصلوة فهذا هو الدواء القامع لمادة العلة لا يغني غيره فان ما ذكرناه من التلطف بالتسكين و الرد الى فهم الذكر ينفع في الشهوات الضعيفة و الهمم التي لا تشغل الا حواشي القلب.

فأما الشهوة القلبية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها و تجاذبك ثم تغلبك و تنقضي جميع صلواتك في شغل المجاذبة و مثاله رجل تحت شجرة اراد ان يصفو له فكره فكانت اصوات العصافير تشوش عليه فلم يزل يطيرها بخشبة هي في يده و يعود الى فكره فتعود الى التنفير بالخشبة فقيل له ان اردت الخلاص فاقلع الشجرة فكذلك شجرة الشهوة اذا تفرقت اغصانها انجذبت اليها الافكار انجذاب العصافير الى الاشجار و انجذاب الذباب الى الاقذار و الشغل يطول في دفعهما فان الذباب كلما ذبّ آب و لاجله سمي ذبابا فكذا الخواطر فهذه الشهوات كثيرة و قلما يخلو العبد عنها و يجمعها اصل واحد و هو حبّ الدنيا و ذلك رأس كل خطيئة و منبع كل فساد و من انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال الى شيء لا ليتزود منها و يستعين بها على الاخرة فلا يطعن في ان يصفو له لذة المناجاة في الصلوة فان من فرح بالدنيا فلا يفرح باللّه و بمناجاته و اما من كانت الدنيا معه و ليس معها و انما يصرفها حيث امره اللّه و يستعين بها على طاعة اللّه فلا بأس عليه.

فقد قال صلّى اللّه عليه و آله نعم العون على تقوى اللّه الغنا،الا ان موضع تلبيس ابليس و محل الغرور فهذا هو الدواء و لمرارته استشبعته اكثر الطباع و بقيت العلّة مزمنة و صار الداء عضالا حتى ان الابكار اجتهدوا ان يصلّوا ركعتين لا يحدثوا انفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك فاذن لا مطمع فيه لامثالنا و ليت سلم من الصلوة شطرها او ثلثها عن الوسواس فنكون ممن خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا هذا محصل ما حرره شيخنا الشهيد الثاني(ر ه).

ص:229

و لنشرع الان في اسرار الطهارة فنقول اذا توضأ الانسان للصلوة ينبغي ان يستحضر في قلبه ان اللّه سبحانه امره بغسل هذه الاطراف الظاهرة و تنظيفها لاطلاع الناس عليها و لمباشرتها لامور الدنيوية فلأن يطهر قلبه الذي هو محل اطلاع الخالق بالطريق الاولى قال عليه السّلام ان اللّه لا ينظر الى صوركم و لكن ينظر الى قلوبكم و لانه الرئيس الاعظم لهذه الجوارح،و المستخدم لها في الامور المقربة الى جانب القدس فيكون في الامر بغسل الظاهر برهانا على الامر بغسل الباطن فأمر في الوضوء بغسل الوجه لان التوجه في الاقبال بوجه القلب على اللّه تعالى به و فيه اكثر الحواس الظاهرة التي هي اعظم الاسباب فأمر بغسله ليتوجه به و هو خال من تلك الادناس و يترقى بذلك الى تطهير ما هو الركن الاعظم في القياس ثم امر بغسل اليدين لمباشرتها اكثر احوال الدنيا الدنية ثم بمسح الرأس لان فيه القوة المفكرة التي يحصل بواسطتها القصد الى تناول المرادات ثم بمسح الرجلين لان بهما يتوصل الى مطالبه و يتوسل الى تحصيل مآربه.

و امر في الغسل بغسل جميع البشرة لان ادنى حالات الانسان و اشدها تعلقا بالشهوات حالة الجماع و موجبات الغسل و لميع بدنه مدخل في تلك الحالة و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله ان تحت كل شعرة جنابة فكان جميع بدنه بعيدا عن المرتبة العليّة منغمسا في اللذات الدنية كان غسله اجمع من اهم المطالب الشرعية ليتأهل لمقابلة الجهة الشريفة و الدخول في العبادة المنيفة و لما كان للقلب من ذلك الحظّ الاوفر و النصبي الاكمل كان الاشتغال بتطهيره من الرذائل و التوجهات المانعة من ذلك الفضائل اولى من تطهير تلك الاعضاء الظاهرة عند اللبيب العاقل قال مولينا امير المؤمنين عليه السّلام لا تجوز صلاة امرء حتى يطهر خمس جوارحه الوجه و اليدين و الرأس و الرجلين بالماء القلب بالتوبة و كان الحسين عليه السّلام اذا توضأ تغيّر لونه و ارتعد مفاصله فقيل له في ذلك فقال حق لمن وقف بين يدي الملك الجبار ان يصفّر لونه و ترتعد مفاصله.

و امر في التيمم بمسح الاعضاء بالتراب عند تعذر غسلها بالماء الطهور وضعا لتلك الاعضاء الرئيسة و هضما لها بتقليها بأثر التربة الخسيسة و هكذا يخطر ان القلب اذا لم يمكن تطهيره من الاخلاق الرذيلة و تحليته بالاوصاف الجميلة فليقمه في مقام الهضم و الازراء و يسقه بسياط الذل و الاغضا عسى يرحمه مولاه و في الروايات ان جماعة من اليهود سألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله لاي علة توضى هذه الجوارح الاربع و هي انظف المواضع في الجسد؟قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لما ان وسوس الشيطان الى آدم صلّى اللّه عليه و آله دنى من الشجرة فنظر اليها فذهب ماء وجهه ثم قام و مشى اليها و هي اول قدم مشت الى الخطيئة ثم تناول بيده منها ما عليها فأكل فطار الحلي و الحلل عن جسده فوضع آدم يده على ام رأسه و بكى فلما تاب اللّه عز و جل عليه فرض عليه و على ذريته تطهير هذه الجوارح الاربع فأمره اللّه عز و جل بغسل الوجه لما نظر الى الشجرة و امره بغسل

ص:230

اليدين الى المرفقين لما تناول بهما و امره بمسح الرأس لما وضع يده على ام رأسه و امره بمسح القدمين لما مشى بهما الى الخطيئة و كما ان غسل الجوارح و مسحها كان كفارة ذنب ابينا آدم عليه السّلام فكذلك كفارة لنا ايضا.

و الوضوء واجب لغيره على المشهور فلا يجوز ايقاعه قبل دخول وقت الصلوة لتلك الصلوة نعم لو قصد به استباحة الصلوة و لو كانت نافلة كصلاة الليل او قضائها او تحيّة المسجد او نحو ذلك جاز بذلك الوضوء في صلاة الفريضة و لو قارب وقت الصلوة و اراد ان يتهيأ لها بتقديم الوضوء و نحوه فالظاهر الجواز و ذهب بعض مشايخنا الى ان الوضوء واجب لنفسه لقوله عليه السّلام في غير حديث اذا احدثت فتوضأ فهو يوقعه بنية رفع الحدث و يصلي اذا جاء الوقت بذلك الوضوء و هو قريب الا في القول بوجوبه لنفسه نعم هو واجب لغيره مستحب في نفسه و كذلك الغسل ايضا فيجوز تقديم غسل الجنابة على وقت الصلوة.

و منهم من قال انه واجب لنفسه و منهم من قال انه واجب لغيره و ثمرة الخلاف بينهم انما تظهر في نية الوجوب و عدمه و الذي اسقط الوجه و هو الوجه و اكتفى بنية القربة في كل العبادات كان خارجا من هذا الخلاف و مع هذا فالاولى له اذا اراد غسلا واجبا قبل وقت الصلوة ان يقصد صلاة قضاء في ذمته او قضاء صلاة نافلة او نحوها حتى يوقع الغسل بقصد تلك الصلوة و ليأت منها و لو بركعتين لا ان يجعل القصد مجرد احتيال لايقاع الغسل و ان شاء نذر صلاة ركعتين فيقولع الغسل بقصدهما كأن يقول للّه عليّ ان وفّقت للصلوة على محمد و آله لا صلي ركعتين ثم يصلي على النبي صلّى اللّه عليه و آله حذرا من الخلاف في وقوع النذر المطلق.

و اما كيفيته فهو امران الاول الترتيب و هو الاصل في غسل الجنابة و الارتماس انما شرع للتخفيف و كيفيته الكاملة ان يبول ان قدر عليه،و ان يغسل يديه ثلثا الى المرفقين قبل ان يدخلهما الاناء و ان يتمضمض و يستنشق ثلاثا و يغسل فرجه من خبث الجنابة و ينوي اغتسل لاستباحة الصلوة قربة الى اللّه،ثم يصب على رأسه ثلاث اكف ثم على جانبه الايمن كفين و الايسر كفين و تقديم جانب الايمن على الايسر مشهور و قد استدلوا عليه بقوله عليه السّلام في غير حديث،ثم يغسل جانبه الايمن و الايسر.

و اعترض على هذا الاستدلال بأن الواو لا تفيد الترتيب و الاولى هو الاستدل عليه بما ورد في الاخبار من تشبيه غسل الجنابة بغسل الميت و كذا العكس و الترتيب هناك وارد في الاخبار الصحيحة مجمع عليه فيكون الترتيب داخلا هنا ايضا بل قد تحققت سابقا ان غسل الاموات هو غسل الجنابة ايضا و ذلك ان النطفة التي خلق منها تخرج منه عند الموت فهو ايضا غسل جنابة فلو كان واقفا في الماء الى وسطه و اراد غسل الترتيب امكن ايضا،و لكن الاولى له

ص:231

ان يخرج بقية بدنه الذي يكون تحت الماء او يمرّ يديه عليها و هو في الماء ايضا و لا يكلف الخروج عن الماء كما ذهب اليه بعض المعاصرين فانه زيادة تكليف منفي بالاصل و الحديث.

الثاني غسل الارتماس و هو جائز ايضا و لو كان ناقعا في الماء الى وسطه و لا يحتاج الى الخروج خارج الماء ثم يعود اليه كما قاله ذلك الفاضل لما عرفت.

و اما التيمم فقد شرع لرفع الحرج و يجزي فيه ضربة واحدة و ان كان بدلا عن الغسل و العمل بالتفصيل جايز ايضا و علوق شيء من التراب بكفيه ليمسح به وجهه هو الاولى بل القول بوجوبه غير بعيد و اعلم ان الوضوء كما يشرع للصلوة فكذا شرع لغيره ايضا قال هشام بن سالم لابي عبد اللّه عليه السّلام اني اخرج و احب ان اكون معقبا فقال ان كنت على وضوء فانت معقّب و منها السعي في الحاجة فان الصادق عليه السّلام ضمن قضاء تلك الحاجة و منها الوضوء للنوم فان من بات على وضوء كان كمن بات في المسجد يصلي.

نور فيما يختص بالصلوة

قد عرفت انها افضل الاعمال و ان مدار قبول الاعمال على قبولها و مناط ردّ الاعمال على ردها فمن قبلت صلاته قبلت سائر اعماله و ان كانت مردودة و من ردّت عليه صلاته ردّت عليه سائر اعماله و ان كانت مقبولة هكذا جاء في الخبر عن الطاهرين عليهم السّلام.

و روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان كل محلّة يكون فيها تارك صلاة تنزل عليها كل يوم سبعين لعنة و قال صلّى اللّه عليه و آله بني الاسلام على اربع الصوم و الصلوة و الزكوة قال بعض المحققين هذه الاحكام هي المصفية لاصول العناصر في الانسان المشتمل على البواطن و الظاهر انزل الصوم من العنصر الناري لمناسبة بين الصوم و النار و لمعنى مشترك بينهما في رفع الاغيار و تنوير مكان الابصار و الصلوة من العنصر المائي لمناسبة بينهما في اثبات الاثار و الاثمار و الحج من العنصر الريحي لمناسبة بينهما في قمّ البيوت و اخراج السكينة من التابوت و لمعنى مشترك في كشف الاستار و تبيين المقدار و الزكوة من العنصر الترابي المشترك بينهما في الامساك و التحصين و دفع الظن و التخمين و لمعنى رفع رذائل البخل.

فالانسان اذا صام ظاهرا و باطنا صار عنصره الناري ظاهرا ظاهرا و باطنا،فيتبين فيه واحد من حملة العرش و هو جبرئيل عليه السّلام النازل الى العرش و صار قلبا له على النفس و اذا صلى صلاة ناهية عن الفحشاء و المنكر صار عنصره المائي رقيقا يطهره المطهر و يتبين فيه واحد من حملة العرش و هو ميكائيل عليه السّلام و صار عقلا له و اذا حج البيت فرضا و وقف المواقف عرضا صار عنصره الريحي طويلا و عريضا و يتبين فيه واحد من حملة العرش و هو اسرافيل عليه السّلام و صار

ص:232

روحا له في الحياة و اذا زكى ماله لقطع الرذائل صار عنصره الترابي صافيا و يتبين فيه واحد من حملة العرش و هو عزرائيل عليه السّلام و صار نفسا له في دار السّلام فاذا جاء الوقت فينبغي له ان يبادر الى الصلاة لان اللّه سبحانه ارسل اليه من يطلبه لخدمته ذلك الوقتا لخاص،و هم المؤذنون و من هذا كان الحسين عليه السّلام اذا سمع المؤذن تغيّر وجهه و اصفر لونه فقيل له في ذلك؟فقال ان اللّه تعالى ارسل اليّ منيطلبني لخدمة خاصة،و لا ادري أ يقبلها مني ام لا فكيف لا يتغير لوني و في المبادرة الى الصلوة اول وقتها فوائد.

الاولى انها على ما روى يصعد بيضاء نقية تقول حفظتني حفظك اللّه اذا فعلت اول وقتها،الثانية ان صلاة الامام عليه السّلام تقع اول الوقت و تصعدها الحفظة و كذلك صلاة الاولياء و الصلحاء فاذا اتى بها اول وقتها صعدت مع صلاة الامام عليه السّلام في وقت واحد فلعل اللّه سبحانه ان يمنّ عليه بقبول تلك الصلوة المردودة بسبب صعودها مع الصلوات المقبولات لانها كأنها صارت صفقة واحدة فلا بدّ من قبول الكل بسبب الاتفاق في الصعود و لتحصيل مثل هذه الفائدة شرعت صلاة الجماعة و ذلك ان صلوات المؤمنين اذا اجتمعت كلها و صعدت الى جناب الحق تعالى فاما ان يقبلها كلها و الا يقبل شيئا منها و لكن لا بدّ من القبول لان الجماعة الكثيرة اذا تعاونوا على العبادة كان بينهم من هو مقبول الصلوة غالبا فهذه احدى فوائد الجماعة.

و الفائدة الثانية انه قد روى في الاخبار ان صلاة المتزوج تعدل صلاة العزب بسبعين مرة و كذلك صلاة المتطيب تفضل على غيره سبعين مرة و من قدّم شيئا من الصدقة قبل صلاته كانت صلاته افضل من غيرها الى غير ذلك من الامور الباعثة لمزيد الثواب و قلّ ان يكون واحد من المصلين مستجمعا لهذه المقدمات كلها،اما اذا اجتمع جماعة كثيرة على عبادة واحدة كان متطيبا و الاخر متزوجا و الثالث متصدقا الى غير ذلك فتكون صلواتهم كلها كأنها صلاة واحدة مستجمعة لتلك الامور و المقدمات كلها فيكون لكل واحد منهم ثواب الصلوة الكاملة.

و الاخرى من فوائد صلاة الجماعة ان المصلي اذا أخذ في الصلوة تقدمت اليه الشياطين و وقفت امامه ليلقوه في الوسواس و الغفلة عن الصلوة فيقوم بين المصلي و الشيطان الجهاد العظيم و من هذا سمى محراب الصلوة به لانه مكان الحرب مع الشياطين اما اذا كان المؤمنون مجتمعين متعاضدين متعاونين ظفروا على الشياطين و ابعدوهم عن امكنة العبادة و لهذا امر سبحانه بالاستعاذة حال قرائة القرآن و اكده في قرائة الصلوة و ذلك لان الشيطان كالكلب العقور الجاثي على باب صاحبه يمنع الداخلين من دخول ذلك البيت.

ص:233

فمن اراد الوصول الى منزل ذلك الرجل و الدخول الى بيته فلا بدّ له من ان يلجأ الى صاحب الكلب و يدعوه و يناديه حتى يخرج هو او احد خدّامه ليمنع الكلب فكذا هيهنا فان الشيطان كلب و الصلوة باب من اعظم ابواب اللّه تعالى و اكثر حضور الشيطان انما يكون عندها لهذا فلا بد ان يلجأ المصلّى و يناديه تعالى و يقول يا رب استعيذ بك من شر هذا الكلب العقور،و قد بقي تحقيق آخر ذكرناه في شرحنا على الصحيفة.

و في الرواية عن ابي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال أتاني جبرئيل عليه السّلام و معه سبعون الف ملك بعد صلاة الظهر فقال يا محمد ان اللّه جل جلاله يقرئك السّلام و اهدى اليك هديتين لم يهدهما الى نبي قبلك قال يا جبرئيل و ما الهديتان؟قال الصلوات الخمس في الجماعات قلت يا جبرئيل و ما لامتي في الجماعة؟قال يا محمد اذا كانا اثنين كتب اللّه تعالى لكل واحد منهما بكل ركعة مائة و خمسين صلاة و اذا كانوا ثلثة كتب اللّه تعالى لكل واحد بكل ركعة مائتين و خمسين صلاة و اذا كانوا اربعا كتب اللّه تعالى لكل واحد بكل ركعة الفا و مائتي صلاة و اذا كانوا خمسة كتب اللّه تعالى لكل واحد بكل ركعة الفا و ثلثمائة صلاة و اذا كانوا ستة كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة الفين و اربعمائة صلاة و اذا كانوا سبعة كتب اللّه تعالى لكل واحد بكل ركعة اربعة آلاف و ثمانمائة صلاة و اذا كانوا ثمانية كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة تسعمائة الف صلاة و ستمائة صلاة و اذا كانوا تسعة كتب اللّه لكل واحد بكل ركعة تسعة عشر الف صلاة و اذا زادوا على عشرة فلو صارت بحار السموات و الارض كلها مدادا و الاشجار اقلاما و الثقلان و الملائكة كتابا لم يقدروا ان يكتبوا ثواب ركعة واحدة يا محمد تكبيرة يدركه المؤمن مع الامام خير له من سبعين حجة و الف عمرة سوى الفريضة.

و عن عبد اللّه بن مسعود انه فاتته تكبيرة الافتتاح يوما فأعتق رقبة و جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال يا رسول اللّه قد فاتتني تكبيرة الافتتاح يوما فأعتقت رقبة هل كنت مدركا فضلها؟فقال لا قال ابن مسعود ثم اعتقت أخرى فقلت هل كنت مدركا فضلها؟فقال لا يا بن مسعود لو انفقت ما في الارض جميعا لم تكن مدركا فضلها،و قال صلّى اللّه عليه و آله صلاة الرجل في جماعة خير من صلاته في بيه اربعين سنة قيل يا رسول اللّه صلاة يموه قال صلاة واحدة و اذا كان العبد خلف الامام كتب اللّه له مائة الف و عشرين رجة.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان جار بيت اللّه و لم يحضر الجماعة ثلاث ايام متواليات فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الاس اجمعين فان تزوّج فلا تزوجوه و ان مرض فلا تعودوه الا فلا صلاة له الا فلا صوم له الا فلا زكوة له الا فلا حجّ له الا فلا جهاد له.

ص:234

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اتاني جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و عزرائيل مع كل واحد الف ملك فقال يا محمد الجبار يقرئك السّلام و يقول قل لامتك انه من بات مفارقة الجماعة لا يشم رائحة الجنة و ان كان عمله اكبر من اهل الارض لا اقبل منه صرفا و لا عدلا يا محمد تارك الجماعة عندي ملعون و عند الملائكة ملعون و قد لعنته في التورية و الانجيل و الزبور و الفرقان و تارك الجماعة يصبح و يمسي في لعنة اللّه تعالى يا محمد تارك الجماعة لا استجيب له دعوة و لا انزل عليه رحمة و هم يهود امتك ان ماتوا فلا تشهد جنائزهم و لا يمشي على وجه الارض ابغض عليّ من تارك الجماعة يا محمد تارك الجماعة قد امرت كل ذي نفس و روح ان يلعنوه و تاركها اشر من شارب الخمر و المحتكر و من سفّاك الدماء و آكل الربوا و تارك الجماعة ليس في الجنة نصيب و شر من النباش و المخنث و القتات (1)و شاهد الزور و ادخله النار.

و اما فضيلة من امّ الجماعة و ثوابه فقد روى الصدوق في الفقيه في نواهي النبي صلّى اللّه عليه و آله عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السّلام فقال من امّ قوما باذنهم و هم به راضون فاقتصد بهم في حضوره و احسن صلاته بقيامه و قرائته و ركوعه و سجوده و قعوده فله مثل اجر القوم و لا ينقص من اجورهم شيء.

الثالثة من فوائد تقديم الصلوة اوّل وقتها ما روى ان الصلوة اول الوقت رضوان اللّه و آخر الوقت عفو اللّه و اين الرضوان من العفو فان العفو انما يكون عن ذنب و من هنا ذهب شيخ الطائفة قدس اللّه روحه الى انه لا يجوز تأخير الصلوة عن وقت فضيلتها الا لذوي الاعذار و ينبغي ان تتأهب عند حضور وقت الصلوة كما تتأهب عند القدوم على ملك من ملوك الدنيا و تلقاه بالوقار و السكينة و الخوف و الرجاء فان الرحمة عميمة و الطرد عند التقصير متوجه و كم بين ذلك قواما و لا بدّ ان تمثل في نفسك لو ان ملكا من ملوك الارض وعدك بان يكتبك في وقت معين من خواصه و ان يخاطبك في ذلك الوقت و تخاطبه على طريق الانبساط و الانس في مخاطباتك و تطلب اليه ما تحتاج اليه من مهماتك و يجعلك عنده من مقربي العباد و يخلع عليك خلعة سنيّة بين الاشهاد اما كنت تنتظر ذلك الوقت قبل ابانه(ايابه خ)و تهتم له قبل اوانه و تفرح بقربه فضلا عن دخوله أ فلا تجعل عناية اللّه جلّ جلاله بك و اعدادك لمخاطبتك و مخاطبته لك،و كتبته اياك ديوان المقربين بالصلوة التي هي افضل الاعمال مثل وعد ملك من ملوك الدنيا مع عجزه عن نفعك بدون توفيق اللّه سبحانه.

و من هنا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله ينتظر وقت الصلوة و يشتّد شوقه و يترقب دخوله و يقول لبلال مؤذنه ارحنا بلال اشار بذلك الى انه في تعب شديد من عدم اشتغاله بهذه التكليفات و قيامه

ص:235


1- (1) القت نم الحديث تقول فلان يقت لاحاديث أي يتمها و في الحديث لا يدخل الجنة قتات.

بوظائف الصلوة و ان سرّه لا يخلو من ضروب الاباحات الا ان قرّة عينه في الصلوة و استحضر ذلك الوقت عظمة اللّه تعالى و جلاله و نقصان قدرك و كماله.

و قد روى عن بعض ازواج النبي صلّى اللّه عليه و آله انها قالت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحدثنا و نحدثه فاذا حضرت الصلوة فكأنه لم يعرفنا و لم نعرفه شغلا باللّه عن كل شيء و كان علي عليه السّلام اذا حضر وقت الصلوة يتململ و يتزلزل فيقال له ما لك يا امير المؤمنين؟فيقول جاء وقت امانة عرضها اللّه على السموات و الارض فأبين ان يحملنها و اشفقن منها و كان علي بن الحسين عليهما السّلام اذا حضر للوضوء اصفّر لونه فيقال له ما هذا الذي يعتادك وقت الوضوء فيقول ما تدرون بين يدي من اقوم.

و اذا سمعت المؤذن فاخطر في قلبك هول يوم القيامة و تشمر بباطنك و ظاهرك للمسارعة و الاجابة فان المسارعين الى هذا النداء هم الذين ينادون باللفط يوم العرض الاكبر فاعرض على قلبك هذا النداء فان وجدته مملوّا بالفرح و الاستبشار و مستعدا بالرغبة الى الابتدار فاعلم انه يأتيك النداء بالبشرى.

و اما وظيفة التوجه الى بيت اللّه تعالى فان تخطر ببالك انك امرت بصرف وجهك عن كل الجهات الا عن جهة بيته فكذا يجب صرف القلب عن كل ما سواه و قصره عليه بل الحقيقة كما قيل ان المطلوب هو صرف وجه القلب و انما الظواهر محركات للبواطن و وسائل اليها و معارج يترقى اليها و انما امر بضبط الجوارح و تسكينها على جهة واحدة لئلا تبغي على القلب فانها اذا بغت و علت في حركاتها و التفاتها الى جهاتها استتبغت(استعتبت خ)القلب و أخذته معها و انقلبت به عن وجه اللّه تعالى و حينئذ فليكن وجه قلبك موافقا لوجه بدنك و من هنا جاء قول النبي صلّى اللّه عليه و آله اما يخاف الذي يحوّل وجهه في الصلوة ان يحوّل اللّه وجهه وجه حمار،فان ذلك هى عن الالتفات عن اللّه و ملاحظة عظمته في حال الصلوة فان الملتفت يمينا و مشالا ملتفت عن اللّه و غافل عن مطالعة انوار كبريائه و من كان كذلك فيوشك ان تدوم تلك الغفلة عليه فيتحول وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلّة ادراكه للامور العلوية و عدم اكرامه بشيء من العلوم و المعارف.

و بالجملة فكمالا يتوجه الوجه الى جهت البيت الا بالصرف عن غيرها فكذا لا ينصرف القلب الى اللّه تعالى الا بالتفرغ عمّا سواه قال النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا قام العبد الى صلاته فكان هواه و قلبه الى اللّه انصرف كيوم ولدته امه،و قال الصادق عليه السّلام اذا استقبلت القبلة فايس من الدنيا و ما فيها و الخلق و ما هم فيه،و استفرغ قلبك عن كل شاغل يشغلك عن اللّه و عاين بسرك

ص:236

عظمة اللّه تعالى و اذكر وقوفك بين يديه يوم تبول كل نفس ما اسلفت و ردوا الى اللّه موليهم الحق.

و اما وظيفة القيام فان تذكر انك قائم بين يديه تعالى و هو مطلع على سريرتك و هو اقرب اليك من حبل الوريد فاعبده حتى كأنك تراه فان لم تراه فانه يراك و انصب قلبك بين يديه كما نصبت شخصك و طأطأ برأسك الذي هو اشرف اعضائك مطرقا مستكينا و قم بين يديه قيامك بين يدي ملوك الزمان ان كنت تعجز عن كنه معرفة جلاله فانك تجد وجدانا ضروريا انك تتقهّر عن مكالمة الملك و محاورته و تلزم معه السكون و الخضوع و ربما يتبع ذلك رعدة البدن و تلعثم اللسان،و منشأ ذلك كله الخوف الحادث عن تصور عظمته فكيف تتصور جبّار الجبابرة و ملك ملوك الدنيا و الاخرة و كذلك يحصل الرجا عند تصور عظمته و استشعار ان الكل منه فان ذلك باعث على رجائه و كذلك يستلزم الحياء منه لان المتصور عظمة الامر لا يزال مستشعرا تقصيرا و متوهما ذنبا،و قدّر في دوام قيامك في صلاتك انك ملحوظ و مرقوب بعين كالئة من رجل صالح من اهلك و ممن ترغب ان يعرفك بالصلاح فانه تسكن عند ذلك اطرافك و تخشع جوارحك فقل لنفسك كيف تستحين من عبد مثلك مقدّر الوجود و الاطلاع عليك و لا تستحين من هذا الملك القهّار الذي انت بين يديه.

و روى انه سأل صلّى اللّه عليه و آله كيف الحياء من اللّه؟قال كما تستحي من رجل من قومك و كما يجب حراسة العين و الوجه عن الالتفات فكذا يجب حفظ القلب و حراسته عن الشواغل عن الاقبال و مهما خشع الباطن خشع الظاهر،قال صلّى اللّه عليه و آله و قد رأى مصليا يعبث بلحيته اما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فان الرعين بحكم الراعي و لهذا ورد في الدعاء اللهم اصلح الراعي و الرعية يعني القلب و الجوارح،و من هذا التحقيق يظهر لك السرّ فيما ورد من النهي عن التمطي و التثأب و العبث في الصلوة فان النهي عنها معناه الامر بضدها و هو الاقبال عليه تعالى و استشعار عظمته و الوقوف بين يديه فانه اذا فعل هذا زال عنه التمطي و التثأب و غيرها من المنهيات.

و اما الاذان و الاقامة ففيهما من الفضل ما لا يحصى و في الرواية من صلّى بأذان و إقامة صلّى خلفه صفّان فيما بين المشرق و المغرب و ان صلّى بالاقامة وحدها صلّى خلفه صفّ واحد و هما في صلاة الصبح و المغرب واجبان و في غيرهما مستحبان.

و روى انه سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله ما الحكمة في انه جعل للصلوة الاذان و لم يجعل لسائر العبادات اذا و لا دعاء،قال لان الصلوة شبيه بأحوال يوم القيامة لان الاذان شبيه بالنفخة الاولى بموت الخلائق و الاقامة شبيه بالنفخة الثانية كما قال اللّه تعالى فاستمع يوم ينادي المنادي

ص:237

من مكان قريب و القيام الى الصلوة شبيه بقيام الخلائق كما قال اللّه تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين،و رفع الايدي الى التكبيرة الاولى شبيه برفع اليد لاخذ الكتاب يوم القيامة،و القرائة في الصلوة شبيهة بقرائة الكتب بين يدي رب العالمين كما قال اللّه تعالى إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا،و الركوع شبيه بركوع الخلائق لرب العالمين كما قال اللّه تعالى و عنت الوجوه للحي القيوم و السجود شبيه بالسجود لرب العالمين كما قال عز ذكره يوم يكشف عن شاق و يدعون الى السجود و التشهد شبيه بالجثو بين يدي رب العالمين كما قال عز ذكره فريق في الجنة و فريق في السعير،و تفسير اللّه اكبر انه اكبر من كل شيء او من ان يدرك بالحواس و في الروايات معناه اكبر من ان يوصف فليكن قلبك موافقا للسانك و لا تجعل احدا شريكا له في العبادة بان يكون ملحوظك في الصلوة معه كما في حالات الرياء.

قال الصادق عليه السّلام اذا كبرت فاستصغر ما بين العلا و الثرى دون كبريائه فان اللّه تعالى اذا اطلع على قلب العبد و هو يكبر و في قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال يا كاذب أ تخدعني؟ و عزتي و جلالي لاحرمنك حلاوة ذكري،و لا حجبنك عن قربي و المسارّة بمناجاتي فاعتبر قلبك حين صلاتك فان كنت تجد حلاوتها و في نفسك سرورها و بهجتها و قلبك مسرورا بمناجاته ملتذا بمخاطباته فاعلم انه قد صدّقك في تكبيرك و الا فاعرف منه سلب لذة المناجاة و حرمان حلاوة العبادة فهذا دليل على تكذيب اللّه تعالى لك و طردك عن بابه نعوذ باللّه من ذلك.

و اما دعاء التوجه فاول كلماته وجهت وجهي للذي فطر السموات و الارض حنيفا قال شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه ليس المراد بالوجه الوجه الظاهر فانك انما وجهته الى جهة القبلة و اللّه سبحانه تقدس عن ان تحدّه الجهات حتى تقبل بدنك عليه انما وجه القلب هو الذي يتوجه الى اللّه فاطر السموات و الارض فانظر الى وجه قلبك أ متوجه هو الى امانيّه و هممه في البيت و السوق و غيرهما متّبع للشهوات ام مقبل على فاطر السموات و اياك ان تكون مفاتحتك للمناجاة بالكذب و الاختلاف فيصرف وجه رحمتك عنك و لن ينصرف الوجه الى اللّه الا بالانصراف عمّن سواه فان القلب بمنزلة مرآة وجهها صقيل و ظهرها كمد لا يقبل انطباع الصور فاذا توجهت الى شيء انطبع فيها و استدبرت غيره لا يمكن انطباعه و لهذا كانت الدنيا و الاخرة ضرتين كلما قربت من احديهما بعدت عن الاخرى فاجتهد في الحال في صرفه اليه و ان عجزت عنه على الدوام ليكن قولك في الحال صادقا عسى ان يسامحك في الغفلة بعد ذلك.

و اذا قلت حنيفا مسلما فينبغي ان تحضر في بالك ان المسلم هو الذي سلم المسلمون من يده و لسانه،فان لم تكن كذلك كنت كاذبا فاجتهد ان تعزم عليه في الاستقبال و تندم على ما سبق من الاحوال.

ص:238

و اذا قلت و ما انا من المشركين فاحظر ببالك الشرك الخفي و ان قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صلحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا جعل من يقصد بعبادة ربه وجه اللّه و حمد الناس مشركا فاستشعر العجلة في قلبك ان وصفت نفسك في انك لست من المشركين من غير برائة من هذا الشرك فان اسم الشرك يقع على القليل و على الكثير منه.

و اما قوله محياي و مماتي فقد قال بعض المحققين المراد بالمحيا الامور الصادرة من الانسان في حيوته و المراد بالممات الامور المتعلقة على موته كالوصايا و نحوها و لكن التحقيق ان قوله محياي و مماتي مصدران و معناه ان حياتي و موتي منسوبان ليك لا اختيار لي في شيء منهما او المعنى ان حيوتي و موتي لك لا احب منهما الا ما احببته لي منهما كما روى ان سلمان قال الموت احب الي من الحياة فقال علي عليه السّلام لكني انا احب ما احبه اللّه لي الموت و الحياة و الخيف المائل من الاعوجاج الى الاستقامة و المسلم المنقاد لاوامر اللّه تعالى و نواهيه فهذه درجة الاسلام فوق الايمان الكامل و به وصف الخليل عليه السّلام نفسه حيث قال حنيفا مسلما و هو المراد في دعاء الميت في قوله عليه السّلام اللهم اغفر للمؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات و ليس لمراد به معناه العام لدخول فرق الاسلام كلها مع انهم ليسوا من اهل هذا الدعاء و ايضا فان وقوعه بعد المؤمنين و المؤمنات شاهد على ارادة ذلك المعنى الخاص كما لا يخفى.

و اما النية و وظيفتها فاعلم ان النية ليست عبارة عن الالفاظ و لا عن معانيها الدالة عليها و انما هي عبارة عن الداعي و الحامل على ذلك الفعل و الدواعي في العبادات خصوصا الصلوة و ان كانت متكثرة الا انها ربما حصرت في ثمانية اولها الرياء ثانيها قصد الثواب و الخلاص من العقاب.

ثالثها فعلها شكر اللّه تعالى على نعمه و استجلابا للمزيد،رابعها فعلها حياء منه تعالى، خامسها فعلها حبا له تعالى،سادسها فعلها تعظيما للّه و مهابة و انقيادا و اجابة سابعها فعلها موافقة لارادته و طاعة لامره،ثامنها فعلها لكونه تعالى اهلالها كما قال سيد الموحدين امير المؤمنين عليه السّلام ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك و لكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك.

و لا خلاف في بطلان الصلوة بالقصد الاول كما لا خلاف في صحتها بالقصد الاخير نعم ذهب سيدنا المرتضى قدس اللّه روحه الى ان الصلوة مجزية غير مقبولة يعني انها لا تحتاج الى القضاء و لكن لا يترتب عليها ثواب و المشهور هو بطلانها و احتياجها الى القضاء و اما قصد الغايات الاخر فالمشهور بين اصحابنا على ما حكاه عنهم شيخنا الشهيد طاب ثراه هو بطلان الصلوة بقصد غاية من تلك الغايات خصوصا قصد الغاية الثانية فانهم قالوا ان قاصدها انما قصد جلب النفع الى نفسه و دفع الضرر عنها و سموه قاصد الرشوة و البرطيل و بالغ في بطلان

ص:239

العبادة عند قصدها التقي ابن طاووس و الذي يفهم من الاخبار و اليه ذهب جماعة من المتأخرين هو صحة الصلوة عند قصد هذه الغايات كلها سوى الريا و ذلك ان الكتاب و السنة قد اشتملا على المرهبات من الحدود و التعزيرات و الذم و الايعاد بالعقوبات و على الرغبات من المدح و الثناء في العاجل و الجنة و نعيمها في الاجل و قد فصل نعيم الجنة الى الشراب و حور العين و الولدان و الثمار الى غير ذلك لعلمه سبحانه باختلاف طبايع العباد و رغباتهم فرغّب في طاعته كل جماعة بنوع من الانواع.

و اما الحياء فغرض مقصود و قد جاء في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله استحيوا من اللّه سبحانه حق الحياء اعبد اللّه كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك فانه اذا تخيّل الرؤية انبعث على الحياء و التعظيم و المهابة و عن امير المؤمنين عليه السّلام و قد قال له ذعلب اليماني بالذال المعجمة المكسورة و العين المعملة الساكنة و اللام المكسورة هل رأيت ربك يا امير المؤمنين؟فقال عليه السّلام لا اعبد من لا ارى فقال و كيف تراه؟قال لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الايمان.

فلو لم تكن هذه الموهبات و الرغبات دواعي صحيحة و بواعث صريحة لما ذكرت في مقام طلب الطاعات و ايضا فان ارادة الثواب و الخلاص من العقاب لا ينفيان الغاية الاخيرة بل هما في التحقيق راجعان اليها في حقنا مع ان مشائخنا قدس اللّه ارواحهم رووا في الحسن عن الصادق عليه السّلام انه قال العبّاد ثلاثة قوم عبدوا اللّه عز و جل خوفا من العقاب فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلبا للثواب فتلك عبادة الاجراء،و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى حبا له فتلك عبادة الاحرار و هي افضل العبادة فان افعل التفضيل يقتضي المشاركة في اصل الفعل مع ان قول امير المؤمنين عليه السّلام ما عبدتك خوفا من نارك الحديث مما قد تمدّح به عليه السّلام و امتاز به عن الناس فكيف و انّى لغيره هذه الدرجة الرفيعة و الحالة المنيعة.

و القول باللسان لا يغني من جوع و انما الاصل ان يكون ذلك القصد من الاحوال الذاتية للانسان حال الاقبال على العبادة و ايضا فقد روى في الحديث المشهور عنه صلّى اللّه عليه و آله من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه و ان لم يكن الحديث كما بلغه فانه يعطي بظاهره ان ذلك العمل المثاب عليه انما يقصد الثواب و بالجملة فكل ما جعله الشارع غاية للفعل كان قصده غير مناف للاخلاص و القربة و حينئذ فما ورد من ان بعض الصلوات لجلب الارزاق و بعضها لقضاء الدين و بعضها للاولاد الى غير ذلك من الغايات الدنيوية يجوز فعلها بقصد هذه الغايات.

ص:240

و اما ما ذكره بعض فقهائنا رضوان اللّه عليهم من وجوب مقارنة النية للتكبيرة فهو بمعزل عن التحقيق و ذلك لما عرفت من ان النية ليست عبارة عن قوله اصلي صلاة الظهر لوجوبه قربة الى اللّه و لا عن معنى هذه الالفاظ الذي يتصوره بقلبه فان هذا القصد مما يجامع صلاة الريا ايضا بان يكون الحامل على فعل الصلوة هو الرياء و يكون قد قصد معاني هذه الالفاظ و قارن بها التكبير و النية بذلك المعنى الذي قلناه لازم لفعل الفاعل اذا لم يكن غافلا و لا ساهيا و من ثم قال المحقق ابن طاووس(ره)لو كلفنا بعبادة خالية عن النية لكان من باب التكليف بما لا يطاق فأين هذا المعنى من المقارنة و عدمها،و لهذا لم يرد من الشارع مثل هذه الخصوصيات.

نعم الذي ورد انما هو الحث على امر النية و ايقاعها على وجه الاخلاص و ان مدار الاعمال انما هو عليها كما قال صلّى اللّه عليه و آله انما الاعمال بالنيات و انما لكل امرئ ما نوى حتى ذكر اهل الدراية ان هذا الحديث من المتواترات لفظا و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار و نفى تواتر غيرهما و مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله نيّة المؤمن خير من عمله و نيّة الكافر شرّ من عمله، و مثل قوله نيّاتكم خطاياكم و نحو ذلك.

فان قلت ما تقول في السؤالين الواردين على ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله نيّة المؤمن خير من عمله و نية الكافر شر من عمله احدهما انه روى ان افضل العبادة احمزها و لا ريب ان العمل احمز من النية فيكون مفضولا و روى ايضا ان المؤمن اذا همّ بحسنة كتبت له عشرا و هذا صريح في ان العمل افضل من النية و خير،السؤال الثاني انه روى ان النية المجردة لا عقاب فيها فيكف يكون شرا من العمل.

قلت قد اجيب عنهما بأجوبة كثيرة الاول ما حكاه سيدنا المرتضى طاب ثراه من ان نية المؤمن بغير عمل خير من عمله بغير نية و جاب(ره)عنه بأن افعل التفضيل يقتضي المشاركة و العمل بغير نية لا خير فيه فكيف يكون داخلا في باب التفضيل و لهذا لا يقال العسل احلى من الخل.

الثاني انه عام مخصوص او مطلق مقيد أي نية بعض الاعمال الكبائر كالجهاد خير من بعض الاعمال الخفيفة كتحميدة واحدة مثلا لما في تلك النية من التعرض للهم و الغم الذي لا يوازيه تلك الافعال.

الثالث ان النية يمكن فيه الدوام بخلاف العمل فانه يتعطل عنه المكلف احيانا فاذا نسبت هذه النية الدائمة الى العمل المنقطع كانت خيرا منه،و كذا القول في نية الكافر الرابع ان النية لا يكاد يدخلها الريا و لا العجب لانا نتكلم على تقدير النية المعتبرة شرعا بخلاف العمل فانه معرضة لذنيك و يرد عليه ان العمل و ان كان معرضا لهما الا ان المراد به العمل الخالي عنهما

ص:241

و الا لم يقع التفضيل الخامس ان يراد بالمؤمن المغمور بمعاشرة اهل الخلاف فان غالب افعاله جارية على التقية و مداراة اهل الباطل و لكن نيته مع اللّه تعالى على العمل الصحيح في الواقع و هذه الاجوبة الثلاثة لشيخنا الشهيد قدس سره.

السادس ان لفظة خير ليست بمعنى افعل التفضيل بل هي الموضوعة لما فيه منفعة و يكون معنى الكلام ان نية المؤمن من جملة الخير من اعماله حتى لا يقدر مقدّر ان النية لا يدخلها الخير و الشر كما يدخل ذلك في الاعمال و حكى عن بعض الوزراء(الفضلاء خ)استحسانه لانه لا يرد عليه شيء من الاعتراضات.

السابع ان لفظة افعل التفضيل قد تكون مجردة عن الترجيح كما في قوله تعالى و من كان في هذه اعمى فهو في الاخرة اعمى و اضل سبيلا،الثامن ان المؤمن ينوي الاشياء من ابواب الخير نحو الصدقة و الصوم و الحج و لعله يعجز عنها او عن بعضها فيوجز على ذلك لانه معقود النية عليه و هذا الجواب منسوب الى ابن دريد و رواه الكليني في الاصول في باب النية عن ابي بصير عن الصادق عليه السّلام التاسع ما اجاب به الغزالي و هو ان النية سرّ لا يطلع عليه الا اللّه سبحانه و العمل السر افضل من العمل الظاهر،العاشر ان النية تدوم الى آخر العمل لا يتصور فيها الدوام لانها تتصرم شيئا فشيئا.

الحادي عشر قول الصادق عليه السّلام انما خلّد اهل النار في النار لان نياتهم كانت في الدنيا ان لو بقوا فيها ان يعصوا اللّه ابدا و انما خلّد اهل الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا ان لو بقوا فيها ان يطيعوا اللّه ابدا فبالنيات خلّد هؤلاء و هؤلاء،ثم تلا قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته قال على نيته و هذا جواب واضح الصحة،الثاني عشر ان مراده كونه طبيعة النية خيرا من طبيعة العمل و ذلك انه لا يترتب عليها عقاب اصلا بل ان كانت خيرا اثيب عليها و ان كانت شرا كان وجودها كعدمها بخلاف العمل.

الثالث عشر ان النية من اعمال القلب و هو افضل الجوارح فعمله افضل من عملها أ لا ترى ان قوله تعالى أقم الصلوة لذكري جعل سبحانه اياها وسيلة الى الذكر و المقصود اشرف من الوسيلة.

الرابع عشر ان المراد بالنية تأثر القلب عند العمل و انقياده الى الطاعة و اقباله على الاخرة و انصرافه عن الدنيا و ذلك يشتدّ بشغل الجوارح في الطاعات و كفها عن المعاصي فان بين الجوارح و القلب علاقة شديدة يتأثر كل منهما بالاخر و المقصود من اعمال الجوارح حصول ثمرة القلب فلا تظن ان في وضع الجبهة على الارض غرضا من حيث انه جمع بين الجبهة

ص:242

و الارض بل من حيث انه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فكانت النية روح العمل و ثمرته و المقصود الاصلي من التكليف انما هو التكليف به فكانت افضل و هذا قريب مما تقدم.

الخامس عشر ان النية ليست مجرد قولك عند الصلوة و الصوم او التدريس اصلي او اصلي او ادرّس قربة الى اللّه تعالى و انما النية المعتبرة انباث النفس و ميلها و توجهها الى ما فيه غرضها و مطلبها و هذا الانبعاث و الميل اذا لم يكن حاصلا لها لا يمكنها اختراعه و اكتسابه بمجرد النطق بتلك الالفاظ و تصور تلك المعاني و ما ذلك الا كقول الشبعان اشتهي الطعام و ذلك الميل و الانبعاث لا يحصلان الا بتخلي النفس عن الاوصاف الذميمة و التوجه الى الجادة المستقيمة فالنية الخالصة خير من العمل و اشق منه على ما هو موجود في الوجدان،السادس عشر ان العمل يوجد بالنية لا النية بالعمل،السابع عشر ان النية لا تدفع الى الخصماء كسائر الاعمال.

الثامن عشر ان الحديث ورد في سبب خاص و هو ان رجلا من الانصار نوى ان يعمل جسرا كان على باب المدينة قد انهدم فسبقه الى عمله يهودي فاغتمّ الانصاري لذلك فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله نية المؤمن خير من عمله يعني من عمل الكافر اليهودي،التاسع عشر ما رواه الصدوق في كتاب العلل عن الشحّان قال قلت لابي عبد اللّه اني سمعتك تقول نية المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيرا من العمل؟قال لان العمل ربما كان راء للمخلوقين و النية خالصة لرب العالمين فيعطي عز و جل على النية ما لا يعطي على العمل و هذا يقوي الوجه الرابع و يحققه.

العشرون ما قاله بعض المعاصرين من ان خيرا و شرا منصوبان على المفعولية للنية لانه مصدر و الرفع انما وقع تحريفا فالمعنى ان المؤمن اذا نوى خيرا تكون تلك النية من جملة اعماله و كذا الكافر و يرد عليه ضبطهما بالرفع و دلالة الحديث الاول على الرفع كما هو ظاهر و الى الان لم تجتمع هذا الاجوبة كلها محررة في كتاب قبل هذا.

فان قلت قد ذكرت في تضاعيف هذه الوجوه ان النية المجردة لا يترتب عليها عقاب و قد روى ايضا مثله في الاخبار فما تقول في ظاهر قوله تعالى ان تبدوا ما في انفسكم و تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و في بعض الاخبار ايضا ان اللّه تعالى يحاسب على خطرات القلب و لحظات العيون قلت خواطر القلب قسمان منها ما يخطر بالقلب و يكون متعلقه الجوارح كنية الزنا و السرقة اللواطة و نحوها و منها ما يكون متعلقه القلب و هو من اعماله كالنفاق و لريا و الحسد و العجب و نحو ذلك فهذا مما يعاقب عليه صاحبه لانه من اعمال القلب و هو رئيس الجوارح.

ص:243

و اما القرائة فوظائفها لا تكاد تحصى لانها حكاية كلام اللّه جل شأنه المشتمل على الحكم العجيبة و الاساليب الغريبة و ليس المقصود منه مجرد حركة اللسان بل المقصود معانيها ليستفيد منها حكمة و دقلئق و حقائق و سرارا و ترغيبا و وعدا و وعيدا فاذا قلت اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم فاعلم انه عدوك مترصد لصرف قلبك حسدا لك على المناجاة و على سجودك له مع انه لعن على سجدة واحدة و ان استعاذتك باللّه منه انما يكون بترك ما يحبه و تبديله بما يحب اللّه تعالى لا بمجرد قولك اعوذ باللّه من الشيطان الرجيم فان من قصده عدو او سبع ليفترسه فقال اعوذ منك بذلك الحصن و هو ثابت في مكانه ان ذلك لا ينفعه بل لا يفيده الا تبديل المكان فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محل الشياطين و مكاره الرحمن فلا يعينه مجرد القول فليقرن قوله بالعزم على التعوذ بحصن اللّه تعالى عن شر الشيطان و حصنه لا اله الا اللّه اذ قال تعالى فيما اخبر عنه نبينا لا اله الا اللّه حصني و المتحصن به من لا يعبد الها سوى اللّه تعالى فاما من اتخذ الهه هواه فهو في ميدان الشيطان لا في حصن اللّه تعالى.

و من دقائق مكائده ان يشغلك في الصلوة بفكر الاخرة و تدبر فعل الخيرات ليمنعك عن فهم معاني ما تقرأ فاعلم ان كل ما شغلك عن فهم معاني فرائتك فهو وسواس فان حركة اللسان غير مقصودة بل المقصود معانيها كما مر و الناس في القرائة ثلاثة اقسام فمنهم من يتحرك لسانه و لا يتدبر قلبه لها و هذا من الخاسرين الداخلين في توبيخ اللّه تعالى و هد يده بقوله أ فلا يتدبرون القرآن ام علوب اقفالها و دعاء نبيه صلّى اللّه عليه و آله بقوله ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لا يتدبرها و منهم من يحترك لسانه و قلبه يتبع اللسان فيستمع و يفهم منه كأنه يسمعه من غيره و هذه درجة اصحاب اليمين و منهم من يسبق قلبه الى المعاني اولا ثم يخدم اللسان قلبه فيترجمه و هذه درجة المقربين و فرق جليّ بين ان يكون(اللسان خ)الانسان ترجمان القلب كما في هذه الدرجة و بين ان يكون معلمه كما في الدرجة الثانية،فالمقربون ترجمان يتبع القلب و لا يتبعه القلب.

و من وظائف القرائة قول الصادق عليه السّلام من قرأ القرآن و لم يخضع له و لم يرّق قلبه و لم ينشر حزنا و وجلا في سره فقد استهان بعظم شأن اللّه و خسر خسرانا مبينا و تفصيل ترجمة المعاني اختصارا انك اذا قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم فانو به التبرك لابتداء القرائة بكلام اللّه تعالى و افهم ان معناه الامور كلها باللّه و ان المراد هيهنا بالاسم هو المسمى فاذا كانت الامور كلها باللّه فلا جرم كان الحمد للّه فاذا قلت الرحمن الرحيم فاحضرني في قلبك انواع لطفه لتتضح لك رحمته فيبعث به رجاؤك ثم استشعر من قلبك التعظيم و الخوف بقولك مالك يوم الدين اما العظمة فلأنه لا مالك(ملك خ)الا له،و اما الخوف فلهول يوم الجزاء و الحساب

ص:244

الذي هو مالكه ثم جدد الاخلاص بقولك اياك نعبد و اياك نستعين و تحقق انه ما تيسرت طاعتك الا باعانته و ان المنّة له اذ وفقك لطاعته و جعلك اهلا لمناجاته ثم قل إهدنا الصراط المستقيم الذي يشوقنا الى جوارك و يقضي بنا الى مرضاتك و زده شرحا و استشهدوا بالذين افاض عليهم نعمة الهداية من النبيين و الصديقين دون الذي غضب عليهم من الكفار و اليهود و النصارى.

فاذا تلوت الفاتحة كذلك فتشبه ان تكون ممن قال اللّه تعالى فيهم قسمت الفاتحة بيني و بين عبدي نصفين نصفها لي و نصفها لعبدي يقول العبد الحمد ببه رب العالمين فيقول اللّه حمدي عبدي و اثنى عليّ و هو قوله سمع اللّه لمن حمده الحديث،فلو لم يكن من صلاتك سوى ذكر اللّه في جلاله و عظمته فناهيك به غنيمة فكيف بما ترجوه من ثوابه و فضله.

و روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى مولانا العسكري قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل اذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم قال اللّه جل جلاله بدأ عبدي باسمي و حقّ عليّ ان اتمم اموره و ابارك له في احواله فاذا قال الحمد للّه رب العالمين قال اللّه جل جلاله حمدني عبدي و علم ان النعمة التي له من عندي و ان البلايا التي دفعت عنه فبتطولي اشهدكم اني اضيف الى نعم الدنيا نعم الاخرة و ادفع عنه بلايا الاخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا فاذا قال الرحمن الرحيم قال اللّه جل جلاله شهد لي بأني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرنّ من رحمتي حظه و لاجزلنّ من عطائي نصيبه فاذا قال مالك يوم الدين قال اللّه جل جلاله اشهدكم كما اعترف لي اني مالك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه و لا تجاوزنّ عن سيأته فاذا قال العبد اياك نعبد قال اللّه تعالى صدق عبدي اياي يعبد اشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فاذا قال و اياك نستعين قال اللّه جل جلاله بي استعان و إليّ التجأ اشهدكم لاعيننه على امره و لاعينه في شدائده و لا خذنّ بيده يوم القيامة فاذا قال اهدنا الصراط المستقيم الى آخر السورة قال اللّه تبارك و تعالى هذا لعبدي و لعبدي ما سأل قد استجبت لعبدي و اعطيته ما امّل و امنته مما وجل.

اقول و من هذا يظهر معنى ما روى ان الصادق عليه السّلام قد صلّى يوما فلما بلغ في القرائة الى اياك نعبد كررها كثيرا فلما فرغ سأل عن سبب تكريره لها فقال عليه السّلام ما زلت اكررها حتى سمعتها من قائلها و ذلك ان اقوال اللّه سبحانه في الحديث المتقدم مسموعة للاولياء و الصالحين بأسماع اللبّ،و لهم عليهم السّلام بالسمعين لا كما قاله بعض الاعلام ان هذا من باب قول بعض الصوفية بالفارسية.

روا باشد انا اللّه از درختى جرا نبود روا ازينك بختى

ص:245

يعني اذا جاز ان يخرج الكلام من شجرة وسى بأنا اللّه فلم لا يجوز خروج مثل هذا الكلام من الانسان لذي هو اشرف من الشجرة و غيرها،و هذا اشارة الى ما نقلنا عن بعضهم من قوله ليس في جبتي سوى اللّه و قوله انا الحق و قد عرفت ان هذا هو الالحاد المحض و الكفر الصريح و قد بقى من وظائف القرائة امران.

الاول ما قاله فقهاؤنا رضوان اللّه عليهم من وجوب القرائت بواحدة من القرائات السبع المتواترة و في تواتر تمام العشرة باضافة ابي جعفر و يعقوب و خلف خلاف ذهب الشهيدان قدس اللّه روحيهما الى ثبوت تواتره و الى جواز القرائة به قال الشهيد الثاني(ر ه)في شرح الرسالة:و اما اتباع قرائة الواحد من العشرة في جميع السورة فغير واجب قطعا بل و لا مستحب فان الكل من عند اللّه نزل به الروح الامين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا على الامة و تهوينا على اهل هذه الملة انتهى،و هو مصرّح بان القراءات السبع بل العشر متواترة النقل من الوحي الالهي و كذلك كلام اكثر الاصحاب و قد تكلمنا معهم في شرحنا على تهذيب الحدث و لنذكرها هنا نبذة منه فنقول ان في هذه الدعاوى السابقة نظرا من وجوه.

الاول القدح في تواترها عن القرّاء و ذلك ان اهل القرائة نقلوا انه قد كان لكل قار راويان يرويان عنه القرائة و ربما اختلفوا في الرواية عنه كثيرا نعم قد اشتهرت رواية الرأيين في الاعصار المستقبلة و بلغت حدّ التواتر مع ان من شروطه استواء الطبقات كلها في وجود التواتر.

الثاني سلّمنا تواترها عن اربابها لكنه لا يجدي نفعا و ذلك انهم آحاد من مخالفينا قد استبدوا بهذه القرائة و تصرفوا فيها و جعلوها فنّا لهم كما جعل سيبويه و الخليل النحو فنا لهما و تصرفوا فيه على مقتضى عقولهم،و فرقوا في مسائل المذاهب و من هذا ترى القراء لم يسندوا قراءتهم الى اهل البيت عليهم السّلام و ربما اسندوها في بعض الاوقات اليهم لكن يكون من باب ان جاءكم فاسق بنبأ الاية.

الثالث ان تسليم تواترها عن الوحي الالهي و كون الكل قد نزل به الروح الامين يفضي الى طرح الاخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاما و مادة و اعرابا مع ان اصحابنا رضوان اللّه عليهم قد اطبقوا على صحتها و التصديق بها نعم قد خالف فيها المرتضى و الصدوق و الشيخ الطبرسي و حكموا بأن ما بين دفتي هذا المصحف هو القرآن المنزل لا غير و لم يقع فيه تحريف و لا تبديل و من هنا ضبط شيخنا الطبرسي(ر ه)آيات القرآن و اجزائه فروى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ان جميع سور القرآن مأة و اربع عشرة سورة و جميع آيات القرآن ستة آلاف آية و مائتا آية و ستة و ثلاثون آية و جميع حروف القرآن ثلثمائة الف حرف واحدى و عشرون الف حرف و مائتان و خمسون حرفا.

ص:246

و الظاهر ان هذا القول انما صدر منهم لاجل مصالح كثيرة منها سدّ باب الطعن عليها بأنه اذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده و احكامه مع جواز لحوق التحريف لها، و سيأتي الجواب عن هذا كيف و هؤلاء الاعلام رووا في مؤلفاتهم اخبارا كثيرة تشتمل على وقوع تلك الامور في القرآن و ان الاية هكذا انزلت ثم غيرت الى هذا.

الرابع انه قد حكى شيخنا الشهيد طاب ثراه عن جماعة من القراء انهم قالوا ليس المراد بتواتر السبع و العشر ان كل ما ورد من هذه القراءات متواتر بل المراد انحصار المتواتر الان فيما نقل من هذه القرائة فان بعض ما نقل عن السبعة شاذّ فضلا عن غيرهم فاذا اعترف القرّاء بمثل هذا فكيف ساغ لنا الحكم على هذه القراءات كلها بالتواتر كما قاله العلامة في كتاب المنتهى و كيف ظهرت لنا القرائة المتواترة حتى نقرأ بها في الصلوة،و كيف حكمنا بأن الكل قد نزل به الروح فان هذا القول منهم رجوع عن التواتر.

الخامس انه قد استفاض في الاخبار ان القرآن كما انزل لم يؤلفه الا امير المؤمنين عليه السّلام بوصية من النبي صلّى اللّه عليه و آله فبقى بعد موته ستة اشهر مشتغلا بجمعه فلما جمعه كما انزل اتى به الى المتخلفين بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لهم هذا كتاب اللّه كما انزل فقال له عمر بن الخطاب لا حاجة بنا اليك و لا الى قرآنك عندنا قرآن كتبه عثمان فقال لهم علي عليه السّلام لن تروه بعد هذا اليوم و لا يراه احد حتى يظهر ولدي المهدي عليه السّلام و في ذلك القرآن زيادات كثير و هو خال من التحريف و ذلك ان عثمان قد كان من كتّاب الوحب لمصلحة رآها صلّى اللّه عليه و آله و هي ان لا يكذبوه في امر القرآن بأن يقولوا انه مفترى او انه لم ينزل به الروح الامين،كما قاله اسلافهم بل قالوا هم ايضا و كذلك جعل معاوية من الكتّاب قبل موته بستة اشهر لمثل هذه المصلحة ايضا و عثمان و اضرابه ما كانوا يحضرون الا في المسجد مع جماعة الناس فما يكتبون الا ما نزل به جبرئيل عليه السّلام بين الملأ.

اما الذي كان يأتي به داخل بيته صلّى اللّه عليه و آله فلم يكن يكتبه الا امير المؤمنين عليه السّلام لان له المحرمية دخولا و خروجا فكان يتفرد بكتابة مثل هذا و هذا القرآن الموجود الان في ايدي الناس هو خطّ عثمان و سموه الامام و احرقوا ما سواه او اخفوه و بعثوا به زمن تخلفه الى الاقطار و الامصار و من ثم ترى قواعد خطّه تخالف قواعد العربية مثل كتابة الالف بعد واو المفرد و عدمها بعد واو الجمع و غير ذلك و سموه رسم الخط القرآني و لم يعلموا انه من عدم اطلاع عثمان على قواعد العربية و الخط.

و قد ارسل عمر بن الخطاب زمن تخلفه الى علي عليه السّلام بأن يبعث له القرآن الاصلي الذي هو الّفه و كان عليه السّلام يعلم انه طلبه لاجل ان يحرقه كقرآن ابن مسعود او يخفيه عنده حتى يقول

ص:247

الناس ان القرآن هو هذا الكتاب الذي كتبه عثمان لا غير يبعث به اليه و هو الان موجود عند مولانا المهدي عليه السّلام مع الكتب السماوية و مواريث الانبياء و لما جلس امير المؤمنين عليه السّلام على سرير الخلافة لم يتمكن من اظهار ذلك القرآن و اخفاء هذا لما فيه من اظهار الشنعة على من سبقه كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى و كما لم يقدر على اجراء المتعتين متعة الحج و متعة النساء،حتى قال عليه السّلام لو لا ما سبقني بنو الخطاب ما زنى الا شفا يعني جماعة قليلة لاباحة المتعة و كما لم يقدر على عزل شريح عن القضاء و معاوية عن الامارة.

و قد بقى القرآن الذي كتبه عثمان حتى وقع الى ايدي القراء فتصرفوا فيه بالمد و الادغام و التقاء الساكنين مثل ما تصرف فيه عثمان و اصابه و قد تصرفوا في بعض الآيات تصرفا نفرت الطباع منه و حكم العقل بأنه ما نزل هكذا و في قريب هذه الاعصار ظهر رجل اسمه سجاوندا و نسبته الى بلدة فكتب هذه الرموز على كلمات القرآن و علّمه بعلامات اكثرها لا يوافق تفاسير الخاصة و لا تفاسير العامة و الظاهر ان هذا ايضا اذا مضت عليه مدة مديدة يدّعي فيه التواتر و انه جزء القرآن فيجب كتابته و استعماله و الحاصل ان العادة اذا وقعت اشترك فيها العدو و الولي.

السادس ان اهل التفسير و ارباب علم القرائة اذا ذكروا قرائة في آية جعلوا قرائة اهل البيت عليهم السّلام قسيمة لقرائة حفص و عاصم و نحوهما فيقولون تارة و قرائة علي هكذا و يقولون تارة اخرى و في قرائة اهل البيت هكذا فاذا كان كذلك كيف يكون قرائة علي و اهل بيته عليهم السّلام و قرائة غيرهم بمرتبة واحدة بالنسبة الى الوحي الالهي و ان جبرئيل عليه السّلام نزل بالجميع فلو كان هكذا كان ينبغي نسبة القرائة كلها اليه عليه السّلام لانه المعلم الاول في جميع الفنون كما تقدم و الذي حداهم على مثل هذه التصرفات و تصديق اصحابا لهم ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال نزل القرآن على سبعة احرف و فسروها بالقراءات تارة و باللغات أخرى مثل لغة قريش و هذيل و هوزان و اليمن مع ان الكليني قدس اللّه روحه قد روى في الصحيح عن الفضيل بن يسار قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة احرف فقال كذبوا اعداء اللّه و لكنه انزل على حرف واحد من عند الواحد.

فان قلت كيف جاز القرائة في هذا القرائة مع ما لحقه من التغيير قلت قد روى في الاخبار انهم عليهم السّلام امروا شيعتهم بقرائة هذا الموجود من القرآن في الصلوة و غيرها و العمل باحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من ايدي الناس الى السماء و يخرج القرآن الذي الفه امير المؤمنين عليه السّلام فيقرى و يعمل بأحكامه و روى الكليني باسناده الى سالم بن سلمة قال قرأ رجل على ابي عبد اللّه عليه السّلام و انا استمع حروفا من القرآن ليس على ما

ص:248

يقرأها الناس فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام مه كفّ عن هذه القرائة و اقرء كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فاذا قام قرأ كتاب اللّه على حدّه و اخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السّلام و في هذا الحديث ان عليا عليه السّلام لما فرغ من ذلك القرآن قال لهم هذا كتاب اللّه تعالى كما انزل اللّه على محمد صلّى اللّه عليه و آله و قد جمعته بين اللوحين فقالوا هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه،فقال اما و اللّه ما ترونه بعد يومكم هذا ابدا انما كان عليّ ان اخبركم حين جمعته لتقرأوه و الاخبار الواردة بهذا المضمون كثيرة جدا و عليك بسلوك جادّة الانصاف و خلع ربقة العناد و الاعتساف الامر الثاني من وظائف القرائة ترتيل القرآن بالصوت الحين الحزين الذي لا يبلغ الغناء الذي يقال له غناء في العرف و لا يشتمل على مدّ الصوت مع الترجيع الذي هو حقيقته اللغوية.

روى عن الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اقرأوا القرآن بالحان العرب و اصواتها و اياكم و لحون اهل الفسوق و الكبائر فانه سيجيء من بعدي اقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية و لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم.

و عن النوفلي قال ذكرت الصوت عند ابي الحسن الرضا عليه السّلام فقال ان علي بن الحسين عليه السّلام كان يقرأ فربما مرّ به المار فصعق من حسن صوته و ان الامام لو اظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه قلت و لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّي بالناس و يرفع صوته بالقرآن؟ فقال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون اقول يظهر من هذا الخبر و ما في معناه سرّ غريب و هو الجواب عما روى من ان الرضا عليه السّلام كان اسمر اللون و كذا الكاظم عليه السّلام مع ما روى من انه يجب في الامام ان يفضل الناس خلقا و خلقا،و النبي صلّى اللّه عليه و آله لما كان يذكر الصديق و حسنه كان يقول و انا املح منه مع انه لم ينقل لهم شيء من هذه المراتب الا قليلا.

و تحقيقة ان النبي و اهل بيته عليهم السّلام انما كانوا يعاشرون الناس على قدر ما تحتمله عقولهم بالنسبة الى كل شيء و من جملته حسن الاصوات و الصور فالكاظم و الرضا عليهما السّلام قد رأيا الصلاح في ان يظهرا لشيعتهم بتلك الصور الخاصة و كانا يظهران لخواص شيعتهم على احسن الصور و اكملها و كذا باقي الائمة عليهم السّلام.

روى ان امرأة المأمون بعث الى الجواد عليه السّلام اني احب ان اراك جالسا مع ابنتي فهيأوا لها ضيافة فأتت من الغد قال راوي الحديث فدخل عليه السّلام فلما رأته زوجته ام الفضل خرّت مغشيا (مغشية خ)عليها و اتاها الحيض ذلك الوقت فرجع عليه السّلام و هو يقول فلما رأينه اكبرنه الاية،فلما افاقت قالت يا اماه لم زوجتني هذا الرجل؟قالت و كيف ذلك؟قالت انه يتصور لي كل يوم بصور متعددة و الان لما دخل علينا رأيت من وجه انوارا علت البيت و ما فيه فما قدرت على النظر اليه حتى غشى عليّ و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله اذا اتاه جبرئيل عليه السّلام بالوحي وضع ثوبا على راسه

ص:249

لئلا ينظر الناس اليه ذلك الوقت لانهم لا يستطيعون النظر اليه من شدة انواره و من هذا كان عليه السّلام يقول لي مع ربي وقت لا يحتمله احد.

فان قلت قد صحّ من هذه الاحاديث ان الغناء لا يجوز بتلاوة القرآن فكيف تقول فيما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من قوله ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن.

قلت هذا حديث مجمل و قد تصدى الاعلام لتوضيح معناه على وجوه الاول ما نقله المرتضى طاب ثراه عن ابي عبيدة من ان المعنى ان من لم يستغن بالقرآن فليس منا و احتج بوروده في اللغة،و بخبر رفعه عن عبد اللّه بن نهيك انه دخل على سعد ببيته فاذا مثال رث و متاع رث فقال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا،قال ابو عبيدة فذكره المتاع الرث و المثال الرث يدلّ على ان التغني بالقرآن الاستغناء عن الكثير من المال و المثال،و هو الفراش قال ابو عبيدة و لو كان التغني معناه الترجيح لطمث المحنة علينا بذلك اذا كان من لم يرجع بالقرآن ليس منه عليه السّلام و ذكر عن ابي عبيدة جوابا آخر و هو انه عليه السّلام اراد من لم يحسن صوته بالقرآن و لم يرجع فيه و استدل عليه بما روى من قوله صلّى اللّه عليه و آله ان هذا القرآن نزل بحزن فاذا قرأتموه فابكوا فان لم تبكوا فتباكوا فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منا،و قوله صلّى اللّه عليه و آله لا يأذن اللّه لشيء من الارض الا لصوت المؤذّنين و للصوت الحسن بالقرآن.

و قد ذكر ابو بكر محمد بن القسم الانباري وجها ثالثا في الخبر قال اراد عليه السّلام من لم يتلذذ بالقرآن و يستحله و يستعذب تلاوته كاستحلاء اصحاب الطرب للغنا و التذاذهم به و سمّى ذلك تغنيا للتأثير و جواب ابي عبيدة احسن الاجوبة و جواب ابي بكر ابعدها لان التلذذ لا يكون الا في المشتهيات و كذلك الاستحلاء و الاستعذاب و تلاوة القرآن و تفهم معانيه من الافعال الشاقة فكيف يكون ملذّا مشتها و يمكن ان في الخبر وجه رابع ظهر لنا و هو ان يكون قوله يتغنى من غنى الرجل بالمكان اذا طال مقام بالمكان اذا طال مقام به،و منه قيل المغنى قال اللّه تعالى كأن لم يغنوا فيها أي لم يقيموا بها،فيكون معنى الخبر على هذا الوجه من لم يقم على القرآن و يتجاوزه الى غيره و يتعدّاه الى سواه و لم يتخذه مغنا و منزلا و مقاما ليس منا هذا محصل كلام المرتضى و الشيخ في الامالي،و لا يخفى عليك ما يرد على بعض كلماته.

و قد ذكر بعض السلاطين ممن عاصرناه وجها آخر لكنه في التحقيق راجع الى ما ذكره ابو عبيدة و حاصله ان المراد بالتغني ما يشبه الغنى كالتباكي الذي ليس هو بكاء حقيقة،و انما المراد به ما يشبه البكاء لانه لو اراد الغنا لقال ليس منا من لم يغن و الغنا حرام فأتى بلفظ التغني الذي يسلم به القارئ من حرمة الغنا و يأتي بنوع له امتياز عن الحاكي و القصاص و يكون فيه نوع حسن شبيه بالغناء.

ص:250

و اما وظيفة الركعتين الاخيرتين فان تعلم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله هو الذي اوجبهما بتفويض اللّه سبحانه اليه شكرا على بعض النعم و اما الاوليان من كل صلاة فهما اللتان اوجبهما سبحانه على الامة ليلة المعراج و من هنا دخل الشك و السهو فيما اوجبه صلّى اللّه عليه و آله دون ما اوجبه اللّه، و الاولى له ان يقول فيهما التسبيح و لا يقرأ الحمد و ان اجمع اصحابنا رضوان اللّه عليهم على التخيير و ذلك لوجوه.

الاول ان الاخبار الدالة على قرائة الحمد موافقة لمذاهب الجمهور فيمكن حملها على التقية مع ان الخير فيما بعد عنهم،الثاني ان قارئ الحمد مردد بين محذورين اما الجهر بالبسملة او الاخفات بها،و في وجوب الجهر قال قائل و في الحرمة قال آخر بخلاف التسبيحات،الثالث طلب ما ورد فيها من الثواب.

روى الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه قال من قال سبحان اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنة و من قال الحمد للّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنة،و من قال لا اله الا اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنة،و من قال اللّه اكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنة،فقال رجل من قريش هو ابو بكر ان شجرنا في الجنة لكثير قال نعم و لكن اياكم ان ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها،و ذلك قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ.

و ينبغي ان يقول سبحانه و الحمد و لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و استغفر اللّه ثلاثا لينطبق على جميع الاقوال و الاخبار.

و اما وظيفة الركوع فاذا صليت اليه فجدد على قلبك ذكر كبرياء اللّه تعالى و عظمته و خساسة كل ما سواه و تلاشيه فارفع يديك و قل اللّه اكبر مستجيرا في رفعك بعفو اللّه من عقابه،و متبعا سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله ثم تستأنف له ذلا و خضوعا و تواضعا بركوعك و اجتهد فير ترقيق قلبك و مدّ عنقك في ركوعك قاصدا ما قاله امير المؤمنين عليه السّلام حين سأل عن مدّ عنقه في الركوع فقال معناه آمنت بك و لو ضربت عنقي فيكون مدّ العنق اشارة الى ان الاسير الذليل اذا اريد ضرب عنقه يؤمر اولا بمدّ عنقه حتى يتمكن السيف من رقبته و يأخذ مأخذه منه.

و قال الصادق عليه السّلام لا يركع عبد ركوعا على الحقيقة الا زينّه اللّه تعالى بنور بهائه و اظلّه في ظلال كبريائه و كساه كسوة اصفيائه و الركوع اول و السجود ثان فمن اتى بمعنى الاول صلح للثاني و في الركوع ادب و في السجود قرب و من لا يحسن الادب لا يصلح للقرب فاركع ركوع خاضع للّه بقلبه متذلل وجل تحت سلطانه حافظ له بجوارحه حفظ خائف حزن على ما يفوقه من فائدة الراكعين و حكى ان ربيع بن خيثم كان يسهر بالليل الى الفجر في ركعة واحدة فاذا اصبح تزفر و قال آه سبق المخلصون و فظع بنا و اذا رفعت رأسك من الركوع فكبر و اذا هويت

ص:251

الى السجود فكبر و التكبير الاول لم يتعرض له اكثر فقهائنا و لكن قال به ابنا بابويه و صاحب الفاخر،و صحيحتا ابن عمار و ابن مسكان دالتان عليه و العمل بهما لا يخلو من وجه.

و اما وظيفة السجود فاعلم انه اعظم مراتب الخضوع و من هنا اوحى اللّه تعالى الى موسى بن عمران عليه السّلام أ تدري لم اصطفيتك بكلامي و اخترتك لرسالتي فقال موسى لا يا رب فقال اللّه سبحانه يا موسى اني قلبت عبادي ظهرا لبطن و بطنا لظهر فلم ار احد اذل لي منك اذا سجدت عفرت خديك بالتراب و خصوصا اذا كان تراب الحسين عليه السّلام فقد روى ان السجود عليها يخرق الحجب السبعة يعني لا يمنع الصلوة عن الصعود احد من الملائكة الموكلين بابواب السموات كما تقدم في الحديث الطويل.

و ليكن بخاطرك ما روى عن علي عليه السّلام حين سأل عن معنى لسجدة الاولى و الرفع منها و السجدة الثانية و لرفع منها فقل عناه منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى فالسجدة الاولى اشارة الى ان مادة خلقنا من هذا التراب و الرفع اشارة الى خروجنا منها و رفع رأوسنا قليلا لا يصل الى حدّ القيام اشارة الى قصر هذا الوقت و ان مدة هذا العمر اقلّ قليل و الى انتقالنا من هوان الى هوان و السجدة الثانية اشارة الى رجوعنا الى هذا التراب عند الموت و لرفع الثاني الى الحشر و النشر و البعث منها للحسنات.

و قد منعت الشريعة الغرا من السجود على ما يأكله الادميون و يلبسونه لان الناس عبيد ما يأكلون و ما يدخرون فلو سجدوا عليه لكانوا كأنهم سجدوا له كما جاء في الرواية و قال الصادق عليه السّلام ما خسر و اللّه من اتى بحقيقة السجود و لو كان في العمر مرة واحدة،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال اللّه تعالى لا اطّلع على قلب عبد و اعلم فيح حب الاخلاص لطاعتي لوجهي و ابتغاء مرضاتي الا توليت تقويمه و سياسته و متى اشتغل بغيري فهو من المستهزئين بنفسه مكتوب اسمه في ديوان الخاسرين.

و اما وظيفة التشهد و التسليم فبأن تشهد به بالوحدانية و لرسوله بالرسالة مجددا عهد اللّه باعادة كلمتي الشهادة معترضا بهما لتأسيس مراتب السعادة و اما التسليم المخرج من الصلوة فهو السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته،و اما حقيقة التسليم فهي ان التسليم(الصلوة خ)غيبة عن الناس و حضور مع اللّه عز و جل فالانصراف منها رجوع من اللّه الى الخلق كالمأمومين و ملائكة الاعمال و غيرهم فلهذا شرع التسليم عند الانصراف منها لان التسليم تحية من غاب ثم حضر و آب فمن لم يغب في صلاته عن نفسه و عن الناس بل يكون معهم في حديث نفسه فهو لم يزل حاضرا معهم فتسليمه خال عن معناه و اما سجدة الشكر فاستجبنا بها ثابت عند تجدد النعم و دفع النقم بل و عند ذكر النعم السابقة.

ص:252

قال الصادق عليه السّلام اذا ذكرت نعمة اللّه عليك و كنت في موضع لا يراك احد فالصق خدك بالارض و اذا كنت في ملأم الناس فضع يدك على اسفل بطنك و آخر ظهرك و ليكن تواضعا للّه فان ذلك احب اليّ و يرى ان ذلك غمز وجدته في اسفل بطنك و آكد اوقاتها بعد الصلوة شكرا على نعمة التوفيق لادائها،قال الصادق عليه السّلام سجدة الشكر واجبة على كل مسلم تتم بها صلاتك و ترضى بها ربك و تعجب الملائكة منك و ان العبد اذا صلى ثم سجد سجدة الشكر فتح الرب تبارك و تعالى الحجاب بين العبد و الملائكة فيقول يا ملائكتي انظروا الى عبدي ادّى فرضى و اتم عهدي ثم سجد لي شكرا على ما انعمت به عليه ملائكتي ما ذا له؟فتقول الملائكة يا ربنا رحمتك فيقول الرب تبارك و تعالى ثم ما ذا؟فلا يبقى شيء من الخير الا قالته الملائكة فيقول اللّه تعالى ثم ما ذا فتقول الملائكة يا ربنا لا علم لنا فيقول تعالى اشكر له كما شكر لي و اقبل عليه بفضلي كما اقبل عليّ و اريه وجهي.

و روى العامة و الخاصة ان اول من سجد سجدة الشكر في الاسلام علي بن ابي طالب عليه السّلام حين اراد الكفار ان يغدروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له يا علي ان اللّه يأمرك ان تنام بمكاني و انا اخرج الى الغار و لم يعلمه بالسلامة،فقال يا رسول اللّه اذا بتّ انا في منامك تنجو أنت؟ فقال نعم يا علي،فعند ذلك قال الحمد للّه الذي جعل نفسي وقاء لنفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سجد عند ذلك سجدة شكر،قال جمهور مخالفينا ان سجدة الشكر فيها ثواب جزيل لكن لما كانت شعار الروافض لزم على المسلم تركها لئلا يتشبه بهم و نحن نقول الحمد للّه الذي لم يشابه بيننا و بينكم لا في هذه و لا في غيره.

و اما كيفيتها فروى ان في ادنى ما يجزي فيها ان يقول شكرا للّه ثلاثا و قال الصادق عليه السّلام اذا سجد العبد فقال يا رب حتى ينقطع نفسه قال له الرب عز و جل لبيك ما حاجتك و بالجملة فالاهم هو الاهتمام بحال الصلوة و الاقبال عليها خصوصا من حضور القلب الذي هو روحها، روى عن مولانا زين العابدين عليه السّلام انه كان يصلي فوقعت النار في البيت الذي كان يصلي فيه فلما علت صاح به الناس النار النار يا ابن رسول اللّه و هو مشغول لا يلتفت فلما انطفت النار و فرغ من الصلوة تعالوا عليه و اخبروه بوقوع الحريق فقال انا كنت ادفع نار جهنم عن نفسي و ما شعرت بحرارة هذه النار.

روى عن الباقر عليه السّلام انه كان يصلي الى جنب بئر في المنزل فأتى ولده يحبو اليه فوقع في البئر و هو يصلي فما التفت اليه فصاحت ام الولد ابنك وقع في البئر فلما فرغ من صلاته قالت له زوجته ما اقسى قلبك يا ابن رسول اللّه فأتى الى البئر و وجد الصبي جالسا فوق الماء فارتفع

ص:253

الماء و الصبي فوقه حتى مدّ عليه السّلام يده و اخرج الغلام فقال لامرأته لما كنت في خدمة مولاي كان هو في حراسة ولدي.

و اما حال علي عليه السّلام في الصلوة فهو اشهر من ان يذكر و كانوا يأخذون النصال من بدنه في الصلوة و ما كان يشعر بها و اما شعوره بالسائل وقت الخاتم مع كونه سكرانا في العشق فهو من باب الافاقة التي تعتري اهل الوله و ما احسن قول ابن الجوزي:

يسقى و يشرب لا تلهيه سكرته عن النديم و لا يلهو عن الكاس

اطاعه سكره حتى تمكن من فعل الصحاة فهذا اعظم الناس

نور يكشف عن الرياء و اقسامه و الداعي اليه و علاجه

اعلم ان الكتاب و السنّة قد اكثروا من الوعيد عليه قال اللّه تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون،و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ان النار و اهلها يعجبون من اهل الريا،فقيل يا رسول اللّه و كيف تعجّ النار؟قال من حرّ النار التي يعذبون بها و قال صلّى اللّه عليه و آله المرائي يوم القيامة ينادي بأربعة اسماء يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ضلّ سعيك و بطل اجرك و لا خلاق لك التمس الاجر ممن كنت تعمل له يا مخادع و عنه صلّى اللّه عليه و آله ان اللّه تعالى يقول انا اغنى الاغنياء عن الشرك من عمل عملا فأشرك فيه غيري فنصيبي له فانا لا اقبل الا ما كان خالصا لي.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله ان اول ما يدعى يوم القيامة رجل جمع القرآن و رجل قاتل في سبيل اللّه و رجل كثير المال فيقول اللّه عز و جل للقارئ أ لم اعلّمك ما انزلت على رسولي فيقول بلى يا رب فيقول ما عملت به فيما علّمت؟فيقول يا رب قمت به في آناء الليل و اطراف النهار فيقول اللّه تعالى كذبت و تقول الملائكة كذبت و يقول اللّه تعالى انما اردت ان يقال فلان قارى فقد قيل ذلك و يؤتى بصاحب المال فيقول اللّه تعالى الم اوسع عليك حتى لم ادعك تحتاج الى احد؟ فيقول بلى يا رب فيقول فما عملت فيما آتيتك قال كنت اصل الرحم و اتصدق فيقول اللّه كذبت و تقول الملائكة كذبت و يقول اللّه سبحانه بل اردت ان يقال فلان جواد و قد قيل ذلك، و يؤتى بالذي قتل في سبيل اللّه فيقول اللّه تعالى ما فعلت؟فيقول امرت بالجهاد في سبيل اللّه فقاتلت حتى قتلت،فيقول اللّه كذبت و تقول الملائكة كذبت و يقول اللّه تعالى بل اردت ان يقال فلان جرى شجاع فقد قيل ذلك ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اولئك خلق اللّه تسعر بهم نار جهنم و الاخبار في ذلك كثيرة جدا.

ص:254

و اما تعريفه فهو التقريب الى المخلوقين باظهار الطاعة و طلب المنزلة في قلوبهم و الميل الى اعظامهم له و توقيرهم اياه و استجلاب تسخيرهم بقضاء حوائجه و القيام بمهماته و هو الشرك الخفي،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من صلّى صلاة يرائي بها فقد اشرك ثم قرأ هذه الاية قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ انما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا،و اما اقسامه فاثنان رياء محض و رياء مختلط اما المحض فبأن يريد بعمله نفع الدنيا فهذا ساقط عن درجة الاعتبار فلا يحتاج الى البحث عنه،و اما المختلط فبأن يقصد به ذلك مع التقرب الى اللّه تعالى و هذا هو الشرك الخفي الذي وقع في هذه الامة و هذا الرياء يقع على وجوه بعضها جلي و بعضها خفي.

الاول من هذه الاقسام ان يفتتح الصلوة مثلا على الاخلاص المحض و الاقبال على اللّه تعالى فيدخل عليه في اثناء الصلوة داخل او ينظر اليه ناظر فيقول له الشيطان زد صلاتك حسنا حتى ينظر اليك هذا الحاضر بعين الوقار و الصلاح فتخشع جوارحه و يحسن صلاته و هذا هو الرياء الطارى و قد حدثني اوثق مشايخي ان رجلا كان لا يقدر على الاخلاص في العمل و ترك الرياء فاحتال و قال ان في طرف البلد مسجدا مهجورا لا يدخله احد فامضى اليه ليلا و اعبد اللّه فيه،فمضى اليه في ليلة مظلمة و كانت ذات رعد و برق و مطر فشرع في العبادة فبينما هو في الصلوة اذ دخل عليه داخل فأحس به فدخل السرور برؤية ذلك الداخل له و هو على حالة العبادة في الليلة الظلماء فأخذ في الجد و الاجتهاد في عبادته الى ان جاء النهار فنظر الى ذلك الداخل فاذا هو كلب اسود قد دخل المسجد مما اصابه من المطر فتندّم ذلك الرجل على ما دخله حال دخوله،و قال يا نفس اني فررت من ان اشرك بعبادة ربي احدا من الناس فوقعت في ان اشركت معه في العبادة كلبا اسود يا ويلي على هذا.

الثاني ان يكون قد فهم هذه الافة و أخذ منها حذره و لكن يأتيه الشيطان من معرض الخير فيقول له انت متبوع و مقتدى بك فاعمل هذا العمل على وجه يقتدى بك الناس حتى اذا احسنت حصل لك مثل ثواب اعمالهم و ان اسأت كان عليك الوزر و ذلك للحديث المشهور ان من سنّ سنّة حسنة فله اجرها و اجر من يعمل بها الى يوم القيامة و هذه المكيدة اعظم من الاولى و ينخدع بها من لا ينخدع بتلك و هو عين الرياء فانه اذا رأى هذه الحالة خيرا لا يرتضى لغيره تركها فلم تركها هو في الخلوة و ذلك انه لا يكون احد اعزّ على الانسان من نفسه.

الثالث ان يتنبه العاقل لهاتين و يستحي من المخالفة بين صلاته في الخلوة و الملأ فيقبل على نفسه في الخلوة و يحسن صلاته على الوجه الذي يرتضيه في الملأ و يصلي ايضا في الملأ كذلك للعلة المذكورة و هذا ايضا من الرياء الغامض لانه احسن صلاته في الخلوة ليحسن في الملأ

ص:255

فيكون لم يفرّق بين الخلوة و الملأ للناس و الاخلاص ان يكون مشاهدة البهائم لصلاته و مشاهدة الخلق على وتيرة واحدة و الى هذا الاشارة في الحديث النبوي لا يكمل ايمان العبد حتى يكون الناس عنده بمنزلة الاباعر.

الرابع هو أدقّ و اخفى و هو ان ينظر اليه الناس و هو في صلاته فيعجز الشيطان عن ان يقول له اخشع لاجلهم لانه عرف انه لا يصغي اليه بل يقول له تفكر في عظمة اللّه و جلاله و من انت واقف بين يديه و استح ان ينظر اللّه الى قلبك و انت غافل عنه فيحضر بذلك قلبه و تجتمع جوارحه و يظن ان ذلك عين الاخلاص و هو عين الرياء فان خشوعه لو كان لنظره الى عظمة اللّه سبحانه لكان حاله في الخلوة هكذا،و لكان لا يختص خطور هذه الخطرة يحضور غيره، و علامة الامن من هذه الافة ان يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ و لا يكون حضور الغير هو السبب كما لا يكون حضور البهيمة سببا فما دام يفرق في احواله بين مشاهدة الناس و البهائم فهو بعد لم يخلص لربه و هذا الشرك الذي قال فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انه اخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة في سواد الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء و يعترى ذاكرين اللّه كثيرا بل قيل انه يحملهم على المهالك في كل حركة من الحركات حتى في كحل العين و قصّ الشارب و طيب يوم الجمعة و لبس الثياب فانها سنن في اوقات مخصوصة لكن للنفس فيها حظّ خفي لارتباط نظر الخلق بها،فيدخل الشيطان فيها عليه المداخل و من هذا قيل ركعتان من عالم افضل من عبادة سنة جاهل فاراد به العالم لمبصر بدقائق العبادة حتى يخلص عنها لا مطلق العالم،فان مداخل الشيطان عليه اعظم من مداخله على الجهال و اوسعها.

الخامس ان يكمل العبادة على الاخلاص المحض و النية الصالحة لكن عرض له بعد الفراغ منها حبّ اظهارها ليحصل له بعض الاغراض المحققة للرياء خديعة من الشيطان له انه قد كمل العبادة الخالصة له و قد كتبها اللّه سبحانه في ديوان المخلصين و لا يقدح فيها ما يتجدد و انما ينضم الى ما حصله بها من الخير الاجل خير عاجل فيحدث به و يظهره لذلك ايضا،فهذا ايضا مفسد للعمل و ان سبق كما يفسده العجب المتأخر و يدخل في زمرة الذين قال اللّه عنهم قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا.

و قال الصادق عليه السّلام من عمل حسنة سرا كتبت له سرا فاذا اقرّ بها محيت و كتبت جهرا، فاذا اقرّ بها ثانية و كتبت رياء و فضل عمل السر على عمل الجهر سبعون ضعفا اما لو تعلق باذاعته غرض صحيح كما لو اراد ترغيب السامع في فعل الخير فلا بأس اذا لم يمكن ترغيبه بدونه و الا كان هو الاولى و قد روى محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام قال لا بأس ان تحدّث اخاك

ص:256

اذا رجوت ان ينفعه و يحثه و اذا سألك هل قمت الليلة او صمت فحدثه بذلك ان كنت فعلته، فقل قد رزق اللّه ذلك و لا تقل لا فان ذلك كذب.

السادس ان يأمره بترك العمل خوفا من ان يكون مرائيا به و هذا من جملة خدايعه و ذلك ان غرضه الاقصى ترك العمل و انما يعدل بك الى قصد الرياء و غيره عند تثبيطك عن العمل،فاذا حصل غرضه فقد استراح من خدعك و مثالك في ذلك من سلّم ليه مولاه حنطة فيها تراه و قال خلّصها من التراب و نقّها منه تنقية بالغة كاملة فيترك العمل من اصله و هذا تمام الغرض لابليس اللعين و غاية القصد فقد حصلت امنيته و ارحته من التعب بك في افساد العمل و انما سبيلك ان تجتهد في تخليص عملك بالادوية النافعة حتى يحصل مراد مولاك.

السابع ان يأمره اللعين بترك العمل ايضا لا لذلك بل خوفا على الناس ان يقولوا انه مراء فيعصون اللّه به،و هذا ايضا معه ما قبله رياء خفيّ من مكائد الشيطان لان تركه العمل خوفا من قولهم انه مراء عين الرياء و لو لا حبه لمحمدتهم و خوفه من ذمهم فما له و لقولهم قالوا انه مراء او قالوا انه مخلص و اي فرق بين ان تترك العمل خوفا من ان يقال انه مراء و بين ان يحسن العمل خوفا من ان يقال انه غافل مقصر و فيه مع ذلك الظن بالمسلمين و ما كان من حقه انه يظن بهم ذلك ثم كيف يطمع ان يتخلص من الشيطان بترك العمل و قد اطاعه فيه فانه لا يخليه ايضا بل يقول له الان تقول الناس انك تركت العمل ليقال انك مخلص لا تشتهي الشهرة الى غير ذلك من فنون اللعب به.

الثامن ان يقول له اترك العمل لئلا يظن الناس بك خيرا او تشتهر به و احبّ العباد الى اللّه الاتقياء الاخفياء الذين اذا شهدوا لم يعرفوا،فاذا عرفت بين الناس بالعبادة لم يكن لك حظ من هذا الوصف،و هذه ايضا من مكائده و ما عليك اذا اخلصت العمل للّه ان تعرف به او تجهل و انما عليك مراعاة قلبك و اصلاح سرك و كيف يخفى على الناس اذا كنت صالحا و هو تعالى يقول عليك اخفاؤه و عليّ اظهاره و يقول من اصلح سريرته اصلح اللّه علانيته و في الحديث ان العبد اذا فعل الخير في جوف بيته ارسل اللّه ملكا الى الارض بصورة رجل يخبر الناس عن حاله و يقول ان فلانا يعمل كذا و كذا من الخير،و اذا عمل ذنبا في جوف بيته ستره اللّه ثلاثا فاذا عاد الى(على خ)ذلك الفعل ارسل اللّه ملكا الى الارض بصورة رجل فيخبر الناس بما يصنع ذلك الرجل في جوف بيته.

و روى شيخنا الكليني(ر ه)باسناده الى الصادق عليه السّلام قال قال امير المؤمنين عليه السّلام ما من عبد الا و عليه اربعون جنّة حتى يعمل اربعين كبيرة فاذا عمل اربعين كبيرة انكشف عنه الجنن، فيوحى اللّه اليهم ان استروا عبدي باجنحتكم فتستره الملائكة باجنحتها قال فما يدع شيئا من

ص:257

القبيح الا قارنه حتى يمتدح الى الناس بفعله القبيح فتقول الملائكة يا رب هذا عبد ما يدع شيئا الا ركبه و انّا لنستحيي مما يصنع فيوحى اللّه تعالى اليهم ان ارفعوا اجنحتكم عنه فاذا فعل ذلك اخذ في بغضنا اهل البيت فعند ذلك ينتهك ستره في السماء و ستره في الارض (1)فتقول الملائكة يا رب هذا عبدك قد بقى مهتوك الستر فيوحى اللّه تعالى اليهم ول كانت للّه فيه حاجة لما امركم ان ترفعوا اجنحتكم عنه.

التاسع ان يأتيك اللعين و يقول اذا كنت لا تترك العمل لذلك فاخف العمل فان اللّه سيظهره عليك و اما اذا اظهرته فيمكن ان تقع في الرياء و هذا التلبيس عين الرياء لان اخفائك له كي يظهر بين الناس هو بعينه العمل لاجل الناس و ما عليك اذا كان مرضيا للّه تعالى او يخفى لو لا نظرك الى رضاء الناس فانك قد عرفت اظهاره سبحانه لعمل العبد.

روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى الرضا عليه السّلام قال ان اللّه تعالى اوحى الى نبي من انبيائه اذا اصبحت فاوّل شيء يستقبلك فكله.

و الثاني فاكتمه،و الثالث فاقبله،و الرابع فلا تويئسه،فالخامس فاهرب منه،فلما اصبح مضى فاستقبله جبل اسود عظيم،فوقف و قال امرني ربي ان آكل هذا و بقى متحيرا ثم رجع الى نفسه،و قال ان ربي جل جلاله لا يأمرني الا بما اطيق فمشى اليه ليأكله فكلما دنى منه صغر حتى انتهى اليه فوجده لقمة فأكلها فوجدها اطيب شيء اكله ثم مضى فوجد طستا من ذهب فقال امرني ربي ان اكتم هذا فحفر له و جعله فيه و القى عليه التراب ثم مضى فاذا هو بطير و خلفه بازى فطاف الطير حوله فقال امرني ربي ان اقبل هذا ففتح كمّه فدخل الطير فيه فقال له البازي اخذت صيدي و انا خلفه منذ ايام فقال ان ربي عز و جل امرني ان لا اوئيس هذا فقطع من فخذه قطعة القاها اليه ثم مضى فاذا هم بلحم ميتة متنت مدوّد فقال امرني ربي ان اهرب من هذا فهرب منه.

و رجع فرأى في المنام كأنه قد قيل له انك قد فعلت ما امرت بهه فهل تدري ما ذا كان؟ قال لا قيل له اما الجبل فهو الغضب ان العبد اذا غضب لم ير نفسه و جهل قدره من عظم الغضب فاذا حفظ فيه و عرف قدره و سكّن غضبه كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي اكلتها و اما الطست فهو العمل الصالح اذا كتمه العبد و اخفاه ابى اللّه عز و جل الا ان يظهره ليزيّنه به مع ما يدّخر له من ثواب الاخرة و اما الطير فهو الرجل الذي جائك بالنصيحة فاقبله و اقبل نصيحته

ص:258


1- (1) من هذا الحديث اخذ الشاعر قوله: لطف حق با تو مداراها كند چون كه از حد بكذرى رسوا كند

و اما البازي فهو رجل الذي يأتيك في حاجة فلا توئيسه و اما اللحم المنتن فهو الغيبة فاهرب منها.

و اما الدواء النافع في دفع الرياء فبأن تتفكر في مضرة الرياء و ما يفوت بسببه من صلاح القلب و ما يحرم عنده في الحال من التوفيق و في الاخرة من المنزلة عند اللّه تعالى يتعرض من العقاب العظيم و المقت الشديد و الخزي الظاهر حيث ينادى على رؤوس الاشهاد و العباد يا فاجر يا غادر يا مرائي اما استحيت اذا اشتريت بطاعة اللّه تعالى غرض الدنيا؟راقبت قلوب العباد و استهزئت بطاعة اللّه تعالى و تحببت الى العباد بالتبغض الى اللّه تعالى و تزينت لهم بالشين عند اللّه تعالى و تقربت اليهم بالبعد من اللّه و تحمدت اليهم بالتذمم عند اللّه تعالى و طلبت رضاهم بالتعرض لسخط اللّه اما كان احد اهون عليك من اللّه فمهما تفكّر العبد في هذا الخزي و قابل ما يحصل له من العباد و التزين لهم في الدنيا بما يفوته من الاخرة و بما يحبط عليه(عنه ظ)من ثواب الاعمال مع ان العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص فاذا فسد بالرياء حوّل الى كفة السيئات فيترجح به بعد ان كان مرجوحا و يهوى به الى النار.

فلو لم يكن في الرياء الا احباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في معرفة ضرره و ان كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علوّ المرتبة عند اللّه تعالى في زمرة النبيين و الصديقين و قد حطّ عنهم بسبب الرياء ورد الى صف النعال من مراتب الاولياء ان لم يستوجب النار و الخزي و الطرد عن الملك الجبار هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق فان رضاء الناس غاية لا تدرك فكلما يرضى به فريق يسخط به فريق و رضاء بعضهم في سخط بعضهم.

و اما الطمع لما في ايديهم فبأن تعلم ان اللّه مسخر للقلوب بالمنع و الاعطاء و ان الخلق مضطرون فيه،و لا رازق الا اللّه سبحانه و تعالى و من طمع في الخلق لم يخل من الذل و الخيبة و الاهانة و ان وصل الى المراد لم يخل عن المنّة و المهانة و من اعتمد على اللّه كفاه اللّه همه من الدنيا و الاخرة فكيف يترك ما عند اللّه لرجاء كاذب و وهم فاسد و قد يصيب و قد يخطى و اذا اصاب فلا تفي لذته بالم منته و مذلته مع ان المرائي يظهر اللّه تعالى الخلق على باطنه و خبث نفسه و فساد نيته فيمقتونه.

روى ان رجلا من بني اسرائيل قال و اللّه لاعبدنّ اللّه عبادة اذكر بها فكان اول داخل الى المسجد و آخر خارج منه قائما لا يفطر و يجلس الى حلق الكر فمكث بذلك مدة طويلة فكان لا يمر بقوم الا قالوا فعل اللّه بهذا المرائي و صنع فأقبل على نفسه و قال اراني فيغير شيء

ص:259

لا جعلنّ عملي كله للّه فلم يزد على عمله الذي كان يعمل قبل ذلك الا انه تغيرت نيته الى الخير و كان ذلك الرجل يمر بعده بالناس فيقولون رحم اللّه فلانا الان اقبل على الخير.

ثم هب انهم احبوك و اكرموك و خفى عليهم حالك مع ان اللّه تعالى مطلع على فساد نيتك و خبث سريرتك فأي خير لك في مدح الناس و انت عند اللّه مذموم و اي شر لك من ذم الناس و انت عند اللّه ممدوح من اهل الجنة و من احضر في قلبه الجنة و نعيمها المؤبد و المنازل الرفيعة عند اللّه تعالى استحقر ما يتعلق بالخلق ايام الحياة مع ما فيه من الكدورات فان لم يكتف بهذا كله فلتأمل في ثلاثة اشياء.

احدها انه لو قيل لك ان رجلا معه جوهر نفيس لياوس مأة الف دينار و هو محتاج الى ثمنه بل الى بيعه عاجلا و الى اضعافه ثمنا فحضر من يشتري منه متاعه باضعاف ثمنه مع حاجته الى الاضعاف ايضا فأبى بيعه بذلك بفلس واحد ا ليس ذلك يكون خسرانا عظيما و عيبا فظيعا و دليلا بينا على دنائة الهمّة و قصور العلم و الفهم و ضعف الرأي ورقة العقل بل على السفه المحض و هذا بعينه حال المرائي فان ما يناله العبد بعمله من مدحه و حطام الدنيا بالاضافة الى رضاء رب العالمين و شكره و ثواب الاخرة اقلّ من فلس في جنب الف الف دينار بل في جنب الدنيا و ما فيها و اكثر و هذا هو الخسران المبين فان كان و لا بد لك من هذه الهمة الخسيسة فاقصد انت الاخرة و هو سبحانه يعطيك الدارين قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ان اللّه يعطي الدنيا بعمل الاخرة و لا يعطي الاخرة بعمل الدنيا.

و ثانيها ان المخلوق الذي يعمل لاجله و طلب رضاه لو علم انك تعمل لاجله لابغضك و لاستهان بك مضافا الى مقت اللّه و بغضه و ما تعمله للّه خالصا يوجب رضاء الفريقين فكيف يعمل العامل لاجل لو علم بأنه يطلب رضاه لسخط عليه و اهانه.

و ثالثها ان من حصل له سعى يكتسب به رضاء اعظم ملك في الدنيا فطلب به رضاء كنّاس خسيس فطلب سخط ذلك الملك و رضاء الكنّاس فيكون هذا دليلا على ردائة الرأي و سوء المنظر و يقال له ما حاجتك الى هذا الكنّاس مع امكانك رضاء الملك و هذا هو الدواء العلمي و اما الدواء العلمي فهو ان يعوّد نفسه اخفاء العبادات و اغلاق الابواب دونها كما تغلق الابواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه اطلاع اللّه سبحانه على عبادته و لا تنازعه نفسه الى طلب غير علم اللّه و هو امر يشقّ في ابتداء المجاهدة لكن اذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله و هان عليه ذلك بتواصل الطاف اللّه تعالى و بما يمدّ به عباده من حسن التوفيق فان اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة و من اللّه الهداية قال اللّه تعالى و الذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا الاية.

ص:260

و روى ان عيسى عليه السّلام كان يقول للحواريين اذا كان يصوم احدكم فليدهّن راسه و لحيته و ليمسح شفتيه بالزيت لئلا يرى الناس انه صائم و اذا اعطى بيمينه فليخف عن شماله و اذا صلّى فليرخ سترا عليه فان اللّه يقسم الثناء كما يقسم الرزق و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان في ظل العرش ثلاثة يظلهم اللّه في ظله(بظله خ)يوم لا ظل الا ظله رجلان تحابا في اللّه و افترقا عليه و رجل تصدق بيمينه صدقة فأخفاها عن شماله و رجل دعته امرأة ذات جمال فقال اني اخاف اللّه رب العالمين هذا مختصر ما يتعلق بالرياء.

خاتمة هذا النور في العجب و سرور المرء بعمله

اما تعريفه فهو استعظام العمل الصالح و استكثاره و الابتهاج به و هو من المهلكات قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ثلث مهلكات شحّ مطلع و هوى متبع و اعجاب المرء بنفسه و هو محبط للعمل قال عليه السّلام لو لا ان الذنب بالمؤمن خير من العجب ما خلّى اللّه عز و جل بين عبده المرمن و بين ذنب ابدا، و قال امير المؤمنين عليه السّلام سيئة تسؤك خير من حسنة تعجبك أي تورثك عجبا،و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله اوحى الى داود عليه السّلام يا داود بشّر المذنبين و انذر الصديقين قال تعالى بشر المذنبين اني اقبل التوبة و عفو عن الذنب و انذر الصديقين ان يعجبوا باعمالهم فانه ليس عبد يتعجب بالحسنات الا هلك و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال قال اللّه تعالى انا اعلم بما يصلح به امر عبادي و ان من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادته فيقوم من رقاده و لذيذ و ساده فيجتهد و يتعب نفسه لعبادتي فاضربه بالنعاس الليلة و الليلتين نظرا مني له و اتقاء عليه فينام حتى يصبح فيقوم ماقتا لنفسه زارئا عليها و لو خلّى بينه و بين ما يريد من عبادتي لدخله من ذلك العجب باعماله فيأتيه ما فيه هلاكه لعجبه باعماله رضاه عن نفسه حتى يظن انه قد فاق العابدين و جاز في عبادته حد التقصير فيتباعد مني عند ذلك و هو يظن انه تقرب اليّ.

و روى شيخنا الكليني قدس اللّه روحه باسناده الى الصادق و الباقر عليهما السلام قال دخل رجلان المسجد احدهما عابد و الاخر فاسق فخرجا من المسجد و الفاسق صدّيق و العابد فاسق و ذلك انه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته فيدلّ بها فيكون فكرته في ذلك و يكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه و يستغفر اللّه تعالى مما صنع من الذنوب و روى ان الشيطان اقبل الى موسى عليه السّلام و عليه برنس فيه الوان قال موسى ما هذا قال اختطف به قلوب بني آدم قال فما الذي صنعه الانسان استحوذت عليه؟قال اذا اعجبته نفسه و استكثر عمله و نسى ذنوبه فأحذرك ثلاثة لا تخل بامرأة فانه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له الا كنت صاحبه حتى افتتنه بها و لا تعاهد اللّه عهدا فاني امنعك عن الوفاء به و لا تخرجنّ صدقة الا امضيتها فانه ما اخرج صدقة و لم

ص:261

يمضها الا كنت صاحبه احول بينه و بين الوفاء ثم تولى و يقول يا ويلتاه علم موسى ما يحذّر به بني آدم.

و اما علاج العجب فبأن ينظر في الالات و الاسباب التي قوى بها على العبادة التي اورثته العجب من القدرة و العلم و الاعضاء و الرزق فأنه كله من اللّه سبحانه و لولاه لم يقدر على طاعته سبحانه ثم ينظر الى نعمه عليه في ارسال الرسل و خلق العقل الذي اهتدى به ثم ينظر فيه قيمة العمل الذي عمله فلا يجده مقابلا لنعمة من هذه النعم و انما صار لعمله قيمة لما وقع من اللّه موقع الرضا،و الا فترى الاجير يعمل طول النهار بدرهمين و الحارس يسهر طول الليل بدرهم و كذلك اصحاب الصناعات و الحرف و اذا صرفت الفعل الى اللّه تعالى قصمت للّه يوما قال اللّه تعالى انما يوفّى الصابرون اجرهم بغير حساب.

و في الخبر اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر،فهذا يومك الذي قيمته درهمان مع احتمال التعب العظيم قد صارت له هذه القيمة بتأخير غداء الى عشاء و لو قمت ليلة للّه تعالى فقد قال في شأنك فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرّة اعين جزاء بما كانوا يعملون فهذا الذي قيمته درهم صارت له هذه القيمة فحق اذن للعاقل ان يرى حقارة عمله و قلة مقداره من حيث هو و ان لا يرى الا منّة اللّه عليه.

و حدثني اوثق مشايخي عن الصادق عليه السّلام ان عابدا كان في الاعصار السابقة يعبد اللّه سبحانه في كهف جبل صائما نهاره قائما ليله و كان قد انبت اللّه سبحانه له على باب ذلك الكهف شجرة رمان فكان يأكل منها كل ليلة واحدة و يدخر منها لشتائه فبقى يعبد اللّه تعالى خمسمائة عام تقريبا فاذا كان يوم القيامة امر اللّه سبحانه باحضار ذلك العابد فيقول لملائكة الرحمة اني قد عفوت عنه فادخلوه الجنة بفضلي فيقول العابد يا رب اني عبدتك كثيرا و اريد ان ادخل الجنة بعبادتي فيقول سبحانه اراد منّا العدل يا ملائكتي زنوا عبادته مع ما انعمت عليه في الدنيا فتوضع اعماله كلها في كفّة من الميزان و يوضع في الكفة الاخرى رمانة واحدة من ذلك الرمان فيترجح الرمانة الواحدة على كل ذلك العمل فيبقى العابد متحيرا فيقول يا رب التمس منك الفضل فيدخله الجنة فهذا قيمة عبادته خمسمائة سنة لما عامله بالعدل هذا مع ان التوفيق للقيام بوظائف العبودية ليس الا منه تعالى كما اشير اليه في خبر داود عليه السّلام حين اوحى اللّه اليه ان اشكرني حق شكري فقال يا رب كيف اشكرك و الشكر نعمتك تستحق عليه شكرا؟ فقال يا داود اذا عرفت ان ذلك مني فقد شكرتني.

و روى ان بعض الوعاظ دخل يوما على هارون الرشيد فقال عظني فقال له يا امير المؤمنين اتراك لو منعت شربة من ماء عند عطشك بم كنت تشتريها؟فقال بنصف ملكي قال يا

ص:262

امير المؤمنين أ تراها لو حبست عنك عند خروجها بم كنت تشتريها؟قال بالنصف الباقي،قال فلا يغرنّك ملك قيمته شربة ماء،فانظر ايها العاقل كم تتناول في يومك و ليلتك مما يساوي ملك الرشيد و يزيد عليه اضعافا،فما قيمة عبادتك و ما توقعه منك في يومك و ليلتك فلو جعلت للّه نفسا تقول فيه لا اله الا اللّه قال اللّه تعالى و من يعمل من الصالحات من ذكر او انثى و هو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة و يرزقون فيها بغير حساب.

و روى ان عابدا عبد اللّه تعالى سبعين عاما صائما نهاره قائما ليله،فطلب الى اللّه حاجة فلم تقض فأقبل على نفسه و قال من قبلك أتيت لو كان عندك خير قضيت حاجتك فأنزل اللّه اليه ملكا فقال يا ابن آدم ساعتك التي ازريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي مضت، ثم تأمل بعد ذلك ثلاثة امور احدها ان الملك من ملوك الدنيا اذا قرر لواحد من اتباعه طعاما او كسوة او دراهم فانه يستخدمه لاجلها بضروب الخدم في الليل و النهار بل ربما قام على رأسه و وقف امامه ركب لاجله لحجج البحار و ربما بذل مهجته في مقاتلة اعدائه و لا ينفعه في الاخرة فهو يتحمل كل تلك المشاق لاجل تلك المنفعة الخسيسة الفانية و يعترف له بالنعمة و الفضل مع ان تلك النعمة و الفضل كله من اللّه فكيف تستكثر انت عملك الحقير المشوب بالافات و النقائص لربك الذي خلقك و لم تك شيئا مذكورا ثم رباك و انعم عليك فقال و ان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها.

و ثانيها ان تتفكر في ان الملك الذي من شأنه ان الملوك تخدمه أذا أذن في إدخال الهدايا عليه و وعد عليها بالعطاء العظيم،و أمر ان لا يستحي أحد بهديته و لو كانت طاقة(بطاقة خ) بقل،فدخلت عليه الأمراء و الأكابر بأنواع الهدايا ثم جاء بقال اليه بباقة(باقة خ)بقل تساوى درهما فدخل بها الى حضرته و زاحم أولئك الكابر بهداياهم الجليلة،فقبل الملك من الوضيع هديته و نظر اليها نظر القبول و أمر له بأنفس حلة قيمته مأة الف دينار كان منه غاية في الكرم و التفضل،ثم لو فرض ان هذا الفقير نظر بخاطره الى هديته و أستعظم أمرها و تعجب بها و نسى ذكر منة الملك قيل انه مجنون فاسد العقل و الرأى.

و ثالثها ان الملك الذي من شأنه ان تخدمه الملوك و الأمراء و تقوم على رأسه السادات و العظماء و يتولى خدمته الحكماء اذا أذن لسوقيّ او قرويّ في الدخول عليه و القرب منه حتى زاحم اولئك الأكابر و السادات و الأفاضل في خدمته،و جعل له مقاما في حضرته أ ليس يقال لقد كثرت على هذا الفقير المنه من الملك و عظمت عليه النعمة،فان أخذ هذا الفقير الحقير يمن على الملك بتلك الخدمة الحقيرة و يستعظم ذلك مع هذه النعمة الواصلة اليه و يعجب بعمله أ ليس ينسب الى محض السفه و الجنون و كيف و الهنا الذي وقف بخدمته الانبياء و المرسلون

ص:263

و الملائكة المقربون و لا يخفى حال نبينا صلّى اللّه عليه و آله في جدّه و اجتهاده في عبادة ربه و كذلك من بعده من الائمة الطاهرين عليهم السّلام و مع هذا كله قال صلّى اللّه عليه و آله سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فكيف تستعظم و تستكثر انت صلاة ركعتين محشوتين من العيوب و النقائص.

و اما سرور المرء بعمله فقد علمت ان حقيقة الاخلاص ما قاله عليه السّلام ما بلغ عبد حقيقة الاخلاص حتى لا يحب ان يحمد على شيء من عمل اللّه و ان الانسان يعمل للّه مخلصا لكن اذا عرفه الناس و اثنوا عليه بذلك سرّه ذلك المدح و لا ينفك عن هذا،و كذلك اذا عمل الحسنة سر بعمله لها فهل يكون مثل هذا منافيا للاخلاص ام لا؟و اعلم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل عن ذلك فيما رواه المفسرون عن سعيد بن جبير قال جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال اني اتصدق واصل الرحم و لا اصنع ذلك الا للّه فيذكر مني و احمد عليه فيبرني ذلك و اعجب به فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يقل شيئا فنزل قوله تعالى قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ انما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه احدا،قال بعض المحققين من الناسكين المتقين التحقيق ان السرور باطلاع الناس ينقسم الى قسمين محمود و مذموم فالمحمود ثلاثة.

الاول ان يكون من قصده اخفاء الطاعة و الاخلاص للّه سبحانه و لكن لما اطلع عليه الخلق علم ان اللّه اطلعهم عليه و اظهر لهم الجميل من عمله تكرما منه و تفضلا،كما في الدعايا من اظهر الجميل و ستر القبيح فيستدل بذلك على حسن صنع اللّه به فيكون فرحه بجميل صنع اللّه لا بحمد الناس و حصول المنزلة في قلوبهم قل بفضل اللّه و برحمته فبذلك فليفرحوا.

الثاني ان يستدل باظهار الجميل و ستر القبيح في الدنيا انه يفعل به كذلك في الاخرة كما قل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما ستر اللّه على عبد في الدنيا الا ستر عليه في الاخرة الثالث ان تحمده المطلعون عليه فتسره طاعتهم للّه في ذلك و محبته طاعة اللّه فان من الناس من يرى اهل الطاعة فيمقتهم و يحسدهم و يهزء بهم و ينسبهم الى التصنع فهذا النوع من الفرح حسن ليس بمذموم و علامة الاخلاص في هذا النوع بأن لا يزيده اطلاعهم هذا بالعمل بل يستوي حالتاه في اطلاعهم و عدمه و ان وجد في نفسه هزّة و زيادة في النشاط فليعلم انه مراء فليجتهد في ازالته برادع العقل و الدين و الا فهو من الهالكين.

و اما المذموم فهو ان يكون فرحه لقيام منزلته عندهم؟؟و يعظموه و يقوموا بقضاء حاجاته و يقابلونه بالاكرام و التوقير فهذا رياء حقيقي و محبط للعمل و اما حديث النفس و ما يخطره الشيطان بوسواسه و من ارادة اطلاع الناس على العمل مع كونه ماقتا لنفسه و زاريا عليها على هذا الخاطر الذي قد عنّ لها فالظاهر انه لا شيء عليه في لانه لا ينفك عن الانسان و من

ص:264

هنا قال صلّى اللّه عليه و آله عفى اللّه لامتي عما حدثت بها انفسها ما لم تنطق به او تعمل به لان حركة اللسان و الجوارح مقدوران بخلاف خطرات الاوهام و وساوس القلوب نعم يجب مقابلة هذه الخطرات بأضدادها و مقابلة شهواتها بكراهتها.

و اما سرور الانسان بحسناته فقد تحققت انه من علامات الايمان كما قال عليه السّلام من سرته حسنته و سائته سيئته فهو مؤمن،و حيث انك تحققت من خبر معاذ السابق ان الصلوة تردّ من اول باب من ابواب السماء لاجل الغيبة فلا بأس بعقد نور يكشف عن احواله.

نجز الجزء الثاني من الكتاب على حسب تجزئتنا في الطبع و يليه الجزء الثالث و اوله(نور يكشف عن احواله الغيبة)و نسأل اللّه التوفيق لاتمامه و الحمد للّه اولا و آخرا،و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين.

ص:265

محتويات الجزء الثاني

نور في بيان بعض احوال مولانا صاحب الزمان صلوات اللّه عليه 3

نور في غيبته عليه السّلام 19

نور اسمي يكشف عن أنه هل يجوز تسميته عليه السّلام باسمه ام لا؟38

نور في بلاد عليه السّلام 40

نور في علامات ظهوره عليه السّلام 45

نور في كيفية رجعته عليه السّلام 54

نور في سعود الايام و نحوسها 77

نور في بعض الاسباب الموجبة 84

نور في ذكر الشهور الاثنى عشر 96

نور في التشام و حقيقته و اصابة العين و ما يناسبه 100

نور في التزويج و احواله و احكامه 104

نور في تكون الاولاد في الرحم و بعض احوالهم 117

نور في ايام رضاعه 130

نور في بعض احوال الطفل في المكتب 140

نور في وقت بلوغه و ما يتبعه من الاحوال 145

(ظلمة حالكة في بيان أحوال الصوفية و النواصب)193

نور في الطهارة و الصلوة 218

نور فيما يختص بالصلوة 232

خاتمة هذا النور في العجب و سرور المرء بعمله 261

محتويات الجزء الثاني 266

ص:266

المجلد 3

اشارة

سرشناسه:جزایری، نعمت الله بن عبدالله، ق 1112 - 1050

عنوان قراردادی:[الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه]

عنوان و نام پديدآور:الانوار النعمانیه/ تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

مشخصات نشر:بیروت - لبنان - دارالقاریء 1429

مشخصات ظاهری:4ج

عنوان دیگر:الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه

موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه

موضوع:ادبیات عربی -- مجموعه ها

موضوع:احادیث شیعه -- قرن ق 12

ص :1

ادامة الباب الثاني

الانوار النعمانیه

تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

ص :2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نور يكشف عن احوال الغيبة

و فيه اقسامها المحظورة و الجايزة و ذكر التوبة منه و علاجه و ما يلحقه من المناسبات اعلم وفقك اللّه تعالى ان الغيبة من أعظم الكبائر و قد توعد عليها النار و مع هذا فهي ذنب قد طمّت بليّته الخاص و العام و قد احترز و اعن غيره و لم يحترز و اعنه و ذلك لأمور:

احدها الغفلة عن تحريمه و ما ورد فيه من الوعد و الوعيد و لآيات و الرّوايات و هذا هو السبب الأقل لأهل الغفلات.

و ثانيها انّ مثل هذه المعصية لا يخل بمراتب الناس و لا يسقط محلهم عندهم لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من اهل الجهالات و ايضا فإن الناس كلّهم في بلاء من هذه المصيبة و لو وسوس اليهم الشيطان ان اشربوا الخمر او زنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة و لو راجعوا عقولهم لوجدوا انّ الغيبة اشدّ نكالا و عذابا و تقبيحا من ذنوب كثيرة خصوصا ممّا كان حقه للّه تعالى وحده.

و ثالثها موافقة الناس في مجالسهم كما سيأتي بيانه ان شاء اللّه تعالى.

و اما تعريفها في الأصطلاح فقد ذكر له اثنان احدهما مشهوري و هو ذكر الأنسان حال غيبته بما يكره نسبته اليه مما يعد نقصا في العرف بقصد الأنتقاص و الذم،و ثانيها و هو الذي عوّلنا عليه في شرح الصحيفة انها التعرض لإنسان معين و ما في حكمه بما يكون فيه بحيث لو سمعه لغضب و يعد في العرف نقصا و يكون قاصدا لذلك النقص سواء كان ذلك التّعرض بالقول او الإشارة او الكناية او الكتابة،و التقيد بالمعين لإخراج مثل قولك في هذا البلد رجل فاسق و امّا عمر و فاسق فإنه امّا غيبة لأحدهما كما قيل و يترتب عليه ذنب واحد و امّا غيبة لكليهما فيكون عليه ذنبان و هو الأصحّ لغضبهما عند سماع هذا القول و اخراج مثل هذا القول عن الغيبة كما قيل به فاسد،و قولنا بما يكون فيه لإخراج البهتان و التهمة فانهما اشد ذنبا من الغيبة،و التقيد بكونه نقصا لإخراج مثل نسبة عبادة او نحوها الى غائب بحيث لو سمعها لغضب فانّه لا يعد غيبة.

و قولنا و يكون قاصدا لذلك النقص لإخراج ذكر العيب عند الطبيب مثلا او لإستدعاء المرحمة من السلطان في حق الزمن و الأعمى بذكر نقصانهما فانّه لا يعد غيبة و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترون ما الغيبة؟فقالوا اللّه اعلم و رسوله أعلم،قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أ رأيت ان كان في أخي ما أقول؟قال ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته،و ان لم يكن فيه فقد بهّته،

ص:3

و ذكر عنده رجل فقالوا ما أعجزه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اغتبتم صاحبكم فقالوا يا رسول اللّه قلنا ما فيه قال ان قلتم ما ليس فيه فقد بهّتموه،و قد شبهت في القرآن بلحم الميتة فقال و لا يغتب بعضكم بعضا أ يحب احدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه.

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه، و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اياكم و الغيبة فان الغيبة اشد من الزنا ان الرجل قد يزني فيتوب فيتوب اللّه عليه و ان صاحب الغيبة لا يغفر له حى يغفر صاحبه،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مررت ليلة اسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم،فقلت يا جبرئيل من هؤلاء؟فقال هؤلاء يغتابون النّاس و يقعون في اعراضهم و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عورة اخيه تتبع اللّه عورته يفضحه في جوفق بيته.

و خطب عليه السّلام ذات يوم فذكر الربا أعظم عند اللّه في الخطيئة من ستّ و ثلاثين زنية يزنيها الرجل،و في حديث آخر يزنيها الرجل بمحارمه في جوف الكعبة،ثم قال و انّ أربى الربا عرض الرجل المسلم و روي انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بصوم يوم و قال لا يفطرن أحد حتى آذن له،فصام الناس حتى اذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول يا رسول اللّه ظللت صائما فاذن لي لأفطرن فاذن له و الرّجل و الرجل حتى جاء رجل فقال يا رسول اللّه فتاتان من اهلي ظللتا صائمتين و انهما تستحيان فاذن لهما ان تفطرا،فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه،ثم عاوده فقال انهما لم تصوما و كيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس؟اذهب فمرهما ان كانتا صائمتين ان تستقيئا فرجع اليهما فأخبرهما،فاستقائا،فقاءت كل واحدة منها علقة من دم،فرجع الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال و الذي نفس محمّد بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار.

و في رواية انه لما أعرض عنه جائه بعد ذلك و قال يا رسول اللّه انهما و اللّه لقد ماتا او كادتا ان تموتا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيتوني بهما،فجاءتا،فدعى بقدح فقال لأحدهما قيئي فقاءت من قيح و دم صديد حتى ملأت القدح،و قال للأخرى قيئي فقاءت كذلك، فقال ان هاتين صامتا عما احل اللّه لهما و افطرتا على ما حرم اللّه عليهما جلست احديهما على الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس،و روي انه من أكل لحم اخيه في الدنيا قرب اليه لحمه في الآخرة،فقيل له ميتا كما أكلته حيا،فيأكله و يكلح،و لمّا رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه هذا اقعص كما يقعص الكلب،فمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معها بجيفة فقال انهشا منها،فقالا يا رسول اللّه ننهش جيفة؟فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه.

ص:4

و قال الصادق عليه السّلام الغيبة حرام على كل مسلم،و انها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب،و قد اوحى اللّه عز و جل الى موسى بن عمران انّ المغتاب اذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة،و ان لم يتب فهو اول من يدخل النّار،و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال من أغتاب مسلما او مسلمة لم يقبل اللّه صلاته و لا صيامه أربعين يوما و ليلة الاّ ان يغفر له صاحبه،و من أغتاب مسلما في شهر رمضان لم يؤجر على صيامه.

و قال عليه السّلام يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي اللّه و يدفع اليه كتابه فلا يرى حسناته،فيقول الهي ليس هذا كتابي،فانّي لا أرى فيه طاعتي،فيقال له ان ربك لا يضل و لا ينسى،ذهب عملك بأغتياب الناس ثم يؤتى بآخر فيدفع اليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول يا الهي ما هذا كتابي فاني ما عملت هذه الطاعات،فيقال ان فلانا اغتابك فدفعت حسناته اليك،و قال عليه السّلام كذب من زعم انّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة اجتنب الغيبة فانّها إدام كلاب اهل النار.

و قال عليه السّلام عذاب القبر من النميمة و الغيبة و الكذب،و روي ان عيسى عليه السّلام مرّ و الحواريّون على جيفة كلب،فقال الحواريون ما أنتن هذه،فقال عيسى عليه السّلام ما أشدّ بياض أسنانه،كأنه ينهاهم عن غيبة الكلب و ينبههم على انه لا يذكر من خلق اللّه الاّ أحسنه،و قد قيل في السبب الموجب للتّشديد في أمر الغيبة و أنها أعظم من كثير من المعاصي هو أشتمالها على المفاسد الكلية المنافية لغرض الحكيم سبحانه،بخلاف باقي المعاصي فانها مستلزمة لمفاسد جزئية، و بيان ذلك ان المقاصد المهمة للشارع إجتماع النفوس على همّ واحد و طريقة واحدة،و هي سلوك سبيل اللّه بسائر وجوه الأوامر و النّواهي،و لا يتم ذلك الا بالتعاون و التعاضد بين ابناء النّوع الأنساني،و ذلك يتوقف على إجتماع همّهم و تصافي بواطنهم،و اجتماعهم على الألفة و المحبة حتى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه،و لن يتم ذلك الا بنفي الضّغائن و الأحقاد و الحسد، و كانت الغيبة مفرقة بينهم فكانت مستلزمة لنقيض غرض الشارع من خلق العالم و ما فيه.

و اما تفصيل اقسامها فهي كما عرفت التّعرض للمؤمن بما يكرهه بنقصان،و ذلك النقصان إما في بدنه،او نسبه او خلقه بضم الخاء،او فعله،او قوله او دينه او دنياه او ثوبه او داره او دابته،و قد أشار الصادق عليه السّلام الى ذلك مجملا بقوله وجوه الغيبة يقع بذكر عيب في الخلق،و الفعل و المعاملة و المذهب و الجهل و أشباهه فالبدن كذكرك فيه العمش و الحول و العمى و جميع ما يكرهه من الأوصاف.

و اما النسب فان يقول ابوه زان او فاسق او حائك او اسكاف او نحو ذلك ممّا يكرهه كيف كان،و اما الخلق فأن يقول انّه سيء الخلق خسيس متكبر شديد الغضب و نحو ذلك،و اما

ص:5

افعاله المتعلقة بالدين فكقولك قليل الأدب،متهاون بالناس كثير الأكل اذا دخل المجلس يجلس في غير موضعه،و اما في ثوبه فكقولك انه واسع الكم،طويل الذيل وسخ الثياب و نحو ذلك،و هذا لا يكون مقصورا على اللسان بل يجري في الكناية و الأشارة و الغمز و الرموز،و من ذلك ما روي عن عائشة انها قالت دخلت علينا امرأة،فلما ولّت اومأت بيدي أي قصيرة،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إغتبتها،و من ذلك تقليد الأعرج في مشيته،او كما يمشي الغير بل هو اشد من الغيبة، لأنّه أعظم في التصوير و التفهيم،و كذلك الغيبة بالكتاب فان الكتاب كما قيل أحد اللسانين،و من ذلك كما قاله الشهيد الثاني طاب ثراه ذكر المصنف شخصا معينا و تهجين كلامه في الكتاب الا ان يقترن به شيء من الأعذار المحوجة الى ذكره كمسائل الأجتهاد التي لا يتم الغرض من الفتوى و اقامة الدّليل على المطلوب الاّ بتزييف كلام الغير و نحو ذلك،و يجب الأقتصار على ما يندفع به الحاجة.

و قد بقي افراد خفية من الغيبة،الفرد الأول ممّا يستعمله أهل العلم و المعرفة المرائين، فأنّهم يفهمون المقصود على صنعة أهل الصلاح و يظهرون التعفف عن الغيبة و لا يدرون،لجهلهم انهم جمعوا بين الرياء و الغيبة،و ذلك مثل ان يذكر عنده إنسان فيقول الحمد للّه الذي لم يبتلينا بحب الرّئاسة او بحب الدنيا،و يقول نعوذ باللّه من قلة الحياء او من سوء التوفيق،او نسأل اللّه ان يعصمنا من كذا،بل مجرد الحمد على شيء اذا علم اتصاف المحدث عنه بما نافيه و نحو ذلك،فانه يغتابه بلفظ الدّعاء و سمة أهل الصلاح،و انّما قصد ان يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة و الرياء و دعوى الخلاص من الزذائل و هو عنوان الوقوع فيها.

الثاني ان يقدم من يريد غيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصر في العبادات و لكن قد اعتراه فتر و ابتلي بما نبلي به كلّنا و هو قلّة الصبر،فيذكر نفسه بالذّم و مقصوده ان يذّم غيره و ان يمدح نفسه بالتّشبّه بالصالحين في ذم أنفسهم،فيكون مغتابا مرائيا مزكيا نفسه،فيجمع بين ثلاث فواحش و هو ان يظن لجهله انّه من الصالحين المتعففين عن الغيبة،هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل اذا أشتغلوا بالعلم او العمل من غير ان يتفطّنوا الطريق،الثالث ان يذكر ذاكر عيب الأنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول سبحان اللّه ما أعجب هذا حتى يصغي الغافل الى المغتاب و يعلم ما يقوله فيذكر اللّه،و يستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه و باطله و هو يمنّ على اللّه بذكره جهلا و غرورا.

الرابع ان يقول جرى لصاحبنا او صديقنا كذا تاب اللّه علينا و عليه،يظهر الدعاء له و التألم و الصداقة و الصحبة و اللّه مطّلع على خبث سريرته،و هو لا يدري انّه قد تعرض لمقت أعظم ممّا يتعرض له الجهّال اذا جاهروا بالغيبة،الخامس الأصغاء الى الغيبة على سبيل التعجب

ص:6

فانّه انّما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة،فيزيد فيها لأستخراج الغيبة منه بهذا الطريق،فيقول عجبت ممّا ذكرته ما كنت أعرف من فلان ذلك،يريد بذلك تصديق المغتاب و استدعاء الزيادة منه باللّطف و التصديق بها غيبة بل الأصغاء اليها بل السكوت عند سماعها، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المستمع احد المغتابين و ذلك انّ احدهما يتكيّف لسانه بها و الآخر يتكيّف سمعه بها،فالمستمع لا يخرج من اثم الغيبة الاّ بأن ينكر بلسانه،فان خاف فبقلبه و ان قدر على القيام او قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه و لو قال بلسانه اسكت و هو يشهي ذلك بقلبه فذلك نفاق و فاحشة أخرى زائدة لا تخرجه عن الأثم ما لم يكرهه بقلبه.

و قد روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال من اذل عنده مؤمن و هو يقدر على ان ينصره فلم ينصره اذله اللّه يوم القيامه على روس الاشهاد(الخلائق خ)و قال صلّى اللّه عليه و آله من رد عن عرض اخيه بالغيب كان حتما على اللّه ان يرد عن عرضه يوم القيامه،و قال صلى اللّه عليه و آله من رد عن عرض اخيه بالغيب كان حتما على اللّه ان يعتقه من النار،و روى الصدوق ره باسناده الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من تطول على اخيه في غيبة سمعها منه في مجلس فردها عنه رد اللّه عنه ألف باب من الشر في الدنيا وى الآخرة،و ان هو لم يردها و هو قادر على ردها كان عليه كوزر من أغتابه سبعين مرة.

و اما العلاج الذي يمنع الأنسان عن الغيبة فأعلم ان مساوىء الأخلاق انما تعالج بمعجون العلم و العمل و انما علاج كل علة بمضاد سببه فلنذكر اسباب الغيبة اولا ثم نذكر علاج كف اللسان عنها على وجه يناسب علاج تلك الأسباب،فنقول جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء،و قد أشار الصادق عليه السّلام اليها إجمالا بقوله الغيبة تتنوع بعشرة انواع،شفاء غيض،و مساعدة قوم،و تصديق خبر بلا كشفه،و التبري من عيب،و سوءظن و حسد و سخرية و تعجب و تبرم و تزين.

و اما تفصيلها اولها تشفي الغيظ و ذلك اذا جرى سبب غضب فاذا هاج الغضب تشفى بذكر مساوئه و سبق اللسان اليه بالطبع ان لم يكن دين و ورع(دينا و ورعا)،و قد يمنع من تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن و يصير عقدا ثانيا،فيكون سببا لذكر المساوىء، فالحقد و الغضب هما البواعث العظيمة على الغيبة،الثاني موافقة الأقران و مجالسة الرفقاء و مساعدتهم على الكلام فانهم اذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى انه لو انكر او قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه فيساعدهم،و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظن انه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه فيحتاج الى ان يغضب لغضبهم اظهارا للمساهمة في السراء و الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوىء،الثالث ان يستشعر من أنسان انه سيقصده و يطول لسانه او يشهد

ص:7

عليه بشهادة فيبادر قبل ذاك و يطعن فيه ليسقط أثر شهادته و فعله او يبتدي بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول و يستشهد به و يقول ما من عادتي الكذب فاني اخبرتكم بكذا و كذا من أحواله فكان كما قلت،الرابع أ ينسب الى شيء فيريد ان يتبرىء منه فيذكر الذي فعله و كان حقه ان يبري نفسه و لا يذكر الذي فعله و لا ينسب غيره اليه او يذكر غيره بانه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه الخامس ارادة التصنع و المباهاة و هو ان يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل و فهمه ركيك،و غرضه ان يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه و يوهم انه افضل منه او يحذر ان يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه بذلك السادس الحسد و هو انه ربم لاحد من ثني الناس عليه و يحبونه فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيل اليه الا بالقدح فيه فيريد ان يسقط محله عند الناس حتى يكفوا عن اكرامه و الثناء عليه السابع اللعب و الهزل و المطايبة و تزيين الوقت بالضحك فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة و التعجب و التعجيب، الثامن السخرية و الأستهزاء استحقارا له فان ذلك قد يجري في الحضور فيجري ايضا في الغيبة و منشأة التكبر استصغار المستهزىء به التاسع و هو مأخذ دقيق ربما يقع فيه الخواص و هو ان يغتم بسبب ما يبتلى به احد فيقول يا مسكين فلان قد غمني امره و يذكر سبب الغم و يكون صادقا في اهتمامه و يلهيه الغم عن ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه فيصير به مغتابا فيكون غمه و رحمته خيرا و لكن ساقه الى شر من حيث لا يدري و الترحم و التغمم ممكن من دون ذكر اسمه و نسبته الى ما يكره فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه و ترحمه العاشر الغضب للّه تعالى فانه قد يغضب على منكر قارفه فيظهر غضبه و يذكر اسمه على غير وجه النهي عن المنكر و كان الواجب ان يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصة و هذا مما يقع فيه الخواص ايضا فانهم يظنون ان الغضب اذا كان للّه تعالى كان عذرا كيف كان و ليس كذلك و اما علاجات هذه الأمور فهي امران مجمل و مفصل اما الأول فبان يعلم انه تعرض لسخط اللّه تعالى و نقل حسناته الى ميزان غيره و يشتغل في تدبير عيوب نفسه عن عيوب غيره و ان كان ذما خلقيا فالذم له ذم للخالق،من ذم صنعه فقد ذم الصانع،قال رجل لبعض الحكماء يا قبيح فقال ما كان خلق وجهي الي فأحسنه و روي ان نوحا عليه السّلام مر على كلب اجرب فقال ما هذا الكلب؟فنطق الكلب و قال يا نوح هكذا خلقني ربي فان قدرت ان تغير صورتي باحسن من هذه الصورة فافعل،فتندم"فندم"على ما قال و بكى على هذه المقالة اربعين سنة فسمّاه اللّه نوحا و كان اسمه عبد الملك او عبد الجبار و اما الثاني فهو ان ينظر الى السبب الباعث له على الغيبة و يعالجه فان علاج العلة يقطع شينها و قد عرفت الأسباب الباعثة اما الغضب فيعالجه بان يقول ان امضيت غضبي عليه لعل اللّه تعالى يمضي علي بسبب الغيبة اذ نهاني عنها و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان لجنهم بابا لا يدخله الا

ص:8

من شفى غيضه بمعصية اللّه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كظم غيظا و هو يقدر ان يمضيه دعاه اللّه يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء و في بعض كتب اللّه يا أبن آدم اذكرني حين تغضب اذكرك حين اغضب فلا امحقك حين امحق و اما الموافقة فبان تعلم ان اللّه تعالى يغضب عليك اذا طلبت سخطه في رضاء المخلوقين فكيف ترضى لنفسك ان توقر غيرك و تحقّر مولاك فتترك رضاه لرضاهم الا ان يكون غضبك للّه تعالى و ذلك لا يوجب ان تذكر المغضوب عليهم بسوء بل ينبغي ان تغضب للّه ايضا على رفقائك اذ ذكروه بالسوء فانهم عصوا ربك بأفحش الذنوب و هو الغيبة و اما تنزيه النفس بنسبة الخيانة الى الغير حيث يستغني عن ذكر الغير فيعالجه بأن يعرف ان التعرض لمقت الخالق اشد من التعرض لمقت الخلق و انت بالغيبة متعرض لسخط اللّه تعالى يقينا و لا تدري انك تتخلص من سخط الناس ام لا فتخلّص نفسك في الدّنيا بالتوهم و تهلك في الآخرة و نخسر حسناتك بالحقيقة و تحصل ذم اللّه تعالى لك نقدا و تنتظر دفع ذمّ الخلق نسية و هذا غاية الجهل و الخذلان.

و اما عذرك كقولك انّي ان اكلت الحرام ففلان يأكل و ان فعلت كذا فلان يفعل و ان قصرت في كذا من الطاعة ففلان مقصّر و نحو ذلك فهذا جهل لأنّك تعتذر بالإقتداء بمن لا يجوز الأقتداء به،فانّ من خالف أمر اللّه تعالى لا يقتدي به كائنا من كان،و لو دخل غيرك النار و انت تقدر على ان تدخلها لم توافقه و لو وافقته سفه عقلك فما ذكرته غيبة و زيادة معصية اضفتها ما أعتذرت عنه و سجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك و غباوتك و كنت كالشاة تنظر الى الغير تردّي نفسه من الجبل فهي ايضا تردّي نفسها،و لو كان لها لسان و صرّحت بالعذر و قالت الغير اكيس منّي و قد اهلك نفسه فكذلك افعل لكنت تضحك جهلها،و حالك مثل حالها ثم لا تتعجّب و لا تضحك من نفسك.

و اما قصدك المباهاة و تزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي ان تعلم بما ذكرته أبطلت فضلك عند اللّه تعالى و انت من إعتقاد الناس فضلك على خطر و ربما نقص إعتقادهم فيك اذا عرفوك بثلب الناس (1)و اما الغيبة للحسد و هو جمع بين عذابين لأنّك حسدته على نعمة الدنيا و كنت معذّبا بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفت اليه عذاب الآخرة فكنت خاسرا في الدّنيا فجعلت نفسك خاسرا في الآخرة لتجمع بين النّكالين،فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك و أهديت اليه حسنتك فاذا انت صديقه و عدوّ نفسك،اذ لا تضره غيبتك و تضرك و تنفعه لأنتقال حسناتك اليه و سيئآته اليك،فقد جمعت الى خبث الحسد جهل الحماقة و ربّما

ص:9


1- (1) (ثلبه ثلبا)عابه و لامه.اغتابه،سبه.طرده.

يكون حسدك و قدحك فيه سبب إنتشار فضله،فقد قي و اذا اراد اللّه نشر فضيلة طويت اتاح لها لسان حسود

و قد جاء في الرواية عن امير المؤمنين عليه السّلام انّ من اغتابك فهو اصدق اصدقائك، و ذلك انّه رجّحك على نفسه بأن رضي بدخول النار و رضي لك بدخول الجنة فمن آثرك على نفسه فهو الصديق،و في حديث آخر أنه أتعب نفسه بالصيام و القيام و وضع ذلك في طبق مغشي و أرسله اليك هدية بدل ما أغتابك فكيف لا يكون صديقك و قال رجل لعابد انّي قد رق قلبي لك هذا اليوم و رحمك،فقال ممّ؟فقال من استغابة الناس لك،فقال سمعت مني يوما انّي استغبت احدا منهم،فقال لا،فقال غذن فارحمهم فهم محل الرحمة.

اما الأستهزاء فمقصودك منه اخزاء غيرك عند الناس باخزاء نفسك عند اللّه تعالى و عند الملائكة،فلو تفكّرت في حسرتك و خجلتك و خزيك يوم تحمل سيئات من استهزأت به و تساق به الى النار لأدهشك ذلك عن اخزاء صاحبك،و لو عرفت حالك لعرفت انك انت المضحكة فانك سخرت به عند نفر قليل و عرضّت نفسك لأن يأخذ بيدك في القيامة على ملإ من الناس و يسوقك كما يساق الحمار الى النار مستهزئا بك و فرحا بخزيك،و اما الرحمة له على اثمه فهو حسن و لكن حسدك ابليس فاستنطقك بما ينقل من حسناتك اليه ما هو أكثر من رحمتك فيكون جبرا لإثم المرحوم فتصير انت المرحوم لا هو اذ حبط أجرك و نقصت حسناتك.

و اما الأعذار المسوغة للغيبة فقد حصرها الأصحاب رضوان اللّه عليهم في عشرة الأول التظلّم كأن يتظلّم من قاض ظلمه عند من يرجو منه ازالة ظلمه،فانّه يجوز له ان ينسب القاضي الى الظلم،اذ لا يمكن استيفاء حقه الا به فقد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لصاحب الحق مقال و قال مطل الواجد يحلّ عقوبته و عرضه.

الثاني الأستعانة على تغيير المنكر و رد العاصي الى منهج الصلاح،و هذا يرجع الى النّية و القصد.

الثالث الأستفتاء كما تقول للمفتي قد ظلمني أبي و أخي فكيف طريقي في الخلاص و الأولى هنا التعريض بأن يقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه،و قد روي ان هندا قالت للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ابا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا و ولدي أ فأخذ من غير علمه؟فقال خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف،فذكرت الشحّ و الظّلم و لم يزجرها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذ كان قصدها الأستفتاء.

الرابع تحذير المسلم من الوقوع في الخطر و الشّرّ و نصح المستبشر فاذا رأيت متفقها يتلبس بما ليس من أهله فلك ان تنبّه الناس على نقصه و قصوره عمّا يؤهل نفسه له و كذا اذا رأيت رجلا

ص:10

يتردد الى فاسق يخفي امره وفت عليه من الوقوع بسبب الصّحبة بما لا يوافق الشّرع فلك ان تنبهّهم على فسقه مهما كان،و كذلك اذا كان في العبد عيب فلك ان تحدّثه بعيوبه و لكن تقتصر في كل عيب على محل الحاجة و لا تذكر العيب الآخر الّذي لا مدخل له في التحذير،و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ ترعوون عن ذكر الفاجر حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه تحذره الناس،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة بنت قيس حين شاورته في خطّابها أما معاوية فرجل ملوك لا مال له،و أما ابو جهم فلا يضع العصا عن عاتفة.

الخامس الجرح و التعديل للشاهد و الراوي،و من ثم وضع العلماء كتب الرّجال و ذكروا اسباب الجرح لكن يشترط ان يكون القصد فيه صحيحا.

السادس ان يكون المقول فيه مخستحقا لتظاهره بسببه كالفاسق المتجاهر بفسقه بحيث لا يستنكف من ان يذكر بذلك الفعل الّذي يرتكبه،فيذكر بما هو فيه لا بغيره،قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له،و ظاهر الخبر جواز غيبته ان استنكف من ذكر ذلك الذنب و ان يكون معنى الحديث انّ من نزع جلباب الحياء لا غيبة له يعني انّ ما يقال فيه لا يدخل في الغيبة و لا يطلق عليه لفظها الا انّها غيبة جائزة،و في جواز أغتياب مطلق الفاسق إحتمال ناش من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا غيبة لفاسق و رد بمعنى اصل الحديث، و بحمله على فاسق خاص،او بحمله على النبي و ان كان بصورة الخبر،و هذا هو الأجود الا ان يتعلق بذلك غرض ديني و مقصد صحيح يعود على المغتاب بأن يرجو إرتداعه عن معصيته بذلك،فيلحق بباب النهي عن المنكر.

السابع ان يكون الأنسان معروفا باسم يفصح عن عيبه كالأعرج و الأعمش فلا إثم على من يقول ذلك،فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التّعريف و لإنّه صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد ان صار مشهورا به.

الثامن لو اطلع العدد الذين ثبت بهم الحدّ او التّعزيز على فاحشة جاز ذكرها عند الحكّام بصورة الشهادة في حضرة الفاعل و غيبته و لا يجوز التّعرض اليها في غير ذلك الاّ ان يتّجه فيه أحد الوجوه الأخرى.

التاسع قيل اذا علم اثنان من رجل معصيته شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لأنّه لا يؤثّر عند السّامع شيئا و ان كان الأولى تنزيه النفس و اللّسان عن ذلك لغرض من الأغراض المذكورة و خصوصا مع أحتمال نسيان المقول لتلك المعصية او خوف استتارها عنهما.

ص:11

العاشر اذا سمع احد مغتابا لآخر و هو لا يعلم استحقاق المقول عنه فيحمل فعل القائل على الصّحة ما لم يعلم فساده لأنّ ردعه يستلزم انتهاك حرمته و هو ان احد المحرمين و الأولى التّنبيه على ذلك الى ان يتحقّق المحتاج منه لعموم الأدلّة و ترك الأستفصال فيها و هو دليل ارادة العموم حذرا من الأغراء بالجهل،و لأنّ ذلك لو تمّ لتمشى فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة الى السامع لإحتمال إطّلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقاله و هو يهدم قاعدة النبي عن الغيبة، و هذا الفرد مستثنى من جهة سماع الغيبة،و بالجملة فأمر الغيبة في غاية الأشكال و على اللّه الأتكال،بقي الكلام في كفارة الغيبة.

اعلم ان الواجب على المغتاب ان يندم و يتوب و يتأسف على افعل ليخرج من حق اللّه تعالى ثم يستحلّ المغتاب ليحلّه فيخرج عن مظلمته،و ينبغي ان يستحلّه و هو حزين نادم و الاّ فالمرائي قد يطلب المحالة فيكون عليه ذنب آخر،و قد ورد في كفّارتها حديثان احدهما قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم كفّارة من أغتبته ان تستغفر له،و في حديث آخر كلّما ذكرته،و معنى قوله كلّما ذكرته يعني كلما ذكرته على طريق الغيبة،او كلّما عنّ في خاطرك او جرى ذكره على لسانك بعد المحالة الأولى،الثاني قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض او مال فليستحللها(فليحتلّها خ)منه قبل ان يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم يؤخذ من حسناته فان لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فيزيد على سيّئاته،و جمع بين الحديثين شيخنا الشهيد الثاني قدّس اللّه روحه يحمل الأستغفار على من لم يبلغ غيبة المغتاب فينبغي الأقتصار على الدّعاء له و الأستغفار لأنّ في محالته إثارة للفتنة و جلبا للضغائن،و في حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول اليه لموت او غيبة،و حمل المحالة على من يمكن التّوصّل اليه مع بلوغه الغيبة،أقول و يمكن الجمع بينهما بوجهين.

احدهما ان الأستغفار له كفّارة معجّلة تكون مقارنة للغيبة و المحالة متأخّرة عنه فيجب عليه المبادرة بذاك لعدم توقّفه على التّمكن و عدمه و المحالة اذا تمكن بعد هذا فيكون الواجب اثنين لا واحدا كما هو مذكور في القول الأول.

الثاني حمل الأستغفار على الأستحباب،و الواجب انما المحالة لا غير،و اذا جاء الى المغتاب فينبغي ان لا يظهر له الكلام الذي اغتابه خوفا من اثارة الشحناء و تجديد العداوة،بل يقول له يا أخي لك عليّ حقوق عرضية و أريد تحالني منها و نحو ذلك من العبارات المجملة،و يستحب للمتعذر اليه قبول العذر و المحالة استحبابا مؤكّدا،قال اللّه تعالى خُذِ الْعَفْوَ الآية،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا جبرئيل ما هذا العفو؟فقال ان اللّه يأمرك ان تعفو عمّن ظلمك، و تصل من قطعك،و تعطي من حرمك.

ص:12

و روي عن بعضهم انّ رجلا قال لقد اغتابك فلان،فبعث اليه طبقا من الرطب و قال بلغني انّك قد أهديت اليّ حسناتك فأردت ان أكافئك عليها،فاعذرني فاني لا اقدر ان أكافئك على التمام،و لا فرق بين غيبة الصغير و الكبير و الحي و الميت و الذكر و الأنثى،و ليكن الأستغفار و الدّعاء على حسب ما يليق بحاله،فيدعو للصّغير بالهداية و للميّت بالرحمة و المغفرة و نحو ذلك، و لا يسقط الحق بإباحة عرضه للنّاس لأنّه عفو عمّا يجب،و لقد صرّح الفقهاء بأنّ من أباح قذف نفسه لم يسقط حقّه من حدّه،و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ يعجز احدكم ان يكون كأبي ضمضم،كان اذا خرج من بيته قال اللّهم اني تصدّقت بعرضي على الناس،معناه انّي لا اطلب مظلمته في القيامة و لا أخاصم عليها لا انّ غيبته صارت بذلك حلالا،و يجب النّية لها كباقي الكفارات.

نور يكشف عن الحسد و النميمة و لواحقهما

اعلم ان الحسد من اعضل (1)الأدواء و أكبر المعاصي و أفسدها للقلب،و كفى به شرّا انّه اول خطيئة عصي اللّه تعالى بها،و ذلك هو حسد ابليس لأبينا آدم عليه السّلام فاستمرت تلك البلية الى يوم القيامة،و قد امر اللّه تعالى نبيه بالإستعاذة منه فقال مِنْ شَرِّ حٰاسِدٍ إِذٰا حَسَدَ ،بعد ان استعاذ من اليطان و الساحر فأنزله منزلتهما،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (2).

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستّة يدخلون النار قبل الحساب بستّة،الأمراء بالجور، و العرب بالعصبية،و الدّهاقين بالكبر،و التّجار بالخيانة،و اهل الرستاق بالجهالة،و العلماء بالحسد، و في حديث آخر ان الحسد عشرة اجزاء منها تسعة بين العلماء و واحد في الناس و لهم من ذلك الجرء و الحظّ الأوفر،و قال عليه السّلام لا يخلو المؤمن من شيطان يغويه،و منافق يقفو اثره،و مؤمن يحسده،اما انّه اشد عليه،و ذلك انّه يقول القول فيه فيصدق.

و عن داود الرقيّ قال سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول اتّقوا اللّه و لا يحسد بعضكم بعضا انّ عيسى بن مريم عليه السّلام كان من شرائعه السيح في البلاد فخرج فخرج في بعض سيحه و معه رجل من أصحابه قصير،و كان كثير اللزوم لعيسى فلما انتهى عيسى الى البحر فقال بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على ظهر الماء،فقال الرجل القصير حين نظر الى عيسى جاز بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على الماء و لحق بعيسى عليه السّلام فدخله العجب بنفسه،فقال هذا

ص:13


1- (1)أي من أعيا الأدواء.
2- (2) حسد المرء يأكل الحسنات و ان اعتاد على كسبها سنوات.

عيسى روح اللّه يمشي على الماء و انا امشي على الماء فما فضله عليّ،قال فرمس في الماء فاستغاث بعيسى عليه السّلام فتناوله من الماء فأخرجه ثم قال له ما قلت يا قصير؟قال قلت هذا روح اللّه يمشي على الماء فدخلني من ذلك عجب،فقال له عيسى لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك اللّه فيه فمقتك اللّه على ما قلت فتب الى اللّه تعالى ممّ قلت قال فتاب الرجل و عاد الى مرتبه التي وضعه اللّه فيها،فاتقوا اللّه و لا يحسدن بعضكم بعضا و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاد الفقر ان يكون كفرا،و كاد الحسد ان يغلب القدر،و قال الصادق عليه السّلام انّ المؤمن يغبط و لا يحسد،و ان المنافق يحسد و لا يغبط،و في خبر معاذ الطويل ان صلاة الحاسد ترد من السماء الخامسة،و قال الصادق عليه السّلام الحاسد مضرّ بنفسه قبل ان يضرّ بالمحسود كإبليس اورث بحسده له اللّعنة و لآدم عليه السّلام الأجتباء و الهدى و الرّفع الى محل حقائق العهد و الأصطفاء، فكن محسودا و لا تكن حاسدا فانّ ميزان الحاسد ابدا خفيف يثقل ميزان المحسود،و الرزق مقسوم فما ذا ينفع الحسد الحاسد،و ما يضرّ المحسود الحسد،و الحسد يهيج خمسة اشياء:

احدها افساد الطّاعات لما عرفت من انه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب،و الثاني فعل المعاصي و الشرور،و الثالث التعب و الغم من غير فائدة بل مع كل وزر،و الرابع الحرمان و الخذلان فلا يكاد يظفر بمراد و لا ينصر على عدوّ،و كيف يظفر بمراده و مراده زوال نعم اللّه عن عباده،و كيف ينصر على اعدائه و هم عباد اللّه الّذين ساق اليهم النعم لتأهّلهم لها.

فان قلت قد ظهر من هذه الأخبار و الكلمات انّ الحاسد لا يضر المحسود و لا يكون حسده باعثا لزوال نعم اللّه سبحانه فكيف يجمع هذا مع قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاد الحسد ان يغلب القدر،فانّ ظاهره انّ للحسد تأثيرا شديدا في أمر المحسود و زوال النّعمة عنه،قلت وجه الجمع انّ الحاسد و ان كان سببا في زوال تلك النعمة عن المحسود كتأثير العين الصّائبة الاّ انه ينقل المحسود من نعمة حقيرة الى نعمة جزيلة،امّا في الدّنيا بأن يكون الحاسد مثلا سببا في زوال نعمة تأتي المحسود من بعض إخوانه،فأوقع الحاسد امورا منعت من وصول تلك النعمة اليه كما يتفق في كثير من الأوقات،فاذا كان كذلك ساق اللّه سبحانه تلك النعمة اليه من محل آخر بناء على ما عرفت من انّ الرزق مقسوم،و من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و اجملوا في الطلب،و امّا في الآخرة و الأمور المتعلقة بها فقد يكون حسد الحاسد باعثا لإرتقاء درجات المحسود كما في حكاية ابليس لآدم عليه السّلام فانه انما ارتقى الى درجة الأصطفاء و العصمة بأعماله العظيمة التي وقعت بعد الحسد اذا عرفت هذا فأعلم انه قد بقي هنا امور:الأول حقيقة الحسد هو انبعاث القوة الشهوية الى تمني مال الغير او حاله التي هو عليها و زوالها عن ذلك الغير و هو مستلزم لحركة القوة الغضبية و لذلك قال علي عليه السّلام الحاسد

ص:14

مغتاظ على من لا ذنب له و قد اتفق العقلاء على ان الحسد مع انه رذيلة عظيمة للنفس فهو من الأسباب العظيمة لخراب العالم اذا كان الحاسد كثيرا ما يكون حركاته و سعيه في هلاك ارباب الفضائل و اهل الشرف و الأموال الذين تقوم بوجودهم عمارة الأرض اذ لا يتعلق الحسد بغيرهم من اهل الخسة و الفقر.

و اما الغبطة المحمودة فهي انّك لا تتمنى زوال تلك النعمة عنه و لكّنك تشتهي لنفسك مثلها كما قال الصادق عليه السّلام انّما نغبطكم يا أهل العراق على الأرز.

الثاني في الأسباب المثيرة للحسد و قد حصروها في سبعة:العداوة و التعزز و التكبر و التعجب و الخوف من فوت المقاصد و حب الرئاسة و خبث النفس و بخلها فانه انما يكره النعمة عليه اما لأنه عدوه لا يريد له الخير و هذا لا يختص بالأمثال و اما لأنه يخاف ان يتكبر بالنعمة عليه و هو لا يطيق احتمال كبره و عظمته لعزة نفسه و هو المراد بالتعزز و اما ان يكون في طبعه ان يتكبر على المحسود و يتمنع ذلك عليه بنعمته و هو المراد بالتكبّر و اما ان تكون النعمة عظيمة و المنصب كبيرا و يتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة و هو التعجب و اما ان يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتواصل به الى مزاحمته في اغراضه و اما أن يكون لحب الرئاسة التي تبتنى على الأختصاص بنعمة لا يساوي فيها،و اما ان لا يكون بسبب من هذا الأسباب بل بخبث النّفس و شحّتها بالخير لعباد اللّه.

و قد أشار سبحانه الى السّبب الأوّل بقوله وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ و الى الثالثة بقوله(لو انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ،)أي كان لا يثقل علينا الأنقياد لأنهم قالوا كيف يتقدم علينا غلام يتيم،و الى الرابعة بقوله مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، و أعظم الأسباب فساد الخامس و السادس لتعلقهما غالبا بعلماء السوء و مناط الخامس يرجع الى متزاحمين على مطلوب واحد و من هذا الباب تحاسد الضّرات في التّزاحم على مقاصد الزوجية.

الثالث في بيان الدواء الّذي ينقي مرض الحسد عن القلب الا بالعلم و العمل،و العلم النافع لغرض الحسد هو ان يعلم يقينا ان الحسد ضرر عليك في الدنيا و الدين و لا ضرر به على المحسود في الدنيا و لا في الدين بل ينتفع به فيها فيه و مهما عرفت هذا عن بصير و لم تكن عدوّ نفسك و صديق عدوّك فارقت الحسد لا محالة و ما أحسن ما قيل:

لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا منك الذي يكمد

لا زلت محسودا على نعمة فانّما الكامل من يحسد

ص:15

و في هذا الحديث انّ اهل الجنة ثلاثة المحسن و المحب له و الكاف عنه،أي من يكف عنه الأذى و الحد و البغض،هذا مجمل الكلام في الحسد.

و اما النميمة فهي نقل قول الغير الى المقول فيه كما تقول فلان تكلم فيك بكذا و كذا سواء كان نقل ذلك بالقول ام بالكتابة ام بالإشارة و الرمز،و ذلك انّ النقل كثيرا ما يكون متعلّقه نقصانا او عيبا في المحكي عنه موجبا لكراهته و إعراضه عنه فيكون راجعا الى الغيبة ايضا،فقد جمع بين معصية الغيبة و النّميمة،و هي من المعاصي العظيمة لأنّها توجب العداوة بين الأحباب و تهدم حصول الألفة بين الأقارب و الأنساب و من ثم قال سبحانه هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ ، و قال عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ ، قال بعض العلماء دلّت هذه الآية على انّ من لم يكتم الحديث و مشى بالنّميمة ولد زنا لأنّ الزنيم هو الدعي،و قال تعالى في امرأة نوح و لوط فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ، و كانت امرأة لوط تخبر بالضّيفان،و امرأة نوح تخبر بأنّه مجنون، و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان اللّه تعالى لما خلق الجنة قال لها تكلمي،قالت سعد من دخلني،قال الجبّار جل جلاله و عزتي و جلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس،لا يسكن فيك مدمن خمر،و لا مصر على الزنا،و لا قتّات و هو النّمام،و لا ديّوث و لا شرطيّ،و لا مخنّث،و لا قاطع رحم،و لا الذي يقول على عهد ان لم افعل كذا و كذا ثم لم يف به.

و روي ان موسى عليه السّلام استسقى لبني اسرائيل حين اصابهم قحط،فأوحى اللّه تعالى انّي لا استجيب لك و لا لمن معك و فيكم نمّام قد أصرّ على النميمة،قال موسى عليه السّلام من هو يا رب حتى نخرجه من بيننا؟فقال يا موسى أنهاكم عن النميمة و أكون نمّاما فتابوا بأجمعهم فسقوا،و روي ان رجلا أتّبع حكيما سبعمأة فرسخ في سبع كلمات فلمّا قدم عليه قال انّي جئتك للذّي أتاك من العلم،أخبرني من السماء و ما أثقل منها،و عن الأرض و ما أوسع منها،و عن الحجارة و ما أقسى منها،و عن النار و ما أحرّ منها،و عن الزمهرير و ما أبرد عنه،و عن البحر و ما أغنى منه،و عن اليتيم و ما أذلّ منه،فقال البهتان على البرى اثقل من السماوات،و الحق اوسع من الأرضين،و القلب القانع أغنى من البحر،و الحرص و الحسد أحرّ من النار،و الحاجة الى القريب اذا لم ينجح أبرد من الزّمهرير،و قلب الكافر أقسى من الحجر،و النّمام اذا بام أمره أذلّ من اليتيم.

و في بعض الكتب ان رجلا اراد ان يشتري عبدا فقال له صاحبه انّه لا عيب فيه سوى النميمة،فقال لا علي من نميمته،فاشتراه فبقي عنده،فأتى يوما لإمرأة مولاه فقال مولاي لا يحبك فان قدرت ان تأخذي شعرة من لحيته حتى أقرأ عليها شيئا من الأسماء و التعويذات فانه يعود الى محبتك،فرضيت و قالت اذا نام أقطع من لحيته شعرة بالموسى فأتى الى مولاه و قال يا مولاي

ص:16

الواجب ان انصحك اعلم ان امرأتك أظهرت لي انها تريد ان تذبحك اذا نمت بالموسى،فان لم تصدق فتناوم هذا اليوم حتى تنظر ما تفعل فلمّا تناوم أقبلت المرأة و معها الموسى تريد قطع الشّعرة،فلمّا دنت الى الرجل قام و أخذ لها السيف فضربها به حتى قتلها،فسمع أهلها فأتوا الى الرّجل و قتلوه و ثارت الفتنة بين القبائل حتى قتل منهم أناس كثيرة،و من هذا احل اللّه الكذب في الأصلاح بين الناس و بغض الصدق فيه،فقال عليه السّلام المصلح ليس بكذاب،مع ان الكذب من اقبح المعاصي حتى انه سأل عليه السّلام ان المؤمن هل يزني؟فقال ان المؤمن يزني و يلوط و يسرق و يشرب الخمر و يفعل الكبائر لكنه لا يكذب،فجعل الكذب أعظم من هذه الذنوب و الوجه فيه ظاهر،و هو انّ المفسدة التي تترتب عليه أعظم من غيرها،فإنّ بها سفك المهج و خوض اللّجج كما عرفت،قال بعض بعض المحققين كل من حملت اليه النّميمة فعليه ستّة امور:

الاول ان لا يصدقه لان النمام فاسق و هو مردود الشهادة قال اللّه تعالى ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهاله

الثاني ان ينهاه عن ذلك و ينصحه و يقبح له فعله؛قال اللّه تعالى و امر بالمعروف و انه عن المنكر،الثالث ان يبغضه في اللّه تعالى فانه بغيض عند اللّه؛الرابع ان لا تظن بأخيك السوء بمجرد قوله،لقوله تعالى اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بل يثبت حتى يتحقق الحال.

الخامس ان لا يحملك ما حكي لك على التجسس و البحث لقوله تعالى وَ لاٰ تَجَسَّسُوا،

السادس ان لا ترضى لنفسك بما نهيت النّمام عنه فلا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا و كذا فتكون به نماما و مغتابا و قد تكون أتيت بما عنه نهيت،و روي انّ رجلا أتى امير المؤمنين عليه السّلام يسعى اليه برجل،فقال يا هذا نحن نسأل لما قلت فان كنت صادقا مقتناك،و ان كنت كاذبا عاقبناك،و ان شئت ان نقيلك اقلناك،قال اقلني يا أمير المؤمنين.و روي ان حكيما من الحكماء زار بعض اخوانه فأخبره بخبر عن غيره،فقال له الحكيم قد أبطأت في الزيارة و أتيتني بثلاث جنايات،بغّضت اليّ أخي،و شغلت قلبي الفارغ،و اتّهمت نفسك الأمينة.

خاتمة هذا النّور في ذكر ذي اللّسانين و هو الذ يتردد بين الأثنين سيّما المتعاديين و يكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه،و قلّ ما يخلو عنه من يشاهد متعاديين،و ذلك عين النفاق،و هو من الكبائر المتوعد عليها النار،و روى عمار بن ياسر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان له و جهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة،و روى الصدوق ره بإسناده الى علي عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعا لسانه في قفاه و آخر من قدّامه يلتهبان نارا ثمّ يلهبان جسده،ثمّ يقال هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين و ذا لسانين

ص:17

يعرف بذلك يوم القيامة،و يتحقق كونه ذا الّلسانين يعرف بذلك يوم القيامة،و يتحقق كونه ذا اللسانين كما قال شيخنا الأجلّ الشّيخ زين الدّين بأمور:

منها ان ينقل كلام كل واحد الى الآخر و هو مع ذلك نميمة و زيادة،فان النميمة يتحقق بالنقل من احد الجانبين فقط،و منها ان يحسن لكل واحد منها ما هو عليه من المعادات مع صاحبه و ان لم ينقل بينهما كلاما،و منها ان يعد كل واحد منهما بأن ينصره و يساعده و منها ان يثني على كل واحد منهما في معاداته،و اولى منه ان يثني عليه في وجهه و اذا خرج من عنده ذم،و الذي ينبغي له اما ان يسكت او يثني على المحق منها في حضوره و غيبته و بين يدي عدوه،و لا يتحقق اللسانان بالدخول على المتعاديين و مجاملة كل واحد منهما مع صدقه في المجاملة،و ان الواحد قد يصادق المتعاديين و لكن صداقة ضعيفة لا تصل الى حد الأخوة،اذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة العدو كما هو المشهور من ان الأصدقاء ثلاثة الصديق،و صديق الصديق،و عدو العدو، و الأعداء ثلاثة العدو و عدو الصديق،و صديق العدو.

فان قيل كثيرا ما يتفق لنا اختلاف اللسانين مع الأمراء و اعداء الدين فهل يكون ذلك داخلا في النهي و النفاق كما ورد من انه سأل بعض الصحابة ان ندخل على امراءنا فنقول القول فاذا خرجنا قلنا غيره،قلنا ان كان القائل مستغنيبا عن الدخول على الأمير و عن مخالطة العدو الديني و أختار الأجتماع معه و الصحبة له اختيار طلبا للجاه و المال زيادة على القدر الضّروري فهو ذو لسانين و منافق كما ذكره الصحابي،و عليه يحمل الخبر،و ان كان محتاجا الى ذلك اتقاء ضرورة فهو معذور لا حرج عليه،فانّ اتقاء الشر جائز،قال ابو الدّرداء انّا لنشّ في وجوه أقوام و ان قلوبنا لتبغضهم،و روي انّه مر رجل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال بئس رجل العشيرة،فلمّا دخل عليه أقبل عليه فقيل له في ذلك،فقال انّ شرّ النّاس الّذي يكرم اتقاء شرّه، و أكثر التحقيقات التي في هذين النّورين قد أخذنا من كلام شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه.

نور في الكبر و الفخر و علاجاتهما و ما يناسب ذلك

اعلم وفقك اللّه تعالى انّ الغرض الذّاتي من خلق الإنسان انّما هو الأطاعة و القيام بوظائف العبودية،قال تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ و ليس المثل الاّ كمولى يشتري عبدا فإنه ليس العلّة في شرائه الاّ ان يأتي برسوم العبودية و لوازمها،و حينئذ فإرتقاؤه في درجات الكمال انّما يكون بإرتقائه في درجات العبودية سواء كان نبيا او غيره،و من هذا فضّلت مرتبة العبودية على مرتبة النبوة و الرّسالة،فقال تعالى مخبرا عن غاية قرب نبيّه و تمام التنويه باسمه

ص:18

سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى و لم يقل في هذا المقام أسرى برسوله،مع انّها الحالة الّتي امتاز بها عن سائر الأمة.

و وجه ذلك انّ العبودية نسبة بين العبد و مولاه و الرّسالة نسبة بين النبي و أمتّه و هو كونه رسولا اليهم،و لا ريب في اشرفيّة النسبة الأولى لمكان طرفيها،و لأنها النسبة المقصودة بالذات، و أما الرسالة و ما شابهها فهي نسبة عرضية لا ذاتية،و من ذلك كانت الأولى هي المقدمة في الوجودين فانّه عزّ و جلّ لم يرسله الى الأمة الاّ بعد اربعين سنة،و هي مدة سيره في تحصيل كمال العبودية فانه ترقى فيها حتى اخبر عنه بقوله فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ ، و لما كمل في تلك الدرجة أهبه منها الى درجة سافلة و هي الرسالة،فقال عزّ من قائل(انا انزلنا اليكم ذكرا رسولا) ففي قوله انزلنا اشارة الى هذا الإنزال المعنوي و هو من درجة الى درجة،و ليس المراد الأنزال الحسي لأنّه لم يكن في السماء حتى ينزل الى الأرض بل كان بين ظهرانيهم و ما كان أشق هذا الأنزال عليه لأنه كان في الدرجة الأولى يحاكي جناب القدس في عالم الملكوت،و قد صار هذا لشيء عجاب،فانّهم كانوا يعبدون ثلاثمائة و ستين صنما،و لما أنزل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اليهم أمرهم بالتوحيد فاظهروا هذا التعجب من قوله،و قد حصل له من ردّهم عليه مقالته تعب عظيم و ألم جسيم،و تعب القلب اشدّ من ضرب السيوف لأنّه من ربّى اربعين سنة في حجر جبرئيل عليه السّلام و كان المعلم له رب الملكوت فأدّبه بآدابه و اطّلعه على مراتب جبروته،ثم تنزل من هذا كله حتى أمر بمعاشرة أجلاف العرب و اهل ترك الأدب مع فرط روحانيّتة و لطافة قدسيته كان عليه هذا أثقل من الجبال الرواسي لو لا امره سبحانه له بمثله.

و في الروايات ان سليمان عليه السّلام لما أراد تأديب الهدهد أمر به فحبس مع الحدأة في قفص واحد،فلما رأى حاله معها طلب من سليمان ان يخرجه من القفص و ان يعذّبه في كلّ ما أراد من أنواع العذاب فقد كان أخف عليه،و من هنا قال سبحانه مَنْ تُدْخِلِ النّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، و لم يقل فقد أحرقته او عذبته،و ذلك انّ الخزي عذاب الروح و الإحراق عذاب البدن و عذاب الروح اشدّ و افضع لو كانوا يشعرون،و روي ايضا انه سأل عليه السّلام عن الحمل الثقيل يحمله الرجل رأسه فلا يثقل عليه كثيرا و يرى الرجل المكروه يجلس على بعد من الأنسان و يكون ثقله و مشقّته عليه أعظم من ذلك الحمل الثقيل فقال عليه السّلام انّ الحمل الثقيل يحمله البدن و الرجل المكروه تحمله الروح و هي انّ من الذنوب ذنوبا قد تناهت في العظم فلا يكفّرها الا الهمّ و الغمّ و الصّبر على المصائب و ذلك لأنّه عذاب الروح فيكون مكفر الذنوب البدن او شهواته الحيوانيّة و اذا حقّقت هذا.

ص:19

فاعلم ان الناس كلهم بل كل اصناف المخلوقات متساوون في العبودية لأنّ مولاهم واحد فهم من قبيل ان يكون سلطان عنده انواع من العبيد فليس للأبيض ان يفخر على الأسود في أصل العبودية،و من هذا جاء الحديث انّ اللّه سبحانه أوحى الى موسى عليه السّلام اذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خير منه،فنزل عن الناس و شرع في أصناف الحيوانات حتى مرّ بكلب اجرب،فقال أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم مرّ به،فلما كان في بعض الطريق شمر الحبل و ارسله،فلما جاء الى مناجاة الرب سبحانه قال يا موسى اين ما أمرتك به؟قال يا رب لم اجده، فقال تعالى و عزّتي و جلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة،فهذا الحديث و ما روي في معناه منزّل على ما ذكرناه،و الاّ فلا خلاف في انّ كلّ نبي بعث في زمانه فهو افضل و اشرف من اهل زمانه و كذلك الناس يتفاوتون في الفضل و الشّرف على قدر خدمتهم لمولاهم،فيكون هذا الشرف عارضيّا و مع هذا فلا ينبغي للعبد ان يفتخر على غيره به و ذلك لأنّه شيء قد ألزم به و هو واجب عليه،فينبغي له ان يكل الفخر و المدح الى مولاه بأن يكون هو الذي يباهي به و يظهر شرفه.

و في الحديث ان اللّه تعالى يباهي الملائكة و يفاخرهم بأقوام،منهم رجل صار في قفر من الأرض ليس معه أحد فيقوم يؤذّن و يقيم للصلاة فيقول سبحانه أنظروا يا ملائكتي الى عبدي هذا قام يذكرني في هذه الفلاة من الأرض،و رجل قام الى صلاة الليل فأخذه النّعاس و هو ساجد فيقول سبحانه انظروا الى عبدي روحه عندي في قبضتي و بدنه ساجد لي و رجل لم يقم لصلاة الليل لعارض،ثمّ اذا جاء النهار قام يقضيها،الى غير ذلك فيكون المولى هو المادح لهم و المثني عليهم،و لهم الفخر الواقع في نفس الأمر،و في الدّيوان المنسوب الى مولانا امير المؤمنين عليه السّلام:

الناس من جهة التّمثال اكفاء أبوهم آدم و الأمّ حواء

فان لم يكن في أصلهم شرف يفاخرون به فالطّين و الماء

ما الفخر الاّ لأهل العلم انّهم على الهدى لمن استهدى أدلاّء

و قيمة المرء ما قد كان يحسنه و الجاهلون لأهل العلم أعداء

نعم اذا اراد الأنسان بيان احواله اذا كانت مجهولة لغرض من الأغراض الشرعية جاز له و ان كان فيه عبارات الفخر،لكن لا يكون الفخر و الكبر مقصودين له كما كان يستعمله قدماء علمائنا من ذكرهم مدائحهم و معالي منابتهم في كل عنوان،و من هذا جاء في الحديث قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم انا خير الخلق و لا فخر،و أنا أفصح العرب و لا فخر،الى غير ذلك و مقصوده عليه السّلام اظهار بيان شيء من شأنه عند جهّال الناس لا الفخر،و لهذا بالغ في نفيه بلا الجنسيّة،

ص:20

و الكبر و الفخر ليسا من مساوىء الأخلاق بل من أشرف الصفات و الحالات و هما من صفات الأكرام له سبحانه و تعالى،و مما إختصا به فلا يجوز لأحد ان ينازعه في أخصّ صفاته.

قال ابو جعفر عليه السّلام العزّ رداء اللّه و الكبر إزاره فمن تناول شئا منه أكبّه اللّه في جهنّم،و في الحديث القدسي العزّ ازاري و الكبرياء ردائي فمن نازعنيهما ادخله ناري و لا ابالي، فهما بالنسبة الينا صفات ذم لأنهما ثوبان مغصوبان قد لبسنا هما و الثوب المغصوب يحرم استعماله في جميع الأحوال حتّى من انّ المراد المساواة في أصل العبودية،و يجوز ان يكون هذا الحديث منزّلا على ارادة المؤمنين و المسلمين،كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما ترك الأيمان لذي شرف شرفاء،فإنهم كانوا يتكبرون و يفخرون في أعصار الجاهليّة حتى بلغ بهم الحال الى ان الرجل العظيم منهم اذا كان له بنت انتظر بها حتى اذا بلغت مبالغ النساء زيّنها و حلاّها بأنواع الحليّ و الحلل و اخذها الى المقابر و حفر لها او دفنها فيه و هي في عالم الحياة،و ذلك لأنّه ليس لها كفوّ بزعمه حتّى يزوّجها منه،فنفي سبحانه هذه المقالة عليهم بقوله وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ .

و قد حكى عمر بن الخطاب فيما روي عنه انّه قال:أدركني الرقّة على ابنة لي في أعصار الجاهلية،و ذلك انّي امرت بأن يحفر لها قبر لأدفنها فيه،فلمّا أتيت بها الى القبر،كان الحفّار يخرج التراب من القبر فتناولت منه التراب،فعلّق بعض التراب بلحيته،فأخذت البنت تنفضه منها فرققت لها،ثم دفنتها و هي حية،فلمّا جاء الأسلام أبطل تلك الأمور و عطّلها،حتّى انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صعد المنبر يوما و ذكر ما كانوا به يتفاخرون و يتكبرون فقال:انه موضوع تحت قدمي الى يوم القيامة،و لم ينزل من المنبر حتّى زوّج بنت صفية ابنة عبد المطلب من المقداد مع انّه كان افقر الناس حالا و أقلهم مالا،و قد ساوى بينهم في أعزّ الأمور و أنفسها و هو أمر الدّماء، فقال:صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين اخوة تتكافأ دمائهم و يسعى بذمتهم ادناهم،فاذا كان دم السلطان و الكنّاس على حدّ سواء يقتل هذا بهذا فانّي للسلطان و الفخر و التكّبّر على الكنّاس.

و امّا حطّ دية العبيد عن الأحرار فلكون الغالب فيهم النّشو و النماء على ملل الكفر و حالاتهم،و أما نقصان المرأة عن الرجل فلنقصان عقلها و دينها،اما العقل فهو انّ شهادة إمرأتين شهادة رجل واحد،و امّا الدين فهو انّ المرأة تمكث زمانا لا تصلي فيه و لا تصوم لمكان حيضها، و ايضا فإن الأنسان اذا تفكر في مبادىء أحواله و أواخرها ذلّت عنده نفسه و لم يدخلها في ميدان الفخر و الكبر،و لهذا قال امير المؤمنين عليه السّلام:ابن آدم اني لك و الفخر فانّ اولك جيفة و آخرك جيفة و في الدنيا حامل الجيف،و لينظر الى احوال هذه الجيف فانّها ليست كجيف الحيوانات،اما الجيفة الأولى فهي المني فقد غلّظ الشارع نجاستها حتى فهم بعض الأصحاب من

ص:21

تغليظه ان تطهير الثياب و الأبدان منها يحتاج الى الغسل مرتين،كما ورد في ازالة البول ايضا و انّها يخرج من طريقين نجسين بالبول فيكون حاله ضمّ نجاسة الى نجاسة،و اما الجيفة الأخيرة و هي ميتته فإنها أخسّ و أخبث من ميتة الكلب و النزير،و ذلك ان كل من مس ميتة الكلب لم يوجب الشارع عليه غسلا و اما من مسّ جلد الميت فقد أوجب عليه تطهير كلّ بدنه مبالغة في خبث جيفته و في اجتناب الناس له،حتى يعتبر الأحياء برؤية الأموات،و قد ألقى أيضا على جيفته و هو في عالم الحياة فهي اظهر من ان تذكر،و حاله في الدّنيا أخسّ من حمار قد حمل جوالقا من العذرة.

و العجب انّه لو مرّ على مثل هذا الحمار لتنفّس منه و بعد عنه و لعن الحمار و شم صاحبه و لم يتفكر في انّ هذا البلاء الذي قد اصاب الحمار انّما هو منه و الاّ فالحمار أنّى له و العذرة،فها قد تراوحا على الجوالق،فقد كان الحامل له اوّلا هذا الرجل الظّريف الذي يقبض الآن على انفه منه،ثمّ لمّا عجز عن حمله و لم يطقه رمى ذلك الجوالق على الحمار الفقير فأخذ الحمار ليبعد عنه، فذلك الجوالق قد تراوح عليه حماران إن كنت تعقل.

و قد رأيت بخطّ شيخنا الشيخ بهاء الدين قدّس اللّه زكيّ تربته هذين البيتين و هما من قوله:

و ثورين أحاطا بهذا الورى فثور الثّريّا و ثور الثّرى

فهم(و هم)فوق هذا و من بين ذا حمير مسرّحة في القرى

و لعمرك انّهم اخس من الحمير و الثيران،فقد حكى سبحانه عن جماعة قصروا في القيام بوظائف العبوديّة فقال:و ان هم الاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا،و ذلك انّ الأنعام تهرب من الضار لها و تقبل على من قصد ايصال النفع اليها بخلاف الأنسان فأنّه يهرب عمّن قصد نفعه و هو الذي ربّاه صغيرا و رزقه كبيرا،و يقبل من أراد ضرره و هم شياطين الجنّ و الأنس،فقد قال سبحانه وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ السَّلاٰمِ و انت تهرب عمن يدعوك الى دار السّلم و تقبل على من يدعوك الى طبقات النيران،و في الحديث انّ اهل النّار اذا دخلوها دخل الشيطان فيوضع له منبر من نار و يلبس ثيابا من نار،كما قال سبحانه فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ فيرقى فوق المنبر ثم يأخذ في السخرية و الأستهزاء على من تحت منبره،فتضجّ اهل النار بلعنه و سبه،فيقول لهم أنصتوا لكلامي،فيقول أيّها الجهّال ان اللّه تعالى ارسل اليكم مائة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي يدعونكم الى تلك الجنّة العالية فلم تقبلوا قولهم و أنا دعوتكم وحدي الى هذه النار الشّديدة العذاب فأطعتموني فلا تلوموني و لوموا أنفسكم.

ص:22

و اما لأن الأنعام تعرف بيت صاحبها فتغدوا عليه و تروح و تسرح و تجيء فحالها أحسن من حالك،و ذلك انّك تهرب من المساجد و البيت و الكعبة و من اولياء اللّه و أحبائه و إمّا لأن الأنعام قد قامت بوظائف ما خلقت له فانّ الثور انّما خلق للحرث و الفرس للركوب و نحو ذلك و لم يحصل منها تقصير في هذه الغايات،و امّا انت فانّما خلقت للعبادة و لم تأت بشيء منها فهي أهدى منك و أحسن حالا،و لو تفكّرت أيها الفاخر المتكبّر لرأيت انّ اول من سبقك بهذه الخصلة القبيحة هو امامك الشيطان حيث أبى عن السجود بقوله له خلقتني من نار و خلقته من طين،فانّه نظر الى ان جوهر النار و ان ارتفع سنانها في الهوى و شبّت لكنه لحظة واحدة ثم لا يحصل منها بعد الاّ الرماد الذي لا ينتفع به،و أمّا التراب فهو و ان كان موضوعا تحت الأقدام لكنه بسبب هذا التواضع قد صار مادة لأنواع الورد و الريحان و كل خير فهو اذن اشرف من النّار و انفع منها،فقد غلط في القياس كما سبق تحقيقه،و قد تقدّم في وظائف الصلوات ان اللّه سبحانه انما جعل موسى كليمه لأنّه اذا فرغ من الصلاة عفّر خديه على التراب،فانظر الى شرف التراب كيف ترقت بسببه الأنبياء الى مراتب القدس و مكالمة الحقّ.

و روي ان اللّه تعالى اوحى الى موسى عليه السّلام فقال:أ تدري لم رزقتك النبوة؟فقال:

يا رب انت اعلم به مني،فقال:تذكر اليوم الّذي كنت ترعى الغنم بالموضع الفلاني فعدت شاة فعدوت خلفها،فلمّا لحقتها لم تضربها و قلت أتعبتني و أتعبت نفسك،فحين رأيت منك تلك الشفقة على ذلك الحيوان رزقتك النبوة،و بالجملة فليس الفخر و الشرف الاّ لمن شرّفته الطّاعة، كما قال في الحديث القدسي:ليس الشّريف الا من شرّفته طاعتي.

و فيه ايضا ان الناس يطلبون اشياء في اشياء فلا يجدونها لأنّي وضعتها في غيرها يطلبون العلم في الوطن فلا يجدونه لأنّي وضعته في الغربة،و يطلبون الغنى في جمع المال فلا يجدونه لأنّي وضعته في القناعة،و يطلبون العزّ بخدمة السّلطان فلا يجدونه لأنّي وضعته بخدمتي،و من هذا قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ و لم يقل ان أكرمكم أتقاكم،اشارة الى ما حققناه من انّ الفخر و الشّرف انّما ينبغي ان يكون هو الذي يفعله بالأنسان و ينشر مدائحه و يرقّيه فوق درجات المعالي من غير ان يكون الأنسان هو المتولّي لذلك،و ناهيك بالتكبر ذما بعد الناس عن صاحبه بالذل فهو لا يحبهم و هم لا يحبّونه و ذمّه على ألسنة الخلائق و ان اللّه يبتليه في أغلب الأوقا بالذلّ و الهوان فانّ الصادقين عليهما السّلام قد مثّلوا الدنيا ببيت سقفه مخفوض (1)فالدّاخل اليه لا بدّ له

ص:23


1- (1) .خفضه خفضا ضد رفعه.

من ان يطأطأ رأسه عند الدخول و من فع رأسه تلك الحالة شجّه السّقف و أخرج دمه و رمى بعمامته من فوق رأسه و فضحه بين الأقران الذّين كان يريد التّرفّع اليهم.

و جاء عن الصادق عليه السّلام انّه قال لبعض تلاميذه يوما:أيّ شيء تعلّمت مني؟قال يا مولاي:ثمان مسائل،قال عليه السّلام:قصّها عليّ لأعرفها،قال:الأولى رأيت كل محبوب يفارق محبوبه عند الموت فصرفت همي الى من لا يفارقني و هو فعل الخير،قال:احسنت و اللّه الثانية رأيت قوما يفخرون بالحسب و آخرين بالمال و الولد و اذا ذلك لا فخر،و رأيت الفخر العظيم قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ فاجتهدت ان اكون عند اللّه كريما قال:احسنت و اللّه،الثالثة قال:رأيت الناس في هولهم و طربهم و سمعت قوله تعالى وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوىٰ فاجتهدت في صرف الهوى عن نفسي حتى استقرت على طاعة اللّه تعالى،قال:احسنت و اللّه،الرابعة قال:رأيت كل من وجد شيئا يكرم عنده إجتهد في حفظه، و سمعت قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فأحببت المضاعفة و لم أر أحفظ ممّا يكون عنده،فكلّما وجدت شيئا يكرم عندي وجّهت به اليه ليكون زخر الى وقت حاجتي اليه قال:احسنت و اللّه.

الخامسة قال:رأيت حسد الناس بعضهم لبعض،و سمعت قوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ فلما عرفت ان رحمة اللّه خير ممّا يجمعون ما حسدت أحدا و لا تأسفّت على ما فاتني،قال:احسنت،السادسة قال:رأيت عداوة(الناس يعاندون)الناس بعضهم لبعض في دار الدنيا،و سمعت قول اللّه تعالى انّ الشّيطان لكم عدوّ مبين فاشتغلت بعداوة الشيطان عن عداوة غيره،قال:احسنت،السابعة قال:رأيت كدح الناس و اجتهادهم في طلب الرزق و سمعت قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فعلمت ان وعده حق و قوله صدق فسكنت الى قوله و وعده و رضيت بقوله و اشتغلت بماله عليّ عمّا لي عنده قال:احسنت و اللّه،الثامنة قال:رأيت قوما يتّكلون على ابدانهم و قوما على كثرة اموالهم و قوما على خلق مثلهم و سمعت قوله تعالى وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً فاتكلت على اللّه و زال اتكالي عن غيره،فقال:و اللّه انّ التوراة و الأنجيل و الزّبور و الفرقان و سائر الكتب مشحونة بهذه المسائل.

و اعظم اسباب التكبر الغنى و جمع الأموال،و روي ان اول من سك الدّراهم و الدنانير النمرود،فأول درهم و دينار سكّهما الصائغ اخذهما الشيطان و قبلهما و وضعهما على عينيه،

ص:24

و قال:انال ما أريد من الناس بهذين،فكان كما قال،و من هنا قال عليه السّلام:انّ اللّه يبغض الشيخ الزاني،و الفقير المتكبر،و ذلك لعدم وجود الداعي فيهما و هو الشّهوة و المال،و في بعض التّواريخ انّه قد سأل الفضل بن يحيى البرمكي عن سبب التكبر الذي كان يفعله مع النّاس و من اين أخذه،فقال:اخذته من فلان و هو رجل من أقارب الخليفة،و ذلك انّ الخليفة جعلني عاملا على قم و توابعها و كان لي من يكرهني عند الخليفة،فقالوا له:ينبغي ان تأخذ منه خراج هذه السنة قبل ان يمضي الى قم فأتتني غلمان الخليفة و الخراج كان مالا جزيلا فقال لي ابي:إمض الى فلان و قل له انّ ابي يقرأ عليك السّلام و تقول القصّة كذا و كذا،فان حصل شيء تقرضنا حتى نأتي بالخراج فمضيت اليه و وجدته جالسا وحده متكيا على محجّر،فسلّمت عليه و لم ينظر اليّ فتندّمت على المجيء اليه فقلت له ما قال لي ابي فلم يكلّمني فخرجت و لم أحك ماجرى لأبي، فلما كان قد مضى ساعة و اذا الجمال محملة بتلك الأموال معها غلمانه،و اذا هي تفي بالخراج و فوقه،فأوصلناها الى خزانة الخليفة،فلمّا جمعت الخراج أتيت بها الى بغداد حملت الجمال تلك الأموال و تقدّمتها فرأيته جالسا على تلك الهيئة فلما رأى الجمال قال:ما هذه الجمال؟فقلت هذه الأموال التي استقرضها أبي منك،فقلت انّي كنت خزّانا لأبيك،خذ أموالك و امض،فلم يكلمني غير هذه الكلمة،فأتيت بالأموال فأعجبني تكبره لأنّه مشفوع بالكرم.

و اما حال المتكبر في الآخرة فهو شنيع فضيع،قال عليه السّلام:يحشر المتكبرون يوم القيامة بصورة الذرّ تطأهم الخلائق بأرجلها حتى يفرغ اللّه من الحساب،فهذا الهوان و الذلّ بأزاء ما راموه في الدنيا من الفخر و الكبر لم يحصّلوه.

بقي الكلام في معناه و في تحقيقه فقد روى الكليني(ره)في الصّحيح مسندا الى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام قال:لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الكبر،قال:فاسترجعت،فقال:ما لك تسترجع؟قلت لما سمعت منك،فقال ليس حيث تذهب انّما هو الجحود،و قال الصادق عليه السّلام الكبر ان تغمص (1)الناس:و تسفه الحق و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان اعظم الكبر غمص الخلق و سفه الحقّ،قال:قلت و ما غمص الخلق و سفه الحق؟قال:يجهل الحق و يطعن على أهله،فمن فعل ذلك فقد نازع اللّه تعالى ردائه و عن عمر بن يزيد عن ابيه قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام انّني آكل الطعام الطّيب،و أشم الريح الطيبة،و أركب الدابة الفارحة،و يتبعني الغلام،فترى في هذا شيئا من التجبّر فلا افعله، فأطرق ابو عبد اللّه عليه السّلام ثم قال:انّما الجبار الملعون من غمص الناس جهل الحق،قال:

ص:25


1- (1) غمصه احتقره،رجل غمص عيوب.

عمر فقلت اما الحق فلا اجهل و الغمص لا ادري ما هو؟قال:من حقّر الناس و تجبر عليهم فذلك الجبّار،و الغمص بالغين المعجمة و الصّاد المهملة هو تحقير الناس،أقول دلت هذه الأخبار على ان الكبر المتوعد عليه هو تحقير الناس و عدم قبول الحق فيدخل في هذا أمور:

الأول ما يقع في مناظرة بين ارباب العلم فان الغالب من احوالهم انّه يريد كل واحد منهم إقحام خصمه ليترفّع عليه في المجالس،و اذا ظهر له انّ كلام خصمه حق ردّه و لم يقبله منه لئلا يظهر للناس انّه قد أفلج،فمثل هذا المناظر يدخل في تعريف هذا المتكبر و لأنّه رد الحق بعد ما ظهر له انّه حق،و ايضا فقد حقّر قائله حيث زعم الناس انّه هذا الرجل المبطل هو المحقّ و ذلك المحق هو المبطل.

و من هنا المولى الصالح العالم عبد اللّه التستري اذا سأل التّقي الورع المولى احمد الأردبيلي عن مسئلة و تكلما فيها سكت الأردبيلي في أثناء الكلام،او قال حتى أراجعها في الكتب،ثم أخذ بيد التستري و يخرجان من النجف الأشرف الى خارج البلد فاذا انفردا قال المولى الأردبيلي:هات يا أخي تلك المسئلة،فيتكلم فيها و يحققها الأردبيلي على ما يريد المولى التستري، فيسأله فيقول يا أخي هذا التحقيق لم لا تكلّمت به هناك لمّا سألتك؟فيقول له ان كلامنا كان بين الناس،و لعل كان فيه تنافس و طلب الظفر منك او منّي و الآن لا أحد معنا الاّ سبحانه.

الثاني في التواضعات بأن يقوم لبعض الناس على وجه التعظيم و لا يقوم للبعض الآخر على وجه التّحقير بأن يخطر بباله انّ هذا لا يستأهل التعظيم و القيام له،امّا لو كان بعض الناس يتوقع التعظيم و الآخر لا يتوقعه و لا يطلبه من ذلك الرجل بل ربما شق عليه تواضعه له فالظاهر انّ تركه له لا يعد من باب التكبر و الفخر،و كذا في باب السّلام و التحيّات فانّ كثيرا من الناس اذا تلاقوا مع اخوانهم لا يبتدؤنهم بالسلام عمدا و قصدا و يحقّرونهم و يبخلون عليهم بالسلام، و يطلبون ان يكون المبتدي بالسلام هو ذلك الرجل الذي حقّروه،مع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا علي كل من لقيته فسلّم عليه،و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ من المنجيات من عذاب اللّه تعالى إفشاء السّلام،و قوله ان البخيل من بخل بالسلام،و ما ورد من انّ ثواب المسلّم أكثر من ثواب الرادّ للسلام مع انّ الأول مستحب و الثاني واجب،فهذا من المواضع المستثناة من القاعدة الكلية و هي انّ الثواب الواجب أزيد من ثواب المستحب،و من المستثنى ايضا إنظار المعسر و إبراؤه من الدين،فانّ الأول واجب و الثاني مستحب،و الثاني يفضل على الأول في الثّواب.

و منها الصلاة المعادة بالجماعة بالنسبة الى الأولى،و قد عدّ منها الصلاة و في الأماكن الشّريفة و البقاع فانّه افضل من الصلاة في غيره،قال شيخنا البهائي(ره)و يمكن المناقشة في حكاية إنظار المعسر فانّ الواجب عدم مطالبته سواء حصل في ضمن الأنظار او الأبراء لكن حصوله في

ص:26

ضمن الأبراء أفضل الواجبين،و قس عليه المناقشة في حكاية الصلاة في البقاع الشريفة بل هي فيه أظهر انتهى،أقول يمكن رفع المناقشة بأن الواجب في المعسر ليس هو عدم المطالبة مطلقا بل عدم المطالبة الى وقت الأيسار فالواجب انّما هو هذا الفرد،و امّا عدم المطالبة مطلقا فليس هو بواجب بل مستحب فيدخل في جملة الأفراد،و امّا المناقشة في الأخير فجوابها ان مراد القائل بها انّ الصلاة النّافلة في الأماكن الشريفة تفضل على الصلاة الواجبة في غيرها كما وردت في الأخبار، و ليس المراد به الصلاة الواجبة الواقعة في البقاع الشريفة كما لا يخفى،و قد روى الشيخ ره في الصحيح عم معاوية بن عمّار قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجلان افتتحا الصلاة في ساعة واحدة فتلا هذا القرآن فكانت تلاوته اكثر من دعائه،و دعا هذا فكان دعاؤه اكثر من تلاوته،ثمّ انصرفا في ساعة واحدة فأيّهما أفضل،قال:كل فيه فضل كل حسن،قلت اني قد علمت انّ كلا حسن و انّ كلا فيه فضل،فقال:الدعاء أفضل أما سمعت قول اللّه عز و جل وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ هي و اللّه العبادة هي و اللّه أفضل الحديث،و قد جعل بعضهم هذا الفرد الخاص من جملة الأفراد المستثناة فردّ عليه شيخنا البهائي طاب ثراه بقوله ما تضمنه من تفضيل الدعاء على قراءة القرآن في الصلاة لا يدلّ على تفضيل المستحبّ على الواجب فلعل المراد بالقراة ما عدا القراءة الواجبة ان قلنا باستحباب السورة او المراد بالدعاء القنوت ان قلنا بوجوبه و ان اريد بالقراءة و الدعاء الواقعان بعد الصلاة في تعقيبها فلا إشكال،هذه كلامه و لا يخفى ما فيه اذ القول بوجوب القنوت نادر،كما ان القول بأستحباب السورة خلاف المشهور،و قد خطر بالبال جواب عن أصل السؤال،و حاصله انّ قراءة السورة و ان وصف بالوجوب من حيث حصول القراءة في ضمنها لكنّها توصف بالأستحباب ايضا من حيث الطول و القصر و غيرهما من الأعتبارات،و من ثم قال الأصحاب رضوان اللّه عليهم تبعا للأخبار:يستحب قراءة سورة كذا فهي من حيث انّها سورة طويلة توصف بالحكمين الوجوب و الأستحباب لكن كل واحد بأعتبار فيكون عليه السّلام قد فضل الدّعاء المستحب على قراءة السورة مثلا لكن لا من حيث الوجوب وجهته،بل من جهة الأستحباب و اعتباره اذ السورة الطويلة مثلا يثاب عليها صاحبها مرتين،مرّة لحصول الواجب في ضمنها و مرة اخرى بكونها أطول من غيرها فتكون مستحبة،و بالجملة فهو تفضيل مستحب على مثله،و هذا كلام وقع في البين فلنرجع الى تمام كلامنا السابق فنقول:

انّه قد تعارف في بعض البلاد ان يسلّم زيد مثلا على عمر ابتداء فلو ترك عمر و الأبتدار بالتسليم نظرا الى الرسوم المتعارفة لا من جهة التّحقير فالظّاهر انّه لا بأس به نعم قد فوّت على

ص:27

نفسه مزيد الثواب،و العلة في توفير ثواب المسلم على المجيب انّ المسلم هو السبب في حصيل الثواب للمجيب فمن هذا زاد عليه.

الأمر الثالث في الجلوس في المجالس و التّصدّر فيها و تحقير الفقير بحيث لا يرضى الغير بجلوسه في قرب منه،كما روي عن الصادق عليه السّلام قال:جاء رجل موسر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نقيّ الثوب فجلس الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فجاء رجل معسر درن (1)الثّوب فجلس الى جنب الموسر،فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:خفت ان يمسك من فقره شيء،قال:لا خفت ان يصيبه من غناك شيء،قال لا،قال:فخفت ان يوسخ ثيابك،قال لا،قال:فما حملك على ما صنعت؟فقال يا رسول اللّه انّ لي قريبا(ينا)يزيّن لي كلّ قبيح و يقبح لي كل حسن،فقد جلت له نصف مالي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمعسر أتقبل؟قال:لا،فقال له الرجل و لم؟قال اخاف ان يدخلني ما دخلك،فهذا ايضا نوع من انواع العجب و أفراده.

الأمر الرابع في المحاورات و المكالمات،فان كثيرا من الناس من يعبّر عن نفسه بالعبارات الموجبة للتعظيم و التكبر كأن يقول انا أمرت و أنا نهيت الى غير ذلك من العبارات الظاهرة في الفخر و التعظيم،و قد روي ان رجلا جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدّق عليه الباب، فقال من بالباب؟فقال انا فغضب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله،فخرج و هو يقول من القائل أنا و هي لا تليق الاّ باللّه الّذي يقول أنا الجبار أنا القهّار أنا الخالق،ثم قال:صلّى اللّه عليه و آله و سلم ان في رأس كل واحد من الناس سلسلتين،فواحدة من رأسه الى العرش و طرفها في يد ملك جالس هناك،و الأخرى تنتهي الى تحت الأرض و طرفها في يد ملك هناك ايضا،فاذا تواضع للّه قال اللّه سبحانه للملك الذي في العرش قد واضع فلان فارفعه بين الناس حتى تكون مرتبته الى العرش،و اذا تكبّر قال اللّه سبحانه للملك الآخر أخفضه بين الناس و اهبط درجته حتّى ينتهي حاله الى ما تحت الثّرى.

الأمر الخامس في تبختره في المشي إمّا بأن يضرب الأرض برجله كأنّه يريد أن يخرقها،او يمشي الهوينا (2)متبخترا متخيّلا في المشي جاذبا عنقه،و ربّما قلب عمامته فوق وجهه كما يفعله المتكبرون،كأنّه يريد ان يبلغ السماء حتى ان الأرض تخاطبه و تقول يا متكبر تمشي على وجهي بهذه الطريقة فأنا أتقاضى منك اذا وصلت الى بطني،فاذا مات قالت له الأرض هذا الكلام ايضا،ثم تضغطه ضغطة شديدة حتى تخرج مخ رأسه من تحت أظافير رجليه.و روي انّ ذا النون

ص:28


1- (1) درن درنا الثوب:علاه الوسخ.الدرين الثوب البالي.
2- (2) الهوينا التؤدة و الرفق،و هي تصغير الهوني و الهوني تأنيث الأهون.

المصري رأى(رجلا خ)عبدا اسود متزرّا بأزار يتبختر عند البيت في جماعة من أتباعه،فقال من انت و ما هذا التبختر؟قال كيف لا أتبختر و أنا عبد ملك مكة،قال ذو النون فأنا بالتّبختر أولى لي منك فإنّي عبد ملك الناس و يوم الدين،و بالجملة فأنواع التكبّر كثيرة و أكثرها يرجع الى القصد و النية،و كلها تشترك في ذلك العذاب الشديد نعوذ باللّه من سيئات الأعمال و مساوىء الأخلاق.

نور يكشف عن تحريم معونة الظالمين مطلقا

اعلم ايّدك اللّه و سددك و الى كل خير وفقك و ارشدك ان المقصود من ايجاد هذا العالم انّما هو التّعاون على البر و التقوى و قضاء مآرب بعضهم بعضا حتّى يتم أمر الأجتماع و الأئتلاف، و من ثمّ ورد الحث على مثل هذا حتّى في الأمور القليلة،فقال سبحانه فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ ، اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ ، وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ و المراد بالماعون الالآت التي يحتاج اليها الجيران و المؤمنون مثل الظروف و الفروش و الفأس و المسحاة و غيرها،فقرن من منع جيرانه و إخوانه من إعارة هذه الأمور بالمرائي الذي جعل له الويل،و هو واد في جهنم،و في ظاهره دلالة على وجوب اعارة هذه الالآت،و حيث انعقد الأجماع على الأستحباب قلنا به و الاّ فالقول بالوجوب لا يخلو من وجه خصوصا اذا استلزم الهوان به و قصد تحقيره و مذلته،فان القول بتحريم المنع قوي جدا،لما عرفت في النور السابق،و لا ريب ان الظلم و التّعدي ممّا يخل بنظام نوع الأنسان، اذ فيه تفريق ما أجتمع و من ثم وقع في الشّرع الأمر بالأخذ على يدي الظالم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أنصر أخاك ظالما كان او مظلوما،فقيل يا رسول اللّه ننصره مظلوما فما بالنا ننصره ظالما؟فقال:خذوا على يديه و امنعوه عن الظلم فهذه نصرتكم لأخيكم،و كما حرّم الظلم حرّم معونة الظالمين أمّا الذي له مدخل في الظلم فقد انعقد الأجماع على تحريمه،مثل ان يكون صاحب سيف أو سوط عند الظالمين،أو يكون يكتب لهم المظالم او يبعثونه في تحصيلها،الى غير ذلك،اما الذي لا مدخل له في الظلم كالخيّاط يخيط لهم ثيابهم و البنّاء يبني لهم المنازل،او النّجار او الحدّاد و نحوهم فالمشهور بين الأصحاب هو عدم تحريمه،و ناقشهم فيه شيخنا البهائي طاب ثراه و ذهب الى تحريم معونة الظالمين مطلقا،و هو الذي أخترناه في شرح الصحيفة،و لنذكر هنا بعض من الدلائل.

منها قوله تعالى وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ فالركون هو مطلق الميل سواء كان بالقلب او اللسان او الأعضاء و الجوارح أو المعونة او نحوها،فاذا كان بالقلب كان فيه موادّة

ص:29

الظالم،و قد أخبر سبحانه عن أقوام و نعى عليهم هذه الزلّة فقال يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ و لا ريب ان الظالم ممّن نصب الحرب مع اللّه تعالى،و اذا كان باللسان او بغيره من الأعضاء كان فيه مع الموادة الأعانة المحرمة،فيكون قد أتى بحرامين مغلّظين،و قد نفى سبحانه في هذه الآية معونة الظالمين مطلقا،و عقّبها بدخول النار على طريق العذاب،اذ لم يقل و لا تركنوا الى الذين ظلموا فتدخلوا النار،و ذلك انّ دخول النار لا يستلزم مسيّها و العذاب فيها.

روى شيخنا الكليني طاب ثراه عن الوصا في قال:سمعت ابا جعفر عليه السّلام يقول انّ فيما ناجى اللّه عبده موسى عليه السّلام قال:انّ لي عبادا أبيحهم جنتي و أحكمهم فيها،قال:

يا رب و من هؤلاء الذين تبيحهم جنّتك و تحكمهم فيها؟قال:من أدخل على مؤمن سرورا،ثمّ قال:انّ مؤمنا كان في مملكة جبار فولع به،فهرب منه الى دار الشرك،فنزل برجل من أهل الشرك فأظلّه و أرفقه و أضافه،فلمّا حضره الموت أوحى اللّه عز و جل اليه و عزّتي و جلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها،و لكنها محرمة على من مات بي مشركا،و لكن يا نار هيديه و لا تؤذيه، و يؤتى برزقه طرفي النهار قلت من الجنة؟قال:من حيث شاء اللّه و قوله هيديه على ما في القاموس معناه أصلحي أحواله،فهذا قد دخل النار و لم تمسه،فانظر الى عظم شأن المؤمن عند اللّه سبحانه حيث أدخل المشرك الكافر جنته لأجل ضيافة المؤمن مرّة واحد،فمن أحب المؤمن و أضافه كساه و دمه كيف يكون حاله عند اللّه سبحانه و تعالى.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال:انّ اللّه يأمر بأدخال جماعة الى النّار،و يقول لمالك يا مالك قل للنار لا تحرق لهم أيديا لأنهم كانوا يرفعونها الى اوقات الصلوات،و قل للنار لا تحرق لهم وجوها لأنهم كانوا يسبغون الوضوء،و قل للنّار و لا تحرق لهم أرجلا لأنّهم كانوا يمشون بها الى المساجد،فيأتي اليهم مالك فيقول لهم يا أشقياء ما كانت أعمالكم التي دخلتم بها النار؟ فيقولون انّا كنّا نعمل لغير اللّه،فتخطف النار قلوبهم،فهؤلاء ايضا لا تمس النار لهم ابدانا.

و منها ما رواه الشيخ في الحسن عن بن ابي يعفور قال:كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام اذ دخل عليه رجل من أصحابه،فقال له:أصلحك اللّه انّه ربّما أصاب الرجل منّا الضّيق او الشّدة فيدعى الى البناء فيبنيه او النّهر بكريه و المسناة يصلحها فما تقول في ذلك؟فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام:ما أحب انّي عقدت لهم عقدة،او وكيت لهم وكاء و انّ لي ما بين لابتيها لا و لا مدة بقلم،انّ اعوان الظالمين يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد،و هذا صريح في تحريم اعانتهم بالمباحات فان شدّا لوكاء و أمثاله ممّا لا مدخل له في الظلم كما قاله العلماء في المثال.

و منها ما رواه الكليني قدس اللّه روحه عن علي بن ابي حمزة قال:كان لي صديق من كتاب بني اميّة،فقال:استأذن لي على ابي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام،

ص:30

فاستأذنت له فأذن له،فلمّا دخل و سلّم جلس،ثمّ قال:جعلت فداك انّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه،فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام:لو لا انّ بني اميّة وجدوا من يكتب لهم و يجيء لهم الفيء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في ايديهم ما وجدوا شيئا الاّ ما وقع في ايديهم الحديث و هو شامل للمباح و المحرم بل و المستحب ايضا لمكان قوله و يشهد جماعتهم،و قد أغرب العلاّمة(ره)في التذكرة حيث أستدلّ بهذه الأخبار على ما ذهب اليه من تخصيص التحريم بمعونتهم بالمحرّم.

و منها ما رواه أهل كتب الرجال عند ترجمة صفوان بن مهران روى الكشّي عن الحسن بن علي بن فضال قال:حدثني صفوان بن مهران الجمّال قال:دخلت على ابي الحسن الأول عليه السّلام،فقال لي:يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا،فقلت أي شيء جعلت فداك؟قال:اكراهك جمالك من هذا الرجل،يعني هارون،قلت و اللّه ما أكريته أشرا و لا بطرا و لا للصيد و لا للهو،و لكن أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكّة،و لا أتولاّه بنفسي و لكن ابعث معه غلماني،فقال لي:يا صفوان أيقع كراك عليهم قلت نعم جعلت فداك،قال:فقال لي أ تحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك عليهم قلت نعم،قال فمن احب بقاءهم فهو منهم،و من كان منهم كان ورد النار،قال:صفوان فذهبت و بعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك هارون،فدعاني فقال لي:يا صفوان بلغني انّك بعت جمالك؟قلت نعم،فقال:و لم؟قلت انا شيخ كبير و انّ الغلمان لا يقوم بالأعمال،فقال:هيهات هيهات انّي لأعلم من أشار اليك بهذا موسى بن جعفر،قلت ما لي و لموسى بن جعفر،فقال:دع هذا عنك فو اللّه لو لا حسن صحبتك لقتلتك،و هذا الحديث أبلغ من الأخبار السابقة فانّه بظاهره يعطي تحريم معونتهم حتى في الأمر الواجب كسفر مكة و أمثاله.

و منها ما سنح بالبال و هو انّ الأمور التي ذكروها و قسّموها قسمين و جعلوا منها ماله مدخل في الظلم،و منها ما ليس كذلك ليس على ما ينبغي فانّ الأمور الّتي ذكروها ممّا لها مدخل في الظلم كلّها،و ذلك انّ الخياطة و البنائية و نحوهما من الأمور التي جعلوها من القسم الثاني لو تركها أهلها لأقلع الظالمون عمّا هم فيه،و ذلك انّ الخيّاط لو ترك الخياطة ثياب الظالمين و البناء ترك بناء منازلهم لبقوا بلا منزل و لا ثياب و كذا باقي الحرف و أهل الكسب،فدل على ان كل هذه الأمور ممّا لها مدخل في الظلم لكن بعضها أقرب الى الظلم من بعض،كالكتابة في ديوانهم فانها اقرب الى الظلم من الحدادة و الخياطة،و من ثم صارت الكتابة معونة في العرف دون الثانية و الا فالكل من واد واحد مع انّك قد عرفت انّ الأمور التي جعلوها من القسم الثاني يجب تحريمها من جهة اخرى ايضا و هي انها مستلزمة لوداد من حاد اللّه و رسوله فهو حرام على كل وجه،و منها

ص:31

انه يرد على التخصيص اعتراض و هو ان اعانة كل احد بالمحرم محرمة سواء كانت اعانة الظالمين ام غيرهم،بل فعل المحرم في نفسه حرام سواء كانت اعانة او غيرها.

قال شيخنا البهائي(ره):و اما ما ينقل عن بعض الأكابر من انّ خياطا قال له:انّي اخيط للسلطان ثيابه فهل تراني داخلا بهذا في أعوان الظلمة؟فقال:الدّاخل في اعوان الظلمة من يبيعك الأبر و الخيوط و أمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم فالظّاهر انه محمول على نهاية المبالغة في الأحتراز عنهم و الأجتناب عن تعاطي امورهم و الاّ فالأمر مشكل جدا انتهى.

أقول و على ما ذكرناه لا يكون هذا من باب المبالغة و لا من نهايتها لأنّ بيّاع الأبر و الخيوط اذا علم انّ الخيّاط يخيط ثياب الظالم لا يجوز له ان يبيع منه،و لو أصرّ الناس كلهم على هذا لتعطلت أمور الخياط فترك الخياطة،و اذا ترك الخياطة أقلعوا عن الظلم و عزلوا أنفسهم عمّا ليس لهم من المناصب الجليلة،و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:اذا كان يوم القيامة ناد مناد أين الظلمة و أشباه الظلمة حتى من برى لهم قلما او لاق لهم دواة (1)قال فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم،اذا تحققت هذا كلّه فاعلم انّه قد بقي الكلام في مقامين:

الأول في تحقيق معنى الظالم الذي يحرم ماونته مطلقا او على وجه،فنقول:المفهوم من الكتاب و السنة انّ للظالم اطلاقات،منها اطلاقة على الكفّار و المشركين قال:سبحانه الا ان اَلْكٰافِرُونَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و منها اطلاقة على كل من خالف مذهب الأمامية حيث انهم ظلموا عليا عليه السّلام حقّه بقولهم انّ غيره أفضل منه،و ترتيبهم الخلفاء على ما ذكروه،و منها اطلاقة على حكامهم و سلاطينهم حيث ظلموا الأئمة عليهم السّلام مناصبهم و ظلموا الرعية و ظلموا أنفسهم أيضا،فأبو بكر و عمر و عثمان من الظالمين بالأمور المذكورة كلّها،و منها اطلاقة على كل سلاطين الجور الذي لم يكن لهم اذن من الأمام عليه السّلام لا عموما و لا خصوصا كالمجتهدين و ان كان اولئك السلاطين من الشّيعة قد حكموا بالجور لا بالعدل،و منها اطلاقة على كل من يحكم بجور سواء كان في الأحكام الشرعية ام غيرها سواء كان منّا او منهم،فيدخل فيه القضاة و أهل الفتوى من الفريقين.

و منها اطلاقة على البالغ في انتهاك الذنوب حيث انّه ظلم نفسه،و آيات القرآن متكثّرة بهذا الأطلاق كقوله(الا من ظلم نفسه) و قوله اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الى غير ذلك،فيدخل فيه جميع أهل المعاصي من جميع فرق الأسلام و ان كان من الشيعة،و الشّائع في العرف اطلاقه على اهل الحكم الذين يحكمون بالجور سواء كانوا منّا او من غيرنا و سواء كان حكمهم في الأحكام

ص:32


1- (1) لقت الدواة أصلحت مدادها.

الشرعية ام في الأحكام العرفية،فيكون مخصوصا في الحكّام و القضاة،و لا يبعد ارادة المعاني كلّها فإنّك قد عرفت ما ورد من الأخبار الواردة في عقاب من أعان تارك الصلاة او سلّم عليها و تبسّم في وجهه و كذا شارب الخمر و قاطع الرحم و غير ذلك من الذنوب المغلّظة،و حينئذ فيحرم اعانة كل هؤلاء بما يسمى اعانة عرفا كما قاله بعض المحققين او بكل ما أطلق عليه الأعانة لغة كما هو الأولى،و في هذا بلية عامّة لعموم البلوى به،و ذلك ان قضاة الشيعة خصوصا في هذه الأعصار الغالب عليهم الجهالة بالأحكام الشّرعية و أخذ الرشاوى و العمل بالأحكام موافقا لمن كان لهم اليه ميل من الخصمين،فقد شاهدنا بعض القضاة اذا وردت عليه الدعوى يحكم بها بعد أخذ الرشوة،فقال رجل من الصلحاء:لو ان هذا الخصم الآخر أعطاك أكثر من ذلك الرجل كيف كنت توجه له الحكم،قال:لو أعطاني أكثر لكان قلت كذا و كذا،فصوّر صورة لم تكن تخطر على خاطر الشّيطان،و قد يكون القاضي رجلا يتجنب الرشاوي لكن ليس له أهليّة الفتاوى في الأحكام،فهذا ايضا من قضاة الجور و ان قضى بحق اتفاقا،بل و لو قضى بحق من وجه الكتاب الفقهي لأنّ المشهور بين علمائنا رضوان اللّه اللّه عليهم انّه لا يجوز تقليد الميت،فانّ الخلاف موجود في أكثر مسائل الفقه،و لو طالع كتابا آخر كان قد رأى مذهبا آخر و هلّم جرّا،بل و لو طالع كتابا آخر لصاحب هذا الكتاب لوجه الأختلاف كما لا يخفى على من تتّبع كتب العلامة قدّس اللّه روحه،فانّه قلّما ذهب في كتابين الى اجتهاد واحد بل له في كتاب واحد اجتهادات مختلفة.

و بالجملة فاعانة مثل هؤلاء القضاة معونة الظالمين أيضا،و من جملة اعانتهم الأختلاف الى مجالسهم الذي يحصل منه ترويج أقوالهم و اقبال عوام الناس عليهم قائلين لو لم يكن هذا القاضي من أهل هذا المنصب لما قصده فلان و جلس معه و لم ينكر عليه،و من الأعانة ايضا السّعي له عند السلطان او من نصّبه لنصب القضاة و كذا قرضه الدّراهم ليستعين بها على اتمام اموره، و من الأعانة المحرمة الأختلاف اليه في الدعاوى و أخذ الأموال بحكمه و ان كان حقّا،روى شيخنا الكليني عن عمر بن حنظلة قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة أ يحلّ ذلك؟قال:من تحاكم اليهم في حق او باطل فانّما تحاكم الى الطّاغوت،و ما يحكم له فانّما يأخذ سحتاوان كان حقا ثابتا له،لأنّه أخذ بحبكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به،قال:اللّه عز و جلّ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قلت كيف يصنعان،قال:ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا،و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانّي قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكم فلم يقبل منه فانما استخف بحكم اللّه و علينا ردّ،و الراد علينا الرادّ على اللّه،

ص:33

و هما على حد الشرك باللّه،قلت فان كان كل واحد أختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما و كلاهما اختلف في حديثكم قال:الحكم ما حكم به أعدلهما و أوفقههما و أصدقهما في الحديث،و أورعهما و لا يلتفت الى ما يحكم به الآخر،قال:قلت فانّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد(لا تفضل واحدا)منهما على صاحبه،قال:

فقال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكمنا به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك،فانّ المجمع عليه لا ريب فيه،و انّما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع،و أمر بين غيه فيجتنب،و أمر مشكل يردّ علمه الى اللّه تعالى و الى رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:حلال بيّن و حرام بيّن،و شبهات بين ذلك،فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات،و من أخذ الشّبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم.

قلت فان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم،قال:ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامّة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنة و وافق العامة،قلت جعلت فداك أ رأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة و وجدنا الخبرين موافقا للعامة ففيه الرشاد،قلت جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعا قال:ينظر الى ما هم اليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر،قلت فان وافق حكّامهم الخبرين جميعا،قال:ان كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الأقتحام في الهلكات.

و قوله عليه السّلام قد روى حديثنا و قوله حلالنا و حرامنا و ان كان مصدرا مضافا فيفيد الموم الاّ ان القرينة دالّة على انّ المراد بعض الأحاديث لكن ليس المراد الأحاديث المتعلّقة بخصوص تلك الدعوى،بل المراد ما يتعلق بالأحكام غيرها ايضا،و ذلك مثل رواة الحديث في الصدر السالف،و فائدة روايته للأحاديث العمل بها في تلك الدعوى الواردة عليه،فلو كان ممّن روى الأحاديث لكن لم يعمل بها اعتبارا بالأغراض الدنيوية كان من قضاة الجور ايضا،و قوله عليه السّلام فانّي قد جعلته عليكم حاكما ممّا استدل به الأصحاب على انّ المجتهدين منصوبون من قبله عليه السّلام للقضاء فهم و كلاؤه و المعبّرون عنه في هذه الأعصار.

اقول بل فيه دلالة ايضا على انّ من روى الأحاديث و عرف مواقعها كان له منصب القضاء و ان لم يكن مجتهدا بالمعنى الجديد للمجتهد،فانّ المعنى المعروف منه في الصّدر السالف هو بذل جهده و طاقته في دراية الأحكام و الأطلاع عليها حتّى ان قول الحلبيّين(ره)بوجوب الأجتهاد عينا يرجع الى هذا لا الى الأجتهاد الأصطلاحي كما لا يخفى و قوله عليه السّلام المجمع عليه من أصحابك الظاهر انّ المراد بهذا الأجماع الأتفاق في نقل الرواية لا الأتفاق في الفتوى كما ذهب

ص:34

اليه جماعة من الأصحاب بقرينة ما سيأتي،و لأنّ الكلام انّما هي في تعارض الروايات و ترجيحها لا في تعارض الأقوال.

و قوله عليه السّلام و شبهات بين ذلك الظّاهر ان المراد بالشبهات هنا ما تعارض فيه الدليلان من غير اهتداء الى التّرجيح بينهما كما يقع كثيرا في كتب الحديث،و قوله عليه السّلام ما خالف العامة ففيه الرشاد ممّا لا ريب فيه حتى انّه روي انّ رجلا من أهل الأهواز كتب اليه عليه السّلام و هو في المدينة انّه ربما أشكل علينا الحكم في المسئلة التي يحتاج اليها و لا تصل الأيدي اليك في كل وقت فما ذا تصنع؟فكتب اليه عليه السّلام اذا كان الحال على ما ذكرت فأت القاضي البلد و سله عن تلك المسئلة،فما قال:لك فخذ بخلافه فان الخير(الحقّ خ)في خلافهم.

و قوله عليه السّلام ينظر الى ما هم عليه أميل(اه)مشكل بالنّظر الينا و ذلك انّ اعصارهم عليهم السّلام مختلفة فقد كان في عصر كل امام و زمان كل سلطان من سلاطين الجور من فتاوى الفقهاء الأربعة و من يحذو حذوهم قول واحد و قد خفي علينا في هذه الأعصار المشهور من تلك الأقوال في أزمانهم،فانّ أقاويل ابي ابي حنيفة قد كانت مشهورة في اعصار بعض الخلفاء و أقوال مالك كانت مشهورة في بعض الأعصار ايضا و كذا أقوال الشافعي و الحنبلي ثم احتاج حمل الأخبار على التقية الى تفحّص تام عن أقوال الفقهاء الأربعة التي كانت مشهورة في أعصار ذلك الأمام عليه السّلام الذي نقل الحديث عنه،فالمجتهد يحتاج الى الأطّلاع على هذا و ان كان متعسرا، و قوله عليه السّلام فارجه،الهاء ضمير المفعول أي أخّر ذلك الأمر حتى تلقى امامك،و في حديث آخر قال:اذا كان ذلك فأيّهما أخذت به من باب التّسليم وسعك،وجه الجمع بينهما اما ان يحمل هذا على ما اذا كان الأمام عليه السّلام ظاهرا يتمكن من الوصول اليه كما يدل عليه قرينه المقال و ذاك(لك)على مثل هذه الأعصار،و اما ان يحمل هذا التأخير على ما اذا كانت الأخبار الواردة في المعاملات و حقوق النّاس،و الأخذ بأيّهما شاء يكون محمولا على احكام العبادات،و هذا هو الذي فهمه شيخ الطائفة(ره)و جعله وجها للجمع بين هذين الخبرين،و امّا ان يحمل الأرجاء على ما اذا أمكن الأحتياط فيه كأكثر مسائل العبادات،و الأخذ بأيهما شاء على ما اذا لم يكن فيه ذلك،كما اذا ترددّ الحكم بين الوجوب و التّحريم،و بالجملة فالقاضي يحتاج الى اطّلاع على كل ما في هذا الحديث و من لم يكن كذلك لم يكن أهلا للقضاء،فلا يجوز ان يجعل قاضيا و لا يجوز التّحاكم اليه،بل و لا الجلوس عنده،روى الشيخ قدّس اللّه روحه عن محمّد بن مسلم قال:مرّ بي ابو جعفر عليه السّلام و ابو عبد اللّه عليه السّلام و انا جالس عند قاض بالمدينة فدخلت عليه من الغد،فقال لي:ما مجلس رأيتك فيه أمس،قال:قلت جعلت فداك انّ هذا القاضي لي مكرم فربما جلست اليه،فقال لي:و ما يؤمنك ان تنزل اللّعنة فتعم من في المجلس.

ص:35

و اما السلاطين و الأمراء الجائرون سواء كانوا من العامة او الخاصة فالتردّد اليهم و الأختلاف الى مجالسهما ذا لم يكن لضرورة شرعية فيه المعونة و الوداد،و الحضور أوقات حكم الظلم فقد اشتمل على ثلاث محرّمات مغلّظة.

الأمر الثاني في جواز أكل طعامهم و قبول عطاياهم اعلم ان المنقول من اطوار الأئمة عليهم السّلام انهم كانوا يأكلون طعامهم و يقبلون اموالهم،و قد ذكر الفقهاء رضوان اللّه عليهم انّ عطايا الحكّام حلالة على الآخذ لها و ان كان الأثم على الحكام،كما قال:عليه السّلام لك المهنّا و عليهم الوزر،نعم قيدوها بما اذا لم تعلم بعينها انها من مال فلان،أقول قد دلّت الأخبار الكثيرة على انّ ما يأخذ السلاطين الجور باسم الخراج و المقاسمة و ان كان اقل او اكثر من القدر الواجبى الذي يأخذه الأمام يجوز شراؤه من العمّال و ان كانت عند صاحبه و علل في الرواية بأنك اذا لم تأخذه أنت لم يرجعوه الى صاحبه بلا بأس لشرائه منهم و قبول عطيته منهم و ان علم صاحبه،نعم اذا أخذ الحاكم و السّلطان شيئا زائدا على القدر المقرر كالجرائم و نحوها فاذا اعطاها احد لا يجوز له أخذها،و حينئذ فقولهم جوائز الظالم حلال اذا لم تعلم بعينها ان ارادوا به الجوائز التي يعطونها الناس و يأخذونها من مال الخراج فالظاهر جواز أخذها و ان علم صاحبها بعينه، و لا فرق بين الجائر من الطرفين بل ذهب شيخنا الشهيد الثاني قدس اللّه روحه الى انّ ما يأخذه السلطان الجائر منهم اقرب الى الحل و الأباحة ممّا يأخذه الجائر منا،و ذلك انّهم يزعمون انّ الأولى الأمر المأمور بإطاعتهم في الكتاب العزيز في قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ هم السلاطين و الحكّام فهم يجب اطاعتهم عندهم و يجب دفع مال الخراج اليهم فكلّما يأخذونه من الرعايا يزعمون انّه حلال عليهم و الرّعية ايضا تعتقد انّه يجب عليهم دفعه اليهم فالآخذ و المأخوذ منه يزعمون انّه حلال.

و قد قال عليه السّلام:ديّنوهم بما دانوا به انفسهم أي الزموهم و عاملوهم بما أعتقدوا حقيّته في دينهم كأوانهم من اليهود و النصارى فانّ الجزية اذا أخذت منهم أجريت عليهم(عليها) أحكامهم بخلاف ما يأخذه سلطان الشيعة من الرّعايا فانّه يعتقد انّه ظالم يأخذه،و كذلك اعتقاد المأخوذ منهم من رعايا الشّيعة،و لو أعتقد ذلك السلطان انّه حلال له لم يكن من الشيعة الأمامية لأن اولي الأمر المأمور باطاعتهم انما هم الأئمّة المعصومين من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و امّا في هذه الأعصار فلمّا لم يكن الأمام عليه السّلام ظاهرا كان نوابه و قوّامه هم من الفقهاء و المحدّثون بما عرفت في مقولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السّلام في شأن من روى احاديثهم و عرف حلالهم و حرامهم فاني قد جعلته عليكم حاكما و حرم(تحريم)الردّ عليه و عدم قبول قوله فالآخذ هنا و المأخوذ منه يعتقد ان هذا المأخوذ باسم الخراج و المقاسمة حرام،لكن اكثر الأصحاب

ص:36

رضوان اللّه عليهم نظروا الى اطلاق الأخبار او عمومها الواردة بإباحة ما يعطيه الجائر من غير فرق بين ان يكون من الشيعة او من غيرهم فأطلقوا الحكم نعم يمكن ان يقال انّ عمّال السّلطان اذا لم يأخذوا الا ما تعارف أخذ السّلطان له من الخراج و المقاسمة كان بالنسبة اليهم اقرب الى الأباحة،و ذلك لأنهم اذا لم يأخذوه من الرّعايا بعث السّلطان لغيرهم لكن اين يوجد مثل هذا العامل قبّح اللّه الجميع،و ذلك انّ اهل الجور من الحكّام و القضاة لو عزلوا انفسهم و رفعوا ايديهم عن هذه المناصب لوجب على الأمام عليه السّلام ان يظهر حتى لا تعطّل امور المسلمين و لا يختل نظام الكون،لكن لمّا جرى نظام الدنيا و تمشى على هذا الوجه و ان كان اكثره على البطلان تأخّر أمره عليه السّلام الى ان يأذن اللّه سبحانه به عجّل اللّه فرجه بحق محمّد و آله.

نور يكشف عن الكذب و عن عظم خطره و عن توابعه و لواحقه

اعلم وفقك اللّه تعالى ان الكذب من أعظم الذنوب حتّى انّه قد روي انّ المؤمن يزني و يلوط و يسرق،و يشرب الخمر لكنّه لا يكذب،فيكون قبحه في الشرع أشدّ من قبح الزّنا و شرب الخمر،و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال:المؤمن اذا كذب من غير عذر لعنه سبعون ألف ملك،و خرج من قلبه نتن حتّى يبلغ العرش فتلعنه حملة العرش و كتب اللّه عليه بتلك الكذبة سبعين زنية اهونها كمن يزني مع امه.

روى الكليني طاب ثراه في الصحيح عن ابي جعفر عليه السّلام قال:ان اللّه تعالى جعل للشّر اقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشّراب،و الكذب شرّ(أشرّخ)من الشّراب،و ذلك لأنّ المفاسد المترتبة على الكذب أزيد من مفاسد الشّراب،لأنّ الكذبة الواحدة ينشأ منها أهراق الدماء بغير حق و نهب الأموال و لأنّ الغالب في الكذب وروده في حق النّاس و الشراب حق اللّه سبحانه و هو بالعفو اولى و أحرى،و لأنّه يسلب الأيمان و يمنعه من الأستقرار في القلب و الشّراب انّما يمنع من قبول الصلاة اربعين يوما لمكان بقاءه في الجوف هذه المدة،قال امير المؤمنين عليه السّلام:لا يجد عبد طعم الأيمان حتى يترك الكذب هزله و جدّه،و لأنّ الكاذب قد لا يصدق في القول فتختل اموره بل أمور غيره لأنه يحتاج اليه في الشّهادات و الأقرارات و الوكالات و المعاملات،و قال عليه السّلام:ينبغي للرجل المسلم ان يجتنب مؤاخاة الكذب،فانّه يكذب حتى يجيء بالصدق فلا يصدّق.

و اما شارب الخمر فتوبته اذا احتيج اليه في هذه الأمور ان يقول استغفر اللّه و يظهر النّدامة،و الكذّاب لو قال:هذا لم يصدّق،و يحصل الريب لحاكم الشرع عند اداء الشّهادة و نحوها،و شهادة المرتاب فيه لا تقبل شرعا،لأنّ النتيجة الحاصلة من الكذب انّما هالبخل لأنّ

ص:37

أقوى دواعي الكذب و أسبابه انّما هو دناءة الهمّة و الحرص و الخسّة،و النّتيجة الحاصلة من الشّراب انّما هو علوّ الهمّة و إعانة الناس بأنواع العطايا و ان كان عطاء في غير محلّه لكنّه اولى من البخل،و قد يصل الى المستحق أحيانا،و لأنّ الغالب على أهل الشراب الخجالة و الحياء من الناس لعلمهم بقبح ذنبهم،و الكذّاب عند نفسه ليس خجلا و لا له حياء من الناس و لا ندامة،و لأنّ الشّراب ربّما يتداوى به عن بعض الأمراض كما أشير اليه في قوله سبحانه وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ و من ثمّ جوّز بعض فقهائنا التّداوي به عند الضّرورات،و الذي يرجّح في النّظر هو عدم جواز التّداوي بالمحرمات لقوله عليه السّلام ما جعل اللّه الشفاء في حرام قطّ و ما في معناه،و ما دلّ من الأخبار على جواز التّداوي به محمول على التقية،و اما الكذب فليس فيه سوى محض الضرر مع ان شارب الخمر قرن بعابد الصّنم في قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ، و قدّم فيه الخمر للإهتمام بتحريمه.

و قال عليه السّلام:شارب الخمر كعابد الوثن،و من بات سكرانا بات عروسا للشيطان، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و الذي بعثني بالحق نبيّا ان شارب الخمر يموت عطشانا،و يمكث في القبر عطشانا،و يبعث يوم القيامة عطشانا،و ينادي و اعطشاه ألف سنة،فيؤتى بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب،فينضح وجهه و تتناثر أسنانه و عيناه في ذلك الأناء فليس له بدّ من ان يشرب فيصهر ما في بطنه،و من كان في قلبه آية من القرآن ثم صب عليه الخمر يأتي كل حرف يوم القيامة فيخاصمه بين يدي اللّه عز و جل،و من كان له القرآن خصما كان اللّه خصما و من كان اللّه له خصما كان في النار.

و قال عليه السّلام:من بات سكرانا عاين ملك الموت سكرانا،و دخل القبر سكرانا، فوقف بين يدي اللّه سكرانا،فيقول اللّه تعالى مالك؟فيقول انا سكران فيقول اللّه تعالى أ بهذا امرتك اذهبوا به الى السكران،فيذهب الى جبل وسط جهنّم في عين تجري مدّمة (1)و دما و لا يكون طعامه و شرابه الاّ منه،و عنه عليه السّلام من أطعم شارب الخمر لقمة من الطعام او شربة من الماء سلّط اللّه عليه في قبره حيات و عقارب طول اسنانها مائة ذراع و أطعمه من صديد جهنم يوم القيامة،و من قضى حاجته فكأنما قتل ألف مؤمن،او هدم الكعبة ألف مرة،و من سلّم عليه لعنه سبعون ألف ملك،و قال عليه السّلام:لعن اللّه شارب الخمر،و عاصرها و ساقيها و حاملها و المحمول عليها.

ص:38


1- (1) بالكسر و تشديد المهملة ما يجتمع في الجرح من القيح الغليظ منه.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ما من أحد يبيت سكرانا الاّ كان للشيطان عروسا الى الصباح فاذا أصبح وجب عليه ان يغتسل من الجنابة،فان لم يغتسل لم يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا،و لا يمشي على وجه الأرض أبغض الى اللّه من شارب الخمر،و قال عليه السّلام:

من سلّم على شارب الخمر،او عانقه او صافحه أحبط اللّه عليه عمل اربعين سنة.

فان قلت اذا كان هذا حاله فكيف صار غيره أقبح منه في العرف العام،قلت الذنب اذا كان مأنوسا كثير الأستعمال ربّما ارتفع قبحه من الأنظار بخلاف غيره من المعاصي،و لذا ترى اللواط مع انه أفحش الذنوب غير قبيح في بعض البلاد أهل الخلاف لإطباق الأكثر على فعله مع انه حرام عندهم،و لهذا لم يجعل الشارع للكذب حدّا شرعيا كالشّراب و نحوه اذ هو كثير في محاورات الناس،و ايضا فإثباته لا يخلو من نوع اشكال،و ذلك ان الكاذب يمكنه التّخلص من كذبه بوجوه كثيرة مع قوله عليه السّلام ادرؤا الحدود بالشبهات.

و اعلم ان الكذب على قسمين،جليّ و خفي،فاما الجلي فهو أقسام أوّلها الكذب على اللّه و على رسوله و الأئمة عليهم السّلام،و هذا يقع على وجوه الوجه الأول ان يقول قال:اللّه كذا،و قال:الرسول كذا،و قال:الأمام كذا،فيكذب عليهم في حكم شرعي او غيره،و هذا يقع من علماء السوء كثيرا،و لقد كذّب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حياته و بعد موته حتى وضعوا من الأكاذيب أديانا مختلفة،و ليت شعري ما كان دين النبي،أ هو دين أبي حنيفة؟ام الشافعيّ أم المالكي ام الحنبلي؟و لا يقدرون ان يقولوا ان دينه كان واحا منها نعم يمكنهم ان يقولوا انّ دين ابي حنيفة كان نقيض دين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه كان يجلس في مسجد الكوفة و يقول في فتواه قال:علي و أنا أقول،و دين علي هو دين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا ريب،و هذا الوجه من الكذب يقع من كلّ أحد حتّى من المؤمنين و الشّيعة.

الوجه الثاني ما أعتاده الناس في المحاورات من قولهم اللّه يعلم،و الرسول او الأمام انّي ما فعلت ذلك الشيء،او فعلته و هو كذب،و من هذا روي انّ الرجل اذا قال:اللّه يعلم و هو كاذب يقول اللّه سبحانه للملائكة يا ملائكتي انظروا الى عبدي لم يجد أحدا أعجز مني يحيل هذه الكذبة عليه حتى أحالها على علمي،فأنا أفعل به كذا و كذا من الهوان و العذاب.

الوجه الثالث ان يكذب ثم يروّج كذبه بالحلف باللّه او النبي او الأمام عليه السّلام و هذا يقال له الكذب باللّه و هو الذي يذر الدّيار بلاقع من أهلها،و هو حالقة الدّين يعني انّه يحلق الدّين و يمحوه كما يمحو الموسى الشعر،و في الرواية لا تحلف باللّه لا صادقا و لا كاذبا،نعم روي في حديث آخر انّ الدّعوى اذا كانت ثلاثين درهما و احتاجت الى المين فله الخيار في الحلف و ان كانت أقل فلا يحلف،و الوجهان الأولان بل الثلاثة هي التّي تضر بالوضوء و الصوم،روى الشيخ(ره)انّ

ص:39

ابي بصير قال:سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول الكذبة تنقض الوضوء و تفطر الصائم،قال:

قلت هلكنا،قال:ليس حيث تذهب انّما ذلك الكذب على اللّه و على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على الأئمة عليهم السّلام،و منه ذهب الشيخان و المرتضى الى انّه مفسد للصوم و يجب به القضاء و الكفارة،و اما الوضوء فقال الشيخ قدّس اللّه روحه:المراد انّه ينقض كماله و ثوابه،و وجهه الذى يستحق به الثواب،و ما صار اليه المرتضى(ره)لا يخلو من وجه لما رواه الشيخ عن سماعه قال:سألته عن رجل كذب في شهر رمضان،فقال:قد أفطروا عليه قضاؤه و هو صائم يقضي صومه و وضوئه اذا تعمّد،و الحمل على الأستحباب غير محتاج اليه،لعدم وجود المعارض.

القسم الثاني الكذب على الناس لغرض من الأغرض الدّنيوية،بل قد لا يكون لغرض كمن اعتاده فكأنّه طبع عليه و هذا هو الذي ورد فيه انّه ينقض الدين و المروة و يذهب ماء الوجه و لعذاب الآخرة أشدّ نكالا لو كانوا يعلمون.

القسم الثالث الجائز المشروع و هو كما سبق اذا ترتب عليه غرض أخروي كإصلاح ذات البين بل لا يسمى كذبا،قال الصادق عليه السّلام:الكلأ ثلاثة:صدق،كذب و أصلاح بين الناس، قيل له جعلت فداك ما الأصلاح بين الناس؟قال:تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول سمعت من فلان قال:فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه و يجوز الكذب في الحرب لمخادعة العدو و كان علي عليه السّلام في حرب صفين ينادي بأعلى صوته و اللّه لأقتلن معاوية،ثم يقول سرا ان شاء اللّه،فقال له رجل كان من خواصّه:كيف هذا يا أمير المؤمنين؟قال:

الحرب خدعة،انّ عسكري اذا سمع هذا الكلام منّي جدوا في الجهاد لعلمهم بأني لم أكذب،ثم أقول خفية ان شاء اللّه سبحانه،مع انّ قسمه عليه السّلام على قتل معاوية سيكون في زمن ظهور المهدي عليه السّلام،فانّه يخرج معاوية و يقتله قتلات متعددة،و كذلك الكذب على الزوجة،فانّه جائز ايضا اذا واعدها بوعد ثم لم يف به،روى الكليني نوّر اللّه ضريحه عن عيسى بن حسان قال:سمعت ابا عبد اللّه يقول كل كذب مسئول عنه صاحبه يوما الا كذب في ثلاثة:رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه،او رجل اصلح بين أثنين يلقي هذا غير ما يلقي هذا يريد بذلك أصلاح ما بينهما،او رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتمّ لهم.

و قال:لي يوما واحدا من مشايخي المجتهدين و كان كثير المطايبة و المزاح يا بني ينبغي لصاحب الزوجة ان يكون فخذه و جفن عينيه منه في ألم شديد،و ذلك أنّه اذا أراد الخروج من المنزل قالت له إمرأته:هات لنا الشيء الفلاني،فيضع يده على عينه للوعدة لها،فاذا رجع الى المنزل و لم يأت بشيء قالت له:اين الشيء الفلاني؟فعند ذلك يضرب يده على فخذه و يقول انّي نسيت و لم أذكر،فيكون هذان العضوان منه في الألم دائما.

ص:40

القسم الثاني هو الكذب الخفي و تحقيقه يتوقف على تمهيد المقدمة،و هي انّ اللّه عزّ شأنه قد كلّف العباد في عالم الأرواح و عالم الأشباح و قبلوا تكاليفه و سيّما هذا العالم فانّهم ذاكرون له و يدّعون في ذلك النسيان،كما قال ابن عباس:سميت إنسانا لأنّك ناسي،و هو نسيت لما جرى في عالم الأرواح،و جملة التكاليف هو التصديق بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أعظمها الأوامر و النواهي،و من دخل تحت قلم التكليف فقد أقرّ ظاهرا و باطنا بإلتزام الشرائع و لوازمها من الأحكام،فالصادق في هذا الإقرار من بقي على حالة واحدة و لم يتلوث بمخالفة الأوامر و النواهي،و من تلوّث فيها و ارتكب ما يخالف اعترافه الأوّل فقد كذّب نفسه في ذلك الأعتراف و في قوله أتوب الى اللّه فإنّ أتوب معناه ارجع اليه عما فعلته،فمن قال:هذه الكلمة في هذا اليوم و ارتكب شيئا من النواهي في غد فقد كذب و هذا الكذب أقبح من غيره حيث انّه كذب مع اللّه و ملائكته الكاتبين و أنبيائه المقرّبين و عباده الصّالحين.

و من هذا جاء الحديث ان رجلا اتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طلب منه ان يأمره بأنفع الأعمال فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:اصدق و لا تكذب و اعمل من المعاصي ما شئت،فاستعجب الرجل من هذا القول و قبله،فلما رجع قال:النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه الا عن الكذب فانا آتي فلانة و كانت امرأة جميلة،فلما مضى الى بيتها ليزني بها تفكر في نفسه و قال:اذا خرجت من عندها و لقيني احد و سألني اين كنت و ما كنت تعمل؟فان صدقته في القول صار امري عظيما و ان كذبت فقد نهيت عنه،فرجع الى منزله ثم طلب ان يفعل ذنبا آخر و فكّر مثل هذا فأقلع عن جميع المعاصي،اذا عرفت هذا فأعلم ان من الكذب الخفي ما نواجه ربنا و المطّلع على سرائرنا و ضمائرنا كل يوم و أقله عشر مرات،و ذلك انّا نقف بين يديه و نقول الحمد لك ايها المربي لنا الرحمن الرحيم بنا،المالك لأمورنا في يوم الوفود عليك فنحن نخصك بالعبادة و نخصك بالأستعانة بك فنحن لا نعبد غيرك و لا نستعين الا بك،و العبادة هي الا طاعة و الأنقياد فانظر و تفكر و قل كيف أصدق في هذا المقال و انا أطيع غيره ممن نهاني عن اطاعته، و الأنقياد لهم،و من جملتهم عدوه و عدوك الشيطان فالمصر منا على اطاعته و هم الأكثرون خصوصا حال الصلاة كيف يكون صادقا في اياك نعبد و من جملة معبوديك نفسك الأمارة بالقبائح التي لا تقصر عن الشيطان و هواك المردي لك،و من الجملة ايضا معبوديك من أهل الدنيا كالسلطان و الحاكم و عمالهما و عبيدهما و عبيد عبيدهما و كلابهما و دوابهما و امائما و من تتوهم انتسابه اليهما فما أكثر ما جعلت لربك من الشركاء و المعبودين و لقد أحسن ابن عباس حيث قال:

في قوله تعالى و لا تتخذوا الهين اثنين انه تعالى نهاك عن الأثنين

ص:41

و انت اتخذت الأثنين فما أقل حيائك و من معبوديك ايضا القصاص عليك كما قال عليه السّلام:من استمع الى قائل فقد عبده فان كان يحدث عن اللّه فقد عبد اللّه و ان كان يحدث عن الشيطان فقد عبد الشيطان،و المراد بتحديثه عن الشيطان نقله الحكايات الكذب او هجاء المؤمنين او غيبتهم او نحو ذلك،فما تعارف في هذه الاعصار من نقل حكايات اهل القصص التي وضعوها كقصة رستم و عنتر،و حمزه و اشباهها فالسامع لها عابد للشيطان و لعلك تظن ان العباده انما هي الصلاة و اضربها و هذا ظن غلط فانك قد سمعت قوله تعالى في شأن اهل الكتابين إهل احبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه،قال عليه السّلام:و اللّه ما صلوا لهم و ما صاموا لهم ولوا دعوهم اليهما ما قبلوا و لكن احلوا لهم حراما،و حرموا عليهم حلالا فقبلوا أقوالهم فمن قال:إنهم اربابا لهم و قال تعالى مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ فقد جعل سبحانه إرادات النفس و أمنياتها الباطله إلها،فأنت أيها المصلي اذا كان لك كل هؤلاء الالهه و المعبودين كيف لم تجر على مواجهة واحد منها بالكذب،و ما تجرئت الا على جنابه تعالى تقول لا أعبد إلا أنت و لا أطيع أحد سواك ،فكأنك ظننت ان هذا أعجز من جميع الهتك حتى خصصته بالكذب عليه دون باقي آلهتك، و يجوز ان يكون الوجه فيه انك قصرت عبادتك الصادقه عليها،و ذلك انها و ان كان آلهه متعدده الا أنها ترجع الى أصل واحد حتى القصاص الذي يقص عليك الأباطيل فقد روى ان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم لما أتى بالقران معجزة و فيه القصص الماضية و الأخبارات قال:كفار قريش انا نقدر على مثل هذا و كان جماعة منهم يرجون في التجارات الى بلاد العجم فسمعوهم عن عنتر و امثاله،فكتبوا تلك القصص و عرّبوها و آتوا بها الى مكة ليعارضوا بها قصص القرآن فنزل قوله تعالى ذاما لهم وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ فقد كانوا يبذلون الأموال لمن ينقل اليهم قصة من تلك القصص الكاذبة ليفتنوا الناس عن متابعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن هذا القرآن ليس بإعجازه للقدرة على الأتيان بمثله،و أنى لهم ذلك و اما قولك اياك نستعين على طريق الحصر فأنت أكذب فيه من الأول لأنك اذا رجعت الى وجدانك و حالاتك ترى انك تستعين غيره في كل امورك،و تجعله سبحانه آخر من تستعين به فإنك اذا جبهت من عند المخلوقين و أيست من الأستعانة بهم بعد ما ألتمستها رجعت و قلت الحكم للّه نستعين باللّه و هذا احد معاني قول مولانا زين العابدين عليه السّلام في دعاء الصحيفة اللهم يا منتهى مطلب الحاجات و لو استعنت به اولا كفاك مهماتك و لم يحوجك الى أمثالك و نقل الثقاة ان محمود بن عمر الخوارزمي لما صنّف تفسيره الكشّاف حمله و أتى به الى الغزالي ليمده بالألطاف و الأنصاف فلما جلس عنده و نقل له سبب مجيئه اليه قال له الغزالي:كيف فسرت اياك نستعين فقال:قلت ان تقديم المفعول يفيد الأنحصار فقال:اذا انت من علماء القشر فرجع الخوارزمي نادما على ما فعل،و لو تأملّت بهذا الكذب الخفي لوجدته أضرّ بأحوالك من ذلك الكذب الجلي

ص:42

و ذلك ان هذا يمنعك من قبول الطاعات و من التأهل للقيام على بساط المناجاة و يورثك الحسرة و الندامة و يوردك المهالك يوم القيامة و لو انصفت من نفسك لعلمت انك لو واجهت واحدا من الناس و قلت له انا لا أتردد الا الى بيتك و لا لي صديق سواك مع علمك بأنه يعلم انك تردد الى كل احد اكثر من ترددك الى بيته و لك اصدقاء كثيرون سواه لكنت عند نفسك جلا من هذا الكذب الذي واجهت به صديقك تستحي ان تواجه به مرة اخرى بعد مضي زمان طويل،و انت هيهنا اذا كان اول النهار قلت اياك نستعين و ما مضى من النهار الا اقله حتى جاء وقت الظهر فقمت بين يديه و قلت اياك نستعين و انت قبل ذلك القول و بين هذين القولين رجعت في مهماتك الى غيره و استعنت بعاجز مثلك على تمشيتها و ما علمت ان امورك كلها بيده سبحانه يمضيها على حسب ارادته و مشيته و من استعنت بهم فانّهم عباد مسخرون بتوفيقه تعالى لقضاء حوائجك ليس حالهم الاّ كحال قلم الكريم الذي كتب لك به النّوال و العطا،فشرعت تمدح القلم و تستعين به و تركت الإستعانة بذلك الرّجل الكريم،ما صدر هذا الاّ من جهل و قلّة تأمّل و قصر نظر في عميقات الأمور.

و في الحديث القدسي انّ الرجل اذا أعجلته الحاجة فخفّف من صلاته لتداركها قال:اللّه سبحانه و تعالى انظروا يا ملائكتي الى عبدي كيف خفّف صلاته ليتدلرك حوائجه أ يظن انّ قضاء حوائجه اليّ،و قد أوحى اللّه يا دنيا اخدمي من خدمني،و في الحديث انّ السّارق كلّ السّارق من سرق من صلاته،و ذلك بتخفيفها و حذف شيء من واجباتها،و قد دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسجد فرأى رجلا يصلي و يستعجل في صلاته فقال:نقر كنقر الغراب،لئن مات هذا الرجل ليموت على غير سنّتي.

و تفكّر ايضا بأنه اذا طلبك رجل من اخوانك لقضاء حاجة من الحاجات فقبلت التماسه، فأسرعت في الأتيان بها على الوجه الذي ارادها منك،ثمّ في أثناءها خطر على بالك انّ لي بعض الحوائج،فشرعت في تمام تلك الحاجة على غير الوجه الذي اراده منك و هو بمرئى منك و مسمع أما كان ذلك الصّديق يغضب منك و يعتب عليك،و يقول لك يا أخي هذه اللّحظة الواحدة ما كنّا نستحقها عندك و لو أرجعت الينا أغراضك و حوائجك لكنّا نقضيها لك أحسن من قضائك أنت لها،فقد فوّت حاجتك و حاجتنا،فأنت قد أغضبت صديقك و عطّلت حاجتك ما هذا الاّ سفه، و قلّة رشد.

نور يكشف عن الربا و احكامه و لواحقه

ص:43

اعلم وفقك اللّه تعالى انّ اللّه سبحانه قد رغّب في القرض و جعل ثوابه أزيد من ثواب التّصدّق،و ذلك انّ الروايات جاءت انّ الصّدقة الدّرهم منها بعشر،و درهم القرض ثمانية عشر، و ذلك انّ درهم القرض يرجع الى صاحبه فيقرضه مرة اخرى و يوسّع به على مؤمن آخر،و من هنا جاءت الآيات و الأخبار مؤكدة بتحريم الرّبا فقال سبحانه في سورة البقرة اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لاٰ يَقُومُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ و قال أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الرّبا سبعون جزء أيسرها مثل ان ينكح الرجل أمّه في بيت اللّه الحرام،يا علي درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام،و قال بلفظ آخر:للربا سبعون بابا أهونها عند اللّه كالذي ينكح امه،و قال عليه السّلام:كلّ رباء شرك،و قال عليه السّلام:كلّ ربوا اعظم عند اللّه تعالى من سبعين زنية كلّها بذات محرم،و قال عليه السّلام:لعن اللّه الربا و آكله و مؤكله و كاتبه و شاهديه،و قال امير المؤمنين عليه السّلام:معاشر الناس الفقه ثم المتجر،و الرّبا في هذه الدنيا أخفى من دبيب النّمل على الصفا و قال عليه السّلام:لم يتفقّه في دينه ثمّ اتّجر ارتطم في الربا ثم ارتطم،و هذا كله انّما جا من قبل طلب الأحسان و هو القرض،فيكون تحريم الربا سوطا يسوق الناس الى القرض و تعاطيه.

و قال الصادق عليه السّلام:الربا رباء ان رباء يؤكل،و رباء لا يؤكل،فأمّا الرباء الذي يؤكل فهديتك الى الرجل تطلب منه الثواب،أي الجزاء افضل منها،فذلك الرباء الذي يؤكل، و هو قوله تعالى وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ النّٰاسِ فَلاٰ يَرْبُوا عِنْدَ اللّٰهِ و اما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى اللّه تعالى عنه،و أوعد عليه النار،و قد تعارف عند بعض الناس لدفع الربا بعض الحيل الشرعيّة و لا بأس به لقوله عليه السّلام في جواب من سأل عن مثل هذا نعم الشيء الفرار من الحرام الى الحلال،خصوصا من مثل هذا الحرام الذي قال فيه عليه السّلام:لعن اللّه الربا و آكله، و مؤكله و كاتبه و شاهديه فشرّك بينهم في الأثم حسما لمادّة الفساد.

و اعلم ان الربا يجري في اكثر ما يحتاج اليه الأنسان من الغلاّت و الدّراهم و ما دخل تحت الكيل و الوزن و يكون على طريق التفاضل،و الزيادة الحكميّة عندهم كالزيادة العينيّة في التحريم، و قد استثنوا من هذا الحكم جواز ابتياع درهم بدرهم مع اشتراط صياغة خاتم استنادا الى ما رواه الشيخ،عن ابي الصبّاح قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يقول للصّائغ صغ لي هذا الخاتم،و أبدل لك درهما طازجا بدرهم غلة،قال:لا بأس،و قد عمل بها الشيخ(ره)البيع المذكور و عدّاها الى اشتراط غير الخاتم،و كذلك ابن ادريس الاّ انّه نظر الى انّ الصياغة ليست زيادة عينيّة و الممتنع في الرّبا هي خاصّة،قال:شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه و أجود ما نزلت عليه الرّواية انّها تضمنت ابدال درهم طازج بدرهم غلة مع شرط الصّياغة من جانب الغلّة،و مع ذلك

ص:44

لا يتحقق الزيادة لأنّ الطّازج على ما ذكره بعض أهل اللّغة و الفقهاء الدّرهم الخالص و الغلّة غيره و هي المغشوش،و قد يطلق على المكسرة و لكن هنا يتم مع التفسير الأول لأنّ الزيادة الحكميّة مع المغشوش و هي تقابل بما زاد في المغشوش،هذا كلامه(ره)و قد تكلّمنا على ايضاح معنى هذا الحديث و على كلام اصحابنا هذا في شرحنا على تهذيب الحديث بما لا مزيد عليه،و لنقتصر هنا على بعضه فنقول.

انّ هذه الرّواية لا تصلح سندا لما قالوه من الحكم الجزئي المخرج عن القاعدة الكليّة بل القاعدة على حالها من تحريم الزيادة الحكمية مطلقا،و ذلك لوجوه:الأول انّ ظاهر هذا الخبر كون مثل هذا قد وقع بلفظ التبديل و هو نوع مراضاة يتعاطاه الناس في معاملاتهم و محاوراتهم فليس هو بيعا حتى يجوز فيه مثل هذا.

الثاني ان قوله ابدل لك درهما طازجا بدرهم غلة ظاهر في انّ الدّرهم الطّازج انّما هو من مال الصّائغ و الدّرهم الغلة من مال الرّجل الذي يقول،و هذا كما يقال في العرف اكتب لي هذا الكتاب و أبدل لك كتاب الشرائع بكتاب الأرشاد،فانّه صريح في انّ كتاب الشرائع انما هو من مال الكاتب لا من مال القائل،و كتاب الأرشاد من مال القائل،و حينئذ فدرهم الغلة انّما هو الدّرهم العتيق المكسر لكنّه بالوزن يزيد على الدّرهم الطازج الذي هو معرب تازة كما هو المتعارف في هذه الأعصار و غيرها على تجديد الدّراهم او تغييرها عن هيئتها الأولى،و حينئذ فتفاوت الدّراهم الطّازج و هو كونه جديد الضرب رائجا في المعاملات مرغوبا اليه يقابل تلك الزيادة العينية التي في الدّرهم العتيق الذي هو درهم الغلة،فتكون الزيادة العينية بإزاء الزّيادة الحكميّة و الدّرهم مقابل الدّرهم فلا تفال بينهما.

الثالث ان المعهود المتعارف هو انّ الدّرهم الجديد انّما هو عند الصائغ لا عند غيره فهو يريد ان يبدله بذلك الدّرهم الثقيل الوزن،و يوضح هذا المعنى ان الشيخ(ره)في التهذيب قد روى خبرا قبل هذا من الصّحيح،عن الحلبي قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يستقرض الدّراهم البيض عددا ثمّ سودا وزنا،و قد عرف انّها أثقل ممّا أخذ،و تطيب نفسه ان يجعل فضلها له،فقال:لا بأس اذا لم يكن قد شرط له،لو وهب له كلّها صلح له،فانّ الظاهر انّ المراد بالدّراهم البيض هي الجديدة الطّازجية و السّود هي الغلّة المقابلة لها،و قد صرّح بأن السود أثقل وزنا منها و انّها تعطى بدل القرض لأجل مقابلة الأحسان بالإحسان.

نور يكشف عن الكفر و عن حقيقة الشرك و اقسامه و توابعه المتعلقة به

ص:45

اعلم ان الكفر في اللغة هو الستر و منه قيل للليل كافر لأنّه يستر ما أظهره نور النهار،و قيل للكافر لأنه ستر ما أنعم اللّه تعالى عليه من المعارف الإلهيّه و الأنوار الرّبانيّة و النعم الجليّة و الخفيّة، و اما في اصطلاح فقهائنا رضوان اللّه عليهم فالكافر من جحد ما علم من دين الأسلام ضرورة، كمن انكر الصلاة او الصوم و الحج و نحوها أمّا من انكر ما علم من دين الشّيعة بالضرورة لا من دين الأسلام كتقديم امير المؤمنين عليه السّلام بالخلافة و الفضيلة و تكفير من تخلّف محلّه فهو ليس بمؤمن لكنّه لا يخرج عندهم ن الأسلام الذي عليه المناكحات و الطّهارات و إحقان الدماء و الأموال، و أما في اصطلاح أهل البيت عليه السّلام فالكفر يطلق على امور.

روى الكليني طاب ثراه عن الزّبري عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:قلت أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ،قال:الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ على مسة اوجه فمنها كفر الجحود،و الجحود على وجهين،فالكفر بترك ما أمر اللّه تعالى،و كفر البراءة و كفر النعم،فامّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية،و هو قول من يقول لا ربّ و لا جنّة و لا نار،و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدّهرية،و هم الذين يقولون و ما يهلكنا الا الدهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالأستحسان منهم على غير تثبت و لا تحقيق لشيء ممّا يقولون،قال اللّه إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ انّ ذلك كما يقولون،و قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ يعني بتوحيد اللّه فهذا احد وجوه الكفر،و اما الوجه الآخر من الجحود على معرفته فيه فهو ان يجحد الجاحد و هو يعلم انّه حقّ قد استقرّ(استيقن)عنده و قد قال اللّه وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا و قال اللّه عز و جل و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جائهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين فهذا تفسير وجهي الجحود.

و الوجه الثالث من الكفر كفر النعمة و ذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ،وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ و قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ و قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لاٰ تَكْفُرُونِ .

الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه تعالى و هو قول اللّه تعالى وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ لاٰ تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ وَ لاٰ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ،ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيٰارِهِمْ تَظٰاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ ،وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ تُفٰادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فكفرهم بترك ما أمر اللّه به و نسبهم الى الأيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم

ص:46

عنده،قال فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ إِلاّٰ خِزْيٌ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذٰابِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ .

و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة،و ذلك قوله تعالى يحكي قول ابراهيم كَفَرْنٰا بِكُمْ وَ بَدٰا بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةُ وَ الْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ يعني تبرّأنا منكم،و قال يذكر ابليس و تبرّئه من أوليائه الأنس يوم القيامة انّي كفرت بما أشركتموني من قبل،و قال انما اتخذتم من دون اللّه اوثانا مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا،يعني يتبرأ بعضكم من بعض،اذا عرفت هذا ظهر لك معنى الكفر الواقع في الأخبار على فعل بعض المحرمات و ترك بعض الواجبات،مثل ما ورد انّ تارك الحج كافر،و تارك الصلاة كافر، و مرتكب الغيبة كافر و تارك الزكاة كافر الى غير ذلك،و كلّها داخلة تحت هذه الأفراد المذكورة للكفر،فلا تظن انّ الكفر له معنى واحد حتى يشكل عليك الأمر بتلك الأطلاقات كما أشكل على بعض الأعلام،فتقصى بحمل الترك على الترك من وجه الأستحلال و ظاهر كثير من الأخبار يأباه.

و اما الشرك فهو على ثلاثة أقسام شرك جلي،و شرك خفي،و شرك أخفى،امّا الشّرك الجلي فهو ما ذهب اليه أهل الأوثان و عبّاد الأصنام أو الشمس و القمر و شيء من المخلوقات حيث عبدوها و سمّوها آلهة،و قالوا في العلّة التي من أجلها ردّوا كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الأمر بالتوحيد أجعل الألهة الها واحدا انّ هذا لشيء عجاب،ثمّ قالوا ما نعبدهم الاّ ليقربونا الى اللّه زلفا،فهم لم ينكروا الصّانع لكن لم يوحدوه،فهؤلاء و ما يعبدون حصب جهنّم و حطبها، و قال تعالى فَاتَّقُوا النّٰارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ فقيل المراد بالحجارة الأصنام التي كانوا ينحتونها من الأحجار،كقوله عليه السّلام المرء من أحبّ،و لو انّ أحدا أحب حجرا حشره اللّه معه،فهم محشرون مع تلك الأحجار كما جا في الرواية،و في رواية أخرى انّ المراد بالحجارة هنا جبال من كبريت لا ضوء لنارها،و انّما هو دخان اسود فيه رائحة الكبريت،و في الحديث انّه يخرج كلّ واحد من زبانية جهنم و على عاتقه جبل من كبريت فيأتي المحشر و يسوق جماعة من العصاة امامه،فاذا قارب بهم شفير جهنّم و ما هم فيها و رمى ذلك الجبل فوقهم حتّى تتوقد النار عليهم من فوقهم و من تحت ارجلهم.

و امّا أوّل من وضع الأصنام و عبادتها فروي انّ اولاد أوصياء ادريس عليه السّلام قد كان اهل زمانهم يحبّونهم حبّا شديدا،فلمّا ما تواشق ذلك على قومهم فجاءهم ابليس لعنه اللّه تعالى فقال اتّخذ لكم اصناما على صورهم فتنظرون اليهم و تأنسون بهم و تعبدون اللّه،فأعدّ لهم أصناما على مثالهم،فكانوا يعبدون اللّه عز و جل و ينظرون الى تلك الأصنام فلما جاء الشتاء و الأمطار

ص:47

ادخلوا الأصنام البيوت فلم يزالوا يعبدون اللّه عز و جل حتّى هلك القرن و نشأ أولادهم،فأتى الشيطان اليهم و قال لهم انّ آباءكم كانوا يعبدون هذه الأصنام،فعبدوها من دون اللّه عزّ و جلّ فذلك قول اللّه تبارك و تعالى وَ لاٰ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاٰ سُوٰاعاً الآية.

و امّا عبادة النيران فقال الصادق عليه السّلام:انّ قابيل لمّا رأى النّار قد قبلت قربان هابيل قال له ابليس:انّ هابيل كان يعبد النار،فقال قابيل:لا أعبد النّار التي عبدها هابيل و لكن اعبد نارا أخرى و أقرّب قربانا لها فتقبل قرباني،فبنى بيت النار فقرّب لها القربان و لم يكن له علم بربه عزّ و جلّ و لم يرث منه ولده الاّ عبادة النيران و امّا الشمس و القمر ففي الرّوايات انّه يؤتى بهما في عرصات القيامة كثورين عقورين فيأمر اللّه بهما حتّى يرميا في النّار لمكان عبادة النّاس لهما.

و اما الشرك الخفي فقد تقدم في الريا تحقيقه و انّ من جملة افراده الرّيا،و ذلك انّك شرّكت غير اللّه معه في عبادتك فهذا هو معنى الشرك بعينه بل هو اخس منه،و ذلك أنّ أهل عبادة الأصنام قد عبدوا أمورا موجودة و أعيانا حاضرة أمامهم،و امّا انت في حال الريا فقد عبدت امورا موهومة تخيلتها في قوتك الوهمية،و هو انّي اذا أطلت الصلاة في حضور فلان فربّما اثنى عليّ و ربّما اوصلني احسانه،و في غالب الأوقات انّه لا يحصل له ما تخيّله فلا يبقى له سوى تعب القوة المتخيّلة و القوة الوهمية فاذن اهل عبادة الأصنام أعلم منك و أفهم،و ايضا فأن أهل الأصنام قد أتوا الى ملّة و دين وجدوا عليها آباءهم قد استحسنوها و زيّن لهم الشيطان أعمالهم حتّى انّهم كانوا يعجبون من خلاف الأشراك كما سمعت في قوله تعالى أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عُجٰابٌ فهم يتعجبون منّا كيف نعبد الها واحدا و نترك الألهة المتعددة.

و بالجملة فهم يعبدون ما ثبت عندهم استحقاقه للعبادة أخذا من أسلافهم،و اما أنت ايّها المرائي فقد نشوت على فطرة التوحيد و سمعت من آبائك انّه لا يجوز ان يشرك مع اللّه غيره في العبادة و فهمت هذا المعنى و اعتقدت حرمته و مع هذا أقبلت عليه بكلّلك و صرفت اليه مجامع لبك، فأهل عبادة الأصنام جهّال و أنت أجهل منهم،حيث انهم عبدوا ما استحسنوا و انت عبدت ما أستقبحته و ايضا فإنّ أهل الأصنام انّما عبد كل جماعة منهم صنما واحدا،كما روى انّه كان في أعصار الجاهلية لكل قبيلة صنم يعبدونه و قد كان معلّقة في الكعبة مثل ودّ و سواع و يغوث و يعوق و نسر،فهم يحبون ذلك الصنم و يعظّمونه و لا يعظمون صنما غيره،حتى انه نقل من محبتهم لها الأعاجيب الغريبة و الحكايات العجيبة،كما روي ان أهل الهند اتّخذوا بيت صنم و وضعوا في سقفه و فرشه و جدرانه الأربعة حجر المغناطيس،و وضعوا فيما بينهن صنما من حديد،فبقي معلقا بينهنّ لتجاذبهنّ له و كثر في أهل الهند محبّوه و عاشقوه،و كان يفتح لهم بابه في كل سنة مرة فيزدحمون اليه و يطلون أجسادهم بالشّمع من القرن الى القدم،فيجيء أحدهم و يجعل بين يديه

ص:48

شمع موقد بالنار و الناس في النّظارة فعند رؤية الصنم توقد النّار على رأسه فيحترق بالتدريج من قرنه الى قدمه و هو يصبر على عشق الصّنم فيقتسم الناس رماده صرّة للتبرك،لصدقه في دعوى محبّة الصنم،و يعلمون الكاذب بفراره و عدم صبره على النار في سبيله فيقتلونه.

و ايضا قد نقل لنا متواترا في هذه الأعصار انّ جماعة من أهل الهند ممّن يعبد النار اذا مات الرجل منهم أحرقوه في النار،و عمدوا الى زوجته و زيّنوها و حلّوها بأنواع الحلي و الحلل و أتى بها أهلها و قومها الى تلك النار فرمت بنفسها في تلك النار حتى لا تبقى بعد زوجها،و ان خافت من تلك النار قال أهلها:انّها ارتدت عن الدين و خافت من المعبود الذي هو النار، فيحللونها على المسلمين و كل من حضر من المسلمين يأخذها منهم،فهم يحبون النار هكذا و امّا انت ايّها المرائي ففي يومك الواحد بل ساعتك الواحدة تعبد الجماعات المتكثرة،و ذلك ان كل من توهمت في جانبه جلب نفع او دفع ضرر او ثناء او توقير عكفت على اشراكه مع اللّه تعالى في العبادة(و انت خ ل)ككثير غرّة يعشق كل جميلة يراها او يسمع بها حتى عاب الشعراء و أهل العشق عليه ذلك فقالوا كثير ما هذا التقلّب في الهوى.

و بالجملة فأهل الأصنام في عبادتها اوثق منك و أثبت قدما فاعتبروا يا أولي الأبصار و ايضا فإن أهل الأصنام انّما عبدوا آلهة و لم يستحيوا من اظهار عبادتها بل يفرحون باظهارها و اما انت فلو قيل لك أشركت في عبادة ربك زيدا او عمر و احلفت و أقسمت و برأت نفسك ممّا نسب اليك، فأنت تعبد من لا تحب الأنتساب اليه و هم يعبدون من يمتدحون بالإنتساب اليه،فمعبودهم على هذا أحسن من معبودك،و ايضا انك قد عرفت انّ اهل الأصنام انّما يعبدونها لا لأنها النّافعة الضّارة بل لأنها تقرّبهم الى اللّه تعالى الذي هو النافع الحقيقي و انت ايّها المرائي قد عبدت غير اللّه سبحانه بزعمك انّه النافع و المعطي و لا يخاطر ببالك حالة الريا الا قصر ما طلبته من الحالات عليه، فمن هذا ايضا صار عبّاد الأصنام أفهم منك و أكثر شعورا.

و اما الشرك الأخفى فهو امور:منها ان تغيّر شيئا بالإعتقاد عمّا هو عليه و ذلك انّك قد عرفت انّ اللّه سبحانه قد وضع كلّ شيء في محله و مقرّه فمن أتى يغير شيئا و ان كان حقيرا كان مشركا،و هذا معنى ما رواه بريد العجلي عن ابي جعفر عليه السّلام قال:سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا،قال:فقال:من قال للنواة أنّها حصاة و للحصاة انّها نواة ثم دان به،قال شيخنا البهائي رحمه اللّه تعالى:لعل مراده عليه السّلام من اعتقد شيئا من الدين و لم يكن كذلك في الواقع فهو ادنى الشّرك و لو كان مثل اعتقاد انّ النّواة حصاة و انّ الحصاة نواة ثم دان به،و قد دخل ابو حنيفة و اضرابه من فقائهم تحت هذا النّوع من شرك على ما عرفت من انه يقول علي(كذا)و أنا أقول(كذا)لكن هذا من أفراد الشرك الجلي الاّ انّه لمّا خفي حاله على اكثر النّاس

ص:49

ادرجناه تحت الشّرك الأخفى و الخفي،و يدخل تحت هذا ايضا من كذب متعمدا في الأحكام الشرعية مثل علماء السوء و محدثيهم الذين أكثروا الكذب على اللّه و رسوله فهم مشركون ايضا، و كذلك من كذب من علماء الشيعة في المسائل الشرعيّة و تكلم بلا وقوف و لا تثبت و انّما توهّمه او تعمده لئلا يقال انّه جاهل،و كذلك من أفتى الناس و ليس هو بأهل الفتوى فانّه و الحال هذا قد نهي عن الخوض في الفتاوي،فاذا أفتى فقد أشرك من حيث لا يشعر،و من هنا صار الشرك دقيقا جدا.

و منها الطّاعة فانّك قد علمت انّ الذي يجب طاعته هو اللّه سبحانه او من امر بطاعته مثل حججه عليهم السّلام فمن أطاع غير من فرض اللّه طاعته فقد صار مشركا لأنّه باللّه الا و هم مشركون قال:يطيع الشّيطان من حيث لا يعلم فيشرك،و قد دخل تحت هذا الفرد من الأشراك سائر مخالفينا من العامّة و غيرهم،و ذلك لأنّهم ألزموا أنفسهم طاعة الطّواغيت و الجوابيت و من امر اللّه ان يكفروا به،فقد صاروا شركاء اللّه حيث اوجبوا ما لم يوجب و اشركوا فيه ايضا من جهة انّ من أوجب طاعته لم يوجبوها هم،و من هنا روى عميرة عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:سمعته يقول أمر الناس بمعرفتنا و الردّ الينا و التّسليم لنا،ثمّ قال:و ان صاموا و صلّوا و شهدوا ان لا اله الا اللّه و جعلوا في انفسهم ان لا يردّوا الينا كانوا بذلك من المشركين.

و منها المعارضة و الأنكار على الحكم الألهيّة كما يصدر من عوام الناس كثيرا إمّا باللّسان أو بالقلب،و اليه الأشارة بقوله عليه السّلام لو انّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و حجوا البيت و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه اللّه او صنعه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الا صنع خلاف الذي صنع،أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين،ثم تلا هذه الآية فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً و حينئذ فما يقول جهّال الناس و عوامهم لو انّ اللّه أغناني لكان هو الأحسن او لو انّ اللّه فعل بزيد كذا و كذا لكان هو الأصلح و نحو ذلك من العبارات المشتملة بظاهرها على الأعتراض من باب الشرك و أحد أنواعه:فان اسباب المحبة.

و منها الأشراك معه في المحبة كما سيأتي انشاء اللّه تعالى كلّها راجعة اليه فيجب ان يكون هو المحبوب لا غير و لا يكون في القلب غيره و هو بيته و منزله كما سمعت في الحديث القدسي.

من قوله لم تسعن ارضي و لا سمائي و لا كرسييّ و انّما وسعني قلب عبدي المؤمن فلا يكون في هذا البيت الاّ هو او من انتسب اليه و هو من أمر بودادهم مثل الأئمّة الطاهرين و العلماء و أولاد الرجل و أقاربه ممّن أمر سبحانه بعطفهم و الميل اليهم فمحبّة هؤلاء راجعة الى حبّه سبحانه كما جاء في الحديث،امّا اذا تجاوز القدر المأمور به صار شركا و من هذا جاء في الكتب ان

ص:50

اللّه سبحانه انّما غيّب الصّديق عن ابيه يعقوب لمكان افراطه في حبّه حتى انّه اذا ادخل البيت غير صاحبه و قد سأل الصادق عليه السّلام عن العشق فقال تلك قلوب خلت من محبّة اللّه فأذاقها اللّه حلاوة غيره.

و بالجملة فالإفراط في المحبّة على القدر المأمور به يكون شركا لأنّه قد أشرك مع اللّه غيره في الحب و الوداد من هنا جاء الأمر منه سبحانه بخلع حبّ الدنيا عن القلب و قد جاء في الرواية في قول ابراهيم عليه السّلام ربّ أرني كيف تحيي الموتى الآية انّ اللّه عزّ و جلّ امر ابراهيم ان يزور عبدا من عباده الصالحين فزاره فلمّا كلّمه قال له:انّ للّه تعالى في الدنيا عبدا يقال له ابراهيم اتّخذه خليلا فقال ابراهيم و ما علامة ذلك العبد؟قال:يحيي له الموتى،قال:او لم تؤمن؟قال:بلى و لكن ليطمئن قلبي على الخلّة،و يقال انّه اراد ان يكون له في ذلك معجزة كما كانت للرّسل و انّ ابراهيم سأل ربه عزّ و جلّ ان يحيي له الميّت فأمره اللّه عزّ و جلّ ان يميت لأجله الحي سواء بسواء و هو انّه امره بذبح ابنه اسماعيل و انّ اللّه عزّ و جلّ امر ابراهيم بذبح أربعة من الطير:طاووسا و نسرا و ديكا و بطّا،فالطّاووس يريد به زينة الدّنيا،و النّسر يريد به الأمل الطّويل،و البطّ يريد به الحرص،و الدّيك يريد به الشهوة و يقول عزّ و جل ان اردت ان يحيي قلب و تطمئن معي فأخرج عن هذه الأشياء الأربعة فإذا كانت هذه الأشياء في قلب فإنّه لا يطمئن معي،و روي عن العالم عليه السّلام في تفسير قوله تعالى فاخلع نعليك انّك بالواد المقدّس انّ المراد انزع حبّ قلبك عن أهلك فإنّ الزوجة تشبه بالنّعل و النّعل الآخر هم الأولاد فقد أمر حالة اللّقاء(لقائه خ ل)مع المحبوب الحقيقي بخلع ما سواه من الأحباب،و أمّا ايضاح هذه الطّيور الأربعة.

فاعلم انّ الطّاووس طائر معروف و هو يحبّ الزهو بنفسه و الخيلاء و الإعجاب بريشه و عقدة لذنبه كالطّاق لا سيّما اذا كانت الأنثى ناظرة اليه و قيل أعجب الأمور انّه مع حسنه يتشأم به و قيل انّ السبب فيه انّه ادخل ابليس الى الجنّة فأخرج آدم منها فصار سببا لخلو الدّار من أهلها فلذاكره النّاس اقامته في الدّور.

و روي ان آدم عليه السّلام لمّا غرس الكرمة جاء ابليس فذبح عليها طاووسا فشربت دمه فلمّا طلعت اوراقها ذبح عليها قردا فربت دمه،فلمّا طلعت ثمرتها ذبح عليها اسد فشربت دمه، فلمّا انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيرا فشربت دمه فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة،و ذلك انّه اول ما يشربها و تدب في أعضائه يزهو لونه و يحسن كما يحسن الطّاووس و اذا جاء مبادىء السكر لعب و صفق و رقص كما يفعل القرد،و اذا قوي سكره جاء بصفة الأسد فيعبث و يهتزي بما لا فائدة فيه ثم ينقعص كما ينقعص الخنزير و يطلب النوم و يخل عزم قوته،و امّا النّسر فهو من أطول الطّير عمرا يقال انّه يعمر ألف سنة و سمّي نسرا لأنّه ينسر الشيء و يبتلعه.

ص:51

و عن الحسن عليه السّلام انّه يقول في صياحه عش ما شئت فإنّ الموت ملاقيك و زعم قوم انّ الأنثى من هذا الصّنف تبيض من نظر الذكر اليها و هي لا تحضن و انّما تبيض في الأماكن العالية الضاحية للشمس فيقوم حرّ الشّمس للبيض مقام الحضن و هو حاد البصر يرى الجيفة من أربعائة فرسخ و كذلك حاسّة شمّه لكن قيل انّه اذا شمّ الطيب مات لوقته و ليس في سباع الطّير اكبر جثة منه و مع هذا قالوا انّه اقواها جناحا حتى انه يطير ما بين المشرق و المغرب في يوم واحد اذا وقع على الجيفة و عليها عقيان تأخّرن عنه و كل الجوارحه تخافه،و اذا وقع على الجيفة و أكل منها امتلأ و لم يستطع الطّيران ختّى يثب و ثبات يرفع بها نفسه طبقة في الهوى حتى يدخل تحت الرّيح و ربّما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة،و هو اشدّ الطّير حزنا على فراق الفه و اذا فارق احدهما الآخر مات حزنا و كمدا و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ النّسر سيّد الطيور،و من هذا ذكروا في خواصه انّ من حمل معه قلب النّسر كان محبوبا و مهابا مقضي الحاجة عند السّلطان و غيره و لا يضره سبع ابدا.

و امّا البط و حرصه على الماء و على إلتقاط الحبّ اينما كان فهو ظاهر مشهور و امّا الدّيك و شهوته خصوصا للجماع فظاهر و ذلك انّه ربّما كان في المحلة الواسعة الثيرة الدّجاج ديك فيكفي لكل تلك الدجاج،و من خصاله الحميدة انّه لا يؤثر واحدة على واحدة و قد أمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يتعلم الناس من الدّيك خصالا:الشجاعة و الغيرة و الكرم و كثرة الجماع و يعجبني نقل كلام ذكره شيخنا الشيخ بهاء الدين قدس اللّه روحه و هو انّ النفس الأنسانية واقعة بين القوة الشهوانية و القوة العاقلة فبالأولى تحرصعلى تناول اللّذات البدنيّة البهيميّة كالغذاء و السّفاد و الّغالب و سائر اللّذات العاجلة الفانية و بالأخرى تحرص على تناول العلوم الحقيقية و الخصال الحميدة المؤديّة الى السعادات الباقية الأبدية و الى هاتين القوتين اشار سبحانه بقوله و هديناه النّجدين،و بقوله تعالى إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً فان جعلت الشّهوة منقادة للعقل فقد فزت فوزا عظيما و أهتديت صراطا مستقيما و ان سلّطت الشّهوة على العقل و جعلته منقادا لها ساعيا في استنباط الحيل المؤديّة الى مراداتها هلكت يقينا و خسرت خسرانا مبينا،و اعلم انّك نسخة مختصرة من العالم فيك بسائطه و مركباته و مادياته و مجرّداته بل انت العالم الكبير بل الأكبر كما قال أمير المؤمنين و سيّد الموحدين عليه الصلاة و السّلام:

دوائك فيك و ما تبصر و داؤك منك و ما تشعر

و تزعم انّك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر

و انت الكتاب المبين الذي بأسطاره يظهر المضمر

ص:52

و ما من شيء الاّ و انت تشبهه من وجه لكنّ الغالب عليك اربعة اوصاف:الملكية و السبعية و البهيميّة و الشّيطانية فمن حيث الملكي تتعاطى أفعال الملائكة من عبادة اللّه سبحانه و تعالى و طاعته و التّفرب اليه و من حيث الغضب(السبعيّة خ)تتعاطى أفعال السبّاع من العداوة و البغضاء و الهجوم على النّاس بالضّرب و الشّتم،و من حيث الشّهوة تتعاطى أفعال البهائم من الشّره و الشبق و الحرص و من حيث الشّيطانية تتعاطى افعال الشّياطين فتستنبط وجوه الشّر و تتوصل الى الأغراض بالمكر و الحيل فكان المجتمع في اهابك ايّها الأنسان ملك و كلب و خنزير و شيطان فالملك هو العبادة و الكلب هو الغضب و الخنزير هو الشهوة و الشيطان هو المكر و الحيل، فان اشتغلت بجهاد هذه الثلاثة بالبصيرة النّافذة و كسرت شرّه هذه الخنزير بتسلّط الكلب عليه اذ بالغضب تنكسر سورة الشهوة و اذللت الكلب بتسليط الخنزير و جعلت الكل في مملكة العدل مقهورين تحت السياسة اعتدل الأمر و ظهر العدل في مملكة البدن و جرى الكل على الصراط المستقيم،و ان لم تجاهدهم قهروك و استخدموك فلا تزال في استنباط الحيل و تدقيق الفكر في تحصيل مطلوبات الخنزير و مرادات الكلب فتكون دائما في عبادة كلب و خنزير.

و هذا حال أكثر النّاس الذين همّتهم مصروفة الى البطن و الفرج و مناقشة الخلق و معاداتهم و العجب منك انّك تنكر على عبّاد الأصنام عبادتهم لها و لو كشف الغطا عنك و كوشفت بحقيقة حالك و مثّل لك ما يمثل للمكاشفين امّا في النوم او في اليقظة لرأيت نفسك قائما بين يدي خنزير مشمرا ذيلك في خدمتك ساجدا له مرة و راكعا له أخرى منتظرا لإشارته و أمره فمهما طلب الخنزير شيئا من شهواته توجهت على الفور الى تحصيل مطلوبه و احضار مشتهياته و لأبصرت نفسك جائيا بين يدي كلب عقور عابدا له مطيعا لما يلتمسه مدققا للفكر في الحيل الموصلة الى طاعته و انت بذلك ساع فيما يرضى الشيطان و يسره فانّه هو الذي يهيّج الكلب و الخنزير و يبعثهما على استخدامك،فأنت من هذا الوجه عابد للّشيطان و جنوده و مندرج في المخاطبين المعاتبين يوم القيامة بقوله أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا الشَّيْطٰانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

فليراقب كل عبد حركاته و سكناته و سكوته و نطقه و قيامه و قعوده لئلا يكون ساعيا طول عمره في عبادة هؤلاء،فهذا غاية الظّلم حيث صيّر المالك مملوكا و السيّد عبدا و الرئيس مرؤسا،اذا العقل هو المستحق للسّيادة و الرئاسة و الأستيلاء و هو قد سخّره لخدمة هؤلاء و سلّطهم عليه و حكمهم فيه،قال بعض المفسرين عند قوله تعالى وَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قد سخّر لك الكون و ما فيه لئلا يسخر منك شيء و تكون مسخّرا لمن سخّر لك الكل فان جعلت نفسك مسخّرة لما في الكون في الكون اسيرة للذّات الفانية

ص:53

فقد جهلت فضل اللّه لديك و كفرت نعمته عليك اذ خلقك عبدا لنفسه حرا من الكل فاستعبدك الكلّ و لم تشتغل بعبودية الحق بحال انتهى و ما أحسن قول رابعة العدوية:

لك ألف معبود مطاع أمره دون الأله و تدّعى التوحيدا

و من افراد الشرك قول الناس فيما تعارف بينهم لو لا فلان هذه السّنة او هذا الشّهر لمت انا و أولادي او لم أعش الى هذا الوقت و نحو ذلك ممّا يؤدي معناه،و ذلك انّ هذا قول من غفل عن اللّه سبحانه و عن كونه هو الرّزاق و انّه هو الذي سخّر ذلك الرجل و هيأ له الأسباب التي يتوصل بها الى احسانك فهو ليس الا كالالة في ايصال ذلك النفع اليك،فان اللّه تعالى لو لم يعطه مالا و لم يجعل في قلبه الشّفقة عليك و لم يأمره بصلة أمثالك لما رأيت منه شيئا من الإحسان و كذلك اذا لم يتكلّم بهذا الكلام لكنّه كان من عقيدته و ممّا ارتكز في خياله فانّه ايضا من الشّرك الأخفى لأنّ هذا الأعتقاد الفاسد منه ليس الاّ كإعتقاد من عظم الأوثان و خضع لها لأنها الّتي وصل النّفع اليه و تدفع الضرر عنه.

و بالجملة فأنواع الشرك و أفراده أكثر من ان تحصى و قوله سبحانه وَ لاٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً متناول لأنواع الشرك و افراده،فان قلت اذا كان كلّ ما ذكرت من الشرك لمنهي عنه لا ينفعك أحد منّا،ان التلبس بفرد من افراده اذا اعطيناه الأنصاف مع قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ فكيف حالنا عند الورود على اللّه و كيف نرجوا منه المغفرة مع ما أسمعنا من هذا الكلام و قطع آمالنا منه.

قلت و ان كان الحال على ما ذكرت من عدم الخلوّ من أحد أفراده لكن اللّه سبحانه قد جرت عادته الرّبانية بتوفيق المؤمن للتوبة من ذلك الذنب و النّدامة عليه و معرفته و لو بعد حين بأنّ المنعم الحقيقي ليس الا هو تعالى شأنه،و من ألطافه به عدم توفيق الناس في غالب الأوقات لقضاء حوائجه حتى يرجع الى اللّه عند الأياس منهم و يلجأ اليه و يندم على ما أشرك به في جنب اللّه و يعرف انّه ليس الملجأ الاّ اليه كما قال مولانا الأمام زين العابدين عليه السّلام يا كهفي حين تعييني المذاهب يعني به التّرددات الى الخلق و الذّهاب اليهم فإذا أعيت عليه الحيل و لم ينتفع بتلك التّرددات إعترف بهذا المعنى.

و في الحديث ان اللّه سبحانه يرمي عبده المؤمن بالنّعاس اذا أراد القيام للصلاة فيصبح و هو ماقت لنفسه زار عليها و هو من ألطاف اللّه سبحانه لئلا يعجب بعمله،و حينئذ فالنوم خير له من العبادة فهو سبحانه الّذي أنامه عن صلاة الليل لئلاّ يعجب بأعماله و هو الذي لم يوفّق الناس للإحسان اليه حتى يكون مأيوسا منهم فيرجع الى اللّه و يطلب ما طلب منه تعالى و يندم على الأقبال الّذي صدر منه على الناس فانظر هنا كيف صار منع الألطاف الطافا.

ص:54

نور يكشف عن عقوق الوالدين و عما توعد عليه من العذاب و ما يتبعه من قطيعة الرحم

اعلم ان اللّه تعالى قد أكثر في كتابه من الوصية بالوالدين حتّى انّه ذكره في سبع آيات.

الأولى قوله تعالى في سورة البقرة وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لاٰ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّٰهَ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ ذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً.

الثانية قوله تعالى في سورة النساء وَ اعْبُدُوا اللّٰهَ وَ لاٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.

الثالثة قوله سبحانه في سورة الأنعام قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.

الرابعة قوله تعالى في سورة بني اسرائيل وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً(23) وَ اخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً.

الخامسة قوله تعالى في سورة العنكبوت وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ لِتُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

السادسة قوله عز من قائل في سورة لقمان وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.

السابعة قوله تعالى في سورة الأحقاف وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً فانظر الى هذه الآيات كيف قرن فيها بين النهي عن الشّرك و بين النهي عن عقوق الوالدين اشارة الى انه في درجة الشرك في الخلود في العذاب،و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم:يقال للبار بوالديه اعمل ما شئت سأغفر لك و يقال للعاقّ لوالديه أعمل ما شئت فإنّي لا أغفر لك،و في هذا اشارة الى ان البرّ بالوالدين لا يضر معه سيئة فكل ما عمل من السّيئات تكفره تلك الحسنة و كذا في جانب العقوق فأنّ العاق كل ما عمل من خير لا ينفعه و هو متلبس بالعقوق لوالديه و ذلك انّه تعالى قرن رضاه برضاهما و عقوقه بعقوقهما،و في الحديث انّ ريح الجنة ليشم من مسيرة خمسمائة عام و لا يشمّه عاق الوالدين،و في وصاياه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام يا علي خلق اللّه عزّ و جلّ الجنّة من لبنتين لبنة من ذهب و لبنة من فضة و جعل حيطانها الياقوت و سقفها الزبرجد و حصاها اللّؤلو و ترابها الزعفران و المسك الأذفر ثمّ قال لها تكلّمي فقالت لا اله الا اللّه الحيّ القيوم قد سعد من يدخلني قال اللّه جل جلاله و عزتي و جلالي لا يدخلها مد من خمر و لا نمّام و لا ديّوث و لا شرطي و لا مخنّث و لا عشّار و لا قاطع رحم و لا قدريّ،و الشرطي

ص:55

منسوب الى الشّرط كصرد طائفة من اعوان الظالمين سمّوا بذلك لأنّهم علموا بعلامات يعرفون بها.

و قوله و لا عشّار المراد به من يأخذ العشر او أقل او أكثر من غير حقّ سواء أخذه في البلد او الصحراء،و قوله و لا قاطع رحم سيأتي تحقيق الرحم و لكن من أقرب الأرحام الوالدين،و قوله و لا قدري المراد به الأشاعرة الذين ذهبوا الى انّ كل الأفعال مقدورة له سبحانه و العبد ليس له قدرة على شيء.

و اعلم ان البر بالوالدين له فوائد في الدّنيا و الآخرة و العقوق يبطلها امّا الدنيا فمن فوائده انّه يؤخّر الأجل و يزيد في العمر،و العقوق يقرب الأجل و في الرواية انّه ربّما كان قد بقي من عمر الأنسان ثلاث سنين ثم انّه يحسن الى والديه و يصل ارحامه فيؤخره اللّه ثلاثين سنة و انّ منهم من يبقى من عمره ثلاثون سنة ثم انّه يقطع أرحامه او يعق والديه فيمحو اللّه سبحانه الثلاثين و يثبت مكانها ثلاث سنين و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأيت في المنام رجلا قد أتاه ملك الموت لقبض روحه فجاء برّه بوالديه فمنعه منه.

و قال الصادق عليه السّلام من احب ان يخفف اللّه عنه سكرات الموت فليكن بقرابته وصولا و بوالديه بارا فاذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكرات الموت و لم يصبه في حياته فقر أبدا، و في الرواية انّه دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على شاب و هو في سكرات الموت و قد تعسر عليه قبض الرّوح فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له يا فلان فأجابه فقال ما ترى قال أرى أسودين قد دخلا عليّ و هما واقفان امامي فأنا خائف منهما فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألهذا الشاب ام؟فقيل نعم فأتت أمه فقالت انا فقال لها أراضية أنت عن ابنك هذا ام ساخطة عليه؟فقالت بل أنا ساخطة عليه و الآن رضيت عنه لأجلك فغشي على الشاب فلمّا أفاق قال له ما رأيت قال رأيت يا رسول اللّه خرج الأسود و دخل عليّ ابيضان و انا فرحان برؤيتهما ثم انّه مات من ساعته.

و في حديث آخر انّ رجلا مات على عهده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لمّا دفنوه لفظته الأرض و لم تقبله فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ ام هذا الرجل ساخطة عليه فأمرها بالرضاء عنه حتى قبلته الأرض.

و روي عن العسكري عليه السّلام قال عاش نوح عليه السّلام ألفين و خمسمائة سنة و كان يوما في السّفينة نائما فهبّت ريح فكشفت عورته فضحك حام و يافث فزجرهما سام عليه السّلام و نهاهما عن الضّحك و كان كلّما غطّى سام شيئا تكفه الريح كشفه حام و يافث فانتبه نوح عليه السّلام فرآهم(هماط)و هم يضحكون،فقال ما هذا؟فأخبره سام بما كان فرفع نوح عليه السّلام يده الى السماء يدعو و يقول اللهم غير ماء صلب حام حتّى لا يولد له الا السّودان اللّهم غيّر ماء

ص:56

صلب يافث فغيّر اللّه ماء صلبيهما فجميع السّودان حيث كانوا من حام و جميع التّرك و الصّقالية و يأجوج و مأجوج و الصّين من يافث حيث كانوا و جميع البيض سواهم من سام و قال نوح عليه السّلام لحام و يافث جعل اللّه ذرّيتكما ملكا لذرية سام الى يوم القيمة لأنّه برّني و عققتماني فلا زالت سمة عقوقكما في ذريتكما ظاهرة و سمة البرّ في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا.

و اما فوائده في الآخرة و هي السّعادة كل السّعادة قال الصادق عليه السّلام بينا موسى بن عمران يناجي ربّه عزّ و جل اذ رأى رجلا تحت ظلّ عرش اللّه فقال يا رب من هذا الذي قد أظلّه عرشك؟فقال هذا كان بارا بوالديه و لم يمش بالنّميمة.

و أما العقوق فقال الصادق عليه السّلام ادنى العقوق اف و لو علم اللّه تعالى شيئا أهون منه لنهى عنه و قال عليه السّلام من نظر الى ابويه نظر ماقت و هما ظالمان له لم يقبل اللّه له صلاة و من العقوق ان ينظر الرجل الى والديه فيحدّ النّظر اليهما و قال عليه السّلام انّ ابي عليه السّلام نظر الى ابن يمشي متّكأ على ذراع الأب قال فما كلّمه ابي عليه السّلام مقتا له حتى فارق الدنيا و روي عنه عليه السّلام في قوله تعالى فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا قال ان أضجراك فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما ان ضرباك قال و قل لهما قولا كريما قال ان ضرباك فقل لهما غفر اللّه لكما فذلك منك قول كريم ثم قال و اخفض لهما جناح الذّل من الرّحمة قال لا تملأ عينيك من النّظر اليهما الاّ برحمة لهما و رأفة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يدك فوق ايديهما و لا تقدّم قدامها.

و روى محمّد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السّلام قال انّ العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما و لا يستغفر لهما فيكتبه اللّه عزّ و جلذ عاقا و انّه ليكون عاقا في حياتهما غير بار فاذا ماتا قضى دينهما و استغفر لهما فيكتبه اللّه عز و جل بارا و قال عليه السّلام ثلاثة لم يجعل اللّه عز و جل للعبد فيهن رخصة اداء الأمانة الى البر و الفاجر و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر و بر الوالدين برّين كانا او فاجرين،و عن الزهري قال كان علي بن الحسين عليه السّلام لا يأكل مع امه و كان ابرّ النّاس بامه فقيل له في ذلك؟فقال اخاف ان آكل معها فتسبق عينها الى شيء من الطعام و انا لا أعلم فآكله فأكون قد عققتها.

و روى الشيخ عن محمّد بن مسلم عن احدهما عليهما السّلام قال لمّا زوّج علي بن الحسين عليه السّلام امّه مولاه و تزّوج هو مولاته كتب اليه عبد الملك بن مروان كتابا يلومه فيه و يقول انك وضعت شرفك و حسبك،فكتب اليه علي بن الحسين عليه السّلام انّ اللّه تعالى رفع بالإسلام كلّ خسيسة و أتم به الناقصة و اذهب به اللّوم فلا لوم على مسلم و انّما اللّوم لوم الجاهليّة و امّا تزويج امّي فانّما أردت بذلك برها فلمّا انتهى الكتاب الى عبد الملك قال لقد صنع علي بن

ص:57

الحسين أمرين ما كان يصنعهما احد الا اتّضع الاّ علي بن الحسين عليه السّلام فانه بذلك ازداد شرفا.

فان قلت كيف يوطن الشيعي نفسه على انّ امّ علي بن الحسين عليه السّلام و هي شهربانو بنت يزدجرد ملك العجم بعد شهادة الحسين عليه السّلام تزوّجت بمولى من الموالي اما معتق او غير معتق و هل النفس تقبل مثل هذا و ان كان جائزا في الشريعة،قلت قد روى الصدرق نور اللّه ضريحه عن الرضا عليه السّلام انّ شهربانو امّ علي بن الحسين عليه السّلام قد ما تتفي نفاسها به و كانت للحسين عليه السّلام أمة مدخولة فسلّمه اليها و كانت هي التي تولّت تربيته و كان يقول لها امي و يحترمها ذاك الأحترام و هي التي زوجها مولاه و المراد به واحد من الشيعة و خواصّه لإطلاق المولى عليه ايضا.

و قد روى التصريح به في حديث آخر و في بعض الروايات انها ألقت نفسها في الفرات في وقت شهادة الحسين عليه السّلام خوفا من يزيد لأنّه كان يكره العجم،و قيل انّ علي بن الحسين عليه السّلام اركبها جملا في تلك الواقعة الهائلة و قال لها كوني على ظهره اين مضى فقيل انه مضى بها الى الري و الآن فيه بقعة يزورها الناس و يقولون هذا قبر امّ علي بن الحسين عليهما السّلام و لكن الاعتماد على ما روي عن الرضا عليه السّلام اذا عرفت هذا.

فاعلم ان حقوق الأم اعظم من حقوق الأب و لهذا أفردها سبحانه في الآيتين الأخيرتين بما به تستحق توقير التعظيم بقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ و بقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً و من هذا جاء في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال له رجل يا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتي؟قال امّك قال ثم من؟قال امّك قال ثم من قال ابوك ذكر الأم مرتين و في رواية اخرى ثلاثا قال بعض العلماء هذا يدل على انّ للأم ثلثي بر الابن على الرواية الأولى او ثلاثة ارباعه على الرواية الثانية و للأب امّا الثلث او الربع و ينبغي ان يحقق الأنسان انّه مهما بالغ في برّهما و خدمتهما فهو لا يكون قد أتى بحقهما.

كما روي ان رجلا أتى الى الصادق عليه السّلام فقال له انّي خدمت ابوي حتى كبر سنّهما فصرت اخدمهما كما تخدم الأطفال فهل اتيت بحقهما؟فقال عليه السّلام لا و ذلك انّهما خدماك و هما يحبّان بقاك و انت تخدمهما و تكره بقاءهما،و لكن روي عن سدير الصّيرفي قال قلت لأبي جعفر الباقر عليه السّلام هل يجزي الولد والده؟قال ليس له جزاء الا في خصلتين ان يكون الوالد مملوكا فيشتريه فيعتقه او يكون عليه دين فيقضيه عنه.

بقي الكلام في تحقيق الوالدين الذين ورد في تلك الآيات الأمر ببرّهما و طاعتهما فنقول انّ الذي ورد في الأخبار عنهم عليهم السّلام أطلاقهما على معان ثلاثة الأول ان المراد بالوالدين

ص:58

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علي عليه السّلام قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انا و علي ابوا هذه الأمة و نحن الولدان المأمور ببرّنا في آيات الكتاب و ذلك انّ الأبوين سببان في ايجاد الولد و اما هما عليهما السّلام فهما السببان الاعظمان كما قال تعالى في الحديث القدسي لولاك ما خلقت الافلاك فهما السببان في إيجاد العالمين فيكون مدخليتهما في وجود الابن أعظم من مدخلية الاب في وجود الابن و من هذا كان صلّى اللّه عليه و آله هو اب المؤمنين و زوجاته امهاتهم

و في الروايات الغربيه ان عليا عليه السّلام صعد على منبر الكوفة فقال الفاظا معناها ان المراد بالوالدين في قوله تعالى و بالوالدين احسانا انا و رسول اللّه،فقام رجل من أهل المسجد فقال له يا ابن ابي طالب سحرت اهل الحجاز و أتيت تسحر أهل العراق بتأويلك القرآن فرمقه عليه السّلام بطرفه فاذا هو قد صار غرابا ابقع فطار من بين القوم و وقع على حائطا لمسجد يزعق و الناس ينظرون اليه فقال بعضهم لبعض قد بلغ من سحر ابن ابي طالب انّه يمسخ الرجال و اللّه لئن لم تعاجلوه بالقتل لصنع بكم ما صنع بصاحبكم و كان عدة القوم ثلاثين ألفا،فتعاقدوا على انّه اذا جاء الى صلاة الجمعة و فرغ من الخطبة و نزل و سجد نبادر اليه بسيوفنا كلّها فنضربه بها حتّى لا يعرف له قاتل،فلمّا أتى يوم الجمعة تقلّدوا بسيوفهم و أتوا الى المسجد،فلمّا سجد في الركعة الأولى أقبض كلّ واحد منهم قائمة سيفه ليخرجهمن جفنه،فما أتى في ايديهم سوى قبضات السيوف،فلمّا فرغوا من الصلاة قام عليه السّلام و تخطّى القوم و أتى الى منزله،فنظروا و اذا سيوفهم ليس الاّ القبضة و الجفن و لم يروا حديدة السيف فتعجبوا.

و كان بعض مواليه عليه السّلام معهم،قال فأتيته عليه السّلام في بيته و حكيت له كيد القوم و تسويلهم و ما جرى عليهم من فقد سيوفهم،فقال لي عليه السّلام اذا كان غدا فتعال الينا اول النهار فأتيته في الغد،فقال لي اخرج الى ظهر الكوفة حتى تبلغ الى موضع كذا و كذا فاذا وصلت اليه ترى قافلة مقبلة يقدمها رجل على بغلة،فتقدّم عليه و قل له انّ امير المؤمنين عليه السّلام أرسلني اليك و هو يقول سلّم اليّ هذه القافلة و ارجع سالما،فلمّا بلغت الى ذلك الموضع رأيت ذلك الرجل يقدم القافلة فقلت له ما قال لي،فقال هذه القافلة خذها اليه و ارجع فأتيت بالقافلة اليه عليه السّلام فطرحت تلك الأحمال عنده و لم أدر ما فيها.

فقال عليه السّلام ادع فلانا يعني جماعة من شيعته و مواليه فدعوتهم فلمّا أتوا اليه قال اخرج ما في هذه الحمول،فلما خليتها فاذا حدايد السيوف،فعددتها فاذا هي ثلاثون ألفا،فقسمها بين مواليه و شيعته و خرجوا لبيعها في الاسواق و باعوا على اولئك القوم فعرفوها و أشتروها بأغلى ثمن،فأتيت اليه و قلت له يا امير المؤمنين ما هذه السيوف فقال هي سيوفهم،و ذلك انها لما

ص:59

ارادوا المكر أرسل اللّه اليهم ألفا من الملئكه فأخذ كل ملك بسيف واحد من القوم و جمعوها و أتوا بها مع ذلك الرجل الذي رأيته

هذا المناقب لا قعبان من لبن شيبت بماء فصارت بعد أبوالا

فاين هذا من الرجل العالم الذي يقول كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات تحت الحجال و صاحبه الذي يقول ان لي شيطانا يعتريني اذا ملت فعدلوني،و بالجمله فالابوان عليهما السّلام فمن برهما استحق ثواب الابرار،و من عقهما كان من أهل العقوق.

الثاني ان المراد بالأب من علّم الأنسان العلوم الدينية فانّه قد هداه و أنقذه من النار،فهو قد أحيا قلبه و نوّره بأنوار المعارف الألهية و قد قال تعالى وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا النّٰاسَ جَمِيعاً قال من أنقذها من ظلالة الى هدى،و هذا شأن المعلم فهو الأب الثاني لأنه كان سببا في حياته الباقية و الأب سبب في حياته الفانية،و حينئذ فيجب عليه ان يبره فان عقه بواحد من أنواع العقوق كان من أهل الذنوب و الآثام.

و كان في أصفهان رجل عالم من مجتهدينا رأيناه و قرأنا عليه و قد كان في أول تحصيله يقرأ عند مجتهد آخر فلما نشأ ذلك التلميذ أنكر قراءته على ذلك الشيخ،و لم يقرّ له بالفضل،فبلغ الأستاذ قوله فدعا عليه و قال اللهم اسلبه كل ما قرأ عندي و أخذه مني،فسلبه اللّه الحافظة بعد ما كان مشهورا بالحفظ فصار لا يحفظ مسئلة على خاطره،بل لا بدّ له في كل مسئلة من مراجعة كتبه و مؤلفاته و هو الآن موجود في اصفهان و نحن نحمد اللّه على توفيقه لنا لبرّ المشايخ و القيام بوظائف دمتهم و الأستغفار لهم أحياء و أمواتا و رضّاهم عنا.

و اما تلاميذنا فمنهم من آذانا غاية الإيذاء،و عقنا نهاية العقوق،فنحن نقول اللهم قابل اسائته الينا بالإحسان،و قابل عقوقه لنا ببرك به،و وفقه لكل خير بحق محمّد و آله الطّاهرين، و لا تستبعد ما جرى على ذلك الفاضل من سلب اللّه سبحانه ما منحه من المسائل فانه قد روي عنه عليه السّلام انّ العلم يهتف بالعمل فان اجابه و الا إرتحل عنه،و لا ريب ان البر للمعلم من أعظم الأعمال و أقواها،فحيث لم يقم به ارتحل عنه العلم ارتحالا بعيدا.

الثالث المراد بهما هذان الأبوان و ان علوا،فالجدّاب و ان علا و كذا الجّدة و كما يجب على الولد البر بوالديه فكذلك يجب على الوالدين البرّ بأولادهما،قال عليه السّلام يلزم الأباء من العقوق لأولادهم ما يلزم الأولاد من العقوق لأباءهم،و قال عليه السّلام لعن اللّه و الدين حملا ولدهما على عقوقهما،فينبغي للآباء أن يحسن الى الأولاد كما هو المشاهد في هذه الأعصار،و ممّا يتعلق بالأولاد من مسائل الفقه تأكيدا لحقوق الأبوين تحريم السفر المباح بغير إذنهما،و كذا السفر المندوب،و اما لو كان واجبا كالسفر لطلب العلم فان أمكن تحصيله عندهم كتحصيله في السفر فلا

ص:60

يجوز حينئذ الا بإذنهما،و ان لم يكن مطلقا،او أمكن على وجه ناقص جاز السفر مطلقا و المراد بالعلم الذي يجب له السفر الواجب علم الكلام و الفقه و الحديث و التّفسير أمّا غيره كحكمة الأبدان و حكمة الفلاسفة و النّجوم و نحوها فلا يجوز له السّفر الا بإذنهما.

و اما مقدمات العلوم الواجبة كعلم العربية و نحوه فالظّاهر جواز السّفر له ايضا بغير اذنهما كالعلم الواجب،و ذلك لأنّ علم النحو او نحوه قد صار جزء من العلم الواجب لشدّة توقّفه عليه، و انّ من كان لا اطلاع له على علوم العربية لم يحصّل العلوم الواجبة على وجه يكمل الأنتفاع بتحصيله،و منه ايضا ما قاله بعض الأعلام من انّه يجب طاعتهما في كل فعل و ان كان شبهة،فلو أمراه بالأكل معهما من مال يعتقده شبهة الأكل وجب له أكله فليؤخّر الصلاة و ليطعهما لما قلناه، و يجوز لهما منعه عن صلاة الجماعة و لكن لا مطلقا بل اذا شقّ عليهما مخالفته كالسّعي في ظلمة الليل الى العشاء و الصّبح،و كالسّعي في الأوقات الحارّة و الباردة.

و منه ايضا ما قاله جماعة من الأصحاب و هو انّهما لو دعواه في الصّلاة النافلة قطعها،لما صح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ امرأة نادت ابنها و هو في صومعة،فقالت يا جريح فقال اللّهم امي و صلاتي،فقالت لا تموت حتى تنظر في وجوه المؤمنات،و في بعض الروايات انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لو كان جريح فقيها لعلم انّ اجابة أمّه أفضل من صلاته،و منه ايضا ترك الصّوم ندبا الا بإذن الأب و لم أقف على نصّ في الأم.

و منه ايضا ترك اليمين و العهد الا بإذنه ايضا ما لم يكن في فعل واجب او ترك محرم،و لم أقف في النّذر على نصّ خاص الا ان يقال هو يمين يدخل في النهي عن اليمين الا بإذنه.

بقي الكلام في تحقيق الرحم المأمور بصلته في الكتاب و السنة،و الكلام هنا يقع في أمور:

الأول الرحم؟قال اكثر علمائنا المراد به المعروف بنسبه و ان بعد،و ان كان بعضه آكد من بعض ذكرا او انثى،و قصر بعض العامة له على من يحرم نكاحهم لا وجه له مع ما ورد في الروايات،و روي في تفسير قوله تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ ، فعن علي عليه السّلام انّها نزلت في بني اميّة،و هو يدل على تسمية القرابة المتباعدة رحما،و قد روي في حديث انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا عرج الى السّماء رأى رحما معلقة بالعرش تشكو من رحمها،فسألت كم بينها و بين القرابة؟فقيل انّها تلتقي معها بعد سبعين أبا، و الظاهر انّ مثل هذا من باب التأكيد و من باب الأستحباب.

الثاني بمن الصلة؟قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلوا ارحامكم و لو بالسّلام،ففيه تنبيه على ان السّلام صلة،و لا ريب انه مع فقر بعض الأرحام و هم العمود ان يجب الصلة بالمال و يستحب لباقي الأقارب و يتأكد في الوارث و هو قدر النّفقة،و مع الغنى فبالهدية في بعض الأحيان

ص:61

بنفسه او برسوله،و اعظم الصلة ما كان بالنّفس،و فيه اخبار كثيرة،ثم بدفع الضّرر عنها،ثم يجلب النّفع اليها،ثم بصلة من يجب نفقته و ان لم يكن رحما للواصل كزوجة الأب و الأخ و مولاه و أدناها السّلام بنفسه،ثم برسوله،و الدعاء بظهر الغيب و الثّناء في المحضر.

الثالث ما الصّلة التي يخرج به عن القطيعة؟و الجواب المرجع في ذلك الى العرف لأنّه ليس حقيقة شرعية و لا لغوية،و هو يختلف بإختلاف العادات و بعد المنازل و قربها.

الرابع هل الصلة واجبة او مستحبة؟قال شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه أنها تنقسم الى الواجب و هو ما يخرج به عن القطيعة،فان قطيعة الرحم معصية بل قيل هي من الكبائر و المستحب ما زاد على ذلك.

نور في حب الدنيا و اسبابه و علاماته

اعلم وفقك اللّه اننا قد اسلفنا لك بيان الدنيا التي قال فيها الأنبياء عليهم السّلام حبّها رأس كل خطيئة،و ان المراد بها الحالة التي تبعدك عن جناب مولاك و ان كانت الصلاة و سائر الطاعات،فانها اذا وقعت لا بقصد الأخلاص كانت رياء يقصد بها التّقرب الى المخلوقين فيكون من أرفاد الدنيا،و ان المال و ان كثر اذا قصد به التّوسعة على الأخوان كان من أهم المطالب الأخروية،و كذلك الجاه و الأعتبار فانّه قد يطلب لقضاء حوائج المؤمنين الذي عرفت ان قضاء الحاجة واحدة منها أفضل عند اللّه من عشر طوافات بالبيت مع انّ ثواب كل طواف يكتب له ستة الآف حسنة،و يمحي عنه ستة الآف سيئة،و يرفع له ستة الآف درجة،و ليس من ذنب يصدر من ابن آدم الاّ كان منتهيا الى حب الدّنيا و مسبّبا عنه.

روى الكليني طاب ثراه عن محمّد بن مسلم بن عبيد اللّه (1)قال سأل علي بن الحسين عليه السّلام أي الأعمال أفضل عند اللّه تعالى؟قال ما من عمل بعد معرفة اللّه تعالى و معرفة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من بغض الدّنيا،و انّ لذلك شعبا كثيرة و للمعاصي شعبا،فأول ما عصي اللّه تعالى به الكبر معصية ابليس حير ابى و استكبر و كان من الكافرين،ثم الحرص و هي معصية آدم و حواء حين قال اللّه تعالى لهما فَكُلاٰ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ الظّٰالِمِينَ فأخذا ما لا حاجة له اليه،ثم الحسد و هي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعّب من ذلك حب النساء،و حب الدنيا،و حب الرئاسة،و حب الراحة،و حب الكلام و حب

ص:62


1- (1) .هو الزهري المدني المعروف بابن شهاب و اسم جده(عبيد اللّه).

العلو و الثّروة فصرن سبع خصال،فاجتمعن كلّهن في حب الدنيا،فقالت الأنبياء و العلماء بعد معرفة ذلك حب الدّنيا رأس كل خطيئة،و الدّنيا دنياء ان دنيا بلاغ،و دنيا ملعونة.

و بالجملة فهي سبب لكل المعاصي،قال الصادق عليه السّلام انّ الشيطان يدير ابن آدم في كل شيء فاذا أعياه جشم له (1)عند المال فاذا أخذ(فأخذ)برقبته،و امّا جمع المال بقصد التّوسعة على العيال و الأخوان و ان كان هذا كما عرفت ليس من امور الدنيا الا انّ الأولى ان يقتصر على هذه النّية،ففي الحديث انّ المؤمن اذا قال ان آتاني اللّه مالا أفعل كذا و كذا من أمور الخير أعطاه اللّه ثواب ما نواه و ان لم يعطه المال ليفعله،امّا اذا وجد بالسّعي و حصل ذلك المال فهو فيه على أخطار.

منها انّ المال الكثير قلّما يجتمع من حلال كما قال الصادق عليه السّلام ما أجتمعت عشرة الآف من حلال قط،و منها انّه عند اجتماعها كثيرا ما يعرض له اهمال الحقوق الواجبة كما قال عليه السّلام لا تتعرّضوا لجمع الأموال فانّه كلّما كثرت الأموال كثرت الحقوق بها،و إخراج الحقوق عسر جدا لما روي عنه عليه السّلام انّ درهم الصّدقة يفك بين لحيي سبعمائة شيطان كلّهم يعضون عليه بأضراسهم،و من ذا الذي يكون له من قوة الأيمان ما يقابلهم الاّ القليل.

و روي ان رجلا عابدا كان جالسا مع العبّاد فقرأ احدهم هذا الحديث،فقال ذلك العابد أنا هذه السّاعة امضي الى منزلي و أتصدّق بصدقة و أرى كيف الشّياطين تمنعني،فخرج مبادرا الى المنزل فدخله و أتى الى الحنطة و بسط عباه فأخذ بها حنطة يتصدّق بها فرأته زوجته فقالت له اين تريد بهذه الحنطة و نحن في هذه السنة المجدبة،لعلّك تريد ان تهلك أولادك جوعا،فسوّلت له الأباطيل حتّى ندم و رمى بالحنطة،و أتى الى اصحابه فقالوا له لعلّك تصدّقت بشيء و لعل الشّياطين لم يحضروك،فقال انّ الشّياطين لم يحضروا و لكن كانت أمّهم حاضرة،فقامت مقامهم في المنع يعني به زوجته،و لا شك في انّ الواحدة منهنّ تعادل الآفا من الشّياطين،و من هنا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاوروهن و خالفوهنّ،و كان هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفعل مثل ذلك،و في الحديث انّه ما أيس الشّيطان من بني آدم الاّ أتاهم من قبل النّساء و هن من أعظم فخوخه و مصائده،و قد بيّنا سابقا ان كل فتنة وقعت في العالم فانّما جاءت من قبلهنّ،و ذلك ان الفتنة الأولى و هي أكل آدم من الشجرة و إخراجه الى الأرض انّما جاء من قبل حوّاء لأنّ آدم لمّا يقبل وساوس الشّيطان وسوس الى حواء فجاءت الى آدم فكلّمته في أمر الأكل من الشّجرة حتى حملته عليه،و امّا الفتنة الأخيرة التّي نشأ منها خراب العالم و هي غصب خلافة أمير المؤمنين عليه

ص:63


1- (1) جشم الأمر تكلفه على مشقة و تجشم فلانا من بين القوم أي اختاره و قصد قصده.

السّلام و إستظهارهم و اتّفاقهم على عداوته فانّما جاء من قبل عائشة و عداوتها و حسدها لفاطمة عليها السّلام بسبب انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يظهر المحبّة لها و لولديها فغارت من هذا عائشة و أضمرت العداوة لها ثمّ أظهرتها،فتخطّت تلك العداوة من النّساء الى الرجال فبغض عليا عليه السّلام ابو بكر و عمر ففعلا ما فعلا و فعلت عائشة بعدها ما فعلت.

و منها انّه ربما تسبّب بجمع الأموال الى إهلاك نفسه ابتداء قبل الظّفر بمطلوبه منه،كما روي انّ المسيح عليه السّلام خرج يوما الى البريّة و معه ثلاثة من أصحابه،فلمّا توسّعوا في البرية رأوا لبنة ذهب مطروحة في الطريق،فقال عيسى عليه السّلام هذا الذي أهلك من كان قبلكم ايّاكم و محبّة هذا،فمضوا عنها فما مضى ساعة حتى قال واحد منهم يا روح اللّه ائذن لي في الرجوع الى البلد فانّي أجد الألم،فاذن له فأتى الى تلك اللّبنة ليأخذها فجلس عندها.

فقال الثاني يا روح اللّه ائذن لي في الرجوع فأذن له و كذلك الثّالث،فاجتمعوا عند تلك اللبنة ليأخذوها فاتّفقوا على أخذها،فقالوا نحن جياع فليمض واحد منا الى البلد ليشتري لنا طعاما حتى تدخل البلد،فمضى واحد فأتى الى السوق و اشترى طعاما فقال في نفسه انّي أجعل فوقه سمّا فيأكلاه فيموتا فتبقى تلك اللّبنة الذهب لي وحدي فوضع في الطّعام سمّا،و اما الآخران فتعاقدا(هدا)على ان يقتلاه و يأخذا اللبنة،فلمّا جاء بالطّعام بادروا اليه و قتلاه و جلسا يأكلان الطعام فما أكلا الا قليلا حتى ماتا فصاروا كلّهم امواتا عند تلك اللبنة،فلمّا رجع عيسى عليه السّلام مرّ على تلك اللّبنة فرأى أصحابه أمواتا،فعلم انّ تلك اللّبنة هي التي قتلهم،فدعى اللّه سبحانه فأحياهم لأجله فقال لهم أما قلت لكم انّ هذا هو الذي أهلك من كان قبلكم فتركوا اللّبنة و مضوا.

و حكي ان رجلا عارفا سافر وحده و معه كيس من الدراهم،فلمّا توسّع في البرية توهم من حمل تلك الدّراهم و خاف على نفسه القتل فأخذ بالكيس و رماه و مشى على فراغ بال و اطمئنان خاطر،و قد كان رجل يمشي في ذلك الطّريق على أثره فوجد ذلك الكيس فرفعه و حمله معه فلحق بذلك العارف،فسأله و قال يا أخي أ هذا الطّريق أمن أم لا؟فقال له العارف ان كان الذي رميته انا رفعته انت فهو غير أمن و ان كان تركته فالطّريق أمن،و كثيرا ما رأينا رجالا ركبوا البحار و خاطروا بالأنفس و تحملوا مشاق السفر الطويل و صرفوا أكثر أعمارهم في تحصيل الأموال فلمّا حصّلوها و رجعوا الى بلادهم عجل عليهم الموت قبل الوصول اليها بيوم او يومين او أقل فأكلها بعده أعداؤه املا زوج امرأته او نحوه،و ربّما حصل من تلك الأموال النّدامتان،امّا ندامة الدّنيا فبخروجه من تلك الأموال و مفارقته لها عند الموت و كذلك في حال الحياة ايضا فان صاحب المال تعبان القلب من وجوه كثيرة.

ص:64

و قد كان لنا أخ صالح فسافر الى بلاد الهند و أتى معه بما يقرب من ألفي درهم فأتى الينا و نحن في شيراز في المدرسة المنصوريّة في عشر السّتين بعد الألف فأخذنا له حجرة في المدرسة و بقي معنا و وضع تلك الدّراهم معه في الحجرة،و كان من خفيف نومهانّ كلّ من يمشي في صحن المدرسة هو يستيقظ من نومه خوفا عليها،و كنّا نخرج معه من المدرسة الى البساتين او نحوها و نأتي اليه قبل الخروج حتّى يجعل القفل العظيم على الحجرة و نحن معه فاذا انتهينا الى البستان و جلسنا قام ذلك الشّيخ فنقول له اين؟فيقول الى المدرسة أخاف ان اكون قد نسيت حجرتي من غير قفل.

فنقول له انّا قد رأيناك قفلتها فلم يقبل منّا،و هذا كان حاله مدّة من الزمان فلمّا أنفقها من يده صرنا نجيء اليه و هو نائم و ندقّ الباب دقا عنيفا فما يستيقظ،و صار يترك الحجرة هكذا من غير قفل،فعلمنا انّ الدّراهم خرجت من يده و كان الحال على ما علمناه.

و اما الندامة الأخروية فقال عليه السّلام ويل لمن رأى حسناته في ميزان غيره و ذلك انذه يتعب باله في جمع المال و لا ينفعه في سبيل اللّه فيأتي بعده من يتصدّق به و يصل المؤمنين فيكون ثوابه يوم القيامة في ميزان غيره،فيا لها حسرة عظمى و شقاوة كبرى،و ان أنفقها الوارث في غير حقّها عوقب عليها و كان لذلك الرجل الذي جمعها و لم ينفقها فيما أمر به حظّ وافر من عذابها.

و قد كان في زماننا رجل صالح و كان في خدمة سلطان الهند خرم شاه،و كان مداخله من الأموال في كل سنة تقرب من أربعمائة ألف دينار و كان ينفقها في سبيل اللّه،فسمع السّلطان بذلك فطلبه يوما و قال له يا فلان ينبغي للإنسان ان يكون له حظّ من حب المال،و أنا سمعت بأنّك ما تحب المال،فقال ذلك الرجل ايّها السّلطان و اللّه انّي لحريص على حب المال و ما أحد من خواصّك أحرص مني.

و ذلك اني اريد ان آخذ كلّ أموالي معي و لا أبقي منها شيئا،و النّاس يريدون يبقونها بعدهم فأي حريص أحرص مني،فقال له صدقت،و من هذا كلّه و الخوف منه مال الأولياء الى ارادة الفقر،فقال عليه السّلام اذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و اذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته،إنا للّه و انا اليه راجعون.

و في الروايات انّ عيسى عليه السّلام لما رفعه اللّه الى السماء الرّابعة زارته الملائكة فوجدوا عليه قميصا مرقّعا برقع كثيرة فضجّوا و قالوا الهنا ليس يساوي عبدك عيسى عندك ثوبا صحيحا؟ فنودوا ان فتّشوا عيسى،ففتشوه فوجدوا في قميصه أبرة يرقع بها ما يخترق منه،فقال تعالى فو عزتي و جلالي لو لا ابرته لرفعته الى السّماء السّابعة،و في الأنجيل انّ عيسى عليه السّلام قال اللّهم ارزقني غدوة رغيفا من شعير،و عشيّة رغيفا من شعير،و لا ترزقني فوق ذلك فاطغى.

ص:65

و قال الصادق عليه السّلام انّ اللّه عزّ و جلّ ليعتذر الى عبده المحوج كان في الدنيا كما يعتذر الأخ الى أخيه فيقول و عزتي و جلالي ما أفقرتك لهو ان كان بك عليّ فارفع هذا الغطاء فأنظر ما عوّضتك عن الدّنيا،فيكشف له عن بصره فينظر ما عوّضه اللّه عزّ و جلّ عن الدّنيا فيقول ما ضرّبي يا رب ما زويت عنّي مع ما عوّضتني،و الى هذا الحديث و أمثاله نظر العقلاء فأختاروا بيع هذه الدّنيا الدنيّة بما عند اللّه سبحانه.

روى هشام بن الحكم انّ رجلا من اهل الجبل أتى ابا عبد اللّه عليه السّلام و معه عشرة آلاف درهم و قال له اشتر لي دارا انزلها اذا قدمت و عيالي ثم مضى الى مكّة،فلمّا حجّ و انصرف انزله الصادق عليه السّلام غب داره،و قال اشتريت لك دارا بالفردوس الأعلى،حدّها الأول الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الثاني الى علي عليه السّلام و الثالث الى الحسن عليه السّلام و الرابع الى الحسين و كتبت الصّك به،فلمّا سمع الرّجل بذلك قالت رضيت،ففرق الصادق عليه السّلام تلك الدّنانير على أولاد الحسن و الحسين عليهما السّلام و انصرف الرجل، فلمّا وصل الى منزله اعتلّ علّة الموت،فلمّا حضرته الوفاة جمع أهل بيته و حلفهم ان يجعلوا الصّك معه في قبره ففعلوا ذلك،فلمّا اصبحوا و غدوا الى قبره وجدوا الصّك على ظهر قبره و على ظهره و في لي و لي اللّه جعفر بن محمّد بما وعدني.

و رأيت في كتاب عوالي اللئالي حديثا و هو انّ رجلا غنيا أراد المسير الى مكة فهيّأ لها ما يحتاج اليه المسافر فركب يوما في بعض حوائجه،فمر بطريق و رأى امرأة علويّة قد أقبلت الى دجاجة ميتة منبوذة في الطريق لتأخذها.

فقال لها هذه ميتة فلم تأخذيها؟قالت الحاجة تضطر الأنسان الى هذا،فأخذها معه الى المنزل و دفع اليها كلّ ما هيّأة للسفر و ترك الحج في تلك السنة،فلما رجع الحاج مضى اليهم ليزورهم و كل من دخل عليه قال له أحدهم رأيناك يا فلان بعرفات،و يقول الآخر رأيناك بالمشعر، و هكذا فتعجّب الرجل فأتى الى الأمام عليه السّلام و حكى له فقال نعم انّ اللّه سبحانه أرسل ملكا على صورتك ليحجّ عنك،و هو ذا يحجّ عنك في كلّ سنة،فانظر كيف فاز بثواب الصّدقة و الحجّ.

و بينبغي للإنسان ان يقدم امور آخرته على امور دنياه فانّك قد تحققت انّ في جمع الأموال الأخطار الكثيرة،حكى عن بعض الصالحين انّه سأل عن توبته،فقال انّي كنت رجلا دهقانا فاجتمع عليّ اشغال ليلة من الليالي كنت احتاج الى ان اسقي زرعا،و كنت حملت حنطة الى الطّاحون،فوثب حماري و ضل فقلت ان اشتغلت بطلب الحمار فاتني سقي الزرع،و ان اشتغلت بالسقي ضاع الطّحن و الحمار،و كان ذلك ليلة الجمعة و بين قريتي و الجامع مسافة بعيدة.

ص:66

فقلت اترك هذه الأمور كلّها و امضي الى صلاة الجمعة،فمضيت و صليت فلمّا انصرفت و مررت بالزرع فاذا هو قد سقي،فقلت من سقاه؟فقيل انّ جارك أراد ان يسقي زرعه فغلبته عيناه و انتبق السّكر فدخل الماء زرعك،فلمّا وافيت باب الدار اذا انا بالحمار على المعلف،فقلت من ردّ هذه الحمار؟فقالوا صال عليه الذئب فالتجأ الى البيت،فلمّا دخلت الدّار اذا أنا بالدقيق موضوع هناك،فقلت كيف سبب هذا؟فقالوا انّ الطحّان طحن هذا بالغلط فلمّا علم انّه لك ردّه الى منزلك،فقلت ما أصدق ما قيل من كان للّه كان اللّه له،و من أصلح للّه أمرا أصلح اللّه أموره.

و ينبغي للعاقل ان يتفكّر في الأمثال التي ضربها عليهم السّلام للدّنيا،منها ما رواه الصّدوق(ره)باسناده الى الحرث الأعور قال بينا أنا أسير مع أمير المؤمنين عليه السّلام يا حارث الحيرة اذ نحن بدير انّي يضرب النّاقوس،قال فقال علي بن ابي طالب يا حارث أ تدري ما يقول هذا الناقوس؟قلت اللّه و رسوله و ابن عم رسوله أعلم،قال انّه يضرب مثل الدنيا و خرابها و يقول:لا اله الا اللّه حقّا حقّا صدقا صدقا،انّ الدّنيا قد غرّتنا و شغلتنا و استهوتنا و استغوتنا،يا ابن الدنيا مهلا مهلا،يا ابن الدنيا دقا دقا،يا ابن الدنيا جمعا جمعا تفنى الدنيا قرنا قرنا،ما من يوم يمضي عنّا الاّ أوهى منّا ركنا قد ضيّعنا دارا تبقى و استوطنا دارا تفنى لسنا ندري ما فرّطنا الا لو قدمنا،قال الحرث يا أمير المؤمنين النّصارى يعلمون ذلك؟قال لو علموا ذلك لما اتّخذوا المسيح إلها من دون اللّه.

قال فذهبت الى الدّير فقلت له بحق المسيح لمّا ضربت بالنّاقوس على الجهة التي تضربها، قال فأخذ يضرب و أنا أقول حرفا حرفا حتّى اذا بلغ الى موضع قوله الا لو قدمنا فقال بحق نبيكم من أخبركم بهذا؟فقلت الرجل الذي كان معنا امس،قال و هل بينه و بين النبي من قرابة،قلت هو ابن عمه،قال بحق نبيكم اسمع هذا من نبيكم قال قلت نعم،فأسلم ثمّ قال لي و اللّه انّي وجد في التوراة انّه يكون في آخر الأنبياء نبي و هو يفسر ما يقول الناقوس.

و منها قول الباقر عليه السّلام مثل الحريص على الدّنيا كمثل دودة القزّ كلمّا ازدادت على نفسها لفّا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما،فانظر الى حسن هذا المثال بل حال الأنسان أسوء من حال دودة القز و ذلك انّ دودة القز ان ماتت غما في الذي نسجته على نفسها لكنها لا تموت بالكليّة و لهذا اذا بقيت في القزّ مدة مديدة تحرّكت في بطن القزة و قرضت و خرجت منها بصورة طائر حسن الصورة و ما ذلك الاّ لأنّها جهدت في خراب ما نسجت و لا تموت في بطن القزة الاّ اذا وضعت القزة في الشمس الحارة،و اما الأنسان اذا نسج على نفسه بمتاع غرور الدّنيا تعذر عليه الخروج فيبقى في المجلس الضّيق الى ان تأتيه شمس القيامة فتحرقه.

ص:67

و منها قول الصادق عليه السّلام انّ في كتاب علي عليه السّلام انّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها و في جوفها السّم الناقع،يحذرها العاقل و يهوى اليها الصبي الجاهل و هذا المثل كالأول و ذلك انّ الصّبي انّما ينظر الى ظاهرها و في ظاهرها من النقوش و الخطوط فيهوى اليها الصبي بل الحيّة خير من الدنيا و ذلك انّها و ان كان في جوفها السم الناقع الضّار لكن يخرج منها خرزة سوداء مدورة تنفع للسع الحيّات،و ذلك انّها توضع على موضع اللدغة فتجذب السم و تقلعه من البدن،فهي نافعة من هذه الجهة مع انّها انّما تضرّ من آذاها.

حكى لي ثقة من أصدقائي انّه كان عندهم حية في البيت فكان عندها فراخ،قال فأردنا أن ننظر اليها يوما،فلمّا خرجت بادرنا الى فراخها فوضعناها تحت قدر و خرجنا من البيت،فلمّا أتت الى فراها فلم ترها عمدت الى البيت و جالته على الفراخ فلم تجدها،فلمّا أيست منها أتت الى لبن في البيت فدخلت فيه و شربت منه و قاءته حتى صار أصفر من السّم،و خرجت من البيت فعمدنا الى فراخها و وضعناها في موضعها فأتت مرة اخرى،فلمّا رأتها أتت الى ذلك اللبن و دخلت فيه و خرجت عنه فوضعت نفسها على التراب و دخلت على اللبن و هكذا حتى صار ذلك اللبن مثل لون التراب و مضت عنه حتى لا نشربه،و اما الدنيا فإنها تلسع كل احد و منها قوله عليه السّلام الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله و منها قوله عليه السّلام الدنيا كمثل البيت قد انخفض سقفه فكل من دخل اليه لا بد و ان يطأطأ رأسه و متى رفعه شجه السقف و الداخل الى الدنيا حاله هكذا بل هو اسوأ حالا.

و منها ما نقله الصدوق طاب ثراه عن بعض الحكماء في تشبيه اغترار الأنسان بالدنيا و غفلته عن الموت و الأهوال و انهماكه في لذات الدنيا الممزوجة بالكدورات بشخص مدل في بئر مشدود وسطه بحبل و في اسفل ذلك البئر ثعبان عظيم متوجه اليه منتظر سقوطه فاتح فاه لألتقاطه، و في أعلى ذلك البئر جرذان أبيض و أسود لا يزالان يقرضان ذلك الحبل شيئا فشيئا و لا يفتران على قرضه انا من الأناة،و ذلك الشخص مع انه يشاهد ذلك الثعبان و يرى انقراض الحبل انا فأنا قد أقبل على قليل عسى القد لطّخ به جدار ذلك البئر و امتزج بترابه و اجتمع عليه زنابير كثيرة و هو مشغول بلطعه منهمك في ملتذ بما أصاب منه لتلك الزنابير عليه قد صرف باله غير ملتفت الى ما فوقه و ما تحته فالبئر هو الدنيا و الحبل هو العمر و الثعبان الفاتح فاه هو الموت و الجرذان الليل و النهار القارضان للأعمار،و العسل المختلط بالتراب هو لذات الدنيا الممزوجة بالكدورات و الآلام و الزنابير هم ابناء الدنيا المتزاحمون عليها و هذا المثل كالأمثال السابقة في الأنطباق على الممثل له.

ص:68

و بالجملة فالعاقل من تفكر في كلام امير المؤمنين عليه السّلام فانه كان عارفا بداء الدنيا و دواءها و من ثم قال ابو جعفر عليه السّلام كان امير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة اذا صلى العشاء الآخر ينادي ثلاث مرات حتى يسمع اهل المسجد ايها الناس تجهزوا رحمكم اللّه فقد نودي فيكم بالرحيل فما التعرج على الدنيا بعد النداء فيها بالرحيل تجهزوا رحمكم اللّه و انتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد و هو التقوى،و اعلموا ان طريقكم الى المعاد و ممركم على الصراط،و الهول الأعظم أمامكم و على طريقكم عقبة كئود و منازل مهولة مخوفة لا بد لكم من الممر عليها و الوقوف بها فأما برحمة من اللّه فنجّاه من هولها و عظّم خطرها و فضاعت منظرها و مختبرها و اما بهلكه ليس لها بعدها انجبار و اي مثل للدنيا اعظم من أمثاله سبحانه و له الأمثال العليا قال في سورة الحديد أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ الْغُرُورِ و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مالي و الدنيا انما مثلي و الدنيا كمثل راكب قال(من القيلولة)في ظل شجرة في يوم صيف ثم راح و تركها.

و في وصية لقمان لأبنه على ما قال الصادق عليه السّلام ان الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير،فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه،و حشوها الأيمان و شراعها التوكل و قيمها العقل و دليلها العلم و سكانها الصبر و من أجل هذا ورد الحث على التفكر لأنه يؤدي الى مقت الدنيا و الرغبة عنها،و روى الحسن الصيقل قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عما يروي الناس تفكر ساعة خير من قيام ليلة،قلت كيف يتفكّر قال يمر بالخربة او بالدار فيقول اين ساكنوه اين بانوه مالك لا تتكلمين،و قال الرضا عليه السّلام ليس العبادة بكثرة الصلاة و الصوم انما العبادة التّفكر في امر اللّه عز و جل و ذلك ان بالتّفكر يقصر الأمل فاذا قصر الأمل كثر العمل و اقوى اسباب حب الدنيا و الميل اليها انما يجيء من جهة طول الأمل فان الأمل يزيد على العمر بكثير.

روي عن ابن مسعود قال خط النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ربعا و خط خطا في الوسط خارجا منه و خط خططا صغارا الى هذا الذي في الوسط،فقال هذا الأنسان و هذا أجله محيطا به و هذا هو الخط الذي هو خارج أمله و هذه الخطط الصغار الأغراض فانى أخطأه هذا نهشه هذا و هذه صورته:

ص:69

و اما من قصر امله في الدنيا فهي لا تغره،روي ان عيسى عليه السّلام صعد جبلا فرأى شخصا يعبد اللّه تعالى في حر الشمس فقال له لم لا تستظل؟فقال يا نبي اللّه انّي سمعت من الأنبياء انّي لا أعيش أكثر من سبعمائة سنة فلم أجد من عقلي ان اشتغل بالبناء،فقال عليه السّلام انّي لأخبرك بما يعجبك،قال فما ذا؟قال يكون في آخر الزمان قوم لا تنتهي عمر أحدهم الى أكثر من مائة سنة و هم يبنون الدور و القصور و يتّخذون الحدائق و البساتين و يأملون أمل عمر ألف سنة، قال الشيخ فو اللّه اني لو أدركت زمانهم لجعلت عمري في سجدة واحدة،ثمّ قال لعيسى عليه السّلام ادخل هذا الكهف حتى ترى عجبا فدخل فرأى سريرا من حجر و عليه ميّت و على رأسه لوح من حجر مكتوب عليه أنا فلان الملك أنا الذي عمرت ألف سنة،و بنيت ألف مدينة، و تزوجت بألف بكر،و هزمت ألف عسكر ثم كان مصيري الى هذا فاعتبروا يا أولي الألباب.

و في الحديث ان سليمان عليه السّلام مرّ على رجل يعمل بمسحاته فوقف قربه فقال اللهم انزع من قلبه آمال الدنيا،فنزعها اللّه سبحانه فألقى الرجل مسحاته و جلس،ثمّ قال بعد ساعة اللهم الق في قلبه الأمل،فقام الى مسحاته و حرث،فتقدّم اليه سليمان عليه السّلام و قال له يا عبد اللّه كيف جلست ثم قمت؟قال قد فكرت انّ هذا الذي أحرثه لعلي لا أبقى الى أوانه فلم أزرعه فجلست،ثمّ فكرت بأن الأنسان لا بد له من خير يعيش به في الدنيا ثم قمت الى مسحاتي.

و من أعظم أسبابه أيضا حب الأولاد قال اللّه تعالى أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ و قد كان رجل يقول عند أمير المؤمنين عليه السّلام اللهم اني اعوذ بك من الفتن،فقال عليه السّلام لا تقل هذا فان أولادك من الفتن و تلا هذه الآية،و لكن قل اللهم اني أعوذ بك من مضلاّت الفتن، و في الرواية ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يوما يخطب على المنبر فجاء الحسنان عليهما السّلام و عليهما ثياب جديدة،فعثر الحسين عليه السّلام في ذيل ثوبه فلمّا رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطع الخطبة و سقط عليهما و حملهما و أجلسهما معه فوق المنبر،و قال صدق اللّه حيث

ص:70

قال أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ و اللّه لما رأيت الحسين عثر بطرف ثوبه لم أملك نفسي حتى وقعت عليه.

و اسباب الميل الى الدنيا اكثر من ان تحصى و دواء الكل واحد و هو التّفكر في فنائها و سرعة زوالها و تقلّب أحوالها،فمن عجائب تقلبها انّ رجلا من الخلفاء العباسيّة جعلوه خليفة يوما واحدا،و قد عزلوه في اليوم الآخر و أخذوا ما عنده فاحتاج ذلك اليوم الى ان يقف على باب المسجد و يتكفّف الناس،و كان يقول لهم ارحموا من كان بالأمس أميركم و اليوم سائلكم،و كل ما نال فيها المؤمن من المراتب فهي سجنه بالنّظر الى ما أعدّ له في الجنان،فالميل الى مثل هذا لا يكون عن رأى سديد،روي انّه خرج الحسن عليه السّلام من داره في حلّة فاخرة و بزّة طاهرة ثم ركب بغلة فارهة غير قطوف و صار مكتنفا من حاشيته و حاشيه بصفوف،فعرض له في طريقه من محاويج اليهود رجل قد أنهكته العلة و ارتكبته الذلة،فاستوقف الحسن عليه السّلام و قال يا ابن رسول اللّه أنصفني،فقال عليه السّلام في أي شيء؟فقال جدك يقول الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر و انا كافر فما ارى الدنيا الا جنّة تتنعم بها و تستلذ بها و ما أراها الاّ سجنا لي قد أهلكني ضرّها و أتلفني فقرها،فلمّا سمع الحسن عليه السّلام كلامه أوضح لليهودي خطاء ظنه،و قال يا شيخ لو نظرت الى ما أعدّ لي و للمؤمنين في الدّار الآخرة ممّا لا عين رأت و لا أذن سمعت لعلمت اني قبل انتقالي اليه هذه الدنيا في سجن ضيق مع ما أنا فيه،و لو نظرت الى ما أعد اللّه لك و لكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار الجحيم و نكال العذاب المقيم لرأيت أنّك قبل مصيرك اليه الآن في نعمة واسعة و جنّة جامعة،و مأحسن قول الشاعر:

يا خاطب الدنيا الدّنية انّها شرك الرّدى و قرارة الأكدار

دنيا اذا ما أضحكت في يومها أبكت غذا تعسا لها من دار

غاراتها لا تنقضي و أسيرها لا يفتدى بعظائم الأخطار

و قول الآخر:

هي الدنيا تقول بملأ فيها حذار حذار من بطشي و فتكي

فلا يغرركم حسن ابتسامي فقولي مضحك و الفعل مبكي

و الدنيا اما مأخوذة من الدناءة و هي الخسة او من الدنو و هو القرب لقربها بالنظر الى الآخرة،و هذا المعنى الثاني هو الذي حمل الناس على مساوىء الأعمال حيث زعموا انّها نقد و الآخرة نسيئة و قدّموا النقد على النسيئة و لم ينظروا الى قول الخبير امير المؤمنين عليه السّلام لو

ص:71

كانت الدنيا ذهبا و الآخرة خزفا لأخترت خزف الآخرة على ذهب الدنيا لأنّه خزف باق و ذهب الدنيا فان،فكيف و الآخرة ذهب و الدنيا خزف فان.

و رأيت في كتاب تفسير انّ ملكا من ملوك اليونان استعمل على ملبسه جارية أدبها بعض الحكماء فألبسته يوما ثيابه و أرته المرآة فرآى في لحيته شعرة بيضاء،فاستدعى بالمقراض فقصها، فأخذتها الأمة فقبلتها و وضعتها عال(قال)و اصغت اذنها اليها فقال الملك لأي شيء تصغين اليها؟ فقالت اني اسمع هذه المبتلاة تفقد كرامة قرب الملك تقول قولا عجبا،قال و ما هو؟قالت ما يجتري لساني على النطق به،قال قولي امنته ما لزمت الحكمة،فقالت انها تقول ايها الملك المسلّط الى امد قريب انّي خفت بطشك بي فلم اظهر حتى عهدت الى بناتي ان يأخذن بثاري،و كأنّك بهن قد خرجن عليك فأما ان يعجلن الفتك بك و امّا ان ينقصن شهوتك و قوتك و صحتك،حتى تجد الموت،فقال اكتبي كلامك فكتبته فبقي يتدبر فنبذ ملكه و خرج سائحا قال الشاعر:

يا ويح من فقد الشباب و غيّرت منه مفارق رأسه بخضاب

يرجو عمارة وجهه بخضابه و مصير كل عمارة لخراب

انّي وجدت أجلّ كلّ رزية فقد الشّباب و فرقة الأحباب

و من اسباب الدنيا و الميل اليها النساء و اطاعتهن،روي ان رجلا من بني اسرائيل رأى في المنام انّه خيّر ثلاث دعوات مستجابات بأن يصرفها حيث يشاء،فشاور امرأته في محلّ الصرف فرأت ان يصرف واحدة منها في حسنها و جمالها ليزيد حسن المعاشرة بينهما،فصرفها في ذلك فصارت جميلة فيما بين بني اسرائيل فاشتهر امرها الى ان غصبها ملك ظالم،فدعى الرجل غيرة بأن يصيّرها اللّه تعالى على صورة كلب فصارت كلبا أسود و جاءت الى زوجها و تضرعت اليه مدة حتى رق قلبه و دعى بأن يصيرها اللّه تعالى على صورتها الأولى،فصارت الدعوات الثلاث فيها،و هي كما كانت بشؤم المشاورة معها.

و حكي انّ خسروا لملك أتى اليه رجل بسمكة كبيرة فأمر له بأربعة الآف درهم،فقالت شيرين فكيف تصنع اذا احتقر من أعطيته شيئا من حشمك و قال أعطاني ما أعطى الصيّاد او اقل، فقال خسرو الملك انّى الرجوع عن الهبة قبيح خصوصا من الملوك،فقالت شيرين التدبير ان تدعوه،و تقول له هذه السّمكة ذكر ام انثى فان قال ذكر ام انثى فان قال ذكر فنقول انما أردت أنثى،و ان قال أنثى فتقول له انما أردت ذكرا،فاستدعاه فسأله عن ذلك،فقال ايها الملك انّها خنثى لا ذكر و لا انثى فاستحسن جوابه و أمر له بأربعة الآف درهم اخرى،فلمّا تسلم الصّياد ثمانية الآف درهم من الخزان و رجع سقط منها في الطريق درهم فاشتغل بأخذه،فقالت شيرين للملك

ص:72

أنظر الى خسّته و غلبة حرصه فاستدعاه و سأله عن غرضه في اشتغاله بأخذ الدرهم الساقط فقال ايها الملك كان عليه اسمك و حكمك فخفت ان يطأه أحد برجله غافلا عنه،فاستحسن ايضا جوابه و أمر له بأربعة الآف درهم أخرى،و ذهب الصياد باثني عشر ألف درهم،و أمر الملك مناديا ينادي الأمن دبّر أمره برأى النساء خسر درهما او درهمين،و العجب انّ بعض المذنبين قد أيس من رحمة اللّه و باع حظّه الأوفر بهذه الدّنيا الدنية.

و روى الصدوق باسناده الى البزاز و قال كان بيني و بين حميد بن قحطبة الدوسي (1)معاملة فرحلت اليه في بعض الأيّام فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت و على ثياب السفر لم أغيرهما و ذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر،فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه و جلست،فأتى بطشت و ابريق فغسل يديه ثم أمرني فغسلت يدي،و أخضرت المائدة و ذهب عنّي انّي صائم و انّي في شهر رمضان فأمسكت يدي،فقال حميد مالك لا تأكل؟ثم ذكرت فقلت ايها الأمير هذا شهر رمضان و لست بمريض و لابي علة توجب الأفطار و انّي صحيح البدن، ثم دمعت عيناه و بكى،فقلت له بعد ما فرغ من طعامه ما يبكيك ايها الأمير؟قال أنفذ الى هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل ان اجب،فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتّقد و سيفا مسلولا و بين يديه خادم واقف،فلمّا قمت بين يديه رفع رأسه اليّ فقال لي كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟فقلت بالنفس و المال،فأطرق ثم اذن لي بالإنصراف فلم ألبث في منزلي حتّى عاد الرسول اليّ و قال اجب امير المؤمنين،فقلت في نفسي انا للّه و انا اليه راجعون أخاف ان يكون قد عزم على قتلي و انّه لمّا رآني استحيا مني،فعدت الى بين يديه فرفع رأسه فقال كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟فقلت بالنّفس و المال و الأهل و الولد،فتبسم ضاحكا ثم اذن لي بالإنصراف فلمّا دخلت منزلي لم ألبث ان عاد اليّ الرسول فقال اجب امير المؤمنين،فحضرت بين يديه و هو على حاله، فرقه رأسه اليّ فقال كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟فقلت بالنّفس و المال و الأهل و الولد والدين، فضحك ثم قال لي خذ هذا السّيف و امتثل ما يأمرك به هذا الخادم،قال فتناول الخادم السيف و ناولينه و جاء بي الى بيت بابه مغلق ففتحه فاذا فيه بئر في وسطه ثلاث بيوت ابوابها مغلقة ففتح بابا منها فاذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور و الذّوائب،شيوخ و كهول و شبّان مقيدون.

فقال انّ امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء و كانوا كلهم علوية من ولد علي و فاطمة عليهما السّلام،فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه حتّى أتيت على آخرهم ثم رمى بأجسادهم و رؤوسهم في تلك البئر،ثم فتح باب بيت آخر فاذا فيه ايضا عشرون نفسا من العلويّة

ص:73


1- (1) .هو حميد بن قحطبة الطائي الطوسي،في بعض النسخ المطبوعة(الدوسي)و في بعضها و كذا في المخطوطة(الطوسي)و في عيون اخبار الرضا(ع)ايضا( [1]الطائي الطوسي)و في بعض المواضع(حميد)بالتصغير.

من ولد علي و فاطمة عليهما السّلام مقيّدون،فقال لي انّ امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ايضا فجعل يخرج اليّ واحدا واحدا فأضرب عنقه و يرمي به في تلك البئر حتى اتيت على آخرهم،ثم فتح باب بيت ثالث فاذا فيه مثلهم عشرون نفسا من ولد علي و فاطمة عليهما السّلام مقيّدون عليهم الشّعور و الذّوائب،فقال ان امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ايضا فجعل يخرج اليّ واحدا بعد واحد فأضرب عنقه فيرمى به في تلك البئر حتى اتيت على تعة عشر نفسا منهم و بقي شيخ منهم عليه شعر،فقال تبّا لك يا مشؤوم ايّ عذر لك يوم القيامة اذا قدمت على جدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد قتلت من اولاده ستين نفسا قد ولدهم علي و فاطمة عليهما السّلام، فارتعشت يدي و ارتعدت فرائصي فنظر الى الخادم مغضبا و زبرني فأتيت على ذلك الشيخ ايضا فقتله و رمى به في تلك البئر،فاذا كان فعلي هذا و قد قتلت ستين نفسا من ولد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فما ينفعني صومي و صلاتي و انا لا اشك اني مخلّد في النار،قال الصدوق طاب ثراه و للمنصور مثل هذه الفعلة في ذرية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

اقول هذا الرجل و ان افرط و تعدّى الحدّ في فعلته هذه من قتل هذه الذرية الطاهرة الاّ انه ما كان ينبغي له الأياس من رحمة اللّه بل كان يجب عليه الندامة و مداومة الأستغفار و الذكر لعل اللّه يرضى عنه خصومه كما جاء في الرواية ان امرأة قتلت ولدها ثم ندمت فأتت الى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم نادمة على فعلها طالبة للتوبة،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو قتلت في يومك سبعين نبيا ثم ندمت على ما فعلت و عرف اللّه منك التوبة لتاب عليك و رحمك،نعم مثل هؤلاء الجماعة لا يوفّق منهم للتوبة الاّ القليل،أ لا ترى الى الوحشي و هو قاتل الحمزة لمّا ظهرت منه امارات التوبة و النّدامة قبل اللّه توبته،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حمزة و قاتله في الجنة، و الشيطان مع ما هو عليه من الضلال لم ييأس من الرحمة (1)كما جاء في الرواية عن الصادق عليه السّلام قال ان امرأة من الجن يقال لها عفراء و كانت تنتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتسمع من كلامه فتأتي صالحي الجن فيسلمون على يديها و فقدها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سأل عنها جبرئيل عليه السّلام فقال انّها زارت اختا لها تحبّها في اللّه تعالى،فقال عليه السّلام طوبى للمتحابين في اللّه ان اللّه تبارك و تعالى خلق في الجنة عمودا من ياقوتة حمراء عليها سبعون ألف

ص:74


1- (1) روى الكليني ره في الكافي [1]باسناده مضمرا كانه قال اعطى التائبين ثلاث خصال لو اعطي خصلة منها جميع اهل السماوات و الأرض لنجوا بها و هو قوله عز و جل: إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فمن احبه الله لم يعذبه الحديث. و لكن هذا الرجل كما ذكره الصنف(ره)لم يوفق للتوبة و طبع على قلبه و جائه اليأس من رحمة اللّه بسبب تلك الجناية التي اوردها على الذرية الطيبة و اليأس من روح اللّه تعالى من الكبائر الموبقة.

قصر،في كل قصر سبعون ألف غرفة خلقها اللّه عز و جل للمتحابين في اللّه،و جاءت عفراء فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا عفراء اين كنت؟فقالت زرت اختا لي،فقال طوبى للمتحابين في اللّه و المتزايرين يا عفراء أي شيء رأيت؟قالت رأيت عجائب كثيرة،قال فأعجب ما رأيت؟قالت رأيت ابليس في البحر الأخضر على صخرة بيضاء مادّا يديه الى السماء و هو يقول الهي اذا بروت قسمك و ادخلتني نار جهنم فأسألك بحق محمّد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين الاّ خاصتني منها و حشرتني معهم،فقلت يا حارث ما هذه الأسماء التي تدعوه بها؟فقال رأيتها على ساق العرش من قبل ان يخلق اللّه عز و جل آدم بسبعة آلاف سنة فعلمت انّها اكرم الخلق على اللّه فأنا أسأله بحقّهم،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللّه لو أقسم أهل الأرض بهذه الأسماء لأجابهم اللّه تعالى.

فان قلت ما فائدة دعاء الشيطان هذا مع انّه من الخالدين في النار و العذاب،قلت يجوز لأجل هذا الدعاء ان ينقله اللّه تعالى في طبقات النار من طبقة حارة الى ما هو أخفّ منها فيكون قد خلّصه من تلك النار التي كان فيها،فان للنار سبع طبقات و لكل طبقة انواع و اهوال من العذاب، و يجوز ان يخلّصه اللّه سبحانه من النّار لحظة ثمّ يعود اليها مخلدا فيها،و يجوز ان يكون المراد من أهل الأرض من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أقسم أهل الأرض من كان له قابلية استجابة الدعاء ممن أتصف بالأيمان و الأسلام.

و الأحسن هو ان يقال انّ الكلام على ظاهره من ان كل من دعى اللّه من أهل الأرض بهذه الأسماء اجابه اللّه تعالى سواء كان الداعي مؤمنا او كافرا او شيطانا لكن اجابة الدعاء عبارة عن الجزاء الذي يكون بازائه سواء كان ذلك المدعو به او غيره،و الشيطان و غيره اذا دعوا اللّه سبحانه بهذه الأسماء جاراهم اللّه سبحانه عليه امّا في الدنيا بتوسعتها و نحوه،و اما في الآخرة بتخفيف عذاب و نحوه،فيصدق من هذا انّ اللّه تعالى أجابهم على الدّعاء.

و في الأخبار المعتبرة انّ رجلا عصى اللّه تعالى و قتل تسعة و تسعين رجلا بغير حق فلمّا مضت عليه مدة ندم و قال أريد التوبة فأتى الى رجل عابد و حكى له ما صنع من القتل و قال اريد التوبة،فقال له ذلك العابد لا توبة لك و حالك على هذا،فلما قال له هذا الكلام عمد الرجل الى ذلك العابد فقتله فبقي مدة،ثم أتى الى رجل عالم فقال له انّي قتلت مائة فهل لي من توبة؟فقال نعم اقصد ارض كذا فانّ فيها نبيا او عالما فامض اليه و تب على يديه،فمضى عليه فلما كان في عرض الطريق أتى أجله فأتته لقبض روحه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب فتنازعتا في قبض روحه فقالت ملائكة الرحمة نحن نقبض روحه لأنّه قصد ارض التوبة،و قالت ملائكة العذاب نحن نقبض روحه لأنه لم يتب بعد،فأوحى اللّه تعالى اليهم ام اذرعوا الأرض و انظروا الى أي

ص:75

ارض هو اقرب،فلمّا مسحوا الأرض وجدوه الى ارض التوبة أقرب بذراع او بشبر فتبادرت اليه ملائكة الرحمة فقبضوا روحه في خبر آخر انّ الملائكة لمّا قصدوا الى مساحة ارض التّوبة فطويت بعد ما كانت ابعد من تلك الأرض و هذا حاله مع المذنبين.

و بالجملة فكل بلاء الأنسان و مصائبه انّما هو من الدنيا و الميل اليها حتى انّه سأل بعض العارفين عن الطّريق الى اللّه تعالى فقال خطوتان و قد وصلت خطوة على النّفس و خطوة على الدنيا،فسمع بعض أهل العرفان هذا الكلام فقال طوّل ما قصر اللّه بل خطوة على النّفس و قد وصلت لأنّ الدنيا تصير حجابا للعبد بواسطة النّفس و هو تعالى الستّار على عبده.

روي انّ بعض الأنبياء سرق له حمار فقال الهي أنا نبيك سرق حماري فأطلعني عليه، فأوحى اللّه تعالى انّ الرجل الذي سرق حمارك سألني ان استره و أنا لا أردّه و لا أردّك فخذ منّي حمارا آخر حتى لا يفتضح ذلك الرجل،و بالجملة فاستقصاء الكلام في الدنيا و تقلباتها و أحوالها يحتاج الى تأليف كتاب منفرد،نعم انّ من جملة الدّنيا اسباب الميل اليها لذاتها فلا بأس بذكرها في نور على حده.

نور في لذات الدنيا بانواعها

و بيان انّه لا لذة في الدّنيا و انّ ما فيها من اللّذات انّما هو دفع آفة بآفة اخرى

اعلم ان الدنيا كما عرفت بيت ضيق مظلم قد اجتمعت فيه انواع المخلوقات و اصنافها ففيه الحيات و العقارب و السباع و الذئاب الضّواري و كلها قد قصدت ابن آدم و هو معها في ذلك البيت الضيق و هو يراها قاصدة اليه،و قد وضع امامه شيء من الخبز ليأكله،فيأكل و ينظر الى ما معه في ذلك المنزل الضّيق من الأفاعي و السّباع و العقارب و هي جوعانة و ليس لها شيء تأكله سوى لحوم ابن آدم،فالأنسان من الجوع يأكل ما أمامه من الخبز لكنه ينظر الى ما معه من السّباع في حال أكله مترقّبا حين بعد حين لوصولها اليه،و اهلاكها اياه،فمن كان هذا حاله كيف يلتذّ بأكل ام بشرب ام بنكاح ام بلباس،و لو فتحت عيني قلبك الذي تبصر به لوجدت حالك في الدنيا هو هذا بل انت اسوء حالا،اما العقارب فهم اقاربك الذين منهم من يتمنى موتك للميراث،و منهم من يريده حسدا لك حيث فضّلت عليهم امّا بامور دنيوية او اخروية،و منهم من يريد يتزوج بزوجتك بعدك الى غير ذلك من الأغراض،و يا ليتهم مثل العقارب فان الأغلب في العقرب و اشباهه انّما يلدغ اذا اوذي و تعدى الأنسان عليه مع انّ لدغته تبرى في يوم واحد و امّا الأقارب و ما يصل اليك في كل يوم من أنواع لسعهم و أذّيتهم فهو مما لا غاية له و لا نهاية لأمده الى الموت.

ص:76

و اما الحيات فهم اخوانك الذي قال فيهم امير المؤمنين انّهم جواسيس العيوب و من الحيّات ايضا شياطين الجنّ و الأنس الذين صرفوا لياليهم و أيّامهم في الفكر لإرادة مخادعك و اضلالك و القائك الى حيات جهنم و أفاعيها التي ورد في الخبر لو انّ حيّة منها ظهرت الى الدنيا و نفخت فيها لما بقي فيها شجر و لا مدر و لا جبل الاّ ذاب من سمّها.

و امّا السّباع فهي مصائب الدّنيا و دواهيها الحادثة يوما بعد يوم و ساعة بعد ساعة و نفسا بعد نفس كالهموم و الأحزان و الأمراض و فقد الأحبة الذي جعله امير المؤمنين عليه السّلام عديلا ليوم القيامة فقال لو لا هول المطلع و فراق الأحبة لأردنا الموت،و أهول من هذا كلّه تذكرت الموت و سأبعده من الأهوال فانّي لا أظن احدا كان في لذة و ذكر الموت ثم تمت له اللّذة.

حكى صاحب نزهة الأبرار انّ الرشيد زخرف مجلسه يوما و بالغ فيه و صنع طعاما كثيرا ثم وجّه الى ابي العتاهية فأتاه فقال له صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدّنيا فأنشأ يقول:

عش ما بدا لك سالما في ظل شاهقة القصور

فقال احسنت فقال:

فاذا النفوس تقعقعت (1) في ضيق حشرجة الصّدور

فهناك تعلم موقنا ما كنت الا في غرور

فبكى هارون الرشيد،فقال الفضل بن يحيى بعث اليك امير المؤمنين لتسرّه فأحزنته،فقال هارون الرشيد دعه فانّه رآنا في عمى فكره ان يزيدنا عمى،و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اكثروا ذكر هادم اللّذات،و حكي ان الحجاج كان عنده جاريتان جميلتان و كان معجبا بهما مولعا بعشقهما،فقال ان الناس يقولون ما تمّ فرح لأحد الى اللّيل و ها أنا ذا أجلس بمجلس الطرب الى اللّيل،فلمّا كان الغد هيأ في مجلسه أحسن ما يكون و تخلّى عن الناس بخواصه و تلك الجواري، فلمّا مضى بعض النهار أمر بالشراب فشرب هو و من كان في ذلك المجلس و شربت جارية من تلك الجواري فاختنقت بالشراب و ماتت من ساعتها فبكى عليها بكاء كثيرا و مضى عامة ذلك اليوم بالحزن،فكان يوم سروره يوم عزاه و مصيبته،اذا عرفت هذا كله.

فاعلم انّ اللذات الواقعة في هذه الدّنيا ثلاث:الأولى اللّذة الحسية و هي قضاء الشهوتين:البطن و الفرج و توابعهما،و هذه اللّذة أدون اللّذات الثلاث و أحقرها،الثانية اللّذة الخيالية و هي الحاصلة من الأستعلاء و الرئاسة و نحوهما،الثالثة اللّذة العقلية و هي الحاصلة بسبب معرفة الأشياء و الوقوف على حقائقها و وجه الحصر ان الأنسان أوّل ما يحسن و يشعر باللّذة الأولى

ص:77


1- (1) تقعقع اضطرب و تحرك.صوت عند التحرك.

لظهورها في بادي الرأي،ثم اذا توغل فيها و قضى و طره منها سمت نفسه الى المرتبة الثانية و هي حب الرئاسة و نفوذ الأمر و النهي،فاذا توغل فيها و رزق الوقوف على ما فيها من الآفات و البليات ترقى منها الى الثالثة و هي العالية الحاصلة من ادراك حقائق الأشياء كما هي بقدر الطّاقة الشّبرية فلنتكلم في كل واحدة من هذه اللّذات و ما تشتمل عليه ليظهر لك ما ذكرناه في عنوان النور.

القسم الأول الكلام في اللّذة الحسيّة اعلم انّ مطالب الخلق من الأحوال المخصوصة (المحسوسة)محصورة في نوعين احدهما دفع الألم و الثاني تحصيل اللّذة،اما دفع الألم الحسيّة فقد توصلوا اليه بطرق احدهما لبس الثّياب و ذلك لأن جلد الأنسان لطيف يتأثر من الحر و البرد فاحتاج الى دفع هذا الألم الى لبس الثياب و بالحقيقة لبس الثواب ضرر لأنه اتعاب للبدن لكن لبس الثوب يدفع مضرة أعلى من هذه المضرة كما عرفت،فهو من باب دفع الضرر بالضّرر، و مثاله ما حكي انّ بعض الناس دخل على ابراهيم بن سيّار النّظام المتكلم فرأى في يده قدحا من الدّواء المرّ فسأله عن حاله فانشد:

أصبحت في دار بليّات أدفع آفات بآفات

و ثانيها بناء الدّور و المساكن و المقصود منه انّ الأنسان خلق في ممرّ الآفات،فاذا كان بغير بيت خاف على نفسه و ماله و ولده و من يعنوه فاذا بنى البيت أمن من تلك الآفات،و اما الذي يترتب على بناء البيت من التعب و بذل ماء الوجه و معاداة الجيران و التّوصّل منه الى إعانة الظالمين فظاهر فهذا ايضا من باب دفع آفة بآفة فلا لذّة فيه فان قلت قد يكون مع الأنسان من الثّياب ما يدفع الحر و البرد فيتأنّق في لبس الثّياب الفاخرة تحصيلا للذّة لا لدفع الألم،و كذا القول في البيوت و بنائها فلا يكون من باب دفع الألآم،قلت اذا تأملت حقّ التأمل ترى هذا ايضا من ذاك و ذلك لأنّ لبس الثوب الفاخر انّما يكون بعد منازعة النفس و طلبها إيّاه و تشوّقها عليه و تعبها في طلبه فيكون هذا ألما نفسانيّا يدفع بتلك الثّياب الفاخرة،و من ثمّ لو لبس الأغنياء الثّوب الفاخر انما يكون بعد منازعة النفس و طلبها ايّاه و تشوقها عليه و تعبها في طلبه فيكون هذا ألما نفسانيّا يدفع بتلك الثياب الفاخرة،و من ثم لو لبس الأغنياء الثوب الثّوب الفاخر لمن هو ادنى منهم لم يلتذّوا عند لبسه،و كذا في جانب المأكل و المسكن و المنكح و ما ذاك الاّ لأنّ نفوسهم لم تطلبه منهم و لم تنازعهم على تحصيله،و من ثمّ لمّا كانت ملاذّ الجنة تحصل بمجرد الخطور في البال من غير مجاذبة مع النّفس فتكون لذة محضة لا دفع ألم حسّي و نفسي.

و امّا الطرق الموصلة الى تحصيل اللّذات فهي قضاء شهوة البطن و قضاء شهوة الفرج، و قبل ان نبين ما فيها من الدناءة و الخسة و الإهانة و التّشبه بالبهائم نذكر مقدّمة:و هي انّ البلغاء و الأكابر اذا أراد الخوض في تحقير الدنيا يرجع حاصل كلامهم الى امور:

ص:78

الأول انّها فانية فيجب على العاقل اجتنابها،فهو اشارة الى انّها في نفسها لذيذة و طيّبة لكنها فانية.

الثاني قولهم انّ طيّباتها ممزوجة بالألآم و راحتها بالكدورات،و هذا ايضا كالأول اشارة الى انّ فيها لذات طيبة لكن المانع للعاقل من ارتكابها ذلك المزج.

الثالث قولهم انّ الأراذل من الناس مشاركون الأفاضل في هذه اللّذات و الراحات بل يزيدون عليهم فيها أضعافا كثيرة حتى انّ العقلاء قد تحيّروا في هذا فقالوا:

كم عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة و صير العالم النّحرير زنديقا

و الأنصاف انّ صاحب هذا البيت و أمثاله لم يتفكروا في صنع اللّه تعالى و لم يدروا انّ الأرزاق على قسمين،قسم منها ما هو رزق للرّوح كالعلوم و المعارف،و قسم منها ما هو رزق للبدن كالمأكل و الملابس و المناكح،فمن رزق من الأوّل حرم من الثاني و كذا العكس،فمن أرادهما معا كان عديم الأنصاف،و لو نظرت الى جاهل جمع من الأموال ما لا يحصى و أراد ان يبدلك ماله بعلمك حتى يكون لك جهله و حماقته لما رضيت و لما قبلت و اذا كان الحال على هذا المنوال فلا ينبغي ان يصير العالم النّحرير زنديقا.

و بالجملة فقول الأكابر ذلك يدل على انّ حالات الدنيا و ان كانت لذّات لكن يجب تركه لرذالة الشركاء و دنائتهم،و أمّا الحكماء فإنهم قالوا ان هذه الأحوال ليست في أنفسها سعادات و لا خير بل هي أحوال خسيسة و مطالب دنيّة في ذواتها،و اذا كان الأمر كذلك فيكون الكلام دائر على امرين،احدهما ان تلك الأحوال خسيسة في نفسها،و ثانيها انّها و ان كانت احوالا شريفة الاّ انّه يلزمها لوازم مكروهة،امّا بيان الأمر الأول فيجيء على انواع.

النوع الأول أنّا رأينا الأنسان كلما كثر جوعه كان التذاذه بالأكل أتمّ،و كلّما كان عهده بالوقاع أطول كان التذاذه ايضا به أكمل،و لا شك انّ الجوع و الأحتياج الى الوقاع ألمان شديدان فلمّا رأينا انّه كلّما كانت هذه الألام أشدّ كان دفعها ألذّ و أطيب غلب على الظّن انّه لا معنى لهذه اللذات و الرّاحات الاّ مجرّد دفع تلك الألام السّابقة،أ لا ترى انّ من جلس في الحمام الحار و غلب استيلاء الحرارة عليه فاذا فتح الباب و دخل عليه نسيم بارد فانّ الأنسان يستلذّ ذلك الهواء البارد استلذاذا في الغاية و ما ذلك الاّ لأنّه عظم تألّمه بسبب الهواء الحارّ في الحمام،فلما وصل اليه النسيم البارد زال عنه تلك الحرارة المؤلمة فعلم منه انّه لا حاصل لتلك اللّذات الحسية الاّ دفع تلك

ص:79

الألام،فيدلّ على انّ هذه الأحوال التي يتخيل انّها لذات في أنفسها ليست لذات بل لا حاصل لها سوى دفع تلك الألام.

الثاني انّ مع المعلوم بالبديهة انّه كلّما كان شهوة الفوز بالشيء أقوى و أكمل كانت اللّذة الحاصلة بسبب وجدانه أقوى و أكمل،فان لم تحصل تلك الشهوة لم تحصل اللذة بوجدانه،أ لا ترى انّ من رمى قلادة الدّر الى الكلب و العظم الى الأنسان فانّه لم تحصل اللّذة لواحد منهما، و اذا عكس حصلت اللّذة فثبت انه كلما كانت الحاجة الى الشيء أشدّ كان الفوز به ألذّ،فثبت انّ مقدار اللّذة الحاصلة في الحال مساوية لمقدار المضرة الحاصلة بسبب الأحتياج اليه في الماضي،و اذا كان الأمر كذلك فحينئذ تتقابل اللّذة الحاصلة في الحال بالألم الحاصل في الماضي و اذا تقابلا تساقطا فصار كأنّه لم يوجد.

الثالث في بيان انّ هذه اللّذات الحسية خسيسة جدا و ذلك انّها بأسرها لا تحصل الاّ بواسطة مخامرة رطوبات عفنة مستقذرة،امّا لذّة الأكل فالأمر فيها ظاهر لأنّ الأنسان لا يلتذ بالطّعام الاّ اذا وضعه في فمه و لا شك انّ ذلك الطعام يمتزج بريق الفم و يختلط به و هو في نفسه شيء مستقذر،و الدّليل عليه انّ تلك اللقمة الممضوغة لو سقطت من الفم فانّ الأنسان يستقذرها و لا يمكنه ان يردّها الى فمه،و ذلك يدل على انّ اللذة الحاصلة من الطعام لا تحصل الاّ عند انعجان ذلك الطّعام و اختلاط اجزائه بتلك الرطوبات المستقذرة فهذا يدلّ على انّ العاقل انّما يقدم على الأكل لا لأنه يعدّه سعادة و بهجة بل لأجل انّه خلق محتاجا اليه و لو لا احتاج اليه لما قدم عليه،و قد انشد عبد القاهر النّحوي هذا البيت:

لو لا قضاء جرى نزّهت انملتي عن ان تلمّ بمأكول و مشروب

و امّا لذة الجماع فخاستها اظهر من ان تحتاج الى البيان،و الدليل عليه انّ أخسّ أعضاء الإنسان هذه الأعضاء المخصوصة و لذلك سترها اللّه تحت الثياب و ان أظهروا غيرها و هذه الأعضاء لا تفيد اللّذة الاّ عند الممّاسة و التلطّخ بتلك الرّطوبات المتولّدة في داخل الأعضاء و تمام اللّذة انّما يحصل بانفصال النّطفة و هي ايضا رطوبة عفنة فلا تكون من جنس الخيرات و السعادات بل يكون الأنسان كالمضطرّ اليها فاذا دفع تلك الآلام و الأرجاع استراح فيظنّ انّها خيرات و لذّات و ليس كذلك،و لذلك ترى الأنسان اذا فرغ من الجماع اخذه فتور البدن و ضعف القوة و ندم على ما فعل،و كان رجل من الظّرفاء يقول لو حصل عندي الشاهدان العادلان عند فراغي من الجماع لطلّقت زوجتي للكراهة الحاصلة لي بعد قضاء الوطر منها.

الرابع في خساسة تلك الأحوال انّ العقلاء اذا رأوا رجلا أكولا ذمّوه و نسبوه الى طبيعة الحيوانات،اما اذا قلل الأكل و الشّرب عظّموه و نسبوه الى طبيعة الملائكة.

ص:80

الخامس انّ اللّذة الحاصلة عند الأكل لذّة ضعيفة جدّا و كمالها انّما يحصل في اللّقمة الأولى و الثانية عند حصول الجوع الشّديد فاذا فتر الجوع فأتت الرّغبة فضعف الألتذاذ بالأكل، فثبت انّ زمان حصول هذه اللّذة زمان قليل،و لذا تقول الناس يقولون ان اللّه تعالى رفع اللّذة عن اطعمة الأغنياء و ودّعها في اطعمة الفقراء و ذلك ان الأغنياء لا يشتد جوعهم فلا يلتذّون بالطعام بخلاف الفقراء.

السادس انذ هذه اللّذات حقيرة جدا و ذلك لأنّ اللّذات الجسمانية المرغوب فيها كثيرة جدّا و الحاصل منها ليس الا القليل،و ذلك يوجب التّعب الشّديد و ذلك لأنّ الأنسان يبصر بعينه جميع ما في المبصرات و اذا أبصر شيئا فقد يميل طبعه اليه فيصير ذلك سببا لإشتداد رغبته في تحصيله،و كذلك القول في القوة السّامعة فانّها تسمع اشياء كثيرة تميل اليها و تتألم من سماع القبيح.

و بالجملة فالقلب بمنزلة المرآة المنصوبة على جدار و كان ذلك الجدار ممرا لأكثر موجودات هذا العالم و كلّما مرّ به شيء ظهر من ذلك الشيء فيه أثر،فان كان موافقا مال طبعه اليه فان لم يقدر على تحصيله تألّم قلبه،فثبت بهذا الطريق انّ قلبه لا بدّ و ان يكون ابدا مستغرقا في الهموم و الآلام،و اما الفرح فانّما يحصل اذا حصل المطلوب و دفع المكروه و ذلك قليل في جنب كثير، فثبت انّ الغالب على هذا العالم هو الهموم و الأحزان،و امّا اللّذة فقليلة جدا و من المعلوم ان النادر في جنب الراجح كالمعدوم بالنسبة الى الموجود،و الذي يؤيد هذا و يؤكده ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه رأى جابر بن عبد اللّه و قد تنفّس الصعداء ففقال يا جابر علام تنفسك اعلى الدنيا؟فقال جابر نعم،فقال يا جابر ملاذ الدّنيا سبعة:المأكول و المشروب و الملبوس و المنكوح و المركوب و المشموم و المسموع،فألذ المأكولات العسل و هو من فضل الذّباب،و أجل المشروب الماء و كفى بإباحته و سياحته على وجه الأرض،و أعلى الملبوسات الديباج و هو من لعاب دودة،و أعلى المنكوحات النساء و هو مبال في مبال،و انّما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها و أعلى المركوبات الخيل و هن قواتل،و أجلّ المشمومات المسك و هو دم من سرّة دابّة و أجل المسموعات الغناء و الترنم و هو اثم،فما هذه صفته كيف يتنافس عليه،قال جابر بن عبد اللّه فو اللّه ما خطرت الدنيا بعد على قلبي.

القسم الثاني الكلام في اللّذات الخياليّة و هي لذّة الرئاسة و نحوها و يدل خسّتها أمور:

الأول كل احد يجب ان يكون هو الرئيس للغير و ان يكون كل من سواه تحت قدرته و تحت تصرفه و حكمه،و ذلك لأنّ كون الأنسان قادرا على الغير نافذ التصرف فيه صفة الكمال محبوبة لذواتها،و كونه مقدورا للغير و محلا لتصرف الغير صفة النقص و صفة النقص مبغوضة

ص:81

لذاتها،فثبت انّ طبع كل احد يحمله على ان يكون هو الرئيس لغيره و هو المتصرف في غيره،و ان يمنع غيره من ان يكون رئيسا حاكما عليه،و اذا كان كذلك فالساعي في تحصيل الرئاسة لذلك الأنسان المعين ليس الاّ ذلك الأنسان،و اما كل من سواه فانهم يسعون في إبطال تلك الرئاسة و في اعدامها و اذا كان كذلك فذلك الأنسان الواحد هو السّاعي في حصول تلك الرئاسة،و اما جميع اهل المشرق و المغرب فكلهم يسعون في ابطالها و دفعها و اعدامها،و المطلوب الذي يقل السّاعي في تحصيله و يكثر الساعي في ابطاله يكون صعب الحصول جدا،و كل ما كان كذلك كان السّعي في طلبه منشأ للهموم و الأحزان و كان العقل مانعا من طلبه و حاكما بوجوب الأحتراز عنه.

و اما اعوان السلاطين و أشباههم فهم انّما يحبون الرئاسة للسلطان اذا علموا تعذر الوصول اليها مع انّ سعيهم انّما هو في نفع انفسهم و لأجل طلب الرئاسة على غيره.

الثاني انّ الرئاسة لا تقف على حد فقبل الوصول اليها هو في ألم طلبها فاذا فاز بها يكون في ألم طلب الزيادة عليها حتى ينصرف(يصرف ظ)عمره في ألم الطّلب كما هو المشاهد من أحوال الحكّام و السلاطين.

الثالث انّ الشيء كلّما كان ألذّ كانت الرغبة في تحصيله أشد(اكثر ظ)و كانت الرغبة في ازالة العوائق عنها اشد و حصول الرئاسة للغير من اشد الأشياء عائقا عن حصولها فكانت الرغبة في ابطال ذلك العائق اعظم الرغبات،فثبت ان كل من رغب في تحصيل الرئاسة فقد رغب الناس في قتله و قوى ميلهم الى افنائه و ابطاله،و من شاهد الأمراء و الملوك عرف انّ الأمر هكذا،لكن من المعلوم انّ الحياة أصل لجميع النعم و الرئاسة فضيلة زائدة،فكلما كان السعي في طلب هذه الفضيلة الزائدة يوجب السعي في ابطال الأصل كان باطلا لأنّ كلّ فرع أفضى الى بطلان الأصل كان باطلا.

الرابع انّ الأنسان اما يمون افضل من غيره او مساويا له او اقل حالا منه فان كان افضل من غيره فكونه أفضل حالة مكروهة لذلك الغير فذلك الغير يسعى بكل ما يقدر عليه في ابطال تلك الفضيلة عن الراجح،فان كان ذلك الرجحان بصفة قابلة للزوال مثل كونه ملكا حاكما فالأعداء يسعون في ابطالها و ازالتها بأقصى ما يقدرون عليه،و ان كان ذلك الرجحان بصفة لا يمكن ازالتها مثل العلم فهيهنا للأعداء طريقان:

احدهما انّهم ان امكنهم اخفاء تلك الفضيلة بطريق من الطرق فعلوه،و ذلك بإلقاء الشّبهات في كلامه و تشويش دلائله.

ص:82

و الثاني انّهم ان عجزوا عنه نسبوه الى انواع القبائح ليصير اتصافه بتلك القبائح و الفضائح مانعا من حصول صفة الكمال له و التّجربة يدلّ على انّ الرجل الكامل لا بدّ و ان يكون مبتلى بهذه الأحوال.

و اما ان كان مساويا لغيره فالوحدانية صفة كمال و صفة الكمال محبوبة لذاتها و الشّركة صفة نقص و النقص مكروه لذاته،و اذا ثبت هذا فالشركاء يسعون بأقصى الوجوه في ابطال الشركة و اظهار انه افضل و أكمل من ذلك الشخص الذي يعتقد فيه كونه شريكا له،و ذلك السعي يكون تارة بالقاء الشبهات في كونه موصوفا بتلك الفضيلة التي فيها وقعت الشركة،و تارة بادّعاء كونه موصوفا بصفة من صفات القبح و النّقصان ليصير ذلك مانعا من كون ذلك الغير شريكا له في الفضيلة،و امّا اذا كان أدون حالا من غيره فهذا الشّخص لا يلتفت اليه بل الأطباء قالوا انّه متى صار عضو من الأعضاء ضعيفا فانّ الأعضاء القوية ترسل اليه جميع الفضلات.

الخامس ان الأنسان امّا ان يكون في الألم او في اللّذة و يكون اليا عنهما،فان كان في الألم و المضرّة فلا شك انه حالة منفردة مكروهة،و ان كان في الخيرة و اللّذة فلا شك انّه عالم بأحوال هذه الدنيا غير باقية بل هي سريعة الزوال مشرفة على الأنقراض و الأنقضاء فكلما كانت الحالة التي يكون الإنسان فيها ألذّ و أطيب كان خوف الزوال أشدّ ايلاما للقلب و اعظم تأثيرا في هذا المعنى،و امّا ان كان الأنسان خاليا عن الألم و اللّذة فانّه يكون كالمعطل الباطل و هذه الحالة مكروهة،و هذا الوجه مجرب عند العقلاء و أشارت اليه الشعراء حتى ان بعضهم طلب ايام الفراق و كره ايّام الوصال لعدم دوام حالات الزمان و اموره.

السادس انّ شعور الأنسان بالكيفيات المحسوسة انّما يكون حال حدوثها له امّا حال بقائها فلا شعور بها فاللذات الحاصلة من هذه المحسوسات لا يحصل في حال الشعور بها و حال حصول الشعور بها ليس الا حال حدوثها ينتج ان الألتذاذ بهذه المحسوسات لا يحصل الا حال حدوثها فاذا لم يحصل الألتذاذ في حال البقاء و الطّبع طالب اللذة صار طالبا لشيء آخر فعلى هذا لو انّ الأنسان ملك خزائن الأرض كلها فإلتذاذه بها لا يكون الا حال حدوثه ثم عند الفراغ يطلب شيئا آخر و يحاول تحصيل الزيادة و بسبب ذلك الطلب و الحرص يحصل في قلبه ألم الشّوق و مضرة الطلب،فثبت انّ هذا البلاء ممّا لا سبيل الى دفعه.

السابع ان الأنسان اذا فتح باب الحرص على نفسه فقد ينتهي ذلك الى ان يصير طالبا للجمع بين الضدين و مثاله انّ القدرة صفة كمال و هي محبوبة بالذات و الأستغناء عن الغير صفة كمال فتكون محبوبة بالذات،اذا عرفت هذا فنقول:انّ الرجل اذا مال الى طبعه الى السخاوة و الجود فهذه السخاوة من حيث انها تدل على انّ قلبه غير ملتفت الى حب المال صارت كأنها

ص:83

مطلوبة و من حيث انها تقضي خروج المال من يده و خروج المال عن اليد يوجب نقصانا في القدرة الحاصلة بسبب المال و النقصان في القدرة مكروه صارت السخاوة من هذه الجهة مكروهة منفردة و جميع الخلق موصوفون بهذه البليّة،و لأجل ميل الطبع الى حصول المدح و الثناء و التعظيم يحبون الجود و السخاوة،و لأجل فوت القدرة الحاصلة بسبب ذلك المال يبغضونه،فلهذا السبب بقي كل الخلق في موقف المعارضة و الترجيح،فمنهم من ترجّح عنده ذلك الجانب فيبذل المال،و منهم من المعارضة و الترجيح،فمنهم من ترجّح عنده ذلك الجانب فيبذل المال،و منهم من ترجّح عنده الجانب الثاني فيمنع،و منهم من بلغ في الجهالة الى حيث يريد الجمع بين الوجهين فيعد الناس بالجود و السخاوة و المروّة و الكرم طمعا منه في انّه ربّما فاز لهذا المعنى بالمدح و الثناء ثم انّه عند حضور الوقت لا يفي به فحينئذ يقع في الفضائح،و اذا تأملت احوال أهل الدنيا علمت انّهم بأسرهم داخلون تحت البلاء المتولّد من هذه القضيّة،اما في الكثير منه او القليل.

الثامن انّ الأنسان امّا ان يسد باب الأنعام على الغير و اما ان لا يسده و في كل واحد من هذين الطّرفين آفات كثيرة،امّا آفات القسم الأول فامور:

أولها انّ كل من اشتهر عند الناس بالبعد من الخير و النفع أبغضوه،و كل من صار بغيضا عند الكلّ فوصول الآفة اليه أسرع من كل شيء.

و ثانيها انّ الناس اذا عرفوا منه تلك الصفة بغضوه و لم يلتفتوا اليه،و كل من علم من الناس انّهم انّما ينظرون اليه بعين المقت و الأزراء فانّه يضيق قلبه و تتألم روحه،و ثالثها انّه اذا لم يظهر منه خير صار كالجماد و كالعدم و هذه حالة منفردة جدا.

و امّا القسم الثاني فآفاته كثيرة ايضا منها انّ ايصال الخير الى الكل محال فلا بد من ايصاله الى البعض دون البعض و ذلك يصيره سببا للعداوة الشديدة فانّه يقول له لم منعتني خيرك و أوصلته الى غيري،و منها انّ الذي وصل اليه الخير مرّة يلتذّ بذلك الخير و الألتذاذ سبب للطلب فيبقى ابدا طامعا في ذلك الرجل و ايصال الخير اليه في كل حين و ساعة متعذر فيصير ذلك سببا للعداوة الشديدة،و لهذا قيل اتق شر من احسنت اليه،و منها انّ المقدار الذي وصل اليه من الخير يصير معتادا بالوفاء و يصير كالأمر المستحق فيقع في قلبه طلب الزيادة عليه فيصير ذلك سببا قويا في العداوة،فثبت ان على التقديرين أعني باب سدّ الخيرات و فتحها لا يسلم الأنسان عن الضرر، و للإشارة الى هذه الأحوال قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقريش لا تسعوا الناس بأموالكم و لكن سعوهم بأخلاقكم.

ص:84

التاسع انّ الأنسان امّا ان تفرغ جميع الخلق و يعتزل عنهم و اما ان يخالطهم و يصاحبهم و على كلا التقديرين فالضرر لازم،اما الأول فلأن الأنسان مدني الطبع و ما لم يجتمع مع الجمع العظيم فانّ مصالحه لا تنتظم.

و امّا الثاني ففي معاشرة النّاس ارتكاب الغيبة و النميمة و الرياء و سائر اسباب مهالك الدارين.العاشر انّ الأنسان اما ان يعيش في الدنيا خاليا عن الزوجة و الولد او معهما و كل واحد من القسمين سبب لحصول الآفات و البليّات،امّا مع الزوجة و الولد فلا يحتاج الى البيان،امّا الزوجة و هي كما قال سبحانه لإبراهيم عليه السّلام انّ مثلها كالضّلع الأعوج فدعه اعوجاجه و استمتع به مع انّ الأفعى التي تكون مغع الأنسان تلدغه ساعة بعد ساعة أسهل و أخف على الأنسان من امرءة السوء،و قال بعضهم انّه لا امرأة في الدنيا الا و هي امرأة سوء لكنهنّ يتفاوتن في مراتب السوء،و نقل اخلاقهنّ و ذمائم أفعالهن يحوج الى تأليف عشرة آلاف كتاب بل أزيد.

و امّا الولد فان كان جيدا كان خوف موته ينغض(ينقص خ)جميع الطيّبات،و ان كان رديّا تألم القلب عند حياته تألما يزيد على كل الآلام و الآفات،و من ذلك روى انّ عليا عليه السّلام رأى رجلا و معه ولده لا تحبّه فانّه ان عاش كدّك و ان مات هدك (1)و ان كان خاليا عنهما فمشقّته ظاهرة ايضا.

الحادي عشر انّ هذه الحياة هل هي طيبة لذيذة في نفسها او ليست كذلك،و القسم الأول باطل لأنّ الشيء الطيّب المستلذ كلّما كانت مشاهدته أكثر كان الألتذاذ به أقوى و أكمل فكان يجب ان يكون الأنسان الفارغ عن كل الأعمال و الأقوال المراقب لمرور الساعات و الأوقات عليه حال كونه حيّا يعظم التذاذه لذلك لأنّه على هذا التقدير يشاهد اللّذيذ المشتهى و هذا باطل لأن المعطل عن كل الأعمال يضيق قلبه و لا يمكنه تحمل ذلك،و لذلك صار الملوك يشغلون أنفسهم بالصيد و اللّعب حذرا من التّعطيل و كذا غيرهم،و امّا ان لا يكون الحياة لذيذة في نفسها فهذا ايضا باطل و ذلك لأنّ كلّ حيوان يكره الموت و يفرّ منه و اذا تخيّل نزول الموت به دفعه على اقوى الوجوه.

الثاني عشر انّ الأنسان امّا ان يكون رئيسا على الغير او لا يكون و في كل واحد من القسمين انواع من الآفات،اما القسم الأول فنقول انّ الرئاسة انّما تكون لذيذة اذا كان احوال الخدم واقعة على وفق ارادة الرئيس و كلّما كان عدد الخدم اكثر كانت ارادات الرئيس اكثر، و كلما كانت الأرادات اكثر كانت الآلام الحاصلة بسبب فوت تلك المرادات اكثر لكن من المعلوم

ص:85


1- (1) هدك هدكا البناء:هدمه.

انّ حصول المرادات الجسمانية ابدا كالممتنع لأنّ اجسام هذا العالم مبينيّة على التغيير و التبدل و سرعة الأنقضاء فانّها كالزيبق تتبدل من حال الى حال،فثبت انّه كلّما كانت الرئاسة اكثر و اعظم كانت الحسرات و الزفرات و الغموم و الهموم أقوى و أكثر.

و امّا القسم الثاني و هو ان لا يكون رئيسا فهو(اماظ)ان يكون معطلا محروما و امّا ان يكون خادما ضعيفا و كلاهما منفزان.

الثالث عشر انّ حصول الرئاسة اما ان يكون مع العدل او يكون مع الظّلم و كلاهما منفران،امّا مع العدل فهو متعذر لأنّه يقتضي تسليم الرئاسة الى من هو الأحقّ بها،و اما مع الظلم فهو موجب لتحقير الدنيا و عذاب الآخرة.

الرابع عشر انّه لا يمكن اجراء الرئاسة على الظّاهر الاّ مع الكذب و التزوير فان الرئيس الكامل لو شافه كل أحد بأنّك لا تستحق عندي الا القدر الفلاني من التعظيم و انّك دون فلان و فلان لتشوشت رئاسته و اختلت ولايته بل لا بد و ان يقول لأكثر اصحابه انّك أفضل الناس و أكمل اصحابي عليّ و عليك اعتمادي و هو يعلم انّ كل هذا القول زور و بهتان.

الخامس عشر انّ الرئاسة لا تحصل الاّ بالأتفاق الكثير و هو لا يمكن الاّ بالمال الكثير و لا ريب في انّ تحصيله شاقّ فلو لم يكن للرئيس من المشاق الاّ تعلق قلبه بتحصيل الأموال الكثيرة و صونها عن اللصوص و السرّاق لكفى ذلك تعبا و مشقة فكيف و انّه يحتاج الى تحصيل تلك الأموال من غير حلها فيستحق اللّعن،و كل من اعطاه منها شيئا يستقلّه بالنظر الى ما يتوقع منه، فيستحق منه الطعن فتكون حاله دائرة بين اللّعن و الطّعن.

السادس عشر انّ هذا الرئيس امّا ان يكون حسن المعاشرة طيّب الخلق غير مهيب،او يكون هناك مهيبا معظما،اما الأول فبأنه اختلط معهم لم يحتشموه و لم يبق له في قلوبهم وقع و لا ينقادون له،و هذا من اسباب زوال الملك،و امّا الثاني فانّهم اذا خافوه ربّما قصدوا قتله فلا بدّ له حينئذ من التوسط بين الحالتين و هو غير معلوم و مقداره غير مضبوط،فربّما وقع الغلط من الرئيس في موارده فمن ثم يكون الرئيس دائما في مقام الخوف.

السابع عشر انّ ذلك الرئيس امّا ان يساوي بين جميع اصحابه في العطيّة او يفضل بعضهم على بعض و في كليهما زوال الرئاسة كما لا يخفى.

الثامن عشر حقيقة الرئاسة انّ ذلك الرجل يلتزم باصلاح جميع مهمات الخلق و عقل الأنسان لا يفي باصلاح مصالح نفسه فكيف يفي باصلاح مهمات الخلق العظيم.

القسم الثالث في اللّذات العقلية الحاصلة بسبب العلوم،اعلم انّ العلوم امّا عقلية و امّا وضعية،فأما العلوم الوضعية فلا ينتفع بها الاّ بسبب مصالح الحياة الجسمانية،و التبع لا يكون

ص:86

اكمل من الأصل لما قد سبق من خساسة الحياة الجسمانية و من هنا ترى انّ اكثر العلوم التي ترى الخلق مقبلين عليها علوم خسيسة فانّه لا فائدة فيها الاّ اعانة المصالح الدنيوية،و اما العلوم العقلية و هي امّا ان تكون مطلوبة لذاتها او لغيرها.

الثاني كالمنطق و شرفه مرتب على شرف ذلك الغير،و الأول هو معرفة الاله و هو أشرف العلوم و لكن من ذا الذي الى عتبة تلك الحضرة العلية و من ذا الذي شمّ رائحة تلك الحديقة الزاهرة فحاصل العقول كلّها ظنون و خيالات و منتهى الأمر أوهام و حسبانات.

قال الرازي هذه الأشياء المسمّاة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها و وقف عليها وجب ان يقبلها و ان لا ينكرها أصلا،و حيث نرى انّ الذي يسميّه احد الخصمين برهانا فانّ الخصم الثاني يسمعه و يعرفه و لا يفيد له ظنّا ضعيفا علمنا انّ هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين بل هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية و المحبّة يحتجّ فتخيل بعضهم كونه برهانا مع انّ الأمر في نفسه ليس كذلك،و ايضا فالمشبّه يحتجّ على القول بالتشبيه بحجة و يزعم انّ تلك الحجة أفادته الجزم و اليقين،فاما ان يقال انّ كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة فحينئذ يلزم صدق النّقيضين و هو باطل،و امّا ان يقال احديهما صحيحة و الأخرى فاسدة الاّ انه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجة باطلة في نفسها مع انّ الذي تمسك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة ابتداء فهذا يدل على انّ العقل يجزم بصحة الفاسدة جزما ابتداء فاذا كان الأمر كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات،و اذا كان كذلك فحينئذ تنسدّ جميع الدلائل.

فان قالوا العقل انّما جزم بصحة ذلك الفاسد لشبهة متقدمة،فنقول قد حصل في تلك الشّبهة المتقدمة مقدّمة فاسدة،فان كان ذلك لشبهة اخرى لزم التسلسل،و ان كان ابتداء فقد توجّه الطّعن،و ايضا فانّا نرى الدلائل القوية في بعض المسائل العقلية متعارضة مثل مسئلة الجوهر الفرد،فانا نقول كلّ متحيز فانّ يمينه غير يساره و كلما كان كذلك فهو منقسم،ينتج ان كل متحيز منقسم ثم نقول الآن الحاضر غير منقسم و الا لم يكن كلّه حاضرا بل بعضه،و اذا كان غير منقسم كان أول عدمه في آن آخر متصل بآن وجوده فلزم تتالي الأنات و يلزم منه كون الجسم مركبا من اجزاء لا تتجزى،فهذان الدّليلان متعارضان و لا نجد جوابا شافيا عن احدهما،و نعلم ان احد الكلامين مشتمل على مقدمة باطلة و قد جزم العقل بصحتها ابدا فصار العقل مطعونا فيه.

ثمّ أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام طويل فظهر من هذا كلّه انّ اللّذات الحسيّة خسيسة و اللّذات الخيالية مستحقرة،و اما اللّذات العقلية فلا سبيل الى الوصول اليها و القرب منها و التّعلق بها على انّا نقول انّ المناقضة في الأستدلال و في تعارض الدليلين العقليين يكون موجودا بالنّسبته

ص:87

الى الشخص الواحد،فانّا اذا نظرنا في تحصيل مجهول رتّبنا له مقدمات نزعم انّها بديهية،فلما نظرنا في تلك المقدمات و حصل عقيب ذلك النّظر اعتقاد سمينا ذلك الأعتقاد علما،ثم ينكشف لنا بعده بطلان ذلك الأعتقاد و فساده مع ترتب ذلك الأعتقاد على المقدمات التي كانت بزعمنا بديهية،فعلم من هذا انّ حال غيرنا نافي الأستدلال مثل حالنا،و الغلط الذي يعرض لغيرنا فكيف يحصل لنا الجرم من تلك الحجج و البراهين اذا عرفت هذا كله.

فاعلم ان هيهنا بحث شريف حققناه في شرحنا على تهذيب الحديث و لا بأس بالإشارة هنا ايضا الى مجمله و حاصله انّ اكثر الأصحاب قد تبعوا جماعة من مخالفينا من أهل الرّأي و القياس و من أهل علم الطّبيعة و الفلاسفة و غيرهم من الذين اعتمدوا على العقول و استدلالاتها و طرحوا ما جاءت به الأنبياء عليهم السّلام حيث لم يأت على وفق عقولهم،حتى انّه نقل ان عيسى عليه السّلام لمّا دعى افلاطون الى التصديق بما جاء به أجاب بأنّ عيسى رسول الى ضعفاء العقول و امّا انا و امثالي فلسنا نحتاج في المعرفة الى ارسال الأنبياء و الحاصل انّهم ما اعتمدوا في شيء من امورهم الا على العقل فتابعهم بعض اصحابنا و ان لم يعترفوا بالمتابعة،فقالوا انّه اذا تعارض الدليل العقلي و النقلي طرحنا النقلي او تأولناه الى ما يرجع الى العقل،و من هنا تراهم في مسائل الأصول يذهبون الى اشياء كثيرة قد قامت الدّلائل النّقلية على خلافها لوجود ما تخيّلوا انّه دليل عقلي كقولهم بنفسي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محله من مقدمات لا تفيد ظنّا فضلا عن العلم،و سنذكرها ان شاء اللّه تعالى في انوار القيامة مع وجود الدلائل من الكتاب و السنّة على انّ الأحباط الذي هو الموازنة بين الأعمال و اسقاط المتقابلين و ابقاء الرجحان حق لا شك فيه و لا ريب يعتريه،و مثل قولهم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يحصل له الأسهاء من اللّه تعالى في صلاة قط تعويلا على ما قالوه من انّه لو جاز منه السهو في الصلاة لجاز عليه في الأحكام مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح و الحسان و الموثقات و الضعفاء و المجاهيل على حصول مثل هذا الأسهاء،و علل في تلك الروايات بأنّه رحمة للأمة لئلا يعبر الناس بعضهم بعضا بالسّهو،و سنحقق هذه المسئلة في نور من هذا الكتاب ان شاء اللّه تعالى الى غير ذلك من مسائل الأصول.

و اما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدّلائل النقلية و القول بما أدّت اليه الأستحسانات العقلية،و اذا علموا بالدلائل النّقلية يذكرون اولا الدلائل العقلية ثم يجعلون دليل النّقل مؤيدا لها و عاضدا ايّاها،فيكون المدار و الأصل انّما هو العقل و هذا منظور فيه لأنّا نسألهم عن معنى الدّليل الذي جعلوه أصلا في الأصولين و في الفروع فنقول ان اردتم به ما كان مقبولا عند عامة العقول فلا يثبت و لا يبقى لكم دليل عقلي،و ذلك كما تحققت من ان العقول مختلفة في

ص:88

مراتب الأدراك و ليس لها حدّ تقف عنده،فمن ثم ترى كلاّ من اللاحقين تتكلم على دلائل السابقين و ينقصه و يأتي بدلائل اخرى على ما ذهب اليه،و لذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء و الأفاضل و ان كان المطلوب متحدا،فانّ جماعة من المحققين قد اعترفوا بأنه لم يتم دليل من الدلائل على اثبات الواجب،و ذلك انّ الدلائل التي ذكروها مبنية على بطلان التسلسل و لم يتم برهان على بطلانه فاذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت الى الأستدلال عليه كافة الخلائق فكيف يتم على غيره ممّا توجهت اليه آحاد المحققين و ان كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به و اعتقاده فلا يجوز لنا تكفير الحكماء و الزنادقة و لا تفسيق المعتزلة و الأشاعرة و لا الطعن على من ذهب الى مذهب يخالف ما نحن عليه،و ذلك انّ اهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب الى دلائل كثيرة من العقل و كانت مقبولة في عقولهم معلومة لهم و لم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر او دلائل النقل و كلاهما لا يصلح للمعارضة على ما قلتم لأنّ الدليل النّقلي يجب امّا تأويله او طرحه و دليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره لأن عنده مثله و يجب عليه العمل بذاك،مع انّ الأصحاب رضوان اللّه عليهم ذهبوا الى تكفير الفلاسفة و من يحذوا حذوهم و تفسيق اكثر طوائف الأسلام،و ما ذاك الا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل و لم يعدوها من دلائل العقل.

فان قلت فعلى ما ذكرت من عدم الأعتماد على الدليل العقلي فلا يكون معتبرا بوجه من الوجوه،قلت بل الدّليل العقلي ينبغي تقسيمه الى اقسام ثلاثة:

الأول كان بديهيا ظاهرا في البداهة و لا يعارضه آخر مثل الواحد نصف الأثنين و ما في درجته من البديهيات.

الثاني ما كان دليلا عقليا نقلي الاّ انّ ذلك العقلي قد تعاضد مع نقلي آخر فهذا ايضا يترجّح على الدّليل النّقلي عند التّعارض و لكنّ التعارض في الحقيقة انّما هو بين النقليات،و ذلك كما دلّ الدليل العقلي على انّه تعالى ليس في مكان،و دل قوله تعالى الرحمن على العرش استوى،على المكان ظاهرا فيجب ترجيح ذلك العقلي لتأيّده بالنّقليات الدالة على انّه تعالى منزّه عن الكون و المكان.

الثالث ما تعارض فيه محض العقل و النقل من غير تأيّد بالنّقل فهذا لا نرجّح فيه العقل بل نعمل بالنقل و لا تستغرب مثل هذا فانه مدلول الأخبار الصحيحة الصّريحة فيه،و ذلك انّهم عليهم السّلام قد نهوا عن الأعتماد على العقول لأنّها ضعيفة لا تدرك الأحكام و لا عللها و ما حصل محققوا أصحابنا رضوان اللّه عليهم دلائلهم العقلية الاّ بسبب ورود النّقل بمضمونها فأيّدوا النقل بذلك

ص:89

الدليل لكنّهم في كثير من المواضع يهملون مثل هذا و يعوّلون على العقل و يطرحون النّقل لأجله، و الحاصل انّ لذات الدنيا هذه كلّها خيالات،و لذا قال الرازي:

نهاية أقدام العقول عقال و اكثر سعي العالمين ضلال

و ارواحنا في وحشة من جسومنا و حاصل دنيانا أذى و وبال

و لم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى ان جمعنا فيه قيل و قال

و كم قد رأينا من رجال و دولة فبادوا جميعا مسرعين و زالوا

و كم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا و الجبال جبال

فهذه احوال الذّات المحللة و امّا لذاتها المحرمة فعليها عقاب الدارين.

و اما الزنا فقد تقدم بعض احواله،و روي عن الباقر عليه السّلام انّه قال لا يزني الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن،و معناه في حديث آخر انّ روح الأيمان تفارقه ما دام على بطن المرأة فاذا قام من بطنها رجعت اليه،و امّا وباله الراجع اليه فهو انّ الزاني على ما روي انّه لا يزني الاّ و قد زنى به او يزنى به و ان زنى بأولاد الناس او لاط بهم زني بأولاده و ليط بهم،و ان زنى بنساء الناس زنى بامرأته.

روي انّه كان في زمن داود عليه السّلام رجل فاسق،فأتى يوما الى امرأة فجبرها على الزنا فلمّا قعد على بطنها ألهمت تلك المرأة ان قالت له أنت تزني بي و في هذه السّاعة رجل يزني بإمرأتك،فقام و مضى الى بيته فرأى رجلا يزني بإمرأته فاخذه الى داود عليه السّلام و حكى له انّه كان يزني بامرأته فأوحى اللّه تعالى اليه يا داود قل له كما تدين تدان شعر:

كما يدين الفتى يوما يدان به من يزرع الثوم لم يحصد ريحانا

و ذلك كله مع النّدامة التي يلحقه بعد الفراغ من الزنا ان كان له شيء من الأيمان.

و امّا الخمر و ما ورد فيه من الوعيد في الكتاب و السنة فهو كثير حتى انّ اللّه تعالى قرن الخمر بعبادة الصنم،فقال انّما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه،و في الحديث انّ شارب الخمر كعابد الوثن،و قال عليه السّلام لعن اللّه الخمر و غارسها و ساقيها و المحمولة اليه و مشتريها و بائعها و آكل ثمنها.

و عن امير المؤمنين عليه السّلام لو انّ قطرة من الخمر قطرت في بئر و نزح ماء من ذلك البئر و سقى به أرض فأنبتت حشيشا و يبس ذلك الحشيش،ثمّ انّ شاة رعت من ذلك الحشيش فاختلط فيه قطيع غنم و اشتبهت ثم ذبحت تلك الشّياه كلّها لم آكل من لحومها شيئا و قال عليه السّلام لا تجالسوا شارب الخمر و لا تزوّجوه و لا تزوّجوا اليه،و ان مرض فلا تعودوه و ان مات فلا

ص:90

تشيعوه،و ان شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوّدا وجهه مزرقة عيناه،مائلا شدقه سائلا لعابه، دالعا لسانه من قفاه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر،و قد روي ايضا تحريم النظر الى الخمر،و لكونه من الخبائث المحرّمة ورد عنه عليه السّلام انّ من ترك شرب الخمر لغير وجه اللّه تعالى بل حفظا لبدنه او عرضه سقاه اللّه تعالى من الرحيق المختوم،مع انّ الذنوب لا يثاب عليها تاركها الاّ اذا كان الترك لوجه اللّه تعالى.

و اعلم انّه على ما يحكى عنه شاربوه من ان فيه النتن و العفونة،و انّ الجرعة عنه اذا وصلت الى الحلقوم و انتهت الى الجوف تكون كجرّة السكّين من الحلق الى الجوف لو كان حلالا لما شربه أحد مع هذه الأوصاف التي عدوها فيه،لكن الشّيطان يقوي عزائم اوليائه،مع ما روي من قوله عليه السّلام من بات سكرانا بات عروسا للشّيطان فمن كان الشّيطان يلوط به فيا سوء حاله و يا حزن باله.

و امّا السّرقة فالمهانة المرتبة عليها ظاهرة،حتى انّ اليد التي قيمتها خمسمائة دينار قد أذلها اللّه سبحانه في باب السرقة حتى انّه امر بقطعها بربع الدنيا،فقال المعري شعرا (1)معترضا به على الحكمة الألهية و ذلك انّه قيل فيه الزّندقة:

يد بخمس مئين عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار

فأجابه المرتضى طيّب اللّه ثراه:

حراسة النفس(عز الأمانة خ)أغلاها و أرخصها خيانة المال(ذل الخيانة خ)فافهم حكمة

الباري

و حكي ان رجلا اخرج من السجن في رجله قيد و هو يسأل الناس،فقال الأنسان اعطني كسوة خبز،فقال لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد في رجلك،و أمثال هذه المعاصي هي فخوخ (2)الشيطان و مصائده.

ص:91


1- (1) .ابو العلا احمد بن عبد اللّه بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري ولد بمعرة النعمان في عام(363)ه و توفي عام(449)ه و البيت الأول كما صرّح هو نفسه في كتابه(لزوم ما لا يلزم)هو هذا البيت: تناقض ما لنا الا السكوت به و ان نعوذ بمولانا متن النار ثم يقول يد بخمس مئين الخ فما في بعض الكتب ان البيت الأول هو قوله: يد بخمس الخ لا وجه له-انظر لزوم ما لا يلزم ج 1 ص 391 ط 2 مصر سنة(1348)ه ق.
2- (2) الفخ آلة يصاد بها جمع فخاخ و فخوخ و يقال:وثب فلان من فخ الشيطان أي تاب.

كما روي ان ابليس كان يأتي الأنبياء عليهم السّلام من لدن آدم الى ان بعث اللّه المسيح عليه السّلام يتحدث عندهم و يسائلهم و لم يكن بأحذ منهم أشدّ أنسا منه بيحيى بن زكريا عليه السّلام فقال له يحيى يا أبا مرة أحب ان تعرض عليّ مصائدك و فخوخك التي تصايد(تصطاد خ) بها بني آدم،فقال لها بليس حبا و كرامة و واعده لعذ،فلمّا اصبح يحيى عليه السّلام قعد في بيته ينتظر الموعد و أغلق عليه أغلاقا فما شعر حتى اتى اليه من خوخة (1)كانت في بيته،فاذا وجهه صورة وجه القردة،و جسده على صورة الخنزير،و اذا عيناه مشقوقتان طولا و فمه مشقوق طولا، و اذا اسنانه عظم واحد بلا ذقن و لا لحية،و له اربعة ايد:يدان في صدره،و يدان في منكبه و اذا عراقيبه (2)قوادمه و اصابعه خلفه و عليه قباء و قد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين احمر و اصفر و اخضر و جميع الألوان،اذا بيده جرس عظيم و على رأسه بيضة،و اذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب،فلما تأمله يحيى عليه السّلام قال له ما هذه المنطقة التي في وسطك؟فقال هذه المجوسيّة التي سننتها و زيّنتها لهم،فقال له ما هذه الخيوط الألوان؟قال هذه اصباغ النساء لا تزال المرأة تصبغ الصّبغ حتى تقع مع لونها فيفتتن الناس بها،فقال له فما هذا الجرس الذي بيدك؟قال مجمع كل لذة من طنبور و بربط و مغرفة و طبل و ناي و صرناي،و انّ القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرّك الجرس فيما بينهم فاذا سمعوه استخفهم الطرب،فمن بين من يرقص،و من يفرقع اصابعه و من بين من يشق ثيابه.

فقال و اي الأشياء اقر لعينك؟قال النساء هنّ فخوخي و مصائدي فانّي اذا اجتمعت على دعوات الصالحين و لعناتهم صرت الى النساء فطاب نفسي بهن فقال له يحيى عليه السّلام فما هذه البيضة التي على رأسك؟قال بها اتوقى دعوات المؤمنين،قال فما هذه الحديدة التي ارى فيها؟ قال بهذه أقلّب قلوب الصالحين،قال يحيى عليه السّلام فهل ظفرت بي ساعة قطّ؟قال لا و لكن فيك خصلة تعجبني،قال يحيى فما هي؟قال انت رجل أكول فاذا أفطرت أكلت و شبعت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك و قيامك بالليل،قال يحيى عليه السّلام فانّي أعطي اللّه عهدا اني لا اشبع من الطّعام حتى القاه،قال له ابليس و انا أعطي اللّه عهدا انّي لا انصح مسلما حتى ألقاه،ثم خرج فما عاد اليه بعد ذلك فهذه فخوخه.

و اما دواء جراحاته فروى الفضل بن شاذان في تفسير مولانا الحسن العسكري عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آلافا ذكروا امّة محمد محمد و آله عند نوائبكم و شدائدكم لينصر اللّه به ملائكتكم على الشّياطين الذين يقصدونكم،فانّ كل منكم معه ملك عن

ص:92


1- (1) الخوخة كوة تؤدي الضوء الى البيت،الباب الصغير في الباب الكبير.
2- (2) المرقوب عصب غليظ فوق العقب.ج عراقيب.

يمينه يكتب حسناته،و ملك عن يساره يكتب سيئاته،و معه شيطانان من عند ابليس يغويانه،فمن يجد منكم وسواسا في قلبه و ذكر و قال لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم و صلّى اللّه على محمد و آله الطّيبين الطاهرين خنس (1)الشيطانان فأتيا الى ابليس فشكواه و قالا له قد أعيانا أمره فامددنا بالمردة،فلا يزال يمددها بألف مارد،فيأتونه فكلّما راموه و ذكر اللّه و صلى على محمد و آله الطيبين لم يجدوا عليه طريقا و لا منفذ قالوا لإبليس ليس له غير انّك تباشر بجنودك فتغلبه و تغويه،فيقصد ابليس بجنوده،فيقول اللّه تعالى للملائكة هذا ابليس قد قصد عبدي فلانا او امتي فلانة بجنوده فقبلوه،فيقابلهم بازاء كل شيطان رجيم منهم مائة ألف ملك و هم على افراس من نار بأيديهم سيوف من نار و رماح من نار و قسي و نشاشيب و سكاكين و اسلحتهم من نار،فلا يزالون يخرجونهم و يقتلونهم بها و يأسرون ابليس فيضعون عليه الأسلحة،فيقول يا رب وعدك وعدك قد أجلتني الى يوم الوقت المعلوم،فيقول اللّه عز و جل للملائكة وعدته لأميته و لم اعده ان لا أسلط عليه السلاح و العذاب و الآلام اشتفوا منه ضربا بأسلحتكم فانّي لا اميته،فيثخنونه بالجراحات ثم يدعون فلا يزال سخين العين على نفسه و اولاده المقتلين(المتقدمين خ)و لا يندمل شيء من جراحاته الا بسماع اصوات المشركين بكفرهم،و ان بقي على طاعة اللّه و ذكره و الصلاة على محمد و آله بقي على ابليس تلك الجراحات،و ان زال العبد عن ذلك و انهمك في مخالفة اللّه عز و جل و معاصيه اندملت جراحات ابليس،ثم قوى ذلك العبد حتى يلجمه و يسرجه على ظهره و يركبه ثم ينزل عنه و يقول ظهره لنا الآن متى اردنا نركبه،و هذا الملعون قد تصدى لإضلال المؤمنين في بلدانهم قبل خلقهم.

روى الصدوق ره باسناده قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما اسرى بي الى السماء حملني جبرئيل عليه السّلام على كتفه الأيمن فنظرت الى بقعة بأرض الجبل حمراء أحسن لونا من الزعفران،أطيب ريحا من المسك،فاذا فيها شيخ على رأسه برنس،فقلت لجبرئيل ما هذه البقعة الحمراء؟قال بقعة شيعتك و شيعة وصيّك علي،فقلت من الشيخ صاحب البرنس؟قال ابليس،قلت فما يريد منهم،قال يريد ان يصدهم عن ولاية امير المؤمنين عليه السّلام و يدعوهم الى الفسق و الفجور،فقلت يا جبرئيل أ هو بنا اليهم،فاهوى بنا اليهم اسرع من البرق الخاطف، فقلت قم يا ملعون فشارك اعدائهم في اموالهم و اولادهم و نسائهم فانّ شيعتي و شيعة علي ليس لك عليهم سلطان فسميت تلك البلاد قم لذلك.

ص:93


1- (1) خنس عنه تأخر و تنحى و انقبض.

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس لك عليهم سلطان يعني به التّسلط الذي يخرجهم به من الأيمان الى الكفر كما هو حاله مع غيرهم،و امّا ايقاعهم في المعاصي فلا يقال له سلطان و ذلك لأنّهم يتداركونه بأمور كثيرة.

كما روي ان رجلا اتى الصادق عليه السّلام فقال له انّ جماعة من مواليك و شيعتك قد انهمكوا في المعاصي فما حالهم في القيامة،فقال عليه السّلام يتوبون بعد المعصية فيغفر اللّه لهم، فقال ربّما لم يتوبوا،فقال انّ اللّه سبحانه يبتليهم بالأوجاع و الأمراض و نقص من الأموال و الأولاد ليكون كفّارة لذنوبهم،فقال الرجل ربّما لم يبتلوا بهذه،فقال لعلهم يبتلون بسلطان جائر يؤذيهم فيكون كفّارة لذنوبهم،فقال ربّما لم يكن ذلك قال عليه السّلام فان لم يكن ذلك ابتلوا بجار يؤذيهم فيكون كفارة لذنوبهم،قال ربّما لم يكن ذلك،قال ان لم يكن ذلك فقد يبتلون بامرأة سوء تؤذيهم فيكون ايذاء تلك الزوجة كفارة لذنوبهم،فقال ربّما لم يكن ذلك فغضب عليه السّلام فقال اذا لم يكن واحد من هذا كله ادركتهم شفاعتنا و ينجيهم من أهوال القيامة رغما على انفك.

أقول ما أدري ما يقول الناظر في هذه المكفرات للذنوب من انّ ايّها اعظم مصيبة على الأنسان،قال بعض المحققين أشد هؤلاء هو زوجة السّوء أخت الشّيطان و امّه،و لما أتى جبرئيل عليه السّلام الى لوط لعذاب امته و صنعت امرأة لوط ما صنعت من اخبار فساق امته بأن عند لوط ضيفانا،قال جبرئيل له يا لوط انت نبي فكيف يكون هذه امرأتك؟فقال له لوط عليه السّلام يا جبرئيل انّ اللّه سبحانه أوحى اليّ ان يا لوط لا بدّ لكل واحد من اوليائي من شخص يؤذيه في الدنيا لرفع درجته في الجنّة فاختر من شئت،فاخترت ان يكون المؤذي لي زوجتي،و اختياره عليه السّلام لها اشارة الى ما قلناه من انّها اعظم مصيبة من كل المصائب و لهذا اختارها لوط عليه السّلام لأنّ الأنبياء لا يختارون الاّ ما كان اكثر ثوابا و أشقّ و أشدّ من غيره فلو كان هناك مصيبة او هائلة تعادلها لطلبها لوط عليه السّلام،و هكذا وقع مثل هذا لنوح عليه السّلام حتى ضرب اللّه سبحانه مثل تلك المرأتين في القرآن اشارة الى هاتين المرأتين و هما زوجتا نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقد صنعتا صنعا يزيد على صنع المرأتين الأوليين،لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجري في هذه الأمة ما جرى في الأمم السابقة حذو النّعل بالنّعل و القذّة بالقذّة.

و في الروايات عن علي عليه السّلام قال كنت جالسا عند الكعبة فاذا شيخ محدود ب، فقال يا رسول اللّه ادع لي بالمغفرة،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاب سعيك يا شيخ و ضلّ عملك قال علي عليه السّلام فلمّا ولّى قلت يا رسول اللّه من هذا؟قال ابليس لعنه اللّه، فعدوت خلفه حتّى لحقته و صرعته الى الأرض و جلست على صدره،و وضعت يدي على حلقه

ص:94

لأخنقه،فقال لي لا تفعل يا ابا الحسن فانّي من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم،و اللّه يا علي لأحبك جدا و ما أبغضك احد الا شرّكت اباه في امّه فصار ولد زنا،فضحكت و خلّيت سبيله،هذا كان دأب الشّيطان في التردد الى الأنبياء عليهم السّلام و سؤالاتهم.

روى الصدوق قدس اللّه روحه باسناده الى الصادق عليه السّلام قال انّ ابليس قال لعيسى بن مريم عليه السّلام أ يقدر ربك على ان يدخل الأرض بيضة لا تصغر الأرض و لا تكبر البيضة؟فقال عيسى عليه السّلام ويلك انّ اللّه لا يوصف العجز و من أقدر ممّن يلطف الأرض و يعظم البيضة،و هذا الحديث يبيّن معنى الحديث الّذي رواه الكليني ره عن محمد بن اسحاق قال ان عبد اللّه الدّيصاني سأل هشام بن الحكم فقال له أ لك رب؟فقال بلى،قال أقادر هو؟قال نعم قادر قاهر،قال يقدر ان يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة و لا تصغر الدّنيا؟قال هشام النّظرة فقال له قد أنظرتك حولا،ثم خرج عنه فركب هشام الى ابي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذن عليه فأذن له،فقال له يا ابن رسول اللّه أتاني عبد اللّه الدّيصاني بمسئلة ليس المعول فيها الاّ على اللّه و عليك،فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام عمّا ذا سألك قال فقال لي كيت و كيت،فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام يا هشام كم حواسك؟قال خمس قال قال ايّها أصغر قال الناظر،قال و كم قدر الناظر؟قال مثل العدسة او اقل منها،فقال يا هشام فأنظر امامك و فوقك و اخبرني بما ترى؟ فقال ارى سماء و أرضا و دورا و قصورا و براري و جبالا و انهارا،فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام انّ الذي قدر ان يدخل الذي تراه العدسة او اقل منها قادر ان يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة،فأكبّ هشام عليه و قبّل رأسه و رجليه و قال حسبي يا ابن رسول اللّه و انصرف الى منزله،و بمضمون الحديث الأول روي عن الصادق عليه السّلام قال قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام هل يقدر ربّك ان يدخل الدنيا في بيضة من غير ان تصغر الدنيا او تكبر البيضة،قال انّ اللّه تبارك و تعالى لا ينسب الى العجز و الذي سألت لا يكون.

و روى البزنطي عن الرضا عليه السّلام قال سأله رجل هل يقدر ربك ان يجعل السماوات و الأرض و ما بينهما في بيضة؟فقال نعم و في اصغر من البيضة،و قد جعلها في عينك و هي أقل من البيضة لأنّك اذا فتحتها عاينت السماء و الأرض و ما بينهما و لو شاء لأعماك عنها.

أقول حديث عيسى و حديث امير المؤمنين عليه السّلام يدلاّن على انّ مثل هذا لا يكون و هذا لا يقدح في القدرة الكاملة،و ذلك انه محال في نفسه فلاحظ له من الشيئية التي اتصف سبحانه بانه على كل شيء قدير،و قد قرر المحققون ان شرط صدور الأثر قدرة الفاعل و قابلية الأثر للصدور و الأمور المحالة لا قابلية لها فالنقص انما هو فيها لا في القدرة لأن الأثر ما لم يكن ممكنا لم يدخل في حيز الوجود،أ لا ترى انه تعالى لم يتصف بالقدرة على خلق الشريك لعدم قابلية

ص:95

الشريك لأن يدخل في عالم الموجودات و كذلك انه تعالى لا يكذب و لا يظلم و ليس هو لعدم القدرة بل لعدم قابليتها للصدور فهذا محال بالنظر الى الغير و ما نحن فيه محال بالنظر الى نفسه و الى هذا اشار عيسى بن مريم عليه السّلام بقوله و من اقدر ممن يلطف الأرض اه،يعني انه تلطيف الأرض و ترقيقها حتى تدخل في البيضة و ان كان امرا عظيما لكنه لكنّه لما اتصف بالإمكان جرى تحت القدرة الكاملة و اما حديث الصادق و الرضا عليهما السّلام فيمكن حملهما على وجوه:

الأول ان الأئمة عليهم السّلام قد أوتوا جوامع الكلم و تكليم الناس على قدر عقولهم و اجابة السائل بما يرضيه و مصلحة الأحوال،و لمّا كان صلاح الحال و الوقت اقتضى الجواب الأقناعي لأنّه يرضي الخصم و يكسر شبهته أجابا عليهما السّلام به،و لو قالا لا يكون ما سألت لبقي السائل على عناده كما هو المعتاد غي هذه الأعصار.

الثاني ان الدّيصاني سأل الأدخال من غير التفات الى ادخال الكبير او صورته،فأجابه عليهما السّلام بأنّ لهذا النحو من الأدخال مصداقا و هو ادخال الصورة المحسوسة المقدّرة بالمقدار الكبير بنحو الوجود الظلّي في الحاسة،و لا استحالة فيه اذ كون الصورة الكبيرة فيه بالوجود الظلي لا يوجب اتصافها بالمقدار الكبير،و لما كان منظور السائل ما يشمل هذا النحو من الأدخال لم يقل بعد ما سمع الجواب مرادي الأدخال العيني.

الثالث ما قيل انّ المراد انّ من قدر على هذا الأدخال قدر على ذلك الأدخال لأنه من بابه فيكون حكاية العدسة من باب التنظير و هو بعيد لعدم موافقته لحديثي عيسى و امير المؤمنين عليه السّلام الا بإرتكاب تكلّف في معنى قول امير المؤمنين عليه السّلام و الذي سألت لا يكون بأنّ يكون بمعنى يوجد،يعني ان الذي سألت عنه و ان كان ممكنا لكنّه لا يوجد اذ ليس كل ممكن يدخل في حيز الوجود،لما عرفت و هذه المسئلة تسمى المسئلة الشّيطانيّة و ذلك ان الشيطان اول من اخترعها لإمتحان الأنبياء عليهم السّلام،و حاشا حجج اللّه سبحانه عن العجز و الأفحام،مع انّه قد حصل له من هذا السؤال ما اعمى عينه و ذلك انّه ورد في الرواية انّ الشّيطان اول ما سأل بها ادريس عليه السّلام فأتى اليه و هو يخيط في مجسد الكوفة (1)و قال له يا ادريس أ يقدر ربك ان يدخل الدنيا في بيضة من غير ان تكبر البيضة و تصغر الدنيا؟فقال له ادريس عليه السّلام ادن مني حتى اجيبك،فلمّا دنى منه أهوى بالابرة التي يخيط بها الى عينه فعورها،قال ربي قادر على هذا فصار الشّيطان اعور من ذلك اليوم،عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس اجمعين،و لعنة اللّه على كل عدو من الأعداء الى يوم الدين بحق محمد و آله الغر الميامين الطيبين الطاهرين هذا تمام الكلام في الجزء

ص:96


1- (1) في النسخ المطبوعة(مجلس الكوفة)و الصحيح:مسجد الكوفة)كما في النسخة المخطوطة.

الأول لنذكر المنجيات و توابعها بأنوار اخرى و الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على محمد و آله الطاهرين.

هذا آخر المجلد الأول من الكتاب و يليه المجلد الثاني على حسب تجزأة السيد المصنف رحمه اللّه تعالى.

ص:97

ص:98

بسم اللّه الرحمن الرحيم

يقول العبد المذنب الجاني نعمت اللّه الحسيني الجزائري هذا المجلد الثاني من كتابه الأنوار النعمانية شرعنا في تأليفه بعد الفراغ من المجلد الأول و نرجو من اللّه سبحانه ان يوفقنا لإتمامه و ان يجعله ذخيرة لإكرامه بحق محمد و آله الطاهرين.

نور في التوبة و ما يتعلق بها من الأحكام و المعارف

اعلم ان اللّه سبحانه قد مدح التّوابين في كتابه العزيز في آيات كثيرة و كفى بها قوله سبحانه انّ اللّه يحب التّوابين و يحب المتطهرين،فلا درجة اعظم من محبّة اللّه تعالى،و ذلك انّها اقصى الدرجات و الأنبياء و الأولياء انّما هي غاية سعيهم لا غيرها من الجنة و مراتبها،فانّ الجنة و ما أعدّ فيها من النعيم انّما هي مقاصد التّجار و غاياتهم و الاّ فأهل الهمم العالية و المطالب الغالية انّما يطلبون محبته و رضاه.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال بكى شعيب من حب اللّه عز و جل حتى عمى فرد اللّه عز و جل عليه بصره،ثم بكى حتى عمى فرد اللّه عزّ و جل عليه بصره،ثمّ بكى حتى عمى فرّد اللّه عزّ و جل عليه بصره،فلمّا كانت الرابعة أوحى اللّه اليه يا شعيب الى متى يكون هذا ابدأ منك،ان يكن هذا خوفا من النّار فقد احررتك(اجرتك خ)و ان يكون شوقا الى الجنة فقد ابحتك،قال الهي و سيدي انت تعلم انّي ما بكيت خوفا من نارك و لا شوقا الى جنّتك و لكن عقد حبك على قلبي فلست اصبر أو أراك،فأوحى اللّه جل جلاله اليه امّا اذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران.

قال الصدوق طاب ثراه يعني بذلك لا أزال أبكي او أراك قد قبلتني حبيبا،و لا يخفى انّ ما قاله ره ان كان قد وجده في حديث فلا لا بأس به و الا فلا يحتاج الى صرف الكلام عن ظاهره لأنّ معناه لا أقطع البكاء الى ان أراك بعد الموت،و حاصله الى ان اموت و ذلك انّ لقاء اللّه سبحانه انّما يكون بعد الموت،و الظّاهر انّ الذي حمله ره على هذا التأويل هو قول شعيب عليه السّلام أو اراك فانّ الرؤية ممتنعة عليه سبحانه و لكن هذا المجاز مشهور و قد وقع في القرآن و السنة كثيرا قال اللّه تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ و قال امير المؤمنين عليه السّلام كيف أعبد ربّا لم أره.

و بالجملة فالمحبّة انّما هي نهاية الدرجات و قد منحه سبحانه للتّائبين،و قال الصادق عليه السّلام لمّا نزلت هذه الآية وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّٰهُ و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون،صعد ابليس جبلا

ص:99

بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته،فاجتمعوا اليه،فقالوا يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال نزلت هذه الآية فمن لها،قال عفريت من الشّيطان انا لها بكذا و كذا،قال لست لها،فقام آخر فقال مثل ذلك،قال لست لها،قال الوسواس الخنّاس انالها،قال بما ذا؟قال اعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فاذا واقعوا الخطيئة انسيتهم الأستغفار فقال انت لها فوكله بها الى يوم القيامة،و قد عرفت ان اللّه تعالى يحب المؤمن المفتن التواب،و قال عليه السّلام ويل لمن غلبت آحاده عشراته و ذلك انّ الواحد من الحسنات بعشر و واحدة السيئات بواحدة و قال عليه السّلام لا تأتون يوم القيامة الا و تحت كل ذنب استغفار يكون مكتوبا في صحائف اعمالكم،و قال الأمام ابو عبد اللّه جعفر الصادق عليه السّلام اذا تاب العبد توبة نصوحا احبه اللّه فستر عليه في الدنيا و الآخرة،فقلت و كيف يستر عليه؟قال ينسى ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب،و يوحي الى جوارحه ان اكتمي عليه ذنوبه و يوحي الى بقاع الأرض ان اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب فليق اللّه حين يلقاه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب و عنه عليه السّلام ما من عبد مؤمن مذنب الا أجلّه اللّه عز و جل سبع ساعات من النها فان هو تاب لم يكتب عليه شيء و ان هو لم يفعل كتب عليه سيئة فآتاه عباد البصري فقال له بلغنا انك قلت ما من عبد يذنب ذنبا الا اجله اللّه سبع ساعات من النهار فقال ليس هكذا قلت و لكن قلت ما من مؤمن و كذلك كان قولي و في خبر آخر ان المؤمن يذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له و لو لم يكن في التوبة الا سروره سبحانه تكفي بها فضلا و شرفا على سائر الأعمال روي عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال اللّه افرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في ارض دوية (1)مهلكة معه راحلته عليها طعامه و شرابه،فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ و قد ذهب راحلته،فطلبها حتى اذا اشتدّ عليه الحر و العطش و ما شاء اللّه قال ارجع الى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى اموت،فرجع و وضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فاذا راحلته عنده عليها زاده و شرابه،فاللّه أشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن هذا براحلته.

و تحقيق الكلام في التوبة يتم ببيان امور،الأول في وجوبها على العبد و في وجوب قبولها عليه تعالى،اما الوجوب على العبد سمعا فهو مجمع عليه،و انّما الخلاف في وجوبها عقلا،فأثبتته المعتزلة و هو الحق لأنه دفع ضرر و هو واجب عقلا،و لأنّ النّدم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح،و ذهب جماعة الى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا،و لعلهم نظروا الى ظاهر قوله

ص:100


1- (1) أي البرية.

تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ فاذا كانت السيئات مكفرة فلا يترتب عليها ضرر يجب دفعه و لكن حكاية الندم على القبيح تعم القسمين.

و اما الوجوب الفوري فعليه المعتزلة و اصحابنا الأمامية،و ذلك لأنّ المعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فان كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم و ما يضره من المأكولات في كل حال و على الفور فالخائف من هلاك الأبد اولى بأن يجب عليه ذلك،و ان كان متناول السم اذا ندم يجب عليه ان يتقا على سبيل الفور تلافيا لبدن المشرف على هلاك لا يفوت عليه الاّ هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين و هي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها ليتدارك النّعيم المقيم و الملك العظيم و في فواته العذاب المقيم،فالبدار البدار الى التوبة قبل ان تعمل سموم الذنوب بروح الأيمان عملا يجاوز الأمر اختبار الأطباء و لا ينفع بعده الأحتماء فلا ينجح بعد ذلك وعظ الواعظين،و يدخل في قوله وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ و لا يعزّنّك اطلاق لفظ المؤمن على هذا فانّ نيران الذنوب اذا أكلت الفروع أكلت الأصل لأنّه لا استمرار لبقاء الأصل بدون الفرع و من سوّف التوبة يكون على خطرين.

الأول ان يعاجله الأجل فلا يبقى له وقت تدارك التوبة،كما قال تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قال بعض المفسرين ان المحتضر يقول عند كشف الغطاء يا ملك الموت أخّرني يوما اعتذر فيه الى ربي و اتوب اليه و اتزود صالحا،فيقول فنيت الأيام،فيقول اخرني ساعة،فيقول فنيت الساعات،فيغلق عنه باب التوبة و يغرغر بروحه الى النار و يتجرع غصة اليأس و حسرة الندامة،و ربما عدل به شياطين العديلة و من ثم استحب تلقين المحتضر كلمات الفرج لتطرد عنه شياطين العديلة التي تعدله عن الأيمان الى الكفر.

الثاني ان تتراكم الذنوب على قلبه الى ان تصير طيعا فلا يقبل المحو،فانّ كل معصية يفعلها الأنسان يحصل منها ظلمة في قلبه فاذا تراكمت اسود القلب،و عبّر عنه بالقلب المنكوس و القلب الأسود.

كما روي عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال كان ابي يقول ما من شيء أفسد للقلب ليواقع الخطيئة فلا يزال به حتى يغلب عليه فيصير أعلاه أسفله،فاذا آل أمره الى هذا الحال صارت ذنوبه مزيّنة في نظره فلا يرغب في التّوبة بل ربما زادت في تلك المعاصي،و من هذا ذهب جماعة من المسلمين الى انّه لو أخّر التوبة ساعة واحدة حصل له اثم آخر يجب التوبة منه ايضا،ففي ساعتين اربع ذنوب و هكذا فيكون عليه في اليوم الواحد آلاف من الذنوب.

ص:101

و امّا وجوب قبول التوبة عليه سبحانه بحيث لو عاقب على الذنب بعد التوبة كان ظالما، او هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه و رحمة بعباده فيه خلاف،فالمعتزلة على الأول،و الأشاعرة على الثاني،و اليه ذهب الطّوسي و العلاّمة و توقف فيه صاحب التّجريد و ظاهر الأخبار و كلام الأئمة الطاهرين عليهم السّلام يدل على الثاني سيما كلام مولانا زين العابدين عليه السّلام في السادس عشر من ادعية الصحيفة يا الهي لو بكيت اليك حتى تسقط اشفار عيني،و انتحبت حتى ينقطع صوتي،و قمت لك حتى تنتشر قدماي،و ركعت لك حتى ينخلع صلبي،و سجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي،و أكلت تراب الأرض طول عمري شربت ماء الرماد آخر دهري و ذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم ارفع طرفي الى آفاق السماء استحياء منك استوجب بذلك محو سيّئة واحدة من سيئاتي و امثال هذا.

و قد استدلوا على وجوب القبول بأن السيد اذا ابق عبده شهرا مثلا ثم رجع نادما كمال الندم متأسفا على ما وقع منه عازما ان لا يعود ابدا ثم انّ المولى لم يقبل توبته بل كان مصرا على عقابه فانّ العقلاء يذمونه،و اجيب عنه بأن السيد لو قرر معه انّه متى ابق مدّة كذا عاقبه العقاب الفلاني فانه اذا رجع و عاقبه السيد ذلك العقاب الذي قرره فانه لا يستحق بذلك الذم من العقلاء، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

و فيه نظر و ذلك انّ الذي نحن فيه هو ان السيد اذا قال عند الناس و كتب الى العبد الأبق بانك اذا رجعت عليك الأمان و لا اعاقبك على هذا الأباق لأنّ اسباب الأباق و دواعيه كانت موجودة في الدار و البلاد،فاذا رجع ذلك العبد و بعد رجوعه عذبه المولى لعدّه العقلاء من المذمومين و ما نحن فيه من هذا القبيل،فانه سبحانه قد اكثر من الكلام على قبول التوبة و على اسقاط الذنب عندها،و الأولى في الأستدلال ان يقع على هذا النّمط و كأنّه مراد المستدل و ان لم يصرح به.

الأمر الثاني في حقيقة التوبة،و قد اختلف فيها الأخبار و الأقوال،اما الأخبار فمنها ما روي عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته،ثم قال ان السنمة لكثير،من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته،ثم قال ان الشهر لكثير من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته،ثم قال الجمعة لكثير من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته،ثم قال ان يوما لكثير من تاب قبل ان يعاين قبل اللّه توبته.

و منها ما رواه السيد رضى في نهج البلاغة من كلام امير المؤمنين عليه السّلام انّ قائلا قال بحضرته استغفر اللّه فقال له عليه السّلام ثكلتك امّك أ تدري ما الأستغفار؟انّ الأستغفار درجة

ص:102

العلّيين و هو اسم واقع على ست معان،اولها الندم على ما مضى،الثاني العزم على ترك العود اليه ابدا،الثالث ان تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه املس ليس عليك تبعة،الرابع ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها،الخامس ان تعمد الى اللّحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد،السادس ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

و منها ما رواه الكليني طاب ثراه باسناده الى الصادق عليه السّلام قال ما من مؤمن يقارف في يومه و ليلته اربعين كبيرة فيقول و هو نادم استغفر اللّه الذي لا اله الا هو الحي القيّوم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الأكرام و أسأله ان يصلي على محمد و آل محمد و ان يتوب علي الا غفر اللّه عز و جل له،و لا خير فيمن يقارف في يوم اكثر من اربعين كبيرة،و منها ما روي في الأخبار انّ التوبة هي الندم على ما سلف و العزم على ان لا يعود،الى غير ذلك من الأخبار.

و اما الأقوال فمنها ما قيل ان التوبة ذوبان الحشا لما سبق من الفحشاء،و منها انّها نار في القلب تلتهب و تصدع في الكبد لا ينشعب،و منها ما قيل انّها خلع لباس الجفا و نشر بساط الوفا، و منها ما قيل انّها تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة،و منها ما قيل انها رجوع الأبق عن الجرم السابق،و الكلام الجامع في هذا الباب ما قاله صاحب الأحياء و هو ان التوبة لا تحصل الا بحصول امور ثلاثة:اولها معرفة ضرر الذنوب و كونها حجابا بين العبد و محبوبه و سموما قاتلة لمن يباشرها فاذا عرف ذلك و تيقنه حصل له من ذلك حالة ثانية هي التألم لفوات المحبوب و التأسف من فعل الذنوب و هذا التألم و التأسف هو المعبر عنه بالندم و اذا غلب هذا الألم حصل له حالة ثالثة هي القصد الى امور ثلاثة تعلق بالحال و الأستقبال و المضي فالمتعلق بالحال هو ترك ما هو مقيم عليه من الذنوب و المتعلق بالأستقبال هو العزم على عدم العود اليها الى آخر العمر و المتعلق بالماضي تلافي ما يمكن تلافيه من قضاء الفوائت و الخروج من المظالم فهذه الثلاثة اعني المعرفة و الندم و القصد الى المذكورات امور مترتبة في الحصول و قد يطلق على مجموعها اسم التوبة و كثيرا ما يطلق على الثاني اعني الندم وحده و يجعل المعرفة مقدمة لها و ذلك القصد ثمرة متأخرة عنها و قد يطلق على مجموع الندم و العزم انتهى.

اقول و من هنا اختلفت الأخبار و الأقوال و للإختلاف وجه ألطف و ادق من هذا و هو ان للتوبة درجات و مراتب و فوائد مختلفة فاقل درجاتها احباط العذاب المترتب على ذلك الذنب و هذا هو المراد من التوبة قبل المعاينة الواقعة في الحديث الأول و اعلى درجاتها و فوائدها اسقاط العقاب و الفوز باعلى الكرامات مع الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين و العباد الصالحين و هذا لا يكون بمجرد التوبة قبل المعاينة بل لا بد فيه من اتعاب البدن و اعمالها في الأعمال و هذا هو التوبة

ص:103

في حديث نهج البلاغة و عليها يحمل ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال التائب اذا لم يستبن عليه اثر التوبة فليس بتائب يرضي الخصماء و يعيد الصلوات و يتواضع بين الخلائق و يقي نفسه عن الشهوات و يهزل رقبته بصيام النهار و يصفر لونه بقيام الليل و يخمض بطنه بقلة الأكل و يقوس ظهره من مخافة النار و يذيب عظامه شوقا الى الجنة و يرق قلبه من هول ملك الموت و يجفف جلده على بدنه بتفكر الآخرة فهذا اثر التوبة فاذا رأيتم العبد على هذه الصفة فهو تائب ناصح لنفسه.

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال جاءت امرأة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت يا نبي اللّه امرأة قتلت ولدها هل لها من توبة؟فقال لها و الذي نفس محمد بيده لو انها قتلت سبعين نبيا ثم تابت و ندمت و يعرف اللّه من قلبها انّها لا ترجع الى المعصية ابدا لقبل اللّه توبتها و عفى عنها،فانّ باب التّوبة مفتوح ما بين المشرق و المغرب و انّ التّائب كمن لا ذنب له.

و اما اوسط درجاتها و فوائدها فهي كثيره متفاوتة فمن تاب قبل موته بسنة و تلافى في تلك السنة مساوىء اعماله و أقبل على ما يوجب تصحيح آماله كان له من الدرجة أعلى ممّن تاب قبل موته بشهر،و كذا من تاب قبل موته بشهر بالنّسبة الى من تاب قبل موته بجمعة،و هكذا و مقصودهم عليهم السّلام ترغيب الخلائق في التّوبة و بيان انّ التوبة مقبولة في كل حين الا ان يغرغر بروحه و تعاين الموت و اسبابه،فانّ الأمور تصير عندها ضرورية و يكون حينئذ ملجأة الى التوبة،فمن هذا أغلق عنه بابها.

قال بعض المفسرين و من لطف اللّه بالعباد ان امر قابض الأرواح بالإبتداء في نزعها من اصابع الرجلين ثم يصعد شيئا فشيئا الى ان يصل الى الصّدر ثم ينتهي الى الحلق ليتمكن في هذه المهلة من الأقبال بالقلب على اللّه و الوصية و التوبة ما لم يعاين و الأستحلال و ذكر اللّه سبحانه فيخرج روحه و ذكر اللّه على لسانه فيرجى بذلك حسن خاتمته وفّقنا اللّه و ايّاكم للتوبة.

فان قلت ذكرت ان الندم و هو تألم القلب اما هو التّوبة او اعظم اجزائها،و هذا التألم لا يكون بالأختيار فكيف يوصف بالوجوب،قلت ان سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب و التفكر فيما يترتب على ذلك الذّنب من العقاب،فكلما تفكر و حقّق العلم زادت نيران قلبه و اشتعلت، و تحقيق هذا العلم و زيادة التفكر امران اختياران فمن هذا وصف التألم بالوجوب لمكان الأختيار في اسبابه،فصار الحاصل هو ان العاقل التائب ينبغي ان يكون توبته ممّا يوجب المقامات العالية، بل ذكر بعض المحققين انّ التوبة واجبة في الأوقات على جميع الأشخاص،و ذلك انّ الأنسان لا يخلو عن اتّباع الشهوات و كل شهوة فعلها يرتفع منها ظلمة الى القلب كما يرتفع من نفس

ص:104

الأنسان ظلمة الى وجه المرآة الصقيلة،فان تراكمة ظلمة الشهوات،صارت رينا كما قال تعالى كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ .

و اذا تراكم الرين صار طبعا على القلب كالخبث على وجه المرأة،و لا يكفي في ازالة اتباع،(اطباع خ)تلك الشهوات تركها في المستقبل،بل لا بدّ من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب،كما لا يكفي في ظهور الصورة في المرآة قطع الأنفاس و البخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار،و كما يرتفع الى القلب ظلمة من المعاصي و الشهوات فيرتفع اليه نور من الطاعات،فيمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة،و اليه الأشارة بقوله عليه السّلام اتبع السيّئة الحسنة تمحها،فاذن لا يستغني العبد في حال من الأحوال عن محو آثار السيّئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضادها و هذا الواجب ليس من باب الواجب الشرعي الذي يلزم من وجوبه في كل الأوقات تعطيل المعائش و المكاسب و خراب الدنيا،بل هو الواجب المعنى الثاني و هو الوجوب الشرطي كما يقال الوضوء واجب لصلاة النافلة يعني لا يمكن التوصل الى فعل النافلة الا به،فكذا ما نحن فيه،و هو انّه لا يمكن التوصل الى درجات المقرّبين الاّ به فمن ارادها توصّل الى تحصيلها به،و من رضى لنفسه بالدرجات الناقصة كان كمن اقتصر على الصلاة الواجبة و ترك النافلة،فليس عليه عذاب و انّما حرم من جزيل الثواب.

و للنظر الى هذا رفض الأولياء ملاذ الدنيا بالكلية،حتى انه روي ان عيسى عليه السّلام توسّد في منامه حجرا فجاء اليه الشّيطان فقال له أما كنت تركت الدنيا للآخرة،فقال نعم و ما الذي حدث؟قال توسدك بهذا الحجر تنعم بالدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض،فرمى عيسى عليه السّلام الحجر و وضع رأسه على الأرض،فكان رميه الحجر توبة عن ذلك التّنعم مع انّه ليس واجبا،و كذلك نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا ثنّي له الكساء الذي ينام عليه فلمّا اصبح قال انّ هذا منعني عن المبادرة الى القيام للعبادة.

و لقد صدق ابو سليمان الداراني حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره الا على فوت ما مضى منه في غير الطّاعة لكان خليقا ان يجزيه ذلك الى الممات،فكيف من يشتغل فيما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله،و ذلك ان العاقل اذا ملك جوهرة نفيسة و ضاعت منه بكى على ضياعها،فان صار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه اشد،و كل ساعة من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها و لا بدل عنها،فاذا ضيّعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا،روي ان ملك الموت اذا ظهر للعبد اعلمه انّه قد بقي من عمره ساعة،و انّه لا يستأخر عنها فيبدو للعبد من الأسف ما لو كانت له الدنيا كلها لخرج منها على ان يضم الى الساعة ساعة اخرى يتدارك تفريطه فيها فلا يجد اليه سبيلا،و هو اول ما يظهر من معاني قوله عز و جل و حيل بينهم و بين ما يشتهون.

ص:105

والى ما ذكرنا من الدرجات اشار ذو النون المصري حيث قال ان اللّه عز و جل عباد نصبوا اشجار الخطايا نصب روامق القلوب،و سقوها بماء التوبة،فأثمرت ندما و حزنا فجنوا من غير جنون و تبدلوا من غير عيّ و لا بكم،و انهم هم البلغاء الفصحاء العارفون باللّه عز و جل و رسوله،ثم شربوا بكأس الصفا فورثوا الصبر على طول البلاء تولّهت قلوبهم في الملكوت و جالت افكارهم في حجب الجبروت،و استظلوا تحت رواق الندم،و قرأوا صحيفة الخطايا فأورثوا انفسهم الجزع حتى و صلوا الى علو الزهد بسلّم الورع،فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا و استلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة و عروة السلامة،و سرحت ارواحهم في العلى حتى اناخوا في رياض النعيم و خاضوا في بحر الحياة،و ردموا خنادق الجزع،و عبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم،و استقوا من غدير الحكمة و ركبوا سفينة الفطنة،و أقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى و صلوا الى رياض الراحة و معدن العز و الكرامة،فانظر رحمك اللّه الى غاية التوبة و انّها أي غاية.

و في كتاب الشيخ ورام انّ ذا النون المصري قال مررت ببعض الأطبّاء و حوله جماعة من النساء و الرجال بأيديهم قوارير الماء و هو يصف لكل واحد منهم ما يوافقه فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ السّلام،فقلت له صف لي دواء الذنوب يرحمك اللّه،فأطرق الى الأرض ساعة و كان الطّيب عاقلا ثم رفع رأسه،فقال يافتى ان أنا وصفت لك تفهم؟فقلت نعم ان شاء اللّه تعالى، فقال لي خد عروق الفقر و ورق الصّبر،و اهليلج الخشوع و ابليلج التواضع،ألق الجميع في هاون التّوبة ثم اسحقه بدستج التقوى،ثم ألقه في طبخير التوفيق و صب عليه من ماء الخوف،و اوقد تحته نار المحبة و حركه بأصطام الحكمة حتى يرغى،ثم أفرغه في جام الرضا و روحه بمروحة الحمد حتى يبرد،ثم أفرغه في قدح المناجاة ثم أفرجه بماء التوكل و حركه بملعقة الأستغفار،ثم اشربه و تمضمض بعده بماء الورع،فاذا انت فعلت هذا فانّك لا تعود الى ذنب ابدا.

و هذه التوبة هي التي اشار اليها امير المؤمنين عليه السّلام في ذلك الحديث فقال عليه السّلام ان العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة،قيل كيف ذلك يا رسول اللّه؟قال يكون نصب عينيه تائبا فارّا منه حتى يدخل الجنة،و روي انه كان في بني اسرائيل شاب عبد اللّه عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فسائه ذلك،فقال الهي اطعتك عشرين سنة و عصيتك عشرين سنة،فان رجعت اليك أ تقبلني؟فسمع قائلا يقول أجبتنا فأجبناك،و تركتنا فتركنك،و عصيتنا فأمهلناك و ان رجعت الينا قبلناك.

و اعلم ان التائبين العالمين هم الفائزون،و ذلك انّ الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة الى اربعة اقسام:الها لكون،و المعذبون،و الناجون،و الفائزون،و مثاله من الدنيا ان يستولي ملك

ص:106

من الملوك على اقليم فيقتل بعضهم فهم من الهالكين،و يعذّب بعضهم فلا يقتلهم فهم من المعذبين،و يخلي بعضهم فهم الناجون،و يخلّع على بعضهم فهم الفائزون فان فان كانت الملك عادلا لم يقسمهم كذلك الا بالأستحقاق فلا يقتل الا معاندا له في الملك و لا يعذّب الا من قصّر في خدمته مع الأعتراف بملكه،و لا يخلّي الا معترفا له بالدولة لكنّه لم يخدمه ليخلع عليه،و لا يخلع الا على من خدمه،و كل واحدة من هذه الدرجات الأربع متفاوتة و ذلك لتفاوت انواع العذاب و الفوز:

الرتبة الأولى الهلاك:و هم الأيسون من الرحمة الصادرة منه سبحانه،و هم المعاندون المكذّبون.

الرتبة الثانية المعذبون:و هذه رتبة من تحلّى بأصل الأيمان و لكن قصر في الوفاء بمقتضاه و هو انّه قد تابع هواه و شهواته و ارادته.

الرتبة الثالثة النّاجون:و هي السلامة دون السعادة و لعل هذه الرتبة هي رتبة المجانين و البلهاء و نحوهم.

الرابعة الفائزون:و هم العارفون العاملون فهؤلاء هم السابقون و هم الذين كان قصدهم هو سبحانه لا جنّة و لا خلاصا من نار،و لذلك قيل لرابعة العدوية كيف رغبتك في الجنة فقالت الجار ثم الدار.

الأمر الثالث في قبول التوبة للتجزي كأن يتوب عن ذنب و لم يتب عن ذنب،فقال بعضهم انّ هذه التوبة غير مقبولة و ذلك انّ التوبة عن الذنب انما تصح لقبح ذلك الذنب و قبح الذنوب كلها علّة مشتركة بينها،فمن تاب عن ذنب و هو مرتكب غيره يكون كالكاشف عن انّ التوبة عن ذلك الذنب لا لقبحه بل لعلة اخرى،و ايضا فانّ اللّه سبحانه قد مدح التّوابين و قال انّه يحبهم و من احبه اللّه سبحانه لم يعذّبه،و من ارتكابه للذّنوب الآخر يستحق التّعذيب و العفو غير واجب.

و قال بعض الأعلام بقبول مثل هذه التوبة و لعله الظاهر من الآيات و الأخبار و حسن الأعتبار،و التحقيق ان نقول قول من قال انّ التوبة لا يصلح تجزّيها ان عني به انّ ترك بعض الذنوب لا يفيد اصلا بل وجوده كعدمه فهذا خطأ لأنّ كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب كما انّ قلتها سبب لقلته،و نقول لمن قال يصح ان اردت به ان التوبة عن بعض الذنوب يوجب قبولا يوصل الى النجاة و الفوز كان هذا ايضا خطأ فان الفوز كما عرفت انّما يكون بترك الجميع،و يقال في دليل من قال لا يصح و هو انّ التوبة عبارة عن الندم و المعاصي كلها اوجاع و آلام فلا معنى لتوجّعه من ألم دون ألم فان العلّة شاملة لهما،و لو جاز هذا لجاز ان يتوب من شرب الخمر من

ص:107

احد الدّنين دون الآخر،فان استحال ذلك من حيث ان المعصية في الخمرين واحد و انّما الدّنان ظروف فكذلك اعيان المعاصي آلات للمعصية و المصيبة من حيث هي مخالفة لأمر واحد،فيقال على هذا انّ التوبة عن بعض الذنوب اما ان يكون عن الكبائر دون الصغائر أوعن عن الصغائر دون الكبائر او عن كبيرة دون كبيرة.

امّا الأول فممكن من جهة علمه بأشدّية عذابها،كمن جنى على ابن السّلطان و على دابّته فانّه يعلم انّ الأول أشدّ جرما فيخاف منه اكثر،و قد كثر التائبون في الأعصار و ليس احد معصوما من الذنوب سوى أهل العصمة عليهم السّلام.

و اما الثاني فهو ممكن ايضا لأنّ لذّة نفسه في الكبيرة أشدّ من خوفه منها،و اما الصغائر فليس له لذّة نفس فيها فيكون خوفه منها اكثر من لذّته بها.

و اما الثالث فجائز ايضا لإعتقاده انّ بعض الكبائر أشدّ و أغلظ عند اللّه تعالى.

الأمر الرابع في اسباب عظم الصغيرة و هي تكون بأمور:الأول الأصارا و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم لا صغيرة مع الأصرار و لا كبيرة مع الأستغفار،فكبيرة واحدة ارجى للعفو من صغيرة تداوم عليها،و مثال ذلك قطرات الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه و ذلك القدر من الماء لو صبّ عليه دفعة واحدة لم يؤثر لأن الصغيرة كلّما دامت عظمت في اظلام القلب، و الكبيرة قلما يتصور الأتيان بها من دون صغائر تكتنفها فانّ الزاني قلّما يزني بغتة بل يحتاج الى المراودة و باقي المقدّمات.

الثاني استصغار الذنب فانّه اذا استعظمه صغر عند اللّه و اذا استصغره عظم عند اللّه لأن استعظامه يدل على كراهية القلب فلا يتأثر منه،و استصغاره يدلّ على شدة الألفة به و هو يوجب تأثر القلب به،الثالث السّرور بالصغيرة فانّها تكبر عند ذلك كما يقول القائل رأيتني كيف خجلت فلانا او كيف نفقت عليه الكاسد،لأنّه ينبغي ان يكون في حزن من غلبة الشّيطان عليه.

الرابع ان يتهاون بستر اللّه عليه و حلمه عنه و امهاله له و لا يدري انّه انّما امهل مقتا له ليزداد دائما،فيظن ان تمكينه من المعاصي عناية من اللّه عز و جل به،فيكون ذلك لأمنه من مكر اللّه و جهله بمكامن الغرور،الخامس اظهار الذنب فانّ هذا منه خيانة(جناية خ)على ستر اللّه الذي اسد له عليه و تحريك لرغبة السامعين في ذلك الذنب،فهما جنايتان انضمتا الى جناية،فان اضيف اليه حمل الغير على ذلك الفعل كان له اربع جنايات،و في الحديث كلّ الناس معاف الاّ المجاهرين يبيت احدهم على ذنب قد ستر اللّه عليه فيصبح و يكشف ستر اللّه و يتحدث به،و ذلك لأنّ من صفاته ستر القبيح،السادس ان يكون المذنب عالما مقتدى به فانّه قد يموت العالم و يبقى

ص:108

شرّه،قال ابن عباس ويل للعالم من الأتباع يزل زلّة فيرجع عنها و يحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق.

بقي الكلام في موجبات الأصرار على الذنوب و في مزيلاته اعلم انّ موجباته اربعة،اولها انّ العقاب الموعود غائب ليس بحاضر و النّفس جبلت على عدم التأثر بالآجل و هذا لا يكون الا من ضعف الأيمان،الثاني انّ اللذات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة و هي آخذة بالمخنق و قد قوى و استولى بسبب الأعتياد،و العادة طبيعة خامسة،و التّروع عن العاجل الى الآجل شديد على النّفس كما قال سبحانه كَلاّٰ بَلْ تُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ .

و في الرواية انه تعالى خلق النّار فقال لجبرئيل اذهب فانظر اليها،فذهب فنظر اليها فقال و عزّتك خشيت الا يبقى احد الا دخلها،و خلق الجنّة فقال لجبرئيل اذهب فانظر اليها،فذهب فنظر اليها فقال و عزتك لا يسمع بها احد الاّ دخلها،فحفّها بالمكاره فقال لجبرئيل اذهب فانظر اليها،فذهب فنظر اليها فقال و عزّتك خشيت ان لا يدخلها احد،فاذن كون الشهوة مرهقة في الحال و كون العقاب متأخرا سببان في الأسترسال.

الثالث انّه ما من مؤمن مذنب الا و الغالب على عزمه التوبة و تكقير السيئات بالحسنات و طول الأمل غالب على الطّباع فلا يزال يسوّف التّوبة و التكفير فمن حيث رجائه توفيق التّوبة ربّما يقدم عليه مع الأيمان،الرابع انّ المؤمن يعتقد انّ عفو اللّه تعالى مباح للمذنبين فيذنب اعتمادا عليه.

و امّا علاج هذه الأمور الأربعة و مزيلها فهو الفكر في كل واحد منها،امّا الأول فبأن تتفكر و تقول انّ ما هو آت يأتي و ما أقرب غدا للناظرين و الموت اقرب منه،و المتأخر اذا وقع صار ناجزا،و يفكّر انّه في الدنيا يركب البحار و يقطع القفار لأجل الربح الذي يظن حصوله و احتياجه اليه،و لو اخبره طبيب نصراني بضرر الماء البارد لتركه خوفا من الموت مع انّ ألمه لحظة واحدة فكيف لا يقلع عن الذنب باخبار الأنبياء عليهم السّلام انّ ألمه يبقى أبد الآباد،و كل يوم من الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من ايّام الدنيا و بهذا التّفكر يعالج اللّذة الغالبة عليه و يقول اذا لم أقدر على ترك هذه اللّذات الفانية في هذه الأيام القلائل فكيف اقدر على ذلك ابد الآباد،و اذا كنت لا اقدر على مفارقة زخارف الدنيا مع كدورتها فكيف اصبر على مفارقة النّعيم.

و اما تسويف التوبة فعلاجه بالفكر في انّ اكثر صياح اهل النار من التّسويف لأنّ المسوف يبني الأمر على ما ليس اليه و هو البقاء فلعلّه لا يبقى،و ان بقي فلا يقدر عليه في هذا الحال،فليت شعري فهل عجز في الحال الا لغلبة الشهوة و الشهوة لا تفارقه بل تقوى كل يوم و هو يضعف،فاذا كان وقت قوته و ضعفها لا يقدر عليها فكيف يقدر عليها اذا انعكس عليه الأمر فيكون مثاله مثل

ص:109

من احتاج الى قلع شجرة صغيرة لا تنقلع الا بمشقة شديدة فقال اؤخّرها ثمّ أعود اليها و هو يعلم انّها كلّما بقيت ازداد رسوخها و هو كلّما زاد عمره ضعفت قوّته فلا حماقة اعظم من حماقته.

و اما انتظار عفو اللّه فعلاجه الفكر في انّ العفو ليس بواجب على اللّه فهو كمن أنفق جميع ماله و ترك نفسه و عياله فقراء فينتظر انّ اللّه سيطلعه على كنز من الكنوز في أرض خربة و هذا ايضا حماقة.

و ما احسن كلاما وقع الينا من سيدنا المرتضى نور اللّه ضريحه،و حاصله الأعتراض على الأنسان بأنّه اذا أذنب ذنبا يقول نرجو عفو اللّه فيعتمد على العفو مع انّه تعالى لم يوجبه على نفسه،و الذي اوجبه على نفسه و هو ايصال الرزق لم يصدّق اللّه فيه و لم يعتمد عليه،فيطلبه في البراري و البحار و هو تعالى يقول وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهٰا فهو سبحانه قد ضمن ايصال الرزق الى كل واحد فكيف لا تعتمد عليه فيما ضمنه لك و اعتمدت عليه فيما لم يوجبه على نفسه،و لو ضمن لك ألف دينار رجل نصراني له بعض الأعتبار بين التجار كنت تصدّقه و تعتمد على ضمانه فكيف لا تعتمد على ضمان من له خزائن السماوات و الأرض ما هذا الا سفه و جهل.

فان قيل هذا موقوف على الفكر فما بال القلوب هجرت الفاكر و ما علاج القلوب لردّها اليه،قلنا المانع لها منه امران احدهما انّ الفكر في مقدمات الآخرة لداع مؤلم للقلب فينفر القلب عنه و يتلذذ بالفكر في امور الدنيا على سبيل التّفرج و الأستراحة،و ثانيهما انّ الفكر مشغول بلذات الدنيا في كل حين فصار عقله مسخّرا لشهوة(لشهوته خ ل)فهو مشغول بتدبير حيلته،و امّا علاجهما فبأن يقول لقلبه اذا تألمت من الفكر في أمور الآخرة فكيف لا تخاف من الألم على ورودها عليك و مواقعتها لك و نظير هذه التّفكرات.

اذا عرفت هذا فاعلم انّ الإصرار امّا فعلي و هو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة او الأكثار من جنس الصغائر بلا توبة،و اما حكمي و هو العزم على فعل الصغيرة بعد الفراغ منها،امّا من فعل الصغيرة و لم يخطر بباله بعدها توبة و لا عزم على فعلها فالظّاهر انّه غير مصر، و لعلّه ممّا تكفّره الأعمال الصالحة من الوضوء و الصلاة و الصيام كما ورد في الأخبار.

الأمر الخامس الذنب ان لم يستتبع امرا آخر يلزم الأتيان به كفى الندم و العزم على عدم العود اليه ابدا كلبس الحرير و ان تبعه امر آخر من حقوق اللّه او الناس وجب ذلك الأمر ايضا كالعتق في الكفارة و قضاء الفوائت،و ان كان حدّا فهو مخيّر بين ان يتوب عنه بينه و بين ربه و هو الأولى و بين ان يقرّبه عند حاكم الشرع ليقيم عليه الحدّ.

ص:110

و امّا حقوق الناس المالية فيجب تبرئة الذّمة منها بقدر الأمكان،فان مات صاحب الحق وجب الدفع الى ورثته في جميع الطبقات،و ان بقي الى يوم القيامة ففيه أقوال ثلاثة:الأول انه لآخر وارث و لو بالعموم كالأمام،الثاني انّه ينتقل الى اللّه سبحانه الثالث انّه لصاحبه الأول و هذا هو الأصح،لما روي في الصحيح عن عمر بن يزيد عن الصادق عليه السّلام قال اذا كان للرّجل دين فمطله حتى مات ثمّ صالح ورثته على شيء فالذي أخذ الورثة لهم و ما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة و ان هم لم يصالحهم على شيء حتى مات و لم يقض عنه فهو للميت يأخذه منه.

و امّا حقوق النّاس الغير المالي فان كان اضلالا وجب الأرشاد،و ان كان قصاصا وجب اعلام المستحق له و تمكينه من استيفائه فيقول انا الذي قتلت اباك مثلا فان شئت فاعف عني،و ان كان حدا كما في القذف فان كان المستحق له عالما بصدور ما يوجبه وجب التمكين ايضا و ان كان جاهلا به ففي وجوب الأعلام خلاف ينشأ من انّه حق آدمي فلا يسقط الا باسقاطه،و من كون الأعلام تجديدا للأذى و تنبيها على ما يوجب البغضاء،و كلام المحقق الطوسي و تلميذه العلاّمة يعطي عدم وجود الأعلام في هذه الصورة و هذه المذكورات من قضاء الفوائت و اداء الحقوق و التمكين من القصاص و الحد لا دخل لها في حقيقة التوبة و انّما هي واجبات برأسها و التوبة صحيحة بدونها لكنّها تصير بها أكمل و أتم.

خاتمة هذا البحث في التوبة المؤقتة و التوبة المجملة،و اما الأولى فهو كأن يتوب عن الذنوب سنة،و في صحّتها خلاف و الأولى عدم الصّحة لأنّك قد تحقّقت انّ العزم على العود في المستقبل دائما من اجزائها و هذا مناف له،و امّا الثانية فكأن يتوب عن الذنوب على الإجمال و هو ذاكر للتفصيل فقد توقف في صحّتها الواجا نصير الدين الطّوسي،و القول بالصّحة غير بعيد لعد قيام الدليل على وجوب التفصيل.

نور في الحب و درجاته و علاماته و توابعه و ما يتعلق بذلك

اعلم ايدك اللّه سبحانه ان لفظ الحب ممّا قد اشتهر في الكتاب و السنة و على ألسنة الناس، و قد وصف اللّه تعالى به نفسه فقال يحبّهم و يحبّونه،و قد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحب للّه من شرط الأيمان في أخبار كثيرة،قال ابو رزين العقيلي يا رسول اللّه ما الأيمان؟قال ان يكون اللّه و رسول اللّه احبّ اليك ممّا سواهما.

و في حديث آخر لا يؤمن احدكم حتى يكون اللّه و رسوله احب اليه ممّا سواها قال يا رسول اللّه انّي احبك،فقال عليه السّلام استعد للفقر،فقال اني احب اللّه،فقال استعدّ للبلاء،

ص:111

و الحب هو ميل الطّبع الى الشيء الملتذ فان تأكد ذلك الميل و قوى سمّي عشقا،و البغض عبارة عن نفر الطبع عن المؤلم المتعب فاذا قوى سمّي مقتا،و حيث انّ الحب مقول بالإشراك بين حب اللّه سبحانه و بين حب النّاس لمحبوبهم مع انّ محلّهما واحد و هو القلب فلا بأس بالإشارة الى بيان مراتبه و تطبيق كل مرتبة من مراتب حب اللّه تعالى،لما اشتهر من قولهم المجاز قنطرة الحقيقة،و لأن الألفة بهذه المراتب مألوفة لأكثر الناس بخلاف مراتب حبّه تعالى فانّها ليست مأنوسة الاّ لمن ارتضاه اللّه تعالى.

فاعلم اولا ان الحب على ما عرّفه بعضهم هو ايثار المحبوب على سائر المصحوب و قيل هو ميلك اليه بكلّيتك و ايثارك له على نفسك و موافقتك له سرا او جهرا،و قيل المحبة محو المحب بصفاته و ايثار المحبوب بذاته،و قيل هي هتك الأستار و كشف الأسرار و قيل هو محو الأشباح و ذوب الأرواح،و في بعض الكتب القديمة الحب سرّ روحاني يهوي من عالم الغيب الى القلب، و لذلك سمّي هوى،من هوى يهوي اذا سقط،و يسمى بالحب لوصوله الى حبّة القلب التي هي منبع الحياة،و اذا اتصل بها سرى مع الحياة في جميع اجزاء البدن و اثبت في كل جزء صورة المحبوب.

كما حكي عن الحلاّج انّه لمّا قطعت اطرافه كتب في مواقع الدم اللّه للّه قال هو:

ما قدّ لي عضو و لا مفصل الا و فيه لتكم ذكر

و هكذا حكي عن زليخا انّها افتصدت فارتسم من دمها على الأرض يوسف يوسف و امّا ما اشتهر من قولهم:مجاز قنطرة الحقيقة فقد اشار اليه الشّيخ كمال الدّين عبد الرزاق في شرح منازل السّائرين،حيث قال العشق النظيف أقوى في تلطيف السر،و الأعداد للعشق الحقيقي فانّه يجعل الهموم همّا واحدا و يقطع توزع الخاطر و تفرّقه،و يلذذ خدمة المحبوب و يسهل التّعب و المشقة في طاعته،بخلاف العشق المنبعث من غلبة سلطان الشهوة فانّه وسواس و سعى في تحصيل لذّات النّفس و على هذين النّوعين يبني مدح العشق الصوري و ذمّه في كلام بعض العرفاء من الحكماء.

و هذه التعاريف كلها حق و تكثّرها انّما جاء من جهة تعدّد مراتبه و درجاته،و هي على تكثرها قد حصرت في خمسة:أولها الأستحسان و هو يتولد من النّظر و السّماع و لا يزال يقوى بطول التّفكر في محاسن المحبوب و صفاته الجميلة،و ثانيها المودة و هي الميل اليه و الألفة بشخصه و الأئتلاف الروحاني معه،و ثالثها الخلة و هي تمكن محبّة المحبوب من قلب المحب و استكشاف سرائره.

و رابعها العشق و هو الأفراط في المحبة حتى لا يخلوا العاشق من تخيّل المعشوق و ذكره لا يغيب عن خاطره فعند ذلك تشتغل النّفس عن استخدام القوة الشهوانية و النفسانية فتمتنع عن

ص:112

الطعام و الشّراب لعدم الشهوة و من النوم لإستضرار الدماغ،و خامسها الوله و هو ان لا يوجد في قلب العاشق غير صورة المعشوق و لا ترضى نفسه الا به.

امّا المرتبة الأولى فأهلها كثيرون و هي أكثر،و امّا الدرجة الثانية فهي مشتملة على الأئتلاف الروحاني،و قد تقدم في انوار الملكوت انّ اللّه سبحانه لمّا خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة أوقعت بينها الموافقة و المنافرة في عالم الأرواح،و لمّا قدمت الى هذا العالم و حلت منازل الأبدان و اشتغلت بتعمير هذا المنزل نسيت ما وقع منها في قديم الزمان و سوالف الأيام فلا تذكر محبوبها من غيره لكنها اذا رأته في هذا العالم انعكست اشعتها العلميّة و تحرّكت نحو تلك الألفة القديمة و مالت اليه،حتى ان الرائي اذا رأى رجلا لم يره في هذا العالم أصلا يميل اليه من ساءته و يظن انّه رآه و يقول اين رأيت هذا الرجل و هو لم يره الاّ في عالم الأرواح،و هذا هو الذي اراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قوله الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر اختلف.

و هذه المرتبة ان وقعت في محبّات الناس،او محبات أهل اللّه يرى الأنسان نفسه غير مختار في تحصيلها و ذلك انّها تحصّل نفسها قبل تحصيلك اياها،نعم زيادتها قوّة و ضعفا ربما كان للإنسان فيه اختيار بسبب طول المعاشرة و الأطلاع على ما يوجب مزيد الألفة و الوداد.

و من هذه محبّة الأمامية لأهل البيت عليهم السّلام فانّ الأنسان اذا اعطى الأنصاف من نفسه و فكّر علم انّ حبهم ممّا تداخل القلوب و العروق،و امتزج باللحم حتّى لم يبق فيه اختيار لأحد منهم،فانّك ترى الطفل اذا نشأ و عرف نفسه ألهم من جانب اللّه سبحانه الميل الى اهل البيت و حبّهم و لعن مبغضيهم و ان لم يذكر له ابوه و امه مثل هذا فان قلت لا يثاب المرء الا على ما كان له فيه اختيار،و ذلك انّ حبهم مأمور به في قوله تعالى قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ فيكون داخلا في الأحكام،و قد تقرر انّ ما لم يدخل تحت الأختيار من الأفعال الكسبية لا يكون داخلا في الأحكام الخمسة و لا يثاب عليه فاعله،قلت الجواب عن هذه الشّبهة من وجوه:

الأول بناء على ما عرفت من قدم التخالف و التوالف و انّه كان في عالم الأرواح و كان هناك كمال الأختيار،و قد اشتمل ذلك العالم على انواع التكاليف من دخول نار اوقدها اللّه سبحانه،و امر الفريقين بدخولها فدخلها أهل اليمين و هم نحن،فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أهل الشمال و هم مخالفونا و قالوا لا طاقة لنا بدخولها فقال تعالى الى ناري و لا ابالي،و حينئذ فحبّنا لهم عليهم السّلام في هذا العالم تعارف و تجديد لما وقع في العالم الأول و هو عالم الأختيار فيرجع الى الأختيار.

ص:113

الثاني انّ سببه اختياري و هو تحقيق أحوالهم و الأطلاع على بعض محاسنهم و ما آتاهم اللّه تعالى من درجات الكمال فيدخل تحت الأختيار لدخول سببه كما تقدم في ندم التوبة.

الثالث انّ اللّه سبحانه اذا فطر المؤمن على جبلة من الخير و انشأة عليها لعلمه بأنه أهل لها تفضّل عليه بالثواب،فيكون من باب الثواب التّفضلي لا الأستحقاقي،فانّ الأنسان اذا فكر في اكثر الصفات يرى ان الجبلة او الفطرة لها مدخل عظيم فيها،و انّه من نعمه سبحانه التي نشأ الخلق عليها،و امّا كمالها و فروعها فمن اختياره و سعيه و امّا محبة اهل اللّه من المؤمنين و الصلحاء فهو و ان لم يدخل تحت الأختيار ايضا الا انّ اسبابه و دواعيه ممّا حصّلها بسعيه و كدّه بسبب الأيمان و ارتكابه الأعمال،و انّه جعل نفسه من جنس الصالحين و الجنس الى الجنس أميل.

امّا الدرجة الثالثة و هي الخلة فانّما يحصل التمكن الذي فيها من مصادفته الخالي و ذلك انّ القلب حصن البدن فمن دخله ملك مالك البدن و جرت علي او امره و نواهيه جميع جنوده و عساكره و هي الأعضاء و الدّواعي و الأرادات،فاذا كان ذلك الحصن خاليا و دخله سلطان من غير احتياج الى معركة و حرب كان تمكّنه فيه اكثر،و مال الى احداث الآثار فيه لظنّه انّه بيته و منزله،و لا يدخل اليه ما يعارضه و ينازعه فيه،و من ذلك ترى الحبّ اذا وقع و في ايّام الشباب و وقت الطفولة يكون تمكنه في القلوب اشدّ و اعظم ممّا وقع في وقت آخر

أتاني هواها قبل ان اعرف الهتتوى و صادف قلبا خاليا فتمكنا

فيه المتعاندات

قد صيغ قلبي على مقدار حبكم فما لغير هواكم فيه متسع

و هذه الدرجة في الحب الحقيقي هي درجة الخليل عليه السّلام و به سمّي الخليل مأخوذ من الخلال كأنّ المحبوب قد تداخل في خلال الحبيب و اعماق بدنه،و ذلك انّ الخليل عليه السّلام لمّا خيف عليه من النّمرود فمضت به امّه الى كهف جبل و ألقته في مغارته،و صارت تختلف اليه في كل اربعين يوما مرّة و ربّما كان أزيد،و كان اللّه سبحانه هو الذي تولى تربيته،فلمّا نشأ رأى انه لا أحد متكفل به سواه تعالى فلم يشغل قلبه بحب الآباء و الأمهات لأجتنابهم له و بعدهم عنه فكان قلبا خاليا قد صادف ذلك الهوى فتمكن فيه،و كذا وقع مثل هذا لنبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث انه تعالى اوقعه في اليتم و إنه و لم ير له مربّيا سواه تعالى فصغر على الحب و كبر عليه و لم يجعل سبحانه لأحد من ابويه حقا عليه،فمن هذا سلبه ابويه من صغره كما ورد في الروايات.

و اما المرتبة الرابعة و هي العشق فاشتقاقه من العشقة و هو نبت يلتف على الشجرة من أصلها الى فرعها،فهو محيط بها كما انّ العشق محيط بمجامع القلب،و اما اشتغال النفس بهذه

ص:114

المرتبة عن قواها الشهوانية و عن النوم فانما جاء من فرط نار المحبة الكامنة في القلب الشّاغلة له عمّا عداه،حتى انّه في هذه الحالة ربّما اشتغل قلبه و حسّه عن آلام البدن و اوجاعها.

حكى شيخنا البهائي طاب ثراه في حاشية العالية على تفسير القاضي انّ رجلا يهوديا كان عنده جارية و كان مفرطا في حبها و متعشقا لها،فمرضت يوما و احتاجت الى طبخ طعام لمكان المرض،فوضع القدر فلما قرب اشتواء الطعام احتاج الى سوطه،فأخذ المغرفة و شرع يسوطه فكان هو يسوط الطعام و الجارية تأن،فلمّا سمع انينها اشتغل قلبه بها فوقعت المغرفة من يده و صار يسوط القدر بيده و لم يحسن به حتى تساقط لحم يده فلما سكنت من الأنين و رجع اليه عقله رأى انه كان يسوط القدر بيده،و مثل هذه الحالة قد كانت في الحب الحقيقي،و ذلك ان امير المؤمنين عليه السّلام لمّا كانت النصال تلج في بدنه من الحروب كان الجرّاح يخرجها منه اذا اشتغل بالصلاة لعدم احساسه بها ذلك الوقت لإشتغال قلبه بعالم القدس و مالك(ملك خ)الجبروت (1).

و رأيت في عشر السبعين بعد الألف لمّا كنت بشيراز رجلا عريانا و الناس خلفه في حوش عمارة السيد احمد بن موسى الكاظم عليه السّلام،فرأيته في كل واحدة من يديه سكينا و هو يضرب بهما صدره و يقطع بهما لحم بدنه و دماؤه تجري،فسألت عن حاله فقالوا كان يهوى شخصا و قد أشخصه اهله الى بعض البلدان فما يدري اين ذهب،و هكذا كانت عشّاق اللّه سبحانه،فقد ورد في الأخبار ان العباد من بني اسرائيل اذا بلغوا في العبادة عمد العابد منهم الى سلسلة من الحديد و أخرجها من ترقوته و شدّ بها الى احد اساطين المسجد لئلا يخرج من منزل حبيبه الى غيره،و في هذه المرتبة ايضا من جهة الف النفس بصورة المحبوب قد يرى غيره بصورته لأنّه لا صورة في خياله غير صورة محبوبه.

حكى لي اوثق مشايخي باصفهان ليلة من الليالي انّه قد كان له صديق و قد كان يهوى صاحبا له،فاتفق انّ اهله ارسلوه ببضاعة الى بلدة ببهبهان،فلمّا زمضت له ايّام له لم يملك الصبر عنه فسافر الى تلك البلدة،فحكي انّه لما دخل بهبهان كانت ليلة الجمعة و كان الناس يخرجون الى قبور موتاهم لزيارتهم،قال فرأيت مجمعا من الناس فجلست معهم حتى أسأل عن احوال ذلك الصاحب و أهتدي الى منزله،ثم أخذت في تخيّل صورته فنظرت الى يدي و اذا هي بصورة يده، و الى اعضائي كلها فما رأيت شيئا من اعضائي و جوارحي الاّ و هي على صورة اعضائه فغرقت في بحر التعجب،فلما دخلت البلد و سألت عنه قيل لي في مجمع من الناس مجتمعين في بيت رجل للضيافة فدخلت عليهم و نظرت اليه فرأيته في تلك الصورة التي رأيت نفسي عليها،فلما شاهدت

ص:115


1- (1) هذه القضية مشهورة بين الشيعة في حق امير المؤمنين عليه السّلام سلام اللّه عليه كما صرح بشهرتها بينهم العلامة القاشاني(ره)في كتابه النفيس المحجة البيضاء في القسم المخطوط منه الموجود في مكتبتنا.

من نفسي هذا الحال رجعت الى اصفهان،و هذه الحكاية كان الشيخ ادام اللّه ايّام سلامته اذا تذاكرنا مذاهب الصوفية و قولهم بالحدود و الأتحاد و هو ان اللّه يحل بكل المخلوقات يكذّبهم و يقول انّ مثل هذا الأتحاد الخيالي ممكن،و لبعض اصحابنا:

علمت لمذهب التوحيد حقا و كنت ابطل رأى الأتحاد

الى ان بنت يا روحي بروحي و شخصك يا فؤادي في فؤادي

و هذا ايضا من الأتّحادات الشّعرية الخيالية،و اظن انّ الشعرين المشهورين بالأشكال من هذا الباب و هما هذان:

رأت قمر السماء فذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين

كلانا ناظر قمر و لكن رأيت بعينها و رأت بعيني

يعني اننا اتحدنا في ذلك الوقت فصارت عيني عينها و عينها عيني،و ذلك من المبالغات الشّعرية او من التّصورات الخيالية،و قد ذكر له أهل تلك الصّناعة وجوها كثيرة حتى انّ بعضهم قد صنّف فيه مقدّمة و ذكر له سبعين معنى تقريبا،و لنذكر بعض ما قالوه و هو معان:

اولها ان معناه انها أي المحبوبة كانت تنظر الى القمر الحقيقي في السماء و انا انظر الى القمر المجازي الذي هو وجهها بأنه قمر حقيقي لأن عينها تنظر الى القمر الحقيقي،ثم قال و رأت بعيني يعني انها رأت القمر الحقيقي بعيني أي نظرت اليه بانه قمر مجازا و انه في الواقع الحقيقي لأنها نظرت بعيني و انا انظر اليه على انه مجاز بالنّسبة اليها و لا يخفى في هذا الوجه من التّكلف.

و ثانيها ما قاله الوالي تغمده اللّه برحمته و كان عالما شاعرا اديبا صالحا عفيفا عابدا و كان حاكما على بلاد العرب كالحويزة و ما والاها،و قد كنّا نحن بشوشتر فكان كل سنة يرسل الينا المكاتيب و الرسائل و يرغبنا و يحثنا على الوصول الى حضرته و قد أبطأنا عليه بعض المرات،فكتب الينا مكتوبا و هذه الأبيات من جملته:

يا أخا بشرنا تأخّرت عنا قد أسأنا ببعد عهدك ظنا

كم تمنيت لي صديقا صدوقا فاذا انت ذلك المتمنى

فبغصن الصبا لما تثني و بعد الصبا و ان بان عنا

كن جوابي لكي تردّ شبابي لا تقل للرسول كان و كنا

ص:116

و قد كان اكثر المصنفات في فنون العلوم و كان يحفظ من القصائد مع كبر سنه ما لا يعد لأنه كان يحفظ اكثر الدّواوين على خاطره،و له ديوان نفيس و ما كنّا نسمع في مجلسه شيئا سوى روى جدنا عن جبرئيل عن الباري،و قد انتقل الى جوار ربه و رحمته سنة الثامنة (1)و الخمسين بعد الألف،و جلس في الملك بعده ابنه الكبير وفقه اللّه تعالى و الأسم الشريف لذلك المرحوم هو السيد علي خان بن السيد خلف بن السيد مطلب الذي اسلمت الكفار على ايديهم و استبصرت المخالفون في أعصار دولتهم:

نسب كان عليه من شمس الضحى نورا و من فلق الصّباح عمودا

و حاصل المعنى بتوقفه على البيتين و هو انّها رأت قمرا في السماء ببهجة و استحسان فأذكرتني ليالي كنت أو أصلها بالرقمتين لما كانت مساعدة بالوصل و تنظر الي بتوجه و تودد،ثم قال كلانا ناظر قمرا و هو القمر الحقيقي و لكن رأيت بعينها في هذه الحالة التي هي معرضة عنّا و صادّة فيه،و رأت بعيني في حال نظري اليها باستحسان و توجّه فأنا انظر الى القمر الحقيقي معرضا عنه اذا طلبتي غيره،و هي تنظر اليه بتوجّه منها اذ مطلبها النّظر اليه.

و ثالثها كون معناه انّ الرجل اذا نظر الى الشيء ينظر اليه شزرا (2)و المرأة اذا نظرت تنظر فتورا لمكان الحياء و الخجل،و لكن هنا لما نظرت الى القمر الحقيقي نظرت شزرا لعدم حيائها منه، و هو لما نظر الى القمر المجازي و هو وجهها نظر اليه بحياء و فتور،فقد صار وصف كل واحد منهما للآخر.

و رابعها انّها نظرت الى قمر السماء و نظرت انا الى قمر وجهها فأنا نظرت الى قمر كالقمر الذي رأته هي بعينها،يعني ان وجهها قد صار قمرا حقيقيا،فأنا أنظر بعينها يعني مثل الذي تنظره عينها و هو القمر الحقيقي،و هي تنظر الى قمر حقيقي بعيني،أي بالعين التي نظرت بها الى القمر الذي هو وجهها،و قيل فيه معان كثيرة.

و نظير هذا في مراتب الحقيقة ما روي عن الأمام ابي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السّلام قال في حديث الأسراء انّ عبدي ليتقرب اليّ بالنوافل حتى احبه،فاذا احببته كنت سمعه الذي يبصر به،و لسانه الذي ينطق به،و يده،التي يبطش بها،ان دعاني اجبته و ان سألني أعطيته، و لقد هلك جماعة من الصوفية في هذا الحديث حيث حملوه على ظاهره،فذهبوا منه الى الأتحاد المعروف بينهم،و هذا كفر منهم و الحاد في ذات اللّه،و معناه الذي يمكن ايصاله الى الأفهام هو انّ العبد اذا تقرّب الى اللّه عز و جل تقرّب اليه ايضا،كما قال من تقرب اليّ شبرا تقربت اليه ذراعا،

ص:117


1- (1) في النسخة المخطوطة:الثانية.
2- (2) الشزر بالفتح فالسكون نظر الغضبان بمؤخر العينين يقال نظر اليه شزرا أي نظر غضب.

و من تقرب اليّ ذراعا تقربت اليه باعا،فاذا وقعت المقاربة منحه اللّه الألطاف الألهية حتى لا يكون عاملا الا بما كان موافقا لرضاه فهو سبحانه الذي يتصرف في اعضائه و جوارحه و يجريها في مجرى طاعته و ارادته،فهو الذي يسمعه و هو الذي ينصب عينيه لمشاهدة آثاره و عالم ملكوته،و هو تعالى الذي ينطق لسانه بكلماته و عباداته الى غير ذلك.

و هذه المرتبة تسمى عند السالكين الفناء في اللّه و سيأتي تحقيقها ان شاء اللّه تعالى عند تحقيق مراتب السلوك،و الى ما ذكرنا يشير كلام سيد السالكين مولانا امير المؤمنين عليه السّلام ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانيّة بل قلعتها بقوة ربّنيّة،و ذلك انه عليه السّلام قد أفنى قوّته البشرية في الطاعات و العبادات فأعطاه تعالى قوة ربّانية بها قدر على ما يعجز عنه قوة البشر،و من هذا قال عليه السّلام عرفت اللّه بفسخ العزائم،و قال ايضا ان قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء،و من نظائر ما سبق ما ذكره ابن الجوزي في تاريخه.

قال لمّا تزوجت ليلى جاء المجنون الى زوجها و هو يصطلي في يوم شاة فوقف و قال له:

بربك هل ضممت اليك ليلى قبيل الصبح او قبّلت فاها

و هل رفّت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها

فقال اللهم اذ خلقتني فنعم،فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشيا عليه،فسقط الجمر مع لحم راحتيه و توفي سنة سبعين من الهجرة.

و حكى بعض الثقاة قال اجتزت في بعض اسفاري بحي بني عذرة،فنزلت في بعض بيوته، فرأيت جارية قد ألبست من الجمال حلية الكمال فأعجبني حسنها و كلامها،فخرجت في بعض الأيام ادور في الحي و اذا انا بشاب حسن الوجه و عليه أثر الوجد و أضعف من الهلال و انحف من الخلال،و هو يوقد نارا تحت قدر و يردد ابياتا و دموعه تجري على خدّيه،فمّما حفظت منه قوله:

فلا عنك لي صبر و لا فيك حيلة و لا عنك لي بدّ و لا عنك مهرب

و لي ألف باب قد عرفت طريقها و لكن بلا قلب الى اين اذهب

فلو كان لي قلبان عشت بواحد و أفردت قلبا في هواك يعذب

فسألت عن الشاب و شأنه،فقيل يهوى الجارية التي انت نازل في بيتها و هي محتجبة عنه منذ اعوام،قال فرجعت الى البيت و ذكرت لها ما رأيت،فقالت ذاك ابن عمي،فقلت لها يا هذه للضّيف حرمة فنشدتك باللّه الا ما متّعته بالنظر اليك في يومك هذه،فقالت صلاح حاله في ان لا يراني،قال فحسبت ان امتناعها ظنّة منها،فما زلت اقسم عليها حتى أظهرت القبول و هي

ص:118

متكرهة،فقلت لها انجزي وعدك الآن فداك ابي و امي،فقالت تقدمني فاني ناهضة اثرك، فاسرعت نحو الغلام فقلت له ابشر بحضور من تريد فانّها مقبلة نحوك الآن،فبينما انا اتكلم معه اذ خرجت من خبائها مقبلة تجرّ اذيالها و قد اثارت الريح غبار اقدامها حتى ستر الغبار شخصها، فقلت للشاب ها هي قد أقبلت،فلما نظر الغبار صعق و خر على النار لوجهه فما اقعدته حتى اخذت النار من صدره و وجهه،فرجعت الجارية و هي تقول من لا يطيق مشاهدة غبار نعالنا كيف يطيق مشاهدة جمالنا.

و نظير هذه في عالم الحقيقة قوله تعالى وَ لٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ الآية، و نقل في كتاب مصارع العشّاق ان كثير عزة قال اعجب و ألذ ما مرّ عليّ في حب عزة انّه كان معه ركب يريدون الحج،و قد اتفق ان في ذلك الركب عزة مع زوجها و كان كثير لا يعلم بهما،فبينما هو ذات يوم في الطريق قاعد يبري و اذا عزة واقفة على رأسه فطار لبّه لما نظر اليها و صار يبري اصابعه بالشفرة و الدم يسيل من يده و هو لا يحس به،و كان زوجها باعثها تشتري سمنا فأظهرت غرة لكثير انها تريد سمنا و كان عنده ظرف،فقام وصب لها في الأناء فأمتلأ و فاض و وقع في الأرض،فلما نظرت غرة الى الدم يسيل من اصابعه قطعت قطعة من مقنعتها و عصبت بها يده و مضت الى زوجها فرآها على حالة منكرة،فسألها فأخفت عليه حالها حتى ألحّ عليها فأخبرته بما كان،فقبضها من يدها و أوجعها و أتى بها الى قدام كثير،و قال لها اشتميه و سبيه حتى اسمع فقابلت كثيرا و أخذت في شتمه و سبّه و زوجها يسمع فقال كثير:

يكلّفها الخنزير شتمي و ما بها هوآئي و لكن الكميل استدلت

هنيئا مريئا غير داء مخامر لغرة من اعراضنا ما استحلّت

و من النظائر في عالم الحقيقة ان رجلا كان ورده يا اللّه،فكان يقولها كل اوقاته فلمّا قتل جرى دمه على الأرض مكتوبا فيه يا اللّه يا اللّه اينما جرى،و ما ذلك الا لإختلاط محبّته تعالى و ممازجتها بلحمه و دمه،و في عالم الشهود قد نقل ايضا مثله و هي انّ زليخا قد احتجمت يوما فلما وقع الدم على الأرض كان مكتوبا فيه يوسف يوسف اينما سال.

و حكي ايضا في التفاسير انها غضبت على يوسف عليه السّلام يوما فأمرت خادمها بأن يضربه اسواطا و هي تسمع صوت السوط،فكان الخادم يوقع الأسواط على الأرض و يضرب الأرض و هي تسمع فخطر بخاطر الخادم ان يضربه سوطا واحدا حتى يرى الأثر على بدنهفلا تكذبه زليخا في ضرب الأسواط،فضربه سوطا فخرجت زليخا من خدرها و صاحت به كفّ عن

ص:119

الضرب فهذا السوط الذي ضربته الآن قد وقع ألمه في قلبي،و كأنّك ضربتني أنا لا يوسف،فأمنت على الخادم فحكى لها كيفية الضرب و انّه كان على الأرض الاّ ذلك السوط.

و قد سبق ان زليخا قعدت يوما على ممر يوسف فلما اخبرتها جاريتها بدنوه منها قالت يا يوسف بحق الذي اعزك و اذلني ان تقف ساعة و لا تغيب عني،فقال يا زليخا اين مالك و جمالك؟قالت ذهبا في سبيلك،فقال و اين عيناك؟فقالت ذهبتا بالبكاء على فراقك،فقال و اين عشقك؟قالت في صدري كما كان،قال فأين برهانك؟قالت ناولني سوطك،فناولها اياه فتأوهّت و نفخت فيه فأحترق السوط من نفسها،فألقاه يوسف من يده و صرف عنان الفرس فرارا،فقالت يا يوسف انك بدعوى الرجولية لم تكن مثل هذه المرأة فاني حفظت تلك النار في صدري منذ اربعين سنة و لم انهزم كأنهزامك.

و من احكام هذه المرتبة في عالم الشّهود ما ذكره شرّاح كتاب المعنى عند ذكره في بحث لو الشّرطية قول الهذلي:

و لو تلتقي اصداؤنا بعد موتنا و من دون رمسينا من الأرض سبسب

لظل صدا صوتي و ان كنت رمّة لصوت صدا ليلي يهشّ و يطرب

و الأصداء جمع صدا و هو الذي يجيبك مثل صوتك في الجبال،و الرّمس تراب القبر، و السبسب المفازة،و الرمة العظام البالية،ثم نقل بعد هذا قول توبة:

و لو ان ليلى الأخيلية سلّمت عليّ و دوني جندل و صفائح

لسلّمت تسليم البشاشة او زقى اليها صدى من جانب القبر صائح

و الصفائح الحجار العراض تكون على القبر،و زقى أي صاح،قال الشرّاح ذكر صاحب كتابا لجليس و الأنيس قال مرّت ليلى الأخيلية و معها زوجها قرب قبر توبة،فقال لها يا ليلى هذا قبر توبة فسلمي عليه،قالت و ما تريد منه قال اريد تكذيبه أ ليس هو الذي يقول و لو انّ ليلى الأخيلية الشّعر،فلا و اللّه ما برحت حتى تسلمي عليه فقالت السّلام عليك يا توبة أ لست القائل و لو انّ ليلى الأخيلية سلّمت فأين ما قلت؟فاذا طائر كان هناك فخرج من القبر حتى ضرب بصدرها فشهقت شهقة فماتت،فدفنت الى جانب قبره فنبتت على قبره شجرة،و على قبرها شجرة فطالتا فالتفتا فانظر الى فرط المحبة كيف اثّر فيهما و سرى منهما الى شجرتيهما حتى تلاقتا،و الظاهر ان تلاقيهما عيانا يشعر بتلاقي روحي اهل الحب بيانا و ما ذلك الا لأن عشقهما كان عفيفا،و من هذا الباب قول المجنون:

ص:120

و لو وقفت ليلى بقبري و قد عفت معالمه و استفتحت بسلام

لحنّت اليها بالتحية رمّتي و رنّت بترجيع السّلام عظامي

و لذا نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه من قال من عشق فعفّ فمات دخل الجنّة، و في كتاب رياض النّعيم عن ابراهيم بن نفطويه النحوي قال دخلت على محمد بن داود الأصفهاني صاحب المذهب في مرضه الذي مات فيه،فقلت كيف تجدك؟فقال حب من تعلم اورثني ما ترى قلت ما منعك منه مع القدرة عليه،فقال الأستمتاع على وجهين النظر المباح و اللّذة المحظورة،و اما النظر المباح فقد منعني منها ما بلغني عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم انه قال من عشق و كتم و عفّ غفر اللّه له و أدخله الجنّة قال ثمّ انّه أنشدني أبياتا لنفسه فلمّا انتهى الى قوله:

ان يكن عيب خده من عذار له فعيب العيون شعر الجتفون

فقلت له انت تنفي القياس في الفقه و تثبته في الشعر،فقال غلبة الهوى و ملكة النفوس و دعوا اليه قال و مات في ليلته.

و حكى بعض الصلحاء قال رأيت الغزالي في البرية و عليه موقعة و بيده ركوة و عصا، فقلت ايها الأمام أ ليس تدريس العلم ببغداد خيرا من هذا؟فنظر اليّ نظر الأزراء و قال لمّا بزغ بدر السعادة من فلك الأرادة و جنحت شمس الأصول الى مغارب الوصول:

تركت هوى ليلى و سعدى بمنزل و عدت الى مصحوب اول منزل

و نادت بي الأشواق مهلا فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل

و لذا نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال من عشق فعف فمات دخل الجنة، و حكي عن العشاق السبعة مثل ذلك،ذكر جامع ديوان المجنون انّه دخل يوما على ليلى و كان يحاكيها فأتى زوجها فعمدت الى المجنون و ادخلته تحت ثيابها و جلست،فلمّا خرج زوجها أخرجته من تحت الثياب فقالت له ما رأيت تحت الثياب؟قال و حقك دخلت أعمى و خرجت أعمى،و قد كان غمض عينيه حتى لا ينظر الى بدنها،و هذا ايضا علامة دوام الحب و الا فالحب اذا نكح فسد.

و قد شاهدنا من ارتكب اعظم المشاق في باب العشق و المحبة و لكن ذكر حكاياتهم يفضي الى تطويل الكتاب،و قد ذكر بعض أهل التاريخ انّ كثير عزّة كان رافضيّا و كان خلفاء بني امية

ص:121

يعرفون ذلك منه،دخل على عبد الملك بن مروان يوما فقال نشدتك بحق علي بن ابي طالب عليه السّلام هل رأيت أعسق منك؟

فقال نعم بينما اسير في الفلوات اذ انا برجل قد نصب حبائله،فقلت ما أجلسك هنا؟قال أهلكني و أهلي الجوع فنصبت حبائلي لأصيب لهم و لنفسي ما يكفينا يومنا هذا،فقلت أ رأيت أن أقمت فأصبت صيدا تجعل لي جزء،قال نعم،فبينما نحن كذلك اذ وقعت عليه ظبية فخرجنا مبتدرين فأسرع اليها فحلّها و أطلقها،فقلت له ما حملك على هذا؟قال دخلني عليها رقّة لشبهها بليلى و أنشأ يقول:

أيا شبه ليلى لا تراعي فانني لك اليوم من وحشية لصديق

أقول و قد أطلقتها من وثاقها لأنت لليلى لو عرفت عتيق

فعيناك عيناها و جيدك جيدها و لكن عظم الساق منك دقيق

و لما اسرعت في العدو جعل يقول:

اذهبي في كلاءة الرحمن انت مني في ذمة و امان

لا تخافي من ان تحاجي بسوء ما تغني الحمام في الأغصان

اقول و نظير هذا في عالم الحقيقة انّ الرجل الذي كان يضحك منه فرعون لما تشبه بموسى عليه السّلام في الملبس و دخل على فرعون يقلّد على موسى في اقواله و افعاله و قد غضب منه موسى،و لمّا اغرق اللّه فرعون و جنوده و كان فيهم ذلك الرجل فلم يغرقه اللّه سبحانه،فقال موسى يا رب ان هذا الرجل أغاضني فلم لم تغرقه؟فقال يا موسى انّه تشبّه بك في الثياب و الكلام فأنجبته لما تشبّه بأحبابي.

و حكى بعض الثقاة انّه كان رجل يهودي ابن واحد من السلاطين قد سمّاه فأفرط في حبه و منعه عن اشغاله،فترك معاشه و جعل نفسه سقّاء في باب بيت السلطان حتى يراه كلما خرج فبقي على هذا مدّة،ثم ان بعض خواص ذلك الولد اخبره عن حال ذلك الرجل و افراطه في عشقه، فقال ذلك الولد اظن ذلك الرجل كاذبا في دعواه،فقالوا اختبره ان اردت تصديق مقاله،ثم انّه ركب يوما و خرج الى الصّيد و امر ذلك الرجل ان يجيء معه الى الصحراء فلما بلغ الى محل الصيد رمى سهما و قال لذلك الرجل امض الى هذا السهم و انظر اين وقع فاجلس عنده،فمضى الرجل الى السهم و اخذه و قبله و جلس نتظرا لولد السلطان،فرجع و معه خواصه الى البلد و لم يخرج بعد الى تلك الصحراء حتى مضى اربعون سنة فاتفق انه خرج يوما الى تلك الصحراء فرأى رجلا قد

ص:122

اخذه العمر و هو جالس و بيده سهم،فسأله عن حاله فقص قصّته فعرفه ابن السلطان فقال له تعرفني؟فنظر الرجل اليه فقال اعرفك و انا مقيم على ما أمرتني به و لا أحول عنه الى الموت قضاء لأمرك لما كنت حبيبا،فأراد منه المجيء الى البلد فلم يقبل فبقي و كان هناك قبره.

و نظيره في عالم الحقيقة ما رواه الصدوق باسناده الى الصادق عليه السّلام قال انّ اسماعيل الذي قال اللّه عز و جل في كتابه وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ الْوَعْدِ وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا لم يكن اسماعيل بن ابراهيم،بل نبيا من الأنبياء بعثه اللّه عز و جل الى قومه،فأخذوه فسلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك الموت،فقال ان اللّه عز و جل بعثني اليك فمرني بما شئت، فقال لي اسوة بما يصنع بالحسين عليه السّلام،و قد وعد رجلا على ضحوة فاشتّدت الشمس عليه،فقال اصحابه يا رسول اللّه لو انّك تحوّلت الى الظّل،قال قد وعدته الى هيهنا و ان لم يجيء كان منه المحشر،و في خبر آخر انّه وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره فانّ انتظاره عليه السّلام انّما جاء من قبل الأمر به من جهة ذلك المحبوب الحقيقي فهو تعظيم له في الحقيقة لا لذلك الرجل.

فان قلت اذا آل الأمر الى مرتبة العشق و المحبة أ فيجوز ان يكون في ذلك الحصن أعني القلب غيره سبحانه؟قلت نعم و لكن ذلك الغير يكون اعوانه و اتباعه و احبابه فيصدق ان ليس في ذلك الحصن غيره كما يصدق ان ليس غير السلطان في الحصن الظّاهري،مع ان السلطان وحده لا يجوز ان يكون فيه وحده بدون الأتباع و الأعوان و الجنود.نعم ليس فيه ما يعارض ذلك السلطان و لا يكون مناسبا له و يكون اجنبيا عنه و كذلك القلب فانّه اذا كان فيه حب اللّه و حب من احبّه اللّه صدق انه ليس في القلب حب غير اللّه لما عرفت،و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعائه اللّهم ارزقني حبّك و حب ما يقربني الى حبك و اجعلك أحب اليّ من الماء البارد.

و قد كان ذلك في اكثر اهل العشق هذا العشق فانّهم كانوا يحنون الى من له أدنى نسبة الى محبوبهم كالدّيار و المنازل و الأقارب و الجيران حتى كلاب الحي:

رأى المجنون في البيداء كلبا فجرّ له من الأحسان ذيلا

فلاموه على ما صار منه و قالوا ألم أنلت الكلب نيلا

فقال لهم دعوني انّ عيني رأته مرة في حيّ ليلى

و كذلك الديار فانّ ما قرب من دار الحبيب يمون عندهم كداره:

لا تقولوا دارها بشترقي نجد كل نجد للعامريّة دار

و قوله الرّضي ره:

عارضا بي ركب الحجاز أسايل(أسائله) متى عهدهم بأيّام جمع

ص:123

و اتملا حديث من سكن الخيف و لا تكتباها الا بدمعي

فاني ان ارى الدّيار بطرفي فلعلي ارى الديار بسمعي

و كما انّ السلطان المستقرّ في الحصن يحتاج في بقائه في ذلك الحصن الى الماء و الزّاد و اللّباس و سائر ما يحتاج اليه في المعاش فكذلك القلب،فانّ ابن آدم قد خلق أجوف يحتاج الى المأكل و المشرب الى غير ذلك مما يحفظ البدن،و لا يهتم الأنسان في تحصيل شيء الاّ اذا أحبّه و علم انّ فيه مصلحة،فحينئذ فحب الزوجة و الولد و المال و الأقارب و الأعوان اذا كان لغرض ديني لا ينافي حبّ اللّه تعالى بل يؤكده و يقرّره،امّا المال ففيه معاونة المحاويج و الفقراء من اهل اللّه،و اما الزوجة فهي لباس الرجل السّاتر له و بها يحصل له التّعفف عن ارتكاب المحرمات.

و اما الأولاد فالمصالح الأخروية المترتبة على وجودهم اكثر من ان تحصى،روي انّ نبيا من الأنبياء مرّ على قبر يعذّب صاحبه ثم مرّ عليه بعد مدّة فلم يكن يعذّب فسأله أصحابه عن رفع العذاب عنه،فقال انّه خلف ولدا فجاءت به امه الى المعلم،فلقّنه بسم اللّه الرحمن الرحيم فاستحى اللّه ان يعذب رجلا و ابنه يقول بسم اللّه الرحمن الرحيم.

و اما الأقارب فهم من اعظم النّعم حتى لو كانوا اعداء،فان الصادق عليه السّلام قال أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح أي المعادى،و بالجملة فحب هؤلاء و امثالهم لمثل هذه المصالح لا ينافي حب اللّه تعالى بل يجتمع معه و يكون معاونا على بقائه و استمراره،روي انّه عليه السّلام سأل رجل من الشّيعة فقالوا له يا رسول اللّه قد تخلّى عن الدنيا و أقبل على العبادة، قال فمن اين يأكل؟قالوا له أخر يعطيه،فقال انّ ثواب ذلك الأخ اكثر من ثوابه مع عبادته،و هذا اشارة الى ما ذكرناه،امّا اذا احبّ الولد لغرض دنيوي و كذا المال ليتوصل به الى الأغراض الفاسدة فهذا ممّا لا يجتمع مع حب اللّه سبحانه.

فان قلت فاذا احب هذه المذكورات لا للغرض الأول و لا للغرض الثاني بل لأن الطبيعة البشرية اقتضته فانّك ترى انّ الرجل يحب اطفاله و اقاربه و لا يخطر بخاطره شيء من الأغراض أ فيكون مثل هذا مضادا لحب اللّه سبحانه أم غير مضادّ له.

قلت الحق انّ مثل هذا لا يضاده،و ذلك انّ مثل هذه المحبّات يكون بها بقاء النّوع الأنساني،و لولاها لما عطفت الأمّ على الولد و آثرته على نفسها و وقته الحر و البرد و كذلك الرجل على ولده فتكون هذه المحبات منه تعالى لإنتظام النّوع و قد صرّحت بمثل هذه الأخبار،روي انّ اللّه تعالى خلق المحبّة على مائة جزء فقسم واحدا منها بين الخلق و به يحبّ الرجل ولده و الأمّ طفلها،و أبقى منها تسعة و تسعين جزء يرحم بها الخلائق يوم القيامة.

ص:124

نعم الذي يجب هنا ان يجعل حب اللّه سبحانه سلطان ذلك الحصن،و هذه المحبّات من العساكر و الأتباع لا ان يجعل واحدة منها هي الرئيس و يكون محبته تعالى من التّوابع كما هو الموجود في اكثر الناس،و الى هذا الأشارة بما روي من انّ الحسن عليه السّلام قال يوما لجده صلى اللّه عليه و آله و سلّم أ يجتمع محبتان في قلب واحد؟فقال لإبني،فقال أ تحب أبي؟قال نعم،قال أ فتحب امي؟قال نعم،قال أ فتحب أخي؟قال نعم،قال أ فتحبني انا؟قال نعم،قال أ فتحب اللّه تعالى؟قال نعم،قال الحسن عليه السّلام فكيف اجتمعت هذه المحبّات كلها و أنت قلت لا يجتمع محبتان في قلب واحد،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا بني ان احبكم يرجع الى حب اللّه تعالى في قطب القلب و حبّكم كالخطوط التّي هي حوله،فهذا الحب كلّه واحد و تفصيله ما ذكرنا،و على هذا ينحل الإعتراض الذي اورده بعض القاصرين على قول الشاعر:

محى حبها حب الأولى كن قبلها و حلّت محلا لم يكن حل من قبل

و وجه الأعتراض بانه اذا كان حبها قد محى حب من تقدمها على انّ القلب كان محلا لغيرها لكن حبها اخرج ذلك الغير،فما معنى قوله و حلت مكانا لم يكن منزولا قبلها،و الجواب ان حب من كان قبلها كان محلّه اطراف القلب و جوانبه،و لمّا أتى هذا الحب أخرج تلك المحبّات من كل الأطراف و استقر في وسط القلب الذي لم يكن محلا لأحد قبله،و قد كانت الشعراء اذا أرادوا ان يدعوا على احد سواء ادعيتهم عليه ان يكون مشغولا بحب محبوب يكون ذلك المحبوب مشغولا بحب غيره كما قال بعض الشعراء:

من قصر الليل اذا زرتني أشكو و تشكين من الطّول

عدو عينيك و شأنيهما أصبح مشغولا بمشغول

فقوله اذا زرتني ظرف متعلق بأشكو،و معناه أنّك ايّتها المحبوبة اذا زرتني اشكو أنا من قصر الليل،و انت تشكين من طوله،ثمّ دعا علي بعض من يبغض عينيها و يشنأهما بأنّه يصبح مشغولا بمحبوب يكون ذلك المحبوب مشغولا بغيره و ليس اضرّ على العاشق من هذا لأنه و ان قربت داره لكنّه غير نافع بعد ان لا يكون له وداد:

على ان قرب الدار ليس بنافع اذا كان من تهواه ليس بذي ودّ

و قد يمثلون مثل هذا الحبيب بما قال:

كالعيسن في البيداء يقتلها الظماء و الماء فوق ظهورها محمول

و قال شيخنا الحويزي قدس اللّه روحه:

فلا تعجب لهجر من حبيب قريب الدار مرجو الوصال

ص:125

فحكم الجملتين الفصل قطعا و بينهما كمال الأتّصال

و نظير هذا في عالم الحقيقة شيء عجيب و هو انّه سبحانه و له المثل الأعلى قد تحبّب الينا بأنواع المحبات و نحن مشغولون عنه في غيره من آلهتنا التي هي النّفس و الهوى و الشّهوات و الأرادات حتى انّه تأسف على أحوالنا فقال يٰا حَسْرَةً عَلَى الْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فهو قد تأسف علينا تأسف المحب على المحبوب كما يقول احدنا اذا تأسف على محبوب له قد أتى بما يحصل له من الضرر يا حسرتي على حبيبي فلان كيف أتى بهذا الفعل حتى يحصل له منه ما حصل،و في الحديث القدسي يا ابن آدم أتحبب اليك بالإحسان و تتبغض اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل و شرّك اليّ صاعد حتى كأنّ لك المنة عليّ و أنا المحتاج اليك.

فان قلت ذكرت ان صاحب هذه المرتبة يشتغل عن استعمال القوة الشهوانيّة و القوة النّفسانية فما للأنبياء و أوصياءهم و الأولياء ممّن حصّل هذه المنزلة لم يمنعوا أنفسهم عن القوّتين بل كانت القوة الشّهوانية فيهم اكثر منها في غيرهم،فقد نقل انّ سليمان عليه السّلام كان يصحب معه البساط ألف امرأة منكوحة منها سبعمأة من الأماء،و ثلاثمائة من الحرائر،و قيل انّه كان يطوف عليهنّ في ليلة،و امّا نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد مات عن تسع و قد اكثر من الزوجات، و كذلك الأئمة صلوات اللّه عليهم،و اما القوة الأخرى فروي انّ الحسن و الصادق عليهما السّلام و كذلك الرضا عليه السّلام كانوا يتأنقون في المأكل و الملبس و الشرب مع انّ تلك الدرجة لم يبلغ كمالها أحد سواهم،قلت هاتان اللذتان الواقعتان في هذا العالم على قسمين:

القسم الأول ما نوقعه نحن منهما لداعي الشّهوة المرّكبة في الأبدان و لأجل الألتذاذ و طلبا للأولاد و التكاثر،و من هنا ترى الزاني لا يزني الاّ ان يكون على لذة منه،بل قيل ان الزنا ألذ عند اهله من الحلال،و حكى صاحب الكشكول ان رجلا كانت له امرأة و كان يتركها و يمضي الى الزنا فقالت له امرأته يوما ايّها الرجل عندك حلال طيب فتدعه و تمضي الى الزنا،فقال لها امّا قولك حلال فنعم و امّا قولك طيّب فلا،و فيه ايضا ان رجلا كان يلوط بالأولاد فعاتبته امرأته و قالت انّ الذي تطلبه من الغلمان عندي انا الفرد الأحسن،فقال نعم عندك منه الأحسن لكن الذي عندك له جار مؤذ و هو غير حسن فنحن نترك ما عندك لكراهة جاره،فانظر الى هذا الرجل قبّحه اللّه كيف اجابها،و لعلّه صادق باعتقاده،و ذلك لأن النفس حريصة على ما منعت عنه مع معاونة الشيطاطين و تسويلاتهم و اين هؤلاء من جميل العاشق.

ص:126

كما روي انّه بثينة دخلت يوما على عبد الملك بن مروان فقال يا بثينة ما أرى شيئا ممّا كان يقول جميل،فقالت يا أمير المؤمنين انّه كان يرنوا لي بعينين ليستا في رأسك،قال فكيف صادفته في عفّته،قال كما وصف نفسه:

لا و الذي تسجد الجباه له مالي بما دون ثوبها خبر

و لا بفيها و لا هممت بها ما كان الاّ الحديث و النظر

و عن ابي سهل الساعدي قال دخلت على جميل و بوجهه آثار الموت،فقال لي ابا سهل انّ رجلا يلقى اللّه و لم يسفك دما حراما و لم يشرب خمرا و لم يأت بفاحشة أ ترجو له،قلت أي و اللّه فمن هو؟قال انّي لأرجو ان أكون ذلك،فذكرت بثينة فقال انّي لفي آخر يوم من الدّنيا و أول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان كنت حدّثت نفسي بريبة قطّ.

و اما القليل منا فربما ضموا الى الدّواعي المذكورة سابقا الأستنان بسنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما سمع فيه من مراتب المثوبات،روي ان سليمان عليه السّلام مرّ يوما بعصفور يقول لزوجته ادني مني حتى اجامعك لعل اللّه يرزقنا ولدا ذكرا يذكر اللّه تعالى فانّا كبرنا، فتعجب سليمان عليه السّلام و قال هذه النيّة خير من مملكتي.

و اما احباؤه عليه السّلام فهم انّما يأتون هذه الشّهوات و المستلذات لا للدّواعي التي فينا بل لأنه تعالى امرهم باستعمالها،فهي و ان كانت لذيذة في الحس عندنا الا انّ اعظم لذّتها في المعنى عندهم،لأنّهم لا يستلذون الاّ بما فيه رضى محبوبهم،و من ثم يستلذوا من المحرمات استلذاذ غيرهم منّا،و من هذا قال امير المؤمنين عليه السّلام لو ادخلتني نارك لم اقل انّها نار،و أقول انّها جنّتي لأنّ جنتي رضاك فاينما أنزلتني أعرف ان رضاك فيه:

و هجره اعظم من ناره و وصله أطيب من جنّته

و قال له سلمان الفارسي رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين أ تحب الموت أم الحياة؟فقال لا أحبّ الا ما أحبه لي مولاي،و امّا طلب الجنان و الخلاص من النّيران فانّما هو مقصد التجار و العبيد كأمثالنا،و ذلك لأنّ طلب النعمة و اللّذة يكون على وجوه ثلاثة اعلاها ان يكون لذته بالمنعم لا بالنعمة و لا بالأنعام،و مثاله من المشاهدات ان السلطان اذا اراد الخروج الى سفر فأنعم بفرس على انسان فيتصور ان لذّة المنعم عليه و فرحه بالفرس على وجوه ثلاثة:

الأول ان يفرح بالفرس من حيث انّها مال،و لو وجدها في الصحراء لكان يفرح بها ذلك الفرح فهذا فرح من لا حظّ له في السلطان.

ص:127

الثاني ان يفرح به لا من حيث انّه فرس بل من حيث يستدلّ به على عناية الملك و شفقته حتى لو أعطاها غير الملك لم يفرح بها أصلا لعدم احتياجه الى الفرس.

الثالث ان يفرح به و يستلذ به ليركب و يخرج في خدمة الملك و يتحمل مشقة السّفر لينال بخدمته رتبة القرب منه فيرتقي الى درجة الوزراء،ثم انه ليس يريد من الوزارة نفس الوزارة بل مشاهدة الملك و القرب منه،حتى لو خير بين القرب دون الوزارة و بين الوزارة دون القرب لأختار القرب،فهذه ثلاث درجات،فالأولى درجة الجهّال و اكثر الناس الذين يفرحون بالأموال و النّعم لكونها أموالا،و لا فرق عندهم في تحصيلها من يد نبي من الأنبياء او مجوسيّ من المجوس، و امّا الدرجة الثانية فهي درجة الأحباب و الأخلاّء الذين يفرحون بنعم اللّه و لذات الدنيا من حيث انّه يقدر بها على التوصّل الى القرب منه و النزول في جواره.

و قد روي ان واحدا من الصّحابة دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذا هو شاد حجرا على بطنه من الجوع،و هو مستلق على قفاه لا يقدر على الجلوس و هو يقول:اللهم انّي اعوذ بك من نوم يضجع على الفراش و يشغلني عن طاعتك فهم عليهم السّلام انّما يريدون الأكل ليقووا بها على الطاعة و الخدمة لمحبوبهم.

و اما المرتبة الخامسة و هي الوله و الهيام و ان لا يكون في القلب و الخيال سوى ذلك المشوق فهذه آخر المراتب،و هذه آخر مراتب الخليل عليه السّلام كما قال عليه السّلام انّما سمي ابراهيم لأنّه برّ فهام،يعني انّه هام في الحب حتى انّه لم يكن له شغل و لم يكن في قلبه احد سوى ذلك الحبيب،و هذه درجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام و هي التي أشار علي بن الحسين عليهما السّلام الى طلبها بقوله و فرّغ قلبي لمحبتك،يعني يكون فارغا من محبة كل احد و يكون مقصورا عليك وحدك،قال بعضهم رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضرّ و النحافة رافعة يديها تدعو،فقلت لها هل من حاجة؟قالت حاجتي ان تنادي بالموقف بقولي:

تزود كل الناس زادا يقيهم و ما التي زاد و السّلام على نفسي

ففعلت فاذا بفتى منهوك،فقال انا الزاد فمضيت معه اليها فما زادت على النظر و البكاء، ثم قالت له انصرف مصاحبا،فقلت ما علمت ان لقائكما يقتصر على هذا،فقالت امسك اما علمت انّ ركوب العار و دخول النّار شديد.

قيل لإعرابي ما بلغ من حبك لفلانة؟قال اني لأذكرها و بيني و بينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك،و سأل الرشيد رجلا ما اشد ما يكون من العشق قال ان يكون ريح البصل منه احبّ من ريح المسك من غيره.

ص:128

عبد اللّه بن عجلان الهذلي أحد العشاق المذكورين تزوّجت عشيقته فرأى أثر كفها على ثوب زوجها فمات كمدا،و زار على بن عبيدة الريحاني جارية كان يهواها و عنده اخوانه،فحان وقت الظهر فبادروا الى الصلاة و هما يتحدّثان،فأطالا حتى كادت الصلاة تفوت،فقيل يا ابا الحسن الصلاة،فقال رويدك حتى تزول الشمس،يعني تذهب المرأة،ابو العينا اضحكني بائع رمان يقول وقعت من فوق جبل الهوى الى بحار الحب طرطب،عشق رجل امرأة فقيل له ما بلغ من عشقك لها؟قال كنت ارى القمر على سطحها أحسن منه على سطوح الناس،ليلى العامريّة مع قيس:

لم يكن المجنون في حاله الاّ و قد كنت كما كانا

لكنه باح بسرّ الهوى و انّني قد دنت كتمانا

و في الرواية انّ سليمان عليه السّلام رأى عصفورا يقول لعصفورته لم تمنعيني نفسك و لو شئت أخذت قبة سليمان بمنقاري فألقيتها في البحر،فتبسم سليمان من كلامه،ثم دعى بهما فقال للعصفور أ تطيق ان تفعل ذلك،فقال لا يا رسول اللّه و لكن المرء قد يزيّن نفسه و يعظّمها عند زوجته،و المحب لا يلام على ما يقول،فقال سليمان عليه السّلام للعصفورة لم تمنعيه من نفسك و هو يحبك؟فقالت يا نبي اللّه انّه ليس محبا و لكنه محب مدع لأنه يحب معي غيري،فأثّر كلام العصفورة في قلب سليمان عليه السّلام و بكى بكاء شديدا و احتجب عن الناس اربعين يوما يدعو اللّه ان يفرغ قلبه لمحبّته و ان لا يخالطها بمحبّة غيره،اذا تحقّقت هذا كله فاعلم ان أهل دعوى محبّة اللّه كثيرون و الدعوى لا تصدق الا بالشاهد و الشواهد هنا و ان كان كثيرة الاّ انّ اظهرها و أقواها أمور ثلاثة:

الأول النّحول و السقم و الذبول،لأنها صفات العاشق سيّما العاشق الذي يكون من الوصال في شكّ و من الحبيب على حذر،فانّ نار الحب اذا اشتعلت بالقلب سرى تأثيرها الى باقي الأعضاء لأنّها جنوده و توابعه،و النّقص الداخلي على السّلطان يدخل على الرّعية.

و روي انّه قال رجل لسيد العاشقين امير المؤمنين عليه السّلام ما بال وجهك تعلوه الأنوار و أنت على هذا الحسن و الجمال،و غيرك من العبّاد و أهل الحب على حال عظيم من أصفرار الوجه و نحول البدن و ضعف القوة،فقال عليه السّلام أولئك العباد و الأحباب أحبوا حبيبا و هم لا يعرفون حالهم عنده أراض عنهم ام غير راض،و لا يعلمون انّه قبل خدمتهم ام لا،و اما انا فقد عرفت حالي عنده،و انّي راض عنه و هو راض عني،فصار خاطري مطمئنا فلا يصفر وجهي

ص:129

و لا ينحل بدني،و ان اردت وصف حال المحبين فانظر في احوال يحيى بن زكريا عليهما السّلام تجد حالا غريبا و طرازا عجيبا.

روينا بالأسانيد الكثيرة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال كان من زهد يحيى بن زكريا عليهما السّلام انّه أتى بيت المقدس فنظر الى المجتهدين من الأحبار و الرهبان عليهم مدارع الشعر و برانس الصوف،و اذا هم قد خرقوا تراقيهم و تركوا فيها السلاسل و شدّوها الى سواري المسجد، فلمّا نظر الى ذلك أتى امه فقال يا أماه انسجي لي مدرعة من شعر،و برنسا من صوف حتى آتي بيت المقدس فأعبد اللّه مع الأحبار و الرهبان،فقالت له امّه حتى يأتي نبي اللّه فاوامره في ذلك، فلما دخل زكريا عليه السّلام أخبرته بمقالة يحيى،فقال له زكريا يا بني ما يدعوك الى هذا و انّما أنت صبي صغير،فقال له يا ابه اما رأيت من هو اصغر سنا من قد ذاق طعم الموت،قال بلى،ثم قال لأمه انسجي له مدرعة من شعر و برنسا من صوف،ففعلت فتدرع بالمدرعة على بدنه و وضع البرنس على رأسه،فأقبل يعبد اللّه عز و جل مع الأحبار حتى اكلت مدرعة الشعر لحمه،فنظر يوما الى ما قد نحل من جسمه،فأوحى اللّه عز و جل اليه أ تبكي على ما قد نحل من جسمك؟ و عزتي و جلالي لو اطّلعت الى النار اطلاعة لتدرعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج،فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه،ثم بدا للناظرين اضراسه فبلغ ذلك امه،فدخلت عليه و أقبل زكريا و اجتمع الأحبار و الرهبان فأخبروه بذهاب لحم خدّيه،و قال ما شعرت بذلك.

فقال زكريا ما يدعوك الى هذا انّما سألت ربّي ان يهبك لي لتقرّ بك عيني،قال انت امرتني بذلك يا ابه،قال و متى ذلك يا بني؟قال أ لست القائل ان بين الجنة و النار لعقبة لا يجوزها الا البكّاؤن من خشية اللّه تعالى،قال نعم فجد و اجتهد فشأنك غير شأني،فقام يحيى فنفض مدرعته فأخذته امه فقالت أ تأذن لي يا بني ان اتّخذ لك قطعتي لبود تواريان اضراسك،و ينشفان دموعه، حتى ابتلتا من دموع عينيه،فحسر عن ذراعيه ثمّ أخذهما فعصرهما فتحدّر الدموع من بين اصابعه،فنظر زكريا الى ابنه و الى دموع عينيه فرفع رأسه الى السماء فقال اللهم هذا ابني و هذه دموع عينيه و أنت ارحم الراحمين.

و كان زكريا عليه السّلام اذا أراد ان يعظ بني اسرائيل يلتفت يمينا و شمالا فاذا رأى يحيى لا يذكر جنة و لا نارا،فجلس ذات يوم يعظ بني اسرائيل و أقبل يحيى فلف رأسه بعباه و جلس في غمار الناس و التفت زكريا يمينا و شمالا فلم ير يحيى،فأنشأ يقول حدّثني حبيبي جبرئيل عليه السّلام عن اللّه عز و جل انّ في جهنم جبلا يقال له السكران في اصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان يغضب لغضب الرحمن تبارك و تعالى،في ذلك الوادي جبّ قامته مأة عام،في ذلك الجبّ توابيت من نار،في تلك التوابيت صناديق من نار و أغلال من نار،فرفع يحيى رأسه و قال

ص:130

وا غفلتاه من السّكران ثم أقبل هائما على وجهه،فقام زكريا عليه السّلام من مجلسه فدخل على ام يحيى فقال يا ام يحيى فاطلبي يحيى فانّي اخاف ان لا تراه الا و قد ذاق الموت،فقامت و خرجت في طلبه حتى مرّت بفتيان من بني اسرائيل،فقالوا لها يا ام يحيى اين تريدين؟قالت اريد ان اطلب ولدي يحيى ذكرت النّار عنده فهام على وجهه،فمضت ام يحيى و الفتية معها حتى مرت براعي غنم،فقالت له يا راعي هل رأيت شابا من صفة كذا و كذا،فقال لها لعلك تطلبين يحيى بن زكريا، قالت نعم ولدي ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه،فقال اني تركته السّاعة على عقبة ثنية كذا و كذا ناقعا قدميه في الماء رافعا بصره الى السماء يقول و عزّتك يا مولاي لاذقت بارد الشّراب حتى انظر الى منزلتي منك،فأقبلت امه فلمّا رأته أمه دنت منه فأخذت برأسه و وضعته بين ثدييها و هي تناشده باللّه ان ينطلق معها الى المنزل،فانطلق معها حتى أتى المنزل.

فقالت له ام يحيى هل لك ان تخلع مدرعة الشّعر و تلبس مدرعة الصّوف فانّه ألين ففعل و طبخت له عدسا فأكل و استلقى فنام فذهب به النوم فلم يقم صلاته،فنودي في منامه يا يحيى بن زكريا أردت دارا خيرا من داري و جوارا خيرا من جواري،فاستيقظ فقام،فقال يا رب أقلني عثرتي،الهي فو عزّتك لا أستظل بظل سوى بيت المقدس،و قال لأمه ناوليني مدرعة الشّعر، فتقدمت امه فدفعت اليه المدرعة و تعلّقت به،فقال لها زكريا يا ام يحيى دعيه فانّ ولدي قد كشف له عن قناع قلبه و لن ينتفع بالعيش،فقام يحيى فلبس مدرعته و وضع البرنس على رأسه ثم أتى بيت المقدس فجعل يعبد اللّه عز و جل مع الأحبار حتى كان من امره ما كان.

اقول فهذا حال يحيى لأنّه كان محبا،و في الرواية ان عيسى عليه السّلام مرّ بثلاثة نفرات قد نحلت ابدانهم و تغيّرت ألوانهم فقال لهم ما لذي بلغ بكم؟قالوا الخوف من النار،فقال حقّ على اللّه ان يؤمن الخائف،ثم جاوزهم الى ثلاثة آخرين فاذا أشدّ نحولا و تغيّرا كان على وجوههم المرآى من النور،فقال ما الذي بلغ بكم؟قالوا نحب اللّه عزّ و جل،فقال انتم المقرّبون انتم المقرّبون، كيف لا و هذا مشاهد في العالم المجازي،فلقد شاهدنا من خلّى قلبه عن حب اللّه فأذاقه حب غيره نحيلا ضعيفا عديم القوة.

و قد بالغ الشعراء كل مبالغة في وصف نحول العاشق،فقال بعضهم:

و لو انّني علّقت في رجل نملة لسارت و لم تعلم بأني علقت

و لو نمت في عين البعوض معارضا لما علمت في أي زاوية نمت

و لو وضعوني وسط حبة خردل لبانت خوافيها الجميع و لا بنت

و قال ابو الطيب:

ص:131

كفى بجسمي نحولا انني رجل لو لا مخاطبتي اياك لم ترني

و قال الخباز البلدي:

كمل الهوى صعب و لكنّني بليت بالأصعب من أصعبه

أنحلني الحب فلو زج بي في مقلة الوسنان لم ينتبه

و كان لي فيما مضى خاتم و اليوم لو شئت تمنطقت به

و قد نسبوا هذه الأبيات للعلامة الحلي طاب ثراه:

لي غي محبته شهود اربع و شهود كل قضية اثنان

خفقان قلبي و اضطراب مفاصلي و شحوب (1)لوني و اعتقال لساني

و في امالي الزجاج عن ابو بكر بن شقير النحوي قال اخبرنا احمد بن عبيد قال خبّرت عن هشام بن عروة عن ابيه عن النعمان بن بشير،قال بعثني عثمان او معاوية على صدقات بني عذرة فصدقتهم و ارتحلت عنهم،فلمّا ظننت انّي قطعت بلادهم رفع لي بيت فقصدته،فاذا بفنائه شاب مستلق على قفاه لم يبق منه الا عظم على جلد،فلمّا أحس بي ترنّم بصوت ضعيف،و أنشأ يقول:

جعلت لعراف اليمامة حكمه و عرّاف هجران هما شفتاني

فقالوا نعم نشفي من الدّاء كلّه و قاما مع العوّاد يبتدراني

فما تركا من رقية يعلمانها و لا سلوة الا و قد سقياني

فقالا شفاك اللّه و اللّه مالنا بما ضمنت منك الضلوع يدان

ثم خفت فنظرت فاذا في صدر البيت عجوز،فقلت لها يا هذه اخرجي الى هذا الفتى فاني اظنه قد مات،فقالت و انا أظن ذاك ايضا و اللّه ما سمعت له انّه منذ سنة الاّ اليوم فانه قال في أوّله:

من كان من امهاتي باكيا شجني فانّني قد أراني اليوم مقبوضا

يسمعينه(يسمعنينه خ)فاني غير سامعه اذا علوت على الأعواد معروضا

ص:132


1- (1) شحب شحوبا لونه:تغير من جوع او مرض او نحوهما.

ثم خرجت فاذا هو ميت فغسلته و كفنته و صليت عليه و دفنته،ثم قلت للعجوز من هذا؟ فقالت هذا قتيل الحب عروة بن خزام.

الثاني من العلامات السهر و القلق و الأضطراب عند ذكره و ان لا يشتغل بغيره،اما السهر فلأنه طريق العاشق من جهة نار الهجران و انتظار لوقت الوصال سيما الليل الستّار،و في الحديث القدسي يا موسى كذب من زعم انّه يحبني و هو نيام طول ليله،أ ليس كل حبيب يحب الخلوة مع حبيبه،يا ابن عمران لو رأيت الذين يصلون لي في الدّجى و قد مثلت نفسي بين أعينهم يخاطبوني و قد جللت عن المشاهدة،و يكلموني و قد عززت عن الحضور،يا ابن عمران هب لي من عينك الدموع و من قلبك الخشوع ثم ادعني في ظلم الليالي تجدني قريبا مجيبا،و سأل عليه السّلام مال بال المتهجدين في الأسحار من أحسن الناس وجوها؟قال لأنهم خلوا بربهم فكساهم من حلل انواره،و ذلك انك ترى القائمين في الأسحار على هيئة من الحسن المعنوي و ان لم يكن فيهم هذا الحسن الظاهري و ما ذلك الا لتلك الخلوة مع الحبيب.

و في الحديث القدسي يا احمد ليس من قال اني احب اللّه تعالى احبني حتى يأخذ من ابليس قوتا و يلبس دونا(درنا خ)و ينام سجودا و يطيل قعودا،و يلزم صمتا و يتوكّل عليّ و يبكي كثيرا،و يقل ضحكا و يخالف هواه،و يتّخذ المسجد بيتا و العلم صاحبا،و الزهد جليسا،و العلماء احبابا و الفقراء رفقاء،و يطلب رضائي و يفر من سخطي و يهرب من المخلوقين هربا،و يفر من المعاصي فرارا و يشتغل بذكري اشتغالا فيكثر التسبيح دائما و يكون بالوعد صادقا و بالعهد وافيا، و يكون طاهرا و في الصلاة زاكيا،و في الفرائض مجتهدا و فيما عندي من الثواب راغبا،و من عذابي راهبا مشفقا و لأحبابي قرينا و جليسا.

و اما القلق و الأضطراب فهي من لوازم العاشق اذا ذكر محبوبه كما قال عز من قائل في صفات اهل الأيمان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ و ذلك ان العاشق تتحرك نار وجده و تشب عند ذكر المعشوق و كذلك أكثر عروقه و أعضائه،و من هذا استدل الطبيب الحاذق على معرفة المعشوق عند كتمان العاشق هواه،و قد وقع في قرب اعصارنا مثل هذا و هو انّ شابا من أولاد الأكابر قد عشق امرأة في بعض بلاد الهند،و اتّفق ان اباه اراد السفر الى منزله في اصفهان فأتى بذلك الولد معه و قد كان ذلك الولد يكتم ذلك الحب،فلمّا وصلا الى اصفهان زاد شوقه و التهبت نار فراقه و بقي يصفر وجهه و ينحل بدنه يوما فيوما و لا يدري ما علته حتى ضعف عن حركة المشي فبقي نائما على الفراش،و قد أعيت الأطباء عن علاجه و معرفة علته فأتوا اليه بطبيب حاذق و تأمّله فقبض على نبضه و قال يا صبي مرضك من الشيء الفلاني ام من الشيء الفلاني،فجعل يعد عليه الأمراض حتى بلغ الى العشق،فلما عده تحرك النبض حركة شديدة

ص:133

فعرف انّ علته العشق ثم شرع يعد له البلدان بأنّ معشوقك في البلد الفلاني ام في البلد الفلاني حتى ذكر تلك البلدة فتحرك النبض ايضا مثل تلك الحركة ايضا،فأمر الطبيب بإحضار من يعرف اهل تلك اليلدة فلمّا حضرت عدّ له نساء تلك البلدة و بناتها،فلما انتهى الى تلك المرأة تحرك النبض أشدّ من الحركتين الأوليين فعلم ان محبوبته تلك المرأة،فتوصّلوا الى تحصيلها.

و اما في العالم الحقيقي فقد كان الخليل عليه السّلام يسمع ازير صدره عند ذكر اللّه على ميل،و كان صدره يغلي كغليان القدر،و اما عدم الأشتغال بغيره فهي عادة العاشقين و اعمال الجوارح تظهر ما يجن القلب و ذلك انّ نار المحبة كامنة فيه،فان وقعت نار محبة القلب في عود او بخور فاحت رائحته على الأعضاء و عرف منها ورود تلك النار الكامنة على ذلك الجسم الطيّب، و ان وقعت تلك النار في خرقة بالية ظهرت رائحتها المنتنة من الأعضاء و الجوارح لأنّها كما عرفت من خدمه و توابعه فهي التي تظهر ما أضمره القلب كدموع العاشق،فانّه اذا أراد كتمان الهوى نمّت عليه الدموع و أظهرت ما كتم:

كتمت الهوى في القلب حتى ختمته فباحت بع العينان و الدّمع مطرق

و من كان ذا عشق و ان كان جاحدا فانّ الهوى في عينه حين ينطق

أ لا ترى انك لو جلست مع رجل لم تعرف حاله و لم تطلع على باطن امره و ما أجنّه في قلبه فاذا اردت ان تعرف فحاوره في انواع المكالمات و انظر الى ميله الى أي نوع يتكلم به فاعلم انّ ما في قلبه هو حب ذلك الشيء،و ذلك انك ترى أهل الدراهم و الدّنانير لا يحبون منك حديثا الا اذا اشتمل على مقالتها و بين أحوالها و ما يترتب عليها من النّفع الدنيوي فتعلم من هذا ان محبوبه هو هذا لا غير،و كذلك انواع العشق و هذه قاعدة يضطر على فعلها الأنسان حتى انّه لو تكلّف اظهار غير محبوبه سبقه اللسان اليه و مالت الجوارح الى خلاف ما تكلّفه،و هذا شأن حب العالمين، و ما أحسن قول رابعة العدوية في العالم الحقيقي:

أحبك حبين حب الهوى و حبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا

و اما الذي انت اهل له فكشفك للحجب حتى اراكا

فلا الحمد في ذا و لا في ذاك لي و لكن لك الحمد في ذا و ذاكا

ص:134

و ينظر الى هذا قول بعض العارفين انّي أقول يا رب يا اللّه فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال،لأنّ النّداء يكون من وراء حجاب،و هل رأيت جليسا ينادي جليسه،و قد أشار بعضهم الى مثل هذا حيث قال:

كانت لقلبي أهواء مفرّقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

فصار يحصدني من كان أحسده و صرت مولى الورى اذ صرت مولائي

تركت للناس دنياهم و دينهم شغلا بذكرك يا ديني و دنيائي

و ذلك ان لذة الذكر أعلى من كل لذة لأنّه من واردات القلوب،و لذات القلب أعظم من لذات الحواس في النّشأتين،لأن الجنة معدن تمتع الحواس فاما القلب فلذته في لقاء اللّه فقط و مثاله في اطوار الخلق في لذاتهم ما نذكرهم،و هو ان الصبي في اول حركته و تمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب و اللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء،ثم يظهر بعده لذة الوقاع و شهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول اليها،ثم يظهر له لذة الرئاسة و العلو و التكابر و هي آخر لذات الدنيا و أقواها كما قال تعالى اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ الآية ثم بعد هذا يظهر له غريزة اخرى يدرك بها لذة معرفة اللّه تعالى و معرفة افعاله فيستقر معها جميع ما قبلها و كل متأخّر فهو اقوى و هذا هو الأخير اذ يظهر حب اللعب في سن التمييز و حب النساء و الزينة في سن البلوغ و حب الرئاسة بعد العشرين و حب العلوم بعد الأربعين و هي الغاية العليا و كما ان الصبي يضحك على من يترك اللعب و يشتغل بملاعبة النساء و طلب الرئاسة،و كذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرئاسة و يشتغل بمعرفة اللّه تعالى و العارفون يقولون ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون،و لكن الأشغال بمعرفة اللّه تعالى يقتضي ان لا يصدر منه شيء من المعاصي و لقد احسن ابن المبارك في قوله حتى ان الصادق عليه السّلام تمثل به:

تعصي الأله و انت تذكر حبه هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته ان المحب لمن يحب مطيع

و روي عن ذي النون المصري انه قال خرجت يوما من وادي كنعان،فلما علوت الوادي فاذا انا بسواد مقبل عليّ و هو يقول و بدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون و يبكي،فلما قرب اليّ فاذا هي امرأة عليها جبة صوف و بيدها ركوة فقالت من انت غير فزعة مني،فقلت رجل غريب، فقالت يا هذا هل توجد مع اللّه غربة قال فبكيت من قولها فقالت ما الذي ابكاك قلت قد وقع

ص:135

الدواء على داء قد قرح فاسرع في نجاحه،قالت فان كنت صادقا فلم بكيت قلت يرحمك اللّه الصادق لا يبكي،قالت لا و لم ذاك؟قالت لأن البكاء راحة القلب،قال ذو النون فبقيت و اللّه متحيرا من قولها،اقول و نظير هذا في عالم الشهود ان مجنون ليلى كان ربما اتاها و خلى بها،فاذا جاء زوجها ادخلته تحت ثيابها لئلا يراه احد فاذا اخرجه قالت له ما رأيت تحت الثياب قال و حقك اني دخلت اعمى و خرجت اعمى،فكان يغمض عينيه خوفا من ان يقع نظره على بدنها فتبرد نار العشق،و هكذا كان احوال العشاق السبعة،نعم روى الزجاج في اماليه عن ابي عبد اللّه بن الملك النحوي قال حدّثنا الزبير بن بكار قال روي ان عزة على ام البنين فقالت لها ان سألتك عن شيء تصدقيني؟قالت نعم،قالت اقسمت عليك باي شيء وعدت كثيرا حين يقول:

قضى كل ذي دين فوفي في غريمه و عزة ممطول تعني غريمها

قالت وعدته قبله فمطلته سنة،فلما ألحّ بالتقاضي هجرته،فمضني و اياه مضيق بعد حين فاستحيت منه فقلت حيّاك اللّه يا جمل(جميل خ)و لم احيّه،فتبسم و أنشأ يقول:

حيتك بعد الهجر و انصرفت فحيء ويحك من حياك يا جمل

ليت التحية كانت لي فأشكرها مكان يا جمل حييت يا رجل

و هو على تقاضيه الى الآن قالت ام البنين باللّه الا قضيتها و على اتمها،اقول ما كان من كثير رحمه اللّه يجوز مثل هذا بل كان الواجب عليه ما فعل جميل من الصنع الجميل،فان قلت ذكرت ان من افرط في المحبة شغل قلبه المحبوب و صار وقت الذكر له لا يخطر على خاطره الا ذلك الحبيب فكيف احس امير المؤمنين عليه السّلام بسؤال السائل حتى تصدّق بالخاتم مع انه عليه السّلام كان لم يحس بألم اخراج النصال من بدنه اذا كان في الصلاة،قلت الذي ينافي الأقبال القلبي عن جنابه تعالى هو التذكّر لأمور الدنيا و الشّغل بها و التوجه الى سؤال ذلك السائل لم يكن من ذلك الباب و ذلك ان السائل لما سأل و لم يجبه احد قال اللهم اشهدك اني سألت في مسجد نبيك فلم يجبني احد بشيء فانكسر خاطره فتدارك ذلك الأنكسار بالإشارة اليه بالخاتم الذي كان سببا لوصوله الى اقتسام صفات الربوبية بقوله تعالى إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ فهو انتقال من عالم صفات الربوبية اعني تولي الأمور العامة و رجوع اختيارها اليه،كما رجعت الى اللّه تعالى و رسوله و لا رتبة اعلى منه سوى ما تفرد به سبحانه من لوازم الألهية.

بل روي في بعض الأخبار ان ذلك السائل كان ملكا ارسله اللّه في صورة رجل سائل الى مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله امتحانا للصحابة بمثل هذا التكليف،بل روى ايضا ان ذلك

ص:136

السائل كان جبرئيل عليه السّلام و روي ان ابا بكر قال تصدّقت بخواتيم كثيرة و انا في الصلاة لينزل فيّ ما نزل في علي بن ابي طالب فلم ينزل و لقد احسن ابن الجوزي في وصف هذا الحال منه عليه السّلام:

يسقي و يشرب لا تلهيه سكرته عن النديم و لا يلهو عن الكأس

اطاعه سكره حتى تمكن من فعل الصحاة فهذا اعظم الناس

و تقدم الأشارة الى هذه فان قلت اذا كان هذا الحبيب سبحانه احسن الأحبّاء و أبقاها أقبلها و أزينها و أملحها و أكثرها ميلا الى العاشقين فلم هجرته العشاق؟و لم اقبلوا على الفرار منه؟و على ارتكاب خلاف اقواله (1)قلت سببه ان القلوب التي هي معدن هذا السر العظيم قد ابتليت بأعظم الأمراض،و المريض اذا استولى عليه الألم يجد في ذوقة الحلو مرا و الطيب خبيثا و لا يجد الشيء على حاله الا اذا صحّ من ذلك الوجع.

ثم اعلم ان امراض القلب كثيرة و انواعها مختلفة كأمراض البدن بل ازيد و كل مرض يحتاج الى دواء و ليس كل مريض الأحتماء من شيء و لا ينفعه كل دواء،بل لكل علة خاصة علم خاص و علاج خاص و وزانة من الدين ان كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة و ارتكاب كل ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص او ذنوب مخصوصة و انما حاجته في الحال مرهقة الى العلم بانها ذنوب ثم الى العلم بآفاتها و قد ضررها في الدين ثم الى العلم بكيفية التوصل الى الصبر عنها ثم الى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها فهذه علوم مخصوصة اختص بها اطباء الدين و هم العلماء ورثة الأنبياء فالعاصي ان علم عصيانه فعليه طلب العلاج من الطبيب و هو العالم،و ان كان لا يدري ان ما يرتكبه ذنب فعلى العالم ان يعرفه ذلك،و لذلك وجب ان يتكفّل كل عالم باقليم او بلدة او محلة او مشهد فيعلم اهلها دينهم و يميز ما يضرهم عما ينفعهم و ما يشقيهم عما يسعدهم و لا ينبغي ان يصبر الى ان يسأل منه بل ينبغي ان يتصدى لدعوة الناس الى نفسه فانهم ورثة الأنبياء،و الأنبياء عليهم السّلام ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادون في مجامعهم و يدورون في ابوابهم بالأبتداء و يطلبون واحدا واحد للإرشاد فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما ان الذي ظهر على وجهه برص و لا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره و هذا فرض على العلماء كافة و على السلاطين ان يرتبوا في كل قرية و كل محلة فقيها متبينا يعلم الناس دينهم فانّ الخلق لا يولدون الا جهّالا فلا بد من تبليغ الدعوة اليهم في الأصل و الفرع.

ص:137


1- (1) و في الحديث ان اللّه تعالى اذا احب عبدا القى محبته الى الماء فلا يشربه احد الا احبه و اذا ابغض عبدا القى بغضه في الماء فلا يشربه احد الا ابغضه منه عفى عنه.

روي عنه عليه السّلام قال ان اللّه تعالى لم يأخذ على الجهّال ان يتعلموا حتى اخذ اولا على العلماء ان يعلموهم،فالدنيا دار مرضى اذ ليس في بطن الأرض الا ميت و لا على ظهرها الا سقيم،و مرض القلوب اكثر من مرض الأبدان و العلماء اطباء و السلاطين قوام دار المرضى و كل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم سلم الى السلطان ليكف شرّه (1)كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي او الذي غلب عليه الجنون الى القيم ليقيده في السلاسل و الأغلال و يكف شرّه عن ساءر الناس و انما صار مرض القلوب اكثر من مرض الأبدان لوجوه ثلاثة:

احدها ان المريض لا يدري انه مريض،و ثانيها ان مرض الأبدان عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه،و ما بعد الموت غير مشاهد فقلت النفر عن الذنوب و ان علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على اللّه في مرض القلب و يجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال و الثالث و هو الداء العضال فقد الطبيب فان الأطباء هم العلماء و قد مرضوا مرضا شديدا عجزوا عن علاجه و صارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانه فاضطروا الى اغواء الخلق و الأساة اليهم بما يزيدهم مرض لأن الداء المهلك هو حب الدنيا و قد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق فيه استنكافا من ان يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج و تنسون انفسكم فبهذا السبب عم الداء و عظم الوباء و انقطع الدواء و هلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل اكثر الأطباء بفنون الأغواء فليتهم اذ لم ينصحوا لم يغشوا و اذ لم يصلحوا لم يفسدوا،و ليتهم سكتوا و ما نطقوا فانهم اذا تكلموا لم يهمهم في مواعضهم سوى ما يستميل قلوب الأعوام الى الرجاء و ذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع و أخف على الطباع،فينصرف الخلق عن مجالس الوعظ و قد استفادوا مزيد جرأة على المعاصي،و مزيد ثقة بفضل اللّه عز و جل و مهما كان الطبيب جاهلا او خائنا اهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه.

فالرجاء و الخوف دواءان و لكن لشخصين متضاديّ العلة،اما الذي غلب عليه لخوف حتى هجر الدنيا بالكلية فينكسر صورة اسرافه في الخوف بذكر اسباب الرجاء ليعود الى الأعتدال و كذا المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط و اليأس استعظاما لذنوبه التي سبقت يعالج ايضا بأسباب الرجاء حتى يطمع التوبة فيتوب فاما معالجة المغرور المنهمك في المعاصي بذكر اسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلبا للشفاء،و ذلك من دأب الجهّال و الأغبياء،فاذن فساد الأطباء هي المعضلة التي لا تقبل الدواء اصلا اعاذنا اللّه و اياكم من الأمور المبعدة عن جناب الحق انه على ما يشاء قدير.

ص:138


1- (1) كيف يكون حال الناس و لا سيما الجهال اذا صار السلاطين و القوام من اهل البدع و الأهواء و صاروا من اسباب العار و الشنار على الأسلام و اما الأطباء فصاروا مرضى و من اهل لدنيا كما في زماننا هذا

نور في الصبر و أقسامه و محاله و فوائده و ما يتعلق به من المناسبات

اعلم وفقك اللّه تعالى ان القرآن و الحديث قد اكثرا مدحه حتى انه سبحانه وصف الصابرين بأوصاف و ذكر الصبر في القرآن في نيف و سبعين موضعا و أضاف اكثر الخيرات و الدرجات الى الصبر و جعلها ثمرة له فقال عز و جل وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لما صبروا و قال وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنىٰ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ بِمٰا صَبَرُوا و قال إِنَّمٰا يُوَفَّى الصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ الى غير ذلك من الآيات،و قال الصادق عليه السّلام الصبر من الأيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك اذا ذهب الصبر ذهب الأيمان و قال عليه السّلام اذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه و الزكوة عن يساره،و البر مظل عليه،و يتنحى الصبر ناحيه،فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مسائلته قال الصبر للصلوة و الزكوة و البر دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فانا دونه و روى عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال الصبر ثلاثه:صبر عند المصيبه،و صبر على الطاعه،و صبر عن المعصيه فمن صبر عند المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلثمائة درجه،ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين السماء الى الارض،و من صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة،و ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين تخوم الارض الى العرش،و من صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة و ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين تخوم الارض الى منتهى العرش،و قال الصادق عليه السّلام انا صبرنا و شيعتنا أصبر منا،قيل له كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟قال لأنا نصبر على ما نعلم و شيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون، و قال صلّى اللّه عليه و آله الصبر نصف الإيمان،فان قلت ما معنى كونه نصف الايمان؟قلت قد ذكر له الغزالي في إحيائه وجهين الاول ان الايمان يطلق على التصديقات و الأعمال جميعا فيكون للإيمان ركنان احدهما اليقين و الآخر الصبر،و المراد باليقين المعرف القطعية،و المراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين،اذ اليقين يعرّفه انّ المعصية ضارة و الطاعة نافعة و لا يمكن ترك المعصية و المواظبة على الطّاعة الاّ بالصبر فيكون الصبر نصف الأيمان بهذا الأعتبار،و لهذا جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بينهما فقال من اقلّ ما أوتيتم اليقين و عزيمة الصبر.

الوجه الثاني ان يراد من الأيمان ما ينفع في الدنيا و الآخرة او يضر فيهما و له بالإضافة الى ما يضرّه حال الصبر و بالإضافة الى ما ينفعه حال الشكر،فيكون الشكر احد شطري الأيمان بهذا الأعتبار كما كان اليقين أحد الشطرين بالإعتبار الأول،و بهذا النّظر قال بعض الصحابة الأيمان نصفان نصف صبر و نصف شكر،و لمّا كان الصبر صبرا عن بواعث الهوى بثبات باعث الدين و كان باعث الهوى قسمين باعث من حيث الشهوة،و باعث من جهة الغضب،و الشهوة لطلب

ص:139

اللّذيذ و الغضب للهرب من المؤلم،و كان الصوم صبرا من مقتضى الشهوة فقط و هو شهوة البطن و الفرج دون مقتضى الغضب،قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الأعتبار الصوم لأنّ كمال الصّبر بالصّبر عن دواعي الشهوة و دواعي الغضب جميعا فيكون الصّوم بهذا الأعتبار ربع الأيمان.

و اعلم ان محامد الأخلاق كلها ترجع الى الصبر لكن له اسم بكل واحد من موارده،فان كان صبرا عن شهوة البطن و الفرج سمّي عفة،و ان كان على احتمال مكروه اختلف اساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر،فان كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر و يضاد الجزع،و ان كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس و يضادّه البطر،و ان كان في حرب و مقاتلة سمي شجاعة و يضاده الجبن،و ان كان في كظم الغيظ و الغضب سمي حلما و يضاده السفه،و ان كان في نائبة من نوائب الزمان سمي سعة الصدر و يضاده الضّجر و التبرم و ضيق الصدر،و ان كان في اخفاء كلام سمي كتمان السّر،و ان كان عن فضول العيش سمي زهدا و يضاده الحرص،و ان كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة و يضاده الشّره،و من جهة دخول هذه المحاسن في الصبر لما سأل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الأيمان قال هو الصبر لأنه اكثر اعماله و اعزّها كما قال الحجّ عرفة،و قد جمع اللّه ذلك فسمي الكل صبرا فقال تعالى و الصابرين في البأساء أي المصيبة و الضراء أي الفقر،و حين البأس أي المحاربة،اولئك الذين صدقولا و اولئك هم المتقون، و بعضهم ظن انّ هذه احوال مختلفة في ذواتها و حقائقها نظرا الى تعدد الأسامي و الصواب ما عرفت.

و اما الموارد المحتاجة الى الصبر فأنواع،اولها ما يوافق الهوى و هو الصحة و السلامة و المال و الجاه و كثرة العشيرة و اتّساع الأسباب و جميع ملاذّ الدنيا و ما أحوج العبد الى الصبر عن هذه الأمور فانّه ان لم يضبط نفسه عن الركون اليها الإنهماك في الملاذ المباحة أخرجه ذلك الى البطر و الطّغيان فانّ الأنسان ليطغى ان رآه استغنى و الرجل كل الرجل من يصبر على العافية،و ثانيها الطّاعة و الصبر عليها شديد لأنّ النّفس بطبعها تنفر عن العبوديّة و تشتهي الربوبيّة،و لذلك قيل ما من نفس الاّ و هي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله انا ربكم الأعلى و لكن فرعون وجد له مجالا فأظهر اذ استخفّ قومه فأطاعوه،و ما من أحد الاّ و هو يدّعى ذلك مع عبده و خادمه و نحوهما و ان كان ممتنعا من اظهاره فانّ امتعاظه و غيضه عند تقصيرهم في خدمته و استبعاده ذلك ليس يصدر الاّ من اظهار الكبر و منازعة الربوبيّة في رداء الكبرياء،فان العبوديّة شاقّة على النفس مطلقا.

ص:140

ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة،و منها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، و منها ما يكره ذلك بسبب جميعها كالحج و الجهاد و هذه الأمور تحتاج الصّبر قبل العمل و حاله و بعده،امّا قبله فبأن يصيّر نفسه على تصحيح النّية و الأخلاص عن شوائب الرياء و دواعي الآفات،و هذا يحتاج الى صبر شديد على ما تقدم في تحقيق النّية و هو الذي قصر تعالى امره عليه في قوله وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و امّا حالة العمل فلئلا يغفل عن ذكر اللّه تعالى في اثناء عمله و يدوم على شروط العمل الى آخره،و اما بعد الفراغ فيحتاج الى الصبر عن إفشائه و التّظاهر به للرياء و السمعة و عن كل ما يحبط اجره.

و ثالثها المعاصي و ما أحوج العبد الى الصبر عنها،و ذلك انّ المعاصي خصوصا الكذب و الغيبة مألوفة بالعادة فان العادة طبيعة خامسة(خاصة ج)و اذا انضافت الى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند اللّه عز و جل،و كلما كان الذنب ألذّ على النفس كان الصبر عنه أثقل كالصبر على الغيبة و استحقار النفس فان ظاهره غيبة و باطنه ثناء على النفس،فللنفس فيه شهوتان نفي الغير و اثبات نفسه و بهما يتم له الربوبيّة التي في طبعه و هي ضدّ ما امر به من العبودية،و رابعها ما لا يرتبط هجومه بإختياره كما اوذي بفعل او قول او جنى عليه في نفسه او ماله فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا،و تارة يكون فضيلة،خامسها ما لا يدخل تحت الأختيار أوله و لا آخره كالمصائب مثل موت الأعزّة و هلاك الأموال و زوال الصحة بالمرض و عمى العين و فساد الأعضاء،و الصبر على هذا لا يخلو من اشكال،و حيث انتهى بنا الحال الى هذا فلا بأس ببسط الكلام في هذا المقام.

فنقول ان شيخنا الشهيد الثاني نور اللّه ضريحه قد كتب رسالة و سمّاها مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة و الأولاد،و قد نظمها على سلك غريب و نمط عجيب الا انها لا تخلو من بعض الزوائد (1)فأحببنا تحرير دلائلها و ان تضيف اليها ما سنح بالبال و نضيف اليها بعض الأخبار، فنقول اعلم اوّلا انّه قد ثبت انّ العقل هو الآلة التي بها عرف اللّه تعالى و صدق الرّسل و التزم أحكام الشّرائع،و مثله كالنور في الظلمة يزيد و ينقص،فينبغي لمن رزقه اللّه العقل ان يعمل بمقتضاه و يجعله حاكما له و عليه و يراجعه فيما يرشده اليه فيكشف له الرضا بالقضاء سيّما بفراق الأحباب من وجوه كثيرة.

ص:141


1- (1) .رسالة لطيفة شريفة ليس فيها بعض الزوائد و فرغ شيخنا الشهيد الثاني قدس سره من تأليفها سنة(954)ه و سبب تصنيفه لها كثرة ما توفى له من الأولاد بحيث لم يبق منهم احد الا الشيخ حسن صاحب المعالم العلامة المحقق الشهير و كان لا يثق بحياته و قد استشهد و هو ابن اربع سنين او سبع سنين و هذه الرسالة مطبوعة سنة(1342)ه في النجف الأشرف.

منها انّه اذا نظر الى عدله و حكمته و شفقته بخلقه ان اخرجهم من العدم الى الوجود و فعل بهم ما هو الأصلح لهم في كل افعاله،و لا شك انّ الموت من جملة ذلك فيكون هو الأصلح بهم، فان حدثتك نفسك مثل رعاع النّاس اذا مات لهم ميّت قالوا انّ الصلاح في بقائه،فلو كان قد بقي لربّى أطفاله و لقام بأمور عياله،و ربّما قالوا انّ موت هذا باعث الى موت ذلك الفقير لأنّه كان يصله و يعطيه،و هذه الكلمات الواهية هي الشّرك الخفي على ما تقدّم بيانه،و ان تيقّن انّه الصلاح لكن لم تطمئن نفسه و لم تسكن روعته فهو الحمق الجلي النّاشىء عن الغفلة في شأن الحكمة القديمة،حتى روي انّ العبد ليدعوا اللّه ان يرحمه و يجيب دعاه في امثال ذلك،فيقول اللّه تعالى لملائكته كيف ارحمه من شيء به أرحمه.

و منها انّه اذا تدبر في احوال الرسل و صدقهم فيما قالوا و سمع ما وعدوا به من الثّواب على كل فرد من انواع المصائب سهل عليه موقعه،و علم ان في ذلك تمام السّعادة،و ينبغي ان يمثل العاقل انّه لو دهمه أمر عظيم أو سبع او حية و كان عنده أعز أولاده و كان بحضرته نبي من الأنبياء و أخبره انّك ان افديت به سلمت انت و ولدك،و ان لم تفعل عطبت و لا يعلم هل يعطب ولدك أم يسلم،أ يشك عاقل انّ الأفتداء بالولد الذي يتحقق به سلامتهما هو عين المصلحة.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال لعثمان بن مظعون و قد مات ولده و اشتدّ حزنه عليه يا ابن مظعون انّ الجنة ثمانية ابواب،و للنار سبعة ابواب أ فما يسرك ان يتأتي بابا الا وجدت ابنك الى جنبه آخذ بحجرتك يستشفع لك الى ربك حتى يشفعه اللّه تعالى.

و منها ان الأغلب انّ الولد انّما يراد امّا لنفع الدنيا او الآخرة،و منفعته على تقدير موته معلومة و على تقدير بقائه موهومة،بل المظنون عدمها لأنّ الزمان قد هرم و شنا كما قيل:

أتى الزمتان بنوه في شبيبته فسرّهم و اتيناه على الهرم

و أجابه بعض مشايخنا:

هم على كل حال أدركوا هرما و نحن جئناه بعد الشّيب و العدم

و تأمل اكثر الخلق هل تجد احدا منهم نافعا لأبويه الا القليل حتى اذا رأيت واحدا فعدّ ألوفا بخلافه،فإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر عين الغفلة،هذا اذا كنت تريد ان تجعله وليّا صالحا فكيف و انت لا تريده الا ليرث منك البيت و البستان و الصخرة و الميزان،فدعه من هذا الميراث الخسيس و اجعله ممّن يرث الفردوس الأعلى في جوار اولاد الأنبياء عليهم السّلام مربّا ان كان صغيرا في حجرة سارة حتى لو كان مرادك ان تورثه علمك و كتبك فاذكر انّ ذلك لو تمّ لك فما وعدت من ثوابه أكثر من هذا.

ص:142

قال الصادق عليه السّلام ولد واحد يقدمه الرجل افضل من سبعين ولدا يبقون بعده يدركون القائم عليه السّلام،و اعتبر المثل و هو انّه قيل انّ رجلا فقيرا معه ولد عزيز عليه و عليه خلقان الثياب قد اسكنه في خرب مقفرة ذات سباع و حيّات،فاطلع عليه رجل حكيم ذو ثروة و قصور عالية،فأرسل اليه بعض غلمانه رحمة له،و قال له انّ سيدي يقول لك انّي رحمتك من هذه الخربة و رحمت ولدك و قد تلطّفت عليك بهذا القصر،ينزل به ولدك و يوكل عليه جارية كريمة تقوم بخدمته الى ان تقضي انت اغراضك و تجيء اليه و تسكن معه،فقال ذلك الرجل انا لا ارضى بمفارقة ولدي لا لعدم وثوقي بمولاك بل اعتقد انّه صادق و لكن طبعي اقتضى ذلك، و ما أريد ان أخالفه فما كنت ايّها السّامع تقول هذا الرجل تعدّه من الأغبياء فلا تقع في خلق لا ترضاه لغيرك.

و اعلم ان لسع الأفاعي و اعظم آفات الدنيا لا نسبه لها الى ادنى هول من اهوال الآخرة، فما ظنّك بتوبيخ يكون مقداره ألف سنة او أضعافه،و منها انه ينبغي ان يفكر في انّ الجزع يشتمل على عدم الرضاء بالقضاء،و في ذلك التعرض لذمّ اللّه تعالى حيث قال لم يرض بقضائي و لم يصبر على بلائي فليعبد ربا سواي،و قال موسى عليه السّلام دلّني على امر فيه رضاك،قال انّ رضائي في رضاءك بقضائي،و أوحى اللّه تعالى الى داود عليه السّلام يا داود تريد و أريد و انّما يكون ما أريد فان سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد،و ان لم تسلم لما اريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون الاّ ما أريد.

و منها ان ينظر صاحب المصيبة الى انّه في دار قد طبعت على الكدر و العناء و جبلت على المصائب و البلاء فما يقع فيها من ذلك فهو بموجب طبيعتها،و ان وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة،و قد نزل على الأولياء من المحن و الشدائد ما تعجز عن حمله الجبال و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل،كيف لا و هي سجن المؤمن و جنّة الكافر،و متى حصل فيهم محبوب كانت آلامه تزيد على لذاته بأضعاف مضاعفة،و أقل حسراته الفراق الذي يفتّ الأكباد،فكلما نظرت في الدنيا انّه شراب فهو سراب،و عماراتها و ان علت الى خراب:

له ملك ينادي كلّ يوم لدوا للموت و ابنوا للخراب

و في الحديث انّ عبادي يطلبون مني ما لا أخلقه و هو الرّاحة في الدنيا،و يدعون طلب ما خلقته و هو النّعيم المقيم و لقد احسن بعض الفضلاء حيث رثى ابنه:

طبعت على كدر و انت تريدها صفوا من الأقذار و الأكدار

و مكلّف الأيّام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

ص:143

و اذا رجوت المستحيل فانّما تبني البناء على شفير هار

روي عن علي عليه السّلام ان صبرت جرى عليك القضاء و انت مأجور و ان جزعت جرى عليك القضاء و انت مأزور،فاغتنم شبابك قبل هرمك و صحتك قبل سقمك،و اجعل الموت نصب عينيك و استعدّ له بصالح العمل،ودع الأشتغال بغيرك فانّ الأمر يأتي اليك دونه و قال علي عليه السّلام انّ اشدّ ما أخاف عليكم خصلتان اتّباع الهوى و طول الأمل،فامّا اتباع الهوى فانه يعدل عن الحق،و اما طول الأمل فانّه يورث الحب للدنيا.

و أوحى اللّه سبحانه الى بعض الصدّيقين ان لي عبادا من عبادي يحبّوني و احبهم و يشتاقون اليّ و اشتاق اليهم،و يذكروني و اذكرهم،فان اخذت طريقهم احببتك و ان عدلت عنهم مقتك،قال يا رب و ما علامتهم؟قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعى الشفيق غنمه،و يحنون الى غروب الشمس كما تحن الطير الى اوكارها عند الغروب فاذا جنّهم الليل و اختلط الظلام و فرشت الفرش و نصبت الأسرة و خلا كلّ بحبيبه،نصبوا لي اقدامهم،و فرشوا لي وجوههم و ناجوني بكلامي،و تملقوني بانعامي،فبين صارخ و باك و بين متأوه و شاك و بين قائم و قاعد،و بين راكع و ساجد بعيني ما يتحمّلون من أجلي،و بسمعي ما يشكون من حبي،اول ما أعطيهم ثلاثا:اقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم،و الثاني لو كانت السماوات و الأرض و ما فيهما من موازينهم لأستقللتها لهم،و الثالث أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد ان أعطيه اذا عرفت هذا فلنتكلم الآن في امور:

الأول في بيان الأعواض الحاصلة من موت الأولاد و ما يقرب من هذا المراد،اعلم انّ اللّه سبحانه عدل حكيم لا يليق بكمال ذاته ان ينزل بعبده المؤمن في دار الدنيا شيئا من البلاء و ان قل ثم لا يعوّضه عنه ما يزيد عليه اذ لو لم يعطه شيئا كان ظالما،و لو عوضه بقدره كان عابثا،و قد تظافرت بذلك الأخبار النّبوية و منها(فيها خ)انّ المؤمن لو يعلم ما أعد اللّه تعالى له على البلاء لتمنى انّه في دار الدنيا قرض بالمقاريض،و روي هذا الحديث عن السّلمي ازيد من ثلاثين صحابيّا،روى الصدوق رع باسناده الى السّلمي قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقوا ايّما رجل قدّم ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث او امرأة قدّمت ثلاثة اولاد فهم حجاب يسترونه من النّار،و الحنث بكسر الحاء الذّنب و المراد لم يبلغوا السنّ الذي يكتب عليهم فيه الذنب.

و قال الصادق عليه السّلام ولد واحد يقدّمه الرجل افضل من سبعين يخلفونه من بعده كلّهم قد ركب الخيل و قاتل في سبيل اللّه تعالى،و قال عليه السّلام ثواب المؤمن من ولده الجنّة صبر او لم يصبر،و قال عليه السّلام ولد يقدّمه الرجل افضل من سبعين ولدا يبقون بعده يدركون

ص:144

القائم عليه السّلام،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ العبد اذا سبقت له من اللّه تعالى منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه اللّه تعالى في جسده او في ماله او في ولده ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من اللّه عز و جل،و قال ايضا خمس ما أثقلهن في الميزان:لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و الحمد للّه،و الولد الصالح بتوفى للمرء المسلم فيحتسبه،أي يعدّه حسبة و كفاية عند اللّه عز و جل،و قال عليه السّلام تزوجوا فاني مكاثر بكم الأمم حتى انّ السّقط ليظل محبنطئا على باب الجنة،فيقال له ادخل فيقولا لا ادخل حتى يدخل ابواي و السّقط مثلّث السّين و الكسر أكثر هو الذي يسقط من بطن امّه قبل اتمامه،و محبنطئا بالهمز و تركه و هو المتغضّب المستبطي للشيء.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سوداء ولود خير من حسناء لم تلد انّي مكاثر بكم الأمم حتى انّ السّقط ليظل محبنطئا على باب الجنة فيقال له أدخل الجنّة يقول أنا و أبواي،فيقول له و انت و أبواك،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسررها الى الجنة، النّفساء بضم النون و فتح الفاء (1)المرأة اذا ولدت،و السّرر بفتح السين ما تقطعه القابلة من من سرّة المولود التي هي موضع القطع،و كأنّه يريد الولد الذي لم تقطع سرته،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم من قدّم من صلبه ذكرا لم يبلغ الحنث كان أفضل من ان يخلف من بعده مائة كلّهم يجاهدون في سبيل اللّه تعالى لا تسكن روعتهم الى يوم القيامة،و قال ايضا لئن أقدم سقطا أحبّ اليّ من ان اخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل اللّه تعالى،و قال اذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنّة بأيديهم الشّراب،قال فيقول النّاس لهم اسقونا اسقورنا فيقولون ابوينا ابوينا.

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا كام يوم القيامة نودي في اطفال المسلمين ان اخرجوا من قبوركم فيخرجون من قبورهم،ثم ينادى فيهم ان امضوا الى الجنة زمرا فيقلون ربنا و والدينا معنا،ثم ينادى فيهم الثانية ان امضوا الى الجنة زمرا فيقولون ربنا و والدينا معنا فيقال في الثالثة ان امضوا الى الجنة زمرا فيقولون ربنا و والدينا معنا،فيقول في الرابعة و والديكم معكم فيثوب(فيسرع خ)كلّ طفل الى ابويه فيأخذون بأيديهم فيدخلون الجنة،فهم اعرف بآبائهم و أمّهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم،و عن انس انّ رجلا كان يجيء بصبي له معه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انه مات والده فقوموا الى اخينا نعزيه،فلما دخل عليه اذا الرجل حزين و به كآبة،فقال يا رسول اللّه كنت ارجوه لكبر سني و ضعفي،فقال يا رسول اللّه

ص:145


1- (1) و بفتح النون و سكون الفاء و بفتحها ايضا.

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امّا يسرّك ان يكون يوم القيامة بازائك يقال له ادخل الجنة فيقول رب و أبواي و لا يزال يشفع حتى يشفع اللّه تعالى فيكم و يدخلكم جميعا الجنة.

و عن انس ايضا قال توفي ابن لعثمان بن مظعون ره فاشتدّ حزنه عليه حتى اتّخذ في داره مسجدا يتعبد فيه،فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا عثمان انّ اللّه عزّ و جلّ لم يكتب علينا الرهبانيّة،انما رهبانيّة امتي الجهاد في سبيل اللّه تعالى يا عثمان بن مظعون انّ للجنة ثمانية ابواب و للنار سبعة ابواب أ فما يسرك ان لا تأتي بابا منها الا وجدت ابنك الى جنبه آخذا بحجرتك يستشفع لك الى ربك عز و جل،قال فقيل يا رسول اللّه و لنا في افراطنا ما لعثمان؟قال نعم لمن صبر منكم و احتسب،الحجزة بضم الحاء المهملة و الزاء موضع شدّ الأزار،ثم قيل للأزار حجزة،و عن قرة بن اياس انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يختلف اليه رجل من الأنصار مع ابن له فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم يا فلان تحبه؟قال نعم يا رسول اللّه احبك كما أحبه،ففقده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا يا رسول اللّه مات ابنه،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اما يرضى اولا ترضى ان لا تأتي يوم القيامة بابا من ابواب الجنة الا جاء يسعى حتّى يفتحه لك،فقال رجل يا رسول اللّه له وحده ام لكلّنا؟فقال بل لكلّكم.

و روى البيهقي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان اذا جلس تحلق اليه نفر من اصحابه و فيهم رجل له بنيّ صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه الى ان هلك ذلك الصبي فامتنع الرجل من الحلقة ان يحضرها تذكرا له و حزنا عليه،قال ففقده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال مالي لا أرى فلانا؟قالوا يا رسول اللّه بنيّه الذي رأيته هلك فمنعه الحزن عليه و الذّكر له ان يحضر الحلقة فلقيه نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأله عن بنيّه فأخبره انّه هلك،فعزاه و قال يا فلان ايّما كان احب اليك ان تمتّع عمرك اولا تأتي غدا بابا من ابواب الجنة الا وجدته قد سبقك اليه ففتحه لك،قال يا نبي اللّه لا بل يسبقني الى باب الجنة احب اليّ قال فذاك لك،فقام رجل من الأنصار فقال يا رسول اللّه أ هذا لهذا خاصة ام من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له؟قال بل من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته أ قبضتم ولد عبدي؟فيقولون نعم،فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟فيقولون نعم،فيقول ما ذا قال عبدي؟فيقلون حمدك و استرجع فيقول اللّه تعالى أبنوا لعبدي بيتا في الجنة و سمّوه بيت الحمد،و عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من دفن ثلاثة فصبر عليهم و احتسب وجبت له الجنة،فقالت امّ ايمن و اثنين،فقال من دفن اثنين فصبر عليهما و احتسبهما وجبت له الجنة،

ص:146

فقالت ام ايمن و واحد فسكت و امسك،ثم قال يا ام ايمن من دفن واحد فصبر عليه و احتسب وجبت له الجنة.

و عن ابن مسعود قال دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعزيها بإبنها قال بلغني انّك جزعت جزعا شديدا،قالت و ما يمنعني يا رسول اللّه و قد تركني عجوزا رقوبا،فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لست بالرقوب انما الرقوب التي تتوفى و ليس لها فرط و لا يستطيع الناس ان يعودون عليها من إفراطهم فتلك الرقوب،و الرقوب بفتح الراء التي لا يولد لها ولد و لا يعيش لها هذا بحسب اللغة و قد خصّه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما ذكر،و عن زيد بن اسلم قال مات ولد لداود عليه السّلام فحزن عليه حزنا كثيرا فأوحى اللّه تعالى الى داود ما كان يعدل هذا الولد عندك؟قال يا رب كان يعدله هذا الولد عندي ملأ الأرض ذهبا،قال فلك عندي يوم القيامة ملأ الأرض ثوابا.

و عن داود بن ابي هند قال رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأن الناس يدعون الى الحساب،قال فقرب الى الميزان فوضعت حسناتي في كفة و سيئاتي في كفه فرجّحت السيئات على الحسنات،فبينا انا مغموم اذ اتيت بمنديل او كالخرقة البيضاء فوضعت مع حسناتي فرجّحت فقيل لي تدري ما هذا؟قلت لا،قال هذا سقط كان لك قلت فانّه كان لي ابنة،فقيل لي ابنتك ليست لك لأنك كنت تتمنى موتها،و عن ابي شوذب ان رجلا كان له ابن صغير لم يبلغ الحلم فأرسل الى قومه فقال انّ لي اليكم حاجة قالوا ما هي؟قال انّي اريد ان ادعوا على ابني هذا ان يقبضه اللّه و تؤمنون على دعائي،فسألوه عن ذلك فأخبرهم انّه رأى في نومه كأن الناس قد حمعوا ليوم القيامة و أصابهم عطش شديد.فاذا الولدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق و فيهم ابن اخ له، فالتمس منه انه يسقني فأبى و قال يا عم لا نسقي الا الآباء فأحببت انّ اللّه يجعل ولدي هذا فرطا لي،فدعا و أمّنوا فلم يلبث الصبي حتى مات.

و عن محمد بن خلف قال كان لإبراهيم الحربي ابن له أحد عشر سنة قد حفظ القرآن و لقنه أبوه العلم فمات،فأتيته لأعزيه فقال لي كنت اشتهي موته،فقلت يا اب اسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد انحب و حفظ القرآن و لقنته الحديث و الفقه،قال نعم ثم قال رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت و كأن صبيانا بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس يسقونهم و كان اليوم حار شديد،فقلت لأحدهم اسقني من هذا الماء،قال فنظر اليّ و قال لي لست انت ابي، قلت فأنّى شيء انتم؟قال و نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا و خلّفنا آباءنا،فنستقبلهم فنسقيهم الماء،فلهذا تمنيت موته.

ص:147

و روى الغزالي في الأحتيء انّ بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره فيأبى،قال فانتبه من نومه ذات يوم و قال زوّجوني فزوّجوه،فسأل عن ذلك فقال لعل اللّه تعالى يرزقني ولدا يقبضه فيكون لي مقدّمة في الآخرة،ثم قال رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأنّي في جملة الخلائق في الموقف و بي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي و كذا الخلائق من شدّة العطش و الكرب،فنحن كذلك و اذا ولدان يتخللون الجمع،عليهم قناديل من نور و بأيديهم أباريق من فضة و أكواب من ذهب و هم يسقون الواحد بعد الواحد،و يتخللون الجمع و يجاوزون اكثر الناس،فمددت يدي الى أحدهم فقلت اسقني فقد اجهدني العطش،فقال ليس لك فينا ولد انّما نسقي آبائنا فقلت و من انتم؟قالوا نحن من مات من اطفال المسلمين.

و حكى الشيخ ابو عبد اللّه في كتاب مصباح الظلام عن بعض الثّقاة انّ رجلا أوصى بعض أصحابه ممن حج يقرأ سلامه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يدفن رقعة مختومة له عند رأسه الشّريف،ففعل ذلك فلمّا رجع من حجه أكرمه الرجل و قال له من اين علمت بتبليغها قبل ان أحدّثك فأنشأ يحدثه،قال لي اخ مات و ترك ابنا صغيرا فربيته و احسنت تربيته ثم مات قبل ان يبلغ الحلم،فلمّا كان ذات ليلة رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت و الحشر قد وقع و الناس قد اشتد بهم العطش من شدّة الجهد و بيد ابن اخي ماء،فالتمست ان يسقيني فأبى و قال ابي احق به منك،فعظم عليّ ذلك و انتبهت فزعا،فلمّا اصبحت تصدقت بجملة دنانير و سألت اللّه تعالى ان يرزقني ولدا ذكرا فرزقته،و اتفق سفرك فكتبت لك تلك الرقعة و مضمونها التوسل بالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم الى اللّه عز و جل في قبوله مني رجاء ان اجده يوم الفزع الأكبر،فلم يلبث ان حمّ و مات و كان ذلك يوم وصولك فعلمت انك بلّغت الرسالة.

و من كتاب النوم و الرؤيا لأبي صقر الموصلي حدّثني عن علي بن الحسين بن جعفر حدّثني ابي حدثني بعض اصحابنا ممّن اثق به قال أتيت المدينة ليلا فنمت في البقيع بين اربعة قبور عند قبر محفور،فرأيت في منامي اربعة اطفال قد خرجوا من تلك القبور و هم يقولون:

أنعم اللّه بالحبيبة عينا و بمسراك يا اميم الينا

عجبا ما عجبت من ضغطة القبر و مفداك يا اميم الينا

فقلت انّ لهذه الأبيات لسانا و اقمت حتى طلعت الشّمس،فاذا جنازة قد اقبلت فقلت من هذه؟قالوا امرأة من أهل المدينة،فقلت اسمها اميمة؟قالوا نعم،قلت قدمت فرطا؟قالوا نعم اربعة اولاد فأخبرتهم الخبر،و أنشد بعض الأفاضل:

عطيّته اذا أعطى سرورا فان سلب الذي اعطى اثابا

ص:148

فأي النعمتين أعد فضلا و أحمد عند عقباها أيابا

أنعمته التي كانت سرورا ام الأخرى التي جلبت ثوابا

الأمر الثاني في الصبر و قد عرفت معناه،و اما اقسامه فهي ثلاثة:أحدها صبر العوام و هو حبس النّفس على وجه التّجلد و اظهار الثبات في النّائبات ليكون حاله عند الناس مرضيّة:يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون،و ثانيها صبر الزهّاد و العبّاد و أهل التقوى لتوقّع ثواب الآخرة،انّما يوغى الصابرون أجرهم بغير حساب و ثالثها صبر العارفين فانّ لبعضهم التذاذا بالمكروه لتصورهم انّ معبودهم خصّهم به من دون النّاس و صاروا ملحوظين بشريف نظره، وَ بَشِّرِ الصّٰابِرِينَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ، و هذا النوع يخص باسم الرضا،و الأول لا ثواب عليه بل هو رياء محض،و الصّبر عند الأطلاق يحمل على القسم الثاني.

و عن الحسن عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال انّ في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى،يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا يرفع لهم ديوان و لا ينصب لهم ميزان يصب عليهم الأجر صبا و قرأ إِنَّمٰا يُوَفَّى الصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ و عن انس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اللّه عز و جل اذا وجهت الى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه او ماله او ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة ان انصب له ميزانا او انشر له ديوانا،و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر و الصبر عند الصّدمة الأولى أعظم و عظم الأجر على قدر المصيبة،و من استرجع بعد المصيبة جدّد اللّه له أجرها كيوم أصيب بها،و سأل رجل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال ما يحبط الأجر في المصيبة؟فقال تصفيق الرجل بيمينه عن شماله،و الصبر عند الصدمة الأولى فمن رضى فله الرضا،و من سخط فعليه السّخط.

و عن ام سلمة زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت أتاني ابو سلمة يوما من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قولا سررت به،قال لا يصيب احد من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول اللهم اجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها الا فعل ذلك به،قالت ام سلمة فحفظت ذلك منه فلمّا توفى ابو سلمة استرجعت و قلت اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منه،ثم رجعت الى نفسي فقلت من اين يحصل خير من ابي سلمة فلما انقضت عدتي استأذن عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انا ادبغ اهابا،فغسلت يدي من القرظ و اذنت له فوضعت له و سادة أدم

ص:149

و حشوها ليف،فقعد عليها فخطبني الى نفسي،فلما فرغ من مقالته قلت ما بي ان لا يكون بك الرّغبة و لكنّي امرأة في غير شديدة فأخاف ترى مني شيئا يعذبني اللّه عليه،و انا امرأة قد دخلت في السن و انا ذات عيال،فقال أمّا ذكرت من السن فقد اصابني مثل الذي اصابك،و امّا ما ذكرت من العيال فانّما عيالك عيالي قالت فقد سلمت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزوجها، فقالت ام سلمة (1)فقد ابدلني اللّه بأبي سلمة خيرا منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السّلام انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من اصابته مصيبة فقال اذا ذكرها انّا للّه و انّا اليه راجعون جدّد اللّه له أجرها مثل ما كان له يوم اصابته،و عن جابر عن الباقر عليه السّلام قال اشد الجزع الصّراخ بالويل و العويل و لطم الوجه و جزّ الشعر،و من اقام النواحة فقد ترك الصّبر و من صبر و استرجع و حمد اللّه جلّ ذكره فقد رضى بما صنع اللّه و وقع اجره على اللّه جل و عز و من لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء و هو ذميم و أحبط اللّه عز و جل اجره،و عن موسى الكاظم عليه السّلام قال ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة احباط اجره،و عن اسحاق بن عمار عن الصادق عليه السّلام قال يا اسحاق لا تعدّنّ مصيبة أعطيت عليها الصبر و استوجبت عليها من اللّه عز و جل الثواب،انما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها و ثوابها اذا لم يصبر عند نزولها.

الأمر الثالث في نبذ من أحوال السلف عند موت ابنائهم و أحبائهم قال ابو الأحوص دخلنا على ابن مسعود رضي اللّه عنه و عنده ثلاثة بنين له و هم غلمان كأنهم الدّنانير حسنا فجعلنا نتعجب من حسنهم،فقال كأنكم تغبطوني بهم،قلنا أي و اللّه،بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم،فرفع رأسه الى سقف بيت قصير قد عشعش فيه الخطّاف و باض،فقال و الذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم أحبّ اليّ من ان اسقط عشّ هذا الخطّاف و ينكسر بيضه،يعني حرصا على الثواب.

و كان عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يقري الناس في المسجد جاثيا على ركبتيه اذ جاءت امّ ولده بابن له يقال له محمد،فقامت على باب المسجد ثم اشارت له الى ابيه،فأقبل فأفرج له القوم حتى جلس في حجره،ثم جعل يقول مرحبا بسمي من هو خير منه و يقبله حتى يكاد يزدرد ريقه،ثم قال و اللّه لموتك و موت اخوتك أهون عليّ من عدتكم من هذا الذبان،فقيل له لم تتمنى هذا؟فقال اللهم غفرا انّكم تسألوني و لا أستطيع الا ان اخبركم كم اريد بهذا الخير،اما انا فأحرز أجورهم و أتخوف عليهم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يأتي عليكم

ص:150


1- (1) ام سلمة ام المؤمنين اسمها هند بنت ابي امية هي افضل ازواج رسول اللّه(ص)بعد خديجة ام المؤمنين سلام اللّه عليها.

زمان يغبط الرجل بخفة الحال ما يغبط اليوم بكثرة المال و الولد،و كان ابو ذر رضي اللّه عنه لا يعيش له ولد،فقيل له انّك امرء لا يبقى لك ولد،فقال الحمد للّه الذي يأخذهم من دار الدّنيا و يذخرهم في دار البقاء.

و مات لعبد اللّه بن عامر المازني رضي اللّه عنه في الطاعون الحارف سبع بنين في يوم واحد فقال اني مسلم مسلم،و عن عبد الرحمن بن غنمة قال دخلنا على معاذ و هو قاعد عند رأس ابن له و هو يجود بنفسه،فما ملكنا انفسنا ان ذرفت اعيننا و انتحب بعضنا،فزجره معاذ و قال مه فو اللّه لعلم اللّه برضاي لهذا احب اليّ من كلّ غزوة غزوتها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم،فاني سمعته يقول من كان له ابن عليه عزيز و به ضنينا و مات فصبر على مصيبته و احتسبه أبدل اللّه الميت دارا خيرا من داره و قرارا خيرا من قراره،و أبدل المصاب الصلاة و الرحمة و المغفرة و الرّضوان،فما برحنا حتى قضى الغلام حين اخذ المنادي لصلاة الظهر فرحنا نريد الصلاة فما جئنا الاّ و قد غسّله و كفّنه،و جاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الأخوان و لجمع الجيران،فلمّا بلغنا ذلك تلاحقنا و قلنا يغفر اللّه لك يا ابا عبد الرحمن هلاّ انتظرتنا حتى نفرغ من صلواتنا و نشهد ابن اخينا،فقال امرنا ان لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا من ليل او نهار،قال فنزل في القبر و انزل معه آخر فلمّا اراد الخروج ناولته بيدي لأنتشطه من القبر،فأبى و قال ما أدع ذلك لفضل قوتي و لكن اكره ان يرى الجاهل انّ ذلك منّي جزع و استرخاء عند المصيبة،ثمّ أتى مجلسه و دعى بدهن فادهن و بكحل فاكتحل و ببردة فلبسها و اكثر في يومه ذلك من التبسّم ينوي به ما ينوي،ثمّ قال انا للّه و انا اليه راجعون،في اللّه خلف عن كل هالك و عزاء من كل مصيبة، و درك لكل ما فات.

و روي ان قوما كانوا عند علي بن الحسين عليهما السّلام فاستعجل خادم بشوي يشوي(خ)في التّنور،فأقبل مسرعا فسقط من يده لعلي بن الحسين عليه السّلام،فأصاب رأسه فقتله فوثب علي بن الحسين عليه السّلام فلمّا رأى ابنه ميّتا قال للغلام انت حرّ اما انك لم تتعمده و أخذ في جهاز ابنه.

و عن الأحنف بن قيس قال تعلّموا الحلم و الصبر فانّي تعلمته،فقيل ممن؟قال من قيس بن عاصم،قيل و ما بلغ من حلمه؟قال كنّا قعودا عنده اذ أتى بأبنه مقتولا و بقاتله مكبولا فما حلّ حبوته و لا قطع حديثه حتى فرغ،ثم التفت الى قاتل ابنه فقال يا ابن أخي ما حملك على ما فعلت؟ قال غضبت،قال او كلما غضبت قتلت أهنت نفسك و عصيت ربك و أقللت عددك،اذهب فقد اعتقتك،ثم التفت اليه بنيه فقال يا بنيّ اعمدوا الى اخيكم غسلوه و كفنوه فاذا فرغتم منه فأتوني به

ص:151

حتى اصلّي عليه،فلمّا دفنوه قال ان امه ليست منكم و هي من قوم آخرين فلا أرآها ترضى بما صنعتم فاعطوها ديته من مالي.

و قدم الى بعض الخلفاء قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير،فسأله عن عينيه،فقال بتّ ليلة في بطن واد و لم اعلم عبسيا يزيد ماله على مالي،فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل و مال و ولد غير بعير و صبي مولود و كان البعير صعبا فشرد فوضعت الصبي و اتّبعت البعير فلم أجاوز الاّ قليلا حتى سمعت صيحة ابني،فرجعت و رأس الذئب في بطنه و هو يأكله و لحقت البعير لأحبسه فبعجني رجلا و ذهب بعيني،فأصبحت لا مال لي و لا أهل و لا ولد و لا بصر،و قال ابو علي الرازي صحبت الفضل بن عباس ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا و لا مبتسما الا يوم مات ابنه عليّ، فقلت له في ذلك فقال ان اللّه سبحانه أحب أمرا فأحببت ما أحب اللّه عز و جل.

و اصيب عمر بن كعب الهندي بتستر فكتموا أباه الخبر،ثم بلغه فلم يجزع،و قال الحمد للّه الذي جعل من صلبي من أصيب شهيدا،ثم استشهد له ابن بجرجان،فلمّا بلغه الخبر قال الحمد للّه الذي توفّى مني شهيدا.

و روى البيهقي انّ عبد اللّه بن مطرف مات فخرج ابوه مطرف على قومه في ثياب حسنة و قد أدهن،فغضبوا و قال يموت عبد اللّه و تخرج في ثياب حسنة مدهنا،قال أ فأستكين لها لها و قد وعدني ربّي تبارك و تعالى عليها ثلاث خصال هي أحب اليّ من الدنيا كلها قال اللّه تعالى اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ ، أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، و دعا رجل من قريش اخوانا فجمعهم على طعام و ضربت ابنا له دابّة بعضهم فمات،فأخفى ذلك عن القوم و قال لأهله لا أعلمن صاحت منكم صائحة و بكت باكية،و أقبل على اخوانه حتى فرغوا من طعامه،ثمّ أخذ في جهاز الصبي فلم يفجأهم الا بسريره،فأرتاعوا و سألوه عن أمره فأخبرهم فعجبوا من صبره و كرمه.

و ذكر ان رجلا من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ثمّ اجتبى فنادى قومه يتحدّث كأن لم يفقد احدا،فقيل له في ذلك؟فقال ليسوا في الموت ببديع و لا انا في المصيبة بأوحد،و لا جدوى للجزع فعلام تلوموني؟و أسند ابو العباس مسروق عن الأوزاعي قال حدّثني بعض الحكماء قال خرجت و انا اريد الرّباط حتى اذا كنت بعريش مصر اذ انا بمظلّة و فيها رجل قد ذهبت عيناه و استرسلت يداه و رجلاه،و هو يقول لك الحمد سيّدي و مولاي اللّهمّ انّي احمدك حمدا يوافى محامد خلقك كفضلك على سائر خلقك اذ فضّلتني على كثير ممّن خلقت تفضيلا،فقلت و اللّه لأسألنه،فدنوت و سلمت عليه،فرد عليّ السّلام فقلت له رحمك اللّه اني أسألك عن شيء أ تخبرني به ام لا؟فقال ان كان عندي منه علم اخبرتك به،فقلت رحمك اللّه على أي فضيلة من

ص:152

فضائل تشكره؟فقال او ليس ترى ما قد صنع بي،قلت بلى،فقال و اللّه لو ان اللّه تبارك و تعالى اصب على نار تحرقنا،و امر الجبال فدمرتنا،و امر البحار فغرقتنا،و أمر الأرض فخسفت بي ما ازددت فيه سبحانه الا حبا،و لا ازددت له الا شكرا،و ان لي اليك حاجة أ فتقضيها لي؟فقلت نعم قل ما تشاء فقال بني لي كان يتعاهدنا اوقات صلواتي و يطعمني عند افطاري،و قد فقدته منذ امس فانظر هل تجده لي؟قال فقلت في نفسي ان في قضاء حاجته لقربة الى اللّه عز و جل،و قمت و خرجت في طلبه حتى اذا صرت بين كثبان الرمال اذا انا بسبع قد افترس الغلام يأكله،فقلت انا للّه و انا اليه راجعون كيف اتى هذا العبد الصالح بخبر ابنه؟قال فأتيته فسلمت عليه فقلت رحمك اللّه ان سألتك عن شيء أ تخبرني به؟فقال ان كان عندي منه علم اخبرتك؟قال قلت انت اكرم على اللّه تعالى و اقرب منزلة او نبي اللّه ايوب عليه السّلام،فقال بل ايوب اكرم على اللّه تعالى مني و اعظم عند اللّه تعالى منزلة مني،فقلت انه ابتلاه اللّه فصبر حتى استوحش منه من كان يأنس به،و كان غرضا لمرار الطريق،اعلم ان ابنك الذي اخبرتنا به و سألتي اطلبه لك افترسه السبع، فأعظم اللّه اجرك،فقال الحمد للّه الذ لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا،ثم شهق شهقة و سقط على وجهه فسجلت ساعة ثم حركته فاذا هو ميت،فقلت انا للّه و انا اليه راجعون كيف اعمل في امره،و من يعينني على غسله و كفنه و حفر قبره و دفنه؟فبينا انا كذلك اذ انا بركب يريدون الرباط، فأشرت عليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي،فقالوا من انت و ما هذا؟فأخبرتهم بقصتي،فعقلوا رواحلهم حتى غسلناه بماء البحر و كفنّاه بأثواب كانت معهم،و تقدمت و صليت عليه مع الجماعة و دفناه في مظلته و جلست عند قبره انسابه و أقرأ القرآن الى ان مضى من الليل ساعات؟فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة و اجمل زي في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائما يتلو القرآن،فقلت له الست صاحبي،قلت فما الذي صيرك الى ما أرى؟فقال اعلم انني وردت مع الصابرين للّه عز و جل لم ينالوها الا بالصبر و الشكر عند الرخاء و انتبهت.

و روي بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس اذا تاه ابنه 9 عبد الملك،فقال اللّه اللّه في مظالم بني ابيك فلان و فلان و فلان فو اللّه لوددت ان القدور قد غلت بي و بك فيما يرضى اللّه و انطلق فاتبعه ابوه بصره و قال اني لأعرف خير احواله،قالوا و ما خير أحواله؟ان يموت فأحتسبه، و لما دخل عليه ابوه في مرضه فقال كيف تجدك قال اجدني في الموت فاحتسبني يا ابه فان ثواب اللّه عز و جل خير لك من مني،فقال و اللّه يا بني لئن تكون في ميزاني احب اليّ من ان اكون في ميزانك؟فقال ابنه لئن يكون ما تحب أحب اليّ من ان يكون ما أحب،فلما مات وقف على قبره و قال رحمك اللّه يا بني لقد كنت سارّا مولدا و بارا ناشيا و ما أحب اني دعوتك فأحببتني،و مات ابن له آخر قبل عبد الملك فجاء فقعد عند رأسه و كشف الثوب عن وجهه و جعل ينظر اليه

ص:153

و يستدمع،فجاء ابنه عبد الملك فقال ليشغلك ما أقل من الموت عمن هو في شغل حلا لديك،فكأن قد لحقت ابنك و ساويته تحت التراب بوجهك فبكى عمر.

الأمر الرابع في صبر بعض النساء روي عن معاوية بن قرة قال كان ابو طلحة يحب ابنه حبا شديدا فمرض فخافت ام سليم على ابي طلحة الجزع حين قرب موت الأبن،فبعثه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما خرج ابو طلحة من داره توفي الولد فسجته(فسبجته خ)(فغطته خ) ام سليم بثوب و عزلته في ناحية من البيت،ثم تقدمت الى اهل بيتها و قالت لهم لا تخبروا ابا طلحة بشيء ثم انها صنعت طعاما ثم مست شيئا من الطيب فجاء ابو طلحة من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال ما فعل ابني؟فقالت له هدأت نفسه،ثم قال هل لنا ما نأكل فقامت فقربت اليه الطعام ثم تعرضت فوقع عليها فلما أطمأن قالت له يا ابا طلحة أ تغضب من وديعة كانت عندنا فرددناها الى اهلها؟فقال سبحان اللّه لا؟فقالت ابنك كان عندنا وديعة فقبضه اللّه تعالى،فقال ابو طلحة فانا أحق بالبصر منك،ثم قام من مكانه فاغتسل و صلى ركعتين ثم انطلق الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاخبره بصنيعتها فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بارك اللّه لكما في وقعتكما،ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحمد للّه الذي جعل في امتي مثل صابرة بني اسرائيل،فقيل يا رسول اللّه ما كان من صبرها؟فقال كان في بني اسرائيل امرأة و كان لها زوج و لها منه غلامان،فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس،ففعلت و اجتمع الناس في داره فانطلق الغلامان يلعبان فوقعا في بئر كان في الدار فكرهت ان تنقص على زوجها الضيافة فادخلتهما البيت و سجتهما(سبجتهما خ)بثوب فلما فرغوا دخل زوجها فقال اين ابناي؟قالت هما في البيت و انها كانت مسحت بشيء من الطين و تعرضت للرجل حتى وقع عليها ثم قال اين ابناي؟قالت هما في البيت فناداهما ابوهما فخرجا يسعيان فقالت المرأة سبحان اللّه و اللّه لقد كانا ميتين و لكن اللّه تعالى احياهما بالصبر.

و روي في مناجاة برخ الأسود الذي امر اللّه تعالى كليمه موسى عليه السّلام يسأله يستسقي لبني اسرائيل بعد ان قحطوا سبع سنين،و خرج موسى عليه السّلام ليستسقي لهم في سبعين ألفا فأوحى اللّه تعالى اليه كيف استجيب لهم و قد اظلّت عليهم ذنوبهم و سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين و يؤمنون مكري ارجع الى عبد من عبادي يقال له برخ يخرج حتى استجيب له،فسأل عنه موسى عليه السّلام فلما يعرف فينا موسى عليه السّلام ذات يوم يمشي في طريق فاذا هم بعبد الأسود بين عينه تراب من اثر السجود،في شملة قد عقدها على عنقه،فعرفه موسى عليه السّلام بنور اللّه تعالى فسلّم عليه فقال ما اسمك؟قال اسمي برخ،فقال ان انت طلبتنا منذ حين،اخرج استسق لنا فخرج فقال في كلامه ما هذا من فعالك و ما هذا من حلمك

ص:154

و ما الذي بدا لك انقضت عليه غيومك ام عاندت الرياح عن طاعتك؟ام نفد ما عندك ام اشتد غضبك على المذنبين؟الست غفارا قبل خلق الخطائين،خلقت الرحمة و امرت بالعطف ام ترينا انك ممتنع ان نخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟فما برح برخ حتى اخضلّت بنو اسرائيل بالقطر،فلما رجع برخ استقبله موسى عليه السّلام فقال كيف رأيتني حين خاصمت ربي؟كيف ان انصفنا؟

و عن ابي قدامة الشامي قال كنت اميرا على الجيش في بعض الغزوات،فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس و رغبتهم في الجهاد و ذكرت فضل الشهادة و ما لأهلها،ثم تفرق الناس و ركبت فرسي الى منزلي و اذا انا بامرأة من احسن الناس،ينادي يا ابا قدامة فمضيت و لم اجب، فقالت ما هكذا كان الصالحون،فوقفت فجاءت فدفعت الى رقعة مشدودة و انصرفت باكية، فنظرت في الرقعة فاذا فيها مكتوب انت دعوتنا الى الجهاد و رغبتنا في الثواب و لا قدرة لي على ذلك فقطعت احسن ما في،و هما ظفيزتاي و انفذتهما اليك لتجعلهما قيد فرسك لعل اللّه تعالى يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغر لي،فلمّا كان صبيحة القتال فاذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل خاسرا،فتقدمت اليه فقلت يافتى غلام عزّ راجل و لا آمن ان تجول الخيل فتطأك بأرجلها فارجع عن موضعك هذا.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ و قرأ الآية الى آخرها فحملته على هجين (1)كان معي فقال يا ابا قدامة أقرضني ثلاثة اسهم،فقلت هذا وقت قرض؟فما زال يلح عليّ حتى قلت بشرط ان منّ اللّه عليك بالشهادة أكون في شفاعتك،قال نعم،فأعطيته ثلاثة اسهم،فوضع سهما في قوسه و رمى به فقتل روميّا،ثم رمى بالآخر فقتل روميّا،و قال السّلام عليك يا ابا قدامة سلام مودع،فجاءه سهم فوقع بين عينيه فوضع رأسه على قربوس سرجه،فتقدمت اليه فقلت لا تنسها،فقال نعم و لكن لي اليك حاجة اذا دخلت المدينة فأت والدتي و سلّم خرجي اليها و أخبرها،فهي التي اعطتك شعرها لتقيد به فرسك،و سلّم عليها فهي العام الأول أصيبت بوالدي و في هذا العام بي،ثم مات فحفرت له و دفنته فلمّا هممت بالإنصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها،فقال أصحابه،غلام عزّ و لعله خرج بغير اذن امه فقلت انّ الأرض لتقبل من هو شر من هذا،فقمت و صلّيت ركعتين و دعوت اللّه تعالى فسمعت صوتا يقول يا ابا قدامة أترك وليّ اللّه تعالى،فما برحت حتة نزلت عليه الطيور فأكلته،فلما أتيت المدينة ذهبت الى دار والدته،فلما قرعت الباب خرجت اخته اليّ،فلما رأتني عادت الى امها و قالت يا اماه هذا ابو قدامة و ليس معه اخي و قد اصبنا في العام الأول بابي و في هذا العام بأخي،

ص:155


1- (1) فرس و برذونة هجين أي غير عتيق او الهجين من الخيل الذي ولدته برذونة من حصاني عربي جمع هجن و هواجن ايضا.

فخرجت أمّه فقالت أ معزيّا ام مهنيا؟فقلت ما معنى هذا؟قالت ان كان مات فعزني،و ان كان قتل فهنّني،و ان كان قتل فهنّني،فقلت لا بل مات شهيدا،فقالت له علامة فهل رأيتها،قلت نعم لم تقبله الأرض و نزلت الطيور فأكلت لحمه و تركت عظامه فدفنتها فقالت الحمد للّه،فسلّمت اليها الخرج ففتحته و أخرجت منه مسحا و غلا من حديد،و قالت انّه كان اذا جنّه الليل لبس هذا المسح و غلّ نفسه بهذا الغل و ناجى مولاه،و نادى في مناجاته الهي احشرني من حواصل الطيور، فاستجاب اللّه سبحانه دعاه رحمه اللّه.

و قال ابان بن تغلب(ره)دخلت على امرأة و قد نزل بابنها الموت،فقامت اليه و غمضته(قمصته و سبجتّه خ)و سجته،ثم قالت يا بني ما لجزع فيما لا يزول و ما البكاء فيما ينزل غدا يا بني تذوق و ما ذاق ابوك و ستذوقه من بعد امك،و ان اعظم الرّاحة لهذا الجسد النوم و النوم أخو الموت فما عليك ان كنت نائما على فراشك او على غيره و انّ غدا السؤال و الجنة و النار،فان كنت من اهل الجنة فما ضرّك الموت،و ان كنت من اهل النار فما تنفعك الحياة و لو كنت اطول الناس عمرا،و اللّه يا بني لو لا انّ الموت أشرف الأشياء لإبن آدم لما أمات اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبقى عدوه ابليس.

و عن المبرّد انّه خرج الى اليمن فنزل على امرأة لها مال كثير و رقيق و ولد و حال حسنة فأقام عندها،فلمّا اراد الرحيل قال أ لك حاجة؟قالت نعم كلّما نزلت هذه البلاد فانزل عليّ،ثم انّه غاب اعواما ثم نزل عليها فوجدها قد ذهب مالها و رقيقها و مات ولدها و باعت منزلها و هي مسرورة ضاحكة،فقال لها أ تضحكين مع ما قد نزلت بك؟فقالت يا عبد اللّه كنت في حال النّعمة في احزان كثيرة فعلمت انّها من قلّة الشكر فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكر اللّه تعالى على ما أعطاني من الصّبر.

و عن مسلم بن يسار قال قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون و رقيق و مال و يسار و كنت اراها محزونة فغبت عنها مدّة طويلة ثم اتيت فلم أرى ببابها انسانا،فأستأذنت عليها فاذا هي ضاحكة مسرورة،فقلت لها ما شأنك؟قالت انّك لمّا غبت عنّا لم نرسل شيئا في البحر الا غرق،و لا في البرّ شيئا الا عطب،و ذهب الرقيق و مات البنون،فقلت لها يرحمك اللّه رأيتك محزونة في ذلك اليوم،فقالت نعم انّي لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا خشيت ان يكون اللّه تعالى قد عجّل لي حسناتي في الدنيا فلما ذهب مالي و ولدي و رقيقي رجوت ان يكون اللّه تعالى قد ذخر لي عنده شيئا.

و روى البيهقي عن ذى النون المصري قال كنت في الطّواف فاذا انا بجاريتين قد اقبلتا و أنشأت احديهما تقول:

ص:156

صبرت و كان الصبر خير مغبة و هل جزع منّي يجدي فأجزع

صبرت على ما لو تحمل بعضه جبال برضوي أصبحت تتصدع

ملكت دموع العين ثمّ رددتها الى ناضري و العين في القلب تدمع

فقلت ممّن ذا يا جارية؟فقالت من مصيبة نالتني لم تصب احدا قط،قلت و ما هي؟قالت كان لي شبلان يلعبان امامي و كان ابوهما ضحّى بكبشين،فقال احدهما لأخيه يا أخي أريك كيف ضحّى ابوك بكبشه؟فقام و أخذ شفرة فنحره و هرب القاتل،فدخل ابوهما فقلت انّ ابنك قتل اخاه و هرب،فخرج في طلبه فوجده قد افترسه السبع،فرجع الأب فمات في الطريق عطشا و جوعا.

الأمر الخامس في الرصا قد عرفت انّه ثمرة المحبّة بل كلّ كمال فهو ثمرتها فانّها لمّا كانت فرع المعرفة استلزم تصوّر رحمته رجاه و تصوّر هيبته الخشية،و مع عدم الوصول الى المطلوب الشوق،و مع الوصول الأنس،و مع افراط الأنس الأنبساط و مع مطالعة عنايته التّوكل،و مع استحسان ما يصدر عنه الرضا،و مع تصور قصور نفسه في جنب كماله و كمال احاطة محبوبه و قدرته عليه التّسليم اليه،و الرضى أعظم كلّ المراتب.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا كان يوم القيامة انبت اللّه لطائفة من امتي اجنحة فيطيرون من قبورهم الى الجنان يسرحون فيها و يتنعمون كيف يشاؤون،فتقول لهم الملائكة هل رأيتم الحساب؟فيقولون ما رأينا حسابا،فتقول هل جزتم الصراط؟فيقولون ما رأينا صراطا، فتقول هل رأيتم جهنم؟فيقولون ما رأينا شيئا،فتقول الملائكة من امّة من انتم؟فيقولون من امة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فيقولون ناشدناكم اللّه تعالى حدثونا ما كانت اعمالكم في الدنيا؟ فيقولون خصلتان كانتا فينا فبلّغنا اللّه تعالى هذه المنزلة بفضل رحمته،فيقولون كنا اذا خلونا نستحي ان نعصيه،و نرضى باليسر ممّا قسم لنا،فتقول الملائكة حقّ لكم هذا.

و في بعض الأخبار ان نبيا قال له امّته سل لنا ربك أمرا اذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فأوحى اللّه تعالى اليه قل لهم يرضون عنّي حتى ارض عنهم،و نظيره ما روي عن نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلم انّه قال من احب ان يعلم ماله عند اللّه عزّ و جل فلينظر ما للّه عز و جل عنده،فانّ اللّه تعالى ينزل العبد منه حيث انزله العبد من نفسه،و في اخبار داود عليه السّلام ما لأوليائي و من اوليائي ان يكونوا روحانيّين لا يغتمّون.

و روي انّ موسى عليه السّلام قال يا رب دلّني على امر فيه رضاك حتى اعمله،فأوحى اللّه تعالى اليه انّ رضائي في كرهك و انت لا تصبر على ما تكره،قال يا رب دلني عليه قال فانّ

ص:157

رضائي في رضاك بقضائي،و في مناجاة من نبي أي رب ايّ خلقك احب اليك؟قال من اذا اخذت حبيبه سالمني،قال فأيّ خلق انت عليه ساخط؟قال من يستخيرني في الأمر فاذا قضيت له سخط قضائي.

و روي ان جابر بن عند اللّه الأنصاري رضي اللّه عنه أبتلي في آخر عمره بضعف الهرم و العجز فرآه محمد الباقر عليهما السّلام فسأله عن حاله،فقال انا في حالة أحبّ فيها الشّيخوخة على الشباب و المرض على الصحة و الموت على الحياة،فقال الباقر عليه السّلام اما انا فان جعلني اللّه شيخا أحب الشيخوخة،و ان أماتني أحب الموت،و ان ابقاني أحب البقاء،فلمّا سمع جابر هذا الكلام قبّل وجهه و قال صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فانه قال ستدرك لي ولدا اسمه اسمي يبقر العلم بقرا كما يبقر الثّور الأرض،و لذلك سمّى باقر علم الأولين و الآخرين أي شاقه.

و روى(و ورد خ)في الأسرائيليات انّ عابدا عبد اللّه تعالى دهرا طويلا فراى في المنام فلانة رفيقتك في الجنة،فسأل عنها و استضافها ثلاثا لينظر الى عملها فكان يبيت قائما و تبيت نائمة و يظل ائما و تظلل مفطرة،فقال لها أما لك عمل غير ما رأيت؟فقالت ما هو غير ما رأيت و لا أعرف غيره،فلم يزل يقول تذكري حتى قالت خصيلة واحدة هي ان كنت في شدّة لم أتمن ان اكون في رخاء،و ان كنت في مرض لم اتمن ان اكون في صحة و ان كنت في الشمس لم اتمنّ ان اكون في الظّل،فوضع العابد يديه على رأسه و قال أ هذه خصيلة،هذه و اللّه خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.

و اما درجات الرضا فثلاثة:الأولى ان ينظر الى موقع البلاء و الفعل الذي يقتضي الرضا و يدرك موقعه و يحسّ بألمه،و لكن يكون راضيا به بل راغبا فيه مريدا له بعقله و ان كان كارها له بطبعه طلبا لثواب اللّه تعالى و الفوز بالجنة التي عرضها السماوات و الأرض و قد أعدّت للمتقين، و هذا القسم من الرضا هو رضاء المتقين،و مثاله مثال من يلتمس الفصد و الحجامة من الطّبيب العالم بتفاصيل امراضه و ما فيه صلاحه فانّه يدرك ألم ذلك الفعل الا انّه راض به و راغب فيه و متقلّد من الفصاد منّة عظيمة،و مثله من يسافر في طلب الربح فانّه يدرك مشقة السفر و لكن حبه لثمرة سفره طيّب عنده مشقة السفر و جعله راضيا به،و مهما اصابه بليّة من اللّه تعالى و كان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به و رغب فيه و أحبّه و شكر اللّه عليه.

الثانية ان يدرك الألم كذلك و لكنه احب لكونه مراد محبوبه و رضاه،فان غلب عليه الحب كان جميع مراده و هواه ما فيه رضاء محبوبه،الثالثة ان يبطل احساسه بالألم حتى يجري عليه المؤلم و لا يحس و يصيبه جراحة و لا يدرك ألمه،مثاله الرّجل المحارب فانّه في حال غضبه او حال

ص:158

خوفه قد يصيبه جراحة و هو لا يحس بها حتى اذا رأى الدّم استدلّ به على الجراحة،و ذلك لأنّ القلب اذا صار مستغرقا بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه،و العشق من أعظم المشاغل،و كما يقوي حب الصور الجميلة الظاهرة المدركة بحاسة البصر كذلك يقوي حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة و جلالها لا يقاس بها جلال،فمن انكشف له شيء منه فقد بهره بحيث يدهش و يغشى عليه فلا يحسّ بما يجري عليه.

كما روي انّ امرأة عثرت فانقطع ظفرها فضحكت،فقيل لها اما تجدين الوجع فقالت انّ لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه،و كان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به فلم يعالج نفسه،فقيل له في ذلك فقال ضرب الحبيب لا يوجع.

و لمّا اشتدّ البلاء على ايوب عليه السّلام،قالت امرأته الا تدعو ربّك فيكشف ما بك؟ فقال لها يا امرأة انّي عشت في الملك و الرّخاء سبعين سنة و انا اريد ان اعيش مثلها في البلاء لعلي كنت اديت شكرها ما أنعم اللّه عليّ،و اولى بالصبر على ما أبلى،و روي انّ يونس عليه السّلام قال لجبرئيل دلّني على أعبد أهل الأرض،فدلّه على رجل قطع الجذام يديه و رجليه و ذهب ببصره و سمعه و هو يقول الهي متّعتني بها ما شئت و سلبتني ما شئت،و أيقنت لي فيك الأمل يا برّ يا وصول.

و روي انّ موسى عليه السّلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج قد تناثر لحمه من الجذام،و هو يقول الحمد للّه الذي عافاني ممّا ابتلى به كثيرا من خلقه،فقال له عيسى عليه السّلام يا هذا و اي شيء من البلاء أراه مصروفا عنك،فقال يا روح اللّه انا خير ممّن لم يجعل اللّه في قلبه من معرفته،فقال له صدقت هات يدك فناوله يده،فاذا هو احسن الناس وجها و أفضلهم هيئة قد أذهب اللّه عنه ما كان،به فصحب عيسى عليه السّلام و تعبّد معه.

قال بعضهم قصدت عبادان في بدايتي فاذا انا برجل اعمى مجذوم قد صرع،و النمل تأكل لحمه و وضعته في حجري،و أنا أردّد الكلام،فلمّا أفاق قال من هذا الفضولي الذي يدخا بيني و بين ربي،فو حقّه لو قطعني اربا اربا ما أزددت له الا حبا.

و روي عن بعضهم و كان قاسى المرض ستين سنة،فلمّا اشتدّ حاله دخل عليه بنوه،فقالوا له أ تريد ان تموت حتى تستريح مما انت فيه،قال لا،قالوا فما تريد؟قال ما لي ارادة انّما أنا عبد و للسيد الأرادة في عبده و الحكم في أمره،و قيل اشتدّ المرض بفتح الموصلي و أصابه مع مرضه الفقر و الجهد،فقال الهي و سيدي ابتليتني بالمرض و الفقر فهذه فعالكم بالأنبياء و الرسل فكيف لي ان اؤديّ شكر ما أنعمت بع عليّ،و قيل لرابعة العدوية متى يكون العبد راضيا عن اللّه تعالى؟فقالت

ص:159

اذا كان سروره بالمصيبة كسروره بالنعمة،و قيل لها يوما كيف شوقك الى الجنة؟فقالت الجار ثم الدار.

الأمر السادس في البكاء كاعلم ان البكاء بمجرّده غير مناف للصبر و لا للرضا بالقضاء و انّما هو طبيعة بشرية و جبلة انسانية،فلا حرج في ابرازها ما لم تشتمل على احوال تؤذن بالسخط و تذهب بالأجر:من شق الثوب و لطم الوجه و ضرب الفخذ و غيرها و اوّل من بكى آدم عليه السّلام على ولده هابيل و رثاه بأبيات مشهورة قد تقدّمت و ان خفي شيء فلا يخفى حال يعقوب عليه السّلام فانّه بكى حتّى ابيضّت عيناه.

و عن مولانا الصادق عليه السّلام قال انّ زين العابدين عليه السّلام بكى على ابيه اربعين سنة صلئما نهاره و قائما ليله،فاذا حضر الأفطار جاء غلامه بطعامه و شرابه فيضعه بين يديه، فيقول كل يا مولاي،فيقول قتل ابن رسول اللّه جائعا،قتل ابن رسول اللّه عطشانا،فلا يزال يكرر ذلك حتى يبل طعامه من دموعه،فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه عزّ و جلّ.

و روي عن بعض مواليه انّه قال برز يوما الى الصحراء فتبعته،فوجدته قد سجد على احجار خشنة،فوقفت و انا اسمع شهيقه و بكاه و أحصيت عليه ألف مرة و هو يقول كلا اله الا اللّه حقّا حقا،لا اله الا اللّه تعبّدا ورقا،لا اله الا اللّه ايمانا و صدقا،ثم رفع رأسه من سجوده و انّ(فاذا خ)لحيته و وجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه،فقلت يا سيدي أما آن لحزنك ان ينقضي،لبكائك ان يقل؟فقال لي ويحك انّ يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم كان نبيّا ابن نبي و له اثنى عشر ولدا فغيّب اللّه واحدا منهم فشاب رأسه من الحزن و احدودب ظهره من الغم و ذهب بصره من البكاء و ابنه حي في دار الدنيا و أنا رأيت ابي و اخي و سبعة عشر من اهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني و يقل بكائي.

و عن جابر بن عند اللّه رضي اللّه عنه قال أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عبد الرحمن بن عوف فأتى ابراهيم و هو يجود بنفسه،فوضعه في حجره فقال له يا بني انّي لا أملك لك من اللّه شيئا،و ذرفت عيناه،فقال له عبد الرحمن يا رسول اللّه تبكي أما أنت نهيتنا عن البكاء؟فقال انّما نهيت عن النوح و عن صوتين أحمقين فاجرين:صوت عند نغمة لعب و لهو و مزامير شيطان،و صوت عند مصيبة خمش وجوه،و شق جيوب وزنه شيطان انّما هذه رحمة، و من لا يرحم لا يرحم،لو لا انّه أمر حق و وعد صدق و سبيل نائبة(ثابتة خ)و انّ آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا حزنا أشدّ من هذا،و انّا بك لمحزونون تبكي العين و تدمع القلب و لا نقول ما يسخط الرب عز و جل.

ص:160

و عن ابي امامة قال جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين توفى ابنه و عيناه تدمعان فقال يا نبي اللّه على هذا السخل،و الذي بعثك بالحق نبيا لقد دفنت اثنى عشر ولدا في الجاهليّة كلّهم أشبّ منه أدسّه في التراب (1)فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما ذا ان كانت الرحمة ذهبت منك،يحزن القلب و تدمع العين و لا نقول ما يسخط الرب،و أنا على ابراهيم لمحزون،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم مات ابراهيم ما كان من حزن في القلب او في العين فانّها هو رحمة،و ما كان من حزن باللسان و اليد فهو من الشيطان.

و روي انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه، ثم قبّله بين عينيه ثم بكى طويلا،فلمّا رفع السّرير قال طوباك يا عثمان لم تلبسك الدنيا و لم تلبسها؟و لما أصيب جعفر بن ابي طالب رضي اللّه عنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسماء رضى اللّه عنها،فقال لها اخرجي لي ولد جعفر فخرجوا اليه فضمهم اليه و شمّهم و دمعت عيناه فقالت يا رسول اللّه اصيب جعفر؟قال نعم أصيب الندم.

قال عبد اللّه بن جعفر أحفظ حين دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على امي فنعى لها ابي و نظرت اليه و هو يمسح على رأسي و رأس أخي و عيناه تهرقان الدموع حتى تقطر على لحيته،ثم قال اللهم ان جعفر قد قدم الى احسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت احدا من عبادك في ذريته،ثم قال يا اسما الا أبشرك قالت بلى بأبي و امي،فقال انّ اللّه عز و جل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة.

و عن ابي عبد اللّه عليه السّلام عن ابيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا جائته وفات جعفر بن ابي طالب و زيد بن حارثة كان اذا دخل بيته بكى عليهما جدا و قال كان يحدثاني و يؤنساني فجاء الموت فذهب بهما،و عن خالد بن سلمة قال لمّا جاء نعي زيد بن حارثة أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزل زيد فخرجت اليه بنية زيد،فلمّا رأت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمشت في وجهه،فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال هاه هاه،فقيل يا رسول اللّه ما هذا؟فقال شوق الحبيب الى حبيبه.

و لما انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحد راجعا الى المدينة لقيته حمنة بنت حجش،فنعى لها الناس اخاها فاسترجعت و استغفرت له،ثم نعى لها خالها حمزة فاسترجعت و استغفرت له،ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت و ولولت،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم ان زوج المرأة منها لبمكان لما رأى صبرها على(عن)اخيها و خالها و صياحها

ص:161


1- (1) دس الشيء و فيه ادخله فيه و اخفاه.

على زوجها ثم مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على دور من دور الأنصار من بني عبد الأشهل فسمع البكاء و النوائح على قتلاهم فذرفت عيناه و بكى،ثم قال لكن حمزة لا بواكي له، فلمّا رجع سعد بن معاذ و اسيد بن خضير الى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم ان يذهبن فيبكين على عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكاءهن على حمزة خرج اليهن و هنّ على باب مسجده يبكين،فقال لهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ارجعن يرحمكن اللّه فقد آسيتن بأنفسكن.

و روى الشيخ باسناده الى الصادق عليه السّلام انّ ابراهيم خليل الرحمن سأل ربه ان يرزقه اللّه ابنة تبكيه بعد موته،و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس منا من صرب الخدود و شق الجيوب،و عن ابي امامة انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعن الخامشة وجهها و الشّاقة جيبها و الدّاعية بالويل و الثّبور،و عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال كبر مقتا عند اللّه الأكل من غير جوع،و النوم من غير سهر،و الضحك من غير عجب،و الرّنة عند المصيبة،و المزمار عند النغمة،و عن الباقر عليه السّلام أشدّ الجزع الصّراخ بالويل و العويل و لطم الوجه و الصدرور و جز الشعر،و من اقام النوائح فقد ترك الصبر و من صبر و استرجع و حمد اللّه جل ذكره فقد رضي بما صنع اللّه تعالى و وقع أجره على اللّه عز و جل و من لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء و هو ذميم و احبط اللّه عزّ و جلّ اجره.

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اربع من كن فيه كان في نور اللّه الأعظم:من كان عصمة أمره شهادة ان لا اله الا اللّه و انّي رسول اللّه،و من اذا اصابته مصيبة قال انا للّه و انا اليه راجعون،و من اذا اصاب خيرا قال الحمد للّه،و من اذا اصاب خطيئة قال استغفر اللّه و اتوب اليه.

و قال الباقر عليه السّلام ما من مؤمن يصاب بمصيبة في الدنيا فيسترجع عند المصيبة و يصبر حين تفجأه المصيبة الا غفر اللّه له ما مضى من ذنوبه الا الكبائر التي اوجب اللّه تعالى عليها النار، و كلما ذكر مصيبة فيما يستقبل من عمره فاسترجع عندها و حمد اللّه عز و جل الا غفر اللّه له كل ذنب اكتسبه فيما فيما بين الأسترجاعين الا الكبائر من الذنوب رواهما الصدوق،و اسند الكليني الثاني الى معروف بن خرّبوذ عن الصادق عليه السّلام و لم يستثن من الكبائر.

و روى الترمذي باسناده الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته أ قبضتم ولد عبدي؟فيقولون نعم،فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟فيقولون نعم فيقول ما ذا قال عبدي؟فيقولون حمدك و استرجع،فيقول اللّه تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سمّوه بيت الحمد و نحوه رواه الكليني عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص:162

و يجوز النوح بالكلام الحسن و تعداد الفضائل مع اعتماد الصدق،لأنّ فاطمة عليهما السّلام فعلته في قولها يا أبتاه من ربّه ما أدناه،يا أبتاه الى جبرئيل انعاه،يا ابتاه أجاب ربه لما دعاه.

و روي انها قبضت قبضة من تراب قبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوضعتها على عينيها و أنشدت:

ما ذا علي من شم تربة احمد الاّ يشم مدى الزمان غواليا

صبّت علي مصائب لو انها صبّت على الأيام صرن لياليا

و روى ابن بابويه انّ الباقر عليه السّلام أوصى ان يندب في المواسم عشر سنين،و روى يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السّلام قال قال لي ابي يا جعفر فرق من مالي كذا و كذا على نوادب يندبني عشر سنين بمنى ايّام مني،قال الأصحاب و المراد بذلك تنبيه الناس على فضائله و اظهارها ليقتدى بها و تعلم ما كان عليه اهل هذا البيت عليهم السّلام لتبقى آثارهم لزوال التقية بعد الموت،و عن ابي سعيد الخدري قال لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النائحة و المستمعة.

الأمر السابع في التعزية و ما شابهها:روي ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من عزّى مصابا فله مثل اجره من غير ان ينقص من اجره شيئا،و من كفّن مسلما كساه اللّه من سندس و استبرق و حرير،و من حفر قبرا لمسلم بنى اللّه عز و جل له بيتا في الجنة و من أنظر معسرا أظله اللّه في ظله يوم لا ظل الا ظله،و سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن التّصافح في التعزية،فقال هو سكن للمؤمن و من عزّى مصابا فله مثل اجره،و عن ابي برزة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة.

و روي ان داود عليه السّلام قال الهي ما جزاء من يعزي الحزين و المصاب ابتغاء مرضاتك؟قال جزاؤه ان اكسوه رداء من ارديه الأيمان أستره به من النار و أدخله به الجنة،قال يا الهي فما جزاء من شيّع الجنائو ابتغاء مرضاتك؟قال جزاؤه ان يشيّعه الملائكة يوم يموت الى قبره،و ان أصلّي على روحه في الأرواح،و قال موسى عليه السّلام الهي ما لمعزّي الثكلى من الأجر قال اظلّه تحت ظلي يوم لا ظل الا ظلي.

و اما كيفيتها فقد تقدم خبر المصافحة فيها،و اما ما يقال فيها فما يتفق من بعض الكلمات، و يروى من الأخبار المؤدية الى السلوة،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا عزّى قال آجركم و رحمكم،و اذا هنّا قال بارك اللّه لكم و بارك عليكم،و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال في مرض موته ايها الناس ايما عبد من امتي اصيب بمصيبة من بعدي فليتعزّ بمصيبة بي عن

ص:163

المصيبة التي تصيبه بغيري،فانّ احدا من امتي لن يصاب بمصيبة بعدي اشدّ عليه من مصيبتي، و روى انّه كان في بني اسرائيل رجل فقيه عالم مجتهد و كانت له امرأة و كان بها معجبا،فماتت فوجد عليها وجدا شديدا حتى خلى في بيت و أغلق على نفسه و احتجب عن الناس،فلم يكن يدخل عليه احد،ثمّ انّ امرأة من بني اسرائيل سمعت به فجائته،فقالت لي اليه حاجة استفتيه فيها ليس يجزيني الاّ ان أشافهه بها،فذهب الناس و لزمت الباب فأخبر،فاذن لها فقالت استفتيك في أمر فيه أ فأردّه اليهم؟قال نعم و اللّه قالت انه قد مكث عندي زمانا طويلا قال ذلك احق لردك اياه،قالت رحمك اللّه أ فتأسف على ما أعارك اللّه عز و جل ثم أخذه منك و هو احق به منك فأبصر ما كان فيه و نفعه اللّه بقولها.

و عن ابي الدرداء قال كان لسليمان بن داود عليه السّلام ابن يحبه حبا شديدا،فمات فحزن عليه حزنا شديدا،فبعث اللّه اليه ملكين في هيئة البشر،فقال ما انتما قالا خصمان،قال اجلسا بمنزلة الخصوم فقال احدهما اني زرعت زرعا فأتى هذا فأفسده فقال سليمان ما تقول يا هذا؟قال اصلحك اللّه انه زرع في الطريق و اني مررت به فنظرت يمينا و شمالا فاذا الزرع، فركبت قارعة الطريق فكان في ذلك فساد زرعه،فقال سليمان عليه السّلام ما حملك على ان تزرع في الطريق اما علمت ان الطريق سبيل الناس؟و لا بد للناس ان يسلكوا سبيلهم،فقال له احد الملكين او ما علمت يا سليمان ان الموت سبيل الناس و لا بد للناس ان يسلكوا سبيلهم،قال فكأنما كشف عن سليمان عليه السّلام الغطاء و لم يجزع على ولد بعد ذلك،و رواه ابن ابي الدنيا.

و روى ايضا ان قاضيا كان في بني اسرائيل مات له ابن فجزع عليه و صاح،فلقيه رجلان، فقالا له اقض بيننا،فقال من هذا فررت،فقال احدهما ان هذا مر بغنمه على زرعي فأفسده فقال الآخر ان هذا زرع بين الجبل و النهر و لم يكن لي طريق غيره فقال له القاضي انت حين زرعت بين الجبل و النهر أ لم تعلم أنه طريق الناس؟فقال له الرجل فانت حين ولد لك أ لم تعلم انه يموت فارجع الى قضائك؟ثم عرجا و كانا ملكين.

و روي انه كان بمكة مقعدان لهما ابن شاب فكان اذا نفلهما فاتى بهما المسجد فكان يكتسب عليهما يوما،فاذا كان المساء احتملهما فأقبل بهما،فأفتقدهما النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فسأل عنهما،فقيل مات ابنهما،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو ترك احد ترك ابن المقعدين رواه الطبراني،و روي عن بعض العابدات انها قالت ما اصابني من مصيبة فاذكر معها النار الا صارت في عيني اصغر من التراب.

و روى عبد الرحمن بن الحجاج قال ذكر عند ابي عبد اللّه عليه السّلام البلاء و ما يختص اللّه عز و جل به المؤمن،فقال سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اشد الناس بلاء في

ص:164

الدنيا؟فقال النبيون،ثم الأمثل فالأمثل و يبتلى المؤمن بعد على قدر ايمانه و حسن اعماله فمن صحّ ايمانه و حسن عمله اشتدّ بلاؤه،و من سخف ايمانه و ضعف عمله قل بلاؤه،و عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال ان للّه عز و جل عبادا في الأرض من خالص عباده ما ينزل من السماء تحف الى الأرض الا صرفها عنهم الى غيرهم،و لا بلية الا صرفها اليهم و عن ابي جعفر الباقر عليه السّلام قال ان اللّه تبارك و تعالى اذا احب عبدا غته بالبلاء غتا و ثجه(بجه)بالبلاء ثجا(بجا)فاذا دعاه قال لبيك عبدي لئن عجلت لك ما سألت اني على ذلك لقادر و لكن ادخرت لك فما ادخرت لك خير لك.

و عن حمران عن ابي جعفر عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل اهله بالهدية من الغيبة،و يحميه من الدنيا كما يحمي الطبيب المريض،و عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال دعي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى طعام فلما دخل منزل الرجل نظر الى دجاجة فوق حائط قد باضت فوقعت البيضة على وتد في الحائط فثبتت عليه و لم تسقط و لم تنكسر فتعجب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منها فقال له الرجل اعجبت من هذه البيضة فو الذي بعثك بالحق ما رزيت قط،فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يأكل من طعامه شيئا،و قال من لم يرز فما للّه فيه من حاجة.

و روينا بالأسناد الى اسحاق بن عمار قال ان ابا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام كتب الى عبد اللّه بن الحسن (1)حين حمل هو و اهل بيته يعزيه على ما صار بسم اللّه الرحمن الرحيم الى الخلف الصالح و الذرية الطيبة من ولد اخيه و ابن عمه،اما بعد فلأن كنت قد تفرت انت و اهل بيتك ممن حمل معك بما اصابكم ما انفردت بالحزن و الغيظ و الكآبة و اليم وجع القلب دوني،و قد نالني من ذلك من الجزع و القلق و من المصيبة مثل ما نالك،و لأن رجعت الى اللّه عز و جل به للمتقين من الصبر و حسن العزاء حين يقول لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فانك باعيننا و حين يقول فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاٰ تَكُنْ كَصٰاحِبِ الْحُوتِ و حين يقول لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين مثل بحمزة وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّٰابِرِينَ فصبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و لم يعاقب و حين يقول وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهٰا لاٰ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعٰاقِبَةُ لِلتَّقْوىٰ ،و حين يقول اَلَّذِينَ إِذٰا

ص:165


1- (1) هو عبد اللّه الملقب بالمض ابن الحسن المثنى بن الأمام الحسن المجتبى(ع)و انما سمي المحض لأن اباه الحسن بن الأمام الحسن(ع)و امه فاطمة بنت الحسين و كان شيخ بني هاشم في زمانه ذكره الشيخ(ره)في رجاله من اصحاب الصادق(ع)و قال هاشمي مدني تابعي(1 ه)قتل رضوان اللّه عليه في مجلس المنصور الدوانيقي بالهاشمية سنة(145)ه و هو ابن(75)انظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج ص 184 ط مصر.

أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ و حين يقول إِنَّمٰا يُوَفَّى الصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ و حين يقول لقمان لأبنه وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ و حين يقول عن موسى قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ و حين يقول اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ و حين يقول وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرٰاتِ وَ بَشِّرِ الصّٰابِرِينَ و حين يقول وَ الصّٰابِرِينَ وَ الصّٰابِرٰاتِ و حين يقول وَ اصْبِرْ حَتّٰى يَحْكُمَ اللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحٰاكِمِينَ و أمثال ذلك من القرآن كثير.

و اعلم أي عم ان اللّه جل و عز لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط و لا شيء أحب اليه من الضرر و الجهد و اللأواء (1)مع الصبر و انه تبارك و تعالى لم يبال بنعيم الدنيا لعدوّه ساعة قط،و لو لا ذلك ما كان اعداؤه يقتلون اولياء اللّه و يحيفونهم(يخيفوخ)و يمنعونهم و اعدؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون و لو لا ذلك ما قتل زكريا و يحيى بن زكريا ظلما و عدوانا في بغي من البغايا،و لو لا ذلك ما قتل جدك علي بن ابي طالب عليه السّلام لما قام بأمر اللّه جل و عز ظلما و عمك الحسين بن فاطمة صلّى اللّه عليهما ظلما و اضطهادا و عدوانا،و لو لا ذلك ما قال اللّه عز و جل في كتابه وَ لَوْ لاٰ أَنْ يَكُونَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً لَجَعَلْنٰا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ و لو لا ذلك لما قال في كتابه أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:لو لا ان يحزن المؤمن لجعلت للكافر عصابة من حديد فلا يصدع رأسه ابدا و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:ان الدنيا لا تساوي عند اللّه عز و جل جناح بعوضة و لو لا ذلك ما سقي كافر منها شربة ماء و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:لو ان مؤمنا على قلة جبل لبعث اللّه له كافرا او منافقا يؤذيه و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:انه اذا احب اللّه قوما او احب عبدا صب عليه البلاء صبا فلا يخرج من غم الا وقع في غم و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:ما من جرعتين احب الى اللّه عز و جل ان يجرعها عبده المؤمن في الدنيا من جرعة غيظ كظم عليها و جرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء و احتساب،و لو لا ذلك لما كان اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعون على من ظلمهم بطول العمر و صحة البدن و كثرة المال و الولد،و لو لا ذلك ما بلغنا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا خص رجلا بالترحم

ص:166


1- (1) للأواء الشدة و المحنة.

و الأستغفار استشهد فعليكم يا عم و ابن عم و بني عمومتي و اخوتي بالصبر و الرضا و التسليم و التفويض الى اللّه عز و جل و الرضا و الصبر على قضائه،و التمسك بطاعته و النزول عند امره افرغ اللّه علينا و عليكم الصبر و ختم لنا و لكم بالسعادة و ابعدكم و ايانا من كل هلكة بحوله و قوته انه سميع قريب و صلّى اللّه على صفوته من خلقه محمد النبي و اهل بيته،هذا آخر التعزية بلفظها كما في كتاب التتمات و المهمات،و حيث انتهى بنا الحال الى هنا فلا بأس بالإشارة الى الداهية العظمى و المصيبة الكبرى و هي واقعة الطفوف فان المصائب و ان جلّت فهي بالنسبة اليها حقيرة.

نور في بعض احوال واقعة الطفوف و شهادة مولانا ابي عبد اللّه الحسين(علیه السلام)

اعلم ايدك اللّه ان البلاء انما كتب على المؤمن و ان الدنيا ليست بدار ثواب و لا بدار عقاب لم يرض سبحانه بأن يجعل ثواب المؤمن فيها و لا عقاب الكافر فيها و ذلك لقلة ايامها و نقصان الأعمار فيها و من ثم بعث الدواهي و المصائب فيها الى احبابه و اقاربه و لا مصيبة مثل مصيبة مولانا الحسين عليه السّلام فانها هدت اركان الدين و صدعت قواعد الشرع المبين و ابكت الأجفان و اقرحت القلوب و لعمري انها المصيبة التي يتسلّى بها المؤمن عن كل مصاب و الداهية المنسية له مفارقة الخلان و الأحباب،و اعلم اولا ان جماعة من مخالفينا(اورد واهنا شبهه ظ)بل و ربما قاله بعض الجهّال منا و هو ان الحسين عليه السّلام كان عالما بأن يجري عليه ما جرى قبل مسيره الى العراق فلم سار اليها حتى صار كالمعين على نفسه؟و هذه شبهة ركيكة و الجواب عنها من وجوه:

الأول ان الأمام اذا وجد الأعوان وجب عليه القيام بأمر الجهاد و لا يجوز له التقاعد عنه لظنه بهم الخذلان له كما لم يجز للأنبياء عليهم السّلام ترك الجهاد لهذه المظنة بل قاموا بالدعوة حتى اصيبوا من الأمة بالمصائب العظام،كما وقع لأولي العزم و غيرهم استتماما لحجة اللّه تعالى على الخلائق،و من ثم اسدى اليهم مولانا الحسين عليه السّلام كمال الحجة في اثناء المحاربة و العلم الواقعي الذي ظهر لهم و خفي على غيرهم مما لا يجوز العمل عليه في الأحكام الظاهرة،و لهذا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحكم بين المتداعين بظاهر الشريعة و يجعل الحق لمن توجه له الحكم في الظاهر و ان كان يعلم ان الحق للخصم الآخر في الواقع و نفس الأمر،و كان يقول انكم تأتوني و أحدكم يعرب حجته و يفصح عنها فأخذ له الحق نظرا الى ظاهر الشريعة و لكنّي انما اقطع له جذوة من نار جهنم.

الوجه الثاني انه عليه السّلام لو لم يسر الى العراق لما تركوه و لو ذهب الى المكان البعيد، كما روي ان اخاه محمد بن الحنفية لجقه الى عرفات و اشار عليه بان يلحق الرمال من اليمين حتى ينظر بواطن اهل العراق،فقال له يا أخي نعم ما رأيت من الصلاح و لكن هؤلاء القوم ما يسكتون

ص:167

عن طلبي اينما ذهبت حتى يسفكوا دمي،فعند ذلك يلبسهم اللّه ذل الدنيا و الآخرة و ما خرج من مكة الا خائفا من القتل (1).

الثالث ان الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام قد خصهم اللّه تعالى بانواع من التكاليف فلعل هذا و هو الا لقاء الى التهلكة منها نظرا الى الحكم المصالح الألهية،و من ثم روي انه لو لم يقم عليه السّلام بالجهاد الذي قام به لما استتم حجة الشيعة و ذلك ان المخالفين لنا يقولون ان سكون علي عليه السّلام عن المتخلفين دليل على رضاه عنهم و الا فما يمنعه عن الجهاد و هو اشجع الشجعان؟فنقول لهم ان الذي منعه هو الخوف على نفسه الا تروا الى مولانا الحسين عليه السّلام لما قام يطلب حقه كيف جرى عليه من المصائب و البلوى فان قلت كيف لم يبايع عليه السّلام ليزيد حتى لا يصل اليه ذلك الضرر،قلت هذا مجرد كلام و المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين و ذلك انه عليه السّلام رأى اخاه الحسن عليه السّلام لما سالم معاوية كيف فعل به اولا و كيف غدر به آخرا حتى قتله مسموما فما كان يصنع ابنه يزيد مع الحسين عليه السّلام الا اسوأ من هذا،لأن معاوية كان فيه الدهاء و ما كان يتجرأ على قتل الحسين عليه السّلام ظاهرا و لهذا اوصى عند موته ليزيد انك تظفر بالحسين فلا تقتله و اذكر فيه القرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اما السير و التواريخ الواردة بكيفية شهادته عليه السّلام فهي على تكثرها لم تستوف المصائب التي جرت عليه و على اهل بيته من بعده و اصحابه الذين قتلوا معه و لنشر الى طرف منها فانا قد استوفيناها في المجلد الثاني من كتابنا الموسوم بنوادر الأخبار روى الصدوق طاب ثراه مسندا الى الرضا عليه السّلام قال كان ابي صلوات اللّه عليه و آله اذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا و كانت الكآبة تغلبه حتى تمضي منه عشرة ايام فاذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته و حزنه و بكائه، و كان يقول هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السّلام.

اقول يظهر من هذا الخبر و مما روي بمعناه ان ما يفعله عوامنا في عشرة ايام المحرم من اجتناب اكثر الملاذ و التشبّه بأهل المصيبة في المأكل و الملبس و دخول الحمام و ترك حلق الرأس و غير ذلك ليس هو بدعة بل هو ثواب جزيل و اشتراك لأهل البيت عليهم السّلام في مصابهم و روينا بالأسناد الى ابن محمود قال الرضا عليه السّلام ان المحرم شهر كان اهل الجاهلية يحرمون فيه القتال

ص:168


1- (1) و قد امر يزيد لعنه اللّه بقبضه(ع)او قتله فانه انفذ عمر بن سعيد بن العاص من المدينة الى مكة في عسكر عظيم و ولاة امر الموسم و امره على الحاج كلهم فحج بالناس و اوصاه بقبض الحسين(ع)سرا و ان لم يتمكن منه يقتله و امره ان يناجز الحسين(ع)القتال ان هو ناجزه فلما كان يوم التروية قدم عمر بن سعيد الى مكة في جند كثيف ثم ان يزيد دس مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني امية و امرهم بقبض الحسين(ع)على أي حال اتفق فلما علم الحسين(ع)عزم على التوجه الى العراق.

فاستحلت فيه دماؤنا و هتكت فيه حرمتنا و سبي فيه ذرارينا و نساؤنا و اضرمت النيران في مضاربنا و انتهب ما فيه من ثقلنا و لم يرعوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمة في امرنا ان امر الحسين عليه السّلام اسهر جفوننا و اسبل دموعنا و اذل عزيزنا يا أرض كرب و بلاء اورثتنا الكرب و البلاء الى يوم الأنقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فان البكاء عليه يحط الذنوب العظام و روينا ان الريان بن شبيب قال دخلت على الرضا عليه السّلام في اول يوم من المحرم فقال لي يا ابن شبيب أصائم انت فقلت لا فقال هذا هو اليوم الذي دعا فيه زكريا عليه السّلام ربه عز و جل فقال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء،فاستجاب اللّه له و امر الملائكة فنادت زكريا و هو قائم يصلي في المحراب ان اللّه يبشرك بيحيى فمن صام هذا اليوم ثم دعى اللّه عز و جل استجاب له كما استجاب لزكريا عليه السّلام ثم قال يا ابن شبيب ان المحرم هو الشهر الذي كان اهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم و القتال لحرمته فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها و لا حرمة نبيها لقد قتلوا في هذا الشهر ذريّته و سبوا نساءه و انتهبوا ثقله فلا غفر اللّه ذلك لهم ابدا يا ابن شبيب ان كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن ابي طالب عليه السّلام فانه ذبح كما يذبح الكبش و قتل معه من اهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيه و لقد بكت الماوات السبع و الأرضون لقتله لقد نزل الى الأرض من الملائكة اربع الآف لنصره فوجدوه قد قتل فهم عند قبره شعث غبر الى ان يقوم القائم فيكونون(فهم يكونون خ)من انصاره و شيعته و شعارهم يا لثارات الحسين عليه السّلام.

يا ابن شبيب لقد حدثني ابي عن ابيه عن جده انه لما قتل جدي الحسين عليه السّلام امطرت السماوات دما و ترابا احمر يا ابن شبيب ان بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خديك غفر اللّه لك كل ذنب اذنبته صغيرا كان او كبيرا قليلا كان او كثيرا يا ابن شبيب ان سرك ان تلقى اللّه عز و جل و لا ذنب عليك فزر الحسين عليه السّلام،يا ابن شبيب ان سرك ان يكون لك من الثواب ما لمن استشهد مع الحسين عليه السّلام فقل متى ذكرته يا ليتني كنت معهم فافوز فوزا عظيما يا ابن شبيب ان سرك ان تكون معنا في الدرجات العلى في الجنات فاحزن لحزننا و افرح لفرحنا و عليك بولايتنا فلو ان رجلا تولى حجرا لحشره اللّه يوم القيامة معه و روينا مسندا عن اشياخ لبني سليم قالوا غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوبا:

أ يرجوا معشرا قتلوا حسينا شفاعة جده يوم الحساب

فقال فسألنا كم هذا في كنيستكم؟فقالوا قيل ان يبعث نبيكم بثلاثمائة عام و روينا مسندا الى هرثمة بن ابي مسلم قال غزونا مع علي بن ابي طالب عليه السّلام صفين فلما انصرفنا نزل بكربلاء فصلى بها الغداة ثم رفع اليه من تربتها فشمها ثم قال واها لك ايتها التربة ليحشرن منك

ص:169

قوم يدخلون الجنة بغير حساب فرجع هرثمة الى زوجته و كانت شيعية لعلي عليه السّلام فقال الا احدثك عن وليك ابا الحسن نزل بكربلاء فصلى ثم رفع اليه من تربتها فشمها،ثم قال واها لك ايتها التربة ليحشرن منك اقوام يدخلون الجنة بغير حساب،قالت المرأة ايّها الرجل فان امير المؤمنين عليه السّلام لم يقل الا حقا،فلما قدم الحسين عليه السّلام قال هرثمة كنت في البعث الذي بعثهم عبيد اللّه بن زياد،فلما رأيت المنزل و الشجر ذكرت الحديث فجلست على بعيري ثم صرت الى الحسين عليه السّلام فسلمت عليه فأخبرته بما سمعت من ابيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين عليه السّلام،فقال امعنا انت ام علينا؟فقلت لا معك و لا عليك خلّفت صبية اخاف عليهم من عبيد اللّه بن زياد،قال فامض حيث لا ترى لنا مقتلا و لا تسمع لنا صوتا فو الذي نفس الحسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا احد فلا يعيننا الا اكبه اللّه على وجهه في جهنم،و قال عليه السّلام انا قتيل العبرة و لا يذكرني مؤمن الا استعبر.

و روينا مسندا الى مولانا الصادق عليه السّلام قال انّ ام سلمة أصبحت يوما تبكي،فقيل لها مالك؟فقالت لقد قتلت ابني الحسين و ما رأيت رسول اللّه عليه السّلام منذ مات الا الليلة، و لا اراني الا و قد اصبت بابني،قال و جاءت الجنيّة منهم تقول:

الا يا عين فانهملي بجهد فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا الى متحيّر في ملك عبدي

و روينا مسندا الى مولانا الباقر عليه السّلام قال كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بيت ام سلمة رضي اللّه عنها فقال لها لا يدخل على احد،فجاء الحسين عليه السّلام و هو طفل فما ملكت معه شيئا حتى دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فدخلت ام سلمة على اثره، فاذا الحسين على صدره و اذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تبكي،و اذا في يده شيء يقلبه فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا ام سلمة ان هذا جبرئيل يخبرني ان هذا مقتول و هذه التربة التي يقتل عليها فضعيه عندك فاذا صارت دما فقد قتل حبيبي،فقالت ام سلمة يا رسول اللّه سل اللّه ان يدفع ذلك عنه،قال قد فعلت فأوحى اللّه عز و جل اليّ ان له درجة لا ينالها احد من المخلوقين و ان له شيعة يشفعون فيشفعون و ان المهدي من ولده،فطوبى لمن كان من اولياء الحسين عليه السّلام و شيعتهم و اللّه فائزون.

و عن كعب الأحبار قال ان في كتابنا ان رجلا من ولد محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقتل و لا يجف عرق دواب اصحابه حتى يدخلوا الجنة فيعانقوا الحور العين فمر بنا الحسن عليه السّلام فقلنا هو هذا قال لا فمر بنا الحسين عليه السّلام فقلنا هو هذا قال نعم.

ص:170

و روينا مسندا الى الصادق عليه السّلام قال البكاؤن خمسة:آدم و يعقوب و يوسف و فاطمة بنت محمد و علي بن الحسين فاما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية و اما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره و اما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به اهل السجن فقالوا اما تبكي بالنهار و تسكت بالليل و اما تبكي بالليل و تسكت بالنهار فصالحهم على واحد منها و اما فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليها السّلام فبكت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى تأذى بها اهل المدينة و قالوا لها قد آذيتينا بكثرة بكاك فكانت تخرج الى مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف و اما علي بن الحسين عليه السّلام فبكى على مصائب ابيه الحسين عليه السّلام عشرين سنة او اربعين سنة و ما وضع بين يديه طعام الا بكى حتى قال له مولى له جعلت فداك يا ابن رسول اللّه اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين،قال انما اشكوا بثي و حزني الى اللّه و اعلم من اللّه ما لا تعلمون اني لم اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني لذلك العبرة.

و روينا مسندا الى ابي عمار المنشد عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قال لي يا ابا عمار انشدني في الحسين بن علي عليه السّلام قال فانشدته فبكى ثم انشدته فبكى قال فما زلت انشده و هو يبكي حتى سمعت البكاء من الدار،قال فقال لي يا ابا عمار من انشد في الحسين بن علي شعرا فابكى خمسين فله الجنة،و من انشد في الحسين شعرا فأبكى ثلاثين فله الجنة و من انشد في الحسين فابكى عشرين فله الجنة و من انشد في الحسين فابكى عشرة فله الجنة و من انشد في الحسين فابكى واحدا فله الجنة و من انشد في الحسين فتباكى فله الجنة.

و روينا مسندا الى داود الرقي قال كنت عند ابا عبد اللّه عليه السّلام اذا استسقى الماء فلما شربه رأيته قد استعبر و اغرورقت عيناه بدموعه،ثم قال يا داود لعن اللّه قاتل الحسين فما انقص ذكر الحسين للعيش،اني ما شربت ماء باردا الا و ذكرت الحسين و ما من احد شرب الماء فذكر الحسين عليه السّلام و لعن قاتله الا كتب اللّه له مائة ألف حسنة و محى عنه مائة ألف سيئة و رفع له مائة ألف درجة،و كأنما اعتق ألف نسمة و حشره اللّه تعالى يوم القيامة بلج الوجه.

و روينا مسندا الى ابن ابي نعيم قال شهدت ابن عمر فأتاه رجلا فسأله عن دم البعوضة قال من انت؟قال من اهل العراق،قال فانظر الى هذا يسألني عن دم البعوضة و قد قتلوا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول للحسن و الحسين انتما ريحانتاي من الدنيا.

و روينا مسندا الى الصادق عليه السّلام في حديث طويل وصف فيه مقتل الحسين عليه السّلام قال ثم وثب الحسين عليه السّلام بعد مقتل اكثر اصحابه متوكيا على سيفه فنادى بأعلى

ص:171

صوته قال انشدكم اللّه هل تعرفوني قالوا نعم انت ابن رسول اللّه و سبطه قال انشدكم اللّه هل تعرفون(تعلمون خ)ان علي بن ابي طالب ابي؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه هل تعلمون ان فاطمة امي بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم هل تعلمون ان جدتي خديجة بنت خويلد اول نساء هذه الأمة اسلاما؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم ان سيد الشهداء حمزة عمي و عم ابي؟قالوا نعم اللهم قال انشدكم اللّه هل تعلمون ان الطيار في الجنة عمي؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه ان هذا سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انا متقلده؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه هل تعلمون ان هذه عمامة رسول اللّه و انا متعمم بها؟ قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه تعلمون ان عليا كان اولهم اسلاما و اعلمهم علما و اعظمهم حلما و انه و لي كل مؤمن و مؤمنة؟قالوا اللهم نعم قال فبم تستحلون دمي و ابى الذائد عن الحوض غدا يذود عنه كما يذاد البعير الصار على الماء،و لواء الحمد في يد جدي يوم القيامة قالوا لقد علمنا ذلك كله و نحن غير تاركين حتى تذوق الموت عطشا فأخذ الحسين عليه السّلام بطرف لحيته و هو يومئذ ابن سبعة و خمسين سنة ثم قال اشتد غضب اللّه على المجوس حين عبدوا النار دون اللّه، و اشتد غضب اللّه على اليهود حين قالوا عزير ابن اللّه و اشتد غضب اللّه على النصارى حين قالوا المسيح ابن اللّه و اشتد غضب اللّه على قوم قتلوا نبيهم و اشتد غضب اللّه على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم.

ثم قال و نظر الحسين عليه السّلام يمينا و شمالا فلم ير احدا،فرفع رأسه الى السماء فقال اللهم انك ترى ما صنع بولد نبيك،و حال بنو كلاب بينه و بين الماء و رمى بسهم فوقع في نحره و خرّ على فرسه،فأخذ السهم و رمى به،و جعل يتلقى الدم بكفه فلمّا امتلأت لطخ بها رأسه و لحيته و هو يقول ألقى اللّه عز و جل و أنا مظلوم متلطخ بدمي ثم خر على خدّه الأيسر صريعا فأقبل عدو اللّه سنان بن انس و شمر بن ذي الجوشن العامري في رجال من اهل الشام حتى وقفوا على رأس الحسين عليه السّلام،فقال بعضهم لبعض اريحوا الرجل فنزل سنان بن انس لعنه اللّه و أخذ بلحية الحسين عليه السّلام و جعل يضرب السيف في حلقه و هو يقول انّي لأجتزّ رأسك و انا اعلم انّك ابن رسول اللّه خير الناس اما و ابا.

و اقبل فرس الحسين عليه السّلام حتى لطخ عرفه(غرّته خ)و ناصيته بدم الحسين عليه السّلام و جعل يركض و يصهل،فسمع بنات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صهيله،فخرجن فاذا الفرس بلا راكب فعرفن انّ حسينا قد قتل،و خرجت امّ كلثوم بنت الحسين عليه السّلام واضعة يدها على رأسها تندب و تقول:وا محمداه هذا الحسين بالعراء قد سلب العمامة و الرداء،و أقبل ابن

ص:172

سنان لعنه اللّه حتى ادخل رأس الحسين عليه السّلام على عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه،و هو يترنّم و يقول:

املأ ركابي فضة و ذهبا اني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس امّا و ابا و خيرهم اذ ينسبون نسبا

فقال له عبيد اللّه بن زياد ويحك فاذا علمت انّه خير الناس اما و ابا لم قتلته اذا فأمر به فضرب عنقه و عجّل اللّه بروحه الى النار،و ارسل ابن زياد لعنه اللّه الى ام كلثوم بنت الحسين عليه السّلام فقال الحمد للّه الذي قتل رجالكم فكيف ترون ما يفعل بكم؟فقالت يا ابن زياد لئن قرت عينك بقتل الحسين عليه السّلام فطال ما قرّت عين جده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به و كان يقبله و يلثم شفتيه و يضعه على عاتقه،يا ابن زياد أعدّ لجده جوابا فانّه خصمك.

و روينا مسندا الى الباقر عليه السّلام أصيب الحسين بن علي عليهما السّلام و وجد فيه ثلاثمائة و بضع و عشرون طعنة:برمح او ضربة بسيف او رمية بسهم،و روي انها كانت في مقدمه لأنه عليه السّلام لا يولي.

و روينا عن فاطمة بنت الحسين عليه السّلام قالت دخلت الغارة علينا الفسطاط و انا جارية صغيرة و في رجلي خلخالان من ذهب،فجعل رجل يفض الخلخالين من رجلي و هو يبكي،فقلنا ما يبكيك يا عدو اللّه؟فقال كيف لا ابكي و انا اسلب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فقلت لا تسلبني،قال اخاف ان يجيء غيري فيأخذه،قالت هي و انتبهوا ما في الأفنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا،و عن فاطمة بنت علي عليها السّلام ان يزيد لعنه اللّه امر بنساء الحسين عليه السّلام فحبس مع علي بن الحسين عليهما السّلام في محبس لا يكنهم من حرّ و لا برد حتى تقشرت وجوههم،و لم يرفع في بيت المقدس حجر على وجه الأرض الا و قد وجد في تحته دم عبيط،و نظر الناس الى الشمس على الحيطان حمراء كانّها الملاحف المصفرة الى ان (1)خرج علي بن الحسين عليه السّلام بالنسوة و ردّ رأس الحسين عليه السّلام الى كربلا و روينا مسندا الى الصادق عليه السّلام قال لمّا ضرب الحسين عليه السّلام بالسيف ثم ابتدر ليقطع رأسه نادى مناد من قبل رب العزة تبارك و تعالى من بطنان العرش،فقال ايتها الأمة المتحيرة الظالمة بعد نبيها لا وفقكم اللّه لا ضحى و لا فطر،ثم قال ابو عبد اللّه عليه السّلام لا جرم و اللّه ما وفقوا و لا يوفقون ابدا حتى يقوم ثائر الحسين عليه السّلام،أقول لعل المراد انهم لا يوفقون

ص:173


1- (1) ان كان لفظ:(رد)بصيغة الماضي كما هو الظاهر يدل الخبر على مجيء اهل البيت(ع)الى كربلاء.

لمثوبات هذين اليومين و ما أعد اللّه فيها من الووبة للعاصين و التجاوز عن جرم المجرمين و ان حملته على اشتباه الأهلة في زمن دولة بني امية فلا بعد فيه.

و روينا مسندا الى الرضا عليه السّلام قال قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة و معها ثياب مصبوغة بالدماء،تتعلق بقائمة من قوائم العرش تقول يا أحكم الحاكمين احكم بيني و بين قاتل ولدي،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يحكم لأبنتي و رب الكعبة.

و بالإسناد الى ابن عباس قال كنت مع امير المؤمنين عليه السّلام في خروجه الى صفين فلما نزل نينوى و هو شط الفرات قال بأعلى صوته يا ابن عباس أ تعرف هذا الموضع؟قلت له ما أعرفه يا أمير المؤمنين فقال علي عليه السّلام لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي قال فبكى طويلا حتى اخضلت لحيته و سالت الدموع على صدره و بكينا معه و هو يقول او اوه و لآل ابي سفيان مالي و لال حرب حزب الشيطان و أولياء الكفر؟صبرا ابا عبد اللّه فقد لقي ابوك مثل الذي تلقى(تلقاه خ)ثم دعى بماء فتوضأ وضوء الصلاة فصلى ما شاء اللّه ان يصلي ثم ذكر نحو كلامه الأول الا انه نعس عند انقضاء صلاته و كلامه بساعة ثم انتبه فقال يا ابن عباس فقلت ها انا ذا فقال الا احدثك بما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي فقلت نامت عيناك و رأيت خيرا يا امير المؤمنين قال رأيت كأني برجال قد نزلوا معهم اعلام بيض قد تقلدوا بسيوفهم و هي بيض تلمع و قد خطوا حول هذه الأرض خطة ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها و الأرض تضطرب بدم عبيط،و كأنني بالحسين عليه السّلام سخلي و فرخي و مضغتي و مخي قد غرق فيه فيستغيث فلا يغاث و كأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه و يقولون صبرا آل الرسول فانكم تقتلون على يدي شرار الناس،و هذه الجنة يا ابا عبد اللّه اليك مشتاقة ثم يعزونني و يقولون له يا ابا الحسن ابشر فقد اقر اللّه به عينك يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم انتبهت هكذا.

و روي ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ذات يوم جالسا و حوله عليا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فقال لهم كيف بكم اذا كنتم صرعى و قبوركم شتى؟فقال له الحسين عليه السّلام أ نموت موتا او نقتل قتلا فقال بل تقتل يا بني ظلما و يقتل اخوك ظلما و تشرد ذراريكم في الأرض،فقال الحسين عليه السّلام و من يقتلنا يا رسول اللّه قال شرار الناس قال فهل يزورنا بعد قتلنا احد قال نعم يا بني طائفة من امتي يريدون بزيارتكم بري و وصلتي فاذا كان يوم القيامة جئتها الى المواقف حتى آخذ بأعضادها فأخلصها من أهواله و شدائده.

و روى سالم بن ابي حفصة قال قال عمر بن سعد للحسين عليه السّلام يا ابا عبد اللّه ان قبلنا ناس سفهاء يزعمون اني اقتلك فقال له الحسين عليه السّلام انهم ليسوا بسفهاء

ص:174

و لكنهم حلماء اما انه يقر عيني انك لا تأكل بري العراق بعدي الا قليلا و روينا عن سعد الأسكاف قال قال ابو جعفر عليه السّلام كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا و كان قاتل الحسين بن علي عليه السّلام ولد زنا و لم تحمر السماء الا لهما قال و خرجنا مع الحسين عليه السّلام فما نزل لنا(نزل خ) منزلا و ارتحل عنه الا ذكر يحيى بن زكريا و قال يوما من الأيام ان من هوان الدنيا على اللّه عز و جل ان رأس يحيى بن زكريا أهدى الى بغي من بغايا بني اسرائيل،و عن عاصم عن ذر قال اول رأس حمل في الأسلام على رمح هو رأس الحسين بن علي عليه السّلام فلم أر باكيا و باكية اكثر من ذلك اليوم.

و عن ابن عباس قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النّوم اشعث أغبر معه قارورتان فيهما دم عبيط،فقلت يا رسول اللّه ما هذا؟فقال دم الحسين و أصحابه و لم أزل ألتقطه منذ اليوم،قال فحسب ذلك اليوم و اذا هو يوم قتل الحسين عليه السّلام،و عن الكندي قال لمّا قتل الحسين عليه السّلام مكثنا سبعة يام اذا صلينا العصر نظرنا الى الشّمس على الحيطان كأنها ملاحف مصفرة من شدّة حمرتها،و ضربت الكواكب بعضها بعضا.

و روي انه لما اصبح ابن زياد لعنه اللّه بعث برأس الحسين عليه السّلام فدير به في سكك الكوفة كلها و قبائلها.

فروي عن زيد بن ارقم انّه قال مر به و هو على رمح و انا في غرفة فيها فلما حاذاني سمعته يقرأ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحٰابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كٰانُوا مِنْ آيٰاتِنٰا عَجَباً فوقف و اللّه شعري و ناديت رأسك و اللّه يا ابن رسول اللّه و أمرك أعجب و أعجب،و عن ابي حباب قال لقيت رجلا من طي فقلت له بلغني انكم تسمعون نوح الجن على الحسين،قال نعم قلت ما الذي سمعت؟قال سمعتهم يقولون:

مسح الرسول جبينه فله بريق في الخدود أبواه من عليا قريش جده خير الجدود

و قال ديك الجن يرثي الحسين عليه السّلام:

و يكبرون بأن قتلت و انما قتلوا بك التّكبير و التهليلا

و روي عن رجل اسدي قال كنت زارعا على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني امية فرأيت عجائب لا أقدر احكي الا بعضها،و هو اذا هبّت الأرياح تمر عليّ نفخات كنفخات المسك و العنبر و اذا سكنت ارى نجوما تنزل من السماء الى الأرض و ترقى من الأرض الى السماء و انا منفرد مع عيالي و لا أرى أحدا أسأله عن ذلك،و قبل غروب الشمس يقبل اسد من القبلة فأوليّ عنه الى منزلي،فاذا اصبح الصبّاح أراه مستقبل القبلة ذاهبا،فقلت في نفسي حكت عساكر بن زياد هؤلاء خوارج قد خرجوا على عبيد اللّه بن زياد فأمر بقتلهم و أرى منهم ما لم أر من سائر

ص:175

القتلى،فو اللّه هذه الليلة لا بدّ من المساهرة في هذه الأرض لأبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث ام لا،فلما صار غروب الشمس و اذا به اقبل فخفته فاذا هو هائل المنظر،فارتعبت منه و هممت ان انهزم عنه فثبطت نفسي و راجعتها و هو يتخطى القتلى حتى وقف على جسد كأنّه الشمس اذا طلعت تحت الغمام،فبرك عليه،فقلت يأكل منه و اذا به يمرغ وجهه على ذلك الجسد و هو يهمهم و يدمدم و دموعه تجري على خديه،فقلت اللّه اكبر ما هذه الأعجوبة فجعلت احرسه حتى اعترك الظلام و اذا الشموع معلقة فملأت الأرض فزادني عجبا،اذا أنا اسمع بكاء و نحيبا ساعة،و اذا بلطم مفجع لكن لم أر أشخاصا فقصدت تلك الأصوات فخيل لي انّي وقعت عليها فأصغيت سمعي زمانا،فاذا هو تحت الأرض و فهمت من ناع فيهم يقول وا حسيناه و اماماه فاقشعر جلدي و طار لبي،فقربت من الباكي و اقسمت عليه باللّه و برسوله من تكون؟فقال انا نساء من الجن،فقلت و ما شأنكن؟فقالت في كل يوم و ليلة هذا عزاؤنا على الحسين العطشان المجدل على الزملاء،فقلت هذا الحسين الذي عنده الأسد،فقالت نعم،قالت انت تعرف هذا الأسد؟قلت لا،قالت هذا ابوه علي بن ابي طالب فهممت ان ارجع و دموعي تجري على خديّ حزنا عليه، و اذا برجال لم أر أطول منهم ذو اسلحة كثيرة،فكاد فؤادي ان يطير،و اذا بهم قائل يقول فارجع فرجعت خائفا،و قيل هذا الرجل هو الذي دفن الحسين عليه السّلام.

و روينا عن علي بن الحسين عليهما السّلام قال لما وفدنا على يزيد بن معاوية لعنهما اللّه تعالى أتوا بحبال و ربطونا مثل الأغنام؛و كان الحبل بعنقي و عنق أم كلثوم و بكتف زينب و سكينة و البنات تساق كلما قصرن عن المشي ضربنا(بن)حتى أوقفونا بين يدي يزيد،فتقدمت إليه و هو على سرير مملكته،و قلت له ما ظنك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو يرانا على هذه الصفة؟فبكى و بكى كل من كان حاضرا في مجلسه فأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا و أكتافنا و روي عن المنهال بن عمر قال بينما أتمشى في السوق من دمشق و إذا أنا بعلي بن الحسين عليه السّلام يتوكأ على عصا و رجلاه كأنهما قصبتان و الدم يسيل من ساقيه،و الصفرة قد أزدادت من عليه فخنقتني العبرة فأعترضته و قلت كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟قال فبكى و قال كيف حال من أصبح أسيرا ليزيد بن معاوية،و نسائي الى الآن ما شبعن بطهور لهن و لا كسين رؤسهن نائحات الليل و النهار و نحن يا منهال كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبنائهم و يستحيون نسائهم ؛أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمدا عربيّ؛و أمست قريش تفتخر على العرب بأن محمدا منهم،و أمسينا معشر أهل البيت مغصوبين مقتلين مشردين؛ما يدعونا إليه مرة إلا نظن القتل إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،قلت سيدي و إلى أين تريد؟قال المحبس الذي نحن فيه ليس له سقف و الشمس تصهرنا به و لا نرى الهوى فأفر منه لضعف بدني سويعة،و أرجع خشية على النساء

ص:176

فبينما هو يخاطبني و أخاطبه و إذا بإمرأة تناديه،فتركني و رجع اليها فحققت النظر إليها و إذا بها زينب بنت علي عليه السّلام تدعوه إلى أين تمضي يا قرة عيني؟فرجع و انحرفت عنه؛و لم أزل أذكره و أبكي.

و روي عن الطرماح بن عدي رضب اللّه عنه قال كنت من قتلاء كربلاء و قد بقي فيّ رمق من الحياة؛و لو حلفت لكنت صادقا إذ رأيت بعد عشرات متتابعات عشرين فارسا لهم نور شعشعاني و كلهم ذو ثياب بيض يفوح منها رائحة المسك و العنبر،فقلت في نفسي هذا ابن زياد و قد أقبل بطلب جسد الحسين عليه السّلام ليمثل به،فجاؤا حتى نزلوا بين القتلى ثم أن المتقدم أتى إلى الحسين و جلس عنده و أجلسه و سنده إلى صدره و أومى إلى نحو الكوفة بيده فما ردها إلا و بها رأس الحسين عليه السّلام،فركبه على الجسد كما كان أولا فطار عقلي و قلت ليس ابن زياد قادرا على هذا فتأملته فإذا هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؛فقال السّلام عليك يا ولدي فقال و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته يا جداه،قال كيف ولدي قتلوك؟أ تراهم ما عرفوك و من الماء منعوك و عن حرم جدكّ أحرجوك ويلهم أ لا أخبرتهم بحسبك عسى يرقوا بحالك،فبكى و قال يا جداه أخبرتكم فقالوا نعرفك حق المعرفة و لكن نقتلك ظلما و عدوانا فقال عليه السّلام يا أبي آدم و يا أبي نوح،و يا أبي إبراهيم؛و يا أخي إسماعيل،و يا أخي موسى،و يا أخي عيسى، فأجابوه بالتلبية:أنظروا إلى ما فعلت أشقى أمتي من بعدي بعترتي،و لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة فقالوا آمين اللهم آمين،فجعلوا يبكون و يعزون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زمانا طويلا،و هو يحث التراب على رأسه و شيبته الطاهرة و الحسين يقص عليه ما صدر و ما عملوه فيه حتى غشي عليه من البكاء و أنا أسمعهم و أشاهدهم،ففارقوه و انطرح كما كان ميتا اولا.و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ذات يوم جالسا و غذا بالحسين عليه السّلام مقبلا طفلا، فأخذه على فخذه الأيمن،و أتى بولده إبراهيم فوضعه على فخذه الأيسر و جعل يقبل هذا على فمه و هذا بحلقه و شفتيه و هو مشغوف بهما،فإذا جبرئيل قد انحدر عليه و قال يا محمد إنّ اللّه تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما و لكنه عز و جل يريد يأخذ روح أحدهما فأختر أيهما شئت،فقال في نفسه إذا مات إبراهيم بكيت أنا وحدي و إذا مات الحسين بكيت عليه انا و علي و فاطمة،يا أخي جبرئيل موت إبراهيم خير لي فمات بعد ثلاثة ايام،فكان بعد ذلك كلما جاء الحسين عليه السّلام قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهلا و سهلا و مرحبا بمن فديته بولدي إبراهيم.

و روي أن الحريم لمّا أدخلن في السبي إلى يزيد بن ماوية لعنه اللّه كان يطاع فيهن و يسأل عن كل واحدة بعينها و هن مربقات بحبل طويل و زجر بن قيس لعنه اللّه يجرهن حتى اقبلت امرأة كانت تستر وجهها بزندها لأنها لم يكن لها خرقة تستر بها وجهها،فقال من هذه التي ليس لها

ص:177

ستر؟قالوا سكينة بنت الحسين؛قال انت سكينة؟فسالت دموعها على خدّها و أختنقت بعبرتها فسكت عنها حتى كادت تطلع روحها من البكاء،فقال لها و ما يبكيك؟قالت كيف لا تبكي من ليس لها ستر تستر وجهها و رأسها عنك و عن جلسائك،فبكى يزيد و أهل مجلسه؛ثم قال لعن اللّه عبيد اللّه بن زياد ما اقسى قلبه على آل الرسول،ثم أقبل إليها و قال إرحعي مع النسوة حتى آمر بكن بأمري فقالت يا يزيد إنّ بكائي أكثره من طيف رأيته الليلة،قال قصيه علي فأمر السائق في الوقوف،فقالت إني لم أنم منذ قتل ابي الحسين لأني لم أتمكن من الركوب على ظهر أدبر أعجف هذا،و كلما عثر بي يقهرني هذا زجر بن قيس بالسوط،فلم أر من يخلصني منه فلعنه يزيد و جلسائه؛ثم قالت رقدت الليلة و إذا أرى قصرا من نور شرايفه الياقوت و اركانه من الزبرجد و أبوابه من العود القماري،فبينا انا أنظر إليه و إذا ببابه قد فتحت فخرج منها خمس مشايخ يقدمهم وصيف (1)فتقدمت إليه فقلت له لمن هذا القصر؟فقال لأبيك الحسين؛فقلت و من هؤلاء المشايخ؟فقال هذا آدم،و ذاك نوح؛و هذا إبراهيم،و(هذا)موسى و(هذا)عيسى فبينما انا أنظر إلى كلامه و إلى القصر إذ أقبل رجل قمري الوجه قابضا على لحيته هما و أسفا حزينا كئيبا فقلت و من هذا؟قال أما تعرفيه؟فقلت لا قال هذا جدك المصطفى،فدنوت منه و قلت يا جداه قتلت و اللّه رجالنا؛و ذبحت أطفالنا و هتكت حريمنا؛يا جدنا لو رأيتنا على الأقتاب بغير وطاء و لا غطاء و لا حجاب ينظر إلينا البر و الفاجر لرأيت أمرا عظيما و خطبا جسيما،فأحنى علي و ضمني إلى صدره و بكى بكاءا شديدا،و أنا احكيه(حاكيه خ)بهذا و أمثاله،فقالت لي تلك الأنبياء غضي من صوتك يا بنت الصفوة فقد اوجعت قلوبنا و قلب سيدنا و ابكيته و ابكيتنا.

فأخذ الوصيف بيدي و أدخلني إلى القصر و إذا بخمس نسوة و بينهن امرأة ناشرة شعرها على كتفيها و عليها ثياب سود،و بيدها ثوب مضمخ بالدّم،إذا قامت قمن لقيامها،و إذا جلست جلسن معها لجلوسها،لاطمة خدّيها جارية دمعتها و هي تنوح و النساء تجيبها بذلك فقلت للوصيف و من هؤلاء النسوة؟فقالت يا سكينة هذه حوّى،و هذه مريم و التي عندها آسيا بنت مزاحم،و هذه أم موسى؛و خديجة الكبرى،فقلت و صاحبة القميص المضرج بالدماء،قال جدتك فاطمة الزهراء؛فدنوت منها فقلت السّلام عليك يا جدتاه،و رفعت رأسها و قالت سكينة ؟قلت نعم،فقامت لاطمة معولة فقالت أدن مني فضمتني إلى صدرها،فقلت يا جدتي على صغر سني أيتمت،فقالت و اويلتا و امهجة قلباه من أحنا عليكن من بعد القتل،من جمعكن عن الشتات آن الرحيل أخبريني يا سكينة عن حال العليل،فقلت يا جدتاه مرارا كثيرة أرادوا قتله

ص:178


1- (1) قد يطلق الوصيف على الخادم غلاما كان أو جارية.

فدفعهم منه علته لأنه مكبوب على وجهه،سلبوه ثيابه لا يطيق النهوض و لو تراه عينك حين اركبوه على ظهر اعجل ادبر و قيدوا عنقه بقيد ثقيل؛فبكى فقلنا له ما يبكيك؟قال إذا رأيت قيدي هذا ذكرت أغلال أهل النار،فسألناهم بفكه فقيدوا رجله من تحت بطن الناقة و إذا بفخذه يسيل دما و قيحا،باكيا نهاره و ليله إن نظر إلى رأس أبيه و رأس الأنصار مشهرين،و إن نظر إلينا عاريات مكشفات،فكلما رأى ذلك إزداد البكاء،فلطمت على وجهها و نادت و اولداه وا ضيعتاه هكذا صدر عليكم من بعدنا،ثمّ إنها قالت و بجسد القتيل من غسله من كفنّه من صلى عليه من دفنه من زاره؟فقلت لم يكن له غسل غير دموعنا،و كفنته السّوافي من رمالها؛و رحلنا عنه و زوارها الطير و الوحش؛فنادت و احسناه و اولداه و اقلة ناصراه هذا و النساء باكيات معولات لإعوالها،ثم نظرن إليّ و قلن له مهلا يا بنت الصفوة لقد أهلكت سيدتنا و أهلكتنا،فانتبهت من رقدتي هذه و يزيد و جلستوه و أمراء بني أمية يبكون،فأمرهن بالأنصراف فانصرفن.

روينا في تفسير قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه رأى ساق العرش و الأسماء عليه،فلقنه جبرئيل،فقال قل:يا حميد بحق محمد يا علي بحق علي يا فاطر بحق فاطمة يا محسن بحق الحسن،يا صاحب(قديم خ)الإحسان بحق الحسين؛فسالت دموعه و انخشع قلبه، و قال يا أخي جبرئيل في ذكرى الخامس ينخشع قلبي و تسيل عبرتي،قال جبرئيل ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب،فقال يا أخي و ما هي؟قال يقتل عطشانا غريبا وحيدا فريدا ؛ليس له ناصر و لا معين و لو تراه يا آدم ينادي و اعطشاه و اقلة ناصراه حتى يحول العطش بينه و بين السماء كالدخان فلم يجبه أحد إلا بالسيوف و شرب الحتوف فيذبح ذبح(كما يذبح خ)الشاة من قفاه و يشهر رؤوسهم هو و أنصاره في البلدان و معهم تؤخذ النسوان،سبق يأخي في علم الواحد المنان،فبكى مع جبرئيل بكاء المثكولة و الثكيل.

و روينا حديث الجمال لعنه اللّه بإسناده(نا)إلى سعيد بن المسيّب قال لما استشهد مولانا أبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام و حج الناس من قابل دخلت على مولاي علي بن الحسين عليه السّلام فقلت له يا مولاي قد قرب الحج فما تأمرني؟فقال إمض عاى نيتك فحج فحججت فبينما أنا أطوف في الكعبة و إذا برجل مقطوع اليدين و وجهه كقطع الليل المظلم و هو متعلق بأستار الكعبة و هو يقول اللهم رب هذا البيت الحرام إغفر لي و ما أحسبك تفعل في سكان سماواتك و أرضك و جميع ما خلقت لعظم جرمي،و قال سعيد بن المسيّب فشغلت و شغل الناس عن الطواف حتى حف به الناس و اجتمعنا عليه؛فقلت أيا ويلك لو كنت إبليس لما كان ينبغي لك أن تيأس من رحمة اللّه فما أنت و ما ذنبك؟فبكى و قال يا قوم أنا أعرف بنفسي و ذنبي و ما جنيت فقالوا له تذكره لنا فقال أنا كنت جمالا لأبي عبد اللّه عليه السّلام لما خرج من المدينة إلى العراق و كنت

ص:179

اراه إذا أراد الوضوء للصلاة يضع سراويله عندي،فأرى تكة تغشي الابصار بحسن إشراقها و ألوانها،و كنت أتمناها أن تكون لي؛إلى أن صرنا بكربلاء فقتل الحسين عليه السّلام و هي معه؛ فدفنت نفسي في مكان من الأرض فلم أطلب أنا و أمثالي،فلما جن الليل خرجت من مكاني فرأيت في تلك المعركة نورا لا ظلمة،و نهارا لا ليلا،و القتلى مطروحون(حين)على وجه الأرض،فذكرت لحيتي و شقائي التّكّة فقلت و اللّه لأطلبن الحسين عليه السّلام و أرجو أن تكون التّكّة في سراويله فآخذها،و لم أزل أنظر في وجوه القتلى حتى أتيت إلى الحسين عليه السّلام، فوجدته مكبوبا على وجهه و هو جثة بلا رأس و نوره مشرق مرمل بدمائه و الرياح سافية عليه، هذا و اللّه الحسين عليه السّلام،فنظرت إلى سراويله كما كنت أراها،فدنوت منه فضربت يدي إلى التّكّة لآخذها،فإذا هو قد عقدها عقدا كثيرة فلم أزل أحلها حتى حللت عقدة منها فمد يده اليمنى و قبض على التّكّة فلم أقدر على أخذ يده عنها و لا أصل إليها،فدعتني النفس الملعونة إلى أن أطلب شيئا أقطع به يده فوجدت قطعة سيف مطروح فاخذتها،فلم أزل أجزّ يده حتى فصلتها عن زنده،ثم نحّيتها عن التّكّة،فمددت يدي إلى التّكّة لأحلها فمد يده اليسرى فقبض عليها فلم أقدر على أخذها،فأخذت قطعة السيف و قطعتها بها،فمددت يدي إلى التّكّة لآخذها و إذا بالأرض ترجف و السماء تهتزّ و إذا بغلبة(بغلغلة)عظيمة و بكاء و نداء،يقول يا ابناه يا مقتولاه وا ذبيحاه،وا حسيناه وا غريباه،يا بني قتلوك و ما عرفوك و من شرب الماء منعوك؛و ما عرفوا جدك و أباك،فلما رأيت ذلك صعقت و رميت نفسي بين القتلى و إذا بثلاث نفر و امراة تقول:

ألا يا نور عيني يا حسينا فمن قطع اليسار مع اليمينا

و من أرادك في البيداء طريحا و من أيتم بناتك و البنينا

و من سلب الثياب أيا حبيبي و يا ذخري و يا عيني اليمينا

عفيرا بالتراب بغير رأس خضيب النّحر متلول الجبينا

فمن أوصيت بعدك باليتامى و من لسكينة حصنا حصينا

و من للثاكلات و للضيّاعا(للصبايا) لقد أضحوا بأيدي الكافرينا

يعز علي ان ألقاك ملقى بلا غسل و لا كفن رهينا

أيا روحي لقد طوّلت حزني لقتلك يا ابن خير العالمينا

لمقتله بكت املاك ربي و حور العين يبكي و الأمينا

لقد أورثتني حزنا طويلا على طول الليالي و السّنينا

فآه لما جرى لك يا حبيبي نساؤك حاسرات مجررينا

ص:180

فنوحوا و اندبوا مولا قتيلا حبيب رسول رب العالمينا

و قد امتلأت الأرض و حولها خلايق وقوفا؛و قد امتلأت الأرض بصور الناس و أجنحة الملائكة،و إذا بواحد منهم يقول يا إبناه يا حسين فدائك جدك و أبوك و امك و اخوك،و إذا بالحسين عليه السّلام و رأسه على بدنه،و هو يقول يا جداه يا رسول اللّه،و يا أبتاه يا امير المؤمنين ،و يا أماه يا فاطمة الزهراء،و يا أخاه المقتول بالسم قبلي،عليكم مني السّلام،ثمّ إنه بكى و قال يا جداه قتلوا و اللّه رجالنا يا جداه سلبوا و اللّه نسائنا يا جداه؛نهبوا و اللّه رحالنا يا جداه ذبحوا و اللّه أطفالنا يا جداه،يعز و اللّه عليك أن ترى رحالنا و ما فعل الكفار بنا و إذا بهم قد جلسوا حوله يبكون على ما أصابهم من الكفار و فاطمة تقول يا اباه يا رسول اللّه أما ترى ما فعل أمتك بولدي، أ تأذن لي أن آخذ من دم شيبه و اخضب به ناصيتي و القى اللّه عزّ و جلّ و أنا متخضبة(مختضبة) بدم ولدي الحسين؟فقال لها خذي و نأخذ يا فاطمة،فرأيتهم يأخذون من دم شيبه و تمسح به فاطمة ناصيتها و النبي و علي و الحسن يمسحون به نحورهم و صدورهم و أيديهم إلى المرافق، و سمعت فاطمة الزهراء تقول و هي مقروحة الفؤاد يا بني من الذي قطع رأسك الشريف؛يا بنيّ من ذا الذي رضّ لصدرك العفيف،يا بني من ذا الذي أيتم أطفالك،يا بني من ذا الذي قتل رجالك،قال و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول له فديتك يا حسين يعز عليّ و اللّه ان أراك مقطوع الرأس،مرمل الجبين؛دامي النحر مكبوبا على قفاك قد كستك الذواري من الرمل(مول)و أنت طريح مقتول مقطوع الكفين،يا بني من قطع يدك اليمنى و ثنى باليسرى؟ فقال يا جداه كان معي جمّال من المدينة و كان يراني إذا وضعت سراويلي للوضوء فيتمنّى أن يكون له؛فما منعني أن أدفعها إليه إلاّ لعلمي أنّه صاحب هذا الفعل فلما قتلت خرج يطلبني من بين القتلى،فوجدني جثة بلا رأس فتفقد سراويلي فوجد فأى التّكّة و قد كنت عقدتها عقدا كثيرة ،فضرب يده ألى التّكّة فحلّ عقدة منها فمددت يدي اليمنى فقبضت على التّكّة،فطلب المعركة فوجد قطعة سيف فقطع به يميني ثمّ حلّ عقدة أخرى فقبضت على التّكّة بيدي اليسرى لئلا يحلها فتنكشف عورتي،فجزّ يدي اليسرى؛فلما أراد حلّ التّكّة حسّ بك فرمى نفسه بين القتلى،فلما سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلام الحسين عليه السّلام بكى بكاءا شديدا و أتى بين القتلى إلى أن وقف نحوي و قال:ما لي و مالك يا جمّال،تقطع أيدا طالما قبّلها جبرئيل عليه السّلام و ملائكة اللّه أجمعين و تبرّكت بها أهل السماوات و الأرض،أما كفاك ما صنع به الملاعين من الذلّ و الهوان،هتكوا نساءه بعد الخدر و انسباك السّتور و قد سلبهن الأعداء و سود اللّه وجهك يا جمّال في الدنيا و الآخرة،و قطع اللّه يديك و رجليك و جعلك في حزب من سفك دماءنا

ص:181

و جزاؤك على اللّه،فما أستتم دعاؤه حتى شلت يداي و حسبت بوجهي كأنه ألبس قطعا من الليل مظلما،و بقيت على هذه الحالة،فجئت إلى هذا البيت أستشفع و أنا أعلم أنّه لا يغفر لي أبدا فلم يبق في مكة أحد إلا و سمع حديثه و تقرب إلى اللّه بلعنه،و كل يقول حسبك ما جنيت بالعين.

و روينا أنّ آدم عليه السّلام لمّا نزل إلى الأرض فلم ير حوّاء فصار يطوف الأرض في طلبها ؛فمرّ بكربلاء فأعتلّ و ضاق صدره من غير سبب،و عثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين عليه السّلام حتى سال الدم من رجله؛فرفع رأسه إلى السماء و قال إلهى هل حدث مني ذنب آخر فعاقبتني به؟فإني طفت جميع الأرض فما أصابني ما أصابني في هذه الأرض،فأوحى اللّه إليه يا آدم ما حدث منك ذنب و لكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلما فسال دمك موافقة لدم الحسين،فقال آدم يا رب أ يكون الحسين نبيا؟قال لا و لكنه سبط النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم،و قال من القاتل له؟قال قاتله يزيد لعين أهل السماوات و اهل الأرض،قال آدم فأي شيء أصنع يا جبرئيل؟فقال إلعنه،فلعنه آدم أربع مرات و مشى أربع خطوات إلى جبل عرفات بقدرة رافع السماوات فوجد حوّى هناك.

و إنّ نوحا عليه السّلام ركب في السفينة و طافت به جميع الدنيا،فلما مرت السفينة بكربلاء أخذته إلى الأرض و خاف نوح من الغرق؛فدعى ربّه و قال إلهي هل حدث مني ذنب؟فإنّي طفت جميع الدنيا فما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض،فنزل إليه جبرئيل و قال له يا نوح في هذا الموضع يقتل الحسين سبط محمد خاتم الأنبياء و ابن خاتم الأوصياء،قال و من القاتل له يا جبرئيل؟قال قاتله لعين أهل السماوات السبع و الأرضين السبع،فلعنه نوح عليه السّلام،أربع مرات فسارت السفينة حتى بلغت الجودى و استقرّت عليه.

و إنّ إبراهيم عليه السّلام مرّ في أرض كربلاء و هو راكب فرسا فعثر الفرس و سقط إبراهيم و شجّ رأسه و سال دمه،فأخذ في الإستغفار و قال إلهي أي شيء حدث منّي؟فنزل جبرئيل و قال يا إبراهيم ما حدث منك ذنب و لكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء و ابن خاتم الأوصياء فسال دمك موافقة لدمه.قال يا جبرئيل و من يكون قاتله؟قال قاتله لعين أهل السماوات و الأرضين،و القلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربّه،فأوحى اللّه تعالى إلى القلم أنّك استحققت الثناء بهذا اللّعن،فرفع إبراهيم عليه السّلام يده و لعن يزيد لعنا كثيرا و أمّن فرسه بلسان فصيح،فقال إبراهيم عليه السّلام لفرسه أي شيء عرفت حتى تؤمّن على إبراهيم؟فقال يا إبراهيم؟فقال يا إبراهيم أنا أفتخر بركوبك عليّ؛فلما عثرت و سقطت عن ظهري عظمت خجلتي و كان سبب ذلك من يزيد لعنه اللّه تعالى.

ص:182

و إنّ إسماعيل عليه السّلام كانت أغنامه ترعى بشط الفرات فأخبره الراعي أنّها لا تشرب من هذه المشرعة منذ كذا يوما،فسأل ربه عن سبب ذلك،فنزل جبرئيل عليه السّلام و قال يا إسماعيل إسأل غنمك فإنّها تجيبك عن سبب امتناعها من شرب الماء،فقال لها لم لا تشربين من هذا الماء؟فقالت بلسان فصيح قد بلغنا أنّ ولدك الحسين يقتل هنا عطشانا فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزنا عليه،فسأل عن قاتله؛فقالت يقتله،لعين أهل السماوات و الأرضين و الخلائق أجمعين،فقال إسماعيل عليه السّلام اللهم إلعن قاتل الحسين عليه السّلام و إنّ موسى عليه السّلام كان ذات يوم سائرا و معه يوشع بن نون،فلما جاء إلى أرض كربلاء إنخرق نعله و انقطع شراكه دخل الخسك في رجليه و سال دمه،فقال إلهي أيّ حدث مني؟فأوحى اللّه إليه أنّ هنا يقتل الحسين عليه السّلام و هنا يسفك دمه فسال دمك موافقة لدمه،فقال ربّ و من يكون الحسين؟فقيل هو سبط محمد المصطفى و ابن علي المرتضى فقال و من يكون قاتله؟فقال هو لعين السمك في البحار و الوحوش في القفار و الطيور في الهوى،فرفع موسى يده و لعن(قال إلهي إلعن)يزيد و دعا عليه و أمّن يوشع بن نون على دعاءه و مضى لشأنه؛

و إنّ سليمان عليه السّلام كان يجلس على بساطه و يسير بالهواء؛فمر ذات يوم و هو سائر في أرض كربلاء فدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خافوا السقوط،فسكنت الريح و نزل البساط في الأرض كربلاء؛فقال سليمان لللائح لم سكنت؟فقالت إنّ هنا يقتل الحسين عليه السّلام؛فقال و من يكون الحسين؟قالت هو سبط محمد المختار و ابن علي الكرار قال و من قاتله ؟قالت يقتله لعين أهل السماوات و الأرض،فرفع يده سليمان و لعن يزيد و أمّن دعاءه الإنس و الجنّ فهبت الريح و سار البساط

و إنّ عيسى عليه السّلام كان سايحا في البراري و معه الحواريون فمرّ بأرض كربلاء فرأى أسدا كاشرا قد أخذ الطريق،فتقدم عيسى عليه السّلام إلى الأسد و قال له لم جلست في هذا الطريق و لا تدعنا نمر؟فقال الأسد بلسان فصيح إنّي لم أدع بكم الطريق حتى تلعنوا يزيد قاتل الحسين عليه السّلام،فقال عيسى عليه السّلام و من يكون الحسين؟قال هو سبط محمد النبي الأمّي و ابن علي الولي،قال و من القاتل له؟قال قاتله لعين الوحوش و الذئاب و السباع أجمع خصوصا في أيام عاشوراء؛فرفع عيسى عليه السّلام يده و لعن يزيد و دعا عليه و أمّن الحواريين على دعاءه فتنحى الأسد عن طريقهم و مضوا لشأنهم.

و روى الكليني طاب ثراه بإسناده إلى إدريسبن عبد اللّه الأودي قال لمّا قتل الحسين عليه السّلام أراد القوم أن يوطئوه الخيل،فقالت فضة لزينب يا سيدتي إنّ سفينة و هو مولى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنكسرت به سفينة في البحر فطاف على خشبة من الماء فخرج إلى

ص:183

جزيرة،فرأى أسدا مقبلا فأتى الأسد و قال يا أبا الحرث أنا مولى رسول اللّه؛فهمهم بين يديه حتى أوقفه على الطريق،و الأسد رابض في ناحية فدعني أمضي إليه و أعلمه ما هم صانعون غدا ،قال فمضيت إليه،فقالت يا أبا الحرث؛فرفع رأسه ثمّ قالت أ تدري ما يريدون يعملوا(يفعلوا) غدا بأبي عبد اللّه عليه السّلام؟يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره،قال فمشى حتى وضع يديه على جسد الحسين عليه السّلام،فأقبلت الخيل فلما نظروا إليه قال لهم عمر بن سعد لعنه اللّه هذه فتنة لا تثيروها إنصرفوا فانصرفوا.

قال مؤلف هذا الكتاب عفى اللّه عنه قد تقدّم أنّهم أوطأوه الخيل،و لا منافاة بينهما لجواز أن يكون في يوم مجيء الأسد لم يوطأوه الخيل و أوطأوه بعد ذلك،و في إرشاد المفيد ره، أنّه لما ام يبق احد مع الحسين عليه السّلام دعا بسراويل يمان يلمع فيه البصر ففرزه(فغرزه)لكيلا يسلب من بعد قتله،فلمّا قتل عمد بحر بن كلب فسلبه السراويل و تركه مجردا،و كانت يدا بحر بن كعب ييبسان في الصيف كأنهما عودان:و يرطبان في الشتاء فينضحان دما و قيحا ألى أن أهلكه اللّه تعالى؛و الأخبار الواردة بهذا المضمون كثيرة جدا.

و امّا من قتل مع الحسين عليه السّلام من أهل بيته فقال شيخنا المفيد نوّر اللّه ضريحه هم ثمانية عشر:و هم العبّاس و عبد اللّه و جعفر و عثمان بنو أمير المؤمنين عليه السّلام؛أمّهم أم البنين بنت حزام الكلابية؛و عبيد اله و أبو بكر ابنا أمير المؤمنين عليه السّلام؛أمّهما ليلى الثقفية،و علي و عبد اللّه إبنا الحسين بن علي عليه السّلام؛و القاسم و أبو بكر و عبد اللّه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السّلام؛و عبد اللّه و جعفر و عبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب و عبد اللّه بن مسلم بن عقيل و محمد بن عقيل بن أبي طالب عليه السّلام و محمد و عون ابنا عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب،فهؤلاء ثمانية عشر نفسا من بني هاشم و هم كلهم مدفونون مما يلي رجلي الحسين عليه السّلام إلاّ العبّاس فإنّه دفن موضع قتله.

و أما أصحاب الحسين عليه السّلام الذين قتلوا معه فإنّهم دفنوا حوله؛و لسنا نحصل لهم أجداثا على التحقيق و التفصيل غير أنّا لا نشك في أنّ الحائر محيط بهم،هذا كلامه ره،اقول قد ترك ره ذكر الحر فإنه من الشهداء و ليس هو ممّا يحيط به الحاير الشريف بل هو بعيد عن قبر مولانا الحسين عليه السّلام بفرسخ و أزيد و قبره الآن معروف يزوره بعض النّاس،و بعض الخواص من الشيعة و العلماء يترك زيارته،بل ربما سمعت بعض محدثي الشيعة لعنه و الطعن عليه تعويلا على أنّه قطع عليه بالأرتداد الفطري،و مثل هذا المرتد عند الأكثر لا تقبل توبته،و ما نقل من قبور الحسين عليه السّلام لها منقول بأخبار الآحاد و هو لا يعارض الإجماع،و أمّا أنا فقد أوردت

ص:184

بعض الكلمات المناسبة لهذا المقام في شرح تهذيب الحديث و لا بأس هنا بالإشارة إلى نبذة منه و هو يتم ببيان أمور:

الأول في تحقيق معنى المرتد؛فنقول الذي قاله اصحابنا رضوان اللّه عليهم أنّ المرتد هو ما أنكر ما علم ثبوته من الدين صرورة أو إثبات ما علم نفيه كذلك،أو يفعل ذلك صريحا كالسجود للصنم و نحوه،و إلقاء المصحف في القاذورات،و على هذا فالمرتد أكثر من غيره، و ذلك إنّه ما من يوم إلا و أكثر الناس يتهم اللّه قضاءه و عدله؛و غير ذلك مما يوجب الإرتداد،نعم ربّما ظهر من بعض الأخبار أنّه يشترط في مثله العلم بكونه من ضروريات الدين،و على هذا فلعل الجاهل معذور حتى يعرف و يلقي العالم إليه الحكم الشرعي لإمكان الجهل بالضروريات لكثير من النّاس؛خصوصا أهل القرى و الصحارى،و يؤيده قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النّاس في سعة مما لم يعلموا فإذا عرفت هذا فنقول:

أنّ الحر لمّا خرج من الكوفة ما كان قصده القتال مع الحسين عليه السّلام و إنّما أمره عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه بأن يأتي به إلى الكوفة؛و إمّا منعه له عن الرجوع إلى المدينة بعد أن طلب الحسين عليه السّلام أن يأذن له فيه فقد كان جاهلا بأنّ مثل هذا يخرج من الدين و يكون الرجل مرتدا به،و من ثمّ لما رجع إلى الحسين عليه السّلام و تاب حلف بأنّي ما كنت أعلم أنّ القوم يفعلون بك هذا،و قد كان صادقا في يمينه،و حينئذ فالذي صدر منه نوع من أنواع الكبائر فلما تاب منها قبل الحسين عليه السّلام توبته منها،و يؤيده أنّ كثيرا من الشيعة و من أقارب الأئمة عليهم السّلام كانوا يؤذون أئمتهم عليهم السّلام بأنواع الأذى مثل العبّاس أخو الرضا عليه السّلام و مثل اقارب مولانا الصادق عليه السّلام؛و قد كان جماعة منهم يسعون بقتلهم و إهانتهم عند خلفاء الجور و مع هذا كله إذا أراد أحد من الشيعة أن يذكرهم بسوء في مجالس الأئمة عليهم السّلام يغضبون عليهم السّلام،و يبالغون في نفيه؛و يقولون إنّ هؤلاء أقاربنا دعونا معهم لا تتعرضوا لهم بسوء من كلام خبيث و غيره؛فالذي صدر من الحر على تقدير العلم منه مثل الذي صدر من هؤلاء مع أنّ الأئمة عليهم السّلام قبلوا حالهم قبل التوبة فكيف لو تابوا.

الثاني أنّ المراد من الدين المأخوذ في التعريف إنّما هو دين الإسلام على ما صرّحوا به لا دين الشيعة فقط؛و ذلك أنّه لو كان المراد بالمرتد من أنكر ما علم ثبوته من دين الشيعة ضرورة لكان مخالفونا كلهم مرتدين في هذه الدنيا،لأنّ كون علي بن أبي طالب عليه السّلام هو الخليفة الأول بالنّص و الأستحقاق ممّا ثبت من دين الشيعة ضرورة،فكان يجب أن يحكم على كافة أهل الخلاف بالأرتداد و المصرح به من علمائنا بخلافه في هذه الدنيا،أمّا في الآخرة فعذابهم أشد من المرتد و غيره،و حينئذ منع الحسين عليه السّلام عن الرجوع إلى المدينة و إن كان حراما إلا أنّه ليس

ص:185

ضروريا من دين الإسلام و لا يقول مخالفونا بكفر مثل هذا،نعم قالوا بكفر كل من خرج على إمام عادل و حاربه و الحرّ في وقت الحرب كان لإمام عليه السّلام لا عليه،فلم يصدق عليه من هذه الجهة أيضا إسم الإرتداد.

الثالث أنّ قولهم أنّ المرتد الفطري غير مقبول التوبة لا نقبله على إطلاقه،بل نقول أنّ توبته مقبولة فيما بينه و بين اللّه تعالى كما صار إليه شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه،و حينئذ فلو لم يقدر على قتله أو تأخر قتله فتاب صحت توبته و قبلت عباداته و معملاته؛لكن لا تعود إليه زوجته و لا ماله على ما لا يخفى،و أمّا فيما بينه و بين الناس فبأن يقول أنّ ذلك النّاس الذي ثبت عندهم إرتداده إن كان غير الإمام لم يجز له العفو عنه؛كما عفا أمير المؤمنين عليه السّلام عن اهل البصرة و قبل توبة من تاب منهم،و مع أنّهم كانوا مرتديّن عن الفطرة،و كذلك قبل توبة من تاب من أهل النهروان و صفين و سائر حروبه و موارده مع صدق تعريف الإرتداد عليهم بكل الوجوه؛ و من هذا أجاب مخالفونا بزعمهم عن كل ما أوردناه عليهم إلا عن محاربة الصحابة لأمير المؤمنين عليه السّلام فإنّهم لم يقدروا عليه،بل قالوا و إمّا عن حرب الصحابة فنسكت،و بعضهم أحاله على علم اللّه تعالى القديم و إنّه كان مقدرا و علم اللّه بزعمهم هو علة للمعلول و وقوعه،و آخرون قالوا إنّهم تابوا بعد المحاربة إلى غير ذلك من الخرافات البردة و التمويهات الفاسدة.

الرابع قولهم أنّ ارتداده قطعي و توبته ظنّي(ظنية)لا يخفى ما فيه،و ذلك أنّ كل خبر و أثر تضمّن خروجه على الحسين عليه السّلام و منعه له عن الرجوع تضمّن توبته و قبول الحسين عليه السّلام لها و إنّه عليه السّلام رثاه بأبيات من الشعر و هي مشهورة،و في كتب الأحاديث و السير و التواريخ مسطورة،و قد ترحّم عليه بعد قتله،و هذا متواتر نقله الخلف عن السلف في كل عصر و أوان بحيث لا يمكن إنكاره،و لعمرك إنّ الطعن على الحر يؤول إلى الطعن على من قبل توبته و هو مولانا الحسين عليه السّلام؛و هذا هو الإرتداد الظاهر الذي لا يقبل التوبة و أعاذنا اللّه و إيّاكم من الغقدام على مثله و الجرأة عليه.

و لقد حدّثني جماعة من الثقاة أنّ الشاه إسماعيل لمّا ملك بغداد و اتى إلى مشهد الحسين عليه السّلام و سممع من بعض النّاس الطعن على الحر أتى إلى قبره و أمر بنبشه،فنبشوه فرأوه نائما كهيئته لمّا قتل؛و رأوا على رأسه عصابة مشدودا بها رأسه؛فاراد الشاه نوّر اللّه ضريحه أخذ تلك العصابة لما نقل في كتب السير و التأريخ أنّ تلك العصابة هي دسمال الحسين عليه السّلام شدّ به رأس الحر لمّا لمّا أصيب في تلك الواقعة؛و دفن على تلك الهيئة،فلمّا حلوا تلك العصابة جرى الدم(دمه)من رأسه حتى امتلأ منه القبر فلمّا شدوا عليه تلك العصابة إنقطع الدم فلمّا حلوها جرى الدم،و كلما أرادوا أن يعالجوا قطع الدم بغير تلك العصابة لم يمكنهم،فتبين لهم حسن

ص:186

حاله،فأمر فبني على قبره بناء و عين له خادما يخدم ققبره؛و الذي يجود بنفسه في ذلك الوقت الضيق و يقدم على القتل و على أن يفدي الحسين عليه السّلام بنفسه لا شكّ في أنّ حاله من أحسن الأحوال.

الخامس إنّ الذي يظهر من هذه الأخبار المعتبرة الصحيحة كما قاله الشهيد الثاني عطر اللّه مرقده هو أنّ الإرتداد كله قسم واحد و إنّه يستتاب صاحبه فإن تاب و إلا قتل،و هذا مذهب ابن جنيد طاب ثراه و الاخبار بإطلاقها أو عمومها دالة عليه و لم يدل على المشهور من التفصيل سوى رواية عمّار الساباطي و هي على ضعفها لا تقوم بتقليد الأخبار الصحيحة المتكثرة،فيكون وقت منع الحر للحسين عليه السّلام إلى وقت رجوعه إليه هو زمن الإستتابة فتاب و قبلت توبته، و بالجملة فالقول بأنّ توبة المرتد الفطري غير مقبولة حتى بينه و بين اللّه تعالى مشكل جدا،و اللّه الهادي إلى سواء السبيل.

نور في الفقر و الزهد و التوكل

الحمد للّه الذي تسبح له الرمال و يسجد له الظلال؛و يتدكدك من هيبته الجبال خلق الإنسان من الطين اللازب و الصلصال،و زيّن صورته بأحسن تقويم و أتمّ إعتداله؛و عصم قلبه بنور الهداية عن ورطات الضلال،و أذن له في قرع باب الخدمة بالغدوّ و الآصال،ثمّ كحّل بصيرة المخلص في خدمته بنور العبرة حتى لاحظ بضياءه حضرة الجلالة فلاح له من البهجة و الفلاح و البهاء و الكمال ما أستقبح دون مبادىء إشراقه كل حسن و جمال،و استثقل ما صرفه عن مشاهدته و ملازمته غاية الإستثقال و تمثل له طاهر الدنيا في صورة امرأة جميلة تميس و تختار، و انكشف له باطنها عن عجوز شوهاء عجنت من طينة الخزي و ضربت في قالب النكال،و هي متلفقة بجلبابها لتخفي قبائح أسرارها بلطائف السحر و الإحتيال؛و قد بصبت حبائلها في مدارج الرجال فهي تقتنصهم بضروب المكر و الإغتيال،ثمّ لا تجتري معهم بالخلف في مواعيد الوصال بل تقيدهم مع قطع الوصال بالسلاسل و الأغلال،و تبديهم بأنواع البلايا و الانكال،فلمذا إنكشف للعارفين منها قبائح الأسرار و الأفعال زهدوا فيما زهد المبغض لها؛فتركوا التفاخر و التكاثر بالأموال،و أقبلوا بكنه هممهم على حضرة الجلالة منها بوصال ليس له انفصال؛و مشاهدة أبدية لا يتريها فناء و لا زوال،و الصلاة على سيدنا محمد سند الأنبياء و على آله و خير آل.

أمّا بعد فإنّ الدنيا عدوة اللّه تعالى بغرورها ظلّ من ظل،و بمكرها زلّ من زل،فحبها رأس الخطيئات السيئات و بغضها أم الطاعات و رأس القربات،و قد قدمنا الكلام في بيان معناها و الآن نتكلم في تحقيق هذه الأمور الثلاثة:

ص:187

امّا الفقر فهو عبارة عن إنزواء الدنيا عن العبد و أمّا الزهد فهو إنزواء العبد عن الدنيا، و أمّا التوكل فهو تفويض العبد أموره إلى مولاه بعد أن فعل ما أوجب عليه من الأسباب،و ذلك كقول الصادق عليه السّلام التوكل أن تعقل بعيرك ثمّ تقول توكلت على اللّه في حفظه،يعني لا يكون إعتمادك في حفظه على العقال،فكم من جمل قد سرق بعقاله،و لا تترك العقال إعتمادا على التوكل فإنّ العقال جزء من مفهوم التوكل و من أكمل شروطه؛فأمّا الفقر فهو فقد ما هو محتاج إليه،فأمّا فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقرا،فدل كهذا على أنّ ماسى اللّه فهو فقير لإحتياجه إليه في دوام الوجود؛فالغنى المطلق ليس إلا هو تعالى شأنه؛و الذي أردنا بيانه هنا هو الإحتياج إلى المال و فاقده يدور على خمسة أحوال:

الأولى و هي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه و تأذّى به و هرب من أهله مبغضا له،و هذا هو الزهد،الثانية أن يكون بحيث لا يرغب فيه و لا يكرهه و هذا هو الرضا،الثالثة أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبته له فيه و لكن لم تبلغ رغبته لأن ينهض بل إن أتاه من غير طلب أخذه،و هذا يسمى قانعا إذ أقنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب.

الرابعة أن يكون تركه للطلب لعجزه و إلا فهو راغب فيه رغبة لوجود سبيلا إلى طلبه و لو بالتعب لطلبه؛و صاحب هذه الحالة يسمّى الحريص،الخامسة أن يكون ما فقده من المال مضطرا إليه كالجائع الفاقد للخبز؛و تسمى هذه لحالة مضطرا.

فأعلى هذه الأحوال هو الزهد،نعم إذا انضمّ الزهد إلى الإضطرار كان هو الأعلى؛ و فوق هذه الحالات كلها حالة أخرى أعلى من الزهد:و هي أن يستوي عنده وجود المال و فقده، و تسمى هذه الحالة غناء النفس و هي التي أشار إليها المسيح عليه السّلام بقوله خادمي يداي، و دابتي رجلاي،و فراشي الأرض و وسادي الحجر،و دفئي في الشتاء مشارق الأرض و سراجي بالليل القمر،و أدامي الجوع،و شعاري الخوف،و لباسي الصوف،و فاكهتي و ريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش و الأنعام،أبيت و ليس لي شيء؛و أصبح و ليس لي شيء؛و ليس على وجه الأرض أحد اغنى مني،و الزهد الذي هو أعلى درجة الأبرار ذنب بالنسبة إلى صاحب هذه المرتبة السادسة،لقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسنات الأبرار سيئات المقربين.

و قد حقق هذا المعنى بعض أرباب القلوب بأنّ الكاره للدنيا و هي درجة الزهد مشغول بكراهتها كما أنّ الراغب فيها مشغول بها،و الشغل بما سوى اللّه حجاب عنه،لأنّ لا حجاب بينك و بينه سوى شغلك بغيره،كما قال عليه السّلام يا من كان الحاجب للعباد عنه هم العباد، يعني به أنّ الحاجب للعباد عن اللّه سبحانه هو أنفسهم و ما أقترفوه من المعاصي و أتوابه من الشغل بغيره؛فكل مشغول عن اللّه بغيره سواء كان يحب الدنيا أو يبغضها يكون ذلك الشاغل حاجبا له

ص:188

عن ذلك الجناب،و كثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق و المعشوق فإن إلتفت قلب العاشق إلى الرقيب و إلى بغضه و استثقاله فهو في حالة اشتغال قلبه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه؛و لو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق و لم يلتفت إليه،فكما أنّ النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق و نقص فيه فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه و نقص،و لكنّ أحدهما أخفّ من الآخر،بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب؛بغضا و حبّا،فإنّه لا يجتمع في القلب حبّان في حالة واحدة فلا يجتمع أيضا بغض و حب في حالة واحدة؛فالمشغول ببعض الدنيا غافل عن اللّه تعالى كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل و هو في غفلته سألك في طريق البعد و المشغول ببعضها غافل لكنه سالك في طريق القرب، فالكمال له متوقع؛و مثالهما كرجلين في طريق الحج مشغولين بعلف الناقة و ركوبها لكن أحدهما مستقبل القبلة و اليخر مستدبرها،فكلاهما محجوب عن الكعبة إلا أنّ الأول يرجى له الوصول بخلاف الثاني فالاول حاله محمودة بالنظر إلى الثاني و إن كانت ناقصة بالنسبة إلى من هو مقيم على الإعتكاف في الكعبة،و لذلك قيل من زهد في الدنيا و اقتصر عليه فقد استعجل الراحة،فظهر من هذا كله أنّ الزهد الذي هو عدم الرغبة في الدنيا كمال بالإضافة إلى الراضي و القانع و الحريص نقصان بالنسبة إلى غناء النفس.

و اعلم أنّ اسم الفقر يطلق على المراتب الخمسة الأولى؛و أما السادسة فإن أطلق عليها اسم الفقر فإنما يراد بها الفقر إلى اللّه سبحانه لأنّه معنى من معاني الفقير،و حينئذ لا منافاة بين قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم إني أعوذ بك من الفقر،و قوله كاد الفقر أن يكون كفرا؛و بين قوله اللهم أحيني مسكينا و امتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين إذ فقر المضطر هو الذي إستعاذ منه،و الإفتقار إلى اللّه عز و جلّ هو الذي سأله،فلا منافاة.

أقول و الأولى في رفع المنافاة التفريع على ما سبق؛و هو أن من درجات الفقر و إطلاقاته و حالاته الإضطرار و هو شدة ما يحتاج إليه من الأموال و المعايش و منه أيضا درجة الرضا؛و هو كما عرفت أن يكون بحيث لا يرغب منه و لا يكرهه،فيكون كل واحد من الحديثين منزّلا على درجة من درجات الفقر.

أمّا حديث الإستعاذة من الفقر فهو منزّل على درحة الإضطرار،فإنّ الإنسان ربما لم يقدر معها على القيام بوظائف العبودية كما تقدم من أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاع في بعض أوقاته فاضطجع على قفاه و لم يتمكن من القيام للصلاة،فكان يقول اللهم إني أعوذ بك من جوع يضجعني على الفراش و ينسيني ذكرك،و هذا المعنى هو المراد من قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام صارعت كل شيء فغلبته،و صارعني الفقر فغلبني.

ص:189

و روي أنّه لمّا جاء إعرابي إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال إنّي مأخوذ بثلاث علل:علّة النفس،و علّة الفقر،و علّة الجهل،فأجابه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال يا أخا العرب علّة النفس تعرض على الطبيب،و علّة الجهل تعرض على العالم؛و علة الفقر تعرض على الكريم؛فقال الأعرابي يا أمير المؤمنين أنت الكريم و أنت العالم و أنت الطبيب؛فأمر له أمير المؤمنين عليه السّلام بأن يعطى من بيت المال ثلاثة آلاف درهم،و قال تنفق ألفا بعلة النفس،و ألفا بعلة الجهل،و ألفا بعلة الفقر.

و أمّا الدرجة التي طلبها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهي درجة القناعة و الرضا المشار إليها بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم ارزق آل محمد الكفاف،و قوله اللهم لا تعطني قليلا فأشقى و لا كثيرا فأطغى و الشقاء هنا بمعنى التعب من باب قوله تعالى طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، نزلت بعد أن كان يصلي عليه السّلام كل الليل فورمت قدماه و تعب من جهة العبادة،و هو المراد أيضا من قوله عليه السّلام إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين،و إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته،و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

و من هذا الباب ما رواه شيخنا الكليني(ره)عن النوفلي(ره)رفعه إلى علي بن الحسين عليه السّلام قال مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم براعي إبل فبعث يستسقيه،فقال أمّا ما في ضروعها فصبوح الحي،و أما ما في آنيتها فغبوقهم،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم أكثر ماله و ولده ثمّ مرّ براعي غنم فبعث يستسقيه،فجلب له ما في ضروعها و أكفأ ما في إنائه في إناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعث إليه بشاة؛فقال هذا ما عندنا و إن احببت أن نزيدك زوّدناك،قال فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم ارزقه الكفاف،فقال له بعض أصحابه يا رسول اللّه دعوت للذي ردّك بعاء عامتنا نحبه و دعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قلّ و كفى خير من ما كثر و ألهى، اللهم ارزق محمدا و آل محمد الكفاف.

و روي عن عمران بن حصين أنّه قال كانت لي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزلة و جاء فقال يا عمران إنّ لك عندنا منزلة و جاها فهل لك في عبادة فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت نعم بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه؛فقام و قمت معه حتى وقف بباب فاطمة عليها السّلام فقرع الباب و قال السّلام عليكم أدخل،فقالت فاطمة أدخل يا رسول اللّه؛قال أنا و من معي؟قالت و من معك يا رسول اللّه؟قال عمران قالت فاطمة و الذي بعثك بالحق نبيا ما عليّ إلا عباءة قال اصنعي بها هكذا و هكذا اشار بيده؛قالت هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي؟فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلفه فقال شدي بها على رأسك،ثم أذنت له،

ص:190

فدخل فقال السّلام عليكم يا بنتاه كيف أصبحت؟قالت أصبحت و اللّه وجعة و زادني وجعا على ما بي أنّي لست أقدر على طعام آكله فقد أضرني الجوع،فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لا تجزعي يا بنتاه و اللّه ما ذقت طعاما منذ ثلاث،و إنّي لأكرم على اللّه منك و لو سألت ربي لأطعمني و لكني آثرت الآخرة على الدنيا،ثمّ ضرب بيده على منكبها و قال لها أبشرى فو اللّه إنّك لسيدة نساء أهل الجنّة،قالت فأين آسية امرأة فرعون و مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد؟قال آسية سيدة نساء عالمها،و مريم سيدة نساء عالمها،و خديجة سيدة نساء عالمها،و أنت سيدة نساء عالمك إنّكن في بيوت من قصب لا أذى فيها و لا صخب و لا نصب،ثمّ؛قال لها اقنعي بابن عمك فو اللّه لقد زوجتك سيدا في الدنيا و سيدا في الآخرة روى هذا الحديث الغزالي و غيره؛و مع هذا ذهبوا إلى عايشة أفضل من فاطمة،و هذا ليس بأوّل قارورة كسرت في الأسلام.

و عن أبي الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يدخل فقراء المسلمين الجنّة قبل الأغنياء بخمسئة عام حتى أن الرجل من الأغنياء يدخل في غماره فبأخذ بيده فيستخرج،و جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها و طلب إليه الرجل؛فقال أ تريد أن أمحو إسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف لا أفعل،و قل أبو الدرداء ما من احد إلا و في عقله نقص؛و ذلك أنّه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظلّ فرحا مسرورا،و الليل و النهار دائبان في هدم عمره ثمّ لا يحزنه ذلك،ويح ابن آدم ما ينفعه مال يزيد و عمر ينقص،و يصدق هذا أن الرجل إذا كان له عند أحد دين أو عطاء مقرر و يكون موزعا على الشهور كيف تراه يحب أن يقض الأشهر و السنون حتى يحل وقت الدين و العطاء مع أنّ ما يذهب من عمره لم يرجع إليه أبدا،مفقود المال يمكن رجوعه فهذا أيضا من نقصان العقل.

فقال الحسن عليه السّلام لعن اللّه أقواما أقسم اللّه عز و جل لهم ثمّ لم يصدقوه ثمّ قرأ و في السماء رزقكم و ما توعدون فورب السماء و الأرض،و كان ابو ذر رضي اللّه عنه يوما جالسا فأته امرأة،فقالت له تجلس بين هؤلاء و اللّه ما في البيت هفّة و لا سفة (1)فقال يا هذه إنّ بين أيدينا عقبة كؤدا لا ينجو منها إلا كل مخف،فرجعت و هي راضية،و بروى أن اللّه عز و جل قال في بعض الكتب المنزلة يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت فإذا أنا أعطيتك منها القوت و جعلت حسابها على غير كفأنا محسن إليك.

و عن أنس بن مالك قال بعث الفقراء رسولا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال إني رسول الفقراء إليك،فقال مرحبا بك و بمن جئت من عندهم قوم أحبهم،قالوا

ص:191


1- (1) يقال:ما في بيتك هفة و لا سفة أب لا مشروب في بيتك و لا مأكول.

يا رسول اللّه إنّ الأغنياء ذهبوا بالحسنة يحجون و لا نقدر عليه و إذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلّغ عني الفقراء إنّ لمن صبر و احتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء أمّا خصلة واحدة فإنّ في الجنة غرفا ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر اهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير،او مؤمن فقير،و الثانية يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم و هو خمسمائة عام؛الثالثة إذا قال الغني سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله الا اللّه و اللّه أكبر؛فقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير و إن أنفق فيها عشرة آلاف درهم؛و كذلك أعمال البر كلها؛فرجعا اليهم فقالوا رضينا رضينا.

فإن قلت كيف فضل تسبيح الفقراء على تسبيح الأغنياء مع أنّ كلا منهما طاعة له تعالى كما هو المفروض و ليس في لأحدهما رياء،قلت الجواب عن هذا من وجوه الأول أن أفضل أفراد الغني هو الذي ينفق في سبيل اللّه تعالى واجباته و مستحبانه و مع هذا فصاحبه في أمن من الدنيا مستشعرا راحة بذله و هو مما يورث الإنس لهذا العالم و الوحشة من الآخرة؛و بقدر ما يستأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة لأنّهما كالمشرق و المغرب بقدر ما تقرب من أحدهما تبتعد من الآخر؛و مهما إنقطعت اسباب الأنس بالدنيا تجافى القلوب عن الدنيا و زهرتها؛و القلب إذا تجافى عن ما سوى اللّه عز و جل و كان مؤمنا باللّه إنصرف لا محالة إلى اللّه،إذ لا يتصور قلب فارغ، و ليس في الوجود إلا اللّه،فمن أقبل على غيره تجافى عنه و من أقبل عليه تجافى عن غيره؛ فالغني قلبه مشغول بماله و محبته كامنة فيه كمون النار في الأحجار،فعلاقة الفقير و أنسه في الدنيا أضعف و بقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته و عباداته،فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الإنس بالمذكور،فلا يكون تأثيره في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيره في قلب مشغول،و لذلك قيل مثل من تعبد في طلب الدنيا مثل من يطفى النار بالحلفاء،و مثل من يغسل يده من الغمر بالسمك و من دخل السوق فرأى شيئا يشتهيه فصبر و احتسب كان خيرا له من ألف دينار أنفقها كلها في سبيل اللّه عز و جلّ.

الثاني أنّ داعي الفقير إلى العبادة غايب و داعي الغنى حاضر لأنّ من دواعيه إلى العبادة إتمام النعمة عليه فهو ناظر إلى قوله تعالى و لئن شكرتم لازيدنكم؛فداعي الغني الذي ينشطه على العبادة حاضر موجود بخلاف الفقير فإنّه لا داعي له كذلك،فاعتماده على غايب دليل على قوة إيمانه و وفور إخلاصه.

الثالث أنّ مثل الفقير العابد و الغني العابد مثل مولى له مملوكان فخلع على احدهما و كساه و لم يخلع على الآخر و لم يكسه و كلاهما مشغول بخدمته؛فلا ريب أنّ خدمة ذلك العبد

ص:192

الذي لم يخلع عليه و لم يعطه شيئا كثيرا أقبل عند اهل العقل و الكمال من خدمة الآخر؛و هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجهين الأولين.

و لنرجع إلى الكلام الأول فنقول:للفقير قانون شرعي في باطنه و ظاهره و مخالطته و أفعاله، امّا الباطن فأن لا يكون فيه كراهة لما أورده اللّه سبحانه عليه من الفقر يعني لا يكون كارها له من حيث أنّه فعل اللّه سبحانه،و إن كان كارها له من حيث التألّم به و ذلك كالحجّام فإنّ المحجوم و إن كان كره فعله من حيث الألم لكن من حيث أنّه فعل الحجّام براد له،و يرى أنّ للحجّام المنّة عليه بذلك؛و هذا المعنى واجب و نقيضه حرام محبط للأجر،و ألى هذا الاشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا معشر الفقراء اعطوا اللّه الرضا من قلوبكم تضفروا بثواب فقركم،و إلا فلا؛و ارفع من هذا أن لا يكون كارها للفقر بل يكون راضيا به،و أعلى منهما أن يكون طالبا لعلمه بغوائل الغنى.

و روي عن على عليه السّلام أنّ للّه عقوبات و مثوبات بالفقر فمن علامات الفقر إذا كان مثوبة إن يحسن عليه خلقه،و يطيع به ربّه و لا يشكو حاله و يشكر اللّه تعالى على فقره،و من علامة ان يكون عقوبة ان يسوء عليه خلقه و يعصي ربّه و يكثر الشكاية،و يتصخت القضاء،و هذا يدل على أن الفقر المحمود ذلك الفرد إذ قيل ما أعطي عبد شيئا من الدنيا إلا قيل له خذه على ثلاثة أثلاث:شغل،و همّ،و طول حساب و أمّا الظاهر فبأن يظهر التعفف و التجمل و لا يظهر الفقر و الشكوى؛ففي الحديث أنّ اللّه تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال،و إذا أراد إظهاره فلا بظهر إلا لأخ في الأيمان لأنّ الشكوى إليه ربّما ترتب عليها بعض الفوائد،و لا بدّ من شكوى إلى ذي صبابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع،و لأن المحن و زحمات القلوب ربما كان القلب لا يطيق تحملها كما لا يطيق تحمل غيرها.

روي عن جابر بن يزيد الجعفي قل حدثني أبو جعفر عليه السّلام سبعين ألف حديث لم أحدث بها احدا و لن أحدث بها أحدا أبدا،قال جابر قلت لأبي جعفر عليه السّلام جعلت فداك إنّك قد حمّلتني وقرا عظيما بما حدثتني به من سركم الذي لا أحدث به أحدا فربّما جاش في صدري حتى يأخني منه شبه الجنون،قال يا جابر إذا كان كذلك فاخرج إلى الجبّانة فاحفر حفيرة و دلّ رأسك فيها ثمّ قل حدّثني محمد بن على بكذا و كذا؛فإنّ الأرض تحمل حديثنا،فإذا كانت القلوب لا تطيق حمل العلوم مع كونها لذة محضة فكيف تطيق حمل أثقال الهموم و الغموم التي صرعت مثل أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله عليه السّلام صارعني الفقر فغلبني (1)

ص:193


1- (1) ينسب إلى أمير المؤمنين(ع)قوله:

روى أخطب خوارزم إنّ إعرابيا جاء إلى الحسين عليه السّلام و قال يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد ضمنت دية كاملة و عجزت عن ادائه فقلت في نفسي أسأل أكرم النّاس،و ما رأيت أكرم من اهل بيت رسول اللّه؛فقال الحسين عليه السّلام يا اخا العرب اسألك عن ثلاث مسائل فإن أجبتك عن واحدة أعطيتك ثلث المال،و إن اجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال،و إن اجبت عن الكل أعطيتك الكل،فقال الإعرابي يا ابن رسول اللّه أمثلك يسأل مثلي و انت من أهل بيت العلم و الشرف،فقال الحسين عليه السّلام بلى سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول المعروف بقدر المعرفة؛فقال الإعرابي سل عمّا بدا لك فإن أجبت و إلا تعلمته منك،و لا قوة إلا باللّه،فقال الحسين عليه السّلام فما النجاة عن الهلكة؟فقال الإعرابي الثقة باللّه فقال الحسين عليه السّلام فما يزين الرجل؟فقال الإعرابي علم معه حلم، فقال فإن اخطأ ذلك،فقال مال معه مبرة،فقال فإن اخطأ ذلك فقال فقر معه صبر،فقال الحسين عليه السّلام فإن أخطأ ذلك،فقال الإعرابي فصاعقة تنزل من السماء و تحرقه فإنّه اهل لذلك،فضحك الحسين عليه السّلام و رمى إليه بصرّة فيها ألف دينار؛و أعطاه خاتمه و فيه فص قيمته مائتا درهم،و قال يا إعرابي إعط الذهب ألى غرمائك و اصرف الخاتم في نفقتك فاخذ الإعراب و قال اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

و امّا في مخالطته فبأن لا يتواضع لغني لاجل غناه بل يتكبر عليه لاجله؛روي عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام انه قال ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب اللّه تعالى و أحسن منه تيه (1)الفقير على الغني ثقة باللّه عز و جل فهذه رتبة و أدون منها أن لا يرغب في مخالطة الأغنياء لأنّ ذلك من مباديء الطمع،قال بعضهم و إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنّه مراء و إذا خالط السلطان فاعلم أنّه لص و أما اذا في أفعاله فبأن لا يفتر عن العبادات بسبب الفقر و لا يمتنع عن التصدق الممكن،ففي الرواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم درهم من الصدقة أفضل عند اللّه تعالى من مائة ألف درهم،قيل و كيف يا رسول اللّه؟فقال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف فتصدّق بها و أخرج رجل درهما لا يملك غيرهما طيبة به نفسه؛فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف،و قد تقدمت الرواية في ذلك الفقير الذي حمل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمرة واحدة فوضعها على تمور الصدقة؛فأنزل اللّه سبحانه قرآنا في مدائحة.

ص:194


1- (1) تاه تيها تكبّر

و ينبغي ان لا يدخره مالا بل ياخذ قدر الحاجة و يخرج الباقي و الإدخار على ثلاث مراتب ؛أحدهما أن لا يدخر إلا ليومه و ليلته و هي درجة الصدّقين،و الثانية أن يدخر لأربعين يوما لأن ما زاد داخل في طول الأمل كما فهمه العلماء من ميعاد اللّه تعالى لموسى عليه السّلام و هذه رتبة المتقين:و الثالثة أن يدخر لسنة و هي رتبة الصالحين،قال الصادق عليه السّلام إنّ النفس اذا احرزت قوت سنتها أستقرت و ما زاد على ذلك فهو همّ و غمّ و خروج عن الوثوق بفضل اللّه سبحانه.

و امّا آداب الفقير في قبوله للعطاء بغير سؤال فهو ثلثه أيضا،الأول لا يلاحظ الفقير نفس المال و هو كونه حلالا خاليا عن الشبهات فأنّ البعد عن الشبهات درجة الصالحين،الثاني ان يلاحظ غرض المعطي و هو أمّا أن تطيب قلب الفقير و طلب محبته و هو الهدية،أو الثواب و الصدقة و الزكاة او الذكر و الرياء و السمعة أمّا على التجرد أو ممزوجا ببقية الأغراض،أما الأول و هو الهدية فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و لكن ينبغي أن لا يكون فيها منّة؛فإنّ علم أنّ بعضها مما يعظم فيه المنّة فليرد البعض دون البعض.

فقد أهدي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمن و أقط و كبش،فقبل السمن و الأقط و رد الكبش و كان يقبل من بعض الناس و يرد على بعض،حتى قال لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو ثقفي أو دوسي،و أمّا إذا كان غرض المعطي الثواب المجرد كصدقة أو زكاة فعلى الفقير أن ينظر في صفات نفسه أنّه هل هو من اهل الإستحقاق لها أم لا،و إن كانت صدقة و كان يعطيه لدينه و لظاهره من الصلاح فلينظر هو إلى باطن نفسه فإن كان مقارفا(متقا)لمعصية في السر و يعلم انّ المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه و لما تقرب إلى اللّه تعالى بالتصدق عليه فهذا حرام كما قيل،و ذلك كما لو عطى هو لظنّه أنه عالم أو علوي و لم يكن فإنّ أخذه لا شك في حرمته، و قد يكون غرض المعطي الشهرة و الرياء فينبغي للفقير ان لا يأخذ لئلا يكون معينا له على ذلك الغرض الفاسد،و عوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة؛فقال إنّما أردت صلتهم إشفاقا و نصحا لهم لأنّهم يذكرون ذلك و يحبون أنت يعلم يعلم به فتذهب اموالهم و تحبط اجورهم؛فإذا علم الفقير هذه الأمور و خلّو ذلك المال منها فليأخذ ما أعطوه؛كما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ما المعطي من سعة بأعظم اجرا من اليخذ إذا كان محتاجا،و من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة و لا إستشراق فإنّما هو رزق ساقه اللّه إليه.

و قال الصادق عليه السّلام تارك أخذ الزكاة و قد وجبت له كتارك دفعها و قد وجبت عليه ،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا حق لابن آدم إلا في ثلاث:طعام يقيم صلبه

ص:195

و ثوب يواري عورته؛و بيت يكنّه،فما زاد فهو حساب؛فإذا أنت في أخذ الحاجة من هذه الثلث مثاب،و فيما زاد عليه إن لم تعص اللّه متعرض و إن عصيت اللّه تعالى فأنت متعرض للعذاب.

و اعلم أن السؤال من غير حاجة مما لا يبعد القول بتحريمه لانّه لا ينفك عن ثلاث أمور محرمة؛الأول إظهار الشكوى من اللّه تعالى كما أنّ العبد المملو لو سأل لكان سؤاله تشنيعا على سيده فكذا سؤال العبد تشنيعا على اللّه تعالى؛و هذا ينبغي أن يحرم و لا يحل إلا لضرورة كالميتة،و الثاني إنّ فيه إذلال السائل نفسه لغير مولاه و ليس للمولى ان يذل نفسه إلا للّه إلا لضرورة؛و كان الباقر عليه السّلام إذا أعطى الفقراء أعطاهم من تحت حجاب فقيل له في ذلك فقال لئلا أرى ذل السؤال في وجوه السائلين و قال الصادق عليه السّلام إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام بعث إلى رجل خمسة أو ساق من تمر و كان ذلك الرجل ممن يرجى رفده و كان لا يسأل عليا عليه السّلام و لا غيره شيئا،فقال رجل لأمير المؤمنين عليه السّلام و اللّه ما سألك فلان شيئا و لكان يجزيه من الخمسة الأوساق وسق واحد،فقال له يا أمير المؤمنين عليه السّلام لا كثر اللّه في المؤمنين مثلك،اعطي أنا و تبخل أنت به،إذا انا لم أعط الذي يرجوني إلا من بعد مسألتي ثمّ أعطيته بعد المسألة فلم اعط إلا ثمن ما أخذت منه،و ذلك لأنّي عرضته لان يبذل لي وجهه الذي يعفره في التراب لربي و لربه عز و جل عند تعبده له،و طلب حوايجه إليه فمن فعل هذا باخيه المسلم و قد عرف أنّه موضع لصلته و معروفه فلم يصدق اللّه عز و جل في دعاءه له حيث يتمنى له الجنة بلسانه و يبخل عليه بالحطام من ماله،و ذلك أنّ العبد قد يقول اللهم اغفر للمؤمنين و المؤمنات فإذا دعى له بالمغفرة فقد طلب له الجنة فما أنصف من فعل هذا بالقول و لم يحققه بالفعل.

و روى صاحب كشف الغمّة أنّ رجلا جاء إلى الحسين عليه السّلام و سأله حاجة فقال له يا هذا حق سؤالك يعظم لديّ و ممعرفتي بما يجب لك تكبر لدي،و يدي تعجز عن نيلك بما أنت اهله،و الكثير في ذات اللّه عز و جل قليل،و ما في ملكي وفاء لشكرك،فإن قبلت الميسور و رفعت عني معونة الاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت،فقال يا ابن رسول اللّه أقبل القليل و أشكر العطية و اعذر على المنع؛فدعا الحسن عليه السّلام بوكيله و جعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها،فقال هاتي الفاضل من الثلاثمائة الف درهم فاحضر خمسين ألفا؛قال فما فعل الخمسمائة دينار؟قال هي عندي قال أحضرها؛فأحضرها فاحضرها فدفع الدراهم و الدنانير إلى الرجل و قال هات من يحملها فاتاه بحمّالين فدفع الحسن عليه السّلام إليه رداءه لكري الحمّالين، فقال مواليه ما عندنا درهم،فقال لكني أرجو أن يكون لي عند اللّه أجر عظيم.

ص:196

و روى أيضا عن المدايني قال خرج الحسن و الحين عليهما السّلام،و عبد اللّه بن جعفر حجّاجا ففاتهم اثقالهم؛فجاعوا و عطشوا فموا بعجوز،فقالوا هل من شراب؟قالت نعم؛ فأناخوا و ليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة؛فقالت إحلبوها و امتذقوا لبنها،ففعلوا ذلك و قالوا لها هل من طعام؟قالت لا إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهييء لكم شيئا تأكلون فذبوحها فهيأت لهم طعاما فأكلوه؛فلما ارتحلوا قالوا نحننفر من قريش نريد هذا الوجه،فإذا رجعنا سالمين فألّمي بنا فإنّا صانعون إليك خيرا ثمّ ارتحلوا فأقبل زوجها فغضب على صنعها،ثمّ بعد مدة ألجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة،فجعلا يبيعان البعر و يعيشان منه فمرت العجوز في بعض سكك المدينة فإذا الحسن عليه السّلام على باب داره جالس،فعرف العجوز و هي له منكرة ،فبعث له غلامها فردها،فقال يا أمة اللّه تعرفيني؟قالت لا،قال انا ضيفك يوم كذا،فقالت العجوز بأبي أنت و أمي فأمر الحسن عليه السّلام فاشترى لها من شاة الصدقة ألف شاة،و أمر لها بألف دينار و بعث معها غلامه إلى أخيه الحسين عليه السّلام،فقال بكم وصلك أخي الحسن؟ فقالت بألف شاة و ألف دينار فامر لها بمثل ذلك؛ثمّ بعث بها مع غلامه إلى عبد اللّه بن جعفر، فقال بكم وصلك الحسن و الحسين عليهما السّلام؟فقالت بألفي دينار و ألفي شاة فامر لها عبد اللّه بألفي شاة و الفي دينار،و قال لوبد أبي لأتعيتهما فرجعت العجوز إلى زوجها بذلك و في بعض كتب العربية انّ شاعرا أتى معن بن زايدة و هو في قصر إمارته فلم يجد إليه سبيلا،فرأى نهرا يجري إلى داخل القصر؛فكتب هذا البيت بقرطاسة و وضعها على خشبة و سيّرها الماء حتى ادخلها القصر؛فاتفق أن معنا كان جالسا على شاطيء النهر فرأى الخشبة و عليها القرطاسة،فأخذها و قرأ ما فيها و هو:

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فليس إلى معن سواك شفيع

فخرج من قصره و استدعاه فأتى به فقال أنت الذي كتبت هذا الشعر؟فقال نعم،فأمر له بمائة ألف درهم؛فأخذها و مضى إلى الخان،فلمّا كان اليوم الثاني طلبه و اخرج القرطاسة و قرأ ذلك الشعر و أمر له بمائة ألف درهم،و بقي على هذا الحال خمسة أيّام،ثمّ أن ذلك الشاعر خاف من ندامته على الدراهم فأخذها و مضى بها إلى البلد فطلبه اليوم السادس،فقيل له إنّه سافر فقال و اللّه إنّ طالع خزانتي أقوى من طالعه فو اللّه لو بقي في البلد لأعطيته كل درهم و دينار في خزانتي؛فانظر إلى هذه السخاوة الجيدة.

الأمر الثالث في السؤال أنّه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالبا؛لأنّه ربّما لا تسمح له نفسه بالبذل عن طيبة قلب فإن بذل حياء من السائل و رياء فلعله يكون حراما على الآخذ،و إن منع ربما استحى من المنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء،ففي البذل نقصان ما له و في المنع نقصان

ص:197

جاهه و كلاهما مؤذييان و السائل هو السبب في الأيذاء و الأيذاء حرام إلا لضرورة،و قد اتضح بهذه الأمور الثلاثة معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسألة النّاس من الفواحش مأحلّ من الفواحش غيرها فسمّاها فاحشة،و لا شك أنّما الفاحشة تباح عند الضرورة فقط.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سال عن غنى فإنّما يستكثر من جمر جهنّم،و من سأل و له ما يعينه جاء يوم القيامة و وجهه عظم يتقعقع ليس عليه لحم،و ما أحسن قول بعض العارفين بأنّ الفقير إذا أخذ مع علمه بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين و لولاه لما ابتدأه به يكون ذلك الأخذ حراما بلا خلاف فيه بين الأمة و حكمه حكم الآخذ من غيره بالضرب إذ لا فرق بين أن يضرب جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء و خوف الملام، و ضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء؛و لا يجوز ان يقال هو في الظاهر رضي به و مدار الأحكام الشرعية على الظواهر،لأن الفرق بين الصورتين ظاهر لا يخفى،نعم الإطلاع على البواطن عسر جدا لأن السائل ربما ظن أن المعطي راض و هو غير راض،و من جهة هذا ترك المتقون السؤال رأسا؛و لكن قرائن الاحوال ربما أطلعت السائل على بواطن بعض النّاس دون البعض،فإذا احتاج إلى السؤال فلا يسأل إلا من قامت له القرينة على حسن باطنه و إنّ عطاءه خال من الأمور،اما إذا علم السائل أو الوالي بأن المعطي إنّما اعطاه لفقره او لإضطراره الشديد كأن لا يجد طعام ليلة أو أكثر أو أقل و كان عنده أزيد مما ظنّ به المعطي و اعطاه لتلك الحالة فقد جزم أهل التحقيق بأنّ ذلك الطعام أو المال حرام على السائل و يجب عليها و على الوالي أن يرجعه إلى أهله،فإن لم يعرفوه تصدق لهم به على المساكين او صرفه في وجه من وجوه مصالح المسلمين،و ينزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذبا كأخذ العلوي بقوله إني علوي و هو كاذب؛ فإنّه لا يملك ما ياخذ،و كأخذ الصوفي و الصالح الذي يعطي لصلاحه و هو في الباطن يقترف معصية لو عرفها المعطي ما اعطاه.

و اما الشيء الذي يطلبه السائل فهو دائر بين أحوال أربعة أما أن يكون مضطرا إليه أو محتاجا إليه حاجة شديدة أو خفيفة او لا حاجة به إليه،أما المضطر إليه كسؤال الجائع عند الخوف على نفسه فهو واجب إلا أن يكون قادرا على الكسب و هو غير مشغول بتحصيل العلم بحيث يستغرق وقته فيه،و أما الذي لا حاجة به إلى السؤال فسؤاله حرام قطعا،و أمّا شدة الإحتياج كمن له جبة و لا قميص له تحتها في الشتاء و هو يتأذى بالبرد لكن لا يبلغ تأذيه الضرر فهنا الأولى ترك السؤال،و إذا سأل هذا ينبغي له الصدق في سؤاله كأن يقول ليس تحت جبتّي قميص و البرد يؤذيني و انا أطيقه و لكن يشق عليّ و أما الحاجة الخفيفة فمثل سؤاله قميصا يلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس،و من يسأل إلإدام و هو قادر على

ص:198

الخبز،أو أن يسأل كراء الفرس في الطريق و هو قادر على كراء الحمار فقد قيل إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام،و إن لم يكن و كان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى أو الذل أو إيذاء المسئول فهو حرام؛لأنّ مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن يباح بها مثل هذه المحذورات،و إن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة.

فإن قلت كيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات؟قلت ذكر له بعض أهل السلوك طريقا:و حاصله أنّ دفع الشكوى أن يظهر الشكر للّه عند السؤال و الإستغناء عن الخلق فلا يسأل سؤال محتاج و لكن يقول أنا مستغن بما أملكه و لكن نفسي تطالبني بهذا؛فيخرج به عن حد الشكوى،و أما الخروج عن حد الذل فبأن يسأل شخصا لا ينقصه ذلك في عينه و لا يحتقره بسبب سؤاله،و أما إيذاء المسئول فسبيل الخروج عنه هو أن لا يعين شخصا حين السؤال بل يلقي الكلام مجملا بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرعا بصدق الرغبة و أما إذا سأل معينا فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضا يبقى له سبيل إلى التغافل إن أراد؛فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه ذفلك دليل على رغبته به و ينبغي للسائل أن يسأل من لا يستحي منه لو رده أو تغافل عنه فإنّ الحياء من السائل يؤذي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه قد سبق في الخبر تحريم السؤال عن ظهر غنى فما حد الغنى؟ و تحديده لا يخلو من إشكال لإختلاف الأخبار،فقد ورد في الحديث إستغنوا بغناء اللّه تعالى، قالوا و ما هو؟قال غذاء يوم و عشاء ليلة،و في خبر آخر من سأل و له خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا،و في حديث آخر أربعون درهما،و ينبغي تنزيل هذه الأخبار على الأحوال المختلفة.

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا حق لإبن آدم إلا في ثلاث:طعام يقيم به صلبه؛و ثوب يواري به عورته،و يبت يكنّه،و ما زاد فهو حساب،و ذكر هذه الأجناس الثلاثة مثالا لكثرة الإحتياج إليها و إلا فما بمعناها حكمه حكمها أيضا.

فأما الثواب فيراعى فيه ما يليق بذوي الدين و هو قميص و منديل و سراويل و مداس و الثاني مستغنى عنه؛و ليقس على هذا أثاث البيت،و أما الطعام في اليوم فقدره في الشرع مد و أما المسكن فهو ما يحتاج إليه من غير زينة،و أما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه من الطعام في الحال مما لا شكّ فيه.

فأما السؤال لما سيأتي فالضابط فيه أنّه إذا كان عنده طعام سنة فالسؤال حرام،و أما إذا كان أقل فله حالات و درجات في الفضل و الفضيلة حتى يبلغ الأربعين يوما فإذا كان عنده طعامها فلا يسأل،و أفضل من هذا كله ترك السؤال إذا كان عنده غداء يومه و عشاءه،و في الحديث

ص:199

القدسي يا ابن آدم كما لا أطلب منك عمل غد في هذا اليوم فلا تطلب أنت منّي رزق غد في هذا اليوم،هذا محصل الكلام في الفقر.

و أما ما يوجبه فروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال عشرون خصلة تورث الفقر،أوله القيام من الفراش للبول عريانا،و الأكل جنبا،و ترك غسل اليدين عند الأكل ؛و إهانة الكسيرة من الخبز،و إحراق الفوم و البصل،و القعود على أفنية البيت،و كنس البيت بالليل و بالثوب،و غسل الأعضاء في موضع الإستنجاء و مسح الأعضاء المغسولة بالمنديل و الكم، و وضع القصاع و الأواني غير المغسولة،و وضع أواني الماء غير مغطاة الرؤوس،و ترك بيوت العنكبوت في المنزل؛و استخفاف الصلاة،و تعجيل الخروج من المسجد؛و البكور إلى التسوق؛ و تأخير الرجوع عنه إلى العشاء،و شراء الخبز من الفقراء؛و اللعن على الأولاد،و الكذب، و خياطة الثوب على البدن و إطفاء السراج بالنفس،و في خبر آخر و البول في الحمّام،و الأكل على الجشاء،و التخلل بالطرفاء و النوم بين العشائين،و النوم قبل طلوع الشمس،ورد السائل الذكر بالليل،و التمشط من قيام،و اليمين الفاجرة،و قطيعة الرحم و أما الزهد فهو إنصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فإذا يستدعي حال الزهد مرغوبا عنه و مرغوبا فيه و شرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبا فيه بوجه من الوجوه؛و بالجملة فلا يتصور الزهد إلا بالعدول غير المحبوب إلى الاحب و الذي يرغب عن كل ما سوى اللّه تعالى حتى الفراديس فلا يحب إلا اللّه فهذا هو الزهد المطلق و أما الذي رغب عن الدنيا و لكن طمع في حور العين و قصورها فهذا أيضا زاهد و لكنه دون الأوّل.

و أما الذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي يترك التوسع في الأكل و لا يترك التجمّل في الزينة فلا يستحق إسم الزهد مطلقا و إن كان زهدا صحيحا كما أنّ التوبة عن بعض المعاصي صحيحة دون البعض الآخر على ما تقدم،فإذن الزهد المبحوث عنه هو الرغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير اللّه تعالى إليه تعالى،و إشترط بعضهم في المرغوب عنه ان يكون مقدورا عليه فإن ترك ما لا يقدر عليه محال؛و قد يقوى اليقين في تلك النشأة حتى يبيع الرجل نفسه كما قال اللّه تعالى إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنّة؛ثمّ بين أنّ صفقتهم رابحة فقال فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به.

و قد ورد في الأخبار أنّ عليا عليه السّلام باع نفسه على اللّه تعالى،و قد اشترط اللّه عليه وقت الشراء الصبر على ما أصابه بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الظالمين،وز إلى ما ذكرنا من أنّه يشترط في الزهد الرغبة عن محبوب إلى أحب منه الإشارة بما روى أنّ رجلا قال في دعاءه اللهم ارني الدنيا كما تراها،فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تقل هكذا و لكن قل اللهم

ص:200

أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك،و ذلك أنّ اللّه تعالى يراها حقيرة كما هي،و امأ العبد فيراها حقيرة في حق نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له؛و هذا هو الزهد فلا بد في الثواب من أن تكون محبوبة له في نفسها حتى يتركها إلى غيرها؛و ليس من الزهد ترك المال و بذله لى سبيل السخاء و الفتوّة و على سبيل استمالة القلوب و إن كان كل ذلك من محاسن العادات و لا مدخل له في العبادات،و إنّما الزهد ان تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة،أما كل نوع من الترك فإنّه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة.

و أما الاخبار الواردة في فضيلة الزهد فكثيرة جدا،ففي الرواية عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أصبح و همّه الدنيا شتت اللّه عليه امره و فرّق عليه ضيعته،و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب اللّه له،و من اصبح و همّه الآخرة جمع اللّه همّه و حفظ عليه ضيعته، و جعل غناه في قلبه و اتته الدنيا و هي راغمة،و قال إبراهيم بن أدهم لشقيق بن إبراهيم حين قدم عليه من خراسان كيف تركت الفقراء من أصحابك؟قال تركتهم إن أعطوا شكروا و إذا منعوا صبروا؛و ظنّ أنّه لمّا وصفهم بترك السؤال فقد أثنى عليهم غاية الثناء،فقال إبراهيم هكذا تركت كلاب بلخ عندنا؛فقال شقيق فكيف الفقراء عندك يا ابا إسحاق؟فقال الفقراء عندنا إن منعوا شكروا و إذا أعطوا أثروا،فقبّل رأسه فقال صدقت يا أستاذ و أمّا تفاصيل الزهد و درجاته بالإضافة ألى نفسه فثلاث:الأولى ان يزهد في الدنيا و هو لها مشته و قلبه إليها مايل و لكنّه يجاهد نفسه و يكفذها؛و هذا يسمى المتزهد و هو مبدأ الزهد،و هذه هي الدرجة السفلى و صاحبها على خطر،فإنّه ربما تغلبه نفسه على العود إلى الدنيا.

الثانية الذي يترك الدنيا طوعا لإستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهما لأجل درهمين فإنّه لا يشق عليه ذلك،و هذا الزاهد يلتفت إلى زهده و يظن أنّه ترك شيئا له قدر إلى ما هو أعظم قدرا منه؛و ربّما أعجب بنفسه و زهده.

و الثالثة و هي العليا التي يزهد طوعا و يزهد في زهده و لا يرى أنّه ترك شيئا إذا عرف أنذ الدنيا لا شيء،فيكون عند نفسه كمن ترك خزفة و اخذ جوهرة فإنّه لا يرى أنّ هذا معاوضة و أنّه ترك شيئا بالإضافة إلى اللّه تعالى و إلى نعيم الآخرة؛قيل و مثل من ترك الدنيا للآخرة عند أرباب القلوب و أهل المعرفة مثل من أراد الدخول على السلطان فمنعه كلبه عن الدخول،فرمى إليه لقمة خبز فشغله بها فدخل على السلطان و نال على أعلى درجات القرب منه أ فتراه يقدر أن يمنّ على الملك بأنّي أعطيت كلبك لقمة خبز حتى أنّك بلّغتني هذه الدرجة،فالشيطان كلب على باب اللّه تعالى يمنع النّاس من الدخول مع أنّ الباب مفتوح و الحجاب مرفوع،و الدنيا كلقمة خبز بل

ص:201

أقل بالنسبة إليّ ما أعد اللّه تعالى للزاهدين في دار النعيم؛فكل واحدة من هذه الدرجات لها درجات؛و أمّا إنقسامه بالإضافة إلى المرغوب فيه فثلاث درجات أيضا.

الأولى أن يكون المرغوب فيه النجاة من النّار و من ساير الآلام كأن يسمع أنّ في جهنّم عقارب كالبغال المعلّفة و إنّ فيها حيّات لو نفخت منها حيّة في الدنيا لا ذابت الجبال و الأحجار و لما بقي على وجه الأرض رطب و لا يابس إلا احترق،و إنّ الرجل ليوقف في الحساب حتى و لو وردت مائة بعير عطاشى على عرقه لصدرن رواء؛فهذا زهد الخائفين و سمّى الصادق عليه السّلام عبادة هؤلاء بأنها عبادة العبيد و هو الخوف من عقاب المولى و هذه هي الدرجة السفلى

الثانية ان يزهد رغبة في ثواب اللّه تعالى و اللذات الموعودة في الجنة فهذا زهد الراجين ؛و سمى مولانا الصادق عليه السّلام عباداتهم بأنها عادة التجار؛فهؤلاء لا خطوا مع الخلوص من العذاب نيل الثواب.

الثالثة و هي العليا ان لا يكون له رغبة الا في اللّه تعالى و في رضائه و لقاءه،و هذا هو التوحيد الحقيقي الذي أشار إليه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله ما عبدتك خوفا من نارك، و لا طمع في جنّتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدبتك،و هذه الدرجة لا يمكننا نيلها و لو قلبا بألسنتنا أنّ هذه الدرجة هي مقصودنا،لكذّبنا الوجدان،فلسان الحال يكّذب لسان المقال، و إلى هذه الدرجات الإيماء بقوله تعالى قل للذي كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنّم و بئس المهاد ،ثمّ قال في ذلك السياق الذين اتقوا عند ربهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من اللّه،و في موضع آخر يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي اللّه عنهم و رضوا عنه ذلك الفوز العظيم؛و الإشارة إلى القريب و في آية أخرى بعد أن ذكر ما هيأ لهم من مراتب النعيم:و رضوان من اللّه أكبر؛و ذلك لعلمه سبحانه بأختلاف مطالب خلائقه و تشتت طبائعهم.

و روي أنّ عيسى عليه السّلام جلس في ظلّ حايط إنسان فأقامه صاحب الحائط،فقال ما أقمتني أنت إنّما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعم في ظل الحائط.

فإن قلت ذكرت أنّ الزهد ترك ما سوى اللّه تعالى فكيف يتصور ذلك مع الاكل و الشرب و اللبس و مخالطة الناس فإنّ هذا إشتغال بما سوى اللّه؟قلت معنى الإنصراف عن الدنيا و هو الإقبال بالقلب على اللّه تعالى و لا يتصور ذلك إلا بضروريات الحياة؛فإذا كان المقصود بتلك الأمور التوصل إلى جناب الحق تعالى كان الإشتغال بها مثل إشتغال الحاج بإصلاح أحوال ناقته و علفها في طريق الحج،فإنّ الغرض منه التوصل إلى مكّة فهذا مما لا ينافي الزهد و ضروريات الإنسان في حياته كثيرة؛فمنها المطعم و ذلك لأنّ الإنسان لا بدّ له من طعام حلال يقيم به صلبه،

ص:202

و للإنسان في هذا أحوال:الأولى و هو الأعلى(اعلاها)ان يقتصر على قدر دفع الجوع عند شدّة الجوع و دفع المرض فإذا استقلّ بما تناوله لم يدّخر من غذائه لعشائه،الثانية أ،يدّخر لشهر أو لأربعين يوما،الثالثة أن يدّخر لسنة فقط؛و هذه رتبة ضعفاء الزهّاد و من ادّخر لأكثر من ذلك لا يسمّونه زاهدا.

و عن واحدة من زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت كانت تأتي أربعون ليلة و ما يوقد في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مصباح و لا نار،قيل لها فبم كنتم تعيشون؟ قالت بالأسودين التمر و الماء،و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يركب الحمار و يلبس الصوف؛و ينتعل المخصوف و يلعق اصابعه و يأكل على الأرض،و يقول إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد،و قال عيسى عليه السّلام بحق أقول أنّه من طلب الفردوس و خبز الشعير له و النوم على المزابل مع الكلاب كثير،و كان يقول يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح و البقل البري و خبز الشعير،و إيّاكم و خبز البر فإنّكم لن تقوموا بشكره.

و منها الملبس و أقل درجاته ما يدفع الحر و العبد و يستر العورة و هو كساء يتغطى به و أوسطه قميص و قلنسوة و نعلان،و أعلاه أن يكون معه منديل و سراويل،و ما جاوز هذا من حيث المقدار فهو عنهم متجاوز حد الزهد،و شرطوا في الزاهد أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود في البيت،و قيل لسلمان الفارسي رحمه اللّه مالك لا تلبس الجيد من الثياب ؟قال و ما العبد و الثوب الحسن فإذت أعتق فله و اللّه ثياب لا تبلى أبدا.

و منها المسكن و له فيه ثلاث درجات أعلاها أن لا يطلب موضعا خاصا بل يقنع بزوايا المساجد؛و اوسطها أن يطلب موضعا خاصا مثل كوخ مبني من سعف أو من خص أو ما يشبهه؛ و أدناها أن يطلب حجرة مبنية أمّا بشراء أو بأإحارة،و قد اتخذ نوح عليه السّلام بيتا من قصب فقيل له لو بنيت؟فقال هذا لمن يموت كثير.

و منها أثاث البيت و للزهد فيه أيضا درجات و اعلاها حال عيسى عليه السّلام إذ كان لا يصحبه إلا مشط و كوز؛فرأى إنسانا يمشّط لحيته بأصابعه فرمى المشط و رأى آخر يشرب من النهر بكفيه؛فرمى الكوز؛و هذا حكم كل أثاث فإنذه إنّما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال في الدنيا و الاخرة،و ما لا يستغني عنه ينبغي أن يقتصر منه على أقل الدرجات و هو الخزف في كل ما يكفي فيه و لا يبالي في ان يكون مكسور الطرف و أوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه و لكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصد؛و ادناه أن يكون له بعدد كل حاجة(حالة)آلة من الجنس الخسيس فإن تجاوز هذا القدر خرج عن أبواب الزهد.

ص:203

و دخل رجل على أبي ذر فقال يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعا و لا غير ذلك من الاثاث، فقال إنّ لنا بيتا نوجه صالح متاعنا إليه،فقال إنّه لا بدّ لك من متاع ما دمت هيهنا،فقال،نّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه،و فرشت عائشة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فراشا جديدا و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينام على عباءة مثنية فما زال يتقلّب ليلته،فلمّا اصبح قال لها أعيدي العباءة الخلقة و نحّي هذا الفراش عني قد أسهرني الليلة.

و منها المنكح و كان أزهد الناس النبي و الأئمّة عليهم السّلام و قد نكحوا النساء،لكن الحق أنّهم كانوا عالمين بعدم شغل النساء لهم عن اللّه سبحانه،و الأولى في الزهد الأقتصار على واحدة طلبا للنسل و حرصا على سنته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما ورد فيه من الثواب، و بالجملة فما يحتاج إليه الأنسان في حفظ الحياة مما لا ينافي الزهد بل يؤكده و يحققه،روي أنّ الخليل أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فأوحى اللّه تعالى إليه لو سألت خليلك لأعطاك،فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا؛فأوحى اللّه تعالى ليس الحاجة من الدنيا.

و روى الكليني طاب ثراه انّ رجلا سأل عن علي بن الحسين عليه السّلام عن الزهد فقال عشرة أشياء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع،و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ،و اعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا،ألا و إنّ الزهد في آية من كتاب اللّه:لكيلا تأسيوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم؛هذا مجمل الكلام في الزهد.

و أمّا التوكل فهو مقام عظيم و مسلك من مسالك الموقنين،و قد صرّحت به الأخبار النبويّة و الآيات القرآنية،قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أنّكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير،تغدو خماصا و تروح بطانا،و اما الخليل عليه السّلام فروي أنّ جبرئيل عليه السّلام جاء إليه و قد رمي إلى النّار من المنجنيق فقال له الك حاجة؟فقال إمّا إليك فلا قال له اسأل ربّك حتى ينجيك من نار نمرود،قال يكفي علمه بحالي عن سؤالي،فرجع جبرئيل فقال تعالى للنار كوني بردا و سلاما على إبراهيم،و هذا كان فائدة توكله على مولاه.

و اعلم أنّه او ادعى رجل دعوى لبّسها على رجل آخر و أراد الرجل المدعى عليه أن يوكل وكيلا في رفع تلبيس دعوى ذلك الرجل الآخر لعلمه أو ظنّه بأنه هو لا يقدر على جواب تلك الدعوى الملبسة فهو يقصد أن يكون في الوكيل نهاية الهداية و القوّة و الفصاحة و الشفقة،أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس،و أما القوّة فليستجري على التصريح بالحق و لا ياهن و لا يجبن ،و أمّا الفصاحة و هي قدرة اللسان فليكون بها قادرا على حلّ عقدة التلبيس،و أمّا غاية الشفقة فليكون بها باذلا كل مجهوده في حقّه؛فإن كان شاكا في هذه الأربعة أو في واحد أو جوّز أن يكون

ص:204

خصمه أكمل في هذه الأربعة من الوكيل،لم تطمئن نفسه إلى وكيله؛و تتفاوت أحواله في شدّة الثقة و الطمأنينة بحسب تفاوت قوّة إعتقاده لهذه الخصال في وكيله،و إذا وقع في يده مثل هذا الوكيل إعتمد عليه و فوّض كشف ذلك التلبيس إليه،فإذا كان حاله هذا في حال رجل مثله ربما يظن فيه مثل هذه الامور و كان الواقع خلافها فكيف لا يوكل من يعلم أنّه قد بلغ من هذه الخصال الأربع غايتها و هو جناب الحق سبحانه،فيجعله وكيله فيما يعتريه من تلبيسات الشيطان و من ألاسباب التي يحتاج إليها في عالم حياته في كلّ أوان،و ليفهم معنى قوله لا حول و لا قوة إلا باللّه فإذا تفهم هذا المعنى قوي باعث توكله على اللّه تعالى في جميع الأمور،و هذا اليقين حاصل لأكث النّاس؛نعم قد يضعف اليقين بانضمام الأوهام إليه فغنّ القلب قد ينزعج بتبعية الوهم، فإنّ العاقل لو كلّف المنام مع الميت في بيت واحد لربّما جبن قلبه و خاف منه مع علمه بإنّه جماد و أنّه لا فرق بينه و بين الأحجار الموضوعة في البيت،و إذا عرفت هذا فاعلم أنّ لتلك الحالة ثلاث درجات الأولى ما ذكرناه،و هو أن يكون حاله في الثقة على اللّه و الإعتماد على كفالته كحاله في الثقة بالوكيل.

الثانية و هي أقوى أن يكون حاله مع اللّه كحال الطفل مع أمّه فإنّه لا يعرف غيرها و لا يفزع إلى أحد سواها،و إذا رآها تعلق بذيلها و إن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه؛فهو قد وثق بشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له،و يظنّ أنّه طبع من حيث أنّ الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلفيق لفظه و لا على إحضاره مفصلا و لكن كل ذلك وراء الإدراك و الفرق بين هذه الدرجة و ما قبلها أنّ هذا متوكل و قد فنى في توكله عن توكله إذ ليس قلبه يلتفت إلى التوكل و حقيقته بل إلى الوكيل،و أما الأول فمتوكل بالتكلف و الكسب و ليس فانيا عن توكله بل له إلتفات إليه و ذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده.

الثالثة و هي القصوى و يأن يرى نفسه بين يدي اللّه تعالى كالميت بين يدي المغسّل فإنّه يقلبه كيف شاء و الإختيار إنّما هو إليه لا غير و هذا يفارق الصبي فإنّ الصبي يفزع إلى أمّه و يصيح إليها بل هذا مثاله مثال من علم أنّه إن ترك الأم فهي لن تتركه و تبتدر بجميع أنواع المنافع،و هذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء إعتمادا على كرمه و عنايته كما نقلنا عن الخليل عليه السّلام و صاحب هذه الرتبة لا يبقى له تدبير في أموره بل اللّه تعالى هو المدبّر لأموره كما قاله أرباب السلوك.

و أما صاحب الدرجة الثانية فينبغي له تدبير ما أمره به الوكيل و إن كان قد ترك تدبير ما أمره به غيره،و من هنا قال الصادق عليه السّلام التوكل هو أن تعقل بعيرك و تتوكّل على اللّه

ص:205

تعالى في حفظه،و أمّا صاحب الدرجة الأولى و هو لا يزال في التدبير من الوكيل و غيره،فظهر بهذا أنّ التوكل لا ينافيه الأعمال بل ربّما يحققه،نعم إذا سعى الإنسان في مجاهدات نفسه حتى بلغ الدرجة الثالثة كان غير محتاج إلى التبير و الأعمال و لكنّه هنا قد عمل أشقّ الأعمال و دبّر فوق كل تدبير و هو المجاهدة مع النفس حتى وطّنها على تلك الدرجة،فهذا غير مناف لما أمر اللّه سبحانه به من السعي لطلب الأرزاق،فإنّ مثل هذا السعي أشدّ من ركوب البحار و قطع القفار كما لا يخفى على من له أدنى إنصاف،و أمّا أعمال المتوكلين فاعلم أن الأسباب التي بها تجلب المنافع ثلاث درجات أيضا مقطوع به و مظنونا ظنّا يوثق به و موهوم و همّا لا تثق به النفس.

الدرجة الأولى المقطوع بها و ذلك مثل الأسباب التي إرتبطت المسببات بها بتقدير اللّه و مشيئته إرتباطا مطردا لا يختلف،كما إذا كان الطعام موضوعا بين يديك و أنت جائع محتاج و لكنّك لست تمد يدك إليه و تقول أنا متوكل و شرط التوكل عدم السعي و مد اليد إلى الطعام سعي و حركة،كذلك مضغة بالأسنان فهذا سفه و جنون و ليس من التوكل في شيء بل التوكل في هذه الصورة هو أن تمدّ يدك و تاكل و يكون توكلك هذا على فضله سبحانه حتى لا تجفّ يدك في الحال، و لا تفلج و ليصيبك ما يفزعك في حال الأكل.

الدرجة الثانية الأسباب التي ليست متعينة لكنّ الغالب أنّ المسببات لا تحصل بدونها كالذي يفارق الأمصار و القوافل و يسافر بالبوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادرا و يكون سفره من غير إستصحاب زاد فهذا ليس شرطا في التوكل بل استصحاب الزاد في البوادي سنّة الولين؛و من هذا كان الخواص إذا سافروا في القفار لا تفارقهم الإبرة و المقراض و الحبل و الركوة،و ذلك لأنّ الأغلب في البوادي أنّها خالية من هذه الأربعة التي يحتاج إليها المسافر،و لو انحاز رجل إلى شعب من شعاب الجبل خال من الماء و الكلأ و الساكن و جلس متوكلا فهو آثم؛كما روي أنّ زاهدا من الزهّاد فارق الأمصار و اقام في سفح جبل سبعا؛و قال لا أسأل أحدا شيئا حتى يأتيني ربي برزقي؛فقعد سبعا فكاد يموت و لم يأته شيء،فقال يا رب إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي و إلا فاقبضني إليك،فأوحى اللّه تعالى إليه و عزتي لا أرزقنّك حتى تدخل الأمصار و تعقج بين النّاس فدخل المصر و أقام فجاءه هذا بطعام و هذا بشراب فأكل و شرب فأوجس في نفسه من ذلك،فأوحى اللّه تعالى إليه أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا؛أما علمت أن رزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من بيد قدرتي،فإذن ترك الأسباب مراغم للحكمة لكن الإعتماد على اللّه سبحانه

كما روي أن عيسى عليه السّلام قال انظروا إلى الطير لا تزرع و لا تحصد و لا تدخر و اللّه تعالى يرزقها يوما بيوم فإن قلتم نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام كيف قيض اللّه لها هذا الخلق

ص:206

الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الأكتساب و وجوهه و ذلك يخرج عن درجات التوكل كلها كما هو الغالب على النّاس؛فإذا ظهر أنّ الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل و إلى ما لا يخرج و إن الذي لا يخرج ينقسم إلى مقطوع به و إلى مظنون و المتوكلون في ملابسة هذه الاسباب على ثلاث مقامات؛الاول مقام الخواص و قد مثّله اهل السلوك بالذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل اللّه تعالى عليه في تيسير ما يمسك حياته و لو كان من بقول الارض و حشيشها،المقام الثاني ان يقعد في بيته او في مسجد و لكنه في القرى و الامصار فهذا أضعف من الاول و لكنه ايضا متوكّل لأنه تارك للكسب و الأسباب الظاهرة معتمد على فضل اللّه تعالى في تدبير أموره.

المقام الثالث أن يخرج و يكتسب إكتسابا رفيقا جميلا و هذا المقام هو الممدوح الوارد في الشريعة الذي أراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله إلا أن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه من الحرام فإنّ اله سبحانه قسّم الأرزاق بين عباده حلالا و لم يقسّمها حراما،نعم من ترك الكسب إذا كان مستغرقا وقته في العلم أو العبادة كان له وجه في الجملة، مع إنّ الواردة عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام أنّ التكسب للعيال و الأخوان أفضل من العبادة،نعم لا يكون إعتماده على الكسب و على آلاته بل على ذلك الكفيل.

روي أنّ العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر اله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه،فيصبح كئيبا حزينا يتظنن بجاره و ابن عمّه من شيّعني من دهاني و ما هو إلا رحمة اللّه تعالى بها؛و هذا مجمل الكلام في هذا المقام و اللّه المستعان

خاتمة هذا البحث في الرزق،إعلم أن الذي إتفق عليه أصحابنا رضوان اللّه عليهن و المعتزلة أنّ الرزق هو ما صحّ إنتفاع الحيوان به بالتغذي أو غيره؛فليس لأحد منعه فالحرام على هذا ليس برزق؛و عند الاشاعرة كلما إنتفع به حي سواء كان بالتغذي أو بغيره مباحا كان أو حراما و قال الأشاعرة في الإستدلال لو لم يكن الحرام رزقا لم لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقا، و ليس كذلك لقوله تعالى،و ما من دابّة في الأرض إلا على اللّه رزقها.

و الجواب عن هذا ظاهر و هو أن المغتذي في الدنيا لا يجوز أن يكون مغتذيا بالحرام طول عمره،و ذلك أن أيام الرضاع اللبن ليس بحرام عليه و في كل أوقاته التنفس في الهوى ليس بمحرّم عليه أيضا مع أنّ الرزق على قسمين:منه ما كان غذاء للابدان و منه و هو الأكمل الأعظم ما كان غذاء للأرواح كالعلوم و الكمالات و هذا هو الغذاء الباقي بعد فناء الابدان و غذائها،و بسببه

ص:207

حرم الإعلام من كثرة الغذاء الأبداني لوجود الأرواح عندهم،و على هذا فالعلماء مرزوقون الرزق الأكمل؛و حينئذ فقوله:

كم عالم عالم أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقلاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة و صيّر العالم النحرير زنديقا

مما لا ينبغي و ذلك لأنّ العالم اكثر رزقا من الجاهل و إن كان له ملك كسرى أو قيصر، و من كان له حظ من الإنصاف و كان له نوع اطلاع على بعض العلوم يعلم أنّه لو أتى إليه جاهل سيّما الأحمق و كان عنده من المال ما لا يحصى،و قال أريد أن اعاوضك هذا المال الوافر بهذا العالم القليل الذي تعرفه لم يقبل ذلك العالم بل يرجع عليه ماله و ذلك لأنّ الأموال لذّات خيالية و ما يصل إلى مالكها منها إلا تعب الأرواح و الأبدان و العلم لذّة حقيقية لا يزال يصعد بصاحبه حتى يرقيه فوق مراتب الملوك و السلاطين،و هل رأيت عالما عزل عن سرير علمه؟و كم رأيت سلطانا عزل عن سرير ملكه و تاجر أغرق ماله أو سرق فبقي يتكفف الناس

و نظير هذا ما روي من أن رجلا من فقراء الشيعة أتى إلى الأمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام فشكى إليه الفقر،فقال له عليه السّلام انت من شيعتنا تدعي الفقر شيعتنا كلهم أغنياء،ثمّ قال له يا فلان أنت(إنّ)لك تجارة قد أغنتك؛فقال و ما هي؟قال لو أنّ رجلا غنيا قال لك أعطيك ملأ الدنيا فضة و تحول عن ولاية أهل البيت إلى ولاية غيرهم أ كنت فاعلا قال لا يا ابن رسول اللّه و لو ملأت الدنيا لي ذهبا،فقال عليه السّلام إذن لست فقيرا و أنّما الفقير من ليس له مالك،ثمّ وصله بمال.

و روي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما لأصحابه من الفقير؟قالوا الذي لا درهم له و لا دينار؛فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس هذا هو الفقير،و إنّما الفقير الذي يؤتى به في عرصات القيامة ضاربا لهذا و شاتما لهذا و غاضبا من هذا؛فإن كان له شيء من الحسنات أخذت منه و دفعت ألى المضروب و المغصوب منه و المشتوم،و إن لم يكن له حسنات أخذت ذنوبهم و جعلت في عنقه،أقول و ذلك قوله تعالى و ليحملنّ أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم.

و لنرجع إلى ما نحن بصدده،فنقول أن خطبته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجة الوداع قد رواها العامّة و الخاصة و هي صريحة فما ذهبنا إليه غير قابل للتأويل،رواها شيخنا الكليني طاب ثراه بإسناده ألى الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجة الوداع ألا أنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و اجملوا في الطلب،و لا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن

ص:208

تطلبوه بشيء من معصية اللّه،فإنّ اللّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسمها حراما ،فمن اتقى اللّه و صبر أتاه رزقه من حله و من هتك حجاب ستر اللّه عز و جل و أخذه من غير حاّه قص به رزق الحلال و حوسب عليه يوم القيامة،و أما ما يترآى من بعض الأخبار التي أطلق عليها لفظ الرزق على الحرام فسبيله التأويل و ارتكاب المجاز جمعا بين الأخبار،مع أنّ اللّه سبحانه قال في كتابه العزيز و مما رزقناهم ينفقون،فمدحهم على هذا الإنفاق و لا مدح لمن أنفق من الحرام.

بقي الكلام في أن الرزق هل ينقص يزيد بتفاوت السعي و نقصانه ام لا؟و ظاهر الأخبار المعتبرة أنّه إذا ضمّ إليه السعي القليل المأمور به كان غير قابل لهما بل لا يصل إليه إلا ما قدّر له، و في دعاء الصحيفة و جعل لكل أرواح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقه لا ينقص من زاده ناقص و لا يزيد من نقص منهم زايد،و في الحديث أنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال؛نعم لو جلس الرجل في بيته و ترك الطلب فهل يجب على اللّه سبحانه إيصال الرزق إليه أم لا يجب؟قال بعضهم بوجوب القدر الضروري و هو ما يمسك به الحياة ؛و قال بعضهم لا يجب إلا لمن ألقى عنان التوكل إليه لقوله تعالى و من يتوكل على اللّه فهو حسبه، و الحق إنّ مثل هذه الأيصال غير واجب عليه سبحانه،نعم ربما تفضل به و لا مانع من التفضل.

في الحديث أنّه لما نزل قوله تعالى و ما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها قال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ ربنا قد تكفل بأرزاقنا فلا نتعب في طلبها فغلقوا عليهم الأبواب و جلسوا في بيوتهم،فنزلت آية السعي في مناكب الأرض و أطرافها،ففتحوا الأبواب و سعوا في تحصيل الأرزاق،و من هنا كان المحدّثون من أصحاب النبي و الأئمة عليهم السّلام أهل حرفة و كسب و تجارة؛نعم ذاك زمان و هذا زمان و ذلك أن العلم كان علم الكلام و الحديث و كانت عين الحياة موجودة عندهم يردونها في كل أوقاتهم و لا كانوا مثلنا يحتاجون إلى الاجتهاد في المسائل عند تعارض الأدلّة؛و لا كانوا يحتاجون إلى صرف أكثر أوقاتهم في الفحص عن أحوال العلوم و مقدماتها من العربية و المنطق و اللغة إلى غير ذلك من علوم الإجتهاد الإثنى عشر علما؛و قد اشتهر أن العلم نقطة كثرها الجاهلون و قد قلنا سابقا بدله أن العلم بسيط ركّبه العالمون،فمن هذا لم يسع العلماء في هذه الأعصار الجمع بين الكسب للمعاش و تحصيل العلوم الكثيرة إلى أن يبلغوا درجة الأجتهاد فلا جرم و كلّوا أمور معاشهم إلى خالقهم و هو رازقهم و عليه فليتوكل المتوكلون؛ و قد تتبعنا أكثر موارد الرزق و أسبابه فلم نر سببا أجلب للرزق من الصدقة،فإن الوفاء حاضر و هو عشرة أو سبعون إلى سبعمائة عوض الواحد،فمن أراد تصديق هذا فليتصدق على فقير بدرهم و ينظر كيف يجازيه ربه في ذلك اليوم أو غده مع ما يدّخر له من الأجر الجزيل و الثواب

ص:209

الجميل،و ما أحسن قول الشاعر في شأن أكثر أرزاق الجهّال و سموّ مكانهم؛و فقر العقلاء و اتضاعهم

الدهر كالبحر يعلو وفقه جيف و يستقر بأقصى قعره الدرر

و في السماء نجوم لا عداد لها و ليس يكسف إلا الشمس و القمر

و هذا هو الذي جلب الدواهي إلى العقلاء و نفخ قلوبهم،و قرقر بطونهم و قال بعض مشائخنا من أهل الظرافة:

قلت لنحوي و في بطنه قرقرة ما هذه القرقرة

فقال يا جاهل في نحونا هذا تسمى الضرطة المضمرة

و قال سيدنا المرتضى قدس اله روحه في عتاب الدنيا:

عتبت على الدنيا فقلت إلى متى أكابد ضراهمه ليس ينجلي

اكل شريف قد على بجدوده حرام عليه الرزق غير محلل

فقالت نعم يا ابن الحسين رميتكم بسهم عناد حين طلقني علي

و بالجملة شأن الدنيا و مدارها اعاننا اله و إيّاكم من خدائعها.

نور في احوال الملوك و الولاة و كيفية ما ينبغي لهم من السلوك في أنفسهم و مع رعيتهم

و ما يلحق بهذا

إعلم أيدك اللّه و وفقك أن قوله تعالى تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء؛دليل على أن امور الملك مقدرة في عالم الملكوت،و ذلك أنا رأينا من أتعب نفسه و بذل ماله في تحصيل ملك أو ولاية فلم يصل إليها و بلغه غيره بلا تعب و بذل مال،هذا ما يقتضيه ظاهر لفظها،و أما بطن الآية فقد ورد في الخبر أن المراد بالملك الذي يؤتيه اللّه من يشاء هو الملك الواقعي الذي يكون اللّه تعالى به راضيا و هو ملك آل محمد عليهم السّلام و توابعهم، فهو الملك الذي آتاهم و لم يؤته غيرهم.

قال الصادق عليه السّلام و أما ملك بني أمية فقد غصبوه من آل محمد،و ذلك كما أن الرجل له ثوب فيأتي إليه رجل فغصبه إياه فاللّه تعالى لم يؤته ذلك الثوب و إنّما تعدى في أخذه

ص:210

و غصبه،و حاصل معنى الآية حينئذ أن إعطاء الملك بيدك فمن كان في علمك قابلا له نوهت بإسمه في هذا العالم و قررت أن يكون هو الملك و السلطان كأهل البيت عليهم السّلام و المجتهدين من شيعتهم بعدهم؛و من لم يكن في علمك قابلا للملك كأعداء آل محمد و مخالفيهم نزعته عن الملك و ما أعلمت العباد إلا بعدم استحقاقه للملك؛فإن الخليل عليه السّلام لما جعل ملكا و سلطانا و إماما لكافة الناس أراد إبقاء هذا الملك في ذريته فقال و من ذريتي،فأجابه تعالى لا ينال عهدي الظالمين،فأسمعه في القديم أنّ من كان ظالما كان معزولا عن الملك و الدولة و الإلهية، فلينظر الوالي و الملك الموالين لأهل البيت عليهم السّلام فإن كانوا من أهل الظلم و التعدي كانوا في معزل عن أن يكونوا قد آتاهم اللّه الملك،و إن كانوا من أهل العدل و في مقام قضاء حوائج الشيعة و التحنن على فقرائهم فليعلموا أنه ملك من اللّه سبحانه و دولة ساقها اللّه إليهم فيجب عليهم القيام بشكرها و اعلم أنه ينبغي للولاة و السلاطين أن يجعلوا لهم وقتا خاصا مع ربهم يتضرعون فيه إليه و ينزعون ثياب الملك و يلبسون الثياب الخشنة و يقرون له بالعبودية ليكون كفارة ما أظهروه من الجبروت في حضور الخلايق،و قد نقل أهل السير و التواريخ أن عمر بن عبد العزيز كان له في كل يوم بيت يدخله وحده و يغلق عليه بابه و يلبث فيه كثيرا ثم يخرج منه،فلما توفي و جلس في مكانه يزيد بن عبد الملك سأل خواص بن عبد العزيز عن خزانته؛فقالوا لا نعلم له خزانة و لكن له موضع كان يتفرد به وحده فلعل خزانته تكون هناك،فلما ذهبوا إلى ذلك البيت و فتحوا قفله رأوه بيتا خاليا من الفروش أرضا بيضاء و فيه مكان مفروش بالتراب فوق الأرض مقدار ما يصلي فيه الإنسان عنده ثياب خشنة بعضها من الليف و بعضها من الكرباس الغليظ؛ و فوقها طوق من الحديد كان يضعه في عنقه و يلبس تلك الثياب و يجلس فوق ذلك التراب للبكاء و التضرع

و نقل مثل هذا و امثاله من أطوار الملك الجليل الشاه عباس الأول أسكنه اللّه بحابيح الجنان و حكى رجل كان يخدمه لما كان ذلك الرجل صغير السن،قال أمرني ذات يوم بحمل الإبريق معه ليتطهر به من البول قال ذلك الولد فحملته و مشيت خلفه حتى صعد إلى سطح عال في بيوته،فلما انتيت معه إلى أول السطح أخذ الإبريق من يدي و قال لي أجلس هنا حتى أرجع إليك؛فأجلسني في مكان لا أراه فيه فغاب عني طويلا حتى خفت عليه؛فلحقته فرأيته ساجدا و هو يبكي و خده ملصق بالأرض و قد صار تحته شبه الطين من الدموع،ثم رفع رأسه و غضب علي فاعتذرت إليه إني خفت عليك بطول مقامك على السطح فصببت الماء على يديه و غسل وجهه، فلوى أذني و قال لا يخرج منك شيء و إن سألك أحد من الخدام و العبيد فقل كان الشاه يلوط بي.

ص:211

و قد عرفت أن العبادة هي التواضع للّه سبحانه و أول من سبقهم بهذا ملك الملوك و سلطان السلاطين مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام،لقد كان له حالات مع ربه في أوقات خاصة يجلس فيها على التراب و يتذرع إلى اللّه تعالى.

و في الرواية عن عروة بن الزبير قال كنا جلوسا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فتذاكرنا أعمال أهل بدر و بيعة الرضوان،فقال ابو الدرداء أ لا أخبركم بأقل القوم مال و أكثرهم ورعا و أشدهم اجتهادا في العبادة؟قالوا من؟قال علي بن أبي طالب،قال رأيته في حايط بني النجار يدعو بدعوات،و ذكر الدعوات إلى أن قال؛ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حسا و لا حركة؛فقلت غلب عليه النوم لطول السهر و اوقظه لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة؛فحركته فلم يتحرك؛فقلت إنا للّه و إنا إليه راجعون مات و اللّه علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم،فقالت فاطمة يا ابا الدرداء ما كان من شأنه و قصته؟فاخبرتها الخبر فقالت هي و اللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من غشية اللّه،ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق و نظر إليّ و أنا أبكي،فقال ما بكاؤك يا أبا الدرداء؟فقلت بما أراه تنزله بنفسك فقال يا أبا الدرداء فكيف فقال يا أبا الدرداء فكيف اذا رأيتني أدعى إلى الحساب و أيقن أهل الجرائم بالعذاب و احوشتني ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمني الأحباء و رفضني أهل الدنيا لكنت أشد رحمة لي بين يدي من رتخفى عليه خافية،فقال أبو الدرداء فو اللّه ما رايت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لا يجوز للولاة أن يقولوا نحن ملوك و لم يطلب اله تعالى منا العبادة و إنما أراد منا العدالة ،فيدلهم الشيطان بغروره و يستفزهم،بل يجب أن يتصوروا بأن كلما عظمت النعمة على العبد عظم تكليفه بالشكر عليها،و لا شكر إلا الطاعة و العبادة و الإحسان إلى العباد،و ينبغي أن يعلموا أن طاعتهم من الصلاة و الصوم و نحوها يترتب عليها من الثواب الكامل ما لا يترتب على غيرها و ذلك لكثرة المشقة عليهم في تحملها لما تعودوا عليه من التنعم و التلذذ.

و روي أن أفضل الأعمال أحمزها،و ينبغي لكل وال من الولاة أن يميل إلى حب العلماء و الأخيار و أن يكثر مصاحبتهم و مجالستهم و يختار له صاحبا منهم؛و يكون عالما ورعا سليم النفس،راغبا في قضاء حوايج المؤمنين ليجلب للوالي أسباب الثواب.

اما حب العلماء فلما روي من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كن عالما او متعلما او محبّا لأهل العلم و لا تكن الرابع فتهلك،و في الحديث ان من احب حجرا حشره اللّه معه و المرء مع من احب،و قال عليه السّلام ان اللّه يغفر للمؤمنين و لمحبيهم و لمحبي محبيهم،فهذا من أفضل الأعمال للولاة و غيرهم،و اما مجلستهم فلما ورد في الخبر من ان جلوس ساعة واحدة مع العالم يعدل من

ص:212

الثواب ما لا يحصى و ان النظر الى العلماء عبادة،و اما اختيار صاحب منهم بتلك الأوصاف فليكون واعظا له مذكرا له في احوال الغفلات لكثرة مشاغله فيحتاج الى الواعظ و المذكّر،و هكذا كان احوال الملوك و السلاطين في الأعصار الماضية.

و ينبغي ان يعظه برفق،روي ان عابدا دخل على معاوية ليعظه،فقال يا فاسق يا كلب هكذا تظلم الناس و أطال الكلام معه،فقال له معاوية يا عابد انت افضل من موسى نبي اللّه ام هو افضل منك؟فقال بل موسى خير مني،فقال له و أنا أشقى ام فرعون؟فقال بل فرعون،فقال انّ فرعون لما ارسل اللّه اليه واعظين و هما موسى و هارون قال لهما فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ فأمرهما اللّه سبحانه بالكلام اللّين و أنت تعظني بهذه الخشونة،و ليكن هم المصاحب للوالي ان يقص عليه احوال الملوك و الولاة المتقدمين الذين كانوا أشد منه بأسا و أقوى مراسا فأفناهم الزمان و جار عليهم الدهر الخوان،و من اعظمهم نبي اللّه سليمان بن داود عليه السّلام فلقد طلب من اللّه تعالى الملك بقوله رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّٰابُ حتى قال نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحم اللّه اخي سليمان ما كان ابخله.

و قال الصادق عليه السّلام لما سأل عن معنى الآية و الحديث،فقال اما معنى الآية فهو ان سليمان اراد ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ان يقول ان ملك سليمان قد حصّله سليمان بالغلبة و الجنود مثل سلاطين الدنيا،فسخّر اللّه له الريح و الطير و الوحش و ميز ملكه عن ملك الملوك حتى عرف الناس ان ملك سليمان قد أعطاه اللّه ايّاه و اما معنى الحديث فقال عليه السّلام رحم اللّه اخي سليمان ما كان ابخله بعرضه،او رحم اخي سليمان ماكا ابخله لو كان معنى الآية ما ذهب اليه عوام الناس من الأخذ بظاهرها،و قد منح اللّه سبحانه سليمان عليه السّلام ملكا عظيما حيث سخر لهى ما في الكونين فأمر سليمان عليه السّلام الجن فنسجوا له بساطا من الأبريسم و الذهب، و كان يجلس عليه مع خاصته،و كان في مجلسه على البساط ستمائة ألف كرسي،و لسليمان عليه السّلام سرير مرصع في وسط الكراسي يجلس عليها العلماء و الأنبياء،و سخر له ريح الصبا غدوها شهر و رواحها شهر،و كان يسير في اول النهار من مكة و يتغذى في الكوفة ثم يسير من الكوفة و يتعشى في الشام.

و قد زاد اللّه في ملكه بانّه ما يتكلم احد كلمة اين ما كان الا ألقتها الريح الى اذنه حتى يسمعها،و مع هذا الملك كان لم يأكل ما مسّه النار بل كان يعمل من سعف (1)الخوص زنبيلا و يشتري بثمنه شعيرا فيضعه بين صخرتين حتى يصير جريشا و يجعله في الشمس حتى يجف فيأكله،

ص:213


1- (1) محركة جريدة النخل او ورقه.

فاذا جنّه الليل نزع ثياب الملك و لبس ثيابا من ليف النخل و غل يديه الى عنقه فقام باكيا الى الصباح.

و في الرواية عن الصادق عليه السّلام قال ان سليمان عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه ان اللّه تبارك و تعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي سخّر لي الريح و الأنس و الجن و الطيور و الوحوش،و علمني منطق الطير و أتاني من كل شيء و مع جميع ما أوتيت الملك ماتم سروري يوما الى الليل،و قد احببت ان ادخل قصري في غد فأصعد الى اعلاه و أنظر الى ممالكي و لا تؤذوا لأحد علي لئلا يرد عليّ ما ينقص عليّ يومي،فقالوا نعم،فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد الى اعلى موضع من قصره،و وقف متكيا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما أوتي فرحا بما أعطاه،اذ نظر شاب حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره،فلما بصر به سليمان قال له من أدخلك الى هذا القصر و قد اردت ان اخلو فيه اليوم؟و باذن من دخلت؟قال الشاب ادخلني هذا القصر ربه و باذنه دخلت،فقال ربه أحق مني فمن انت؟فقال انا ملك الموت قال و فيم جئت؟قال جئت اقبض روحك،قال امض لما امرت به فهذا يوم سروري و ابى اللّه عز و جل ان يكون لي سرور دون لقائه،فقبض ملك الموت روحه و هو متكىء على عصاه،فبقي سليمان متكيا على عصاه و هو ميت ما شاء اللّه و الناس ينظرون اليه و هم يقدّرون(يعتقدون)انّه حي فافتتنوا فيه و اختلفوا.

فمنهم من قال ان سليمان قد بقى متكيا على عصاه الأيام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم يأكل و لم يشرب انّه لربنا الذي يجب علينا ان نعبده،و قال قوم ان سليمان سارح،و قال المؤمنون ان سليمان عبد اللّه و نبيه يدبر اللّه امره بما شاء،فلما اختلفوا بعث اللّه عز و جل الأرضة فدبّت في عصا سليمان،فلما أكلت جوفها انكسرت العصا و خر سليمان من قصره على وجهه،فشكرت الجن للأرضة صنيعها،فلأجل ذلك لا توجد الأرض في مكان الا و عندها ماء و طين،و ذلك قول اللّه عز و جل فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ يعني عصاه،فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

ثم قال الصادق عليه السّلام و اللّه ما نزلت هذه الآية هكذا و انما نزلت فلما خر تبينت الجن ان الأنس لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين،ثم لينظر العاقل اغلى قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم لو كانت الدنيا تسوى عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء، و الى قول جبرئيل عليه السّلام يا محمد ان اللّه يقول لك عش ما شئت فانك ميت،و احبب من شئت فانك مفارقه،و اعمل ما شئت فانك مجزى به،و لما دخل يزيد الرّقاشي على عمر بن عبد العزيز قال عظني يا يزيد،قال يا امير المؤمنين اعلم انك لست اول خليفة تموت،فبكى عمر و قال

ص:214

زدني يا يزيد،فقال يا امير المؤمنين ليس بينك و بين آدم الا أب ميت،فبكى و قال زدني يا يزيد، فقال يا امير المؤمنين ليس بين الجنة و النار منزل،فسقط مغشيا عليه،و ليتلوا الواعظ ان الدنيا دار من لا دار له،و مال من لا مال له،و لها يجمع من لا عقل له،و عليها يعادي من لا علم له،و عليها يحسد من لا فقه له،و من صح فيها سقم،و من سلم فيها هرم،و من افتقر فيها حزن،و من استغنى فيها فتن حلالها حساب و حرامها عقاب،من سعى اليها فاتته،و من قعد عنها اتته،لا خيرها يدوم و لا شرها يبقى.

و اعلم ان الذي اصبحت فيه من النعيم انما صار اليك بموت غيرك و هو خارج من يدك بمثل ما صار اليك و هل الدنيا الا كما قال الأول قدر يغلي و كنيف يملأ:

و لقد سألت الدار عن اخبارهم فتبسمت عجبا و لم تبدي

حتى مررت على الكنيف فقال لي أموالهم و نوالهم عندي

و قال الرشيد لأبن السماك عظني و بيده شربة من ماء،فقال يا امير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أ كنت تشتريها بملكك؟قال نعم،قال أ رأيت لو حبس عنك خروجها أ كنت تفتديها بملكك؟قال نعم،قال فما(فلا)خير في ملك لا يسوى شربة و لا بولة.

و حكى الأصمعي ان النعمان لما بنى الخورنق و أشرف عليه يوما و قد اعجبه ملكه وسعته و نفوذ امره،فقال لأصحابه هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟فقال له حكيم من حكماء اصحابه هذا الذي أوتيت شيء لم يزل و لا يزول ام شيء كان لمن قبلك زال عنه و صار اليك؟قال بل شيء كان لمن قبلي و صار الي و سيزول عني،قال فسررت بشيء تذهب عنك لذته و تبقى تبعته،قال فاين المهرب؟قال امّا تقيم و تعمل بطاعة اللّه او تلبس أمساحا و تلحق بجبل تعبد ربك فيه و تفر من الناس حتى يأتيك أجلك،قال فاذا فعلت ذلك فمالي،قال حياة لا تموت و شباب لا يهرم،و صحة لا تسقم و ملك جديد لا يبليه،قال فاي خير فيما يفنى اللّه لأطلبن عيشا لا يزول ابدا،فانخلع من ملكه و لبس الأمساح و سار في الأرض و تبعه الحكيم،و جعلا يسيحان في الأرض و يعبدان اللّه حتى ماتا.

و هذا القصر قد بناه رجل اسمه سنمار و فلما فرغ من بنائه دخله النعمان و خواصه و تعجبوا من عظم بنائه و ارتفاعه،فقال لهم ذلك الباني و أعجب من هذا انّي اريك آجرة في حائطه اذا قلعتها تهدم هذا القصر العظيم كلّه فدلّه عليها،فأمر به فرموه من أعلى القصر،و قيل انّما رماه لئلا يبني لغيره من الملوك مثله،و قد صار جزاء سنمار مثلا بين الناس يضرب لمن يقابل الأحسان بالأسائة،و وجدت هذه الأبيات على مدينة سيف بن ذي يزن و هو من اعظم الملوك:

ص:215

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

و استنزلوا من معالي على(عن)معاقلهم فأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من ما دفنوا اين الأسرّة و التيجان و الحلل

اين الوجوه التي كانت محجبة من دونها تضرب الأستار و الكلل

فأفصح القبر عنهم حير سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتلل

قد طال ما أكلوا يوما و ما شربوا فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا

و قد رأيت مدينة عظيمة في فارس و هي على جبل و لها مصعد تصعد منه الدواب و الحيوانات،و هو منه صخرة واحدة،و فيه درجات كثيرة و فوق تلك المدينة مجلس عظيم قد كان له سقف و الآن ليس هو بمحوجود،و انّما الموجود منه اسطواناته و كل واحدة منها صخرة سوداء تقرب من المنارة ارتفاعا،و فيها حمام من صخرة واحدة،و امّا طرقاتها فوضعها عجيب و هو انّ الطريق و ان طال قد صنعوه من اربعة احجار،فحجر هي أرضه و حجر في يمينه و الأخرى عن شماله،و الرابعة سقفه،و له فرج من الجانب الفوقاني للضوء،و حدثنا اهل تلك البلاد انّ تلك المدينة من بنيان الجن لسليمان عليه السّلام و رأيت على بعض أحجارها مكتوبا هذين الشعرين:

اين الملوك التي كانت مسلطة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خرابا و دار الموت أهليها

و في الأخبار ان اسكندر عليه السّلام اجتاز يوما في عسكره على رجل جالس في مقبرة و بين يديه عظام رميمة و جماجم بالية و هو ينظر اليها،فقال له الأسكندر ما تصنع في هذه العظام؟ فقال ان هذه المقبرة قد دفن فيها جماعة من الملوك فبعثني اللّه سبحانه ان أعزل عظام الملوك عن عظام الفقراء فأنا انظر في هذه الجماجم و العظام لا أعرف هذا من هذا،فمضى الأسكندر و قال و اللّه ما عنى غيري،و هذا كان السبب في طلبه الموضع الذي مات فيه.

و في الرواية ان داود عليه السّلام اجتاز على غار فدخله فوجد فيه رجلا ميتا عظيم الخلقة و اذا عند رأسه حجر مكتوب فيه انا دوسم الملك،ملكت ألف عام و فتحت ألف مدينة،و هزمت ألف جيش و افترعت الف بكر من بنات الملوك ثم صرت الى ما ترى(رميما كما ترى)فصار التراب فراشي و الحجارة و سادتي،و الدّيدان جيراني فمن رآني فلا يغتر بالدنيا كما غرتني.

و روي ان عيس عليه السّلام مرّ ذات يوم مع جماعة من اصحابه،فلما ارتفع النهار مرّوا بزرع قد امكن من الفرك،فقالوا يا نبي اللّه انا جياع،فأوحى اللّه تعالى اليه ان ائذن لهم في قوتهم،

ص:216

فأذن لهم فتفرّقوا في الزرع يفركون و يأكلون،فبينما هم كذلك اذ جاء صاحب الزّرع و هو يقول زرعي و أرضي ورثتها من آبائي فباذن من تأكلون؟قال فدعى عيسى عليه السّلام ربه،فبعث اللّه تعالى جميع من ملك تلك الأرض من لدن آدم الى ساعته،فاذا عند كل سنبلة او ما شاء اللّه رجل او امرأة ينادون زرعي و أرضي ورثته عن آبائي؟ففزع الرجل منهم و كان قد بلغه امر عيسى عليه السّلام و هو لا يعرفه،فلمّا عرفه قال معذرة اليك يا رسول اللّه انّي لم اعرفك زرعي و مالي حلال لك،فبكى عيسى عليه السّلام و قال ويحك هؤلاء كلّهم قد ورثوا الأرض و عمروها ثم ارتحلوا عنها،و انت مرتحل عنها و لا حق بهم ليس لك أرض و لا مال،و في الدّيوان المنسوب الى مولانا امير المؤمنين عليه السّلام انّه لمّا رأى فاطمة عليها السّلام مسجاة بثوبها بكى فرثاها ثم قال:

لكل اجتماع من خليلين فرقة و ان الذي دون الممات قليل

أرى علل الدنيا عليّ كثيرة و صاحبها حتى الممات عليل

و انّ افتقادي فاطما بعد احمد دليل على ان لا يدوم خليل

الا ايّها الموت الذي لست تاركي أرحنى فقد أفنيت كل خليل

اراك بصيرا بالذين احبهم كأنّك تنحو نحوهم بدليل

و لما نفض يديه من ترابها تمثّل بقول بعض بني ضبّة:

أقول و قد فاضت دموعي حسرة أرى الأرض تبقى و الأخلاء تذهب

أخلاي لو غير الحمام اصابكم عتبت و لكن ما على الموت معتب

و روي ان عيسى عليه السّلام كان مع صاحب له يسيحان،فأصابهما الجوع فأنتهيا الى قرية فقال عيسى عليه السّلام لصاحبه انطلق فاشتر لنا طعاما،و قام عيسى عليه السّلام يصلي فجاء الرجل بثلاثة أرغفة،فأبطأ عليه انصراف عيسى عليه السّلام،فأكل رغيفا،فأنصرف عيسى عليه السّلام فقال اين الرغيف الثالثة؟فقال ما كان الا رغيفين،قال فمرا على وجوههما حتى مرّا بظباء،فدعى عيسى عليه السّلام ظبيا منها فنحروه و أكلوا منه،فقال عيسى عليه السّلام للظبي قم باذن اللّه فقام حيا،فقال الرجل سبحان اللّه فقال عيسى عليه السّلام بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟فقال ما كانا الا اثنين فخرجا حتى اتيا قرية عظيمة،فاذا قريب منها ثلاث لبنات من ذهب،فقال الرجل هذا مال؟فقال عيسى عليه السّلام أجل هذا مال واحدة لي و واحدة لك و واحدة لصاحب الرغيف الثالث،فقال الرجل انا صاحب الرغيف الثالث فقال عيسى عليه السّلام هي لك كلها ففارقه،فأقام عليها ليس معه ما يحمله عليه فمرّ عليه(به)ثلاثة

ص:217

نفرات فقتلوه و أخذوا اللبن،فقال اثنان منهم لواحد انطلق الى القرية فأتنا بطعام،فذهب فقال احد الباقين للآخر تعالى نقتل هذا اذا جاء و نقسم هذا بيننا،و قال الذي ذهب أجعل في الطعام سمّا فأقتلهما و آخذ اللبن،ففعل فلما جاء قتلاه و أكلا الطعام الذي جاء به فماتا،فمرّ بهم عيسى عليه السّلام و هم حولها مصروعون،فقال الدنيا هكذا تفعل بأهلها،و وجد مكتوبا على قبر سيف بن ذي يزن:

من كان لا يطأ التراب برجله وطأ التراب بصفحة الخد

من كان بينك في التراب و بينه شبران كان بغاية البعد

لو بعثرت للناس اطباق الثرى لم يعرف المولى من العبد

و وجد مكتوبا على قصر بعض الملوك:

هذي منازل اقوام عهدتهم يوفون بالعهد مذ كانوا و بالذمم

تبكي عليهم ديار كان يطربها ترنم المجد بين الحلم و الكرم

و لبعضهم:

تروح لك الدنيا بغير الذي غدت و يحدث من بعض الأمور أمور

و تجري اللّيالي باجتماع و فرقة و تطلع فيها أنجم و تغور

فمن ظنّ انّ الدّهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور

عفى اللّه عمّا صير الهم واحدا و أيقن انّ الدّيرات تدور

و في الرواية ان رجلين تنازعا في دار فأنطق اللّه لبنة من جدار تلك الأرض فقالت اني كنت ملكا من ملوك الأرض ملكت الدنيا ألف سنة،فلما صرت ترابا أخذني خزّاف بعد ألف سنة فصيّرني خزفا،فبقيت ألف سنة فأخذني لبّان فصيرني لبنة و انا في هذا الجدار منذ كذا و كذا فلم تنازعا في هذه الأرض.

و روي انه سأل الخضر عليه السّلام عن اعجب شيء رأيته؟فقال أعجب ما رأيته أني مررت على مدينة و لم أر على وجه الأرض أحسن منها،فسألت بعضهم متى بنيت هذه المدينة؟ فقالوا سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و أجدادنا متى بنيت،و ما زالت كذلك من عهد الطوفان،ثم غبت عنها نحو خمسمائة سنة و عبرت عليها بعد ذلك،فاذا هي خاوية على عروشها،و لم أر احد أسأله،و اذا رعاة غنم فسألتهم عنها،فقالوا لا نعلم،فغبي عنها نحوا من خمسمائة عام ثم انتهيت

ص:218

اليها فاذا موضع تلك المدينة بحر،و اذا غواصون يخرجون منها اللؤلؤ فقلت لبعض الغواصين منذ كم هذا البحر هيهنا؟فقالوا سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و لا أجدادنا الاّ انّ هذا البحر منذ بعث اللّه الطوفان،ثم غبت عنها نحوا من خمسمائة عام ثمّ انتهيت اليها فاذا ذلك البحر قد غاض ماؤه و اذا مكانه أجمة ملتفة بالقصب و البردي و السباع،و اذا صيادون يصيدون السمك في زوارق صغار،فقلت لبعضهم اين البحر الذي كان هيهنا؟فقال سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و اجدادنا انّه كان هيهنا بحر قط،فغبت عنها نحوا من خمسمائة عام ثم اتيت الى ذلك الموضع فاذا هو مدينة على حالته الأولى و الحصون و القصور و الأسوار قائمة،فقلت لبعضهم اين الأجمة التي كانت هيهنا و متى بنيت هذه المدينة؟فقال سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و اجدادنا الا انّ هذه المدينة على حالها منذ بعث اللّه الطوفان،فغبت عنها نحوا من خمسمائة عام ثم انتهيت اليها فاذا عاليها سافلها و هي تدخن بدخان شديد فلم أر أحدا أسأله عنها،ثم رأيت واعيا فسألته اين المدينة التي كانت هيهنا؟و متى حدث هذا الدخان؟فقال سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و اجدادنا الا انّ هذا الموضع كان هكذا منذ كان،فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي في الدنيا فسبحان مبيد العباد.

و لما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسّالا يلوي بيده ثوبا،فقال وددت اني كنت غسّالا لا أعيش الا بما أكتسبه يوما فيوما،فبلغ ذلك ابا حازم فقال الحمد للّه الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه و لا نتمنى عنده ما هم فيه،و كانت العرب لا تعرف الألوان انّما طعامهم اللحم يطبخ بماء و ملح حتى كان زمن معاوية،فاتّخذ الألوان و اسرف فيها و ما شبع من كثرة ألوانه حتى مات.

و قيل ان السبب الموجب لنزول معاوية بن يزيد بن معاوية عن الخلافة انّه سمع جاريتين يتلاحيان و كانت احديهما بارعة الجمال،فقالت لها الأخرى لقد أكسيك جمالك كبر الملوك، فقالت الحسناء و اي ملك يضاهي ملك الحسن و هو قاض على الملوك و هو الملك حقا،فقالت لها و اي خبر في الملك و صاحبه امّا قائم بحقوقه و عامل بالشكر فيه فذاك مسلوب اللذة و القرار منغص العيش،و امّا منقاد لشهواته و مؤثر للذة و مضيّع للحقوق و منصرف عن الشكر فمصيره الى النار، فوقعت الكلمة من نفس معاوية موقعا مؤثرا و حملته على الأنخلاع عن الخلافة فقال له أهله أعهدت الى احد يقوم بها مكانك؟فقال كيف اتجرّع مرارة فقدها و أتقلّد تبعة عهدها،و لو كنت مؤثرا بها لأثرت بها نفسي،ثم انصرف و اغلق بابه و لم يأذن لأحد،فلبث بعد ذلك خمسا و عشرين ليلة ثمّ قبض،و قالت له امه عند ما سمعت منه ذلك ليتك كنت حيضة،فقال ليتني كنت حيضة كما تقولين و لا اعلم انّ للناس جنة و لا نارا و لا للنار اناسا،و نحو ذلك من الموعظ و النصائح.

و ينبغي للوالي ان لا يتأنق في الملبس في غير ايام اعياده بل يلبس الأوسط من الثياب ليرغب الناس في لبس الأدنى،فتتوفر الأموال بين الرعية و يكثر اسباب الخير عندهم،و لعلم

ص:219

الوالي انّ كلّ رداء يرتديه فهو جميل و انّ الثياب يعلو قدرها يلبسه لا انّها هي التي ترفع قدره، و كان ملك السلاطين مولانا امير المؤمنين عليه السّلام قد رفع جبّة عند الخياط و وضع فيها سبعين رقعة حتى قال و اللّه انّي لأستحي من راقعها ان يرقعها لي مرة اخرى،و الولاة لا يقدرون على هذا لكن لا يفوتهم الأقرب اليه،و اما المطعم فان تأنقوا فيه فينبغي لهم ان يحضروا طعاما مخصوصا بهم و يكون على المائدة طعام خال من التكلف لتأكله الولاة،حتى انهم لو لم يأكلوا منه فلا أقل من ان يكون حاضرا معهم على الموائد و هو طعام الفقراء لتقتدي الناس به و ليسهل على الفقير فقره، و ليكون مذكر للوالي و اهل خاصته احوال الفقراء و المساكين و مشبّههم في بعض الأحوال فانّ من تشبّه بقوم كان منهم و ان لم يعمل عملهم كما جاء في الرواية.

و روي ان فرعون كان له مضحكة يضحك من كلامه،فأتى يوما الى باب فرعون ليدخل عليه فرأى رجلا واقفا على باب فرعون رث الهيئة عليه عباءة سملة و بيده عصاه،فقال له من انت؟قال انا موسى نبي اللّه ارسلني الى فرعون أدعوه الى التوحيد،فرجع على طريق الأستهزاء،فاغتاظ موسى عليه السّلام من إستهزائه به ثم لما انتهى حال فرعون الى ان اغرقه اللّه تعالى ايّاه و جنوده في شطّ النيل فنجا اللّه سبحانه ذلك الرجل الذي استهزىء بموسى،فقال يا رب كيف لا تعزق هذا و هو قد أذاني؟فأوحى اللّه تعالى يا موسى ان لا اعذب من تشبّع بأحبابي و ان كان على غير طريقهم.

و روي ان امير المؤمنين عليه السّلام لمّا صار واليا منع نفسه من ان يبات شبعانا،فقيل له في ذلك؟فقال ينبغي للوالي ان يكون في مطعمه مثل أفقر رعيته،و انا أخاف ان يكون رجل في اليمامة قد بات جائعا فكيف اشبع انا من الطعام.

و ينبغي للوالي ان يرفع حجابه و أهل ابوابه في وقت الغداء و العشاء،و يأمر بفتح الأبواب لتدخل الأيتام و أهل السؤال فينالوا من طعامه شيئا،و لا يكون أهل السؤال يصيحون من وراء الجدران و الأبواب حتى لو أمر لهم بطعام بيد أحد غلمانه فربما أخذه الغلام لنفسه و ربما اعطاه الفقير و أعقبه بالإهانة و الضّرب حتى لا يجيء مرة اخرى،اما لأن ما يأخذه الفقير نقص من غداء الغلمان و عشائهم و امّا لأنّ الغلام اذا مشى الى الفقير الذي يكون واقفا خارج الأبواب فات على ذلك الغلام شيء من مقرّره من المائدة و اما لغير ذلك،بل ينبغي للوالي و اهل الثروات ان يعاينوا و يطلعوا على اعطاء السائلين من موائدهم و ان هم اعطوا بأيديهم فيا لها من مكرمة لا يعد لها ثوابها شيء.

و كان الصادق عليه السّلام اذا اعطى السائل درهما او نحوه اخذه من يد السائب فقبله و وضعه على عينه،ثم دفعه اليه مرة اخرى،فقيل له في ذلك؟فقال لأنّ درهم السؤال اول ما يقع

ص:220

في يدي اللّه تعالى فأحب ان اتشرف به و اعظمه لمكان يدي الرحمة،و كان الكاظم عليه السّلام يتصدق بالسكر و الحلوى فقيل له في سببه؟فقال ان اللّه تعالى يقول لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰى تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ و أنا احب السّكر و الحلوى فأحب ان أتصدق بهما،و في الرواية انّ اللّه تعالى انّما امهل فرعون و مدّ له في الملك مع ما كان عليه من الكفر انّه كان اذا حضرت موائده أمر بفتح الأبواب و رفع الحجاب،و كان كل من يمر على بابه من الفقراء و الأيتام يأكل من طعامه،و في رواية أخرى انه كتب على باب قصره بسم اللّه الرحمن الرحيم،فلما تعجّل موسى عليه السّلام نزول العذاب عليه أوحى اللّه سبحانه اليه يا موسى انت تنظر الى كفره و انا انظر الى ما كتبه على باب قصره.

و روي ان رجلا من اهل مصر رفع الى فرعون عنقود عنب،و قال له انت ربنا فأطلب منك ان تحول هذا العنب لئالىء كبارا،فأخذ العنقود من يده و دخل بيتا من بيوته و غلق عليه الأبواب و جلس يتفكر كيف يصنع ذلك الأمر،فأتى عليه الشيطان و دق عليه الباب،فقال فرعون من بالباب؟فقال ابليس ضرطتي بلحية رب لا يدري من بالباب،فعرفه فرعون (1)فقال ادخل يا ملعون،فقال ابليس ملعون يدخل على ملعون فدخل عليه فرآه متحيّرا متفكرا فأخذ العنقود و قرأ عليه اسما فصيّره عنقودا من اللؤلؤ فقال له يا فرعون أنصف من نفسك أنا في هذا العالم و الكمال و ما قبلوني ان اكون عبدا و أنت في هذا الجهل و الحماقة تريد ان تكون ربا،فقال له فرعون لم لا سجدت لآدم حين امرت بالسجود له؟فقال له ابليس لأنّي علمت انّ مثلك في صلبه.

و ما أحسن مراسلة وقعت بين كسرى و قيصر و هو انّ قيصر ملك الروم بعث الى كسرى ملك الفرس ممّا ذا انتم اطول منّا اعمارا و أدوم ملكا؟فأجابه كسرى امّا بعد ايها السيد الكريم و الملك الجسيم،اما سبب الملك و اغرازه في مغرزه و رسوخه في مركزه فلأمور أنتم غافلون و لستم لأمثالها فاعلون،منها ان ليس لنا نوّاب يرشي و يمنع و لابواب يدفع و يردع لم تزل ابوابنا مشرعة و نوّابنا لقضى الحوائج مسرعة،لا أقصينا صغيرا و لا أدنينا اميرا و لا احتقرنا بذوي العقول(الأصول)،و لا قدّمنا الشّبان على الكهول و لا كذبنا في وعد و لا صدقنا في ايعاد و لا تكلّمنا بهزل و لا سمنا وزيرا الى عزل،موائدنا مبسوطة و عقولنا مضبوطة لا نقطع في امل و لا لجليسنا نمل، خيرنا مضمون و شرّنا مأمون و عطاؤنا غير ممنون،لا نجوح احدا الى باب بل نقضي بمجرّد الكتاب، نرقّ للباكي و نستقصي قول الحاكي ما جعلنا همّنا بطونتنا و لا فروجنا،اما البطون فلقمة و اما الفروج فأمة،و لا نؤاخذ على قدر غيظنا بل نؤاخذ على قدر الجناية،و لا نكلف الضّعيف المعدم

ص:221


1- (1) كيف عرف فرعون ابليس و تكلمه و لذا اظن هذه القضية اسطورة ذكروها من باب المطايبة و الأمثال.

ما يتحمله الشّريف المنعم و لا نؤاخذ البريء بالسقيم و لا الكريم باللئيم النمام عندنا مفقود و العدل في جانبنا موجود الظلم لا نتعاطاه و الجور أنفسنا تأبأه،لا نطمع في الباطل و لا نأخذ العشر قبل الحاصل،لا ننكث العهود و لا نحنث في الموعود الفقير عندنا مدعو و المفتخر لدينا مقصو،جارنا لا يضام و عزيزنا لا يرام رعيتنا مرعية و حوائجهم لدينا مقضية صغيرهم عندنا خطير وزريهم لدينا كبير،الفقير بيننا لا يوجد و الغنى بما لديه يسعد العالم عندنا مكرم معظم و التّقى عندنا(لدينا خ) موقّر مقدم،و لا يسد بمملكتنا باب و لا يوجد عندنا سارق و لا مرتاب سماؤنا معطرة و اشجارنا لم تزل مثمرة،لا نعامل بالشهوات و لا نجازي بالهفوات،الطير الينا شاكي و البعير اتانا متظلم و باكي عدلنا قد عم القاصي و الداني وجودنا قد غمر الطائع و العاصي،عقولنا باهرة و كنوزنا ظاهرة و فروجنا عفايف و ذيولنا نظايف،أفهامنا سليمة حلومنا جسيمة كفوفنا سوامح بحورنا طوافح نفوسنا ابية و طوالعنا المعية،ان سألنا اعطينا و ان قدرنا عفينا(عفونا)و ان وعدنا اوفينا و ان غضبنا اغضينا،فلمّا وصل الكتاب الى قيصر قال يحق لمن يكون هذه سياسته ان تدوم رئاسته.

و ينبغي للوالي ان لا يشعر قلبه التّكبر و ان اظهره في حضور الرعية لمصلحة الملك و اذا جلس او ركب و رأى العساكر حافّة به فليذكر ذلك الوقت عظمه اللّه سبحانه و ليذكر حقارته و هوانه،و ان الملك زائل عنه اغلى غيره و انّه يصل الى طبقات الأرض و يصاحب الديدان،فاذا خطر بخاطره مثل هذا عرف قدر نفسه.

و في كتب السير انّ عمر بن عبد العزيز كان له ابن و قد صاغ خاتما من ألف درهم، فحكوا له ما صنع ابنه،فكتب اليه يا بني بع الخاتم بألف درهم و اشبع بها ألف مسكين و صغ خاتما من اربعة دراهم و اكتب على فصّه رحم اللّه امرأ عرف قدره،فصنع ما امره،و في الحديث القدسي العز ازاري و الكبرياء ردائي فمن نازعنيهما ادخله ناري و لا ابالي.

و قال عليه السّلام يا ابن آدم أني لك و الفخر فانّ أوّلك جيفة و آخرك جيفة و في الدنيا حامل الجيف،و قد سبق تحقيق هذا في باب التكبر.

و ينبغي للوالي ان يجعل لأمواله ثلاثة من الوكلاء:واحد منها يكون وكيله في قبض الأموال الحلال مثل مداخل أملاكه و تجاراته الحلال و نحو ذلك ليصرفها على نفسه و على تصدّقاته و عطاياه للعلماء و الفقراء و الأخيار،و ثانيها ان يكون وكيله في قبض الخراج و الأموال التي تجبى اليه كل سنة و يكون قانونا سلطانيا على الرعية فانّ مثل هذه تقرب من الحلال ان لم تكن حلالا، و ذلك انّ الوالي اذا كان عالما عاملا من عمّال السلطان و أولاه تلك البلاد فكأنه أعطاه مال خراجها و مقرّراتها و يكون الوزر على السلطان،فبهذا يكون داخلا تحت الشبهات و لا يكون حراما محضا،و ثالثها ان يكون وكيله في قبض المحرمات المحضة فانّ ولاة هذه الأعصار و لا يتركون

ص:222

مثله و يكون مصرف هذا اهله فانهم احق به من الغير و الاّ فلا يكون مصرف مثل هذا الاّ في الأمور الحقيرة البعيدة من الشرع.

و يجب على الوالي الوجوب العيني و هو أهم ما يجب عليه العدل و حياطة الرعية قال انوشيروان حصّن البلاد بالعدل فهو سور لا يغرقه ماء و لا يحرقه نار و لا يهدمه منجنيق و كان كسرى اذا جلس في مجلس حكمه أقام رجلين عن يمينه و شماله و كان يقول لهما اذا زغت (1)فحرّكوني و نبّهوني،فقالا له يوما و الرعية تسمع ايّها الملك انتبه فانّك مخلوق لا خالق و عبد لا مولى،و ليس بينك و بين اللّه قرابة انصف الناس و انظر لنفسك.

و قال بعض الحكماء اذا ولّيت ولاية فايّاك و ان تسعين في ولايتك بأقاربك فتبتلي بما ابتلي به بن عثمان بن عفان و اقض حقوقهم بالمال لا بالولاية،و حمل بعض عمّال انوشيروان اليه في بعض السنين ثمانين ألف درهم زيادة على الموظف المقرّر،فسأله عن ذلك؟فقال وجدت في ايدي قوم فضلا فأخذته منهم،فقال ردّوا هذا المال على من اخذ منه فان مثلنا في ذلك كمثل من طين سطحه بتراب اسا بيته،فيوشك ان يكون ضعف الأساس و ثقل السطح مسرعين في خراب بيته.

و في الحديث من و لي من امور المسلمين شيئا ثم لم يحطّهم بنصحه كما يحوط أهل بيته فليتبوّأ مقعده من النار،و روي ايضا انه اذا كان يوم القيامة يؤتى بالوالي فيقذف على جسر جهنم يأمر اللّه سبحانه الجسر فينتفض به انتفاضة فيزول كل عظم منه عن مكانه،ثم يأمر اللّه تعالى العظام فترجع الى اماكنها ثم يسأل فأن كان مطيعا أخذ بيده و أعطاه كفلين من رحمته و ان كان للّه عاصيا أخرق به الجسر فهوى به جهنّم مقدار سبعين خريفا.

و في الرواية انّه كان في زمن بني اسرائيل سلطان ظالم فأوحى اللّه سبحانه الى نبي من أنبيائه أن قل لهذا الظالم ما جعلتك سلطانا الاّ لتكف أصوات المظلومين عن بابي،فوعزتي و جلالي لأطعمنّ لحمك الكلاب،فسلّط عليه سلطانا آخر حتى قتله فأطعم لحمه الكلاب.

و روي ان كسرى صنع طعاما فدعى الناس اليه،فلمّا فرغوا و رفعت الآلات وقعت عينه على رجل و قد أخذ جاما له قيمة كثيرة،فسكت عنه و جعل الخدم يرفعون الآلات فلم يجدوا الجام،فسمعهم كسرى يتكلمون فقال ما لكم؟قالوا فقدنا جاما من الجامات فقال لا عليكم أخذه من لا بردّه و أبصره من لا ينمّ عليه فلمّا كان بعد ايّام دخل الرجل على كسرى و عليه حلية جميلة و حال مستجدة،قال له كسرى هذا من ذاك؟قال نعم،و لم يقل له شيئا.

ص:223


1- (1) أي ملت عن الحق.

و روي اهل السّر و التواريخ انّ كسرى انوشيروان قد ظلم في أوّل حكمه كثيرا حتى بلغ ظلمه الى رجل راهب كان يعبد اللّه في صومعته،فكتب العابد اليه كتابا بسم اللّه الرحمن الرحيم ملكتم فأسأتم،و وضع عليكم فضيّقتم،نسيتم سهام الأسحار و هي صائبة خصوصا اذا خرجت من قلوب قد اوجعتموها و اجساد قد أعريتموها و أجفان عين قد أجريتموها،فأعملوا ما شئتم فأنا صابرون و جوروا فانّا بعزة اللّه واثقون،و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

و ينبغي يعلم نيّات الملوك و الولاة له مدخل في زيادة معائش الرعية و نقصانها،و روى الكليني عن ابيه قال خرج كسرى في بعض ايّامه للصيد فعنّ له صيد فتبعه فانقطع عن اصحابه، فرفع له كوخ فقصده فاذا عجوز بباب الكوخ جالسة،فقالت له أنزل فنزل و دخل الكوخ فاذا ابنة العجوز قد جاءت و معها بقرة،فأدخلتها الكوخ و كسرى ينظر و قال في نفسه:

ينبغي ان نجعل على كل بقرة اناوة فهذا حلاّب كثير،فلمّا مضى من الليل شطره قالت العجوز يا فلانة قومي الى البقرة فاحلبيها فقامت الى البقرة فوجدتها حائلا فنادت امّها يا اماه قد اضمر لنا الملك شرّا قالت و ما ذلك؟قالت لأن هذه البقرة حائل و ما تدرّ بقطرة،فقالت لها امّها امكثي فانّ عليك ليلا،فقال كسرى في نفسه من أين لها انّي اضمرت في نفسي الشر اما انّي لا أفعل ذلك،قال فمكثت قليلا ثم نادتها يا بنية قومي احلبي البقرة،فقامت اليه فوجدتها حاملا،فحلبتها و أقبل الصبح و تتبّع الرجال كسرى أثره حتى أتوه،فركب و امر بحمل العجوز و ابنتها اليه فحملتا فأحسن اليهما،و قال كيف علمت ان الملك قد اضمر شرّا و ان الشر الذي قد اضمره قد عدل عنه؟قالت العجوز انا بهذا المكان من كذا و كذا ما عمل فينا بعدل الا أخصب بلادنا و اتّسع عيشنا،و ما عمل فينا بجور الا ضاق عيشنا و انقطعت موادّ النفع عنا.

و في كتاب عجائب المخلوقات انّ ريحان الفارسي و هو الأخضر لا الذي يميل الى الحمرة لم يكن قبل كسرى انوشيروان و انما وجد في زمانه،و سببه انّه كان ذات يوم جالسا كفوّا عنها فانّي أظنها مظلومة،فمرت تنساب حتى استدارت على فوهة بئر،فنزلت فيها ثم أقبلت تتطلع فنظروا فاذا في قعر البئر حية مقتولة و على ظهرها عقرب اسود،فأدلي بعضهم رمحه الى العقرب فنخسها به و أتى الملك فخبّره بحال الحية،فلما كان في العام القابل أتت الحيّة في اليوم الذي كان كسرى جالسا فيه للمظالم و جعلت تنساب حتى وقفت و لفظت من فيها بذرا اسود،فأمر الملك ان يزرع فنبت منه اليرحان،و كان الملك كثير الزكام و أوجاع الدماغ فاستعمل منه و نفعه جدّا،فانظر الى عدل هذا الملك اين بلغ،على انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ولدت في زمن الملك العادل يعني به كسرى.

ص:224

و رووا انه لما اراد بناء قصره الذي في المدائن امر بشراء ما حوله و رغّب الناس في الثمن الوافر الا عجوز كان لها بيت صغير قالت ما ابيع جوار السلطان بالدنيا كلها فاستحسن انوشيروان منها هذا القول و امر بترك ذلك البيت على حاله و احكام عمارته و بنى الأيوان محيطا به و كان في جانب الأيوان قبة محكمة العمارة يعرفها اهل تلك الناحية بقبة العجوز و كان على الأيوان نقوش و صور بالتزاويق و قد شكوا غلمان الدار الى انوشيروان و قالوا ان العجوز تدخن في بيتها و دخانها يفسد نقوش الأيوان فقال كلما افسدت اصلحوها و لا تمنعوها من التدخين و كان للعجوز بقرة تأتيها آخر النهار لتحلبها،فاذا وصلت الى الأيوان طووا فرشه لتمشي البقرة الى باب قبة العجوز فاذا فرغت من حلبها رجعت البقرة و سووا الفراش و كان هذا مذهبه في العدل.

و روي ان المأمون ارق ليله فاستدعى سميره (1)تحدته بحديث فقالت يا امير المؤمنين كان بالبصرة بومة و بالموصل بومة فخطبت بومة البصرة الى بومة الموصل بنتها لأبنها فقالت بومة البصرة لا انكحك ابنتي الا ان تجعل في صداقها مائة ضيعة خراب فقالت بومة الموصل لا اقدر عليها الآن و لكن ان دام و الينا سلمه اللّه تعالى علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك فاستيقظ المأمون و تفقد امر الولاة.

و روى شيخنا الكليني باسناده الى الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل جعل لمن جعل له سلطانا أجلا و مدّة من ليالي و ايّاما و سنين و شهور فان عدلوا في الناس امر اللّه عز و جل صاحب الفلك فأبطأ بادارته فطالت ايّامهم و لياليهم و سنونهم و شهورهم و قد وفى اللّه عز و جل بعدد الليالي و الشهور.

قال شيخنا المعاصر ادام اللّه ايّامه لعل المراد بسرعة ادارة الفلك و بطؤها تعجيل زوال اسباب الملك و عكسه،و يجوز ان يكون لكل دولة فلك غير الأفلاك المعروفة الحركات فيكون سرعة الأدارة و بطؤها عارضين لذلك الفلك انتهى و كأنه ايده اللّه تعالى اراد دفع الأعتراض على ظاهر الحديث من وجهين:

الأول ما ذهب اليه الحكاء و المنجمون من ان الفلك لا يمكن ان يزول عن الحركة التي ههي عليها الآن و برهنوا بزعمهم على هذا.

الثاني انه ربما كان سلطان جائر في بلاد من البلدان و سلطان عادل في بلاد اخرى فكيف يكون جور هذا و ظلمه سببا في زوال ملك الآخر و نقص عمره مع ان رعيه الجائر ايضا مما ليس لهم ذنب في الجور فكيف تنقضي ايام اعمارهم على طريق السرعة

ص:225


1- (1) الذي يحدث بالليل.

و الجواب عن الأول انه قد ورد في الأخبار المستفيضة و قد تقد بعضها ان ايام دولة المهدي عليه السّلام انما تكونه كل سنة منها تعادل سبع سنين من هذه السنين فقيل له يا ابن رسول اللّه ان الفلك لا تزول عن حركتها هذه و لو زال لفسد؟فقال عليه السّلام هذا قول الزنادقة و المنجمين، و المراد بازنادقة الحكماء و اما الأشكال الثاني فالجواب عنه غير الجائر من الرعية و الملوك ان قدروا على ازالته عن الملك و سكتوا عنه مداهنة فالذي يصيبهم من قصر الأعمار و الملك انما هو بسبب المداهنة و قد عذب اللّه تعالى في الأمم السابقة من اذنب و من داهن و جعلهم في العذاب سواء و من لم يقدر على ازالته عن الملك فكان ينبغي له ان يفر عن بلاده و يطلب بلاد اللّه العريضة لأن السكنى مع الظالمين ذنب حتى انه ورد في الحديث لو ان الجعل يبني بيتا في محلة الظالمين لعذبه اللّه تعالى بعذابهم و اما من لم يقدر على الفرار و كان الظلم قد عم البلاد و العباد فيجوز ان يكون سبحانه و تعالى ان يضيف الى اعمار هؤلاء الذين

لم يذنبوا بوجه من الوجوه بقية ايامهم التي اسرع اليها الظلم بحركته فيعوضهم بدلها ايباما و ليالي في دولة من يأتي من الملوك و يظهر من هذا الخبر و غيره ان يام دولة الولاة مكتوب عن اللّه تعالى لا يزيد و لا ينقص الا بالجور و العدل و لو اراد الناس و الرعية و العساكر زواله ما قدروا عليه بوجه من الوجوه كما هو المشاهد حتى تنقضي الأيام و يأذن اللّه بزوا ذلك الملك فعند ذلك يزول بأنقص الأسباب و ادناها فلا ينبغي ان يخطر بخاطر احد من الولاة انني اذا فعلت الفعل الفلاني كان سببا لزوال ملكي الا ان يكون ظالما في ذلك الفعل فحينئذ يجب على الوالي دفع الظالمين الذين يظلمون الرعية و يخيفون الطرقات و يمنعون المتمردين و يغيرون القوافل و نحو ذلك فان لم يدفعهم ظلمهم كان له الحظ الأوفر من العذاب و العقاب و يكون مداهنته مهم هي السبب الأقوى في زوال ملكه مع انه قد ظن انه سبب لبقاء ملكه.

و في بعض الأخبار ان عدل الحاكم يوما يعادل عبادة العابد خمسين سنة و ليس العدل هو ان القضية اذا بلغت اليه حكم بها على طريق الحق و انما العدل وروده هو على القضايا لا ورود القضايا عليه بأن يكون له اطلاع على بلاده و محاله و يكون له العيون و الجواسيس في اقطار ممالكه حتى يتعرف القضايا و يوردوها عليه،و هكذا كان احوال السلف من الملوك و لا يجوز للوالي ان يضرب الأستار و يغلق الأبواب في وجوه المسلمين و لينظر الى قول الصادق عليه السّلام من ضرب بينه و بين اخيه حجابا ضرب اللّه بينه و بين الجنة سبعين حجابا مسير كل حجاب منها سبعون عاما او اكثر و ليجعل له وقتا خاصا لتفرده بنفسه و مع عياله و اهل بيته كما كان يصنع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كتب مولانا امير المؤمنين عليه السّلام لعامله مالك الأشتر قانونا للإماره و الولايه نقلها علماؤنا رضوان اللّه عليهم في الكتب المعتبرة و هذا لفظها:هذا ما امر به على عبد

ص:226

اللّه امير المؤمنين مالك بن الحرث الأشتر في عهده اليه حين ولاه مصر جباية خراجها و جهاد عدوها و استصلاح اهلها و عمارة بلادها امره بتقوى اللّه و ايثار طاعته و اتباع ما أمره به في كتابه من فرائضه و سننه التي لا يسعد احد الا بإتباعها و لا يشقى احد الا مع جحودها و اضاعتها و ان ينصر اللّه سبحانه بيده و قلبه و لسانه فانه جل اسمه قد تكفل بنصرة من نصره و اعزاز من اعزه و امره ان يكسر ممن نفسه عند الشهوات و نزعه عند الجمحات فان النفس امارة بالسوء الا ما رحم اللّه.

ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد و قد خرجت عليها دول قبلك من عدل و جور و ان الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم و انما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده فليكن احب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك و شح بنفسك عما لا يحل لك فان الشح بالنفس الأنصاف فيما احبت او كرهت و اشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبة و اللطف بهم و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم،فانهم صنفان اما اخ لك في الدين و اما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل و تعرض لهم العلل و يؤتى على ايديهم في العمد و الخطاء فاعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحب ان يعطيك اللّه من عفوه و صفحه فانك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك و اللّه فوق من ولاّك و قد استكفاك امرهم و ابتلاك بهم،و لا تنصبن نفسك لحرب اللّه فانه لا يدي لك بنقمة و لا غنى بك عن عفوه و رحمته،و لا تندمن على عفو و لا تبحجنّ بعقوبة و لا تسرعن الى بادرة وجدت عنها مندوحة،و لا تقولن انّي مؤمر آمر فأطاع فانّ ذلك ادغال في القلب و منهكة للدين و تقرب من الغير،و اذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك ابهة او مخيلة فانظر الى اعظم ملك اللّه فوقك و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فانّ ذلك يطامن اليك من طماحك،و يكف عنك من عزمك و يفي اليك بما عزب عنك من عقلك،اياك و مسامات اللّه في عظمته و التّشبه به في جبروته فانّ اللّه يذل كل جبار و يهين كلّ مختال،انصف اللّه و انصف من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك فانّك الا تفعل تظلم،و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، و من خاصمه اللّه أدحض حجته و كان للّه حربا حتى ينزع و يتوب،و ليس شيء ادعى الى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم،فانّ اللّه يسمع دعوة المظلومين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن احب الأمور اليك اوسطها في الحق و اعمها فغي العدل و اجمعها لرضى الرّعية، فان سخط العامّة يحجف برضا الخاصة،و ان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامّة،و ليس احد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء و أقل معونة له في البلاء و أكره للإنصاف و أسأل بالألحاف و أقل شكرا عند الأعطاء و أبطأ عذرا عند المنع و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر من اهل الخاصة، و انما عمود الدين و جماع المسلمين و العدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم و ميلك

ص:227

معهم و ليكن ابعد رعيتك منك و أشنأهم عندك اطلبهم لمعائد الناس فان في الناس عيوبا الوالي احق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها،فإنما عليك تطهير ما ظهر لك و اللّه يحكم على ما غاب عنك،فاستر العوره ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك اطلق عن الناس عقدة كل حاقد و اقطع عنك سبب كل وتر و تغاب عن كل ما لا يصح لك،و لا تعجلن الى تصديق ساع فان الساعي غاش و ان تشبه بالناصحين و لا تدخلن في مشاويرك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر و لا جبانا يضعفك عن الامور،و لا حريصا يزين لك الشره بالجور فان البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللّه شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيرا و من شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فانهم اعوان الأئمة و اخوان الظلمة و انت واحد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم و نفادهم و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم ممن لم يعونوا ظالما على ظلمه و لا آثما على اثمه أولئك أخف عليك مؤنة و أحسن لك معونة و أحنا عليك عطفا و أقل غيرك ألفا فاتخذ أولئك خاصة من خلواتك و حفلاتك ثم ليكن أثرهم عندك أقولهم بمر الحق و أقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره اللّه لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع و ألصق بأهل الورغ و الصدق ثم رضهم على ان لا يطروك و لا يبحجوك بباطل لم تفعله فان كثرة الأطراء تحدث الزهو و تدني من الغرة و لا يكونن المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء فانّ في ذلك تزييدا لأهل الأحسان في الأحسان و تدريبا لأهل الأساءة على الأساءة و ألزم كلا منهم ما ألزم نفسه و أعلم انه ليس شيء بأدعى الى حسن ظن وال(راع خ)برعيته من احسانه اليهم و تخفيفه المؤنات عنهم و ترك استكراهه اياهم على ما ليس له قبلهم،فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فانّ حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا و ان احق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده و ان احق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده و لا تنقض سنة صالحة بها صدور هذه الأمة و اجتمعت بها الألفة و صلحت عليها الرعية و لا تحدثن سنة بشيء يضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها و الوزر عليك بما نقضت منها و أكثر مداومة العلماء و مناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك و اقامة ما أستقام به الناس قبلك.

و اعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض و لا غنى لبعضها عن بعض فمنها جنود اللّه و منها كتاب العامة و الخاصة و منها قضاة العدل،و منها عمال الأنصاف و الرفق،و منها اهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس و منها التجار و أهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة و المسكنة و كل قد سمى اللّه سهمه و وضع على حده و فريضته في كتابه او سنة نبيه عهدا منه عندنا محفوظا فالجنود بأذن اللّه حصون الرعية و زبن الولاة و عز الدين و سبل الأمن و ليس تقوم الرعية الا بهم ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي يقوون به

ص:228

في جهاد عدوهم و يعتمدون عليه فيما أصلحهم و يكون من وراء حاجتهم ثم لأقوام لهذين الصنفين الا بالصنف الثالث من القضاة و العمال و الكتاب لما يحكمون من المعاقد و يجمعون من المنافع و يؤتمنون عليه من خواص الأمور و عوامها و لا قوام لهم جميعا الا بالتجار و ذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم و يقيمونه من اسواقهم و يكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة و المسكنة الذين يحق رفدهم و معونتهم و في اللّه لكل سعة و لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه و ليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه تعالى الا بالأهتمام و الأستعانة باللّه و توطين نفسه على لزوم الحق و الصبر عليه فيما خف عليه او ثقل فول من جنودك انصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك اتقاهم حسا و افضلهم حملا ممن يبطي عن الغضب و يستريح الى العذرة و يرأف بالضعفاء و ينبوا على الأقوياء و ممن لا يثير العنف و لا يقعد به الضعف ثم ألصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة ثم أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة فانهما جماع للكرم و شعب من العرف ثم تفقد من أمورهم ما تتفقده الوالدة من ولدها و لا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به و لا تحقرن لطفا تعاهدتم به و ان قل فانه داعية الى بذل النصيحة لك و حسن الظن بك و لا تدع تفقد لطيف امورهم اتكالا على جسميها فانّ لليسير منك موضعا ينتفعون به و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه و ليكن اثر رؤوس جندك عندك من ساواهم في معونته و افضل عليهم من جدته بما يسعهم من وراءهم من خلوف اهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو فانّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك و لا تصح نصيحتهم الا بحيطتهم على ولاة أمورهم و قلة استثقال دولهم و ترك استبطاء انقطاع مدتهم و افسح في اموالهم و اوصل من حسن الثناء عليهم و تعديل ما أبلى ذه البلاء منهم فان كثرة الذكر لحسن افعالهم يهز الشجاع و يحرض ان كل ان شاء اللّه ثم اعرف لكل مرء منهم ما أبلى و لا تضمن بلاء احد الى غيره و لا تقصرن به دون غاية بلاءه و لا يدعونك شرف امرأ الى ان تعظم من بلاءه ما كان صغيرا و لا ضعه امرأ الى ان تصتصغر من بلاءه ما كان عظيما و اردد الى اللّه و رسوله ما يطعلك من الخطوب و يشتبه عليك من الأمور فقاد قال اللّه سبحانه لقوم احب ارشادهم يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ فلراد الى اللّه الآخذ بمحكم كتابه و الراد الى الرسول الآخذ بسنته الجامعة غير المفرقة ثم أختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور و لا تمحقه الخصوم (1)و لا يتمادى في الزلة و لا يحسر من الفئ الى الحق اذا عرفه و لا تشرف نفسه على طمع

ص:229


1- (1) امحكه جعله محكان أي عسر الخلق او اغضبه أي لا تحمله مخاصمة الخصوم على اللجاج و الأصرار على رأيه.

و لا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه اوقفهم في الشبهات و آخذهم بالحجج و اقلهم تبرما بمراجعة الخصم و اصبرهم على تكشف الأمور و اصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزهيه اطراء و لا يستميله اغراء و اولئك قليل ثم أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علته و تقل معه حاجته الى الناس و اعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك أغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظرا بليغا فان هذا الدين قد كان اسيرا في ايدي الأشرار يعمل فيه بالهوى و تطلب به الدنيا ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم في امورك اختيارا و لا تولهم محاباة و آثره فانهما جماع من شعر الجور و الخيانة و توخ منهم اهل التجربة و الحياء من البيوتات الصالحة و القدم في الأسلام المتقدمة فانهم اكرم اخلاقا و اصح اغراضا و أقل في المطامع اشرافا و ابلغ في عواقب الأمور نظرا ثم اسبغ عليهم الأرزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم و غنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم و حجة عليهم ان خالفوا امره او ثلموا امانتك ثم تفقد اعمالهم و ابعث العيون من اهل الصدق و الوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لأمورهم جذوة لهم على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية،و تحفظ من الأعوان فان احد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا و بسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله،ثم نصبته بمقام المذلّة و وسمته بالخيانة و خلّدته عار التهمة.

و تفقد الخراج بما يصلح اهله فانّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم و لا صلاح لمن سواهم الا بهم،لأنّ الناس كلهم عيال على الخراج و اهله،و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج،لأنّ ذلك لا يدرك الا بالعمارة و من طلب الخراج بغير عمارة و أخرب البلاد و أهلك العباد لم يستقم امره الا قليلا،فان شكوا ثقلا او علة او انقطاع شرب او بالّة او احالة ارض اغتمرها غرق او احجف بها عطش خففت عنهم بما ترجوا ان يصلح به امرهم فلا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك و تزين ولايتك مع استجلاب حسن ثناؤك و تبحجك باستفاضة العدل فيهم متعمد افضل قوتهم بما ذخرت عندهم من اجمالك لهم و الثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم و رفقك بهم فربما حدث من الأمور ما اذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة انفسهم به فان العمران محتمل ما حملته و انما يؤتى خراب الأرض من أعواز اهلها و انما يعوز اهلها لأشراف انفس الولاة على الجمع و سوء ظنه بالبقاء و قلة انتفاعهم بالعبر ثم انظر في حال كتابك فول من امورك خيرهم و اخصص رسائلك التي تدخل فيها تدخل فيها مكائدك و اسرارك باجمهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترى بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ و لا تقصر به الغفلة عن ايراد مكاتبان عمالك عليك و اصدار جواباتها على الصواب عنك و فيما يأخذ لك و يعطي منك،

ص:230

و لا يضعف عقدا عقده لك و لا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك و لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فان الجاهل يقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك و استنامتك و حسن الظن منك فان الرجال يتعرفون بفراسات الولاة بتصنعهم و حسن خدمتهم و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شيء و لك اختبرهم بما ولوا الصالحين غيرك فأعهد لأحسنهم كان في العامة اثر او اعرفهم بالأمانة وجها فان ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن وليت امره و اجعل لرأس كل امر من امورك رأسا منهم لا يقهرها كبيرها و لا يتشتت عليه كثيرها و مهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته ثم استوص بتجار و ذوي الصناعات و اوصي بهم خيرا المقيم منهم و المضطرب و المترفق بيديه فانهم مواد المنافع و اسباب المرافق و جلابها من المباعد و المطارح في برك و بحرك و سهلك و جبلك و حيث لا يلتأم الناس لمواضعها و لا يجترؤن عليها فانهم سلما لا تخاف بائقته و الصلح لا تخشى غائلته و تفقد امورهم بحضرتك و في حواشي بلادك و اعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكما في البياعات و ذلك باب مضرة للعامة و عيب على الولاة فامنع من الأحتكار فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منع منه و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل و اسعار لا يجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك اياه فنكل و عاقب في غير اسراف ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم و المساكين و المحتاجين و البؤساء و الزمني فان في هذه الطبقة قانعا و معتر او احفظ اللّه ما استحفظك من حقه فيهم و اجعل لهم قسما من بيت مالك و قسما من غلات صوافي الأسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى و كان قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطرف انك لا تقدر بتضييعك ألطافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همك عنهم و لتصعر خدك لهم و تفقد امور من لا يصل اليك منهم ممن تقتحمه العيون و تحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من اهل الخشية و التواضع فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالأعذار الى اللّه سبحانه يوم تلقاه فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الأنصاف من غيرهم و كل فاعذر الى اللّه في تأدية حقه اليه و تعهد أهل اليتيم و ذوي الرقة في السن مما لا حيلة له و لا ينصب للمسئلة نفسه و ذلك على الولاة ثقيل و الحق كله ثقيل و قد يخففه اللّه على اقوام طلبوا العاقبة فصبروا انفسهم و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عاما فتواضع فيه للّه الذي خلقك و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في غير موطن لن تقدس امة لا يؤخذ فيها للضعيف حقه من القوي غير متعتع ثم احتمل الخرق منهم و العي و نحّ عنك الضيق و الأنف يبسط اللّه عليك بذلك أمناف رحمته و يوجب لك ثواب طاعته و اعط ما اعطيت هنيئا

ص:231

و امنع اجمال و اعذار ثم امور من امورك لا بد لك من مباشرتها منها اجابة عمالك بما يعي عنه كتابك و منها اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج منه صدور اعوانك و امض لكل يوم عمله فان لكل يوم ما فيه و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه افضل تلك المواقيت و اجزل تلك الأقسام و ان كانت كلها للّه اذا صلحت فيه النية و سلمت منها الرعية و ليكن في خاصة ما تخلص للّه به دينك اقامة فرائضه التي هي له خاصة فاعط اللّه من بدنك في ليلك و نهارك و وف ما تقربت به الى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم و لا منقوص بالغامنة بالغا من بدنك ما بلغ و اذا اقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا و لا مضيعا (1)فان في الناس من به العلة و له الحاجة،و قد سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اله حين وجهني الى اليمن كيف اصلي بهم؟فقال صلّ بهم كصلاة أضعفهم و كن بالمؤمنين رحيما.

و اما بعد هذا فلا تطولنّ احتجابك عن رعيتك فانّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق و قلة علم بالأمور،و الأحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير و يقبح الحسن و يحسن القبيح و يشابه الحق بالباطل و انّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور و ليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب و انّما انت احد رجلين امّا امرء و سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه او فعل كريم تسديه او مبتلى بالمنع فما اسرع كفّ الناس عن مسألتك اذا أيسوا من بذلك،مع انّ اكثر حاجات الناس منك لغيرك و عمّا قليل تنكشف عنك اغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم،املك حميّة أنفك و سورة حدك و سطوة يدك و عزب لسانك و احترس من كل ذلك بكف الباذرة و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الأختيار و لن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد الى ربك،و الواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة او سنّة فاضلة او أثر عن نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فريضة في كتاب اللّه فتقتدي بما شاهدته مما علمنا به فيها و تجتهد نفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا و استوثقت به من الحجة لنفسي عليك لئلا تكون لكعلّة عند تسرع نفسك الى هواها،و ان ظنّت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك و اعدل عنك ظنونهم باصحارك،فانّ في ذلك رياضة منك لنفسك و رفقا برعيتك و اعذارا تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحق و لا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوّك للّه فيه رضى فانّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك،و لكن الحذر من عدوك بعد صلحه فانّ العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم و اتّهم في ذلك حسن الظن،و ان عقدت بينك

ص:232


1- (1) التنفير بالتطويل و التضييع بالنقص في الأركان و المطلوب التوسط.

و بين عدوك عقدة او ألبسته منك ذمة فحطّ عهدك بالوفاء و اردع ذمتك بالأمانة،و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فانّه ليس من فرائض اللّه سبحانه شيء الناس اشدّ عليه اجتماعا مع تفريق اهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر،فلا تغدرن بذمتك و لا تخيسنّ بعهدك و لا تختلن عدوّك فانّه لا يجتري على اللّه الا جاهل شقي و قد جعل اللّه عهده و ذمته امنا أقضاه بين العباد برحمته و حريما يسكنون الى منعته و يستفيضون الى جواره فلا ادغال و لا مدالسة و لا خداع فيه و لا تعتقد عقدا تجوز فيه العلل و لا تعولن على لحن قول بعد التّأكيد و التّوثقة،و لا يدعونك ضيق امر لزمك فيه عهد اللّه الى طلب انفساخه بغير الحق فانّ صبرك على ضيق أمر ترجوا انفراجه و فضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته و ان تحيط بك من اللّه فيه طلبة لا تستقيل فيها دنياك و لا آخرتك.

ايّاك و الدماء و سفكها بغير حلها فانّه ليس شيء أدعى لنقمته و لا أعظم لتبعة و لا أحرى بزوال نعمة و انقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها،و اللّه سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة،فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فانّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد لأنّ فيه قيود البدن،و ان ابتليت بخطأ،و أفرط عليك سوطك او سيفك او يدك بعقوبة فانّ في الزكاة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تؤدي الى اولياء المقتول حقهم.

و ايّاك و الأعجاب بنفسك و الثّقة بما يعجبك منها و حب الأطراء فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسن،و ايّاك و المن على رعيتك باحسانك و التزيد فيما كان من فعلك أو ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك،فانّ المنّ يبطل الأحسان و التزيد يذهب بنور الحق،و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس قال اللّه سبحانه كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ .

و اياك و العجلة بالأمور قبل اوانها و التساقط (1)فيها عند امكانها او اللجاجة فيها اذا نكرت (2)(تنكرت خ)و الوهن عنها اذا استوضحت فضع كل امر موضعه و أوقع كل عمل موقعه، و اياك و الأستثئار بما الناس فيه اسوة و التغابي عما يعني به ممّا قد وضح للعيون فانّه مأخوذ منك الناس اليك بلا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة او طلب انصاف في معاملة.

ص:233


1- (1) التساقط-بمد السين-من ساقط الفرس عدوه اذا جاء مسترخيا و في نسخة نهج البلاغة [1]المطبوعة مع شرح عبده: التسقط من قولهم في الخبر يتسقط اذا اخذه قليلا قليلا يريد به هنا التهاون.
2- (2) قال عبده تنكرت لم يعرف وجه الصواب فيها و اللجاجة الأصرار على منازعة الأمر ليتم على عسر فيه.

ثم ان للوالي خاصة و بطانة فيهم استثئار و تطاول و قلة انصاف فاحسم مؤنة(مادة خ) اولئك بقطع اسباب تلك الأحوال و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و خاصتك(حامّتك)قطيعة و لا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب او عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة،و الزم الحق من لزمه من القريب و البعيد و كن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع،و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فانّ بغية(مغبّة)ذلك محمودة و انا اسأل اللّه تعالى بسعة رحمته و عظيم قدرته على اعطاء كل رغبة ان يوفقني و ايّاك لما فيه رضاه من الأقامة على العذر الواضح اليه و الى خلقه مع حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد و تمام النعمة و تضعيف الكرامة،و ان يختم لي و لك بالسعادة و الشهادة و انا اليه راعبون و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الطيبين الطاهرين و سلم تسليما كثيرا هذا آخر رسالته عليه السّلام و هي كافية لمن اراد العمل بها من الحكام و الولاة،و فيها سلطان الدنيا و ملك الآخرة،فمن قصد العمل بها أوتي خير الدنيا و الآخرة،و هذه الوصية تحتاج الى شرح حسن منقح لا يخلو من بعض الطول لأنّها كلام من قيل فيه ان كلامه فوق كلام المخلوق و تحت كلام الخالق،و حيث انّ شرحها هنا يحتاج الى بسط فيطول الكتاب فان وفق سبحانه جعلناه كتابا منفردا و باللّه الأستعانة في كل الأمور.

و قد بقي رسالة اخرى رويناها بأسنايد متعددة الى عبد اللّه بن سليمان النوفلي قال كنت عند جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام فاذا بمولى لعبد اللّه النّجاشي قد ورد عليه فسلم و اوصل اليه كتابا ففضّه و قرأه فاذا اول سطر فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم أطال اللّه بقاء سيدي و جعلني من كل سوء فداه و لا أراني فيك مكروها فانّه ولى ذلك و القادر عليه اعلم سيدي اني بليت بولاية الأهواز فان رأى سيدي ان يحد لي حدا و يمثل لي مثالا لأستدل به على ما يقربني الى اللّه عز و جل و الى رسوله،و يلخص في كتابه ما يرى لي العمل به و فيما ابتذله و اين اضع زكاتي و فيمن اصرفها؟ و بمن آنس و الى من استريح و الى من أثق و امن و الجأ اليه في سري،فعسى اللّه ان يخلصني اللّه بهدايتك و دلالتك(و ولايتك)فانّك حجة اللّه على خلقه و أمينه في بلاده لا زالت نعمته عليك.

قال عبد اللّه بن سليمان فأجابه ابو عبد اللّه عليه السّلام بسم اللّه الرحمن الرحيم حاطك اللّه بصنعه و لطف بك بمنه،و كلأك برعايته فانّه ولى ذلك،امّا بعد فقد جائني رسولك بكتابك و قرأته و فهمت ما ذكرته و سألت عنه و زعمت(و ذكرت)انّك بليت بولاية الأهواز فسرني ذلك و سائني،و سأخبرك بما سائني من ذلك و ما سرني ان شاء اللّه تعالى،فامّا سروري بولايتك فقلت عسى ان يغيث اللّه بك ملهوفا خائفا من أولياء آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يعزّ بك ذليلا،و يكسو بك عاريهم،و يقوي بك ضعيفهم،و يطفىء بك نار المخالفين عنهم،و اما الذي

ص:234

سائني من ذلك فان ادنى ما أخاف عليك ان تعثر بوليّ لنا فلا تشم حظيرة القدس فانّي ملخص لك جميه ما سألت عنه ان انت عملت به و لم تجاوزه رجوت ان تسلم ان شاء اللّه تعالى أخبرني يا عبد اللّه ابي عن آبائه عن علي بن ابي طالب عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم انّه قال من استشاره اخوه المؤمن فلم يمحضّه النصيحة سلبه اللّه لبه عنه،و اعلم انّي سأشير عليك برأي ان انت عملت به تخلّصت ممّا انت متخوفه(تخافه خ)و اعلم انّ خلاصك و نجاتك في حقن الدماء و كف الأذى عن اولياء اللّه،و الرفق بالرعية و التأني و حسن المعاشرة مع لين في ضعف و شدة في غير عنف و مداراة صاحبك و من يرد عليك من رسله،و ارتق فتق رعيتك بأن توقفهم على ما وافق الخير و العدل ان شاء اللّه تعالى.

اياك و السعاة و اهل النمائم فلا يلتزقنّ بك منهم أحد و لا يراك اللّه يوما و ليلة و انت تقبل منهم صرفا و لا عدلا (1)فيسخط اللّه عليك و يهتك سترك،و احذر مكرخوز الأهواز فانّ ابي أخبرني عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السّلام انه قال ان الأيمان لا ينبت في قلب يهودي لا خوزي ابدا،فاما من تأنس به و تستريح اليه و تلجأ أمورك اليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينه،و ميز اعوانك و جرب الفريقين فان رأيت هنالك رشدا فشأنك و ايّاه،و ايّاك ان تعطي درهما او تخلع ثوبا او تحمل على دابّة في غير ذات اللّه لشاعر او مضحك او ممتزح الا أعطيت مثله في ذات اللّه،و ليكن جوائزك و عطاياك و خلعك للقوّاد و الرسل و الأجناد و أصحاب الرسائل و اصحاب الشرط و الأخماس،و ما أردت أن تصرفه في وجوه البر و النّجاح و الفتوة و الصدقة و الحج و المشرب و الكسوة التي تصل فيها و تصل بها و الهدية التي تهديها الى اللّه عز و جل و الى رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أطيب كسبك.

يا عبد اللّه اجهد ان لا تكثر ذهبا و لا فضة فتكون من اهل هذه الآية التي قال اللّه عز و جل اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الآية،و لا تستصغرن من حلو او فضل طعام تصرفه في بطون خالية تسكن بها غضب الرب تبارك و تعالى،و اعلم اني سمعت ابي يحدث عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السّلام انّه سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لأصحابه يوما ما آمن باللّه و اليوم الآخر من بات شبعانا و جاره جائع،فقلنا هلكنا يا رسول اللّه؟ فقال من فضل طعامكم و من فضل تمركم و رزقكم و خلقكم و خرقكم تطفئون به غضب الرب، و سأنبئك بهوان الدنيا و هو ان شرفها على ما مضى من السلف و التابعين،فقد حدثني ابي محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام لما تجهز الحسين عليه السّلام الى الكوفة أتاه عبد اللّه بن عباس

ص:235


1- (1) يقال لا يقبل منه صرف و لا عدل أي توبة و فدية او نافلة و فريضة و المراد.

فناشده اللّه و الرحم ان يكون هو المقتول بالطف،فقال اني اعرف بمصرعي منك و ما وكدي من الدنيا الا فراقها،الا اخبرك يا ابن عباس بحديث امير المؤمنين عليه السّلام و الدنيا؟فقال له بلى لعمري انّي احب ان تحدثني بأمرها،فقال قال ابي قال علي بن الحسين عليهما السّلام سمعت ابا عبد اللّه الحسين عليه السّلام يقول حدثني امير المؤمنين عليه السّلام قال انّي كنت بفدك في بعض حيطانها و قد صارت لفاطمة عليها السّلام،فاذا انا بامرأة قد قحمت (1)عليّ و في يدي مسحاة و انا اعمل بها،فما نظرت اليها طار قلبي ممّا تداخلني من جمالها،فشبهتها ببثينة بنت عامر الجمحي و كانت من اجمل نساء قريش،فقالت يا ابن ابي طالب هل لك ان تتزوج بي فاغنيك عن هذه المسحاة؟و ادلّك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت و لعقبك من بعدك؟فقال لها عليه السّلام من انت حتى اخطبك من اهلك؟قالت انا الدنيا،قال لها فارجعي و اطلبي زوجا غيري فأقبلت على مسحاتي و أنشأت أقول:

لقد خاب من غرته دنيا دنية و ما هي ان غرت قرونا بنائل

أتتني على زي العزيز بثينة و زينتها في مثل تلك الشمائل

فقلت لها غري سواي فانني عزوف (2)عن الدنيا و لست بجاهل

و ما أنا و الدنيا فانّ محمدا أحل صريعا بين تلك الجنادل

و هيها اتتني بالكنوز و درّها و أموال قارون و ملك القبائل

أ ليس جميعا للفناء مصيرها و يطلب من خزانها بالطوائل

فغرّي سوائي انّني غير راغب بما فيك من ملك و عز و نائل

فقد قنعت نفسي بما قد رزقته فشأنك يا دنيا و أهل الغوائل

فانّي أخاف اللّه يوم لقائه و أخشى عذابا دائما غير زائل

فخرج من الدنيا و ليس في عنقه تبعة لأحد حتى لقي اللّه محمودا غير ملوم و لا مذموم،ثم اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم لم يتلطخوا بشيء من بوائقها عليهم السّلام أجمعين و أحسن مثواهم،و قد وجهت اليك بمكارم الدنيا و الآخرة عن الصادق المصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فان انت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثمّ كانت عليك من الذنوب و الخطايا كمثل اوزار الجبال و امواج البحار رجوت اللّه ان يتحامى عنك جل و عز بقدرته يا عبد اللّه اياك ان تخيف مؤمنا فانّ ابي محمد بن علي حدّثني عن ابيه عن جدّه علي بن ابي طالب عليه

ص:236


1- (1) الأقحان الدخول في الشيء بشدة و قوة.
2- (2) عزفت نفسي عنه تعزف عزوفا بالزاء المعجمة زهدت فيه و انصرفت و بالفارسية(رو برتافتن).

السّلام انّه كان يقول من ظر الى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه اللّه يوم لا ظل الا ظله،و حشره اللّه في صورة الذّر لحمه و جسده و جميع أعضائه حتى يورد مورده و حدّثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال من أغاث لهفانا من المؤمنين أغاثه اللّه يوم لا ظل الا ظله و آمنه يوم الفزع الأكبر و آمنه من سوء المنقلب و من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه له حوائج كثيرة احديها الجنة،و من كسى أخاه المؤمن من عري كساه اللّه من سندس الجنة و استبرقها و حريرها و لم يزل يخوض في رضوان اللّه ما دام على المكسوّ منه سلك،و من أطعم أخاه من جوع أطعمه اللّه من طيبات الجنة،و من سقاه من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم ريّه، و من أخدم أخاه أخدمه اللّه من الولدان المخلدين و أسكنه مع أوليائه الطاهرين،و من حمل أخاه المؤمن من رجله(على راحلة)حمله اللّه على ناقة من نوق الجنة و باهى به الملائكة المقربين يوم القيامة و من زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها و يشدّ عضده و يستريح اليها زوّجه اللّه من الحور العين و آمنه بمن أحب من الصّديقين من أهل بيت نبيه و أخوانه و آنسهم به،و من أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه اللّه على اجازة الصراط يوم زلّت الأقدام،و من زار أخاه المؤمن الى منزله لا لحاجة منه اليه كتب من زوار اللّه و كان حقيقا على اللّه ان يكرم زائره.

يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام انّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقول لأصحابه يوما معاشر الناس انه ليس بمؤمن من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه فلا تتّبعوا عثرات المؤمنين فانه من تتبع عثرة مؤمن تتبع اللّه عثراته يوم القيامة و فضحه في جوف بيته،و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام انّه قال أخذ اللّه ميثاق المؤمن ان لا يصدق في مقالته و لا ينتصف من عدوه،و على ان لا يشفى غيظه الا بفضيحة نفسه (1)لأنّ كل مؤمن ملجم و ذلك لغاية قصيرة و راحة طويلة،أخذ اللّه ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها عليه مؤمن مثله بمقالته (2)يبغيه و يحسده و شيطان يغويه و يفتنه(يضله)و سلطان يقفو أثره و يتتبع عثراته و كافر باللّه الذي هو به مؤمن يرى سفك دمه دينا و اباحة حريمه غنما فما بقاء المؤمن بعد هذا؟يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال نزل جبرئيل عليه السّلام فقال يا محمد ان اللّه يقرئك السّلام و يقول اشتققت للمؤمن اسما من اسمائي سميّته مؤمنا فالمؤمن منّي و انا منه من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة.

يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم انّه قال يوما يا علي لا تناظر رجلا حتى تنظر في سريرته فان كانت سريرته حسناء فانّ اللّه عز

ص:237


1- (1) أي بتعييبها و تعجيزها عن ان يفعل شيئا للعدو لشفاعة نفسه بل تشفي المؤمن [1]بملامة نفسه و اظهار عجزه و ذله.
2- (2) أي يعتقد مثل ما أعتقده في الدين و مع ذلك يبغيه.

و جل لم يكن ليخذل وليه،و ان كانت سريرته ردية فقد يكفيه مساويه،فلو جهدت ان تعمل به أكثر ممّا عمله من معاصي اللّه عز و جل ما قدرت عليه،يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال أدنى الكفر ان يسمع الرجل عن أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد ان يفضحه بها اولئك لا خلاق لهم.

يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام انّه قال من قال في مؤمن ما رأت عيناه و سمعت اذناه ما يشينه و يهدم مروّته فهو من الذين قال اللّه عز و جل إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عليه السّلام انه قال من روى عن اخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروّته و شينه أوثقه اللّه بخطيئته يوم القيامة حتى يأتي بالمخرج ممّا قال و لن يأتي بالمخرج منه ابدا و من ادخل على اخيه المؤمن سرورا فقد ادخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سرورا،و من أدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سرورا فقد سرّ اللّه و من سرّ اللّه فحقيق عليه ان يدخله الجنة.

ثم اني اوصيك بتقوى اللّه و ايثار طاعته و الأعتصام بحبله فانّه من اعتصم بحبل اللّه فقد أهدي الى صراط مستقيم،فاتق اللّه و لا تؤثر أحدا على رضاه و هواه فانّه وصية اللّه عز و جل الى خلقه لا يقبل منهم غيرها و لا يعظم سواها،و اعلم ان الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى فانه وصيتنا اهل البيت فان استطعت ان لا تنال من الدنيا شيئا تسأل عنه غدا فافعل،قال عبد اللّه بن سليمان فلما وصل كتاب الصادق عليه السّلام الى النّجاشي نظر فيه و قال صدق و اللّه الذي لا اله الا هو مولاي فما عمل احد بما في هذا الكتاب الاّ نجا،فلم يزل عبد اللّه يعمل به ايام حياته، هذا تمام الرسالة بلفظها و قد اشتملت على قوله عليه السّلام ما نبت الأيمان في قلب يهودي و لا خوزي ابدا و لعل ظاهره لا يخلو من اشكال،اذ قوله ابدا يدل بظاهره على استغراق الأزمنة المستقبلة بالنّظر الى زمن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام مع انّ الأهواز قد كان منها المؤمنون في كل الأعصار سيما هذه الأزمان(الأعصار)،و حينئذ فما معنى هذا النفي المؤكد بالدوام؟قلت يمكن الجواب عنه من وجوه:

اوّلها انّ المراد من قوله خوزي كفّارهم بقرينة ذكرهم مع اليهودي،فيكون اشارة الى انّ كفارهم قد طبعوا على الكفر بحيث لا يقبلون دخول الأيمان في قلوبهم،و كأنهم ينشأوا على الفطرة التي قال فيها علي عليه السّلام كلّ مولود يولد على الفطرة حتى انّ ابويه يهوّدانه و ينصرانه.

و ثانيها ان نبات المؤمن مغاير لحصوله و استقراره بعد الحصول و ذلك انبات الأيمان في القلب عبارة عن تأصّله فيه و أستحكام ثباته فيه كأستحكام نبات الشجرة في الأرض و حينئذ فمعناه انّ ايمان غيرهم في القلوب نبات كنبات الشجر في اعماق الأرض و اما ايمان اهل الأهواز فهو

ص:238

كشجرة زرعت على وجه الأرض و دخلت عروقها في الأرض للبقاء لكن اين لإستحكام هذه الشجرة التي نبتت في الأرض و طلعت اغصانها خارج القلب لكن اين لإستحكام هذه الشجرة التي نبتت في الأرض و طلعت اغصانها خارج القلب بعد ان كان مستقرها القلب،و بالجملة فايمان غيرهم قد خرج من داخل القلب و جرى على ظاهره و ايمان اهل الأهواز قد أتى الى القلب من لأعضاء الخارجة عنه،فيكون كناية عن عدم كمال استقراره و ثباته في القلب كما قال عزّ من قائل في قسمي الأيمان فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ .

و ثالثها ان قوله عليه السّلام لا ينبت الأيمان المراد به الأيمان الكامل لما تقدم من انّ الأيمان عشر درجات،و لا ريب انّ امير المؤمنين عليه السّلام اذا اطلق لفظ الأيمان لا يريد به غالبا الا الدرجة العالية منه او ما قاربها كايمان سلمان او ابي ذر و المقداد و عمار و نحوهم من اكابر الصحابة،فمثل هذا الأيمان لا ينبت و لا يدخل في قلوبهم فلا ينافيه دخول الإيمان بأقسامه الأخرى، و لا تظن انّ هذا الجواب هو عين الجواب الثاني بل هو غيره و حينئذ فيكون النابت في قلوبهم أقل درجاته.

و اما الحويزة فهي داخلة في الأهواز،و قد ذكر صاحب كتاب غرائب البلدان مذمة ابلدين(الحويزة)قال الحويزة و ما أدراك ما الحويزة دار الهوان و منزل الحرمان،ثم ما أدراك ما الحويزة أرضها رغام و سماؤها قثام و سحابها جهام و سمومها شهام و مياهها سمام و طعامها حرام و اهلها لئام،و خواصها عوام و عوامها طغام،لا يدري ريعها و لا يرجى نفعها و لا يعرى ضرعها و لا يرعى ذرعها،و لقد صدق اللّه قوله فيها وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرٰاتِ الآية،و هم يتخذون الغمز و الزور الى ارزاقهم سببا و يأكلون الدنيا سلبا و يعدّون الدنيا لهوا و لعبا و لو اطّلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا و فيهم يقول الشاعر:

اذا سقى اللّه أرضا صوب غادية فلا سقاها سوى النّيران تضطرم

و ينسب اليها ابو العباس احمد بن محمد الحويزي و كان اذا عزل عن الدولة شرع في العبادة و الزهد و مطالعة الكتب حتى يظهر للناس انّه كان يتمنى العزل،و اذا أقبلت عليه الدّولة كان من أظلم الظلمة،فصعد اليه جماعة و شقوا بطنه.

قال مؤلف هذا الكتاب عفى اللّه عنه قد كان أوائل تحصيلنا العلوم فيها في أول زمان حكومة الوالي المرحوم السيد علي خان و رأينا ان الغالب على اهلها العبادة و الزهادة و مطالعة العلوم و كتابة الكتب و أهلها في غاية الذكاء،و ذلك انّ الرعية تبع للوالي و كان و اليها المذكور قد حاز الحظ الأوفر من العبادة و الزهادة و التّبحر في فنون العلوم و نظم الأشعار و القصائد الرائقة

ص:239

و قد اكثر من التصانيف العالية في انواع العلوم و قد كان في الحلم و العفو عمّن اساء اليه بمكان لا يداني فيه،و اما شجاعته و قوة قلبه فقد كانت تضرب بها الأمثال،و قد اتصلنا بملازمة مجلسه العالي اوقاتا كثيرة و ما كان عيب مجلسه الا ذكر فنون العلوم و الآداب فيه كما قال الشاعر:

و لا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و قد ذكرنا فيما تقدم مكاتبة أرسلها الينا أكثر فيها الملاطفة و اظهار المحبة،و في وقت تأليف هذا الكتاب صار الوالي ولده المبارك الذي اقتفى أثر ابيه في مكارم الأخلاق السيد حيدر خان، و بالجملة فالولاة اذا جعلوا هذا النور قانونا لأعمالهم و أحكامهم فازوا بالنّشأتين و وفقوا للدولتين.

نور في احوال العالم و المتعلم و كيفية آدابهما

و هذا النور يشتمل على فوائد:الفائدة الأولى آدابهما في أنفسها و هي على أمور:

الأول في نية التعليم و التعلم فانك قد عرفت انّ مدار قبول الأعمال على النّية و بسببها يكون العمل تارة خزفة لا قيمة لها و تارة وبال على صاحبه مكتوب في ديوان السّيئات و ان كان في صورة الواجبات.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال ان اول اناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به الى فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟قال قاتلت فيك حتى استشهدت،قال كذبت و لكنك قاتلت ليقال جريّ فقد قيل ذلك ثم امر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، و رجل تعلم العلم و علّمه و قرأ فيك القرآن قال كذبت و لكنّات تعلّمت ليقال انّك قارئ فقد قيل ثمّ امر به فسحب على وجهه حتى القي في النار.

و هذه الدرجة هي درجة الأخلاص عظيمة المقدار كثيرة الأخطار،و ذلك انّ الأنسان لو فكر في نفسه لعلم انّ الباعث الأكثر سيّما في الأبتداء لطالب العلم طلب الجاه و المال او الشهرة و انتشار الصيت و لذة الأستيلاء و استثارة الحمد و الثناء و ربما لبس الشيطان عليه مع ذلك و يقول لهم غرضكم نشر دين اللّه.

و هذه المقاصد تظهر عند ظهور واحد من الأقران اكثر علما منه و أحسن حالا بحيث يصرف الناس عنه فلينظر حينئذ فان كان حاله مع الموقّر له و المعتقد لفضله احسن و هو له اكثر احتراما و تلقى به أشدّ استبشارا ممّن يميل الى غيره مع كون ذلك الغير مستحقا للموالاة فهو مغرور عن دينه مخدوع و هو لا يدري،و ربّما انتهى الأمر بأهل العلم الى ان يتعايروا تعاير النساء فيشقّ على احدهم ان يختلف بعض تلامذته الى غيره و ان كان يعلم انه ينتفع بغيره و يستفيد في دينه،و لو كان الباعث على العلم هو الأخلاص لكان اذ اظهره غير شريكا او مستبدا او معنا على التّعليم

ص:240

لشكر اللّه تعالى اذ كفاه او اعانه على هذا المهم بغيره،و ايضا فيه تكثر المرشدين الهادين و أوتاد الأرض و ربّما لبس عليه الشيطان و قال انما غمك من ظهور هذا العالم لإنقطاع الثواب عنك و وصوله الى غيرك لا لأجل انصراف الناس عنك و لم يعلم ان انقياده للحق أفضل من انفراده بهذا المعنى بل قد ينخدع الأنسان و يحدث نفسه بانه لو ظهر من هو أولى منه و اعلم لفرح به و اختاره على نفسه،ثم اذا ظهر ذلك العالم كذب عليه في الذي حدثته به نفسه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ اللّه يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فيه،و قال ايضا انّ اللّه يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر.

الأمر الثاني استعمال ما علماه فانّ العاقل همّه الرعاية و الجاهل همه الرواية و جاء رجل الى علي بن الحسين عليه السّلام فسأله مسائل،فأجاب ثم عاد ليسأل مثلها فقال علي بن الحسين عليه السّلام مكتوب في الأنجيل لا تطلبوا علو ما لا تعلمون،و لما تعملوا بما علمتم،فان العلم اذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه الا كفرا و لم يزدد من اللّه الا بعدا و مثال الفقيه المتقن للعلوم من غير عمل مثل مريض به علّة لا يزيلها الا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها الا حذائق الأطباء فسعى في طلب الطبيب بعد ان هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق،فعلّمه الدواء و فصل له الأخلاط و أنواعها و مقاديرها و معادنها التي منها يجلب و علّمه كيفية دقّها و عجنها،فتعلم ذلك منه و كتب منه نسخا حسنة بحسن خط و رجع الى بيته و هو يكررها و يقرأها و يعلّمها المرضى و لم يشتغل بشربها و استعمالها أ فترى انّ ذلك يغني عنه من مرضه شيئا؟هيهات لو كتب منه ألف كتاب و علّمه ألف مريض حتى شفي جميعهم و كرّره كل ليل ألف مرّة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا الى ان يزن الذهب و يشتري الدواء و يخلطه كما تعلم و يشربه و يصبر على مرارته و يكون شربه في وقته بعد تقديم الأحتماء و جميع شروطه،و اذا فعل جميع ذلك كلّه فهو على خطر من شفائه فكيف اذا لم يشربه اصلا،هكذا الفقيه اذا أحكم علم الطاعات و لم يعمل بها،و احكم على المعاصي و لم يجتنبها،و أحكم علم الأخلاق المذمومة و ما زكى نفسه منها،و احكم علم الأخلاق المحمودة و لم يتصف بها فهو مغرور في نفسه مخدوع عن دينه،و قد يغرّه الشيطان فيقول له ما انت و هذا المثال لأنّ مطلبك القرب من اللّه تعالى و يتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم و لم يعلم ما وصف اللّه به العالم التّارك لعلمه كقوله تعالى في وصف بلعم بن باعور الذي كان في حضرته اثنا عشر ألف محبرة يكتبون عنه العلم مع ما آتاه اللّه من الآيات المتعددة التي كان من جملتها انّه كان بحيث اذا نظر يرى العرش،كما نقله جماعة من العلماء،فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث،فاذن المطلوب من العالم انّما هو العلم و العمل.

ص:241

و امّا طلب الرزق فقد ورد في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان اللّه تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه خاصّة عما ضمنه لغيره،بمنى ان غيره يحتاج الى السعي على الرّزق حتى يحصل غالبا و طالب العلم لا يكلفه بذلك بل كفاه مؤنة الرّزق ان احسن الظن به و عندي في ذلك من الوقائع من ألطاف اللّه تعالى بي من أول اشتغالي بالعلم و هو اوائل سنة الستين بعد الألف الى هذا الوقت و هو عام التاسع و الثمانين بعد الألف من انواع الأرزاق و كيفية التّسبب اليها ما لا يحصيه الا اللّه تعالى.

الأمر الثالث حسن الخلق زيادة على غيرهما من الناس و التواضع و بذل الوسع في تكميل النفس،و ذلك ان المتلبس بالعلم ينظر الناس الى اوصافه فتتعدى اوصافه الى غيره من الرعية فيكون في حسن اخلاقه انتظام النّوع كما انّ في فساده فسادها و يا ليته اذ هلك انقطعت مفاسد اعماله بل هي باقية بعده فيمن استن بأخلاقه و أفعاله،قال بعض العارفين ان عامة الناس ابدا دون المتلبس بالعلم بمرتبة،فاذا كان ورعا تقيا صالحا تلبست العامة بالمباحات،و اذا اشتغل بالمباح تلبست العامة بالشبهات،فان دخل بالشبهات تعلق العامي بالحرام كفر العامي،و هذا مما هو مشاهد بالعيان فلا يحتاج الى النقل من الأعيان.

الأمر الرابع ان يكون على الهمّة منقبضا عن الملوك و اهل الدنيا لا يدخل اليهم طمعا ما وجد الى الفرار منهم سبيلا صيانة للعلم عما صانه سلف،و من فعل ذلك فقد خان امانته و عرض نفسه،و في اغلب الأحوال لم يبلغ بغيته،قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا،قيل يا رسول اللّه و ما دخولهم في الدنيا؟قال اتباع السلطان فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم،اما لو اتبع السلطان ليجعله وسيلة الى اعلاء كلمة الحق و ترويج الدين و قمع اهل البدع و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نحو ذلك فهو افضل الأعمال، و به يجمع بين الأخبار و قد فعل ذلك جماعة من الأعيان كعلي بن يقطين و عبد اللّه النجاشي و ابي القسم بن روح احد الأبواب الشريفة و محمد بن اسماعيل بن بزيع،و نوح بن دراج و غيرهم من اصحاب الأئمة الطاهرين،و من الفقهاء مثل السيدين الأجلين المرتضى و الرضي و ابيهما،و خوجا نصير الدين الطوسي و العلامة الحلي،و من المتأخرين شيخنا بهاء الدين محمد العاملي و الفاضل الورع المولى عبد اللّه التستري،و المحقق الكاشي و في هذا العصر استاذنا الخونساري.

روى الصدوق باسناده الى الرضا عليه السّلام انّه قال انّ للّه تعالى بأبواب الظالمين من نور اللّه به البرهان و مكن له في البلاد ليدفع بهم عن اوليائه و يصلح اللّه به امور المسلمين لأنه ملجا المؤمنين من الضرر و اليه يفزع ذوو الحاجة من شيعتنا بهم يؤمن اللّه روعة المؤمن في دار الظلمة اولئك المؤمنون حقا اولئك امناء اللّه في ارضه،اولئك نور اللّه في رعيتهم يوم القيامة

ص:242

و يزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر الكواكب الزّهرية لأهل الأرض،اولئك من نورهم نور القيامة تضيء منهم القيامة خلقوا و اللّه للجنة و خلقت الجنة لهم فهنيئا لهم ما على احدكم ان لو شاء لنال هذا كله،قال الراوي و هو محمد بن اسماعيل بن بزيع بما ذا جعلني اللّه فداك؟قال تكون معهم فتسرنا بادخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد،و لكنّ الحق انّ هذا موضع خطر فانّ حب الرئاسة ربما حجب القلب عن طرق الصواب،و من هذا بعد عنه العلماء الأعلام و قد حدثني اوثق مشايخي انّ السيد الجليل محمد صاحب المدارك و الشيخ المحقق الشيخ حسن صاحب المعالم قد تركا زيارة المشهد الرضوي على ساكنه افضل الصلوات خوفا من أن يكلفهم الشّاه عباس الأول بالدخول عليه مع انه كان من اعدل سلاطين الشيعة فبقيا في النجف الأشرف و لم يأتيا الى بلاد العجم احترازا من ذلك المذكور.

الأمر الخامس ان يحافظ على القيام بشعائر الأسلام و ظواهر الأحكام كإقامة الصلوات في الجماعات و افشاء السّلام للخاص و العام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصبر على الأذى بسبب ذلك صادعا بالحق متكلّما باذلا نفسه للّه لا يخاف لومة لائم متأسيا في ذلك بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيره من الأنبياء،متذكرا لما نزل بهم من المحن عند القيام بأوامر اللّه تعالى،فإن العلماء هم القدوة و يقتدي بهم من لا ينظرون اليه و لا يعلمون به و بالجملة فهم قد ورثوا الأنبياء عليهم السّلام و وارث النبي الأخذ عنه يجب عليه ان يراعي نسبة من اخذ عنه الميراث.

الفائدة الثانية آدابهما في درسهما و اشتغالهما و هو يشتمل ايضا على امور:

أولها ان لا يزال كل منهما مجتهد في الأشتغال قراءة و مطالعة و تعليقا و مباحثة و مذاكرة و حفظا و فكرا و اقراء و غيرها،و ان يكون ملازمته للعلم هي رأس ماله،و من هنا قيل اعط العلم كلّك يعطك(يعطيك)بعضه،و عن الباقر عليه السّلام رحم اللّه عبدا أحيا العلم فقيل و ما احياؤه؟ قال ان يذاكر به أهل الدين و الورع.

و ثانيها ان لا يسأل احدا تعنتا او تعجيزا بل سؤال متعلم للّه او معلّم له منبه على الخبر قاصدا للأرشاد او الأسترشاد فهناك تثمر شجرة العلم،فاما اذا قصد المراء و الجدال و احب ظهور الفلج و الغلبة فان ذلك يثمر في النفس ملكة ردية و يستحق المقت من اللّه تعالى و مع ذلك فهو منقص للعيش فانّك لا تماري سفيها الا و يؤذيك و لا حليما الا و يقيلك(و يغلبك خ)و في تركه ثواب جزيل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ترك المراء و هو محق بني له بيت في أعلى الجنة،و من ترك المراء و هو مبطل بني له بيت في رنط الجنة و حقيقة المراء الإعتراض على كلام الغير باظهار خلل فيه او لفظا او معنى او قصدا لغير غرض ديني أمر اللّه تعالى به،فامّا اللفظ فهو كاظهار خلل فيه من جهة النحو او اللغة او النظم او التّرتيب بسبب قصور المعرفة او طغيان اللسان،و اما في المعنى

ص:243

كإن يقول ليس كما تقول و قد أخطأت فيه لكنّه كذا،و اما في قصده فمثل ان يقول هذا الكلام حق و لكن ليس قصدك منه الحق و ما يجري مجراه و علامة فساد مقصد المتكلم يتحقق بكراهة ظهور الحق على غير يده.

و ثالثها ان لا يستنكف من التّعلم و الإستفادة ممّن هو دونه في منصب او شهرة او سن او في علم آخر،بل يستفيد من كل من يفيده لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها،و ليس العمى طول السؤال و انّما تمام العمى طول السّكوت على الجهل و من هذا الباب ان يترك السؤال استحياء فانه كما قال الصادق عليه السّلام من رقّ وجهه رق عمله،و قال عليه السّلام هذا العلم عليه قفل و مفتاحه السؤال.

و رابعها و هي اهمها الإنقياد للحق بالرجوع عند الهفوة و لو ظهر على يد من هو اصغر منه،فانه هو المكبر المذكور في الأخبار الذي هو رد الحق الى اهله و عدم قبوله منهم،و ما أحسن الأنصاف من العالم،و قد كان لي شيخ جليل قرأت عليه كثيرا من العربية و الأصول فما وجدت احدا أنصف منه،و ذلك انه ربما أشكلت المسئلة علينا وقت الدرس فاذا طالعتها انا و كنت اصغر الشركاء سنّا قال لي ذلك الشيخ هذا الحق و غلطت انا و جميع هؤلاء فيغلط نفسه و الطلبة لأجل معرفته بصحة كلامي،ثم يقول لي امل على ما خطر بخاطرك حتى أعلقه حاشية على كتابي، فأملي لنا عليه و هو يكتبه حاشية،و هو وقت تأليف هذا الكتاب في بلاد حيدرآباد من بلاد الهند و اسمه الشيخ جعفر البحريني مدّ اللّه ايام سعادته،و من جملة اخلاقه ان استاذنا الشيخ عبد اللّه الحويزي قد ألّف تفسيرا غريبا بالأحاديث وحدها سماه نور الثقلين،فسألت الشيخ جعفر سلّمه اللّه تعالى عن ذلك التفسير و كيف هو؟فقال لي يا فلان هذا التفسير في حياة مؤلفه ما يسوي عندنا شيئا و لا هو جيد فاذا مؤلفه فأوّل من يكتبه بماء الذهب انا،ثمّ تلى عليّ هذين الشعرين:

ترى الفتى ينكر فضل الفتى ما دام حيا فاذا ما ذهب

لجّ به الحرص على نكتة يكتبها عنه بماء الذهب

و لقد صدق في هذا،و قد كان في اصفهان رجل فاضل فصنف كتابا مليحا فلم يكتبه احد و لم يلتفت اليه،فقال له رجل من الطّلبة لم لا يشتهر كتابك؟فقال لأنّ له عدوا فاذا أزال اللّه سبحانه ذلك العدو اشتهر كتابي،فقال له و من هو؟فقال انا و قد صدق في كلامه هذا.

و بالجملة فارتكاب طريقة الأنصاف طريقة الحكماء الألهين كيف لا و قد روي ان اللّه سبحانه أمر نوحا عليه السّلام بالرجوع الى قبول كلام الشيطان حتى نصح نوحا،و قال له و هو في

ص:244

السفينة يا نوح اياك و الحرص فانه الذي أخرج أباك آدم من الجنة حين أباح اللّه له جميع ثمارها و نهاه عن شجرة الحنطة فدعاه الحرص الى الأكل منها،و اياك و التكبر فانه الذي بلغ بي الى ما ترى بعد ما كنت طاووسا للملائكة،و ذلك انه أمرني بالسجود لأبيك آدم فتكبرت عنه و أبيت،و اياك ان تخلو بامرأة أجنبية في بيت واحد فانّك اذا خلوت بها أكون انا الثالث فاوقعك بوسواسي في الفتنة،فأوحى اللّه سبحانه الى نوح ان اقبل كلام الشيطان فانّي اجريت الحق على لسانه.

و خامسها ان يتأمل و يهذّب ما يريد ان يورده او يسأل عنه قبل ابرازه و التفوه به ليأمن من صدور هفوة او زلة او انعكاس فهم فيصير له بذلك ملكة.

و سادسها ان لا يحضر مجلس الدرس الا اذا كان متطهرا من الحدث و الخبث متنظفا متطيبا في بدنه و ثوبه لابسا أحسن ثيابه قاصدا بذلك تعظيم العلم و ترويح الحاضرين من الجلساء و الملائكة سيّما اذا كان في مسجد.

الفائدة الثالثة آداب يختص بها المعلم و هو يشتمل على بيان امور:الأول ان لا ينتصب للتدريس حتى يكمل اهليته و يظهر استحقاقه لذلك و يشهد له صلحاء مشايخه ففي الخبر المشهور:المتشيع بما لم يعط كلابس ثوب زور،و اذا نصب نفسه للتدريس و كان محتاجا الى قراءة الدّرس(دروس)عسر عليه جدا فلا ينبغي له ان يتصدى للتدريس الا بعد قضاء الوتر من قرائة الدرس.

الثاني ان لا يذل العلم ببذله لغير اهله و يذهب الى بيوت الأكابر لتعليم العلم الا ان تدعوا اليه ضرورة و تقتضيه مصلحة دينية،الثالث ان يكون عاملا بعلمه زيادة على ما تقدّم في الأمر المشترك،قال سبحانه كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ و قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قصم ظهري رجلان عالم متهتك و جاهل متنسك فالجاهل يغش الناس بنسكه و العالم ينفرهم بتهتكه.

الرابع زيادة حسن الخلق فيه و تكميل النفس فانّ العالم الصالح في هذا الزمان بمنزلة نبيّ من الأنبياء كما جاء في الحديث من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علماء امتى كأنبياء بني اسرائيل بل قيل انّ العالم أعظم في هذا الزمان،و ذلك لأن انبياء بني اسرائيل كان يجتمع منهم في العصر الواحد ألوف،و اما العلماء في هذه الأعصار فلا يوجد منهم الا واحد بعد واحد.

الخامس ان لا يمتنع من تعليمه لأحد لكونه غير صحيح النية على كثير من الطالبين ابيتداء الطلب لقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية فيؤدي الى تفويت كثير من العلم مع انّه يرجى اذا توسّع في العلم النيّة الصحيحة منه،قال بعض العلماء طلبنا العلم لغير اللّه فأبى ان يكون الا للّه، و معناه انّه صارت عاقبته ان صار للّه،لكن يجب على العالم اذا عرف من المتعلم مثل هذا ان

ص:245

يرشده الى نية الخير بتلاوة الأخبار و الآيات الواردة فيه فان لم ينجع ذلك فيه فليتركه،و قد أشار الى هذا مولانا امير المؤمنين عليه السّلام بقوله لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير،و عن الصادق عليه السّلام قال قام عيسى بن مريم خطيبا في بني اسرائيل لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها و لا تمنعوها اهلها فتظلموهم.

السادس بذل العلم عند وجود المستحق فانه تعالى قد أخذ على العلماء في شأن تعليم الجهّال ما أخذه على الأنبياء،و قال مولانا الصادق عليه السّلام قرأت في كتابي علي عليه السّلام انّ اللّه لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلما عهدا ببذل العلم للجهال لأنّ العلم كان قبل الجهل،فان قلت بناء على ما تقدم من أخذ العهد على العلماء أ يجب عليهم تعليم الجهّال قبل ان يبتدأوهم ام لا يجب الا بعد السؤال؟قلت هذه مسئلة غامضة و ما رأينا من تعرض لها و لكن الذي يظهر من ممارسة الأخبار و أطوار الأئمة الأطهار عليهم السّلام مع جهّال شيعتهم انّ وجوب بذل العلم لا يكون الا بعد السؤال بشرط ان يعرفوا الجهّال ان أخذ العلم واجب عليكم،فاذا ألقى العالم مثل هذا الكلام المجمل الى الجهال وجب على الجهال التفحص و السؤال و على العلماء الجواب.

نعم اذا رأوا جاهلا بحكم ظهر جهله عندهم وجب عليهم ارشاده،و على هذا ينحل معنى الحديث الذي نقله المشايخ رضوان اللّه عليهم و هو ان سائلا سأل الصادق عليه السّلام عن النساء أ يحتلمن؟فقال نعم و لكن لا تحدثوهنّ به فيتخذنه علة،حيث أشكل ظاهره بأن ارشاد الضال و تعليم الجهال واجب فكيف لم يوجب عليه السّلام هذا الحكم؟حتى انه ذخب شيخنا المعاصر أدام اللّه أيامه الى انّ هذا الحديث مخصص لذلك العام،و بيان دفع الأشكال انه عليه السّلام قال لا تحدثوهنّ يعني لا تخبروهنّ به ابتداء منكم لما عرفت من عدم وجوب مثله و لم يقل عليه السّلام لا تجيبوهنّ عن هذه اذا سألنكم،و هذا ظاهر من قوله لا تحدثوهنّ فانّ ظاهره ابتداؤهن به على ما لا يخفى،و قال الباقر عليه السّلام زكاة العلم ان تعلّم عباد اللّه.

السابع ان يحترز عن مخالفة أفعاله لا أقواله و ان كانت على الوجه الشرعي مثل أن يأمر بشيء من المستحبات و هو لا يأتي بها لإشتغاله بما هو أهم منها،فان هذا و ان كان جائزا الا ان العوام ربما توهّموا انه تلبيس عليهم،فانه ينبغي للعالم كشف ما يلتبس حاله على الناس كما اتفق للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين رآه بعض أصحابه يمشي ليلا مع بعض زوجاته الى منزلها، فخاف ان يتوهم انها ليست من نسائه فقال له انّ هذه زوجتي فلانة،و نبّهه على العلّة لخوفه من تلبيس ابليس عليه.

ص:246

الثامن اظهار الحق بحسب الطاقة من غير مجاملة لأحد و لذلك قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه و من لم يفعل فعليه لعنة اللّه،و ما جاءت الغفلة في الغالب و استيلاء الجهالة و التّقصير عن معرفة الفرائض و القيام بالواجبات و السنن الا من تقصير العلماء عن اظهار الحق على وجهه و اتعاب النفس في اصلاح الخلق و ردّهم الى سلوك سبيل اللّه بالحكمة و الموعظة الحسنة،بل لا يكتفي علماء السوء بهذا حتى يوافقون العوام و الفساق على ما يصنعون،فعند ذلك ينزل من السماء الويل و الثّبور،قال بعض العلماء ان كل قاعد في بيته اين ما كان فليس خاليا عن المنكر من حيث التقاعد عن ارشاد الناس و تعليمهم معالم الدين و حملهم على المعروف سيّما العلماء،فانّ اكثر الناس جاهلون في الشرع في الواجبات العينية كالصلاة و شرائطها سيّما في القرى و البوادي فيجب كفاية ان يكون في كل بلد و كل قرية واحد يعلم الناس دينهم باذلا نفسه للإرشاد و التعليم،و قد سبق الكلام فيه اما اذا احتاج العالم الى كتمان العلم للضرورة فلا بأس بكتمانه و ان كان في بلاد الإيمان،فإنا رأينا انّ الضرر الذي يحصل من عوام الشيعة لعلمائهم لا يقصر عن الضرر الذي يحصل للعلماء من المخالفين في المذهب.

الفائدة الرابعة في آداب المعلم مع تلاميذه و هو يشتمل ايضا على أمور:

أولها ان يؤدبهم على التدريج بالآداب السنيّة و الشّيم المرضية،و أول ذلك أن يحرص الطالب على الأخلاص للّه تعالى في سعيه و مراقبة اللّه تعالى،و ان يعرّفه انّ ذلك يفتح عليه أبواب العلم و ينابيع الحكمة.

و ثانيها ان يرغّبهم في العلم و يذكرهم فضائله و فضائل العلماء و انّهم ورثة الأنبياء و انذهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء و الشهداء،و نحو ذلم مما ورد في فضائل العلم و العلماء من الآيات و الأخبار و الأشعار و الأمثال،ففي الأدلّة الخطابية و الأمارات الشعرية(حظ)هزّ (1)عظيم للنّفوس الإنسانية.

و ثالثها ان يحب لهم ما يحب لنفسه و يكره لهم ما يكره لنفسه من الشرّ فان ذلك من تمام الإيمان و مقتضى المؤاساة،ففي صحيح الأخبار لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، و لا شك ان المتعلم أفضل الأخوان بل الأولاد فانّ العلم كما عرفت قرب روحاني و هو أجل من الجسماني.

و رابعها ان يزجره عن سوء الأخلاق و ارتكاب المناهي او ترك الإشتغال او إسائة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة او معاشرة من لا يليق بع معاشرته او نحو ذلك بطريق التعريض لا التصريح،

ص:247


1- (1) هز أي تحريك.

لأنّه يهيج الحرص على الإصرار،و قد ورد لو منع الناس عن غتّ البعر لفتّوه و قالوا ما نهينا عنه الا و فيه شيء،فان لم ينته بالتعريض فبالتصريح و الا فيغلظ عليه القول فان لم ينته يطرده، و بالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم يعلمهم مصالح دنياهم ليكما عليهم فيلة الحالتين.

و خامسها ان لا يتعاظم على المتعلمين بل يتواضع لهم،قال تعالى وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و في الخبر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علّموا و لا تعنفوا فان المعلم(العلم) خير من المعنف(العنف)و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لينوا لمن تعلّمون و لمن تتعلمون منه، و ينبغي ان يخاطب كلا منهم سيّما الفاضل المتميز بكنية و نحوها من أحب الأسماء اليه،فلقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكني أصحابه إكراما لهم،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فاذا أتوكم فاستو صوابهم خيرا.

و سادسها اذا غاب أحد منهم او من ملازمي الحلقة زائدا على العادة يسأل عنه و عن أحواله و موجب انقطاعه فان لم يخبر عنه أرسل اليه او قصد منزله بنفسه و هو أفضل كما كان يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فان كان مريضا عاده او في غمّ فرجّه عنه او مسافرا تفقّد اهله و تعرّض لحوائجهم و وصلهم بما أمكن.

و سابعها ان يستعلم اسماء طلبته و حاضري مجلسه و أنسابهم و كناهم و مواطنهم و احوالهم و يكثر الدعاء لهم.

و ثامنها ان يكون سمحا ببذل ما حصّله من العلم متلطّفا في افادته طالبيه،و لا ينبغي ان يدخّر عنهم شيئا من انواع العلوم التي يحتاجون اليها او يسألون عنها اذا كان الطّالب أهلا لذلك، و ليكتم عنهم ما لم يتأهلوا له من المعارف لأنّ ذلك ممّا يفرق الهمّ،فان سأله عن شيء من ذلك نبهّه على انّ ذلك يضرّه و انّه لم يمنعه منه شحا بل شفقة و لطفا.

و تاسعها منع المتعلم ان يشتغل بغير الواجب قبله و بفرض الكفاية قبل فرض العين و من فرض العين إصلاح قلبه و تطهير باطنه بالتّقوى و كذلك يمنعه علم الأدب قبل علم السنة و هكذا.

و عاشرها ان يكون حريصا على تعليمهم باذلا وسعه في تقريب الفوائد الى أفهامهم متهما بذلك مؤثرا له على حوائجه و مصالحه ما لم يكون ضرورة الى ما هو أرجح منه،و يفهم كل واحد منهم بحسب فهمه فلا يلقى اليه ما لا يحتمله فهمه،و يخاطب كل واحد منهم بحسب فهمه فلا يلقى اليه ما لا يحتمله فهمه،و يخاطب كل واحد على قدر درجة فهمه،و يكرر المسئلة من الأقوال و الدّلائل القويّة و الضعيفة و ينبه على وجه ضعفه.

ص:248

و حادي عشرها ان يذكر في تضاعيف الكلام ما يناسبه من قواعد الفن الكلية التي لا تنخرم او يضبط مستثنياتها ان كانت كقوله كل ركن يبطل الصلاة بزيادته و نقصانه مطلقا الاّ مواضع مخصوصة و يذكرها مفصلة.

و ثاني عشرها ان يحرصهم على الأشتغال في كل وقت و يطالبهم باعادة محفوظاتهم و يسألهم عمّا ذكر لهم من المهمات و المباحث فمن وجده حافظا مراعيا اكرمه و أثنى عليه و أشاع ذكر ذلك،و من وجده مقصرا عنفه في الخلوة،و ان رأى مصلحة في الملأ فعله فانّه طبيب.

و ثالث عشرها ان يطرح على اصحابه ما يراه مستفاد المسائل الدقيقة و النكت الغريبة يختبر بذلك أفهامهم ليتدبروا بذلك و يعتادوه،و قد روي ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ان من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها و انها مثل المسلم حدثوني ما هي؟فوقع الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر و وقع في نفسي انها النخله فاستحيت،ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول اللّه؟فقال هي النخله،فقال له ابوه لو قلتها لكان لكان احب الي من كذا و كذا و كذلك اذا فرغ من شرح الدرس فلا بأس بأن يطرح مسائل تتعلق به على الطلبة و اعادة ذكر ما أشكل منه ليمتحن بذلك فهمهم و ضبطهم لما شرح لهم،فمن ظهر استحكام فهمه له شكره و من لم يفهمه تلطّف في اعادته له،و ينبغي للشيخ ان يأمر الطلبة بالإجتماع في الدرس لما يترتب عليه من الفائدة التي لا تحصل مع لأنفراد و اعادة ما وقع من التقرير بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذناهم.

و رابع عشرها ان ينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم و ان كان صغيرا فانّ ذلك من بركة العلم،و قد قدّمنا الكلام فيه.

و خامس عشرها ان لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودّة او اعتناء مع تساويهم في الصفات من سنّ او فضيلة او ديانة فانّ ذلك ممّا ينفر القلوب و ان كان بعضهم اكثر تحصيلا و أشدّ اجتهادا فلا بأس بترجيحه بشرط أن يذكر لهم انّ ترجيحه و إكرامه انّما هو لهذه الفضيلة،و ذلك لينشط باقي الطلبة فيحصلون صفاته.

و سادس عشرها ان يقدّم في تعليمهم اذا ازدحموا الأسبق و لا يقدمه بأكثر من درس الاّ برضاء الباقين،و يختار اذا كانت الدروس في كتاب واحد باتفاق منهم و هو المسمى بالتقسيم ان يبدأ في كل يوم بدرس واحد منهم فانّ الدرس المبدأ به ربّما حصل فيه من النشاط في التقرير ما لا يحصل في غيره الا اذا علم من نفسه عدم الملالة و بقاء النّشاط فيرتّب الدرس ترتيب الكتاب، فيقدّم درس العبادات على درس المعاملات و هكذا،و ان رأى مع ذلك تقديم الأسبق ليحرص المتأخر على التّقدم كان حسنا،و ينبغي ان لا يقدم احدا في نوبة غيره و لا يؤخره عن نوبته الاّ اذا رأى في ذلك مصلحة كما عرفته،و ان جاؤا معا و تنازعوا أقرع بينهم بشرطه الآتي.

ص:249

و سابع عشرها اذا سلك الطّالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله و خاف ضجره أوصاه بالرفق بنفسه و ذكره قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ المنبت(المنبث)لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى،و كذلك اذا ظهر له منه نوع ملالة او ضجر أمره بالرّاحة و تخفيف الإشتغال و ليزجره عن تعلّم ما لا يفهمه فان استثاره من لا يعرف حاله في الفهم في قراءة فن او كتاب لم يشر عليه حتى تجرّب ذهنه و يعلم حاله.

و ثامن عشرها اذا كان عالما ببعض العلوم لا ينبغي له ان يقبّح الطالب غيره من العلوم كما يتفق ذلك لكثير من جهلة المعلمين،فان المرء عدوّ ما جهل حتى اذا كان غيره أعرف منه بذلك وجب عليه هداية المتعلم اليه بأن يقول له هذا العلم الذي تقرأه عندي فلان أعرف منّي به،لأنّ هذا نصح أخيه المسلم بل ولده الروحاني كما عرفت.

و تاسع عشرها ان لا يتأذى ممّن يقرأ عليه اذا قرأ على غيره لمصلحة راجعة الى المتعلم فانّ هذه مصيبة يبتلي بها جهلة المعلّمين و من لا يريد بعلمه وجه اللّه تعالى و هو من أوضح الدلائل على فساد النية فانّه عبد مأمور بأداء رسالة ملك الى بعض عبيده،فاذا أرسل الملك عبدا آخر لأداء الرسالة لا ينبغي للأول الغضب فانّ ذلك لا ينقصه عند السيد بل يزيده قدرا و رفعة عنده اذا وجده راضيا،فالواجب على المعلم اذا رأى المتعلم قابلا لقراءة درسين و هو يملّ من الدرس الآخر ان يهديه على معلم آخر،امّا لو كان جاهلا او فاسقا او مبتدعا او كثير الغلط بحيث يفيد الطالب ملكة رديّة و كان الطالب جاهلا بحاله فالتّحذير من الأغترار به حسن مع مراعاة المقصد الصحيح.

العشرون اذا تكمل الطالب و تأهل للإستقلال بالتّعليم و أراد ان يصير مدرسا فينبغي ان يقوم المعلم بنظام أمره في ذلك و يمدحه في المحافل و يأمر الناس بالأخذ عنه،و لينبّه الناس على قدر معلوماته و تقواه و صلاحه كما انّه لو رأى منه ميلا الى الأستقلال بالتّعليم و لم يبلغ درجته ينبغي له ان يقبح له ذلك عنده و يشدّد النكير عليه في الخلاء فان لم ينجع فليظهر ذلك على وجه صحيح حتى يرجع الى الإشتغال.

الفائدة الخامسة آدابه في درسه و هي أمور:الأول ان لا يخرج الى الدرس الاّ كامل الهيئة من الثّياب التي توجب له الوقار و اقبال القلوب عليه،و أفضلها البيض و هذا مذكور في كتاب التجمل من الكافي،و ليقصد بذلك تعظيم العلم و تبجيل الشريعة و ليتطيب و يسرح لحيته و يزيل عنه كلما يشينه،و كان بعض المحدّثين اذا جلس لتعليم الحديث لبس أحسن ثيابه و لا يزال يبخر بالعود الى ان يفرغ،و يقول أحب تعظيم حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الثاني ان تدعو عند خروجه للدرس بالدعاء المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللّهم انّي أعوذ بك انّ أضلّ او أضل،و أزل او أزل و أظلم او أظلم او أجهل أو يجهل عليّ عزّ

ص:250

جارك و جل ثناؤك و لا اله غيرك و لا اله غيرك،ثم يقول بسم اللّه حسبي اللّه توكّلت على اللّه و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم،اللهم ثبت جناني و أدر الحق على لساني،و يديم ذكر اللّه الى ان يصل المجلس.

الثالث ان يسلّم على من حضر اذا وصل المجلس و يصلّي ركعتين تحية المسجد ان كان مسجدا و الا نوى بهما الشكر للّه تعالى على توفيقه و تأهيله لذلك،او للحاجة الى تسديده و عصمته عن الخطاء او مطلقتين،فانّ الصلاة خير موضوع،و اما استحبابها لذلك بخصوصه فلم يثبت و ان استحبّه العلماء ثم يدعو بعدهما بالتوفيق و الإعانة و العصمة.

الرابع ان يجلس على سكينة و وقار مطرقا ثانيا رجليه او محتبيا غير متربع و لا مقع و لا غير ذلك من الجلسات المكروهة مع الأختيار كل ذلك في حال الدرس امّا في غيره فلا بأس بمد رجليه او احدهما او اتكائه فانّ الطلبة بمنزلة أولاده.

الخامس قيل يجلس مستقبل القبلة لأنه أشرف و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خير المجالس ما استقبل بها القبلة،و يمكن ان يقال باستحباب استدباره لها ليخصّ الطّلبة بالإستقبال لأنّهم اكثر و كذا من يجلس اليهم للإستماع.

السادس ان ينوي حين خروجه من منزله تعليم العلم و نشره و تبليغ الأحكام الدينية التي أوتمن عليها،و أمر بتبيانها و الأزدياد في العلم بالمذاكرة و الأجتماع على ذكر اللّه تعالى،و الدعاء للعلماء الماضين و غير ذلك من المقاصد التي يزيد بها جزيل الثواب و ليس المراد بنية هذه المطالب الجليلة ان يقول افعل كذا لأجل كذا بل ما عرفت في تحقيق النية من ان يكون تلك المقاصد هي الباعثة و المحركة له على ذلك الفعل.

السابع ان يصون بدنه عن الزحف و التّنقل عن مكانه و التقلقل،و يديه عن البعث و التّشبيك،و عينيه عن تفريق النّظر بلا حاجة،و يتّقي كثرة المزاح و الضّحك فانّه يقلّل الهيبة،و امّا القليل من المزاج و الضّحك فمحمود كما كان يفعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كان يضحك حتى تبدو نواجده و لكن لا يعلو الصوت.

الثامن ان يجلس في موضع يبرز وجهه فيه لجميع الحاضرين و يفرق النظر بينهم و يخص من يكلمه او يسأله،و ان يقدم على الشروع في البحث و التدريس الإستعاذة من الشّيطان و حمد اللّه و الصلاة على محمد و آله و الدعاء للعلماء الماضين و لمشائخه خاصّة و لوالديه و للحاضرين،و ان كان في مدرسة دعى للواقف و لم يرد في هذا نص لكن فيه خير عظيم،و اذا تعددت الدروس فليقدم منها الأشرف و الأهم فالهم،فيقدم أصول الدين ثم التّفسير ثم الحديث ثم اصول الفقه ثم النحو ثم المعاني و على هذا القياس باقي العلوم بحسب مرتبتها و الحاجة اليها،و ان لا يشتغل بالدروس

ص:251

و فيه ما يزعجه و يشوش فكره من مرض او جوع او مدافعة حدث او خبث او غضب او نعاس او برد او حرّ او نحو ذلك،و ان لا يكون في مجلسه ما يؤذي الحاضرين من دخان او غبار او صوت يزعج او شمس حارّة او نحو ذلك.

التاسع ان يتودد لغريب حضر عنده و ينبسط عنده فأن للقادم دهشه سيما بين يدي العلماء،و لا يكثر النظر و الالتفات اليه استغرابا له فانه يخجله،و اذا اقبل بعض الفضلاء و قد شرع في مسئله امسك عنها حتى يجلس،و ان جاء و هو يبحث اعادها له،و اذا أقبل و قد بقى للفراغ و قيام الجماعة بقدر ما يصل الى المجلس فليؤخر تلك البقية و ليشتغل عنها الى ان يصل ثم يعيدها او يتم تلك البقية كي لا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.

العاشر و هو الأهم منها اذا سأل عن شيء لا يعرفه او عرب في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه او لا اتحققه او حتى اراجع النظر و لا يستنكف عن ذلك فيمن(لمن)علم العالم ان يقول فيما لا يعلم لا اعلم و اللّه اعلم،قال علي عليه السّلام اذا سألتم عن ما لا تعلمون فاهربوا،قالوا و كيف المهرب؟قال تقولون اللّه اعلم،و عن ابي جعفر الباقر عليه السّلام قال ما علمتم فقولوا و ما لم تعلموا فقولوا اللّه اعلم ان الرجل ليشرع بالآية من القرآن يخر فيها ابعد ما بين السماء و الأرض و عن ابي عباس رضي اللّه عنه اذا ترك العالم لا أدري اصيبت مقاتله و قال ابن مسعود لا ادري ثثلث العالم و قال بعض الفضلاء ينبغي للعالم ان يورث اصحابه لا ادري يعني يقولها كثيرا حتى يعتادوها و قول العالم لا ادري مما يزيد في قدره و محله و هو دليل واضح على تقواه و انما يمتنع من لا ادري من قل علمه و عدمت تقواه حتى لا يسقط من العيون.

الحادي عشر اذا اتفق له تقرير او جواب فتوهمه صوابا ثم ظهر له خطأه فيجب عليه ان يبادر الى التنبيه على فساده و يبين لهم خطأه قبل تفرق الحاضرين و لا يمنعه الحياء عن ذلك فيؤخره الى وقت آخر لأن فيه استقرار الخطاء في قلوب الطلبة و تأخير بيان الحق مع الحاجة اليه و خوف عدم حضور اهل المسجد فيستمر على فهم الخطأ و فيه طاعة للشيطان في الإستمرار على الخطأ مع ان في رجوعه تعليم للطلبة هذه الخصلة الحميدة و يرفعه اللّه تعالى بذلك على خلاف ما يظنه الأحمق و يتوهمه الجاهل و ينبغي ان ينبه المتعلم عند فراغ الدرس بما يدل عليه ان لم يعرفه القارئ و قد جرت عادة السلف ان يقولوا اجد و اللّه اعلم و ينبغي ان يختم الدرس بذكر شيء من الدقائق و الحكم و المواعظ و تطهير الباطن يتفرقوا على الخضوع و الإخلاص فان البحث يورث في القلب قوة و ربما اعقب قسوة فليحركه في كل وقت الى الإقبال و ان يختم المجلس بالدعاء بما قد غشيهم من الرحمة و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا اراد ان يقوم من مجلسه يقول اللهم اغفر لنا ما أخطأنا او ما تعمدنا و ما أسررنا و ما أنت أعلم به منا و انت المقدم انت المؤخر لا اله الا

ص:252

انت و ينبغي ان يمكث قليلا بعد قيام الجماعة فان فيه فوائد و آداب له و لهم:منها ان كان في نفس احدهم بقايا سؤال تأخر و منها ان كان لأحد به حاجة قد صبر عليها حتى فرغ يذكرها له و منها عدم خفقان النعال خلفه و منها عدم ركوبه بينهم ان كان يركب و ينبغي ان ينصب لهم نقيبا فطنا يرتب الحاضرين و من يدخل عليه على قدر منازله و يوقظ النائم و ينبه الغافل و يأمر بسماع الدروس و الأنصاف اليها لمن لا يعرف و كذلك ينصب لهم رئيسا آخر يعلّم الجاهل و يعيد درس من اراد و يرجع اليه في كثير مما يستحي ان يلقى به العالم من مسئلة او درس فان فيه ضبطا لوقت العالم و اذا قام من مجلسه فينبغي له ان يقول سبحانك اللهم و بحمدك اشهد ان لا اله الا انت استغفرك و اتوب اليك سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين و رواه جماعة من فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في بعض الروايات ان الثلاث آيات كفارة المجالس،و كما يستحب للعالم يستحب لكل قائم.

الفائدة السادسة في آداب المتعلم و هي أمور:أولها ان يحسن نيته و يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم و حفظه،و ان يغتنم التحصيل في أيام الشباب و قبل الإتسام بالعلم و الفضل، قال بعضهم تفقهوا قبل ان تسودوا و في الخبر مثل الذي يتعلم العلم في الصغر كالنقش على الحجر،و مثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء و هذا بإعتبار الغالب و لا ينبغي لمن كبر ان يمنع نفسه عن الطّلب فانّ فضل اللّه واسع،و قد اشتغل جماعة من السلف في حال كبرهم ففقهوا و صاروا أساطين في الدين و مصنّفين في الفقه و غيره.

و ثانيها ان يقطع ما قدر عليه من العوائق الشاغلة و العلائق المانعة عن تمام الطلب و كمال الإجتهاد و يرضى بما تيسر من القوت و بما يستر مثله من اللباس و ان كان خلقا،فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة الحلم و يجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال لينفجر عنه ينابيع الحكمة و الكمال،قال بعض السلف لا يطلب احد هذا العلم بعز النّفس فيفلح و لكن طلبه بذل النفس و ضيق العيش و خدمة العلماء أفلح،و قال بعضهم لا ينال هذا العلم الا من عطّل دكانه و خرب بستانه و هجر اخوانه و مات أقرب الى اهله فلم يشهد جنازته،و هذا كله و ان كان فيه مبالغة فالمقصود انّه لا بد فيه من جمع القلب و اجتماع الفكر،و بالغ بعض المشايخ لبعض تلامذته اصبغ ثوبك حتى لا يشغلك فكر غسله،و من أقوى موانع الطّلب للتزويج فينبغي تركه ايام التحصيل لأنه فلمّا يجتمع مع العلم حتى قال بعضهم ذبح العلم في فروج النساء،و عن ابراهيم بن أدهم من تعود أفخاذ النساء لم يفلح،يعني اشتغل بهن عن الكمال،و في المثل السائر لو كلّفت بصلة ما فهمت مسئلة،و لا يغتر الطالب بما ورد في النّكاح من التّرغيب فان ذلك حيث لا يعارضه واجب أولى منه و لا واجب أضيق من العلم سيّما في هذا الزمان فانّه كما قيل و ان وجب على الأعيان

ص:253

و الكفاية على تفصيل فقد وجب في هذا الزمان على الأعيان مطلقا،لأنّ فرض الكفاية اذا لم يقم به من فيه كفاية يصير كالواجب العيني في مخاطبة الكل و تأثيمهم و ينبغي له ان يترك المعاشرة مع من يشغله عن مطلوبه فانّ تركها من أهم ما ينبغي لطالب العلم و لا سيّما لغير الجنس و خصوصا لمن كثرت بطالته فانّ الطبع سرّاق،فاذا خالط فلا يخالط الا من يفيده او يستفيد منه فان لم يتفق فالوحدة و لا قرين السوء،قال مؤلف هذا الكتاب عفى اللّه عنه سنذكر ان شاء اللّه تعالى في نور آخر أحوالنا و ما جرى علينا من ضيق المعاش ايام تحصيل العلم و كيف تنقلنا لأجل العلم من بلاد الى بلاد فمن راجعه سهل عليه الصبر على مضائق العلم و على اللّه التوكل.

و ثالثها ان يكون حريصا على التعلم مواظبا عليه في جميع أوقاته ليلا و نهارا سفرا و حضرا و لا يذهب شيئا من اوقاته في غير العلم الاّ بقدر الضرورة لما لا بدّ منه من أكل و نوم و استراحة بسيرة لإزالة الملل و مؤانسة زائر و تحصيل قوت و غيره فانّ بقيّة العمر لا ثمن لها و من استوى يوماه فهو مغبون،و ليس بعاقل من امكنه الحصول على درجة ورثها(ورثة)الأنبياء ثم فوتها و لا بدّ دون الشّهد من ألم النحل و قيل:

لا تحسب المجد تمرا انت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

و ان يكون عالي الهمة فلا يرضى باليسير مع امكان الكثير،و لا يؤخّر فائدة الى وقت آخر يرجو فيه ازالة الموانع فانّ هذا الوقت لم يخلق و اذا خلق فله فائدة أخرى و في الخبر الوقت سيف فان قطعته و الا قطعك،و ينبغي ان يأخذ في ترتيب العلم بما هو الأولى،و اذا اشتغل في فن فلا ينتقل عنه حتى يتقن فنه كتابا او كتابان ان امكن،و ليحذر التنقل من كتاب الى كتاب و من فن الى غيره من غير موجب فانّ ذلك علامة الضجر و عدم الفلاح،فاذا تحققت أهليته فالأولى له ان لا يدع فنّا من العلوم المحدودة الاّ و تنظر فيه نظر تطلع،ثم ان ساعده العمر طلب التّبحر فيه فانّ العلوم متقاربة و بعضها مرتبط ببعض.

الفائدة السابعة آدابه مع شيخه،قال الصادق عليه السّلام كان امير المؤمنين عليه السّلام يقول ان من حق العالم ان لا تكثر عليه السؤال،و لا تأخذ بثوبه و اذا دخلت عليه و عنده قوم فسلم عليهم و خصّه بالتحية دونهم،و اجلس بين يديه و لا تجلس خلفه و لا تغمز بعينك و انّما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها متى يسقط عليك منها شيء،و العالم اعظم أجرا عند اللّه من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه،و في الحديث المروي عن مولانا زين العابدين عليه السّلام و حق سائسك بالعلم التعظيم له و التوفير لمجلسه و حسن الإستماع عليه و الإقبال عليه و ان لا ترفع عليه صوتك و لا تجيب احدا يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب و لا تحدث في مجلسه احدا،و لا تغتاب احدا،و ان تدفع عنه اذا ذكر عندك بسوء،و ان تستر عيوبه و تظهر مناقبه،و لا تجالس له عدوا

ص:254

و لا تعادي له وليا،فاذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة اللّه عز و جل بأنّك قصدته و تعلمت علمه للّه جل جلاله اسمه لا للناس و في هذه الفائدة أمور:

اولها و هو الأهم ان يقدم النظر فيمن يأخذ عنه العلم فان تربية الشيخ لتلميذه ممّا تكسبه جميع أخلاقه بل و دينه ايضا على ما شهدناه،مع ان العالم نائب عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ليس كل عالم يصلح لهذا،فليختر من كملت اهليته و ظهرت ديانته و عرفت عفّته و اشتهرت صيانته و سيادته،و ظهرت مروّته و حسن تعليمه،و لا يغتر الطالب بمن زاد علمه مع نقص في ورعه او دينه او خلقه،و ليحترز ممن أخذ علمه من بطون الكتب من غير قراءة على الشيوخ خوفا من وقعه في التصحيف و الغلط و التحريف،قال بعض السلف من تفقّه من بطون الكتب ضيّع الأحكام و قال آخر ايّاكم و الصّحفيّين الذين يأخذون علمهم من الصحف فانما يفسدون اكثر مما يصلحون و ليحذر من التقييد بالمشهورين و ترك الأخذ من الخاملين فان ذلك من الكبر على العلم و هو عين الحماقة لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.

و ثانيها ان يعتقد في شيخه انه الأب الحقيقي و الوالد الروحاني و هو اعظم من الوالد الجسماني فيبالغ في حقه اعظم من رعايته في حق ابيه،و سأل الأسكندر عليه السّلام ما بالك توقر معلمك و أكثر من والدك فقال لأن المعلم سبب لحياتي الباقية و والدي سبب لحياتي الفانية و ايضا فالأب لم يقصد حال الجماع وجود الولد و لا كمال وجوده و انما قصد لذة نفسه و اما المعلم فقصد تكميل وجوده و سببه و بذل فيه جهده و قد روي ان السيد الرضي قدس اللّه روحه كان عالي الهمة أبيّ النفس عن ان يقبل من أحد شيئا فقال له يوما بعض مشايخه ان دارك ضيقه لا تليق بحالك و لي دار واسعة و هيأتها لك فآنتقل اليها فأبى فأعاد عليه الكلام فقال يا شيخ انا لم اقبل بر ابي قط فكيف اقبل من غيره فقال له الشيخ انما حقي عليك اعظم من حق ابيك لأني ابوك الروحاني و هو ابوك الجسماني،فقال السيد رحمه اللّه قد قبلت الدار و من هنا قال بعض الفضلاء:

من علم العلم كان خير اب ذاك ابو الروح لا ابو النطف

و ثالثها ان يعتقد انه مريض و شيخه طبيب و ذلك لأن المرض هو انحراف الروح عن المجرى الطبيعي و طبيعة النفس العلم و قد خرجت عنه بسبب اشتغال القوى البدنية و اخلاطها فلا ينبغي ان يخالفه فيما يشير عليه كأن يقول له أقرأ الكتاب الفلاني و أكتف بهذا القدر من الدرس فإذا خالفه كان بمنزلة المريض الذي يرد على الطبيب و قد قيل في الحكمة مراجعة الطبيب مريضه يوجب تعذيبه و كما ان الواجب على المريض ترك تناول المؤذيات و الأغذية المفسدة و الدواء في حضرة الطبيب و غيبته كذلك المتعلم و ينبغي ان ينظر الى الشيخ بعين الإجلال و الإحترام و يضرب صفحا من عيوبه و قد كان بعض السلف اذا ذهب الى شيخه تصدّق بشيء و قال اللهم استر عيب

ص:255

معلمي عني و لا تذهب ببركة علمه مني و قال آخر كنت اصفح الورقة بين يدي شيخي صفحا رقيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها و قال آخر و اللّه ما إجترأت ان اشرب الماء و شيخي ينظر الى هيبة له،و قال حمد ان الأصفهاني كنت عند شريكه فآتاه بعض أولاد الخليفة المهدي فاستند الى الحائط و سأله عن حديث فلم يلتفت اليه و أقبل علينا ثم عاد فعاد شريك لمثل ذلك فقال أ تستخف بأولاد الخلفاء؟قال لا و لكن العلم أجل عند اللّه من أن أضيعه فجثى على ركبتيه،فقال شريك هكذا يطلب العلم و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من علم احدا مسئلة ملك رقه قيل أ يبيعه و يشتريه؟قال بل يأمره و ينهاه،و نقل بعض الأفاضل قال حكيت لشيخي منا مالي فقلت رأيت انك قلت لي كذا و كذا فقلت لك لم ذاك؟فهجرني شهرا و لم تكلمني،و قال لو لا انه كان في باطنك تجويز المطالبة و انكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في المنام و الأمر كما قال،قال مؤلف الكتاب عفى اللّه عنه قد كان حالي مع شيخي صاحب كتاب بحار الأنوار (1)لما كنت أقرأ عليه في أصفهان انه خصني من بين تلامذته مع انهم كانوا يزيدون على الألف بالتأهّل عليه و المعاشرة معه ليلا و نهارا و ذلك انه لما كان يصنف ذلك الكتاب كنت ابات معه لجل بعض مصالح التصنيف و كان كثير المزاح معي و الضحك و الضرائف حتى لا أمل من المطالعة و مع هذا كله كنت اذا أردت الدخول عليه أقف بالباب ساعة حتى أتأهب للدخول عليه و يرجع قلبي الى استقراره من شدة ما كان يتداخلني من الهيبة و التوقير الإحترام حتى أدخل عليه و لقد كنت و حق جنابه الشريف و الأيام التي قضيناها في صحبته و نرجوا من اللّه ان تعود أستسهل لقاء الأسود على الدخول عليه هيبة له و إجلالا و ينبغي ان يعظمه في حال الخطاب و لا يخاطبه بتاء الخطاب و كافة و لا يناديه من بعد بل يقول يا سيدي و يا استاذي و ما أشبه ذلك و يخاطبه بصيغ الجمع و ينبغي ان يرد غيبته زيادة على ما يجب رعايته في غيره فان عجز عن ذلك قام و فارق المجلس،و يرعى ذريته و أقاربه و أودذاءه و محبيه في حياته و بعد موته.

و رابعها ان يصبر على جفوة تصدر من شيخه او سوء خلق و لا يصدّه ذلك عن ملازمته و حسن عقيدته و يتأول أفعاله التي ظاهرها مذموم على أحسن تأويل و أصحّه فما يعجزه عن ذلك الا قليل الوفيق،و يبدأ هو عند جفوة شيخه بالإعتذار و التوبة مما وقع و الأستغفار و ينسب الموجب اليه و يجعل العتب فيه عليه فانّ ذلك أبقى لمودّة شيخه و عن بعض السلف من لم يصبر على ذلّ التعليم بقي عمره في عماية الجهالة،و من صبر عليه آل أمره الى عزّ الدنيا و الآخرة،و أما نحن فسنذكر ان شاء اللّه تعالى الذلّ الذي أصابنا في تحصيل العلم في النّور الآتي و بحمد اللّه و توفيقه آل

ص:256


1- (1) هو العلامة المحدث شيخ الأسلام و المسلمين المولى محمد باقر المجلسي رحمه اللّه المتوفي(1111)ه و قد صنف المحدث النوري(ره)كتاب فيض القدسي في أحواله و ترجمة حالاته.

أمرنا الى عز الدنيا و نرجو منه تعالى عز الآخرة و هو المطلوب،و بقيت أمور أخرى كثيرة تركناها حذرا من التّطويل و بما ذكرناه كفاية للعامل.

الفائدة الثامنة آدابه في درسه و قراءته و هي امور:الأوّل ان يبتدىء اولا بحفظ كتاب اللّه العزيز حفظا متقنا فهذا أصل العلوم و أجلّها و كان السلف لا يعلّمون الفقه و الحديث الاّ لمن حفظ القرآن.

الثاني ان يقتصر من المطالعة على ما يحتمله فهمه و لا يمجه طبعه و ليحذر من تحيّر الذهن في مطالعة الكتب الكثيرة فانّه يضيع زمانه،و ليعط الكتاب الذي يقرأه و الفن الذي يأخذه كلّيته حتى يتقنه حذرا من الخبط،و من هذا الباب الإشتغال بكتب الخلاف في العقليات و نحوها قبل ان يصح فهمه و يستقر رأيه على الحق.

و ينبغي ان يعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه قبل حفظه تصحيحا متقنا ثم يحفظه حفظا محكما،ثم يكرره و ان يحضر معه الدواة و القلم للتصحيح،و اذا ردّ عليه الشيخ لفظة فظن او علم انّ ردّه خلاف الصواب كرر اللفظة مع ما قبلها لينبه بها الشيخ او يأتي بلفظها الصواب على وجه الإستفهام،فربما وقع ذلك سهوا و لا يقل بل هي كذا،فان رجع الشيخ الى الصواب فذاك و الاّ ترك تحقيقها الى مجلس آخر بتلطف و لا يبادر الى اصلاحها على الوجه الذي عرفه مع اطلاع الشيخ و الحاضرين،و كذلك اذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسئلة و كان لا يفوت تحقيقه فان كان كذلك كالكتابة في رقاع الأستفتاء و كون السائل غريبا او بعيد الدار او مشنّعا تعيّن تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بالإشارة ثم التصريح،فانّ تركه ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطف و غيره،فاذا وقف على مكان في التصحيح كتب قبالته بلغ العرض او التصحيح.

و ينبغي له ان يقسم اوقات ليله و نهاره على ما يحصله فانّ الأوراد توجب الأزدياد و أجود الأوقات للحفظ الأسحار و للبحث الأبكار و للكتابة وسط النهار و للمطالعة و المذاكرة الليل و بقايا النهار،و مما قالوه و دلت عليه التجربة انّ حفظ الليل انفع من حفظ النهار،و وقت الجوع انفع من وقت الشبع و المكان البعيد عن الملهيات انفع،و ان يباكر بدرسه لخبر بورك لأمتي في بكورها، و لخبر اغدوا في طلب العلم فانّي سألت ربّي ان يبارك لأمتي في بكورها،و يجعل ابتداءه يوم الخميس،و في رواية يوم السبت او الخميس و في آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اطلبوا العلم يوم الإثنين فانّه ميسر لطالبه،و روي في يوم الأربعاء خبر ما من شيء بدء به يوم الأربعاء الا و قد تم،و ربما اختار بعض العلماء الإبتداء يوم الأحد و لم نقف على مأخذه.

الثالث اذا حضر مجلس الشيخ فليسلّم على الحاضرين ثمّ يخصّ الشيخ بزيادة تحية و اكرام،و عدّ بعضهم حلق العلم حال أخذهم في البحث من المواضع التي لا يسلم فيها،و اختاره

ص:257

جماعة من الأفاضل و هو متّجه حيث يشغلهم ردّ السّلام عمّا فيه من البحث و حضور القلب كما هو الغالب،سيّما اذا كان في أثناء تقرير مسئلة فانّ قطعه عليهم أضرّ من كثير من الموارد التي ورد انّه لا يسلم فيها،لكن متى أريد ذلك فليجلس الداخل عليهم على بعد من مقابلة الشيخ بحيث لا يشعر به حتى يفرغ ان امكن جمعا بين حق الأدب و حق البحث في دفع الشّواغل،و ينبغي له اذا سلم ان لا يتخطى رقاب الحاضرين الى قرب الشيخ ان لم يكن منزلته كذلك بل يجلس حيث ينتهي به المجلس كما ورد في الحديث،فان صرح له الشيخ او الحاضرون بالتقدم او كانت منزلته او كان يعلم ايثار الشيخ و الجماعة لذلك او كان جلوسه بقرب الشيخ لمصلحة كأن يذاكره مذاكرة ينتفع بها الحاضرون او لكونه كبير السن او كثير الفضيلة و الصلاح فلا بأس،قال شيخنا الشيخ زين الدين طاب ثراه و اعلم انّه متى سبق الى مكان من مجلس الدرس كان أحقّ به فليس لغيره ان يزعجه منه و ان كان أحقّ به بحسب الآداب،قيل و يبقى بعد ذلك أحق به كالمحترف اذا ألف مكانا من السوق او الشارع فلا يسقط حقه منه بمفارقته و ان انقطع عن الدرس يوما او يومين اذا حضر بعد ذلك انتهى،و فيه ما لا يخفى.

و ينبغي ان لا يجلس بين أخويه او اب او ابن،او قريبين او متصاحبين الاّ برضاهما معا لما روي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهي ان يجلس الرجل بين الرجلين الا بإذنهما،و ينبغي ان لا يقرأ الاّ بإذن الشيخ ذكره جماعة من العلماء،فاذا اذن له استعاذ باللّه من الشيطان الرجيم ثم سمى اللّه تعالى و حمده و صلى على النبي و آله ثم يدعو للشيخ و لوالديه و لمشايخه و للعلماء و لنفسه،و ينبغي ان يتذاكر مع من يوافقه من مواضبي مجلس الشيخ بما وقع فيه من الفوائد فانّ في المذاكرة نفعا عظيما و قدم على نفع الحفظ و ينبغي الإسراع بها قبل تفرق اذهانهم فان لم يجد من يتذاكر معه ذاكر نفسه بأن يكرر معنى ما سمعه و لفظه على قلبه ليتعلق ذلك بخاطره،و قد اشتهر انّ الأخفش كان له عنز يتذاكر اليه.

الفائدة التاسعة في آداب الفتوى و المفتي و المستفتي اعلم اولا انّ الإتاء و لن كان كثير الأجر لكنه عظيم الخطر لأنّ المفتي وارث النبي و هو موقع عن اللّه تعالى و نائبه و لسانه الناطق عنه فليعرف كيف يكون،قال سبحانه في التحذير وَ لاٰ تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ و انظر الى خطابه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ فكيف يكون حاله مع غيره اذا تقوّل عليه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا او قتله نبي او رجل يضل الناس بغير علم او مصوّر يصوّر التماثيل،و عن ابي عبيدة الحذاء قال سمعت

ص:258

ابا جعفر الباقر عليه السّلام يقول من أفتى الناس بغير علم و لا هدى لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه.

و اعلم انه يجب في المفتي ان يكون مكلفا مسلما عادلا مجتهدا و من لم يكن مجتهدا فلا يجوز له الإقدام على الإفتاء(الفتوى)و الفتوى فرض كفاية فاذا سأل ز ليس هناك غيره تعيّن عليه الجواب،و ينبغي ان لا يفتي في حال تغيّر أخلاقه من الغضب و الجوع و العطش و الحزن و الفرح و النّعاس و الحر و البرد و مدافعة الأخبثين،و اذا أفتى في واقعة ثم تغيّر اجتهاده و علم المقلد برجوعه من مستفت او غيره عمل بقول الثاني،فان لم يكن عمل بالقول الأول لم يجز العمل به و ان كان قد عمل به قبل علمه لم ينقض و لم لو يعلم المستفتي رجوع المفتي فكأنه لم يرجع في حقّه و يلزم المفتي اعلامه برجوعه قبل العمل و بعده ليرجع عنه في عمل آخر(عمله الآخر و لو أفتى في حادثة ثم حدث مثلها فان ذكر الفتوى الأولى و دليلها افتي بذلك،ثانيا بلا نظر،و ان ذكرها و لم يذكر دليلها و لا طرى ما يوجب رجوعه ففي جواز افتائه بالأولى او وجوب اعادة الإجتهاد قولان، و مثله تجديد الطلب في التيمم و الإجتهاد في القبلة،و القاضي اذا حكم بالإجتهاد ثم وقعت المسئلة و ليس للمفتي ان يكتب السؤال على علمه من صورة الواقعة اذا لكم يكن في الوقعة تعرض له بل على ما في الرقعة،فان أراد خلافه قال ان كان الأمر كذا فجوابه كذا،و استحبوا ان يزيد علو ما في الرقعة ما له تعلق بها ممّا يحتاج اليه السائل لحديث ما هو الطّهور ماؤه أ يحلّ ميتته؟

و يستحب ان يكتب في اول فتواه الحمد للّه او اللّه الموفق او حسبنا اللّه او حسبي اللّه،او الجواب و باللّه التوفيق او نحو ذلك،و احسنه الإبتداء بالتحميد للحديث،و ينبغي ان يقول بلسانه و يكتب ثم يختمه بقوله و اللّه اعلم او باللّه التوفيق و يكتب بعده قال او كتبه فلان بن فلان الفلاني فينتسب الى ما يعرف به من قبيلة او بلد او صفة او نحوها،و ينبغي ان يقتصر(يختصر)جوابه غالبا و يكون بحيث يفهمه العامة فهما جليا،حتى كان بعضهم يكتب تحت أ يجوز:يجوز او لا يجوز، و تحت ام لا:لا او نعم او نحوهما،و اذا رأى المفتي رقعة الإستفتاء و فيها خط غيره ممّن هو اهل للفتوى فان كان دونه و وافق ما عنده كتب تحت خطه الجواب صحيح او هذا جواب صحيح او جوابي كذلك أو مثل هذا او بهذا أقول او نحو ذلك،و اما اذا رأى فيها خط من ليس أهلا للفتوى فلا يفتي معه لأنّ في ذلك تقريرا منه لمنكر بل له ان يضرب عليه و ان لم يأذن له صاحب الرقعة لكن لا تحبسها عنده الا بإذنه،و له نهي السائل و زجره و تعريفه قبح ما فعله،و ان رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فان لم يعرفه فله الإمتناع من الفتوى معه خوفا ممّا قلناه،و لو خاف فتنة من الضرر على فتيا علدم الأهلية و لم يكن خطأ عدل الى الإمتناع من الفتيا معه و اما اذا كانت خطاء وجب التنبيه عليه و حرم الإمتناع من الإفتاء تاركا للتنبيه على خطائها.

ص:259

و لو اجتمع مفتيان او اكثر ممّن يجوز استفتاؤهم فان اتفقوا في الفتوى أخذ المستفتي بها، و ان اختلفوا وجب عليه الرجوع الى الأعلم الأتقى،و ان اختلفوا في الوصفين رجع الى اعلم الورعين و أورع العالمين،فان تعارض الأعلم و الأورع قدّم الأعلم في التقليد امّا لو كان المفتي ميتا فهل يجوز تقليده مع وجود الحي اولا معه؟للجمهور اقوال اصحّها عندهم جوازه مطلقا لأنّ المذاهب لا تموت بموت اصحابها و لهذا يعتدّ بها بعدهم في الإجماع و الخلاف،و انّ موت الشّاهد قبل الحكم بشهادته لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه.

و الثاني لا يجوز مطلقا لفوات اهليته بالموت و لهذا ينعقد الإجماع بعده و لا ينعقد في حياته على خلافه و هذا هو المشهور بين أصحابنا خصوصا المتأخرين منهم،و الذي استوجهناه في تضاعيف هذا الكتاب هو جواز تقليد المجتهد الميّت لأنّ كلّ ما دلّ على جواز تقليد المجتهد الحيّ يدل على جواز تقليد المجتهد الميّت خصوصا شيخنا المحقق قدس اللّه روحه في كتابه الشّرائع و المعتبر فانّه نقل(ينقل)متون الأخبار في اكثر المسائل بخلاف العلاّمة طاب ثراه فانّه كثير الإجتهاد و الفتوى.

الفائدة العاشرة في المناظرة و آدابها،اعلم انّ المناضرة في احكام الدين من الدين،و ينبغي ان يقصد بها اصابة الحق و طلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور عزارة علمه و صحة نظره فانّ ذلك من أقبح القبائح،و من آيات هذا القصد ان لا يوقعها الاّ مع رجاء المباشرة،فأما اذا علم عدم قبول المناظرة للحق و انه لا يرجع عن رأيه و ان تبين خطاؤه فمناظرته غير جائزة،و شرط المناظرة في الدين ان يكون مجتهدا يفتي برأيه لا بمذهب أحد حتى اذا بان له الحق على لسان خصمه انتقل اليه،فأما من لا يجتهد فليس له مخالفة مذهب من يقلّده فأيّ فائدة له في المناظرة.

و ينبغي ان يناظر في واقعة مهمة او في مسئلة قريبة من الوقوع و المهم ان يبيّن الحق و لا يطول الكلام زيادة على ما يحتاج اليه في تحقيق الحق،و ان يكون المناظرة في الخلوة احب اليه منها في المحفل و الصدور فانّ في حضور الخلق ما يحرك دواعي الرياء و الحرص على الإقحام و لو بالباطل،و ينبغي ان لا يمنع مفتيه من الإنتقال من دليل الى دليل و من سؤال الى سؤال بل يمكنه من ايراد ما يحضره و يخرج من كلامه ما يحتاج اليه في اصابة الحق،فان وجده في جملته او استلزمه و ان كان غافلا عن اللزوم فليقبله و يحمد اللّه تعالى فانّ الغرض إصابة الحق،و ان كان في كلام متهافت اذا حصل منه المطلوب،و اما قوله قد تركت كلامك الأول و ليس لك ذلك و نحو ذلك من أراجيف المناظرين فهو محض العناد،و اما آفات المناظرة فهي أكثر من ان تذكر فلا ينبغي الوقوع فيها و قبولها الاّ عند الإضطرار اليها.

ص:260

الفائدة الحادية عشر في آداب الكتابة و ما يتعلق بها إعلم ان الكتابة من أجل المطالب الدينية و هو تابع للعلم فان كان واجبا عينيا كان الكتابة كذلك اذا توقف الحفظ عليه و ان كان واجبا كفائيا كانت الكتابة كذلك،روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال قيّدوا العلم، قيل و ما تقييده؟قال كتابته،قال الصادق عليه السّلام لعبيد بن زرارة احتفظوا بكتبكم فانكم سوف تحتاجون اليها،و روى الصدوق في أماليه باسناده الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال ان المؤمن اذا مات و ترك ورقة واحدة عليها علم كانت الورقة سترا فيما بينه و بين النار، و اعطاه اللّه تعالى بكل حرف مدينة أوسع من الدّنيا و ما فيها،و من جلس عند العالم ساعة ناداه الملك جلست الى عبدي و عزّتي و جلالي لأسكنتك الجنّة معه و لا أبالي،و يجب على الكاتب اخلاص النية الى اللّه تعالى كما يجب اخلاصها في طلب العلم لأنّه عبادة و ضرب من تحصيل العلم بل هو في بعض الموارد أكثر ثوابا من العلم بسبب كثرة الإنتفاع به و دوامه،و من هنا جاء تفضيل مداد العلماء على دماء الشهداء حيث انّ مدادهم ينتفع به بعد موتهم و دماء الشهداء لا ينتفع به بعد موتهم.

و ينبغي لطالب العلم ان يعتني بتحصيل الكتب بأي نوع كان لأنّه قد حصل بها نوف زائدا لمن حصّلها على من لم يحصلها،و ينبغي ان لا يشتغل بنسخها ان امكنه تحصيلها بشراء و نحوه،و يستحب اعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممّن لا ضرر منه بها استحبابا مؤكدا لما فيه من الإعانة على العلم و المساعدة على البرّ و التقوى،و قال بعض السلف من بخل بالعلم ابتلي باحدى ثلاث:ان ينساه او يموت فلا ينتفع به او تذهب كتبه،و هذا شيء شاهدناه مرارا كثيرة،و قد كان لنا شيخ يحصل منه بعض البخل بالكتب فبقيت كتبه بعده قد باعها بناته في الأسواق بأبخس قيمة، و كان لنا شيخ آخر اذا طلبنا نحن او غيرنا منه كتابا و كان له حاجة اليه قلع الأوراق التي يحتاج اليها و أعطى الباقي فنمت كتبه و انتفع العلماء بها و أعطاه اللّه تعالى اولادا قابلين للعلم و فهمه، و اذا قضى حاجته من الكتاب فلا يحبسه لئلا يمنع صاحبه من اعارة غيره،اما اذا طلبه المالك حرم عليه حبسه و يصير ضامنا له،و لا يجوز ان يصلح كتاب غيره المستعار او المستأجر بغير اذن صاحبه فلا يحسّنه و لا يكتب له شيئا في بياض فواتحه الاّ اذا علم رضاء مالكه و لا ينسخ منه بغير اذن صاحبه فانّ النسخ انتفاع زائد على الإنتفاع بالمطالعة.

و ينبغي ان يراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها و شرفها و شرف مصنفها فيضع الأشرف على الكل ثم يراعي التدريج،فان كان فيها المصحف الكريم جعل اعلى الكل،و الأولى ان يكون في خريطة ذات عروة في مسمار او وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس ثم كتب

ص:261

الحديث الخالص،ثم تفسير القرآن،ثم تفسير الحديث ثم اصول الدين،ثم اصول الفقه،ثم العربية،و لا يضع الكبير فوقا لصغير لئلا يكثر تساقطها.

و ينبغي ان يكتب اسم الكتب في جانب آخر الصّفحات،و فائدته معرفة الكتاب و تيسّر اخراجه،و لا ينبغي ان يجعل الكتاب خزانة الكراريس او غيرها،و لا مخدّة و لا مروحة و لا مسندا و لا مقتلة للبراغيث،و لا يطوي حاشية الورقة او زاويتها،و كان شيخنا صاحب كتاب بحار الأنوار أدام اللّه ايام سعادته يعير تلامذته كتب الحديث فاذا ارجعوها يخرج من تحت الأوراق من فتات الخبر ما يزيد على شبع الرجل،ثمّ انه سلمه اللّه تعالى صار اذا أراد ان يعير كتابا لواحد من الطلبة يقول ان كان عندك طبق تأكل فيه الخبز و الا اعرناك طبقا مدّة كون الكتاب عندك.

و ينبغي لمن استعار كتابا ان يتفقده عند أخذه و رده،و اذا اشترى كتابا تعهّد أوّله و آخره و وسطه و يصفح أوراقه و يعتبر صحّته و ممّا يغلب على ظنه صحّته اذا ضاق الزمان تفتيشه ان يرى الحاقا او اصلاحا فانّه من شواهد الصّحة،حتى قال بعضهم لا يضيء الكتاب حتى يظلم،يريد اصلاحه بالضّرب و الكشط و الإلحاق و نحوه،و ينبغي له اذا نسخ شيئا من الكتب الشرعية ان يكون على طهارة مستقبلا طاهر البدن و الحبر و الورق و يبتدي الكتاب بكتابة بسم اللّه الرحمن الرحيم و الحمد للّه و الصلاة على رسوله و آله،و كلما كتب اسم اللّه تعالى أتبعه بالتعظيم مثل تعالى او عزّ و جل او تقدّس او نحو ذلك و يتلفظ بذلك و كلما كتب اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتب بعده عليه و آله،بل قال بعضهم و السّلام ايضا،و يصلّي هو بلسانه ايضا،و لا يختص الصّلاة في الكتاب و لا يسأم من تكريرها و لو وقعت في السّطر مرارا كما يفعله بعض المحرومين من الثّواب لطلب الإختصار،فيكتبون صلعم،اوصل او صه او نحو ذلك،فانّ ذلك كله كما قال شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه خلاف الأولى و المنصوص،بل قال بعض العلماء انّ اول من كتب صلعم قطعت يده،و اقل ما في الإخلال بها تفويت الثواب العظيم عليها،فقد ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم انه قال من صلى عليّ في كتب لم تزلا لملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب،و اذا مرّ بذكر احد من الصحابة الأكابر رضي اللّه عنه او رضوان اللّه عليه او بذكر احد من السلف الأعلام كتب رحمه اللّه او تغمده اللّه برحمته و نحو ذلك،و ينبغي ان لا يكتب الكتب بالكتابة الدقيقة،قال بعض السلف لكاتب و قد رآه يكتب خطّا دقيقا:لا تفعل فانّه يخونك أحوج ما تكون اليه.

و اما القلم فقالوا لا ينبغي ان يكون صلبا جدا فيمنع من سرعة الجري او رخوا جدا فيسرع اليه الحفاء،قال بعضهم اذا أردت ان يجود خطك فأطل جلفتك و اسمنها،و حرف قطّتك و أيمنها،و ليكن السكين حادة لبرائة الأقلام و كشط الورق خاصّة و لا تستعمل في غير ذلك،و ليكن

ص:262

ما يقطّ عليه القلم صلبا،و قالوا الأحسن ان يكون القصب الفارسي اليابس جدا،و ينبغي ان لا يقرطم(يقرمط خ)الحروف و لا يأتي بها مشبهة بغيرها بل يعطى كلّ حرف حقه و كل كلمة حقّها و يراعى من الآداب الواردة مطلقا في ذلك ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال لبعض كتّابه الف(الق)الدّواة و حرّف القلم و انصب الباء و فرّق السين و لا تعور الميم و حسّن اللّه و مدّ الرحمن و جوّد الرحيم،وضع قلمك على اذنك اليسرى فانّه اذكر لك.

و عن زيد بن ثابت انّه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا كتبت بسم اللّه الرحمن الرحيم فبيّن السين فيه،و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تمد الباء الى الميم ترفع السين،و عن انس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم اذا كتب احدكم بسم اللّه الرحمن الرحيم فليمدّ الرحمن،و عنه من كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فغفر له،و قد كرهوا في الكتابة فصل مضاف اسم اللّه تعالى منه كعبد اللّه او رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يكتب عبدا و رسول في آخر سطر و اللّه مع ما بعده اول سطر آخر لقبح الصورة،و هذه الكراهة للتنزيه،و ذكروا ان الضرب على الغلط هو اجود من الكشط و المحو لا سيما في الحديث لأنّ كلا منهما يضعف الكتاب ورما أفسد الورق،و عن بعض المشايخ انّه كان يقول كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع،و في كيفية الضرب خمسة اقوال:

احدها ان يصل بالحروف المضروب عليها و يخطّ عليها ممتّد أو يسمى عند المغاربة بالشّق، و أجوده ما كان دقيقا بينا يدل على المقصود،و لا يسود الورق و لا يطمس الحروف و لا يمنع قراءة ما تحته.

و ثانيها ان يجعل الخط فوق الحروف منفصلا منعطفا طرفاه على أول المبطل و آخره و مثاله هكذا.

و ثالثها ان يكتب لفظة لا أو لفظة"من"أوله و لفظة"الى"فوق آخره،و معناه من هنا ساقط الى هنا و مثل هذا يحسن فيما صح في رواية و سقط اخرى.

و رابعها ان يكتب في أول الكلام المبطل و في آخره نصف دائرة و مثاله(هكذا)فان ضاق المحل جعله في أعلى كل جانب،و خامسها ان يكتب في أول المبطل و في آخره صفرا و هو دائرة صغيرة سميّت بذلك لخلو ما أشير اليه بها من الصّحة كتسمية الحساب لها بذلك لخلو موضعها من عدد،و اذا صحح الكتاب على الشيخ او في المقابلة علم على موضع وقوفه يبلغ او بلغت او بلغ العرض او نحو ذلك ممّا يفيد معناه.

و ينبغي ان يفصل كل كلامين او حديثين بدائرة او قلم غليظ و لا يوصل الكتابة كلها على طريقة واحدة لما فيه من عسر استخراج المقصود،و رجحوا الدّائرة على غيرها و عمل عليها غالب

ص:263

المحدثين و أختار بعضهم اعتمال الدائرة حتى تقابل،فكل كلام يفرغ منه ينقط في الدّائرة التي تليه نقطة و في المقابلة ثانية و هكذا.

الفائدة الثانية عشر في أقسام العلوم الشرعية و ما يتوقف عليه من العلوم العقلية و الأدبية، إعلم انّ العلوم الشرعية الأصلية أربعة:علم الكلام،و علم الكتاب العزيز و علم الأحاديث النبوية ،و علو الأحكام الشرعية،و هو المعبر عنه بالفقه،فأما علم الكلام و هو أصول الدين فهو أساس العلوم الشرعية لأن معلوماته أشرف المعلومات و قد ورد الحث على تعلمه،قال ابن عباس جاء إعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا رسول اللّه علمني من غرائب العلم،قال ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائب العلم؟قال الرجل ما رأس العلم يا رسول اللّه؟قال معرفة اللّه تعالى حق معرفته،قال الإعرابي و ما معرفة اللّه حق معرفته؟قال تعرفه بلا مثل و لا شبيه،و لا ند و أنه واحد أحد ظاهر باطن أول آخر لا كفو له و لا نظير فذلك حق معرفته.

و أما علم الكتاب فقد استقر الإصطلاح فيه على ثلاثة فنون قد أفردت بالتصنيف قد أطلق عليها إسم العلم:أحدها علم التجويد و فائدته معرفة أوضاع حروفه و كلماته مفرده و مركبه ،فيدخل فيه معرفة مخارج الحروف و صفاتها و مدها و إظهارها و إخفائها و إدغامها.إمالتها و تفخيمها و ترقيقها و نحو ذلك،و ثانيها علم القراءة،و فائدته معرفة الوجوه الإعرابية و البنائية التي نزل القرآن و ادعوا نقلها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تواتوا و يندرج فيه بعض ما سبق في الفن الأول؛و قد يطلق عليهما واحد و يجمعهما تصنيف واحد و ثالثهما علم التفسير و فائدته معرفة معانيه و أحكامه؛و أما علم الحديث فهو من أجلّ العلوم قدرا و أعلاها رتبة و أعظمها مثوبة بعد القرآن،و أما الفقه فهو العلم بالحكم الشرعي المأخوذ عن الدليل فهذه الأربع هي أصول العلوم و هي المقصود بالذات.

و أما العلوم الفرعية و هي التي يتوقف هذه الأربعة عليها أما معرفة اللّه تعالى و ما يتبعه فلا يتوقف أصل تحققه على شيء من العلوم بل يمفي فيه مجرد النظر و هو أمر عقلي يجب على كل مكلف،و هو أول الواجبات بالذات و إن كان الخوض في مباحثه و تحقيق مطالبه و دفع شبه المبطلين فيه يتوقف على بعض العلوم العقلية كالمنطق و غيره و اما الكتاب العزيز فإنه بلسان عربي مبين فيتوقف معرته على علوم العربية من النحو و التعريف و الإشتقاق و المعاني و البيان و البديع و لغة العرب و أصول الفقه ليعرف به حكم عامه و خاصه و مطلقه و مقيده و محكمه و متشابهه إلى غير ذلك.

ص:264

و أما الحديث النبوي فالكلام فيه كالكلام في الكتاب و علومه و يزيد الحديث عليه بمعرفة رواته من حيث الجرح و التعديل؛و أما الفقه فيتوقف معرفته على جميع ما ذكر من العلوم الفرعية و الأصلية،و المنطق آلة شريفة لتحقيق الأدلة مطلقا فهذه عشرة علوم يتوقف عليها العلوم الشرعية و جملة ما يتوقف عليها الفقه اثني عشرة و هي ترجع بحسب ما استقر عليه تدوين العلماء إلى ثمانية فإن علم الأشتقاق قد أدرج في أصول الفقه غالبا و في بعض علوم العربية و علم المعاني و البيان و البديع قد صار علما واحدا في أكثر الكتب الموضوعة لها،و التصريف داخل في النحو في أكثر الكتب و قل من أفرده علما خصوصا المتقدمين.

الفائدة الثالثة عشر في بيان العلم الشرعي و ما ألحق به على ثلاث مراتب فرض عين، و فرض كفاية،و سنة،فالأول ما لا يتأذى الواجب عينا إلا به و عليه حمل حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم،و أما فرض الكفاية فمما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن و الأحاديث و علومهما و الفقه و الأصول و العربية و ما يحتاج إليه في قوام أمر المعاش كالطب و الحساب؛و تعلم الصنائع الضرورية كالخياطة و الفلاحة حتى الحجامة و نحوها، و قال بعض العلماء فرض الكفاية أفضل من فرض العين لأنّه يصان البعض به جميع المكلفين عن أئمتهم المترتب على تركهم له بخلاف فرض العين فإنه إنما يصان به عن الإثم القائم به فقط، و أما السنة فكتعلم نقل العبادات و الآداب الدينية و مكارم الأخلاق و شبه ذلك و هو كثير و منه تعلم الهيئة للإطلاع على عظمة اللّه تعالى و ما يترتب عليه من الهندسة و غيرها.

و بقي علوم أخرى بعضها محرم مطلقا كالسحر و الشعبذة و بعض الفلسفة،كل ما يترتب عليه إثارة الشكوك و بعضها محرم على وجه دون آخر كأحكام النجوم و الرمل فإنه يحرم تعلمها مع اعتقاد تأثيرها و تحقيق وقوعها و يباح مع اعتقاد كون الأمر مستندا إلى اللّه تعالى و إنه أجرى بالعادة كونها سببا في بعض الآثار و على سبيل التفاؤل كما قاله بعض الأصحاب؛و قد تقدم أن الأولى هو القول بتحريم تعلم علم النجوم و تعليمه مطلقا،و بعضها مكروه كأشعار المولدين المشتملة على الغزل و ترجية الوقت بالبطالة و تضييع العمر بغير فائدة،و بعضها مباح كمعرفة التواريخ و الوقائع و الأشعار الخالية عمّا ذكر مما لا يدخل في الواجب كأشعار العرب العارية التي تصلح للإحتجاج بها في الكتاب و السنة فإنها ملحقة باللغة،و باقي العلوم من الطبيعي و الرياضي و الصناعي أكثره موصوفا بالإباحة بالنظر إلى ذاته و قد يمكن جعله منه(مستحبا لتكميل النفس خ) و بالتكميل للنفس و إعدادها لغيره من العلوم الشرعية بتقويتها في القوة النظرية،قد يكون حراما إذا استلزم التقصير في العلم الواجب عينا أو كفاية كما يتفق كثيرا في زماننا هذا لبعض المحرومين الغافلين عن حقائق الدين.

ص:265

الفائدة الرابعة عشر في ترتيب العلوم بالنظر إلى المتعلم،إعلم أنه لكل علم من هذه العلوم مرتبة من التعلم لا بد لطالبه من مراعاتها لئلا يضيع سعيه و ليصل إلى بغيته بسرعة،و كم قد رأينا طلابا للعلم سنين كثيرة لم يحصلوا منه إلا القليل،و آخرين حصلوا منه كثيرا في مدة قليلة بسبب مراعاة ترتيبه،فينبغي أن يشتغل في أول أمره بحفظ كتاب اللّه تعالى و تجويده على الوجه المعتبر ليكون مفتاحا صالحا و معينا ناجحا فإذا فرغ منه اشتغل بتعلم العلوم العربية فإنها أول آلات الفهم و أعظم أسباب العلم الشرعي،فيقرأ أولا علم التصريف و يتدرج في كتبه من الأسهل إلى الأصعب حتى يتقنه و يحيط به علما،ثم ينتقل إلى النحو فيشتغل فيه على هذا النهج و يزيد فيه و الجد بالحفظ؛ثم ينتقل منه إلى بقية العلوم العربية،فإذا فرغ منها أجمع إشتغل بالمنطق و حقق مقاصده على النمط الأوسع و لا يبالغ فيه مبالغته في غيره لأن المقصود منه يحصل بدونه.

و حدثني جماعة من الثقاة أن السيد المحقق السيد صاحب المدارك و خاله الشيخ الأجل الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ره كانا يقرءان في النجف الأشرف عند الزاهد الورع المولى أحمد الأردبيلي فقراء عليه من شرح الشمسية ما يتوقف عليه الإجتهاد من مباحث الألفاظ و بعض أحوال القضايا و القياسات و الظاهر أنه لا يزيد على عشرة دروس و قرءا من شرح مختصر بن الحاجب للعضدي ما يتوقف عليه أيضا الأجتهاد و هي دروس معدودة،و كان الجماعة الذين يقرأون عند المولى الأردبيلي يهزؤن بهما على هذا النمط من القراءة،فقال لهم المولى لا تهزؤا بهما فعن قليل يصلون إلى درجة الإجتهاد و أحتاج انا إلى أن آخذ تصديق اجتهادي عنهم (1)فكان الحال كما قال،فإنهم بلغوا رتبة التصنيف و الإجتهاد في مدة ثمان سنين،ثم إذا فرغ من المنطق إنتقل إلى علم الكلام و يتدرج فيه كذلك،ثم ينتقل منه إلى اصول الفقه متدرجا في كتبه و مباحثه و هذا العلم أولى بالعلوم تحريرا فلا يقتصر منه على القليل فبقدر ما تحقّقه يتحقّق عنده المباحث الفقهية؛ثمّ ينتقل منه الى علم دراية الحديث فيطالعه و يحيط بقواعده و ليس هو من العلوم الدقيقة و انّما هو من مصطلحات مدونة و فوائد مجموعة،فإذا وقف على مقاصده إنتقل إلى قراءة الحديث بالرواية و التفسير و البحث و التصحيح على حسب ما يقتضيه الحال و يسعه الوقت،و لا أقل من أصل منه يشتمل على أبواب الفقه و أحاديثه.

و كان شيخنا المعاصر أدام اللّه عزه يقول يكفي من الأصول الأربعة كتاب التهذيب ثم ينتقل منه إلى البحث عن الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام الشرعية فقد أفردها العلماء رضوان اللّه

ص:266


1- (1) هذا الكلام من المحقق الأردبيلي ره من باب التواضع.

تعالى عليهم بالبحث و خصوها بالتصنيف فليطالع فيها كتابا و أحسنها في هذه الأيام الآيات الأحكامية التي صنفها شيخنا الشيخ جواد الكاظمي تغمده اله برحمته (1)و استنباط الفروع من الأصول و استفادة الحكم من كتاب أو سنة من جهة النص أو الإستنباط من عموم لفظ أو إطلاقه و من حديث صحيح أو حسن أو غيرهما ليتدرب على هذه المطالب على التدريج؛و هذا لا يحصل إلا بقوة قدسية يمنحها اللّه سبحانه لعبده و لا حيلة للعبد فيها نعم للجد و المجاهدة و الإنقطاع إلى اللّه سبحانه أثرين في تحصيلها كما قال:و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و أن اللّه لمع المحسنين؛فإذا فرغ من ذلك كله شرع في تفسير الكتاب العزيز بأسره فكل هذه العلوم مقدمة له،فإذا وفق له فلا يقتصر على ما استخرجه المفسرون بأنظارهم فيه بل يكثر من التفكر في معانيه و يصفي نفسه للتطلع على خوافيه و بتهل إلى اللّه تعالى في أن يمنحه من لدنه فهم كتابه و أسرار خطابه،فحينئذ يظهر عليه من الحقائق ما لم يصل إليه غيره من المفسرين،لأن الكتاب العزيز بحر لجيّ في قعره درر و في ظاهره خبر،و الناس في التقاط درره و الإطلاع على بعض حقائقه على مراتب و من ثم ترى التفاسير مختلفة حسب اختلاف أهلها فيما يغلب هليهم.

فمنها ما يغلب عليه العربية ككشاف الزمخشري،و منها ما يغلب عليه الحكمة و البرهان الكلامي كما فتح الغيب للرازي،و منها ما يغلب عليه القصص كتفاسير الثعلبي و منها ما يسلط على تأويل الحقائق دون التفسير الظاهر كتفسير عبد الرزاق الكاشي إلى غير ذلك من المظاهر فإذا فرغ من ذلك و أراد الترقي و تكميل النفس فليطالع كتب الحكمة من الطبيعي و الرياضي و الحكمة العملية المشتملة على تهذيب الأخلاق في النفس و ما خرج عنها من ضرورات دار الفنا،ثم ينتقل بعده إلى العلوم الحقيقية و الفنون الخفية فإنها الباب لهذه العلوم و نتيجة كل معلوم و بها يصل إلى درجة المقربين و يحصل على مقاصد الواصلين،هذا كله ترتيب من هو أهل لهذه العلوم و له استعداد لتحصيله و نفس قابلة لفهمها،فأما القاصرون عن درك هذا المقام و الممنوعون بالعوائق عن الوصول إلى هذا المرام فليقتصروا منها على ما يمكنهم الوصول إليه متدرجين فيه حسب ما دللنا عليه،فإن لم يكن لهم بد من الأقتصار فلا أقل من الإكتفاء بالعلوم الشرعية و الأحكام الدينية،فإن ضاق الوقت و ضعفت النفس عن ذلك فالفقه أولى من الجميع فبه قامت النبوات و انتظم أمر المعاش و المعاد مضيفا إليه ما يجب مراعاته من تهذيب النفس و إصلاح القلب ليترتب عليه العدالة التي بها قامت السموات و الأرض و التقوى الذي هو ملاك الأمر فإذا فرغ عما خلق له من العلوم فليشتغل بالعمل الذي هو زبدة العلم و علة الخلق قال اللّه تعالى و ما خلقت الجن

ص:267


1- (1) هو تلميذ الشيخ البهائي قدس سره و كتابه في آيات الأحكام و هو كتاب جليل من نفائس الآثار.

و الإنس إلا ليعبدون،و ما أجهل و أخسر و أحمق من يتعلم صنعة لينتفع بها في أمر معاشه ثم يصرف عمره و يجعل كده في تحصيل آلاتها من غير أن يشتغل بها اشتغالا لا يحصل به الغرض منها و كم قد رأينا في شيراز و أصفهان من طالب اشتغل بالمقدمات و أمعن النظر فيعا حتى انقضى عمره و لم يعرف شيئا من العلوم الشرعية،و ربما آل الأمر إلى احتقارها و احتقار من يعرفها بل يعدون الفقيه حمارا و ليس هذا إلا من عدم ثبات الأيمان في قلوبهم.

و اعلم أن ترتيب العلوم على نحو ما ذكرنا مأخوذ من كلام شيخنا الشهيد الثاني نور اللّه ضريحه بل أكثر فوائد هذا النور مأخوذة من كلامه و لا عيب علينا في أخذ كلامه لأنه البحر الذي عرف منه المتأخرون بأسرهم و حيث أنك قد عرفت أولا أن الأذهان تحتاج إلى تشحيذ لأنها تكل كما كل الأبدان و تشحيذها إنما يكون بلطائف العلوم و غوامض الفنون و هو الذي فهمه المحققون من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم روحوا ارواحكم ببدايع الحكمة فإنها تكا كما تكل الأبدان، فلا بأس بذكر نور يشتمل على لعض ما في الفنون من الؤعربية و غيرها و اللّه الموفق.

كان من قصد الناشرين للكتاب بهذه الحلة الرائقة أتمام طبعه في ثلاث أجزاء على حسب تجزئتهم في الطبع كما ذكروا ذلك في إعلان نشر الكتاب و قبوضه و لكن الكتاب لم يتم و احتاج إلى جزء آخر فانتظروا الجزء الرابع و به يتم الكتاب و سيصدر عن قريب أن شاء اللّه تعالى.

بسمه تعالى

نجز الجزء الثالث من الكتاب على حسب تجزئتنا في الطبع و يليه الجزء الرابع و أوله:(نور في بعض التراكيب المشكلة و الأخبار الدقيقة)و نسأل اللّه تعالى التوفيق لأتمامه و الحمد للّه أولا و آخرا و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين و قد تصدى لتصحيحه و بذل الجهد فيه:عمران بن على حسين ال(غريبدوستي)عفا اللّه عنه و وفقنا اللّه تعالى لأتمامه في أوائل شهر محرم الحرام سنة:(1380)ه ق المطابق(1339)ه ش.

ص:268

الفهرست

(نور يكشف عن احوال الغيبة)3

(نور يكشف عن الحسد و النميمة و لواحقهما)13

(نور في الكبر و الفخر و علاجاتهما و ما يناسب ذلك)18

(نور يكشف عن تحريم معونة الظالمين مطلقا)29

نور يكشف عن الكذب و عن عظم خطره و عن توابعه و لواحقه 37

(نور يكشف عن الربا و احكامه و لواحقه)43

نور يكشف عن الكفر و عن حقيقة الشرك و اقسامه و توابعه المتعلقة به 45

نور يكشف عن عقوق الوالدين و عما توعد عليه من العذاب و ما يتبعه من قطيعة الرحم 55

(نور في حب الدنيا و اسبابه و علاماته)62

(نور في لذات الدنيا بانواعها)76

نور في التوبة و ما يتعلق بها من الأحكام و المعارف 99

نور في الحب و درجاته و علاماته و توابعه و ما يتعلق بذلك 111

نور في الصبر و أقسامه و محاله و فوائده و ما يتعلق به من المناسبات 139

نور في بعض احوال واقعة الطفوف و شهادة مولانا ابي عبد اللّه الحسين(ع)167

(نور في الفقر و الزهد و التوكل)187

نور في احوال الملوك و الولاة و كيفية ما ينبغي لهم من السلوك في أنفسهم و مع رعيتهم و ما يلحق بهذا 210

(نور في احوال العالم و المتعلم و كيفية آدابهما)240

ص:269

المجلد 4

اشارة

سرشناسه:جزایری، نعمت الله بن عبدالله، ق 1112 - 1050

عنوان قراردادی:[الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه]

عنوان و نام پديدآور:الانوار النعمانیه/ تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

مشخصات نشر:بیروت - لبنان - دارالقاریء 1429

مشخصات ظاهری:4ج

عنوان دیگر:الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه

موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه

موضوع:ادبیات عربی -- مجموعه ها

موضوع:احادیث شیعه -- قرن ق 12

ص :1

اشارة

الانوار النعمانیه

تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

ص :2

تتمة الباب الثاني

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نور في بعض التراكيب المشكلة

و "الأخبار الدقيقة و المسائل الفقهية و غيرها اعلم أنّه قد تقدّم أنّ الأحتياج الى علم النحوّ اشدّ من الأحتياج الى غيره،فلا بأس بأن نبدأ ببعض تراكيبه و نثره(و تفسيره)

أنّ هند المليحة الحسناء و اى من أضمرت لخلّ وفاء

يرفع هند و المليحة و نصب الحسناء و تحقيقه أنّ الهمزة فعل أمر و النون للتوكيد و الأصل اين بهمزة مكسورة و ياء ساكنة للمخاطبة و نون مشدّده للتوكيد،ثمّ حذفت الياء للألتقاء الساكنين،و هند منادى،و المليحة نعت لها على اللفظ،و الحسناء إمّا نعت لها على الموضع و إما بتقدير أمدح،و أمّا نعت لمفعول به محذوف اي عدي يا هند المرأة الحسناء،و على الوجهين الأوّلين فيكون انّما أمرها بأيقاع الوعد الوفي من غير أن يعيّن لها الموعود،و قوله اي مصدر نوعي منصوب بفعل الأمر، و الأصل و أيا مثل و اي من أضمرت،و قوله أضمرت بالتأنيث محمول على معنى من و من النثر قولهم أنّ قائم،بتشديد أنّ و رفع قائم،و الجواب عنه انّ أصله إن أنا قائم،فحذفت همزة أنا إعتباطا،و أدغمت نون ان في نونها،و حذفت ألفها في الوصل و ان المخففة هنا مهملة عن العمل، و مثله قوله تعالى لكنّا هو اللّه ربّي و الأصل لكن هو اللّه ربّي و من الشعر المتعلق بالمسائل الفقهية ما كتبه الرشيد يوما الى القاضي ابي يوسف و هو هذان البيتان

فأن ترفقي يا هند فالرفق أيمن و ان تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق و الطلاق عزيمة ثلاث و من يخرق أعقّ و أظلم

فقال ما ذا يلزمه اذا رفع الثلاث و اذا نصبها؟قال ابو يوسف فقلت هذه مسألة نحويّة فقهيّة و لا آمن الخطاء ان قلت فيها برأيي،فأتيت الكسائي و هو في فراشه فسألته فقال ان رفع ثلاثا طلقت واحدة لأنّه قال أنت طالق ثمّ أخبر و انّ الطلاق التامّ ثلاث و ان نصبها طلقت ثلاثا لأنّ معناه أنت طالق ثلاثا و ما بينهما جملة معترضة،فكتبت بذلك الى الرشيد فأرسل الىّ بجوائز فوجّهت بها الى الكسائي و قال المحقق ابن هشام الصواب ان كلا من الرفع و النصب محتمل لوقوع الثلاث و لوقوع الواحدة،أمّا الرفع فلأنّ أل في الطلاق امّا لمجاز الجنس كما تقول زيد الرجل اى هو الرجل المعتدّ به،و إمّا للعهد الذكرى مثلها في فعصى فرعون الرسول،اى هذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث، و لا يكون للجنس الحقيقي لئلاّ يلزم الإخبار عن العامّ بالخاصّ كما يقال للحيوان انسان و ذلك باطل،اذ ليس كلّ حيوان انسانا و لا كلّ طلاق عزيمة ثلاث،فعلى العهديّة تقع الثلاث و على

ص:3

الجنسية تقع واحدة كما قال الكسائي و أمّا النصب فلأنّه يحتمل لأن يكون على المفعول المطلق و حينئذ يقتضى وقوع الثلاث اذ المعنى فأنت طالق ثلاثا ثمّ أعترض بينهما بقوله و الطلاق عزيمة، و ان يكون حالا من الضمير المستتر في عزيمة و حينئذ لا يلزم وقوع الثلاث لأنّ الطلاق عزيمة اذا كان ثلاثا فأنّما يقع ما نواه،هذا ما يقتضيه معنى هذا اللفظ و أمّا الذى أراده الشاعر المعين فهو الثلاث لقوله بعد

فبيني بها ان كنت غير رفيقة و ما لأمرء بعد الثلاث مقدم

أقول هذا كله انّما يصح على مذاهب الجمهور من وقوع الطلقات الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد،و أمّا الذى ذهب إليه علماء أهل البيت عليهم السّلام من حكم هذا الطلاق فهو أمّا البطلان او وقوع طلقة واحدة فقط،و قد بقى على هذا المبحث اعتراضات كثيرة حررّناها في حواشينا على مغنى ابن هشام.و من النثر مسألة العقرب و الزنبور الّتي وقعت بين سيبويه و الكسائى

و كان من خبرهما انّ سيبويه قدّم على البرامكة فعزم يحيى بن خالد على الجمع بينهما،فجعل لذلك يوما فلمّا حضر سيبويه تقدّم اليه الفراء و خلف الأحمر فسأله خلف عن مسئلة فأجاب فيها فقال له أخطأت ثمّ سأل ثانية و ثالثة و هو يجيبه و يقول له أخطأت،فقال هذا سوء أدب فأقبل عليه الفرّاء انّ فى هذا الرجل حدّة و عجلة،فسأله فأجابه فقال أعد النظر،فقال لست أكلّمكما حتّى يحضر صاحبكما،فحضر الكسائى فقال له تسألني او أسألك؟فقال له سيبويه سل أنت فسأله عن هذا المثال:و هو كنت أظن انّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فاذا هو هي او فاذا هو ايّاها،فقال له سيبويه فاذا هو هى و لا يجوز النصب:و سأله عن أمثال ذلك نحو خرجت فاذا عبد اللّه القائم او القائم بالنصب فقال كلّ ذلك بالرفع،فقال له الكسائى العرب ترفع كلّ ذلك و تنصبه؟فقال يحيى قد أختلفتما و انتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما،فقال له الكسائى هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين فيحضرون و يسألون،فقال يحيى و جعفر أنصفت فأحضروا فوافقوا الكسائى، فاستكان سيبويه و أمر له يحيى بعشرة آلاف فخرج الى شيراز و أقام بها حتّى مات،و قد رأينا قبره و لكن لم نزره لأنّه منهم.

و يقال انّ العرب أرشوا على ذلك او أنّهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد و يقال انّهم انّما قالوا القول في الكسائى و لم ينطقوا بالنصب و انّ سيبويه قال ليحيى مرهم ان ينطقوا بذلك فانّ ألسنتهم لا تطوع به،و قد نظم هذا ابو الحسن حازم بن محمّد الأنصاري حاكيا هذه الواقعة و المسألة فقال:

و العرب قد تحذف الأخبار بعد اذا إذا عنت فجأة الأمر الذى دهما

و ربّما نصبوا بالحال بعد اذا او بعد ما رفعوا من بعدها ربما

فان توالى ضميران إكتسابهما وجه الحقيقة من أشكاله غمما

ص:4

لذاك أعيت على الأفهام مسألة أهدت الى سيبويه الحتف و الغمما

قد كانت العقرب العوجاء أحسبها قدما أشدّ من الزنبور وقع حما

و في الجواب عليها هل اذا هو هي او هل اذا هو ايّاها قد أختصما

و خطّأ ابن زياد و ابن حمزة فى ما قال فيها ابو بشر و قد ظلما

و غاظ عمروا عليّ في حكومته يا ليته لم يكن في أمرها حكما

كغيظ عمرو عليّا في حكومته يا ليته لم يكن في أمرها حكما

و فجّع ابن زياد كلّ منتحب من أهله اذ غدا منه يفيض دما

كفجعة بن زياد كلّ منتحب من أهله اذ غدا منه يفيض دما

و أصبحت بعده الأنفاس باكية في كلّ طرس كدمع سحّ و أنسجما

و ليس يخلو أمرأ من حاسد اضم لو لا التنافس في الدنيا لما اضما

و الغبن في العلم اشجى محنة علمت و أبرح الناس شجوا عالم هضما

و قوله و ربّما نصبوا اي ربّما على الحال بعد أن رفعوا ما بعد اذا على الأبتداء فيقولون فاذا زيد جالسا،و قوله ربما فى آخر البيت بالتخيف توكيد لربّما في أوّله بالتشديد،و غمما في آخر البيت الثالث بفتح الغين كناية عن الأشكال و الخفاء،و غمما فى آخر البيت الرابع بضمّها جمع غمّة و ابن زياد هو الفراء و اسمه يحيى و ابن حمزة الكسائي و اسمه علي،و ابو بشر سيبويه و اسمه عمرو،و الف ظلما للتثنية ان بنيته للفاعل و للأطلاق انّ بنيته للمفعول،و عمرو و علىّ الأوّلان سيبويه و الكسائى و الاخران ابن العاص و مولانا أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السّلام،و حكما الأوّل والد الفراء و الثانى زياد بن ابيه عليهما اللّعنة و العذاب و النيران و ابنه المشار اليه هو المرسل في قتل ابي عبد اللّه الحسين عليه السّلام،و اضم كغضب وزنا و معنى و أعجام ضاد و هضم مبني للمفعول اى لم يوفّ حقّه و امّا سؤال الكسائى فجوابه ما قال سيبويه فاذا هو هي هذا وجه الكلام مثل فاذا هي بيضاء و امّا فاذا هو ايّاها فان ثبت فخارج عن القياس و ظرف فيه معنى وجدت و رايت فجاز له ان ينصب المفعول و هو مع ذلك ظرف فيه مخبر به عن الإسم بعده انتهى،و هو خطأ لأنّ المعاني لا تنصب المفاعيل الصحيحة.و الثانى انّ ضمير النصب أستعير في مكان ضمير الّرفع قاله ابن مالك و الثالث انّه مفعول به و الأصل فاذا هو يساويها ثمّ حذف الفعل فأنفصل الضمير و الرابع انّه مفعول مطلق و الأصل فاذا هو يلسه لسعتها ذهب اليه الأعلم الخامس انّه منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف و الأصل فاذا هو ثابت مثلها ثمّ حذف المضاف فأنفصل الضمير و أنتصب في اللّفظ على الحال على سبيل النيابة،و هذا كلّه ما كان يخفى على سيبويه لكنّه لمّا كان

ص:5

خلاف المشهور بين الفصحاء انكره سيبويه:و هو لفظ عجمي و معناه بالعربيّة رائحة التفاح قال ابراهيم الجزينى سمّى بذلك لأنّ وجنتيه كانتا كأنّهما تفّاحتان،و سبب قراءته النّحو على ما ذكره أهل النحو انّه جاء الى حماد بن سلمة لكتابة الحديث فاستملى منه قوله صلّى اللّه عليه و آله ليس من أصحابي أحد الاّ و لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء،فقال سيبويه ليس أبو الدرداء فصاح به حماد لحنت يا سيبويه انّما هذه استثناء فقال لأطلبن علما لا يلحنني معه أحد،ثمّ مضى و لزم الأخفش و غيره،و روينا عن ابن هشام الخضراوى انّ السبب هو انّه جاء الى حماد بن سلمة فقال ما تقول في رجل رعف بالصلوة؟،ضمّ العين فقال له حماد لحنت يا سيبويه انّما هو رعف بكسر العين فقال لأطلبنّ علما الحديث،و نهض الى الخليل و حكى له ما جرى فقال الخليل ما ردّ عليك به فهو الفصيح و ما قلت انت لغة غير فصيحة فلزم الخليل من ساعته الى ان بزغ فى صناعة الأعراب.

و روى الخطيب فى تاريخه عن الفرّاء انّ الكسائي ايضا انّما تعلّم النحو على كبر

و ذلك انّه مشى يوما حتّى اعيى ثمّ جلس الى قوم ليستريح معهم فقال قد عيّيت بالتّشديد بلا همزة فقالوا له لا تجالسنا و انت تلحن قال و كيف؟قالوا ان أردت من التعب فقل اعييت و ان أردت من انقطاع الحيلة و التحيّر في الأمر فقل عييت مخففّا فقام من ساعته فلزم حمّادا حتّى تقدّم عنده فخرج الى البصرة فلقى الخليل قد مات و جلس موضعه يونس فتكلّم معه فأقرّ له يونس في مسائل، و انّما سمّي الكسائي لأنّه لمّا قرأ على حمزة كان يلتفّ بكساء فقال أصحاب حمزة له الكسائي و مات سيبويه سنة ثمانين و مائة و امّا الكسائى فمات سنة تسع و ثمانين و مائة.و منها أيضا ما ينسب الى الأمام زين العابدين عليه السّلام حيث قال

عتبت على الدنيا فقلت الى متى أكابدها بؤسه ليس ينجلى

أ كلّ شريف قد على بجدوده حرام عليه العيش غير محلّل

فقالت نعم يا أبن الحسين رميتكم بسهم عنادى حين طلّقني علي

و قال المسيح عليه السّلام انا الّذي كفأت الدنيا على وجهها فليس لى زوج يموت و لا بيت يخرب،اجتمعت عند رابعة عدّة من الفقهاء و الزّهّاد

فذمّوا الدّنيا و هي ساكتة فلمّا فرغوا أقالت من أحبّ شيئا اكثر من ذكره لمّا يحمد و امّا يذم فان كانت الدنيا في قلوبكم لا شىء فلم تذكرونها،و من الأشعار الجيّدة قول شيخنا البهائي ره

في قصيدة طويلة و هي:

ص:6

سرى البرق من نجد فهيّج تذكاري عهودا بخروي و العذيب و ذي قار (1)

و هيّج من أشواقنا كلّ كامن و اججّ في أحشائنا لاهب النار

ألا يا لييلات العذيب و حاجر سقيت بهام من بني المزن مدرار

و يا جيرة بالمازمين خيامهم عليكم سلام اللّه من نازح الدار

خليلي مالي و الزمان كانّما يطا لبني فى ان بأوتار

فابعد أحبابي و اخلى مرابعى و ابدلنى من كلّ صفو بأكدار

و عادل بي من كان أقصى مرامه من المجد ان يسمو الى عشر معشار

أ لم يدر انّى لا اذلّ لخطبه و ان سامني خسفا و ارخص تسعاري

مقامي بفرق الفرقدين فما الذّى يؤثّره مسعاه في خفض مقدار

و انّي امرء لا يدرك الدهر غايتى و لا تصل الأيدى الى سر أغوار

اخالط ابناء الزمان بمقتضى عقولهم كي لا يفوهوا باتكار

و اظهر انّي مثلهم تستفزني صروف الليالي باختلال و امرار

و يضجرني خطب المهول لقاؤه و يطربنى الشادى بعود و مزمار

و يضمى فؤادي ناهد الثّدي كاعب باسمر طّار و احور سحّار

و انّي لأسخى(سخى)بالدّموع لوقفة(قتاظ) على طلل بال و دارس اجحار

و ما علموا انّى امرء لا يروعني توالى الرّزايا فى عشّي و ابكار

اذا دك طود الصبر من وقع حارث فطود اصطباري شامخ غير منهار

الى آخر القصيدة و من الأشعار قوله:استقدر اللّه خير او ارضين به فبينما العسر ازدارت مياسير اخرج الأنباري بسنده الى الكلبي قال عاش عبيد بن شبرمة الجهرمي ثلثمائة سنة و ادرك الأسلام و دخل على معاوية و هو متخلّف،فقال حدّثني باعجب ما رأيت قال مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميّتا لهم فلمّا انتهيت اليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر:

يا قلب أنّك من أسماء مغرور فاذكروا هل ينفعنك اليوم تذكير

قد بحت بالحبّ ما تخفيه من أحد حتّى جرت بك اطلاقا محاضير

تبغى أمورا فما تدرى اعاجلها ادنى لرشدك ام ما فيه تأخير

فاستقدر اللّه البيت،و بينما المرء في الأحياء مغتبط ان صار في الرّمس تعفوه الأعاصير

ص:7


1- (1) اساس لأمكنة

يبكى الغريب عليه ليس يعرفه و ذو قرابته فى الحىّ مسرور

فقال لى رجل أ تعرف من يقول هذا الشعر؟قلت لا قال انّ قائله هو الّذي دفنّاه الساعة و انت الغريب تبكي عليه ليس تعرفه،و هذا الذي خرج من قبره اقرب الناس اليه رحما و هو اسرّهم بموته،فقال معاوية لقد رايت عجبا فمن الميّت؟قال عنيز بن الوليد العذري و المحاضير جمع محضر و هو الفرس الكثير العدو و الأعاصير جمع أعصار و هى ريح تثير الغبار الى نحو السماء

و من الأشعار قول ابي الطيّب

امن ازديارك فى الدجّى الرّقباء اذ حيث كنت من الظلام ضياء

أمن فعل ماض فهو مفتوح الآخر لا مكسوره على انّه حرف كما توهّمه بعض الأفاضل:

و الأزديار-أبلغ من الزيارة،و الدال بدل عن التاء،و في متعلّق به لا يأمن لأنّ المعنى أنّهم آمنون دائما ان تزورى فى الدجا،و اذا ما تعليل او ظرف مبدل من محلّ فى دجا،و ضياء مبتدأ خبره حيث،و ابتدأ بالنكرة لتقدّم خبرها عليها ظرفا و لأنّها موصوفة فى المعنى لأنّ من الظّلام صفة لها في الأصل فلمّا قدمت عليها صارت حالا عنها و من للبدل و هى متعلّقة بمحذوف،و كان تامّة و هى و فاعلها خفض باضافة حيث،و المعنى اذ الضياء حاصل في كلّ موضع حصلت فيه بدلا من الظلامو من الأشعار قول ابى نواس الحكمي:

غير مأسوف على زمن ينقضى بالهمّ و الحزن

و ذلك انّ لفظ غير نكرة فلا يجوز وقوعه مبتدأ،و قد ذكر له النحاة ثلاثة أعاريب أوّلها ما قاله ابن الشجري و ابن مالك،من انّ غير مبتدء لا خبر له بل الذي أضيف اليه مرفوع يغني عن الخبر،و ذلك لأنّه فى معنى النفى،و الوصف بعده مخفوض لفظا،و هو في قوّة المرفوع بالأبتداء، فكأنّه قيل ما مأسوف على زمن ينقضى مصاحبا للهمّ و الحزن،فهو نظير ما مضروب الزيدان و النايب عن الفاعل و الظرف و ثانيها ما قاله ابن جنيّ من انّ غير خبر مقدّم و الأصل زمن ينقضي بالهمّ و الحزن غير مأسوف عليه،ثمّ قدّمت غير و ما بعدها،ثمّ حذف زمن دون صفته فعاد الضمير المجرور بعلي على غير مذكور فأتى بالأسم الظاهر مكانه،و ثالثهما ما صار اليه ابن الخشاب من انّ غير خبر لمحذوف و مأسوف مصدر جاء على مفعول كالميسور،و المراد به أسم الفاعل،و المعنى أنا غير آسف على زمن هذه صفته،و فيه من التكلّف ما لا يحتاج الى البيان،و منه أيضا:

أبى جوده لا البخل و استعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

ص:8

و قد روى البخل منصوبا و مجرورا:فالنصب على انّ لا زايدة مثلها في قوله ما منعك أن لا تسجد،و امّا الجرّ فعلى انّ لا إسم مضاف لأنّه اريد به اللفظ و شرحه انّ كلمة لا تكون للبخل و تكون للكرم،و ذلك أنّها اذا وقعت بعد قول القائل أعطني أو هل تعطيني كانت للبخل،و ان وقعت بعد قوله أ تمنعني عطاؤك،أو أ تحرمني نوالك كانت للكرم،و قيل هى غير زايدة أيضا في رواية النصب و ذلك على أن تجعل اسما مفعولا و البخل بدلا منها كما قاله الزجاج،و قال بعضهم لا مفعول به و البخل مفعول لأجله اي كراهيّة البخل مثل يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا اي كراهة ان تضلّوا،و قال الزمخشرى في أحاجيه هذا البيت غامض المعنى و ما رأيت أحدا فسّره،أقول الظاهر هو أنّ معنى البيت هذا و هو انّه مدح ذلك الكريم بأنّ جوده ابى ان ينطق بلا التّي للبخل اي التّي يقولها البخيل و أستعجلت بجوده نعم اى سبقت نعم الى جوده على لا حال كون نعم صادرة من فتى لا يمنع جوده للذي يريد قتله،يعني انّ الطالب لو طلب روحه لجاد بها كما قال بعده:

و لو لم يكن في كفّه غير نفسه لجاد بها فليتّق اللّه سائله

فعلى هذا يكون رواية قاتلة بالتاء الفوقانيّة،و يروى بالتحتانية من القول فيكون الهاء فيها عائدة الى نعم اي قائل هذه الّلفظة و هي نعم لا يمن جوده أحد و من الأشعار المروّحة للخاطر ما نقله شيخنا البهائى ره من خطّ جد"طاب ثراه"

الى كم تماد فى غرور و غفلة و كم هكذا نوم الى غير يقظة

لقد ضاع عمر ساعة منه تشترى بملأ السما و الأرض أيّة ضيعة

أ ترضى من العيش الرغيد و عيشة مع الملأ الأعلى بعيش البهيمة

فيادرة بين المزابل ألغيت و جوهرة بيعت بأبخس قيمة

أ فان بباق تشتريه سفاهة و سخطا برضوان و نار بجنّة

أ أنت صديق ام عدوّ لنفسه فانّك ترميها بكلّ مصيبة

و لو فعل الأعدا بنفسك بعض ما فعلت لمسبهم(كذا)بها بعض رحمة

فقد بعتها هونا عليك رخيصة و كانت بهذا منك غير حقيقة

كلفت بها دنيا كثيرا غرورها تقابلها في نصحها بالخديعة

اذا أقبلت ولّت و ان هى أحسنت أساءت و ان ضاقت فشوبا(ب)كدورة

و عيشك فيها ألف عام و ينقضي كعيشك فيها بعض يوم و ليلة

عليك بما يجدي عليك من التقى فأنّك في سهو عظيم و غفلة

تصلّي بلا قلب صلاة بمثلها يصير الفتى مستوجبا للعقوبة

تخاطبه أياك نعبد مقبلا على غيره فيها لغير ضرورة

ص:9

و لو ردّ من ناجاك للغير طرفة تميّزت من غيظ عليه و غيرة

تصلّي و قد أتممتها غير عالم تريدا احتياطا ركعة بعد ركعة

فويلك تدري من تناجيه معرضا و بين يدي من تنحنى غير مخبت

ذنوبك في الطاعات و هي كثيرة اذا عدّدت تكفيك عن كلّ زلّة

تقول مع العصيان ربّي غافر صدقت و لكن غافر بالمشيّة

فربّك رزّاق كما هو غافر فلم لا تصدّق فيهما بالسويّة

فكيف ترجى العفو من غير توبة و لست ترجى الرزق الاّ بحيلة

و ها هو بالأرزاق كفلّ نفسه و لم يتكفّل للأنام بجنّة

و ما زلت تسعى في الذي قد كفيته و تهمل ما كلّفته من وظيفة

تسىء به ظنّا و تحسن تارة على حسب ما يقضى الهوى بالقضيّة

و من الأشعار ايضا(1)قوله

لتقعدن مقعد القصيّ منّى ذا القاذورة المقلّي

او تحلفى بربّك العليّ انّي ابو ذيّاك الصبيّ

يروى به كسر ان و فتحها،فالكسر على الجواب،و الفتح على معنى او تحلفي على انّى ابو الصبىّ، قاله شخص غاب عن زوجته و جاء و قد ولدت ولدا،و يحكى أنها قالت في جوابه:

لا و الذّى ردّك يا صفي ما مسنيّ بعدك من إنسي

غير غلام واحد صبيّ بعد أمر دين من بني تليّ

و آخرين من بني عدي و خمسة كانوا على الطويّ

و ستّة جاؤا مع العشىّ و غير تركيّ و نصرانيّ

فقام اليها و سدّ فاها و قال اسكتي قبحّك اللّه لو لم أسدّ فاك لذكرت الجنّ الأنس و هذه المرأة المباركة قد أستقلّت هؤلاء المعدودين،و قول زوجها لذكرت الجنّ و الأنس مبالغة،نعم كانت تذكر مع هؤلاء الأقارب و الجيران لأنّ الذّين عدتهم انّما هم-من الطوائف البعيدة،و لا ريب انّ من الأصدقاء و الجيران اكثر من الأجانب،و شفقتها-لا رضي اللّه عنها-عليهم اكثر من الأباعد، و نظير هذه المرأة الكرديّة التّى نظم حالها شيخنا الشيخ بهاء الدين قدّس اللّه روحه حيث قال:

كان فى الأكراد شخص ذو سداد أمة ذات أشتهار بالفساد

ص:10

لم تخيّب من نوال طالبا لن تكفّن عن وصال راغبا

بابها مفتوحة للدّاخلين رجلها مرفوعة للفاعلين

فهى مفعول بها في كلّ حال فعلها تمييز أفعال الرجال

كان ظرفا مستقرّا و كرها جاء زيد قام عمر و ذكرها

جاءها بعض الليالي ذو أمل فاعتراها الابن في ذاك العمل

شقّ بالسكين فورا صدرها فى محاق الموت أخفى ذكرها

مكّن الغيلان في أحشائها خلّص الجيران من فحشائها

قال بعض القوم من أهل الملام لم قتلت الأمّ يا هذا الغلام

كان قتل المرء أولى يا فتى انّ قتل الأم شىء ما أتى

قال يا قوم أتركوا هذا العتاب ان قتل"الأم"ادنى للصواب

كنت لو أبقيتها فيما تريد كلّ يوم قاتل شخص(شخصاخ)جديد

انّها لو ما تذق حد الحسام كان شغلي دائما قتل الأنام

أيها المأسور فى قيد الذنوب أيّها المحروم من ستر العيوب

أنت في أسر الكلاب العاوية من قوى النفس النفور الغاوية

كل صبح و مساء لا تزال مع دواعي النفس فى قيل و قال

فاقتل النفس الكفور الجانية قتل كردىّ لأمّ زانية

أيّها الساقي أدر كأس المدام و اجعلن فى دورها عيشي مدام

خلّص الأرواح من قيد الهموم أطلق الأشباح من أسر الغموم

فالبهائى الحزين الممتحن من دواعى النّفس فى أسر المحن

و قد نظم رحمه اللّه تعالى هذا المضمون فى أشعر عجميّة (1)مضمونها انّ تلك المرأة الكرديّة مع كثرة هذه الجنايات اذا أتى وقت الصلاة قامت و صلّت:فتعجّب من قوّة هذا الوضوء و انّه كيف لم ينتقض مع هذه الجنايات التّى لا تحصى،فليس هذا الوضوء الاّ من باب سدّ اسكندر ذى القرنين.

ص:11


1- (1) تلك الاشعار الفارسية مذكورة في رسالة:(نان و جلوا)لشيخنا البهائي ره او لها بو در هرى بيره زنى كهنه رندى حيلة سازي بر فنى و آخرها: اين رضو از شنك رو محكمتر أست اين وضو نبود سد اسكندر است

و منها ما سأل الصلاح الصفدي عنه و هو قول قيس:

أصلّي فلا أدرى اذا ما ذكرتها أثنتين صلّيت الضحى ام ثمانيا

ما وجه الترديد بين الأثنين و الثمانية؟فقال كأنّه لكثرة السهو و أشتغال الفكر كان يعدّ الركعات بأصابعه ثمّ انّه يذهل فلا يدري هل الأصابع التّى ثناها هى التّى صلاّها،ام الأصابع المفتوحة؟قال بعض المتأخّرين و أقول للّه درّ الصلاح فى هذا الجواب الرائق الذّى صدر عن طبع أرقّ من السحر الحلال و ألطف من الخمر شيب بالزلال و ان كنّا نعلم أن قيسا لم يقصد ذلك.

و من الأشعار ما نقله صاحب التبيان قال قال ابو الحسن دخلت على المرتضى فأراني أبياتا قد عملها و هي هذا:

سرى طيف سعدى طارقا فاستفزنى هبوبا(سحيرا)و صحبي بالفلاة هجود

فلمّا انتبهنا للخيال الّذي سرى اذ الأرض قفر و المزار بعيد

فقلت لعيني عاودى النوم و اهجعي لعلّ خيالا طارقا سيعود

فقال لي خذ هذه الأبيات الى أخي الرضى و قل له لعلّه يتممّها في الأوقات المستقبلة فلمّا أتيت الى أخيه الرضا و رآها قال علىّ بالمحبرة،فأتوه بها فقال:

فردّت جوابا و الدموع بوادر و قد أنّ للشمل المشتّ ورود

فيهات من ذكرى حبيب تعرضّت لنا دون لقياها مهامه بيد

فعدت الى المرتضى بالخبر،فقال يعزّ علىّ اخى قتله الذكاء،فما كان الاّ يسيرا حتى مضى، و هذا ليس ببعيد فانّ الذكاء اذا غلب على الطبيعة احترقت السوداء فاذا أحترقت مات صاحبها، و قد وقع مثله لأبى تمام،و ذلك انّه مدح الخليفة يوما فقال في مدحه:

أقدام عمرو فى سماحة حاتم في حلم أعنف فى ذكاء اياس

فقال له الحاضرون يا ابا تمام ما هذا المدح الناقص؟كيف شبهّت الخليفة بأجلاف العرب؟و من اين لهؤلاء درجة الخليفة فضلا عن انه يشبّه لهم؟فقال لهم يا قوم هذا جائز و قد ورد فى الكلام الفصيح،فقالوا له هات الشاهد على هذا و لك ما طلبت،فقال أمهلوني هذه اللخطة حتّى أتفكّر، فسكتوا عنه فتأمّل لحظة حتّى احمرّ وجهه ثمّ أصفرّ و تقلبّت عليه ألوان،ثمّ قال لهم:

لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا تعاطى بين كلّ الناس

اللّه قد ضرب الأجلّ لنوره مثلا كما المشكوة و المقباس

ص:12

فلمّا أنشد هذين الشعرين قال أريد الجائزة ولاية مصر سبع سنين،فكأنّ الخليفة أستكثرها، فقال وزيره أكتب له عهدا على ولاية مصر و لا يبقى لك الاّ الذكر الجميل،و هذا الرجل لا يبقى في الدّنيا أكثر من سبع أيام:فقال له الخليفة و كيف ذلك؟قال لأنّه لمّا شرع فى التفكر أخذ فى تعداد أشعار العرب فلم يجد هذا المثل ثمّ أخذ فى الأحاديث و عدّها فلم يجده أيضا،فأخذ في القرآن و تصفّحه على خاطره حتّى بلغ الى سورة النور فوجد هذا المثل فيها و قد احترقت طبيعته من قوّة هذه التخيّلات الكثيرة فى اللحظة الواحدة،فلونه هذا يدلّ على أنّ حياته لا تكون اكثر من سبعة أيّام،فقال ابو تمام قد صدق فيما قال و الآجال بيد اللّه تعالى فكتب الخليفة أحكاما على ولاية مصر فأخذها و أراد المسير اليها فمات فى اليوم السابع،و مثل هذا قد وقع كثيرا و من الأشعار قول سيّد العشّاق:

فأمّا عن هوى ليلي و تركى زيارتها فانّي لا أتوب

و ذلك لأن ظاهره انّه لا يتوب عن ترك الزيارة و هو معنى فاسد،و من ثمّ قال بعضهم ان الرواية يجب أن يكون و حتّى زيارتها،و لكن الّذي وجدناه فى ديوانه و توجّه المحقّقون الى تحقيق معناه هو لفظ الترك،و قد ذكر له وجوه:أحدها انّ المراد بالواو فى و تركي واو الحال،و المعنى انّي لا أتوب فى حال كوني تاركا لزيارتها من عدم تمكني منه،و ثانيها انّي لا أتوب عن ترك الزيارة لأنّي لم أفعله و لا توبة عمّا لم يفعل.

و ثالثها و هو الصواب ما ذكره بن الحاجب فى أماليه حيث قال و توجيهه انّ ذكر الترك لبيان ما يطلب منه،ثمّ قال فانّي لا أتوب ممّا يطلب منّي تركه،أ لا ترى انّه لو قال:و امّا من هوى ليلى و توبتى من زيارتها فانّى لا أتوب لكان مستقيما على انّ المعنى فانّى لا أتوب ممّا تطلب منّى التوبة منه لا على معنى فانّى لا أتوب من توبتي،اذ لا فرق بين ان يقول و تركي زيارتها او توبتي من زيارتها انتهى،و قبله:

ذكرتك و الحجيج لهم ضجيج بمكّة و القلوب لها وجوب

فقلت و نحن فى بلاد حرام به للّه أخلصت القلوب

أتوب اليك يا رحمن ممّا أسأت فقد تكاثرت الذنوب

فامّا عن هوى ليلي و تركي زيارتها فانّي لا أتوب

فكيف و عندها قلبي رهين اتوب اليك منها أو انيب

و من الأشعار قوله:

قال زيد سمعت صاحب بكر قايل قد وقعت فى اللأواء

ص:13

بجرّ زيد و رفع قائل و اللأواء و توجيه إعرابه انّ القال و القيل اسمان كما جاء فى الحديث من قوله نهى عن القيل و القال،فقال منصوب بسمعت،و صاحب منادى و الباء فيه متّصلة فى التقدير ببكر،و رفع اللأوار على الأبتداء،و خبره قوله ببكر،و رفع قائل على انّه خبر مبتداء محذوف اى هو قائل،وف أمر من و في يفي،و ترتيب الكلام في البيت على وجهه سمعت قال زيد يا صاح ببكر للأواء اي الشدّة و الضيق و هو قائل قد وقعت فف كما تقول وقعت فاعنيّ

و من الأشعار:

يا صاحب ملك الفؤاد عشيّة زار الحبيب بها خليل ناء

بجرّ صاحب و رفع الحبيب و خليل،و توجيه أعراب انّ صاحب منادى مرّ خم،و قوله بن أمر من بان يبين،و خليل فاعل ملك و معناه يا صاحب أبعد فقد ملك الفؤاد خليل ناء عشيّة زار الحبيب بها

و من الأشعار أيضا:

انّ ابي جعفر على فرسا او انّ عبد الاله ما ركبا

برفع جعفر و نصب فرسا و رفع عبد الاله،و توجيه أعراب أنّ أبى اسم ان و هو بمعنى والدي و على فعل و فاعل و مفعوله فرسا،و انّ من الأنين و هو فعل و فاعله عبد الاله،و التقدير انّ والدي جعفر ركب فرسا و لو شكى عبد الاله و انّ ما ركب والدي و منه ايضا:

أقول لخالدا يا عمر و لمّا علتنا بالسيوف المرهفات

بنصب خالدا و رفع السيوف و المرهفات،و توجيه أعرابه انّ الّلام من لخالدا فعل أمر من ولى يلي فانّ فعل الأمر ل بحرف واحد،و خالدا مفعول و علتناب اصله علت نابى،و الناب الجمل الكبير و حذفت الياء للألتقاء الساكنين،و السيوف فاعل علت،و التقدير أقول يا عمرول خالدا أي اتبعه و ألصق به و هذا القول قلته لمّا علت جملي السيوف المرهفات و منه ايضا:

اذا ما كنت في أرض غريبا يصيد بها ضراغمها البغاث

فكن ذا بزّة فالمرء يزرى به في الحيّ أثواب رثاث

برفع ضراغمها و البغاث،و توجيه أعرابه انّ البغاث و هو الطّير الصغير فاعل يصيد،و قوله بها ضراغمها جملة حاليّة محذوفة الواو لوجود الضمير في الجملة،و منه:

جاءك سلمان ابو هاشما و قد غدى سيّدها الحارث

و هذا البيت قيل أنّه من مغلق الأعراب،و توجيهه انّ جاء فعل ماض،و الكاف كاف التشبيه،و ابوها فاعل جاء،و شما من شام البرق يشيمه اذا نظر اليه و النون نون التوكيد الخفيفة

ص:14

و قد وقف عليها فأبدلها ألفا،و في شما ضمير فاعل لأنّ الأمر للمواجهة،و سيّدها مفعول شما، و الحارث فاعل غدى،و تقديره جاء أبوها كسلمان شما سيّدها و قد غدا الحارث و منه أيضا:

جاء بي خالدا فأهلك زيدا ربّك اللّه يا محمّد زيدا

ينصب خالدا و نصب ربّك اللّه و حر محمّد،و توجيه أعرابه أن جاء فعل ماض و قصر للضّرورة،و بي أصله ابي بمعنى والدي،و خالدا منصوب بوقوع الفعل عليه،و ربّك اللّه نصب على التحذير أي أتّق ربّك اللّه،و محم منادى مرخّم أي يا محمّد،و يأمر من ودي يدي اذا أعطاه ديته،و زيدا منصوب على أنّه مفعول به،و معناه أعط يا محمّد زيدا ديته،و منه،

من سعيد بن دعلج يا أبن هند تنج من كيده و من مسعودا

بنصب سعيد و مسعود،و توجيه أعرابه انّ من في الموضعين أمر من مان يمين و هو الكذب، و نصب سعيدا و مسعودا على المفعوليّة فكأنّه قال أكذب سعيد بن دعلج و أكذب مسعودا تنج، و منه أيضا:

خمر الشيب لمتّى تخميرا وحد ابي الى القبور البعيرا

ليت شعري اذا القيامة قامت و دعى بالحساب اين المصيرا

بنصب البعير و المصير و توجيهه أنّ خمرّ بمعنى خالط،و في حدى ضمير راجع الى الشيب، و البعيرا مفعول حدى،و المصيرا مفعول شعري،أي ليتني أشعر المصير اين يكون.و منه:

وردنا ماء مكّة فاستقينا من البئر الّتي حفر الأميرا

بنصب الأمير و توجيهه انّه مفعول لأستقينا كما تقول استقينا اللّه فاسقانا الغيث،و في حفر ضمير الفاعل و هو راجع الى الأمير لأنّه مقدّم تقديرا،و منه:

جاء البشير بقرطاس فخرّقه فوق المنابر عبد اللّه يا عمروا

بنصب عبد اللّه و عمروا،و توجيهه أنّ عبد مثنى و سقطت نونه بالأضافة،و التقدير عبدان اللّه،و نصب عمروا امّا على أنّه نكرة غير مقصودة،و امّا على أنّه مندوب حذف منه هاء السكت أي يا عمرواه،و منه:

ما أكلنا شيئا سوى الخبز الاّ انّه كان ذا خميرة فطيروا

برفع فطير،و توجيهه انّه أمر من طار يطير فهو أمر للجماعة بأن يفروا مسرعين عن أكل مثل هذا الخبر،و منه

اذا جاء شهر الصوم فافطر على مشويّه و كل النهار

ص:15

بنصب شهر و رفع النهار،و توجيهه انّ النهار فاعل جاء،و المراد به ولد الحباري و شهر منصوب على الطرفيّة،و تقديره اذا جاء و حصل ولد الحباري في شهر الصوم فافطر على ما ذبحت و شويت منه و كل،و منه:

استرزق اللّه و اطلب من خزائنه رزقا يثبك و انّ اللّه غفّارا

برفع لفظة اللّه الثانية و نصب غفّارا،و قد وجّهه ابو العباس أحمد بن يحيى تغلب بأنّ قوله و انّ فعل من الأنين بمعنى الشكاية و هو معطوف على أسترزق و لفظ اللّه الثاني فاعل يثبك و غفّارا حال من اللّه،و تقديره أسترزق اللّه و أنّ اليه و اطلب من خزائنه رزقا يثبك اللّه حال كونه غفّارا.و منه:

قيل لي أنظر الى السهام تجدها طايرات كما يطير الفراشا

بنصب الفراش،و توجيهه أن يكون مفعولا ثانيا لتجدها،أي تجدها كالفراش حال كونها طايرات كما تطير،و منه قول الفرزدق في مدح مولانا زين العابدين عليه السّلام

يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم

بنصب عرفان،و توجيهه انّه مفعول لأجله بتقدير الّلام،و منه:

أكلت دجاجتان و بطّتان كما ركب المهلّب بغلتان

و توجيهه أنّ الدجاج جمع دجاجة و تان اسم فاعل من تنى يتنو،و كذلك يريد بط جمع بطة و قد أضافه الى تان،و كذلك بغل رجل تان،أمثال هذا كثير نظما و نظرا،و منه:

مرّ كما انقضّ على كوكب عفريت جنّ في الدجا الأجدل

برفع كوكب،و توجيه أعرابه انّ الأجدل فاعل مرّ و كوكب فاعل إنقضّ،و تقديره مرّ الأجدل أي الصقر كما أنقض كوكب على عفريت جنّ في الدجا،و هنا بيت يتّفق فيه وجوه كثيرة بحسب التغيير،و هي أربعون ألف وجه و ثلثمائة و عشرون وجها،و البيت هذا:

علي أمام جليل عظيم فريد شجاع كريم حليم

و قلل شيخنا الشهيد قدّس اللّه روحه محازاة لقول بعض العلماء

لقلبي حبيب مليح ظريف بديع جميل رشيق لطيف

و هو من بحر المتقارب،و توجيه الوجوه فيهما انّ اللّفظين الأوّلين لها سورتان،فاذا ضربتا في مخرج الثالث صارت ستّة،فاذا ضربت في مخرج الرابع صارت اربعة و عشرين،فاذا أضربت في مخرج الخامس صارت مائة و عشرين،فاذا ضربت في الستة فسبعماة و عشرين،فاذا ضربت في السبعة فخمسة آلاف و أربعون،ثمّ في مخرج الثامن يبلغ ما قلناه و من لطائف الأشعار قوله:

سألته التقبيل في خدّه عشرا و ما زاد يكون أحتساب

ص:16

فمذ تعانقنا و قبّلته غلطت في العدّ فضاع الحساب

و منه أيضا:

ليست بأوطانك اللاّتى نشأت بها لكن ديار الّذي تهواه أوطان

خير المواطن ما للنّفس فيه هوى ثمّ الخياط مع الأحباب ميدان

كلّ الديار اذا فكّرت واحدة مع الحبيب و كلّ النّاس إخوان

أفدى الّذين دنوا و الهجر يبعدهم و النازحين و هم في القلب سكّانوا

كنّا و كانوا بأهنا العيش ثمّ نأوا كأنّنا قطّ ما كنّا و ما كانوا

و منه أيضا قول ابن الدهّان كتب بهما الى بعض الحكّام و قد عوفي من مرضه:

نذر الناس يوم برئك صوما غير انّي نذرت وحدي فطرا

عالما انّ يوم برئك عيد لا أرى صومه و ان كان نذرا

و قال أحمد بن الحكيم الكاتب كتبه الى بعض أصحابه في مرضه:

فديتك ليلى مذ مرضت طويل و دمعي لما لاقيت منك همول

أ أشرب كأسا او أسرّ بلذّة و يعجبني ظنّي و انت نحيل

و يضحك سنّي او تجفّ مدامعي و أصبوا الى لهو و أنت عليل

ثكلت اذن نفسي و قامت قيامتي و غال حياتي عند ذلك غول

و قال بعضهم:

و قائلة لمّا رأت شيب لّمتى و استره عن وجهها بخضاب

أتستر عني وجه حقّ بباطل و توهمني ماء بلمع سراب

فقلت لها كفّى ملامك انّها ملا بس أحزاني لفقد شبابي

و لبعضهم:

و حقّك ما خضبت مشيب رأسي رجاء ان يدوم لي الشباب

و لكنّي خشيت يراد منّي عقول ذوي المشيب فلا تصاب

و لبعضهم:

ص:17

و تاجر أبصرت عشاقه و الحرب فيما بينهم ثائر

قال علي ما أقتتلوا هتاهنا قلت على عينك يا تاجر

للشافعي:

لا يدرك الحكمة من عمره يكدع في مصلحة الأهل

و لا ينال العلم الاّ فتى خال من الأفكار و الشغل

لو انّ لقمان الحكيم الّذي سارت به الركبان بالفضل

بلى الفقر و عيال لما فرّق بين التيس و البغل

لبعضهم:

بقدر الصعود يكون الهبوط فايّاك و الرتب العالية

فكن في مكان اذا ما وقعت تقوم و رجلاك في عافية

لبعضهم:

ما عاينت عيناي في عطلتي أقل من حطي و من نحتي

قد بعت عبدي و حماري و قد أصبحت لا فوقي و لا تحتي

و قال بعضهم:

حتّام انت بما يلهيك مشتغل عن نحج قصدك من خمر الهوى ثمل

ترضى من الدهر بالعيش الذّميم الى كم ذا التواني و كم يغري بك الأمل

و تدّعي بطريق القوم معرفة و انت منقطع و القوم قد وصلوا

فآنهض الى ذروة العلياء مبتدرا عزما لترقى مكانا دونه الحيل

فان ظفرت و قد جاوزت مكرمة بقاؤها ببقاء اللّه متّصل

و ان قضيت بهم وجدا فأحسن ما يقال عنك قضى من وجده الرجل

و قال الشيخ ابو الفتح البستي:

زيادة المرء في دنياه نقصان و ربحه غير محض الخير خسران

و كلّ وجدان حظ لأثبات له فانّ معناه في التحقيق فقدان

ص:18

يا عامرا لخراب الدهر مجتهدا تاللّه هل لخراب الدهر عمران

و يا حريصا على الأموال تجمعها نسيت أنّ سرور المال أحزان

دع الفؤاد عن الدنيا و زخرفها فصفوها كدر و الوصل هجران

و القصيدة طويلة

فائدة سر بعد الطعام و لو خطوة كل بعد الشرب و لو لقمة نم بعد الحمّام و لو لحظة بل بعد الجماع و لو قطرة،و من أظرف الأشعار

قلت و قد لحّ في معاتبتي فظنّ انّ الملال من قبلي

خدّك ذا الأشعري حنفي و كان لي من أحمد المذاهب لي

حسنك ما زال شافعي ابدا يا مالكي كيف صرت معتزلي

و قال بشار بن برد:

يا قوم اذني لبعض الحيّ عاشقة و الأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

و قال:

اذا ما المدح صار بلا نوال من الممدوح كان هو الهجاء

قال الرضى رضى اللّه عنه يخاطب الطايع:

مهلا أمير المؤمنين فانّنا في دوحة العليا لا نتفرّق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت الكلّ منّا في السصيادة معرق

ألا الخلافة ميّزتك فاننّي أنا عاطل منها و أنت مطوّق

و قيل أنّه كان يوما عند الخليفة و هو يعبث بلحيته و يرفعها الى أنفه،فقال له الطايع أظنّك تشمّ رايحة الخلافة منها؟فقال بل رايحة النبوة،قال ابو عبد اللّه الزبيري اجتمع راوية جرير و راوية كثير و راوية الأحوص و راوية نصيب و أفتخر كلّ منهم و قال صاحبي أشعر،فحكموا السيدة سكينة بنت الحسين عليه السّلام بينهم لعقلها و بصيرتها،فخرجوا اليها و دخلوا عليها،فقالت و قد ذكروا لها أمرهم:أ راوية جرير:أ ليس صاحبك يقول:

ص:19

يقرّ بعيني ما تقرّ بعينها و أحسن شيء ما به العين قرّت

و ليس شيء أقرّ لعينها من النكاح أ فتحبّ صاحبك ان ينكح؟قبّح اللّه صاحبك و قبّح شعره،ثمّ قالت لراوية جميل أ ليس صاحبك الّذي يقول:

فلو تركت عقلي معي ما طلبتها و ان طلابيها لما فات من عقلي

فما أرادها و لكن طلب عقله،قبّح اللّه صاحبك و قبّح شعره،ثم قالت لراوية الأحوص أ ليس صاحب الّذي يقول:

من عاشقين تواعدا و تواصلا ليلا اذا نجم الثريّا حلّقا

باتا بأنعم ليلة و ألذّها حتّى اذا وضح الصباح تفرّقا

قبّح اللّه و قبّح شعره هلاّ قال تعانقنا؟و قال المتنبّي:

اذا أنت أكرمت الكريم ملكته و ان أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرّ كوضع السيف في موضع الندىّ

و كتب عليّ بن صلاح الدين بن يوسف ملك الشام الى الإمام الناصر لدين اللّه يشكو أخويه ابا بكر و عثمان و قد خالفا وصيّة أبيهم له:

مولاي أنّ ابا بكر و صاحبه عثمان قد غصبا بالسيف حقّ عليّ

و كان بالأمس قد ولاّه والده في عهده فأضاعا العهد حين و لي

فانظر الى حظ هذا الأسم كيف لقى من الأواخر ما لاقى من الأول

فخالفه و حلاّ عقد بيعته او الأمر بينهما و النصّ فيه جلي

فوقّع الخليفة الناصر على ظهر كتابه بهذه الأبيات:

وافى كتابك يا ابن يوسف منطقا بالحقّ يخبر أنّ أصلك طاهر

منعوا عليا إرثه اذ لم يكن بعد النبيّ له بيثرب ناصر

فاصبر فانّ غدا عليّ حسابهم و أبشر فناصرك الإمام الناصر

قال معاوية يوما لجارية بن قدام ما كان أهونك على قومك اذ سمّوك جارية؟فقال ما أهونك على قومك اذ سمّوك معاوية و هي الأنثى من الكلاب،و حكى عن الشريف المرتضى انّه

ص:20

كان جالسا في قبّة لها مشرف على الطريق فمرّ به ابن مطرّز! الشاعر يجرّ نعلاله بالية و هي تثير الغبار،فأمر بأحضاره و قال له أنشد أبياتك الّتي تقول فيها:

اذا لم تبلّغني اليكم ركائبي فلا وردت ماء و لا رعت العشبا

فأنشده أياها فلمّا أنتهى الى هذا البيت أشار الشريف الى نعله البالية و قال أ هذه كانت من ركائبك؟فأطرق المطرز ساعة ثمّ قال لمّا عادت هبات سيّدنا الشريف الى مثل قوله:

و خذ النوم من جفوني فانّي قد خلعت الكرى على العشّاق

عادت ركائبي الى مثل ما ترى لأنّك خلعت ما لا تملكه الى من لا يقبل،فاستحيا الشريف منه و أمر له بجائزة فأعطوه،قيل قدم لقمان من سفره فلقى غلاما له فقال ما فعل ابي؟قال مات قد ملكت أمري،قال فما فعلت أمّي؟قال ماتت.قال ذهب همّي،قال فما فعلت أختي؟قال ماتت، قال سترت عورتي،قال فما فعلت أمرأتي؟قال ماتت،قال جدّد فراشي،قال فما فعل أخي؟قال مات قال آه إنقطع ظهري،و كان الشيخ عز الدّين اذا قرأ القاري عليه من الكتاب و انتهى الى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه بل يأمره ان يقرأ من الباب الّذي بعده و لو سطرا،و يقول ما أشتهى ان تكون ممّن يقف على الأبواب،و يقال انّ اياس بن معاوية نظر الى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال هذه حامل،و هذه مرضع،و هذه بكر،فسئلن فكان الأمر كذلك،فقيل له من أين لك هذا؟فقال لمّا فزعن وضعت احديهنّ يدها على بطنها،و الأخرى على ثديها،الأخرى على فرجها،

و قال المعرى:

و النجم يستصغر الأبصار رؤيته و الذنب للطرف لا للنجم في الصغر

قال مسلم بن الوليد يمدح ابن مزيد الشيباني:

تراه في الأمن درع مضاعفة لا يأمن الدهر ان يدعى على عجل

لا يعبق الطيب خدّيه و مفرقه و لا يمسّح عينيه من الكحل

يقال أنّ هارون الرشيد لمّا سمع البيت الأوّل و فهم أنّه لمن و فيمن طلب ابن مزيد فأحضروا عليه ثياب ملوّنة ممصّرة،فلمّا نظر الرشيد في تلك الحال قال أكذّبت شاعرك يا يزيد،قال فيم يا أمير المؤمنين؟قال في قوله تراه في الأمن.....الخ،فقال يزيد لا و اللّه ما كذّبته و انّ الدرع عليّ ما فارقني و كشف ثيابه فاذا عليه درع،فأمر الرشيد بحمل خمسين ألف دينار الى يزيد و خمسة الآف دينار الى مسلم،و يقال انّه لمّا سمع البيت قال ما منتعتني من الطيب باقي عمري فما رأى بعد ذلك ظاهر

ص:21

الطيّب و لا مكتحلا،يقال أنّه كان أعطر الناس في زمانه و كان يقول اللّه بيني و بين مسلم حرمني أحب الأشياء.و من لطائف الأشعار قول ابي الحسن التهاميّ يرثي ابنه:

حكم المنيّة في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يرى الأنسان فيها مخبرا حتّى يرى خبر من الأخبار

طبعت على كدر و انت تريدها صفوا من الأقذار و الأكدار

و مكلّف الأيّام ضدّ طباعها متطلّب في الماء جذوة نار

و للعيش نوم و المنيّة يقظة و المرء بينهما خيال سار

و النفس أن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمّة المقدار

فاقضوا مآربكم عجالا انّما أعماركم سفر من الأسفار

و تراكضوا خيل الشباب و بادروا ان تستردّ فانهنّ عواري

فالدهر يشرق ان سقى و يعض ان يبني و يهدم ما بنى ببوار

ليس الزمان و ان حرصت مسالما حلف الزمان عداوة الأحرار

يا كوكبا ما كان أقصر عمره و كذا تكون كواكب الأسحار

و هلال أيّام مضى لم يستبد بدرا و لم يمهل بوقت سرار

عجل الخسوف عليه قبل أوانه فغطاه قبل مظنّة الأبدار

و كأنّ قلبي قبره و كأنّه في طيّه شرّ من الأشرار

ان يحتقر صفوا فربّ مفخّم يبدو ضئيل الشخص للنظّار

انّ الكواكب في علوّ محلّها لترى ضغارا و هي غير صغار

ولدا لمعزى بعضه فاذا أنقضى بعض الفتى فالكلّ في الأدبار

أبكيه ثم أقول معتذرا له زقفت حيث تركت ألئم دار

جاورت أعدائي و جاور ربّه شتّان بين جواره و جواري

انّى لأرحم حاسديّ لحرّ ما ضمّت صدورهم من الأوغار

نظروا صنيع اللّه بي فعيونهم في جنّة و قلوبهم في نار

لا ذنب لي قد رمت كتم فضايلي فكانّما برّقعت وجه نار

و سترتها بتواضع فتطلّعت أعناقها تعلو على الأستار

بسط الكلام مع الأحباب مطلوب و عليه جرى قول موسى عليه السّلام هي عصاي الآية و هيهنا سؤال و هو أنّ تكليم العبد للربّ سبحانه ميسّر كلّ وقت لكلّ أحد كما في الدعاء و نحوه،و كان

ص:22

ينبغي لموسى عليه السّلام ان لا يطيل الكلام بل يختصر و يشسكت،ليفوز بسماع الكلام مرّة أخرى فانّه أعظم اللّذتين،و الجواب أنّ تكليم موسى للحقّ سبحانه في ذلك الوقت ليس من قبيل التكليم الميسر في كلّ وقت،لأنّه جواب عن سؤاله تعالى و مكالمة له سبحانه كما يتكلّم جليس الملك الملك، و فرق بين تكليم الجليس للملك و بين سماع الملك كلام شخص محجوب عن بساط القرب يصيح خارج الباب،و هذا هو الميسّر لكلّ أحد،على أنّ موسى عليه السّلام لم يكن على يقين من أنّه ان أختصر و سكت فاز بالمخاطبة مرة أخرى،أ لا نرى كيف أجمل في قوله:و لي فيها مآرب أخرى،رجاء أن يسأل من تلك المآرب فيبسط الكلام مرّة أخرى

و قال شيخنا البهائي ره لا يبعد أن يكون عليه السّلام قد فهم أنّ سؤال الحقّ تعالى له انّما هو لمحض رفع الدهشة عنه،فأخذ يجري في كلامه مظهرا ارتفاع الدهشة،و انّ السؤال انّما هو لتقريره على أنّها كمن يريد تعجيب الحاضرين من قلب النحاس ذهبا فيقول ما هذا؟فيقولون نحاس فيخرجه لهم ذهبا،فأخذ موسى عليه السّلام في ذكر خواص العصا تأكيدا للإقرار بانّها عصا،فيكون بسط الكلام هذا أيضا للإستلذاذ وحده كما هو مشهور.دخل مامة دار المأمون و فيها روح بن عبادة،فقال له روح:المعتزلة حمقى،و ذلك أنّهم يزعمون انّ التوبة بأيديهم و انّهم يقدرون عليها متى شاؤا و هم مع ذلك دائما يسألون اللّه تعالى ان يتوب عليهم،فما معنى مسألتهم ايّاه ما هو بأيديهم؟و الأمر فيه اليهم لو لا الحمق؟فقال تمامة أ لست تزعم أنّ التوبة من اللّه و هو يطلبها من العباد ليس بأيديهم و لا يجدون اليه سبيلا؟فأجاب حتّى أجيب و في التواريخ أنّ معن بن زائدة كان يتصيّد،فعطش و لم يكن في تلك الحال مع غلمانه ماء،فبينما هو كذلك اذ مر به جاريتان من حيّ هناك،في جيد كلّ واحدة قربة من الماء فشرب منهما،و قال لغلمانه هل معكم شيء من نفقتنا؟فقالوا ليس معنا شيء،فدفع الى كلّ من الجاريتين عشرة من سهامه و كان نصالها من ذهب،فقالت أحديهما للأخرى ويحك ما هذه الشمائل الاّ لمعن بن زائدة،فليقل كلّ منّا في ذلك شيئا،فقالت أحديهما:

يركبّ في السهام نصال تبر و يرميها العدى كرما وجودا

فللمرضى علاج من جراح و أكفان لمن سكن اللّحودا

و قالت الأخرى:

و محارب من فرط جود بنائه عمّت مكارمه الأقارب و العدى

صنعت نصال سهامه من عسجد كي لا يعوّقه القتال عن الندى

ص:23

و من الآثار قولهم أنّ سر الحقيقة ممّا لا يمكن أن يقال،قال البهائي طاب ثراه له محملان أحدهما أنّه يخالف لظاهر الشريعة في نظر العلماء فلا يمكن قوله،و على هذا جرى قول مولانا زين العابدين عليه السّلام:

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل أنت ممّن يعبد الوثنا

و لا ستحلّ رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتوا له حسنا

الثاني انّ العبارات قاصرة عن أدائه غير وافية ببيانه فكلّ عبارة قريبة الى الذهن من وجه بعيدة عنه من وجوه،كلّما أقبل فكري فيك شبرا فرّ ميلا،و على هذا جرى قول بعضهم:

و انّ قميصا خيط من نسج تسعة و عشرين حرفا عن معاليك قاصر

و من هذا يظهر أنّ قولهم إفشاء سرّ الربوبيّة كفر:له محملان أيضا فعلى المحمل الأوّل يراد بالكفر ما يقابل الأسلام،و على المحمل الثاني يراد بالكفر ما يقابل الأظهار اذا الكفر في اللغة الستر،فيكون معنى الكلام انّ كل ما يقال في كشف الحقيقة فهو سبب لأخفائها و ستر لها في الحقيقة.و من الأخبار ما روي انّه عشش ورشان في شجرة دار رجل،فلمّا همّت فراخه بالطيران زيّنت له أمرأته أخذها ففعل ذلك مرارا فشكا الورشان الى سليمان عليه السّلام و قال يا رسول اللّه أردت أن يكون لي أولاد من بعدي يذكرون اللّه،فزجر الرجل ثمّ أخذها بأمر أمرأته،فأعاد الورشان الشكوى،فقال لشيطانين اذا رأيتماه يصعد الشجرة فشقّاه نصفين،فلما أراد أن يصعد أعترضه سائل فذهب فأطعمه كسرة من خبز شعير،ثمّ صعد و أخذ الفراخ،فشكا الورشان،فقال لشيطانين فقالا إعترضنا ملكان فأخذا بعنقنا فطرحا في الخافقين.و من الأخبار اللّطيفة الّتي يروح الخاطر بها عند الملال ما رواه السيّد التقيّ ابن طاووس تغمّده اللّه برحمته في كتابه الأقبال من قوله عليه السّلام لو علم الناس ما في زيارة نصف شعبان من الثواب لقامت ذكور رجال على الخشب،و قد كنت ليلة من الليالي نائما و شيخنا الثقة صاحب كتاب بحار الأنوار جالس يؤلّف،فأيقظني من النوم و قال تفكّر في معنى هذا الحديث و قد كان مطرحا بينه و بين من حضر من تلامذته،فقلت له معناه أنّ الناس لو عملوا قدر ثواب زيارة مولانا الحسين عليه السّلام في نصف شعبان لقامت الرجال الذكور و هو الكاملون من الرجال على أرجل الخشب لو لم يكن لهم أرجل يقدرون بها على التوصل فاستحسنه و قال أنّ السيّد ابن طاووس ذكر غير هذا و هو أنّ معناه لو أنّ الناس علموا ذلك الثواب لتركوا التقية في زيارته عليه السّلام حتّى أنّ حكّام الجور يصلبونهم على الخشب فيقومون مصلّبين على الأخشاب،فقلت له هذا معنى لكنّ الأنصاف انّ الأوّل أظهر.و معنى ثالث ظريف سنح لبعض الأفاضل و كان يستحسنه و هو أنّ الناس لو عملوا ذلك الثواب لقامت ذكورهم على

ص:24

الخشب يعني لفعلوا الزنا مع كلّ أمرأة حتّى أيورتهم تقوم على الخشب لعلمهم بأنّ ثواب تلك الزيارة مكفّر لكلّ تلك الذنوب،و هذا معنى بعيد،و معنى رابع و هو ان يكون هذا كناية عن سرعة المبادرة.و من الأخبار قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام لو كان الموت يشترى لأشتراه أثنان كريم أبلج،و حريص ملهوف:و هذا يحتمل معاني.أوّلها انّ الكريم الأبلج انّما يشتري الموت عند تضائق الأمور عليه،و ذلك انّ الكريم اذا لم يكن عنده ما يعطى خصوصا وقت السؤال حصل له من الحالات ما يتمنّى معها الموت،و امّا الحريص فربّما حصل له شيء من نقصان المال بوجه من الوجوه حتّى صار يتمنّى الموت و لا يرى ذلك النقص في دنياه و ثانيها انّ الكريم لسخاء نفسه و مبله الى الإعطاء و طلب السائلين منه و إرادة الرفق و البقاء للمسلمين في الدنيا لو كان الموت يشترى لأشتراه و رفعه من بينهم حتّى لا يموت أحد و يكون نظام الأعطاء و السؤال على حاله.و امّا البخيل فمن شدّة حرصه على الدنيا لو كان الموت يشترى لأشتراه و جعله تحت قبضته حتّى يميت به من ينازعه في مال الدنيا و أسبابها فتخلوا الدنيا و أسبابها له،و ثالثها انّ البخيل من شدّة حرصه و إرادته لجمع كلّ شيء لو كان الموت يشترى لأشتراه و جعله من جملة أمواله و أسبابه و يحتمل معاني اخر.و من الأخبار قوله عليه السّلام انّ اللّه يكره البخيل في حياته و الكريم في مماته،قيل انّ الكراهة في الموضعين منصرفة الى القيد و المراد انّه تعالى يكره حياة البخيل و موت الكريم و الأظهر إبقاؤه على ظاهره و انّ المراد انّه سبحانه يكره البخيل في وقت حياته و يكره الكريم في وقت الممات أي الّذي يتكرّم عند موته كما هو الغالب على طباع الناس من انّهم اذا مرضوا و رأوا أمارات الموت بادروا الى الوصايا بالأمور الواجبة الّتي كانوا مصرّين على الأخلال بها مدّة حياتهم، و يجوز ان يراد من الكريم وقت الموت الّذي يكون غرضه الأضرار بالورثة او بعضهم فهو يحتال في إضرارهم بالوصايا الكثيرة و بهبة ماله لبعضهم دون بعض و نحو ذلك،و له معنى آخر دقيق لكنّه مأخوذ من كلامه عليه السّلام في موارد كثيرة و هو ان يكون المراد أنّه يبغض الّذي يبخل في الحياة و يريدها و يرجحها على غيره من الموت و ما بعده،و كذلك الكريم الّذي يريد الموت و يتكرّم بنفسه على الموت بل الّذي ينبغي ان يكون حال المؤمن عليه انّه لا يريد الاّ ما أراده اللّه تعالى له،ففي مدة الحياة يحبّها و اذا جاء الموت حبّه ايضا،كما كان مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام يمتدح به و هو المعنى العالي المراد من قوله عليه السّلام في دعاء التوجّه و محياي و مماتي للّه ربّ العالمين،يعني به كما تقدّم انّ حياتي و موتي للّه تعالى فلا أرحج منهما الاّ مار حجّه لي سبحانه و تعالى و قرّ به اليّ.و منه ما رواه في الكافي مسند الى ابي عبد اللّه عليه السّلام فقال و اللّه لو علم ابو ذر ما في قلب سلمان لقتله،و لقد آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهما فما ظنّكم بساير الخلق،انّ علم العلماء صعب مستصعب لا يحتمله الاّ نبيّ مرسل او ملك مقرّب او عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للأيمان،فقال و انّما صار سلمان من العلماء

ص:25

لأنّه امرء منّا أهل البيت،فلذلك نسبته الى العلماء،و الأشكال انّما هو في قوله لقتله و هو يحتمل لمعان:اوّلها انّ اللّه تعالى قد أعطى سلمان من العلم ما لم يعطه ابا ذر و كان سلمان يتّقي ابا ذر في أظهار علمه و لو ظهر له لقال انّه ساحر لأنّه ليس بنبيّ و لا وصي نبيّ،و قوله عليه السّلام انّ علم العلماء اه لبيان انّ سلمان رضي اللّه عنه كان يحتمل ذلك و ثانيها انّ ضمير الفاعل راجع الى العلم و ضمير المفعول راجع الى ابي ذر و معناه انّ ابا ذر لو أعطى علم سلمان لما طاق تحمّله بل كان العلم قاتلا له و ثالثها انّ ابا ذر لو علم كلّ ما علمه سلمان لم يمكنه كتمانه فاذا أظهره قتله الناس لعدم فهمهم لمعانيه كما اتّفق ذلك في كثير من خواص الأئمّة عليهم السّلام كمحمّد بن سنان و جابر الجعفيّ ممّن أتّهمهم أهل الرجال بالغلوّ و أرتفاع القول و ذلك لأنّ الأئمّة عليهم السّلام ألقوا اليهم من أسرار علومهم ما لم يحدّثوا به غيرهم من الشيعة فاستغرب الشيعة تلك الأخبار لعدم موافقة غيرهم لهم على روايتها فطعنوا عليهم بهذا السبب و هذا السبب هو سبب رفعتهم و علوّ درجاتهم عند مواليهم فما فيه الجرح هو الذي فيه المدح،و قد حققنا هذا المقام في شرحنا على الأستبصار و يؤيد المعنى الأوّل ما ورد في حديث آخر من قوله عليه السّلام لو علم ابو ذر ما في قلب سلمان لقال رحم اللّه قاتل سلمان.و من الأخبار ما رواه شيخنا الكليني طاب ثراه عن الصادق عليه السّلام قال أسلم ابو طالب بحساب الجمل و عقد بيده ثلاثا و ستّين،و هذا الحديث من مشكلات الأخبار و قد ورد تفسيران في خبرين:الأوّل ما رواه صاحب كتاب الخرائج و الجرائح عن الداودي قال كنت عند ابي القاسم بن روح فسأله رجل ما معنى قول العبّاس للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّ عمّك ابا طالب قد اسلم بحساب الجم و عقد بيده ثلاثا و ستّين؟فقال عنى إله أحد جواد،و تفسير ذلك انّ الألف واحد و اللاّم ثلثون،و الهاء خمسة و الألف واحد و الحاء ثمانية،و الدال أربعة،و الجيم ثلاثة،و الواو ستّة،و الألف واحد، و الدال أربعة فذلك ثلاثة و ستّون،و مثله في كتاب الغيبة و معاني الأخبار للصدوق طاب ثراه.الثاني ما رواه ابن شهر آشوب في كتاب المناقب مسندا الى قتادة في حديث طويل قال فيه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دعى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بكى،و قال يا محمّد انّي أخرج من الدنيا و مالي غمّ الاّ غمّك،الى ان قال صلّى اللّه عليه و آله يا عمّ انّك تخاف عليّ أذى أعادي و لا تخاف على نفسك غدا عذاب ربّي،فضحك ابو طالب و قال يا محمّد:

دعوتني و زعمت أنّك ناصحي و لقد صدقت و كنت قدما أمينا

و عقد على ثلاث و ستّين عقد الحنضر و البنصر و الأبهام على أصبعه الوسطى و أشار بأصبعه المسبحة يقول لا اله الا اللّه،و قال فيه شيخنا البهائي تغمده اللّه برحمته معنى ثالث و هو انّه أشار بحساب العقود الى كلمة سبّح من التسبيحة و هي(هو)التغطية أي غطّ و استر فانّه من النفائس و الأسرار،و قيل معناه انّه اسلم بثلاث و ستّين لغة كما روى عن الصادق عليه السّلام قال انّ ابا طالب

ص:26

أسلم بحساب الجمل قال بكلّ لسان.و من الأخبار ما رواه الكليني قدّس اللّه روحه عن المفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال بين المرء و الحكمة نعمة العالم و الجاهل شقيّ بينهما،و هذا الخبر ايضا من مشكلات الأحاديث،و له وجوه أوّلها انّ النعمة بكسر النون منوّنا المراد به العقل الّذي يوصل العالم الى العمل بعلمه و يطلعه على الأسرار،و يوصل الجاهل الى التعلّم و الأخذ من العالم الربّاني،و الضمير راجع الى الحكمة و النعمة،و العالم شقيّ لتركه العمل و الجاهل شقيّ لتركه العلم،و ثانيها أنّ النعمة منوّن و العالم بيان لنعمة او بالأضافة و هي أمّا لاميّة او بيانيّة،و المراد ارشاده و هدايته،الجاهل شقيّ بينهما بين الحكمة و نعمة العالم،او بين المرء و الحكمة،و ثالثها ان يكون المراد انّ المرء من أوّل عقله و تمييزه الى بلوغه حدّ الحكمة متنعم بنعمة العلم و الجاهل من أوّل عمره الى منتهاه شقيّ محروم،و رابعها انّ النعمة بفتح النون المراد به التنعّم،و معناه انّ التنعّم يمنع المرء من تحصيل الحكمة و هي العمل بما يعلم،و العالم و الجاهل كلاهما شقيّ بين التنعّم و الحكمة،امّا العالم فشقيّ بسبب تنعّمه عن العمل بما يقتضي عمله،و الجاهل شقيّ بسبب التنعّم عن تحصيل العلم.و خامسها ما فهمه المحقّق الداماد ره حيث قال أي بين المرء و العلم نعمة هي العالم لكونه السبب الموصل ايّاه اليه،و الجاهل العادم العقل ذو القوّة الجاهليّة شقيّ بين العالم و العلم خائب ضائع السعي غير نائل ايّاه،و لو أراد العالم ايصاله اليه لشقائه الفطري و شقاوته الذاتية و نعمة يحتمل الأضافة البيانيّة و التنوين التمكّني التنكيري على ان يكون العالم بيانا لها و معينا ايّاها.و سادسها انّ قوله بين المرء و الحكمة نعمة جملة،و قوله العالم اه جملة اخرى، و النعمة ما يتنعّم به،و الشقا بمعنى التعب مثل قوله تعالى مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ أي لتتعب،فالعلم تعبان على تحصيل العلم،و الجاهل على فوات العلم عنه و عدم الوصول اليه بسهولة،و انّ العالم يميل الى الحكمة لكنّه من جهة الحرمان عن النعمة في ألم،و الجاهل يميل الى النعمة و هو من الحرمان من الحكمة في تعب و كلفة،و قد قيل فيه وجوه أخرى تركناها حذرا من التطويا.و من الأخبار المشكلة ما رواه الشيخ ره في الصحيح عن سعيد الأعرج قال سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ سلّم في ركعتين فسأله من خلفه يا رسول اللّه أحدث في الصلاة شيء؟قال و ما ذاك؟قالوا انّما صلّيت ركعتين،فقال أ كذلك يا ذا اليدين؟و كان يدعى ذا الشمالين،فقال نعم،فبنى على صلاته فأتم الصلاة أربعا،و قال انّ اللّه عزّ و جلّ هو الّذي أنساه رحمة للأمّة،أ لا ترى لو انّ رجلا صنع هذا لعير و قال ما تقبّل صلاتك فمن دخل عليه اليوم ذلك قال قد سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صارت أسوة و سجد سجدتين لمكان الكلام.اقول هذا الخبر قد وقع فيه التشاجر و النزاع و هو المعركة العظمى بين الصدوق ره و بين أكثر علمائنا رضوان اللّه عليهم فانّهم نفوه رأسا و طرحوا الأخبار الدالّة عليه و بالغوا التشنيع عليه،فممّن شنّع عليه من المتأخرين

ص:27

شينا المحقّق الشيخ بهاء الدين نوّر اللّه مرقده،و قال في جملة كلامه انّ نسبة السهو الى ابن بابويه أولى من نسبتها اليه صلّى اللّه عليه و آله،و قال أيضا عند قول ابن بابويه و ان وفّقنا اللّه صنّفنا كتابا في كيفيّة سهو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:الحمد للّه الّذي لم يوفّقه لتصنيف ذلك الكتاب.و امّا المتقدمون فمنهم سيّدنا الأجلّ المرتضى قدّس اللّه روحه فانّه قال بعد ما حكى كلام الصدوق ره:إعلم أنّ الّذي حكيت عمّا حكيت ممّا قد أثبتناه قد تكلّف ما ليس من شأنه فأبدى بذلك عن نقصه في العلم و عجزه،و لو كان ممّن وفق لرشده لما تعرض لما لا يحسنه و لا هو من صناعته،و لا يهتدي الى معرفته لكنّ الهوى مرد لصاحبه نعوذ باللّه من سلب التوفيق و نسأله العصمة من الظلال،و نستهديه في سلوك نهج الحق و واضح الطريق،و قال بعد نقله خبر ذي اليدين انّ هذا الخبر من الأخبار الأحاد الّتي لا تثمر علما و لا توجب عملا،و من عمل على شيء منها فعلى الظنّ يعتمد في عمله بها دون اليقين و قد نهى اللّه تعالى عن أتّباع الظنّ،و قال بعد كلام طويل و لسنا ننكر ان يغلب النوم الأنبياء عليهم السّلام في أوقات الصلاة حتّى تخرج فيقضونها بعد ذلك و ليس عليهم في ذلك عيب و لا نقص لأنّه ليس ينفكّ بشر من غلبة النوم و لأنّ النائم لا عيب عليه،و ليس كذلك السهو لأنّه نقص عن الكمال في الأنسان و هو عيب يختص به من أعتراه،و قد يكون من فعل الساهي تارة كما يكون من فعل غيره و النوم لا يكون الاّ من فعل اللّه تعالى،فليس من مقدور العباد على حالة و لو كان من مقدورهم لا يتعلّق به نقص و عيب لصاحبه لعمومه جميع البشر و ليس كذلك السهو،لأنّه يمكن التحرّز منه،و لأنّا وجدنا الحكماء يجتنبون ان يودعوا أموالهم و أسرارهم ذوي السهوّ و النسيان و لا يمنعون من إيداعه من تعتريه الأمراض و الأسقام،و وجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذوو السهو من الحديث الاّ أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي اليقظة و الفطنة و الذّكاء و الحذاقة،فعلم فرق ما بين السهو و النوم بما ذكرنا،و لو جاز ان يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في الصيام حتّى يأكل و يشرب نهارا في شهر رمضان بين أصحابه و هم يشاهدونه و يستدركون عليه الغلط و ينبهّونه عليه بالتوقيف على ما جناه، و أجاز أن يجامع النساء في شهر رمضان نهارا ثمّ ذكر من هذا الباب أمور كثيرة و قال أنّ هذا ما(ممّا)لا يذهب اليه مسلم و لا غال و لا موحّد و لا يجيزه ملحد و هو لازم لمن حكيت عنه فيما أفتى به من سهو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و دلّ على ضعف عقله و سوء أختياره و فساد تخيّله.و قال ثمّ العجب حكمه بأنّ سهو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سهو من سواه من أمّته كافّة البشر من غيرها من الشيطان بغير علم فيما أدّعاه و لا حجّة و لا شبهة يتعلّق بها أحد من العقلاء اللّهمّ الاّ ان يدّعي الوحي في ذلك و يتبيّن به ضعف عقله لكافّة الألباء ثمّ العجب من قوله انّ سهو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من اللّه دون الشيطان لأنّه ليس للشيطان على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلطان و انّما زعم انّ سلطانه على الّذين يتولّونه و الّذين هم به مشركون و على من أتّبعه من الغاوين،ثمّ هو يقول انّ هذا السهو الّذي من الشيطان يعمّ جميع البشر سوى الأنبياء

ص:28

و الأئمة عليهم السّلام،فكلّهم أولياء الشيطان و أنّهم غاوون اذا كان الشيطان عليهم سلطان و كان سهوهم منه دون الرحمن،و من لم يتيقّظ لجهله في هذا الباب كان في عداد الأموات انتهى كلام المرتضى ره.و الحقّ انّ الأخبار قد أستفاضت في الدلالة على ما ذهب اليه الصدوق،و كأنّه الأقوى و قد أشبعنا الكلام و الأستدلال على هذا المطلب الجليل في شرحنا على تهذيب الحديث و لكن حيث ذكرناه هنا فلا بأس بالأشارة الى نبذة ممّا هناك،فنقول أمّا تشنيع شيخنا البهائي ره فهو من جملة مطايباته و ظرائفه و تحقيق الوجه ما سيأتي.و أمّا علم الهدى طاب ثراه فهو و ان بالغ في التشنيع و لكنّه ليس من عدم علمه بجلالة الصدوق او انّه يعتقد و يعلم انّ ما قاله في شأنه هو الواقع،نعم قد ذهب علماؤنا رضوان اللّه عليهم الى تغليط بعضهم بعضا في مسائل الأجتهاد،و من ذهب منهم الى حكم من الأحكام تكلّم عليه مخالفوه و طعنوا فيه و جرحوه و نسبوه الى التخبّط في العقل و الفتوى حتّى لا يتابعه أحد في تلك الحكم و يرون مثله واجبا:و قد استثنوه من مسائل الغيبة و ادخلوه في الجائز منها،مع انّ هذه المسألة مسألة أصوليّة فكيف لا يطعنون على المخالف لهم،فيها و الاّ فالمرتضى و من شاركه في التشنيع كشيخنا المفيد أعلى اللّه مقامه قد أعتمدوا على الصدوق ره في الأخبار و الأحكام و نقلوها عنه و أعتمدوا على نقله،فكيف يقبلونها منه و ينسبونه الى الخروج عن الدين؟فليس الوجه فيه الاّ ما ذكرناه،و قد شاهد مثل هذا من أوثق مشايخنا و اورعهم و أتقاهم و أبعدهم من الأغراض و المنافسات.و امّا قوله ره انّ هذا خبر آحاد لا يوجب علما و لا عملا فالجواب عنه أمّا أوّلا فلان مدار أثبات الأحكام في هذه الأعصار و ما سبقها عليه،و ذلك انّ المرتضى ره كان قريب العهد بأعصار أجداده الطاهرين و كانت الأصول الأربعمائة و الكتب الخمسة آلاف كلّها موجودة عنده،و كان بينه و بين الأمام موسى بن جعفر عليهما السّلام مثل ما بين مولانا صاحب الزمان عليه السّلام و بين الأمام موسى عليه السّلام من الآباء،و قد كان متمكّنا من معرفة الأحاد و التواتر و بقيت الكتب و الأصول على هذا الحال الى زمن ابن أدريس ره فلمّا كان زمانه حصل الضياع في الأصول و الكتب بأسباب مختلفة،منها أنّ بعضها دخل خزائن الملوك فلم يخرج منها، و منها أنّ بعض سلاطين الجور و أئمّتهم أحرقوا بعضها،و منها أنّ الشيعة لمّا رأوا هذه الأصول الأربعة مدوّنة و هي مرتبة و أسهل تناولا من تلك الأصول و الكتب أهملو أستعمالها و نسخها الباعث لأستمرارها حتّى انتهى الحال الينا فلم نجد في هذا العصر الاّ ثلاثين اصلا تقريبا،فصار الأعتماد كلّه على أخبار الأحاد،و قد قبلنا خبر السكوني و النوفلي و أضرابهما.و امّا ثانيا فلأن حكاية سهو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد روى بما يقارب عشرين سندا و فيها مبالغة و أنكار على من أنكره كما روى عن ابي الصلت الهروي قال قلت للرضا عليه السّلام يا ابن رسول اللّه انّ في سواد الكوفة قوما يزعمون انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يقع عليه السهو في صلاته،قال كذبوا لعنهم اللّه انّ الّذي لا يسهو هو اللّه

ص:29

الّذي لا اله الا هو،و بالجملة فهذا المضمون مرويّ بالطرق الصحيحة و الحسان و الموثقات و المجاهيل و الضعاف فأنكاره مشكل.

و امّا قوله ره و لسنا ننكر أن يغلب النوم آه فيرد عليه أنّه اذا أعترف بهذا لزمه ان يعترف بالمتنازع فيه أمّا من النقل فلأنّ الأخبار الدّالة على حكاية السهو أكثر من الأخبار الدّالة على حكاية النوم و قضاء الصلوات،و امّا من جهة العقل فلأنّ نفيه النقص عن غلبة النوم و أثباتها للسهو خلاف طور العقل و العادة فأنّه كما يمكن التحرز من النوم الكثير المفضي الى قضاء الصلاة بل هو هيهنا أمكن،فأنّ الأماكن الّتي يظنّ الأنسان فيها غلبة النوم في وقت الصلاة كشدّة التعب او السهر الى آخر الليل او نحو ذلك يمكنه ان يقعد انسانا يوقظه ذلك الوقت كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأنّه كان كثير الأعوان و الجنود لما نام بذلك الوادي أحتاج فيه الى قضاء الصلاة بخلاف السهو فانّه ليس له وقت خاص يتمكّن الأنسان من التحرّز فيه،و هذا ظاهر غير خفيّ،مع أنّ كلام الصدوق ره تابع للأخبار في كون الّذي أسهاه هو اللّه تعالى و حينئذ فلا فرق بين النوم و السهو في أنّهما فعله سبحانه و تعالى فعلهما في نبيّه في موارد خاصّة.و امّا قوله ره لأنّا وجدنا الحكماء اه فالجواب عنه أنّ الحكماء انّما يجتنبون ايداع من كثر سهوه و كذلك الفقهاء انّما يجتنبون رواية من غلب عليه السهو لا من سهى في مورد خاص،و قد كان الباعث له على السهو في ذلك المورد ذلك الحكيم الّذي أودعه،و قوله طاب ثراه و لو جاز أن يسهواه الجواب عنه انّ تجويز السهو عليه في الصوم و فيما ذكرت من الأمثلة ان كان رحمة للأمّة جوّزناه عليه لكنّه جائز غير واقع،و ان لم يكن رحمة للأمّة مع أشتماله على نوع نقص فلا نجوزه خصوصا في تبليغ الأحكام فانّ السهو فيها ظاهر النقص و هو أرتفاع الوثوق بوعده و وعيده.و امّا قوله ثمّ العجب اه فلا عجب فيه بعد وروده في الأخبار الصحيحة و حاشا الصدوق من ان يتجرّى على هذا الخطب الجليل من غير مدرك يعتمد عليه، و امّا تعجّبه الأخير فلا يخفى ما فيه و ذلك لأنّ الصدوق ره أراد أقتباس الآية او هو خبر نقل لفظه من غير إرادة منه لتفسير معنى التولي و معناه إطاعة الشيطان فيما يلقيه من الوساوس و من ذا الّذي يخلو من هذا سوى المعصومين عليهم السّلام،و امّا الّذين هم به مشركون و الغاوون فهم فرق أخرى غير المؤمنين،فكأنّه قال انّ سلطان الشيطان على المؤمنين و على غيرهم،أمّا المؤمنون فبالقائه الوساوس و نحوها،و امّا غيرهم فهو الإخراج من النور الى الظلمات،مع أنّا لا نوافق الصدوق الاّ فيما نطق به النصّ الصحيح و هو إسهاؤه سبحانه له في خصوص الصلاة اذا عرفت هذا.فاعلم أنّ الذي حدى الأصحاب رضوان اللّه عليهم على إنكاره هو ثلاثة أمور:الأوّل الأجماع الّذي نقلوه،الثاني قولهم اذا تعارض العقل و النقل قدّم العقل و أوّل النقل أن أسكن و الاّ طرح،الثالث ما رواه شيخ الطائفة تغمّده اللّه برحمته بإسناده الى ابن بكير عن زرارة قال سألت ابا جعفر عليه السّلام

ص:30

هل سجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سجدتي السهو قطّ؟قال لا و لا يسجدهما فقيه،و الجواب أمّا عن الأوّل فهو ممنوع،و ذلك انّ الصدوق و شيخه محمّد بن الحسن بن الوليد قد خالفاه صريحا و ظاهر كثير من المحدّثين الذهاب اليه حيث أنّهم نقلوا الأخبار الواردة في شأن السهو من غير تعرّض منهم لردّها فيكون كالموافقة السكوتيّة منهم،و امّا المعاصرون في هذه الأوقات فقد ذهب منهم المحقّق الكاشي و بعض مجتهدي العراق اليه،و أمّا الثاني فقد تقدّم القول فيه و انّ الدليل العقلي لا يقدّم مطلقا بل يقدّم اذا تأيّد بالنقل فيكون من باب تعارض النقلين في الحقيقة،و الاّ فالدلائل العقليّة غير تامّة في أنفسها فضلا عن أثبات الأحكام الشرعية بها.و أمّا عن الثالث فبأنّ راويه ابن بكير و حاله مشهورة فهو لا يعارض الأخبار الصحيحة مع أنّ القول بظاهره خلاف الوجدان مع أنّ التأويل جار فيه بأن يكون المراد أنّه لم يسجدهما كغيره في الكثير او الأنتهاء الى وساوس الشيطان فانّ ذلك أسهاء من الرحمن فتأمّل في هذا المقام راكبا جواد المرام و من الأخبار ما روى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:قال اللّه تعالى انّي وضعت خمسة أشياء في خمسة و الناس يطلبونها في خمسة أخرى فمتى يجدونها،انّي وضعت العزّ في طاعتي و الناس يطلبونه من أبواب السلاطين فمتى يجدون؟و وضعت العلم و الحكمة في الجوع و الناس يطلبونه في الشبع فمتى يجدونه؟و وضعت الراحة في الجنّة و الناس يطلبونها في الدنيا فمتى يجدوها؟و وضعت الغنى في القناعة و الناس يطلبونه بجمع المال فمتى يجدونه؟و وضعت رضاي في مخالفة الهوى و الناس يطلبونه في الهوى فلم يجدوه.و من الأخبار الرافعة للملال ما رواه الصدوق ره بأسناده الى الصادق عليه السّلام قال انّ اللّه تبارك و تعالى اوحى الى موسى بن عمران عليه السّلام ان أخرج عظام يوسف من مصر و وعده طلوع القمر و أبطأ طلوع القمر عليه الحديث،و الأشكال الوارد على هذا الحديث انّه مناف بظاهره لما روى من انّ الأنبياء و أوصيائهم لا يبقون في قبورهم فوق ثلاثة ايام بل يرفعهم اللّه تعالى الى جناب قربه فكيف بقيت عظام الصديق عليه السّلام الى زمن موسى عليه السّلام؟و الجواب أنّه يجوز ان يكون رفعه اللّه تعالى اليه ثمّ أنزله بعد لمصلحة خاصّة تجري على يدي موسى عليه السّلام مثل حكاية العجوز دلّته على العظام و نحوها،و قد أستدلّ بعض العلماء من هذا الحديث على جواز نقل الموتى و عظامهم الى المشاهد و الأماكن الشريفة و الأعتراض عليه من وجوه.أوّلها انّ هذا شرع من قبلنا و هو غير حجّة علينا،و ثانيها انّ المرويّ انّ عظام الصديق عليه السّلام قد كانت في صندوق مرمر في شطّ النيل بأعتبار انّ الماء أخذ الجرف الّذي دفن فيه،و حرمة المؤمن حيّا كحرمته ميّتا و أبقاؤه في الماء خلاف حرمته فمن ثمّ أمر بنقل عظامه.و ثالثها أنّ أحكام الأنبياء لا يستلزم جوازها كلّها في غيرهم من الأمّة فلعلّ هذا و امثاله من ذلك،على انّا روينا من بعض الكتب المشهورة أنّ الصديق عليه السّلام أوصى عند موته بأن يحمل تابوته الى وطنه و هو أرض كنعان،فلمّا مات منع أهل مصر أولياء يوسف عليه السّلام من نقله و قصدوا التبرك

ص:31

به،فبقى في مصر الى زمان موسى عليه السّلام،فلعلّ أمره سبحانه له بحمل تلك العظام مبنيّ على وصيّة الصديق عليه السّلام كما أنّ الأسكندر ره لمّا مات أوصى بأن يحمل نعشه الى بلاد الروم لأنّها بلاده و موطنه،و من الأيمان حبّ الأوطان نحو من ثمّ ذهب جماعة من الأصحاب الى التفصيل و هو أنّ الميّت ان أوصى بالنقل الى أحد الأماكن الشريفة جاز و الاّ فلا يجوز،مع أنّا لم نرو حديثا يدلّ على جواز النقل،لكنّ الشيخ ره أشار في كتاب المصباح الى أنّه وجد رواية تدل على النقل الى تلك البقاع المشرّفة،و القول ما قاله حذام،لكن بقي الكلام في أنّ ذلك الحديث الّذي أشار اليه لو نقل الينا لأطلعنا على موضع الدلالة و كيفيّتها لأنّ الأنظار مختلفة،و من ثمّ جاء الأختلاف في مسائل الأجتهاد(المسائل الأجتهادية خ ل)كما لا يخفى اذا عرفت هذا:فأعلم أنّ نقل الموتى مناف للأخبار الواردة بتعجيل حمل الميّت الى قبره.روى الصدوق طاب ثراه أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا ألفينّ منكم رجلا مات له ميّت ليلا فانتظر به الصبح و لا رجلا مات له ميّت نهارا فانتظر به الليل، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس و لا غروبها عجّلوا بهم الى مضاجعهم يرحمكم اللّه،فقال الناس و انت يا رسول اللّه يرحمك اللّه و قد روى هذا المضمون في أخبار أخرى.مع أنّ النقل يحصل منه في الغالب المثلة في الميّت و نتن الرائحة و تأذّى الناس منه و ربّما أنتشر لحمه في الطريق و سال منه الدم و الصديد و هذا مناف للحرمة المأمور بأمتثالها،حتّى أنّه ورد أنّ غاسله ينبغي أن يلين مفاصله برفق و لا يجعله بين رجليه و غير ذلك من الأمور المنافية لأداء حق حرمته.و أمّا نقل العظام فهي أسوء حالا و أشنع فعلا في إستلزامها هتك الحرمة مع أمر زائد و هو نبش القبر الّذي لم يرد له نصّ و لا خبر،فاذن الأولى دفن الميّت في بلده و الملائكة الذين ينقلون الموتى نقلهم له خير من نقل أهله له و اللّه العالم بحقائق الأمور.و من الأخبار ما روي أنّه رأى عبد اللّه بن جعفر يماكس في درهم فقيل أ تماكس في درهم و أنت الّذي تجود بما تجود؟فقال نعم ذاك مالي جدت به و هذا عقلي بخلت به،منها ما رواه صاحب كتاب قرب الأسناد عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان قال من السماء و ماء البحر فاذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فيقع فيها من ماء المطر فتخلق اللؤلؤة الصغيرة من القطرة الصغيرة و اللؤلؤة الكبيرة من القطرة الكبيرة.و من الأخبار ما رواه الشيخ طاب ثراه بسند صحيح عن الصادق عليه السّلام قال لا ينقض الوضوء الاّ حدث و النوم حدث.و قد تكلم الفقهاء رضوان اللّه عليهم في هذا الحديث كلاما طويلا كثيرا و بعضهم حاول إرجاعه الى أحد الأشكال الأربعة،و أعترض من بعده عليه و بعضهم قال انّه ينتج و ان لم يكن على هيئة واحد من الأشكالات الأربعة كما تقول زيد مقتول بالسيف و السيف آلة حديديّة،فقد أنتج الصحيح و ليس على هيئة واحد منها،و الّذي ظهر لنا انّ الأمام عليه السّلام ما كان غرضه من القاء مثل هذه الأحكام الى عامّة الشيعة الاّ ايصالها الى أفهامهم و اين لهم بمعرفة

ص:32

الأشكالات المنطقيّة و البحث عن شرائطها؟بل مراده عليه السّلام الردّ على الجمهور في كلا جزئي الحديث،امّا قوله عليه السّلام لا ينقض الوضوء الاّ حدث فهو الردّ على ابي حنيفة و أضرابه ممّن قال بأنّ الرعاف ينقض الوضوء و كذا أكل ما مسته النار،و كذا التقبيل و لمس المرأة و نحوه ممّا ليس بحدث و امّا قوله عليه السّلام و النوم حدث فهو للردّ ايضا على جماعات منهم حيث قالوا انّ النوم في نفسه ليس بحدث ناقض و انّما هو ناقض باعتبار انّه مظنّة خروج الحدث،فانّ النائم لا يعلم بما يخرج منه،فلو نام و هو جالس و ملصق مقعده بالأرض و محترز من خروج الحدث على الوجه الأكمل لم ينقض وضوئه بذلك النوم.و الى هذا مال بعض أصحابنا و ربما دل عليه بعض الأخبار و هي محمولة على التقية.و منها ما روى انّ في كلام بعض الأنبياء صلوات اللّه عليهم انّ آدم لمّا هبط الى الدنيا و طلب الغذاء أحتاج اى ألف عمل حتّى خبز الخبز و زاد واحدا على الألف و هو ان يبرّده ثمّ يأكله،و من الأخبار المروحة للخاطر ما رواه الصدوق ما رواه الصدوق قدّس اللّه روحه باسناده الى ابي عبد الرحمن قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام انّي ربّما حزنت فلا أعرف في أهل و لا مال و لا ولد،و ربّما فرحت فلا أعرف في أهل و لا مال و لا ولد،قال ليس من أحد الاّ و معه ملك و شيطان فاذا كان فرحه كان دنو الملك منه.و اذا كان حزنه كان دنوّ الشيطان منه و ذلك قول اللّه تبارك و تعالى اَلشَّيْطٰانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشٰاءِ وَ اللّٰهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ ،أقول هذا الخبر روى هكذا في سبب الفرح و الحزن من غير سبب معروف،و روى في خبر انّ السبب فيه دخول السرور على أهل البيت عليهم السّلام و دخول الحزن عليهم،فانّ الشيعة لكون طينتهم من طينة أهل البيت صاروا يفرحون بفرحهم يحزنون بحزنهم من حيث لا يشعرون،و في خبر آخر انّ السبب فيه هو كون الأنسان له أصدقاء و أحبّاء و هم متفرقون في البلدان فربّما حصل لبعضهم فرح فتحسّ النفس به فتفرح من حيث لا يشعر الأنسان بسببه ظاهرا و كذا في جانب الحزن .و لا تنافي بين هذه الأخبار لأنّها علامات و معرفات و قد يكون للشيء الواحد أسباب مختلفة.و من الأخبار ما رواه الصدوق أيضاى باسناده الى الباقر عليه السّلام قال ما أنزل اللّه تبارك و تعالى كتابا و لا وحيا الاّ بالعربية فكان يقع في مسامع الأنبياء عليهم السّلام بألسنة قومهم،و كان يقع في مسامع نبيّا صلّى اللّه عليه و آله بالعربيّة، فاذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامعهم بلسانهم و ما كان أحد يخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايّ لسان خاطبه الاّ وقع في مسامعه بالعربيّة كلّ ذلك يترجم جبرئيل عليه السّلام تشريفا من اللّه عزّ و جلّ له.و من الأخبار ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال اذا أشتد الحر فابردوا بالصلاة فانّ الحرّ من قيح جهنّم،و اشتكت النار الى ربّها فاذن لها في نفسين نفس في الشتاء و نفس في الصيف،فشدّة ما تجدون من الحرّ من قيحها و ما تجدون من البرد زمهريرها.و من الأخبار ما روى عن الأمام ابي عبد اللّه الصادق عليه السّلام انّه قال من عرف الفصل من الوصل و الحركة من السكون فقد بلغ القرار في

ص:33

التوحيد،و يروى في المعرفة و قال شيخنا في الكشكول المراد بالحركة السلوك و بالسكون القرارة في عين أحديّة الذات و قد يعبّر بالوصل عن فناء العبد بأوصافه في أوصاف الحقّ،و هو التحقق بأسمائه تعالى المعبّر عنه بأحصاء الأسماء كما قال صلّى اللّه عليه و آله و من أحصاها دخل الجنّة.و من الأخبار المروّحة للخاطر ما رواه الكليني تغمده اللّه برحمته بسنده الى محمّد بن مسلم قال دخلت على ابي عبد اللّه عليه السّلام و عنده ابو حنيفة فقلت له جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة،فقال لي يا ابن مسلم هاتها فإنّ العالم بها جالس و أومى بيده الى ابى حنيفة قال قلت رأيت كأنّي دخلت داري و اذا أهلي خرجت عليّ فكسرت جوزا كثيرة و نثرته عليّ فتعجّبت من هذه الرؤيا،فقال ابو حنيفة انت رجل تخاصم و تجادل لئاما(ايّاماخ)في مواريث أهلك فبعد نصب(تعب ظ)شديد تنال حاجتك منهم ان شاء اللّه تعالى.فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام أصبت و اللّه يا أبا حنيفة،قال ثمّ خرج ابو حنيفة من عنده فقلت جعلت فداك انّي كرهت تعبير هذا الناصب،فقال يا ابن مسلم لا يسوئك اللّه فما يواطى تعبيرهم تعبيرنا و لا تعبيرنا تعبيرهم و ليس التعبير كما عبّره،قال قلت جعلت فداك فقولك أصبت و اللّه و تحلف عليه و هو مخطىء؟قال نعم حلفت عليه أنّه أصاب الخطأ،قال فقلت له فما تأويلها؟فقال يا ابن مسلم انّك تتمتّع بأمرأة نتعلم بها أملك فتخرق عليك ثيابا جددا فانّ القشر كسوة اللّب،قال ابن مسلم فو اللّه ما كان بين تعبيره و تصحيح الرؤيا الاّ صبيحة الجمعة،فلما كان غداة الجمعة انا جالس بالباب اذ مرّت بي جارية فأعجبتني،فأمرت غلامي فردها ثمّ أدخلها داري فتمتعت بها فاحسّت بي و بها اهلي فدخلت علينا البيت فبادرت الجارية نحو الباب و بقيت أنا،فمزقت عليّ ثيابا كنت ألبسها في الأعياد.و روى أيضا أنه جاء موسى العطار الى ابي عبد اللّه عليه السّلام فقال له يا ابن رسول اللّه رأيت رؤيا هالتني رأيت صهرا لي ميّتا قد عانقني و قد خفت ان يكون الأجل قد أقترب فقال:يا موسى توقّع الموت صباحا و مساء فانّه ملاقينا،و معانقة الأموات للأحياء أطول لأعمارهم،فما كان أسم صهرك؟قال:حسين فقال:عليه السّلام أمّا أنّ رؤياك تدلّ على بقائك و زيارتك أبا عبد اللّه الحسين عليه السّلام،فانّ كلّ من عانق سمي الحسين عليه السّلام يزوره ان شاء اللّه تعالى،أقول هذان الخبران و ما روى في معناهما يدلان على تعبير الرؤيا،و في هذا المقام تحقيقات ذكرناها في شرحنا على الأستبصار و يزيد الأشارة هنا الى بعضها و هي أمور:

الأوّل في سبب الرؤيا و يكون بعضها صادقا و الآخر كاذبا و كلّ طائفة ذهب الى قول،امّا الحكماء فقد بنوا ذلك على أصلهم من أنطباع صور الجزئيات في النفوس الفلكي و صور الكليات في العقول المجرّدة و قالوا انّ النفس حالة النوم قد تتّصل بتلك المبادي الغالية فيحصل لها بعض الصور المخزونة في الخيال ببعض،فهذه هي الرؤيا الكاذبة،و قد أطالوا الكلام في تفصيل هذا،

ص:34

و حيث أنّ هذا الأصل الذي هو العقول و نفوس الأفلاك منفيّ بالشرع فلا فائدة في نقل ذلك الكلام.

و امّا أهل السنّة من المخالفين فقال الماذري منهم في شرح قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الرؤيا من اللّه و الحلم من الشيطان مذهب أهل السنّة في حقيقة الرؤيا انّ اللّه تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان،و هو سبحانه و تعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه النوم و اليقظة،فاذا خلق هذه الأعتقادات فكأنّه جعلها علما على أمور اخر يخلقها في ثاني الحال،و كان قد خلقها فاذا خلق في قلب النائم الطيران و ليس بطائر فاكثر ما فيه ان اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الأعتقاد علما على غيره كما يكون خلق اللّه تعالى الغيم علما على المطر و الجميع خلق اللّه و لكن يخلق الرؤيا و الأعتقادات الّتي جعلها علما على ما تيسّر بغير حضرة الشيطان.و خلق ما هو علم على ما يضرّه بحضرة الشيطان فنسب الى الشيطان مجازا لحضوره عندها و ان كان لا فعل له حقيقة، و هذا(في الفساد)كالأوّل اذ مبناه على أصل أفسد من الأصل.و هو ما ذهب اليه الأشاعرة من أنّ الأفعال كلّها من اللّه خيرها و شرّها.

و امّا الصوفية فقال أعلمهم و هو محي الدين الأعرابي ليس كلّ ما يراه الأنسان صحيحا و يجوز تعبيره،بل الصحيح ما كان من اللّه يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة امّ الكتاب و ما سوى ذلك أضغاث احلام لا تأويل لها،و هي على أنواع قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالأنسان او يريد ما يحزنه و له مكائد يحزن بها بني آدم كما قال تعالى إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا و من لعب الشيطان به الأحتلام الّذي يوجب الغسل فلا يكون له تأويل،و قد يكون من حديث النفس كما يكون في أمر او حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر و العاشق يرى معشوقه و نحوه، و قد يكون من مزاج الطبيعة كمن غلب عليه الدم يرى الفصد و الحجامة و الحمرة و الرعاف و الرياحين و المزامير و النشاط و نحوه،و من غلب عليه الصفراء يرى النار و الشمع و السراج و الأشياء الصفر و الطيران في الهوى و نحوه،و من غلب عليه السوداء يرى الظلمة و السواد و الأشياء السود و صيد الوحش و الأهوال و الأموات و القبور و المواضع الخربة و كونه في مضيق لا منفذ له او تحت ثقل و نحوه،و من غلب عليه البلغم يرى البياض و المياه و الأنداء و الثلج و الوحل فلا تأويل لشيء منها.

و أمّا المتكلمون من الشيعة فقال سيّدنا الأجلّ علم الهدى تغمّده اللّه برحمته الواسعة في جواب سائل سأل منه ما القول في المنامات أ صحيحة هي أم باطلة؟و من فعل من هي؟و ما وجه صحّتها في الأكثر؟و ما وجه الأنزال عند رؤية المباشرة في المنام؟و ان كان فيها صحيح و باطل فما السبيل الى تمييز أحدهما من الآخر؟

ص:35

الجواب اعلم انّ النائم غير كامل العقل لأنّ النوم ضرب من السهو و السهو ينفي العلوم و لهذا يعتقد النائم الأعتقادات الباطلة لنقصان عقله و فقد علومه،و جميع المنامات انّما هي أعتقادات يبتديها النائم في نفسه و لا يجوز ان من فعل غيره فيه لأنّ من عداه من المحدّثين سواء كان بشرا او ملائكة او جنّا اجسام و الجسم لا يقدر أن يفعل في غيره أعتقادا أبتداء،بل و لا شيئا من الأجناس على هذا الوجه و انّما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الأبتداء،و انّما قلنا انه لا يفعل في غيره جنس الأعتقادات متولّدا لأنّ الذي يعدّى الفعل من محلّ القدرة الى غيرها من الأسباب انّما هو الأعتمادات ما يولد الأعتقادات و ليس في جنس الأعتمادات يولد الأعتقادات،و لهذا لو أعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولّد فيه شيء من الأعتقادات و قد بين و شرح في مواضع كثيرة،و القديم يقال هو القادان يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الأعتقادات و لا يجوز أن يفعل في قلب النائم إعتقاد لأن أكثر أعتقادات النائم جهل و يتأوّل الشيء على خلاف ما هو به لأنّه يعتقد انّه يرى و يمشي و انّه راكب و انّه على صفات كثيرة و كلّ ذلك على خلاف ما هو به و هو تعالى لا يفعل الجهل.

فلم يبق الاّ انّ الأعتقادات كلّها من جهة النائم،و قد ذكر المقالات ان المعروف بصالح قبّة كان يذهب الى انّ ما يراه النائم في منامه على الحقيقة،هذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائية ، لأنّ النائم يرى أنّ رأسه مقطوع و انّه قد مات و انّه قد صعد الى السماء و نحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كلّه،و اذا جاز عند صالح هذا جاز ان يعتقد اليقظان في السراب انّه ماء،و في المرأى اذا كان في الماء انّه مكسور و هو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة و اللبن فالا جاز ذلك في النائم و هو من الكمال ابعد و من النقص أقرب.

و ينبغي أن يقسم ما يتخيّل النائم أنّه الى أقسام ثلاثة،منها يكون من غير سبب يقتضيه و لا داع يدعو اليه أعتقادا مبتدأ،و منها ما يكون من وسواس الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاما خفيّا يتضمن أشياء مخصوصة فيعتقد النائم اذا سمع ذلك الكلام انّه يراه فقد نجد كثيرا من النيّام يسمعون حديث من يتحدّث بالقرب منهم فيعتقدون انّهم يرون ذلك الحديث في منامهم،و منها ما يكون سببه و الداعي اليه خاطر يفعله اللّه تعالى او يأمر بعض الملائكة بفعله.و معنى هذا الخاطر ان يكون كلاما يفعل في داخل السمع فيعتقد النائم ايضا انّه ما يتضمّن ذلك الكلام،و المنامات الداعية الى الخير و الصلاح في الدين يجب ان يكون الى هذا الوجه مصروفة كما انّ ما يقتضي الشرّ منها الأولى ان تكون الى وسواس الشيطان مصروفة،و قد يجور على هذا فيما يراه النائم في منامه ثمّ يصحّ ذلك حتّى يراه في يقظته على حدّ ما يراه في منامه،و في كلّ منام يصح تأويله ان يكون سبب صحّته انّ اللّه تعالى يفعل كلاما في سمعه لضرب من المصلحة بأن شيئا يكون أو قد كان

ص:36

على بعض الصفات فيعتقد النائم انّ الّذي يسمعه هو ما يراه فاذا صحّ تأويله على ما يراه فما ذكرناه ان لم يكن ممّا يجوز ان يتّفق فيه الصحّة اتّفاقا فان في المنامات ما يجوز ان يصحّ بالأتفاق و ما يضيق فيه مجال نسبته الى الأتّفاق،فهذا الّذي ذكرناه يمكن ان يكون وجها فيه.

فأن قيل أ ليس قد قال ابو علي الجبائي في بعض كلامه في المنامات انّ الطبائع لا يجوز ان تكون مؤثّرة فيها لأنّ الطبائع لا يجوز على المذاهب الصحيحة ان تؤثّر في شيء،و انّه غير ممتنع مع ذلك ان يكون بعض الماكل يكثر عندها المنامات بالعادة كما أنّ فيها ما يكثر عنده بالعادة تخييل(تخيل)الأنسان و هو مستيقظ ما لا أصل له؟قلنا قد قال ذلك ابو علي و هو خطأ لأنّ تأثيرات المأكل بمجرى العادة على المذاهب الصحيحة اذا لم تكن مضافة الى الطبائع فهي من فعل اللّه تعالى فكيف يضيف التخيل الباطل و الأعتقاد الفاسد الى فعل اللّه تعالى،فأمّا المستيقظ الّذي استشهد به فالكلام فيه و الكلام في النائم واحد،و لا يجوز ان يضيف التخييل الباطل الى فعل اللّه تعالى في نائم و لا يقظان،فأمّا ما تخيّل من الفاسد و هو نائم فلا بدّ من ان يكون ناقص العقل في الحال و فاقد التمييز بسهو و ما يجري مجراه فيبتدي إعتقاد لا أصل له كما قلناه في النائم.

فان قيل فما قولكم في منامات الأنبياء عليهم السّلام؟و ما السبب في صحّتها حتى عدّ ما يرونه مضاحيا لما يسمعونه من الوحي؟قلنا الأخبار الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحّتها و لا هي ممّا توجب العلم،و قد يمكن ان يكون اللّه تعالى أعلم النبيّ بوحي يسمعه من الملك على الوجه الموجب للعلم أنّي سأريك في منامك في وقت كذا ما يجب ان تعمل عليه فيقطع على صحّته من هذا الوجه لا مجرد رؤيته في المنام،و على هذا الوجه يحمل منام ابراهيم عليه السّلام في ذبح أبنه،و لو لا ما أشرنا اليه كيف كان يقطع ابراهيم عليه السّلام بأنّه متعبد بذبح ولده ثمّ أردف هذا بتأويل حديث من رآني فقد رآني،ثمّ قال و هذا الّذي رتبناه في المنامات و قسمناه أسدّ تحقيقا من كلّ شيء في أسباب المنامات.

فامّا ما يهذي به الفلاسفة في هذا الباب فهو ما تضحك منه الثكلى لأنّهم ينسبون ما صحّ من المنامات لما أعيتهم الحيل في ذكر سببه الى أنّ النفس أطّلعت على عالمها فأشرقت على ما يكون، و هذا الّذي يذهبون اليه في حقيقة النفس غير مفهوم و لا مضبوط فكيف اذا أضيف اليه الأطّلاع على عالمها،و ما هذا الأطلاع؟و الى أيّ شيء يشيرون بعالم النفس؟و لم يجب أن تعرف الكائنات عند هذا الأطلاع فكلّ هذا زخرفة و مخرفة لا يتحصّل منها شيء،و قول صالح قبّة مع أنّه تجاهل محض أقرب الى أن يكون مفهوما من قول الفلاسفة انتهى كلامه.

و المعتمد عندنا هو ما دلّت عليه الأخبار عن الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام لأنّ ما سواها تخمين و خرص روى الصدوق ره باسناده الى محمّد بن القاسم النوفلي قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام

ص:37

المؤمن قد يرى الرؤيا فيكون كما رآها،و ربّما راى الرؤيا فلا يكون شيئا؟فقال انّ المؤمن اذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة الى السماء فكل ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير و التدبير فهو الحقّ و كلّ ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام،فقلت له و تصعد روح المؤمن الى السماء؟قال نعم،قلت حتّى لا يبقى منها شيء في بدنه؟فقال لا لو خرجت كلّها حتّى لا يبقى منها شيء اذا لمات فقلت فكيف تخرج؟فقال أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوئها و شعاعها في الأرض فكذلك الروح أصلها في البدن و حركتها ممدودة.

و روى أيضا بأسناده الى معاوية بن عمّار عن ابي جعفر عليه السّلام انّ العباد اذا نامو خرجت أرواحهم الى السماء فما رأت الروح في السماء فهو الحقّ و ما رأت في الهوى فهو الأضغاث(أضغاث أحلام)ألا أنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارفت في الأرض و اذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض.

و روى أيضا بأسناده الى علي عليه السّلام قال سئلت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا فربّما كانت حقّا و ربّما كانت باطلا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا علي ما من عبد ينام الاّ عرج بروحه الى ربّ العالمين فما رأى عند رب العالمين فهو حقّ ثمّ اذا أمر اللّه العزيز الجبّار بردّ روحه الى جسده فصارت الروح بين السماء و الأرض فما رأته فهو أضغاث أحلام.

فهذه الأخبار تدل على انّ للروح عروجا الى الملكوت في عالم المنام،و فيه دلالة على ما قدمنا في نور الأرواح من أنّها ليست بمجرّدة بل هي أجسام لطيفة شفّافة قد تتّصف بأوصاف الجسمانيات و الذين قالوا بتجرّدها من الأصحاب ذهبوا الى أنّها تدخل في قالب مثالي مثل هذا القالب الاّ انّه ألطف منه فتصعد و تنزل به و هذا هو البدن الذي تستقرّ به الروح بعد الموت و بعد خراب هذا البدن،بل ذهب شيخنا المعاصر سلّمه اللّه تعالى الى جواز تعدّده و حمل عليه ما روى مستفيضا في الأخبار من حضور مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عند الأموات و قد يموت في اللحظة الواحدة آلاف من الناس في مشارق الأرض و مغربها،فكيف يمكن حضوره عندهم مع البدن الواحد،و كذلك ما روى من انّ أربعين صحابيّا طلبوه الى الضيافة في ليلة واحدة في وقت واحد و لمّا أصبحوا قال كلّ واحد منهم انّ عليّا كان ضيفي البارحة و امّا نحن فقد أوّلنا هذه الأخبار تأويلا آخر و قد تقدّم.

و بالجملة فالروح اذا صعدت الى عالم الملكوت و طالعت الألواح السماوية و الدفاتر الألهيّة فان كانت لتلك الأرواح صفاء بالتنزّه عن شواغل البدن و علايقه و ان الأشياء كما هي فلا يحتاج تلك الرؤيا الى تعبير المعبّرين،و ان كانت مكدّرة بالعلائق و العوائق رأت الأشياء بصورة شبيهة بصورتها كما أنّ ضعيف البصر و مؤف العين يرى الأشياء على غير ما هي عليه،و العارف بعلّته

ص:38

يعرف انّ تلك الصورة شبيهة بأيّ شيء فيعبّرها و يكون كما قال،و يمكن ان يظهر اللّه عليه الأشياء في تلك الحالة بصورة تناسبها لمصالح كثيرة كما أنّ الأنسان قد يرى المال في نومه بصورة حيّة و قد يرى الدراهم بصورة عذرة.

و من هذا ظهر انّ معبّر الأحلام على الحقيقة و الأستمرار لا يكون الا من عرف بطبائع الناس و أمزجتها و حقائق ما أنطوت عليه سرائرهم حتّى يعرف الداء و الدواء،و لا يكون الاّ الأمام عليه السّلام،و من ثمّ ترى تعبيره عليه السّلام للأحلام قد يكون بغير ما يناسبها ظاهرا كما تقدّم في خبر محمّد بن مسلم الذي عبّره ابو حنيفة اولا و قد يكون لصدق الأحلام و كذبها سبب آخر و هو القاء الملائكة الى الروح العلوم و المعارف او هو سبحانه و تعالى من غير توسط ملك و الكذب من القاء الشياطين.

روى ابو بصير عن الباقر عليه السّلام قال سمعته يقول انّ لأبليس شيطانا يقال له مزع يملأ المشرق و المغرب في كلّ ليلة يأتي الناس في المنام.

و روى البرقي عن ابيه عن صفوان عن داود عن اخيه قال بعثني انسان الى ابي عبد اللّه عليه السّلام زعم انّه يفزع في منامه من أمرأة تأتيه،قال فصحت حتّى سمع الجيران،فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام:اذهب اليه فقل انّك لا تؤدّي الزكاة؟قال:بلى و اللّه انّي لا أوديها فقال قل له ان كنت تؤدّيها لا تؤدّيها الى أهلها.و في روة الكليني مسندا الى سعد بن ابي خلف عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:الرؤيا على ثلاثة وجوه بشارة من اللّه للمؤمن و تحذير من الشيطان و أضغاث أحلام،و فيها أيضا مسندا الى ابي بصير قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك الرؤيا الصادقة و الكاذبة مخرجها من موضع واحد؟قال:صدقت،امّا الكاذبة المختلفة فأنّ الرجل يراها في اوّل ليلة في سلطانا لمردة الفسقة و انّما هي شيء يخيّل الى الرجل و هي كاذبة مخالفة لا خير فيها،و امّا الصادقة لا تختلف ان شاء اللّه تعالى الا ان يكون جنبا او ينام على غير طهور،و لم يذكر اللّه عزّ و جلّ حقيقة ذكره فانّها تختلف و تبطي على صاحبها.

فدلّت هذه الأخبار على انّ الشياطين يلقون الأكاذيب و الأباطيل،و قد يكون السبب فيه الخيالات النهاريّة المألوفة للأنسان في عالم اليقظة فانّ الأنسان اذا فكّر في شيء حال يقظته رآه حال منامه.و من هذا لم يعبر المعبّرون و العقلاء أحلام الشعراء و اضرابهم لأنّ الغالب عليهم التخييلات في الأكاذيب و الأباطيل،و قد اتى رجل الى ابن سيرين فقال له:اني رأيت البارحة كأنّ بيدي خاتما و انا أختم به على أفواه الناس و فروجهم،فقال له:ينبغي ان تكون مؤذّنا و هذا شهر رمضان فاذا أذّنت حرمت الأكل و الجماع فاخذ تعبيره من المناسبات.

ص:39

الأمر الثاني في بيان قوله صلّى اللّه عليه و آله:من رآني فقد رآني فانّ الشيطان لا يتخيّل بي قلنا قد قال سيّدنا الأجلّ المرتضى اعلى اللّه درجته في علّيّين فان قيل فما تأويل ما يروى من قوله صلّى اللّه عليه و آله من رآني فقد رآني فانّ الشيطان لا يتخيّل بي و قد علمنا ان الحقّ و المبطل و المؤمن و الكافر قد يرون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في النوم و يخبر كلّ واحد منهم بضدّ ما يخبر به الآخر فكيف يكون رأينا له في الحقيقة مع هذا؟قلنا هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الأحاد و لا معول على مثل ذلك،على انّه يمكن مع تسليم صحّته ان يكون المراد به من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة لأنّ الشيطان لا يتمثّل بي لليقظان فقد قيل انّ الشيطان ربّما تمثّل بصورة البشر و هذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر لأنّه قال من رآني فقد رآني فأثبت غيره رائيا له و نفسه مرئية،و في النوم لا رائي له على الحقيقة و لا مرئي و انّما ذلك في اليقظة،و لو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام من اعتقد انّه يراني في منامه و ان كان غير راء له على الحقيقة فهو في الحكم كأنّه قد رآني و هذا عدول من ظاهر لفظ الخبر و تبديل لصيغته هذا كلامه ره.

اقول انّ هذا الخبر مروي عن الأئمّة عليهم السّلام في شأن المنامات و الأحلام صريح في انّ المراد انّه من رآني في المنام فقد رآني لأنّ الشيطان لا يتمثّل بصورتي و لا بصورة أحد من أهل بيتي،و امّا قوله أنّ المؤمن و الكافر يشاهده فالجواب عنه ان الظاهر انّه خطاب للمؤمنين لأنّهم المنتفعون برؤيته، و ان رآه واحد من الكفّار للأرتداع عن مذهبه الباطل فهو أيضا مؤمن في القديم زاغ عن الحقّ ايّاما إما بآبائه و امّهاته او بالشبهات ثمّ رجع اليه،و امّا انّ المؤمنين يرونه بالصور المختلفة فهو حقّ و ذلك لأنّ النبيّ و الأئمّة عليهم السّلام قد كانوا يظهرون للناس في عالم اليقظة على صفات مختلفة و صور متضادّة على قدر ما تحتمله عقولهم و أوهامهم كما تقدّم سابقا،و امّا إنّهم يفتون الناس الأحكام المتضادّة فقد كان هذا في عالم اليقظة ايضا خصوصا مولانا الصادق عليه السّلام فانّه كان يفتي شيعته بالفتاوي المتضادّة و يخالف بينهم لمصالحهم كما قال عليه السّلام الّذي خالفت بينهم و لولاه لأخذ الناس برقابهم،فالمصلحة الّتي تكون في اليقظة تكون في النوم أيضا و ذلك أنّ الناس مرضى و الأمام الطبيب الحاذق فهو يصف لكل داء دواءه.

و من ثمّ ترى الأطياف و الأحلام قد أختلفت في الحشيشة الّتي يسمّونها الناس بالتتن فبعضهم نقل أنّه راى الأمام عليه السّلام فنهاه عن شربها و استعمالها،و بعضهم نقل أنّه راى الأمام عليه السّلام و قد أمره بأستعمالها،و ذلك أنّ حكمها يختلف بأختلاف الطبائع و الأمزجة فربّما وافقت طبيعة و أضرّت باخرى كبعض الأدوية و العقاقير فكلا الطيفين حقّ.و حيث بلغ بنا الكلام الى هذا المقام فلا بأس بأرخاء العنان لتحقيق هذا المرام.

ص:40

فنقول هذه الحشيشة المذكورة لم يرد بخصوصها نص من الشارع مثل غيرها من سائر النبات فانّه لم يصل الينا في كلّ نبت حديث بخصوصه مع ان المنقول تواترا انّها لم تكن مستعملة في قديم الزمان و انّما حدثت في هذا المائة و هي المائة الحادية عشر و الآن جماعة،موجودون يقولون انّنا لم نرها في أول أعمارنا و انّما حدث أستعمالها في العشرة بعد الألف الى هذه الأعصار نعم ربّما حفر الناس الآبار و الحفاير و اخرجوا من تحت الأرض آلات استعمالها و هذا لا يدل على انّ تلك آلات لهذا بخصوصه اذ ربّما كانت آلة لغيره و من جهة أختلاف الأطياف و المنامات في تلقي الأحكام من المعصوم عليه السّلام أشكل الأمر في جعل الرؤيا دليلا شرعيّا يجب العمل به اذ ليس له قاعدة كليّة يجب اطرادها فيه.

و قد كان بعض المعاصرين يذهب الى تحريم صلاة الجمعة و يشنع على من يفعلها بل ربّما قال بكفره،ثمّ بعد برهة من الزمان مال الى وجوبها و فعلها فقيل له في ذلك فقال:انّي رأيت الأمام عليه السّلام بالمنام و أمرني بفعلها فصلاها مدّة ثمّ تركها و لعله قال أنّ الأمام نهاني عنها في المنام و ليس مثل هذا الاّ مفرا اذا أعيت عليه الأحكام.

و امّا الجمهور فقال الصفدي و هو من أفاضلهم قد تكلم الفقهاء فيمن رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمره بأمر هل يلزم العمل له ام لا؟قالوا ان أمره بما يوافق أمره يقظة ففيه خلاف و ان أمره بما خالف أمره يقظة فان قلنا أنّ من رآه صلّى اللّه عليه و آله على الوجه المنقول في صفته فرؤياه حقّ فهذا من قبيل تعارض الدليلين و التعارض بأرجحهما و ما ثبت في اليقظة فهو ارجح فلا يلزمنا العمل بما أمره فيما خالف أمره يقظة.

اذا عرفت هذا فاعلم انّ جماعة من علماء العصر كالمولى علي نقي و شيخنا الشيخ فخر الدين الطريحي،و الشيخ التقي الشيخ عليّ بن سليمان البحريني،و بعض فضلاء البحرين و ربّما تابعهم بعض المتفقهين ذهبوا الى تحريمه حتّى أنّ المولى علي نقي تغمّده اللّه برحمته صنّف كتابا كبيرا في تحريمه و قد اطلعني عليه ولده لمّا كان يقرأ علي في علم العربيّة في شيراز و كان مجلّدا كبيرا، و الباقي على التحليل حتّى انّ التقيّ المجلسي طاب ثراه كان يشربه في صوم التطوع و يترك إستعماله في الصوم الواجب حذرا من كلام العوام و لهم على التحريم دلائل:

أوّلها ما روى عن مولانا الصادق عليه السّلام من قوله اذا رأيتم الناس قد أقبلوا على شيء فدعوه.و هذه الحشيشة قد أقبل عليها الناس اقبالا عظيما لا يمكن ردعهم عنه،حتى أنّ السلطان المرحوم الشاه عبّاس الأوّل قد عمل عليه الحرج و أحرق من يتجر به فيه فكان الناس يحفرون تحت الأرض مثل السراديب و يذهبون اليها و يشربونه هناك و في ذلك الحال يحرقون الخرق بقربهم حتّى لا تخرج رائحته و حتى تشتبه برائحتها و كانوا يشترونه في ذلك الوقت بوزن الدراهم بل و أغلى منها

ص:41

فلمّا رأى ذلك السلطان انّ ذلك الحرج لا ينفع قرّر عليه من مال الخراج مالا عظيما قصد به تعجيز الناس عن التجارة به و عن استعماله فما أزدادوا له الاّ حبّا و كرامة و الأغلب في تجارته الأرباح و الفوائد.

و ثانيها انّه من الأسراف الّذي وقع النهي عنه في الكتاب و السنة و ذلك انّه ربما كان للأنسان درهم واحد فانفقه فيه و بقي جائعا و ربّما حصل منه الضرر العظيم بسكره فانّا رأينا من شربه و سكر حتّى وقع في النار فأحترقت منه بعض الأعضاء و ربّما تكلّفت له أرباب الأموال حتّى صنعوا آلته و زيّنوها فكان مجموعهما ثلاثين ألف دينار و أزيد فهذا أسراف و الأسراف حرام فيكون التتن حراما.

و ثالثها أنّه من الخبائث المحرّمة في محكم الكتاب و السنة لأنّ النفوس تنفر عنه بل ربّما كان بعض شاربيه ذا مّا له و مادحا لمن لا يشربه.

و رابعها التأويل على الرؤيا و المنامات بان بعض الناس قد رأوا احد المعصومين عليهم السّلام و قد نهى عنه و ذمّ شاربيه.

و خامسها انّ الأشياء قبل ورود الشرع فيها على أقوال منها التحريم و اذا دار الشيء بين التحريم و الأباحة لم يخرج صاحبه من العهدة يقينا الاّ بتركه فوجب تركه و بعضهم ذكر له دلائل لا فائدة في نقلها لركاكتها،منها قوله أنّ قليان على وزن بلبان او انّه مشابهه في الصورة و الأستعمال فينبغي تركه،و اما نحن فليس لنا رغبة في أستعماله و قد مرّت علينا ايام طلب العلم في شيراز و أصفهان تقريبا من عشرين سنة و لا استعملناه لأنّه ربّما كان فيه تضييع الوقت و الآن ربّما استعملناه بتابعيّة اهل المجالس و لكنّ الحكم الشرعي لا ينبغي ان يهمل.و تحريم ما لم يسند الى دليل شرعيّ ممّا لا يجوز،و هذه الدلائل لا تفيده تحريما بل ربّما أفادته الأباحة،و ذلك لأنّ الجواب أمّا عن الدليل الأوّل فبان المراد من الناس جمهور المخالفين كما هو المفهوم من أصطلاح الأخبار و يدلّ عليه سياق الخبر الّذي ورد هذا فيه كما في الأستبصار و غيره مع انّه ليس بمطرد على ظاهره بل المراد به موارد خاصّة كالأحكام و العبادات الّتي لم ينص عليها الدليل الواحد بل يتعارض فيها الأدلّة فاذا تعارضت فيها الأدلّة فدع ما أقبل عليه الجمهور و اعرف انّ الحقّ في الأدلّة على نقيضه و خلافه و احمل ما وافق الناس على التقيّة،بل قوله عليه السّلام خذ بما أشتهر بين أصحابك ربما أشعر به، و ذلك أنّ المشهور بين علماء الشيعة في هذه الأعصار هو القول بتحليل التتن و جواز أستعماله.

و امّا الجواب عن الثاني و هو الأسراف فاعلم أوّلا انّ الأصحاب رضوان اللّه عليهم جعلوه من حكم الحرام كلّه و لكنّ المفهوم من الأخبار أنّه على قسمين حرام و مكروه فالأوّل ما قاله مولانا

ص:42

الصادق عليه السّلام انّما الأسراف فيما أتلف المال و أضر بالبدن و المراد من إتلاف المال صرفه في غير المصارف المقصودة للعقلاء.

و امّا الثاني فمثاله ما روى من انّ من شرب من ماء الفرات و ألقى بقية الكوز خارج الماء فقد أسرف،و قوله عليه السّلام انّ من الأسراف أن تجعل ثياب بدنك ثياب صونك،و قوله عليه السّلام انّ من الأسراف ان تعطي السائل السنبل بكلّ قبضتك الى غير ذلك،و ذكر جماعة من الأصحاب انّ الأسراف هو ان يتجاوز الأنسان حاله في الأنفاق و لهذا الكلام و جهان:

الأوّل انّ المراد حاله بالنظر الى أهل بلاده و هذه لا يطرد فيه الأسراف لأنّا شاهدنا أهل بعض البلاد الغالب عليهم الحرص و سوء المعاش مع ما فيهم من الثروة و الأموال فلو انّ أحدا تجاوز في الملبس و المأكل و نحوهما لم يكن مسرفا لأنّ المفروض قدرته على ذلك.

الثاني ان المراد حاله بالنظر الى ثروته و قدرته و هذا يتحقق فيه الأسراف كأن يكون تاجرا مثلا فينفق الأرباح في سنة و يتعدّى الى رأس المال او يستقرض و ينفق من غير ان يكون عند وجهه،و قد بقى هيهنا فرد آخر و هو أنّ الإنسان اذا تأنق بالمنازل و المجالس و الملابس و المناكح مع أمكان الأكتفاء بدونها فهل يعدّ مثل هذا من باب الأسراف الظاهر انّه لا يكون اسرافا بل ربما كان مستحبا لأن فيه أظهار نعم اللّه تعالى المأمور به في قوله تعالى:و امّا بنعمة ربك فحدّث،فقد ورد أنّ المراد التحديث بالفعل لا بالقول.

و كان الأئمّة عليهم السّلام يتأنّقون في المطاعم و الملابس و غيرها و امّا مولانا امير المؤمنين عليه السّلام و صبره و أستعماله لما خشن و جشب فقد ورد به العذر عن الصادق عليه السّلام سابقا و حينئذ فهذه الحشيشة من هذا الباب و هو ان الناس مالت أنفسهم اليها و كانوا قادرين على أثمانها فلا بأس بإستعمالها كغيرها.

و امّا حكاية الأسكار فهي غير مطردة،و ذلك أنّ الأنسان قد يسكر عن بعض المحلّلات، فمن عرف من حاله هذا و امثاله كان عليه حراما لا غير و اما التأنق في الله فانّما يكون حراما مع عدم القدرة لا غير،و اما الجواب عن الدليل الثالث و هي كونها من الخبائث فاعلم انّ الخبيث نقيض الطيّب و قد ورد الأمر بأكل الطيبات و أجتناب الخبائث و الطيّب في أصطلاح الأخبار و التفاسير يطلق على معان أربعة:

أوّلها ما هو مستلذّ للنفس،و ثانيها ما أحلّه الشارع،و ثالثها ما كان ظاهرا،و رابعها ما خلا عن الضرر في الروح و البدن،و جزم بعض الأصحاب بأنه حقيقة في الأوّل و هو المراد من قوله تعالى كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلاٰلاً طَيِّباً و لكن الشائع في الأخبار هو الأطلاق الثاني و هذه الحشيشة

ص:43

غير خبيثة بواحد من الأمور اما الأول فلأنها عند أغلب الناس من أحسن الملاذ حتى بالغ الناس في أستعمالها.

و اما المعنى الرابع فلأنها اذا أضرت الأبدان كانت محرّمة عليه بخصوصه و ليس المراد من الخبيث ما تنفر عنه بعض الطباع و ذلك انّ كثيرا من المحلّلات تأبى عن أكلها طباع آحاد الناس و كثير من الطبائع تميل الى بعض المحرمات فيجاهدها صاحبها حتّى ترتدع،و قد جاء جندي الى رجل عالم صالح من مشايخنا فقال له:ايّما أعظم أجرا عند اللّه أنا أو أنت؟فقال له الجندي:بل أنا أعظم أجرا و ذلك أنّه اذا أصبح عليّ النهار مالت نفسي و نازعتني على فعل كلّ محرّم فأجاهدها و أزجرها الى الليل و انت اذا أصبحت لم يكن لنفسك همّة و لا رغبة الاّ في العلم و العبادة فاين أنا منك فصدّقه ذلك الشيخ،و ليس هذه الحشيشة الاّ مثل سائر النبات فانّ الناس لو عمدوا الى نبت آخر و عظّموه هذا التعظيم لم يكن حراما فليكن هذا من ذاك و بالجملة فالمراد من الخبيث ما خبّثه الشارع بالنهي عنه أو أستقذره عامّة العقلاء.

و امّا الجواب عن الدليل الرابع و هو المنامات فقد عرفته سابقا و انّه يختلف بأختلاف الأشخاص فربما كان نافعا لبعض الأبدان مضرّا للبعض الآخر فلا يدخل تحت قاعدة كلّيّة فلا يكون مدركا للأحكام الشرعية.

و امّا الجواب عن الخامس فهو ظاهر لأنّ الشرع قد ورد بها و أدرجها تحت القواعد الكلّيّة كغيرها من النبات قال اللّه تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً و قال ايضا كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ و قال سبحانه يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ و قال تعالى وَ كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلاٰلاً طَيِّباً و لا تعتدوا و قال وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْ نَبٰاتٍ شَتّٰى كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعٰامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِأُولِي النُّهىٰ و قال عزّ من قائل وَ الْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ و قال كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، و قال وَ نَزَّلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ، و قال تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ فهذه تسع آيات ملقاة الى من أنكر هذا المقال،و أمّا السنة فقد روى الصدوق طاب ثراه عن الصادق عليه السّلام انه قال:كلّ شيء لك طلق حتّى يرد عليك فيه ما يحرّمه،و الى الآن لم يرد دليل يحرّم هذا التتن سوى الأطياف و التشهيات.

و امّا الأجماع فقد أجمع الأصحاب قديما و حديثا على تحليل ما لم يرد النصّ بتحريمه و هذا أجماع قطعي لا ينكر،فبعد هذه الدلائل كلّها كيف يجوز أن يقال انّه لم يرد به نص و امّا قولهم بأنّه مثل بلبان فهو من الدلائل الباردة و لقد حدّثني بعضهم أنّ هذا الكلام لمّا حكوه للمولى حسين

ص:44

التستري ره ضحك و قال انّ آلة التتن نقيض البلبان و ذلك أنّ البلبان يحتاج الى نفخ الهوى فيه و آلة التتن تحتاج الى جذب الهوى منه و أخراجها عنه و بالجملة فالحكم بالتحريم مشكل و باللّه الأستعانة و التوفيق.

الأمر الثالث قد روى في كثير من الأخبار انّ الرّؤيا على ما تعبّر روى الكليني في الروضة عن معمّر بن خلاد قال سمعت ابا الحسن عليه السّلام يقول ربّما رأيت الرّؤيا فأعبّرها و الرؤيا على ما تعبّر،و روى بأسناده الى ابن الجهم قال:سمعت ابا الحسن عليه السّلام يقول:الرؤيا على ما تعبّر، و روى بأسناده الى ابن الجهم قال:سمعت ابا الحسن عليه السّلام يقول الرؤيا على ما تعبر فقلت له انّ بعض أصحابنا روى ان رؤيا الملك كانت أضغاث أحلام فقال ابو الحسن عليه السّلام انّ امرأة رأت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان جذع بيتها إنكسر فأتت رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله فقصّت عليه الرؤيا،فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله:يقدم عليك زوجك و يأتي و هو صالح و قد كان زوجها غائبا فقدم كما قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ثمّ غاب عنها زوجها غيبة أخرى فرأت في المنام كأن جذع بيتها قد أنكسر فلقيت رجلا أعسر فقصّت عليه الرؤيا فقال لها الرجل السوء يموت زوجك قال:فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال:الا كان عبّر لها خيرا.

و قوله ان رؤيا الملك كانت أضغاث احلام انها كانت أضغاث احلام لكن لمّا عبّرها الصديق عليه السّلام وقعت على ما عبّر فالأمام عليه السّلام أتى بالحديث شاهدا على تصديق مقالة الرجل،و اما الأعسر فهو الرجل المشؤوم او الّذي يعمل بيده اليسرى و هو من الشؤم ايضا و روى مسندا الى جابر بن يزيد عن ابى جعفر عليه السّلام ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول انّ رؤيا المؤمن ترفرف بين السماء و الأرض على رأسها صاحبها حتّى يعبرها لنفسه او يعبّرها له مثله،فاذا عبّرت لزمت الأرض فلا تقصّوا رؤياكم الاّ على من يعقل و قال:صلّى اللّه عليه و آله لا تقص الاّ على مؤمن خلا من الحسد و البغي.

و من كتاب تعبير الرؤيا للكليني جاء رجل الى الصادق عليه السّلام و قال رأيت انّ في بستاني كرما يحمل بطيخا فقال له:احفظ أمرأتك لا تحمل من غيرك،و أتاه رجل فقال:كنت في سفر فرأيت كأنّ كبشين ينتطحان على فرج أمرأتي و قد عزمت على طلاقها لما رأيت فقال عليه السّلام:أمسك أهلك انّها لمّا سمعت بقرب قدومك ارادت نتف المكان فعالجته بالمقراض.

و في هذه الأخبار أشكالان:الأوّل ما معنى هذا الربط و العليّة بين التعبير و الوقوع حتّى صار التعبير علّة في الوقوع؟حتّى قال عليه السّلام:المنام طائر اذا قص وقع،قلت هذا شيء لا نتحقّقه من حيث العقل و لكن الشرع ورد به فوجب قبوله كما وجب علينا قبول الأحكام من غير معرفة بتفاصيل عللها،و يمكن ان يكون العلّة فيه هو انّه يحصل من التعبير التفأل و التطيّر و قد عرفت ان التطيّر يضرّ من يتطير به فيكون الوقوع للطير(للتطير)الحاصل من التعبير و كذا التفأل،و امّا ان

ص:45

كثيرا من الرؤيا اذا عبّرت لم تقع فيمكن ان يقال ان الّذي يقع منها هو الّذي يصحّ عليه الوقوع لأنّك قد تحقّقت ان بعض أقسامه مستند الى الشياطين و الأفكار النهارية فهذا ممّا لا يصحّ عليه الوقوع و ان عبّره المعبّرون.

الأشكال الثاني قد عرفت انّ تعبير الرؤيا لا يعلمه الاّ من علم الأمزجة و الطبائع و ليس هو الاّ الأمام عليه السّلام فكيف جاءت هذه الأخبار دالّة على وقوع الرؤيا عند التعبير؟فاذا كان الحال هكذا فكلّ أحد يصدق عليه أنّه معبّر؟قلت فرق بين وقوع المنام عند تعبير العالم و وقوعه عند تعبير غيره،و حاصل الفرق ان ما وقع اوّلا هو الّذي كان في الواقع و نفس الأمر،و امّا الواقع عند تعبير الجاهل فهو الوقوع العادي فكأنّ اللّه سبحانه أجرى العادة بوقوع المنامات عند تعبير الجاهل و ان لم يكن معناها الواقعي هو هذا فتأمل في هذا المقام فانّه حريّ بالتأمّل.

الأمر الرابع روى الجليل علي بن ابراهيم ره في تفسيره باسناده الى مولانا الصادق عليه السّلام في سبب نزول قوله تعالى إِنَّمَا النَّجْوىٰ مِنَ الشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ أنّ فاطمة عليها السّلام رأت في منامها انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله همّ ان يخرج هو و فاطمة و علي و الحسن و الحسين عليهم السّلام من المدينة فخرجوا حتّى جاوزوا حيطان المدينة فتعرذض لهم طريقان فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين حتّى انتهى بهم الى موضع فيه نخل و ماء فاشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شاة كبرى و هي الّتي في أحد أذنيها نقط بيض فأمر بذبحها فلمّا اكلوا ماتوا في مكانهم فانتبهت فاطمة عليها السّلام باكية ذعرة فلم تخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذلك فلمّا أصبحت جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بحمار فأركب عليه فاطمة عليها السّلام و أمر أن يخرج امير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السّلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها السّلام في نومها فلمّا خرجوا من حيطان المدينة عرض له طريقان فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين كما رأت فاطمة عليها السّلام في نومها فمضى الى موضع فيه نخل و ماء فأمر عليّا عليه السّلام فاشترى شاة فأمر بذبحها فذبحت و شويت،فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة و تنحّت ناحية منهم تبكى مخافة ان يموتوا فطلبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى وقف عليها و هي تبكي،فقال ما شأنك يا بنيّة؟قالت يا رسول اللّه رايت كذا و كذا في نومي و قد فعلت انت كما رأيته فتنحيت عنكم فلا أراكم تموتون،فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصلّى ركعتين ثمّ ناجى ربّه فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام فقال يا محمّد هذا شيطان يقال له الدها و هو الذي أرى فاطمة عليها السّلام هذه الرؤيا و يرى المؤمنون في منامهم ما يغتمون به،فأمر جبرئيل فجاء به الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له:أنت اريت فاطمة هذه الرؤيا؟فقال نعم يا محمّد فبزق عليه ثلاث بزقات فشجّه في ثلاث مواضع ثم قال جبرئيل لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله يا محمّد اذ رأيت في منامك شيئا تكرهه او رأى أحد من المؤمنين فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقربون و انبياء اللّه المرسلون و عباده

ص:46

الصالحون من شرّ ما رأيت من رؤياي و يقرء الحمد و المعوذتين و قل هو اللّه و يتفل عن يساره ثلاث تفلات فانّه لا يضره ما رأى،و أنزل اللّه على رسوله انّما النجوى من الشيطان.

و الأشكال الوارد على هذا الحديث هو انّه قد ورد في كثير من الأخبار انّ الشيطان ليس له تسلّط على أرباب العصمة عليهم السّلام بوجه من الوجوه فكيف تسلّط الدها حتّى فعل ما فعل؟و الجواب انّ هذا ليس من باب التسلّط و ذلك لما يتعقّبه من المعجزة الّتي هي الأتيان بذلك الشيطان و حبسه و أذلاله و اهانته و ليس هذا الاّ مثل ذلك الرجل الذي أتى اليها و قال لها أنّ عليّ بن ابي طالب عليه السّلام يريد أن يأخذ عليك أمرأة حتى غضبت فاتّضح لها الحال انّه رجل كذّاب.

و من الأخبار المروّحة للخاطر ما رواه الكليني طاب ثراه عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال يا ابا محمّد انّ الميّت منكم على هذا الأمر شهيد قال:قلت و ان مات على فراشه؟قال:أي و اللّه على فراشه حيّ عند ربّه يرزق،اقول ثواب الشهادة انّما حصّلوها من نياتهم و ذلك انّ نياتهم انّهم لو كانوا مع الأمام عليه السّلام لجاهدوا الكفّار معه و لو ظهر المهديّ عليه السّلام في كلّ وقت من الأوقات لكان من أنصاره و أعوانه و من هنا قال عليه السّلام انّي لأعدّ نفسي من شهداء كربلا و ذلك اني لو كنت معه لجاهدت أعداءه.

و من الأخبار المروّحة للخاطر ما روى مسندا الى محمّد بن الفضيل عن ابي الحسن الأول عليه السّلام قال:قلت له جعلت فداك الرجل من أخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عن ذلك فينكر ذلك و قد أخبرني عنه قوم ثقات فقال لي:يا محمّد كذّب سمعك و بصرك عن أخيك فان شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم لا تذيقن(يعن)عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته فتكون من الذين قال اللّه في كتابه الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم.

اقول قوله الشيء الذي اكرهه شامل لما كان في حقّ المنقول اليه او مطلقا كما هو المفهوم من التنظير بالآية،و امّا تكذيب القسامة فلا ينافي ثبوت الحدود عليه بالشاهدين او الأربعة لأنّ هذا الكلام عند غير الأمام،و قوله كذب سمعك و بصرك معناه ان ما ترى منه و تسمع من المكروهات ينبغي ان تتكلّف لها محامل سديدة و توجيهات قريبة او بعيدة و تقول انّما قال هذا او فعل هذا لهذا الوجه السائغ فتكون في هذه التوجيهات قد كذّبت سمعك و بصرك حيث انّهما اتّهماه و أخذا بظاهر كلامه من غير تأويل و الاّ فلا معنى لتكذيب العين بعد ان رأت و الأذن بعد أن سمعت.

و في الحديث أحمل ما سمعت من أخيك على سبعين محملا من محامل الخير فان عجزت فأقبل على نفسك و قل التقصير منك حيث أعيت عليك محامل الخير و في حديث آخر انّه سئل عليه السّلام بين الصدق و الكذب من المسافة؟فقال بينهما مقدار كف فوضع كفّه بين أذنه و عينه فقال ما رأيت

ص:47

فهو الصدق و ما سمعت فهو الكذب و هذا في مقام آخر و على كلّ تقدير فلعلّ مثل هذه الأخوان قد كانت في الأعصار السالفة،و امّا في هذه الأعصار فهم كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام أخوان هذا الزمان جواسيس العيوب،و كما قال الشاعر

كفاني اللّه شرّك يا ابن عمي فامّا الخير منك فقد كفاني

و في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من لم يقبل من متنصّل عذرا صادقا كان او كاذبا لم ينل شفاعتي،و لو انّ احدا أساء اليك من جانبك الأيمن ثمّ تحوّل الى جانبك الأيسر فاعتذر عندك فأقبل عذره،و أوصاف الأخوان هذه و كان في وقت شباب الزمان

أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرّهم و أتيناه على الهرم

و ما أحسن جوابه لبعض مشايخنا

همو(و هم)على كلّ حال ادركوا هرما و نحن جئناه بعد الشيب و العدم

و من الأخبار المروّحة للخاطر ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال أنّ اللّه يعذب الستّة بالستة:

العرب بالعصبيّة،و الدهاقين بالكبر،و الأمراء بالجور،و الفقهاء بالحسد و التجار بالخيانة و أهل الرستاق بالجهل،أقول المراد بالدهاقين رؤساهم و بأهل الرستاق عامّتهم.

و من الأخبار ما رواه صاحب كتاب ربيع الأبرار انّ أبليس قال:الهي انّ عبادك يحبّونك و يعصونك،و يبغضوني و يطيعوني؟فأتاه الجواب إني غفرت لهم ما أطاعوك بما أبغضوك و قبلت منهم أيمانهم و ان لم يطيعوني بما أحبّوني.

و من الأخبار المروّحة للخاطر ما روي عن عبد اللّه بن طلحة قال:سئلت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الوزغ؟فقال:رجس و هو مسخ كلّه فاذا قتلته فاغتسل،و قال عليه السّلام انّ ابي كان قاعدا في الحجر و معه رجل يحدّثه فاذا هو بوزغ يولول بلسانه،فقال ابي للرجل:أ تدري ما يقول هذا الوزغ؟قال:لا علم لي بما يقول قال:فانّه يقول:و اللّه لئن ذكرتم عثمان بشتمه لأشتمن عليّا حتّى تقوم منه هيهنا،قال:و قال ابي ليس يموت من بني أميّة ميّت الاّ مسخ وزغا،و قال عليه السّلام انّ عبد الملك بن مروان لمّا نزل به الموت مسخ وزغا فذهب من بين يدي من كان عنده و كان عنده ولده فلمّا ان فقدوه عظم ذلك عليهم فلم يدروا كيف يصنعون،ثمّ أجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا فيضعوه كهيئة الرجل قال:ففعلوا ذلك و ألبسوا الجذع درع حديد ألقوه في الأكفان فلم يطّلع عليه أحد من الناس الاّ أنا و ولده.

أقول المشهور بين أصحابنا هو أستحباب الغسل عند قتل الوزغ و أستدلوا عليه بقول الصدوق ره انّ من قتل وزغا فعليه الغسل،و قال بعض العلماء ان العلّة في ذلك انّه يخرج عن ذنوبه فيغتسل منها،قال في المعتبر و عندي أن ما ذكره ابن بابويه ليس بحجّة و ما ذكره المعلّل ليس

ص:48

طائلا انتهى،و هذا الخبر صريح في الدلالة و لو أستندوا اليه لكان أوثق لهم،و الظاهر انّ الأصحاب رضوان اللّه عليهم انّما أهملوا ذكره و الأستدلال به لأنّه غير مذكور في الأصول الأربعة في بابه بل ذكره شيخنا الكليني ره في الروضة في الأخبار المتفرّقة.

و من الأخبار المروّحة للخاطر ما روى ان عيسى بن مريم عليه السّلام كان جالسا ذات يوم و عنده جبرئيل عليه السّلام فمرّ بهما رجل على ظهره خرمة حطب و بيده رغيف يأكله و كان يلعب و يضحك فقال جبرئيل عليه السّلام:عجبا لهذا الرجل يفعل ما ترى و ما بقي من عمره الاّ ساعة او ساعتان،فأنهى ذلك عيسى عليه السّلام الى من بحضرته فلمّا كان في اليوم الأنف مرّ رجل و على عاتقه حبل يخرج للأحتطاب فقال القوم:يا نبي اللّه أ لست قلت ما بقي من عمر هذا الرجل الا ساعة او ساعتان؟ قال أنّما قلت ذلك من جبرئيل فقالوا يا رسول اللّه ادع لنا ربّك يبيّن لنا هذا الأمر؟فسأل اللّه تعالى فأتاه جبرئيل عليه السّلام و قال له قل لهذا الرجل ليأتك بالخرمة الّتي ذهب بها امس،فخرج الرجل و جاء بالخرمة ففتحها عيسى عليه السّلام فاذا في وسطها حيّة أفعى فقال جبرئيل عليه السّلام رأيت في اللوح ان هذا الرجل تقتله هذه الحيّة و لكن سله ما فعل من الخير منذ فارقنا،فقال له عيسى عليه السّلام:ما فعلت من الخير أمس؟قال:ما فعلت شيئا الا إذ كنت آكل ذلك الخبز(الرغيف)فبقيت بقيّة فسألني رجل فأعطيته تلك البقية فقال جبرئيل عليه السّلام انّ اللّه تعالى قد دفع عنه ذلك البلاء بتلك الصدقة و زاد في عمره كذا سنة،و ذلك قوله سبحانه و تعالى يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ .

أقول قد مضى أمثال هذا الخبر و أنّه لا منافاة بينه و بين ما روى في باب العلم من أنّ علمه سبحانه علمان علم أستأثر به فذلك الذي يمحو منه ما يشاء و يثبت و علم علّمه ملائكته و أنبيائه فذلك الذي لا يدخله محو و لا إثبات لئلاّ يكذّب الناس أنبياء اللّه تعالى لأن مثل المحو لم يستلزم التكذيب بل أستلزم التصديق على الوجه الأبلغ أمّا لو أخبروا بأمر فوقع خلافه كان منافيا لما تقرر في باب العلم على ما لا يخفى.

و من الأخبار المروّحة للبال ما روي من أنّه كان رجل في بني إسرائيل منهمكا في المعاصي فأتى في بعض أسفاره على بئر فاذا كلب قد لهث من العطش فرق له فأخذ عمامته و شدّ بخفّه و أستقى الماء و أروى الكلب فأوحى اللّه الى نبي ذلك الزمان أنّي قد شكرت له سعيه و غفرت له ذنبه لشفقته على خلق من خلقي،فسمع ذلك فتاب من المعاصي و صار ذلك سببا لتوبته و خلاصه من العقاب.

و من الأخبار المروّحة ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال انّ للأسلام نيفا و سبعين شعبة أعلاها شهادة ان لا اله الا اللّه و أدناها إمالة الأذى عن الطريق،أقول روي في خبر أنّ رجلا مر بطريق وقع فيه

ص:49

ماء فوضع حجرا في الماء لتضع المارة رجلها عليه فلمّا جف الطريق مرّ به رجل آخر فرفعه فأوحى اللّه الى نبيّ ذلك الزمان اني قد غفرت لهما.

و من الأخبار المروّحة ما روى من قوله صلّى اللّه عليه و آله لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين،أقول روي انّ سببه هو أنّ أبا غرّة الشاعر اسر يوم بدر و جيء به الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه تصدّق بي على عيالي و أعف عني عفى اللّه عنك،فقال عليه السّلام:على أن لا تعين عليّ بيد و لا لسان فعاهد على ذلك،فلمّا عاد قومه الى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عاد معهم و كان يحرض القوم على القتال،فأسر و جيء به الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال يا رسول اللّه تصدّق بي على عيالي و أعف عنّي عفى اللّه عنك، فقال صلّى اللّه عليه و آله العفو مكرمة لا تعد لها مكرمة و لكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين،و اللّه لا تجلس بمكة و تمسح لحيتك و تقول خدعت محمّدا مرّتين يا علي قم و أضرب عنقه فقام و ضرب عنقه.

و من الأخبار ما روى أنّه ذكر عند مولانا ابي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله النظر الى وجه العالم عبادة،فقال هو العالم الذي اذا نظرت اليه ذكرك الآخرة،و من كان خلاف ذلك فالنظر اليه فتنة.

و من الآثار ما حدّثني به بعض من أثق به ان قد حفر قبر في مشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فوجد فيه لوح مكتوب فيه هذان البيتان:

بله يا قبر هل زالت محاسنها ام هل تغيّر ذاك المنظر النظر

لا(ما)أنت يا قبر لا روض و لا فلك فكيف يجمع فيك الشمس و القمر

و منها أيضا أنّ أمرأة كانت تبكي على قبر و هي بديعة الجمال فقيل لها لم تبكين على ميت تحت التراب؟فأنشدت هذين الشعرين:

فان تسئلاني عن هوى فاننّي رهينة هذا القبر يا فتياني

و إنّي لأستحييه و الترب بيننا كما كنت أستحييه و هو يراني

و من الأخبار المروّحة للخاطر ما روى من أنّه لما خلقت المرأة نظر اليها أبليس فقال:أنت سؤلي و موضع سرّي و نصف جندي و سهمي الذي أرمي به فلا أخطي و اذا أختصمت هي و زوجها في البيت فله في كلّ زاوية من زوايا البيت شيطان يصفق و يقول فرح اللّه من فرحني حتّى اذا أصطلحا خرجوا عميا يتعاوون و يقولون أذهب اللّه نور من ذهب بنورنا،و قيل أنّ عرش الرحمن ليهتزّ عند أفتراق الزوجين،و قيل أنّ فرحة أبليس اذا فرق بين المتحابّين كفرحته حين أخرج آدم من الجنّة.

ص:50

و من الأخبار ما رواه سيّدنا الأجلّ علم الهدى قدّس اللّه روحه من قوله صلّى اللّه عليه و آله انّ الميّت ليعذّب ببكاء الحيّ عليه،و في رواية أخرى انّ الميت يعذّب في قبره بالنياحة عليه،أقول أجاب عن هذا الحديث المرتضى ره قال:و الجواب اذا كنّا قد علمنا بأدلة العقل التي لا يدخلها الأحتمال و الأمتناع و المجاز قبح مؤاخذة أحد بذنب غيره و علمنا أيضا ذلك بأدلة السمع مثل قوله تعالى وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ فلا بدّ ان نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلة فالتي سئلنا عنها ان صحّت روايتها معناه انه من أوصى وصيا ان يناح عليه ففعل ذلك بأمره و عن أذنه فأنّه يعذّب بالنياحة عليه و ليس معنى يعذب بها ان يؤاخذ بفعل النياحة و انّما معناه أنّه يؤاخذ بأمره بها و وصيته بفعلها،و أنما قال النبي صلّى اللّه عليه و آله ذلك لأنّ في الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم و النوح فيأمرون و يؤكّدون الوصية بفعله،و هذا مشهور عنهم،ثمّ قال و يمكن ان يكون في قوله يعذب ببكاء أهله وجه آخر و هو ان يكون المعنى أنّ اللّه تعالى اذا أعلم ببكاء و أعزته عليه و ما لحقهم من الحزن و الهمّ تألّم بذلك فكان عذابا له و العذاب ليس بجار مجرى العقاب الذي لا يكون الاّ على ذنب متقدّم بل قد يستعمل كثيرا بحيث يشمل الألم و الضرر،أ لا ترى أنّ القائل قد يقول لمن أبتدأ بالضرر و الألم قد عذّبتني بكذا و كذا كما تقول أضررت بي و ألمتني و انّما لم يستعمل العقاب حقيقة في الألم المبتدا من حيث كان أشتقاق لفظه من العاقبة التي لا بدّ من تقدّم سبب لها و ليس هذا في العذاب انتهى و يمكن ان يوجّه بوجه ثالث و هو ان يكون المراد ما تعارف في كل الأعصار من انّهم ينوحون على الميت و يعدّدون أوصافه الجميلة عندهم مثل قتل الأقران،و صبة الغارات على المسلمين و نحو ذلك من الأوصاف التي يعذّب الميت عليها و هم ينوحون بها عليه.

و من الطرائف:ما نقله الزمخشري قال عظم على طيّ موت حاتم فأدّعى أخوه أن يخلفه، فقالت له أمّه:هيهات شتان ما بين خلقتكما وضعته فبقى سبعة أيّام لا يرضع حتّى القمت ثديي طفلا من الجيران و كنت أنت راضعا أحدهما(تأخذ الأخرخ)و آخذا الآخر بيدك فأنّى لك!.

و من الأخبار قوله صلّى اللّه عليه و آله انّ من البيان لسحرا،و هو يحتمل المدح و هو الأشهر في معناه، و الذم ايضا،امّا الأوّل فهو في أصله انّ من البيان بيانا غريبا على الأسماع يأتي عليها كالسحر، و امّا الثاني فمعناه انّ من البيان بيانا ممّوها كما ان السحر ممّوه.

و من الأخبار المروحة ما رواه الصدوق قدّس اللّه روحه بأسناده الى ابي بصير قال:سمعت الصادق عليه السّلام يحدّث عن ابيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما لأصحابه أيّكم يصوم الدهر؟فقال سلمان:أنا يا رسول اللّه،قال:فأيّكم يحيي الليل؟قال سلمان انا يا رسول اللّه،قال:

فأيّكم يختم القرآن في كلّ يوم؟فقال:سلمان انا يا رسول اللّه فغضب بعض أصحابه و هو عمر بن الخطاب فقال:يا رسول اللّه انّ سلمان رجل من الفرس يريد أنّ يفتخر علينا معاشر قريش،قلت

ص:51

أيّكم يصوم الدهر فقال:انا و هو أكثر ايّامه يأكل!و قلت ايكم يحيي الليل فقال:أنا و هو أكثر ليله نائم،و قلت ايّكم يختم القرآن في كل يوم فقال:أنا و هو أكثر ايّامه صامت،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله يا فلان أنى لك بمثل لقمان الحكيم سله فانّه ينبئك،فقال الرجل لسلمان يا ابا عبد اللّه أ ليس زعمت أنّك تصوم الدهر؟فقال:نعم فقال:رأيتك في أكثر نهارك تأكل؟فقال:ليس حيث تذهب اني أصوم الثلثة الأيام في الشهر و قال اللّه عزّ و جلّ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و اواصل شعبان بشهر رمضان فذلك صوم الدهر،فقال ا ليس زعمت انّك تحيي الليل؟فقال:نعم قال:أكثر ليلتك نائم فقال:ليس حيث تذهب و لكنّي سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول من بات على طهر فكأنّما أحيى اليل كلّه و انا أبيت على طهر فقال:أ ليس زعمت أنّك تختم القرآن في كلّ يوم؟قال:نعم، قال فأنت أكثر ايّامك صامت فقال:ليس حيث تذهب و لكني سمعت حبيبي رسول صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ عليه السّلام يا ابا الحسن مثلك في أمتي مثل قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن، و من قرأها مرّتين فقد قرأ ثلثي القرآن و من قرأها ثلاثا فقد ختم القرآن،فمن أحبّك بلسانه فقد كمل له ثلث الأيمان و من أحبّك بلسانه و قلبه فقد كمل له ثلثا الأيمان و من أحبّك بلسانه و قلبه و نصرك بيده فقد أستكمل الأيمان كلّه و الّذي بعثني بالحقّ يا علي لو أحبّك اهل الأرض كمحبة أهل السماء لما عذّب أحد بالنار،و أنا أقرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ في كل يوم ثلاث مرّات،فقام و كأنّه ألقم حجرا.

و من الأخبار ما روي عن سليمان عليه السّلام انّه قال:الغالب لهواه أشدّ من الذي يفتح البلاد وحده.و من الآثار انّ امرأة قرشيّة حلقت شعر رأسها و كانت أحسن الناس شعرا فقيل لها في ذلك؟فقالت أردت أن أغلق الباب فلمحني رجل و رأسي مكشوف فما كنت لأدع عليّ شعرا رآه من ليس بمحرم،و من الآثار أنّه نزل رجل على أخ له فشخص المنزول اليه في بعض حاجاته و قال لأمرأته يا زرقا أوصيك بضيفي هذا،فلمّا عاد بعد شهر قال لها:كيف ضيفنا قالت:ما أشغله بالعمى عن كلّ شيء و كان الضيف أطبق عينيه فلم ينظر اليها و الى المنزل الى ان عاد زوجها.

و من الأخبار ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قال كانت الفقهاء و الحكماء اذا كاتبوا بعضهم بعضا كتبوا بثلاث ليس معهنّ رابعة:من كانت الآخرة همّه كفاه اللّه همّه من الدنيا، و من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته.و من أصلح فيما بينه و بين اللّه عزّ و جلّ أصلح اللّه فيما بينه و بين الناس.

اقول قد سبرنا هذا الخبر و جرّبنا مضمونه فرأيناه كما قال عليه السّلام و ذلك انا رأينا رجالا قد أتّصفوا بالصلاح و العلم و العمل و رأينا ألسنة المؤمنين تنالهم بسوء و تهمة فتعجبنا من ظاهر

ص:52

أحوالهم و ممّا يقول الناس فيهم،و لمّا تفحصنا عن أحوالهم باطنا ظهر لنا أنّ ما قاله الناس فيهم حق واقع و لكن ما علمنا طريق أطّلاع الناس على باطن حالهم سوى ما ذكرناه سابقا في تضاعيف الأنوار من ان اللّه سبحانه يرسل ملكا بصورة رجل فيظهر باطن ذلك الرجل للناس حتّى يعرفوه بما هو عليه من الصلاح و الفساد و لكن مثل هذا لا يكون برهانا شرعيّا يستدلّ به الدليل الشرعي على ذلك الباطن،نعم ربّما اتّهم بعض الناس شخصا بريئا ما قيل فيه لكن يظهر للناس بعد حين براءته مما قيل فيه و امّا ما ورد من قولهم عليهم السّلام لا يضرّك ما يقول الناس فيك اذا كنت صالحا عند اللّه فقد عرفت انّ المراد من الناس جمهور المخالفين و هؤلاء اذا كان حال الرجل عندهم حال سوء فهو دليل على حسن حاله عند اللّه.

و من الأخبار ما روي عن الصادق قال انّ العبد لفي فسحة من امره ما بينه و بين اربعين سنة فاذا بلغ أربعين سنة أوحى اللّه عزّ و جلّ الى ملائكته انّي قد عمّرت عبدي عمرا فغلّظا و شدّدا و تحفظا و اكتبا عليه قليل عمله و كثيره و صغيره و كبيره.

اقول ما معنى هذا التشديد عليه؟و ما كان التخفيف عنه قبل الأربعين؟قلت:يجوز ان يكون ذلك التخفيف اشارة الى ما روى من انّ الملك الّذي اسمه رقيب و هو كاتب الحسنات يقول لعتيد و هو كاتب السيئات اذا فعل العبد سيئة ارتقبه لعلّه يتوب فيرتقبه سبع ساعات فان تاب و الاّ كتبها عليه فيكون هذا الأنتظار و الأرتقاب فيما قبل الأربعين.

و من الأخبار ما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال انّ قلوب بني آدم كلّها بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء،و قد ذكر سيّدنا المرتضى أعلى اللّه علاه فيه وجوها:الأول انّه قد ورد في اللغة و الشعر الفصيح اطلاق الأصبع على الأثر الحسن و معناه حينئذ انّه ما من آدميّ الاّ و قلبه بين نعمتين جليلتين حسنتين و هي نعم الآخرة لأنهما نوعان و وجه تسمية النعمة أصبعا لأنّه يشار بالأصبع الى النعمة،الثاني ما قاله ايضا او ذكر انه الأوضح و الأشبه بمذاهب العرب و هو ان يكون معناه يتيسر تصريف القلوب عليه كما يقال هذا الشيء في خنصري و تحت أصبعي و هو المراد من قوله تعالى وَ السَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ الثالث يجوز ان يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الأصبعين يحرّكه اللّه تعالى بهما و يقلّبه بهما.

اقول و يجوز ان يكون المراد بالأصبعين هنا النقطة السوداء و النقطة البيضاء اللّذان في قلب ابن آدم كما ورد في مستفيض الأخبار و انّ الأولى تتزايد بتزايد الذنوب حتّى يصير القلب كلّه أسود كما أنّ القلب بفعل أعمال البر يبيض شيئا فشيئا حتّى يصير القلب كلّه أبيض و يجوز ان يكون المراد بالأصبعين هنا او امره تعالى و نواهيه اللذين لا يكون التصديق بهما و الأذعان الاّ بالقلب فيكون أشارة الى الأوامر و النواهي و نسخهما في وقت دون آخر و يجوز أن يكون المراد

ص:53

بالأصبعين هنا اللطف و الخذلان فانّ من عمل ما يستحق به الألطاف منحه من الألطاف ما يكون هو جلّ شأنه عينه التي بها يبصر و سمعه الّذي به يسمع و قلبه الّذي به يفهم كما ورد في الحديث المشهور و من أستحقّ الخذلان بأعماله أهمله و نفسه حتّى يرد مورد المهالك.

و يجوز ان يكون المراد بالأصبعين هنا ما رويناه في هذا الكتاب من انّ على قلب كل واحد ملكا عن يمينه و شيطانا عن يساره فهذا يأمره بالخير و ذاك يأمره بالشرّ و سمى هذا أصبعا لأنّه مخلوق من مخلوقاته و هو سبحانه الّذي سلّطه على قلب بن آدم امتحانا له و ابتلاء،و يجوز ان يكون هذا الحديث أشارة الى الأسرار الألهية الّتي يفعلها سبحانه بقلب عبده من غير ان يطلعه عليها لأنّه الذي يحول بين المرء و قلبه لكن ذلك الصنع منه سبحانه لا يصل الى حدّ الألجاء و الأضطرار حتّى ينافي التكليف فيكون إشارة الى قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عرفت اللّه بفسح العزائم و نقض الهمم و تحقيق هذا يحتاج الى مقام آخر.

و من الأخبار المروّحة من الملال ما رواه الصدوق ره بأسناده الى سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاة الصبح فلمّا سلّم قال:اين ابن عمي و قاضي ديني و منجز عدتي اين عليّ بن ابي طالب؟فأجابه بالتلبية لبّيك لبّيك يا رسول اللّه قال:يا علي أ تريد أن أعرفك فضلك من اللّه تعالى؟قال:نعم يا حبيبي قال:يا علي أخرج الى صحن المسجد فاذا طلعت الشمس فسلّم عليها قال:فخرج علي عليه السّلام الى صحن المسجد فلمّا طلعت الشمس قال لها السّلام عليك ايتها الشمس؟فقالت:و عليك السّلام يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا من هو بكلّ شيء عليم قال:فضجت الصحابة قالوا:يا رسول اللّه بالأمس تقول لنا الأوّل و الآخر صفات اللّه تعالى؟!قال:نعم تلك صفات اللّه عزّ و جلّ و هو اللّه وحده لا شريك له يحيي و يميت و هو حيّ لا يموت بيده الخير و هو على كلّ شيء قدير،قالوا:فما بالنا نسمع الشمس تقول لعلي هذا فصار عليّ ربّا يعبد؟!فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله:أستغفروا اللّه ثمّ توبوا اليه اما قولها يا أوّل فهو أوّل من آمن بي و صدّقني،و امّا قولها يا آخر فهو آخر من يكسر الأصنام،و امّا قولها يا ظاهر فهو و اللّه أظهر دين اللّه بالسيف،و امّا قولها يا باطن فهو باطن بطينة علمي،و امّا قولها يا من هو بكلّ شيء عليم،فو عزّة ربي ما علّمني ربّي شيئا الاّ علّمته عليّا و انّه بطرق السماء أعرف بها من طرق الأرض،ثمّ قال يا علي أدخل و افتخر.فدخل و هو يقول:

أنا للحرب اليها و بنفسي أطليها

نعمة من خالق الخلق بها قد خصّنيها و انا حامل لواء الحمد يوما أحتويها

و انا السابق في الأسلام طفلا و وجيها و لي الفضل على الناس بفاطم و ابيها

ثمّ فخري برسول اللّه اذ زوّجنيها و اذا أنزل ربّي آية علّمنيها

ص:54

و لقد زقّني العلم لكي صرت فقيها

و من الأخبار ما رواه الصدوق بأسناده الى مولانا الحسين عليه السّلام قال كنت مع عليّ بن ابي طالب يوما على الصفا و اذا هو بدراج يدرج على وجه الأرض على الصفا فوقف مولاي بأزائه فقال:السّلام عليك أيّها الدراج،فقال الدراج:عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته يا أمير المؤمنين،فقال علي عليه السّلام ايّها الدراج،فقال الدراج:عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته يا أمير المؤمنين،فقال علي عليه السّلام ايّها الدراج ما تصنع في هذا المكان؟قال:انا في هذا المكان منذ اربعمائة عام أسبّح اللّه تعالى و اقدسه و أحمده و أعبده حقّ عبادته فقال عليه السّلام انّه لصفاء نقيّ لا مطعم فيه و لا مشرب فمن اين مطعمك و مشربك؟قال:يا مولاي و حقّ من بعث ابن عمّك نبيّا و جعلك وصيا انّي كلّما جعت دعوت اللّه عزّ و جل لشيعتك و محبّيك فأشبع،و اذا عطشت دعوت اللّه على مبغضيك فأروى.

و من الآثار ما ورد في كلام الحكماء كما أنّ الذباب يتبع.واضع الجروح و يجتنب المواضع الصحيحة كذلك الشرار يتبعون معايب الناس فيذكرونها و يدفنون المحاسن،و من الآثار ما نقله صاحب كتاب ربيع الأبرار عن الشافعي قال بينا انا أدور في طلب العلم فدخلت بلدة من بلاد اليمن فرأيت أنسانا من وسطه الى أسفله بدن أمرأة و من وسطه الى فوقه بدنان مفترقان بأربع أربع أيد و رأسين و وجهين و هما يتقاتلان و يتلاطمان و يصطلحان و يأكلان و يشربان،ثمّ غبت عنهما سنين و رجعت فسألت عنهما فقيل لي أحسن اللّه عزاك في البدن الواحد فربط من أسفله بحبل وثيق و ترك حتّى ذبل فقطع و عهدي بالجسد الآخر في السوق ذاهبا و جائيا،قال:و رأيت في اليمن شيخا كبيرا يدور على بيوت الفتيان يعلّمهن الغنا فاذا حضرت الصلاة صلّى قاعدا.

و من الأخبار ما روى عن ابي الحسن موسى عليه السّلام انّه قال لرجل من أصحابه يا فلان أتّق اللّه و قل الحق و لو كان فيه هلاكك فأنّ فيه نجاتك،يا فلان أتّق ودع الباطل و ان كان فيه نجاتك فانّ فيه هلاكك،أقول لعلّك تقول أنّ هذا بظاهره ينافي ما ورد من الأمر بالتقيّة فأنّها لا تكون الاّ في قول الحقّ مع انّه روى في الأخبار و أنعقد عليه الأجماع انّ التقية تقتضي كتمان قول الحق بما يكون فيه ضرر أقلّ من الهلاك؟قلت يمكن الجواب عن هذا بوجهين:

الأوّل انّه عليه السّلام كان عالما بأحوال ذلك الرجل و بأنّه يكتم الحقّ من غير أن يصل الى حدّ التقية فهدّده عليه السّلام بهذه المبالغات.

ص:55

الثاني و هو الأظهر انّ المراد الخوف و التوهم من الهلاك كأن يقول اذا قلت الحقّ في هذه الواقعة فلعلّ الحاكم يقتلني أو يضرّني مع انّ ذلك الحاكم لم يعتدّ قتل من قال الحق و لا إضراره، و هذا كثير في هذه الأعصار.

و من الأخبار ما رواه الصدوق بأسناده الى الصادق عليه السّلام قال أنّ داود النبي عليه السّلام قال يا ربّ أخبرني من قريني في الجنة و نظيري في منازلي؟فأوحى اللّه تعالى اليه انّ ذلك متّى ابو يونس قال:

فأستأذن اللّه في زيارته،فأذن له فخرج هو و سليمان ابنه عليهما السّلام حتى أتيا موضعه فاذا هما ببيت من سعف،فقيل لهما:موفي السوق،فسألا عنه،فقيل لهما أطلباه في الحطّابين،فسألا عنه فقال لهما جماعة من الناس نحن ننتظره الآن حتى يجيء فجلسا ينتظرانه اذ أقبل و على رأسه و قر من حطب، فقام اليه الناس قألقى عنه الحطب و حمد اللّه،و قال من يشتري طيّبا بطيّب فساومه واحد و زاده آخر حتّى باعه من بعضهم قال فسلّما عليه فقال:أنطلقا بنا الى المنزل و أشتري طعاما بما كان معه، ثمّ طحنه و عجنه في نقير له،ثمّ أجّج نارا و أوقدها ثمّ جعل العجين في تلك النار و جلس معهما يتحدّث،ثمّ قام و قد نضجت خبزته فوضعها في النقير و فلقها و ذرّ عليها ملحا و وضع على جنبه مطهرة ماء و جلس على ركبتيه و أخذ لقمة فلمّا رفعها الى فيه قال:بسم اللّه،فلمّا أزدردها قال:

الحمد للّه ثمّ فعل مثل ذلك بأخرى و أخرى،ثمّ أخذ الماء فشرب منه فذكر اسم اللّه تعالى فلمّا وضعه قال:الحمد للّه،يا ربّ من ذا الذي أنعمت عليه و أوليته مثل ما أوليتني،قد صحّحت سمعي و بصري و يدي حتّى و قوّيتني حتّى ذهبت الى شجر لم أغرسه و لم أهتم بحفظه فجعلته لي رزقا و هيأت لي من أشتراه منّي فأشتريت بثمنه طعاما لم أزرعه،و سخرت لي النار فأنضجته و جعلته(جعلتني خ)آكله بشهوة أقوى به على طاعتك،فلك الحمد،قال:ثمّ بكى فقال داود لسليمان:يا بنيّ قم فانصرف بنا فانّي لم أر عبدا قط أشكر للّه من هذا صلّى اللّه عليه و عليهما.

و من الأخبار المروّحة ما رواه الصدوق ره بأسناده الى مولانا أمير المؤمنين علي عليه السّلام قال:

أنّي قلت اللهمّ لا تحوجني الى أحد من خلقك،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا تقل هكذا فليس من أحد الاّ و هو محتاج الى الناس،قال:فقلت كيف أقول يا رسول اللّه؟قال:قل اللهمّ لا تحوجني الى شرار خلقك قلت يا رسول اللّه و من شرار خلقه؟قال الّذين اذا أعطوا منّوا و اذا منعواغ عابوا.

و من الآثار ما قاله الزمخشري في ربيع الأبرار قال:كان ببابل سبع مداين في كل مدينة أعجوبة:كان في أحديها تمثال الأرض فاذا التوى على الملك بعض أهل مملكته بخراجهم خرق أنهارها في التمثال فلا يطيقون سدّ الشقّ حتّى يعدلوا و ما لم يسدّ في التمثال لم يسدّ في ذلك البلد.

و في الثانية حوض اذا أراد الملك أن يجمعهم لطعامه أتى في كلّ واحد مما أحب من شراب فصبه في ذلك الحوض فأختلط الأشربة فكل من أراد شربه سقى منه كأنّه شرابه الّذي جاء به،و في

ص:56

الثالثة طبل اذا أرادوا ان يعلموا حال الغايب عن أهله قرعوه فان كان حيّا صوت و ان كان ميّتا لم يصوّت،و في الرابعة مرآة اذا أرادوا ان يعلموا حال الغائب ينظروا فيها فيبصروه على أيّ حالة هو عليها كأنّهم يشاهدوه،و في الخامسة أوّزة من نحاس فإذا دخل غريب صوّت صوتا يسمعه أهل المدينة،و في السادسة قاضيان جالسان على الماء فيأتي الخصمان فيمشي المحقّ على الماء حتّى يجلس مع القاضي و يرتطم المبطل،و في السابعة شجرة ضخمة اذ أجلس أحد تحتها تظلّ الى الألف فإذا زاد على الألف واحد جلسوا كلّهم في الشمس.

و من الآثار ما حكي عن بعضهم إنّه قال:رأيت ببلاد الهند شيخا كبيرا يسمّى فلان الصبور، فسألت بعضهم عن حاله،فقيل أنّه كان له حبيب في عنفوان شبابه فسافر يوما فخرج هذا الرجل الى وداعه فبكت احدى عينيه و لم تبك الأخرى،فقال لعينه:لأحرمنّك النظر الى محبوب الدنيا عقوبة لك على ما لم تساعديني على البكاء لفراق محبوبي،فمنذ ثمانين سنة غمض عينه و لم ينظر بها الى شيء.

و من الأخبار ما روي أنّ يوسف عليه السّلام كان له زوج حمام فلمّا فارق يوسف يعقوب عليه السّلام فكلّما أراد يعقوب أن يبتسم او يخاطب أحدا او يتكلم جاء الحمام و وقع بحذائه فذكّره عهد يوسف عليه السّلام فكان ينتقض عيشه.

و من الأخبار ما روي أنّ رجلين تنازعا في أرض فأنطق اللّه عزّ و جلّ لبنة في جدار تلك الأرض حتى قالت انّي كنت ملكا من ملوك الأرض ملكت الدنيا ألف سنة ثمّ متّ و صرت رميما ألف سنة فأخذني خزّاف فاتّخذ مني خزفا،فأستعملت مدّة ثمّ أنكسرت و بقيت ألف سنة خزفا ثمّ أخذني رجل و ضرب منّي لبنا فأنا في الجدار منذ كذا سنة فلم تتنازعا في هذا الأمر.

و من الأخبار ما روي انّ اللّه تعالى أوحى الى يعقوب أ تدري لم فرّقت بينك و بين يوسف كذا و كذا سنة؟لأنّك أشتريت جارية لها ولد ففرّقت بينهما بالبيع،فما لم يصل ولدها اليها لم أوصل اليك يوسف،و من الآثار ما نقله صاحب كتاب ربيع الأبرار قيل لكسرى أيّ الناس أحبّ اليك ان يكون عاقلا؟قال:عدوي قيل و كيف ذاك؟قال:لأنّه اذا كان عاقلا فأنّي منه في عافية.

و من الأخبار ما نقله الزمخشري قال:علي رضى اللّه عنه لعامل أنطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له،و تقول اذا قدمت الحي أرسلني اليكم أمير المؤمنين وليّ اللّه و خليفته لأخذ حق اللّه منكم في أموالكم فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدوه الى وليّه؟فإن قال قائل لا فلا تراجعه!و إن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه او توعده الى آخر الحديث،ثمّ قال:قلت أنظر الى

ص:57

هذا لا البون الباين و التفاوت المتباين فإنّ فيه عبرة لمعتبر و دليلا لمن أفتكر (1)هذا أمير المؤمنين و سيّد المسلمين و وصي رسول رب العالمين يأمره في الصدقة بهذه الأوامر و يكلها الى ربّ المال من غير أكراه و لا إجبار و لا إستخلاف على صحّة دعواه،و هذا ابو بكر قاتل من منعها و سفك الدماء و يبا النساء و استرق الذّرية و سمّى مانعها مرتدين،أ فاتّباع أمير المؤمنين و سيد الوصيين و ابن عمّ رسول رب العالمين،و من ثبتت عصمته،و وجبت على الأمة طاعته،و نص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمامته أولى باتّباع؟ام من حرر على نفسه الخطأ،و أستقال ما تقلّده من الأمر و أقرّ انّه يقول في الأحكام رأيه و يفتي المسلمين بأجتهاده ام يصمّم الخصم على أعتقاده في أنّ كل مجتهد مصيب و ان هذا حلّ له قتال مانع الزكاة و سمّاه كافرا و لم يخالفه أحد،و أنّ ما فعله أمير المؤمنين من ترك القتال عليها الأبل تركها على ربّها بأمانته؟و هذا تفاوت عظيم و تباين شديد يدلّ كل متأمّل على أنّ أحد هذين المجتهدين مخطىء مأثوم في فعله انتهى،فانظر كيف أجرى اللّه الحجّة على لسانه.

و من الأخبار ما روي عن ابن المكندر قال خرجت الى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمّد بن علي الباقر عليهما السّلام و كان رجلا بدينا و هو متكي على غلامين له أسودين،فقلت في نفسي شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا،لو جاءك الموت و أنت على هذا الحال؟قال فخلّى عن الغلامين من يده ثمّ تساندهما و قال لو جاءني الموت و انا في هذه الحال جائني و انا في طاعة من طاعات اللّه أكفّ بها نفسي عنك و عن الناس،فانّما كنت أخاف الموت لو جائني و أنا على معصية من معاصي اللّه،فقلت يرحمك اللّه أردت أن أعظك فوعظتني.

و من الأخبار ما روي عن محمّد بن الفضل قال لمّا كان في السنة الّتي بطش هارون بالبرامكة و قتل جعفر بن يحيى و حبس يحيى بن خالد و نزل بهم ما نزل كان ابو الحسن عليه السّلام واقفا بعرفة يدعو،ثمّ طأطأ رأسه فسأل عن ذلك؟فقال أنّي كنت أدعوا اللّه على البرامكة قد فعلوا بأبي ما فعلوا،فاستجاب اللّه لي فيهم اليوم فلمّا أنصرف لم يلبث الاّ يسيرا حتّى بطش بجعفر و حبس يحيى و تغيرت حالهم.

و من الأخبار ما روي عن سليمان الجعفري قال:كنت مع الرضا عليه السّلام في حائط و أنا أحدّثه أذا جاء عصفور فوقع بين يديه و أخذ يصيح و يكثر الصياح و يضطرب فقال أ تدري ما يقول؟قلت اللّه و رسوله و ابن عمّ رسوله أعلم قال:قد قال لي أنّ حيّة تريد أن تأكل فراخي في البيت فقم و خذ تلك النسعة و أدخل البيت و أقتل الحيّة قال فقمت و أخذت النسعة و دخلت البيت و اذا حيّة تجول في البيت فقتلتها.

ص:58


1- (3) افتكر من الامر:فكر(و هي عامية)

و من الأخبار ما أورده صاحب كتاب تاريخ نيشابور ان عليّ الرضا عليه السّلام دخل الى نيشابور في السفرة الّتي قضى له فيها بالشهادة كان في مهد بغلة شهباء عليها مركب من فضة فعرض له في الأسواق الأمامان المحدّثان ابو زرعة و محمّد بن أسلم فقالا ايّها الأمام ابن الأئمة بحقّ آبائك الطاهرين الاّ أريتنا وجهك المبارك الميمون و رويتنا حديثا عن آبائك عن جدّك فأستوقف البغلة و رفع المظلة و الناس قيام و كانوا بين صارخ و باك و ممزّق ثوبه و متمرغ في التراب و مقبّل حزام بغلته الى أن أنتصف النهار و جرت الدموع كالأنهار،فصاحت القضاة معاشر الناس أسمعوا فأملى عليه السّلام هذا الحديث و عدّ من المحابر أربع و عشرون الفا سوى الدوى،و المستملي ابو زرعة الرازي و محمّد بن أسلم فقال عليه السّلام:حدّثني ابي موسى بن جعفر الكاظم قال حدثني ابي جعفر بن محمّد الصادق قال حدثني لبي محمّد بن علي الباقر قال حدثني ابي علي بن الحسين زين العابدين قال:حدّثني ابي الحسين بن غلي شهيد كربلاء قال:حدّثني ابي علي بن ابي طالب شهيد أرض كوفة،قال:

حدثني أخي و ابن عمّي محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال حدثني جبرئيل عليه السّلام قال سمعت رب العزّة سبحانه و تعالى يقول كلمة لا اله الا اللّه حصني فمن قالها دخل حصني و من دخل حصني أمن من عذابي قال الأستاذ ابو القاسم القشيري انّ هذا الحديث بهذا السند بلغ بعض أمراء السامانيّة فكتبه بالذهب و أوصى أن يدفن معه فلمّا مات رأى في المنام فقيل له:ما فعل اللّه بك؟قال:غفر لي بتلفظي بلا اله الا اللّه و تصديقي محمّدا رسول اللّه و أنّي كتبت هذا الحديث بالذهب تعظيما و أحتراما.

و من الأخبار ما روى انّ زيد بن موسى بن جعفر عليهم السّلام خرج بالبصرة و أدّعى الى نفسه و أحرق دورا و أعيث ثمّ ظفر به و حمل الى المأمون قال زيد:لمّا دخلت على المأمون نظر اليّ ثمّ قال:اذهبوا به الى أخيه ابي الحسن علي بن موسى الرضا فتركني بين يديه ساعة واقفا،ثمّ قال:

يا يزيد سوء لك سفكت الدماء و أخفت السبيل و أخذت المال من غير حلّه غرّك حديث حمقى أهل الكوفة انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال ان فاطمة أحصنت فرجها فحرمها و ذرّيتها على النار،ان هذا لمن خرج من بطنها الحسن و الحسين فقط اما و اللّه ما نالوا ذلك الا بطاعة اللّه،و لئن أردت أن تنال بمعصية اللّه ما نالوا بطاعته انك اذا لأكرم على اللّه منهم،قال صاحب كشف الغمّة تغمده اللّه برحمته ظفر المأمون بيزيد و أنفاذه أيّاه الى أخيه و ظفر قبل هذا بمحمّد بن جعفر و عفوه عنه و قد خرجا و ادّعيا الخلافة و فعلا ما فعلا من العبث في بلاده يقوّي حجّة من ادّعى انّ المأمون لم يغدر به عليه السّلام و لا ركب منه ما أتّهم به محمّدا و زيدا لا يقاربان الرضا عليه السّلام في منزلته من اللّه سبحانه و لا من المأمون،و لم يكن له ذنب يقارب ذنوبهما بل لم يكن له ذنب أصلا فما وجه العفو هناك و الفتك هنا؟!.

ص:59

أقول وجهه انّ المأمون كان عالما بأنّ كلّ من يخرج عليه من العلويين لا يستتم أمره لعدم أنقياد الشيعة له و أن أطاعهم القليل ردّوا عنهم كما فعلوا مع زيد بن علي بن الحسين عليهما السّلام بخلاف الرضا عليه السّلام فانّه لو خرج لخرجت الشيعة و لتم الأمر بزعم المأمون و لهذه العلّة فتك الرشيد لعنه اللّه بموسى الكاظم عليه السّلام و الاّ فهو قد كان يعرف من قدره ما عرفه المأمون من قدر الرضا عليه السّلام.

و من الأخبار ما روي عن الجواد عليه السّلام سأل القاضي يحيى بن أكثم في مجلس المأمون فقال:

أخبرني عن رجل نظر الى أمرأة في أوّل النهار فكان نظره اليها حراما عليه فلمّا أرتفع النهار حلّت له.فلمّا زالت الشمس حرمت عليه فلمّا كان وقت العصر حلّت له فلمّا غربت الشمس حرمت عليه فلمّا طلع الفجر حلّت له ما حال هذه المرأة و بما ذا حلّت له و حرمت عليه؟فقال له يحيى بن اكثم لا و اللّه لا أهتدي الى جواب هذا السؤال فقال ابو جعفر عليه السّلام هذه أمة لرجل من الناس نظر اليها أجنبيّ في أوّل النهار فكان نظره اليها حراما عليه فلمّا أرتفع النهار إبتاعها من مولاها فحلّت له فلمّا كان الظهر أعتقها فحرمت عليه فلمّا كان وقت العصر تزوجها:فحلت له فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه فلمّا كان وقت العشاء الاخرة كفّر عن الظهار فحلّت له فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه فلمّا كان الصبح راجعها فحلّت له قال فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم:هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسئلة بمثل هذا الجواب؟و يعرف القول فيما تقدّم من السؤال؟قالوا لا و اللّه انّ أمير المؤمنين أعلم و ما راى،فقال لهم:و يحكم انّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل و ان صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال.

و روى الصدوق طاب ثراه بأسناده الى الصادق عليه السّلام انّ المسوخ من بني آدم ثلاثة عشر صنفا كالقردة و الخنازير و الذئب و الدبّ و الفيل،و الدعموص و الجريث و العقرب و السهيل، و الزهرة و العنكبوت،و القنفذ قال الصدوق:و الزهرة و سهيل دابتان و ليسا نجمين و لكن سمّى بهما النجمان كالحمل و الثور،قال و المسوخ جميعها لم يبق أكثر من ثلاثة أيام ثمّ ماتت و لم تتوالد و هذه الحيوانات على صورها سمّيت مسوخا استعارة،و عن الرضا عليه السّلام الفيل مسخ كل زنّاء، و الذئب كان أعرابيّا ديّوثا و الأرنب مسخ لأنّها كانت أمرأة تخون زوجها و لا تغتسل من حيضها، و الوطواط مسخ لأنّه كان يسرق تمور الناس،و القردة و الخنازير قوم من بني أسرائيل أعتدوا في السبت و الجريث و الضبّ فرقة من بني إسرائيل حين نزلت المائدتان على عيسى بن مريم عليهما السّلام لم يؤمنوا فتاهوا فوقعت فرقة في البحر و فرقة في البر و الفارة و هي الفويسقة و العقرب كانا نمّاما و الدب و الوزغ و الزنبور كان كل منهما لحاما يسرق في الميزان،و في خبر عن الرضا عليه السّلام انّ من جملتها الطاووس و الأرنب.

ص:60

و روى مرفوعا الى الأصبغ بن نباتة قالك جاء نفر الى أمير المؤمنين عليه السّلام فقالوا له:انّ المعتمد (1)يزعم انّك تقول هذا الجري مسخ قال:مكانكم حتّى أخرج اليكم فتناول ثوبه ثمّ خرج اليهم فمضى حتّى انتهى الى الفرات بالكوفة فصاح يا جرّي؟فأجابه لبّيك لبّيك قال من أنا قال أنت إمام المتقين و أمير المؤمنين،فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام فمن أنت،قال:انا ممّن عرضت عليه ولايتك فجهدتها و لم أقبلها فمسخت جريا و بعض هؤلاء الّذين معك يمسخون جريّا فقال أمير المؤمنين عليه السّلام بيّن قصّتك و ممّن كنت و مسخ معك؟قال نعم يا أمير المؤمنين كنّا أربعا و عشرين طائفة من بني إسرائيل قد تمرّدنا و طغينا و أستكبرنا و تركنا المدن لا نسكنها أبدا،و سكنا بالمفاوز رغبة منا في البعد عن المياه و أتانا آت أنت و اللّه أعرف به منّا فصرح صرخة فجمعنا في مجمع واحد و كنّا متفرقين في تلك المفاوز فقال ما لكم هربتم عن المدن و الأنهار و المياه و سكنتم هذه المفاوز؟فأردنا أن نقول لأنّا فوق العالم تعزّزا و تكبّرا فقال قد علمت ما في أنفسكم فعلى اللّه تتعززون و تتكبّرون؟فقلنا له:لا فقال:أ ليس قد أخذ عليكم العهد ان تؤمنوا بمحمّد بن عبد اللّه المكي؟فقلنا بلى،قال و قد أخذ عليكم العهد بولاية وصيّه و خليفته من بعده أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب عليه السّلام،فسكتنا فلم نجب الاّ بألسنتنا و قلوبنا و نيّاتنا لم تقبلها و لم تقرّ بها،فقال أو تقولون بألسنتكم خاصّة؟ثمّ صاح بنا صيحة و قال لنا كونوا بإذن اللّه مسوخا كلّ طائفة جنسا،ثمّ أيّتها القفار كوني بإذن اللّه أنهارا تسكنك هذه المسوخ،و أتّصلي ببحار الدنيا و بأنهارها حتّى لا يكون ماء الاّ كانوا فيه فمسخنا و نحن أربعة و عشرون طائفة فمنّا من قال أيّها المقتدر عليه بقدرة اللّه تعالى فبحقّه عليك الاّ ما أغنيتنا غمّ الماء و أجعلنا على وجه الأرض كيف شئت،قال لك فعلت قال أمير المؤمنين عليه السّلام فبيّن لنا ما كان من أجناس المسوخ البريّة و البحريّة فقال:أمّا البحريّة فنحن الجري و الزقّ،و السلاحف،و المار ماهي و الزمّار،و السرطان و كلاب الماء،و الضفادع و بنت هرص و العرصان،و الكوسح و التمساح.

قال عليه السّلام و أمّا البريّة؟قال نعم يا أمير المؤمنين الوزغ،و الكلب و الدب و القرد و الخنازير و الضبّ و الحرباء و الورل و الخنافس و الأرنب و الضبع قال أمير المؤمنين عليه السّلام صدقت ايّها الجريّ فما فيك من طبع الأنسانيّة و خلقها؟قال الجريّ أفواهنا و كلّنا نحيض،قال أمير المؤمنين عليه السّلام صدقت ايّها الجرّيّ،قال الجرّي:يا أمير المؤمنين فهل من توبة،فقال عليه السّلام:الأجل يوم القيامة و هو اليوم المعلوم و اللّه خير حافظا و هو أرحم الراحمين،قال الأصبغ فسمعنا و اللّه ما قال ذلك الجريّ و وعيناه و كتبناه و عرضناه على أمير المؤمنين عليه السّلام و كان من دلائله.

ص:61


1- (4) كذا هي النسخ.

و في خبر آخر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في جملة مسلئل الراهب اعلم انّ اللّه عزّ و جلّ مسخ خمسا و عشرين طائفة منهم الدبّ و القرد،ثمّ قال بعد تعدادها امّا الأرنب فانّه كان أمرأة لا تغتسل من الحيض و الجنابة،و امّا الدب فانّه كان رجلا مخنّثا و أمّا الغراب فانّه كان رجلا نماما و امّا ابن العرس فانّه كان يجادل في اللّه بغير علم،و امّا الخنازير فأنّهم كانوا سبعمائة رجل من النصارى و هو الّذين أكلوا على مائدة موسى عليه السّلام أربعين يوما لم يؤمنوا به فمسخهم اللّه تعالى خنازير،و امّا القردة فأنّهم كانوا خمسمائة يهودي و هم الّذين أعتدوا في السبت و أصطادوا الحيتان،و امّا العنكبوت فانّها فأنّها كانت أمرأة ساحرة سحرت زوجها فمسخها اللّه تعالى،و امّا السلحفاة فانّه كانت أمرأة كيّالة تطفف الكيل،و أمّا القنفذ فأنّه كان رجلا ينبش القبور و يأخذ أكفان الموتى،و امّا السرطان فانّه كان متزوج من أمرأتين و كان يميل الى واحدة دون الأخرى، و أمّا الثعلب فانّه كان رجلا لصّا حراميّا يسرق الحاج و امّا الزنبور فانّه كان رجلا يكذّب العلماء، و امّا سهيل فأنه كان رجلا من اليمن فهو أول من أظهر مكر السلاطين،و امّا العقرب فانّه كان رجلا بخيلا من بني إسرائيل و هو يفسد في نساء العالمين،و امّا الوزغة فإنّها كانت إمرأة حسنة و لا تمنع نفسها من الرجال،و امّا الكلب فانّه كان رجلا يشهد الزور،و امّا الفأرة فإنها كانت إمرأة تزوّجت زوجين في مكان واحد و أحدهما لا يعلم بالآخر و امّا الحية فإنّها كانت رجلا حاكما يحكم بين الناس بغير حقّ الحديث.

و من الأخبار مسندا الى الأصبغ بن نباتة قال أمسكت لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام بالركاب و هو يريد ان يركب فرفع رأسه ثمّ تبسم فقلت:يا أمير المؤمنين رأيتك رفعت رأسك و تبسمت؟قال:نعم يا أصبغ أمسكت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الشهباء فرفع رأسه الى السماء و تبسّم فقلت:يا رسول اللّه رفعت رأسك الى السماء و تبسمت؟قال:يا علي انه ليس من أحد يركب ثمّ يقرأ آية الكرسي ثمّ يقول أستغفر اللّه الّذي لا اله الاّ هو الحيّ القيوم و أتوب اليه اللّهم إغفر لي ذنوبي انّه لا يغفر الذنوب الا أنت الاّ قال السيد الكريم ملائكتي عبدي يعلم انّه لا يغفر الذنوب غيري فاشهدوا انّي غفرت له ذنوبه.

و من الأخبار ما رواه صاحب كشف الغمّة قال انّ هارون الرشيد لعنه اللّه بعث يوما الى موسى عليه السّلام على يدي ثقة له طبقا من السرقين الّذي هو على هيئة التين أراد إستخفافه فلمّا رفع الأزار عنه اذا هو من أحلى التين و أطيبه فاكل منه و أطعم الحامل منه و ردّ بعضه الى هارون،فلمّا تناوله هارون صار سرقينا في فيه و كان في يده تينا جنيا.

و من الأخبار ما روي انّ المأمون عليه اللعنة لمّا جعل الرضا وليّ العهد كره ذلك جماعة من حاشية المأمون خوفا من خروج الملك من بني العباس الى بني فاطمة فحصل لهم من الرضا عليه السّلام

ص:62

نفور و اتّفقوا على انّه اذا جاء الى المأمون لا يرفعون له الستر أيضا،فأزدادوا فيه عقيدة و رجعوا الى خدمته.

و من الأخبار قوله صلّى اللّه عليه و آله لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسّه النار الا تحلّه القسم،و في حلّه وجوه:الأول انّ العرب اذا أرادوا تقليل مكث الشيء و تقصير مدّته شبهوه بتحليل القسم، و ذلك ان يقول الرجل بعد حلفه ان شاء اللّه تعالى فيقولون ما يقيم فلان عندنا الاّ تحله القسم، و معنا لا تمسه النار الا قليلا،الثاني ما قال بعضهم من أنّ الاّ زائدة دخلت للتوكيد و تحلّه القسم منصوب على الوقت و الزمان و معناه فتمسه النار وقت تحلّة القسم الثالث و هو الأظهر أنّ القسم اشارة الى قوله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا كٰانَ عَلىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا فمعناه انه لا يرد النار الاّ بقدر ما يبر اللّه به قسمه.

و من الأخبار الرقيقة المروحة خبر شقيق البلخي قال:خرجت حاجا في سنة تسع و اربعين و مأة فنزلت القادسية،فبينا أنا أنظر الى الناس في زينتهم و كثرتهم فنظرت الى فتى حسن الوجه فوق ثيابه ثياب من صوف مشتمل بشملة في رجليه نعلان و قد جلس منفردا،فقلت في نفسي هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلاّ على الناس في طريقهم و اللّه لأمضيّن اليه و لأوبخنه فدنوت منه،فلمّا رآني مقبلا قال:يا شقيق أجتنبوا كثيرا من الظنّ انّ بعض الظنّ إثم،ثمّ تركني و مضى فقلت في نفسي انّ هذا الأمر عظيم قد تكلّم بما في نفسي و تكلّم بإسمي و ما هذا الاّ عبد صالح لألحقنّه و لأسألنّه ان(يحلّني خ)يحالنيّ،فأسرعت في أثره فلم ألحقه و غاب عن عيني فلمّا نزلنا راقصة فاذا هو به يصلي و أعضاؤه تضطرب و دموعه تجري،فقلت هذا صاحبي أمضي اليه و أستحلّه،فصبرت حتّى جلس و أقبلت نحوه،فلمّا رآني مقبلا قال:يا شقيق أتل وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اهْتَدىٰ ثمّ تركني و مضى فقلت انّ هذا الفتى لمن الأبدال لقد تكلّم على سرّي مرتين،فلمّا نزلنا زبالة اذا بالفتى قائم على البئر و بيده ركوة يريد أن يستقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر و انا أنظر اليه فرأيته قد رمق السماء و سمعته يقول شعرا:

أنت ربي اذا ظمئت من الماء و قوتي اذا أردت الطعاما

اللّهم سيّدي مالي غيرها فلا تعدمنيها،قال شقيق فو اللّه لقد رأيت البئر و قد إرتفع ماؤها فمدّ يده و أخذ الركوة و ملأها ماء فتوضأ و صلّى أربع ركعات ثمّ مال اليّ كثيب رمل فجعل يقبض بيده و يطرحه في الركوة و يحرّكه و يشرب،فأقبلت اليه و سلّمت عليه فردّ عليّ السّلام فقلت أطعمني من فضل ما أنعم اللّه عليك فقال يا شقيق لم تزل نعمة اللّه علينا ظاهرة و باطنة فأحسن ظنّك بربك،ثمّ ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق و سكّر فو اللّه ما شربت قطّ ألذّ منه و لا أطيب ريحا فشبعت و رويت و أقمت أياما لا أشتهي طعاما و لا شرابا ثمّ لم أره حتّى دخلنا مكة

ص:63

فرأيته ليلة الى جنب قبّة الشراب في نصف الليل قائما يصلّي بخشوع و أنين و بكاء فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل فلما رأى الفجر جلس في مصلاّه يسبح،ثمّ قام فصلّى الغداة و طاف بالبيت إسبوعا و خرج فتبعته و إذا له غاشية و موال و هو على خلاف ما رأيته في الطريق،و دار به الناس من حوله يسلّمون عليه،فقلت لبعض من رأيته يقرب من هذا الفتى؟فقال:هذا موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن ابي طالب عليهم السّلام،فقلت قد عجبت ان تكون هذه العجائب الاّ لمثل هذا السيّد و قد نظمه الشاعر:

شقيق البلخى عنه و ما شاهد منه و ما الّذي كان أبصر

قال لمّا حججت عاينت شخصا شاحب اللون ناحل الجسم أسمر

سائرا وحده و ليس له زاد فما زلت دائما أتفكّر

و توهمت انّه يسأل الناس و لم أدر أنّه الحجّ الأكبر

ثمّ عاينته و نحن نزول دون فيد (1)على الكثيب الأحمر

يضع الرمل في الأناء و يشربه فناديته و عقلي محيّر

إسقني شربة فناولني منه فعاينته سويقا و سكر

فسألت الحجيج من يك هذا قيل هذا الأمام موسى بن جعفر

و من الآثار انّه كان حكيم من حكماء اليونان قد ترك الدنيا فقيل له:لم لا تتخذ بيتا؟فقال:

لي بيت اوسع من كلّ البيوت،السماء سقفه،و الأرض سطحه فقيل له:لم لا تتخذ امرأة لعلّه يولد لك ولد يواريك في حفرتك؟فقال:إذا متّ فكلّ من يتأذى بجيفتي يدفنني،فقيل له:و لم سمّيت كلباغورس؟فقال:لأنّ صفة الكلب فيّ لأني أدور حول الصديق و أنهش العدو.

و في المحاضرات أنّه قيل لرجل من أبعد الناس سفرا؟قال من كان سفره في طلب أخ صالح، و سمع المأمون ابا العتاهية ينشد:

و إني لمحتاج الى ظلّ صاحب يرقّ و يصفو إن كدرت عليه

فقال:خذ مني الخلافة و أعطني هذا الصاحب،قيل لفيلسوف ما الصديق؟فقال:اسم على غير معنى حيوان غير موجود.

ص:64


1- (5) (فيد)منزل بطريق مكة

و من الأخبار ما رواه الصدوق طاب ثراه مسندا الى عبد السّلام بن صالح قال:قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام يا ابن رسول اللّه ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السّلام اذا خرج القائم عليه السّلام قتل ذراري الحسين عليه السّلام بفعال آبائهم؟فقال عليه السّلام:هو كذلك،قلت فقول اللّه عزّ و جلّ وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ ما معناه؟قال:صدق اللّه في جميع أقواله و لكن ذراري قتلة الحسين يرضون بأفعال آبائهم و يفتخرون بها و من رضى شيئا كان كمن أتاه و لو أنّ رجلا قتل بالمشرق فرضى بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه عزّ و جلّ شريك القاتل،و انّما يقتلهم القائم عليه السّلام منكم اذا قام؟قال يبدأ ببني شيبة فيقطع أيديهم لأنّهم سراق بيت اللّه عزّ و جلّ.

اقول هذا الحديث مشكل و هو عامّ البلوى و ذلك أنّ مدار الناس على انّهم اذا سمعوا ظالما قتل رجلا او أخذ ماله او ضربه أستحسنوه،و قالوا:إنّه يستحق ما صنع به فعلى ما في هذا الحديث يكون من رضى بفعل ذلك الحاكم او غيره من الظالمين شريكه في الأثم و العدوان.

و من الأخبار ما رواه الصدوق عن الصادق عليه السّلام انّه قيل له أخبرنا عن الطاعون فقال لهم عذاب جهنّم عذاب اللّه لقوم و رحمته لآخرين،قالوا:كيف تكون الرحمة عذابا؟قال اما تعرفون انّ نيران جهنّم عذاب على الكفّار و خزنة جهنّم معهم و هي رحمة عليهم،أقول لعلّ المراد انّ الطاعون هو من نقمات اللّه سبحانه و مؤاخذته للعاصين و الحال أنّه يعمّ العاصي و غيره فأوضحه عليه السّلام بأنّه محمود العاقبة بالنسبة الى غير العصاة،و ذلك أنّه يزيد في درجاتهم و يوفر حظوظهم من الثواب.

و من الأخبار ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال خير الصدقة ما أبقت غني و اليد العاملة خير من اليد السفلى،و أبدأ بمن تعول امّا قوله صلّى اللّه عليه و آله خير الصدقة ما أبقت غني فالظاهر انّ المراد به الحث على العطية الوافرة و ذكر سيّدنا المرتضى طاب ثراه معنى آخر و هو أنّ خير الصدقة ما تصدقت به من فضل قوتك و قوت عيالك فاذا خرجت صدقتك خرجت على أستغناء منك، و يؤيّده الحديث الآخر انّما الصدقة عن ظهر غنى،و امّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و اليد العيا خير من اليد السفلى فقال:قوم يريد انّ اليد المعطية خير من اليد الآخذة و قال آخرون انّ العليا هي الآخذة و السفلى هي المعطية قال ابن قتيبة و لا أرى هؤلاء الاّ قوما أستطابوا السؤال فهم يحتجّون للدناءة،و قال سيّدنا المرتضى طاب ثراه انّ اليد هيهنا هي العطية و النعمة فكأنّه عليه السّلام اراد ان العطية الجزيلة خير من العطية القليلة،اقول و هذا معنى قوي و ان كان المتبادر هو الأوّل.

و في كتاب المناقب من روايات الجمهور ما رووه عن عبد اللّه بن عمر قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سأل بأيّ لغة خاطبك ربّك ليلة المعراج؟فقال:خاطبني بلغة عليّ بن ابي طالب فألهمني ان قلت يا رب انت خاطبتني ام علي؟فقال:يا أحمد انا شيء و ليس كالأشياء ول أقاس

ص:65

بالناس و لا أوصف بالأشياء،خلقتك من نوري و خلقت عليا من نورك فاطّلعت على سرائر قلبك فلم أجد الى قلبك أحبّ من علي بن ابي طالب فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك،و عن الحسن عليه السّلام انّه قال لرجل كيف طلبك للدنيا؟قال:شديد قال فهل أدركت منها ما تريد؟قال:لا قال فهذه الّتي تطلبها لم تدرك فكيف بالّي لم تطلبها.

و من الأخبار ما رواه الجمهور عن مجاهد قال:قال لي علي عليه السّلام جعت يوما بالمدينة جوعا شديدا فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة فاذا انا بأمرأة قد جمعت مدرا (1)و ظننتها تريد بلّه، فأتيتها فقاطعتها كلّ ذنوب (2)على تمرة،فمددت ستّة عشر ذنوبا حتّى مجلت يداي،ثمّ أتيت الماء فأصبت منه،ثمّ أتيتها فقلت:يكفي هكذا بين يديها و بسط الراوي كفيه و جمعهما فعدّت لي ستّ عشرة تمرة فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته و أكل معي.

و من الأخبار المروحة ما روي عن علي بن الحسين بن شابور قال:قحط الناس بسرّ من رأى في زمن ابي الحسن الأخير فأمر المتوكل بالخروج الى الأستسقاء فخرجوا ثلاثة أيّام يستسقون و يدعون فما سقوا فخرج الجاثليق في اليوم الرابع و الرهبان معه و النصارى الى الصحراء فخرج معه راهب فلمّا مد يده هطلت السماء بالمطر و خرجوا في اليوم الثاني فهطلت السماء،فشكّ أكثر الناس و تعجّبوا و صبوا الى دين النصرانيّة،فأنفذ المتوكل الى ابي الحسن عليه السّلام و كان محبوسا فأخرجه من حبسه و قال ألحق امّة جدك فقد هلكت،فقال:إني خارج من الغد و مزيل الشكّ ان شاء اللّه،فخرج الجاثليق في اليوم الثالث و الرهبان معه و خرج ابو الحسن عليه السّلام في نفر من أصحابه فلمّا بصر بالراهب و قد مدّ يده أمر بعض مماليكه ان يقبض على يده اليمنى و يأخذ ما بين أصبعيه ففعل و أخذ منه عظما أسود،فأخذه ابو الحسن عليه السّلام بيده و قال أستسق الآن فاستسقى و كانت السماء مغيمة فتشققّت و طلعت الشمس بيضاء فقال المتوكل ما هذا العظم يا ابا محمّد؟فقال عليه السّلام:

هذا الرجل عبر بقبر نبيّ من انبياء اللّه فوقع في يده هذا العظم و ما كشف عن عظم نبيّ الاّ هطلت بالمطر.

و من الأخبار المروحة ما روي عن صالح بن سعيد قال دخلت على ابي الحسن عليه السّلام يوم وروده سر من رأى فقلت له جعلت فداك في كلّ الأمور أرادوا أطفاء نورك حتّى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك؟فقال:هيهنا أنت يا ابن سعيد ثمّ أومى بيده فاذا بروضات أنيقات و أنهار جاريات و جنات فيها خيرات عطرات و ولدان كأنّهم اللؤلؤ المكنون،فحار بصري و كثر عجبي،فقال لي:حيث كنّا فهذا لنا يا ابن سعيد لنا في خان الصعاليك.

ص:66


1- (6) المدر قطع الطين
2- (7) الذنوب الدلو العظيم

و من الخبار ما روي انّ هبة اللّه بن ابي منصور الموصلي قال:كان بديار ربيعة كاتب نصراني يسمّى يوسف بن يعقوب،و كان بينه و بين والدي صداقة،قال فوافانا فنزل عند والدي فقال له والدي فيم قدمت في هذا الوقت؟قال دعيت الى حضرة المتوكل و لا أدري ما يراد منّي الاّ انّي اشتريت نفسي من اللّه بمائة دينار و قد حملتها لعلي بن محمّد بن الرضا عليه السّلام،فقال له والدي قد وفّقت في هذا و خرج الى حضرة المتوكل و جائنا بعد ايّام قلائل فرحا مستبشرا،فقال له والدي:

حدّثني حديثك،قال:صرت الى سرّ من رأى و ما دخلتها قطّ فنزلت في دار و قلت يجب ان نوصل المائة دينار الى ابن الرضا قبل مصيري الى باب المتوكل وقب ان يعرف أحد قدومي، و عرفت أنّ المتوكل قد منعه من الركوب و انّه ملازم لداره،فقلت كيف أصنع رجل نصراني أسأل عن دار الرضا أخاف أن يكون زيادة فيما أخاف،قال:ففكرت ساعة في ذلك فوقع في قلبي أن أركب و أخرج في البلد فلا أمنعه حيث يذهب لعلّي أعرف داره من غير أن أسأل أحدا،فجعلت الدنانير في كاغد و جعلتها في كمّي و ركبت فكان الحمار يتخرّق بي الشوارع و الأسواق يمرّ حيث يشاء الى ان صرت الى باب دار فوقف الحمار فجهدت ان يزول فلم يزل.فقلت للغلام سل لمن هذه الدار فسأل فقيل دار ابن الرضا،فقلت اللّه أكبر دلالة و اللّه مقنعة،قال:فاذا خادم أسود قد خرج فقال:أنت يوسف بن يعقوب،قلت نعم فقال:أنزل فاقعد في الدهليز،و دخل فقلت:هذه دلالة أخرى من أين عرف أسمي و اسم ابي و ليس في البلد من يعرفني و لا دخلته قطّ فخرج الخادم فقال المائة دينار التي في كمّك في الكاغد هاتها،فناولته ايّاها و قلت هذه ثالثة فرجع فقال:ادخل فدخلت و هو وحده فقال لي:يا يوسف ما بان لك؟فقلت يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن أكتفى فقال هيهات انّك لا تسلم و لكن يسلم ولدك فلان و هو من شيعتنا،يا يوسف انّ أقواما يزعمون انّ ولايتنا لا تنفع أمثالك كذبوا و اللّه انّها لتنفع إمض فيما وافيت له فانّك سترى ما تحبّ،فمضيت الى باب المتوكل فنلت كل ما أردت و أنصرفت،قال هبة اللّه:فلقيت أبنه و هو بعد هذا مسلم حسن التشيع،فأخبرني أنّ اباه مات على النصرانيّة و انّه أسلم بعد موت أبيه و كان يقول انا ببشارة مولاي عليه السّلام.

مسألة قوله تعالى وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اللّٰهِ ،قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن أدريس قاعدة لو أنّها اذا دخلت على ثبوتيين كانا منفيين او منفيين كانا ثبوتيين او نفى و ثبوت فالنفي ثبوت و الثبوت نفي و بالعكس،و اذا تقررت هذه القاعدة فيلزمك ان يكون كلمات اللّه قد نفدت و ليس كذلك.و نظير هذه الآية قول النبي صلّى اللّه عليه و آله نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه يقتضي أنّه خاف و عصى مع الخوف و هو

ص:67

أقبح و ذكر الفضلاء في الحديث وجوها امّا الآية فلم أر لأحد فيها و يمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير انّي ظهر لي جواب عن الحديث و الآية جميعا سأذكره.

قال ابن عصفور لو في الحديث بمعنى ان لمطلق الشرط و ان لا يكون كذلك،و قال شمس الدين الخسر و شاهى لو في أصل اللغة لمطلق الربط و انّما أشتهرت في العرف بما ذكروا الحديث انما ورد المعنى اللغوي لها،و قال الشيخ عز الدين الشيء الواحد يكون له سببان فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه و كذلك هيهنا الناس في الغالب انّما لم يعصوا لأجل الخوف فاذا ذهب الخوف عصوا فأخبر صلّى اللّه عليه و آله انّ صهيبا أجتمع له سببان يمنعانه عن المعصية الخوف و الأجلال.

و أجاب غيرهم بأنّ الجواب محذوف تقديره لو لم يخف اللّه عصاه،و الذي ظهر لي انّ لواصلها ان تستعمل للربط بين شيئين كما تقدّم ثمّ انّها ايضا تستعمل لقطع الربط تقول لو لم يكن زيد عالما لأكرمه أي لشجاعته جواب لسؤال سائل يقول انّه اذا لم يكن عالما لم يكن ربط بين عدم العلم و الاكرام فتقطع أنت ذلك الربط و ليس مقصودك ان تربط بين عدم العلم و الأكرام لأنّ ذلك ليس بمناسب و كذلك الحديث،و كذلك الآية لمّا كان الغالب على الناس ان يرتبط عدم عصيانهم بخوف اللّه تعالى فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك الربط و قال لو لم يخف اللّه لم يعصه و لمّا كان الغالب على الأوهام انّ الأشجار كلّها اذا صارت أقلاما و البحر مدادا مع غيره يكتب به الجميع فيقول الوهم ما يكتب بهذا شيء الاّ نفد فقطع اللّه تعالى هذا الربط و قال ما نفدت أنتهى.

و من الأخبار ما روي انّ المتوكل عرض عسكره على علي الهادي عليه السّلام و أمر انّ كل فارس يملأ مخلاة فرسه طينا و يطرحونه في موضع واحد فصار كالجبل و اسمه تلّ المخالي و صعد هو و ابو الحسن عليه السّلام و قال انّما طلبتك لتشاهد خيولي،و كانوا قد لبسوا التخافيف (1)و حملوا السلاح و قد عرضوا بأحسن زينة،و أتمّ عدّة و أعظم هيئة،و كان غرضه كسر قلب من يخرج عليه،و كان يخاف من ابي الحسن عليه السّلام ان يأمر أحدا من أهل بيته بالخروج،فقال له ابو الحسن عليه السّلام فهلا أعرض عليك عسكري؟قال:نعم فدعى اللّه سبحانه فاذا بين السماء و الأرض من المشرق الى المغرب ملائكة مدحجون،فغشى على الخليفة فلمّا أفاق قال له ابو الحسين عليه السّلام نحن لا ننافسكم في الدنيا فانّا مشغولون بلآخرة فلا عليك شيء ممّا تظنّ.

و من الآثار ما روي انّه قال:مررت بصومعة راهب من رهبان الصين فناديته يا راهب فلم يجبني،فناديته الثانية فلم يجبني،فناديته الثالثة فأشرف عليّ قال يا هذا ما انا براهب انّما الراهب من رهب اللّه في سمائه،و عظّمه في كبريائه و صبر على بلائه و حمده على نعمائه،و تواضع لنعمته،

ص:68


1- (8) أي لباس الخوف

و ذل لعزته و استسلم لقدرته،و خضع لمهابته،و فكّر في حسابه و عقوبته فنهاره صائم و ليله قائم قد أسهره ذكر النار و مسئلة الجبّار،فذلك هو الراهب و امّا انا فكلب عقور حسبت نفسي في هذه الصومعة عن الناس لئلا أعقرهم،فقلت يا راهب فما الذي قطع الخلق عن اللّه عزّ و جلّ بعد اذ عرفوه؟فقال يا أخي لم يقطع الخلق عن اللّه الا حب الدنيا و زينتها لأنّها محل المعاصي و الذنوب، و العاقل من رمى بها على قلبه و تاب الى اللّه من ذنبه و أقبل على ما يقربه من ربّه.

و من السير ما كتبه العلاّمة المحقّق الطوسي الى صاحب حلب بعد فتح بغداد امّا بعد فقد نزلنا بغداد سنة خمس و خمسين و ستمائة فساء صباح المنذرين فدعونا ملكها الى طاعتنا فأبى فحق عليه القول فأخذناه أخذا و بيلا.و قد دعوناك الى طاعتنا فان أتيت فروح و ريحان و جنّة نعيم،و ان أبيت فلا سلطان منك عليك فلا تكن كالباحث عن حتفه بظلفه و الجادع مارن أنفه بكفّه و السّلام.

و من الآثار ما نقله الشيخ الورام تغمّده اللّه برحمته قال:انّ قوما كانوا مسافرين فحادوا عن الطريق فانتهوا الى راهب منفرد عن الناس،فسألوه فأشرف عليهم من صومعته فقالوا يا راهب انّا أخطأنا الطريق فكيف الطريق؟فأومأ برأسه الى السماء فعلم القوم ما أراد فقالوا انّا سائلوك فهل أنت مجيبنا؟فقال:أسألوا و لا تكثروا فانّ النهار لا يرجع،و انّ العمر لا يعود، و الطالب حثيث،فعجب القوم من كلامه فقالوا يا راهب علام الخلق غدا عند مليكهم؟فقال:

على نياتهم فقالوا:أوصينا،قال:تزودّوا على قدر سفركم فانّ خير الزاد ما بلغ البغية ثمّ ارشدهم الطريق و أدخل رأسه في صومعته.

و من الأخبار ما رواه الصدوق عن الباقر عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اربع لا يدخل بيتا واحدة منهنّ الأحزب و لم تعمده البركة:الخيانة و السرقة و شرب الخمر و الزنا،و روي أيضا بأسناده الى يحيى بن العلا قال:سمعت ابا جعفر عليه السّلام يقول خرج علي بن الحسين عليهما السّلام الى مكّة حاجّا حتّى انتهى الى واد بين مكّة و المدينة فاذا هو برجل يقطع الطريق،فقال له:علي بن الحسين عليهما السّلام ما ذا تريد،قال:أريد أن أقتلك و أخذ ما معك،قال:فأنا أقاسمك ما معي و أحاللك،فقال اللص:لا أفعل قال دع ممّا معي ما أبتلغ به فأبى عليه قال:فأين ربّك؟قال نائم قال:فاذا أسدان مقبلان بين يديه فأخذ هذا برأسه و هذا برجليه،قال:فقال زعمت انّ ربّك نائم.

و من الأخبار ما روي عن مولانا الباقر عليه السّلام قال أوصاني أبي فقال يا بنيّ فقال:يا بنيّ لا تصحبن خمسة و لا تحادثهم و لا ترافقهم في طريق،فقلت جعلت فداك يا ابه من هؤلاء الخمسة؟ فقال:لا تصحبّن فاسقا فانّه يبيعك بأكلة فما دونها فقلت يا أبه فما دونها؟قال يطمع فيها ثمّ لا ينالها،قال:قلت يا أبه و من الثاني؟قال:لا تصحبن البخيل فانّه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت اليه قال:فقلت و من الثالث قال لا تصحبنّ كذّابا فانّه بمنزلة السراب يبعد منك القريب و يقرب

ص:69

منك البعيد،قلت و من الرابع قال لا تصحبنّ أحمقا فأنّه يريد أن ينفعك فيضرك قلت يا ابه من الخامس قال:لا تصحبنّ قاطع رحم فانّي وجدته ملعونا في كتاب اللّه في ثلاثة مواضع.

و من الأخبار ما روي انّ علي بن الحسين دعا مملوكا مرتين فلم يجبه و أجابه في الثالثة فقال له:يا بني أما سمعت صوتي؟قال:بلى قال:فما لك لم تجبني؟قال أمنتك قال:الحمد للّه الّذي جعل مملوكي يأمنني،و كان بالمدينة كذا و كذا أهل بيت يأتيهم رزقهم و ما يحتاجون اليه، و لا يدرون من أين يأتيهم،فلمّا مات عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقدوا ذلك.

و من الأخبار ما روي عن الصادق عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قال سبحان اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة،و من قال الحمد للّه غرس له بها شجرة في الجنّة و من قال لا اله الا اللّه غرس له بها شجرة في الجنّة،و من قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنة فقال رجل من قريش و هو ابو بكر يا رسول اللّه انّ شجرنا في الجنّة لكثير؟قال بلى و لكن ايّاكم ان ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها و ذلك انّ اللّه عزّ و جلّ يقول يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ .

و من الأخبار ما روي عن الصادق عليه السّلام قال سأل الحسين بن علي عليهما السّلام فقيل له كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟قال:أصبحت و لي ربّ فوقي و النار أمامي،و الموت يطلبني و الحساب محدق بي و انا مرتهن بعملي لا أجد ما أحبّ و لا أدفع ما أكره و الأمور بيد غيري فان شاء عذّبني و ان شاء عفى عني فاي فقير أفقر منّي.

و قيل لعلي بن الحسين عليهما السّلام كيف أصبحت يا أبن رسول اللّه فقال:أصبحت مطلوبا بثمان:

اللّه تعالى يطلبني بالفرائض و النبي بالسنّة و العيال بالقوت،و النفس بالشهوة و الشيطان بالمعصية و الحافظان بصدق العمل و ملك الموت بالروح،و القبر بالجسد فأنا بين هذه الخصال مظوم.

و قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام كيف أصبحت قال:كيف يصبح من كان للّه عليه حافظان،و علم انّ خطاه مكتوبات في الديوان ان لم يرحمه ربّه فمرجعه الى النيران قال جابر الأنصاري دخلت علي أمير المؤمنين عليه السّلام يوما فقلت:كيف أصبحت يا أمير المؤمنين قال آكل رزقي قال جابر ما تقول في دار الدنيا؟قال ما تقول في دار اولها غمّ و آخرها الموت،قال:فمن أغبط الناس قال جسد تحت التراب أمن العقاب و يرجو الثواب.

و قيل لسلمان الفارسي كيف أصبحت؟قال:كيف أصبح من كان الموت غايته و القبر منزله،و الديدان جواره و ان لم يغفر له فالنار مسكنه و قيل لحذيفة كيف أصبحت؟قال:كيف أصبح من كان أسمه عبدا و يدفن غدا في القبر واحدا و يحشر بين يدي اللّه تعالى واحدا.

ص:70

و قيل للصادق عليه السّلام انّ رجلا رأى ربّه عزّ و جلّ في منامه فما يكون ذلك قال:ذاك رجل لا دين له انّ اللّه تعالى لا يرى في اليقظة و لا في المنام و لا في الدنيا و لا في الآخرة و قال عليه السّلام وقع بين سلمان الفارسي و بين رجل و هو عمر بن الخطاب كلام و خصومة فقال له رجل:من أنت يا سلمان؟فقال سلمان امّا أوّلى و أولك فنطفة قذرة و امّا آخري و آخرك فجيفة منتنة،فاذا كان يوم القيامة و وضعت الموازين فمن ثقلت موازينه فهو اللئيم،و الأخبار النادرة كثيرة لو أستقصيناها لطال الكتاب.

نور في المزاح و المطايبات و بعض الهزل و بعض المضحكات

و بعض الأجوبة المسكتة و ما ناسب هذا

اعلم ارشدك اللّه تعالى انّ الأرواح قد تكل من مطالعة العلوم و إدراكها فتحتاج الى التروّح تارة بالحكم العلميّة الرقيقة و تارة بالنزول الى عالم البشر و سلوك مسالكهم و ذلك لأنّ ادراكات العلوم لذات الروح و غذاؤها و اللذة اذا دامت على خلاف العادة يحصل منها الملال كالأطعمة الحسنة بالنسبة الى طبيعة البدن من ان تفرحها و تمرحها حتّى يحصل لها نشاط جديد و مزيد أقبال على المطالعات و الأدراكات و في حكمة آل داود حقّ على العاقل ان لا يغفل عن اربع ساعات فساعة فيها يناجي ربّه،و ساعة يحاسب نفسه،و ساعة يفضي الى أخوانه الّذين يصدقونه عن عيوب نفسه و ساعة يخلى بين نفسه و لذاتها فيهما يحلّ و يحمد،فانّ في هذه الساعة عونا لتلك الساعات و أجماما (1)للقلوب،و في رواية انّ هذه النفوس تملّ و هذه القلوب تدثر فأبتغوا لها طرائف الحكم و ملاهيا.

و عن ابن عبّاس انّه كان يقول عند ملله من دراسة العلم حمضوا(خوضوا)فيخوضون عند ذلك في الأخبار و الأشعار،فامّا المزاح و المطايبات فهو ممّا وردت الشريعة بأستحبابه و الأمر به سيما في السفر،و لكن ينبغي ان ينتهي الى قول الكذب و الى غضب الرفقاء،و قد روى انّ المؤمن هو الّذي يكون فرحه في وجهه و حزنه في قلبه،و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يمزح يمزح أحيانا و كذلك الأئمّة عليهم السّلام و العلماء و الصلحاء و الأتقياء،فقد روى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يأكل تمرا مع علي عليه السّلام و كان يضع النوى قدّام علي عليه السّلام فلمّا فرغا قال:يا علي هذا النوى كلّه أمامك انّك لأكول،فقال يا رسول اللّه الأكول الّذي يأكل التمر و نواه يعني به النبي صلّى اللّه عليه و آله لأنّه لم يكن عنده نوى التمر، و مزاحه مع العجوز مشهور.

ص:71


1- (9) الجمام بالفتح الراحة

و روى انّه كان يجيء احيانا الى خواص أصحابه من ورائهم فيحتضنهم و يضع يديه على أعينهم حتّى يعرفوه من هو الى غير ذلك من الأخبار،و قد خطر بخاطر معاوية لعنه اللّه تعالى ان يداعب عقيل بن اب طالب و كان عقيل حاضر الجواب فقال له:يا عقيل اين ترى عمّك ابا لهب في النار؟قال:اذا دخلتها على يسار الداخل مفترشا عمّتك حمّالة الحطب فانظر أيهما أسوء حالا الناكح او المنكوح،و إمرأة ابي لهب هي امّ جميل بنت حرب بن اميّة عمّة معاوية.

و روى انّه سمع بعض العلماء رجلا يقول اين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟فقال له:يا هذا إقلب الكلام وضع يدك على من شئت،و من هذا القبيل ما وقع بين مؤمن الطاق و ابي حنيفة و ذلك انّ ابا حنيفة كان يوما جالسا عند مؤمن الطاق و اذا رجل يصيح من رأى لي الشابّ الضالّ؟فقال له مؤمن الطاق امّا الشاب الضال فلم نره و لكن رأينا الشايب المضل و هو هذا و أشار الى ابي حنيفة.

و روى أيضا أنّ ابا حنيفة قال له:مؤمن الطاق أعطني ضامنا أنّك ترجع بصورتك هذه و لعلك ترجع بصورة كلب او خنزير او قرد فكيف أعطيك من غير ضامن،و أجتمع بعض الأعراب مع أمرأة فلمّا قعد منها مقعد الرجل من المرأة ذكر معاده فأستعصم و قام عنها،و قال انّ من باع جنّة عرضها السماوات و الأرض بمقدار فتر بين رجليك لقليل معرفة بالمساحة.

و في المحاضرات انّه رأى مخنّث زنجيّا يفجر بروميّة،فقيل لهك ما يفعل ذلك؟قال يولج الليل في النهار.و فيها أيضا انّه نظر الحسن الى ذي زيّ حسن فسأل عنه فقيل هو ضارط يكسب بذلك المال،فقال ما طلب أحد الدنيا بما تستحقه سواه،قيل لضرّاط لا تضرط فالضراط شؤم قال فالشؤم جدير ان أخرجه من بطني و لا أحمله معي.

و من المحاضرات قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة بمن أقتديت في جواز المتعة؟قال بعمر بن الخطّاب،فقال:كيف هذا و عمر كان أشدّ الناس انكارا فيها؟قال:لأنّ الخبر الصحيح قد أتى انّه صعد المنبر فقال انّ اللّه و رسوله أحلا لكم متعتين و انّي أحرمهما عليكم و أعاقب عليهما،فقبلنا شهادته و لم نقبل تحريمه.

و عاتب الصاحب يوما رجلا زوّج أمّه،فقال:ما في الحلال بأسا،فقال كذا أحبّ ان يكون لغة لغة من اشتهى ان تنال أمّه،و قيل لأبن سيابة قد كرهت أمرأتك شيبك فمالت عنك،فقال انّما مالت الى الأبدال لقلّة المال،و اللّه لو كنت في سن نوح و شيبة إبليس،و خلقة منكر و نكير و معي مال لكنت أحبّ اليها من معترفي جمال يوسف و خلق داود و سنّ عيسى وجود حاتم و حلم أحنف.

ص:72

مرضت عجوز فأتاها أبنها بطبيب فرآها مزيّنة بأثواب مصوغة،فعرف حالها فقال الطبيب:

ما أحوجها الى زوج،فقال الأبن:ما للعجائز و الأزواج،فقالت: ويحك ألطبيب أعلم منك على كلّ حال،قيل لأبي علقمة فلان زوّج ابنته و ساق مهره و أعطى الختن كذا و كذا فالختن يكرمها، فقال لو فعل هذا إبليس ببناته لتنافست فيهنّ الملائكة المقرّبون.

و روي انّه دخل يزيد بن مسلم علي سليمان بن عبد الملك و كان ذميما فلمّا رآه سليمان قال قبّح اللّه رجلا أشركك في أمانته،فقال له يزيد:رأيتني يا أمير المؤمنين و الأمر عنّي مدبر و لو رأيتني و هو عليّ مقبل لأستكثرت منّي و أستعظمت مني ما أستحقرت فقال:أ ترى الحجاج وطأ لكم المنابر و ذلّل لكم الجبابر و هو يجيء يوم القيامة عن يمين أبيك و عن يسار أخيك فحيث كانا كان.

و روي أنّ بعض اليهود قال لعلي عليه السّلام ما دفنتم نبيّكم حتّى أختلفتم،فقال له:إنّما إختلفا عنه عنه لا فيه و لكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم إجعل لنا الها كما لهم آلهة قال:انكم قوم تجهلون،و قال معاوية لأبي الأسود:بلغني انّ عليا اراد ان يدخلك في الحكومة فعزمت عليك أي شيء كنت تصنع،فقال كنت آتي المدينة فاجمع الفا من المهاجرين و الفا من الأنصار فان لم أجدهم أتممهم من أبنائهم ثم أستحلفهم باللّه العظيم المهاجرون أحقّ ام الطلقاء، فتبسّم معاوية قال:اذن و اللّه ما أختلف عليك أثنان.

و روي انّ عمر بن الخطّاب كان يعس بالليل في المدينة أي يطوف مثل العس فسمع صوت رجل في بيته فارتاب بالحال،فتسور فوجد رجلا عنده غمرأة و خمر فقال:يا عدو اللّه أ ترى أنّ اله عزّ و جلّ يسترك و أنت على معصيته؟فقال الرجل:لا تعجل عليّ يا عمران كنت انا عصيت اللّه في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث،قال اللّه لا تجسسوا و إنّك قد تجسست،و قال و اتوا البيوت من ابوابها و قد تسوّرت،و قال و اذا دخلتم فسلّموا و ما سلّمت،فقال عمر:فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟قال:بلى و اللّه لئن عفوت عنّي لا أعود الى مثلها ابدا فعفى عنه.

و روي انّ معاوية لعنة اللّه تعالى قال يوما لأهل الشام و عنده عقيل بن ابي طالب هذا ابو يزيد عندنا لو لا انّه علم ان لا خبر له من أخيه لما أقام عندنا و تركه فقال له عقيل أخي خير لي في ديني و أنت خير لي في دنياي،و قال له مرّة و انت معنا يا ابا يزيد؟قال و يوم بدر كنت معكم.

و من المطايبات انّ رجلا تركيّا سمع واعظا يقول من جامع امرأته مرّة بنى له طوف في الجنّة،فإن جامعها مرتين بنى له طوفان و هكذا حتّى يتم البيت في الجنّة فأتى الى إمرأته و حكى لها ففرحت،فلمّا أتى الليل و ناما قالت قم حتّى تؤسس لنا بيتا في الجنّة،فقاربها مرة و نام،فقالت له قم حتّى نبني فوق ذلك الأساس طوفا آخر،فقاربها مرة أخرى و ذهبت قوّته كلّها فنبّهته لبناء

ص:73

الطوف الثالث فقال لها:يا فلانة انّ الأطواف الّتي بنيناها لم تجفّ و طينها أخضر فنخاف ان ينهدم البنيان فدعيه حتّى يجف فتخلّص منها بهذه الحيلة.

و تزوج رجل بإمرأة قد مات عنها خمسة أزواج،فمرض السادس و أشرف فقالت الى من تكلني؟فقال الى الشقي السابع،و روى ايضا انّه لقي ابو العينا بعض إخوانه في السحر فجعل يعجب من بكوره و يقول يا عبد اللّه أ تركب في مثل هذا الوقت فقال الرجل:ابو العينا يشاركني في الفعل و يفردني بالتعجّب.

و دخل الوليد بن يزيد على هشام و على الوليد عمامة و شيء،فقال هشام:بكم أخذت عمامتك؟قال بألف درهم فقال هشام عمامة بألف؟أ يستكثر ذلك قال:يا أمير المؤمنين انّها لأكرم أطرافي و قد اشتريت انت جارية بعشرة آلاف لأخس اطرافك،و روي انّه تظلّم اهل الكوفة الى المأمون من عامل ولاّه عليهم فقال المأمون ما علمت في عمّالي أعدل منه فقام رجل من القوم فقال:يا أمير المؤمنين ما أحد أولى بالعدل و الأنصاف منك فاذا كان عاملنا بهذه الصفة فينبغي أن تساوي به أهل الأمصار حتّى يلحق كل بلد من عدله ما لحقنا،و اذا فعل امير المؤمنين فلا يصيبنا أكثر من ثلاث سنين،فضحك المأمون و عزل العامل عنهم.

و تزوج أعرابي امرأة أشرف منه حسبا و نسبا،فقال:يا هذه انّك مهزولة؟فقالت:هزالي أو لجني بيتك،و نظر رجل الى امرأتين يتلاعنان فقال:مرا لعنكما اللّه فإنكنّ صويحبات يوسف فقالت أحديهما يا عمّي فمن رمي به في الجب نحن ام أنتم؟.

جاءت امرأة الى عدي بن ارطاة تشكو من زوجها انّه عنين فقال عدي:انّي لأستحي انّ المرأة تذكر مثل هذا قالت:و لم لا أرغب فيما رغبت فيه امّك فلعلّ اللّه تعالى يرزقني ابنا مثلك، اتى الحجاج بإمرأة من الخوارج فقال:لمن حضره ما ترون فيها؟قالوا اقتلها فقالت:جلساء أخيك خير من جلسائك قال و من أخي قالت فرعون لمّا شاور جلسائه في موسى قالوا:أرجه و أخاه (1)و أبعث في المدائن حاشرين.

عاد المعتصم ابا الفتح بن خاقان و الفتح صغير فقال له:داري أحسن ام دار أبيك قال:

يا أمير المؤمنين دار أبي ما دمت فيها،و قالوا:صحب ذئب و ثعلب اسدا فاصطادوا عيرا و ظبيا و ارنبا،فقال الأسد للذئب:اقسم هذا بيننا فقال:العير لك و الظبي لي و الأرنب للثعلب فغضب الأسد و أخذ بحلق الذئب حتّى قطع رأسه و قال للثعلب اقسمه انت فقال:العير لغدائك و الظبي

ص:74


1- (10) أي احبسه و اخاه و اخر امره و لا تعجل بقتله

لعشائك و الأرنب تتفكه (1)به في الليل،فقال:من علّمك هذه القسمة العادلة؟قال:رأس الذئب الّذي بين يديك.

و قد أصطحب كلب و ديك فخرجا من البلد الى الصحراء فلمّا اتى عليهما الليل اقبلا الى شجرة عالية فصعدها الديك و بات على أغصانها و بات الكلب تحتها،فلمّا أتى وقت السحر صاح الديك كما هو عادته فسمعه ابن آوى فقصد الشجرة و اذا الديك فوقها فصاح اليه أيّها المؤذن رحمك اللّه انزل من فوق المنارة حتّى نصلّي جميعا فقال له:الديك نعم ننزل و لكنّ الأمام نائم تحت الشجرة فايقظه حتّى نصلي بصلاته فلمّا أتى الى تحت الشجرة حسّ الكلب به و قام اليه و قتله.

و روى انّ غرة قالت لبثينة تصدى لكثير و أطعميه في نفسك حتّى أسمع ما يجيبك ثمّ أقبلت عليه و غرّة تمشي ورائها مختفية و عرضت عليه الوصل فقاربها ثمّ قال:

رمتني على فوت(قرب)بثينة تولي شبابي و أرجحنّ شبابها

بعينين نجلاوين لو رقرقتهما لنئو الثريّا لأستهلّ سحابها

ثمّ قالت أولى لك بها نجوت و أنصرفتا يتضاحكان و روي أنّ كثيرا لمّا مات أتى الباقر عليه السّلام الى جنازته و رفها،و قال نصر بن سار لأعرابي:هل أتخمت قط؟قال:امّا من طعامك و طعام أبيك فلا يقال انّ نصر أحمّ من هذا الجواب ايّاما و قال ليتني خرست و لم أفه بسؤال هذا الشيطان.

و لمّا مات مولانا جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال ابو حنيفة امؤمن الطاق:مات امامك، قالك لكن امامك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم يعني ابليس و قال رجل لبشار لمّا ذهبت عيناه:ما الّذي عوضك اللّه بهما؟فقال:لا أرى مثلك،تزوّج اعمى امرأة فقالت:لو رأيت حسني و بياضي لعجبت،فقال:اسكتي لو كنت كما تقولين ما تركك البصراء،نظر حكيم الى معلم رديء الكتابة،فقال له:لو لا تعلم الصراع؟قال:لا أحسنه قال:هو ذا انت تعلم الكتابة و لا تحسنها.

قال ابو العيناك قال لي المتوكل يوما:هل رأيت طالبيّا حسن الوجه قط؟قلت:نعم رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة واحدا،قال:تجده كان يواجر و كنت تقود عليه،فقلت يا أمير المؤمنين:قد بلغ هذا من فراغي ادع موالي مع كثرتهم و أقود على الغرباء،فقال المتوكل للفتح:أردت أن

ص:75


1- (11) قوله تعالى فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ (الفاكهة ما يتفكه به الانسان أي يغتنم بأكله رطبا كان او يابسا كالزبيب و الرطب و التين و البطيخ و الرمان ).

أشتفي منهم فاشتفى لهم منّي و قدم الى مائدة عليها ابو هفان و ابو العينا فالوذج،فقال ابو هفان:

لهذه أحر من مكانك في جهنّم،فقال له ابو العينا:ان كانت حارة فبردّها بشعرك.

و قال ابو العينا ادخل على المتوكل قد تنبأ فقال له:ما علامة نبوّتك؟قال:ان يدفع اليّ أحدكم امرأة فانّي أحبلها في الحال فقال:يا ابا العينا هل لك ان تعطيه بعض الأهل؟قال:انّما يعطيه من كفر به فضحك و خلاه،مرت جارية بقوم و معها طبق مغطّى فقال لها بعضهم:أيّ شيء معك في الطبق؟قالت:فلم غطّيناه،قالت أمرأة مزيد لمزيد:يا قرنان يا مفلس،قال:ان صدقت فواحدة من اللّه تعالى و الآخرى منك.

رفع مزيد مرة الى المدينة زق فارغ فأمر الأمير بضربه،فقال له:لم تضربني قال:لأنّ معك آلة الخمر،قال:و أنت أعزك اللّه معك آلة الزنا،قال الرشيد لبهلول من أحبّ الناس اليك؟قال:

من أشبع بطني،فقال:انا أشبعك فهل تحبّني؟قالك الحب بالنسيئة لا يكون.

ضرط ابن صغير لعبد الملك بن مروان في حجره،فقال له:قم الى الكنيف،فقال:أنا فيه، و كان عبد الملك شديد البخر،دخل ابراهيم الحراني الحمام فراى رجلا عظيم الذكر فقال لهك بكم يباع البغل؟فقال:لابل نحملك عليه من غير ثمن فلمّا خرج أرسل اليه بصلة و كسوة،و قال لرسوله قل له أكتم هذا الحديث فانّه كان مزاحا فردّه لو قبلت حمالتنا لقبلنا صلتك.

بنى بعض أكابر البصرة دارا و كان في جواره بيت العجوز يساوي عشرين دينارا و كان محتاجا في تربيع الدار فبذل لها فيه مائتي دينار فلم تبعه فقيل لها:انّ القاضيّ يحجر عليك لسفاهتك حيث ضيّعت مائتي دينار لما يساوي عشرين دينارا قالت:فلم لا يحجر على من يشتري بمائتين ما يساوي عشرين،و كان ببغداد رجل متعبّد اسمه رويم فعرض عليه القضاء فتولاّه فلقيه الجنيد يوما فقال:من أراد ان يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم فانّه كتم حب الدنيا اربعين سنة حتّى قدر عليها.

و حكى أنّه حضر منجّم في مجلس بعض الملوك و أخذ يخبر عن أحوال بعض العلويّات، فبلغه في المجلس انّ امرأته وجدت مع شخص يزني بها فأنشد بعض الظرفاء:

حديث المنجم في حكمه يحلّ لدنيا محلّ الحدث

يخبّر عن حادثات السماء و يجهل في بيته ما حدث

قال بعض العارفين لرجل من الأغنياء:كيف طلبك للدنيا فقال:شديد،قال:فهل ادركت منها ما تريد؟قال:لا قال:هذه التي صرفت عمرك في طلبها لم تحصل منها ما تريد فكيف

ص:76

التي لم تطلبها.سمع بعض الزّهّاد يوما من الأيّام شخصا يقول:اين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟فقال له الزاهد:يا هذا اقلب كلامك وضع يدك على من شئت.

حكي انّ بعض الأرقاء كان عند مالك يأكل الخاص و يطعمه الخشكار،فاستنكف الرقيق من ذلك فطلب البيع فباعه فاشتراه من يأكل النخالة و لا يطعمه شيئا فطلب البيع فباعه فشراه من لا يأكل شيئا و حلق رأسه و كان في الليل يجلسه و يضع السراج على رأسه بدلا من المنارة،فأقام عنده و لم يطلب البيع،فقال له النخاس:لأيّ شيء رضيت بهذه الحالة عند هذا الملك؟قال:

أخاف ان يشتريني في هذه المرة من يضع الفتيلة في عيني عوضا عن السراج،قال الفرزدق:لزياد الأعجم يا أغلف؟فقال:يا ابن النمامة؟كان بعضهم ابن ذميم فخطب له الى قوم فقال الأبن لأبيه يوما:بلغني انّ العروس،فقال الأب:يا بني بورى انّها عميا حتّى لا ترى سماجة وجهك.

كان بالبصرة رجل يقال له حوصلة و كان له جار يعشق ابنا له،فوجّه حوصلة ابنه الى بغداد و لم يعلم جاره بذلك،فجاء ليلة يطلبه و صاح بالباب أعطونا نارا،فقال حوصلة:المقدحة ببغداد،و قال بعض العلويّة لأبي العينا أ تبغضني و لا تصحّ صلاتك الاّ بالصلاة عليّ اذا قلت اللّهم صل على محمد و آل محمّد؟قال ابو العينا اذا قلت الطيبين الطاهرين خرجت منهم،سكر مزيد يوما فقالت امرأته اسأل اللّه ان يبغض النبيذ اليك،قال:و الرجال اليك.

قالت امرأة مزيد و كانت حبلى و نظرت الى قبح وجهه:الويل لي ان كان الذي في بطني يشبهك،فقال لها:الويل لي ان كان الذي في بطنك لا يشبهني.مر الفرزدق و هو راكب بغلة فضربها فضرطت فضحكت منه امرأة فالتفت اليها و قال:ما يضحكك فو اللّه ما حملتني انثى قطّ الا ضرطت؟فقالت له المرأة فقد حملتك امّك تسعة اشهر فالويل للناس من كثرة ضراطها،تنبأ رجل و ادّعى انّه موسى بن عمران و بلغ خبره الخليفة و قال من انت؟قال:موسى بن عمران الكليم،قال:و اين عصاك الّتي صار ثعبانا؟قال قل انا ربكم الأعلى كما قال فرعون حتّى أصيّرها ثعبانا كما فعل موسى.

تنبأت أمرأة على عهد المأمون فأوصلت اليه فقال لها من أنت؟قالت:انا فاطمة النبيّة،قال لها المأمون:أ تؤمنين بما جاء به محمّد و هو حقّ فانّ محمدا قال:لا نبي بعدي قالت صدق عليه السّلام فهل قال لا نبيّة بعدي؟قال المأمون لمن حضر امّا انا فقد انقطعت فمن كان عنده حجة فليأت بها و ضحك حتّى غطّى وجهه،

تنبأ آخر في أيام المستعصم فلمّا أحضر بين يديه قال له انت نبي؟قال:نعم قال الى من بعثت؟قال:اليك قال:اشهد انّك لسفيه احمق،قال:انّما يبعث الى كلّ قوم مثلهم،فضحك المعتصم و أمر له بشيء.

ص:77

و تنبأ آخر في خلافة المأمون فقال له ما انت؟قال:انا نبي؟قال:فما معجزتك؟قال سل ما شئت،و كان بين يديه قفل فقال:خذ هذا القفل فافتحه،فقال له:أصلحك اللّه لم أقل لك انّي حدّاد قلت انا نبي،فضحك المأمون و استتابه و أجازه.قرأ بعض المغفلين في بيوت بالرفع،فقال له شخص:يا أخي إنّما هو بالجرّ،فقال:يا مغفل اذا كان اللّه تعالى يقول في بيوت اذن اللّه ان ترفع تجرّها انت لماذا.

و سأل بعض المغفلين انسانا فاضلا قال له:كيف تنسب الى اللغة لغوي،فقال أخطأت في ضمّ اللام انّما الفصيح ما جاء في القرآن انّك لغويّ مبين،و حكى الشريف ابو معلّى قال:و لقد كنّا ليلة بأصفهان في دار الوزارة في جماعة من الرؤسا فلمّا ناموا سمعنا صراخا و صوتا مرتفعا و استغاثة فاذا الشيخ الأديب ابو جعفر القصّاص ينيك ابا علي الحسن الشاعر و ذلك يستغيث و يقول انّني شيخ أعمى فما يحملك على نيكي؟و ذلك لا يلتفت الى ان فرغ منه و سلّ منه كذراع البكر،و قام قائلا انّي كنت أتمنى ان انيك ابا العلا المعرّي لكفره و إلحاده ففاتني فلمّا رأيتك شيخا عمي فاضلا نكتك لأجله.

و يقال انّ الأشعث مرّ يوما فجعل الصبيان يعبثون به،فقال لهم:ويلكم سالم بن عبد اللّه يفرّق تمرا من صدقة عمر فمر الصبيان يعدون الى سالم بن عبد اللّه و عدا أشعث معهم،و قال:

ما يدريني لعلّه كان حقّا،رأت الضبع ظبية على حمار فقالت:اردفيني حمارك؟ثمّ سارت يسيرا فقالت:ما افره حمارنا،فقالت لها الظبية:انزلي قبل ان تقولي ما أفره حماري فما رأيت أطمع منك.

و حكي انّ بعضهم دخل بأمرد الى بيته و كان بينهما ما كان،فلمّا خرج الأمرد ادّعى انّه هو الفاعل،فقيل له ذلك فقال:فسدت الأمانات و حرم اللواط الاّ ان يكون بشاهدين.

و من هجاء بعض البخلاء:

رأى الضيف مكتوبا على باب فصحّفه صيفا فقام الى السيف

داره أقول له خبزا فمات من الخوف

فقلت له خيرا يظن بأنّني

في كتاب الحلي قال الأصمعي:تزوّجت اعرابيّة غلاما من الحي فمكثت معه ايّاما و وقع بينهما جدال،فخرج في نادي الحي و هو يقول:يا واسعة يعيّرها بذلك فقالت:بديهة:

انّي تنقّلت من بعد الخليل فتى مزراء ما له عقل و لا باه

ما غرني فيه الاحسن بنيته و منطق لنساء الحيّ تيّاه

ص:78

فقال لمّا خلا بي انت واسعة و ذاك من خجل منّي تغشاه

فقلت لمّا أعاد القول ثانية انت الفداء لمن قد كان يملاه

و يقال اهجى بيت قالته العرب قول الأخطل:

قوم اذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمّهم بولي على النار

فضيّقت فرجها بخلا ببولتها و لم تبل لهم الاّ بمقدار

قال الصفدي:اشتمل هذا البيت على عايب اولها انّهم لا يعطون للضيف شيئا حتّى يرضى بنباح كلابهم فيستبح منها،و ثانيها انّ لهم نارا قليلا تطفي ببول مرأة و ثالثها انّ أمّهم الّتي تخدمهم فليس لهم خدم غيرها و رابعها انّهم كسالى عن مباشرة امورهم حتّى تقوم بها امّهم و خامسها انّهم عاقّون لوالدتهم بحيث انّهم يمهنونها في الخدمة و سادسها عدم أدبهم لأنّهم يخاطبون امّهم بهذه المخاطبة الّتي تستحي الكرام الألتفات اليها و سابعها انّهم يتركون أمّهم عند مواقدهم لأنّهم قالوا لها:بولي و لم يقولوا لها قومي الى النار.

و ثامنها انّهم جبناء لا يوقدون لأنّهم يستيقظون يسمعون الحسّ الخفيّ من البعد و تاسعها أنّهم لا يتألّمون ممّا يصعد من رائحة البول اذا وقع في النار،و عاشرها الزام والدتهم بأن لا تبول و تدخّر ذلك لوقت الحاجة و الا فما كل وقت يطلب الأنسان الإراقة يجدها فتجد ذلك ألما مشقّة من أحتباس البول و حادي عشر إفراطهم في البخل الى غاية يشفقون معها على الماء ان يطفي به النار و ثاني عشرها انّهم يؤكدون بهذا القول عداوة المجوس للعرب لأنّ الفرس يعبدونها و هؤلاء يبولون عليها فيتأكّد الحقد.

و حكي انّ الرشيد سأل جعفر البرمكي عن جواريه؟فقال يا أمير المؤمنين:كنت في الليلة الماضية مضطجعا و عندي جاريتان و هما يكبساني فتناومت لأنظر صنيعهما و احداهما مكيّة و الأخرى مدنيّة،فمدّت المدنيّة يدها الى ذلك الشيء فلعبت به فانتصب قائما فوثبت المكيّة فقعدت عليه،فقالت المدنيّة انا أحق لأني حدثت عن نافع ابن عمرو عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:من أحيا أرضا ميتة فهي له فقالت المكيّة:و انا حدثت عن معمر عن عكرمة عن ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال ليس الصيد لمن أثاره انّما الصيد لمن قبضه فوجدت سندي الحديثين كما قالتا فضحك الرشيد حتّى أستلقى على ظهره فقال من تساوم منهما؟فقال هما و مولاهما بحكمك يا أمير المؤمنين و حملهما اليه،سأل بعض ما أمتع لذات الدنيا؟فقال:ممازحة الحبيب و غيبة الرقيب.

ص:79

و سأل بعض المتكلمين عن الروح فقال:هو الريح و النفس فقال له السائل:فحينئذ اذا تنفّس الأنسان خرجت نفسه،و اذا ضرط خرجت روحه فانقلب المجلس ضحكا،يقال انّ بعض السؤال اجتاز بقوم يأكلون،فقال:السّلام عليكم يا بخلاء؟فقالوا له:أ تقول انّا بخلاء قال فكذبوني بكسيرة.

اجتمع بنات حبيب المدنيّة عندها فقالت الكبرى يا بنيّة كيف تحبّين؟فقالت:يا أم ان يقدم زوجي من سفر فيدخل الحمام ثمّ يأتيه زوّاره المسلمون عليه فاذا فرغ أغلق الباب و ارخى الستر فيأتي ما أردته،فقالت:اسكتي ما صنعت شيئا،فقالت للوسطى:فقالت:ان يقدم زوجي من سفر فيضع ثيابه و اتاه جيرانه فلمّا صار الليل تطيّبت له و تهيّأت ثمّ أخذني على ذلك،فقالت:

ما صنعت شيئا فقالت للصغرى:فقالت ان يقدم زوجي من سفر و كان دخل الحمام و أطلى،ثمّ قدم و قد نزع سرواله فيدخل عليّ و يغلق الباب و يرخي الستر فيدخل ايره في حري و لسانه في فمي و اصبعه في إستي،فناكني في ثلاثة مواضع،فقالت:اسكتي فامّك تبول الساعة من الشهوة.

و مر الحجّاج متنكرا فرأته امرأة فقالت:الأمير و رب الكعبة،فقال:عندك من قرى قالت:

نعم خبز فطير و ماء نهر،فاحضرته فأكل و قال هل لك ان تصلحيني مع امرأتي فقالت:هل عندك من جماع يغني؟قال:نعم،قالت:فلا حاجة لك الى احد يصلح بينكما،و قال رجل للشعبي ما تقول في رجل اذا وطي امرأة تقول قتلتني او اوجعتني فقال:اقتلها و دمها في عنقي.

ظهر ابليس لعيسى عليه السّلام فقال له:أ لست تقول لن يصيبنا الاّ ما كتب اللّه عليك؟قال:

بل يقال:فارم نفسك من ذروة هذا الجبل فانّه ان قدّر لك السلامة تسلم،فقال له:يا ملعون انّ اللّه تعالى يختبر عباده و ليس للعبد أن يختبر ربّه،سأل اعرابي خالد بن الوليد و ألحّ في سؤاله و أطنب في الأبرام،فقال خالد:أعطوه بدرة يضعها في حر أمّه،فقال الأعرابي:و أخرى لأستهايا سيّدي لئلا تبقى فارغة.فضحك و أمر له بها ايضا.

قال بعض الخلفاء انّي لأبغض فلانا فقال له بعض الحاضرين:أوله خيرا تحبّه فانعم،فما لبث ان صار من جلسائه،سأل بعض الجند عن نسبه فقال:انا ابن اخت فلان فسمع ذلك اعرابي فقال:انّ الناس ينتسبون طولا و هذا الفتى ينتسب عرضا،خطب معاوية خطبة عجيبة فقال:ايّها الناس هل من خلل؟فقال رجل:من عرض الناس نعم من حلمك كخلل المنخل فقال:و ما هو قال:اعجابك بها و مدحك لها،انشد الفرزدق سليمان بن عبد الملك قصيدته الّتي يقول فيها:

فبتن بجانبي مصرعات و بتّ أفض أغلاق الختام

ص:80

فقال له: ويحك يا فرزدق أقررت عندي بالزنا و لا بدّ من حدّك،فقال كتاب درأ منّي الحد، قال:و اين؟قال قوله تعالى وَ الشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغٰاوُونَ الى قوله أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ فضحك و أجازه،و من هذا أخذ صفي الدين قوله:

نحن الّذين أتى الكتاب مخبرا بعفاف أنفسنا و فسق الألسن

و قد حاجب بن زرارة علي انو شيروان و استأذن عليه فقال للحاجب سله من هو فقال:

رجل من العرب فلمّا مثل بين يديه قال له:انو شيروان من انت قال:سيّد العرب قال:أ ليس زعمت انّك واحد منهم؟فقال:انّي كنت كذلك و لكن لمّا اكرمني الملك بمكالمته صرت سيّدهم، فأمر بحشو فيه درأ.

دعا رجل آخر الى منزله و قال:لنأكل معك خبزا و ملحا،فظنّ الرجل انّ ذلك كناية عن طعام لذيذ،فمضى معه فلم يزد على الخبز و الملح فبينا هما يأكلان اذ وقف بالباب سائل فنهره صاحب المنزل فلم ينزجر فقال المدعو:يا هذا انصرف فانّك لو عرفت من صدق وعيده ما عرفت من صدق وعده لما تعرضت له.

قال الزمخشري في ربيع الأبرار مر رجل بأديب فقال:كيف طريق البغداد؟فقال:من هنا ثمّ مر به آخر فقال:كيف طريق كوفة؟فقال:من هنا فبادر مسرعا فقال:انّ مع ذلك المارّ الف و لام لا يحتاج اليهما منه،قال بعضهم:الدنيا مدوّرة و مدارها على ثلاث مدورات الدرهم و الدينار و الرغيف،وجد يهودي مسلما يأكل شوي في نهار شهر رمضان فأخذ يأكل معه فقال له المسلم:

يا هذا انّ ذبيحتنا لا تحل على اليهود،فقال:انا في اليهود مثلك في المسلمين،من كلامهم الكريم شجاع القلب و البخيل شجاع الوثبة،قال رجل للفرزدق متى عهدك بالزنايا يا ابا فراس فقال:منذ ماتت امرأتك يا فلان.

من كتاب المدهش في حوادث سنة 241 ماجت النجوم و تطايرت شرقا و غربا كالجراد من قبل غروب الشمس الى الفجر،و في السنة التي بعدها رجمت السويداء و هي ناحية من نواحي مصر فوزن منها حجر فكانت عشرة أرطال و زلزل في الري و جرجان و طبرستان و نيشابور و اصفهان و قم و قاشان و دامغان في وقت واحد فهلك في دامغان خمسة و عشرين الفا و تقطّعت جبال و دنا بعضها من بعض و وقع طائر ابيض بحلب و صاح اربعين صوتا ايّها الناس اتّقوا اللّه ثمّ طار و أتى من الغدو فعل ذلك ثمّ ما رأى بعدها و مات رجل في بعض اكوار الأهواز فسقط طائر على جنازته و صاح بالفارسيّة انّ اللّه قد غفر لهذا الميت و لمن حضر جنازته.

قال ولد الأحنف لجارية ابيه يا زانية؟فقالت:لو كنت زانية لأتيت بمثلك.

ص:81

و لمّا قتل جعفر بن يحيى البرمكي قال ابو نؤاس:و اللّه مات الكرم و الجود و الفضل و الأدب فقيل له:أ لم تكن تهجوه في حياته؟فقال:ذلك و اللّه لشقائي و ركوبي الى هواي و كيف يكون في الدنيا مثله في الجود و الأدب؟و لمّا سمع فيه قولي:

لقد غرّني من جعفر حسن بابه و لم ادر انّ اللوم حشو إهابه

و لست اذا أطنبت في مدح جعفر بأوّل انسان خوى في ثيابه

بعث اليّ بعشرين الف درهم و قال:غسل ثيابك بها قال رجل لأحمد بن خالد الوزير لقد أعطيت ما لم يعطه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالك و كيف ذاك يا أحمق؟فقال:لأنّ اللّه تعالى يقول و لو كنت فظا غليظ القلب لأنفضّوا من حولك و انت فظّ غليظ و نحن لا نبرح من حولك،مدح بعض الشعراء صاحب شرطة،فقال:اما انّي أعطيك شيئا من مالي فلا يكون ابدا و لكن اجن جناية قتل حتّى لا أعاقبك بها.

دخلت غرّة على عبد الملك فأمرها بالدخول على زوجته عاتكة فلمّا دخلت قالت لها:

خبّريني عن قول كثير فيك:

قضى كلّ ذي دين فوفّى غريمه و غرّة ممطول معنّى غريمها

ما هذا الدين؟فقالت:قبلة فقالت عاتكة ك أنجزي وعدك و عليّ اثمه،قال ابو العينا:

أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن خاقان قلت له:وددت انّ لي ابنا مثلك فقال:هذا بيدك قلت كيف ذلك؟قال:احمل ابي على إمرأتك تلد لك مثلي.

السبب في تسمية الأيّام الّتي في آخر البرد ايّام العجوز و هو ما يحكى انّ عجوزا كاهنة في العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع و هم لا يكترثون بقولها حتّى جاء فأهلك زرعهم و ضروعهم فقيل ايّام برد العجوز و قال جار اللّه في كتاب ربيع الأبرار قيل الصواب انّها ايّام العجز أي آخر البرد و قيل انّ عجوزا طلب من أولادها ان يزوّجوها فشرطوا عليها ان تبرز الى الهواء سبع ليال ففعلت فماتت.

و ادّعت سجاح بنت الحارث النبوة في ايّام مسيلمة و قصدت حربه فأهدى اليها مالا و استأمنها حتّى أمنته و امنها فجاء اليها و استدعاها و قال لأصحابه اضربوا لها قبّة و حمّروها لعلّها تذكر الباه،ففعلوا فلمّا أتت قالت له أعرض ما عندك حتّى نتدارس،فلمّا خلت معه في القبّة قالت:اقرأ عليّ ما يأتيك جبرئيل فقال:اسمعي هذه الآية انكن معاشر النساء خلقن افواجا،و جعلن لنا ازواجا نولج فيكنّ ايلاجا ثمّ نخرجه منكنّ اخراجا،قالت:صدقت انّك نبيّ مرسل،فقال لها:

هل لك في ان اتزوّجك فيقال نبيّ تزوّج نبيّه؟فقالت:افعل ما بدا لك فقال لها:

ص:82

الا قومي الى المخدع فقد هيّ ء لك المضجع

و ان شئت فملغاة و ان شئت على الأربع

و ان شئت بثلثيه و ان شئت به أجمع

فقالت بل به اجمع فانّه اجمع للشمل،فضرب به بعض ظرفاء العرب لذلك مثلا و قال:

اعلم من سجاح،فأقامت عنده ثلاثا و خرجت الى قومها فقالوا كيف وجدتيه؟فقالت:لقد سألته فوجدت نبوته حقّا و انّي قد تزوّجته فقال قومه و مثلك يتزوج بغير مهر فقال مسيلمة:

مهرها انّي قد رفعت عنكم صلاة الفجر و العتمة،ثمّ اقامت بعد ذلك مدة في بني تغلب ثمّ أسلمت في اسلامها،و من مزخرفات مسيلمة:و الزارعات زرعا،و الحاصدات حصدا و الذاريات ذروا و الطاحنات طحنا و العاجنات عجنا فالآكلات أكلا فقال بعض ظرفاء العرب:و الخاريات خروا.

في المحاضرات نظرت امرأة من البادية في المرآة و كانت حسنة الصورة و كان زوجها رديء الصورة،فقالت له و المرآة في يدها:انّي لأرجو ان ندخل الجنّة انا و انت فقال:و كيف ذلك؟ فقالت:امّا انا لأنيّ ابتليت بك فصبرت،و امّا انت فلأنّ اللّه سبحانه انعم بي عليك فشكرت،لمّا تزوّج المهلب بديعة المطربة أراد الدخول بها فجاءها الحيض فقرأت و فار التنور،فقرأ هو سآوي الى جبل يعصمني من الماء،فقرأت هي لا عاصم اليوم من أمر اللّه الاّ من رحم اللّه.

كتب العبّاس الى القاضي بن قريعة فتوى ما يقول القاضي أدام اللّه ايّامه في يهودي زنا بنصرانيّة فولدت له ولدا جسمه للبشر و وجهه للبقر فما يرى القاضي في ذلك فليفتنا مأجورا؟ فأجاب هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود انّهم أشربوا حبّ العجل في صدورهم فخرجوا من ايورهم،و رأى ان يعلق على اليهود رأس العجل و تربط مع النصرانيّة الساق مع الرجل و يسحبا سحبا على الأرض و ينادي عليهما ظلمات بعضها فوق بعض.

احمد بن علي بن الحسين المؤدب:

تصدر للتدريس كلّ مهوس بليد يسمّى بالفقيه المدرّس

يحقّ لأهل العلم ان ستموا به ببيت قديم شاع في كلّ مجلس

لقد هزلت حتّى بدا من هزالها كلاها و حتّى رامها كلّ مفلس

شعر

قد بلينا بأمير ظلم الناس و سبّح فهو كالجزّار فيهم يذكر اللّه و يذبح

ص:83

قال جار اللّه في كتاب ربيع الأبرار يقال:انّ من لا تعلم الاّ فنّا واحدا من العلم ينبغي ان يسمّى خصّ العلماء،حضرت الحطيئة الوفاة فقيل له اوص للمساكين بشيء من مالك،فقال:

اوصيت لهم بطول المسئله فانّها تجارة لن تبور،أتى بعض الزّهاد الى تاجر ليشتري قميصا،فقال له بعض الحاضرين:انّه فلان الزاهد فارخص عليه فغضب الزاهد و ولّى عنهما،و قالك جئت لنشتري بدراهمنا لا بأدياننا.

هلكت ابل اعرابي بأجمعها في يوم ففرح و قال:انّ موتا تخطّاني الى ابلي لعظم النعمة، قيل للبهلول أتعدّ مجانين بلدك؟قال هذا شيء يطول و لكنّ أعدّ العقلاء،ضلّ

لأعرابيّ بعير فحلف ان وجده ان يبيعه بدرهم واحد،فوجده فلم يحتمل قلبه ان يبيعه بذلك الثمن،فعمد الى سنّور و علّقه في عنقه و أخذ ينادي عليه:الجمل بدرهم و السنور بخمسمائة و لا أبيعهما الاّ معا فمر بعض الأعراب به و قال ما ارخص الجمل لو لا القلادة.

قال في المحاضرات:ادّعى رجل على آخر طنبورا عند بعض القضاة فأنكر المدّعى عليه و توجّه اليمين عليه فقال القاضي:قل ان كانت الطنبور عندي فايري في حر أخته،فقال و اي يمين هذه؟فقال القاضي هذه يمين الدعوى اذا كانت طنبورا.

قال بعض الخلفاء لبعض الزهّاد انّك لعظيم الزهد،فقال:انّك أزهد منّي قال:كيف ذلك؟ قال:لأنّك زهدت في نعيم دائم عظيم و زهدت انا في نعيم الدنيا الحقير المنقطع.تسمّى المائة سنة من التاريخ حمارا و سمّى مروان الحمار لأنّه كان على رأس المائة من دولة بني أميّة.

قيل للحسن البصري هلاّ يصلّي فانّ اهل السوق قد صلوا،فقال:اولئك قوم ان اتفقت سوقهم أخّروا الصلاة و ان كسدت عجّلوها.كان بعضهم في ايّام صغره أشدّ منه ورعا في ايّام كبره و قد أنشأ في هذا المعنى يقول:

عصيت هوى نفسي صغيرا و عند ما أتتني الليالي بالمشيب و بالكبر

أطعت الهوى عكس القضيّة ليتني خلقت كبيرا ثمّ عدت الى الصفر

قال بعض الحكماء حججت في بعض السنسن فبينما انا أطوف بالبيت اذا انا بأعرابي متوشّح بجلد غزال و هو يقول:

اما تستحي يا رب أنك خلقتني أناجيك عريانا و انت كريم

قال و حججت في العام القابل فرأيت الأعرابيّ و عليه ثياب و حشم و غلمان فقلت له:انت الّذي رأيتك في العام الماضي و انت تنشد ذلك البيت؟فقال:نعم خدعت كريما فانخدع.و شهد جماعة عند ابن شبرمة على فراخ نخل فقال لهم:كم عددها؟فقالوا:لا ندري فردّ شهادتهم فقال

ص:84

واحد منهم كم لك تقضي في هذا المسجد،فقال:ثلاثون سنة قالك كم فيه اسطوانة؟فخجل و قبل شهادتهم،و شهد عنده رجل فردّ شهادته و قال بلغني انّ جارية غنّت فقلت لها:أحسنت فقال:

قلت ذلك حين ابتدأت او حين سكتت فقال:حين سكتت فقال:انّما استحسنت سكوتها ايّها القاضي فقبل شهادته.

كان سائل و خلفه ابن صغير فسمع الصغير امرأة تصيح خلف جنازة و تقول يذهبون بك يا سيّدي الى بيت ليس فيه وطأ و لا غطأ و لا غداء و لا عشاء فقال:يا ابت انّما يأخذونه الى بيتنا.وجد بعض الأعراب رجلا مع امّه فقتلها فقيل له هلاّ قتلت الرجل و تركت امّك فقال كنت احتاج كلّ يوم ان اقتل رجلا،قيل لأبي العينا فما اشد عليك من ذهاب بصرك،فقال:قوم يبدوني بالسلام كنت احبّ ان ابدأهم و ربّما حدثت المعرض عنّي فكنت احبّ ان اعلم لأقطع كلامي عنه.

رمى المتوكل عصفورا فأخطأ فقال وزيره ابن جهدون:أحسنت يا سيدي فقال:أتهزأ بي كيف أحسنت؟قال:الى العصفور.و قال يوما لبعض الصبيان في أي باب من ابواب النحو انت فقال:في باب الفاعل و المفعول به فقال:انت في باب ابويك اذن.و قالت له قينة يا أعمى فقال:ما أستعين على قبح وجهك بشيء أنفع منه.

كان الجاحظ قبيح الصورة جدّا حتّى قال الشاعر:

لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ما كان الاّ دون قبح الجاحظ

قال يوما لتلامذته ما أخجلني الاّ امرأة أتت بي الى صائغ فقالت:مثل هذا فبقيت حائرا في كلامها فلمّا ذهبت سألت الصائغ فقال:استعملتني لأصوغ لها صورة جنّي فقلت:لا أدري كيف صورته فأتت بك.من كلامهم اذا علم الثقيل انّه ثقيل فليس بثقيل.

قيل لأعرابي ما تسمّون المرق؟قالك السخين قيل فاذا برد؟قال:نحن لا نتركه يبرد.

قيل لأعرابي على مائدة بعض الخلفاء و قد حضر فالوذج و هو يأكل منه يا هذا انه لم يشبع منه احد الاّ مات فأمسك يده ثمّ ضرب بالخمس و قال:استوصوا بعيالي خيرا،حكى الأصمعي قال:نزلت في بعض الأخباء فنظرت الى قطع من القديد منظومة في خيط فأخذت في أكلها فلمّا استوفيتها أتت المرأة صاحبة الخباء و قالت:اين ما كان في الخيط؟فقلت:أكلته فقالت:ليس هذا ممّا يؤكل فانّي أخفض الجواري و كلّما اخفضت جارية علقت خفضتها في هذا الخيط.

قال أعرابي لآخر أقرضني عشرين درهما و أجّلني شهرا،قال امّا الدراهم فليست عندي و امّا الأجل فقد أجلّتك سنة.كان رجل جار الفيروز الديلمي فأراد بيع داره لدين ركبه فلمّا سامها و أخبر المشتري بالثمن قال البائع:هذا ثمن الدار فاين ثمن الجوار؟فقال:فهل يباع الجوار

ص:85

فقال:نعم جوار فيروز يباع بأضعاف ثمن الدار فلمّا بلغه ذلك بعث اليه بأضعاف ثمنها و قال له:

بعها على نفسك بورك لك فيها.

قال المنصور لبعض الخوارج و قد اتى به اسيرا أي اصحابي أشدّ اقداما في الحرب؟فقال:

انّي لا أعرفهم بوجوههم فانّي لم أر في الحرب الا قفاهم.سأل شقيق البلخي رجلا كيف يفعل فقراؤكم؟قالوا:ان وجدوا أكلوا و ان فقدوا صبروا.قال:كلّ كلاب بلخ كان هكذا،قال فأنتم؟قال:ان وجدنا آثرنا و ان فقدنا شكرنا قال يحيى بن معاذ من أكل حتّى شبع عوقب بثلاث ألقى الغطاء على قلبه و النعاس على عينيه و الكسل على بدنه.

اكل رجل من العرب عند معاوية فرآى على لقمته شعرة فقال:خذ الشعرة من لقمتك فقال:و انت كنت تلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة لا و اللّه لا و اكلتك بعدها ابدا.و أكل آخر مع معاوية و جعل يمزق جديا على الخوان تمزيقا عنيفا و يأكله أكلا ذريعا فقال له معاوية انّك لحرد عليه كأنّ امّه نطحتك،فقال:و انّك لشفيق عليه كانّ امّه أرضعتك قيل لفيثاغورس ما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء اكثر ممّا يأتي الأغنياء ابواب العلماء فقال:لمعرفة العلماء بفضل الغنى و جهل الأغنياء بفضل العلم.

طوّل عائد عند مريض فقال له:طوّل جلوسك.في بعض التواريخ انّ بعض الأعراب في البادية اصابه حمى في ايّام القيظ فأتى الأبطح وقت الهاجرة فتعرى في شديد الحرّ و طلا بدنه بزيت و جعل يتقلّب في الشمس على الحصار و يقول سوف تعلمين يا حمى ما نزل بك و بمن ابتليت،عدلت عن الأمراء و أهل التزين و نزلت بي و ما زال يتمرغ حتّى عرق و ذهبت حماه،و قام فسمع في اليوم الثاني قائلا قد حمّ الأمير بالأمس فقال الأعرابي:انا و اللّه بعثتها اليه ثمّ ولّى هاربا.عرض على ابي مسلم فرس جواد فقال:لمن بحضرته لماذا يصلح هذا الفرس فقالوا:للغزو فقال:انّما يصلح لأن يركبه الأنسان و يفر من جار السوء.لبعضهم

لو ضرط الموسر في مجلس قالوا له يرحمك اللّه

لو عطس المفلس في مجلس سبّ و قالوا فيه ماساه

فمضرط المفلس عرنينه و معطس الموسر نعساه

قال الراغب في المحاضرات انّ بقزوين قرية أهلها متناهون في التشيّع فمر بهم رجل فسألوه عن اسمه فقال:عمر،فضربوه ضربا شديدا فقال:ليس اسمي عمر فتضربونني بل عمران،فقالوا هذه أشدّ من الأول فانّه عمر و فيه حرفان من اسم عثمان فهو احق بالضرب.

ص:86

قال بعض الأعراب لأبن عباس من يحاسب الناس يوم القيامة،فقال:يحاسبهم اللّه تعالى فقال الأعرابي:نجونا اذن و رب الكعبة،فقيل و كيف؟قال لأنّ الكريم لا يدقق في الحساب.كأنّ بعضهم يقول اللّهم احفظني من صديقي،فقيل له في ذلك فقال:لأنّي أتحرز من العدو و لا أقدر ان اتحرز من الصديق،قدّم قوم غريمهم الى الوالي و ادّعوا عليه بألف دينار فقال الوالي:ما ذا تقول فقال:صدقوا فيما ادّعوا لكنّي أسألهم انّ يمهلوني لأبيع عقاري و ابلي و غنمي ثمّ اوفيهم، فقالوا:ايّها الوالي ليس عنده ممّا يقول،فقال:قد سمعت شهادتهم بأفلاسي فكيف يطالبونني، فأمر بأطلاقه.

كان في بغداد رجل قد علته ديون كثيرة و هو مفلس فأمر القاضي ان لا يقرضه أحد شيئا و من أقرضه فليصبر عليه و لا يطالبه بدينه،و أمر بأن يركب على بغل و يطاف به في المجامع ليعرفه الناس و يحترزوا من معاملته،فطافوا به البلد ثمّ جاؤا به الى باب داره،فلمّا نزل عن البغل قال له صاحب البغل:أعطني أجرة بغلي،فقال:و في أي شيء كنّا من الصباح الى هذا الوقت يا أحمق.وقف إعرابي على قبر هشام بن عبد الملك و اذا بعض خدامه يبكي على قبره و يقول مالقينا بعدك،فقال الأعرابي:أما انّه لو نطق لأخبرك انّه لقى اشدّ ممّا لقيتم.

شعر

لا أشتكي زمني هذا فأظلمه و انّما اشتكى من اهل هذا الزمن

هم الذباب الّتي تحت الثياب فلا يكن الى أحد منهم بمؤتمن

قد كان لي كنز صبر فافتقرت الى إنفاقه في مداراتي لهم فغنى

قال ابو حنيفة لمؤمن الطاق:مات امامك يعني جعفر الصادق عليه السّلام،فقال له مؤمن الطاق:

لكنّ إمامك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم فضحك المهدي و أمر لمؤمن الطاق بعشرة الآف درهم قال في الكشكول:قد صمّم العزيمة بهاء الدين العاملي على ان يبني مكانا في النجف الأشرف لمحافظة نعال زوار ذلك الحرم الأقدس،و ان يكتب على ذلك المكان هذين البيتين الذين سنحا بالخاطر الفاتر و هما:

هذا الأفق المبين قد لاح لديك فاسجد متذللا و عفّر خديك

ذا طور سينين(سيناء)فاغضض الطرف به هذا حرم العزة فاخلع نعليك

شيخنا البهائي ره لما تشكى طول الأقامة في قزوين مع الأردو:

قد اجتمعت كل الفلاكات في فقوموا بنا نغدوا فقوموا بنا

ص:87

الأردو نغدوا

فمختلطات الهمّ فيه كثيرة فليس لها رسم و ليس لها حد

و أشكال آمالي أراها عقيمة و معكوسة فيها قضاياي يا سعد

فقم نرتحل عنهم فلا عدل فيهم و لكن لديهم عجمة مالها حد

فمن قلّة التمييز حالي سيء و فعلي معتّل و همّي ممتد

كأنّ على الأبصار منهم غشاوة فمن بين أيديهم و من خلفهم سد

قال رجل لحكيم:ما بال الرجل الثقيل اثقل على الطبع من الحمل الثقيل فقال:لأنّ الحمل الثقيل يشارك الروح الجسد في حمله و الرجل الثقيل تنفرد الروح بحمله كتب بعض الحكماء على باب داره لا يدخل داري شرّ فقال له بعض الحكماء:فمن اين تدخل امرأتك؟قال بعض الحكماء المرأة كلها شرّ و شرّ ما فيها غير انّه لا بد منها،كان لأبن الجوزي امرأة كانت تسمّى نسيم الصبا فطلّقها،ثمّ ندم على ما كان منه فحضرت يوما مجلس و عظه فعرفها،و اتّفق ان جلس امرأتان أمامها و حجباها عنه فأنشد مشيرا الى تينك المرأتين:

ايا جبلي نعمان باللّه خليّا نسيم الصبا يخلص الى نسيمها

ممّا ينسب الى ليلى:

باح مجنون عامر بهواه و كتمت الهوى فبحت بوجدي

و قالت ايضا:

باح مجنون عامر بهواه و كتمت الهوى فبحت

فاذا كانت القيامة نودي بوجدي

من قبيل الهوى تقدّمت وجدي

قيل لأشعب الطماع قد صرت شيخا كبيرا و بلغت هذا المبلغ و لا تحفظ من الحديث شيئا، فقال:بلى و اللّه ما سمع أحد عن عكرمة ما سمعت،قالوا فحدّثنا قال:سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:خلتان لا تجتمعان الاّ في مؤمن نسي عكرمة واحدة و نسيت انا الأخرى.

شعر

انّ القلوب بحار في مودّتها فاسئل فؤادك عنّي فهو يكفيني

لا أسأل الناس عمّا في ضمائرهم ما في ضميري لهم من ذاك يغنيني

ص:88

كتب بعض الأدباء الى القاضي بن قريعة ما يقول القاضي ايّده اللّه تعالى في رجل سمّى أبنه مداما و كنّاه ابو النداما،و سمّى ابنته الراح،و كنّاها ام الأفراح و يسمّى عبده الشراب،وليدته القهوة و كنّاها امّ النشوة،أ ينهى عن بطالته ام يترك على خلاعته؟فكتب في الجواب لو لفّت هذا لأبي حنيفة لأقعده خليفة و لعقد له رأيه و قائل تحتها من خالف رأيه و لو علمنا مكانه مسحنا اركانه فان اتبع هذه الأسماء أفعالا و هذه الكنى استعمالا علمنا انه قد احيا دولة المجون،و اقام لواء البزرحون فبايعناه و شايعناه و ان لم يكن الا اسماء سمّاها ماله بها من سلطان خلعنا طاعته و فرقنا جماعته فنحن امام فقال:احوج منّا الى امام قوان.

و قال الحسن عليه السّلام لمولانا علي بن ابي طالب صلوات اللّه عليه امّا ترى حب الناس للدنيا قال:هم اولادها أ فيلام المرء على حب والديه.قيل لحكيم:ما مثل الدنيا؟قال:هي أقل من ان يكون لها مثل.اراد بعض الأعراب السفر في اول السنة فقال:ان سافرت في المحرم كنت جديرا ان أحرم،و ان اسافر في صفر خشيت على يدي تصفر،فأخّر السفر الى شهر ربيع فلمّا سافر مرض و لم يحظ بطائل فقال:ظننته في ربيع الرياض فاذا هو من ربيع الأمراض.

قيل للحسن يا ابا سعيد اما رويت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه لا يزداد الزمان الاّ شدة فما بال زمان عمر بن عبد العزيز؟قال:لا بدّ للتاس من تنفيس.صدع ملك فأمر الطبيب ان يضع قدميه في الماء الحار،فقال:خصي عنده اين الرأس من القدم؟فقال:اين وجهك من بيضتيك؟نزعتا فذهبت لحيتك.قال بصله دخلت سقاية بالكرخ فتوضأت فلمّا خرجت تعلّق السقا بي فقالت هات القيمة،فضرطت ضرطة و قلت خلّ الآن سبيلي فقد نقضت وضوئي،فضحك و خلاني.و لمّا اخذ محمّد بن سليمان صالح بن عبد القدوس ليوجه به الى المهدي قال له:أطلقني حتّى أفكّر لك فيولد لك ولد ذكر و لك يكن لمحمّد بن سليمان غير بنت واحدة،قال:بل اصنع ما هو أنفع لك فكر حتّى تفلت من يدي.

حمل بعض الصوفيّة طعاما الى طحّان ليطحنه فقال:انا مشغول،فقال:اطحنه و الاّ دعوت عليك و على حمارك و رحاك،قال:فأنت مجاب الدعوة؟قال:نعم،قال:فأدع اللّه عزّ و جلّ انّ يصير حنطتك دقيقا فهو أنفع لك و أسلم لدينك.دخل الشعبي الحمّام و فيه رجل مكشّف،فغمض عينيه،فقال له الرجل:يا شيخ متى ذهبت عيناك؟قال:مذ هتك اللّه سترك.أعترض رجل المأمون فقال:يا أمير المؤمنين أنا رجل من العرب،قال:ما ذاك بعجب قال:

و إنّي أريد الحج،قال:الطريق أمامك نهج،قال:و ليست لي نفقة،قال:سقط عنك الفرض، قال:انّي جئتك مستجديا لا مستفتيا،فضحك و امر له بصلة.

ص:89

قال الأصمعي مررت بكنّاس يكنس كنيفا بالبصرة و هو ينشد:

أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا ليوم كريهة و سداد ثغر

فقلت له:أمّا سداد الكنيف فأنت مليّ به،و امّا الثغر فلا علم لنا بك كيف انت فيه،و كنت حديث ألسن و أردت العبث به فأعرض عنّي مليّا ثمّ أقبل عليّ فأنشد متمثّلا:

و اكرم نفسي انّني ان أهنتها و حقّك لم تكرم على احد بعدي

فقلت له و اللّه ما يكون من الهوان شيء أكثر ممّا بذلتها له فأيّ شيء أكرمتها فقال:بلى و اللّه انّ من الهوان لما هو شرّ ممّا أنا فيه فقلت و ما هو؟قال:الحاجة اليك و الى أمثالك من الناس.

قدم رجل عجوزا دلالة الى القاضي،فقال:أصلح اللّه القاضي زوّجتني هذه امرأة فلمّا دخلت بها وجدتها عرجاء،فقالت:أعزّ اللّه القاضي زوّجته امرأة يجامعها أم زوجته حمارة يحجّ عليها.قيل لأمرأة ظريفة:أبكر أنت قالت:أعوذ باللّه من الكساده.

قال ابو العينا:خطبت إمرأة فاستقبحتني،فكتب اليها:

فان تنفري من قبح وجهي فانّني اديب أريب لا عيي و لا فدم

فأجابت ليس لديوان الرسائل أريدك.خرجت حبّي المدنية في خوف الليل فلقيها إنسان فقال لها:أ تخرجين في هذا الوقت؟قالت:و لا أبالي ان لقيني شيطان فانا في طاعته او لقيني رجل فأنا في طلبه.غاب رجل عن امرأته فبلغها أنّه اشترى جارية فاشترت غلامين،فبلغ الخبر زوجها فجاء مبادرا و قال لها ما هذا؟فقالت:أما علمت انّ الرحا الى بغلين أحوج من البغل الى رحوين؟بع الجارية حتّى أبيع الغلامين،ففعل ذلك.

دخل ابو يونس فقيه مصر على بعض الخلفاء،فقال له:ما تقول في رجل اشترى شاة فضرطت فوثبت من استها بعرة ففقأت عين رجل على من الدية؟قال:على البائع،قال:و لم؟ قال:لأنّه باع شاة في استها منجنيق فلم يبرىء من العهدة.غضب سعيد بن وهب يوما على غلام له فأمر به فبطح و كشف عنه الثوب ليضربه فقال:يا ابن الفاعلة انّما غرّتك استك هذه حتّى اجترأت عليّ هذه الجرأة،و سأريك هوانها عليّ فقال الغلام:طال ما غرتك هذه الأست حتّى اجترأت على اللّه و سوف ترى هوانك،قال سعيد:فورد عليّ من جوابه ما حيّرني و أسقط السوط من يدي.

سأل اعرابي عبد الملك فقال:سل اللّه تعالى،فقال الأعرابي:قد سألته فأحالني عليك، فضحك و أعطاه.دخل إعرابي المخرج فخرج منه صوت،فجعل فتيان حضروه يضحكون منه، فخرج فقال:يا فتيان هل سمعتم شيئا في غير موضعه؟قال ابن ابي البغل لرجل ولد لي مولود فما اسميه:قال:لا تخرج من الأصطبل و سمّه ما شئت.دخل كلب مسجدا خرابا فبال على المحراب

ص:90

و في المسجد قرد نائم فقال للكلب:اما تخاف اللّه تبول في المحراب فقال الكلب:ما أحسن ما خلقك اللّه حتّى تتعصب له.و قالوا انّ جديا وقف على سطح يشتم ذئبا في الأرض،فقال له الذئب:لست الّذي تشتمني و لكن مكانك يفعل ذلك.

عدى كلب خلف ظبي قال الظبي:انّك لا تلحقني،قال:لم؟قال:لأنّي أعدو لنفسي و أنت تعدو لغيرك.وقف مطيع بن اياس على رجل يعرف بأبي العمير من أصحاب المعلي الخادم، فجعل يعبث به و يمازحه الى ان قال له:

أ لا أبلغ لديك ابا العمير أراني اللّه في استك نصف أيري

فقال له ابو العمير:يا ابا سلمى لوجدت بالأير كلّه لأحد جدت لي به لما بيننا من الصداقة لكنّك لحبك له لا تريده كلّه الاّ لك،فافحمه و لم يعاود العبث به و كان مطيع يرمي بالأبنة.جلس بعض الأعراب يبول وسط الطريق بالبصرة،فقيل له يا إعرابي أ تبول في طريق المسلمين؟فقال:

انا من المسلمين بلت في حقّي من الطريق.

قال ابو زيد النحوي:مرّ رجل من قيس و معه ابن له يريد الجمعة و ابو علقمة المعتوه على باب المسجد جالس،فقال الغلام لأبيه:أكلّم ابا علقمة،قال:لا فأعاد عليه الكلام ثلاثا،فقال له ابوه:أنت أعلم،فقال له الغلام:يا ابا علقمة مبال لحي قيس قليلة خفيفة المؤنة و لحي اليمن كثيرة عريضة شديدة المؤنة؟قال:من قول اللّه تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لاٰ يَخْرُجُ إِلاّٰ نَكِداً مثل لحية أبيك،قال:فجذب القيسي يده من يد ابنه و دخل غمار الناس حياء و خجلا.سأل رجل رجلا ما اسمك؟قال:بحر قال:ابو من؟قال:ابو الفيض، قال:ابن من قال:ابن الفرات،قال:ما ينبغي لصديقك ان يزورك الاّ في زورق.و نظيره انّ رجلا سأل شابا ما اسم ابيك؟قال:عمر،فقال:ما اسم امّك؟قال:عائشة،قال:ما اسم عمك؟قال:

عثمان،ثمّ قال له:ما اسمك انت؟فقال:رجل من الحاضرين اسمه شمر،فضحك الحاضرون، و كنت انا شاهدت ذلك الشاب في العراق و قد كانوا اهل بيت عظيم،و كانوا من اهل السنة فتشيّعوا كلّهم و بقيت عليهم تلك الأسماء.

قدم عبد اللّه بن علي بعض الأمويين للقتل و جرّد السيف لقتله فضرط الأموي فأنزعج السياف فألقى السيف من يده،فضحك عبد اللّه بن علي و أمر بتخلية سبيل الأموي،فقال:هذا أيضا من الأدبار كنّا ندفع الموت بأسيافنا و نحن الآن ندفعه بأستاهنا.دخل اللصوص على رجل فقير ليس في بيته شيء و جعلوا يطلبون و يفتشون،فانتبه الرجل فقال:يا فتيان هذا الّذي تطلبونه في بالليل قد طلبناه بالنهار فلم نجده.دخل لص دار قوم فلم يجد فيها شيئا الاّ دواة،فكتب على الحائط عزّ عليّ فقركم و عناي.كان ابو الشمقمق اديبا شاعرا ظريفا و كان فقيرا حتّى انّه لم يجد

ص:91

ما يلبس و كان يجلس بالبيت فأتاه رجل فقال له:يا أخي انّ العارين في الدنيا أهل الثياب في الآخرة،قال:ان كان الّذي تقول حقّا لأكونن بزازا يوم القيامة.

نظر ابن سمانة الى مبارك التركي على دابّة،فرفع رأسه الى السماء و قال:يا رب هذا حمار له فرس و انا انسان و ليس لي حمار.سأل بعض المغاربة الجراوي للشاعر أي بروج السماء لك؟فقال:و اعجبا منك مالي بيت في الأرض فكيف يكون لي برج في السماء فضحك و أمر له بدار.لقيت امرأة من الأرذ المهلب و قد قدم من الحرب،فقالت:ايّها الأمير انّي نذرت ان وافيت سالما ان أقبّل يدك،و أصوم يوما،و تهب لي جارية سندية و ثلاثمائة درهم،فضحك المهلب و قال:وفينا بنذرك فلا تعاودي مثله فليس كلّ أحد يفي لك به.

سافر اعرابي فرجع خائبا فقال:ما ربحنا من سفرنا الاّ ما قصرنا من صلاتنا.خرج رجلان من خراسان الى بغداد في متجر لهما فمرض أحدهما و عزم الآخر على الرجوع،فقال لصاحبه:

ما أقول لمن يسألني عنك؟قال:قل لهم لمّا دخل بغداد اشتكى رأسه و أضراسه و وجد خشونة في صدره و غررا في طحاله،و خفقانا في فؤاده،و ضربانا في كبده،و ورما في ركبتيه،و رعشة في ساقيه،و ضعفا عن القيام على رجليه،فقال:بلغني انّ الأيجاز في كل شيء ممّا يستحبّ فأنا أكره ان أطوّل عليهم لكنّي أقول لهم قد مات.

نظر زياد الى رجل على مائدته قبيح الوجه يدرع في الأكل،فقال له:كم عيالك قال:

تسع بنات،قال:فأين هنّ منك؟قال:انا أجمل منهنّ و هن آكل منّي،قال:ما أحسن ما سألت و فرض لهنّ فرضا كان سبب غناه.سأل ابو العينا احمد بن صلالح حاجة فوجده ثمّ أقتضاه اياها فقال:حال دونها هذا المطر و الرحل،قال:فحاجتي صيفية،وقف سائل على باب فقال:

يا أهل الدار فبادر صاحب الدار قبل ان يتمّ السائل كلامه فقال:صنع اللّه لك فقال السائل:

يا ابن البطر أ كنت تصبر حتّى تسمع كلامي عسى جئت أدعوك الى دعوة.وقف سائل على باب قوم فقال:تصدّقوا عليّ فإني جائع،قالوا:لم نخبز بعد قال:فكف سويق؟قالوا:ما اشترينا بعد،قال:فشربة ماء فانّي عطشان،قال:ما أتانا السقا بعد،قال:فيسير دهن أضعه على رأسي،قالوا:و من اين الدهن؟قال:يا اولاد الزنا ما قعودكم هيهنا قوموا و سلوا معي.

وقف اعرابيّ على قوم يسألهم فقال احدهم:بورك فيك،و قال آخر:ما أكثر السؤال، فقال الأعرابي:ترانا اكثر من بورك فيك و اللّه لقد علّمكم اللّه كلمة ما تبالون معها و لو كنّا مثل ربيعة و مضر،كان لمزيد غلام و كان اذا بعثه في حاجة قد جعل بينه و بينه علامة اذا رجع سأله فقال:حنطة او شعير،فان كان عاد بقضاء الحاجة قال:حنطة و ان لم تقض الحاجة قال:شعير،

ص:92

فبعثه يوما في حاجة فلمّا انصرف قال له:حنطة او شعير؟قال:خرأ قال:ويلك و كيف ذاك قال:

لأنّهم لم يقضوا الحاجة و ضربوني و شتموك.

قال مطيع بن اياس عبرت جسر بغداد على بغلتي فاعترضني رجل اعمى و ظنني من الجند فقال:اللّهمّ سخّر الخليفة ان يعطي الجند ارزاقهم فيشتروا من التجار الأمتعة فتربح التجار عليهم فتكثر اموالهم فتجب فيها الزكاة عليهم فيتصدّقوا عليّ منها،فقلت له:يا أعمى سل اللّه ان يرزقك و لا تجعل بينك و بينه هذه الحوالات.و نظير هذا انّ سائلا في أصفهان أتى الى دار رجل غني فسأل شيئا،فنادى صاحب البيت لعبده و قال:يا جوهر قل لقنبر و قنبر لبلال يقل لعنبر و عنبر يقل لهذا السائل يرزقك اللّه،فلمّا سمع السائل رفع يديه الى السماء و قال:الهي قل لجبرئيل يقل لميكائيل و ميكائيل يقول(يقل خ)لأسرافيل و اسرافيل يقول(يقل خ)لعزرائيل حتّى يقبض روح هذا البخيل و انصرف.

حدّث الأصمعي عن يونس قال:صرت الى حيّ بني يربوع فلم أجد الاّ النساء و أضربي الجوع فقلت:هل لكن في الصلاة؟قلن ايم اللّه انّ لنا فيها رغبة،فاذّنت و تقدمت و كبرت و قرأت الحمد للّه رب العالمين،ثمّ قلت يا ايها الذين آمنوا اذا نزل بكم الضيف فلتقم ربّة البيت فتملأ قعبا زبدا و قعبا تمرا فانّ ذلك خير و أعظم اجرا،قال:فو اللّه ما فرغت من صلاتي و انقلبت الاّ و صحاف القوم حولي فأكلت حتّى شبعت فجاء رجال الحي فسمعت امرأة و هي تقول لزوجها يا فلان:ما سمعت قرآنا مثل الّذي قرأه ضيفنا اليوم،فقال لها زوجها:تبارك ربّنا انّه ليأمرنا بمكارم.

و قد خرج بعض السلاطين بكرة من منزله فلمّا بلغ الى رأس الطريق عثرت به الفرس فوقع الى الأرض فلمّا ركب رأى في رأس الطريق رجلا مقبلا فقال السلطان هذا رجل نحس مشؤوم لمّا رأيته عثرت بي الفرس فاذهبوا اضربوا عنقه،فلمّا سمع الرجل ذلك قال:أنت قاتلني و لكن لي كلمة أقولها،قال له:قل،قال:احلّفك و اقسم عليك أي الرجلين أنحس و أشأم انا أم أنت رأيتني عثرت بك الفرس و قمت سالما و انا رأيتك حصل لي القتل من رؤياك،فأيّنا أنحس على صاحبه فضحك السلطان فأمر له بجائزية كثيرة.قد تعارف بين الناس و في الطب انّ الرجل اذا عظم منخره كبر ذكره،و المرأة اذا أتسع فمها أتّسع فرجها.

و قد أعطى بعض السلاطين لرجل من أصحابه جارية بيضاء فاتّفق انّها كانت واسعة الفم و اخيه،فبقيت عند ذلك الرجل مدّة فزعمت في نفسها انّ الرجل لم يشعر بإتساع الموضعين، فقالت له يوما:ايّها الرجل هلم الي ان تعدّ عيوبي و أعدّ عيوبك،و قال:ليس فيك عيب لأنّك من حواري السلطان فقالت:لا بدّ من هذا فأخذت في تعداد عيوبه فلمّا فرغت قالت عدّ أنت،

ص:93

فقال:فمك واسع قولي اثنان فعلمت انّه علم و انقطعت عن الكلام و هذا الرجل قد كان راكبا مع السلطان و هو الشاه عبّاس الأوّل و اسم ذلك الرجل كل عناية و هو مضحكته،فلمّا بلغا الى طريق بين المنازل رأوا راكبا وثب من سطح بيت الى سطح بيت آخر و في اثناء طفرته ضرط ذلك الكلب فقال السلطان لذلك الرجل:هذه الضرطة أ هي لصاحب هذا البيت أم صاحب هذا البيت؟ فقال:أعزّ اللّه السلطان هذه الضرطة وقعت في الهوى و كلّ شيء هوائي فهو للسلطان لا لهذا و لا لهذا فضحك السلطان كثيرا.

و قد دخل يوما على ذلك السلطان و هو في بستانه يحرث و يزرع داخل البيت،فقال له:

يا مولاي ما تزرع هذا اليوم في هذا البستان المبارك؟فقال:أيورة الحمير،فقال:يا مولاي لا ترفع صوتك أخاف ان يكون الحرمات يسمعن هذا الكلام فيقلعنه قبل ان يخضّر و يخرج من الأرض.

و قد كان في بلاد العراق في أرض الجزائر رجل فقير و قد كان سعى و كسب بأنواع الكسب حتّى وقع بيده مائتا درهم تقيريبا فتزوّج بها امرأة و بقيت عنده ايّاما،فماتت فبكى عليها و صاح و كان يقول:و اي بمن وضعت مالي كلّه فيها و كان الحاضرون يضحكون من كلامه و هو يقصد الدراهم،و لمّا ماتت امرأة رجل بحراني أتى الى رجليها و جلس عندهما فبكى فقيل له:انّها امرأة ماتت و سيجيء غيرها،فقال بلسان البحرين:انّها امّ بكسر الهمزة لا زوجة فقالوا له:لم تجلس عند رأسها؟فقال:انّي ما رأيت الخير الاّ في رجليها.

و قد كان رجل بحراني نائما فوق مرتفع فسقط من ذلك المرتفع الى الأرض ليلا و قد كانت زوجته في الأرض فقالت:ما هذه الطقة؟قال:عباتي وقعت من فوق فقالت:وقعتها ثقيلة على الأرض؟قال:انا فيها.و كان ايضا رجل قد قال لأمرأته تعالي نروح الى بيت أبيك و قد كان بين المنزلين فرسخ او نحوه فقالت له زوجته:ربّما لقينا قاطع طريق فكيف نقاومه؟فقال لها:أضربه بعصاي هذه حتّى أقتله،فمضيا فلمّا توسط الطريق فاذا بفتى من أهل البصرة و خلفه عنزة تمشي فلمّا رأى تلك المرأة أعجبته فقال لزوجه بخشونة من الكلام تعال اقبض هذه العنزة،فقال:حبّا و كرامة فأخذ البصري تلك المرأة الى مكان قريب من زوجها و فعل بها ما فعل فلمّا فرغ ناداه هات العنزة و خذ امرأتك فأخذ الرجل عنزته و مضى،فقالت المرأة لزوجها:أ لم تقل اني أضرب قاطع الطريق بعصاي فأين عصاك هذا الوقت؟فقال لها:انّ هذا البصري ما ربح عليّ بل انا الّذي غلبته،قالت:و كيف غلبته؟فقال:هو كان معك و انا كنت انيك العنزة حتّى قطعت سفلها من النيك،اما سمتها تمعمع؟فقالت:نعم سمعتها،فقال:و ايضا تبعته و قلت له كلمة أحرقت بها قلبه،فقالت:كيف قلت له قال:قلت له ايّها الرجل حصّل لك كسا تأتي اليها كلّ وقت فانّ كساسة الناس ما تتّهيأ لك كلّ وقت،فحرقت كبده في هذه الكلمة.

ص:94

و قد تمتّع رجل بحراني بامرأة عجمية فلمّا أصبح سأله بعض اخوانه كيف وجدتها فقال:

وجدت فيها خصلتين من خصال الجنّة و هما البرد و السعة يعني انّها باردة و واسعة و كان رجل منهم في البصرة فلقيه رجل من أهلها و بيده حيّة عظيمة،فقال لذلك البحراني:أقسم عليك بحب ابي بكر الصدّيق الاّ ما لزمت هذه الحيّة فقال:انظر في ايّ شيء تحلفني و اي شيء يقبضني؟لأنّ اهل البحرين كلّهم مثل اهل الجزائر في كونهم شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى انّه حكى لي رجل ثقة فقال:انّ بحرانيا وضع في القبر فسأله الملكان عن ربّه و عن نبيّه فقال:اللّه ربّي و محمّد نبيّ،فسأله عن امامه فقال:انا من اهل البحرين يعني لا أحتاج الى السؤال عنه.

و قد سمعت من جماعة من الثقاة ان قافلة من اهل البحرين سافروا الى زيارة مولانا امير المؤمنين عليه السّلام فلمّا فرغوا و خرجوا الى قريب من بلد الحلّة كان بينهم رجل لا يخلوا من قلّة العقل فقالوا له:يا ابا حميد أعطاك الأمام براة مكتوبة؟فقال:لا فقالوا له:اذن لم يقبل زيارتك فها نحن كلنا أعطانا براوات بقبول الزيارة،فقال لهم:إنتظروني هنا ثمّ رجع فأتى الى الروضة الطاهرة و استقبل القبر و بكى و قال:يا مولاي ما التقصير الّذي وقع منّي حتّى لم تعطني براة مثل اصحابي،فخرجت اليه براة من المحجر الشريف مكتوب فيها ابو حميد عتيق من النار كتبه علي بن ابي طالب،فرجع الى أصحابه مسرورا فلمّا رأوها تبرّكوا بها و قيل لي:انّها الى الآن موجودة عند اولاده و ذراريه.

و قد جاء جماعة منهم الى البصرة فلمّا دخلوا شط البصرة أراد واحد من أهلها ان يعبث بهم،فقال لهم:كيف أحوال مخنثي البحرين أهم قليلون ام كثيرون؟فقام اليه رجل منهم فقال:

نعم قد قلّوا و ارسلونا نملأ هذه السفينة من مخنّثي البصرة و نرسلها الى هناك.

و نظير هذا انّ شابّا حسن الصورة من اهل اصفهان كان جالسا في السوق و هو مغرور بحسنه و جماله و يعبث بكل من يمر به،فمرّت به فتاة جميلة فقال لها:ايّتها المرأة كيف يباع القبل و الدبر عندكم؟فقالت له:امّا القبل فلا يباع بالموازين و المثاقيل امّا الدبر فأنت أعرف به منّي كيف يباع فانقطع عن الكلام.

و نقل عن ابن الراوندي انّه اتى يوما الى السوق فمرّ بدكّان يباع فيه الباقلا فرأى رجلا غنيّا اشترى باقلا و جلس يأكله فأكل لبّه و رمى قشوره،فقام من غير حمد اللّه تعالى و لا شكر،فرأى بعده رجلا فقيرا جاء الى تلك القشور فالتقطها من التراب و أكلها و حمد اللّه و شكره و قام،و ابن الراوندي واقف ينظر اليه فلمّا قام أتى الى ذلك الرجل و صفعه على رقبته و بالغ في ضربه و قال له:

ما طمع اللّه فينا و لا جرّأه علينا معاشر الفقراء الاّ انت و أمثالك،لأنّه نظر الى انّكم تحمدونه على القشور و الأغنياء ما يحمدونه على اللباب فعلم انّكم راضون بهذا.

ص:95

و نقل عنه ايضا انّه كان جالسا تحت حائط و ليس على رأسه قلنسوة فرفع يديه الى السماء و طلب من اللّه سبحانه ان يرزقه قلنسوة فاتّفق أنّ وراء ذلك الجدار رجلا كنّاسا كان يكنس كنيفا و كان في تلك الكنيف خلق قلنسوة بين الفضلات،فأخذها و رماها بمسحاته فوقعت على رأس ابن الراوندي،فلمّا نظر اليها راى ما عليها فأخذها و رمى بها في الهوى و قال:هذه اجعلها على رأس جبرئيلك ان كان رأسه مكشوفا بغير قلنسوة،هكذا كان حاله مع اللّه تعالى.

و قد تمتّع رجل من أصحابنا بإمرأة و كان ذلك الرجل فقيرا فصار القرار على درهمين تقريبا،فجامعها تلك الليلة خمس مرّات فلمّا أصبح طالبته بالدرهمين و لم يكن عنده شيء، فألحت عليه بحضور جماعة من المؤمنين فقالت:ايّها الناس انّه جامعها خمس مرّات و لم يعطها شيئا فقال لها:يا حبّابه تعالي ثمّ انّه نام و رفع أرجله و قال:تعالي جامعيني سبع مرّات،عوض الخمس مرّات،فقال الحاضرون:الحقّ مع العالم.

و تمتّع رجل من أصحابنا امرأة في شيراز و اعطاها محمّديّة و كان الوقت حارا فصعدنا السطح و امّا هو فغلق باب حجرته عليه و بقى مع المرأة،فلمّا قرب نصف الليل فاذا صوت المرأة قد ارتفع و هي تقول هلموا اليّ فقد قطع فرجها،فنزلنا اليهما فأتيت اليها و قلت ما جرى عليك؟ فقال:انّ الليل لم ينتصف و انّه قاربني عشرين مرة و ما صرت أطيق فهذه المحمّديّة يأخذها و يعفيني بقية الليل،فقلت له يا فلان:ما تقول في كلامها هذا فقال:انّها كذّابة ما بلغت العشرين فلزمني من يدي و قال تعال،فأتيت معه فأدخلني الحجرة و اذا هو قد خطّ المرات خطوطا في الجدار فعددتها و اذا هي ثمان عشرة فقال:انظر كيف كذبت عليّ،فقلت له يا فلان:أقسم عليك باللّه ما كان في نظرك الشريف الى وقت الصباح من مرة،فقال:و اللّه كان في خاطري اربعين مرة ليكون بإزاء كل نصف غازي مرة،ثمّ انّ المرأة أعطته المحمّديّة و انهزمت نصف الليل.

و قد اراد بعض المؤمنين ان يتمتّع في أصفهان فقالت له عجوز دلاّلة:انا أهديك على امرأة جميلة فأخذته الى بيت امأة فرأى امرأة تحت الأستار و الحجب فظنّ بها القبول و قد كان أعطى الدراهم للعجوز و أنصرفت فلمّا خلي معها و رفعت الحجب نظر الي وجهها و اذا لها من العمر ما تجاوز التسعين و لا يتكلّم الاّ بالدرادر لعدم الأسنان،ففكر في نفسه فانتهى فكره الى ان قال لها:

يا حبّابة أريد شيئا من الدهن فقامت و احضرته عنده فكشف رأسه و دهّنه دهنا جيدا،فقال لها:

نامي على اسم اللّه تعالى حتّى نقضي الحاجة فنامت فقدّم رأسه فقالت:ما تصنع؟فقال:قاعدة بلادنا ان يأتون النساء برؤوسهم،فقالت:خربّ اللّه بلادكم و هذا شيء ما يكون،فقال:انظري كيف يكون فقامت من تحته و قالت هذه دراهمك خذها لا بارك اللّه لك فيها فلم يقبل حتّى ضاعفت له الدراهم أضعافا كثيرة بالتماس كثير حتّى أخذها و خرج منها.

ص:96

و واحد آخر أيضا قد جرت عليه مثل هذه المقدّمة فلمّا خلي بها فرآها تزيد في العمر على عجائز بني اسرائيل قام و أخذ ابريقا الى الكنيف،فأخذ لفّافة عمامته و عصب بها ذكره حتى صار كالجاون الصغير فأقبل اليها و هو يتوجّع و يأنّ فانكشف لها،فقالت:ما هذه العصابة على ذكرك، فقال:انّ معي داء البشل و الطبيب أمرني بان أتمتّع امرأة عجوزا و ألفظ سم هذا الوجع فيها حتّى ابرأ،فصاحت من هذا الكلام و قالت:خذ دراهمك لا بارك اللّه لك فيها،فقال:هيهات هيهات لا أقبل هذا ابدا حتّى زادت على ما أعطاها زيادة وافرة فأخذها و مضى.

و قد جاء رجل الى مجلس واحد من العلماء فسمع انّ من جامع امرأته مرّة واحدة كان ثوابه مثل ثواب من قتل كافرا فجاء الى زوجته و نقل لها هذا الحديث ففرحت به،فلمّا جاء الليل قالت له:اما تقتل كافرا؟قال:بلى فجامعها مرّة و ناما،ثمّ ايقظته و قالت اجلس نقتل كافرا فأتاها مرّة أخرى فكررت عليه قتل الكفار تلك الليلة حتّى انتصف الليل،فاستلقى الرجل على قفاه من الضعف فقالت:ذهب الليل فقم نقتل كافرا فقام اليها و قال:يا أيتها المرأة إتقي اللّه تعالى في دمي فانّ سيف عليّ بن ابي طالب ذا الفقار لم يحط بقتل الكفّار في مدّة ستّين سنة و تريدني انا أن أقتل الكفّار كلّهم في ليلة واحدة.

و كان عند رجل من أهل البصرة هرّة مؤذية تسرق طعامهم و تفسد عليهم أمورهم و كلّما أبعدوها عن منزلهم رجعت اليه،فوضعوها فوق لوح و قيّروا رجليها و يديها فوقها و أجروها على وجه الماء،فأخذها الماء فاتّفق انّ حاكم البصرة كان في سفينة في الشط فرأى الهرة تصيح وسط الشط فأمر بها فأتى بها اليه،فعرف انّ صاحبها فعل بها هذا الفعل،فلمّا أتى بها الى البصرة كتب كتابة و وضع فيها خاتمه مضمون الكتابة انّ هذه الهرة لأجل خاطر الحاكم ينبغي ان يعفو صاحبها عن ذنبها و يجعلها في منزله،فعلّق الكتابة في عنقها و سيّبها فأتت الى بيت صاحبها فرآها صاحبها و الكاغذة في رقبتها معلّقة ففتحها و قرأها و اذا فيها حكم الحاكم و خاتمه في قبول الهرّة و ان صاحبها لا يخرجها من بيته و ان أخرجها أخرجه الحاكم من البصرة،فلمّا قرأه جمع مفاتيح بيته و حملها مع الهرة الى حضرة الحاكم فقال:ايّها الأمير هذه مفاتيح منزلي فسلّمها الى هذه الهرّة و انا أخرج من المنزل لأنّ هذه الهرة بدون حكم منكم و كاغذ كانت تخرب علينا و تفسد و الآن حكمكم معلّق في عنقها لا نقدر على اضرارها و لا إبعادها،فضحك الأمير و خلاّها.

و دخل اللص على دار رجل و كان البيت مظلما فوجد في البيت شيئا من الطحين و كان معه رداءه ففرش رداءه و مضى الى ان يأتي بالطحين ليضعه في الرداء،و كان صاحب المنزل يقظانا فمدّ يده الى رداء اللص و أخذه،فأتى اللص بالطحين و صبّه فوق الأزار يظنّ ان الأزار مطروح،فأراد رفع الأزار فلم يجده،فصاح به صاحب المنزل هذا لصّ،فقال اللص:قد علم

ص:97

أيّنا السارق انا او انت،فخرج اللص من غير رداء.و كان في العراق رجل مؤمن فقير و كان عنده حصير ينام عليه مع زوجته،فاذا أرادوا المواقعة ربّما تنجّس ذلك الحصير فقال لأمرأته:اذا أردنا ذلك الأمر إفرشي لنا القباء الخلق حتّى لا ينجّس الحصير،فقالت:هكذا يكون فأتت اليه ذلك اليوم من العصر،فقالت له:افرش القباء هذه الليلة،فقال:بلى فقضوا حاجتهم تلك الليلة فأتت اليه في اليوم الثاني و استأمرته في وضع القباء فأمرها فصارت كلّ يوم تبكّر عليه في هذا الأمر، فكلّ ذلك المؤمن من كثرة المجامعة فأتت اليه يوما تستأمره،فقام اليها و ضربها،و قال لها:

يا ملعونة انا قلت لك اذا أردنا قضاء هذه الحاجة فافرشي لنا خلق القبا و لم أقل لك افرشيه كلّ ليلة.

و قد غار جماعة من عساكر الروم على قبيلة من الأعراب فانهزمت أهل القبيلة و بقيت منهم امرأة عجوز في مكانهم لعدم قوّتها على المسير فأتى اليها رجلان او ثلاثة من عسكر الروم و قالوا لها:ايّتها العجوز نجامعك مرات على عدد أضراسك و كانت قليلة الأضراس،فعدوا أضراسها و تناوبوا عليها حتّى فرغوا من ذلك الحساب،فلمّا ركبوا و أدبروا عنها نادت اليهم و قالت هذه الرحى من ضروسي خفيت عليكم وقت العدّ،فرجعوا اليها و جامعوها مرّة،فلمّا ركبوا وضعت اصبعها على ضرس و قالت هذا ضرس مكسور تعدّيتم عنه،فرجعوا اليها فكانت كلمّا ركبوا تطالبهم بحساب رحاء أو سنّ أو ضرس الى ان عجزوا فولّوا عنها هاربين.و قيل للأعمش لم عمشت عينك؟فقال:من النظر الى الثقلاء.

قال صاحب الأغاني انّ رجلا قال لجرير من أشعر الناس؟قال:قم حتّى أعرفّك الجواب فأخذ بيده و جاء الى أبيه عطيّة و قد أخذ عنزة فاعتقلها و جعل يمتصّ ضرعها،فصاح به أخرج يا ابه،فخرج شيخ ذميم رثّ الهيئة و قد سال لبن العنز على لحيته،فقال:ترى هذا؟قال:نعم قال:اولا تعرفه؟قال:لا قال:هذا ابي أ فتدري لم كان يشرب من ضرع العنزة قال:لا قال:

مخافة ان يسمع صوت الحلب أحد فيطلب منه،ثمّ قال:أشعر الناس من فاخر بهذا الأب ثمانين شاعرا و قارعهم فغلبهم جميعا.

ذكر انّ الحجاج خرج يوما متنزّها فلمّا فرغ من تنزّهه صرف عنه أصحابه و انفرد بنفسه، فاذا هو بشيخ من بني عجل فقال له:من ايّن ايّها الشيخ؟قال:من هذه القرية قال:كيف ترون عمّالكم؟قال:شرّ عمّال يظلمون الناس و يستلّون أموالهم،قال:فكيف قولك في الحجاج؟قال:

ذلك ما ولى العراق أشرّ منه قبّحه اللّه تعالى و قبّح من استعمله قال تعرف من انا؟قال:لا قال:انا الحجّاج،فقال له:أ تعرف من انا قال:لا قال:انا مجنون بني عجل أصرع في كلّ يوم مرتين فضحك و أمر له بصلة.

ص:98

دخل شريك بن الأعور على معاوية و كان ذميما فقال له معاوية:انّك لذميم و الجميل خير من الذميم،و انّك لشريك و ما للّه شريك،و انّ اباك الأعور و الصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك؟!فقال له:انّك معاوية و ما معاوية في اللغة الاّ كلبة عوت فاستعوت الكلاب،و انّك لأبن صخر و السهل خير من الصخر،و انّك لأبن حرب و السلم خير من الحرب،و انّك ابن اميّة فصغرت فكيف صرت علينا امير المؤمنين ثمّ خرج من عنده و هو يقول:

ايشتمني معاوية بن حرب و سيفي صارم و معي لساني

و قال معاوية لرجل من اهل اليمن:ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة؟فقال:

أجهل من قومي قومك الّذين قالوا لمّا دعاهم الرسول اللّهم ان كان هذا هو الحقّ فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم،و لم يقولوا اللّهم ان كان هذا هو الحقّ فاهدنا اليه.

و خطب معاوية يوما فقال:انّ اللّه تعالى يقول وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ فعلام تلوموني؟فقال له الأحنف:ما نلومنّك على ما في خزائن اللّه و لكن على ما أنزله اللّه من خزائنه و جعلته في خزائنك و حلت بيننا و بينه.

حكي انّ بعض الأكابر مرّ بامرأة من بعض أحياء العرب فقال لها:ممّن المرأة؟فقالت:من بني فلان،فقال:أ تكنون؟فقالت:نعم نكتني،فقال لها:معاذ اللّه و لو فعلته لأغتسلت،فأجابته على الفور و قالت:دع ذا أ تحسن العروض؟قال:نعم،قالت:قطع حوّلوا عنّا كنيستكم يا بني حمالة الحطب،قال:حولوا عن فاعلات ناكني فاعلن،فقالت:من الفاعل؟فقال:اللّه اكبر انّ للباغي مصرعا.مرّ رجل بابي بكر و معه ثوب،فقال له ابو بكر:أ تبيعه؟فقال:لا يرحمك اللّه، فقال له ابو بكر:لو تستقيمون لقوّمت السنتكم هلاّ قلت و يرحمك اللّه.قال شيخنا البهائي تغمّده اللّه برحمته اعتراض ابي بكر غير وارد على ذلك الرجل لإحتمال ان يكون قصده من قوله لا يرحمك اللّه معناه الظاهر.

قال الأصمعي:دخلت البادية و معي كيس فأودعته امرأة منهم،فلمّا طلبته أنكرته فقدّمتها الى شيخ من الأعراب فأقامت على إنكارها،فقال:ليس عليها الاّ اليمين،فقلت:كأنك لم تسمع قوله تعالى.

و لا تقبل لسارقة يمينا و لو حلفت بربّ العالمينا

فقال:صدقت،ثمّ تهدّدها فأقرت فردّت اليّ مالي،ثمّ التفت اليّ الشيخ فقال:في ايّ صورة تلك الآية فقلت في سورة:

ألا هبي بصحبك فأصبحينا و لا تبغي خمور الأندرينا

ص:99

فقال:سبحان اللّه لقد كنت أظنّها في سورة انّا فتحنا لك فتحا مبينا.قال الرشيد لمسكين سأله حاجة:ما بال الملوك و عندهم الأطباء لا تطول أعمارهم؟فقال المسكين:لأنّ الملوك يعطون رزقهم جملة فيأكلون و أرزاقنا تأتينا من خرت الأبرة فنأكلها شيئا فشيئا فنبقى حتّى نستوفيها، فعجب من جوابه و أعطاه عشرة الآف درهم فما أتت عليه أيّام حتّى مات،فقال الرشيد:جمعنا له رزقه فمات.

جلس كسرى يوما لمظالم العباد فتقدّم اليه رجل قصير و جعل يقول:انا مظلوم فلم يلتفت اليه،فقال الوزير:أنصف الرجل فقال:انّ القصير لا يظلمه أحد فقال:الّذي ظلمني أقصر منّي.قال حائك للأعمش:ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟قال:لا بأس بها على غير وضوء، قال:و شهادته قال:تقبل مع عدلين يشهدان معه.و قد كان رجل في أصفهان يقرأ في علم الحساب فدخل يوما على الوزير الأعظم الّذي بيده الموقوفات يريد منه شيئا من غلات الأوقاف فسأله الوزير في ايّ شيء تقرأ قال:في بحث القسمة من خلاصة الحساب فأراد الوزير ان يعبث به فقال له:كيف تقسم مائة ضرطة على تسعين لحية،فقال الرجل:قسمتها انّ الوزير سلّمه اللّه تعالى له من كلّ شيء فاذا رفع العشر تصير القسمة ظاهرة فضحك الوزير هو و الحاضرون.

و مضى رجل من أهل العراق الى قرية في خراسان اسمها جام و هي قرية الملاّ جامي في حياة الملأ المذكور،فلمّا أتى الرجل العراقي الى مسجدها أخذ في الصلاة و شدّ الحنك،فلمّا رآه أهل تلك القرية مواظبا على الصلاة متلبسا الثياب البيض تركوا الصلاة مع الملأ و أقبلوا الى الصلاة خلف ذلك الرجل،فوبخهم الجامي و قال:هذا عربي جاهل كيف تصلّون خلفه،فعزموا ان يجمعوا بينهما للمباحثة،فاجتمع الناس فلمّا جلسوا قال العراقي للجامي:ما معنى لا أعلم فقال:معناه(نميدانم)فصاح العراقي و قال:اشهدوا انّه قال(نميدانم)و هذه اللفظة معناها لا أعلم فظن الحاضرون من الأعاجم أنّه سأله مسئلة و قال للجامي:لا أعلم يعني لا أعلم هذه المسئلة فأقبلوا على الرجل و هجروا الجامي،فلمّا آل الحال الى هذا خرج الجامي من تلك القرية و خرج الناس لمشايعته فوقف على باب البلد فقال:ايّها الناس اوصيكم في هذا الرجل العربي فانّه رجل صالح فامضوا اليه و التمسوا لي منه شعرة من لحيته تكون معي في السفر أتبرّك بها فمضوا الى الشيخ فنتف شعرة و أرسلها له فأخذها و سافر،فقال اهل القرية:انّ لحية إمامنا تصلح للتبرّك فأتوه و طلبوا منه شعرة شعرة الى ان أتوا على آخرها،فبقى الرجل العربي معدوم اللحية فانهزم من بينهم.

و قد تنازع رجل شيعي و رجل سني في انّ الأفضل بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أ هو علي ابن ابي طالب؟او ابو بكر؟فتراضيا على انّهم يمشون فأول من يطلع عليهم في الطريق يكون حكما

ص:100

يرضون بقوله،فلمّا مشيا و اذا برجل قد طلع عليهما من رأس الطريق فأتوا اليه فقال له الشيعي:

انّا رضيناك حكما في مسئلة،فقال:ما هي؟قال:انا أقول انّ أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو علي بن ابي طالب عليه السّلام،فقال:و هذا ابن زانية ما يقول؟فلمّا سمع ذلك الرجل هذه الكلمة ولّى هاربا.

و حكي لي في مشهد أمير المؤمنين عليه السّلام رجل كان مخالفا ثمّ أستبصر فقال:انّي كنت أتوضأ بعد تشيّعي في مكان لم يكن فيه أحد،فتوضّأت وضوء الشيعة فمسحت رجلي فالتفت و اذا رجل من أكابر المخالفين فوق رأسي فعمدت الى رجلي فغسلتهما فقال لي:ما هذا الوضوء مسحت أوّلا ثمّ غسلت؟فقلت له هذه المسئلة قد وقع فيها الخلاف بين اللّه تعالى و بين ابي حنيفة فقال اللّه تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ و قال ابو حنيفة:و يجب غسل الرجلين في الوضوء فانا مسحت رجلي خوفا من اللّه تعالى ثمّ غسلت رجلي منكم،فضحك ذلك الرجل و انصرف.

قد يشدّ الأنسان في اصبعه او يده و نحوه ليتذكر به و يسمّى الرتيمة فهل في جسدك عرق او شعرة الاّ و هي تذكرك الخالق فما هذا النسيان البارد:

اذا لم تكن حاجاتنا في نفوسكم فليس بمغن عنه عقد الرتائم

ما أبيض الرغيف حتّى اسودّ وجه الضعيفك

ما أبيضّ وجه المرء في طلب العلا حتّى تسودّ وجهه في البيد

رأت فأرة جملا فجرّت خطامه فتبعها فلمّا وصل الى بيتها وقف و نادى بلسان حاله اما ان تتخذي دارا تليق بمحبوبك او محبوبا يليق بدارك،و انت اما ان تصلّي صلاة تليق بمعبودك او تتّخذ معبودا يليق بصلاتك،من لم يسمع كلام الصامت و لم يفهم عبادة الجامد فليس بفطن لا يغرنّك صفو العيش فالدرد في أسفل الكأس:

كان للقوم في الرجاجة باقي أنا وحدي شربت ذاك الباقي

و صلاح الأجسام سهل و لكن في صلاح العقول يعيى الطبيب

و سمّيتها ليلى و سمّيت دارها بنجد فلا ليلى اردت و لا نجدا

يا كاسبا من غير حل درهما و لعلّه في اجرة الحفّار

و ما حاجر الا بليلى و أهلها اذا لم تكن ليلى فلا كان حاجر

و ليس هوى العيون هوى صحيح اذا لم يتصل بهوى القلوب

و ليس يشين السيف ان لا ترى له لدى الضرب جفنا مذهبا و مفضضا

و ما اسفي الاّ على العمر ينقضي و ليس لنا في الأجتماع نصيب

ص:101

و ما الغل في الأعناق لموق حديدة و لكنّ ما من اللئيم هو القتل

و من يسأل الركبان عن كل غائب فلا بدّ ان يلقى بشيرا و ناعيا

أصحّ و أقوى ما سمعناه في الندى من الخبر المأثور منذ قديم

احاديث ترويها السيول عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم

لا تتبعن كلّ دخان ترى فالنار قد توقد للكيّ

الهمم تتفاوت في جميع الحيوانات العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتا و لا تقبل منّة الأمّ،و الحيّة تطلب ما حفره غيرها اذ طبعها الظلم،لمّا كان الطائر يحتاج ان يزق فرخه لم يحمل عليه الاّ تدبير بيضتين،و لمّا كانت الدجاجة تحضن و لا تزق كان بيضها أكثر،و لمّا كانت الرقة (1)لا تحضن و لا تزق صارت تبيض ستّين بيضة و تحفر لهنّ و تترك التراب عليهنّ،و بعد ايام ينبشن و يخرجن،اذا صبّ في القنديل ماء ثمّ صب عليه زيت صعد الزيت فوق الماء فيقول الماء:انا ربّيت شجرتك فاين الأدب لم ترتفع علي؟فيقول الزيت أنت في رضراض الأنهار تجري على طريق السلامة و انا صبرت على العصر و طحن الرحا و بالصبر يرفع القدر،فيقول الماء الاّ انّي انا الأصل فيقول الزيت استر عيبك فانّك لو تولّيت المصباح لأنطفأ.

كان داود عليه السّلام يقول في مناجاته الهي خرجت أسأل أطبّاء عبادك ان يداووا لي جرح خطيئتي و كلّهم عليك دلّني من امتطى على راحلة الشوق لم يشق عليه بعد السفر:

على قدر اهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام الكرائم

كان بعض الأغنياء كثيرا الشكر فطال عليه الأمد فبطر و عصى فما زالت نعمته و لا تغيّرت حالته،فقال:يا ربّ تبدّلت طاعتي و ما تغيّرت نعمتي فهتف هاتف يا هذا لأيّام الوصال عندنا حرمة ضيّعتها و حفظناها،العود في بلادها خشب فاذا سوفر به الى طالبي الطيب عزّ البهائم تنظر العواقب هذا الأيّل يأكل الحيّات فيشتدّ عطشه فيحوم حول الماء فلا تشربه لعلمه انّ الماء ينفذ السمّ الى اماكن لا يبلغها الطعام،و من عادته ان يسقط قرنه في كلّ سنة و هو سلاحه فيختبي الى ان ينبت،هذه الحيّة تستتر طول الشتاء في الأرض فتخرج و قد غشّى بصرها فتحكه بأصول الراز يانج لأنّه يزيل الغشاء،اذا جلست في ظلام الليل بين يدي سيدك فاستعمل أخلاق الأطفال فانّ الطفل اذا طلب من ابيه شيئا فلم يعطه بكى:

يا سادتي هل يخطرنّ ببالكم من ليس يخطر غيركم في باله

ص:102


1- (12) الرقة العظيم من السلاحف يعني:(لاك بشت)او دويبة صغيرة

حاشاكم ان تغفلوا عن حال من هو غافل في حبّكم عن حاله

باتوا و خلفت ابكي في ديارهم قل للديار سفاك الرايح الغادي

و قل لأظعانهم حييت من ظعن و قل لواديهم حييت من وادي

قال البازي للديك:ما على وجه الأرض أقلّ وفاء منك أخذوك أهلك بيضة فحضنوك فلمّا خرجت جعلوا مهدك حجورهم،و مأيدتك أكفهم حتى اذا كبرت صرت لا يدنو منك احد الا طرت هيهنا و هيهنا،و انا أخذت مسنّا من الجبال فعلّموني ثم أرسلوني فجئت بالصوت لهم،فقال له:الديك لم نر بازيا مشويا في سفود و كم رأيت في سفود من ذيك البحتري:

و اذا تكامل للفتى من عمره خمسون و هو الى التقى لا يجنح

عكفت عليه المخربات فما له متأخّر عنها و لا متزجر

فاذا رأى الشيطان غرّه وجهه حيّا و قال فديت من لا يفلح

الفخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية،من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة،كان بيّاع لبن يخلط اللبن بالماء فجاء السيل فذهب بالغنم،فجعل يبكي و يقول اجتمعت تلك القطرات فصارت سيلا:

أسائل عمّن لا أريد و انّما اريدكم من بينهم بسؤال

رأى رجل في طريق مكة امرأة فتبعها فقالت:مالك؟قال:قد سلب حبّك قلبي،قالت:

فلو رأيت أختي هذه فالتفت فلم ير أحدا،فقالت:ايها الكاذب في دعواه لو صدقت ما التفت، بات الفرزدق عند ديرانيّة فأكل طفيشلها (1)بلحم خنزير،و شرب خمرها،و فجر بها،و سرق كساها ثمّ قال:للّه درّ ابن المراغة يعني جريرا حيث يقول:

و كنت اذا نزلت بدار قوم رحلت مخزّية و تركت عارا

نظر اعرابي الى القمر حين طلع فأبصر به الطريق و قد خاف ان يضل،فقال:ما عسيت ان أقول ان قلت حسّنك اللّه فقد فعل او رفعك اللّه فقد فعل.نظر رجل حجازي الى هلال شهر رمضان و قال:قد جئتني بقرينك قطع اللّه أجلي ان لم أقطعك بالأسفار.قيل لأعرابي ما علمك بالنجوم؟قال:من الّذي لا يعلم أجذاع بيته.قيل لأعرابي ما أعددت للبرد قال:طول الرعدة.

ص:103


1- (13) الطفيشل نوع من المرق.

كان لأبن اسحاق الموصلي غلام يستقي له،فقال له يوما:يا فتح ما خبرك؟قال:خبري انّي لا أرى احدا في الدار أشقى منّي و منك،قال:كيف؟قال:لأنّك تطعمهم الخبز و أنا أسقيهم الماء، فضحك و أعتقه.إستطاب اسماعيل بن أحمد نيشابور ثمّ قال:نعم الوطن لو لا،قيل كيف؟قال:

كان ينبغي ان يكون مياهها الّتي في باطنها على ظاهرها و مشايخها الّذين في ظاهرها و في باطنها.الأيوان من بغداد على مرحلة بناه كسرى في نيف و عشرين سنة طوله مائة ذراع في عرض خمسين في سمك مائة،و لمّا بنى المنصور بغداد أحبّ ان ينقضه و يبنى بنقضه،فاستشار خالد بن برمك فنهاه فقال:هو آية الأسلام و من بناه علم انّ من هذا بناؤه لا يزيل أمرع الا نبي،و هو مصلّى علي بن ابي طالب،و المؤنة في نقضه اكثر من الأرتقاء،فقال:أبيت الاّ ميلا الى العجم فهدمت ثلمة،فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا فأمسك،فقال له خالد:انا الآن أشير بهدمه لئلاّ يتحدّث بعجزك عنه فلم يفعل.

اعتل شابور ذو الأكتاف بالروم و كان أسيرا،فقالت له بنت الملك و قد عشقته:ما تشتهي؟ قال:شربة من ماء دجلة و شمّة من تراب اصطخر،فأتته بعد أيّام بماء و قبضة من تراب و قالت:

هذا من ماء دجلة و شمّة من تراب اصطخر،فأتته بعد أيّام بماء و قبضة من تراب و قالت:هذا من ماء دجلة و هذا من تربة ارضك،فشرب و اشتم بالوهم فنقّي من علته.

قيل لحكيم أيّ الأوقات أحمد للأكل؟قال:من قدر فاذا اشتهى،و امّا من لم يقدر فاذا وجده قيل لمدني بم تتسحّر الليلة؟قال:باليأس من فطور القابلة.

قيل لأبن الحارث ما تقول في الفالوذج؟قال:وددت انّها و ملك الموت قد اعتلجا في صدري،و اللّه لو انّ موسى لقي فرعون بفالوذجة لأمن و لكن لقيه بعصى.شكي الى ابي العينا مدني سوء الحال فقال له:ابشر فأنّ اللّه قد رزقك الأسلام و العافية،فقال:أجل و لكن بينهما جوع يقلقل الكبد.شكى رجل الى طبيب وجع البطن،فقال:أكلت سمكا و لحم بقر و بيضا و ماستا.فقال:انظر ان مت في هذا و الاّ فأرم بنفسك في حالق.

اشترى إعرابي غلاما فقيل يبول في الفراش،فقال:ان وجد فراشا فليبل عليه راشدا.و قال المأمون لأحمد بن يوسف:انّ أصحاب الصدقات تظلّموا منك،فقال:و اللّه يا أمير المؤمنين ما رضي أصحاب الصدقات عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى أنزل اللّه تعالى فيهم وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ فكيف يرضون عنّي، فاستضحك المأمون و قال له:تأمّل أحوالهم و أحسن النظر في أمرهم.

ص:104

دعا الرشيد ابا يوسف ليلا فسأله عن مسئلة فأفتاه فأمر له بمائة ألف درهم،فقال:ان رأى اميران يأمر بتعجيلها قبل الصبح،فقال:عجّلوها له،فقيل انّ الخازن في بيته و الأبواب مغلقة فحين دعي بي فتحت.

كان ابو الأسود يتشيّع و كان ينزل في بني قشير و هم عثمانية و كانوا يرمونه بالليل فاذا أصبح شكى ذلك فشكاهم مرّة،فقالوا له:ما نحن نرميك و لكنّ اللّه يرميك؟فقال:كذبتم و اللّه لو كان اللّه يرميني لما أخطأني،كان بعض أهل البصرة يتشيّع و كان له صديق يوافقه في المذهب فأودعه مالا فجحده،فأضطر الى ان قال لمحمّد بن سليمان و سأله ان يحضره و يحلّفه بحقّ علي عليه السّلام ففعل ذلك،فقال الرجل:أعزّ اللّه الأمير هذا الرجل صديقي و هو أعزّ عليّ و أجل من ان أحلف له بالبرائة من متخلف في ولايته و ايمانه،و لكنّي أحلف بالبرائة من متفق على ايمانهما و ولايتهما ابي بكر و عمر،فضحك محمّد بن سليمان و التزم المال و خلّى عن الرجل.

اتى عتاب بن ورقا بامرأة من الخوارج،فقال لها:يا عدوّة اللّه ما دعاك الى الخروج اما سمعت اللّه سبحانه يقول:

كتب القتل و القتال علينا و على الغانيات جرّ الذيول

قالت:يا عدو اللّه أخرجني قلة معرفتك بكتاب اللّه.قال المنصور لبعض الخوارج من اشدّ اصحابي اقداما كان في مبارزتك؟فقال:ما أعرفهم بوجوههم و لكنّي اعرف أقفيتهم فقل لهم يدبروا حتّى أصفهم فأغتاظ و أمر بقتله.

قال الحجاج لرجل من الخوارج:و اللّه انّي أبغضكم،فقال الخارجي:أدخل اللّه اشدّنا بغضا لصاحبه الجنّة،خفّف اشعب الصلاة مرة،فقال له بعض اهل المسجد:خففت الصلاة جدا؟قال:لأنّه لم يخالطها رياء.قال رجل لجواسيس الصقلى انّك من مدينة خسيسة فقال:امّا انا فيلزمني العار من قبل بلدي و امّا انت فيلزم العار اهل بلدك منك.

و في المثل(أبخل مارد)و هو رجل من ابن هلال بن عامر كان يسقي ابله في حوض فلمّا بقي في اسفل الحوض قليل ماء سلح فيه لئلا يشربه غيره،و فيه ابله من باقل و هو رجل من ثعلبة اشترى ظبيا باحدى عشر درهما،فسئل عن ثمنه ففتح يديه و أخرج لسانه يريد بذلك أحد عشر درهما فهرب الظبي من يده.

(أسرع من نكاح امّ خارجة)و هي عمرة بنت سعد كانوا يقولون لها خطب فتقول:نكح أي كلّ من يخطبها نكحها.

(أهيم من المقترش)و هو سعد بن مالك كان عاشقا لفاطمة بنت المنذر بن ماء السماء متيّما بها،و من حبّه لها انّه قطع ابهامه و جهّزه اليها.

ص:105

(أجود من فم كعب)هو كعب بن مادة رافق رفقة فعطشوا فآثرهم بالماء و مات عطشا.

(أجبن من صافن)هو طائر يتعلّق بالشجر برجليه و ينكس رأسه من الخوف يصاد فيصفر الى السحر.

(أجوع من زرعة)هي كلبة لبنى يربوع اماتوها جوعا.

(أحمق من عجل)بن لخيم بن صعب بن عدي بن بكر بن وائل قيل له ما سميت فرسك فقام و فقأ عينه و قال:سميته الأعور.

(أحمى من مجير الجراد)و هو مريخ بن سويد كان اذا نزل الجراد بأرضه منع الناس من التعرض له.

(احذر من الغراب)اوصى الغراب ولده فقال:يا بني اذا رميت فتلوصي قال انا اتلوص قبل ان أرمى(أحذر من الذئب)لأنّه ينام واحدى عينيه مفتوحة من الخوف(أحير من ضب)لأنّه اذا فارق حجره لا يهتدي اليه(ازنى من ظلمة)امرأة زنت اربعين سنة و استخنثت اربعين سنة و لمّا عجّزت اتّخذت تيسا و عنزا(معزا خ)فقيل لها في ذلك:فقالت:لأسمع أصوات الجماع.

(أسأل من فحلس)و هو سيّد عزيز كان اذا غزى قومه سألهم ان يجعلوا له قسما من الغنيمة و لجميع من عنده حتّى لناقته(أشأم من البسوس)و هي خالة معن بن مرة الشيباني كانت لها ناقة يقال لها شرّ ان فرآها كليب ترعى في حماه و قد كسّرت بيض طائر كان قد أجاره فرمى ضرعها بسهم فوثب جسّاس الى كليب فقتله فهاجت الحرب بين بكر و تغلب بن وابل بسببها اربعين سنة.

(أشأم من رغيف الحولاء)هي جنازة كانت في بعض أحياء العرب فأخذ منها رغيف فقتل عليه ألف رجل(أشغل من ذات النحيين)هي امرأة من تيم كانت تبيع السمن في الجاهليّة،فأتاها جواب الأنصاري يبتاع منها سمنا فلم يجد عندها أحدا فساومها فحلّت نحيا مملوا فنظر اليه و قال:

أمسكيه حتّى أنظر الى غيره،ثمّ فتحت له نحيا آخر فنظر فيه،و قال:أمسكيه فمسكت النحيين فلمّا شغل يديها قام اليها و جامعها و لم تقدر على دفعه فقضى حاجته و هرب(أظلم من حيّة)لأنّها لا تتخذ بيتا لنفسها و تدخل بيوت الغير فتخرجهم عنها.

(أحجم من حجّام ساباط)كان يحجم الجند فاذا بطل حجم امّه حتّى لا يقال انّه بئس الحجام فما زال يحجم امّه حتّى سرق دمها فماتت(أكبر من عجوز بني اسرائيل)و هي الّتي دلّت موسى عليه السّلام على تابوت يوسف عليه السّلام،و هي من ولد اسحاق عليه السّلام و عاشت اربعمائة سنة.(ألأم من أسلم)هو ابن ذرعة كان قد وليّ خراسان فقيل له:انّ الفرس كانت اذا مات لهم ميّت جعلوا في

ص:106

فيه درهما فنبش المقابر لذلك(الأم من راضع اللبن)هو رجل من بني تميم كان يرتضع ناقته و لا يحلبها لئلا يسمعه احد.

(أندم من الكسعي)و هو محارب بن قيس من بني كسع كان يرعى إبلا بواد معشب فرأى نبعة على صخرة فأعجبته،فقطعها و اتّخذ منها قوسا فمرّت به قطعان من حمر الوحش ليلا فرمى عشيرا فأنفذها،و أخرج السهم منها فأصاب الجبل فأرى نارا فظنّ انّه أخطأ ثمّ مرّ قطيع آخر فرماه فأنفذه كالأوّل و فعل ذلك مرارا،فعمد الى قوسه فكسره من حنقه،فلمّا أصبح رأى الحمر قتلن مضرّجة بالدم فندم و عضّ ابهامه فقطعها(أنمّ من صبح)لأنّه يهتك الأستار.

قال اعرابيّ لأبي الأسود الدؤلي:و كان الأعرابي أعور ما الشيء و نصف الشيء و لا شيء؟ فقال:امّا الشيء فالبصر،و امّا نصف الشيء فالأعور كما أنت،و امّا لا شيء فالأعمى.شمّ اعرابي أبطيه فقطب و قال:أخرجني اللّه من بينكما.و في ربيع الأبرار انّ مخنّثا لقي آخر و قد تاب فقال له:

من اين معاشك؟قال:بقيت لي بقية من الكسب القديم فقال له:انّ لحم الخنزير طريّا خير من قديده.أطعم رجل قوما أضرس أسنانهم فقيل له قد لعمري إقتصصت من كلّ ضرس يجني عليك في رغفانك.قيل لإعرابي كيف حزنك على ولدك؟قال:ما ترك حبّ الغدا و العشا لي حزنا.

مرّ سكران بمؤذّن رديء الحنجرة،فجلد به الأرض و جعل يدوس بطنه،فاجتمع عليه الناس فقال:ما بي رداءة صوته و لكن شماتة اليهود و النصارى بالمسلمين.قيل لأبي العينا:هل بقي في دهرنا من يلقي؟قال:نعم و لكن في البئر.و قال رجل لإبن سيرين إننا ننال منك فاجعلنا في حلّ،فقال:ما كنت لأحلّ لكم ما حرّم اللّه عليكم.مرّ رجل بأبي عليه بالضمير.قال رجل لبعض الأعراب لا أحسبك تحسن الجزاءة،فقال:بلى و أبيك انّي بها لحاذق أبعد الأثر و أعدّ المدر و استقبل الشيح،و استدبر الريح،واقعي اقعاع الظبي و أجفل إجفال النعام.

استأجر رجل حمّالا ليحمل معه قفصا فيه قوارير على ان يعلّمه ثلاث خصال ينتفع بها، فلمّا بلغ ثلث الطريق قال:هات الخصلة الأولى،فقال:من قال لك انّ الجوع خير من الشبع فلا تصدّقه،فقال:نعم،فلمّا بلغ نصف الطريق قال:هات الثانية و قال:من قال لك انّ المشي خير من الركوب فلا تصدّقه،قال:نعم،فلمّا انتهى الى باب الدار قال:هات الثالثة،قال:من قال لك انّه وجد حمّالا أرخص منك فلا تصدّقه،فرمى الحمّال بالقفص فكسر جميع القوارير، و قال:من قال لك انّه بقي في القفص قارورة واحدة فلا تصدّقه.

و في بعض المحاضرات الراغب الأصفهاني قال اياس لأهل مكة:قدمنا بلدكم فعرفنا خياركم من شراركم في يومين،قيل له كيف؟قال:كان معنا خيار و أشرار فلحق خيارنا بخياركم

ص:107

و شرارنا بشراركم فألف كلّ شكله.و فيها ايضا ترك المعاتبة دليل على قلّة الأكتراث بالصديق و قيل المعاتبة تزيل الموجدة اوكد للمحبّة ما كان بعد المعتبة.و فيها قول بشار:

يا قوم اذني لبعض الحي عاشقة و الأذن يعشق قبل العين احيانا

قالوا بما لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

كان رجل في بغداد و كان عنده كلب يتبع قطيع الغنم فاتّفق انّ ذلك الكلب قد مات و لأجل انّ صاحبه كان يحبّه دفنه في المقبرة،فبلغ الخبر الى قاضي بغداد فأمر بإحضاره و أفتى بإحراقه حيث أنّه دفن الكلب في مقابر المسلمين،فلمّا أخذوه للإحراق قال يا قوم لي حاجة الى القاضي فدنى منه و قال:ايّها القاضي انّ الكلب قد اوصى بوصية و أريد ان أعرضها على جنابك حتّى لا يبقى في عنقي لأنّي مقتول،فقال القاضي:و ما هي؟قال:انّ الكلب لمّا حضرته الوفاة اشرت اليه انّ هذا القطيع هو مالك فأوصى به لمن شئت،فأشار الى بيت مولانا القاضي و هذا قطيع الغنم حاضر فقال القاضي:ما كانت علّة المرحوم اما اوصى بشيء غير هذا الفاتحة انّ اللّه سبحانه يمنّ عليه بنعيم الآخرة،إمضّ سالما حتّى تأتينا بوصايا المرحوم فمضى الرجل سالما و اتى اليه بالقطيع.

قال الحجّاج لكاتبه:لا تجعلنّ مالي عند من لا أستطيع اخذه منه قال:و من لا يستطيع أن يأخذ منه ماله قال:المفلس.

و كان في أصفهان في زمن تأليف هذا الكتاب اخوان فامّا الأعلم منهما فقد كلّفه السلطان بأن يلي قضاء أصفهان كتب له سجلا و ارسل اليه خلعة فاخرة فلم يقبل بل اعطى من ماله مبلغا خطيرا للوزراء حتّى عاونوا على الأستعفاء عنها و امّا أخوه الآخر فقد بذل الأموال على تحصيلها حتّى وقعت في يده،فأتى الوزير الأعظم يوما من الأيّام يذكر عند السلطان محاسن الأخ الأوّل بانّه لم يقبل القضا مع وفور مداخلها و زيادة الجاه و الأعتبار فيها و ليس هذا الاّ من علوّ همّته، فضحك السلطان و قال:انّ اخاه و هو القاضي اعلى همّة منه و ذلك انّ القاضي طلّق الآخرة و عافها و هذا عاف الدنيا فالهمّة العالية لمن عاف الآخرة و طلّقها،فضحك الحاضرون من حسن كلامه و عبثه بالقاضي.

و قد كان بين رجلين منازعة في بعض الدعاوي فأتى أحدهما الى بيت القاضي و معه ظرف لبن و قد كان القاضي داخل البيت و رأى فلمّا خرج الى مجلس القضا اتى الآخر بكبش سمين الى بيت القاضي لكنّ القاضي لم يعلم به فلمّا تداعيا جعل الحق مع صاحب اللبن فأتى اليه خادمه يخبره بالكبش فقال:انّ الكبش اتى الي باللبن و اراقه في الأرض فبقينا بغير لبن فعرف القاضي

ص:108

مضمون كلامه فقال:أعيدا عليّ الدعوى فانّي كنت اتفكر في امور الآخرة و قد غفلت عن امور الدنيا فلمّا اعاد الكلام قال سبحان اللّه الحق مع هذا الرجل و انا أخذني الفكر فجعله مع صاحب الكبش.

و في كتاب ربيع الأبرار انّ ملانا امير المؤمنين عليه السّلام رأى اعرابيّا قد خفّف صلاته فعلاه بالدرة ليضربه على تلك الصلاة الخفيفة،فأعاد الأعرابي تلك الصلاة بتأنّ فقال له امير المؤمنين عليه السّلام:

هذه أحسن ام تلك فقال يا أمير المؤمنين:الأولى خير من الثانية لأنّ الأولى صلّيتها خوفا من ربّيك و امّا الثانية فقد صلّيتها خوفا منك فضحك عليه السّلام.و من الآثار ما نقل انّ الأشعث كان يصلّي خلف مروان بن عثمان في الصفّ الأوّل فضرط مروان فقطع ابن الأشعث صلاته و انصرف حتّى ظنّ الناس انّ تلك الضرطة منه و بقي مروان يصلي،فلمّا فرغ و انصرف الى منزله أتى اليه ابن الأشعث فقال له:أعطني الديّة،فقال:ايّ ديّة؟قال:ديّة الضرطة الّتي جعلتها على نفسي،فان تعطني ديّتها و الا اخبرت اهل المسجد و فضحتك بينهم فأعطاه ما أراد.

و من ذلك ما وجد في كتب السير انّ السلطان هولاكو لمّا أقبل بعسكره الى ارض بابل انهزم الناس عنه و قد بقى رجل واحد قد كان جالسا وحده،فسأله واحد من العسكر من انت و كيف بقيت؟قال:انا اللّه و لكنّي إله الأرض أما سمعت في السماء إله و في الأرض إله فانا اله الأرض فذهب ذلك الرجل و حكى للسلطان هولاكو،فأقبل ذلك السلطان يمشي اليه و سأله فقال:انا اله الأرض فقال:تقدر على ايّ شيء؟فقال:على كلّ شيء فنظر السلطان الى صبي كان معه و قال:

هذا الصبي فمه ضيّق فان كنت الها فوسّع فمه فقال ذلك الرجل:قد تعاقدت و تحالفت مع اله السماء بانّ توسعت ما بين السرة الى فوق على اله السماء و توسعة ما بين السرة الى تحت على انا فان اردت هذا فأنا قادر عليه فضحك السلطان و انصرف عنه.

و منه ايضا انّ رجلا بحرانيّا كان عنده امرأة سليطة فطبخت طعاما و قعد معها يأكل و كان الطعام مالحا فلم يقدر على اظهاره خوفا منها فقال:أقول ثمّ سكت ثمّ قال:أقول ثمّ سكت فقالت:ما تقول و رفع المسّ(المداس خ)و ضربته على رأسه فسال دمه فقام و وقف ناحية فقال:انا ما أترك شمخرتي و لا عطاس رأسي الطعام مالح مالح مالح.و رأيت في بعض الكتب انّ سكينة بنت الحسين عليه السّلام غضبت على رجل فأمرت بحلق لحيته فأتاه الحالق يحلقها فقال له:انفخ شدقيك حتّى احلق لحيتك فقال:أمروك بحلق لحيتي او بأن تعلّمني لعب الزمر فقال الحالقك هكذا يكون حلق الشعر؟فقال:اذا امرأتك حلقت ذلك الموضع من ينفخ لها طرفي شعرتها.شفرتها خ)فحكوا لسكينة فضحكت و تجاوزت عنه.

ص:109

و أتى رجل الى الوزير الأعظم الّذي ترجع اليه أمور القضاة و هو الّذي يعزل و ينصب لكن بالرشاوي و البرطيل فعمد الرجل الى دبة كبيرة و ملأها من التراب و الحجارة و الجصّ و النورة و وضع في رأسها قليلا من الدهن و أتى بها الى الوزير فلمّا رآها كتب له سجلا محكما على القضاء فأخذه و مضى الى بلاده فلمّا ارادوا ان يخرجوا من الدهن اطّلعوا على ما في الدبة من المكر و الحيلة،فأرسلوا و أخبروا الوزير فأرسل الوزير الى القاضي انّ ذلك السجل الّذي كتبناه لك فيه بعض الخلل و الغلط ارسله الينا لنصلحه و نرسله اليك،فكتب اليه القاضي اعزّ اللّه مولانا الوزير عن حال السجل الّذي امرتم لنا به و لا رأينا فيه خللا و لا غلطا و لكن ان كان شيء فالخلل و الغلط انّما وقع في الدبة فضحك الوزير و خلاّه.

و قد أعطى قضاة بعض البلدان لرجل و كان ذلك الوزير رحمة اللّه كلّ رجل أعطاه رشوة اكثر من القاضي الآخر عزل من أعطى القليل فأتى اليه ذلك الرجل لمّا كتب له كتابة على القضاء فقال:أعزّ اللّه الوزير انّي اكتريت دابة الى بلادي فاستكيرها راسا او راسين فضحك الوزير و عرف ما أراد.

و قد أراد السلطان المرحوم الشاه عبّاس الأول ان يعرض بعساكره فيراها فلمّا عرض بهم رأى بينهم ولدا جميلا حسن الصورة و اللباس و المركوب و السلاح فسأله مقرّره من دفتر السلطان فذكر شيئا قليلا فقال له الشاه:انّ وظيفتك هذه لا يفي بزيّك هذا و هيئتك هذه فلعلّك تمضي بالليل و تؤجر نفسك لمن يعمل بك فقال له ذلك الولد اعز اللّه السلطان انّ عبيده الأتراك قد أرخصوا هذه التجارة بكثرتهم حتّى انّهم لم يبقوا لأحد سببا فيها فضحك السلطان و أمر له بعطايا جزيلة.

و كان هذا السلطان رحمه اللّه يخرج في الليل بزي الفقراء يدور في بلده لينظر الظالم من المظلوم و يتصفّح احوال الناس فأتى ليلة الى بقّال فقال:ايّها البقّال انا رجل فقير و ليس عندي الاّ نصف فلس و أريد هذه الليلة لا أنام فأعطني بهذا النصف شمعة تشتعل الى الصباح فقال:الشمعة لا يكون هذا حالها و لكن أبيعك رأسا من الثوم كبيرا تضعه في دبرك فانّه يشتعل به الى الصباح و لا تقدر ان تنام فضحك و مضى عنه و لمّا أصبح الصباح و جلس على سرير الملك ارسل الى ذلك البقّال فلمّا دخل عليه و تعارفا خاف البقّال منه فأمّنه و أعطاه.

و قد أتى رجل بدوي الى بعض البلدان فاضافه صديق له و قدّم اليه فاوزج فلمّا شرب منها جرعة و رأى لطافتها وضع يده على دبره فقيل له في ذلك فقال:لئلا تخرج من هناك سريعا لنعومتها فقال له صديقه تعرف اسم هذه فقال له البدويّ نحن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم و اظنّ،هذا هو الصراط المستقيم فقال له:نعم هذا هو.و قدم اعرابي الى البلاد فقدّم اليه

ص:110

صديقه عنبا فصار يأكل العنقود بعنقوده فقال له صاحب البيت انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله امر ان يؤكل العنب اثنتين اثنتين فكيف تأكل أنت عنقودا عنقودا؟فقال:ذلك الحديث انّما روي في الباذنجان و الرقي.

قال التفتاز اني سمعت انّ بعض البغّالين كان يسوق بغلة في سوق بغداد و كان بعض عدول دار القضاء حاضرا،فضرطت البغلة فقال:البغال على ما هو دابهم بلحية العدل بكسر العين يعني احد شقي الوقر فقال بعض الظرفاء:افتح العين فانّ المولى حاضر.ثمّ قال:و ممّا يناسب هذا المقام انّ بعض أصحابي ممّن الغالب على لهجتهم امالة الحركات نحو الفتحة اتاني بكتاب فقلت له لمن هو؟فقال:لمولانا عمر بفتح العين فضحك الحاضرون فنظر اليّ كالمتعرّف سبب ضحكهم المسترشد لطريق الصواب فرمزت اليه بغض الجفن و ضم العين فتفطّن للمقصود و استطرف ذلك الحاضرون.و قد كان ابو العلا المعري يتعصّب لأبي الطيّب فحضر يوما مجلس المرتضى ره فذكر ابو الطيب فأخذ المرتضى في ذمّه و الأزراء عليه،فقال له المعري:لو لم يكن له من الشعر الاّ قصيدته اللامية و هي:

لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت و هنّ منك أو اهل

لكفى في فضله فغضب المرتضى و أمر بسحب المعري فسحب و ضرب،فلمّا أخرج قال المرتضى رحمه اللّه لمن بحضرته هل تدرون ما عني الأعمى عني قول المتنبي في أثناء قصيدته:

و اذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأنّي كامل

و لمّا بلغ الخبر الى ابي العلاء قال قاتله اللّه تعالى ما أشدّ فهمه و ذكاه و اللّه ما عنيت غيره.

و من المحاضرات انّه رأى رجل شيخا ينيك أتانا يوم الجمعة و هي تضرط و الشيخ يصلي على النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال له رجل: ويحك تفعل هذا يوم الجمعة و مع ذلك تصلي على النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال:اما يجوز ان اشكر اللّه على أير يضرط الأتان منه.و سئل الأحنف ما بال أستاه الرجال يكون عليها الشعر أكثر من استاه النساء؟فقال:انّ استاه الرجال حمى و انّ استاه النساء مرعى.و منه قال ابو زيد للكتاف بقيت زمانا لا أجد امرأة تستوعب ما عندي فظفرت يوما بواحدة فكنت او لج فيها شيئا فشيئا حتّى استوعبت فقلت أ تأذنين في الأخراج فقد أدخلت فقالت سقطت بعوضة على نخلة فقالت للنخلة استمسكي لأطير فقالت النخلة:ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك.و منه قالت امرأة لرجل يجامعها و يبطي الفراغ افرغ فقد ضاق قلبي فقال:لو صاق فرجك كنت قد فرغت منذ ساعات.و رأى رجل آخر و هو يبول و كان معه أير كأير حمار فقال:يا هذا كيف تحمل هذا الأير؟فقال:أ كبير هو؟فقال:نعم قال:إنّ امرأتي تستصغره.شكى رجل امرأة كثرة شعرتها فنتفت و كتبت الى محبها:فديتك سهّلت السبيل الّذي اشتكى به جوادك فيه الجفا من خشونة فان كنت تهوى ان تزور جنابنا فلا ترتبط عنّا فالهلال ابن ليلة.

ص:111

قال يزيد بن عروة لمّا مات كثير:لم تتخلّف امرأة بالمدينة و لا رجل عن جنازته و غلبت النساء عليه يبكيه و يذكرن عزّة في ندبتهنّ له فقال ابو جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السّلام افرجوا عن جنازة كثير لأرفعها قال:فجعلنا ندفع عنها النساء و جعل محمّد بن علي عليهما السّلام يضربهنّ بكمّه و يقول تنحّين يا صواحبات يوسف فانتدبت له امرأة منهنّ فقالت:يا ابن رسول اللصدقت انّا لصواحباته و قد كنّا خيرا منكم له فقال ابو جعفر عليه السّلام لبعض مواليه احتفظ بها حتّى تجيئني بها فاذا انصرفت،قال:

فلمّا اتى بتلك المرأة كأنّها شرر النار فقال لها الباقر عليه السّلام انت القائلة انّكن ليوسف خيرا منّا؟ قالت:نعم تؤمنني غضبك يا ابن رسول اللّه دعوناه الى اللذات من المطعم و المشرب و التمتع و النعم و انتم معاشر الرجال القيتموه في الجب و بعتموه بأبخس الأثمان و حبستموه في السجن فايّنا كان أحنأ به و ارؤف؟فقال الباقر عليه السّلام:للّه درّك لن تغالب امرأة الاّ غلبت ثمّ قال لها الك بعل:

قالت:لي من الرجال من انا بعله فقال ابو جعفر عليه السّلام:ما اصدقك مثلك من تملك زوجها و لا يملكها قال:فلمّا انصرفت قال رجل من القوم:هذه بنت فلانة بنت متعقّب.

و قد تزوّج الثعالبي امرأة عجوزا،و ذلك انّه رأها محلاّة فظنّ أنّها مقبولة،فلمّا تزوجها انكشفت له سوء حالها فقال شعرا:

عجوز تشتهي أن تكون فتية و قد يبس الجنبان واحد و دب الظهر

تروح الى العطار تصلح شبابها و هل يصلح العطار ما أفسد الدهر

و ما غرّني الاّ خضاب بكفها و كحل بعينها و أثوابها الصفر

بنيت بها قبل المحاق بليلة فكان محاقا كلّه ذلك الشهر

و من هذا القبيل انّ واحدا من اخواننا الصالحين تمتّع بامرأة في شيراز فلمّا غلق عليها الأبواب و نظر الى وجهها فاذا هو كالشنّ البالي و ليس لها الاّ درادر تتكلّم فيها،قال:فغمضت عيني و قبضت على أنفي و أصبت منها مرّة،فلمّا فرغت أردت فتح الباب فقالت لا تفتحه و دعنا اليوم في عيشنا و ان لم ترد من القبل فهذا غيره حاضر،فعرفت الموت في المواقعة الأخرى فصحت الى أصحابي هلمّوا اليّ و خلصوني من هذا الموت الحاضر فأتوا الي و حلّوا الباب و أخرجوني منها.

و من هذا انّ رجلا من الأخوان تمتّع ايضا في شيراز و كان معنا في المدرسة المنصوريّة،قال:

فلمّا تكشفت لي و استلقت على قفاها نظرت الى ذلك الموضع و اذا هي غلفاء لم تختتن،فعمدت

ص:112

الى سكين صغير و أتيت به و ختنتها،فصاحت و جرى الدم،فلمّا قامت طالبتني بالجراحة فطالبتها بكروة الختان و غلبتها و أخذت منها القيمة لكن لا من جنس الدراهم و الدنانير.

و قيل لبصريّة أيّ الرجال تشتهين؟فقالت:ما أدري غير انّي أعلم انّ الأوّل داء و الثاني دواء،و الثالث شفاء،و من ربّع فنفسي له الفاداء.

و في المحاضرات انّ الحسن بن علي عليهما السّلام كان مطلاقا مذواقا فقيل له في ذلك:فقال:رأيت اللّه علّق بهما الغنى،فقال:و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و امائكم ان يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله،و قال في موضع آخر:و ان يتفرّقا يغن اللّه كلا من سعته.

و في المحاضرات قال ابو الشمقمق لبعض من اراد التزويج تزوّج بقحبة،فقال:اسمع القحبة تكون أملح و أخرى بأنها تكون عالمة بما يحبّه الرجل،و تأخذ نفسها بالتنظف،و متى قلت لها يا زانية لم تأثم،و لأنّها يجتهد الاّ تأتيك بولد ثمّ انها تعلم انّك تعرفها فلا تتكبّر عليك.

و فيها ايضا انّه كان رجل قصد امرأة كلنت تفجر و تنفق،فطلّقها و تزوج بعفيفة فطلب منها ما كانت تأتي به الأولى،فعاد يوما الى داره و قدّمت المرأة اليه طعاما طيّبا،فقال من اين؟فقالت:

جاءني فلان و حمل طعاما و شرابا و حلواء فأكلنا و جامعني و هذا نصيبك،فقال:اذا تعاطيت هذا فايّاك و اخباري بتفاصيل ما يجري فانّي غيور.

و قد كانت مضحكة الشاه عبّاس الأوّل جالسا في المجلس فأمر السلطان رحمه اللّه تعالى جارية من جواريه بان تعبث به و تحمله على الكلام،و قيل انّ هذا هو أول يوم ذخل فيه مجلس السلطان،فأتت اليه و كشفت عن ما عندها و قالت:هذه المزرعة اذا كربت و زرعت في بلادكم ما يكون حاصلها؟و من البذر اذا رمي فيها ما يكون حاصله عند الحصاد؟فقام اليها ناعضا ذكره قابضا بيده فقال:ان كان سنبلة هذه المزرعة تجيء على هذا المقدار فمن البذر يجيء حاصله مائة منّ،و ان كان أصغر من هذا فحاصله قليل،فضحك السلطان و الحاضرون.

و قد كان لهذا السلطان صقر يصيد عليه و قد شغف بحبه،فقال للصقارين احتفظوا على هذا الصقر و اعلموا انّ كل من يأتي بخبر موته ضربت عنقه،فاتّفق بعد مدّة انّ ذلك الصقر قد مات،فتحيّر الصقارون في إخبار السلطان و يعلمون انّه يطلبه،فأتوا الى ذلك المضحكة و أخبروه بالحال،فقال:لا عليكم فدخل الى السلطان فقال:اين كنت؟قال كنت مع الصقّارين انظر الى الصقور،فقال له:رأيت صقري الفلاني؟فقال:نعم اعزك اللّه تعالى رأيته و لكن رأيت فيه أحوالا عجيبة،قال:و ما هنّ؟قال:رأيته مغمضا عينه ناشرا جناحيه و كلّما أتاه الصقّار بلحم لم يأكله و قد عقص برأسه فقال السلطان:فاذا مات؟فقال:اشهدوا ايها الحاضرون انّ السلطان أعزه اللّه تعالى هو الّذي تلفظ بموته الا انا و لا الصقّار،فضحك السلطان و لم يعاقب احدا على موته.

ص:113

و قد كانت عنده امرأة جميلة و كان السلطان له هوى فيها،فاراد ان يرسله بحاجة ليخلو له البيت،فقال له:يا عنايت ارسلك بخدمة يحصل لك منها فائدة كثيرة؟فقال:امرك فقال:انّ لنا في البلد الفلانية خيولا كثيرة فامض الى هناك و اعزل الذكور عن الأناث فكتب له كتابا و ارسله، فاتى الى منزله و قال لأمرأته انّ السلطان يريد ارسالي و لكن اعلم انه يريد ان يأتي اليك هذه الليلة و لكن أنا أختفي تحت الباب،فاذا جاء اليك و أرادك قولي له:تعالى نلهو و نلعب،فاجعلي نفسك فرسا و قولي له حتّى يكون حصانا فيأتي اليك و يصهل و يحمحم،و هذا يكون شأنك معه حتّى أخرج اليكما،فلمّا جاء الليل أخذ بيده عصا و اختفى تحت الباب،فلمّا جنّ الليل أتى السلطان الى تلك المرأة فلمّا دخل قال لها:انّي ارسلت فلانا في خدمة حتّى يخلو لنا البيت،فتحاكيا فلمّا اراد ان يقاربها قالت له:هلمّ الى الملاعبة،فقال لها:هو الأحسن،فقالت له:كن انت حصانا و انا فرسا،و اصهل و حمحم و تجيء اليّ فلمّا أخذا في ذلك اللهو و شرع السلطان في الصهيل خرج من تحت الباب و بيده تلك العصا فضرب السلطان بها ضربة شديدة،فصاح السلطان و نظر اليه و اذا هو الرجل فقال له:قاتلك اللّه انا ارسلتك بخدمة،فقال:انّك ارسلتني لأعزل الحصن عن الأفراس فها انا جئت لهذا،فعزل السلطان عن المرأة فعرف السلطان أنّه علم ما أراد.

و في المحاضرات انّه وقع بين مزيد و رجل خصومة،فقال الرجل:أ تخاصمني و قد نكت امرأتك كذا مرة،فعاد مزيد الى داره و قال:يا فلانة أ تعرفين فلانا؟فقالت:أي و اللّه ابو عينيه، فقال:ناكك و رب الكعبة اسئلك عن اسمه و تجيبيني بكنيته.

حكاية حملت زانية فلمّا وضعت أتت الى رجل عالم من أهل الحديث فقالت لهك سمّ لي هذا الولد،فقال سمّيه ابن كثير.حكاية أخرى تزوج رجل امرأة فأتت بولد صحيح لخمسة أشهر، فقالت له:سمّ ولدك،فقال:أسميه شاطر علي،لأنّه قطع مسافة تسع أشهر في خمسة أشهر.

و كان عند سلطان البصرة رجل مؤمن عالم يقوم بحوائج المؤمنين و هو مقدمهم عند ذلك السلطان،فأتى اليه جماعة من المؤمنين و طلبوا منه ان يمشي معهم الى ذلك السلطان ليسلموا عليه،فأتى معهم فوجدوا ذلك السلطان جالسا في أعلى قصره،فقال لهم ذلك الشيخ قفوا هنا حتّى أصعد أنا اليه و أطلب لكم الأذن،فلمّا صعد اليه وجده مشغولا ببعض الملاهي،فقال له:انّ العلماء واقفون يريدون الأذن و أنت أعزّك في اللّه شغل،و لكن أقول لهم يقرؤون الفاتحة من تحت و ينصرفون الى وقت آخر،فضحك و قال يا شيخ الفاتحة الّتي من تحت ما نريدها و لكن اطلبهم الى فوق.

و قد كان ذلك الشيخ و اسمه الشيخ عبد اللّه رجلا طلق اللسان حسن الصحبة،و اتّفق انّه مضى ليلا الى خدمة ذلك السلطان لقضاء بعض حوائج المؤمنين،فلمّا اراد القيام مطرت السماء

ص:114

فقال له السلطان:يا شيخ أنت رجل كبير السن و يسقّ عليك الحركة في هذا الوقت و لكن بات هذه الليلة عندنا و أنا أنام معك،فقبل منه فلمّا أراد النوم أمر السلطان بعض غلمان خزانته فوضعوا للشيخ فراشا و أخذ السلطان اللحاف بيده و وضعه فوق الشيخ و نام السلطان الى جنبه و غلمانه باتوا قربه،فلمّا انتصف الليل و قام ليسوّي اللحاف على الشيخ،فوضع يده فوق رجل الشيخ فاستيقظ الشيخ و ظنّ ان السلطان يريد واحدا من غلمانه ليفعل به ما يفعل،فقال له:أعز اللّه مولانا السلطان لا يغلط فهذا الغلام نائم في الجانب الآخر و انا فلان،فضحك السلطان في تلك الليلة ضحكا كثيرا،و قال:يا شيخ جئت لأتفقد أحوالك،فقال:يا مولاي هو ليل و خفت فيه على نفسي من الغلط.

و قد تشاتم رجلان فقال أحدهما للآخر:و اللّه لئن لم تسكت لأضربنّك صفعة أنقلك بها من البصرة الى مكّة،فقال له الآخر:احب ان تصفعني أخرى فتنقلني الى المدينة ليتم حجي على يديك.

و قد كان صفي الدين الحلي الشاعر جالسا يوما مع جماعة،فضرط فشاعت ضرطته في البلد فلم يتمكن من الأقامة في بلده،فخرج الى البصرة و الى غيرها و بقى أعواما كثيرة فتذكر بلده و قد طال الزمان فقد نسي أهل بلدي ما وقع منّي،فأتى الى الحلة فقبل ان يدخلها أتى الى خارج البلد و اذا بإمرأتين على شاطىء الفرات و هما يتحاكيان و هو يسمع،فقالت أحديهما للأخرى:

كم عمر ابنك من سنة،فقالت:و اللّه لا أعلم ضبط عدده و تريخه من سنة ضرطة صفي الدين الحلّي،فلمّا سمعها قال:جعلوها تاريخا فهم لا ينسونها ابدا فرجع و لم يدخل البلد الى ان مات.

و قد كان كسرى لابسا حله سنية القيمة فرآها مضحكته فاحتال في أخذها،فطلبها منه يوما، فقال:اذا أعطيتك هذه الحلّة الرفيعة فأيّ شيء اعطي الأمراء و العمّال حتّى يجيء في النظر هذا لا يكون؟فلمّا كان بعض الليالي بقي ذلك الرجل في المجلس حتى انتصف الليل و لا بقي الا هو و السلطان،فقال له السلطان:اذا بقيت الى هذا الوقت فبات هيهنا،فقال:يا مولاي ليس هنا لحاف أتغطى به،قال له السلطان:أغطيك في هذه الحلة،فقال:هذا مليح،فغطّاه بها و مضى الى داخل منزله،فعمد ذلك الرجل الى تلك الحلّة و خوى فيها و نام،فلمّا جاء الصبح أتى الفراشون اليه و قالوا له قم حتّى نفرش الفراش،فقال:لا أقوم حتّى يجيء السلطان و أقص عليه مناما رأيته في هذه الليلة،فجاء السلطان و قال له:قم من هذه النومة،فقال:يا مولاي رأيت طيفا أهالني رؤيته فقال:و ما هو؟قال:رأيت كأن ثورين قصدا نحوي و وضع أحدهما قرنيه في بطني و وضع الآخر قرنيه في ظهري فعصراني عصرة شديدة،فقال له السلطان:لا يكون خروت في ثيابك و في الحلة،

ص:115

فقام و قال:يا مولاي فما يكون هذا الخروأ هو من الثورين ام ليس الاّ منّي و قد أفتضحت عندك في شأن الحلّة،فضحك السلطان و قال:هي لك.

و كان يوما في المجلس مع السلطان و كان تحت السلطان بساط عالي القيمة فطلبه منه؟فقال السلطان:لا أعطيك هذا الاّ ان تخري مثقالا لا أزيد منه و لا أنقص،فقال:لك عليّ فقام و خرّى خروة كبيرة،فقال السلطان:كيف هذا؟قال:أعزّك اللّه خذ أنت مثقال:و الباقي لهؤلاء الأمراء الحاضرون أخاف ان يعتبوا عليّ اذا خرجوا من عندك فضحك السلطان و امر له بذلك البساط.

و في ربيع الأبرار للزمخشري انّه كان لرجل غلام من أكسل الناس،فأمره بشراء عنب و تين فأبطأ ثمّ جاء بأحدهما فضربه،و قال:ينبغي لك اذا ما أستقصيت حاجة ان تقضي حاجتين،ثمّ مرض فأمر ان يأتي بطبيب فأتى به و برجل آخر،فسأله فقال:اما ضربتني و أمرتني ان أقضي حاجتين في حاجة؟قال:بلى،قال:قد جئتك بطبيب فان رجاك و الاّ حفر هذا قبرك فهذا طبيب و هذا حفّار.

و في أمالي الرجاج أخبرنا ابو عبد اللّه اليزيدي عن عمّه ابي القاسم يرفعه الى ابي محمّد يحيى بن المبارك قال:عوتب دعبل بإنصرافه عن النساء،فتزوّج امرأة أقامت عنده ليلة،ثمّ خلاها فقيل له في ذلك؟فأنشأ يقول:

رأيت عجوزا و قد أقبلت فأبدت لعيني عن مبصعة

فصيّره الخلق دحداحة تدحرج في المشي كالبندقة

تخطط حاجبها بالمداد و تربط في عجزها مرفعة

و ثديان ثدي كبلوطة و آخر كالقرية المفهقة

و قد غاب رجل عن زوجته فتزوّجت بعده و ولدت أولادا،فجاء الزوج الأول فلزمته المرأة و قالت له:هؤلاء أولادك فانفق عليهم،فقال:يا قوم انا كنت في بلاد أخرى و ليس لي خبر بهذه الأولاد،فحاكته الى قاضي الحنفيّة فالحق الأولاد بالزوج الأوّل فقال:ايّها القاضي:أعزّك اللّه انا رجل فقير و ليس عندي ما أقوم بنفقتهم،فقال القاضي للحاضرين عنده:ليأخذ كلّ واحد منكم ولدا يربيه لأجل الثواب،و كان في المجلس رجل خصيّ فأعطاه ولدا فحمله على كتفه،فلمّا وصل الى السوق سأله رجل من اين لك هذا الولد و انت خصي؟فقال:نعم كنّا عند مولانا القاضي و قسّم أولاد الزنا على الحاضرين فهذا كان سهمي منهم.

و أعلم يا أخي أيقظك اللّه من الغفلة انّنا بهذين الكراسين أبعدناك عن دار الحضور و قرّبناك الى دار الغرور،فاستيقظ من هذه و كفّر الضحك بما روي عن الأئمّة الطاهرين عليهم أفضل

ص:116

الصلوات من انّ كفّارته ان تقول بعده ربي لا تمقتني،كما انّ كفارة ما يكون منك في المجلس هو ان تقول اذا أردت القيام،سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين،و تذكّر انّ الدنيا ليست بدار فرح و لا مرح و ان أضحكت يوما ابكت ايّاما:

دنيا اذا ما أضحكت في يومها أبكت غدا تعسا لها من دار

فارفع طرفك و امسح دموع الضحك عن خدّيك ليكون المكان خاليا لدموع الحزن فقد جاء ذكر هادم اللذات الذي قال فيه صلّى اللّه عليه و آله أكثر و اذكر هادم اللذات،فها نحن قد أخذنا في تفاصيل أحواله.

نور في مقدمات الموت من الأمراض و دوائها

و ما ناسب هذا المقام

إعلم أرشدك اللّه تعالى انّ اللّه سبحانه بمنزلة المؤدّب و الناس بمنزلة الأطفال،و المؤدّب شأنه تأديب الأطفال بما تقتضيه المصلحة،فالأمراض كلّها تأديبات من الحكيم لمصالح لا يخفى بعضها.

منها ما رواه صاحب كتاب طب الأئمّة عليهم السّلام و هو من أخوان عبد اللّه بن ابي بسطام الزيات و اخوه الحسين بن ابي بسطام ذكرهما النجاشي ره رويا عن الصادق عليه السّلام رواه جدّه الحسين بن علي عليهم السّلام قال:عاد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام سلمان الفارسي رضي اللّه عنه،فقال:

يا ابا عبد اللّه كيف أصبحت من علّتك؟قال:يا امير المؤمنين أحمد اللّه كثيرا و أشكو اليك كثرة الضجر،قال:فلا تضجر يا ابا عبد اللّه فما من أحد من شيعتنا يصيبه وجع الاّ بذنب قد سبق منه، و ذلك الوجع تطهير له،قال سلمان:فان كان الأمر على ما ذكرت و هو كما ذكرت فليس لنا في شيء من ذلك أجر خلا التطهير قال علي عليه السّلام:يا سلمان انّ لكم الأجر بالصبر عليه و التضرع الى اللّه تعالى عزّ اسمه و الدعاله بهما يكتب لكم الحسنات و يرفع لكم الدرجات،و امّا الوجع خاصّة فهو تطهير و كفارة،قال:فقبل سلمان ما بين عينيه و بكا،و قال:من كان يميّز لنا هذه الأشياء لولاك يا امير المؤمنين؟!.

و روى شيخنا الكليني عن الباقر عليه السّلام قال:قد كان الناس يعتبطون اعتباطا فلمّا كان زمن ابراهيم عليه السّلام قال:رب اجعل للموت علّة يؤجر بها الميت و يسلى بها عن المصاب قال:فأنزل اللّه البرصام ثمّ أنزل بعده الداء.و روي عن الصادق عليه السّلام قال:انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رفع رأسه الى

ص:117

السماء فتبسّم،فقيل يا رسول اللّه رأيناك رفعت رأسك الى السماء فتبسّمت؟قال:نعم لملكين هبطا من السماء الى الأرض يلتمسان عبدا صالحا مؤمنا في مصلّى فيه ليكتبا له عمله في يومه و ليلته فلم يجداه في مصلاه،فعرجا الى السماء فقالا ربّنا انّ عبدك فلان المؤمن التمسناه في مصلاه لنكتب عمله في يومه و ليلته فلم نصبه فوجدناه في حبالك،فقال اللّه عزّ و جلّ أكتبا لعبدي مثل ما كان يعمله في صحّته من الخير في يومه و ليلته ما دام في حبالي،فانّ عليّ ان اكتب له أجر ما كان يعمله اذا حبسته عنه،و كذلك اذا ضعف عن العمل لكبر فانّ اللّه يكتب له من الأعمال الصالحة مثل ما كان يعمله في نشاطه.

و منها انّ الأمراض زواجر للعبد عن المعاصي،فالأمراض بمنزلة الأسواط التي يضرب بها المؤدّب الولد بها،و منها انّ الأنسان اذا كان صحيح البدن كان غافلا عن الوصية نائما عنها و لا يوقظه الاّ المرض ان كان لبيبا و الاّ فأكثر الناس في غفلة حتّى عند الموت.روى صاحب روضة الواعظين انّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من مات بغير وصية مات ميتة جاهليّة.

و قال صلّى اللّه عليه و آله لا ينبغي لأمرء مسلم ان يبيت ليلة الاّ و وصيته تحت رأسه.و قال الصادق عليه السّلام من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.

و منها تحصيل الثواب لعوّاده روي عن الصادق عليه السّلام انّه اذا كان يوم القيامة نادى العبد الى اللّه عزّ و جلّ فيحاسبه حسابا يسيرا فيقولك ما منعك ان تعودني حين مرضت،فيقول المؤمن أنت ربّي و انا عبدك انت الحي القيّوم الّذي لا يصيبك ألم و لا نصب،فيقول عزّ و جلّ:من عاد مؤمنا فقد عادني،ثمّ يقول له أ تعرف فلان بن فلان؟فيقول نعم يا رب فيقول:ما منعك ان تعوده حين مرض؟أما انّك لو عدته لعدتني ثمّ لوجدتني به و عنده،ثمّ لو سألتني حاجة لقضيتها لك و لم أردّك عنها.و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال من عاد مريضا فله بكل خطوة خطاها حتّى يرجع الى منزله ألف ألف حسنة،و يمحي عنه سبعون ألف ألف سيئة،و يرفع له سبعون ألف ألف درجة و يوكل به سبعون ألف ألف ملك يعودونه في قبره و يستغفرون له يوم القيامة.

امّا وجع العين فلا عيادة فيه،و أعظم العائدين ثوابا من خفّف الجلوس عند المريض الاّ ان يعلم من حال المريض رضاه بطول الجلوس،و قدّر جلوس العيّادة على ما في الروايات مقدار حلب ناقة،و ينبغي أن يحمل معه الى المريض تفاحة او سفرجل أو أنرجة او لعقة من طيب او قطعة من عود لأنّ المريض يستريح الى كلّ من دخل عليه بها،كذا جاء في الرواية عن الصادق عليه السّلام و من تمام العيادة ان يضع احدى يديه على الاخرى او على جبهته،و ينبغي ان يطلب العائد من المريض الدعاء للعائد و ان يأذن المريض لكلّ العائدين لأنّ مستجاب الدعوة مخفي بينهم،فلعله الممنوع عن الدخول،و مرض الصبي كفّارة لذنوب والديه.

ص:118

و روي عن الباقر عليه السّلام قال حمّى ليلة تعدل عبادة سنة،و حمّى ليلتين تعدل عبادة سنتين، و حمى ثلاث ليال تعدل عبادة سبعين سنة،قال ابو حمزة:قلت فان لم يبلغ سبعين سنة؟قال:

فلأبيه و أمّه،قال:قلت فان لم يبلغا قال:فلقرابته،قال:فان لم يبلغ قرابته؟قال:لجيرانه.

و روي ان حمّى يوم كفّارة ذنوب سنة،و ذلك انّ ألمها يبقى في البدن سنة،و انّها تأخذ من البدن عافية سنة أيضا،و هي حظّ المؤمن من جهنّم لأنّها من قيحها،و ذلك لما عرفت من انّ نوعا من النار تحت الأرض فاذا فارت خرجت حرارتها فأصابت المياه سيّما رؤوس الجبال و ما فيها من المياه.

و ينبغي للمريض ان لا يشكر الى العوّاد فانّه ينقص الثواب،و امّا كيفية الشكوى فرواها جميل بن صالح عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:سئل عن حدّ الشكاية للمريض،فقال:انّ الرجل يقول حممت اليوم و سهرت البارحة و قد صدق و ليس هذا شكاة انّما الشكوى ان يقول لقد ابتليت بما لم يبتل به أحد و يقول لقد اصابني ما لم يصب احدا،و ليس الشكوى ان يقول سهرت البارحة و حممت اليوم و نحو هذا.

و امّا التداوي و المضي الى الطبيب فقد ورد الأمر به قال النبي صلّى اللّه عليه و آله تداووا فانّ اللّه عزّ و جلّ لم ينزل داء الاّ و قد أنزل له شفاء و قال صلّى اللّه عليه و آله:تجنّب الدواء ما أحتمل بدنك من الداء،فاذا لم يحتمل الداء فالدواء.و عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال انّ نبيا من الأنبياء مرض،فقال:لا أتداوى حتّى يكون الّذي أمرضني هو الذي يشفيني،فأوحى اللّه عزّ و جلّ لا أشفيك حتّى تداوي فانّ الشفاء منّي.و قد قال موسى عليه السّلام يا ربّ ممّن الداء؟قال:منّي،قال:فلم أمرت المرضى بالطبيب؟ قال:ليطيب نفوسهم،فمن هذا سمّي الطبيب طبيبا.

فإن قلت ما فائدة رجوع المريض الى الطبيب الحاذق و الآخذ بدوائه؟قلت:لعلّ فائدته رفع استمرار المرض لا دفع الأجل فانّه لا يدفعه عن نفسه فكيف يدفعه عن غيره:

انّ الطبيب له في الطبّ معرفة ما دام في أجل الأنسان تأخير

حتّى اذا ما أنقضت أيّام مدته حار الطبيب و خانته العقاقير

نعم سيأتي أن شاء اللّه تعالى في تحقيق الأجل انّ منه الأجل القابل للزيادة و النقصان باعتبار إرتباطه بالأسباب كصلة الأرحام وصلة المساكين و فعل بعض الطاعات و العبادات، و حينئذ فيجوز ان يكون التداوي من جملة أسباب الزيادة و تركه من اسباب النقيصة حيث ورد الأمر به،و لا يلزم في التداوي الرجوع الى الأطبّاء و الحكماء بل الى من تركن النفس الى دواءه و لو كنّ العجائز و أضرابهن،فانّ كثيرا من الحرف الجائزة قد ضمّن الشارع أهلها ما يتلفونه كالقصار

ص:119

و الصائغ و صاحب الحمّام و نحوهم إحتياطا لأموال الناس،و هذا ايضا احتياطا في دمائهم حتّى لا يتحرى على الطب من لا معرفة له به و لا وقف على مفرداته و مخركباته و لا على تمييز العقاقير بعضها عن بعض كما هو الغالب في هذه الأعصار،و لهذا اسقط الشارع الضمان عنه اذا اخذ البراءة اما من المريض او من وليه.

و اعلم ان التداوي قد روي عن الأئمة عليهم السّلام على قسمين دعاء و دواء،فاما الدعاء فهو صالح لكل الأبدان كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى،و اما الدواء فقد روي في بعض الأمراض ادوية لا تصلح ظاهرا و لا توافق كلّ الأبدان في جميع البلدان نعم ربما وافق طبائع أهل العراق و مكة و المدينة و ما والاها،و من ثم قال جماعة من الأصحاب انّ تلك الأدوية و المعالجات المذكورة في كتاب طب الأئمة و غيره من المروي عنهم عليهم السّلام انّما هو مخصوص بأهل تلك البلاد المذكورة،و لكنّ الحق ان في بعض الأخبار ما يدل على العموم مثل ما روي في غير حديث من الأستشفاء و المداواة بالعسل لقوله تعالى فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ فانّ القرآن لم ينزل لخصوص بلد دون اخرى،و حينئذ فالحق في الجواب هو ان ما ورد عنهم عليهم السّلام من انواع الدواء لأنواع الأمراض عام شامل للأبدان و البلدان.

نعم ينبغي للمريض ان يتعاطى تلك الأدوية من عزائم القلب و صميمه و ان لا يتوهم من شيء منها فإنك قدد تحققت انّ من تطيّر من شيء ضرّه ذلك الشيء،و قد شاهدنا جماعة من الأفاضل ممن ساءهم وفور الأخلاص يتداوون في خراسان بالأدوية المذكورة في طب الأئمة و غيره التي لو تداوى بها اهل تلك البلد لنالوا منها انواع الضرر بزعمهم،و حصل اولئك الأفاضل منها الشفاء العاجل،فليس السبب الا ما عرفت.

و أعظم انواع الدواء النافع ما روي عن الرضا عليه السّلام انّه قال:لو انّ الناس قصّروا في الطعام لأستقامت ابدانهم،و في الرواية انّ طبيبا نصرانيا دخل على مولانا الصادق عليه السّلام فقال له:يا ابن رسول اللّه أ في كتاب ربكم أم في سنّة نبيكم شيء من الطب؟فقال:نعم امّا كتاب ربنا فقوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لاٰ تُسْرِفُوا و اما سنة نبينا فقال صلّى اللّه عليه و آله:الحمية من الأكل رأس كل دواء، و الأسراف في الأكل رأس كل داء،فقام النصراني و هو يقول:و اللّه ما ترك كتاب ربكم و لا سنّة نبيكم شيئا من الطب لجالينوس،و قال عليه السّلام:ليس الحمية من الشيء تركه انّما الحمية من الشيء الأقلال منه،اذا عرفت هذا فالنتلوا عليك أدوية الأمراض الدعائية المروية عن ارباب العصمة عن(من ظ)أهل البيت عليهم السّلام التي جرّبها العلماء و الأخيار و استعملها الفضلاء في كل الأعصار.

اعلم انّ القرآن و آياته فيهما شفاء من جميع الأمراض خصوصا آية الكرسي فأنّي جرّبتها و كذا غيري فانها تحفظ من اللصوص و في الحروب و من هوام الأرض و دوابه و لو انّ احدا قرأها

ص:120

و دخل بين السيوف و الرماح لنجّاه اللّه تعالى بها من كل الأهوال و حفظها يتضاعف بتضاعف قرأها مرة أرسل اللّه تعالى ملكا يحفظه،و اذا قرأها مرتين ارسل اللّه اليه ملكين يحفظانه و هكذا الى خمس مرات فاذا قرأها خمسا قال اللّه تعالى للملائكة:خلوني انا أحفظه لا عليكم و حفظه.

رقية الحمى عن الصادق عليه السّلام هي كتابة آية الكرسي في اناء و ذرفه بجرعة ماء يشربه المريض،أخرى و هي رقية جبرئيل للنبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا حمّ فقرأ عليه بسم اللّه أشفيك من كل داء يؤذيك باسم اللّه و اللّه شافيك بسم اللّه خذها فليهنيك بسم اللّه الرحمن الرحيم فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لتبر أنّ بإذن اللّه عز و جلّ و هذه العوذة من خزانت السماء السابعة، اخرى للحمى و غيرها قال الصادق عليه السّلام:حل ازرار قميصك و ادخل رأسك في جيبك و اذّن و أقم إقرأ الحمد سبع مرات.

أخرى عن مولانا الباقر عليه السّلام انّه كان اذا خمّ بل ثوبان و يطرح عليه احدهما فاذا جفّ طرح عليه الآخر و قال محمّد بن مسلم:سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول:ما وجدنا للحمى مثل الماء البارد و الدعاء.

و قال ابن بكير:كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام و هو محموم فدخلت عليه مولاه له فقالت له:

كيف تجدك فديتك،و سألته عن حاله و عليه ثوب خضب قد طرحه على فخذيه و قالت له:لو تدثّرت حتّى تعرّق فقد ابرزت جسدك للريح،فقال:اللهم اولعتهم بخلاف نبيك صلّى اللّه عليه و آله قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحمى من قيح جهنّم و ربما قال من فور جهنّم فاطعئوها بالماء البارد و اللّه الشافي.

رقية الصداع اشتكى رجل الى الصادق عليه السّلام الصداع فقال:ضع يدك على الموضع الّذي يصدعك و أقرأ آية الكرسي و فاتحة الكتاب و قل اللّه اكبر اللّه اكبر لا اله الا اللّه و اللّه اكبر اجلّ و اكبر ممّا اخاف و احذر اعوذ باللّه من عرق نعار و اعوذ باللّه من حر النار.اخرى رواها عمر بن حنظلة قال:شكوت الى ابي جعفر عليه السّلام صداعا يصيبني قال:فاذا اصابك فضع يدك على هامتك و قل لو كان معه آلهة كما تقولون اذا لأبتغوا الى ذي العرش سبيلا،و اذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل اللّه و الى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا.

و صدع المأمون بطرسوس فلم ينفعه علاج،فوجّه اليه قيصر قلنسوة و كتب اليه بلغني صداعك فضع هذه على رأسك،تسكن فخاف انّها مسمومة فوضعت على رأس حاملها فلم تضره،وضعت على رأس مصدّع فسكن فوضعها على رأسه فسكن،فتعجب من ذلك ففتقت فاذا فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم (كم من نعمة لله في عرق ساكن حمعسق) لاٰ يُصَدَّعُونَ عَنْهٰا وَ لاٰ يُنْزِفُونَ من كلام الرحمن خمدت النيران و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم.

ص:121

رقية العين عن امير المؤمنين عليه السّلام قال:اذا اشتكى احدكم عينه فاليقرأ عليها آية الكرسي و في قلبه انّه يبرأ و يعافى ان شاء اللّه تعالى،أخرى يقرأ على الماء ثلاث مرات و يغسل به وجهه:

فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَطَمَسْنٰا عَلىٰ أَعْيُنِهِمْ الى قوله يُبْصِرُونَ اخرى يكتب اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰاوٰاتِ الآية في جام بالتربة معجونا بماء زمزم ثم يغسله و يصيّره في قارورة و يكتحل منه بالميل.

و اما رقية الشبكور (1)فهي على ما قال مولانا الكاظم عليه السّلام ان يكتب اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ الآية ثلاث مرات في جام ثم يغسله و يصيّره في قارورة و يكتحل به فهو مجرّب.

رقية وجع يقرأ على دهن الياسمين و البنفسج مرات قوله تعالى كأن لم يسمعها كأن في اذنيه و قرأ انّ السمع و البصر و الفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا و يصب في الأذن.

رقية وجع الضرس إقرأ فاتحة الكتاب ثلاث مرات و قل هو اللّه احد ثلاث مرات و يقول يا ضرس أبا لحار تسكنين أم بالبارد تسكنين أم بسم اللّه تسكنين أسكن سكنتك بالذي سكن له ما في السماوات و ما في الأرض و هو السميع العليم،قال من يحيي العظام و هي رميم الى قوله بكل خلق عليم اخرج منها فانّك رجيم و لنخرجنّهم منها الآية فخرج منها خائفا يترقّب،اخرى يأخذ مسمارا و يقرأ عليه ثلاث مرات فاتحة الكتاب و المعوذتين ثم يقرأ من يحيي العظام الى قوله عليم، ثم يقول يا ضرس فلان بن فلان أكلت الحار و البارد فبالحار تسكنين ثمّ يقرأ أوله ما سكن في الليل و النهار الآية شددت داء هذا الضرس من فلان بن فلانة باسم العلي العظيم ثمّ يضربه في حائط يقول:اللّه اللّه اللّه.

رقية رعاف يكتب على جبهة المرعوف بدمه او بالزعفران و قيل يا ارض ابلعي مائكي و يا سماء اقلعي الى آخره فانّه يسكن ان شاء اللّه تعالى.

رقية وسوسة القلب يقول فاذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه،و يقرأ المعوّذتين،و قال امير المؤمنين عليه السّلام اذا وسوس الشيطان الى احدكم فليتعوّذ باللّه و ليقل بلسانه و قلبه آمنت باللّه و رسوله مخلصا له الدين.

رقية وجع القلب يقرأ هذه الآيات على الماء و يشربه لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّٰاكِرِينَ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ الى قوله أدهى و أمر إِنَّ اللّٰهَ يُمْسِكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ الى قوله غَفُوراً و امّا ضيق القلب فيقرأ سبع عشر يوما أ لم نشرح الى آخره كل يوم مرّتين مرة بعد الغداة و مرة بالعشاء رقية وجع البطن يقرء بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ

ص:122


1- (14) نقل هذه الكلمة العجيبة بين الالفاظ العربية و الحاق الالقف و اللام عليها عجيب.

مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ الى آخر الآية و يقرأ فاتحة الكتاب سبع مرات فانه جيد مجرّب أخرى يقرأ لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّٰاكِرِينَ إِنَّ اللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ .

رقية وجع الظهر يقرء شَهِدَ اللّٰهُ الى قوله سَرِيعُ الْحِسٰابِ رقية احتباس البول يغسل رجليه و يكتب على ساقه اليسرى فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ السَّمٰاءِ بِمٰاءٍ منهمر الى قوله لِمَنْ كٰانَ كُفِرَ اخرى ربّنا الذي في السماء تقدس اللهم اسمك في السماء و الأرض اللهم كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا و خطايانا انت رب الطيبين انزل رحمة من رحمتك و شفاء من شفائك على هذا الوجع فليبرأ.

رقية الولادة يقرأ هذه الأدعية في كوز مملوا ماء ثلاث مرات و تشرب المرأة و يصيب بين كتفيها و ثدييها فتضع الولد ان شاء اللّه تعالى:بسم اللّه الذي لا اله الا هو العزيز الكريم سبحان اللّه رب العرش العظيم الحمد للّه رب العالمين بسم اللّه الحليم الكريم سبحان اللّه رب السماوات و رب العرش الحمد للّه ربّ العالمين كأنّهم يوم يرون ما يوعدون.

رقية وجع الركبة عن ابي حمزة قال:عرض لي وجع في ركبتي فشكوت ذلك الى ابي جعفر عليه السّلام فقال:اذا انت صلّيت فقال:يا اجود من اعطى يا خير من سئل يا أرحم من استرحم إرحم ضعفي و قلّة حيلتي و اعفني من وجعي،قال:ففعلت فعوفيت.

رقية للخنازير عن الرضا عليه السّلام قال:خرج بجارية لنا خنازير في عنقها،قال:يا علي قل لها فلتقل:يا رؤوف يا رحيم يا سيدي،تكرره قال:فقلت فأذهب اللّه عزّ و جلّ عنها.

رقية الأبق و الضالة روي عن الرضا عليه السّلام قال اذا ذهب لك ضالّة فقل وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ الْغَيْبِ الى قوله فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ ثم تقول انّك تهدي من الضلالة و تنجي من العمى و ترد الضالّة صلّ على محمّد و آله و اغفر لي و ردّ ضالّتي و صل على محمد و اله و سلّم.

رقيّة العين معمر بن خلاد قال:كنت مع الرضا عليه السّلام بخراسان على نفقاته فأمرني ان اتّخذ له غالية فلمّا أخذتها فأعجب بها فنظر اليها فقال لي:يا معمر انّ العين حقّ فاكتب في رقعة الحمد و قل هو اللّه احد و المعوذتين و آية الكرسي و اجعلها في غلاف القارورة.و روي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال:العين حقّ و ليس تأمنها منك على نفسك و لا منك على غيرك،فاذا خفت شيئا من ذلك فقل:ما شاء اللّه لا قوّة الا باللّه العلي العظيم ثلاثا و قال:اذا تهيّأ احدكم تهيئة تعجبه فليقرأ حين يخرج من منزله المعوذتين فانّه لا يضره باذن اللّه،و قال عليه السّلام من اعجبه من اخيه شيء فليبارك عليه فانّ العين حقّ.

ص:123

رقية فزع الصبيان اذا زلزلت الى آخر السورة فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا الى قوله امدا و آية شهد اللّه و قل ادعوا اللّه و من يتوكل على اللّه فهو حسبه انّ اللّه بالغ امره.

رقية النعاس يقرء و لمّا جاء موسى لميقاتنا الى قوله اوّل المؤمنين يقرأ على الماء و يمسح به رأسه و وجهه و ذراعيه،رقية الصرع و ما لنا الاّ نتوكّل على اللّه الآية.

رقية الثالول يأخذ صاحبه قطعة ملح و يمسحها بالثالول و يقرأ عليه ثلاث مرات لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه الى آخر السورة و يطرحها في تنور و ينصرف سريعا يذهب انشاء اللّه تعالى.

رقية البرص و الجذام يقرأ عليه و يكتب و يعلق عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده ام الكتاب الحمد للّه فاطر السموات و الأرض جاعل الملئكة رسلا اولى اجنحة مثنى و ثلاث و رباع باسم فلان بن فلانه.شكى رجل الى ابي عبد اللّه عليه السّلام البرص فأمره ان يأخذ طين قبر الحسين عليه السّلام بماء السماء ففعل ذلك فبرأ.

رقية البهق يكتب على موضع البهق و ان من شيء الاّ عندنا خزائنه و ما ننزّله الا بقدر معلوم هل يسمعونكم اذ تدعون او ينفعونكم او يضرون.

رقية التعب و النصب من لحقه علّة في ساقه او تعب او نصب فليكتب عليه و لقد خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما في ستة ايّام و ما مسنّا من لغوب.

رقية الجرب و الدمل و القوباء يقرأ عليه و يكتب و يعلّق عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مٰا لَهٰا مِنْ قَرٰارٍ الآية مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تارة أخرى اكبر و انت لا تكبر و الله يبقى و انت لا تبقى وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

رقية القولنج عن الأئمة عليهم السّلام قال:يكتب للقولنج امّ القرآن و قل هو اللّه احد و المعوذتين و يكتب اسفل ذلك اعوذ بوجه اللّه الكريم و بعزّته الّتي لا ترام و بقدرته الّتي لا يمتنع منها شيء من شرّ هذا الوجع و من شرّ ما فيه و من شرّ ما اجد فيه.

رقية الطحال يقرأ على كفّه اذا جاء نصر اللّه ثلاث مرات ثم يقرأ انّ الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا الى آخر الآية ثلاث مرّات ثمّ امسح بهما رأسه ثلاث مرات،اخرى يكتب و يعلق على هذا الموضع انّ اللّه يمسك السموات و الأرض الآية انّه من سليمان و انّه بسم اللّه الرحمن الرحيم.

رقية الحيّة و هي مجربة جرّبناه نحن و غيرنا يقرأ على قدح جديد ان أمكن و يكون فيه ماء و القراءة ثلاث مرات،و اذا شربها رسول الملسوع نفعت الملسوع و ان كان بعيدا،تقرأ الحمد و قل

ص:124

هو اللّه احد و قل يا ايها الكافرون و قل اعوذ برب الفلق و قل اعوذ برب الناس و تقول باسم اللّه و باللّه و من اللّه و الى اللّه و لا باق الا اللّه و لا واق الا اللّه و لا اله.غائب)الاّ اللّه لا يغلب اللّه غالب ربّ المشارق و المغارب ثمانية من الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و عن ذكر اللّه لا يفترون يسبّحون و يهللون و يكبرون و يقدّسون سبّوح قدّوس رب الملائكة و الروح ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن سمع عندنا راق فاسترقا،فقال:انا الراقي و اللّه الواقي انّه قال:بسم اللّه الرحمن الرحيم من شر تسعة و تسعين حيّة حيّات البرور و حيّات البحور و حيّات الزروع و حيّات التراب و حيّات الخراب و حيّات الماء و حيّات السماء،و اعوذ برب الأبصام من شر البظير و القصير و اسود الراس و الأرطب و الربربة و السلحوت و الأقب،و من شر حوريين و جوريين و شبّان و باران و بهران،و من شر الأرقم و الأدقم و الأفقم،و من شر البثن التي تقرّب النفس من النعش و الكفر و من شر غبراء كالمرة و صفراء كالزهرة،و من شر ام طاقتين مع ام الخرافس،و من شر الأسود الخالص كالليل الدامس،و من شر بنات حربا و السرطانية و حوريا و جوريا،و من شر الحيّة التي ترقد سنة و تقعد سنة،و من شر اسود الراس و الذنب و ابو نقطة،و من شر رئيس الخشاب.

ذكر عندنا آدم انه مشى على الحيّة فلسعته حيّة فاسوّد وجهه و ذوا جنبيه و صاح منها صيحة،فسمعه الرب فناداه الشافي السميع العليم و قال:يا آدم هذه من بركات الأرض و اشجاره(قسم)نسم الخلائق(بايدا)بادانها بكابكر طلسم طوسان طوسان طاب طاب حريا عالم بمشوثا ثويت شميثا غيثا سمخيثا برديثا جافوث(خافر)كهيج كهكهيج آمين رب موسى و هارون فناداه الشافي ايّتها الحيّة الحارّة المارّة عزمت عليك باللّه العظيم الأعظم و بكلمات اللّه الكريم الأكرم و بحق عيسى بن مريم و الكعبة و زمزم و الركن الأعظم و بمحمّد صاحب الحوض و الحرم عودي الى منشرك(بحق أ)بألف لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم،ايّتها الحيّة اجمعي سمّك في صدرك كما تجتمع الملائكة بالبيت المقدّس كلمة من كلمات اللّه تحرق الشجر الأخضر فان كان السم في المخ فيخرج الى العظم و ان كان في العظم فيخرج ال اللحم و ان كان في اللحم فيخرج الى الدم و ان كان في الدم فيخرج الى الجلد فيخرج الى الفضا بحق من خلق الفضا و بما نزل بخاتم سليمان بن داوود عليه السّلام انه من سليمان و انّه بسم اللّه الرحمن الرحيم،انّ شربة الملدوغ شفاء ان شربه المندوب كفى بألف لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم و صلّى اللّه على محمد و آله الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين.

رقية أخرى بسم اللّه الرحمن الرحيم قل من يكلؤكم في الليل و النهار من حية و عقرب، و برية،يا دابتي اخرجي و لا تقتلي و تسلسلي و تسبسبي من المفاصل و العظام و اظهري و سمة تستحطان ذمة الفلفلي حجا لجا،لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية

ص:125

اللّه و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون،يا ايها السم الناقع اخرج بنور لامع،ان كنت بالمخ اخرج الى العظم،و ان كنت بالعظم اخرج الى اللحم،و ان كنت باللحم اخرج الى الجلد، و ان كنت بالجلد اخرج خارجا بحق ألف لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم،فسيكفيكهم اللّه و هو السميع العليم بسم اللّه الرحمن الرحيم يا ثمانية الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و عن ذكر ربهم لا يفترون،سبوح سبوح قدوس قدوس ربنا و رب الملائكة و الروح،جانا ابونا يسعى فلسعته حية قال اقرأ كلما يا طلس طلوس بكاليك عزمت على تسعة و تسعين حية من حيات المدورات،و عن انار ان و امير الحنشاء،و عن الفقم و البقم و الأرقم و عن الملك الخافس كالليل الدامس و عن الساقي مع ام خراشا،و عن اللدغة التي ترقد سنة و تقعد سنة يا اها السم الناقع اخرج بنور وجه اللّه الساطع و بالضياء اللامع ان كنت بالمخ اخرج باللحم،و ان كنت باللحم اخرج بالدم،و ان كنت بالدم اخرج بالريش و ايبس يبوس الحشيش وطر طيران الريش بألف لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم،اعوذ بكلمات اللّه التامات من شر ما خلق اللّه من الشيطان الرجيم:

كفاك ربك كم يكفيك و كفه كميتها ككميت كان من كلكا

تكر كرا ككر الكر في كبدي يحكي مشكشكه كلت لك الغلكا

يكفيك ربك كف الكاف كافية يا كوكب كان يحكي كوكب الفلكا

ثم تقرأ الفاتحة سبع مرات و الأخلاص كذلك و آية الكرسي كذلك و تقول اللهم انا الراقي و انت الواقي و انا الراشف و انت الكاشف انّ شربة الملدوغ شفا و انّ شربة المندوب كفي.

رقية جربت و انا انظر مرارا الى من اراد ان يبقر خده او شيء من اعضاءه فليقرأ على رأس الأبرة هذا الدعاء مرة واحدة بسم اللّه الرحمن الرحيم يا للّه يا عزيز يا رحيم بحق هذا الأسم العظيم و بحق سليمان راعي الملك العظيم،و بحق ابراهيم الخليل جد الأنبياء و المرسلين و هذا ينفع اذا قرأ على النشتر في حال الفصد.

رقية الفصد اذا تقابلت العساكر فيأخذ رجل قبضة من التراب بيديه كليهما و يقرأ سورة و التين و الزيتون ثلاث مرات فاذا فرغ قال:بلى انه على كل شيء حاكم فيرمي التراب الذي في يده اليمنى على الجانب الأيسر،و الذي في يده اليسرى على الجانب الأيمن فان العسكر المقابل ينهزم باذن اللّه تعالى.

رقية اخرى يكتب آيات الفتح غي كاغد و يشد في السهم و يرمي به جانب العدو فانّه ينهزم ان شاء اللّه تعالى:

ص:126

الأولى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ إِذْ قٰالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنٰا مَلِكاً نُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ،قٰالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتٰالُ أَلاّٰ تُقٰاتِلُوا قٰالُوا وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نُقٰاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنٰا مِنْ دِيٰارِنٰا وَ أَبْنٰائِنٰا فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتٰالُ تَوَلَّوْا إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ .

الثانية لَقَدْ سَمِعَ اللّٰهُ قَوْلَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيٰاءُ سَنَكْتُبُ مٰا قٰالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذٰابَ الْحَرِيقِ .

الثالثة أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتٰالُ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّٰاسَ كَخَشْيَةِ اللّٰهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قٰالُوا رَبَّنٰا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتٰالَ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنٰا إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ،قُلْ مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقىٰ وَ لاٰ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً .

الرابعة وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبٰا قُرْبٰاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمٰا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ،قٰالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قٰالَ إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اللّٰهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .

الخامسة قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللّٰهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمٰاتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشٰابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْوٰاحِدُ الْقَهّٰارُ .

السادسة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طٰائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللّٰهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضىٰ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ آخَرُونَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّٰهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

رقية لحل المربوط ذكره شيخنا ابن فهد قدس اللّه روحه يكتب اول سورة الفتح الى مستقيما،و سورة النصر،و قوله من آياته ان خلق لكم من انفسكم الآية ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على امر قد قدر،و تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا،كذلك حللت فلان بن فلان عن فلانة بنت فلانة لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم،فان تولوا فقل حسبي اللّه لا اله الا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم.

رقية اخرى يكتب و يعلق اوّل الفتح الى قوله نصرا عزيزا،و فجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على امر قد قدر،و جعلنا بعضهم يومئذ يموج في بعض و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا،

ص:127

و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحيها الذي أنشأها اول مرّة و هو بكل خلق عليم،ثم يكتب حتى اذا ركب في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها ثلاثا ثم يكتب اللهم اني اسئلك بحق اسمك المنكنون بين الكاف و النون،و بحق محمّد و اهل بيته الطاهرين ان تحل ذكر فلان بن فلانة عن فلانة بنت فلان بكهيعص بحمعسق بقل هو اللّه احد،و عنت الوجوه للحي القيّوم و قد خاب من حمل ظلما بألف لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم.

اخرى يكتب على ورقتين من الزيتون يبلغ الرجل واحدة و المرأة واحدة يكتب للرجل و السماء بنيناها بأيد و إنا لموسعون،و للمرأة و الأرض فرشناها فنعم الماهدون.

اخرى يكتب على ثلاث بيضات بعد ان يسلقوا و يقشروا:الأولى حتى اذا ركبا في السفينة خرقها الآية.الثانية او لم ير الذين كفروا ان السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كل شيء حي أ فلا يؤمنون،الثالثة فاستغلظ فاستوى الآية ثم يأكل الأولى فان انحلّ و الا اكل الثانية فان حل و الا اكل الثالثة و الرقيات المأثورة عن اهل البيت عليهم السّلام كثيرة و لكن ما ذكرناه مما لا شك فيه و لا ريب يعتريه.

نور آخر في طب الرضا(ع)وضعه للمأمون

نقلتها بلفضها و هذه الرسالة الذهبية(المذهبية)في الطب الذي بعث به الأمام الهمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام الى المأمون العباسي في صحة المزاج و تدبيره بالأغذية و الأشربة و الأدوية، قال امام الأنام عزة وجه الأسلام،مظهر الغموض بالرؤية اللامعة كاشف الرموز في الجعفر الجامعة،اقضى من قضى بعد جده المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و أغزى من غزى بعد ابيه المرتضى صلوات اللّه و سلامه عليه و آله امام الأنس و الجن علي بن موسى الرضا صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أولاده النجباء الكرام النقباء:أعلم يا أمير المؤمنين ان اللّه تعالى لم يبتل العبد ببلاء حتّى جعل له دواء يعالج به،و لكل صنف من الداء صنف من الدواء و تدبير و نعت،و ذلك ان الأجسام الأنسانية جعلت على مثال الملك فملك الجسد في القلب و العمال العروق و الأوصال و الدماغ، و بيت الملك قلبه و أرضه الجسد و الأعوان يداه و رجلاه و عيناه و شفتاه و لسانه و اذناه،و خزانته معدته و بطنه و حجابه صدره،فاليدان عونان يقربان و يبعدان و يعملان على ما يوحي اليهما الملك و الرجلان ينقلان الملك حيث يشاء و العينان يدلان على ما يغيب عنه لأن الملك من ورآء حجاب لا يوصل اليه الا بهما و هما سراجاه ايضا،و حصنه الجسد و حرزه الأذنان لا يدخلان على الملك الا ما يوافقه لأنهما لا يقدران ان يدخلا شيئا حتى يوحي الملك اليهما،فاذا اوحى اليهما اطرق الملك

ص:128

منصتا لهما حتى يسمع منهما ثم يجيب ما يريد فترجم عنه اللسان بأدوات كثيرة منها ريح الفؤاد و بخار المعدة و معونة الشفتين و ليس للشفتين قوة الا بالأسنان و ليس يستغنى بعضهما عن بعض و الكلام لا يحسن الا بترجيعه بالأنف لأن الأنف يزيّن الكلام كما يزين النفخ المزمار و كذلك المنخران هما ثقبتا الأنف يدخلان على الملك ما يحب من الريح الطيبة،فاذا جاءت ريح تسوء على الملك اوحى الى اليدين فحجبا بين الملك و تلك الريح و للملك مع هذا ثواب و عقاب،فعذابه اشد من عذاب الملوك الظاهرة القاهرة في الدنيا و ثوابه افضل من ثوابهم فاما عذابه فالحزن و اما ثوابه فالفرح و اصل الحزن في الطحال و اصل الفرح في الثرب (1)الكليين و لهما عرقان موصلان الى الوجه،فمن هناك يظهر الحزن و الفرح فترى علامتيهما في الوجه و هذه العروق كلها طرق من العمال الى الملك و من الملك الى العمال و مصداق ذلك انه اذا تناولت الدواء ادنه العروق الى موضع الداء بإعانتها،

و أعلم يا أمير المؤمنين ان الجسد بمنزلة الأرض الطيبة متى تعوهدت بالعمارة و السقي من حيث لا يزاد في الماء فيغرق و لا ينقص منه فيعطش دامت عمارتها و كثر ريعها و زكّى و نما زرعها، و ان تغوفل منه فسدت و لم ينبت فيها العشب،فالجسد بهذه المنزلة و بالتدبير بالأغذية و الأشربة يصلح و يصح و تزكو العافية فانظر يا أمير المؤمنين ما يوافقك و يوافق معدتك و يقوى عليه بدنك و يستمرئه من الطعام فقدره لنفسك و اجعله غذائك.

و أعلم يا أمير المؤمنين ان كل واحدة من هذه الطبائع تحب ما يشاكلها فأعتد ما يشاكل جسدك.و من أخذ الطعام زيادة لم يغذه و من اخذه بقدر لا زيادة و لا نقص عليه نفعه و كذلفك الماء سبيله ان تأخذ من الطعام كفايته في ابّاه و وقته و ادفع يديك منه و عندك اليه ميل فانّه اصلح لمعدتك و بدنك و أزكى لعقلك،و اخفّ على جسمك يا أمير المؤمنين كل البارد في الصيف و الحار في الشتاء و المعتدل في الفصلين على قدر قوتك و شهوتك،و ابدء في أوّل الطعام بأخفّ الأغذية الّتي تتغذى بها بقدر عادتك و بحسب طاقتك و نشاطك و زمانك الذي يجب ان يكون في كلّ يوم عند ما يمضي من النهار ثمان ساعات أكلة واحدة او ثلاث اكلات في يومين تتغذى باكرا في اوّل يوم تتعشى،فاذا كان في اليوم الثاني فعند ما مضى ثمان ساعات من النهار أكلت أكلة واحدة و لم تحتج الى العشاء كذا أمر جدي محمد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله و علي صلوات اللّه عليه في كلّ يوم وجبة و في غده وجبتين و ليكن ذلك بقدر لا يزيد و لا ينقص،و ارفع يدك من الطعام و انت تشبهه و ليكن شرابك على اثر طعامك من هذا الشراب الصافي العتيق الّذي يحل شربه و انا أصفه فيما بعد و نذكر الآن

ص:129


1- (15) الثرب على وزن فلس شحم رقيق على الكرش و الامعاء.

ما ينبغي ذكره من تدبير فصول السنة و شهورها الرومية الواقعة فيها في كلّ فصل على حده،و ما يستعمل من الأطعمة و الأشربة و ما يتجنب منه و كيفيّة حفظ الصحة من أقاويل القدماء و نعود الى قول الأئمة عليهم السّلام في صفة شراب يحل شربه و يستعمل بعد الطعام.

ذكر فصول السنة امّا فصل الربيع فانّه روح الزمان و اوّله ازار و عدة ايّامه احد و ثلاثون ايّاما و فيه يطيب الليل و النهار و يلين و يذهب سلطان البلغم،و يهيج الدم و يستعمل فيه الغذاء اللطيف و اللحوم و البيض ال(نيم برشت)و يشرب بعد تعديله،و يتّقى فيه أكل البصل و الثوم و الحامض و يحمد فيه شرب المسهل و يستعمل فيه الفصد و الحجامة.

نيسان ثلاثون يوما فيه يطول النهار و يقوي مزاج الفصل و يتحرك الدم و تهبّ فيه الريّاح الشرقية و يستعمل فيه الماكل المشوي و ما يعمل بالخل و لحوم الصيد و يعالج الجماع و التمريخ بالدهن في الحمام،و يشرب الماء على الريق و تشم الرياحين و الطيب،أيار أحد و ثلاثون يوما تصفوا فيه الرياح و هو آخر فصل الربيع و قد نهى عن الملوحات و اللحوم الغليظة كالرؤوس و لحوم البقر و اللين،و ينفع فيه دخول الحمام أوّل النهار و تكره فيه الرياضة قبل الغذاء،حزير ان ثلاثون يوما يذهب فيه سلطان الدم و يقبل زمان المرّة الصفراء،و ينهى فيه عن التعب و أكل اللحم دائما و الأكثار منه،و شم المسك و العنبر،و ينفع فيه أكل البقول الباردة كالهندباء و البقلة الحمقاء؟و كل الخضر كالخيار و القثاء و الشيرخشت،و الفاكهة الرطبة،و استعمال المحمضات،و من اللحوم لحم المعز الفني و الجدي و من الطيور دجاج و الطيهوج و الدراج و الألبان و السمك الطري.

تموز أحد و ثلاثون يوما فيه شدة الحرارة و تفور المياه و يستعمل فيه شرب الماء البارد على الريق،و تؤكل فيه الأشياء الباردة،و يكثر فيه مزاج الشراب و تؤكل فيه الأغذية السريعة الهضم كما ذكر في حزيران،آب أحد و ثلاثون يوما،فيه تشتّد السموم و يهيج الزكام بالليل،و تهب الشمال،و يصلح المزاج بالتبريد و الترطيب و ينفع فيه شرب اللبن الرائب،و يجتنب فيه الجماع و المسهل،و يقل من الرياضة و تشم الرياحين الباردة،أيلول ثلاثون يوما فيه يطيب الهوى و يقوى سلطان المرأة السوداء و يصلح شرب المسهل،و ينفع فيه اكل الجلاب و اصناف اللحوم المعتدلة كالجدي و الحوالي من الظأن،و يجتنب لحم البقر و الأكثار من الشوى و دخول الحما،و يستعمل فيه الطيب المعتدل المزاج،و يجتنب فيه اكل البطيخ و القثاء.

تشرين الأول احد و ثلاثون يوما فيه تهب الرياح المختلفة،و يتنفس فيه ريح الصبا،و يجتنب فيه الفصد و شرب الدواء و يحمد في الجماع،و ينفع اكل اللحم السمين و الرمان المز و الفاكهة بعد الطعام،و يستعمل فيه من اكل اللحوم بالتوابل و يقلل فيه من شرب الماء و تحمد فيه الرياضة، تشرين الثاني ثلاثون يوما فيه يقع المطر الموسمي و نهي فيه عن شرب الماء في الليل،و يقلل فيه من

ص:130

دخول الحمام و الجماع،و يشرب كل يوم بكرة جرعة ماء حار،و يجتنب فيه اكل البقول الحارة كالكرفس و النعناع و الجرجير،كانون الأول احد و ثلاثون يوما تقوى فيه العواصف و يشتد فيه البرد،و ينفع فيه كل ما ذكر في تشرين الثاني،و يحذر فيه من اكل الطعام البارد،و يتقى فيه الحجامة و الفصد،و تستعمل فيه الأغذية الحارة بالقوة و الفعل،كانون الثاني احد و ثلاثون يوما يقوى فيه غلبة البلغم،و ينبغي ان يتجرع فيه الماء الحار على الريق،و يحمد فيه الجماع،و ينفع فيه الأحساء مثل البقول الحارة كالكرفس و الجرجير و الكراث،و ينفع فيه دخول الحمام اول النهار و التمريخ بدهن الخيري و ما ناسبه،و يحذر فيه الحلو و اكل السمك الطري و اللبن،شباط ثمانية و عشرون يوما تختلف فيه الرياح و تكثر الأمطار،و يظهر فيه العشب و يجري فيه الماء في العود،و ينفع فيه اكل الثوم و لحم الطير و الصيود و الفاكهة اليابسة،و يقلل من اكل الحلاوات،و تحمد فيه كثرة الحركة و الرياضة.

صفة الشراب الذي يحل شربه و استعماله بعد الطعام و قد تقدم ذكر نفعه عند ابتدائنا بالقول على فصول السنة و ما يعتد فيها من حفظ الصحة و صفته ان يؤخذ نمن الزبيب المنقّى عشرة ارطال فيغسل و ينقع بماء صاف غمرة و زيادة عليه اربعة اصابع و يترك فيه اناءه ذلك ثلث ابام في الشتاء و في الصيف يوم و ليلة،ثم يجعل في قدر نظيف،و ليكن الماء ماء السماء ام قدرت عليه و الا فمن الماء العذب الذي ينبوعه من ناحية المشرق ماء براقة ابيض خفيفا و هو القابل لما يعرضه على سرعة من السخونة و البرودة،و تلك دلالة على خفّة الماء،و يطبخ حتّى ينتفخ الزبيب و ينضج،ثم يعصر و يصفى مأواه و يبرد،ثم يرد الى القدر ثانيا و يؤخذ مقداره بعود و يغلى بنار لينة غليانا رقيقا حتى ينضي ثلثاه،ثم يؤخذ من العسل المصفّى رطال فيلقى عليه و يؤخذ مقدار الماء الى أي كان من القدر و يغلى حتى يذهب قدر العسل و يعود الى حد،و يؤخذ خرقة ضعيفة فيجعل فيها زنجيل وزن درهم،و من القرنفل نصف درهم،و من الألدار جينا مثله،و من الزعفران درهم،و من السنبل نصف درهم،و من الهندباء مثله،و من المصطقى نصف درهم بعد ان يستحق كل واحد على حده،و ينخل و يجعل في خرقة و يشد بخيط شدا جيدا و يلقى فيه و تمرس الخرقة في الشراب بحيث تنزل القوى العقاقير التي فيها و لا يزال يعاهد بالتحريك على نار لينة برفق حتّى يذهب منه مقدار العسل و يرفع و يزداد ماء و يؤخّر مدة ثلاثة شهور حتّى يتداخل مزاجه بعضه في بعض، و حينئذ يستعمل و مقدار ما يشرب منه اوقية الى اوقيتين من الماء القراح،فاذا اكلت يا أمير المؤمنين مقدار ما وصفت لك من الطعام فاشرب من هذا الشراب مقدار ثلاثة اقداح بعد طعامك،فاذا فعلت ذلك فقد امنت باذن اللّه تعالى يومك و ليلتك من الأوجاع الباردة المزمنة كالنقرس و الرياح و مثل ذلك من اوجاع الكبد و الطحال و الأمعاء و الأحشاء و العصب و الدماغ و المعدة،

ص:131

فان صدقت بعد ذلك شهوة الماء فليشرب نصف ما كان يشرب قيل أنّه أصلح لبدن امير المؤمنين و اكثر لجماعة و اشد لضبطه و حفظه و ان صلاح البدن يكون بالطعام و الشراب و فساده بهما فان اصلحتهما صلح البدن و ان افسدتهما فسد البدن.

و أعلم يا أمير المؤمنين انّ قوة النفوس تابعة لأمزجة الأبدان،و ان الأمزجة تابعة للهوى، و يتغير بحسب تغيير الهواء في الأمكنة فاذا برد الهوى مرة و سخن أخرى تغيرت بسببه امزجة الأبدان و أثر ذلك تغيير في القوى،فان كان الهوى معتدلا أعتدلت امزجة الأبدان و صلحت تصرفات الأمزجة في الحركات الطبيعية كالهضم و الجماع و النوم و الحركة و سائر الحركات لأن اللّه تعالى بنى الأجسام على اربع طبائع و هي المرتان و الدم و البلغم،و بالجملة حاران و باردان قد خولف ما بينهما فجعل الحارين لينا و يابسا و كذلك الباردين رطبا و يابسا ثم فرق فوق ذلك على اربعة اجزاء من الجسد على الرأس و الصدر و الشراسيف و اسفل البطن.و أعلم يا أمير المؤمنين انّ الرأس و الأذنين و العينين و المنخرين و الفم و الأنف من الدم،و ان الصدر من البلغم و الريح،و ان الشراسيف من المرّة الصفراء،و ان اسفل البطن البطن من المرّة السوداء،و اعلم يا أمير المؤمنين ان النوم سلطان الدماغ و هو قوام الجسد و قوته،فاذا اردت النوم فليكن انضجاعك على شقك الأيمن ثم انقلب على الأيسر و كذلك قم من مضجعك كما بدأت به بعد نومك،و عوّد نفسك القعود من الليل ساعتين،و ادخل الخلاء لحاجة الأنسان و البث فيه بقدر حاجتك و لا تطل فيه فان ذلك يورث الداء الدفين.

و اعلم يا أمير المؤمنين ان اجود ما استكت به ليف الا رآك فانه يجلي الأسنان و يطيّب النكهة و يشد اللثة و يسمنها،و هو نافع من الحفر اذا كان معتدلا و للاكثار منه يرفق الأسنان و يزعزعها و يضعف اصولها فمن اراد حفظ الأسنان فليأخذ قرن الأبل محروقا و كذا مارجا(مارخا)و سعد او وردى و سنبل الطيب و حب الأثد(ثل)أجزاء سواء،و ملحا اندريانا ربع جزء فيدق الجميع ناعما و بستن به فانّه ينفع الأنسان و يمسكها و يحفظ أصولها من الآفات و العاهات العارضة،و من اراد ان يبيض أسنانه فليأخذه جزء ملحا اندرايانا و مثله زبد البحر و ليسحقهما ناعما و يستن بهما.

و اعلم يا أمير المؤمنين انّ احوال الأنسان الّتي بناه اللّه تعالى عليها و جعله متصرفا بها اربعة احوال كالحالة الأولى خمسة عشر سنة،و فيها شبابه و حسنه و بهاؤه و سلطان الّد في جسمه،ثمّ الحالة الثانية من خمسة عشر الى خمسة و ثلاثين سنة،و فيها المرّة الصّفراء و قوة غلبتها و هي أقوى ما يكون،و لا يزال كذلك حتّى يستوفي المدّة المذكورة ثمّ يدخل في الحالة الثالثة الى ان تتكامل مدة العمر ستين سنة،فيكون في سلطان المرّة الّسوداء و هو سن الحكمة و المعرفة و الدراية و انتظام الأمور و صحّة النظر في العواقب و صدق الرأي و ثبات الجأش في التصرفات،ثمّ يدخل في الحالة

ص:132

الرابعة و هو سلطان البلغم و هي الحالة الّتي لا يتحول منها ما بقي الاّ الى الهرم و نكد العيش، و نقص من القوة و فساد في كونه و نكسه،انّ كلّ شيء كان لا يعرفه حتى يعود ينام عند القعود و يسهر عند النوم و لا يتذكر ما يتقدم،و ينسى ما يحدث من(في)الأوقات،و يزيل عوده،و يتغير معهوده،و يجف ماء رونقه و بهائه و يقل نبت شعره و أظفاره،و لا يزال في جسمه انعكاس و ادبار ما عاش لأنّه في سلطان البلغم و هو بارد جامد،فبروده و جموده يكون فناء كلّ جسم يستولي عليه في آخر القوة البلغميّة و قد ذكرت للأمير ما يحتاج اليه في سياسة المزاج و احوال جسمه و علاجه.

و انا اذكر ما يحتاج الى تناوله من الأغذية و الأدوية و ما يجب ان يفعله في أوقاته،فاذا اردت الحجامة فليكن في إثنتي عشرة ليلة من الهلال الى خمسة عشرة،فانّه أصحّ لبدنك،فاذا نقص الشهر فلا تحتجم الاّ ان تكون مضطرا الى ذلك و هو لأنّ الدم ينقص في نقصان الهلال و يزيد في زيادته،و لتكن الحجامة بقدر ما يمضي من السنين ابن عشرين سنة يحتجم في كل عشرين يوما، و ابن ثلاثين سنة يحتجم في كل ثلاثين يوما مرّة واحدة،و كذلك ابن الأربعين سنة يحتجم في كلّ اربعين يوما فما زاد فبحسب ذلك.

و اعلم يا أمير المؤمنين ان الحجامة انّما يؤخذ دمها من صغار العروق المبثوثة في اللّحم و مصداق ذلك انها لا تضعف القوة كما يوجد من الضعف عند الفصد،و الحجامة النقرة تنفع من ثقل الرأس و الوجه و العينين و هي نافعة الوجع الأضراس،و ربّما ناب الفصد عن جميع ذلك، و قد يحتجم تحت الذقنين لعلاج القلاع في الفم و من فساد تلك اللثة و غير ذلك من أوجاع الفم، و كذلك الحجامة بين الكتفين ينفع من الخفقان الّذي يكون من الأمتلاء و الحرارة،و الذي على الساقين قد ينقص من الأمتلاء نقصانا بيّنا و ينفع من الأوجاع المزمنة في الكلأ و المثانة و الأرحام، و يدرّ الطمث غير انّها تنهك الجسد و قد يعرض منها الغشي الشديد الا انّها تنفع ذوي الثبور و الدماميل،و الّذي يخفف من ألم الحجامة تخفيف المص أوّل ما تضع المحاجم،ثمّ يدر المص قليلا و الثواني أزيد من المص في الأوائل و كذا الثوالث فصاعدا،و يتوقف عند الشرط حتّى يحمرّ الموضع جيدا بتكرير المحاجم و يلين المشرط على جلود لينة و يمسح الموضع قبل شرطه بالدهن و كذا الفصد،و يمسح الموضع الذي فيه بدهن فانّه يقلّل من الألم،و كذلك يلين المشرط و المبضع بالدهن عند الحجامة و الفراغ منها يلين الموضع بالدهن و ليقطر على العروق اذا فصد شيئا من الدهن كي لا يحتجب فيضرّ ذلك المقصود و يعتمد الفاصد أن يفصد من العروق ما كان في مواضع قليلة اللحم لأنّ في قلة اللحم من قوق العروق قلة الألم،و اكثر العروق ألما اذا فصد حبل الذراع و القيفال لاتّصالهما بالعضل(بالعضد)و صلابة الجلد.

ص:133

و اما الباسليق و الأكحل فانّهما في الفصد أقلّ ألما لما لم يكن فوقهما لحم،و الواجب تكميل الفصل(الفصد)بالماء الحارّ ليظهر الدم و خاصّة في الشتاء فانّه يليّن الجلد و يقلّل الألم،و يسهّل الفصد و يجب في كلّ ما ذكرناه من اخراج الدم اجتناب النساء قبل ذلك باثني عشر ساعة و يحتجم في يوم صاح صاف لا غيم فيه و لا ريح شديدة،و يخرج من الدم بقدر ما يرى تغييره و لا تدخل يومك ذاك الحمّام فانّه يورث الداء و أصبب على رأسك و جسدك الماء الحار و لا تفعل ذلك من ساعتك، و ايّاك و الحمّام اذا احتجمت فانّ الحمة الدائمة تكون فيه،فاذا اغتسلت من الحجامة فخذ خرقة فرعوني فالقها على محاجمك،و ثوبا لينا من قزّ و غيره و خذ قدر حمّصة من الترياق الأكبر فاشربه به ان كان شتاء،و ان كان صيفا فاشرب السكنجبين من العنصلي فانّه الترياق الأكبر،و امزجه بالشراب المفرّح المعتدل و تناوله او بشراب الفاكهة فان تعذّر ذلك فشراب الأترج،فان لم تجد شيئا من ذلك فتناوله بعد علكة ناعما تحت الأسنان و اشرب عليه سكنجبينا عسليّا فانّك متى فعلت ذلك آمنت من للّقوة و البرص و البهق و الجذام باذن اللّه تعالى،و امتص من الرمان المزّ فانّه يقوي القلب و يجيء بالدم،و لا تأكل طعاما مالحا بعد ذلك بثلاث ساعات فانّه يخاف ان يعرض من ذلك الجرب،و ان كان عشاء فكل الطباهيج(هج)اذا إحتجمت و اشرب عليه من الشراب الزكي الذي ذكرته لك اولا،و ادهن بدهن الخيري و شيء من المسك و ماء بارد صب منه على هامتك ساعة فراغك من الحجامة،و امّا بالصيف فاذا احتجمت فكل السكباج و الهلام و المصوص ايضا و الحامض،و صبّ على هامتك دهن بنفسج بماء الورد و شيء من الكافور و اشرب من ذلك الشراب الذي و صفت لك بعد طعامك،و ايّاك و كثرة الحركة و الغضب و مجامعة النساء يومك.

و احذر يا أمير المؤمنين ان تجمع بين البيض و السمك في المعدة في وقت واحد فانهما متى اجتمعا في جوف انسان ولد عليه النقرس و القولنج و البواسير و الأضراس و اللبن و الببيذ الذي يشربه أهله اذا أجتمعا ولد النقرس و البرص،و مداومة اكل البصل يعرض منه الكلف في الوجه، و أكل الملوحة و اللحمان المملوحة و اكل السمك المملوح بعد الفصد و الحجامة يعرض منه البهق و الجرب،و اكل كليّة الغنم و اجواف الغنم يعكّر المثانة و دخول الحمام على البطنة يوجب القولنج، و الأغتسال بالماء البارد بعد اكل السمك يورث الفالج،و اكل الأترج في الليل يقلب العين و يوجب الحول و اتيان المرأة الحائض يورث الجذام في الولد الجماع بعد الجماع من غير بينهما بغسل يورث الولد الجنون،و كثرت أكل البيض و ادمانه يولد الطحال و رياحه في رأس المعدة و الأمتلاء من البيض المسلوق يورث الربو و الأبتهاء،و اكل اللحم التي يورث الدود و اكل السين(التين)يقمّل منه الجسد اذا ادمن عليه و شرب الماء البارد عقيب الشيء الحار او الحلاوة يذهب الأسنان، و الأكثار من لحوم الوحش و البقر يورث تغيير العقل و تحيير الفهم و يبلد الذهن و كثرة النسيان،

ص:134

و اذا اردت دخول الحمام و ان لا تجد في رأسك ما يؤذيك فأبدأ عند دخول الحما بخمس جرع من الماء الفاتر فانّك تسلم بإذن اللّه تعالى من وجع الرأس و الشقيقة،و قدر خمس أكف ماء حار تصبها على رأسك عند دخول الحمّام.

و أعلم يا أمير المؤمنين انّ الحمّام ركّب على تركيب الجسد على اربع بيوت مثل اربع طبائع الجسد:البيت الأول بارد يابس،البيت الثاني بارد رطب،الثالث حار رطب،الرابع حار يابس، و منفعة الحمّام عظيمة تؤدي الى الأعتدال و تنقي الدرن،و تليّن العصب و العروق و تقوي الأعضاء الكبار،و تذيب الفصول و تذهب العفن،فاذا اردت ان لا يظهر في بدنك بثرة و لا بخر فابدأ عند دخول الحمّام بدهن بدنك بدهن البنفسج،و اذا اردت استعمال النورة و لا يصيبك قروح و لا شقاء و لا سواد فاغتسل بالماء البارد قبل التنوير و من اراد دخول الحمام للنورة فليجتنب الجماع قبل ذلك باثني عشر ساعة و هو يوم تام،و ليطرح في النورة شيئا من البصر و القاقيا و الحضض او يجمع ذلك و يأخذ منه اليسير اذا كان مجتمعا و متفرقا،و لا يلقي في النورة شيء يابس،او يجمع ذلك اجزاء يسيرة مجموعة او متفرقة بقدر ما يشرب الماء رائحة،و ليأكل الزرنبخ مثل سدس النورة و يدلّك الجسد بعد الخروج منها بشيء يقلع رائحتها كورق الخوخ،و يبخّر العصفر او السعد الحنا و الورد و السنبل مفردة و مجتمعة،و من اراد ان يأمن احراق النورة فلقلل من تقليبها و ليبادر اذا عمل في غسلها و ان يمسح البدن بشيء من دهن الورد،فانّ احرقت و العياذ باللّه يؤخذ عدس مقشّر يسحق ناعما و يداف بماء ورد و خل و يطلى به الموضع الذي اثّرت به النورة فانه يبرأ بإذن اللّه و الذي يمنع من آثار النورة في الجسد هو ان يدلك الموضع بخل العنب الثقيف (1)و دهن الورد دلكا جيدا.

و من اراد ان لا يشتكي مثانته فلا يحبس البول و لو على ظهر دابة،و ان لا تؤذيه فلا يشرب على طعامه حتى يفرغ منه،من فعل ذلك رطّب بدنه و ضعفت معدته،و لم تؤخذ العروق قوة من الطعام فانه يصير في المعدة فجا اذا صب الماء على الطعام اوّلا.

و من اراد ان لا يجد الحصى و عسر البول فلا يحبس المني عند نزول الشهوة و لا يطيل المكث على النساء،من اراد ان يأمن وجع السفل و لا يظهر به رياح البواسير فليأكل كل ليلة سبع تمرات برني بسمن البقر،و يدهّن بين انثييه بدهن زئبق خالص و من اراد ان يزيد حفظه فليأكل سبع مثاقيل زبيبا بالغداة،و من اراد ان يقل نسيانه و يكون حافظا فليأكل كل يوم ثلاث قطع زنجبيل مربى بعسل و يصطبغ بالخردل مع طعامه في كل يوم،و من اراد ان يزيد في عقله فليتناول في كل

ص:135


1- (16) الثقيف الحامض جدا

يوم سكر بلوج،و من اراد ان لا ينشق ظفره و لا يميل الى الصفرة و لا يفسد حول ظفره فلا يقلّم اظفاره الا يوم الخميس،و من اراد ان لا تلومه اذنه فليجعل فيها عند النوم قطنة،و من اراد ردع الزكام مدة ايام الشتاء فليأكل يوم ثلاث لقم من الشهد.

و اعلم يا أمير المؤمنين ان للعسل دلائل يعرف بها نافعه من ضاره،و ذلك انّ منه شيئا اذ ادركه الشم عطش،و منه شيء يسكر،و له عند الذوق حراقة شديدة فهذه الأنواع من العسل قاتلة و لا تؤخّر شم النرجس فانّهم يمنع الزكام في مدّة ايّام الشتاء و كذلك الحبّة السوداء،و اذا خاف الأنسان الزكام في زمان الصيف فليأكل كلّ يوم خيارة و ليحذر الجلوس في الشمس.

و من خشي من الشقيقة و الشوصة فلا بدّ من أكل السمك الطري صيفا كان او شتاء،و من اراد ان يكون صالحا خفيف اللّحم فليقلل من عشائه بالليل،و من اراد ان لا يشتكي سرّته فليدهنها متى دهن رأسه،و من اراد ان لا تنشق شفتاه و لا يخرج منهما ناسور فليدهن حاجبيه متى دهن رأسه.

و من اراد ان لا تسقط اذناه و لهاته فلا يأكل حلوا حتّى يتغرغر بالخلّ،و من اراد ان لا تفسد اسنانه فلا يأكل حلوا الاّ بعد خبز،و من اراد ان لا يصيبه اليرقان فلا يدخل بيتا في الصيف حين أوّل ما يفتح،و لا يخرج منه اول ما يفتح بابه في الشتاء غدوة،و من اراد أن لا يصيب ريحا في بدنه فليأكل الثوم كلّ سبعة ايّام مرّة،و من اراد أن يستمري طعامه فليتك بعد الأكل على شقّه الأيمن ثمّ ينقلب على شقّه الأيسر حين ينام.

و من اراد ان يذهب البلغم من بدنه و ينقصه فليأكل كل يوم بكرة شيئا من الجوارش اطريفل،و يكثر دخول الحمام و مضاجعة النساء و الجلوس في الشمس و يجتنب كل بارد من الأغذية فانّه يذيب البلغم و يحرقه،و من اراد ان يطفي لهب الصفراء فليأكل كل يوم شيئا رطبا و باردا و لينا و يروح بدنه،و يقلل الحركة،و يكثر النظر الى من يحب،و من اراد ان يحرق السوداء فعليه بكثرة القي و فصد العروق و مداومة النورة،و من اراد ان يذهب بالريح الباردة فعليه بالحقنة و الأدهان الليّنة على الجسد،و عليه بالتمكيد بالماء الحار في الأبرز،و من أراد ان يذيب البلغم فليتناول بكرة كل يوم من الأطريفل الصغير مثقالا واحدا.

و اعلم يا أمير المؤمنين ان المسافر ينبغي له ان يحترز في الحرّ اذا سافر و هو ممتل من الطعام و لا خالي الجوف و ليكن على حدّ الأعتدال و ليتناول من الأغذية الباردة مثل الفريض و الهلام و الخل و الزبيب و ماء الحصرم و نحو ذلك من الأطعمة الباردة.

و اعلم يا أمير المؤمنين انّ السّير الشديد في الحرّ الشديد ضارّ بالأبدان الملهوسة اذا كانت خالية من الطعام،و هو نافع في الأبدان الخصبة فامّا صلاح المياه للمسافر مع دفع الأذى عنه فهو

ص:136

ان لا يشرب الماء من ماء كلّ منزل الاّ بعد ان يمزجه ماء المنزل الذي قبله،او بشراب(بتراب)واحد غير مختلف يشربه بالمياه على إختلافها،و الواجب ان يتزوّد المسافر من تربة بلده و طينه التي ربى(بربي)عليها و كلّما ورد الى منزل طرح في إنائه الّذي يشرب منه الماء شيئا من الطين الذي تزوده من بلده،و يتعاهد الماء و الطين في الآنية بالتحريك و يؤخر قبل شربه حتّى يصفو صفاء جيدا،و خير المياه شربا لمن هو مقيم او مسافر ما كان ينبوعه من الجهة الشرقية الخفيف الأبيض، و أفضل المياه ما كان مخرجها من مشرق الشمس الصيفي،و أوضحها و أفضلها ما كان بهذا الوصف الذي ينبع منه و كان مجراه في جبال الطين و ذلك انّها تكون في الشتاء باردة و في الصيف مليّة البطن نافعة لأصحاب الحرارة.

و امّا الماء المالح و المياه الثقيلة فانّها تيبس البطن،و مياه الثلوج و الجليد رديّة لسائر الأجساد كثيرة الضرر جدا،و أما مياه الجبّ فانّها عذبة صافية نافعة ان دام جريها و لم يدم حبسها في الأرض،و امّا البطايخ و السباخ فانّها حارّة غليظة في الصيف لو كررها و داوم طلوع الشمس عليها،و قد يتولد علي من دوام شربها المرّة الصفراوية و تعظم به أطلحتهم(اطحلتهم)،و قد وصفت لك يا أمير المؤمنين فيما تقدّم من كتبي هذا ما فيه كفاية لمن أخذ به.

و انا ذاكر من الجماع فلا تقرب النساء من اول الليل صيفا و لا شتاء و ذلك لأنّ المعدة و العروق تكون ممتلئة و هو غير محمود،و يتولد منه القولنج و الفالج و اللقوة و النقرس و الحصاة و التقطير و الفتق و ضعف البصر و رقته،فاذا أردت ذلك فليكن في آخر الليل فانّه أصلح للبدن و أرجى للولد،و أزكى للعقل في الولد الذي يقضي اللّه بينهما،و لا تجامع امرأة حتى تلاعبها و تكثر ملاعبتها و تعمز ثدييها فانك اذا(ان)فعلت ذلك غلبت شهوتها و اجتمع ماؤها،لأنّ ماؤها يخرج من ثدييها،و الشهوة تخرج من من وجهها و عينيها،و اشتهت منك مثل الذي اشتهيت(تشتهبه) منها،و لا تجامع النساء الاّ طاهرة فاذا فعلت ذلك فلا تقم قائما و لا تجلس جالسا و لكن تميل على يمينك ثمّ انهض مسرعا الى البول من ساعتك فانّك تأمن الحصاة باذن اللّه تعالى،ثمّ أغتسل من ساعتك(ثم)و اشرب من الموميائي بشراب العسل او بعسل منزوع الرغوة فانّه يردّ من الماء مثل الذي خرج منك.

و اعلم يا أمير المؤمنين انّ جماعهنّ و القمر في برج الحمل او في الدّار من البروج أفضل و خير من ذلك ان يكون في برج الثور لكونه شرف القمر،و من عمل بما و صفت في كتابي هذا و دبّر به جسده أمن باذن اللّه تعالى من كلّ داء و صحّ جسمه بحول اللّه تعالى و قوّته،فانّ اللّه يعطي

ص:137

العافية و يمنحها ايّاه،و الحمد للّه رب العالمين و العاقبة للمتقين،و صلّى اللّه على سيدنا محمد و اله الطيبين الطاهرين (1).

نور آخر في مقدمة من مقدمات هادم اللذات و هي الأجل

اعلم ارشدك اللّه تعالى انّ الكلام هنا يقع في مقامين:الأوّل في قبوله الزيادة و النقصان فقد تعارضت فيه الآيات ظاهرا و كذا الأخبار،قال اللّه تعالى و لكلّ امّة أجل فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون،و قال تعالى وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ ففيها تعارض بحسب الظاهر،و امّا الأخبار فروي انّ انّ من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال،و من يعيش بالأحسان أكثر ممّن يعيش بالأجل.

و في حديث آخر انّه يكون قد بقي من عمر أحدكم ثلاث سنين فيصل رحمه أو يفعل شيئا من انواع البر فيمحو اللّه الثلاث و يثبت له ثلاثين،و قد يكون بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه او يعقّ والديه فيمحو منه الثلاثين و يثبت له ثلاثا.

و في حديث آخر انّه يكون قد بقي من عمر أجدكم ثلاث سنين فيصل رحمه أو يفعل شيئا من أنواع البرّ فيمحو اللّه الثلاث له ثلاثين،و قد يكون بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه او يعقّ والديه فيمحو منه الثلاثين و يثبت له ثلاثا.

و في حديث آخر انّ اللّه سبحانه يمدّ للمؤمن في عمره ما علم انّ الحياة خير له فاذا علم انّ في حياته إرتكاب موبقات الذنوب قبضه اليه و قوله تعالى يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ قد ورد في الأخبار تفسيره بمحو الأعمار زيادة و نقصانا،و الأخبار الواردة بهذا المضمون مستفيضة بل متواترة،و في بعضها ما يعارض ذلك كقوله عليه السّلام في الدّعاء و يا من لا تبدل حكمته الوسائل،و في الدعاء الأوّل من الصحيفة السجادية:ثم ضرب له في الحياة الدنيا أجلا موقوتا و نصب له امدا محدودا يتخطا اليه بأيام عمره،و يرهقه بأعوام دهره حتى اذا بلغ أقصى أثره و استوعب حساب عمره قبضه الى ما ندبه اليه من موفور ثوابه او محذور عقابه.

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله في خطبة الوداع:ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي انّه ان تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و اجملوا الطلب،الى غير ذلك من الأخبار.

ص:138


1- (17) اشتهر نقل هذه الرسالة عن الامام الرضا سلام اللّه عليه و شرحها جمع من علمائنا كالسيد فضل اللّه الراوندي المتوفى بعد سنة.(548)ه و السيد عبد اللّه شبر المتوفى(1242)ه.

و من ثم وقع الأختلاف بين العلماء في قبول الأجل للزيادة و النقصان،فذهب جماعة منهم الى انّه لا يقبلهما و انما هو اجل واحد تعويلا على ظواهر تلك الأخبار و ما روي في معناها،و على دليل آخر و هو انّ المقدورات في الأزل و المكتوبات في اللوح المحفوظ لا تتغير بالزيادة و النقصان لأستحالة خلاف معلوم اللّه تعالى و قد سبق العلم بوجود كلّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلّم مكن أراد بقاءه على حالة العدم الأصلي او اعدامه بعد ايجاده فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر او نقصانه بسبب من الأسباب؟و أجابوا عن الأخبار الأول بوجوه:

احدها انّ تلك الأخبار الدالة على الزيادة و النقصان انّما وردت على سبيل الترغيب حتى يقبل الناس على فعل الأحسان و بر الوالدين و صلة الأرحام،و ثانيها انّ المراد بزيادة العمر الثّناء الجميل بعدى الموت كما قال الشاعر:

ذكر الفتى عمره الثاني و غايته(حاجته) ما فاته و فضول العيش اشغاب

و قال:ماتوا فعاشوا بحسن الذكر بعدهم و نحن في صورة الأحياء أموات

و قال:

كم مات قوم و ماتت محاسنهم و عاش قوم و هم في الناس اموات

و ثالثها ان المراد بزيادة العمر زيادة البركة في الأجل امّا في نفس الأجل فلا،فذهب آخرون الى ما دلت عليه الأخبار الأولى من قبول الأجل للزيادة و النقصان و أجابوا عن آية لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ و قوله تعالى وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللّٰهُ نَفْساً إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهٰا و عن الأخبار الواردة بمضمونها تارة بأن الأجل صادق على كل ما يسمّى أجلا موهبيّا او اجلا مسببيّل و يحمل على الموهبي و يكون وقته الذي لا يقبل التقدّم و التأخّر،و اخرى بأن الأجل عبارة عما يحصل عنده الموت لا محالة سواء كان بعد عمر الموهبي او المسببي و نحن نقول كذلك لأنّه عند حصول اجل الموت لا يقع التأخير،و ليس المراد به العمر اذا لأجل مجرّد الوقت.

و امّا دليلهم العقلي فأجابوا عنه اوّلا بأنه وارد في كل ترغيب مذكور في القرآن و السنّة حتى الوعد بالجنّة و النعيم على الأيمان،و كذلك التّوعد بالنيران و كيفية العذاب و ذلك ان اللّه تعالى علم ارتباط الأسباب بالمسببات في الأزل و كتبه في اللوح المحفوظ،فمن علمه مؤمنا فهو مؤمن،و من علمه كافرا فهو كافر،و هذا الّلازم يبطل الحكومة في بعثة الأنبياء و الأوامر الشرعية و المناهي و في ذلك هدم الأيمان.

و امّا ثانيا فالجواب عن كلّ هذه الأمور واحد و هو ان اللّه تعالى كما علم كمية العمر علم إرتباطه بسببه المخصوص و كما علم من زيد دخول الجنّة جعله مرتبطا بأسبابه المخصوصة من

ص:139

ايجاده و خلق العقل له و بعث الأنبياء و نصب الألطاف و حسن الأختيار،و العمل بموجب الشرع، فالواجب على كلّ مكلف الأتيان بما أمر به و لا يتّكل على العلم فانّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه فاذا قال الصادق:ان زيدا اذا وصله رحمه زاد اللّه في عمره ثلاثين سنة ففعل ذلك إخبارا بأن اللّه تعالى علم ان زيدا يفعل ما يصيّر به عمره زائدا ثلاثين سنة،كما انه اذا أخبر بأن زيدا اذا قال لا اله الا اللّه دخل الجنة ففعل تبيّنا ان اللّه تعالى انّه يقول و يدخل الجنّة بقوله.

و بالجملة جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع من شرط او سبب و ليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر الاّ كنصب الأيمان سببا في دخول الجنّة،و العمل بالصالحات في رفع الدرجة و الدّعوات في تحقيق المدعو به،و قد جاء في الحديث لا تملّوا من الدعاء فانّكم لا تدرون متى يستجاب لكم،و فيه سرّ لطيف و هو انّ المكلف عليه الأجتهاد ففي كل ذرة من الأجتهاد امكان سببية لخير علم اللّه تعالى كما قال سبحانه وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا و هذا الجواب لشيخنا الشهيد الأوّل قدس اللّه روحه،و أمّا تحقيق هذا المقام فانتظره في المقام الثاني سيأتيك ان شاء اللّه تعالى.

المقام الثاني في اتّحاد الأجل و تعدّده:ذهب الأشاعرة الى ان أجل الحيوان هو الزمان الذي علم اللّه انّه يموت فيه،فالمقتول عندهم مات بأجله الّذي قدّره اللّه تعالى له و علم انّه يموت فيه و لا يتصور تغيير هذا القدر بتقديم و لا تأخير،و المعتزلة قالوا ما تولد من فعل القاتل فهو من افعاله لا من فعل اللّه تعالى،و قالوا:انه لو لم يقتل لعاش الى الأمد الذي قدره اللّه تعالى له لمات و ان لم يقتله،فالقاتل-لم يجلب بفعله أمرا لا مباشرة و لا توليدا،فكان لا يستحق الذم عقلا و لا شرعا لكنه مذموم فيها قطعا،اذا كان القتل بغير الحق،و استشهدوا ايضا بانّه ربما قتل في المعركة الواحدة ألوف و نحن نعلم بالضرورة ان موت الجم الغفير في الزمان القليل بلا قتل مما يحكم العادة بامتناعه،و لذلك ذهب جماعة منهم الى انّ ما لا يخالف العادة كما في قتل واحد و ما يقرب منه واقع بالأجل منسوب الى القاتل.

و امّا اصحابنا الأمامية رضوان اللّه عليهم فمنهم من وافق المعتزلة في تعدد الأجل و قالوا الأجل منه أجل محتوم كمن مات حتف انفه،و منه اجل محزوم كالمقتول و الغريق و من هوى من عال فمات،و بعضهم كما سمعت سمّى الأول اجلا موهبيّا و الثاني مسببيّا.

و ذهب شيخنا الصدوق ره الى مذهب الأشاعرة و أجاب عن بعض شبه المعتزلة حيث قال في كتاب التّوحيد:أجل الأنسان هو وقت موته،و أجل حياته هو وقت حياته و ذلك معنى قول اللّه عزّ و جلّ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ فان مات الأنسان حتف أنفه على

ص:140

فراشه و ان (1)قتل فانّ أجل موته هو وقت موته،و قد يجوز ان يكون المقتول لو لم يقتل لمات من ساعته،و قد يجوز ان يكون لو لم يقتل لبقي و علم ذلك مغيّب عنّا و قد قال اللّه عزّ و جلّ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلىٰ مَضٰاجِعِهِمْ .

و قال عزّ و جلّ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرٰارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ و لو قتل جماعة في وقت لجاز أن يقال انّ جميعهم ماتوا بآجالهم،و انّهم لو لم يقتلوا لماتوا من ساعتهم،كما كان يجوز ان يقع الوباء في جميعهم فيميتهم في ساعة واحدة،و كان لا يجوز ان يقال انّهم ماتوا بغير أجلهم.

و بالجملة انّ أجل الأنسان هو الوقت الذي علم اللّه عزّ و جلّ انّه يموت فيه او يقتل،و قول الحسن عليه السّلام في أبيه صلوات اللّه عليه انّه عاش بقدر و مات بأجل،تصديق لما قلنا في هذا الباب انتهى كلامه ره.

و امّا الذي فهمناه من تتبع الأخبار فهو معنى ثالث جامع بين القولين،و ذلك ان اللّه سبحانه و تعالى قد خلق لوحا و سمّاه لوح المحو و الأثبات و كتب فيه الآجال و الأرزاق و جميع ما يكون واقعا في عالم الكونين معلّقة على الأسباب و الشروط،و هي التي يقع فيها المحو و الأثبات و التغيير و البداء،مثلا كتب انّ عمر زيد عشرين ان لم يصل رحمه و ان وصل رحمه فعمره ثلاثون سنة، و ان رزق زيد في هذه السنة مائة درهم ان لم يسعى السعي الفلاني و ان سعى فيه فرزقه ألف درهم،و انّ فلانا في هذه السنة من الحاجّ ان لم يكن يصدر منه ذلك الفعل فلا يكون حاجّا و كذلك جميع الكائنات فهذا اللوح الّذي وصف سبحانه نفسه بأنّه كل يوم في شأن.

و قد خلق سبحانه لوحا آخر و هو اللوح المحفوظ و كتب فيه الكائنات على ما علمه سبحانه و تعالى منها في الأزل فانّ علمه بالأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها و هذا العلم الذي علمه و كتبه في ذلك اللوح لا يتغير و لا يتبدل بوجه من الوجوه لأنّه علمه مربوط بالمسببات و الأسباب،و علم وقوع الأسباب و عدم وقوعها لأنّه قد علم انّ زيدا يصل رحمه فيكون عمره كذا او لا يصل رحمه فيكون عمره كذا و انّ زيدا اذا خرج الى المعركة الفلانيّة يقتل و اذا لم يخرج لم يقتل،و قد علم في الأزل احد الطرفين فكتبه في اللوح،و هذا العلم المكتوب في اللوح هو الذي أشارت اليه الأخبار المتشابهة كقوله صلّى اللّه عليه و آله قد كتب القلم في اللوح بما هو كائن الى يوم القيامة و جفّ القلم بما فيه فلن يكتب بعد ابدا،و قوله عليه السّلام قد فرغ من الأمر،و نحو ذلك و قد تقدّم اكثرها في الأخبار المذكورة في تضاعيف الأنوار السابقة.

ص:141


1- (18) شرط لا وصل

و هذا اللوح هو المسمّى في لسان الشرع بأمّ الكتاب في قوله تعالى يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ ، يعني انّه لا يدخله محو و لا اثبات.

نعم اذا بلغ بك البحث الى هنا فليكن هذا حدّك و لا تلج في اللجّة العميقة التي بعد هذا الكلام فانك اذا وضعت قدمك خارج هذه المقالة دحضت بك المزالق في بحر لجيّ بعيد قعره كثير الحيات و الأفاعي اسود الجوف و الماء غرق فيه عالم كثير و كلّما أمكنك التنحي عن ساحله فابعد عنه،و اياك و الفكر فيه فان الفكر الذي نهى عنه سيد العارفين مولانا امير المؤمنين عليه السّلام و هو يتصل ببحر القضاء و القدر.

و اما الجواب عن قول المعتزلة ان القتل لو كان هو الأجل لم يكن القاتل جانيا و لما استحق الذم فهو ان نقول القاتل انّما استحق هذا باعتبار انّه اوصل هذا الألم اليه و كان الواجب عليه تركه حتى يكون الموصل اليه ذلك الألم هو اللّه سبحانه و تعالى لأنّ ايصال هذا الألم مقصور على اللّه عزّ و جلّ لأيصال انواع المثوبات اليه و ذلك القاتل لو لم يقتله لمات ذلك الوقت،و كان الواجب عليه ان يدعه و ربذه في قبض روحه،و هذا ظاهر لا غبار عليه و من تصفّح الأمور الواقعة في هذا العالم جزم بأنّ الآجال امور مقرّرة موقوفة على البلوغ الى حد كمالها.

و من تلك الأمور انّ جماعة من اللصوص دخلوا دار رجل في الليل ليسرقوه فلما دخلوا الدار رأوا ان ذلك الرجل له ولد رضيع مشدود في المهد،فقالوا:نخاف ان يبكي و يستيقظ أمّه و ابوه من بكائه،فأخذوا ذلك الولد في المهد و اخرجوه من الدار و وضعوه خارج الحوش، و شرعوا في نقل اثاث البيت و وضعه في الحوش،فلمّا فرغوا من نقل الأثاث رجعوا الى داخل البيت لعله ان يكون قد بقي شيء،فلما دخلوا استيقظت المرأة لولدها فلم تره،فقال لزوجها اين المهد؟فخرجا الى الحوش يطلبون الولد،فلما خرجوا من البيت و اذا البيت قد وقع سقفه و جدرانه فرأوا الولد في المهد مع جميع أثاث البيت،فلما أصبح الصباح حفروا التراب و اذا اللصوص اموات،فانظر الى هذا التقدير الأزلي كيف وافق الحكمة الألهيّة.

و من تلك الأمور انّ رجلا عالما من علماء تستر و كان صاحبا لنا كان بيته على جرف الشط و كان الجرف عاليا،فكان ليلة من اللّيال قدموا اليه طعاما فجلس،هو و اهله و اولاده ليأكلون، فاتفق انّهم نسوا احضار الملح،فقال لزوجته:أحضري الملح،فقامت و مضت فابطئت،فتبعها الولد و أبطأ و قامت البنت ايضا و تبعتهم الجارية و هم يريدون الأتيان بالملح من الحجرة الأخرى، فتعجب ذلك العالم و خرج في اثرهم فلما وضع رجله خارج العتبة انهالت الحجرة في الماء مع ما فيها و كان بين الأرض و الماء ما يقرب من طول المنارة،فسلموا كلهم بحمد اللّه سبحانه،و في هذا التاريخ بعضهم موجود في شيراز.

ص:142

و من الأمور ايضا انّي لمّا كنت أسفر في البحار لطلب العلوم حكى لنا صاحب سفينة أنّه قد كان في يوم من الأيام كثير الهوى و الموج جلس رجل من اهل السفينة على حافتها لقضاء الحاجة، فاتّفق انّه سقط في البحر فغطاه الماء،فأتى اليه واحد من اهل السفينة و مد يده في الموضع الذي سقط فيه فاستخرجه من تحت الماء فدثروه بلحاف و بقي ساعات،فلما رفعوا الغطاء عنه و شرع في الكلام فاذا هو غير صاحبهم الذي وقع،فسألوه عن قصّته،فقال:انّه قد كسر بنا السفينة منذ سبعة ايام و قد كنت لي لوحة أسبح عليها و قد ضعفت عن امساكها هذا اليوم،فذهب عني فبقيت على وجه الماء ساعة و غشي عليّ و ما شعرت لنفسي الاّ و أنا عندكم في هذا المركب،فذهب صاحبهم فانظر الى هذا التقدير كيف يمكن الكلام فيه.

و ذكر اليافعي في تاريخه في حوادث سنة و خمسمائة انّ بعض الملوك قال له منجّموه انّه يموت في الساعة الفلانية من عقرب تلدغه،فلمّا كان قبل الساعة المذكورة تجرد عن جميع لباسه سوى ما يستر عورته و ركب فرسا بعد ان غسله و نظّفه و دخل به البحر حذرا مما قيل،فبينما هو كذلك اذ عطست فرسه فخرجت من انفها عقرب فلدغته فمات منها،فما أغناه الحذر من القدر.

و روى ذا النون المصري خرج ذات يوم يريد غسل ثيابه فاذا هو بعقرب قد أقبل اليه كأعظم ما يكون،قال:ففزع منها فزعا شديدا و أستعاذ باللّه منها فكفي شرّها،فأقبلت حتى وافت شط النيل فاذا هي بضفدع قد خرج من الماء،فاحتملها على ظهره و خرج بها الى الجانب الآخر، قال ذو النون:فعبرت خلفه فأتت الى شجرة كثيرة الظل فاذا غلام أمرد نائم تحتها و هو مخمور، فقلت:انّها أتت لقتل هذا الفتى فاذا انا بأفعى أتت لقتل الفتى،فظفرت العقرب بالأفعى و لزمت دماغ الأفعى حتى قتلها و رجعت الى الماء و عبرت على ظهر الضفدع الى الجانب الآخر،فأنشد ذو النون:

يا راقد و الجليل يحفظه من كل سوء يكون في الظلم

كيف تنام العيون عن ملك تأتيك منه فوائد النعم

قال:فانتبه الفتى من كلام ذى النون فأخبره الخبر فنزع ثياب اللّهو و لبس اثواب السياحة و ساح و مات على تلك الحالة،و امثال هذه الحكايات كثير،نعم يبقى الكلام في فائدة لوح المحو و الأثبات و تغيير الكائنات و صفاتها فيه مع وجود لوح المحفوظ،و عدم اطلاعنا على العلة لا يقتضي نفيها،و التّفحّص عنها غير محتاج اليه بل انما نحتاج في هذا المقام الى التسليم و الأذعان لا غير،اذا عرفت هذا فلنشرع الآن في بيان الموت.

ص:143

فنقول انّه كما قال مولانا عليه السّلام قد خطّ الموت علي بن آدم كما خطّ القلادة على جيد الفتاة (1)و في هذا التشبيه لطيفة مليحة كوهي انّ الموت يزين ابن آدم و هو حلية له كما انّ القلادة حلية لجيد الفتاة،روي انّ نبيّا من الأنبياء طلب منه قومه ان يدعو اللّه تعالى ليرفع الموت عنهم، فدعاه فرفع الموت عنهم حتى كان الرجل ينظر الى ابيه و جدّه و جد ابيه و جد جده و هكذا و كذلك من طرف الأم،فكان يقوم بخدمتهم و يتعاهد أحوالهم كالأطفال فيشتغل بخدمتهم عن الكسب لهم و ضاقت بهم الدور و المنازل،فطلبوا اليه بأن يدعو اللّه سبحانه و يجري عليهم الموت.

و روي ايضا انّ ابراهيم عليه السّلام سأل اللّه تعالى ان لا يميته الاّ اذا سأل،فلمّا استكمل ايّامه التي قدرت له فخرج،فرأى ملكا على صورة شيخ فان كبير قد أعجزه الضعف و ظهر عليه الخرف و لعابه يجري على لحيته و طعامه و شرابه يخرجان من سبيله على غير اختياره،فقال له:يا شيخ كم عمرك؟فأخبره بعمر يزيد على عمر ابراهيم بسنة،فاسترجع و قال:انا أصير بعد سنة الى هذا الحال فسأل الموت.

هذا مع ان النسان اذا كر سنه ملّ الحياة و ملته الأهل و الأحباب و طلبوا موته و ان تعاهدوا حاله بخدمة من الخدمات فانّما هو من جهة التكليف الألهي لا من باب المحبّة و الوداد،نعم طلب الموت و ارادته مما ورد النهي عنه،و ذلك انّ عمر المؤمن جوهرة نفيسة لا قيمة لها و يمكنه في كلّ نفس منه ان يصل الى درجة من درجات المقربين.

و من هذا كان مولانا السجاد عليه السّلام اذا رأى جنازة قال:الحمد للّه الذي لم يجعلني من السواد المخترم،أي لم يجعلني شخصا هالكا فهو يحمد اللّه سبحانه على الحياة،نعم يجوز الدعاء بما كان يدعو به عليه السّلام من قوله اللّهم أبقني ما علمت انّ الحياة خير لي فاذا صار عمري للشيطان فاقبضني اليك،و لا ينافي هذا ما ورد من قوله عليه السّلام من احبّ اللّه لقائه و من كره لقاء اللّه كره اللّه لقائه،لأنّ هذا كما جاء في الروايات انّما هو حال الموت و معاينة احوال تلك النشأة،و ذلك انّ اللّه سبحانه يوحي الى ملك الموت ان امض الى فلان عبدي المؤمن و اقبض روحه و لا تقبضها الاّ برضا منه فيأتي اليه و يقف عنده وقفة العبد بين يدي المولى و يقول له انّ اللّه تعالى قال لي لا اقبض روحك الا برضاك،فيقول المؤمن لا ارضى،فيصعد ملك الموت و يقولك الهي علمت ما قال عبدك المؤمن،فيقول اللّه سبحانه إمض الى بيته في الجنّة و خذ له منه قبضة من الريحان و اكشف له عن منزله في الجنة حتى يعاينه،فيأتي بقبضة الريحان اليه و يفتح اليه بابا الى داره في الجنة،فيقول له:

يا ملك الموت ما هذا الريحان الطيب؟و ذلك ان رائحته تشمّ من مسيرة خمسمائة عام،و ما هذا

ص:144


1- (19) هذه الكلمات النيرة من فقرات خطبة سيد الشهداء-ع-و قد القاها في مكة المكرمة قبل خروجه الى العراق.

المكان؟فيقول هذا مكانك في الجنّة،و هذا الريحان منه،فعند ذلك يضطرب و يقول عجّلوني عجّلوني،و يرشح جبينه عرقا،فعند ذلك الوقت يحب لقاء اللّه و يحب اللّه لقاءه،و ان كان كافرا أتى اليه ملك الموت و كشف له عن مكانه في النار حتى يعاينه،فعند ذلك يقول ردّوني ردّوني فيكره لقاء اللّه و يكره اللّه لقاءه.

و الى هذه الألطاف الألهيّة أشير حيث قال تعالى في الحديث القدسي ما ترددت في شيء انا فاعله مثل تردّدي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت و اكره مسائته،فكراهته للموت انّما هي قبل المعاينة،و تردّده تعالى كناية عن ايصال تلك الألطاف اليه حتى توجبه الرضا و القبول،مع انّ الموت أمر قد رغبت عنه و عافته الأنبياء و الأولياء و غيرهم،امّا رغبة الأخيار عنه فلأنّهم أرادوا تحصيل أعالي الدرجات و الفوز بما لديه من القربات،و أسبابه لا تكون الاّ قبل الموت،فأحبّوا الحياة رغبة فيما بعد الموت.

و امّا رغبة الأشرار عنه فلما قال مولانا الحسن عليه السّلام حين سئل يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما بالنا نكره الموت و انتم لا تكرهونه؟فقال عليه السّلام:لأنّكم عمرتم منازلكم هذه و خرّبتم تلك المنازل فلا تحبّون الأنتقال من عمران الى خراب،و امّا نحن فنقلنا كلّ ما عندنا من الأثاث الى تلك الدار فخربنا هذه و عمرنا تلك،فنحن نحب الأنتقال من خراب الى عمران،مع انّ هذه الحياة الدنيا ممّا جبلت الطبيعة على حبّها و طلبها،و لذا لا ترى أحدا يطلب الموت الاّ اذا تضايقت عليه اسباب الحياة،امّا بفقر او بكبر سن او بخوف من عدوّ او نحو ذلك،و امّا وقت اتساع اسباب الحياة فهو ممّا لا يخطر بباله بوجه من الوجوه،و من هنا كان صلّى اللّه عليه و آله يقول:اللّهم اجعل رزق محمد و آل محمد كفافا لا كثيرا فأطغى و لا قليلا فأشقى،و قد دعا الى رجل اساء اليه بكثرة الرزق،و دعا لرجل احسن اليه بالكفاف،فقيل له في ذلك.!فقال:أما سمعتم قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنىٰ اذا عرفت هذا:

فاعلم انّ اول من عرف الموت و كرهه ابونا آدم عليه السّلام،روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى الأمام ابي جعفر الباقر عليه السّلام قال:انّ اللّه عزّ و جلّ عرض على آدم عليه السّلام اسماء الأنبياء و أعمارهم قال:فمر بآدم اسم داود النبي عليه السّلام فاذا عمره في العالم أربعون سنة،فقال آدم:يا رب ما أقل عمر داود و ما أكثر عمري؟يا رب انا زدت من عمري ثلاثين سنة أثبت ذلك له؟قال:نعم يا آدم،قال:

فانّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة فأنفذ ذلك له و أثبتها له عندك و أطرحها من عمري،قال ابو جعفر عليه السّلام فأثبت اللّه عز و جل لداود عليه السّلام من عمره ثلاثين سنة،و كانت له عند اللّه مثبة فذلك قول اللّه عز و جل يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ قال:فمحا اللّه ما كان مثبتا لآدم و أثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا،قال:فمضى عمر آدم فهبط عليه ملك الموت ليقبض روحه

ص:145

فقال له آدم:يا ملك الموت انّه قد بقي من عمري ثلاثون سنة،فقال له ملك الموت:يا آدم أ لم تجعلها لإبنك داود النبي و طرحتها من عمرك حين عرض عليك اسماء الأنبياء من ذرّيّتك و عرضت عليه اعمارهم و انت يومئذ بوادي الدّخنا؟قال:فقال له آدم ما أذكر هذا،قال:فقال له ملك الموت يا آدم لا تجحد أ لم تسأل اللّه عز و جل ان يثبتها لداود و يمحوها من عمرك؟فأثبتها لداود في الزبور و محاها من عمرك في الذكر،قال آدم:لم أذكر حتّى أعلم ذلك،قال ابو جعفر عليه السّلام:و كان آدم صادقا لم يذكر و لم يجحد،فمن ذلك اليوم أمر اللّه تبارك و تعالى العباد ان يكتبوا بينهم اذا تداينوا و تعاملوا الى أجل مسمّى لنسيان آدم و جحوده ما جعل على نفسه،أقول لو كان آدم عليه السّلام ممن يحب الموت لما قدم على هذه السؤالات و تفحّص عن هذه الأمور.

و امّا ادريس النبي عليه السّلام فروى الشيخ الراوندي في كتاب القصص انّ ادريس النبي عليه السّلام كان يسبّح النهار و يصومه و يبيت حيث ما جنّه الليل،و يأتيه رزقه حيث ما أفطر،و كان يصعد له من العمل الصالح مثل ما صعد لأهل الأرض كلهم،فسئل ملك الموت ربّه في زيارة ادريس و ان يسلّم عليه،فاذن له فنزل و أتاه فقال:انّي أريد ان أصحبك فأكون معك،فصحبه و كان يسبّحان النهار و يصومانه فاذا جنّهما الليل أتى أدريس فطره فيأكل و يدعو ملك الموت اليه فيقول لا حاجة لي فيه، ثمّ يقومان يصلّيان و ادريس يصلي و يفطر و ينام و ملك الموت يصلي و لا ينام و لا يفطر فمكثا بذلك ايّاما ثم انهما مرّا بقطيع غنم و كرم قد اينع،فقال ملك الموت هل لك ان تأخذ من ذلك حملا او من هذا عناقيد فتفطر عليه،فقال:أعودك الى مالي فتابى فكيف تدعوني الى مال الغير،ثمّ قال ادريس صلوات اللّه عليه قد صحبتني و احسنت فيما بيني و بينك من انت؟قال:انا ملك الموت قال ادريس لي اليك حاجة،قال:و ما هي؟قال:تصعد بي الى السماء فاستأذن ملك الموت ربه في ذلك فأذن له فحمله على جناحه فصعد به الى السماء:

ثم قال له ادريس عليه السّلام:ان لي حاجة اخرى،قال:و ما هي؟قال:بلغني من الموت شدة فأحب ان تذيقني منه طرفا فأنظر هو كما بلغني،فاستأذن ربه فأذن له فأخذ بنفسه ساعة ثم خلى عنه،فقال له كيف رأيت؟فقال:بلغني عنه شدّة فانه لأشد ممّا بلغني و لي اليك حاجة اخرى تريني النار،فاستأذن ملك الموت صاحب النار ففتح له،فلما رآها ادريس عليه السّلام سقط مغشيا عليه،ثم قال:لي اليك حاجة اخرى تريني الجنة،فاستأذن ملك الموت خازن الجنة فدخلها فلما نظر اليها قال:يا ملك الموت ما كنت لأخرج منها انّ اللّه تعالى قال كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ الْمَوْتِ و قد ذقته و يقول وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا و قد وردتها،و يقول في الجنة و ما هم بخارجين منها،فانظر الى ادريس النبي عليه السّلام كيف احتال على رفع الموت عنه،و ما ذلك الاّ لكراهته له و سماعه بشدّته و مرارته.

ص:146

و امّا نوح عليه السّلام فروي عن الصادق عليه السّلام انه قال عاش نوح عليه السّلام ألفي سنة و خمسمائة سنة منها ثمانمائة سنة و خمسون سنة قبل ان يبعث و ألف سنة الاّ خمسين عاما و مائتا عام في السفينة و خمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة،و نصب الماء فمصر الأمصار و اسكن ولده البلدان،ثم جاء ملك الموت و هو في الشمس فقال:السّلام عليك،فرد عليه نوح صلوات اللّه عليهما و قال:

ما جاء بك؟قال:جئت لأقبض روحك،قال:تدعني ادخل من الشمس الى الظل؟فقال له:نعم، قال:فتحّول نوح عليه السّلام ثمّ قال:يا ملك الموت كأن ما مر بي من الدنيا مثل تحوّلي من الشمس الى الظل فامض ما امرت به فقبض روحه صلوات اللّه عليه.

اقول كان ذلك الظل بيته عليه السّلام الذي بناه اخر عمره و الاّ فطول عمره كان هو و عياله يستظل بالأشجار،فاذن اللّه تعالى ان يصنع بيتا من سعف النخل اذا نام فيه يكون نصفه في الظل و نصفه في الشمس،و طلبه التحول اليه من ملك الموت اما لأجل الأحترام و الأعتزاز فانّ حرمة المؤمن في منزله و مأواه،و اما لأجل طلب الحياة تلك اللحظة التي يتحول بها،و اما لكليهما،فانظر الى نوح عليه السّلام مع ما اوتي من العمر الطويل كيف لم يرغب بالموت ابتداء فكيف يكون حالنا نحن مع ما نحن عليه من قصر الأعمار و عمارة الديار.

و اما الخليل عليه السّلام فروينا مسندا الى مولانا الصادق عليه السّلام قال:قال امير المؤمنين عليه السّلام لما اراد اللّه تعالى قبض ابراهيم عليه السّلام هبط اليه ملك الموت فقال:السّلام عليك يا ابراهيم،قال:و عليك السّلام يا ملك الموت أ داع انت ام ناع؟قال:بل داع فأجبه،فقال ابراهيم:فهل رأيت خليلا يميت خليله؟قال:فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي اللّه فقال:إلهي قد سمعت ما قال خليلك ابراهيم،فقال اللّه جل جلاله:يا ملك الموت اذهب اليه و قل له:ان الحبيب يحب لقاء حبيبه هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه؟و توفي ابراهيم عليه السّلام بالشام و لم يعلم اسماعيا بموته فنزل جبرئيل عليه السّلام فعزاه بأبيه.

و امّا الكليم عليه السّلام فقد كان اكثرهم كراهة للموت كما روي عن الصادق عليه السّلام ان ملك الموت اتى موسى بن عمران فسلّم عليه فقال:من انت؟قال:انا ملك الموت،قال:ما حاجتك؟فقال له:

جئت أقبض روحك من لسانك،قال:كيف و قد كلّمت به ربي عز و جل؟فقال:من بين يديك فقال له موسى:كيف و قد حملت بهما التوراة،فقال:من رجليك فقال:كيف و قد وطأت بهما طور سيناء؟قال:و عدّ اشياء غير هذا قال فقال له ملك الموت:فأني امرت ان اتركك حتّى تكون انت الذي تريد ذلك،فمكث موسى عليه السّلام ما شاء اللّه،ثم مرّ برجل و هو يحفر قبرا فقال له موسى عليه السّلام الا اعينك على حفر هذا القبر؟فقال له الرجل بلى قال:فأعانه حتّى حفر القبر و لحّد اللحد فأراد الرجل ان يضطجع في اللحد لينظر كيف هو،فقال له موسى عليه السّلام:أنا أضطجع فيه فأضطجع

ص:147

فأرى مكانه من الجنّة،فقال:يا رب اقبضني اليك،فقبض ملك الموت روحه و دفنه في القبر و سوي عليه التراب،قال:و كان الذي يحفر القبر ملك في صورة آدمي فلذلك لا يعرف قبر موسى عليه السّلام.

و في حديث آخر انّ موسى عليه السّلام لما جاءه ملك الموت ليقبض روحه لطمه فأعوره فقال:رب انّك ارسلتني الى عبد لا يحب الموت،فأوحى اللّه اليه أن ضع يدك على متن ثور و لك بكل شعرة وارتها يدك سنة،فقال:ثمّ ما ذا قال:الموت فقال:انته الى امر ربك.

و اما المسيح عليه السّلام فقد فرّ من الموت و التجأ الى اللّه سبحانه حتّى رفعه اليه فهو الآن في عالم الملكوت و يهبط الى الأرض زمان خروج المهدي عليه السّلام كما تقدم مفصلا في بابه،لكن اذا اردت من استقبل الموت و لم يخف منه فهما الأخوان المباركان النبي صلّى اللّه عليه و آله و اخوه علي بن ابي طالب عليه السّلام أما النبي صلّى اللّه عليه و آله فقد ارسل اللّه سبحانه اليه ملكا في زمن مرضه و معه بغلة عليها مفاتيح خزائن الأرض، فقال له:انّ اللّه ارسلني اليك بهذه المفاتيح لتكون ملكا في الدنيا و لا ينقص عليك شيئا من حظّ الآخرة فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله اريد لقاء ربي،و ما قال هذا الاّ لما عرف من ارادة الحبيب لقائه.

و امّا سيد الموحدين عليه السّلام فقد كان يباشر الحروب بثياب بدنه حتّى انّ ابنه الحسن عليه السّلام قال له في لبس الدرع فقال:يا بني و اللّه لا يبالي ابوك اعلى الموت وقع ام وقع الموت عليه و اللّه لأبن ابي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي امّه،و لمّا ضربه ابن ملجم لعنه اللّه قال:فزت و رب الكعبة، و في تلك الليلة كان يكرر النظر الى السماء و يقول:ما يمنع قاتلي عن قتلي،و كان قد ترك خضاب لحيته حتّى كانت بيضاء فقيل له في ذلك؟فقال:ان حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبرني انّ لحيتي ستخضب من دم رأسي فأنا منتظر لذلك الخضاب فانظر الى رجل جعل زينته و خضابه دم مفرق رأسه و كان يقول و اللّه ليضرب الرجل ألف ضربة بالسيف على رأسه خير من ان يقال فيه انّه مات على فراشه،يعني ينبغي للرجل ان يقتل في سبيل اللّه لا ان يموت موتا.

و قد اقتدى بهذين الأخوين اولادهم الطاهرون(ع)،و ناهيك به مبادرة مولانا ابي عبد اللّه الحسين عليه السّلام الى العراق عارفا بقدومه على الموت و القتل سامعا لصوت قائل يقول:تسير هؤلاء القوم و المنايا تسير معهم،و لمّا قرب الى العراق و سمع بقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل و هاني بن عروة أشار اليه اصحابه بالرجوع فقال:لا خير في الحياة بعد هؤلاء الفتية،فأقبل بأهل بيته و فتيته مبادرا الى الموت مثل مبادرة الظمئان الى الماء الزلال،فجالدهم بسيفه حتى افنى منهم الجمّ الغفير الى ان تكاثروا عليه فخرج الى لقاء ربه شاكيا من هذه الأمة و فعالها،راغبا عن قيل الدنيا و قالها، و تبعه على هذا الأثر أولاده المعصومون فما منهم الاّ و قتيل او مسموم و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

ص:148

و الحاصل انّ مثل الأنبياء اذا خافوا من الموت فكيف لا نخاف نحن منه لكن الذي يطيب القلب و يجعله مطمئنا ما روي مستفيضا بل متواتره في الأخبار من حضور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امير المؤمنين عليه السّلام عند المحتضر حال احتضاره.

روى شيخنا الكليني و غيره من اصحابنا عن مولانا الصادق عليه السّلام لو انّ مؤمنا اقسم على ربّه ان لا يميته ما أماته ابدا،و لكن اذا حضر أجله بعث اللّه عز و جل ريحين،ريحا يقال لها المنسية، و ريحا يقال لها المسخية فأمّا المنسية فانها تنسيه أهله و ماله،و أما المسخية فانّها تسخي نفسه عن الدنيا حتى يختار ما عند اللّه.

و قال عليه السّلام اذا اتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك،فيقول له ملك الموت يا و لي اللّه لا تجزع فو الذي بعث محمّدا لأنا أبر بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك،فافتح عينيك فينظر فيرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهما السّلام،فهؤلاء رفقاؤك فينادي روحه مناد من رب العزة فيقول:يا أيّتها النفس المطمئنة الى محمّد و اهل بيته ارجعي الى ربك راضية بالولاية مرضية بالثواب،فادخلي في عبادي يعني محمدا و اهل بيته،و ادخلي جنتي فما من شيء أحب اليه من انسلال روحه و اللحوق بالمنادي.

و قال عليه السّلام لعقبة بن نافع لن تموت نفس مؤمنة حتّى تراهما،قلت فاذا نظر اليهما المؤمن أ يرجع الى الدنيا؟فقال:لا يمضي امامه،قلت له:أ يقولان شيئا؟قال:نعم يدخلان على المؤمن فيجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند رأسه،و علي عليه السّلام عند رجليه فيكتب عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقول يا و لي اللّه أبشر أنا رسول اللّه انّي خير لك ممّا تركتمن الدنيا،ثمّ ينهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقوم علي عليه السّلام حتى يكبّ عليه فيقول يا ولي اللّه ابشر انا علي بن ابي طالب الذي كنت تحب أما لأنفعنّك، ثمّ قال انّ هذا في كتاب اللّه عزّ و جلّ،فقلت:اين جعلني اللّه فداك؟قال:في يونس قول اللّه عزّ و جل هاهنا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرىٰ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ فِي الْآخِرَةِ لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .

و في خبر آخر قال ابو عبد اللّه عليه السّلام اذا حيا بينه و بين الكلام أتاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و على عليه السّلام، فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن يمينه،و الآخر عن يساره،فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اما ما كنت ترجو فهو ذا أمامك،و اما ما كنت تخاف منه فقد امنت منه،ثمّ يفتح له بابا الى الجنة فيقول هذا منزلك في الجنة فان شئت رددناك الى الدنيا و لك فيها ذهب و فضة،فيقول لا حاجة لي في الدنيا،فعند ذلك يبيض لونه و يرشح جبينه و تقاص شفتاه،و تنشر منخراه،و تدمع عينه اليسرى،فأيّ هذه العلامات رأيت فاكتف بها:

ص:149

فاذا خرجت من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليها و هي في الجسد فتختار الآخرة فينزل عليه بكفن من الجنة بمسك اذفر،فيكفن بذلك الكفن و يحنّط بذلك ثمّ يكسى حلّة صفراء من حلل الجنّة،فاذا وضع في قبره فتح له باب من ابواب الجنة ثم يفتح له عن امامه مسيرة شهر، و عن يمينه و عن شماله،ثم يقال له:نم نومة العروس على فراشها،ثمّ يزور آل محمد في جنان رضوي فيأكل معهم من طعامهم و يشرب معهم من شرابهم،و يتحدّث معهم في مجالسهم حتّى يقوم قائمنا اهل البيت فاقبلوا معه يلبّون زمرا زمرا.

و اذا احتضر الكافر حضره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي و جبرئيل و ملك الموت عليه السّلام فيدنو منه علي عليه السّلام فيقول:يا رسول اللّه انّ هذا كان يبغضنا اهل البيت فابغضه فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

يا جبرئيل انّ هذا كان يبغض اللّه و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيت رسوله فابغضه،و يقول جبرئيل يا ملك(لملك)الموت انّ هذا كان يبغض اللّه و رسوله و اهل بيت رسوله فابغضه و اعنف عليه، فيدنو منه ملك الموت فيقول:يا عبد اللّه أخذت أمان براءتك من النار،تمسكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا؟فيقول:لا فيقول أبشر يا عدو اللّه بسخط اللّه عز و جل و عذابه و النار،اما الذي كنت تحذره فقد نزل بك،ثم يسل نفسه سلا عنيفا،ثمّ يكل بروحه ثلاثمائة شيطان كلهم يبزق في وجهه و يتلأذى بروحه،فاذا وضع في قبره فتح له باب من ابواب النار فيدخل عليه من قيحها و لهبها.

و قال عليه السّلام في الميت تدمع عيناه عند الموت،قال:ذلك معاينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيرى ما يسرّه، اما ترى الرجل يرى ما يسره فتدمع عينه لذلك و يضحك،قال ابن ابي يعفور كان خطاب الجهنمي حليطا لنا و كان شديد النصب لآل محمد،قال:فدخلت عليه اعوده للتقية فاذا هو مغمى عليه في الموت،فسمعه يقول مالي و مالك يا علي؟فأخبرت بذلك ابا عبد اللّه عليه السّلام فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام رآه و رب الكعبة ثلاثا و مخاطبته عليه السّلام لحارث الهمداني متواتر نقله الخاصة و العامة و هو:

يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن او منافق قبلا

يعرفني طرفه و اعرفه بنعمته و اسمه و ما فعلا

و انت عند الصراط تعرفني فلا تخف عثرة و لا زللا

اسقيك من بارد على ظمإ تخاله في الحلاوة العسلى

اقول للنار حين تعرض للعرض دعيه لا تأخذي الرجلا

دعيه لا تقربيه ان له حبلا بجبل الوصي متصلا

ص:150

و لم يذهب احد من الأصحاب الى تأويل هذا و لا الى انكاره،نعم ذهب سيّدنا الأجل علم الهدى تغمده اللّه برحمته الى تأويله،فقال معنى قوله من يمت يرني انّه يعلم في ذلك الحال ثمرة ولايته عليه السّلام و إنحرافه عنه لأنّ المختصر:

قد روي انه اذا عاين الموت و قاربه أرى في تلك الحال ما يدلّ على انه من اهل الجنة و النار، و قد تقول العرب رأيت فلانا اذا رأى ما يتعلق به من فعل او امر يعود اليه.

و انّما اخترنا هذا التأويل لأن امير المؤمنين عليه السّلام جسم فكيف يشاهده كلّ محتضر،و الجسم لا يجوز ان يكون في الحالة الواحدة في جهات مختلفة،و لهذا قال المحصّلون انّ ملك الأموات يقبض الأرواح جنس،و لا يجوز ان يكون واحدا لأنّه جسم و الجسم لا يجوز ان يكون في حالة واحدة في اماكن متعددة،فقوله تعالى يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ اراد به الجنس،كما قال وَ الْمَلَكُ عَلىٰ أَرْجٰائِهٰا هذا كلامه ره،و العجب منه كيف إرتكب تأويل هذه الأخبار الكثيرة مع ان بعضها من جهة صراحته في المطلوب غير قابل للتأويل لهذا الدليل العقلي و قد اسلفنا الجواب عن كلامه ره،و هو انّ شيخنا المعاصر أدام اللّه ايّامه بنى هذا على تعدد البدن المثالي،فيكون لعلي عليه السّلام ابدان متعددة كل بدن منها في مكان من الأمكنة المختلفة،و امّا الذي رجحناه نحن أخذا من مفاهيم الأخبار فهو القول بالتمثّل،بأن اللّه سبحانه يمثّل للميت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آل و سلم و امير المؤمنين عليه السّلام و الأئمة(ع)كما مثله لأهل السماوات واقفا يصلي و الملائكة تصلّي خلفه،فقال هذا علي بن ابي طالب عليه السّلام تركته في الأرض و ها هو قد سبقني الى السماء؟فقال اللّه عزّ و جلّ هذا شخص مثل علي بن ابي طالب خلقته في جميع السماوات حتى تنظر اليه الملائكة فتطمأنّ اليه نفوسهم من شدة حبّهم لعلي بن ابي طالب عليه السّلام.

و يؤيده ما رواه الكليني في رواية سدير الصير عن مولانا عليه السّلام في قوله ملك الموت للمحتضر افتح عينيك فانظر،قال و يمثّل له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة المعصومين من ذريتهم عليهم السّلام،فيكون عليه السّلام يأتي الى بعض المحتضرين بنفسه الشريفة و صورته الأصلية،و يأتي الى بعض آخر صورته الممثّلة المشابهة لتلك الصورة الأصلية،و هذا غير الجواب الأول الذي بني على البدن المثالي.

و هذا التمثل من باب ما رواه الشيخ الكليني طاب ثراه قال:قال امير المؤمنين عليه السّلام انّ ابن آدم اذا كان في آخر يوم من ايّام الدنيا و أول يوم من ايام الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله، فيلتفت الى ماله فيقول:و اللّه انّي كنت عليك حريصا شحيحا فما لي عندك؟فيقول خذ مني كفنك،قال:فيلتفت الى ولده فيقول و اللّه اني كنت لكم محبّا و اني كنت عليكم محاميا فما لي عندكم؟فيقولون:نؤدّبك الى حفرتك فنواريك فيها،قال:فيلتفت الى عمله فيقول و اللّه إني

ص:151

كنت فيك لزاهدا و انّك كنت لثقيلا فما لي عندك؟فيقولك انا قرينك في قبرك و يوم نشرك حتى أعرض انا و انت على ربك الحديث و بالجملة فاذا انقضت أيّامه و فرغ من ان يكون له رزق في الدنيا اقبل عليه ملك الموت لقبض روحه.

و اما صفة ملك الموت،فروي ان الخليل عليه السّلام قال لملك الموت يوما يا ملك الموت أحب ان اراك على الصورة التي تقبض فيها روح المؤمن،فقال:يا ابراهيم أعرض عني بوجهك حتى أتصور لك على تلك الصورة،فلما رآه ابراهيم رأى صورة شاب حسن الوجه ابيض اللون، تعلوه الأنوار في أحسن ما يتخيل من الهيئة،فقال:يا ابراهيم في هذه الصورة أقبض روح المؤمن، فقال:يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن الاّ لقاؤك لكفاه راحة،ثمّ قال له:أريد ان اراك على الصفة التي تقبض فيها روح الكافر،فقال:يا ابراهيم لا تقدر،فقال:احب ذلك،فقال:أعرض بوجهك فأعرض بوجهه ثمّ قال أنظر اليه فاذا هو اسود كالليل المظلم و قامته كالنخلة الطويلة و النار و الدخان يخرجان من منخريه الى عنان السماء فلمّا نظر اليه غشي على ابراهيم عليه السّلام فرجع ملك الموت الى حالته،فلما افاق الخليل عليه السّلام قال:يا ملك الموت لو لم يكن للكافر هول من الموت الاّ رؤيتك لكفته عن سائر الأهوال فاذا اتى الى المؤمن سلّ روحه سلا رقيقا لطيفا حتّى انّه يحصل له الراحة من ذلك السلّ لما يشاهده من مكانه في الجنة،و ان كان كافرا أتى اليه بحديدة محميّة بنار جهنّم فأدخلها في حلقومه و جذب روحه بها جذبة يخيّل اليه انّ اطباق السماوات و الأرض كلّها قد وقعت عليه و طبقته حتى يخرج زبده على فمه كالبعير.

و عن الصادق عليه السّلام قال دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آل و سلّم على رجل من اصحابه و هو يجود بنفسه،فقال:يا ملك الموت ارفق بصاحبي هذا فانّه مؤمن،فقال:ابشر يا محمد فانّي بكل مؤمن رفيق،و اعلم يا محمد اني أقبض روح ابن آدم فيجزع اهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول ما هذا الجزع؟فو اللّه ما تعجلناه قبل اجله،و ما كان لنا في قبضه من ذنب فان تحتسبوه و تصبروا تؤجروا و ان تجزعوا تأثموا و توزروا،و اعلموا انّ لنا فيكم عودة ثم عودة،فالحذر الحذر انّه ليس في شرقها و لا غربها أهل بيت مدر و لا و بر الاّ و انا أتصفحهم في كلّ يوم خمس مرات، و لا أنا أعلم بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم و لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتى يأمرني ربي بها،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آل و سلم إنّما يتصفحهم في مواقيت الصلاة؟ فان كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة ان لا اله الا اللّه و انّ محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آل و سلم و نحى عنه ملك الموت ابليس.

أقول في هذا الحديث اشارة الى انّ البعوضة و غيرها من ذوات الأرواح لا تموت الا ان يكون ملك الموت يقبض ارواحها كما يقبض ارواح بني آدم،و عن مولانا الأمام زين العابدين

ص:152

عليه السّلام قال:الموت للمؤمن كنزع ثيابه وسخة قلمة و فك قيود و أغلال ثقيلة و الأستبدال بأفخر الثّياب و اطيبها روائح،و أوطي المراكب و آنس المنازل و للكافر كخلع ثياب فاخرة و النقل عن منازل انيسه و الأستبدال بأوسخ الثياب و أخشنها و أعظم العذاب.

و في خبر آخر قال عليه السّلام:ألقدوم على اللّه أتا المؤمن فكالغائب يقدم على اهله و أما الكافر فكالأبق يرجع الى مولاه.

و امّا لحظات ملك الموت و تصفحاته فورد في بعض الأخبار أنّ القوم يكونون في المجلس يتكلّمون فربما أخذتهم الفترة عن الكلام حتى يسكتوا كلهم عن الكلام فتلك السكتة هي اللحظة التي لحظهم ملك الموت و هو الذي اسكتهم،و اما ملك الموت المقدم فهو عزرائيل عليه السّلام.

و في حديث المعراج انّ النبي صلّى اللّه عليه و آل و سلم رآه في السماء الرابعة و هو عبوس الوجه ينظر في لوح بين يديه قد كتبت فيه الآجال فسأله صلّى اللّه عليه و آل و سلم كيف تقبض الأرواح و انت في هذا المكان؟فقال:يا رسول اللّه انّ الدنيا في يدي كالدرهم في يد احدكم يقلبه كيف شاء،او كالعصفور بيد الطفل،و مع هذا الأقتدار التام قد جعل اللّه سبحانه له أعوانا من الملائكة يرسلهم الى قبض الأرواح الاّ انهم اذا قبضوها أتوا بها اليه فعرضوها عليه حتى يأمرهم بأمره فيها اين يضعونها في الجنّة ام في النار،و من هنا ورد الدعاء اللهم صل على ملك الموت و اعوانه.

و امّا النطفة التي خلق منها و هي المني و ما مزج به من تراب قبره،فقال الصادق عليه السّلام:انّها تخرج منه حال خروج الروح فلذلك يغسل غسل الجنابة،و تلك النطفة تارة يخرج من عينه كالدموع،و اخرى من فيه كالزبد،و لكن قدمنا انّه لأجل الجمع بين الأخبار ينبغي ان نقول بخروج بعضها و بقاء بعضها تكون معه في القبر تدور معه كيف دار و هي التي يخلق بدنه منها اذا قامت القيامة الكبرى.

بقي الكلام في موت الفجأة فالذي ورد في الدعاء هو الأستعاذة باللّه سبحانه منه و ذلك لما تحققت ما في الأرض من الثواب،نعم قد ورد في الأخبار انّ موت الفجأة على المؤمن راحة معجّلة،و على الكافر تدارك منه تعالى له على ما صنع من اعمال الخير حتى اذا مات تبادرته ملائكة العذاب و اما الموت الشديد فعلى الكافر عقاب معجّل،و امّا على المؤمن فكفارة لما بقي عليه من الذنوب،و امّا حدّه فقال الباقر عليه السّلام من مات دون الأربعين فقد اخترم،و من مات دون اربعة عشر يوما فموته موت فجأة،و كذا روي عن الصادق عليه السّلام ايضا،و امّا تشديد الموت على الأطفال و الصبيان فهو كفّارة لوالديهم على ما في الروايات اذا عرفت هذا.

ص:153

فاعلم انّ الكافر الواقع في هذه الأخبار المراد به ما يشمل الفاسق المصرّ على فسقه، و لا تأخذك الغرة ايها الأخ،و تدخل نفسك في المؤمنين الذين ورد في شأنهم تخفيف الموت عنهم، و ذلك انّ للإيمان درجات و مراتب فلعل المراد بهم أهل الدرجة العليا،كيف لا و قد ورد في الخبر انذ مولانا امير المؤمنين عليه السّلام لمّا كان في بعض غزواته و انتهى بعسكره الى قرب جبل،فقام و توضأ و أخذ ماء و رشه على ذلك الجبل فانفطر فخرج منه رجل ابيض الرأس و اللّحية،فسلم على امير المؤمنين عليه السّلام،فسئله من انت؟و هو اعلم به،قال:انا وصي عيسى يا أمير المؤمنين لو لا مرارة الموت لخرجت و كنت اقاتل معك،فقال:انا في هذا القبر ثمانين سنة و ما خرجت مرارة الموت من حلقي،فرجع الى مكانه.

و في الرواية ان جماعة قالوا لعيسى عليه السّلام قد أحييت من كان حديث العهد من الموت فاحي لنا من كان بعيد العهد منه فقال عليه السّلام اختاروا من شئتم،فاختاروا سام بن نوح فصلّى ركعتين فدعى الى اللّه تعالى فأحياه فاذا هو قد ابيض رأسه و لحيته،فقال عيسى عليه السّلام ما هذا الشّيب؟و لم يكن في زمانه بل عرض في و مان ابراهيم عليه السّلام،قال:سمعت الندا فظننت انها يوم القيامة فشاب رأسي و لحيتي من الهيبة،و قال:كم وقتا متّ؟فقال:منذ اربعة آلاف سنة فما ذهبت عنّي سكرات الموت.

فان كان حاله خروج الروح و دعت جوارحه بعضها بعضا فيقول السّلام عليكم فما نلتقي بعد هذا اليوم ابدا الى يوم القيامة،فعند ذلك يأتي اليه ملك الموت فيسل روحه من أصابع رجليه الى صدره،فاذا بلغت الصدر وقفت و عاينت و رأت مكانها فذلك هو اوّل منزل من منازل الآخرة،و هو منزل الحسرة و الندامة حتى انه يقول لملك الموت ارجعني الى الدنيا يوما لأعمل صالحا،فيقول فنيت الأيام،فيقول ارجعني ساعة فيقول:فنيت الساعات.

و ذها معنى قوله تعالى ربّ ارجعوني لعلّي اعمل صالحا فيما تركت،فيجاب كلا انها كلمة هو قائلها،يعني لو رجع الى الدنيا لم يعمل الا ما كان يعمل سابقا و ليس ما يقوله الاّ مجرد الكلام،فعند ذلك تسدّ ابواب الرجاء و تفتح له ابواب اليأس.

و امّا راحة الموت فهو السكون عن الأضطراب و الشعور الذي يعرض له قبل قبض الروح حتّى انّ اهل الميت ربّما رجوا حياته نظرا الى السكون بعد الأضطراب و اليقظة من سكر المرض فالذي ورد في الأخبار انّ اللّه تعالى يرجع اليه عقله عند الموت لأجل الوصيّة حتى يفعل او يترك فلا يكون له حجّة على اللّه سبحانه اذا قدم عليه بأنّي انّما تركت الوصية لأجل سكرة الموت،و أمّا عند الأطباء فقالوا:انّ الطبيعة انّما تضطرب من جهة مقاومة المرض و العراك بينهم،فاذا غلب المرض على الطبيعة ايست الطبيعة من قهر المرض فاستسلمت له فسكنت عن الأضطراب،فعند

ص:154

سكونها عقلت الأمور و عرفتها لأنّ المانع انّما كان ذلك الحرب بين الطبيعة و المرض،فاذا خرجت الرّوح من الصدر رأتت الى الفم،و خرجت منه،فهنا ينتهي آخر الباب الثاني و يتلوه الباب الآخر.

الباب الثالث: في أحواله بعد الموت

نور في بعض احوال البرزخ

اعلم ان الرّوح اذا خرجت من البدن لم تخرج خروجا دفعيّا بل يبقى أثرها و هو حرارة البدن بعد خروجها ساعة،و من ثمّ لم يجب الأغتسال على من مسه الاّ بعد برد بدنه لأنه علامة خروج الروح و آثارها،و قال الصادق عليه السّلام:اذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد،روح المؤمن و غيره ينظر الى كل شيء يصنع به،فاذا كفن و وضع على السرير و حمل على اعناق الرجال عادت الروح اليه و دخلت فيه فيمد له في بصره فينظر الى موضعه في الجنة و من النار،فينادي بأعلى صوته ان كان من اهل الجنة عجلوني عجلوني،و ان كان من اهل النّار ردّوني ردّوني و هو يعلم كلّ شيء يصنع به و يسمع الكلام،و من هذا ورد الأمر بالرفق به حال الغسل و الكفن و الحمل و الأنزال في القبر.

و اما الكفن فينبغي ان يكون ثلاثة أثواب شاملة للميت او ثوبين و قميصا،و امّا المئزر الذي ذكره فقهاؤنا رضوان اللّه عليهم و هو الذي يشدّ على الوسط فلم نتحققه في صريح الأخبار، و حينئذ فالأحتياط في الجمع بين الأمرين،و يكون الكفن حسنا قال عليه السّلام تنوقوا بأكفانكم فانّها زينتكم يوم القيامة،و من ثمّ استحب الحبرة اليمانية و هو حلّة مخطّطة بخطوط الأبريسم ذات قيمة عالية تبلغ قيمة الحبرة مائة دينار و أكثر أو أقل،و لمّا لم تتعارف في هذه الأعصار ذهب شيخنا المعاصر ادام اللّه ايامه الى انه ينبغي ان يجعل بدلها ما يناسبها في اللون و القيمة مثل التفاصيل اليزدية و القطاني القاشانيّة او الهنديّة او البروجيّة او نحو ذلك بأن تجعل فوق الأكفان زينة للمؤمن لأنّ حرمته ميتا كحرمته حيّا.

فان قلت:كيف التوفيق بين هذا الخبر و بيم ما روي في الأخبار الصحيحة انّ الناس يحشرون حفاة عراة يمنعهم النظر الى عورات بعضهم اهوال يوم القيامة و أشغالها و ان ابصارهم شاخصة الى فوق لملاحظة ما يرونه من العذاب الذي يأتي من فوق رؤوسهم حتى انه روي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لما قال لأبنته فاطمة(ع)انّ الناس يحشرون عراة قالت:يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انا احشر عريانة؟فقال:نعم:

ص:155

فقالت وا سوأتاه حياء من اللّه سبحانه،فأتى جبرئيل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:قل لفاطمة انّها استحيت من اللّه تعالى فضمن لها ان يبعثها في حلّتين يغشى نورهما المحشر و كذلك يكسو عليا مثلهما،و لمّا ماتت فاطمة بنت اسد كفنها النبي صلّى اللّه عليه و آله بثوبه،فقيل له في ذلك؟فقال:اني ذكرت لها يوما أحوال الناس في القيامة و انهم يحشرون حفاة عراة فقالت: وا فضيحتاه فقلت لها:انّي اضمن لك على اللّه تعالى ان تحشرك مكسوّة فكفنتها بثوبي لأنّ الأرض لا تبليه و لا يندرس بها،قلت يمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجوه:

احدها انّه محمول على تفاوت مراتب اهل المحشر فمنهم العريان و منهم المكسو بكفنه او بحلّة من الجنّة.

و ثانيها انّ المكسوين انّما هم المؤمنون و العراة هم الكفّار،و لكن المؤمنين بالنسبة الى الكفّار كالقطرة الى البحر المحيط،فمن ثمّ اطلق عليهم الناس من باب تغليب الأكثر على الأقل.

و ثالثها انه محمول على تعدد ارض القيامة و أختلاف احوال الناس في كلّ ارض فيكونون عراة في بعضها و مكسوين في البعض الآخر،و ذلك لأنّ يوم القيامة يوم طويل عريض و يقابل ألف سنة من أيّام الدنيا،و مثل هذا اليوم تفنى فيه الأكفان و غيرها.

و رابعها انّ المكسوّ في أرض القيامة من كان يستحي من اللّه عزّ و جلّ كما علل في حديث فاطمة(ع)و العريان من لم يستح من اللّه تعالى.

فاذا رفع على رؤوس الرجال تكون الروح مع التابوت ترفرف فوقه فهو يناشد حامليه و يتمنّى الرجوع الى الدنيا و لو ساعة واحدة،قال بعض العارفينك ايها الغافل عن مستقبل احوالك ينبغي ان تتعقل بخاطرك انّم قدمت و حملت على اكتاف الرجال و تمنّيت الرجوع الى الدنيا فاعمل بمقتضى ما تمنّيت قبل ان يأتيك يوم يحال بينك و بين متمنّاك.

فاذا شيّعه المؤمنون الى قبره غفر اللّه لهم ذنوبهم،كما روي ان اول ما يتحف به الميت في قبره ان يغفر لمن شيّعه،فاذا بلغوا الميت الى قبره وضعوا تابوته قريبا من القبر ليأخذ أهبته و عدّته، فاذا وضعوه في لحده و هالوا عليه التراب دخلت الروح فيه الى حقويه،و في حديث انّه يسمع نفض ايدي القوم من تراب قبره،فعند ذلك ينظر يمينا و شمالا فلا يرى الاّ ظلمات ثلاث ظلمة الأرض و ظلمة العمل و ظلمة الوحشة،فيا لها من داهية عظيمة و مرزية جسيمة.

فاذا وضع في القبر فأول ملك يدخل عليه رومان فتّان القبور،روي عن عبد اللّه بن سلام انّه قال سئلت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اول ملك يدخل في القبر على الميّت قبل منكر و نكير،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ملك يتلالأ وجهه كالشمس اسمه رومان،يدخل على الميت ثمّ يقول له:أكتب ما عملت من حسنة و من سيئة،فيقول له:بأي شيء اكتب؟اين قلمي و دواتي و مدادي؟فيقول له:

ص:156

ريقك مدادك،و قلمك اصبعك،فيقول:أي شيء أكتب و ليس معي صحيفة؟قال:صحيفتك كفنك فاكتبه فيكتب ما عمله في الدنيا خيرا فاذا بلغ سيئاته يستحي منه،فيقول له الملك:يا خاطي ما تستحي من خالقك حتى عملتها في الدنيا و تستحي الآن،فيرفع الملك العمود ليضربه به فيقول العبد ارفع عنّي حتى أكتبها فيكتب فيها جميع حسناته و سيئاته،ثمّ يأمره ان يطوي و يختم،فيقولك باي شيء اختمه و ليس معي خاتم؟فيقول:اختمه بظفرك و علّقه في عنقك الى يوم القيامة كما قال تعالى وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً .

و في رواية اخرى انّه يأتي الى الميت فيشمّه فان عرف منه خيرا أخبر منكرا و نكيرا حتى يرفقا به وقت السؤال،و ان عرف منه شرا أخبرهما حتّى يشدّدا عليه الحال و العذاب.

ثم يأتيانه ملكا القبر كما قال مولانا امير المؤمنين عليه السّلام يجرّان اشعارهما و يخدان الأرض بأقدامهما أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف،فيقولان له من ربك؟ و ما دينك؟و من نبيّك؟و من امامك؟فيقول:اللّه ربي،و ديني الأسلام،و نبيّ محمد و امامي علي بن ابي طالب عليه السّلام ثمّ يعد الأئمة واحدا بعد واحد حتى يصل الى امام زمانه،و هو في هذا الزمان مولانا المهدي عليه و على آبائه السّلام،فيقولان:ثبتك اللّه فيما تحب و ترضى و هو قول اللّه عز و جل يُثَبِّتُ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّٰابِتِ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ فِي الْآخِرَةِ ثمّ يفسحان له في قبره مدّ بصره ثمّ يفتحان له بابا الى الجنة ثمّ يقولان له نم قرير العين نوم الشاب الناعم،فان اللّه عزّ و جلّ يقول أَصْحٰابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً .

و اذا كان لربه عدوّا فانّه يأتيه أقبح من خلق اللّه زيّا و أنتنه ريحا فيقول:أبشر بنزل من حميم و تصلية جحيم،فاذا اتيا اليه ألقيا أكفانه فيسألانه عن ربه و عن نبيه و عن دينه و عن امامه،فيقول:

لا ادري فيقولان:لا دريت و لا هديت،فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق اللّه عزّ و جلّ من دابّة الاّ تذعر لها ما خلا الثقلين ثم يفتحان له بابا الى النار،ثمّ يقولان له نم بشر حال،و يسلط اللّه عليه حيّات الأرض و عقاربها و هوامها فتنهشه حتى يبعثه اللّه من قبره.

أقول قد وقع في هذا الخبر انّ الفسح بمقدار مد البصر،و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين و في الكافي عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام يفسح له في قبره سبعة اذرع،و لا منافاة بينهما لأختلاف الفسحة بأختلاف الرجات.

فلعلّ فسحة الأدنى سبعة اذرع و الأوسط سبعون و الأعلى مد البصر،و لعلّ الحكمة في عدم سماع الثقلين صورت المرزبة أنّهم لو سمعوه لصار الأيمان ضروريا فيرفع التكليف الأختياري، و روي عن مولانا الباقر عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّي كنت لأنظر الى الأبل و الغنم و انا ارعاها و ليس من نبيّ الاّ و قد رعى الغنم فكنت أنظر اليها و هي ترعى و ما حولها شيء يهيّجها

ص:157

حتى تذعر فتطير فأقول ما هذا و أعجب حتى جائني جبرئيل عليه السّلام فقال:انّ الكافر يضرب ضربة ما خلق اللّه شيئا الاّ سمعها و يذعر لها الاّ الجن و الأنس.

و عن زيد بن ثابت قال بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حائط لبني النّجار على بغلة له و نحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه و اذا أقبر ستة او خمسة فقال صلّى اللّه عليه و آله من يعرف صاحب هذه الأقبر؟قال رجل:انا قال:فمتى ماتوا؟قال:في الشرك،فقال:انّ هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا تدافنوا لدعوت اللّه ان يسمعكم من عذاب القبر الذي اسمع منه الحديث،و قوله عليه السّلام لو لا ان تدافنوا اه قد ذكر في معناه المحدثون وجوها:

منها انّهم لو سمعوا ذلك لم يدفنوا الميّت ليسلم من عذاب القبر،و أورد عليه انّ المؤمن ينبغي أن يعتقد حصول العذاب لأهله و لو في حواصل الطّيور و بطون السباع و الحيتان فلا يمنع ترك التدافن.

و منها ان المراد أنّهم لو سمعوا ذلك لكانوا يهربون عن كلّ ميت لعدم طاقتهم سماع عذابه،فلا يدفنونه اذ العذاب يحصل لأهله عقيب الموت بغير فاصلة.

و منها ان يكون المراد أنّهم ما كانوا يقربون المقابر من أصوات عذاب الأموات،و أورد عليه انّ هذا لا يقتضي ترك التّدافن مطلقا و انّما يقتضي تركه بين المقابر و الحديث مطلق.

و منها انّهم لو سمعوا ذلك لحملهم سماعه على عدم التدافن لخوف الفضيحة في أقاربهم و عشائرهم،فانّ زيارة القبور كانت متعارفة بينهم و سماع صوت القريب يوجب فضيحة قريبه الى غير ذلك من الوجوه،و قوله عليه السّلام في الحديث السابق و يسلّط اللّه عليه حيّات الأرض و عقاربها آه:

روي في الكافي عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام انّ اللّه يسلط عليه تسعة و تسعين تنينا لو انّ تنينا واحدا منها نفخ على الأرض ما انبت شجرا ابدا،قال بعض العارفين و لا ينبغي ان تتعجب من التخصيص بهذا العدد فلعلّ عدد هذه الحيّات بقدر عدد الصّفات المذمومة من الكبر و الرياء و الحسد و الحقد و سائر الأخلاق و الملكات المردية،فانّها تتنوع انواعا كثيرة،و هي بعينها تنقلب حيّات في تلك النشأة اذا تحقّقت هذا كله،فقد بقي الكلام في امور:

الأول انّ الملائكة و هم منكر و نكير أ هما بعينهما مبشّر و بشير ام غيرهما؟قلت:ظاهر الدعوات المأثورات عن الأئمة الأطهار(ع)المغايرة بينهما،و ذلك انّ منكرا و نكيرا يأتيان لسؤال الكفّار و الفساق،و مبشّرا و بشيرا يأتيان لسؤال المؤمن على أحسن هيئة و أتمّ خلق،حتى ان المؤمن ليفرح بدخولهما عليه و الى هذا ذهب بعض العلماء.

و امّا الأخبار فظاهر كثير منها انّهما واحد و لكن قادران على التّشكلات المختلفة،فيأتيان الى المؤمن بصورة مبشّر و بشير،و الى غيره بصورة منكر و نكير،و مع كلّ واحد منهما عمود من

ص:158

نار لو أراد الجنّ و الأنس ان يحرّكوا طرفه لما قدروا عليه،و الى هذا ذهب جماعة من الأصحاب و لعلّه الأقوى،و ما في ظاهر الدعوات يحمل عليه ايضا و ليس هو بحمل بعيد،و امّا انّ منكرا و نكيرا هل هما شخصان او نوعان فذاك خلاف آخر و ان كان الظاهر من الأخبار هو الأول.

الأمر الثاني في تجسّم الأعمال في البرزخ و القيامة بأن يكون هذه الأعراض المعنوية في هذه النّشأة الدنيّة تكون اجساما بعد الموت و الأخبار متظافرة في الدّلالة على هذا كما انّ الصلاة تأتي الى الميّت في قبره بصورة شابّ حسن الوجه و الثياب و كذلك الزكاة و البر وصلة الأرحام فيؤنسانه في قبره،و كذلك إدخال السرور على المؤمن و قضاء حوائجه و نحو ذلك.

روى اصحابنا رضوان اللّه عليهم عن قيس بن عاصم قال:وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي صلّى اللّه عليه و آله فدخلت عليه و عنده الصّلصال بن الدّلهمس،فقلت:يا نبي اللّه عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم تعبر في البرية،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يا قيس انّ مع العز ذلا و ان مع الحياة موتا،و ان مع الدنيا آخرة،و ان لكلّ شيء رقيبا،و على كل شيء حسيبا،و ان لكل اجل كتاب،و انه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حي تدفن معه و انت ميت،فان كان كريما اكرمك و ان كان لئيما اسئمك ثمّ لا يحشر الا معك و لا تحشر الا معه و لا تسأل الا عنه،فلا تجعله الاّ صالحا فانه ان صلح آنست به و ان فسد لا تستوحش الا منه و هو فعلك.

فقال:يا نبي اللّه أحب ان يكون هذا الكلام في ابيات من الشعر نفتخر به على من يلينا من العرب و ندّخره،فأمر النبي صلّى اللّه عليه و آله من يأتيه بحسّان،فأستبان لي القول قبل مجيء حسّان،فقلت:

يا رسول اللّه قد حضرني ابيات أحسبها توافق ما تريد فقلت:

تخيّر خليطا من فعالك انّما قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

و لا بد بعد الموت من ان تعده ليوم ينادي المرء فيه فيقبل

فان تك مشغولا بشيء فلا تكن بغير الذي يرضى به اللّه تشتغل

فلن يصحب الأنسان من بعد موته و من قبله الاّ الذي كان يعمل

و ذهب بعض المحدثين من المعاصرين و غيرهم الى انّ الأعراض لا يعقل تجسمها فيكون مثال الصلاة و الصوم و الزكاة و نحوها معناه انّ اللّه سبحانه يخلق للمؤمن في قبره جزاء الصلاة مثالا نورانيا يأنس به المؤمن في البرزخ و القيامة،و كذا يخلق له جزاء الزّنا حيّة و عقربا،لان الزنا يتصور حيّة على هذا القياس أعمال الخير و الشر أقول هذا تأويل للأخبار من غير علة محوجة اليه،و ذلك لأنّ تلك النشأة لا يدركها العقل و هي أمر وراء طول العقل.

ص:159

و الحاصل انّ الصواب هو القول بصريح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدّالة على تجسم الأعمال و انها هي التي توزن في موازين العدل يوم القيامة كما سيأتي عن قريب ان شاء اللّه تعالى.

الأمر الثالث في ضغطة القبر اعلم انّ المؤمن اذا وضع في القبر قالت الأرض له مرحبا و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبك و أنت تمشي على ظهري فكيف اذا ادخلت بطني فسترى ذلك، قال:فيفسح له مد البصر،و اذا دخلها الرجل الخبيث الفاسق قالت:لا مرحبا بك و لا أهلا،اما و اللّه لقد كنت أبغضك و انت تمشي على ظهري فكيف اذا دخلت بطني سترى ذلك،فتضغطه ضغطه تخرج مخ رأسه من أظافير رجليه و يفتح له باب الى النار.

ثم يخرج اليه رجل قبيح فيقول:يا عبد اللّه من انت ما رأيت شيئا أقبح منك؟فيقول:انا عملك السيء الذي كنت تعمله و رأيك الخبيث،و هذه الضّغطة الشديدة هي التي ضمنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لفاطمة بنت اسد،و ذلك انّه لمّا حفر لها قبر اضطجع فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقيل له في ذلك؟فقال:اني ذكرت عندها ضغطة القبر يوما و ذكرت شدتها فقالت وا ضعفاه ليس لي طاقة عليها فقلت لها:انّي أضمن لك على اللّه فاضطجعت في قبرها لذلك.

و روي في الكافي عن ابي بصير قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أ يفلت من ضغطة القبر أحد؟قال:فقال نعوذ باللّه منها ما اقل من يفلت من ضغطة القبر،انّ رقيّة لمّا قتلها عثمان وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على قبرها فرفع رأسه الى السماء فدمعت عيناه و قال للناس:ذكرت هذه و ما لقيت فرققت لها و استوهبتها من ضمّة القبر،قال فقال:اللّهمّ هب لي رقية من ضمة القبر فوهبها اللّه له.

قال و ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج في جنازة سعد و قد شيّعه سبعون ألف ملك،فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رأسه الى السماء ثم قال مثل سعد يضمّ،قال:قلت جعلت فداك انّا نتحدث انّه كان يستخف بالبول فقال:معاذ اللّه انّما كان من زعارة في خلقه على اهله،قال:فقلت امّ سعد هنيئا لك يا سعد،قال:فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا ام سعد لا تحتمي على اللّه.

اقول اذا كان سعد الذي شيّعت جنازته الملائكة اصابته ضغطة القبر فمن الذي ينجو منها، و من هنا روي عن عمر بن يزيد قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام انّي سمعتك و انت تقول كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟قال:صدقت كلّهم و اللّه في الجنة،قال:جعلت فداك انّ الذنوب كبائر فقال:اما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي،و لكني و اللّه أتخوف عليكم في البرزخ،قلت:و ما البرزخ؟قال:القبر منذ حين موته الى يوم القيامة،نعم قد ورد في الأخبار المعتبرة انّ من مات من المؤمنين ليلة الجمع او يومها أمن من ضغطة القبر.

ص:160

و كذلك الجريدتان فانّهما ما دامتا خضراويين لم ينله عذاب القبر و قد ورد انّ بعض أعمال البر و الأدعية المأثورة تدفعها ايضا و هو ليس ببعيد فان رحمة اللّه قريب من المحسنين.

و ايضا ذكر في ارشاد القلوب في فضل المشهد الشريف العزوي و ما لتربته،و الدّفن فيها من المزيّة و الشرف،روي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال في الغري قطعة من الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى عليه السّلام تكليما و قدس عليه تقديسا و اتخذ عليه ابراهيم خليلا و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حبيبا و جعل للنبيين مسكنا،و روي انّ امير المؤمنين عليه السّلام نظر الى ظهر الكوفة فقال:ما أحسن منظرك و اطيب قعرك اللهمّ اجعل قبري بها.

و من خواص تربته اسقاط عذاب القبر و ترك محاسبة منكر و نكير من المدفون هناك كما وردت به الأخبار الصحيحة عن اهل البيت(ع)،و روي عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي و كان رجلا صالحا متعبدا قال:كنت في جامع الكوفة ذات ليلة مطيرة فدق باب مسلم جماعة ففتح لهم و ذكر بعضهم انّ معهم جنازة فادخلوها و جعلوها على الصفة التي تجاه باب مسلم بن عقيل ثمّ انّ احدهم نام فرأى في منامه قائلا يقول لآخر:اما نسفره(نصبر ظ)حتى نبصر هل لنا معه حساب ام لا؟فكشف عن وجه الميّت و قال لصاحبه:بل لنا معه حساب و ينبغي ان نأخذ منه معجّلا قبل ان يتعدى الرصافة فما يبقى لنا معه في طريق فانتبه و حكي له المنام و قال:خذوه معجّلا فأخذوه و مضوا به في الحال الى المشهد الشريف صلوات اللّه و سلامه على مشرّفها شعر:

اذا مت فادفني الى جنب حيدر ابي شبر اكرم به و شبير

فلست أخاف النار عند جواره و لا أتّقي من منكر و نكير

فعار على حامي الحمى و هو في الحمى اذا ضلّ في البيداء عقال بعير

و روي انّ جماعة من صلحاء المشهد الشريف الغروي انّه رأى انّ كلّ واحد من القبور التي في المشهد الشريف الطاهرة قد خرج منه حبل ممتدّ متّصل بالقبة الشريفة صلوات اللّه و سلامه على مشرّفها.

و امّا المصلوب و الغريق فروي انّ اللّه سبحانه يأمر الماء و الهوى فيضغطانه أشدّ من ضغطة القبر،و قال امير المؤمنين عليه السّلام:من مات يوم الخميس بعد الزول و كان مؤمنا أعاذه اللّه عزّ و جلّ من ضغطة القبر و قبل شفاعته في مثل ربيعة و مضر.

الأمر الرابع قد عرفت من تضاعيف الأخبار المذكورة و غيرها انّ السؤال في القبر قد وقع في شأن الميّت مطلقا،فما تقول في الأخبار الصحيحة المعتبرة التي رواها المشايخ رضوان اللّه عليهم

ص:161

في الأصول الأربعة و غيرها عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام انه قال:لا يسأل في القبر الاّ من محضّ الأيمان محضا و الكفر محضا،و امّا ما سوى ذلك فملهو عنهم الى يوم القيامة؟.

قلت امّا شيخنا الشهيد تغمده اللّه برحمته فقال:انّ هذا الخبر و هو لا يسأل في القبر الاّ من محض الأيمان او من محض الكفر،على سؤال خاص ليوافق الأخبار العامّة في سؤال القبر، و تفصيله انّه قال مولانا الصادق عليه السّلام يسأل الميت في قبره عن خمس:عن صلاته و زكاته و حجّه و صيامه و ولايته ايّانا أهل البيت،فتقول الولاية من جانب القبر للأربع ما دخل فيكن من نقص فعليّ تمامه،و حينئذ فلعل الملهوّ عنه السؤال عن تفاصيل الصلاة و الزكاة و نحوها فان كثيرا من المستضعفين من النساء و الكهول و من كان في أطراف البلاد و أهل الصحاري و بعض أهل القرى الذين بعدوا عن ديار العلم و لم يوجد بينهم عالم و لا فقيه و لم يعرفوا تفاصيل هذه الواجبات و لا تحقّقوا وجوب السؤال عليهم و لا وجوب المهاجرة الى ديار العلم،بل تحقّقوا أنّ الواجب عليهم انّما هو هذا الذي يأتون به من الواجبات من صلاة و صيام،بل و بعض ساكني الأمصار حالهم ايضا مثل هذا،و حينئذ فلعلّ السؤال الملهو عنه الى يوم القيامة هو هذا السؤال لا السؤال عن الرب و النبي و الأمام و نحو ذلك من البديهيّات الّتي ملأت الأسماع و الأقطار.

و امّا شيخنا الكليني قدس ضريحه فقال في الكافي باب المسئلة في القبر و من يسأل و من لا يسأل ثمّ شؤرع في نقل هذه الأخبار فظاهره العمل بظاهرها،و كذلك شيخنا الصدوق ره فانّه نقل الخبر من غير تعرّض لتأويله،و هو قد ذكر في أوائل كتابه ان كلّ ما يذكره فيه فهو حجّة بينه و بين ربّه،و ظاهر شيخنا البهائي ره أنّه جنح اليه ايضا.

اقول و يمكن ان يراد بالملهو عنهم الذين وردت الأخبار في شأنهم و أنّهم يكلّفون يوم القيامة بأن تؤجج لهم نار نار فيؤمروا بالدّخول فيها مثل البله و المجانين،و من كان في فترات الأنبياء و الشيخ الفاني و العجوز الفانية و نحوهم ممّا سيأتي ذكرهم ان شاء اللّه تعالى و هؤلاء لم يمحضوا الأيمان و هو ظاهر و لم يمحضوا الكفر ايضا لمقصورهم عن ورود المورودين فيبقون على حالتهم في قبورهم حتّى يمنحهم اللّه سبحانه في القيامة قوة إدر التكاليف و العقل القابل له.

الأمر الخامس في بيان الأمور النافعة للميت في أحوال البرزخ،فمنها ذكر من بقي بعده من ارحامه و اخوان دينه له بشيء من أنواع البر و الصدقة و صلاة و تلاوة قرآن و حجّ و نحو ذلك،فقد ورد في الخبر انّ الميت قد يكون في ضيق من العذاب فيهدي اليه واحد من أخوانه شيئا من البرّ فيدخل عليه ملك في قبره بطبق من نور فيقول هذه هديّة من فلان اليك فيوسع عليه و يرفع عنه العذاب،و من هذا ورد انّه قد يكتب البار بوالديه في حياتهما عاقّا لهما بعد موتهما،اذا لم يذكرهما بشيء من أفعال البر و كذا العكس.

ص:162

و قد ورد بعض المحققين شبهة في هذا المقام و هي انّه تعالى قال في كتابه العزيز و ان ليس للأنسان الاّ ما سعى،فانّ ظاهره ان سعى أحد في فعل من أفعال الخير لا يصل ثوابه الى غيره،و قد أجيب عنه بوجوه:

الأول ان سعى الغير لا ينفعه اذا أوقعه عن نفسه فامّا اذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنّائب عنه و الوكيل القائم مقامه كالوكيل في اخراج الزكاة و الخمس مثلا.

الثاني انّ وصول ثواب تلك الأعمال اليه لا ريب انّه نتيجة سعيه في تحصيل الأيمان و أصول العقائد و في اتخاذ الأصدقاء و الأخوان و معاشرتهم و إهذاء المعروف اليهم فما أهدوا اليه بعد موته فهو ممّا حصل بسعيه في الحقيقة.

الثالث انّ مضمون الآية مخصوص بامّة موسى و ابراهيم كما يساعد عليه السياق لأنّ الآية هكذا:ام لم ينبأ بما في صحف موسى و هارون الذي وفّى ألاّ تزر وازرة وزر أخرى و ان ليس للإنسان الا ما سعى،و امّا هذه الأمة فلا بعد في ان يصل اليهم ما سعى فيه غيرهم ايضا تفضّلا من اللّه عليهم،و اقوى هذه الوجوه أوسطها كما انّ أضعفها أخيرها و في الصحيح عن عمر بن يزيد قال:كان ابو عبد اللّه عليه السّلام يصلّي عن ولده في كلّ ليلة ركعتين و عن والديه في كل يوم ركعتين قلت له جعلت فداك و كيف صار للولد الليل قال لأنّ الفراش للولد،قال و كان يقرأ فيهما انا انزلناه في ليلة القدر و انّا اعطيناك الكوثر.

و منها ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:المؤمن اذا مات يصعد ملكاه الى السماء فيقولان عبدك فلان قد مات فأذن لنا حتى نعبدك على السماء فيقول اللّه تعالى انّ سماواتي مملوة بملائكتي و لكن اذهبا الى قبره و اكتبا له الى يوم القيامة.

و منها شهادة المؤمنين له بالخير و الصلاح،فانّه قد ورد في الخبر انّ اللّه تعالى يجيز شهادتهم و يكتبه عنده من الأخيار و ان كان في علم اللّه تعالى انّه من الأشرار،و قال الصادق عليه السّلام اذا حضر الميّت اربعون رجلا فقالوا:اللهم انّا لا نعلم منه الاّ خيرا،قال اللّه عزّ و جلّ قد قبلت شهادتكم و غفرت له ما علمت ممّا لا تعلمون.

و روى شيخنا الكليني قدس اللّه روحه باسناده الى الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال:كان في بني اسرائيل عابد،فأوحى اللّه تعالى الى داود عليه السّلام انّه مراء،قال:ثمّ انّه مات فلم يشهد جنازته داود عليه السّلام فقام أربعون من بني اسرائيل فقالوا:اللهم انّا لا نعلم منه الا خيرا و انت اعلم به منا فاغفر له قال:فلمّا غسل أتى اليه اربعون غير الأربعين و قالوا:اللهم انّا لا نعلم منه الاّ خيرا و انت اعلم به منا فاغفر له،قال:فأوحى اللّه تعالى الى داود عليه السّلام ما منعك ان

ص:163

تصلي عليه؟قال داود عليه السّلام للّذي أخبرتني به قال:فأوحي اللّه اليه انّه قد شهد له قوم فأجزت شهادتهم و غفرت له و عملت بما لا يعلمون.

و من هنا كان شيخنا المعاصر أدام اللّه ايّامه قد طلب من اخوانه المؤمنين ان يكتبوا على كفنه بالتّربة الحسينية الشهادة منهم بايمانه،فكتبوا هذا لا ريب في ايمانه كتبه شاهدا به فلان و ربّما جعلوا تحت الشهادة نقش خواتيمهم،و كان يأمر الناس بهذا و أمثاله و هو حسن،و ذلك انّ اللّه تعالى كريم و الوافد عليه يكفيه أدنى الأعمال.

و قد كتب المولى الورع الأردبيلي ره كتابة الى الشاه طهماسب تغمده اللّه برحمته يوصيه في رجل سيّد و انّه من أهل الأستحقاق فصدّر كتابه بقوله ايّها الأخ،فلمّا بلغ السيّد بذلك الكتاب الى الشاه قبل ذلك و قام له تعظيما و احتراما،فلما قرأه و رأى انّه ذكر فيه لفظ الأخ قال لغلامه:

علي بكفني،فأتى اليه بكفنه فوضع الكتابة في الكفن و قال لخاصّته كذا أنتم دفنتموني فضعوا هذه الكتابة تحت رأسي لأحتج بها على منكر و نكير.

و اقول ان المولى الأردبيلي الذي هو اتقى أهل الزمان قد قبلني أخا و هذا خطّه و كاغذه، ففعلوا ما أمروا و لا ريب في نجاته بهذا و أمثاله،ثمّ انّه قضى جميع حوائج ذلك السيّد و زاد عليه بما اراد.

و قد نقل لي رجل من الثقاة قال:ان الوزير الأعظم ميرزا تقي وزير الشاه المرحوم الشاه عباس طلب رجلا من خواصه يوما و قال:أريد منك قضاء حاجة،فقال:و ما هي؟قال:ان تأخذ مني ثلاث بغال و تمضي الى مشهد مولانا الحسين عليه السّلام و تأتني بتراب من حريمه الشريف حتى اذا انا مت أوصي بان يطين قبري بذلك التراب،و يوضع منه فوقي و تحتي،فمضى ذلك الرجل من اصفهان و أتى بذلك التراب،و اتّفق ان ذلك الوزير قد قتل فجعل ذلك التراب في قبره كما قال،و لا شك في انّ اللّه سبحانه يرفع عنه بيمن التراب و بركته.

و رأيت جماعة من العلماء و الأخيار يكتبون على الأكفان هذين الشعرين:

وفدت على الكريم بغير زاد من الحسنات و القلب السليم

و حمل الزاد أقبح كل شيء اذا كان الوفود على الكريم

و آخرون يكتبون هذا البيت و ربّما نسبوه الى مولانا علي بن الحسين عليه السّلام و هو هذا

فزادي قليل لم أراه مبلغي أ للزاد أبكي ام لبعد مسافتي

و قد ذكر بعض اصحاب المصابيح من اصحابنا استحباب كتابة دعاء الجوشن و هذا كله زيادة خير و بركة فلا بأس به،و في الرواية عنه صلّى اللّه عليه و آله انّه خرج يوما الى اصحابه فقال:ما تقولون في

ص:164

رجل مات؟فقام رجلان ذوا عدل فقالا:لا نعلم منه الاّ خيرا قالوا:اللّه و رسوله اعلم،قال ذلك في الجنة،قال:فما تقولون في رجل مات؟فقام رجلان ذوا عدل و قلا:لا نعلم منه(الاّ شرا)خيرا قالوا:ذلك في النار فقال بئس ما قلتم عبد مذنب و اللّه غفور رحيم.

و روي انّ رجلا من الصالحين قال يوما لرجل و اللّه لا يغفر اللّه لفلان،قال:فأوحى سبحانه و تعالى الى نبيّ ذلك الوقت ان قل لفلان قد غفرت له و أحبطت عمل ذلك الرجل.

و روي ايضا انّ شابا كان يتعاطى الفواحش فلم يدع شيئا الا فعله،فمرض فلم يعده جيرانه فدعى بعضهم و قال:ان جيراني تأذوا منّي في حال حياتي و أعلم انّ جيراني في المقبرة يتأذون منّي و من جواري فادفنوني في زاوية بيتي،فلمّا مات راى في المنام على هيئة حسنة،فقيل له:ما فعل اللّه بك؟فقال:قال لي عبدي ضيّعوك و أعرضوا عنك اما انّي لا اضيعك و لا اعرض عنك برحمتي.

فان قلت اذا كان الرجل معلوم الحال بالفسق و المعاصي و الأصرار على انواع الذنوب فكيف يجوز للمصلّين ان يقولوا في حقّه اللهم انّا لا نعلم منه الاّ خيرا مع ان المعلوم منه خلافه، قلت يجوز ان يقال هذا الكلام في حقه و ذلك لأنّه معلوم المذهب بأنه من الشيعة الأمامية فهذا الخير منه معلوم،و اما الفسق فهو غير معلوم بقاؤه و استمراره الى وقت الموت لاحتماله التوبة فانك قد عرفت انّها مقبولة الى ما قبل المعاينة و الدّخول في أحوال تلك النشأة،و لو سلّمنا عدم توبته لكن عفو اللّه سبحانه عن المجرمين لا يفقد بحالة من الحالات فلعلّه قد شمله و أحاط به.

و ما قيل بان مثل هذا الشخص يجوز ان يضطرب ايمانه عند صدمات الموت و حضور الشياطين فتعد له جماعة من الشياطين من محض الأيمان الى محض الكفر كما هو الواقع في شأن بعض الناس من اهل الأيمان المستودع.

فمعارض بأن الأصل في افعال المؤمن الصحّة الى ان يعلم نقيضها،و امّا الأستصحاب فليس هو بحجّة في مثل هذه المقامات فلا تغفل.

و منها ان يجري صدقة في حياته كوقف مزرعة او قرآن او كتاب او ان يخلف ولدا صالحا يستغفر له بعد موته،قال الصادق عليه السّلام ستّة خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موتهكولد صالح يستغفر له و مصحف يقرأ فيه و قليب يحفره و غرس يغرسه و صدقة ماء يجريه و سنة حسنة يؤخذ بها بعده،الى غير ذلك من الأمور النافعة للميّت.

الأمر السادس قد عرفت انّ الأخبار قد تواترت في الدلالة على حقيّة عذاب القبر و قد اتّفقت عليه الأمّة سلفا و خلفا و به قال اكثر أهل الملل و لم ينكره أحد من المسلمين سوى ضرار بن عمرو و جماعة من المعتزلة،و قد ظهر في شيراز في عشر الستين بعد الألف جماعة من علماء الملاحدة و كان عالمهم يذهب الى انكار عذاب القبر و يموه على عوام الناس بأنّ الميت ينبغي ان

ص:165

يتعرّف حاله،بأن يحشى فمه بالدّخن و ما شابه و يدفن فيؤتى اليه في اليوم الآخر و تنبش قبره فانّك تراه على حاله،فلو كان في القبر سؤال و حساب لتغيرت حالته و لسقط الدّخن من فمه،و ايضا فانّا لا نسمع عذابه في القبر مع شدّته و صعوبته،و هذا كلام بارد فان هذه الأذن و العين لا تصلحان لسماع تلك الأمور الملكوتيّة و مشاهدتها،بل انّما تدرك تلك الأمور بحس آخر من الحواس أ لا ترى الصحابة فانهم كانوا يجلسون عند النبي صلّى اللّه عليه و آله وقت نزول جبرئيل عليه السّلام عليه صلّى اللّه عليه و آله و هو يراه و يتكلم معه في حضورهم و الناس لا يرونه،و نظيره في عالم الشهود انّ النائم بحضور الجالسين قد يشاهد في نومه الحيات و العقارب و البلدان البعيدة و ربّما يتألم مما يرى غاية الألم و ربّما صرخ الصراخ العالي و مع هذا فالحاضرون الجالسون عنده لا يسمعون و لا يرون شيئا ممّا يرى.

الأمر السابع في مآل الروح بعد عذاب القبر،قد تحقّقت انّ السؤال في القبر و ضغطته و بعض انواع عذابه انّما هو على هذا البدن،فاذا فرغت الروح من هذا العذاب او الثواب لأنه، كما قال عليه السّلام:القبر امّا روضة من رياض الجنان و اما حفرة من حفر النيران،انتقلت الى سعادة اخرى او شقاوة كالأولى فدخلت في قوالب مثل هذه القوالب و الهياكل،الاّ انّها ألطف منها و أرق فهي عالم بين المجردات و الماديّات أقدرها اللّه سبحانه بذلك القالب على الطيران في الهواء و قطع المسافات البعيدة بالزمان القليل،فاذا دخلت في ذلك القالب طارت به الى عالم الأرواح، فان كانت مؤمنة مضت الى وادي السّلام و هي جنّة الدنيا خلقها اللّه تعالى في ظهر الكوفة و غيّبها عن ابصار الناظرين و فيها ارواح المؤمنين التي في القوالب المثالية و هم يتنعمون فيها بكل ما في جنة الآخرة،فانّ في هذه الجنة الأثمار و الأنهار،و الولدان و الحور العين،و الشراب و السلسبيل،و انهار اللبن و العسل و أنواع الحلي و الحلل فهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يجلسون حلقا حلقا يتحاكمون و يتكلّمون.

روى الكليني بأسناده الى مولانا الصادق عليه السّلام قال:انذ الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنة تتعارف و تتسائل،فاذا قدمت الروح على تلك الأرواح تقول(يقولون ظ)دعوها فانّها قد أقبلت من هو عظيم،ثم يسئلونها ما فعل فلان؟و ما فعل فلان؟فان قالت لهم تركته حيا إرتجوه، و ان قالت لهم قد هلك قالوا هوى هوى.

و في حديث آخر انّ أرواح المؤمنين في حجرات في الجنّة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها،و يقولون ربنا أقم لنا الساعة و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأوّلنا.

و في التهذيب ايضا انه قال ليونس بن ظبيان ما تقول الناس في ارواح المؤمنين فقال يونس:

يقولون يكونون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش،فقال عليه السّلام:سبحان اللّه المؤمن اكرم على اللّه عز و جل من ذلك ان يجعل روحه في حوصلة طير أخضر اذا كان ذلك اتاه محمد

ص:166

و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و الملائكة المقربون صلوات اللّه و سلامه عليهم اجمعين يا يونس المؤمن اذا قبضه اللّه تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون،فاذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا،و الأخبار الواردة بهذه الجنة و مكانها و كيفيتها مستفيضة بل متواترة.

روى الكليني طاب ثراه عن حبة العرنى قال:خرجت مع امير المؤمنين عليه السّلام الى ظهر الكوفة فوقف بوادي السّلام كأنه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتى أعييت ثم جلست حتّى مللت ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني اولا ثم جلست حتى مللت ثم قمت و جمعت ردائي،فقالت يا أمير المؤمنين:انّي قد اشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة،ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي:يا حبة ان هو الا محادثة مؤمن أو مؤانسته،قلت يا أمير المؤمنين و انهم لكذلك؟قال:نعم و لو كشفت لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين (1)يتحادثون،فقلت:اجساد ام ارواح؟فقال:ارواح، و ما من مؤمن يموت في بقاع الأرض الا قيل لروحه ألحقي بوادي السّلام و انها لفبقعة من جنة عدن،و عن احمد بن عمر رفعه عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:قلت له ان اخي ببغداد و اخاف ان يموت بها،فقال:ما يبالي حيث ما مات اما انه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض و لا غربها الا حشر اللّه روحه الى واد السّلام،قال:قلت له و اين وادي السّلام؟قال:ظهر الكوفة اما اني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون.

و روينا من كتب بحار الأنوار من مؤلفات بعض مشايخنا رواه بسنده الى سلمان الفارسي رضي اللّه عنه انه قال يوما لأمير المؤمنين عليه السّلام بعد موت عمر بن الخطاب:يا امير المؤمنين اني حزين من موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى هذا اليوم و اريد ان تروحني هذا اليوم و تريني من كراماتك ما يزيل عني هذا الغم،فقال عليه السّلام:عليّ بالبغلتين اللتين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلمّا آتي بهما ركب هو واحدة و ركب سلمان الأخرى،قال سلمان:فلما خرجنا من المدينة و اذا بكل بغلة جناحان فطارا في الهواء و ارتفعا فتعجب غاية التعجب،فقال لي:يا سلمان انظر هل ترى المدينة فقلت اما المدينة فلا و لكن ارى آثار الأرض فاشار الى البغلتين فارتفعتا في الجو لحظة،فنظرت فلم ار شيئا في الأرض و اذا انا اسمع اصوات التسبيح و التهليل،فقلت:يا أمير المؤمنين اللّه اكبر ان هيهنا لبلاد قد وصلنا اليها؟فقال:يا سلمان هذه اصوات الملائكة بالتسبيح و التهليل و هذه هي السماء الدنيا فقد وصلنا اليها،فاشار الى البغلتين و حرّك شفتيه فانحطتا طائرتين نحو الأرض فكان وقوعهما على بحر عريض كثير الأمواج كأن امواجه الجبال،فنظر الى ذلك البحر مولانا امير المؤمنين

ص:167


1- (20) احتبى الرجل اذا جمع ظهره و ساقيه بعمامة و قد يحتبي بيديه.

فسكنت امواجه فنزل عليه السّلام و مشى على وجه الماء،و نزلت انا و البغلتان تمشيان خلفنا فلما خرجنا من ذلك البحر و اذا هو تتلاطم امواجه كهيئة الأولى،فقلت:يا امير المؤمنين ما هذا البحر:فقال عليه السّلام كهذا هو البحر الذي اغرق اللّه فيه فرعون و قومه فهو يضطرب خوفا من اللّه تعالى من ذلك اليوم الى يوم القيامة فلما نظرت اليه خاف مني فسكن و ها هو رجع الى حالته الأولى،قال سلمان:

فلمّا خرجنا من ذلك البحر و مشينا رأيت جدارا ابيضا مرتفعا في الهوى ليس يدرك اوله و لا آخره فلمّا قربنا اليه و اذا هو جدار من ياقوت او نحوه فاذا بباب عظيم فلما دنا منه امير المؤمنين عليه السّلام انفتح فدخلنا فرأيت اشجارا و انهارا و بيوتا و منازل عالية فوقها غرف،و اذا في تلك البستان انهار من خمر و انهار من لبن،و انهار من عسل و اذا فيها اولاد و بنات و كل ما وصفه اللّه تعالى في الجنة على لسان نبيه صلّى اللّه عليه و آله رأيته فيها فرأيت اولادا و بناتا اقبلوا الى امير المؤمنين عليه السّلام يقبلون اياديه و اقدامه فجلس على كرسي و وقف الأولاد و البنات حوله،فقالوا:يا امير المؤمنين ما هذا الهجران الذي هجرتنا؟هذا سبعة ايّام ما رأيناك فيها يا أمير المؤمنين،فقلت:يا امير المؤمنين:ما هذه المنازل في هذا المكان؟فقال:يا سلمان هذه منازل شيعتنا بعد الموت تريد يا سلمان ان تنظر الى منزلك؟فقلت:نعم فامر واحدا و أخذني الى منزل عالي مبني من الياقوت و الزبرجد و اللؤلؤ و فيه كل ما تشتهي الأنفس فأخذت رمّانة من ثماره و أتيت اليه،فقلتكيا أمير المؤمنين هذا منزلي و لا أخرج منه فقال:يا سلمان هذا منزلك بعد الموت و هذه منازل شيعتنا بعد الموت و هذه جنّة الدنيا تأتي اليه شيعتنا بعد الموت فيتنعمون بها الى يوم القيامة حتى ينتقلون عنها الى جنة الآخرة،فقال:

يا سلمان تعال حتى نخرج،فلما خرج عليه السّلام ودّعه اهل تلك الجنة فخرجنا فانغلق الباب فمشينا، فقال لي:يا سلمان ا تحب ان اريك صاحبك؟فقلتكنعم فحرّك شفتيه فرأيتت ملائكة غلاضا شدادا يأتون برجل قد جعلوا في عنقه سلاسل الحديد و النار تخرج من منخريه و حلقه الى عنان السماء و الدخان قد احاط بتلك البرية و ملائكة خلفه تضربه حتى يمشي و لسانه خارج من حلقه من شدة العطش فلما قرب الينا قال لي:تعرفه؟فنظرته و اذا هو عمر بن الخطاب،فقال:يا امير المؤمنين اغثني فانا عطشان معذب فقال امير المؤمنين عليه السّلام كضاعفوا عليه العذاب فرأيت السلاسل تضاعفت و الملائكة و النيران تضاعفت فاخذوه ذليلا صاغرا فقال:يا سلمان هذا عمر بن الخطاب و هذا حاله فانه ما من يوم يمضي من يوم موته الى هذا اليوم الا و تأتي الملائكة به و تعرضه عليّ فأقول لهم ضاعفوا عذابه فيتضاعف عليه العذاب الى يوم القيامة.

قال سلمان:فركبنا فقال لي غمّض عينيك يا سلمان،فغمضت عيني فقال لي:افتحها و اذا انا بباب المدينة،فقال:يا سلمان مضى من النهار سبع ساعات و طفنا في هذا اليوم البراري و القفار و البحار و كل الدنيا و ما فيها.

ص:168

اقول هذا الحديث لا ينافي كون محلها و مكانها ظهر الكوفة،و ذلك لأنّ هذه الجنة التي رآها سلمان هي التي بظهر الكوفة،و يكفي في هذا قوله عزّ و علا وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ و قوله صلّى اللّه عليه و آله الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا،و هذا ليس للمقتول فقط اذ لا قيل و لا قائل به.و قد انكر بعضهم هذا النعيم و قال:ان الروح عرض فلا يجوز ان تتنعم،و هذا لا يصح لأن الروح كما سبق جسم رقيق هوائي مأخوذ من الريح،و يدل على ذلك انّه يخرج من البدن و يرد اليه و هي الحساسة الفعالة مع انك قد عرفت انّها تدخل في قالب مثل هذا القالب الاّ انّه ألطف منه ليست في كثافة الماديات و لا لطاقة المجردات بل هي ذوات وجهين و واسطة بين العالمين،و هذا ما قاله طائفة من أساطين الحكماء كأفلاطون و أتباعه من انّ في الوجود عالما مقداريا غير العالم الحسي و هو واسطة بين عالم المجردات و عالم الماديات ليس في تلك اللطافة و لا في هذه الكثافة،فيه الأجسام و الأعراض من الحركات و السكنات و الأصوات و الطعوم و الروائح و غيرها مثل قائمة بذاتها معلقة لا في مادة،هو عالم عظيم الفسحة و سكّانه على طبقات متفاوتة في اللطافة و الكثافة و قبح الصورة و حسنها،و لأبدانهم المثالية جميع الحواس الظاهرة و الباطنة فيتنعمون و يتألمون باللذات و الألآم النفسانيّة و الجسمانية.

و قد نسب العلامة في شرح حكمة الأشراق القول بوجود هذا العالم الى الأنبياء و الأولياء و المتألهين من الحكماء،قال شيخنا البهائي عطّر اللّه مرقده:و هذا و ان لم يقم على وجوده شيء من البراهين العقلية لكنه قد تأيّد بالظواهر النقلية و عرّفه المتألّهون بمجاهداتهم الذوقية و تحققوه بمشاهداتهم الكشهية.

و انت تعلم ان ارباب الأرصاد الروحانية أعلى قدرا و ارفع شأنا من اصحاب الأرصاد الجسمانية فكما انك تصدق هؤلاء فيما يلقونه اليك من خفايا الهيات الفلكية فحقيق ان تصدق اولئك ايضا فيما يتلونه عليك من خبايا العوالم المقدسة الملكية هذا كلامه ره.

فهذه الجنة التي هي دار السّلام هي مأوى المؤمنين في نهارهم و اما ليلهم فلهم جنّة اخرى يارون اليها في الليل و يسكنون فيها فهي محل نومهم فاذا اضاء الصبح طاروا منها الى وادي السّلام و تلاقوا فيها و تعارفوا و تصاحبوا و تحادثوا و اكلوا من ثمارها و بقوا فيها الى الليل فاذا جاء الليل طاروا الى الجنة التي في المغرب ليناموا فيها و تكون محلى الليل.

روى الكليني في الصحيح عن ضريس الكناسي قال:سئلت ابا جعفر عليه السّلام ان الناس يذكرون ان فراتنا تخرج من الجنة فكيف هو؟يقبل من المغرب و تصب فيه الأودية و العيون؟فقال ابو جعفر عليه السّلام:ان للّه جنة خلقها اللّه في المغرب و ماء فراتكم هذه يخرج منها و اليها تخرج ارواح

ص:169

المؤمنين من حفرهم عند كل مساء فتسقط على ثمارها و تأكل منها و تتنعم فيها و تتلاقى و تتعارف فاذا طلع الفجر هاجت من الجنة فكانت في الهواء فيما بين السماء و الأرض تطير ذاهبة و جائية و تعهد حفرها اذا طلعت الشمس و تتلاقى في الهواء تتعارف.

و اما ارواح الكفّار المصرين على الفسق فأرواحهم بعد الفراغ من عذاب القبر و اني لهم الفراغ منهم تدخل ارواحهم في قوالب مثل هذه القوالب فيطيرون بها الى برهوت و هو واد في حضرموت في ارض اليمن و هو واد مملو من النار و عقاربها و حيّاتها و ما تعته اللّه سبحانه في نار جهنم من انواع العذاب و اقسامه قال اللّه تعالى حكاية عن آل فرعون اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّٰاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذٰابِ فان العطف يقتضي ان العرض على النار غدوا و عشيا غير العذاب بعد قيام الساعة فيكون في القبر.

و عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام ان هذا في نار البرزخ قبل القيامة اذ لا غدو و لا عشي في القيامة ثم قال عليه السّلام ك أ لم تسمع قول اللّه عز و جل وَ يَوْمَ تَقُومُ السّٰاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذٰابِ و قال سبحانه في حق قوم نوح أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نٰاراً و الفاء للتعقيب من غير مهلة،فالمراد دنا و البرزخ و لو اراد اللّه سبحانه ادخالهم النار يوم القيامة لكان مناسبا بثم و الآيات الدالة على عذاب البرزخ كثيرة و هذه النار التي هي برهوت هي محل عذابهم في النار، و اما في الليل فقد خلق اللّه سبحانه لهم نارا في المشرق اذا جاء الليل طاروا اليها و عذبوا فيها الى ان يجيء النهار.

و في صيحة ضريسل لمتقدمه عن مولى الصادق عليه السّلام قال:و ان للّه في المشرق نارا خلقها ليسكنها ارواح الكفّار و يأكلون من زقومها و يشربون من جميمها ليلهم فاذا طلع الفجر هاجت الى واد باليمن يقال:لت برهوت أشد حرا من نيران الدنيا فكانوا فيها يتلاقون و يتعارفون فاذا كان المساء عادوا الى النار فهم كذلك الى يوم القيامة قال:قلت اصبحك اللّه ما حال الموحدين المقرّين بنبوة محمّد صلّى اللّه عليه و آله من المسلمين المذنبين الذين يموتون و ليس لهم امام و لا يعرفون ولايتكم؟فقال:اما هؤلاء فانهم في حفرهم لا يخرجون منها فمن كان منهم عمل صالح و لم يظهر منه عداوة فانه يخد له خدا الى الجنة التي خلقها اللّه في المغرب فيدخل عليه منها الروح في حفرته الى يوم القيامة فيلقى اللّه فيحسبه بحسناته و سيئاته فاما الى جنة و اما الى النار فهؤلاء موقوفون لأمر اللّه قال:و كذلك يفعل اللّه بالمستضعفين و البله و الأطفال و اولاد المسلمين الذين لم يبلغوا العلم فامّا النصب من اهل القبلة فانّهم يخدّ لهم خدّا الى النار التي خلقها اللّه في المشرق فيدخل عليهم منها اللهب و الشرر و الدخان و فورة الحميم الى يوم القيامة ثم مصيرهم الى الحميم ثم في النار يسجرون،ثمّ

ص:170

قيل لهم اينما كنتم تدعون من دون اللّه اين امامكم الّذي اتخذتموه دون الأمام الّذي جعله اللّه للناس اماما.

و ينبغي زيارة القبور لأنس الميت بالزائرين،روى الكليني في الصحيح عن مولانا الصادق عليه السّلام في زيارة القبور قال:انّهم يأنسون بكم فاذا غبتم عنهم استوحشوا،و عن اسحاق بن عمّار عن ابي الحسن عليه السّلام قال:قلت له المؤمن يعلم من يزور قبره؟قال:نعم لا يزال مستأنسا به ما زال عند قبره فاذا قام و انصرف من قبره دخله من انصرافه عن قبره وحشة،و قال صفوان بن يحيى لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام بلغني انّ المؤمن اذا اتاه الزائر أنس به فاذا انصرف عنه استوحش فقال:لا يستوحش.

اقول يمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجوه:الأوّل حملها على تفاوت مراتب المؤمنين، فمنهم الكاملون الّذين لا يستوحشون من مفارقة الزائرين لأنسهم بربهم و انواع عطاياه.

الثاني ان يكون المراد انّه لا يستوحش من جهة ما رزقه اللّه من اللّذات الروحانيّة بل و الجسمانية و ان كان يستوحش من جهة مفارقة الزائرين كما هو الظاهر من خبر اسحاق بن عمّار، الثالث انّ المراد بالوحشة المتّقية الوحشة الكاملة و المراد بالوحشة الثابتة الناقصة القليلة.

فان قلت اذا كانت الأرواح في قوالبها المثاليّة محلّها وادي السّلام فكيف تعلم بمن يزور قبرها و بينهما المسافات البعيدة؟قلت قد روى عن الصادق عليه السّلام انّ الأرواح و ان كانت في وادي السّلام الاّ انّ لها اشعة علمية متصلة بالقبر فهي بتلك الأشعة تعلم بالزائرين و الواردين الى القبور،و قد مثّلها عليه السّلام بالشمس فانّها في السماء و اشعتها في أقطار الأرض،فيقال انّ الشمس هنا و هناك و في الأماكن البعيدة مع انّ قرصها في السماء،و في بعض الأوقات تأتي هي أيضا بذلك المثال الى القبر فتزوره و تطلع عليه و تزور اهلها.

روى الكليني ره عن اسحاق بن عمّار عن ابي الحسن الأول عليه السّلام قال:سئلته عن الميت يزور اهله؟قال:نعم فقلت في كم يزور؟قال:في الجمعة و في الشهر و السنة على قدر منزلته،فقلتكفي أي صورة يأتيهم؟فقال:في صورة طائر لطيف يسقط على جدرهم و يشرف عليهم فان رآهم بخير فرح و ان رآهم بشرّ و حاجة حزن و اغتمّ،و عن مولانا الصادق عليه السّلام قال:انّ المؤمن ليزور اهله فيرى ما يحب و يستر عنه ما يكره،و انّ الكافر ليزور اهله فيرى ما يكرهه يستر عنه ما يحب،قال:

فيهم من يزور كلّ جمعة و منهم من يزور كلّ سنة على قدر عمله.

و قال عليه السّلام:في حديث آخر ما من مؤمن و لا كافر الاّ و هو يأتي أهله عند زوال الشمس فاذا رأى اهله يعملون بالصالحات حمد اللّه على ذلك و اذا رأى الكافر أهله يعملون بالصالحات كانت عليه حسرة.

ص:171

و قال عليه السّلام:يزور اهله عند زوال الشمس و مثل ذلك،قال:قلت في ايّ صورة؟قال:في صورة العصفور و أصغر من ذلك،فيبعث اللّه عز و جل معه ما يسره و يستر عنه ما يكره فيرى ما يسره و يرجع الى قرّة عين،و اما اذا كان كافرا يريه الملك ما يكره و يستر عنه ما يحب و هذا الصنع مع المؤمن هو أحد معاني قوله عليه السّلام لي:الدعاء يا من أظهر الجمل و ستر القبيح.

و امّا التسليم على القبور فهو ما قال الصادق عليه السّلام كالسلام على اهل الديار من المؤمنين و المسلمين انتم لنا فرط و نحن ان شاء اللّه بكم لاحقون،و في الصحيح عن مولانا الرضا عليه السّلام قال:

من أتى قبر أخيه ثمّ وضع يده على القبر و قرأ انا انزلناه في ليلة القدر سبع مرات امن يوم الفزع الأكبر.

و قال الصادق عليه السّلام:انّ اللّه تبارك و تعالى تطوّل على عباده بثلاث ألقى الريح بعد الموت و لو لا ذلك ما دفن حميم حميما،و القى اليهم السلوة و لو لا ذلك لأنقطع النسل و ألقى على هذه الحيّة الدابّة و لو لا ذلك لكنزها ملوكهم كما يكنزون الذهب و الفضة و قال عليه السّلام:اذا مات الميّت بعث اللّه ملكا الى أوجع أهله فمسح على قلبه فأنساه لوعة الحزن و لو لا ذلك لم تعمر الدنيا.

خاتمة هذا النور في احوال الأطفال امّا اطفال المسلمين فقد انعقد الأجتماع على دخولهم الجنّة بغير حساب،و قال ابو عبد اللّه عليه السّلام:اذا مات طفل من اطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات و الأرض الا ان فلان بن فلان قد مات،فان كان قد مات والداه او احدهما دفع اليه يغذوه و الاّ دفع الى فاطمة عليها السّلام تغذوه حتّى يقدم أتواه و احدهما او بعض اهل بيته فتدفعه اليه.

و عنه عليه السّلام قال:انّ اللّه تبارك و تعالى يدفع الى ابراهيم و سارة أطفال المؤمنين يغدوانهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من در،فاذا كان يوم القيامة ألبسوا و طيبوا و أهدوا الى آبائهم فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم و هو قول اللّه تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، و لا منافاة بين هذين الخبرين لجواز ان يكون بعض الأطفال عند فاطمة عليها السّلام و البعض الآخر عند ابراهيم و سارة،و هذا انّما يكون في عالم البرزخ و الاّ فهم في الجنّة الأخروية مع آبائهم و لا حاجة بهم الى التربيّة،

و امّا اطفال الكفّار فقد اختلف في شأنهم أقوال العلماء،فمن الأقوال انّهم خدمة أهل الجنّة و هم في الجنّة و هم في الجنّة لقوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا، و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ مولود يولد على الفطرة،و لم يصدر منهم ما يوجب العذاب.

و منها ما قيل انّهم من أصحاب الأعراف الّذين حكى اللّه سبحانه عنهم بقوله وَ عَلَى الْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ و في بعض الأخبار دلالة عليه.

ص:172

و منها ما قيل انّهم تابعون لآبائهم في دخول النّار و لكن لا يتألّمون بحرارتها،فانّه قد روي في كثير من الأخبار انّ بعض الناس يدخلون النار و لا يتألّمون بحرارتها،فانّه قد روي في كثير من الأخبار انّ بعض الناس يدخلون النار و لا يتألّمون بها كما تقدم في حديث الكافر الذي اضاف المؤمن لما ورد عليه فارّا من سلطان بلاده.

و منها مذهب التوقف في شأنهم و ارجاع علم حالهم الى اللّه تعالى و هذا ايضا موجود في الأخبار،و منها انّ اللّه تعالى يعمل معهم بمقتضى علمه فمن علم منه الأيمان لو بقي الى وقت التكليف أدخله الجنّة،و من علم منه الكفر في ذلك الوقت أدخله النار،و الصواب هو ما دلّت عليه الأخبار،روى الصدوق ره في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان قال:سئلت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن اولاد المشركين يموتون قبل ان يبلغوا الحنث؟قال اللّه تعالى يؤجّج لهم نارا فيقال لهم:ادخلوها فان دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما و ان ابوا قال اللّه عز و جل هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني فيأمر اللّه عز و جل بهم الى النار،اقول و هذه النار الّتي تؤجّج يجوز ان يكون في عالم البرزخ، و يجوز ان يكون في القيامة الكبرى و اذا جاء النصّ الصحيح قطع مادّة النزاع و الكلام.

تذييل في حال ولد الزنا اذا ورد على ربّه عزّ و جلّ اعلم انّ المشهور بين اصحابنا رضوان اللّه عليهم هو انّه اذا ظهر دين الأسلام كان مسلما بحكم المسلمين في الطّهارة و دخول الجنة و قد نقل عن المرتضى و الصدوق و ابن ادريس انّه كافر نجس يدخل النار كغيره من الكفّار،و لكن وجد بخطّ شيخنا الشهيد الثاني قدّس اللّه روحه مسائل نقلها عن المرتضى تغمده اللّه برحمته و هذه عبارته و سئل عن ولد الزنا و ما روي فيه من انّه في النّار و انّه لا يكون من اهل الجنّة،فأجاب رضي اللّه عنه انّ هذه الرواية موجودة في كتب اصحابنا الاّ انه غير مقطوع بها و وجهها ان صحّت انّ كلّ ولد زنية لا بد ان يكون في علم اللّه انه يختار الكفر و يموت عليه و انّه لا يختار الأيمان،و ليس كونه من ولد الزنية ذنبا يؤاخذ به فانّ ذلك ليس بذنب له في نفسه و انّما الذنب لأبويه و لكنّه انّما يعاقب بأفعاله الذميمة القبيحة الّتي علم اللّه انّه يختارها و يصير كونه ولد زنا علامة على وقوع ما يستحق به العقاب و انّه من اهل النّار بتلك الأفعال لا لأنه مولود من الزنا.

أقول و هذا لا ينافي ما حكيناه عنه لأنه رحمه اللّه تعالى قد يذهب في المسئلة الواحدة الى مذاهب مختلفة يكون له في كل كتاب من مصنفاته مذهب من المذاهب و الحق انّ الأخبار متظافرة في الدلالة على سوء حاله و انّه من اهل النار،روى الصدوق ره باسناده الى الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال:يقول ولد الزنا:يا رب ما ذنبي فما كان لي في امري صنع؟قال:

فيناديه مناد فيقول انت شر الثلاثة أذنب والداك فثبت عليهما و انت رجس و لن يدخل الجنّة الا طاهر و هذا مما لا مسلك فيه للعقول و ان اردت تأويل مثل هذا الخبر لينطبق على اقوال الأصحاب

ص:173

رضوان اللّه عليهم فاحمله على ارادة ولد الزنا اذا كان مخالفا في المذهب مع ان هذه سياسات شرعية اظهرها الشارع لحكم و مصالح حتى لا يتجرى الناس على الزناء و له نظائر كثيرة،مع ان الغالب في ولد الزنا سوء الحال و الأعمال حتّى يكون هو الذي يدخل النار بعمله على انه يجوز ان اللّه تعالى يحتجّ عليه يوم القيامة بدخول نار يؤجّجها كما يحتجّ على غيره ممن تحققت سابقا و الظاهر وروده في الأخبار ايضا و بالجملة فاحوال الناس في عالم البرزخ على ما سمعت من انه اما نعيم مقيم او عذاب اليم حتى تجيئهم القيامة الصغرى و هي ظهور مولانا صاحب الزمان عليه السّلام فيحشر اللّه سبحانه من كل امّة فوجا كما تقدم تفصيله فلا يبقى الا القيامة الكبرى و ما أقربها فها ذا نحن نعقد نور البيانها.

ص:174

نور في القيامة الكبرى

اعلم وفقك اللّه تعالى ان وقتها و معرفته مما استأثر به تعالى و تقدّس فقال:ان اللّه عنده علم الساعة،نعم قد علّمها لنبيه و اوصيائه عليهم السّلام و هم قد كتموا هذا العلم عنا كغيره من اكثر العلوم لحكم و مصالح كثيرة فتبقى الناس على هذه الحال بعضهم احياء و بعضهم اموات حتى يأذن اللّه تعالى بفناء الدنيا و اهلها فيأمر اسرافيل فينفخ نفخة فيهلك فيها كل ذي روح ثم ينفخ النفخة الثانية التي يحييهم بها للحشر.

و روى الجليل علي بن ابراهيم في تفسيره عن الأمام زين العابدين عليه السّلام انّه سئل عن النفختين كم بينهما قال:ما شاء اللّه و في خبر آخر اربعين سنة فقيل له:فأخبرنا يا ابن رسول اللّه كيف فيه؟فقال:اما النفخة الأولى فان اللّه جلّ جلاله يأمر اسرافيل فيهبط الى الدنيا و معه صور و الصور رأس واحد و طرفان و بين طرفي كل رأس منهما ما بين السماء(الى)و الأرض قال:فاذا رأت الملائكة اسرافيل و قد هبط الى الدنيا و معه الصور قالوا:قد اذن اللّه تعالى في موت اهل الأرض و في موت اهل السماء قال:فيهبط اسرافيل عليه السّلام بحضرة بيت المقدس و يستقبل القبله فاذا رآه اهل الأرض قالوا كقد اذن اللّه تعالى في موت اهل الأرض قال:فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح الا صعق و مات ثمّ ينفخ فيه نفخة اخرى فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي السماء فلا يبقى في السماء ذو روح الا صعق و مات الا اسرافيل،قال:فيقول اللّه تعالى لأسرافيل يا اسرافيل مت فيموت اسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه تعالى،ثم يأمر اللّه تعالى السماوات فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله تعالى يَوْمَ تَمُورُ السَّمٰاءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ الْجِبٰالُ سَيْراً يعني تبسط و تبدل الأرض غير الأرض يعني بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها اول مرة و يعيد عرشه على الماء كما كان اول مرة فعند ذلك ينادي الجبّار جل جلاله بصوت له جهوري يسمع اقطار السماوات و الأرض اين الجبّارون و ابن الملاك(الملوك)لمن الموت؟فلا يجيبه احد،فعند ذلك يقول الجبار عز و جل مجيبا لنفسه للّه الواحد القهّار انا قهرت الخلائق كلّهم و أمتهم انّي انا اللّه لا اله الا انا وحدي لا شريك لي و لا وزير و انا خلقت خلقي و امتهم بمشيئتي و انا احييهم بقدرتي قال:فينفخ الجبار نفخة في الصور يخرج الصوت من احد الطرفين الذي يلي السماوات فلا يبقى احد في السماوات الا حي و قام كما كان و تعود حملة العرش و تحضر الجنّة و النار و يحشر الخلائق للحساب قال:

فرأيت علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما يبكي عند ذلك بكاء شديدا و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

كيف انعم و صاحب الصور قد التقمه و اصغى سمعه و احنى جبهته ينتظر حتّى يؤمر بالنفخ

ص:175

فقالوا كيا رسول اللّه و ما تأمرنا؟قال:قولوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل و روى شيخنا الكليني تغمده اللّه برحمته في الصحيح عن يعقوب الأحمر قال دخلنا على ابي عبد اللّه عليه السّلام نعزيه باسماعيل فترحم عليه ثم قال:ان اللّه عز و جل نعى الى نبيه صلّى اللّه عليه و آله نفسه،فقال:انك ميت و انهم ميتون و كل نفس ذائقة الموت ثمّ أنشأ يحدّث فقال:انه يموت اهل الأرض حتّى لا يبقى احد ثم يموت اهل السماء حتّى لا يبقى احد الا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل قال:فيجيء ملك الموت يقوم حتى(يقف)بين يدي اللّه عز و جل فيقول له:من بقى؟و هو اعلم فيقول:يا رب لم يبق الا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل فيقال له:قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا عند ذلك يا رب رسوليك و امينيك؟فيقول:اني قد قضيت على كل نفس فيها الروح الموت ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي اللّه عز و جل فيقال له:من بقى و هو اعلم فيقول:يا رب لم يبق الا ملك الموت و حملة العرش فيقول:قل لحملة العرش فليموتوا ثم يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقول له من بقى فيقول:يا رب لم يبقى الا ملك الموت فيقول له:مت يا ملك الموت فيموت ثم يأخذ الأرض بيمينه(بشماله)و السماوات بيمينه و يقول:اين الذين كانوا يدّعون معي شريكا اين الذين كانوا يجعلون معي الها آخر؟.

و بالجملة فاذا امات تعالى فشأنه جميع اهل السماوات و الأرض بقى وحده لا شريك له في الحياة و القدرة كما كان قبل ابتداء الخلق و هاتان النفختان قد حكاهما سبحانه حيث قال: وَ مٰا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ السَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (67) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اللّٰهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذٰا هُمْ قِيٰامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا وَ وُضِعَ الْكِتٰابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدٰاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمٰا يَفْعَلُونَ .

و الصور على ما قاله المفسرون قرن ينفخ فيه اسرافيل،و النفخة الأولى التي للأهلاك تأتي الناس بغتة و هم في اسواقهم،طلب معائشهم فاذا سمعوا صوت الصور تقطّعت قلوبهم و اكبارهم من شدّته فيموتوا دفعة واحدة،فيبقى الجبار جلّ جلاله فيأمر ريحا عاصفة فتقلع الجبال من اماكنها و تلقيها في البحار و تغور مياه البحار و كلّ ما في الأرض و يسطّح الأرض كلّها للحساب فلا يبقى جبل و لا شجر و لا بحر و لا وهدة و لا تلعة فتكون ارضا بيضا حتّى انّه روي لو وضعت بيضة في المشرق رؤيت من المغرب فيبقى سبحانه على هذا الحال مقدار اربعين سنة.

فاذا اراد أن يبعث الخلق قال مولانا الصادق عليه السّلام مطر السماء على الأرض اربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم و يأمر اللّه تعالى ريحا حتّى تجمع التراب الّذي كان لحما

ص:176

و اختلط بعضه ببعض و تفرق في البراري و البحار و في بطون السباع فتجمعه تلك الريح في القبر، فعند ذلك يجيء اسرافيل و صوره و يأمره بالنفخة الثانية،فاذا نفخ تركّبت اللّحوم و الأعضاء، و اعيدت الأرواح الى ابدانها و انشقّت القبور فخرجوا خائفين من تلك الصيحة ينفضون التراب عن رؤوسهم.

فيجيء الى كل واحد ملكان عند خروجه من القبر يقبض كلّ واحد منهما عضدا منه فيقولان لهكاجب رب العزة فيتحير من لقائهما و يأخذ الخوف و الفزع حتّى انّه في تلك الساعة يبيض شعر رأسه و بدنه بعد ما كان اسود،و عند ذلك يكثر في الأرض الزلزال حتّى تخرج ما فيها من الأثقال و تشيب الأطفال و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّه شديد.

روي انّ الأرض تزلزلت في زمن تخلف عمر بن الخطاب ففزع الناس اليه فقال:اغدوا بنا الى علي بن ابي طالب عليه السّلام فاتوا اليه و قام معهم بيده قضيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فخرج معهم الى البقيع و الأرض تزلزل فضربها بالقضيب.

و قال مالك:ايّها الأرض مالك لا تتكلمين؟فلمّا لم تتكلم قال عليه السّلام:ليست هذه تلك،فقيل له كيف هذا؟قال:انّ الأرض تزلزل عند القيامة فآتي انا اليها و انا ذلك الأنسان فأقول لها:مالك ايّتها الأرض فتحدّثني بأخبارها،و تقول ان اللّه تعالى اوحى اليّ ان اخرج ما في بطني من المعادن و الأموات و الأثقال فيومئذ يصدر الناس من الأرض متفرقين يطلبون ارض القيامة ليرون اعمالهم من خير و شر فيحشرون و هم حفاة عراة عزلا يعني بلا ختان ينظرون الى ما فوقهم من العذاب و الى ما تحت ارجلهم فاذا خرجوا من القبور بهذه الأبدان الدنيوية و أراد التوجه الى اللّه تعالى و الى عرصات القيامة فعند ذلك تتفرق احوال الناس في المضي الى عرصات القيامة و تنصب عليهم انواع العذاب او انواع الرحمة.

و قد روي ان الوحوش و البهائم يحشر يوم القيامة فتسجد للّه سجدة فتقول الملائكة ليس هذا يوم السجود هذا يوم الثواب و العقاب فتقول البهائم هذا سجود شكر حيث لم يجعلنا اللّه سبحانه من بني آدم و يقال انّ الملائكة تقول للبهائم لم يحشركم اللّه جلّ جلاله لثواب و لا عقاب و انّما حشركم لتشهدوا فضائح بني آدم،و في قوله تعالى وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ دلالة على حشرها و لكنّ الّذي ورد في احاديث اخرى انّ اللّه تعالى يحشر الوحوش و البهائم للعدل و ليقتصّ بعضها من بعض،كما قال عليه السّلام:يوم يقتص للجماء من القرناء،و ذلك انّ القرناء اذا نطحت الجمّاء أتي بها يوم القيامة فيؤخذ قرون القرناء و تعطي الجماء فتقتصّ منها.

ص:177

و كذلك جميع الحيوانات و كلّ ذي روح حتّى الذّباب يحشرها ليوصل اليها ما تستحقّه من الأعواض على الالآم التي لاقتها في الدنيا،فاذا اوصل اليها ما استحقت من الأعواض فمن قال انّ العوض دائم قال:تبقى منعمة على الأرض،و من قال تستحق العوض منقطعا قال:يديم اللّه تعالى لها تفضلا لئلا يدخل على المعوض غمّ بانقطاعه،و قال بعضهم اذا فعل اللّه بها ما استحقّته من الأعواضات صارت ترابا فلا يبقي منها الا ما فيه سرور ابني آدم و اعجاب بصورته كالطاووس و نحوه،و في بعض الأخبار انّ اللّه تعالى يخلق لها حضيرة بين الجنة و النار لمرعاها فتبقى فيه ابد الآبدين.

فاذا توجه الناس الى عرصات القيامة فمنهم من يبعث اللّه اليه ملائكة مع ناقة من نوق الجنّة فيركبها فتطير به الى الجنة و لا يرى عرصات القيامة الاّ مارّا عليها،و أكثر هؤلاء هم الفقراء و أهل الآفات في الدنيا و الصابرون على البلايا،و منهم من يمشي مع الناس الى عرصات القيامة و لكنّه يحشر بصورة الذرّ تطأه الخلائق تحت أرجلها حتّى يوافي القيامة و هؤلاء المتكبرون،امّا في المشي او في الأكل،او على قبول الحق من اهله،او على التكاليف الشرعية فلم يأتوا بها كما سبق في باب الكبر و العجب.

و منهم من يحشر أسود الوجه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحشر صاحب الظنبور يوم القيامة و هو اسود الوجه و بيده طنبور من نار و فوق رأسه سبعون ألف ملك بيد كل ملك مقدمة يضربون رأسه و وجهه،و يحشر صاحب الغناء من قبره اعمى و أخرس و أبكم،و يحشر الزاني مثل ذلك، و صاحب المزمار مثل ذلك،و صاحب الدفّ مثل ذلك و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:ما رفع أحد صوته بغناء الا بعث اللّه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتّى يمسك.

و منهم من يحشر تحت أظلاف الأنعام فهي تطأه بأظلافها فيموت و يحيى و هو تحت أظلافها، و هذا هو الذي منع زكاة الأنعام فتلك الأنعام التي منع زكاتها هي الّتي يحشرها اللّه تعالى حتّى تطأه بأرجلها،و اما من منع زكاة الغلاّت فيكلّفه اللّه تعالى بأن ينقل تراب تلك الأرض الى المحشر، بل في بعض الأخبار انّه يكلّف نقل ترابها من طبقات الأرض السابعة فلا يقدر عليه فتضربه الملائكة،و اما من منع زكاة النقدين فيأمر اللّه سبحانه باحضارها فتحضر و تحمى بنار جهنم فيكوى بها جبهة الّتي اعرض بها اوّلا عن الفقير،ثمّ يكوى بها جنبه الّذي أعرض به ثانيا عن مستحقها، ثمّ يكوى بها ظهره الذي هو اشد مراتب اعراضه عن الفقير و آخرها.

فاذا مشى الناس من القبور مشوا في الظلمات كقطع الليل و الملائكة تسوقهم و تنصب وراءهم سرادق من نار حتّى تسوقهم فلا يقفون،كما قال عليه السّلام:تسوقهم النار و تجمعهم الظلمة، و ذلك لأنّ الشمس و القمر يكوّر ان فيذهب نورهما و لا تبقى فيهما الا الحرارة،و تنحطّ الشمس

ص:178

عن مكانها كما اشار اليه سبحانه بقوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فتصير على رؤوس الخلائق حتّى تغللا حرارتها الهام و الدماغ،و لكن اللّه سبحانه يرسل الى المؤمنين غماما يظلهم من حرها.

و اما ظلمة القيامة فقد قال عليه السّلام:بشّر المشّائين في الظلمات الى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة،و ذلك انّ اللّه سبحانه يعطي المؤمن نورا يمشي به في تلك الظلمات فمنهم من يكون نوره مقدار خمسة فراسخ،و منهم الأقلّ على تفاوت مراتب اعمالهم و يكون الأقلّ منهم من نوره يرى به مواضع أقدامه فهؤلاء يقولون ربنا أتمم لنا نورنا،و في الخبر انّ مطالع هذه الأنوار هي أعضاء الوضوء كما ورد في نعوت مولانا امير المؤمنين عليه السّلام انّه قائد الغرّ المحجلية و هم المؤمنون،و تلك الأنوار يمشي بها المؤمن و اهل بيته و جيرانه كما روي انّ المؤمن ليشفع في مثل قبيلة ربيعة و مضر فيشفعه اللّه تعالى.

و قال العسكري عليه السّلام يأتي علماء شيعتنا القوّامون بضعفاء محبّينا و أهل ولايتنا يوم القيامة و الأنوار تسطع من تيجانهم،على رأس كلّ واحد منهم تاج بها قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة و دورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة،فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلّها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه و من ظلمة الجهل قد أنقذوه و من حيرة التيه أخرجوا الاّ تعلّق بشعبة من انوارهم،فترفعهم الى العلو حتى تحاذي بهم فوق الجنان ثم تنزلهم على منازلهم المعدّة في جوار أستاديهم و معلميهم و بحضرة أئمتهم الّذين كانوا اليهم يدعون،و لا يبقي ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان الاّ عميت عينه و صمّت اذنه و أخرّس لسانه و تحول عليه اشد من لهب النيران فتحملهم حتّى تدنيهم الى الزبانية فيدعوهم الى سواء الجحيم.

و منهم من يأتي من قبره و له لسانان من نار و هو الّذي كان في الدنيا يلاقي الناس بلسان و له في غيبتهم لسان آخر،و منهم من يأتي و لسانه مخرج من قفاه و هو الّذي كان يؤذي الناس بلسانه الى غير ذلك.

و امّا ارض القيامة التي يحشرون اليها فقد قال اللّه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فروي عن مولانا الصادق عليه السّلام انّه تبدل خبزا نقيا يأكل منه أهل المحشر حتّى يفرغوا من الحساب،حتّى قال له ابو حنيفة يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّ الناس في عرصات القيامة في شغل عن الأكل،فقال عليه السّلام كانّ شغل أهل النار بالعذاب اشد منهم و هم يقولون لأهل الجنّة أفيضوا علينا مما أفاض اللّه عليكم فيقولون لهم انّ طعام الجنة محرّم على أهل النار فيسقون حميما و صديدا،كما قال تعالى وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرٰابُ وَ سٰاءَتْ مُرْتَفَقاً و في بعض الأخبار انّ ارض القيامة جمر يتوقد فتقف عليه الخلائق و حرارة الشمس من فوق رؤوسهم.

ص:179

و في حديث الصادق عليه السّلام لأبن ابي ليلى ما تقول اذا جيء بأرض من فضة و سماوات من فضّة ثمّ أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيدك فأوقفك بين يدي ربّك و قال:انّ هذا قضي بغير ما قضيت؟فأصفّر وجه ابن ليلى،و في اخبار اخرى انّها تبدل بارض اخرى لم يكتسب عليها ذنوب، و وجه الجمع بين هذه الأخبار بوجوه:احدها انّ الأختلاف منزّل على اختلاف مراتب اهل القيامة،فالمؤمنون تكون ارض محشرهم خبزة بيضاء،و امّا الكافرون فأرض محشرهم الجمر و النار،و امّا القضاة و الفسّاق فيحشرون على ارض من فضّة محميّة بالماء تتوقد،و امّا غير هؤلاء فيحشر على ارض كهذه الأرض الاّ انّها غيرها و الكلّ يحتاج الى الخبز في عرصات القيامة لكن يكون بعضهم أهله كالمؤمنين و بعضهم أهل السؤال منهم.

و ثانيها انّه منزل على اراضي و قطعاتها فمنها جمر،و منها خبز،و منها فضّة،و كل الخلائق ترد على هذه القطعات لكنّها تكون على المؤمنين بردا و سلاما.

و ثالثها ان يكون الأختلاف محمولا على اختلاف احوالهم في القيمة،فيكون أرضهم قبل سؤالهم و ظهور فضائحهم و قبائحهم أرضا بيضاء من الخبز،و بعد ظهور اعمالهم و قبائحهم يدفعونهم الى تلك الأرض الأخرى،و بالجملة على اختلاف احوالهم و سوءها و ينبغي ان يبلغوا ارواحهم الى الموقف.

نور في موقف الناس في القيامة و بعض احوالهم

إعلم ثبتك اللّه تعالى انّ السماوات تطوى يوم القيامة كطي المكتوب فلا يبقى سماء و ينزل العرش من مكان ارتفاعه الى الأرض الّتي هي ارض القيامة،و في الأخبار انّها ظهر الكوفة، و ينزل اللّه سبحانه الجنّة من مكانها و كذا النار فتكون الجنّة و درجاتها و مراتبها اماكن السماوات و النيران مكانها موضع الأرضين السبع،فهذا في علوّ و هذا في انخفاض،و ينصب العرش وسط ارض القيامة فيستظلّ به من شاء اللّه من المؤمنين.

قال عليه السّلام:من عزيّ الثكلى أظله اللّه تعالى يوم لا ظل الا ظله،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:اذا كان يوم القيامة زيّن عرش رب العالمين بكلّ زينة ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مائة ميل، فيوضع احدهما على يمين العرش و الآخر على يسار العرش ثمّ يؤتى بالحسن و الحسين عليهما السّلام فيقوم الحسن عليه السّلام عن يمين العرش و الحسين عن يسار العرش بزيّن الرب تبارك و تعالى بهما عرشه كما يزيّن المرأة قرطيها هذا حال الحسنين عليهما السّلام ذلك،اليوم و امّا ابواهما فروي الصدوق ره مسندا الى ابي سعيد الخدري قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:اذا سألتم اللّه عز و جل فاسئلوه لي الوسيلة، فسئلت النبي صلّى اللّه عليه و آله عن الوسيلة،فقال:هي درجتي في الجنّة و هي الف مرقاة ما بين المرقاة الى

ص:180

المرقاة حضر(مسير خ ل)الفرس الجواد شهرا،و هي ما بين مرة جوهر الى مرقاة زبرجد،و مرقاة ياقوت الى مرقاة ذهب الى مرقاة فضة،فيؤتى بها يوم القيامة حتّى تنصب مع درجة النبيين كالقمر بين الكواكب فلا يبقى يومئذ نبي و لا صدّيق و لا شهيد الاّ قال:طوبى لمن كانت هذه الدّرجة درجته،فيأتي النداء عند اللّه عزّ و جلّ يسمع النبيين و جميع الخلق هذه درجة محمّد صلّى اللّه عليه و آله،فأقبل أنا يومئذ متزر بربطة من نور على تاج الملك و اكليل الكرامة،و علي بن ابي طالب عليه السّلام امامي و بيده لوائي و هو لواء الحمد،مكتوب عليه لا اله الا اللّه،المفلحون هم الفائزون باللّه،و اذا مررنا بالنبيين قالوا:هذان ملكان مقرّبان لم نعرفهما و لم نرهما،و اذا مررنا بالملائكة قالوا:هذان نبيان مرسلان حتى اعلو الدرجة و علي عليه السّلام يتبعني حتّى اذا صرت في اعلى درجة منها و علي عليه السّلام أسفل مني بدرجة فلا يبقى يومئذ نبيّ و لا صدّيق و لا شهيد الاّ قال:طوبى لهذين العبدين ما أكرمهما على اللّه،فيأتي النداء من قبل اللّه عز و جل يسمع النبيين و الصدّيقين و الشهداء و المؤمنين هذا حبيبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و هذا وليّ علي عليه السّلام طوبى لمن احبه و ويل لمن أبغضه و كذب عليه.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:فلا يبقى يومئذ احد أحبّك يا علي الاّ استروح الى هذا الكلام و ابيضّ وجهه و فرح قلبه،و لا يبقى احد ممّن عاداك و نصب لك حربا او جحد لك حقّا الاّ اسودّ وجهه و اضطربت قدماه،فبينا انّا كذلك اذا ملكان قد اقبلا على امّا احدهما فرضوان خازن الجنّة،و امّا الآخر فمالك خازن النار،فيدنو رضوان فيقول السلام عليك يا احمد فأقول:و عليك السّلام ايّها الملك من انت؟ما احسن وجهك و اطيب ريحك؟فيقول:انا رضوان خازن الجنّة و هذه مفاتيح الجنّة بعث بها اليك رب العزّة فخذها يا أحمد،فأقول:قد قبلت ذلك من ربي فله الحمد على ما فضّلني به ادفعها الى اخي علي بن ابي طالب عليه السّلام،ثم يرجع رضوان فيدنو مالك فيقول:

السّلام عليك يا أحمد فأقول:و عليك السّلام يا ملك من انت؟فما اقبح وجهك و انكر رؤيتك؟ فيقول:انا مالك خازن النّار و هذه مقاليد النّار بعث بها اليك ربّ العزة فخذها يا احمد فأقول:قد قبلت ذلك من ربي فله الحمد على ما فضّلني به ادفعها الى اخي عليّ بن ابي طالب عليه السّلام،ثمّ يرجع مالك فيقبل علي عليه السّلام و معه مفاتيح الجنّة و مقاليد النار حتّى نقف على عجزة جهنم و قد تطاير شررها و علا زفيرها و اشتدّ حرّها و علي عليه السّلام أخذ بزمامها فيقول:جهنم جزني يا علي فقد أطفأ نورك لهبي،فيقول لها عليه السّلام قري يا جهنم خذي هذا و اتركي هذا خذي هذا عدوي و اتركي هذا وليي فلجهنم يومئذ اشد مطاوعة لعلي عليه السّلام من غلام احدكم لصاحبه فان شاء يذهبها يمينه و ان شاء يذهبها يساره،و للجنّة يومئذ اشد مطاوعة لعلي عليه السّلام فيما يأمرها به من جميع الخلائق.

ص:181

و عن حذيفة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اذا كان يوم القيامة ضرب لي عن يمين العرش قبة من ياقوتة حمراء،و ضربت لإبراهيم عليه السّلام من الجانب الآخر قبة من درّة بيضاء،و بينهما قبة من زبر جدة خضراء لعلي بن ابي طالب عليه السّلام فما ظنّكم بحبيب بين خليلين.

و في خبر آخر انّ الحسن عليه السّلام يؤتيي فيعلموا ذلك المنبر فيجلس اسفل من درجة ابيه عليهما السّلام بدرجة و كذا الحسين و باقي الأئمة عليهم السّلام كلّ اسفل بدرجة،ثمّ يؤتى بابراهيم و نوح و موسى و عيسى و آدم يجلس كلّ واحد في درجته،يكسى كلّ واحد حلّة على قدر مرتبته و درجته فيؤتى بأهل المحشر و يقفون صفوفا و عددهم مائة الف صف و عشرون الف صف،امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله ثمانون الف صف و الباقون امم ساءر الأنبياء،فاوّل ديوان يكون يوم القيامة ديوان فاطمة الزهراء عليها السّلام مع من ظلمها في نفسها و في اولادها،و اول دم يؤخذ دم ابنها المحسن كما وردت به الروايات و ذلك الديوان اصعب هول يكون على اهل المحشر لأنّ اللّه تعالى يغضب لغضبها حتّى يخشى على الخلق كلّهم من غضب اللّه تعالى.

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:انّ اللّه تعالى اذا بعث الأوّلين و الآخرين نادى منادي ربّنا من تحت عرشه يا معشر الخلائق غضّوا ابصاركم لتجوز فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء العالمين على الصّراط،فيغض الخلق كلّهم ابصارهم فتجوز فاطمة على الصراط لا يبقى احد في القيامة الاّ غض بصره عنها الاّ محمد و علي و الحسن و الحسين و الطاهرون من اولادهم فانّهم محارمها،فاذا دخلت الجنة بقي مرطها ممدودا على الصّراط طرف منه بيدها و هي في الجنّة و طرف في عرصات القيامة،فينادي منادي ربنا ايّها المحبون لفاطمة تعقلّوا بأهداب مرط فاطمة سيّدة نساء العالمين،فلا يبقى محبّ لفاطمة الاّ تعلق بهدبة من اهداب مرطها حتّى يتعلق بها اكثر من الف فياء و الف فياء، قالوا:و كم فياء واحد يا رسول اللّه؟قال:الف الف و ينجي بها من النار.

و عن ابي جعفر عليه السّلام لفاطمة وقفة على باب جهنم فاذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كلّ رجل مؤمن او كافر،فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه الى النار فتقرأ فاطمة بين عينيه محبّا،فتقول:

الهي و سيدي سمّيتني فاطمة و فطمت بي من تولاني و تولاّ ذريّتي من النار،و وعدك الحق و انت لا تخلف الميعاد،فيقول اللّه عز و جل صدقتي يا فاطمة اني سمّيتك فاطمة و فطمت بك من احبك من النار و تولاك و أحب ذريتك و تولاهم من النار وعدي الحق و انا لا اخلف الميعاد،و انّما امرت بعبدي هذا الى النار لتشفعي فيه فأشفعك فيتبين لملائكتي و انبيائي و رسلي و أهل الموقف موقعك منّي و مكانك عندي فمن قرأت بين عينيه مؤمنا او محبّا فخذي بيده و ادخليه الجنّة.

و روي الصدوق باسناده الى النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:اذا كان يوم القيامة تقبل ابنتي فاطمة على ناقة من نوق الجنّة مدبجة الجنبين،خطامها من لؤلؤ رطب،قوائمها من الزمرد الأخضر ذنبها من

ص:182

المسك الأذفر،عيناها يا قوتتان حمرا و ان عليها قبة من نور يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها داخلها عفو اللّه و خارجها رحمة اللّه،على رأسها تاج من نور للتاج سبعون ركنا كلّ ركن مرصّع بالدر و الياقوت يضيء كما يضيء الكواكب الدرّي في افق السماء،و عن يمينها سبعون الف ملك و جبرئيل آخذ بخطام الناقة ينادي بأعلى صوته غضّوا ابصاركم حتّى تجوز فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله،فلا يبقى يومئذ نبي و لا رسول و لا صدّيق و لا شهيد الاّ غضّوا ابصارهم حتّى تجوز فاطمة عليها السّلام،فتسير حتى تحاذي عرش ربها جلّ جلاله فترمي بنفسها على ناقتها و تقول إلهي و سيدي احكم بيني و بين من ظلمني،اللهم احكم بيني و بين من ظلمني اللهم احكم بيني و بين من ظلمني اللهم احكم بيني و بين من قتل ولدي فاذا النداء من قبل اللّه عزّ و جلّ يا حبيبتي و بنت حبيبي سلي تعطي و اشفعي تشفعي فوعزتي و جلالي لا يتجاوز بي اليوم ظلم ظالم فتقول كالهي و سيدي ذرّيتي و شيعتي و شيعة ذريتي و محبّي و محبّ ذريتي فاذا النداء من قبل اللّه جلّ جلاله كاين ذرية فاطمة و شيعتها و محبوها و محبّو ذريتها؟فيقبلون و قد احاط بهم ملائكة الرحمة فتقدّمهم فاطمة حتّى تدخلهم الجنّة.

اقول و للمؤمنين شفعاء و هم الأئمة عليهم السّلام قال اللّه تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ يعني كما قال الصادق عليه السّلام:يقال يا شيعة جعفر بن محمد و يا شيعة مهدي آل محمد فتقوم شيعة كل امام و ذلك الأمام يقدمهم حتّى يدخلهم الجنة،و امّا المخالفون فانّ لهم ائمة يوردونهم موارد الهلاك كما قال تعالى و منهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّٰارِ و الثلاثة و من حذا حذوهم من الأمويين و العبّاسيين.

و اعلم انّ ليوم القيامة مواقف و الناس في كلّ موقف على حال من الأحوال،و في احتجاج مولانا امير المؤمنين عليه السّلام على الزّنديق الّذي ذهب الى انّ في آيات القرآن تناقضا حيث قال:لو لا ما في القرآن من الأختلاف و التناقض لدخلت في دينكم فقال عليه السّلام:و ما هو؟فعدّ من الأياب الى ان قال:و قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلاٰئِكَةُ صَفًّا لاٰ يَتَكَلَّمُونَ و قوله رَبِّنٰا مٰا كُنّٰا مُشْرِكِينَ و قوله يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و قوله إِنَّ ذٰلِكَ لَحَقٌّ تَخٰاصُمُ أَهْلِ النّٰارِ و قوله لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ و قوله اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ و ذلك انّ ظاهر هذه الآيات التناقض فأجابه عليه السّلام بأنّ ذلك المواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين الف سنة،و المارد يكفر اهل المعاصي بعضهم ببعض و يلعن بعضهم بعضا و الكفر في هذه الآية البراءة يقول يبرأ بعضهم من بعض،و نظيرها في سورة ابراهيم،و قول الشيطان انّي كفرت بما اشركتموني من قبل.

ثمّ يجتمعون في موطن آخر يبكون فلو انّ تلك الأصولت فيها بدت لأهل الدنيا لا زالت جميع الخلق عن معائشهم و انصدعت قلوبهم الاّ ما شاء اللّه و لا يزالون يبكون حتّى يستفد

ص:183

و الدموع و يفضون الى الدماء،ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون:و اللّه ربنا ما كنّا مشركين،و هؤلاء خاصّة هم المقرون في دار الدنيا بالتوحيد فلم ينفعهم ايمانهم اللّه لمخالفتهم رسله و شكّهم فيما اتوا به عن ربه،و نقضهم عهودهم في اوصيائهم و استبدالهم الذي هو ادنى بالذي هو خير،و كذبهم اللّه فيما انتحلوه من الأيمان بقوله انظر كيف كذبوا على انفسهم،فيختم اللّه على افواههم و يستنطق الأيدي و الأرجل و الجلود فتشهد بكلّ معصية كانت منهم ثمّ يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا:انطقنا اللّه فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من صعوبة الأمر و عظيم البلاء،فذلك قوله عزّ و جلّ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صٰاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ الآية.

ثم يجتمعون في موطن آخر يستنطق فيه اولياء اللّه و اصفياؤه فلا يتكلم احد الاّ من اذن له الرحمن و قال صوابا فيقام الرسل فيسألوا عن تأدية الرسالات التي حملوها الى اممهم،فاخبروا انّهم ادّوا ذلك الى اممهم و تسأل الأمّة فيجحدوا كما قال اللّه تعالى فلنسألن الذين ارسل اليهم و لنسألن المرسلين،فيقولون:ما جاءنا من بشير و لا نذير فيستشهد الرّسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيشهد بتصديق الرّسل و تكذيب من جحدها من الأمم،فيقول لكل امّة منهم بلى قد جاءكم بشير و نذير و اللّه على كل شيء قدير أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل اليكم رسالاتهم، و لذلك قال اللّه تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه و آله فكيف اذا جئنا من كل امّة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا، فلا يستطيعون ردّ شهادته خوفا من ان يختم اللّه على افواههم و ان تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون و يشهد على منافقي قومه و امّته و كفّارهم بالحادهم و عنادهم و نقضهم عهده و تغييرهم سنّته و اعتدائهم على اهل بيته،و انقلابهم على اعقابهم و ارتدادهم على ادبارهم و احتذائهم في ذلك سنّة من تقدّمهم من الأمم الظالمة الخائنة لأنبيائها فيقولون بأجمعهم:ربّنا غلبت علينا شقوتنا و كنّا قوما ضالّين.

ثمّ يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو المقام المحمود فيثني على اللّه عزّ و جلّ بما لم يثن عليه أحد مثله،ثم يثني على الملائكة كلهم فلا يبقى ملك الاّ اثنى عليه محمد صلّى اللّه عليه و آله ثم يصلي(يثني خ)على الأنبياء عليهم السّلام بما لم يثن عليهم احد مثله ثمّ يثني على كل مؤمن و مؤمنة يبدأ بالصّديقين و الشهداء ثمّ الصالحين فيحمده اهل السماوات و اهل الأرضين،فذلك قوله تعالى عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم حظ و نصيب و ويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ و لا نصيب.

ثم يجتمعون في موطن آخر و هذا كله قبل الحساب،فاذا اخذ في الحساب فذلك محلّ المصائب و الأهوان فهو تعالى و تقدّس يحاسب المؤمنين بالملاطفة و الرفق،و يظن كل واحد انّ اللّه

ص:184

سبحانه يحاسب و لا يحاسب غيره فهو تعالى في اللحظة الواحدة يحاسب الجمّ الفقير،و امّا غير المؤمنين فلمّا لم يكونوا قابلين لأن يكون اللّه سبحانه هو الذي يخاطبهم يأمر ملائكة بحسابهم و هم الذين لا ينظر اللّه اليهم و لا يكلمهم يوم القيامة و الويل لهؤلاء و امثالهم.

و في الحديث انّ اعرابيا جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال:يا رسول اللّه من يحاسب الخلائق غدا؟ فقال:اللّه يحاسبهم،فقال:نجونا و اللّه لأنّ الكريم اذا حاسب عفى،و الحال كما قال الأعرابي، و يؤيده ما روي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان في بعض الأسفار فمرّ بامرأة تخبز و معها صبيّ لها،فقيل لها انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمرّ فجاءت و قالت يا رسول اللّه بلغني انّك قلت انّ اللّه ارحم بعبده من الوالدة بولدها أ فهو كما قيل لي؟فقال:نعم فقالت:انّ الأم لا تلقي ولدها في هذا التنور،فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال:انّ اللّه لا يعذب بالنار الاّ من أنف ان يقول لا اله الا اللّه،أقول المراد بقول لا اله الا اللّه مع شرائطها كما ورد التصريح به في الأخبار،و قال الأمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام انا من شرائطها يعني القول باني امام واجب الطاعة و لا يوجد هذا الا في هذه الفرقة الأماميّة من بين فرق الشيعة كلّها و فرق المسلمين ايضا،و من هذا قال الجواد عليه السّلام زيارة ابي الفضل من زيارة جدي ابي عبد اللّه الحسين عليه السّلام لأن جدي عليه السّلام يزوره كلّ احد و امّا ابي فلا يزوره الاّ الخالص من الشيعة، و ذلك انّ الشيعة تتفرق الفرق المختلفة حتّى تبلغ الى ملانا علي الرضا عليه السّلام فاذا بلغت اليه قالت بما عنده من الأئمة فلا يزوره اذا الاّ هذه الفرقة الاثنى عشرية الأمامية.

فاذا اخذت الملائكة في حساب الخلائق فروى الصدوق ره باسناده الى مولانا الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام قال:اوّل ما يسأل عنه العبد اذا وقف بين يدي اللّه عز و جل عن الصلوات المفروضة و عن الزكاة المفروضة و عن الصيام المفروض و عن الحج المفروض و عن ولايتنا اهل البيت فان أقرّ بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته و صومه و زكاته و حجّه و ان لم يقر بولايتنا بين يدي اللّه عز و جل لم يقبل اللّه شيئا من اعماله.

و روى شيخنا الكليني و غيره مسندا الى ملانا الأمام ابي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام قال:كلّ سهو في الصلاة يطرح منها غير انّ اللّه يتم بالنوافل انّ اوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فان قبلت قبل ما سواها،و لا منافاة بين الخبرين اذا لولاية شرط لقبول كل الأعمال الصلاة و غيرها و امّا و اما الصلاة فهي شرط لقبول ما سواها من الأعمال و بعد هذا يأخذ اللّه و الملائكة في سؤال الخلائق فيقول اللّه لعبده:يا ايها الأنسان ما غرك بربك الكريم؟قال عليه السّلام:ان اللّه سبحانه علّم عباده الجواب و ذلك انّه قال في سؤاله:ما غرّك بربك الكريم و لم يقل بربّك القهار و الجبار فيقول في الجواب يا رب غرّني كرمك،و ذلك انّ العبد اذا عرف من مولاه الحمة و الكرم ربّما تجري على

ص:185

معاصيه في هذه الحالة ترى كلاّ يطلب بحقّه اما ان يكون مالا او دما او ضربا او شتما الى غير ذلك من الحقوق.

روي ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه:أ تدرون من المفلس؟قالوا:المفلس فينا من لا درهم له و لا مال و لا متاع،قال:انّ المفلس من امتي من اتى يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة و يأتي قد شتم هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطي هذا من حسناته و هذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل ان يقضي ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه ثمّ يطرح في النار.

و في الرواية ان عيسى عليه السّلام دعى على قبر فأحيا اللّه تعالى من فيه،فسأله عن حاله فقال:

كنت حمّالا فحملت يوما حطبا لرجل فكسرت خلالا و خللت به اسناني فأنا مطالب به مذ مت.

و في الآثار ان رجلا فقيرا مات فلمّا رفعت جنازته بالغداة لم يفرغوا من دفنه الى العشاء لكثرة الزّحام فراي في المنام فقيل ما فعل اللّه بك؟فقال:غفر لي و احسن اليّ الكثير تلاّ انّه حاسبني حتّى طالبني بيوم كنت صائما و كنت قاعدا على حانوت صديق لي حنّاط،فلمّا كان وقت الأفطار أخذت حبّة حنطة من حانوته فكسرتها نصفين فتذكرت انّها ليست لي فألقيتها على حنطته فأخذ من حسناتي قيمة ما نقص من تلك الحبّة من الكسر في فمي.

في الأخبار انّه يؤخذ بدانق فضّة سبعمائة صلاة مقبولة فيعطاها الخصم،و روي ايضا انّه يؤخذ بيد العبد يوم القيامة على رؤوس الأشهاد،فينادي الا من كان له قبل هذا حق فليأخذه، و لا يكون اشد على اهل القيامة من ان يروا من يعرفهم مخافة ان يدعي عليه شيئا.

و في الخبر انّ رجلا اشترى لحما من قصّاب ثم اتى به و ردّه عليه،فاذا كان يوم القيامة حاسبه اللّه سبحانه على رسم اللحم الذي بقي في يده و أخذ مناته و أعطى القصّاب،و من هذا ورد في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:درهم يردّه العبد الى الخصماء خير له من عبادة الف سنة و خير له من عتق الف رقبه و خير له من الف حجة و عمرة،و اعطاه اللّه لكل دانق ثواب نبي و بكل درهم مدينة من درّة حمراء،و قال عليه السّلام ك من ارضى الخصماء من نفسه وجبت له الجنّة بغير حساب،و يكون في الجنّة رفيق اسماعيل بن ابراهيم عليهما السّلام.

و قال عليه السّلام:انّ في الجنّة مدائن من نور و على المدائن ابواب من ذهب مكلّل بالدرّ و الياقوت،و في جوف المدائن قباب من مسك و زعفران،من نظر الى تلك المدائن يتمنى ان يكون له مدينة منها،قالوا:يا نبي اللّه لمن هذه المدائن؟قال للتائبين النادميين المرضيّين الخصماء من انفسهم،فانّ العبد اذا ردّ درهما الى الخصماء اكرمه اللّه كرامة سبعين شهيدا،و ان درهما يرده العبد الى الخصماء خير له من صيام النهار و قيام الّليل،زمن رده ناداه ملك من تحت العرش يا عبد اللّه استأنف العمل فقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك.

ص:186

و قال عليه السّلام:اشدّ ما يكون على الأنسان يوم القيامة ان يقوم اهل الخمس فيتعلقّوا بذلك الرجل،و يقولوا ربّنا انذ هذا الرجل قد اكمل خمسا و تصرف فيه و لم يدفعه الينا،فيدفع اللّه اليهم عوضه من حسنات ذلك الرجل و كذلك اهل الزكاة.

و قال عليه السّلام كلا يرفع الأنسان قدما عن قدم حتّى يسئل عن عمره فيما افناه و عن ماله من اين اكتسبه و فيما انفقه،فاذا قام سوق الحساب وضعت الموازين و نشرت الدّواوين و ذلك لأنّ الأعمال تتجسم في تلك النشأة فاذا تجسمت أمر اللّه تعالى بوزنها ليرى العاملون راجح اعمالهم و ناقصها عيانا فلا يظنون الظلم عليه تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

روي ان رجلا من الصالحين راى في المنام فقيل ما فعل اللّه بك؟فقال:حاسبني فخفّت كفّه حسناتي فوقعت فيها صرة فثقلت كفه حسناتي،فقلت ما هذا؟فقيل كف تراب القيته في قبر مسلم فرجّح بذلك المقدار ميزاني،و روي ايضا ان رجلا وزنت حسناته و سيئاته فرجحت سيئاته فأراد الملائكة ان يأخذوه الى النار فقال اللّه تعالى:لا تأخذوه و ان له عندي عملا لا تدرون انتم فيه و هو انّه كان اذا شرب الماء صلّ على الحسين بن علي عليهما السّلام و لعن ظالميه،فيوضع في الكفّة الأخرى فيرجح على تلك السّيئات كلّها فيؤمر به الى الجنة.

و روي ان اللّه تعالى يأمر الملائكة فتزن اعمال رجل فترجح سيئاته على حسناته فيأمر اللّه تعالى به الى النار فتأخذه الملائكة فيلتفت الى ورائه فيقول له اللّه سبحانه:لم تلتفت؟فيقول ربّ ما كان ظنّي بك ان تدخلني النار،فيقول اللّه تبارك و تعالى:ملائكتي و عزتي و جلالي ما احسن الظّن بي يوما واحدا و لكن لدعواه حسن الظّن ادخلوه الجنّة.

فان قلت قد روي عن مولانا الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام انّ الموازين الّتي تنصب يوم القيامة هم الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و هم الذين يعرفون أعمال الخلائق،فكيف وجه التّوفيق؟حتى انّ الصدوق طاب ثراه و جماعة من المحدثين ذهبوا الى انّ الموازين هم عدل اللّه تعالى و هم الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام،قلت:المؤمنون يجوز ان يكون ميزانهم هو عدل اللّه و الأنبياء فاذا قالوا لهم:هذه حسناتكم و هذه سيئاتكم و هذا ارجح من هذا لم يتّهموا اللّه تعالى و لا ملائكته الكاتبين،و اما المنافقين و الكفّار فميزان اعمالهم ميزان موجود في ارض القيامة له كفّتان فيوزن به اعمالهم لينظروا اليها بأعينهم و يعرفوا مقدار الرّاجح من المرجوح.

قال ابن بابويه تغمده اللّه برحمته:حساب الأنبياء و الرّسل و الأئمة عليهم السّلام يتولاه اللّه تعالى و يتولّى كل نبي حساب اوصيائه و يتولى الأنبياء حساب الأمم و اللّه شهيد على الأنبياء و الرسل و هم الشهداء على الأوصياء و الأئمة عليهم السّلام و هم الشهداء على الأمم و ذلك قوله تعالى ليكون الرسول عَلَيْهِمْ شَهِيداً و ما قدمناه في شأن الحساب هو المفهوم من اكثر الأخبار فاذا وزنت الأعمال

ص:187

بواحد من الميزانين وقع الأحباط و قد نفاه اكثر اصحابنا تبعا للخواجا نصير الدين الطوسي و قبل الكلام فيه لا بد من تعريفه ليتضح حقيقة الحال فنقول له ثلاث تعاريف:

اوّلها ما قاله المعتزلة من انّ معناه اسقاط الثواب المتقدم بالمعصية المتأخّرة و تكفير الذنوب المتقدمة بالطاعات المتأخرة.

و ثانيها قول ابي عليّ الجبائي من انّ المتأخر يسقط المتقدم و يبقى هو على حاله.

و ثالثها ما ذهب اليه ابو هاشم من انّ الأحباط هو الموازنة و هو ان ينتفي الأقلّ بالأكثر و ينتفي من الأكثر بالأقلّ ما ساواه و يبقى الزائد مستحقا و هذا المعنى ممّا لا ينبغي الشك في صحته كما لا ينبغي الشك في بطلان القولين لأستلزامهما الظلم على العدل تعالى عنه علوا كبيرا.

و الآيات و الأخبار دالّة عليه قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ و قول الأمام عليه السّلام لأمراته هذا المكان الّذي احبط اللّه فيه حجّك العام الأوّل،و قوله عليه السّلام من قبّل غلاما بشهوة احبط اللّه منه عمل اربعين سنة الى غير ذلك من الأخبار،و قد استدلّ المتكلمون من اصحابنا رضوان اللّه عليهم بقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و هذا الأستدلال كما ترى و ذلك انه اذا كان الأحباط على ما قلناه يكون قد رأى العملين الخير و الشر، و ذلك انّه لو لا الشرّ لحصل نعيم الأبد من غير عذاب و لو لا الخير لخلّد في العذاب فهو قد راى خير هذا و شرّ هذا و هو ظاهر،و العجب من محققي اصحابنا رضوان اللّه عليهم كيف اتّفقوا على بطلانه مع دلالة الآيات و الأحاديث عليه و عدم منافاته للدلائل العقليّة.

فاذا وقف الناس للحساب اخذهم العطش ثمّ ينظرون فيرون حوض الكوثر و هو كما قال صلّى اللّه عليه و آله انّ عرضه ما بين مكّة و صنعاء اليمن و فيه اكواب بعدد كواكب السماء و ساقيه امير المؤمنين عليه السّلام،و له خدّام من الملائكة و الغلمان و هم الذين يسقون المؤمنين بأمره،فذا جاء المؤمن نظر الى وجهه و عرفه لأن بين عيني المؤمن مكتوب هذا مؤمن و بين عيني الكافر مكتوب هذا كافر،فان كان مؤمنا سقاه شربة لن يظمأ بعدها ابدا و ان كان مخالفا امر الملائكة فطردوه عن الحوض حتّى انّ المخالف ربّما دخل في غمار المؤمنين فتخرجه الملائكة من بينهم.

و روي ان ابن بابويه ره باسناده الى مولانا الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام قال:قالت فاطمة عليها السّلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا ابتاه اين القاك يوم الموقف العظيم و يوم الأهوال في يوم الفزع الأكبر؟قال:يا فاطمة عند باب الجنة و معي لواء الحمد و انا الشفيع لأمتي الى ربي،قالت:

فان لم القك هناك؟قال:ألقيتني عند الحوض و انا اسقي امتي،قالت:يا ابتاه فان لم القك هناك؟قال:ألقيتني على الصراط و انا قائم أقول رب سلّم امّتي،قالت:فان لم القك هناك؟قال:

ص:188

ألقيتني على الصراط و انا قائم أقول رب سلم ربّ سلم امتي،قالت:فان لم القك هناك؟قال:

ألقيتني و انا عند الميزان اقول رب سلم امتي قالت فان لم القك هناك؟قال:القيتني على شفير جهنم أمنع شررها و لهبها عن امتي،فاستبشرت فاطمة عليها السّلام بذلك،و لا منافاة بينهما لأنّ يوم القيامة اذا كان مقداره خمسين الف سنة كان امير المؤمنين عليه السّلام يسقي مدّة و النبي صلّى اللّه عليه و آله يسقي مدذة أخرى،و ذلك لأنّ كلّ واحد منهما له اشغال متعددة و ليس شغل امير المؤمنين عليه السّلام هو الحوض وحده بل الحوض من اقلّ اشغاله و انّ مقام الشفاعة و القسمة بين الجنّة و النار و غيرها لأعظم منه.

فاذا ميّزوا اهل الجنّة من أهل النار أمر اللّه سبحانه ان يؤتى بالموت عليه السّلام فيؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح بين الفريقين ينظر اليه اهل الجنة و اهل النار ففي ذلك الوقت لو انّ احدا مات من الهم لمات اهل النار حيث انّهم علموا انّ العذاب داءم غير منقطع،و لو انّ احدا مات فرحا لمات اهل الجنة حيث انّهم علموا انّ الخلود في الجنّة مقيم،و ذلك انّه ليس من شيء ينغص العيش و الحياة سوى الموت فاذا ارتفع ارتفعت الكدورات من الخواطر،قال الغزالي في احيائه هذا الحديث محمول على التّشبيه و المجاز و معناه انّ اهل الكبش كما انّهم ييأسون من حياته اذا ذبح فكذلك اهل الجنة و النار ييأسون من الموت عند ذلك الكبش الذي سمّي موتا،و هذا التأويل غير محتاج اليه مع امكان الحمل على الحقيقة و ذلك لأنّ الأعراض المعنوية و الحسيّة تصير في تلك النشأة اجساما و الأخبار الواردة بهذا المضمون مستفيضة بل متواترة.

روى الصدوق ره باسناده الى مولانا الأمام ابي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السّلام قال:اذا كان حيث يبعث اللّه تبارك و تعالى العباد اتى بالأيام يعرفها الخلائق السّلام باسمها و حليتها يقدمها يوم الجمعة له نور ساطع تتبعه سائر الأيام كأنها عروس كريمة ذات وقار تهدي الى ذي حلم و يسار ثم يكون يوم الجمعة شاهدا و حافظا لمن سارع الى الجمعة،ثمّ يدخل المؤمنون الى الجنة على قدر سبقهم الى الجمعة.

و روى شيخنا الكليني باسناده الى سعد الخفاف عنه عليه السّلام انّه قال:يا سعد تعلّموا القرآن فانّ القرآن يأتي يوم القيامة في احسن صورة نظر اليها الخلق و الناس صفوف عشرون و مائة الف صف ثمانون الف صف من امة محمد صلّى اللّه عليه و آله،و اربعون الف صف من سائر الأمم،فيأتي على صف المسلمين في صورة رجل فيسلّم فينظرون اليه ثم يقولون لا اله الا اللّه الحليم الكريم انّ هذا الرجل من المسلمين نعرفه بصفته غير انّه كان اشد اجتهادا منّا في القرآن فمن هناك أعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه،ثمّ يتجاوز حتى يأتي على صف الشهداء فينظر اليه الشهداء ثم يقولون:لا اله الا اللّه الرّحيم انّ هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته و صفته غير انّه من شهداء البحر فمن هناك اعطى من البهاء و الفضل ما لم نعطه قال:فيتجاوز حتّى على صف شهداء البحر

ص:189

في صورة شهيد فينظره شهداء البحر و يكثر تعجبهم و يقولون انّ هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته و صفته غير انّ الجزيرة التي اصيب فيها كانت اعظم هولا من الجزيرة التي اصبنا فيها فمن هناك ينظر النبيّون و المرسلون اليه فيشتدّ لذلك تعجّبهم و يقولون:لا اله الا اللّه الحليم الكريم انّ هذا النبيّ مرسل نعرفه بسمته و صفته غير انّه أعطى فضلا كثيرا،قال:فيجتمعون فيأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيسألونه و يقولون:يا محمّد من هذا؟فيقول لهم أو ما تعرفونه؟هذا ممّن لا يغضب اللّه عزّ و جلّ عليه،فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:هذا حجة اللّه على خلقه،فيسلّم ثمّ يجاوز حتّى يأتي صف الملائكة في صورة ملك مقرّب فينظر اليه الملائكة فيشتدّ تعجبهم و يكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله و يقولون:تعالى ربنا و تقدّس هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته و صفته غير انّه كان اقرب الملائكة الى اللّه عز و جل مقاما فمن هناك ألبس من النور و الجمال ما لم نلبس،ثمّ يجاوز حتّى ينتهي الى رب العزّة تبارك و تعالى فيخر تحت العرش فيناديه تبارك و تعالى يا حجتي في الأرض و كلامي الصّادق النّاطق ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه فيقول اللّه تبارك و تعالى كيف رأيت عبادي فيقول:يا رب منهم من صانني و حافظ عليّ و لم يضيّع شيئا،و منهم من ضيعني و استخف بحقي و كذّب بي و انا حجّتك على جميع خلقك،فيقول اللّه تبارك و تعالى و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لأثيبن عليك اليوم أحسن الثواب و لأعاقبنّ عليك اليوم اليم العقاب.

قال:فيرجع القرآن رأسه في صورة اخرى قال:فقلت له يا ابا جعفر في ايّ صورة يرجع؟قال:في صورة رجل شاحب متغيّر يبصره اهل الجمع،فيأتي الرجل من شيعتنا الّذي كان يعرفه و يجادل به أهل الخلاف فيقوم بين يديه فيقول ما تعرفني؟فينظر اليه الرجل فيقول لا أعرفك يا عبد اللّه،قال:فيرجع في صورته التي كان عليها في الخلق الأول فيقول ما تعرفني؟فيقول:نعم فيقول القرآن انا الّذي اسهرت ليلك و اتعبت عينيك و سمعك الا و ان كل تاجر قد استوفى تجارته و انا وراك اليوم،قال فينطلق به الى رب العزة تبارك و تعالى فيقول:يا رب عبدك و انت اعلم به قد كان مواظبا عليّ يعادى بسببي و يحبّ فيّ و يبغض فيقول اللّه عزّ و جلّ ادخلوا عبدي جنذتي و اكسوه حلّة من حلال الجنّة و توّجوه تياجا،فاذا فعل به ذلك عرض على القرآن فيقال له:هل رضيت بما صنع بوليّك؟فيقول:يا ربّ انّي استقل هذا فزده مزيد الخير كلّه فيقول و عزّتي و جلالي و علوي و ارتفاع مكاني لأنحلنّ له اليوم خمسة اشياء مع المزيد له و لمن كان بمنزلته الا انهم شباب لا يهرمون و اصحاء لا يسقمون و اغنياء لا يفتقرون و فرحون لا يحزنون و احياء لا يموتون،ثمّ تلا هذه الآية لا يذوقون فيها الموت الاّ الموتة الأولى قال:قلت جعلت فداك يا ابا جعفر و هل يتكلّم القرآن؟ قال:فتبسم ثم قال:رحم اللّه الضعفاء من شيعتنا انّهم اهل تسليم،ثمّ قال:نعم يا سعد و الصلاة تتكلم و لها صورة و خلق تأمر و تنهى،قال سعد:فيتغير لذلك لوني و قلت:هذا شيء لا استطيع

ص:190

التكلم به في الناس فقال ابو جعفر عليه السّلام:و هل الناس الا شيعتنا فمن لم يعرف الصلاة فقد انكر حقنا،ثم قال:يا سعد اسمعك كلام القرآن؟قال سعد:فقلت بلى صلّى اللّه عليك فقال:ان الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر اللّه اكبر،فالنهى كلام الفحشاء و المنكر رجال و نحن ذكر اللّه و الأخبار الواردة بهذا المضمون اكثر من ان تنكر.

و من اهوال الناس في عرصات القيامة ما رواه الصدوق ره باسناده الى مولانا الأمام ابي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السّلام قال:لمّا نزلت هذه الآية و جيء يومئذ بجهنم سئل عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:اخبرني الروح الأمين انّ اللّه لا اله الا غيره اذا جمع الأوّلين و الآخرين اتّى بجهنم تقاد بألف زمام آخذ بكلّ زمام مائة الف ملك من الغلاظ الشداد،لها حدة(هدة)و تغيظ و زفير و انها لتزفر الزّفرة فلولا ان اللّه عزّ و جلّ أخرهم الى الحساب لأهلكت الجمع ثم يخرج منها عنق يحيط بالخلائق بالبر منهم و الفاجر فما خلق اللّه عز و جل عبدا من عباده ملكا و لا نبيا الاّ نادى رب نفسي نفسي و انت يا نبي اللّه تنادي امّتي امّتي،ثمّ يوضع عليها صراط ادقّ من حدّ السيف عليه ثلاث قناطر،امّا الأولى فعليها الأمانة و الرّحم و امّا الأخرى فعليها الصلاة،و امّا الأخرى فعليها عدل رب العالمين لا اله غيره فيكلّفون الممر عليه فيحبسهم الرّحم و الأمانة فان نجوا منها حبسهم الصلاة فان نجوا منها كان المنتهى الى ربّ العالمين جلّ و عزّ و هو قوله تبارك و تعالى انّ ربّك لبالمرصاد،و الناس على الصراط فمتعلق قدم يزل و قدم يستمسك و الملائكة حولهم ينادون يا حليم اغفر و اصفح و عد بفضلك و سلم،و الناس يتهافتون فيها كالفراش فاذا نجى ناج برحمة اللّه تعالى نظر اليها فقال:الحمد للّه الذي نجّاني منك بعد يأس بمنّة و فضله انّ ربنا لغفور شكور.

و قال الصادق عليه السّلام الناس يمرّون على الصراط طبقات و الصراط ادقّ من الشعر واحد من السيف فمنهم من يمرّ مثل البرق و منهم من يمر مثل عدو الفرس و منهم من يمرّ حبوا و منهم و منهم من يمرّ مشيا و منهم من يمرّ متعلقا قد تأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا.

و من الأهوال ان اللّه تعالى يحتجّ على الخلائق يوكّل بشكله روي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال:سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول:يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة الّتي قد افتنت في حسنها فتقول:يا رب قد حسّنت خلقي حتّى لقيت ما لقيت فيجاء بمريم فيقال:انت احسن ام هذه قد حسّنتها فلم تفتتن،و يجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه فيقول:يا رب قد حسّنت خلقي حتّى لقيت من الناس ما لقيت فيجاء بيوسف عليه السّلام فيقال له:انت احسن ام هذا قد حسنّاه فلم يفتتن فيجاء بصاحب البلاء الذي قد اصابته الفتنة في بلائه فيقول:يا رب قد شددت على البلاء حتى افتتنت فيؤتى بايوب عليه السّلام فيقال له:ابتليتك اشد ام بليّة هذا قد ابتلي فلم يفتتن.

ص:191

و من الأهوال و الحسرات يوم القيامة ما روي انّه قال عليه السّلام انّ من اشدّ الحسرة يوم القيامة ان يرى الأنسان عمله بميزان غيره و ذلك انّ الرجل يكسب مالا و يتعب في تحصيله و لا يخرج منه الواجب و لا ينفقه في سبيل اللّه و يموت فيتركه لوارثه فيعمل فيه ذلك الوارث المصالح و الخيرات فيجعل يوم القيامة في ميزان عمله و يجيء صاحب المال الأوّل فيرى ثواب ماله لغيره فيا لها من حسرة و ندامة ذلك الوقت.

و اعلم انّ اللّه سبحانه و تعالى قد يعفو عن حقوقه بل قد يرضى الناس حتّى يسقطوا حقهم، روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى مولانا الأمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام قال:كان في بني اسرائيل رجل ينبش القبور فاعتل جار له فخاف الموت فبعث الى النباش فقال:كيف جواري لك؟قال:احسن جوار قال:فانّ لي اليك حاجة قال:قضيت حاجتك،قال:فاخرج الي كفنين فقال:احب ان تأخذ احبّهما اليك و اذا دفنت فلا تنبشني،فامتنع النباش من ذلك و ابى ان يأخذه فقال:احب ان تأخذه فلم يزل به حتّى اخذ احبهما اليه و مات الرجل فلمّا دفن قال النباش:هذا قد دفن فما علمه بأني تركت كفنه او اخذته لأخذنّه،فأتى قبره فنبشه فسمع صائحا يقول و يصيح به لا تفعل ففزع النبّاش من ذلك فتركه و ترك ما كان عليه،و قال لوالده أي اب كنت لكم؟قالوا:

نعم الأب كنت لنا،قال:فانّ لي اليكم حاجة قالوا:قل ما شئت فانّا سنصير اليه ان شاء اللّه تعالى، قال:فأحب اذا أنا مت انّ تأخذوني فتحرقوني بالنار فاذا صرت رمادا فدقوني ثم تعمدوا بي ريحا عاصفة فذروا نصفي في البر و نصفي في البحر،قالوا:فلمّا مات فعل به ولده ما أوصاهم به فلمّا ذرّوه قال اللّه جل جلاله للبرّ اجمع ما فيك و قال للبحر اجمع ما فيك فاذا الرجل قائم بين يدي اللّه تعالى فقال له عزّ و جلّ ما حملك على ما أوصيت به ولدك ان يفعلوه بك؟قال:حملني على ذلك و عزّتك خوفك،فقال اللّه جلّ جلاله فانّي سأرضى خصومك و قد امنت خوفك و غفرت لك.

و في خبر آخر عن الصادق عليه السّلام انّ المؤمن اكرم على اللّه من ان يقوم في الليلة الباردة للصلاة و يقوم في الوقت الحار ثم يدفعه يوم القيامة الى خصومه و لكن اللّه سبحانه يرضي خصومه و يعوضهم عنه؟

و كل عمل من الأعمال يدفع هولا من اهوال يوم القيامة روى الصدوق طاب ثراه باسناده الى عبد الرحمن بن سمرة قال:كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما فقال:اني رأيت البارحة عجائب، قال:فقلنا يا رسول اللّه و ما رأيت حدّثنا به فداؤك انفسنا و اولادنا و اهلونا فقال:رأيت رجلا من امّتي قد اتاه ملك الموت لقبض روحه فجاءه برّه بوالديه فمنعه بره منه و رأيت رجلا من امّتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوئه فمنعه منه و رأيت رجلا من امّتي قد احتوشته الشياطين

ص:192

فجاءه ذكر اللّه عز و جل فنجّاه من بينهم،و رأيت رجلا من امتي احتوشته ملائكة العذاب فجائه صلاته فمنعه منهم،و رأيت رجلا من امّتي و النبيون حلقا حلقا كلّما أتى حلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة و اخذ بيده فأجلسه الى جنبي و رأيت رجلا من امّتي بين يديه ظلمة و من خلفه ظلمة و عن يمينه ظلمة و عن شماله ظلمة و مت تخته ظلمة مستنقعا في الظلمة فجاءه حجّه و عمرته فأخرجاه من الظلمة و ادخلاه النور.

و رأيت رجلا من امتي يكلّم المؤمنين فلا يكلموه فجاءه صلته للرحم فقالت:يا معشر المؤمنين كلّموه فانّه كان واصلا لرحمه فكلّمه المؤمنون و صافحوه و كان معهم و رأيت رجلا من امّتي يتقي و هج النيران و شررها بيده و وجهه فجاءته صدقته فكانت ظلا على رأسه و سترا على وجهه،و رأيت رجلا من امتي قد اخذته الزّبانية من كل مكان فجاءه امره بالمعروف و نهيه عن المنكر فخلصاه من بينهم و جعلاه مع ملائكة الرحمة،و رأيت رجلا من امتي جاثيا على ركبتيه بينه و بين رحمة اللّه حجاب فجاءه حسن خلقه فاخذه بيده فادخله في رحمة اللّه،و رأيت رجلا من امّتي قد هوت صحيفته قبل شماله فجاءه خوفه من اللّه فاخذ صحيفته فجعلها في يمينه،و رأيت رجلا من امتي قد خفّت موازينه فجاءه افراطه فثقّلوا موازينه،و رأيت رجلا من امّتي قائما على شفسر جهنم فجاءه رجاءه من اللّه عز و جل فاستنقذه من ذلك،و رأيت رجلا من امتي قد هوى في النار فجاءت دموعه التي بكى من خشية اللّه فاستخرجه من ذلك،و رأيت رجلا من امتي على الصراط يرتعد كما يرتعد السعفة في يوم ريح عاصف فجاءه حسن ظنه باللّه فسكن رعدته و مضى على الصراط،و رأيت رجلا من امتي على الصراط يزحف احيانا و يحبوا احيانا و يتعلق احيانا فجاءته صلاته عليّ و اقامته على قدميه و مضى على الصراط،و رأيت رجلا من امتي انتهى الى ابواب الجنة كلّما انتهى الى باب غلق دونه فجاءته شهادة ان لا اله الا اللّه صادقا ففتحت له الأبواب و دخل الجنة.

و في كتاب المجالس عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام قال:اذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأوّلين و الآخرين في صعيد واحد فتغشاهم ظلمة شديدة فيصيحون الى ربهم فيقولون:يا رب اكشف عنّا هذه الظلمة،قال:فيقبل قوم يمشي النور بين ايديهم قد اضاء يوم القيامة فيقول اهل الجمع هؤلاء انبياء اللّه فيجيء النداء من عند اللّه ما هؤلاء انبياء،فيقول اهل الجمع هؤلاء ملائكة فيجيئهم النداء من عند اللّه ما هؤلاء ملائكة،فيقول اهل الجمع هؤلاء شهداء،فيجيئهم النداء من عند اللّه ما هؤلاء بشهداء فيقولون من هم؟فيجيئهم النداء يا اهل الجمع سلوهم من انتم فيقول اهل الجمع من انتم فيقولون:نحن العلويّون نحن ذرية محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص:193

نحن اولاد علي و لي اللّه عليه السّلام نحن المخصوصون بكرامة اللّه و نحن الآمنون المطمئنون فيجيئهم النداء من عند اللّه عز و جل اشفعوا في محبيكم و اهل مودتكم و شيعتكم،فيشفعون فيشفّعون.

اقول ينبغي ان يراد بالعلويين هنا غير الأئمة عليهم السّلام في ذلك اليوم لا يجهلهم احد من الأوّلين و الآخرين لأنّ مقامات القيامة من الشفاعة و الحوض و الجنة و النار كلّه اليهم كما قال مولانا الصادق عليه السّلام انّ الينا إباب هذا الخلق و انّ علينا حسابهم و اذا كان يوم القيامة مشينا الى اللّه تعالى باقدامنا حتّى نشفع في شيعتنا و محبينا فلا يدخل النار منهم احد،و حينئذ فالمراد بالعلويين هنا صلحاء السادة الذين ورد في شأنهم انّ النظر اليهم عبادة.

و روى الصدوق باسناده الى ابن عباس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الذي بعثني بالحق بشيرا و نذيرا لا يعذب اللّه بالنار موحّدا ابدا و انّ اهل التوحيد ليفعون ثمّ قال عليه السّلام:انّه اذا كان يوم القيامة أمر اللّه تبارك و تعالى بقوم سائت اعمالهم في دار الدنيا الى النار فيقولون:يا ربنا كيف تدخلنا النار و قد كنّا نوحدك في دار الدنيا و كيف تحرق النار ألسنتنا و قد نطقت بتوحيدك فغي دار الدنيا؟و كيف تحرق قلوبنا و قد عقدت على لا اله الا اللّه انت ام كيف تحرق وجوهنا و قد عفرناها لك في التراب؟ام كيف تحرق ايدينا و قد رفعناها بالدعاء اليك؟فيقول جلّ جلاله عبادي سائت اعمالكم في الدنيا فجزاؤكم نار جهنم فيقولون:يا ربنا عفوك اعظم ام خطيئتنا؟فيقول عز و جل بل عفوي فيقولون:رحمتك اوسع ام ذنوبنا؟فيقول عز و جل:بل رحمتي،فيقولون اقرارنا بتوحيدك اعظم ام ذنوبنا فيقول عز و جل:بل اقراركم بتوحيدي اعظم فيقولون:يا ربنا فليسعنا رحمتك و عفوك التي وسعت كل شيء فيقول اللّه جل جلاله:يا ملائكتي و عزتي و جلالي ما خلقت خلقا احب اليّ من المقرّين لي بتوحيدي و ان لا اله غيري و حقّ عليّ ان لا اعذب اهل توحيدي ادخلوا عبادي الجنة اقول قد عرفت ان المراد بالتوحيد النافع ما يكون مقرونا بشرائطه مع انّ غير هذه الفرقة المحقّة كلّهم مشركون كما وردت به الأخبار و ذلك انّ من جعل بدل الأمام الذي نصّبه اللّه تعالى اماما فقد جعل نفسه و امامه شريكين له سبحانه لأنّ الشرك اخفي في هذه الأمة من دبيب النمل في الليلة السوداء على الصخرة السوداء و هذه كلها من افراد الشرك و تنافي التوحيد منافاة ظاهرة كما لا يخفى.

فاذا ساقوا الخلائق الى العبور على جسر جهنم و هو الصراط المستقيم فهناك الويل و الثبور نعم الذي يسكن القلوب انّ الأخبار قد استفاضت في انّ امير المؤمنين و اولاده المعصومين عليهم السّلام بل و النبي صلّى اللّه عليه و آله واقفون هناك و علي عليه السّلام يقسم بين الجنة و النار يقول يا نار هذا لي و هذا لك فان كان مؤمنا مضى كالبرق الخاطف و ان كان مخالفا سقط في جهنم،لكن لذلك الصراط عقبات و مواقف فمنهم من يسقط من عقبة الصلاة و منهم من يسقط من عقبة الزكاة و منهم من يسقط من عقبة

ص:194

الصوم و منهم من يسقط من عقبة الحجّ و منهم من يسقط من عقبة الولاية و منهم من يسقط من عقبة التوحيد و منهم من يسقط من عقبة هذه الرسالة الى غير ذلك من العقبات.

و روى المفضل قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الصراط فقال:هو الطريق الى معرفة اللّه عز و جل و هما صراطان صراط الدنيا و صراط الآخرة،فامّا الصراط الذي في الدنيا فهو الأمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في جهنّم.

و هذا الصراط الّذي وصفه النبي صلّى اللّه عليه و آله بانّه ادق من الشعر و أحدّ من السيف و عليه القناطر التي تقدمت مع غيرها حتّى ينتهون الى المرصاد و هي قنطرة مظالم العباد،قال مولانا امير المؤمنين عليه السّلام لا يجوزها عبد بمظلمة عبد حتّى ينتصف للمظلوم من الظالم.

و في الحديث انّ الناس يقفون عليها ثمانين سنة حتّى يلجمهم العرق فينادي مناد من اللّه عزّ و جلّ ايّها الخلائق و قد وهبتكم حقوقي فهبوا حقوق بعضكم بعضا حتّى تدخلوا الجنّة و يقول لرضوان:افتح لهم منازلهم في الجنّة حتّى يروها فيفتح لهم حتّى يرى الجنّة كلّ انسان مكانه في الجنّة فيشتاقون اليها و يعبرون الصراط فمن عبر الصراط لو نام اربعين سنة استراحة ممّا عاين من نصب المحشر لكان قليلا فاذا اتوا الى رضوان و هو جالس على باب الجنّة و معه سبعون الف ملك مع كلّ ملك سبعون الف ملك فينظر اليهم و هم في اقبح صورة من سواد البدن و طول الشعور و كونهم عزلا بلا ختان فيقول لهم:كيف تدخلون الجنة و تعانقون الحور العين على هذه الهيئة فيأمر جماعة من الملائكة الواقفين امامه فيذهبون بالمؤمنين الى عين ماء عند جدار الجنّة و هي عين الحياة فاذا اغتسلوا فيها صار وجه كلّ واحد منهم كالبدر في تمامه،و تسقط شعورهم و غلفهم تبيّض قلوبهم من النّفاق و الحسد و الكذب و الغوائل و الأوصاف الذميمة حتى لا يتحاسدوا في الجنّة بعلو الدرجات و التفاوت في المراتب،فيصير كل واحد منهم بصورة ابن اربع عشرة سنة و يعطي حسن يوسف و صوت داود و صبر ايّوب.

فاذا اتوا الى باب الجنة وجدوا على بابها حافة تطن عند كلّ من يدخلها و تقول في طنينها يا علي لكنّها تطن عند كل داخل بطنين خاص ليس كالطنين الآخر فيعرف بذلك الطّنين اهل المؤمن في منازله و خدمه و حور العين انّ هذا فلان فيأتون لأستقباله.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام انا ادخل امامك الجنّة او انت تدخل امامي؟فقال اللّه و رسوله أعلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:بل انت تدخل لأنّ معك لوائي يوم القيامة و صاحب اللواء يدخل قبل،و قال عليه السّلام:انّ اللّه يحشر يوم القيامة تحت لوائي علي بن ابي طالب عليه السّلام آدم فمن

ص:195

دونه،و حيث انتهينا الى باب الجنة فلنرجع الى كيفية ما في النار من العذاب و الأهوال و اللّه سبحانه اعلم بحقيقة الحلال.

نور يكشف عن النار و ما فيها من العذاب

اعلم ثبّتك اللّه و وفّقك انّ قعر جهنّم كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليلة المعراج قال:لمّا ركبت البراق و سرت سمعت خلفي هدّة عظيمة تخيّلت انّ اطباق السماوات وقعت على الأرض فقلت لجبرئيل عليه السّلام:ما هذا الصوت الهائل؟فقال:انّه كان على شفير جهنّم صخرة عظيمة و قد امرت ان ادفعها في جهنّم فدفعتها بجناحيّ قبل هذا اليوم بسبعين عاما حتّى وصلت هذه السّاعة الى قعر جهنّم،و فيها من الأفاعي و العقارب ما لا يعلمه الاّ اللّه تعالى.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال:اذا كان يوم القيامة تخرج من جهنّم حية اسمها حريش رأسها في السماء السّابعة و ذنبها تحت الأرض السفلي و فمها من المشرق الى المغرب و هي تنادي بأعلى صوتها اين من حارب اللّه و رسوله؟فعند ذلك يقول جبرئيل من تطلبين يا حريش؟فتقول:اطلب خمسة نفر:اوّلهم تارك الصلاة،و الثاني مانع الزكاة و الثالث شارب الخمر و الرابع آكل الربا و الخامس قوم يتحدّثون في المساجد بحديث الدنيا،و قال عليه السّلام:انّ جهنّم عقارب كالبغال المعلفة يلسعن احدهم فيجد حموتها (1)اربعين خريفا.

و في تفسير قوله تعالى و قال الشيطان لمّا قضي الأمر انّ اللّه وعدكم وعد الحقّ و وعدتكم فاخلفتم و ما كان لي عليكم من سلطان الاّ ان دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا انفسكم ما انا بمصرخكم و ما انتم بمصرخي انّي كفرت بما اشركتموني من قبل.

روي انّه اذا قضي الأمر و هو ان يدخل اهل الجنّة جنّتهم و اهل النار نارهم وضع للشيطان منبر في وسط النار فيرقا و بيده عصاة من نار فيجتمع الكفار عليه بالملامة فيقول لهم:انّ اللّه تعالى ارسل اليكم مائة الف نبي و اربعة و عشرين الف نبي فدعوكم الى الجنة و وعده الحق فلم تقبلوا و انا دعوتكم الى هذه النار و منيتكم بالأباطيل فقبلتم كلامي فلا تلوموني بل الملامة عليكم،لأنّي لم يكن لي عليكم سلطان بالجبر بل قبلتم كلامي بمجرد الدعوة فلستم بمصرخيّ،أي لا تقدرون اغاثتي و اعانتي و انا لا اقدر على اغاثتكم و اعانتكم.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال:اذا استقر اهل النار في النار يفقدونكم فلا يرون منكم احدا فيقول بعضهم لبعضكما لنا نرى رجالا كنّا نعدّهم من الأشرار أتخذناهم سخريا ام زاغت عنهم

ص:196


1- (21) حموة الالم:سورته.

الأبصار قال:و ذلك قول اللّه عز و جل انّ ذلك لحق تخاصم اهل النار يتخاصمون فيكم فيما كانوا يقولون في الدنيا.

و روي عنه عليه السّلام انّه قال له رجل خوّفني يا ابن رسول اللّه فانّ قلبي قد قسى،فقال:استعد في الحياة الطويلة فانّ جبرئيل جاء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قاطب و قد كان قبل ذلك يجيء و هو متبسم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يا جبرئيل جئتني اليوم قاطبا فقال:يا محمد قد وضعت منافخ النار، قال:و ما منافخ النار يا جبرئيل؟فقال:يا محمد انّ اللّه عز و جل امر النار فنفخ فيها الف عام حتى حتى ابيضت،ثم نفخ عليها الف عام حتى احمّرت،ثم نفخ عليها الف عام حتّى اسودت فهي سوداء مظلمة،لو انّ قطرة من الضريع قطرت في شراب اهل الدنيا لمات اهلها من نتنها،و في جهنم واد يسمّى الفلق يوقد عليها الف سنة لم يتنفس فاذا تنفس احرق جميع النيران.

فان قلت ما وجه الجمع بين هذين الخبرين و ذلك انّ ظاهر قوله يفقدونكم فلا يرون منكم احدا ان لنار القيامة ضوءا مثل هذه النّيران و ظاهر الحديث الثاني انّها مظلمة ليس لها ضوء و يؤيده ما روي من انّ حطبها حجارة الكبريت فهي سواد فس سواد.

قلت قد روي انّ النار طبقات متعددة فلعل لكل طبقة منها حكم خاص من النور او الظلمة،روي عن مولانا الأمام ابي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السّلام انّ اللّه جعل للنار سبع درجات،اعلاها الجحيم يقوم اهلها على الصفا منها تغلي ادمغتهم فيها كغلي القدور بما فيها.

و الثانية لظى نزّاعة للشوى تدعو من ادبر و تولى و جمع فأوعى،و الثالثة سقر لا تبقي و لا تذر لوّاحة للبشر عليها تسعة عشر،و الرابعة الحطمة و منها يثور شرر كالقصر كأنّها جمالات صفر تدقّ من صار اليها كاكحل فلا يموت الرّوح كلّما صار مثل الكحل عاد.

و الخامسة الهاوية يدعون اهلها يا مالك:أغثنا فاذا اغاثهم جعل لهم آنية من صفر من نار فيها صديد ماء يسيل من جلودهم كأنّه مهل،فاذا اتوه ليشربوا منه تساقط لحم وجوههم من شدّة حرّها و هو قول اللّه تعالى وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرٰابُ وَ سٰاءَتْ مُرْتَفَقاً ،و من هوى فيها هوى سبعين عاما في النار كلّما احترق جلده بدّل جلدا غيره.

و السادسة هي السعير فيها ثلاثمائة سرادق من نار في كل سرادق ثلاثمائة قصر من نار كلّ قصر ثلاثمائة بيت من نار في كلّ بيت ثلاثمائة لون من العذاب من غير عذاب النار فيها حيّات من نار و عقارب و جوامع من نار و سلاسل من نار و اغلال من نار و هو الذي يقول اللّه إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَلاٰسِلَ وَ أَغْلاٰلاً وَ سَعِيراً .

و السابعة جهنم و فيها الفلق و هو جب في جهنم اذا فتح اسعر النار سعرا و هو اشد النار عذابا،و اما صعود فجبل من صفر من نار وسط جهنّم،و عن مولانا زين العابدين عليه السّلام انّ النيران

ص:197

بعضها فوق بعض فأسفلها جهنّم و فوقها لظى،و فوقها الحطمة،و فوقها سقر و فوقها الجحيم و فوقها السعير و فوقها الهاوية و يجوز ان يكون التفقد باعتبار الأصوات فانّه قد روى الصدوق عن الباقر عليه السّلام انّ اهل النار يتعاوون فيها كما تتعاوى الكلاب و الذئاب ممّا يلقون من عذاب اليم ما ظنّك بقوم لا يقضي عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها من شيء،عطاش فيها جياع كليلة ابصارهم بكم عمي مسوّدة وجوههم خاسئين فيها نادمين مغصوب عليهم فلا يرحمون و من العذاب لا يخفف عنهم و في النار يسجرون و من الحميم يشربون و من الزقوم يأكلون و بكلاليب النار يحطمون و بالمقامع يضربون و الملائكة الغلاظ الشّداد لا يرحمون فهم في النار يسجرون و على وجوههم يسحبون،و مع الشّياطين يقرنون و في الأنكال و الأغلال يصفدون ان دعوا لم يستجب لهم و ان سألوا حاجة لم تقض لهم هذا حال من دخل النار.

و بالجملة فالمخالفون اذا استقروا في النار اصوات الشيعة لمعرفتهم بها في الدنيا فلا يرونهم و يجوز ان يكون التّفقد في حال البرق فانذ نار جهنم فيها ظلمات و رعد و برق و قد جاء به المثل القرآني في قوله تعالى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمٰاءِ فِيهِ ظُلُمٰاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ على ما قيل ،و روي في تفسير قوله تعالى إِنّٰا جَعَلْنٰا فِي أَعْنٰاقِهِمْ أَغْلاٰلاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقٰانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنٰا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ انّ الأغلال انما جعلت في اعناقهم لترسب بهم في النار،و ذلك انّ لهب النّار من شدته يرفعهم الى فوق فاحتاجوا الى الأغلال الحديد لثقلهم حتّى لا يطير بهم اللهب.

و اما السد فروي ايضا انّه يجعل بين ايديهم سدا و من خلفهم سدا من حديد النار و كذلك من سائر جوانبهم و يضيّق المكان عليهم بالسد حتى لا يسع احدهم الجلوس الاّ محتبيا و هم عميان و النار معهم في ذلك المكان الضيق،و حينئذ فيكون تفقد مثل هؤلاء المؤمنين انّما هو في حال ابتداء سقوطهم الى جهنّم و هذه الأحوال الأخر انّما تعرض لهم على طول المدة فهذا وجه جمع آخر لتلك الأخبار.

و اعلم انّ النار طبقات و تتفتوت مراتب شدّتها و عذابها باعمال الداخلين اليها قال الصادق عليه السّلام انّ النّواويس و هي طبقة من طبقات النيران شكت الى اللّه عز و جل شدّة حرها فقال لها عز و جل اسكني فانّ مواضع القضاة اشدّ حرا منك،اقول و هذه النار على ما فيها من الألم قد جعل اللّه تعالى لها ما يطفيها.

روي ان الرجل اذا ذكر ذنبه و بكى من خشية اللّه تبادرت الملائكة تختطف تلك الدمعات و تجعلها في قدح من نور و يختم بخاتم من مسك فاذا كان يوم القيامة و حوسب صاحبها و زادت سيّآته على حسناته فيذهب به الى النار،فاذا ارادوا ان يلقوه فيها قال اللّه تعالى:لا تعجلوا على

ص:198

عبدي فانّ له عندي وديعة فيؤمر بان يؤتى بتلك الدمعات فتنصب على النّار فتطفي بحورا من النيران و قال عليه السّلام كلّ شيء له وكيل او وزن يوم القيامة الا البكاء من خشية اللّه تعالى فانّ القطرة منه تطفي بحارا من النار،و بعض الناس قد يهوى في جهنّم و يخرج منها.

روي عن اميّة بن علي القيسي عن بعض ما رواه عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:قال لي يجوز النبي صلّى اللّه عليه و آله الصراط و يتلوه عليّ و يتلو عليّا عليه السّلام الحسن عليه السّلام و يتلو الحسن الحسين عليهما السّلام فاذا توسطوه نادى المختار الحسين عليه السّلام يا ابا عبد اللّه اني طالبت بثارك فيقول النبي صلّى اللّه عليه و آله للحسين عليه السّلام اجبه فينقض الحسين عليه السّلام في النار كأنه عقاب كاسر فيخرج المختار حممه (1)و لو شقّ عن قلبه لوجد حبّهما في قلبه،و الظاهر انّ الضمير في حبّهما راجع الى ابي بكر و عمر فيكون تعليلا لدخول المختار النار و جوز بعض الأفاضل ان يكون مرجعه الحسنين عليهما السّلام فيكون كالتعليل لأخراجه من النار و هو بعيد جدا.

بقي الكلام في قوله وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا كٰانَ عَلىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا و اختلف العلماء في معنى الورود على قولين،احدهما انّ ورودها هو الوصول اليها و الأشراف عليها لا الدخول بها.

و ثانيهما انّ ورودها بمعنى دخولها بدلالة قوله فأروردهم النار،فلا يبقى بر و لا فاجر الاّ و يدخلها فتكون بردا و سلاما على المؤمنين و عذابا لازما للكافرين.

و روي عن كثير بن زياد قال:اختلفا في الورود فقال:قوم لا يدخلها مؤمن فقال:آخرون يدخلونها جميعا ثمّ ننجي الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد اللّه فسألته فاومى باصبعيه الى اذنيه و قال:صمت ان لم اكن سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول الورود الدخول لا يبقي بر و لا فاجر الاّ يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على ابراهيم حتّى انّ للنار ضجيجا من بردها ثمّ ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا.

و في الرواية عن الحسن عليه السّلام انّه راى رجلا يضحك فقال:هل علمت انّك وارد النار؟قال:

و هل علمت انّك خارج منها؟قال:لا قال ففيم هذا الضحك؟و قيل انّ الفائدة في ذلك ما روي في بعض الأخبار انّ اللّه تعالى لا يدخل احدا الى الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل اللّه عليه و كمال لطفه و احسانه اليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها، و لا يدخل احدا النار حتّى يطلعه على الجنة و ما فيها من انواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له حسرة له على ما فاته من الجنّة و نعيمها.

ص:199


1- (22) الحمم جمع الحمة الفحم.الرماد كل ما احترق بالنار الواحدة(حممة).

و في اخبار اهل البيت عليهم السّلام انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو في المسجد غشي عليه حيث انّ اللّه لم يستثن أحدا فنظر الصحابة اليه و ما علموا كيف الحال،فقالوا لسلمان:امض الى فاطمة عليها السّلام حتّى تأتي الى ابيها،قال سلمان:فمضيت اليها و اخبرتها فقالت:يا سلمان كيف اخرج من البيت و ليس لي ثياب قال:فنظرت و اذا في البيت بساط فوضعته على رأسها و بدنها و خرجت، قال سلمان فنظرت في البساط و اذا فيه اربع عشرة رقعة من الخوص،فقلت و اعجباه بنات كسرى و قيصر يجلسن على الكراسي المذهّبة و بنت رسول اللّه ليس لها ازار و لا ثياب،فقالت:يا سلمان انّ اللّه تعالى ذخر لنا الثياب و الكراسي ليوم آخر،فلمّا أتت المسجد وضعت رأس النبي صلّى اللّه عليه و آله في حجرها،فلمّا احسّ بها قالت لهكما لخبر؟فقال:يا فاطمة أتاني جبرئيل بهذه الآية و لم يستثن احدا،فبكيا طويلا فأتى امير المؤمنين عليه السّلام فأخبراه الخبر فأتى الى زاوية المسجد و جعل يحثو التراب على رأسه و يقول:ليت امي لم تلدني حتى اسمع بهذه الآية،فصاح سلمان و ضجّ الناس بالبكاء و العويل،فنزل جبرئيل عليه السّلام و قال:يا محمّد و ان منكم الاّ واردها الاّ علي و شيعته ففرحوا بها و رجعوا الى منازلهم.

نعم ورد الخلاف بين علمائنا رضوان اللّه عليهم في انذ المؤمن الفاسق هل يدخل النار ام لا بعد ما اتّفقوا على انّه لا يخلد فيها و الحقّ انّ الأخبار مختلفة كالأقوال،ففي الأخبار عن مولانا الأمام ابي عبد اللّه عليه السّلام انّ من شيعتنا من تدركه شفاعتنا بعد ان يكون في النار ثلاثمائة الف سنة، و في بعضها عنه عليه السّلام ايضا انّه قال:لا يدخل النار منكم واحد،و يدل على مضمون كل واحد من الخبرين اخبار كثيرة يمكن الجمع بين الأخبار بحمل الداخلين على اهل درجة من درجات الأيمان النّاقصة،و قوله عليه السّلام لا يدخل النار منكم احد على اهل الدرجات الكاملة،فانك عرفت أن للإيمان درجات كما انّ للكفر درجات فهذا مجمل احوال النار بقي الكلام في الجنّة وفقنا اللّه و سائر المؤمنين للدخول اليها.

نور في الجنة و بعض ما فيها

اعلم وفقك اللّه تعالى انّ كلما سمعت من اخبار الجنة و أوصافها فهي فوقه بمراحل و هي التي قال فيها الأنبياء عليهم السّلام كلّ شيء سماعه احسن من عيانه و أعظم الاّ الجنة فانّ عيانها أعظم من سماعها و ما يصف الواصف منها،و في الروايات انّ اقل ما يعطي المؤمن منها ما يقابل الدنيا،و في خبر بلال الطويل قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول انّ سور الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و لبنة من ياقوت،و ملاطها المسك الأذفر و شرفها الياقوت الأحمر و الأخضر و الأصفر.

قال:قلت فما ابوابها قال:انّ ابوابها مختلفة باب الرّحة من ياقوتة حمراء،قال له الراوي فما حلقته؟قال:اكتب سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:امّا باب الصبر فباب صغير مصراع

ص:200

واحد من ياقوتة حمراء لا حلق له،و اما باب الشكر فانّه من ياقوتة بيضاء لها مصراعان مسيرة ما بينهما مسيرة خمسمائة عام له ضجيج و حنين يقول:اللهم جئني بأهلي،قال:قلت هل يتكلم الباب؟قال:نعم ينطقه اللّه ذو الجلال و الأكرام.

و امّا باب البلاء قلت:ا ليس باب البلاء هو باب الصبر؟قال:لا قلت فما البلاء؟قال المصائب و الأسقام و الأمراض و الجذام و هو باب من ياقوتة صفراء مصراع واحد ما اقلّ من يدخل فيه،قلت برحمتك اللّه زدني و تفضّل عليّ فاني فقير فقال:و امّا الباب الأعظم فيدخل منه الصالحون و هم اهل الزهد و الورع و الرّاغبون الى اللّه عزّ و جلّ المستأنسون به،قلت اذا دخلوا الجنّة فما ذا يصنعون؟قال:يسيرون على نهرين في ماء صاف في سفن الياقوت مجاذيفها اللؤلؤ فيها ملائكة من نور عليهم ثياب خضر شديدة خضرتها،قلت:هل يكون من النّور أخضر قال:انّ الثياب خضر و لكن فيها نور من نور رب العالمين ليسيروا على حافتي ذلك النهر،قلت فما اسم ذلك النهر؟قال:جنة المأوى،قلت:هل وسطها غيرها؟قال:نعم جنّة عدن و هي في وسط الجنان،و امّا جنة عدن فسورها ياقوت احمر و حصاها اللؤلؤ،قلت:فهل فيها غيرها؟قال:نعم جنّة الفردوس،قلت:كيف سورها؟قال:سورها نور،قلت:الغرف التي فيها؟قال:هي من نور رب العالمين.

و روى شيخنا الكليني قدس اللّه روحه باسناده الى مولانا الأمام ابي جعفر محمذد بن علي الباقر عليهما السّلام قال:سئل علي عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير قوله تعالى لٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهٰا غُرَفٌ بما ذا بنيت هذه الغرف يا رسول اللّه؟فقال:يا علي تلك الغرف بناها اللّه لأوليائه بالدّر و الياقوت و الزبرجد سقوفها الذهب محبوكة به و فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير و الديباج بألوان مختلفة و حشوها المسك و العنبر و الكافور،و ذلك قول اللّه تعالى وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ فاذا دخل المؤمن الى منازله في الجنّة وضع على رأسه تاج الملك و الكرامة و البس حلل الذهب و الفضة و الياقوت و الدرّ منظومان في الأكليل تحت التاج و البس سبعين حلّة حرير بألوان مختلفة منسوجة بالذهب و الفضة و اللؤلؤ و الياقوت الأحمر و ذلك قوله يُحَلَّوْنَ فِيهٰا مِنْ أَسٰاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبٰاسُهُمْ فِيهٰا حَرِيرٌ فاذا جلس المؤمن على سريره اهتزّ سريره فرحا،فاذا استقرت بوليّ اللّه منازله في الجنة استأذن عليه الملك الموكّل بجنابة ليهنيّه بكرامة اللّه ايّاه فيقول له خدّام المؤمن و وصفاؤه مكانك فانّ و لي اللّه قد اتكىء على اريكته و زوجته الحوراء العيناء قد ذهبت اليه فاصبر لولي اللّه حتّى يفرغ من شغله،قال:فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمتها تمشي مقبلة و حولها و صفؤها و عليها سبعون حلة منسوجة بالياقوت و اللؤلؤ و الزبرجد قد صبغن بمسك و عنبر و على رأسها تاج الكرامة و في رجلها نعلان من ذهب مكللان بالياقوت و اللؤلؤ شراكهما ياقوت

ص:201

احمر،فاذا دنت من و لي اللّه و همّ يقول اليها شوقا تقول:يا و لي اللّه ليس هذا يوم تعب و لا نصب و لا تقم أنا لك و انت لي فيعتنقان قدر خمسمائة عام من اعوام الدّنيا لا تملّه و لا يملها،قال:فينظر الى عنقها فاذا عليه قلادة من قصب ياقوت احمر وسطها لوح مكتوب انت يا و لي اللّه حبيبي و انا الحوراء حبيبتك اليك تتأهب نفسي و اليّ تتأهب نفسك،ثمّ يبعث اللّه الف ملك يهنونه بالجنة و يزوجونه الحوراء،قال:فينتهون الى اول باب من جنانه،فيقولون:الملك الموكل بأبواب الجنان استأذن لنا و لي اللّه فان اللّه بعثنا مهنّين له،فيقول الملك حتّى اقول للحاجب فيعلم مكانكم،قال:

فيدخل الملك الى الحاجب و بينه و بين الحاجب ثلاث جنات حتى ينتهي الى اول باب،فيقول للحاجب:انّ علي باب العرصة الف ملك ارسلهم رب العالمين جاؤوا يهنئون و لي اللّه و قد سئلوا ان يستأذن لهم عليه فيقول الحاجب:انذه ليعظم عليّ ان أستأذن لأحد علي و لي اللّه و هو مع زوجته،قال:و بين الحاجب و بين و لي اللّه جنتان فيدخل الحاجب على القيّم فيقول له:انّ على باب العرصة الف ملك ارسلهم رب العالمين يهنّون و لي اللّه فاعلموه مكانهم،قال:فيعلمونه الخدام مكانهم،قال:فيؤذن لهم فيدخلون على و لي اللّه و هو في الغرفة و لها الف باب و على كل باب من ابوابها ملك موكل به فيدخل كل ملك من باب من ابواب الغرفة فيبلّغونه رسالة الجبّار، و ذلك قول اللّه وَ الْمَلاٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ يعني ابواب الغرفة سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار،و ذلك قوله وَ إِذٰا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً يعني بذلك وليّ اللّه و ما هم فيه من الكرامة و النعيم و الملك العظيم و انّ الملائكة من رسل الجبّار ليستأذنون عليهم فلا يدخلون عليه الاّ باذنه فذلك الملك العظيم،أقول و قد روي ايضا في تفسير الملك العظيم انّ ادنى اهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة الف عام.

و اعلم انّ لذات الجنة انواع:الأول محبّة اللّه تعالى ايّاهم و رضاؤه عنهم فقد جعله سبحانه اعظم من كلّ لذات الجنة حيث قال بعد ما عدد نعم الجنة:و رضوان من اللّه اكبر يعني انّ رضاء اللّه عنهم أعظم من كل ما في الجنة من اللّذات،و هذه اللّذة لا يدركها كلّ واحد و انّما يدركها الأولياء كما سبق في أحوال مولانا امير المؤمنين عليه السّلام،الثاني لذة النكاح.

و قد ورد في الروايات انّ اللّه تعالى ادنى ما يعطي المؤمن سبعين الف حوراء لو طلعت واحدة منهنّ الى الدنيا لأشرقت لها و لمات الناس من الشوق اليها،و انذ الحوراء اذا ضحكت يعلو نور اسنانها حيطان الجنّة و اشجارها و انّها تلبس سبعين حلّة و يرى مخ ساقها من تحت الحلل و انّ الواحدة منهن لها الف وصيفة مقنعة كل وصيفة منهن تعادل قيمة الدنيا و ما فيها من الأموال،و انّ الحوراء كلّما جامعها زوجها عادت بكرا و ذلك كما قال عليه السّلام:انّ ابدانهن من المسك و العنبر و ليس فيه مدخل الاّ للإحليل فاذا خرج الذكر عاد الى ما كان عليه من الألتئام.

ص:202

فان قلت قد ورد في الأخبار ما يتضمّن من صفات حور العين امورا لا تقبلها الطّباع البشرية مثل كون الحوراء لها سبعون الف ذوابة و انّ بدنها في غاية العظمة و الكبر،و ما روي من انّ الحوراء العينا استدارة عجيزتها الف ذراع و في عنقها الف قلادة من الجوهر بين كل قلادة الى قلادة الف ذراع و نحو ذلك،قلت هذه النشأة لا تقاس على تلك النشأة و امور الجنة لا تقاس على امور للدنيا و اللّه تعالى هو الّذي يزين المرأة و يحسّنها في نظر زوجها فيكون اللّه تعالى يرى المؤمن زوجته على احسن هيئة و ازينها و ان كانت بتلك الصفات مع انّ تلك الصفات حسنة ايضا بالنّظر الى امور الآخرة كما تقدّم.

الثالث المطعومات و طعام الجنّة كلّ لون منه له الف طعم و كذلك ثمارها و في الرواية انّ طوبى شجرة في الجنة أصلها في بيت امير المؤمنين عليه السّلام و في كلّ منزل من منازل الشيعة غصن من اغصانها و في ذلك الغصن جميع انواع الثمار فاذا حضر بخاطر المؤمن ارادة رمّانة من الرمّان مثلا تدلى ذلك الغصن الى قربه و تكلم الرمان و قالت كل واحدة منه كلني يا و لي اللّه فتاتي اليه بواحدة منهنّ فاذا اكلها ارتفع القشر الى مكانه فصار رمانة فثمارها لا تنقص ابدا.

و قد شبّه مولانا الصادق عليه السّلام هذا بالسراج في الدنيا فانّه لو أخذ منه الف سراج لم ينقص من ناره وضوئه شيء،و روي انّ اهل الجنّة يقسم له شهوة مائة رجل من اهل الدنيا و أكلهم و جماعهم،فاذا اكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيذهب ما أكل و يصير عرقا كالمسك يرشح من بدنه فتضمّر بطنه و تعود شهوته و هو المراد من طهور الشراب في قوله تعالى وَ سَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ شَرٰاباً طَهُوراً أي مطهّرا لما في بطونهم من الطعام و مذهبا له.

الرابع فرح القلب و سروره و زوال الهمّ عنهم و الغم فهو اعظم لذة حتّى انّه روى انّ الجنة تقول يوم القيامة:وعدتني ان تملأني و وعدت النار ان تملأها و ملأت النار و ها انا لم تملأني قال:

فيخلق اللّه تعالى خلقا من ارض القيامة و يدخلهم الجنّة،قال الصادق عليه السّلام:طوبى لهم لم يروا من همّ الدنيا و لا غمّها شيئا،فان قلت:كيف استحقّ هؤلاء الجنة مع عدم عمل صدر منهم استحقوا به الجنة،قلت:لأنّ اللّه تعالى يخلقهم و هم على اعمار الأربعة عشر لم يبلغوا الحنث حتى يدخلوا تحت التكاليف.

الخامس الأجتماع مع الأحباب قال اللّه تعالى عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ فالأحباب يجتمعون في منازلهم و يجلس كلّ واحد منهم على سرير مرصّع بالجواهر فاذا قضوا الصحبة و المسامرة ركب كل واحد منهم فرسا من افراس الجنة لها جناحان فتطير به الى منازله فهم يتزاورون على هذه الحالة و امّا اصدقاؤهم في الدنيا و احباؤهم الذين استحقوا النار فقال الصادق عليه السّلام:ان اللّه تعالى

ص:203

ينسيهم اياهم حتى لا يغتموا لهم و لفراقهم و بالجملة فلذة العمر المجالسة مع الأحباب حتى انّه روي انّ المرأة في الدنيا اذا تزوجت زوجين او اكثر اعطيت في الجنّة لأشدّهما حبا معه في الدنيا.

السادس المنازل و الأمكنة المزيّنة بأنواع الزينة من الغرف التى يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها،مشبّكة بالفضّة و الذهب و سائر المعادن،و روي في تفسير قوله تعالى اَلَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ انّ اللّه سبحانه قد بنى لكل انسان بيتين احدهما في الجنة و الآخر في النار،فالمؤمن بسبب ايمانه استحق منزله في الجنة بالأصل و منزل مخالف من المخالفين بالميراث و كل واحد من المخالفين استحقّ في النار منزلين احدهما ماله بالأصالة و الآخر ما وصل اليه بالميراث و كل واحد من المخالفين استحق في النار منزلين احدهما ماله بالأصالة و الآخر ما وصل اليه بالميراث من منازل المؤمنين فالمؤمنون قد ورثوا الفردوس و المخالفون قد ورثوا منازل النار،و قد روي انّ كلّ بيت في الجنة له غرفة مشرفة على النار حتّى اذا فتح بابها نظر الى اهل النار و تعذيبهم فيها فيراهم بهذه الحالات و يرى نفسه بتلك الحالات.

السابع انواع الطرب و اعظم انواعه الغناء،روي انّ اعرابيا جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال:

يا رسول اللّه ذكرت في الجنة كل شيء فاين الغناء؟فقال:نعم يا اعرابي انّ في شجرها اجراسا معلقة،اذا ضرب واحد منها خرجت منه نغمات لو انّ اهل الدنيا سمعوا نغمة منها لماتوا من الشوق و الطرب،و في مجالس طربهم من الولدان الحسان ما لا يحصى و هم يخدمونهم في مجالسهم كما قال سبحانه يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ اذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منشورا قال جماعة من المفسرين انّما شبههم بالمنثور لأنتشارهم في الخدمة،فلو كان صفا لتشبّهوا بالمنظوم،و قيل انّما شبههم به من جهة الصفا و حسن المنظر و الكثرة و في يد كل واحد من الأولاد قدح من الشراب الطهور ليشربه اهل المجلس رزقنا اللّه و اياكم بمنه و كرمه و انّه رحيم كريم و في شجرها طيور تصوت بالتسبيح و التقديس لا يقدر اهل الدنيا على سماعها.

و امّا انهارها فلا يقدر القادرون على وصفها،و في الروايات أنّ فيها نهرا و فيه لبن و عسل و خمر تجري كلّ واحد على خطّ مستوى لا يمتزج أحدهما بالآخر و فيها نهر اسمه رجب خلقه اللّه تعالى لمن صام شهر رجب،و في الحديث انّ بها نهرا اسمه خيرا فاذا قال الرجل لصاحبه جزاك اللّه خيرا فمعناه سقاك اللّه من ذلك النهر الذي اسمه خير.

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:عرض الجنة ليلة المعراج فرأيت فيها اربعة انهار ماء و لبن و عسل و خمر،فسألت جبرئيل عليه السّلام عنها من اين تجيء و الى اين تذهب؟فقال:آخرها يذهب الى حوض الكوثر،و امّا اولها فلا ادري فسل اللّه تعالى حتى يخبرك به فدعوت اللّه تعالى و سألته فاذا ملك سلّم عليّ و قال ليكضم عينيك فضممت ساعة،فقال:افتح ففتحت فاذا انا بشجرة تحتها قبّة من

ص:204

درّة بيضاء لبابها مصراعان من ياقوتة خضراء،و قفل منذهب لو اجتمع جميع الأنس و الجن فوقها لكانوا كطائر فوق جبل فأردت ان ارجع فقال الملك:لم لم تدخل القبة؟قلت:لأنّ بابها مغلق، قال:لم لم تفتح؟قلت:ليس عندي مفتاحه،فقال:مفتاحه بسم اللّه الرحمن الرحيم مكتوبا في وسط جدر انها على التدوير واقعا ميم بسم في زاوية و هاء اللّه في زاوية اخرى و ميم الرحيم في زاوية اخرى يخرج من الأوّل نهر الماء،و من الثاني نهر اللبن و من الثالث نهر الخمر و من الرابع نهر العسل فسمعت هاتفا يقول يا محمد صلّى اللّه عليه و آله من ذكرني بهذه الأسماء و قال:بسم اللّه الرحمن الرحيم خالصا مخلصا سقية من هذه الأنهار الأربعة.

و من فوائد هذه الكلمة ما روي انّ شيطانا سمينا لقي شيطانا مهزولا فقال:لم صرت مهزولا؟انّي مسلط على رجل اذا أكل يقول:بسم اللّه و اذا شرب يقول:بسم اللّه و اذا اتى اهله يقول بسم اللّه فحرمت المشاركة فيها فصرت مهزولا،ثمّ قال للسمين و انت لم صرت سمينا؟قال:

انّي مسلط على رجل غافل عن التسمية يدخل بيته غافلا عنها و يخرج منه غافلا و يأكل غافلا و يشرب غافلا و يأتي أهله غافلا فشاركته فيها كما قال اللّه تعالى وَ شٰارِكْهُمْ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ .

و بالجملة فانهار الجنّة عجيبة الوصف و كلّها تجري على وجه الأرض من غير اخدود مرتفعة على وجه الأرض تمسكها القدرة الألهيّة،و سئل عليه السّلام عن انهار الجنّة كم عرض كل نهر منها فقال:

عرض كل نهر منها مسيرة خمسمائة عام يدور تحت القصور و الحجب تتغنى امواجه و تسبّح و تطرب في الجنّة كما تطرب الناس في الدنيا،و قال عليه السّلام اكثر انهار جنة الكوثر تنبت الكواعب الأتراب عليه يزور اولياء اللّه يوم القيامة،و عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:للرجل الواحد من اهل الجنة سبعمائة ضعف من الدنيا و له سبعون الف قبة و سبعون الف قصر و سبعون الف حجلة و سبعون الف اكليل و سبعون الف حلّة و سبعون الف حوراء عيناء و سبعون الف وصيف و سبعون الف وصيفة على كل وصيفة سبعون الف ذوابة و اربعون الف كليل و سبعون الف حلّة.

الثامن العلم بالخلود في الجنة من غير موت و لا انتقال قال اللّه تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فان قيل ما معنى هذين الأستثنائين و متى يكون وقتهما؟قلت:ذكر المحققون من المفسرين انّ هذا الموضع من المواضع المخصوصة بالأشكال فيه من وجهين:احدهما تحديد الخلود بمدّة دوام السموات و الأرض و الآخر معنى الأستثناء بقوله الاّ ما شاء ربك الأول فيه أقوال:

الأول انّ المراد سماء الآخرة و ارضها و هما لا يفنيان بعد الأعادة عن الضحاك و الجبائي.

ص:205

الثاني انّ المراد بالسماوات و الأرض الجنة و النار و ارضهما فان كلّ ما علاك فهو سماء و كل ما أقلّك فهو ارض،الثالث انّ المراد التبعيد فانّ للعرب ألفاظا للتعبيد في معنى التأبيد يقولون:لا أفعل ذلك ما أختلف الليل و النهار و ما ذرّ شارق و نحو ذلك و يريدون به التأييد لا التوقيت،و امّا الثاني و هو الكلام في الأستثناء فقد اختلف فيه اقوال العلماء على وجوه:

احدها انّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنة، و التقدير الاّ ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار،و يؤيده قوله تعالى يضاعف عليه العذاب و يخلد فيه مهانا فانّ الضمير في قوله فيه كما قال بعض المحققين راجع الى المضاعف لا الى اصل العذاب و هذا الوجه منقول عن الزجاج و الفرا،و ثانيها انّ الأستثناء واقع على مقامهم في المحشر و الحساب لأنهم حينئذ ليسوا في جنة و لا نار و الأستثناء كما يكون باعتبار الأجر يكون باعتبار الأول و نقل هذا عن المازني،و ثالثها انّ الأستثناء الأول يتّصل بقوله لهم زفير و شهيق و تقديره الاّ ما شاء ربك نمن أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و في اهل الجنة يتصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال لهم فيها نعيم الاّ ما شاء ربك من انواع النعيم،و انما دلّ عليه قوله عطاء غير مجذوذ و نقل هذا عن الزجّاج.

و رابعها انّ المراد بالذين شقوا من ادخل النار من اهل التوحيد الذين فعلوا المعاصي فقال سبحانه:انّهم يعاقبون في النار الاّ ما شاء ربك من اخراجهم الى الجنة و خلّد فيها لا بد فيها من الأخبار بتأبيد خلوده ايضا من استثناء ما تقدّم فكإنّه قال خالدون فيها الا ما شاء ربك من الوقت الّذي ادخلهم فيه الى النار قبل ان ينقلهم الى الجنة،و نقل هذا عن ابن عباس و جماعة من المفسرين.

و خامسها انّ تعليق ذلك على سبيل التأكيد للخلود و التعبيد للخروج انّ اللّه لا يشاء الا تخليدهم على ما حكم به فكأنّه تعليق لما يكون بما لا يكون لأنّه لا يشاء ان يخرجهم منها.

و سادسها انّ المعنى انّهم خالدون في النار دائمون فيها مدّة كثيرة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا،و اذا فنيتا و عدمت انقطع عقابهم الى ان يبعثهم اللّه للحساب و قوله الاّ ما شاء استثناء وقع على ما يكون في الآخرة،و هذا اورده الشيخ ابو جعفر الطوسي تغمده اللّه برحمته و قال:ذكره قوم من اصحابنا في التفسير.

و سابعها انّ المراد الاّ ما شاء ربّك ان يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار و الأستثناء لأهل التوحيد،و قد قيل فيه وجوه اخرى و الكلّ لا يخلو من تكلف،و الأولى ما روي في اخبار الأئمة الطاهرين عليهم السّلام من انّ هذه الآية و ما ذكر فيها من الجنة و النار منزلة على جنة الدنيا و هي وادي السّلام و على نارها و هي برهوت و المعنى انّ من شقى اذا مات دخل النار و خلّد فيها فهو خالد

ص:206

فيها ما دامت هذه السماوات و هذه الأرض الاّ ما شاء اللّه و هو اخراجهم من تلك النار في زمن مولانا المهدي عليه السّلام حتّى يذّبهم بنوع آخر من العذاب في هذه الدنيا و كذلك الكلام في الجنة فانّ المؤمنين بعد الموت مخلدون في وادي السّلام ما دامت السماوات و الأرض الاّ ما شاء اللّه ان يخرجهم منها الى نعيم آخر و هو ايضا في عصر الأمام المهدي عليه السّلام فانّه يخرجهم من ذلك النعيم الى نعيم آخر في الدنيا كما تقدم من انّهم يكونون ولاة على البلدان من قبله عليه السّلام و ينكحون النساء في زمنه ايضا،و يعيش الرجل منهم الف سنة يولد له في كل سنة ولد ذكر الى غير ذلك و على هذا فلا تكلّف في شيء من الوجهين..

و امّا خلود أهل جنة الآخرة فلا يعرض له تغيير و لا تبديل الاّ بالزيادة،روي انّ اللّه تعالى يبعث كل يوم لكل واحد من المؤمنين حوراء قد فاق حسنها على ما عنده من الحوريات الى غير ذلك من الهدايا كارسال الملائكة كل يوم،بأن يبلغوا سلام اللّه تعالى اليهم مع سلام الملائكة عليهم كما قيل في قوله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم ان الحمد للّه رب العالمين،فقال جماعة من المفسرين انّ ذكر المؤمنين في الجنّة ان يقولوا سبحانك اللهم يقولون ذلك لا على وجه العبادة لأنه ليس هناك تكليف بل يلتذون بالتسبيح.

و قيل انّه اذا مرّ بهم الطير في الهواء يشتهونه قالوا:سبحانك اللهم فيأتيهم الطير فيقع مشويا بين ايديهم و اذا قضوا منه الشهوة قالوا الحمد للّه رب العالمين فيطير الطير حيّا كما كان فيكون مفتتح كلامهم في كل شيء التسبيح و محنتهم كلامهم التحميد و يكون التسبيح في الجنة بل التسمية في الدنيا و تحيّتهم فيها سلام أي تحيتهم من اللّه سبحانه في الجنة سلام،و قيل معناه تحيّة بعضهم لبعض او تحيّة الملائكة لهم فيها سلام يقولون سلام عليكم أي سلمتم من الآفات و المكاره التي ابتلي بها اهل النار،و قوله و آخر دعواهم ان الحمد للّه رب العالمين،و ليس المراد ان يكون ذلك آخر كلامهم حتّى لا يتكلموا بعده بشيء بل المراد انّهم يجعلون هذا آخر كلامهم في كلّ ما ذكروه فيكون الأبتداء في الحمد كما عرفت من قول آدم عليه السّلام لمّا دخلت فيه الروح الحمد للّه رب العالمين عند ما عطس و الأختتام في كلام اهل الجنة بالحمد.

و روى شيخنا ابن بابويه باسناده الى مولانا الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام قال:قال النبي صلّى اللّه عليه و آله دخلت الجنة فرأيت اكثر اهلها البله قال:قلت له ما الأبله؟فقال العاقل:في الخبر الغافل عن الشرّ الذي يصوم في كل شهر ثلاثة ايام أقول قد ورد هذا الحديث خاليا عن التفسير في مواضع اخرى مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله انّ اكثر اهل الجنة البله انّ اقل ساكني الجنّة النساء و الأبله في اللغة الناقص العقل و فسره بعضهم بأن المراد بهم من لا ريبة في قلوبهم و غائلة في دخائلهم فهم بله عن الشرّ لا يستعملونه و يمكن الجمع امّا بحمل المطلق على المفيد او على انّ التفسير راجع

ص:207

الى الفرد الأكمل فانّ من كان غافلا عن الشرّ يسمّونه اهل الدنيا أبلها في اصطلاحهم،و حينئذ فلا ينافي ارادة غيره من ناقص العقل و غيره.

و اما قوله صلّى اللّه عليه و آله انّ اقل ساكني الجنة النساء،و فقد روي عنهم عليهم السّلام ايضا انّ اكثر اهل الجنة النساء و الصبيان،و وجه الجمع انّ مراتب الجنان متفاوتة الدرجات كالنيران فيجوز ان تكون الأقلية بالنسبة الى اعالي درجاتها و ذلك لأنّ النساء ناقصات العقول ناقصات الأديان فيكون درجاتهنّ في الجنة ناقصة ايضا بالنسبة الى الرجال و يجوز ان يراد من النساء و الصبيان في قولهم عليهم السّلام انّ اكثر اهل الجنة النساء و الصبيان حور العين و الولدان فانّ المؤمن يعطي منهما ثمانين الفا و ثمانين الفا و روى الصدوق ره باسناده الى مولانا الأمام علي بن موسى الرضا عليهما السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي يسقط من المائدة مهور حور العين.

اقول المائدة كما في كتب اللّغة أتى تارة بمعنى الطعام و اخرى بمعنى الخوان او على غيره، و كذا الساقط من الخوان على الأرض او على غيره اذا أكله المؤمن و عظم نعمت اللّه تعالى كان ثوابه حور العين.

نعم قد روي في صحيفة الرضا عليه السّلام انّ ما يسقط من الخوان مهور الحور،فيمكن حمل ماهنا عليه بارادة الخوان من المائدة لأنّه احد معانيها،و على التقديرين فهل يترتب هذا الثواب على أكل الكلّ او البعض كلّ محتمل و الأظهر انّ كلّ حبّة من ذلك الحب الساقط مهر واحدة من الحور العين.

فان قلت اذا خلّد أهل الجنة في جنانهم و أهل النار في نيرانهم فما يكون حال هذا العالم بعدهم؟قلت قد روينا باسناده الى جابر قال:سئلت ابا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عز و جل أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فقال:يا جابر تأويل ذلك انّ اللّه عز و جل اذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن اهل الجنة بالجنة و اهل النار بالنار جدّد اللّه عالما غير هذا العالم و جدّد خلفا من غير فحولة و لا اناث يعبدونه و يوحدونه و خلق لهم ارضا غير هذه الأرض تحملهم و سماء غير هذه السماء تظلهم،لعلك ترى ان اللّه عز و جل انّما خلق هذا العالم الواحد،و ترى انّ اللّه عز و جل لم يخلق بشرا غيركم،بلى و اللّه لقد خلق اللّه تبارك و تعالى ألف ألف عالم و ألف ألف آدم انت في أواخر تلك العوالم،و اولئك الآدميين.

و لنختم هذا الكتاب هنا حامدين و مصلين على النبي صلّى اللّه عليه و آله قد فرغ من مشقة مؤلفه العبد المذنب الجاني نعمت اللّه الحسيني الجزائري يوم الثلاثاء خامس عشر شهر رمضان المبارك سنة التاسعة و الثمانين بعد الألف كتب هذه الأحرف مؤلّفه المزبور حامدا مصليا على النبي صلّى اللّه عليه و آله تمّ و كمل.

ص:208

خاتمة في مجمل احوال مؤلف هذا الكتاب و هو

نعمة اللّه الحسيني الجزائري

اعلم اطال اللّه بقاك انّ مولد الفقير هو سنة خمسين بعد الألف و سنة تأليف هذا الكتاب هي السنة التاسعة و الثمانون بعد الألف فهذا العمر القليل قد مضى منه تسعة و ثلاثون سنة فانظر ما اصاب صاحبه من المصائب و الأهوال،و مجمع الأحوال هو انه لمّا مضى من ايّام الولادة خمس سنين و كنت مشعوفا باللّه و اللعب الذي يتداوله الأطفال فكنت جالسا يوما مع صاحب لي و نحن في بعض لعب الصبيان اذ اقبل الى المرحوم والدي،فقال لي:يا نبي امض معي الى المعلّم و تعلم الخط و الكتابة حتّى تبلغ درجة الأعلام،فبكيت من هذا الكلام و قلت هذا شيء لا يكون فقال ليكانّ صاحبك هذا نأخذه معنا و يكون معك يقرأ عند المعلم،فأتى بنا الى المكتب و أجلسنا فيه فقرأت انا و صاحبي حروف الهجاء،فأتيت اليوم الآخر الى والدتي و قلت لها ما أريد المكتب بل اريد اللعب مع الصبيان،فحدثت والدي فما قبل منها فأيست من قبوله،فقلت ينبغي ام اجعل جدّي و جهدي في الفراغ من قراءة المكتب،فما مضت ايّام قلائل حتّى ختمت القرآن و قرأت كثيرا من القصائد و الأشعار في ذلك الوقت و قد بلغ العمر خمس سنين و ستّة اشهر.

فلمّا فرغت من قراءة القرآن جئت الى والدتي و طلبت منها اللعب مع الصبيان فاقبل الي والدي تغمده اللّه برحمته و قال لي:يا ولدي خذ كتاب الأمثلة و امض معي الى رجل يدرسك فيها فبكيت فاراد اهانتي و اخذني الى رجل عمي لكنه كان قد احكم معرفة الأمثلة و البصروية و بعض الزنجاني فكان يدوسني و كنت اقوده بالعصا و اخدمه و بالغت في خدمته لأجل التدريس،فلمّا قرأت الأمثلة و البصروية أردت قراءة الزنجاني انتقلت الى رجل سيد من اقاربنا كان يحسن الزنجاني و الكافية،فقرأت عليه و في مدة فراءتي عنده كان يأخذني معه كل يوم الى بستانه و يعطيني منجلا و يقول لي:يا ولدي حشّ هذا الحشيش لبهائمنا فكنت احشّ له و هو جالس يتلو على صيغ الصرف و الأعلال و الأدغام فاذا فرغت شددت الحشيش حزمة كبيرة و حملته على رأسي الى بيته و كان يقول لي لا تخبر أهلك بهذا،فلمّا مضى فصل الحشيش و أقبل فصل رود الأبريسم فكنت كل يوم احمل له حزمة من خشب التوت حتّى صار رأسي اقرعا فقال لي والدي ره:ما لرأسك فقلت:لا اعلم فداواني حتّى رجع شعر رأسي الى حالته.

فلمّا فرغت من قراءة الزنجاني و اردت قراءة الكافية قصدت الى قرية تسمّى كارون و نحن في قرية يقال لها:الصباغية في شطّ المدك،فقرأت في تلك القرية عند رجل فاضل و أقمت عندهم، فكنت يوما في المسجد فدخل علينا رجل ابيض الثياب عليه عمامة كبيرة كأنها قبّة صغيرة و هو يرى

ص:209

الناس أنّه رجل عالم فتقدمت اليه و سألته بصيغة من صيغ الصرف فلم يرد الجواب و تلجلج فقلت له:اذا كنت لا تعرف هذه الصيغة فكيف وضعت على رأسك هذه العمامة الكبيرة؟! فضحك الحاضرون و قام الرجل من ساعته و هذا هو الذي شجعني على حفظ صيغ الصرف و قواعده و انا استغفر اللّه من سؤال ذلك الرجل المؤمن لكنّي احمد اللّه على وقوع ذلك قبل البلوغ و التكاليف،فبقيت هناك كم من شهر و مضيت الى شطّ يقال له نهر عنتر لأنّي سمعت انّ به رجلا عالما و قد كان اخي المرحوم المغفور له الفاضل الصالح الورع السيّد نجم الدين يقرأ عنده.

فلما وصلت اليه لقيت اخي راجعا من عنده فرجعت معه الى قريتنا ثمّ قصدت قرية يقال لها شط بني اسد للقرائة على رجل عالم كان فيها فبقيت هناك مدة مديدة ثم رجعت الى قريتنا فمضى اخي المرحوم و كان اكبر مني الى الحويزة،فقلت لوالدي:اني اريد السفر الى اخي الى الحويزة لأجل طلب العلم فأتى بي الى شط السحاب و ركبنا في سفينة و اتينا من طريق ضيق قد احاط به القصب من الجانبين و ليس فيه متسع الاّ للسفينة و كان الوقت حارا و هاج علينا من ذلك القصب بق كلّ واحدة منها مثل الزنبور و أين ما لدغ ورم موضعه،ذلك الطريق اسمه طريق الشريف و في ذلك الطريق الضيق رأينا جماعة من اهل الجاموس فقصدناهم و كنا جياعا فخرجنا عليهم وقت العصر و فرش لنا صاحب البيت فراشا فصار وقت المغرب،فلمّا صلينا صرنا في انتظار العشاء و ما جاء لنا بشيء حتّى اتى وقت النوم و اشتدّ جوعنا و أخذ النوم فنمنا جياعا فلمّا بقي من الليل بقيّة قليلة جاء صاحب البيت الى قربنا و شرع ينادي جاموسه و يقول يا صبغا و يا قرحاء هاى،فلمّا رفع صوته و سمعت الجاموس ذلك الصوت اقبلن اليه من بين القصب فلمّا خرجن اليه سألت واحدا منهم ما يريد هذا الرجل من هذا الجاموس؟فقال:يريد ان يحلبهن و يبرد الحليب و يطبخ لكم طعاما من الحليب و الأرز،فقلت:انا للّه و انا اليه راجعون،و أخذني النوم فلمّا قرب الصباح أتى بقصعة كبيرة و أيقظنا فلم نر على وجه تلك القصعة شيئا من الأرز،فمددنا ايدينا فيها الى المرافق فوقعنا على حبات منه في قعر تلك الجفنة و شربنا من ذلك الحليب و يا لها من ليلة ما اطولها و ما كان اجوعنا فيها خصوصا لمّا شربنا من هذا الحليب.

فركبنا بعد طلوع الشمس و أتينا الى الحويزة و قد كان اخي قبلي ضيفا عند رجل من أكابرها و يقرأ في شرح الجامي عند رجل من افاضلها فتشاركنا في الدرس و بقينا نقرأ عنده في شرح الجار بردي على الشافية،و هذا الأستاد ايضا رحمة اللّه تعالى قد استخدم علينا كثيرا و اسمه الشيخ حسن بن سبتي و كان قد عيّن على كل واحد منّا انّا اذا اردنا قضاء الحاجة او البول و مضينا الى جرف الشط ان يأتي كل واحد منا معه بصخرتين او آجرتين من قرب قلعة الترك،فربّما ترددنا في اليوم الى الشط مرارا و هذا حالنا فلمّا اجتمع عنده صخر كثير أراد ان يبني منزله فطلب و كنا نحن

ص:210

العملة فبنينا له ما اراد بناء من البيوت و اذا مضينا معه الى الحويزة العتيقة و اردنا الرجوع قال:

يا اولادي تمضون و تمشون من غير حمل؟فكان يطلب سمكا عتيقا من أهلها و أشياء اخرى و يقول لنا احملوه،فكنا نحمله و ماؤه يجري على وجوهنا و كنّا اذا اردنا كتابة حاشية من كتابه ما يأذن لنا لكن ربما اخذنا الكتاب منه سرقة و كتبنا منه بعض الحواشي و هكذا كان حاله ره معنا و كنا راضين بخدمته غاية الرضا لبركات انفاسه الشريفة في الدرس،و كان طاب ثراه حريصا على الكتب و بقية بعده عند أزواج بناته لا يعرف لها قيمة و هذا كان حالنا في الدرس.

و امّا بالنسبة الى المآكل فقد قلنا انّنا كنّا في بيت رجل من اكابرها و في اكثر الأوقات كنّا نبقى في المدرسة لأجل المباحثة الى وقت الظهر فاذا مضينا الى منزل الرجل وجدناهم فرغوا من الغذاء فنبقى الى الليل و قد كان صاحبي يلقط قشور البطيخ و الرقي من الأرض و يأكلها بترابها و كان يستتر عنّي بهذا حياء و خجلا،و كنت انا افعل مثل فعله فأتيت يوما و طلبته فرأيته قد جمع القشور و جلس تحت الباب يأكلها بترابها فلمّا رأيته ضحكت فقال:فاذا كان هذه حالنا فنجمع هذه القشور كلّ يوم و نغسلها بالماء و نأكلها،فبقينا على هذا مدّة و كنّا في تلك المدة نطالع على نور القمر و كنت تعمدّت حفظ متون الكتب مثل الكافية و الشافية و الفية ابن مالك و نحوها،فاذا كانت الليالي مقمرة كنت اطالع و اذا جاءت الليالي السود كنت اكرر قرائة تلك المتون على ظاهر قلبي حتّى لا انساها،و كان اهل المجلس يجلسون و أنا معهم و كنت اظهر لهم صداع رأسي فاضع رأسي بين ركبتي و أقرأ تلك المتون و هكذا كان حالي.

فبقيت على هذا مدة فأتى والدي من الجزائر و قال:ان امكما تريدكما فأخذنا معه الى الجزائر و بقينا فيها ايّاما قلائل فرجعنا ايضا الى الجويزة فرأينا رجلا من اهل الجزائر يريد السفر الى شيراز فأخذ المرحوم اخي كتبه و اسبابه و مضى الى البصرة و اتيت انا معه الى الجزائر و كان شهر رمضان المبارك فبقيت عند اهلي اربعة ايام و ركبت انا و ذلك الرجل في سفينة و قصدنا البصرة فلمّا ركبت الفسينة من غير خبر من اهلي ظننت انّ والدي يطلبني،فقلت لأهل السفينة انا اخلع ثيابي و انزل الى الماء و أقبض سكان السفينة و السفينة تجري فكنت في الماء و السفينة تسير حتى لا يراني احد فلما ايست من الطلب ركبت في السفينة و في اثناء الطريق رأينا جماعة على جرف الشط و نحن في وسطه فصاح لهم ذلك الشيخ و قال:انتم من الشيعة ام من السنة؟فقالوا:نحن من السنة فقال:لعن اللّه(فلان و ابا زينب و فلان أ تعرفون ان ابا زينب خ ل)عمر و ابا بكر و عثمان أ تعرفون ان عمرا كان مخنثا فصاحوا عليه بالشّتم و اللعن فضجوا أهل السفينة عليهم و السفينة تجري و تلك الجماعة على جرف الشط يمشون و يرموننا بالحجارة فبقينا على هذه الحال معهم نصف نهار،

ص:211

فمضينا الى البصرة و كان سلطانها في ذلك الوقت حسين باشا فبقينا فيها نقرأ عند رجل فاضل من اجلاء السادة فبقينا مدّة قليلة.

ثم ان وادلي ره تبعنا فأتى ليأخذه الى الجزائر فاظهر لنا الرغبة الى ما اراد فأتينا الى سفينة و استأجرنا مكانا فيها من غير خبر والدي فركبنا فيها و سافرنا الى شيراز فخرجنا من السفينة الى بندر حماد و استأجرت انا و اخي دابّة واحدة لقلة ما عندنا من الدراهم و ذلك الطريق صعب جدا من جهة الجبال فقطعت تلك الجبال كلها و انا حافي الأقدام و كان عمري في ذلك اليوم يقارب الأحدى عشر سنة،فوصلنا الى شيراز صلاة الصبح فمضينا الى بيت ذلك الشيخ الذي كان معنا و كان منزله بعيدا من مدرسة المنصورية و نحن كنا نريد السكنى فيها لأنّ لأنّ بعض اقاربنا كان فيها،فقال لنا ذلك الشيخ:خذوا الطريق و اسألوا و قولوا مدرسة المنصورية(ميخواهيم)و معناه بالعربية نريدها،فمضينا نمشي فحفظت انا كلمة و اخي كلمة اخرى فكنّا اذا سئلنا قال احدنا مدرسة المنصورية و قال الآخر(ميخواهيم)فوصلنا الى تلك المدرسة فجلست انا في الباب و دخل اخي اليها فكان كلّ من يخرج من طلبة العلم و يراني يرق لحالي و ما أصابني من آثار التعب.

فلما وجدنا صديقنا قعدنا معه في حجرته و اخذنا في اليوم الآخر لزيارة رجل فاضل و هو الشيخ البحراني فكان يدرّس في شرح الفيّة بن مالك فسلّمنا عليه و أمر لنا بالجلوس فلما فرغ سألنا من اين القدوم؟فحكينا له الأحوال فقام معنا فأخذني وراء اسطوانة المسجد فلزم اذني و عركها عركا شديدا و قال:ايّها الولدان لم تجعل نفسك شيخا للعرب و تحب الرئاسة فيضيع به وقتك تصير رجلا فاضلا فلزمت كلامه و أنزويت عن الأحباب و الأخلاّء في وقت قرائتي فمضى معنا الى متولّي المدرسة فعيّن لنا شيئا قليلا لا يفي بوجه من الوجوه ثمّ شرعنا قرائة الدرس عند ذلك الشيخ و عند غيره.

فلما مضت لنا أيام قلائل قال لي اخي و صديقي:ينبغي ان نرجع الى الجزائر لأنّ المعاش قد ضاق علينا فقلت لهم:انا اكتب بالأجرة و اعبر اوقاتي فكتبت بالأجرة لمعاشي و كاغذى و ما احتاج اليه و كنت ايضا اكتب اربعة دروس للقرائة و احشيها و أصحّحها وحدي و كان حالي في وقت الصيف الحار انّ طلبة العلم يصعدون الى سطح المدرسة و انا اغلق باب الحجرة و أشرع في المطالعة و الحواشي و تصحيح الدرس الى ان يناجي المؤذن قريب وقت الصبح،ثم اضع وجهي على الكتاب و أنام لحظة فاذا طلع الصبح شرعت في التدريس الى وقت الظهر فاذا اذن المؤذن قمت اسعى الى درسي التي أقرأها فربما أخذت قطعة خبز من دكان الخباز في طريقي فآكلها و انا امشي و في اغلب الأوقات ما كان يحصل فأبقى الى الليل،و كنت في اكثر احوالي اذا جاء الليل لم اعلم انّي أكلت شيئا في النهار ام لا فاذا تفكرت تحقّقته انّي لم آكل شيئا،فأتى لي زمان ما كان

ص:212

عندي دهن سراج للمطالة،فأخذت غرفة عالية و جلست بها و كان بها ابواب متعددة فكنت اذا اضاء القمر فتحت كتابي للمطالعة،و كلما دار القمر فتحت بابا من الأبواب و بقيت على هذه الحالة مدّة سنتين فضعف بصري فهو ضعيف الى هذا الآن.

و كان لي درس اكتب حواشيه بعد صلاة الصبح في وقت الشتاء و كان الدم يجري من يدي من شدة البرد و كنت لا اشعر به،و هكذا كانت الأحوال الى ثلاث سنوات فشرعت في تأليف مفتاح اللبيب على شرح التهذيب في علم النحو و متنه من مصنفات شيخنا بهاء الدين محمد تغمده اللّه برحمته،و كتبت في ذلك الوقت شرحا على الكافية فقرأت علوم العربية عند رجل فاضل من اهل بغداد،و الأصول عند رجل محقق من الأحساء و المنطق و الحكمة عند المحققين المدققين شاه ابي الولي و ميرزا ابراهيم و علم القرائة عند رجل فاضل من اهل البحرين،و كنا جماعة نقرأ عند الشيخ الجليل الشيخ جعفر البحراني و كنت انا اسمع ذلك الدرس بقرائة غيري فاذا اتيت الى ذلك الشيخ فكلّ من يجلس قبل يقول له:أقرأ حتّى يجلس القاري و كان يشجعنا على الدرس و على فهم معناه من المطالعة،و يقول لنا:انّ الأستاذ انما هو للتيمن و التبرك و الاّ ففهم الدرس و تحقيق معناه انما هو من مطالعة التلميذ.

و قد اتفق انّه جاءنا خبر فوت جماعة من اعمامنا و أقاربنا فجلسنا في ذلك اليوم في عزائهم و مارحنا الى الدرس فسأل عنا و قيل لهكانهم اهل مصيبة فمضينا الى الدرس اليوم الثاني فلم يرض ان يدرسنا و قال:لعن اللّه ابي و امي ان درستكم كيف ما جئتم امس الى الدرس فحكينا له، فقال:كان ينبغي ان تجيئوا الى الدرس فاذا اقرأتموه انصرفتم الى عزائكم هذا ابوكم يأتيكم ايضا خبر فوته فتقطعون الدرس فحلفنا له انّ لا نقطع الدرس يوما واحدا و لو اصابنا ما أصابنا فقبل ان يدرسنا بعد مدّة و اتفق انّنا كنا نقرأ عنده في اصول الفقه في شرح العميدي فاتفقت فيه مسئلة لا تخلو من اشكال فقال لنا و نحن جماعة طالعوها هذه الليلة فاذا اتيتم غدا فكل من عرفها يركب صاحبه و يحمله من هذا المكان الى ذلك المكان فلمّا اتينا اليه غدا و قرر اصحابي تلك المسئلة قال لي:تكلم انت فتكلمت فقال:هذا هو الصواب و كلّما قال الجماعة غلط فقال لي:امل عليّ ما خطر بخاطرك حتّى اكتبه حاشية على كتابي فكنت انا املي عليه و هو يكتب فلمّا فرغ قال لي:

اركب على ظهر واحد واحد من اصحابك الى هناك فحملوني الى ذلك المكان و هذا كان حاله فأخذني ذلك اليوم معه الى بيته و قال لي:هذه ابنتي اريد ان أزوّجك بها فقلت:ان شاء اللّه تعالى اذا توسعت في طلب العلم فاتّفق انّه سافر الى الهند و صار مدار حيدر آباد عليه و قد سألته يوما عن تفسير شيخنا الشيخ عبد علي الحويزي الّذي الفّه من الأخبار فقال لي:ما دام الشيخ عبد علي حيّا فتفسيره لا يساوي قيمة فلس فاذا مات فاول من يكتبه بماء الذهب انا ثم قرأ:

ص:213

ترى الفتى ينكر فضل الفتى لوما و بخلا فاذا ما ذهب

لجّ به الحرص على نكتة يكتبها عنه بماء الذهب

و نظير هذا انّ رجلا من فضلاء اصفهان صنّف كتابا فلم يشتهر و لم يكتبه احد فسأله رجل من العلماء لم لا يشتهر كتابك؟فقال:انّ له عدوا فاذا مات اشتهر كتابي،فقال له و ما هو؟قال:

انا و قد صدق في هذا الكلام،و بقيت في شيراز تسع سنوات تقريبا و قد اصابني فيها من الجوع و التعب ما لا يعلم به الا اللّه،و في خاطري انّي قد بقيت يوم الأربعاء و الخميس ما وقع في يدي الاّ الماء فلمّا اتت ليلة الجمعة رأيت الدنيا تدور ب و قد اسودت كلها في عيني فمضيت الى قبة السيد احمد بن الأمام موسى الكاظم فأتيت الى قبره و لزمته و قلت له:انا ضيفك فكنت واقفا فاذا رجل سيّد قد اعطاني قوت تلك الليلة من غير طلب فحمدت اللّه و شكرته و مع ما كنت فيه من الجدّ و الأجتهاد كنت كثيرا ما اتنزه في البساتين و الأماكن الحسنة مع الأصحاب و الأعلام و في وقت الورودات نمضي الى البساتين و نبقى فيها اسبوعا و اقل و اكثر و لكن الأشتغال ما كنت افوته من يدي و قد منّ اللّه عليّ في شيراز بأصحاب صلحاء نجباء علماء و كانوا موافقين لي في السن.

و من جملة رياضاتي للدرس انّ صاحبا لي كان منزله في طرف شيراز و كنت ابات عنده لأجل دهن السراج حتّى اطالع و كان لي درس اقرأه على ضوء سراج آخر الليل في مسجد الجامع و هو في طرف آخر من البلاد،و اقوم من هناك و قد بقي من الليل بقية كثيرة و معي عصا و بين ذلك المنزل و بين المسجد اسواقا كثيرة و في آخر الليل و ليس في شيء منها سراج بل كلها مظلمة و الداهية العظيمة انّ عند كل دكان بقال كلب يقرب من العجل لحراسة ذلك الدكان،و كنت أجيء وحدي من ذلك المكان البعيد فاذا وصلت الى السوق لزمت جداره حتى اهتدي الى الطريق و اذا وصلت الى دكان البقال شرعت في قرائة الأشعار جهرا حتّى لا يظن الكلب اني سارق بل كان يظن يظن انّنا جماعة عابرين الطريق،و كنت عند كل دكان احتال على الكلب بحيلة حتى اخلص منه و بقيت على هذا برهة من الزمان و كنت في مدرسة المنصورية و حجرتي فوق و لا كنت احبّ احد يجيء اليّ و لا يمشي الى قريب منها و كنت احبّ الأنفراد و الوحدة و بقيت على هذه الأحوال تلك المدة.

ثمّ كاتبني والدي و والدتي و ألحوا عليّ في الوصول الى الجزائر فمضيت اليهم انا و اخي سنة موج الجزائر الأخير لأن الموج الأول موج عواد فلمّا وصلنا الى الأهل فرحوا بنا لقدومنا و لأن كل من مضى من تلك البلاد رجع من غير علم فقالت والدتي:ينبغي ان تتزوجا حتى ارضا عنكما فقلت انّ علم الحديث و الفقه قد بقي علينا قرائته فقالت:لا بد ان تتزوجا و كان الحامل لها على

ص:214

هذا هو اننا اذا تزوجنا الزمنا السكنى معها فقبلنا كلامها و تزوجنا و بقيت بعد التزويج قريبا من عشرين يوما فمضيت الى زيارة رجل فاضل في قرية يقال لها نهر الصالح،فلما اجتمعنا و تباحثنا في العلوم العقلية فقالوا لي:وا اسفا عليك كيف فاتك علم الحديث فقلت:و كيف فاتني علم الحديث قال لقولهم ذبح العلم في فروج النساء فرماني في الغيرة فقلت له:و اللّه يا شيخ لا ارجع الى اهلي و ها انا اذا قمت من مجلسك توجهت الى شيراز فاستبعد قولي فقمت منه و ركبت في سفينة و أتيت الى القرنة و كان فيها سلطان البصرة فاخذني معه الى الصحراء للتنزّه فلما رجعنا أتيت الى البصرة و لاحظت ان والدي يتبعني فركبت في سفينة و قصدت الى شيراز فأتيت الى تلك المدرسة و لحقني اخي فأقمنا فيها و أتى الينا خبر موت الوالد تغمّده اللّه برحمته فبقينا بعده شهرا او اقلّ.

ثمّ انّ مدرسة النصورية احترقت و احترق فيها واحد من طلبة العلم و احترق لي فيها بعض الكتب و صارت بعض المقدمات فسافرنا الى اصفهان و كنا جماعات كثيرة و اصابنا في الطريق برد تيقّنا معه الهلاك فمنّ اللّه علينا بالوصول فجلسنا في مدرسة ليس فيها الا اربع حجرات في(سرنيم اورد)و جلسنا في حجرة واحدة و كنّا جماعة كثيرة فكنّا اذا نمنا في تلك الحجرة و اراد واحد منّا الأنتباه في الليل لحاجة انبهنا جميعا ثم انّه قد تضايقت علينا امور المعاش و بعنا ما كان عندنا من ثياب و غيرها و كنّا نتعمد اكل الأطعمة المالحة لجل ان نشرب ماء كثيرا و نأكل الأشياء الثقيلة لذلك ايضا ثم بعد هذا منّ اللّه عليّ بالمعرفة مع استاذنا المجلسي ادام اللّه ايّام سلامته فأخذني الى منزله و بقيت عندهم في ذلك المنزل اربع سنين تقريبا و قد عرفت اصحابي عنده فأيدهم باسباب المعاش و قرأنا عليه الحديث.

ثمّ انّ رجلا اسمه ميرزل تقي بنى مدرسة و ارسل اليّ و جعلني فيها مدرسا و المدرسة تقرب من حملم الشيخ بهاء الدين محمد تغمده اللّه برحمته فأقمت في اصفهان اقرأ و ادرس ثمان سنوات تقريبا ثمّ اصابني ضعف في البصر بكثرة المطالعة و كان في اصفهان جماعة كحّالون فداووا عيوني بكلّما عرفوا فما رأيت من دوائهم الاّ زيادة في الألم فقلت في نفسي:انا اعرف بالدواء فقلت لأخي ره انّي اريد السفر الى المشاهد العالية فقال:انا اكون معك فسافرنا من طريق اصفهان و في اثناء الطريق وصلنا الى كرمان شاه و تجاوزناها و قمنا من منزل و نريد منزلا آخر و هو الهارونيّة بناها هارون الرشيد لعنه اللّه تعالى فلما صعدنا الجبل اصابنا فوقه مطر و هواء بارد و صار الصخر تزلق فيه الأقدام و لا يقدر يستمسك الراكب على الدابة من الهواء البارد و شدّته و المطر فشرعت انا في قراءة آية الكرسي فليس احد من اهل القافلة الاّ و قد سقط من الدابّة و انا بحمد اللّه وصلت الى المنزل سالما،فلما وصلنا المنزل كان فيه خان صغير و له حوش و ليس فيه حجر و انّما فيه طوائل للدواب و مرابطها فأدخلنا أعراضنا و الكتب الى طويلة و وضعنا فوق صفّتها و اتّفق ان تلك

ص:215

الطوائل كان فيها اسماد كثير و قد عمد اليه بعض المترددين و وضع فيه النار لأجل ان يحترق ذلك السماد فما كان في تلك الطوائل الاّ الدخان الخانق و مطرت السماء فتحيرنا بين المطر و الدخان فكنّا نقبض على خياشيمنا فاذا ضاقت انفاسنا خرجنا من الطويلة الى الحوش و تنفسنا و رجعنا فكنا نلك الليلة وقوفا ليس لنا حاجة الا الخروج للتنفس و يا اخوان ما كان اطول تلك الليلة فلمّا اصبح الصباح و طلعت الشمس و خرجنا الى الحوش و جاءنا اهل تلك القرية يبيعون علينا الخبز و غيره فأتت الينا امرأة منهم و كان لها لحية طويلة نصفها بيضاء و نصفها سوداء فتعجّبنا منها.

ثمّ اننا وصلنا الى بعقوبا فأودعنا كتبنا و أغراضنا لأهل القافلة و مضينا نحن مع جماعة قليلة الى سرّ من رأى فلما عزلنا عن القافلة و سرنا فرسخا تقريبا لقينا رجل فقال لنا:انّكم تمضون و اللصوص امامكم في نهر الباشا فترددنا في الرجوع و المضيّ فصار العزم على المضي فلما وصلنا الى ذلك النهر طلعت علينا خيولهم فعدوا علينا فقرأت آية الكرسي و أمرت أصحابي بقرائتها فلما وصلوا الينا انفردوا عنّا ناحية و كانوا يتفكّرون فرأيناهم جاؤوا الينا و قالوا لنا:قد ضللتم الطريق و كان الحال كما قالوا فأرسلوا معنا رجلا منهم و سار معنا الى قرب المنزل و هو القازاني استقبلنا جماعة من سادات (1)سرّ من رأى لأجل ان يأخذونا و كان آخر اختيارنا من ارواحنا و اموالنا اوّل وقوعنا بايديهم و كانت عندنا دواب فقالوا:ينبغي ان تركبوا دوابنا لأجل الأجرة فركبنا دوابهم فوصلنا الى المشهد المبارك في الليل فنزلنا في بيت ذلك السيّد فأتت الينا امرأة بقبضة حطب قيمتها أقلّ من الفلس.

فلمّا صلينا قلنا لهكنروح الى الزيارة قال:لا حتى تأكلوا الضيافة عندي فقلنا له:نحن معنا من الخبز و اللحم ما يكفينا فقال:لا يكون هذا فبعد ساعة قدم الينا جفنة من الخشب كبيرة و فيها ماء اسود لا ندري ما يكون تحته و فيها خواشيق فقلنا هذا أي شيء؟فقال:مدوا ايديكم فمددنا ايدينا و كان ذلك الماء حارّا فمددنا الخواشيق فقصرت عن الوصول الى قعر الجفنة فمددنا بعض ايدينا و تناولنا بالخواشيق ما في قعر الجفنة فكان حبّات ارزة و كان قد غلاّها مع ذلك الماء فشربنا كلّ واحدة خاشوقة و قمنا للزيارة فقال لنا ذلك السيد المبارك اعلموا يا ضيفاني انّ سادة سامراء ليس لهم خوف من اللّه و لا حياء فاذا دخلتم قبّة الأمام عليه السّلام اخذوا ثيابكم و لكنّكم اكلتم ملحي فأنا انصحكم ان تجعلوا ما عندكم من الثياب الجديدة عندي في منزلي و خذوا خلقان ثيابكم حتّى لو

ص:216


1- (1) عدة من خدم الحرم العسكريين عليهما السّلام في سر من رأى يدعون السادة و في رؤوسهم علامة الهاشميين و اللّه اعلم بحقيقة حالهم و اظنهم ان كانوا من بني هاشم انهم من بني العباش و هم من اهل السنة كسائر اهل سامراء و لكن يظهرون للزوار انهم من الشيعة و هم من اشد الناس قساوة و شقاوة و ايذاء لخلق اللّه تعالى و المشهور انهم ليسوا من السادات و انما ادعوا ذلك كذبا.

اخذت منكم ترجعون الى هذه الثياب فاستعقل كلامه اصحابنا و وضعوا ثيابهم عنده و اما انا فقلت قد اصابني البرد هذه البارحة فلبست ثيابي واحدا فوق الآخر فلمّا مضينا الى الزيارة اخذوا منا في الباب الأول من كل واحد اربع محمديات فلمّا وصلنا الباب الثاني اخذوا منا ايضا فزرنا موالينا و اتينا الى السرداب فلمّا نزلنا اليه احاطوا بنا تحت الأرض فأخذوا ما أرادوا و كأنّي ارى طرف ميزر واحد ما اصحابي في يده و الطرف الآخر في يد رجل سيّد من السادة فأخذه السيّد و بقي صاحبي مكشوف الرأس فأتينا الى منزل صاحبنا فقلنا له:هات الثياب فقال:اولا حاسبوني على حقوقي و ادفعوها اليّ فقلنا هذا يكون فاحسبها انت فقال:الأول حق الأستقبال فقلنا له هذا حق واضح فقال لخواطركم كل واحد محمّديتين فأخذ منا،ثمّ قال:حق المنزل البارحة فأخذ حقه، ثمّ قال:حق الحطب فأخذ من كل واحد نصف محمديّة،ثم قال:حق المرأة التي اتت به فأخذ ما أراد،ثمّ قال:و الحق اعظم حقّ الضيافة و هو من كل واحد محمّديّة فاخذ ذلك الحق،ثمّ قال:

حق الحماية و هو انكم في منزلي و لولاه كان السادة أخذوا ما معكم فأخذ ذلك الحقّ فقال:حقّ المشايعة فأخذه،فلما قبض الحقوق كلها قلنا له:أعطنا الثياب فقال:قولوا مع انفسكم انّنا اخذناها معنا لمّا دخلنا القبة الشريفة اما كان السادة يأخذونها منكم فها انا من السادة و اخذتها منكم من غير اهانة بكم فقلنا له:جزاك اللّه خيرا.

فرجعنا الى بغداد و أتينا من بغداد الى مشهد الكاظميين عليهما السّلام،ثمّ أتينا الى زيارة مولانا ابي عبد اللّه الحسين عليه السّلام و كنت قد أخذت ترابا من عند رأس كلّ امام فأخذت من تراب رجلي الحسين عليه السّلام و وضعته فوق ذلك التراب و اكتحلت به ففي ذلك اليوم قوى بصري على المطالعة و صار اقوى من الأول،و كنت قد أفّت شرحا على الصحيفة الشريفة فشرعت في اتمامه ذلك اليوم و الى الآن كلّما عرض لي رمدا او غيره اكتحلت بشيء من ذلك التراب و يكون هو الدواء،و لمّا قدمت الى مشهد مولانا امير المؤمنين عليه السّلام و زرته مددت يدي الى تحت الفراش من عند رأسه المبارك لأخذ شيء من التارب فجائت في يدي درة بيضاء من درّ النجف فاخذتها و لمّا خرجت قلت لأخواننا المؤمنين فتعجبوا و قالوا:ما سمعنا بأنّ احدا وجد درّة النجف في هذا المكان بل هذا ملك اتى بها و وضعها في هذا المكان و ذلك انّه قبل ذلك التاريخ با عوام كثيرة قد وجد واحد من الخدام درّة في صحن الحوش فاخذها منه المتولي و ارسلها الى حضرة الشاه صفي لأنّها وجدت في لك المكان و الحاصل انّ تلك الدرّة صنعناها خاتماص و هي الآن عندنا نتبرك بميامنها و قد شاهدنا لتلك الدرة احوالات عجيبة،منها انّني كنت لابسا ذلك الخاتم فمضيت الى مسجد الجامع في شوشتر فصلّيت المغرب و العشاء و أتيت الى المنزل فلمّا جلست عند السراج و نظرت الى فص الخاتم لم اره و كان قد وقع في ذلك الليل فضاق صدري و حزنت حزنا عظيما،فقال لي بعض بعض

ص:217

تلامذتي نأخذ سراجا و نروح في طلبه،فقلت لهم:لعله يكون قد وقع منّي النهار و انا اليوم مضيت الى اماكن متعددة،فقلت لهم:توكّلوا على اللّه و اطلبوه فاخذوا سراجا و مضوا فاول ما وضعوا السراج قرب الأرض لطلبه وجدوه مع انّه بمقدار الحمصة فعجب الناس من هذا فلمّا بشر و نيتخيّلت ان اموال الدنيا و هبت لي و الحمد للّه هو الآن موجود.و لمّا فرغنا من الزيارة شرعنا في زيارة الأفاضل و المجتهدين و المباحثة معهم و مصاحبتهم،ثمّ اتينا الى الرماحية و كنت ضيفا عند رجل من المجتهدين و بقيت عنده ايما قلائل فاستأجرت سفينة و ركبت فيها قاصدا للجزائر فسارت السفينة فرسخين تقريبا ثم وقفت على الطين فبقيت واقفة يوما و ليلة ثمّ سارت فرسخا او اكثر ثم وقفت كالأول ثمّ سارت و هكذا فتعجب اهل السفينة و قالوا:ما جرى هذا قط على سفينتنا فتفكرت انا و قلت في نفسي هذا الشهر جمادي و صارت زيارة رجب قريبة و انا تركتها و قصدت الجزائر و لا يكون هذا التعويق الا لهذا.

فقلت لصاحب السفينة ان اردت ان تسير سفينتك فاخرجني منها و قلت له الكلام فتعجّب،فقلت له:انّ قدّامنا في حقروص رجلا من اخواننا فانا اخرج الى منزله حتّى تصل السفينة الى مقابل منزله فنخرج اثاثنا فاخرج معي رجلا ليدلّني على الطريق فلمّا خرجنا و مشينا جرت السفينة و قد تقدّمتنا فوصلنا الى منزل ذلك المؤمن و ارسل غلامه و تبع السفينة حتى اتى باسبابي منها،فبقيت عند ذلك المؤمن ايّاما قلائل و سافرت انا و هو إلى زيارة رجب ثم زرنا مولانا امير المؤمنين عليه السّلام ثانيا.

فلما فرغنا من الزيارات أتينا الى منزل ذلك الرجل المؤمن في حقروص و كان على شاطيء الفرات و كان له مجلس فوق غصن شجرة قويّ في وسط الماء و السفن تجري من تحته فما رأيت مكانا أنزه و لا ألطف و لا آنس منه و كانوا في النهار يصيدون الحجل و الدّرّاج و نأكله في الليل،و ماء الفرات و هولا لا نسأل عن عذوبته و لطافته و حلاوته و بركته لأنّه ورد في الحديث انّه يصبّ فيه في ميزاب من ماء الجنّة كلّ يوم.

و في الحديث انّه كان يبريء الأكمه و الأبرص و ذوي العاهة لكن باشره نجاسة ابدان المخافين فازال عظيم بركته و بقي القليل و كان مولانا الصادق عليه السّلام يقصده من المدينة ليشرب منه و يغتسل به و يرجع،و قد ورده يوما فقال لرجل كان على الماء:ناولني بهذا القدح ماء فناوله ثمّ قال ناولني اخرى فناوله فشرب و اجرى الماء على لحيته الشريفة فلمّا فرغ قال الحمد للّه رب العالمين ماء ما اعظم بركته.

ثمّ اني ركبت في السفينة و جئت الى الجزائر فلقيت جماعة من اهل السفينة الأولى فقالوا لي:انّه من وقت خروجك منها ما وقفت ساعة واحدة الا بالمنزل،فلمّا وصلت الى الجزائر الى

ص:218

منزلنا في الصباغيّة في نهر المدك فرحوا أهلي و ذلك انّ اخي تقدمني بالمجيء من بغداد و لمّا رأته والدتي خطر ببالها الخواطر من جانبي و انّه ما تأخر الا لقضية حادثته فبقيت في الجزائر مع اخي في الصباغيّة ثلاثة اشهر و شرعت في شرح تهذيب الحديث هناك،ثم انتقلنا الى نهر الصالح فرأينا اهلها اخيار صلحاء و علماؤها من اهل الإيمان منزّهين عن النفاق و الحسد فأحسن كلّهم الينا احسانا كاملا فبقينا هناك ستة اشهر او اكثر و بنوا لنا مسجدا جامعا كان من الأوّل يصلي فيه شيخنا الأجل خاتمة المجتهدين الشيخ عبد النبي الجزائري و كنّا نصلي فيه جماعة لا جمعة.

ثمّ ان السلطان محمد بعث عساكره الى سلطان البصرة الى انّه يخرب الجزائر و البصرة و ينقل اهلها الى مكان اسمه سحاب قريب الجويزة فانتقلنا كلّنا اليها و وضع عسكره في قلعة القرنة و جلس هو مع اهل الجزائر في سحاب و كان يجيء الى عندنا،فاذا جاء وضعوا له في الصحراء عباءة و اذا اتيت اليه قام و أجلسني معه على تلك العباءة و كان يظهر المحبة و الود لي كثيرا،فلما قرب الينا عساكر السلطان محمد و حصروا القلعة كانوا يرمونها كل يوم ألف مدفع او اقل و كانت الأرض ترجف من تحتنا هذا و انا مشغول في تأليف شرح التهذيب فبعثت العيال و اكثر الكتب مع اخي الى الحويزة و بقيت انا و كتبا لتاليف.

ثماني طلبت الأذنمن السلطان في السفر الى الحويزة فلم يأذن لي و قال:اذا خرجت انت من بيننا ما يبقى معي احد فبقينا في الحصار اربعة اشهر تقريبا فاتى شهر اللّه رمضان فسافرت الى الحويزة،و كنت انتظر الأخبار فلمّا كان ليلة الحادية عشر من ذلك الشهر و هي ليلة الجمعة خاف سلطان البصرة من خيانة عسكره و فرّ هاربا الى الدورق،فبلغ الخبر اهل الجزائر طلوع فجر يوم الجمعة ففرّت النساء و الرجال و الأطفال و الشيوخ و العميان و كلّ من كان في ذلك الأقليم طالبين الحويزة و بينهم و بينها مسيرة ثلاثة ايام لكنها مفازة لا فيها ماء و لا كلاء بل ارض يابسة فمات من اهل الجزائر في تلك المفازة عطشا و جوعا و خوفا ما لا يحصى عددهم الا اللّه تعالى و كذلك العسكر الذي في القرنة قتل منه ايضا خلق كثير.

و الحاصل انّ من شاهد تلك الواقعة عرف احوال يوم القيامة و امّا سلطان الحويزة قدس اللّه روحه و هو السيد علي خان فأرسل عساكر لأستقبال اهل الجزائر و ارسل لهم ماء و طعاما جزاه اللّه عنهم كلّ خير،ثمّ اننا اقمنا عنده في الحويزة شهرين تقريبا و سافرنا الى اصفهان لكن من طريق شوشتر فلمّا وصلنا شوشتر رأينا اهلها من اهل الصلاح و الفقر و يودّون العلماء،و كان فيهم رجل سيّد من اكابر السادة اسمه ميرزا عبد اللّه فاخذنا الى منزله و عيّن لنا كلما نحتاج اليه و الآن هو قد مضى الى رحمة اللّه لكنّه اعقب ولدين السيّد شاه مير و السيد محمد مؤمن و فيهما من

ص:219

صفات الكمال ما لا يحصى مع صغر سنّهما و لا وجد في العرب و العجم اكرم منهما و لا يقارب اخلاقهما وفّقهما اللّه تعالى لجميع مراضيه.

ثمّ انّ والدهما ارسل الى اهلنا في الحويزة،و لمّا جاؤا عيّن لهم منزلا و كلما يحتاجون اليه فبقينا في شوشتر تقريبا ص من ثلاثة اشهر و سافرنا الى اصفهان على طريق ديه دشت و بقي الأهل في شوشتر،فلما قدمنا ديه دشت أخذنا حجرة في المكان و جلسنا بها ثم بعد ساعة قلت لواحد من الرفقاء اذهب و انظر لعلّ لنا فيها صديقا يأخذ لنا منزلا الى كم يوم.

فلما خرج اتى برجل سيّد كان يقرأ عندي في اصفهان فلما رآني فرح فرحا شديدا و قال:

انّ جماعة من تلاميذك من سكان هذه البلاد فاخبرهم و كانوا سادات ديه دشت فاخذوا لنا منزلا و كان الحاكم في تلك البلاد محمّد زمان خان و كان عالما كريما سخيّا لا يقارب في الكرم فلمّا سمع بنا ارسل وزيره و عيّن لنا ما نحتاج اليه و ما لا نحتاج اليه فطلبنا الحاكم في يوم آخر وردنا عليه قال لي:سمعت انك شرحت الصحيفة؟قلت:نعم فقال:ان في دعاء عرفه فقرة كيف شرحتها؟ فقلت:ما هذه الفقرة قال:هي قوله عليه السّلام تغمدني فيما اطّلعت عليه مني بما يتغمد به القادر على البطش لو لا حلمه فذكرت له وجوها ثلاثة في حلّها فقال لي:أحد هذه الوجوه خطر بخاطري و الآخر خطر بخاطر الأقا حسين الخوانساري فاستحسنها و شرعنا في المباحثة و كنت احترمه في الكلام فجلس على ركبتيه و رمى حلّته من فوق ظهره و قال:تكلّم كما كنت تتكلم في المدرسة مع طلبة العلم و لا تحترمنيث فتباحثنا و كنت انقله من علم الى علم و كان يسبقني في الكلام الى ذلك العلم حتّى جاء وقت صلاة الظهر فقطعنا الكلام ثم عدنا الى المباحثة يوما آخر و كنت في بلاده ثلاثة اشهر تقريبا على هذه الحال فما رأيت احدا افهم منه و لا أفصح منه لسانا.

و امّا في جانب الكرم و امداد العلماء و الفقراء فحاله فيه مشهور و لمّا أستأذّنا منه على السفر الى اصفهان احسن الينا غاية الأحسان،فلما سافرنا الى اصفهان فانظر الى ما جرى في الطريق و هو انّنا لمّا وصلنا الى منزل قبل منزل كنار سقاوه نزلنا في منزل و كان في غاية النزاهة من جهة الماء الجاري و الأشجار و الأنهار فحصل لنا نهاية الأنتعاش فقلت في خاطري:اعوذ باللّه من فرح هذا اليوم لأنّي عوّدت روحي ان افرح اليوم القى بعده حزنا طويلا فلمّا جاء وقت الركوب ركبنا فانتهينا الى بقعة في كنار سقاوة و كان معنا رفقاء يمشون و واحد منهم اطرش فلمّا تقدمنا جلس وسط الطريق تحت صخرة فجئت انا و اخي و نحن ركوب فلمّا وصلت الخيل اليه فاجئها بالقيام فنفرت و نحن لا نعلم فالقتني الدابة على صخرة عظيمة فلمّا افقت رأيت انّ يدي اليسرى قد عرض لها الصدع العظيم فأتاني الرفقاء و شدّوها و بقيت الى اصفهان كلّ يوم يمر عليّ في تلك الحال يصلح ان يكون كفّارة لذنوب مائة سنة.

ص:220

فوصلنا الى اصفهان و جلست في حجرتي في مدرسة ميرزا تقي دولت آبادي و بقيت اعالج يدي فبقيت مدّة خمسة اشهر فلمّا صارت طيّبة في الجملة عرض لي الم في بدني فصرت لا اشعر و قد عاينت الموت و في وقت معاينته كنت مسرورا به من توفيقات اللّه سبحانه فبقيت على هذا مدّة،و لمّا شافاني اللّه من ذلك الألم عرض لأخي المرحوم الم الحمّى فبقي حتّى انجرّ الى الأسهال فمضى الى رحمة اللّه تعالى ليلة الجمعة اوّل شهر شعبان غريبا فبقي المه في قلبي الى هذا اليوم و الى الموت و اللّه ما أسلوه حتّى انطوى تحت التراب و يحتويني الجندل و قد توفي تغمده اللّه برحمته سنة التاسعة و السبعين بعد الألف و هذه السنة عام التاسع و الثمانين بعد الألف و ما مضت ليلة الا و رأيته في المنام على احسن هيئة و امّا في النهار فكتبه قدّامي اطالع بها و انظرها و كلّما رأيت كتابا منها تجدّدت مصائبي عليه فانّا للّه و انا اليه راجعون.

فبقيت بعده في اصفهان خيرانا تايها في بحار الهموم فتفكّرت و قلت ليس لمثل هذه المصائب دواء الا الوصول لزيارة مولاي الرضا عليه السّلام فسافرت فلمّا وصلنا كاشان و خرجنا منها و توجهنا الى منزل الرمل سرنا فيه ليلا و ظللنا عن الطريق،فأضاء الصبح و علا النهار فبلغنا في الرمل انّ لا نقدر على المشي و لكن نسبح به على بطوننا،و امّا الدواب فكانت تمشي و الرمال تساوي ما هبط من السرج فأشرفنا على الهلاك ثمّ منّ اللّه علينا بالوصول الى الطريق حتى وصلنا الى مشهد مولانا الرضا عليه السّلام.

و لمّا اقمنا ايّاما و رجعنا كان رجوعنا على طريق اسفراين فرأينا في ذلك الطريق منازل عجيبة و احوالات غريبة فلمّا اتيت سبزوار حصل لي بعض الألم فأخذت محملا على جمل،فلمّا وصلت اصفهان بقيت فيها مدة قليلة ثم سافرت الى شوشتر فجعلتها دار وطن و اتخذت فيها مساكن و كان بيني و بين سلطان الحويزة و دادة و محبة و كان يرسل لنا في كل سنة كتابات متعددة بالقدوم اليه فاذا قدمنا عليه عمل معنا من الأحسان ما لا نطيق شكره و نحن الآن في شوشتر.

و في هذا العمر القليل قد رأينا من مصائب الزمان ما لا نقدر على بيان شرحه و الذي سهله علينا الأخبار الواردة بابتلاء المؤمن و انّه لو كان غريقا في البحر و هو على لوح لسلّط اللّه عليه من يؤذيه حتّى يتم ثوابه،و كان شيخنا المجلسي ادام اللّه ايّام عزه و مجده لا يقارب في العلم و العمل و مع هذا كان هدفا لسهام المصائب و اشدّ ما مرّ علينا من هذه الأهوال امور:

اوّلها فراق الأحباب و الأصحاب الثاني فراق اخي و موته فانّه جرح القلوب جرحا لا يندمل الى الموت و العدم الثالث موت الأولاد و اصعب الأمور اوسطها الرّابع حسد العلماء و ابناء

ص:221

الجنس (1)فانّهم حسدوني في كلّ بلاد أتيت اليها حتّى انتهى حالهم معي في شيراز الى ان سرقوا منّي كتبا مليحة بخطّ يدي و قرائتي و حواشي و رموها في البئر حتّى تلفت ثمّ ظهر لي الذي رماها فما كلّمته كلمة واحدة و لا واجهته بشيء حتّى اخلف اللّه تعالى عليّ تلك الكتب و غيرها و لم يملك ذلك الرجل ورقة واحدة و احوجه الى سؤال الكفّار،و انا احمد اللّه سبحانه على انّي لم أر لي محسودا و لا حسدت احدا و ذلك انّ اللّه و له الفضل لم يحوجني الى الأقران و الأمثال و لم يحط مرتبتي عن مراتبهم و هذا من باب اظهار فضل اللّه تعالى و كرمه و الاّ فالعبد المذنب الجاني ليس له مرتبة و لا درجة.

الخامس معاشرة الناس و السلوك معهم و ذلك انّ الطبائع مختلفة و الآراء متفرقة و كلّ واحد يريد من الأنسان الذي يكون على طريقتنا موافقته في الطبيعة و هذا في غاية الصعوبة مع انّه يؤدي الى المداهنة و التقرير على المنكر و هما محرّمان اجماعا و مثل هذا ما تيسر لأحد كما روي ان موسى عليه السّلام طلب من اللّه سبحانه ان يرضى عنه عامّة بني اسرائيل حتى لا ينالوا من عرضه و لا يتكلموا في غيبته فقال سبحانه:يا موسى هذه خصلة لم توجد لي فكيف توجد لك و هذا الظاهر فانّ من تامّل و راجع النظر و تصفح احوال الناس يرى شكايتهم من اللّه تعالى اكثر من شكواهم من السلطان الجائر سفاك الدماء و لا ترى احدا الاّ و هويّتهم اللّه تعالى في قضائه و قدره و هذا يكون كثيرا في احوال الفقر و المرض و زوال النعم و انتقالات الأحوال.

السادس و هو الداء العضال و الذي نغّص علينا العيش و كدّر الصافي منه مع انه لا يوجد و هو انّه ابتلينا بالتوطن في بلاد ليس فيها مجتهد و لا مفت حتّى نحيل الناس عليه و اذا سألوا منّا ما يحتاجون اليه في امور عباداتهم و معاملاتهم فربّما اشكل الحال و احتاج المقام الى معاونة الآراء.

و ان قلت انّ هذه المسئلة لا تخلو من اشكال لا يقبل منك و يقولون كيف يشكل عليك شيء و انت فلان الذي عندك من الكتب كذا و كذا و قرأت عند فلان و فلان و هو المطلع على الأسرار و الضمائر انّي انزوي عن الناس في اكثر الأوقات و اغلق الباب بيني و بينهم لهذا و امثاله و الهمّ

ص:222


1- (24) العلماء صنفان علماء الدنيا و علماء الاخرة و المراد من الصنف الاول من كان غرضه من العلم هو الدنيا و هدفه من تحصيله الشهرة و الرياسة و حب الجاه و طلب الوقع في قلوب الناس و ابتغاء اقبالهم اليه. و المراد من الصنف الثاني هو العارفون باللّه تعالى و بصفاته و ملائكته و رسله و كتبه و اليوم الاخر و الراغبون في الاخرة و المعرضون عن الدنيا و الزاهدون فيهما و العاملون بمقتضى عملهم و تعبير اوجز بهم:ان وصفتهم العلم و العمل.و قد تجدهم الشهرة و الرياسة و المرجعية قهرا مع فرارهم عنها فرار الغنم من الذئب و لا يحومون حول الاسباب المفضية اليها اصلا.

الذي ينالنا من هذا اصعب من ما تقدّمه من كلّ الأمور و نرجوا من اللّه سبحانه العصمة من الخلل و الخطاء في القول و العمل.

السابع عدم الأسباب الّتي نحتاج اليها في التأليف و التصنيف و العلم لا ينفعه الاّ الكتب و الحمد للّه عندنا اكثر الكتب لكن الذي يقصد التأليف في العلوم الكثيرة يحتاج الى اسباب كثيرة و نحن في بلد لا يوجد فيها ما نحتاج اليه و المأمول من اللّه تعالى جلّ شأنه ان يوفقنا لتحصيلها انّه على ما يشاء قدير و قد وفّق اللّه تعالى في هذه البلاد لتأليف كتاب نوادر الأخبار المشتمل على مجلدين و تمام شرح تهذيب الحديث المشتمل على ثمان مجلدات و كتاب الهدية في علم الفقه مجلّد واحد و كشف الأسرار لشرح الأستبصار المشتمل على مجلدين و هذا الكتاب الذي هو كتب الأنوار المشتمل على مجلدتين و قد وفّق اللّه سبحانه ايضا لشرح الصحيفة و هو مجلّد واحد و في النحو الّفنا شرحا على مغنى ابن هشام و شرح تهذيب النحو مجلّد واحد و شرحا على الكافية و بعض الرسائل.

و امّا الحواشي الّتي الفناها على متون كتب الأخبار الأصول الأربعة و غيرها فهي كثيرة جدا نرجو من اللّه تعالى ان يجعلها عنده من الذخائر لنا اذا زلّت الأقدام و عميت الأفهام و وضعت الموازين و نشرت الدواوين هذا مجمل احوال الفقير من سنة الخمسين بعد الألف الى السنة التاسعة و الثمانين بعد الألف قد وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب و تأليفه ليلة الثلاثاء الثاني و العشرين من شهر رمضان المبارك من عام التاسع و الثمانين بعد الألف كتبه مؤلفه العبد المذنب الجاني نعمت اللّه بن عبد اللّه الحسيني الجزائري حامدا مصليا على محمد و آله الطاهرين.

حديث حذيفة اليماني رضي اللّه عنه

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السّلام على سيّد الأولين و الآخرين و اشرف الأنبياء و المرسلين و خير الخلائق اجمعين محمد و آله و عترته الطّيبين الطاهرين و لعنة اللّه على اعدائهم و مخالفيهم الى يوم الدين.

و بعد فقد قال مولانا الأجل العلاّمة الفهّامة الطهر الطاهر الزّكي محمّد باقر بن مولانا المحقّق المدقّق الصفي البهي محمد تقي المجلسي علمهما اللّه و ايانا بلطفه الخفي و الجلي و حشرهما اللّه و ايانا مع النبي الأميّ و اوصيائه الأزكياء الأصفياء المنصوبين للولاية بالنص الجلي صلوات اللّه عليهم اجمعين في كتابه المسمّى بالأربعين ما أخرجته من كتاب ارشاد القلوب تأليف الشيخ الزكي الحسن بن ابي الحسن الدليمي ممّا رواه مرفوعا قال:لمّا استخلف عثمان بن عفان آوى اليه عمّه

ص:223

الحكم بن العاص و ولده مروان و الحارث بن الحكم و وجّه عما له في امصار يمن و كان فيمن وجه عمر بن سفيان بن المغيرة بن ابي العاص بن اميّة الى مشكان و الحارث بن الحكم الى المدائن فأقام بها مدّة يتعسّف اهلها و يسيء معاملتهم فوفد منهم الى عثمان وفد شكوه اليه و اعلموه بسوء ما يعاملهم به و اغلظوا عليه في القول فولي حذيفة بن اليماني عليهم و ذلك في آخر ايّامه فلم ينصرف حذيفة بن اليماني عن المدائن الى ان قتل عثمان و استخلف علي بن ابي طالب صلوات اللّه و سلامه عليه فأقام حذيفة عليها و كتب اليه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه علي امير المؤمنين عليه السّلام الى حذيفة بن اليماني سلام عليك،اما بعد فأني قد وليت ما كنت تليه لمن كان قبلي من صرف المدائن و قد جعلت اليك اعمال الخراج و الرستاق و جباية اهل الذمة فاجمع اليك ثقاتك و من احببت ممّن ترضى دينه و امانته و استعن بهم على اعمالك فانّ ذلك أعزّ لك و لوليّك و اكبت لعدوك و انّي آمرك بتقوى اللّه و طاعته في السر و العلانية و أحذرك عقابه في المغيب و المشهد و أتقدم اليك بالأحسان الى المحسن و الشدّة على المعاند،و آمرك بالرفق في امورك و اللين و العدل على رعيتك فانك مسئول عن ذلك و انصاف المظلوم و العفو عن الناس و حسن السيرة ما استطعت و اللّه يجزي المحسنين،و آمرك ان تجبي خراج الأرضين على الحق و النصفة و لا تتجاوز ما تقدمت به اليك و لا تدع منه شيئا و لا تبتدع فيه أمرا ثم اقسمه بين اهله بالسوية و العدل و اخفض جناحك لرعيتك و واس بينهم في مجلسك و ليكن القريب و البعيد عندك في الحقّ سواء و احكم بين الناس بالحق و اقم فيهم بالقسط و لا تتّبع الهوى و لا تخف في اللّه لومة لائم فانّ اللّه مع الذّين اتّقوا و الذين هم محسنون و قد وجّهت اليك كتابا لتقرأه على اهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم و في جميع المسلمين فاحضرهم و اقرئه عليهم و خذ البيعة لنا على الصغير و الكبير منهم ان شاء اللّه تعالى.

قال:فلما وصل عهد امير المؤمنين الى حذيفة جمع الناس فصلى بهم ثمّ امرهم بالكتاب فقرأ عليهم و هو بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه علي امير المؤمنين عليه السّلام الى من بلغه كتابي هذا من المسلمين سلام عليكم فانّي احمد اللّه اليكم الذي لا اله الا هو و اسئله ان يصلي على محمد و آله صلّى اللّه عليه و آله.

امّا بعد فانّ اللّه تعالى اختار الأسلام دينا لنفسه و ملائكته و رسله احكاما لصنعه و حسن تدبيره و نظرا لعباده و خصّ به من احب من خلقه فبعث اليهم محمدا صلّى اللّه عليه و آله فعلّمهم الكتاب و الحكمة اكراما و تفضلا لهذه الأمّة و ادبهم لكي يهتدوا و جمعهم لئلا يجوزوا فلما قضى ما كان عليه ذلك مضى الى رحمة ربه جميلا محمودا ثمّ ان بعض المسلمين اقاموا بعده رجاين رضوا بهديهما و سيرتهما فأقاما ما شاء اللّه ثمّ توفّاهما اللّه عزّ و جلّ ثم ولّوا بعدها الثالث فاحدث احداثا

ص:224

و وجدت الأمة عليه فعالا فاتّفقوا عليه ثم نقموا منا فغيروا ثمّ جاؤوني كتتابع الخيل فبايعوني فانا استهدي بهداه و استعينه على التقوى الا و ان لكم علينا العمل بكتاب اللّه و سنة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و القيام عليكم بحقه و احياء سنته و النصح لكم بالمغيب و المشهد و باللّه نستعين على ذلك و هو حسبنا و نعم الوكيل و قد ولّيت اموركم حذيفة بن اليمان و هو من ارتضي بهداه و ارجو صلاحه و قد امرته بالأحسان الى محسنكم و الشّدة على مريبكم و الرفق بجميعكم اسئل اللّه لنا و لكم حسن الخيرة و الأحسان و رحمته الواسعة في الدنيا و الآخرة و السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته،قال:ثمّ انّ حذيفة صعد المنبر فحمد اللّه و اثنى عليه و صلى على النبي صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال:الحمد للّه الذي أحيى الحق و امات الباطل و جاء بالعدل و ادحض بالجور و كبت الظالمين ايّها الناس انّما وليكم اللّه و رسوله و امير المؤمنين حقّا حقا و خير من نعلمه بعد نبينا محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اولى الناس بالناس و احقهم بالأمر و اقربهم الى الصدق ارشدهم الى العدل و اهدا هو سبيلا و ادناهم الى اللّه وسيلة و أمسّهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رحما انيبوا الى طاعة اوّل الناس سلما و اكثرهم علما و اقصدهم طريقا و اسبقهم ايمانا و أحسنهم يقينا و اكثرهم معروفا و أقدمهم جهادا و أعزّهم مقاما أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ابن عمّه و ابي الحسن و الحسين عليهما السّلام و زوج الزهراء البتول سيّدة نساء العالمين،فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله فان اللّه في ذلك رضاء و لكم مقنع و صلاح و السّلام.

فقام الناس و بايعوا امير المؤمنين عليه السّلام احسن بيعة و اجمعها فلمّا استتمت البيعة قام اليه فتى من ابناء العجم ولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن تيهان اخي اب الهيثم بن تيهان يقال له مسلم متقلّدا سيفا فناداه من اقصى الناس ايّها الأمير انّا سمعناك تقول في اوّل كلامك انّما وليكم اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و امير المؤمنين عليه السّلام حقّا حقّا تعريضا بمن كان قبله من الخلفاء انهم لم يكونوا امير المؤمنين حقّا فعرفنا ذلك ايّها الأمير رحمك اللّه و لا تكتمنا فانّك ممّن شهد و غبنا و نحن مقلّدون ذلك اعناقكم و اللّه شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمّتكم و صدق الخبر عن نبيكم صلّى اللّه عليه و آله فقال حذيفة:ايّها الرجل امّا اذا سئلت و فحصت هكذا فاسمع و افهم ما أخبرك به.

اما من تقدم من الخلفاء قبل علي بن ابي طالب عليه السّلام ممّن تسمّى بأمير المؤمنين فانّهم تسمّوا بذلك و سمّاهم الناس به و امّا علي بن ابي طالب عليه السّلام فان جبرئيل عليه السّلام سمّاه بهذا الأسم عن اللّه تعالى و شهد له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن سلام جبرئيل عليه السّلام بأمرة المؤمنين و كان اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يدعونه في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بامرة المؤمنين قال الفتى:أخبرني كيف كان ذلك يرحمك اللّه قال حذيفة:انّ الناس كانوا يدخلون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الحجاب اذا شاؤا فنهاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يدخل احد عليه و عنده دحية بن خليفة الكلبي فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يراسل قيصرا ملك

ص:225

الروم و بني حنيفة و ملوك بني غسان على يده و كان جبرئيل عليه السّلام يهبط عليه في صورته و لذلك نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يدخل المسلمون عليه اذا كان عنده دحية،قال حذيفة:و اني اقبلت يوما لبعض اموري الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مهجر ارجاء ان القاه خاليا فلما صرت بالباب نظرت فاذا انا بشملة قد سدلت على الباب فرفعتها و هممت بالدخول و كذلك كنّا نصنع فاذا انا بدحية قاعد و النبي صلّى اللّه عليه و آله نائم و رأسه في حجر دحية،فلما رأيته انصرفت فلقيني على بن ابي طالب عليه السّلام في بعض الطريق فقال:يا ابن اليمان من اين اقبلت؟قلت:من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:و ما ذا صنعت عنده قلت:

اردت الدخول عليه في كذا و كذا و ذكرت الأمر الذي جئت له فلم يتهيأ لي ذلك قال:و لم قلت كان عنده دحية الكلبي و سئلت عليا عليه السّلام معونتي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك قال:فارجع معي فرجعت معه فلمّا صرنا الى باب الدار جلست بالباب و رفع علي عليه السّلام الشملة و دخل فسلّم فسمعت دحية يقول و عليك السّلام يا امير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته ثمّ قال:اجلس فخذ رأس اخيك و ابن عمك من حجري فأنت اولى به فجلس علي عليه السّلام و اخذ رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجعله في حجره و خرج دحية من البيت فقال علي عليه السّلام:ادخل يا حذيفة فدخلت و جلست فما كان بأسرع ان انتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فضحك في وجه علي عليه السّلام ثم قال:يا ابا الحسن من حجر من اخذت رأسي قال:من حجر دحية الكلبي فقال:ذلك جبرئيل عليه السّلام فما قلت حين دخلت و ما قال لك؟قال:دخلت فسلمت فقال لي:و عليك السّلام يا امير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يا علي سلمت عليك ملائكة اللّه و سكان سماواته بامرة المؤمنين من قبل ان يسلّم عليك اهل الأرض يا علي ان جبرئيل فعل ذلك عن امر اللّه عز و جل و قد اوحي اليّ عن ربي تبارك و تعالى من قبل دخولك ان افرض ذلك على الناس و انا فاعل ذلك ان شاء اللّه تعالى فلما كان من الغد بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى ناحية فدك في حاجة فلبثت اياما ثمّ قدمت فوجدت الناس يتحدثون ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امر الناس ان يسلموا على علي عليه السّلام بأمرة المؤمنين انّ جبرئيل عليه السّلام اتاه بذلك عن اللّه عز و جل فقلت:صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انا قد سمعت جبرئيل سلّم على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين و حدّثهم الحديث فسمعني عمر بن الخطاب و انا احدث الناس في المسجد فقال لي:انت رأيت جبرئيل و سمعته فأرغم اللّه انف من رغم فقال:يا ابا عبد اللّه لقد رأيت و سمعت عجبا.

قال حذيفة فسمعني بريدة بن الخضيب الأسلمي و انا احدث ببعض ما رأيت و سمعت فقال لي:و اللّه يا ابن اليمان لقد امرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسلام على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين فاستجابت له طائفة يسيرة من الناس و ردّ علي ذلك و اباه كثير من الناس فقلتكيا بريدة أ كنت شاهدا ذلك اليوم؟فقال:نعم من اوّله الى آخره فقلت له:حدّثني به رحمك اللّه فانّي كنت عن ذلك اليوم

ص:226

غائبا فقال بريدة:كنت انا و عمار اخي عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نخل بني نجّار فدخل علينا علي بن ابي طالب فسلم ورد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وردنا ثمّ قال:يا علي اجلس هناك فجلس فدخل رجل فامرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالسلام على علي بامرة المؤمنين فسلّموا و ما كادوا ثم دخل ابو بكر و عمر فسلّما فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلّما على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين فقالا:عن اللّه و رسوله فقال:نعم فقالوا:سمعنا و اطعنا ثم دخل سلمان الفارسي و ابو ذر الغفاري رضي اللّه عنهما فسلما فرد عليهما السّلام ثم قال سلّما على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين فسلّما و لم يقولا شيئا ثم دخل خزيمة بن ثابت و ابو الهيثم بن التيهان فسلّما فرد عليهما السّلام ثمّ قال:سلّما على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين فسلّما و لم يقولا شيئا ثم دخل عمّار و المقداد فسلّما فرد عليهما السّلام و قال:سلّما على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين ففعلا و لم يقولا شيئا ثم دخل عثمان و ابو عبيدة فسلّما فرد عليهما السّلام و قال:سلّما على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين قالا:من اللّه و رسوله قال:نعم ثم دخل فلان و فلان وعد جماعة من المهاجرين و الأنصار كل ذلك يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سلّموا على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين فبعض سلم و لا يقول شيئا و بعض يقول للنبي صلّى اللّه عليه و آله اعن اللّه و رسول اللّه فيقول:نعم حتّى غصّ المجلس باهله و امتلأت الحجرة و جلس بعض على الباب و في الطريق و كانوا يدخلون فيسلمون و يخرجون ثمّ قال لي و لأخي:قم يا بريدة انت و اخوك فسلما على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين فقمنا و سلمنا ثمّ عدنا الى مواضعنا فجلسنا قالوا:ثمّ اقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليهم جميعا فقال:اسمعوا و عوا اني امرتكم ان تسلموا على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين و انّ رجالا سألوني أذلك عن امر اللّه و امر رسوله؟ما كان لمحمّد ان يأتي امرا من تلقاء نفسه بل يوحي ربه و امره أ فرأيتم و الذي نفسي بيده لأن ابيتم و نقضتموه و لتفارقون ما بعثني به ربي فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.

قال بريدة:فلمّا خرجنا سمعت بعض اولئك الذين امروا بالسلام على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين يقول لصاحبه:و قد التفت بهما طائفة من الجفاة البغاة(البطاة)من الأسلام من قريش اما رأيت ما صنع محمّد بإبن عمه من علو المنزلة و المكانة و لو يستطيع و اللّه لجعله نبيا من بعده فقال له صاحبه:امسك و لا يكبرنّ عليك هذا فانّا لو فقدنا محمّدا لكان فعله هذا تحت اقدامنا.

قال حذيفة:ثم خرج و مضى الى بعض طريق الشام و رجع و قد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بايع الناس ابا بكر فاقبل بريدة فدخل المسجد و ابو بكر على المنبر و عمر دونه بمرقاة فناديهما من ناحية المسجد:يا ابا بكر و يا عمر فقالا:مالك يا بريدة جننت؟فقال لهما:و اللّه ما جننت و لكن اين سلامكما بالأمس على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين؟فقال له ابو بكر:يا بريدة الأمر يحدث بعده الأمر و انّك غبت و شهدنا و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال لهما:رأيتما ما لم يره اللّه و لا رسوله وفّى لك صاحبك بقوله لو فقدنا محمد لكان هذا قوله تحت اقدامنا الا ان المدينة حرام عليّ ان اسكنها

ص:227

ابدا حتى اموت-فخرج بريدة بأهله و ولده فنزل بين قومه بني اسلم فكان يطلع في الوقت دون الوقت فلمّا قضي الأمر الى امير المؤمنين عليه السّلام سار اليه و كان معه حتّى قد العراق فلمّا صيب امير المؤمنين عليه السّلام صار الى خراسان فنزلها و لبث الى ان مات.

قال حذيفة:فهذا انباء ما سألتني عنه فقال الفتى:لا جزى اللّه الذين شهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سمعوه يقول هذا القول في علي خيرا فقد خانوا اللّه و رسوله و ازالوا الأمر عمّن رضيه اللّه و رسوله و اقرّوه فيمن لم يره اللّه و لا رسوله لذلك اهلا لا جرم و اللّه لن يفلحوا بعدها ابدا فنزل حذيفة عن منبره فقال:يا اخا الأنصار انّ الأمر كان اعظم ممّا تظن انّه عزب و اللّه الصبر و ذهب اليقين و كثر المخالف و قلّ الناصر لأهل الحقّ فقال له الفتى:فهلا انتضيتم اسيافكم و وضعتموها على رقابكم و ضربتم بها الزائلين عن الحق قدما قدما حتّى تموتوا و تدركوا الأمر الذي تحبونه من طاعة اللّه عز و جل و طاعة رسوله؟فقال له:ايّها الفتى انّه اخذوا اللّه باسماعنا و ابصارنا و كرهنا الموت و زينت عندنا الحياة(الدنيا)و سبق علم اللّه بامرة الظالمين و نحن نسأل اللّه التغمد لذنوبنا و العصمة فيما بقي من آجالنا فانّه مالك رحيم.

ثمّ انصرف حذيفة الى منزله و تفرّق الناس قال عبد اللّه بن سلمة فبينما انا ذات يوم عند حذيفة اعوده في مرضه الذي مات فيه و قد كان يوم قدمت فيه الى الكوفة و ذلك من قبل قدوم علي عليه السّلام الى العراق فبينما انا عنده اذ جاء الفتى الأنصاري فدخل على حذيفة فرحّب به و ادناه و قرب مجلسه و خرج من كان عند حذيفة من عوّاده و اقبل عليه الفتى و قال:يا ابا عبد اللّه سمعتك يوما تحدثت عن بريدة بن الخضيب الأسلمي انّه سمع بعض القوم الذين امرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يسلموا على علي عليه السّلام بامرة المؤمنين يقول لصاحبه يوما اما رأيت اليوم ما صنع محمد بابن عمه من التشريف و علو المنزلة حتّى لو قدر ان يجعله نبيا لفعل فاجابه صاحبه لا يكبرن عليك فلو فقدنا محمدا لكان قوله تحت اقدامنا و قد ظننت بنداء بريدة لهما و هما على المنبر انّهما صاحبا القول:قال حذيفة اجل القائل عمر و المجيب ابو بكر فقال الفتى:انا للّه و انا اليه راجعون هلك و اللّه القوم و بطلت اعمالهم قال حذيفة:و لم يزل القوم على ذلك الأرتداد و ما يعلم اللّه منهم اكثر.

فقال الفتى:قد كنت احب ان اتعرف هذا الأمر من فعلهم و لكنّي اجدك مريضا و انا اكره ان املك بحديثي و مسألتي و قام لينصرف فقال حذيفة:لا بل اجلس يا ابن اخي و تلق منّي حديثهم و ان كربني ذلك فلا احسبني الا مفارقكم انّي لا احب يغتر بمنزلتهما في الناس فهذا ما اقدر عليه من النصيحة لك و لأمير المؤمنين عليه السّلام من الطاعة له و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و ذكر منزلته فقال:يا ابا عبد اللّه حدّثني بما عندك من امورهم لأكون على بصيرة من ذلك فقال حذيف:اذن و اللّه لأخبرنك بخبر

ص:228

سمعته و رأيته و لقد و اللّه دلّنا على ذلك من فعلهم على انّهم و اللّه ما آمنوا باللّه و لا رسوله طرفة عين.

و اخبرك ان اللّه تعالى اخبر رسوله صلّى اللّه عليه و آله في سنة عشر من مهاجرته من مكّة الى المدينة ان يحج هو و يحج الناس معه فأوحى اليه بذلك و اذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ظامر يأتين من كل فج عميق،فامر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المؤذنين فاذنوا في اهل السافلة و العالية الا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد عزم على الحج في عامه هذا ليفهم الناس حجّهم و يعلمهم مناسكهم فيكون سنّة لهم الى آخر الدهر،قال:فلم يبق احد ممّن دخل الأسلام الاّ حجّ مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سنة عشر ليشهد منافع لهم و يعلّمهم حجّهم و يعرفهم مناسكهم،و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالناس و خرج نساؤه معه و هي حجة الوداع فلمّا استتم حجّهم و قضوا مناسكهم و عرّف الناس جميع ما احتاجوا اليه و أعلمهم انّه قد اقام لهم ملة ابراهيم عليه السّلام و قد أزال عنهم جميع ما احدثه المشركون بعده و ردّ الحجّ الى حالته الأولى و دخل مكة فاقام بها يوما واحدا عليه فهبط جبرئيل عليه السّلام بأول سورة العنكبوت فقال:يا محمد اقرء بسم اللّه الرحمن الرحيم الم (1) أَ حَسِبَ النّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّٰهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكٰاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئٰاتِ أَنْ يَسْبِقُونٰا سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ .

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا جبرئيل و ما هذه الفتنة؟فقال:يا محمد ان اللّه تعالى يقرؤك السّلام و يقول لك انّي ما ارسلت نبيا قبلك الاّ امرته عند انقضاء اجله ان يستخلف على امّته من بعده من يقوم مقامه و يحيي لهم سنته و احكامه،فالمطيعون للّه فيما يأمرهم به رسوله هم الصادقون، و المخالفون على امره هم الكاذبون،و قد دنى يا محمد مصيرك الى ربك و جنته و هو يأمرك ان تنصب لأمتك من بعدك علي بن ابي طالب عليه السّلام و تههد اليه فهو الخليفة القائم برعايتك و امّتك ان اطاعوه و ان عصوه و سيفعلون ذلك و هي الفتنة التي تلوث عليه الآي فيها،و ان اللّه عز و جل يأمرك ان تعلّمه جميع ما علمك و تستحفظه جميع ما حفظك و استودعك فانّه الأمين المؤتمن، يا محمّد انّي اخترتك من عبادي نبيا و اخترته لك وصيا.

قال فدعى فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا يوما فخلي به يومه ذلك و ليلته و استودعه العلم و الحكمة التي آتاه اللّه ايّاها و عرفه جبرئيل عليه السّلام و كان ذلك في يوم عائشة بنت ابي بكر،فقالت يا فقال رسول اللّه لقد طال استخلائك بعلي منذ اليوم؟قال:فأعرض عنها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت:لم تعرض عني يا رسول اللّه بأمر لعله يكون لي صلاحا؟فقال:صدقت ايم اللّه لأنه لأمر صلاح لمن اسعده اللّه بقبوله و الأيمان به و قد امرت بدعاء الناس جميعا اليه و ستعلمين ذلك اذا انا قمت به في الناس قالت:فقال يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم لا تخبرني به الآن لأتقدم بالعمل به سو الأخذ

ص:229

بما فيه صلاح قال:سأخبرك به فاحفظيه الى ان اؤمر بالقيام به في الناس جميعا فانك ان حفظتيه حفظك اللّه تعالى في العاجلة و الآجلة جميعا و كانت لك الفضيلة بالسبقة و المسارعة الى الأيمان باللّه و رسوله و ان اضعتيه و تركت رعاية ما القي اليك منه كفرت بربك و حبط اجرك و برأت منك ذمة اللّه و ذمة رسوله و كنت من الخاسرين و لم يضر اللّه ذلك و لا رسوله،فضمنت له حفظه و الأيمان به و رعايته فقال:انّ اللّه تعالى اوحى اليّ انّ عمري قد انقض و امرني ان انصب عليّا للناس علما و اجعله فيهم اماما و استخلفه كما استخلف الأنبياء من قبلي اوصيائها و انا صار الى امر ربي و آخذ فيه بأمره فليكن هذا الأمر منك تحت سويداء قلبك الى ان يأذن اللّه بالقيام به، فضمنت له ذلك و قد اطّلع اللّه نبيه على ما يكون منها فيه و صاحبتها حفصة و ابويهما.

فلم تلبث ان اخبرت حفصة و اخبرت كلّ واحدة منهما اباها فاجتمعا فأرسلا الى جماعة الطلقاء و المنافقين فخبّراهم فاقبل بعضهم على بعض و قالوا انّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله يريد ان يجعل هذا الأمر في اهل بيته كسنّة كسرى و قيصر الى آخر الدهر لا و اللّه ما لكم في الحياة من حظّ ان افضى هذا الأمر الى علي بن ابي طالب عليه السّلام و انّ محمّدا عاملكم على ظاهركم و انّ عليّا يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم فاحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك و قدموا رأيكم فيه،و دار الكلام فيما بينهم و أعادوا الخطاب و أجالوا الرأي فاتّفقوا على ان ينفردوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله ناقته على عقبة هر شيء و قد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزوة تبوك فصرف اللّه الشر عن نبيه صلّى اللّه عليه و آله و اجتمعوا في امر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من القتل و الأغتيال و استقاء السم على غير وجه و قد كان اجتمع اعداء فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الطلقاء من قريش و المنافقين من الأنصار و من كان في قلبه الأرتداد من العرب في المدينة و ما حولها فتعاقدوا و تحالفوا ان ينفردوا به ناقته و كانوا اربعة عشر رجلا،و كان من عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان يقيم عليّا و ينصبه للناس بالمدينة اذا قدم،فصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومين و ليلتين فلمّا كان في اليوم الثالث أتاه جبرئيل عليه السّلام بآخر سورة الحجر فقال:اقرء لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنّٰا كَفَيْنٰاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ .

قال:و رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و اغذّ (1)المسير مسرعا على دخول المدينة لينصب عليّا علما للناس،فلمّا كانت الليلة الرابعة هبط جبرئيل عليه السّلام في آخر الليل فقرأ عليه يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ و هم الذين هموا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كاما تراني يا جبرئيل اغدّ السير مجدّا فيه لأدخل المدينة فأعرض ولايته على الشاهد و الغائب،فقال له جبرئيل عليه السّلام:ان

ص:230


1- (25) اغد المسير و فيه اسرع.

اللّه يأمرك ان تفرض ولايته غدا اذا نزلت منزلك،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:نعم يا جبرئيل غدا افعل ذلك ان شاء اللّه تعالى و امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالرحيل من وقته و سار الناس معه حتّى نزل بغدير خم،و صلّى بالناس و امرهم ان يجتمعوا اليه و دعى عليّا عليه السّلام و رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يد علي اليسرى بيده اليمنى و رفع صوته بالولا لعلي عليه السّلام على الناس اجمعين و فرض طاعته عليهم و امرهم ان لا يختلفوا عليه بعده و خبّرهم انّ ذلك عن امر اللّه عزّ و جلّ و قال لهم:أ لست اولى بالمؤمنين من انفسهم؟قالوا:بلى يا رسول اللّه قال:من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله،ثم امر الناس ان يبايعوه فبايعه الناس جميعا و لم يتكلم منهم واحد و قد كان ابو بكر و عمر تقدما الى الجحفة فبعث و ردّهما،قال لهم النبي صلّى اللّه عليه و آله متّجها لهما يا ابن ابي قحافة و يا عمر بايعا عليّا بالولاية من بعدي فقالا:امر من اللّه و من رسوله اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فقال:و هل يكون مثل هذا من غير امر اللّه نعم امر من اللّه و من رسوله اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبايعا ثم انصرفا.

و سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله باقي يومه و ليلته حتى اذا ادنوا من عقبة هر شيء تقدمه القوم فتواروا في ثنية العقبة معهم دبابا و طرحوا فيها الحصى فقال حذيفة:فدعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دعا عمار بن ياسر و امره ان يسوقها و انا اقودها حتّى اذا صرنا من رأس العقبة سر القوم من ورائنا و دحرجوا الدباب بين قوائم الناقة فذعرت و كادت تنفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فصاح بها النبي صلّى اللّه عليه و آله ان اسكتي فليس عليك بأس فانطقها اللّه بقول عربي مبين فصيح فقالت و اللّه يا رسول اللّه لا أزلت يدا عن مستقرّ يد و لا رجلا عن موضع رجل و انت على ظهري، فتقدم القوم الى الناقة ليدفعوها فاقبلت انا و عمار نضرب وجوههم باسيافنا و كانت ليلة مظلمة فزالوا عنا و أيسوا ممّا ظنوا و قد رواه،فقلت يا رسول اللّه:من هم هؤلاء القوم الذين يريدون ما ترى؟فقال:يا حذيفة هؤلاء المنافقون في الدنيا و الآخرة،فقلت:الا نبعث اليهم يا رسول اللّه رهطا فيأتوا برؤوسهم فقال:انّ اللّه أمرني ان اعرض عنهم و اكره ان يقول الناس انّه دعا ناسا من قومه و اصحابه الى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتّى اذا ظهر على عدوه أقبل اليهم فقتلهم، و لكن دعهم يا حذيفة فانّ اللّه لهم بالمرصاد و سيملهم قليلا ثم يضطرهم الى عذاب غليظ،فقلت:

من هؤلاء القوم المنافقون يا رسول اللّه؟أ من المهاجرين ام من الأنصار؟فسمّاهم لي رجلا رجلا حتى فرغ منهم و قد كان فيهم انناس كنت كارها ان يكونوا فيهم فامسكت عند ذلك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يا حذيفم كأنك شاك في بعض من سميت لك؟ارفع رأسك اليهم،فرفعت طرفي الى القوم و هم وقوف على الثنية فبرقت برق و أضائت جميع ما حولها و ثبتت البرقة حتّى خلتها شمسا

ص:231

طالعة،فنظرت و اللّه الى القوم فعرفتهم رجلا رجلا فاذا هم كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عدد القوم اربعة عشر رجلا تسعة من قريش و خمسة من سائر الناس.

فقال له الفتى:سمّهم لنا يرحمك اللّه قال حذيفة:هم و اللّه ابو بكر و عمر و عثمان و طلحة و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن ابي وقاص و ابو عبيدة بن الجراح و معاوية بن ابي سفيان و عمرو بن العاص هؤلاء من قريش،و اما الخمسة الأخر فابو موسى الأشعري و المغيرة بن شعبة الثقفي و اوس بن الحدثان البصري و ابو هريرة و ابو طلحة الأنصاري،قال حذيفة:ثمّ انحدرنا من العقبة و قد طلع الفجر فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتوضأ و انتظر اصحابه من العقبة و اجتمعوا فرأيت القوم بأجمعهم و قد دخلوا مع الناس و صلّوا خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،فلمّا انصرف من صلاته التفت فنظر الى ابي بكر و عمر و ابي عبيدة يتناجون فأمر مناديا فنادى في الناس لا تجتمع ثلاثة نفرات من الناس يتناجون فيما بينهم بسرّ و ارتحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالناس من منزل العقبة فلمّا نزل المنزل الآخر رأى سالم مولى ابا حذيفة و ابا بكر و عمر و ابا عبيدة يسار بعضهم بعضا فوقف عليهم و قال:ا ليس قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ان لا تجتمع ثلاثة نفرات من الناس على سرّ واحد،و اللّه لتخبروني فيما انتم و الاّ أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى اخبره بذلك منكم،فقال ابو بكر:يا سالم أ عليك عهد اللّه و ميثاقه لئن نحن خبّرناك بالذي نحن فيه ربما اجتمعنا له ان احببت ان تدخل معنا فيه دخلت و كنت رجلا منّا و ان كرهت ذلك كتمته علينا؟فقال سالم:لكم ذلك و اعطاهم بذلك عهده و ميثاقه،و كان سالم شديد البغض و العداوة لعلي بن ابي طالب عليه السّلام و عرفوا ذلك منه، فقالوا له:انّا قد اجتمعنا على ان نتحالف و نتعاقد على ان لا نطيع محمدا صلّى اللّه عليه و آله فيما فرض علينا من ولاية علي بن ابي طالب بعده،فقال لهم سالم:عليكم عهد اللّه و ميثاقه انّ في هذا الأمر كنتم تخوضون و تتناجون،قالوا:أجل علينا عهد اللّه و ميثاقه انّ في هذا الأمر كنتم تخوضون و تتناجون، قالوا:اجل علينا عهد اللّه و ميثاقه انا انّما كنّا في هذا الأمر بعينه لا في شيء سواه،قال سالم:و انا و اللّه اوّل من يعاقدكم على هذا الأمر و لا يخالفكم عليه و اللّه ما طلعت الشمس على اهل بيت ابغض اليّ من بني هاشم و لا من بن هاشم ابغض اليّ و لا أمقت من علي بن ابي طالب عليه السّلام فاصنعوا في هذا الأمر ما بدا لكم فانّي واحد منكم،فتعاقدوا من وقتهم على هذا الأمر ثم تفرقوا، فلما اراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسير اتوه فقال لهم:فيما كنتم تتناجون في يومكم هذا و قد نهيتكم عن النجوى؟فقالوا:يا رسول اللّه ما لتقينا غير وقتنا هذا فنظر اليهم النبي صلّى اللّه عليه و آله مليّا ثم قال لهم:انتم اعلم ام اللّه؟و من اظلم ممّن كتم شهادة عنده من اللّه و ما اللّه بغافل عما تعملون.

ثم سار حتى دخل المدينة و اجتمع القوم جميعا و كتبوا صحيفة فيهم على ما ذكر ما تعاهدوا عليه في هذا الأمر و كان اوّل ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن ابي طالب عليه السّلام و انّ الأمر لأبي

ص:232

بكر و عمر و ابي عبيدة و سالم معهم ليس بخارج عنهم و شهد بذلك اربعة و ثلاثون رجلا هؤلاء اصحاب العقبة و عشرون رجلا آخر و استودعوا الصحيفة ابا عبيدة الجراح و جعلوه امينهم عليها.

قال فقال له الفتى:يا ابا عبد اللّه يرحمك اللّه هبنا نقول انّ هؤلاء القوم رضوا بابي بكر و عمر و ابي عبيدة لأنهم عن مشيخة قريش فما بالهم رضوا بسالم و ليس هو من قريش و لا من المهاجرين و لا من الأنصار انّما هو لأمرأة من الأنصار؟قال حذيفة:يا فتى ان القوم اجمع تعاقدوا على ازالة هذا الأمر عن علي بن ابي طالب عليه السّلام حسدا منهم له و كراهة لأمرته،و اجتمع لهم مع ذلك ما كان في قلوب قريش عليه من سفك الدماء و كان خاصّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كانوا يطلبون الثار الذي اوقعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهم من عند علي عليه السّلام من بني هاشم فانما كان العقد على ازالة الأمر عن علي عليه السّلام من هؤلاء الأربعة عشر و كانوا يريدون سالما رجل منهم.

فقال الفتى:فخبّرني يرحمك اللّه عمّا كتب جميعهم في الصحيفة لأعرفه،فقال:حدثني بذلك اسماء بنت عميس الخثعميّة امرأة ابي بكر انّ القوم اجتمعوا في منزل ابي بكر فتوامروا في ذلك و اسماء سمعهم و تسمع جميع ما يدبّرونه في ذلك حتّى اجتمع رايهم على ذلك فأمروا سعد بن العاص الأموي فكتب لهم الصحيفة باتّفاق منهم و كانت نسخة الصحيفة بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما اتفق عليه الملأ من اصحاب محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من المهاجرين و الأنصار الذين مدحهم اللّه في كتابه على لسان نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله،اتفقوا جميعا بعد ان اجهدوا في رأيهم و تشاوروا في امورهم و كتبوا هذه الصحيفة نظرا منهم الى الأسلام و أهله على غابر الأيام و باقي الدهور ليقتدي بهم من يأتي بعدهم من المسلمين.

اما بعد فان اللّه بمنه و كرمه بعث محمدا رسولا الى الناس كافة بدينه الذي ارتضاه لعباده فادى من ذلك و بلغ ما امره اللّه به و اوجب علينا القيام بجميعه حتّى اذا اكمل الدين و فرض الفرائض،و احكم السنن فاختار اللّه له ما عنده فقبضه اليه مكرما حبورا من غير ان يستخلف احدا من بعده،و جعل الأختيار الى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه و نصحه،و انّ للمسلمين في رسول اللّه اسوة حسنة قال اللّه عز و جل لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ و ان رسول اللّه لم يستخلف احدا لئلا يجري ذلك في اهل بيت واحد فيكون ارثا دون سائر المسلمين و لئلا يكون دولة بين الأغنياء منكم،و لأن لا يقول المستخلف انّ هذا الأمر باق في عقبه من والد الى ولد يوم القيامة،و الذي يجب على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء ان يجتمع ذووا الرأي و الصلاح منهم ليشاوروا في امورهم فمن رأوه مستحقا لها ولوه امورهم و جعلوه القيم عليهم،فانه لا يخفى على اهل كلّ زمان من يصلح منهم للخلافة،فان ادّعى مدّع من الناس جميعا انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استخلف رجلا بعينه نصّبه للناس و نصّ عليه

ص:233

باسمه و نصبه فقد أبطل في قوله و أتى بخلاف ما يعرفه اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خالف جماعة من المسلمين،و ان ادّعى مدّع انّ خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ارث و انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يورث فقد حال في قوله لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.

و ان ادعى مدع ان الخلافة لا تصلح الا لرجل واحد من بين الناس جميعا و انها مقصودة فيه و لا ينبغي لغيره لأنّها تتلو النبوة فقد كذب لأن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:اصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم،و ان ادّعى مدّع انّه مستحق للخلافة و الأمامة لقرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ هي مقصودة عليه و على عقبه يرثها الولد منهم عن والده ثمّ هي كذلك في كل عصر و زمان لا تصلح لغيرهم و لا ينبغي ان يكون لأحد سواهم الى ان يرث اللّه الأرض و من عليها فليس له و لا لولده و ان دنى من النبي صلّى اللّه عليه و آله نسبه لأنّ اللّه يقول و قوله القاضي على كل احد إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها ادناهم و كلّهم يد على من سواهم فمن آمن بكتاب اللّه و اقرّ بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد استقام و اناب و أخذ بالصواب،و من كره ذلك من فعالهم فقد خالف الحق و الكتاب و فارق جماعة المسلمين فاقتلوه فانّ في قتله صلاحا للأمة و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:من جاء الى امتي و هم جميع ففرّق بينهم فاقتلوه و اقتلوا الفرد كائنا من كان من الناس فانّ الأجتماع رحمة و الفرقة عذاب،و لا تجتمع امّتي على الضلال ابدا،و انّ المسلمين يد واحدة على من سواهم و انّه لا يخرج من جماعة المسلمين الاّ مفارق معاند لهم و مظاهر عليهم اعدائهم فقد اباح اللّه و رسوله دمه و احلّ قتله.

و كتب سعد بن العاص باتفاق من أثبت اسمه و شهادته آخر هذه الصحيفة في المحرم الحرام سنة عشرة من الهجرة و الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله و سلّم،ثم دفعت الصحيفة الى ابي عبيدة بن الجراح فوجّه بها الى مكة فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة الى ان و لي عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها و هي الصحيفة التي يتمنى امير المؤمنين عليه السّلام لمّا توفي عمر فوقف به و هو مسجى بثوبه فقال:ما احب الي ان القى اللّه بصحيفة هذا المسجى.

ثم انصرفوا و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالناس صلاة الفجر ثمّ جلس في مجلسه يذكر اللّه عز و جل حتّى طلعت الشمس فالتفت الى ابي عبيدة بن الجراح فقال:بخ بخ من مثلك لقد اصبحت امين هذه الأمة،ثم تلى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا يَكْسِبُونَ لقد اشبه هؤلاء رجال في هذا الأمة يستخفون من الناس و لا يستخفون من اللّه و هو معهم اذ يبيتون ما لا يرضى من القول و كان اللّه بما يعملون محيطا ثم قال:

لقد اصبح في هذا الأمة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم الّتي كتبوا علينا في الجاهلية و علقوها في الكعبة و ان اللّه تعالى يعذبهم عذابا ليبتليهم و يبتلي من يأتي بعدهم تفرقة بين الخبيث

ص:234

و الطيّب و لو لا انّه سبحانه امرني بالأعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقددمتهم فضربت اعناقهم.

قال حذيفة:فو اللّه لقد رأينا هؤلاء النفر عند قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه المقالة و قد أخذتهم الرعدة فما يملك احد منهم نفسه شيئا و لم يخف على احد ممّن حضر مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ايّاهم عني بقوله،و لهم ضرب تلك الأمثال بما تلي من القرآن.

قال:و لمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سفره ذلك نزل منزل امّ سلمة زوجته فأقام شهرا لا ينزل منزل سواه من منازل ازواجه كما كان يفعل قبل ذلك قال:فكشفت عائشة و حفصة ذلك الى ابويهما فقالا لهما كانا لنعلم لم صنع ذلك و لأي شيء هو؟امضينا اليه فلا طفاه في الكلام و خادعاه عن نفسه فانّكما تجدانه حييّا كريما فلعلكما تسئلان ما في قلبه و تستخرجان سخيمته،قال:

فمضت عائشة وحدها اليه و أصابته في منزل ام سلمة و عنده علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله ما جاء بك يا حميرا قالت:يا رسول اللّه انكرت تخلّفك عن منزلك هذه المدّة و انا اعوذ باللّه من سخطك يا رسول اللّه فقال:لو كان الأمر كما تقولين لما اظهرت بسرّ وصيتك بكتمانه لقد هلكت و اهلكت امة من الناس.

قال:ثم امر خادمة لأم سلمة فقال:اجمعي لي هؤلاء يعني نساءه فجمعتهن له في منزل ام سلمة فقال لهن:اسمعن ما اقول لكن و اشار بيده الى علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال لهن:هذا اخي و وصيي و وارثي و القائم فيكن و في الأمة من بعدي فاطعنه فيما يأمركن به و لا تعصينه فتهلكن بمعصيته،ثم قال:يا علي اوصيك بهن فامسكهن ما اطعن اللّه و اطعنك و انفق عليهن من مالك و مرهن بامرك و انههن عمّا يريبك و خلّ سبيلهن ان عصينك،فقال علي عليه السّلام:يا رسول اللّه انهنّ نساء و منهن الوهن و ضعف الراي؟فقال:ارفق بهن ما كان الرفق امثل بهن فمن عصاك منهن فطلّقها طلاقا يبرأ اللّه و رسوله منها قال:و كل نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله قد صمتن فما يقلن شيئا،فتكلمت عائشة فقالت:يا رسول اللّه ما كنّا لتأمرنا بشيء فنخالفه الى ما سواه،فقال لها كبلى يا حميرا لقد خالفت امري أشدّ خلاف و ايم اللّه لتخالفين قولي هذا و لتعصينه بعدي و لتخرجين من البيت الذي اخلفك فيه متبرجة قد حفّ بك فئام (1)من الناس فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك و لتنبحنّك في طريقك كلاب الحوأب الا ان ذلك كائن ثم قال:قمن فانصرفن الى منازلكن قال:فقمن فانصرفن.

ص:235


1- (26) في مجمع البحرين الفئام بالكسر و الهمز الجماعة الكثيرة من الناس لا واحد له من لفظه،و قال الجوهري و غيره: و العامة تقول الفيام بلا همزة.

قال:ثمّ ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع اولئك النفر و من والاهم على علي عليه السّلام و طابقهم على عداوته و من كان من الطلقاء و المنافقين و كانوا زهاء من اربعة الآف رجل فجعلهم تحت يدي اسامة بن زيد مولاه و امّره عليهم و أمره بالخروج الى ناحية من الشام فقالوا:يا رسول اللّه انّا قدمنا من سفرنا الذي كنا فيه معك و نحن نسألك ان تأذن لنا في المقام لنصلح من شأننا ما يصلحنا في سفرنا،قال:فامرهم ان يكونوا في المدينة ريث اصلاح ما يحتاجون اليه و أمر اسامة بن زيد يعسكرهم فعسكر بهم على اميال من المدينة،فأقام بمكانه الذي حدّ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منتظرا القوم ان يوافوه اذا فرغوا من امورهم و قضوا حوائجهم،و انما اراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما صنع من ذلك ان تخلوا المدينة معهم و لا يبقى بها احد من المنافقين.

قال:فهم على ذلك من شأنهم و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دائب يحثهم و يأمرهم بالخروج و التعجيل الى الوجه الذي ندبهم اليه اذ مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرضه الذي توفّي فيه فلمّا رأوا ذلك تباطئوا عمّا أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الخروج،فامر قيس بن سعد بن عبادة و كان سياق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحباب بن المنذر حتّى الحقناهم بمعسكرهم و قالا لأسامة انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يرخّص لك في التخلف فسر من وقتك هذا ليعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك فارتحل بهم اسامة و انصرف قيس و الحباب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأعلماه برحلة القوم،فقال لهما:انّ القوم غير السائرين.

قال:دخلا ابو بكر و عمر و ابو عبيدة بأسامة و جماعة من اصحابه فقالوا لي:اين تنطلق و تخلي المدينة و نحن احوج ما كنا اليها و الى المقام بها فقال لهم:و ما ذلك؟قالوا انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد نزل به الموت و اللّه لئن خلينا المدينة ليحدثن امور لا يمكن اصلاحها،فننظر ما يكون من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثم المسير بين ايدينا قال:فرجع القوم الى المعسكر الأوّل فأقاموا به و بعثوا رسولا تعرّف لهم امر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاتى رسول اللّه الى عائشة فسألها عن ذلك سرا فقال:امض الى ابي بكر و عمر و من معهما و قل لهما انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد ثقل فلا يبرحن احد منكم و انا اعلمكم الخبر وقتا بعد وقت،و اشتدّت علّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فدعت عائشة صهيبا فقالت:امض الى ابي و اعلمه ان محمدا صلّى اللّه عليه و آله في حال لا يرجى فهلمّ الينا انت و عمر و ابو عبيدة و من رأيتم ان يدخل معكم و ليكن دخولكم في الليل سرا،قال:فأتاهم الخبر فأخذوا بيد صهيب فادخلوه الى اسامة بن زيد فأخبروه الخبر و قالوا له:كيف ينبغي لنا ان نتخلف عن مشاهدة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استأذنوه في الدخول فأذن لهم و أمرهم ان لا يعلم بدخولهم احد و ان عوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجعتم الى عسكركم،و ان حدث حادث الموت عرفونا ذلك لنكون في جماعة الناس.

فدخل ابو بكر و عمر و ابو عبيدة ليلا المدينة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد ثقل،قال:فأفاق بعض الأفاقة فقال:لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شرّ عظيم فقيلوا ما هو يا رسول اللّه؟قال:ان الذين كانوا

ص:236

في جيش اسامة قد رجع منهم نفر يخالفون عن امري الا انّي الى اللّه منهم بريء و يحكم نفذوا جيش اسامة فلم يزل يقول ذلك حتّى قالها مرّات كثيرة،قال:و تحامل و خرج و صلّى بالناس و ان هو لم يقدر على الخروج امر علي بن ابي طالب عليه السّلام فصلّى بالناس،و كان علي بن ابي طالب عليه السّلام و الفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك،فلمّا اصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يد اسامة اذّن بلال ثم اتاه يخبره كعادته،فوجده قد ثقل فمنع من الدخول اليه فأمرت عائشة صهيبا في مرضه و ليس يطيق النهوض الى المسجد و علي بن ابي طالب عليه السّلام قد شغل به و بمشاهدته عن الصلاة بالناس فاخرج انت الى المسجد فصلّ بالناس فانّها حالة تهنئك و حجّة لك بعد اليوم.

قال:فلم يشعر الناس و هم في المسجد فينتظرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله او عليّا عليه السّلام يصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه اذ دخل ابو بكر المسجد و قال:انّ:ما ورائك يا بلال؟و انّى لك ذلك و انت في جيش اسامة لا و اللّه لا اعلم احدا بعث اليك و لا امرك بالصلاة ثم نادى الناس بلالا فقال:

على رسلكم رحمكم اللّه لأستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك.

ثم اسرع حتى اتى الباب فدقّه شديدا،فسمعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال:ما هذا الدق العنيف فانظروا ما هو قال:فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فاذا بلال فقال ما ورائك يا بلال؟فقال:ان ابا بكر قد دخل المسجد و تقدم حتّى وقف في مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و زعم ان:مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امره بذلك فقال:او ليس ابو بكر مع اسامة في الجيش هذا و اللّه هو الشر العظيم الذي طرق الباب البارحة؟لقد خبّرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

بذلك و دخل الفضل و ادخل بلالا معه فقال:ما ورائك يا بلال فاخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخبر فقال:أقيموني اخرجوني الى المسجد و الذي نفسي بيده قد نزلت بالأسلام نازلة و فتنة عظيمة من الفتن،ثم خرج صلّى اللّه عليه و آله معصوب الرأس يتهاوى بين علي و الفضل بن العباس و رجلاه يجران في الأرض حتى دخل المسجد و ابو بكر قائم في مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد أطاف به عمر و ابو عبيدة و سالم و صهيب و النفر الذين دخلوا و اكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال.

فلمّا رأى الناس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد دخل المسجد و هو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك و تقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جذب ابا بكر من ردائه فنحاه عن المحراب و أقبل ابو بكر و النفر الذين يركانوا معه فتواروا خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أقبل الناس فصلوا خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو جالس و بلال يسمع الناس التكبير حتّى قضى صلاته،ثم التفت فلم ير ابا بكر،فقال:

ايّها الناس الا تعجبون من ابن ابي قحافة و اصحابه الذين انفذتهم و جعلتهم تحت يدي اسامة

ص:237

الرابع و امرتهم بالمسير الى الوجه الذي وجّهوا اليه فخالفوا ذلك و رجعوا الى المدينة ابتغاء الفتنة الا و ان اللّه قد اركسهم فيها أعرجوا بي الى المنبر.

فقام و هو مربوط حتى قعد على ادنى مرقاة فحمد اللّه و اثنى عليه ثمّ قال:ايّها الناس انّه قد جائني من امر ربي ما لناس اليه صائرون و اني قد تركتكم على المحبة الواضحة ليلتها كنهاري فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني اسرائيل ايّها الناس انّه لا احل لكم الاّ ما احل القرآن،و لا احرم عليكم الا ما حرمه القرآن،و اني مخلف فيكم الثقلين الا ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا و لن تزّلوا كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي هما الخليفتان فيكم و انّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض فاسئلكم بما ذا خلفتموني فيهما،و ليذادن يومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغريبة من الأبل فيقول رجال:انا فلان و انا فلان فأقول امّا الأسماء فقد عرفت و لكنكم ارتديهم من بعدي فسحقا لكم سحقا،ثم نزل عن المنبر و عاد الى حجرته و لم يظهر ابو بكر و لا اصحابه حتى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و كان من الأنصار و سعد في الثقيفة ما كان فمنعوا اهل بيت نبيهم حقوقهم التي جعلها اللّه عز و جل لهم،و امّا كتاب اللّه فمزقوه كل مزق و فيما اخبرتك يا اخا الأنصار من خطب معتبر لمن احب اللّه هدايته.

فقال الفتى:سمّ لي القوم الآخرين الذين حضروا الصحيفة و شهدوا فيها،فقال:حذيفة ابو سفيان و عكرمة بن ابي جهل و صفوان بن امية بن خلف و سعيد بن العاص و خالد بن الوليد و عيّاش بن ابي ربيعة و بشر بن سعد و سهيل بن عمرو و حكيم بن جزام و صهيب بن سنان و ابو الأعور السلمي و مطيع بن الأسود المدوي و جماعة من هؤلاء ممن سقط عني احصاء عددهم فقال الفتى:يا ابا عبد اللّه ما هؤلاء في اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى انقلب الناس اجمعون بسبيلهم؟ فقال حذيفة:انّ هؤلاء رؤوس القبائل و أشرافها و ما من رجل من هؤلاء و ما من رجل من هؤلاء الا و معه من الناس خلق عظيم يسمعون له و يطيعون و اشربوا في قلوبهم من ابي بكر كما اشرب في قلوب بني اسرائيل من حب العجل و السامري حتّى تركوا هارون ليستضعفوه.

قال الفتى:اقسم باللّه حقا انّي لا ازال لهم مبغضا و الى اللّه منهم و من افعالهم متبرأ و لا زلت لأمير المؤمنين عليه السّلام متواليا و لأعاديه معاديا و لا لحقن به و اني لأمل ان ارزق الشهادة معه و شيكا ان شاء اللّه تعالى ثم ودّع حذيفة و قال:هذا وجهي الى أمير المؤمنين عليه السّلام فخرج الى المدينة و استقبله و قد شخص من المدينة يريد العراق فسار معه الى البصرة،فلما التقى امير المؤمنين عليه السّلام مع اصحاب الجمل كان ذلك الفتى اول من قتل من اصحاب امير المؤمنين عليه السّلام،و ذلك انّه لما صاف القوم و اجتمعوا على الحرب احب امير المؤمنين عليه السّلام ان يستظهر عليهم بدعائهم الى القرآن

ص:238

و حكمه فدعا بمصحف و قال:من يأخذ هذا المصحف يعرضه عليهم و يدعوهم الى ما فيه فيحيى ما أحياه و يميت ما اماته؟قال:و قد شرعت الرماح بين العسكرين حتى لو اراد امرء ان يمشي عليها لمشى،قال:فقام الفتى و قال:يا امير المؤمنين انا آخذه و اعرضه عليهم و ادعوهم الى ما فيه قال:

فأعرض عنه امير المؤمنين عليه السّلام ثم نادى الثانية من يأخذ هذا المصحف فيعرضه عليهم و يدعوهم الى ما فيه؟فلم يقم اليه احد،فقام الفتى و قال:يا امير المؤمنين انا آخذه و أعرضه عليهم و أدعوهم الى ما فيه،قال:فأعرض عنه امير المؤمنين عليه السّلام ثم نادى الثالثة فلم يقم احد من الناس الا الفتى فقال/انا آخذه فأعرض عليهم و ادعوهم الى ما فيه فقال:امير المؤمنين عليه السّلام انك ان فعلت ذلك فانّك مقتول،فقال:و اللّه يا امير المؤمنين ما شيء احب الي من ان ارزق الشهادة بين يديك ان اقتل في طاعتك،فاعطاه امير المؤمنين عليه السّلام المصحف فتوجه به نحو عسكرهم فنظر اليه امير المؤمنين عليه السّلام و قال:انّ الفتى ممّن حشى اللّه قلبه نورا و ايمانا و هو مقتول،و لقد اشفقت عليه من ذلك و لن يفلح القوم بعد قتلهم اياه فمضى الفتى بالمصحف حتّى وقف بازاء عسكر عاينه،و طلحة و زبير حينئذ عن يمين الهودج و شماله و كان له صوت فنادى بأعلى صوته معاشر الناس هذا كتب اللّه و انّ امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام يدعوكم الى كتاب اللّه و الحكم بما انزل اللّه فيه فانيبوا الى طاعة اللّه و العمل بكتابه قال:و كانت عائشة و طلحة و الزبير يسمعون قوله فامسكوا،فلما رأى ذلك أهل عسكرهم بادروا الى الفتى و المصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى فتناول المصحف بيده اليسرى و ناديهم بأعلى صوته مثل ندائه اول مرة فبادروا اليه و قطعوا يده اليسرى فتناول المصحف و احتضنه و دماؤه تجري عليه و ناداهم مثل ذلك فشدّوا عليه و قتلوه و وقع ميتا فقطعوه اربا اربا و لقد رأينا شحم بطنه اصفر.

قال:و امير المؤمنين واقف يراهم فأقبل على اصحابه فقال:انذي و اللّه ما كنت في شك و لا لبس من ضلالة القوم و باطلهم و لكن احببت ان يتبين لكم جميعا ذلك من بعد قتلهم الرجل الصالح حكيم بن جبلة العبدي في رجال الصالحين معه و تضاعف ذنوبهم بهذا الفتى و هو يدعوهم الى كتاب اللّه و الحكم به و العمل بموجبه فبادروا اليه فقتلوه و لا يرتاب بقتلهم اياه مسلم، و وقدت الحرب و اشتدت فقال امير المؤمنين عليه السّلام:احملوا بأجمعكم عليهم بسم اللّه الرحمن الرحيم لا ينصرون و حمل هو بنفسه و الحسنان و اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معه فغاص في القوم بنفسه فو اللّه ما كانت الاّ ساعة من نهار حتّى رأينا القوم شلايا يمينا و شمالا صرعى تحت سنابك الخيل.

و رجع امير المؤمنين عليه السّلام مؤيّدا منصورا و فتح اللّه عليه و منحه اكتافهم و أمر بذلك الفتى و جميع من قتل معه فلفوا في ثيابهم بدمائهم و لم تنزع عنهم ثيابهم و صلى عليهم و دفنهم و أمرهم

ص:239

ان لا يجهزوا فيه على جريح و لا يتبعوا لهم مدبرا و امر بما حوى العسكر فجمع له و قسمه بين اصحابه و أمر محمد بن ابي بكر ان يدخل اخته الى البصرة فتقيم بها اياما ثم يرحلها الى منزلها بالمدينة قال عبد اللّه بن سلمة كنت ممّن شهد حرب اهل الجمل فلمّا وضعت الحرب اوزارها رأيت ام ذلك الفتى واقفة عليه فجعلت تبكي عليه و بقتله ثم أنشأت تقول شعرا:

يا رب ان مسلما أتاهم يتلو كتاب اللّه لا يخشاهم

يأمرهم بالأمر من و مولاهم فخضبوا من دمه قناهم

و أمة قائمة تراهم تأمرهم بالغي لا تنهاهم

بعض فضائل امير المؤمنين عليه السّلام الخاصة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

في ارشاد القلوب الدليمي في ضمن مطاعن الثاني،قال:و اما ما أمر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و آله بسدّ ابواب الناس عن مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله تشريفا له و صونا له عن النجاسة سوى باب النبي صلّى اللّه عليه و آله و باب علي بن ابي طالب عليه السّلام،و امره ان ينادي في الناس الصلاة جامعة فاقبل الناس يهرعون (1)فلما تكاملوا صعد المنبر فحمد اللّه و اثنى عليه،ثم قال ايها الناس انّ اللّه سبحانه و تعالى قد امرني سدّ ابوابكم المفتوحة الى المسجد و بعد يومي هذا لا يدخله جنب و لا نجس فبذلك امرني ربي عز و جل فلا يكن في نفس احد منكم امر و لا تقولوا متى و كيف و انى؟فتحبط اعمالكم و تكونوا من الخاسرين و ايّاكم و المخالفة و الشقاق فان اللّه اوحى الى ان اجاهد من عصاني و انّه لازمة في الأسلام و قد جعلت مسجدي طاهرا من دنس محرما على كل من يدخل اليه من هذه الصفة التي ذكرتها غير انا و اخي علي بن ابي طالب عليه السّلام و ابنتي فاطمة و ولدي الحسن و الحسين عليهما السّلام(كماظ) كان مسجد هارون و موسى فان اللّه اوحى اليهما ام اجعلا بيوتكما قبلة لقومكما و اني قد بلغتكم ما أمرني ربي و أمرتكم بذلك الا فأحذروه الحسد و النفاق،و اطيعوا اللّه طاعة يوافق فيها سركم و علانيتكم و اتقوا اللّه حق تقاته و لا تموتن الا و انتم مسلمون فقال الناس بأجمعهم:سمعنا و اطعنا للّه و رسوله و لا نخالف ما امرتنا به.

ثم خرجوا و سدوا ابوابهم جميعا غير باب النبي صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام فاظهر الناس الحسد و الكلام فقال عمر:رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يؤثر ابن عمه علي بن ابي طالب عليه السّلام علينا و يتقول على اللّه

ص:240


1- (27) أي يسرعون مع الاضطراب.

الكذب و يخبر عن اللّه بما لم يقل في ابن ابي طالب و انّما قول محمد محبة لعلي عليه السّلام و اجابة الى ما يريد فلو سأل اللّه ذلك لأجابه و اراد عمر ان يكون له باب مفتوح الى المسجد و لمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قول عمر و خوض القوم في الكلام امر المنادي بالنداء الى الصلاة الجامعة فلما اجتمع الناس قال لهم النبي صلّى اللّه عليه و آله:معاشر الناس قد بلغني ما خضتم فيه و ما قال قائلكم و انّي اقسم باللّه العظيم انّي لم أتقول على اللّه الكذب و ما كذبت فيما قلت و لا انا سددت ابوابكم و لا انا فتحت باب علي بن ابي طالب عليه السّلام و لا امرني في ذلك الا اللّه عز و جل الذي خلقني و خلقكم اجمعين، فلا تحاسدوا فتهلكوا و لا تحسدوا الناس على ما آتاهم اللّه من فضله،فانه يقول في محكم كتابه تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّٰادِقِينَ .

ثم صدق اللّه سبحانه و تعالى رسوله بنزول الكواكب من اللّه في دار علي بن ابي طالب عليه السّلام و قد مرّ حديث النجم و قصته مشهورة،و انزل اللّه قرآنا و اقتص فيه بالنجم تصديقا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله قال وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ الآيات كلها،و تلاها النبي صلّى اللّه عليه و آله فلم يزدادوا الا غضبا و حسدا و نفاقا و عتو و استكبروا ثم تفرقوا و في قلوبهم من الحسد و النفاق ما لا يعلمه الاّ اللّه سبحانه.

فلما كان بعد ايام دخل عليه العباس فقال:يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد علمت ما بيني و بينك من القرابة و الرحم الماسة و انّا ممن يدين اللّه بطاعتك فاسئل اللّه عز و جل ان يجعل لي بابا الى المسجد اتشرف على من سواي فقال له:يا عم ليس لي الى ذلك سبيل،قال:فميزا بان يكون من داري الى المسجد أتشرف به على القريب و البعيد فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله و كان كثير الأحياء لا يدري ما يعيد من الجواب خوفا من اللّه تعالى و حياء من عمه العباس فهبط جبرئيل في الحال على النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد علم اللّه من نبيه صلّى اللّه عليه و آله اشفاقه بذلك فقال:يا محمد صلّى اللّه عليه و آله اللّه يأمرك ان تجيب سؤال عمك و امرك ان تنصب له ميزابا الى المسجد كما اراد فقد علمت ما في نفسك و قد اجبتك الى ذلك كرامة لك و نعمة منّي عليك و على عمك العباس فكبّر النبي صلّى اللّه عليه و آله و قال ابي عبد اللّه:الا اكرامكم يا بني هاشم و تفضيلكم على الخلق اجمعين ثم قام و معه جماعة من الصحابة و العباس بين يديه حتى صار على سطح بيت العباس فنصب ميزابا الى المسجد و قال:معاشر المسلمين ان اللّه قد شرّف عمي العباس بهذا الميزاب،فلا تؤذونني في عمي فانه بقية الآباء و الأجداد فلعن اللّه من آذاني في عمي و يحبسه حقه او اغار عليه.

و لم يزل الميزاب على حاله ايام النبي صلّى اللّه عليه و آله و خلافة ابي بكر و ثلاثة سنين من خلافة عمر بن الخطاب فلما كان في بعض الأيام و على العباس و مرض مرضا شديدا فصعدت الجارية تغسل قميصه فجرى الماء من الميزاب الى صحن المسجد فنال بعض الماء من قعة الرجل فغضب غضبا

ص:241

شديدا و قال لغلامه:اصعد و اقلع الميزاب فصعد الغلام فقلعه و رمى به الى سطح العباس و قال:

و اللّه لأن رده احد الى مكانه لأضربن عنقه،فشق ذلك على العباس ودعى بولديه عبد اللّه و عبيد اللّه و نهض يمشي متوكئا عليهما و هو يرتعد من شدة المرض و صار حتى دخل على امير المؤمنين عليه السّلام فلما نظر اليه امير المؤمنين عليه السّلام على تلك الحالة انزعج لذلك و قال:يا عم ما جائك و انت على هذه الحالة فقص عليه القصة و ما فعل معه عمر من قلع الميزاب و تهدده من يعيده الى مكانه و قال له:يا ابن اخي انه قد كان لي عينان انظر بهما فمات احديهما و هي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بقيت الأخرى و هي انت يا علي،و ما أظن انّي اظلم و يزول ما شرّفني به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و انت لي فانظر في امري،فقال له:يا عم ارجع الى بيتك فسترى مني ما يسرك ان شاء اللّه تعالى.

ثم نادي علي بذي الفقار ثم خرج الى المسجد و الناس حوله و قال:يا قنبر اصعد حينئذ فردّ الميزاب الى مكانه فصعد قنبر فرده الى موضعه،و قال علي عليه السّلام و حقّ صاحب هذا القبر و المنبر لأن قلعه قالع لأضربن عنقه و عنق الآمر له بذلك و لأصلبنهما في الشمس حتى يتقددا،فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فنهض و دخل المسجد و نظر الى الميزاب و هو في موضعه قال:لا يغضب احدا ابا الحسن فيما فعله و نكفر عن اليمين فلما كان من الغداة مضى امير المؤمنين عليه السّلام الى عمه العباس و قال:كيف اصبحت يا عم؟قال:بأفضل النعم ما دمت لي يا ابن اخي،فقال له:يا عم طب نفسا فو اللّه لو خاصمني اهل الأرض في الميزاب لخصمتهم ثم لقتلتهم بحول اللّه و قوته و لا ينالك ضيم يا عم،فقام العباس فقبّل بين عينيه و قال:يا ابن اخي ما خاب من انت ناصره،فكان هذا فعل عمر بالعباس عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد قال في غير موطن وصية منه في عمه انّ عمي العباس بقية الآباء و الأجداد فاحفظوني فيه كلّ في كنف و انا في كنف عمي العباسفمن أذاه فقد اذاني،و من عاداه فقد عاداني،سلمه سلمي و حربه حربي و قد اذاه عمر في ثلاث مواطن ظاهرة غير خفية منها قضية ميزاب و لو لا خوفه من علي عليه السّلام لم يتركه على حاله.

و منها ان النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل الهجرة خرج يوما الى خارج مكة و رجع طالبا منزله و جازه بمناد ينادي من بني تميم و كان له سيّد يسمى عبد اللّه بن جذعان و كان يعد من سادات قريش و اشياخهم و كان له منادية ينادون في شعبات مكة و أوديتها من اراد الضيافة و الغذاء فليأت مائدة عبد اللّه بن جذعان،و كان مناديه ابا قحافة و أجرته اربع دوانيق،و له مناد آخر ينادي فوق سطح داره فاخبر عبد اللّه بن جذعان بجواز النبي صلّى اللّه عليه و آله على باب داره و خرج يمشي حتّى لحق به و قال:

يا محمد صلّى اللّه عليه و آله بالبيت الحرام الاّ ما شرفتني بدخولك منزلي و تحرمك بزادي و أقسم عليه البيت و البطحي و شيبة عبد المطلب فاجابه النبي صلّى اللّه عليه و آله الى ذلك و دخل منزله و تحرم بزاده فلما خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله خرج معه ابن جذعان مشيّعا لع فلمّا اراد الرجوع عنه قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله احب ان تكون غدا

ص:242

ضيفي انت و تيم و اتباعها و خلفائها عند طلوع الغزالة،ثم افترقا و مضى النبي صلّى اللّه عليه و آله الى دار عمه ابي طالب و جلس متفكرا فيما وعده لعبد اللّه بن جذعان اذ دخلت عليه فاطمة بنت اسد زوجة عمّه ابي طالب و كانت هي مربيته و كان يسميها امي فلما رأته مهموما قالت:فداك امي و ابي فاني اراك مهموما اعارضك احد من اهل مكة؟فقال:لا فقالت فبحقي عليك الا ما أخبرتني بحالك فقصّ عليها قصّته مع ابن جذعان و ما قال له و ما وعده من الضيافة فقالت:يا ولدي لا يضيق صدرك مع اتيان عمك يقوم لك بكلما تريد،فبينما هم في الحديث اذ دخل ابو طالب عليه السّلام فقال لزوجة فيما انتما؟فأعلمته بذلك كله و بما قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لأبن جذعان فضمه الى صدره و قبل ما بين عينيه، و قال:يا ولدي باللّه عليك لا يضيق صدرك من ذلك و في نهار غد اقوم لك في جميع متحتاج اليه ان شاء اللّه تعالى و أصنع وليمة تتحدث فيها الركبان في سائر البلدان،و عزم على وليمة تعم سائر القبائل،و قصد نحو اخيه العباس ليقترض منه شيئا يضمه الى ماله فوجد بني عبد المطلب في الطريق فأقرضوه من الجمال و الذهب ما يكفيه فرجع عن القصد الى اخيه العبّاس و آثر التخفيف عنه،فبلغ اخاه العباس ذلك و عظم عليه رجوعه عن القصد اليه فاقبل الى اخيه ابي طالب و هو مغموم كئيب فسلّم عليه فقال له ابو طالب:مالي اراك حزينا كئيبا؟فقال:بلغني انك قصدتني في حاجة ثم بدا لك عنها فرجعت من الطريق فما هذا الحال؟فقص عليه القصة الى آخرها فقال له العباس:الأمر اليك و انك لم تزل اهلا لكل مكرمة و مؤملا لكل نائبة ثم جلس عنده ساعة و قد اخذ ابو طالب فيما يحتاج اليه من آلة الطبخ و غير ذلك،فقال له العباس:يا اخي لي اليك حاجة فقال ابو طالب عليه السّلام هي مقضية فاذكرها،فقال العباس اقسمت عليك بحق البيت و بشيبة الحمد الا قضيتها،فقال:لك ذلك و لو سئلت في النفس و الولد،فقال:تهب لي هذه المكرمة تشرفني بها؟ فقال:قد اجبتك الى ذلك مع ما اصنعه انا فنحر العباس الجزر و نصب القدور و عقد الحلاوات و شوى المشوي و اكثر من الزاد فوق ما يزاد،و نادى في سائر الناس و اجتمع اهل مكة و بطون قريش و سائر العرب على اختلاف طبقاتها يهرعون في كلّ مكان حتى كأنّه عبد اللّه الأكبر و بصب للنبي صلّى اللّه عليه و آله منصبا عاليا و زبّنه بالدر و الياقوت و الثياب الفاخرة و بقي الناس متعجبين من حسن النبي صلّى اللّه عليه و آله و وقاره و عقله و كماله وضوئه يعلو على ضوء الشمس و تفرق الناس مسرورين و انشدوا الخطب و الأشعار و مدح النبي صلّى اللّه عليه و آله و اهله و عشيرته على حسن ضيافتهم و كانت يد العباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله اليد العليا،فلما تكامل النبي صلّى اللّه عليه و آله و بلغ اشده و تزوج خديجة و اوحى اللّه اليه و نبّأه و ارسله الى سائر العرب و العجم و اظهره على المشركين و فتح مكة و دخلها مؤيّدا منصورا،و قتل من قتل و بقي من بقي أوحى اللّه اليه يا محمد ان عمك العباس له عليك يد سابقة و جميع متقدم و هو ما انفق عليك في وليمة عبد اللّه بن جذعان و هو ستون الف دينار مع ماله عليك في سائر

ص:243

الأزمان و في نفسه شهوة سوق عكاظ فامنحه ايّاه في مدة حياته و لوالديه بعد وفاته،ثم قال:الا لعنة اللّه على من عارض عمي العباس في سوق عكاظ او نازعه فيه من أخذه منه فأنا بريء منه و عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس اجمعين فلما تكبر عمر بذلك و حسد العباس على دخل سوق عكاظ و غصبه منه و لم يزل العباس متظلما منه عليه الى حين وفاته.

و منها ان النبي صلّى اللّه عليه و آله كان جالسا في مسجد يوما و حوله جماعة من الصحابة اذ دخل عمه العباس و كان رجلا صبيحا حسن الخلق الشمائل فلما رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله قام اليه و استقبله و قبل بين عينيه و رحّب فيه و أجلسه الى جانبه و جعله يفديه بأبيه و امه و جعل العباس يقول اشعارا لمدحه صلّى اللّه عليه و آله فلما فرغ عمه العباس قال النبي صلّى اللّه عليه و آله يا عم خيرا و مكافئتك على اللّه،قال:معاشر الناس احفظوني في عمي العباس و انصروه و لا تخذلوه ثم قال:يا عم اطلب مني شيئا اعطك على سبيل الهدية،فقال:يا ابن اخي اريد من الشام الملعب،و من العراق الحبرة،و من هجر الحظ،و كانت هذه المواضع كثيرة العمارة فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله مرحبا(حبا خ د)و كرامة ثم دعا علي بن ابي طالب عليه السّلام فقال:اكتب لعمك العباس هذه المواضع فكتب له امير المؤمنين عليه السّلام كتابا بذلك و أملأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على علي و اشهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجماعة الحاضرين و ختمه النبي صلّى اللّه عليه و آله بخاتمه،و قال:

يا عم ان يفتح اللّه لي هذه المواضع فهي لك هبة و ان فتحت بعد موتي فانّي اوصي الذي ينظر في الأمة و آمره بتسليم هذه المواضع المذكورة لعمي العباس فعلى من تغير عليه او يبدله او يمنعه او يظلمه لعنة اللّه و لعنة اللاعنين ثم ناوله الكتاب،فلما و لي عمر و فتح هذه المواضع المذكورة اقبل اليه العباس الكتاب فلما نظر فيه دعى رجلا من اهل الشام و سئله عن الملعب،فقال:يزيد ارتفاعه على عشرين الف درهم ثم سأل عن النواحي الأخر فذكر له ان ارتفاعها يقوم بمال كثير فقال:

يا ابا الفضل انّ هذا مال كثير لا يجوز ذلك اخذه من دون المسلمين،فقال العباس:هذا كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشهد لي بذلك قليلا كان او كثيرا فقال له عمر كلا و اللّه ان كنت تساوي المسلمين في ذلك و الا فارجع من حين اتيت فجرى بينهما كلام كثير فغضب عمر و كان سريع الغضب و اخذ الكتاب من العباس و خرقه و تفل فيه و رمى به في وجه العباس و قال:و اللّه لو طلبت منه حبة واحدة ما اعطيتك،فأخذ العباس بقية الكتاب و عاد الى منزله حزينا كئيبا باكيا شاكيا الى اللّه و الى رسوله، فصاح العباس بالمهاجرين و الأنصار فغضبوا لذلك و قالوا يا عمر تخرق كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تبقى الى الأرض هذا شيء لا نصبر عليه،فخاف عمر ان يتخرم عليه الأمر فقال:قوموا بنا الى العباس فنرضيه و نفعل معه ما يصلحه فنهضوا باجمعهم الى دار العباس فوجدوه متوركا لشدة ما لحقه من الفتن و الألم و الظلم فقال:نحن في الغداة عائد ان شاء اللّه تعالى معتذرين اليه مما فعلنا

ص:244

فمضى غدو بعد غدو لم يعد اليه و لا اعتذر منه ثم فرق الأموال على المهاجرين و الأنصار و بقى كذلك الى ان مات و اللّه تعالى.

و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون نقل من ارشاد القلوب الديلمي قدس اللّه روحه الشريف و نوّر ضريحه المنيف و الحمد للّه اولا و آخرا و ظاهرا و باطنا و صلّى اللّه على خير خلقه محمد و آله و سلّم تسليما كثيرا كثيرا.

ص:245

الجسد بعد الموت

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حديث مشكل في الكافي و الفقيه عن عمار الساباطي عن الصادق عليه السّلام انه سئل عن الميت هل يبلى جسده؟قال:نعم حتى لا يبقى له عظم و لا لحم الا طينته التي خلق منها فانها لا تبلى بل تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق اول مرة يقال:بلى الميت أي افنته الأرض و هذا كناية عن ذهاب بعض جسده و المراد بالطينة كما في اللغة الأصل و الخلقة و الجبلة و في تعيين النراد من الطينة الباقية في القبر على الأستدارة اقوال:

الأول ان المراد بها النفس الناطقة اذ الطين هو الأصل و لا ريب في ان النفس الناطقة هو اصل لا لأنسان و حقيقته و انه يثاب و يعاقب و هي الباقية بعد فناء الجسد حتى يخلق اللّه الجسد و يتعلق به ثانيا و بقاءه في القبر اشارة الى بقاء تعلقها باجزاء بدنها التي في القبر فان البدن لكونه الة لتحصيل كمالاتها يمتنع ان يزول تعلقها و تعشقها به و اما استدارتها فكأنها كناية عن انتقالها عن حال الى حال و من شأن الى شأن مطلقا او في حال البرزخ فالأستدارة هنا من الدوران بمعنى الحركة أي المأخوذة من دار دور دورا و دورنا فالمراد ان ما سوى النفس من الأنسان تفنى و انما تبقى النفس مستديمة مستمرة متحركة في جميع مراتب التغيير منتقلة من حال الى حال مع بقاءها بذاتها حتى يتعلق ثانيا ببدنها و يمكن ان يكون استدارتها كناية عن بساطتها و تجردها نظرا الى ان الأستدارة شكل للبسيط و هذا اكمل و ان كان بعيدا من حيث اللفظ لأفتقاره الى تجوزات و تأويلات الا انه قريب من حيث المعنى.

الثاني ان المراد بالطينة هو النطفة لأن الطينة هو الأصل الذي يخلق منه أي ما يتولد به الأجزاء الأصلية من العظم و اللحم و العصب و الربائط و غيرها و ظاهر ان الأصل الذي خلق منه سوى آدم و زوجته هو المسيح من افراد البشر و المسيح من افراد البشر هو النطفة اما آدم و زوجته فان ما خلق من الطين و اما المسيح فالمروي(في)من الأخبار و ان لم يحضرني الآن الفاظها ان خلق من بخارات خرجت من آدم حين عطس في اول ما عطس و قد قبضها جبرئيل عليه السّلام في كفه بأمر اللّه تعالى و حفظها الى ان القاها الى مريم و نفخها فيها.

فالمراد ان الأجزاء الفضلية و الأصلية تتفرق و تتلاشى بالموت البدني و يبقى ما به تتكون تلك الأجزاء و هو النطفة بحالة ليكون كالمادة يخلق منه جسد الميت كما خلق منها اول مرة اما بضم تلك الأجزاء اليها بعد التفكك و التشتت او بانشائها منها مرة اخرى كما انشأها منها في المرة اللأولى

ص:246

و قد ورد في بعض الأخبار ان اللّه اذا اراد ان يبعث الخلق مطر السماء على الأرض اربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.

و بالجملة المراد ان شخص النطفة التي خلق منها الميت تبقى في القبر على هيئة الكرة الى ان يعاد في القيمة و لا استبعاد في بقاءها بحالها بالنظر الى قدرة اللّه تعالى فلا حاجة الى تأويلها و انما تبقى على هيئة الكرة لكونها في بدو الفطرة حين كونها في الرحم كذلك لأن الماء بطبعه يقتضي الاستداره و الكرويه حيثما كان كما بين في محله و هذا الحمل و ان كان قريبا من حيث اللفظ الا انه بعيد من حيث المعنى اذ بقاء شخص نطفة الرجل التي وقعت في رحم المرئه و خلقت منه الجنين بحالها الأصلي التي وقعت في الرحم ينادي بفساده القواعد الطبية و الحكمية و هذه النطفة لا تبقى على هيئة الأستدارة في البدن الذي يكون منها فكيف يبقى بعد فنائه بالقبر.

الثالث ان المراد بها التراب الذي يدخل في النطفة كما هو ظاهر بعض الآيات و الروايات و ان فسروها بغيرها كقوله تعالى مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ و قول احدهما في صحيحة محمد بن مسلم من خلق من تربة دفن فيها و قل الصادق عليه السّلام في رواية حارث بن المغيرة ان النطفة اذا وقعت في الرحم بعث اللّه ملكا فاخذ من التربة التي يدفن فيها و خلطها في النطفة فلا يزال قلبه عنّ اليها حتى يدفن فيها و المراد باستدارتها اما معناها الحقيقي الذي ان هذا التراب على شكل الأستدارة و يمون محفوظا عليها حتى يبعث فيها او المجازي أي انتقاله من حال الى حال بمعنى انه دار على الحالات و الشؤون و لو فيها الصحاف و الكيزان حتى يخلق منها و لا يخفى ان هذا الحمل ايضا بعيد من حيث المعنى اذ ظاهر ان ما ورد في بعض الأخبار من خلط التراب بالنطفة لا يمكن الأخذ بظاهره فكيف يأول اليه غيره ممن لا يمكن الأخذ بظاهره ايضا.

الرابع ان المراد منها أي من الطينة ذرة من الذرات المسئولة في الأزل بقوله تعالى أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ بعد ما جعلت قابلة للخطاب بتعلق الأرواح فيكون بدن كل انسان مخلوقا من ذرة من تلك الذرات فينميها اللّه الى ما شاء من غاية ثم يذهب و يفنى عنها ما زاد و تبقى الذرة مستديرة في القبر الى ما شاء اللّه ثم يزيد فيها وقت الأحياء و القيمة تلك الزيادات فيصير كما كان في الدنيا و لا يخفى ما في هذا الحمل من الضعف اما اولا فلأنه لا ريب في ان المسئول و المقابل للخطاب و المطلوب منه الجواب الروح المجرد القائم لذاته لا الذرة ليحتاج الى تعلق الروح بها و انما الأحتياج الى الذرة في ان تصير آلة له في تكلمه الحقيقي بلسانه المقالي ليتمكن بذلك عن الجواب عن السؤال و لا شبهة في ان الذرة التي ماه منها زنة شعير كما في القاموس غير صالحة في هذه الآلية فتعلقه بها مما لا فائدة له في هذه الآلية.

ص:247

و اما ثانيا فلانة يوجب القول بازلية الأرواح و هو مخالف لما ذهب اليه المليون و لما تقرر من انها حادثة بحدوث البدن.

و اما ثالثا فلأنه يوجب ان يكون اصل البدن و هو الذرة قديما ازليا و ينحصر الحادث في اجزائها الفضلية التي تزيد و تنقص.

و اما رابعا فلأنه لا يظهر حينئذ وجه لبقائها مستديرة لأن الذرة و هي صغار النمل ليست بمستديرة كما هو المعروف المحسوس الا ان يجعل الأستدارة كناية من انتقالها من حال الى حال مع بقاءها كما سبق.

و اما خامسا فلأن تلك الذرات المسئولة في الأزل بعد ما جعلت قابلة للخطاب لكانت في تلك المدة المتطاولة الغير المتناهية كاسبة فاين مكسوباتها و ان لم تكن كاسبة بل كانت مهملة معطلة لزم التعطيل مع انه لا وجه لتعطلها مع بقاءها و بقاء ما تعلقت هي بها و كونها قابلة للخطاب و السؤال و الجواب فيلزم ان يكون لكل انسان علوم و كمالات او نقصان و جهالات غير متناهية مع انه ليس كذلك.

و اما سادسا فلأن تلك الذرات لما جعلت عقلاء عارفين للتوحيد يتعلق بكل واحدة منها وجب ان يتذكروا الميثاق لأن اخذه انما يكون حجة على المأخوذ عليه اذا كان ذاكرا له و كيف يجوز ان ينسى الجم الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه و ادركوه بحيث لا يذكر شيئا من ذلك واحدا منهم و طول العهد لا يوجب النسيان بهذا الحد أ لا ترى ان اهل الآخرة يتذكرون كثيرا من الدنيا يقول اهل الجنة لأهل النار:انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا و لو جاز ان ينسوا ذلك لجاز ان يكون اللّه قد كلف الخلق فيما مضى ثم أعادهم للثواب و العقاب و قد نسوا ذلك و هذا يؤدي الى الأغراء بالجهل و الى صحة مذهب التناسخية اذ أقوى الأدلة في الرد عليهم ان النفس المتعلقة بهذا البدن لو كانت منتقلة اليه من بدن آخر لزم ان يتذكر شيئا من احوال ذلك البدن لأنّ محل العلم و التذكر انما هو جوهر النفس الباقي كما كان مع انه ليس كذلك و امّا ادّعاء الصوفية تذكره و بقاء لذة الخطاب في آذانهم كما اشار اليه صاحب العرائس(يص)بقوله و قد كاشف اللّه قوما حال الخطاب بجماله فطرحهم في هيجان حبّه و اسكنه ذلك في كوامن اسرارهم فاذا سمعوا اليوم سماعا تجدد لهم تلك الأحوال و الأنزعاج الذي يظهر منهم بتذكر ما سلف لهم من العهد القديم، فهو باطل عند اهل الأديان بل هو عندهم قسم من الهذيان كادّعائهم انا نسمع حال الرقص و السماع من حورات مقصورات في خيام الجنة و نجامعهن بالجماع المتعارف المعهود فاذا صار و امغشيّا عليهم وقت السماع و الطرب اغتسلوا بعد الأفاقة غسل الجنابة.

ص:248

و اما سابعا فلأن الأصل الذي يخلق منه بدن كل الأنسان سوى ما استثني هو النطفة بالنقل و العقل،و اما النقل فكقوله تعالى وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ و قوله فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ و قوله أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ .

و اما العقل فهو ما ذكروه من انّ نفس الأبوين تجمع بالقوة الجاذبة اجزاء غذائية ثم تجعلها اخلاطا و تقرر منها بالقوة المولّدة مادة المني و تجعلها مستعدة لقبول من شأنها عدد المادة لصيرورتها انسانا فيصير تلك القوة منيّا،و تلك الصورة حافظة لمزاج المني كالصورة المعدنية.

ثم ان المني يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك الى ان تصير مستعدا لقبول نفس اكمل تصدر عنها مع حفظ المادة الأفعال النباتية فتجذب الغذاء و تضيفها الى تلك المادة فينميها فتكامل المادة بترتيبها اياها فتصير تلك الصورة مصدرا لهذه الأفاعيل المختلفة و هكذا الى ان يصير مستعدا لقبول نفس اكمل تصدر عنها الأفاعيل الحيوانية ايضا فيتم البدن و يتكامل الى ان يصير مستعدا لقبول نفس ناطقة تبقى مديرة الى حلول الأجل،و اذا ثبت انّ اصل البدن هو النطفة فلا معنى لجعل اصلها هو الذرة و جعل ما عداها من الأجزاء الفضلية.

و اما ثامنا فلأنّ تلك الذرات المسئولة غير ازلية و السؤال لم يكن في الأزل بل انّما كان وقت تخمير طينة آدم قبل خلقه منها او بعد خلقه منها حين اخرجهم من طينة و هم ذر يربون يمينا و شمالا كما يفهم من الأخبار المذكورة في الكافي كما ذكره صاحب هذا التوجيه من انّ المراد عن الطينة الذرّة المسئولة في الأزل فتقييد السؤال بالأزل غير جيد،و لعله اشتبه عليهم عالم الذر فظن ان المراد به الأزل و ليس الأمر كذلك بل المراد به ما ذكر الخامس انّ المراد بالطينة الباقية هي الصورة المزاجية و كان المراد بتلك الصورة هي النفس مع قالبها المثالي او مجرد قالبها و هذا الحمل قريب من الأول،و بما ذكر يظهر ان اقرب المحامل المذكورة هو الأول و الأخير الذي هو ايضا راجع اليه في الحقيقة مع انّه ايضا في غاية البعد.

و الأظهر عندي ان يحمل الطينة الباقية على التراب الذي هو الجزء الغالب من كل مركب عنصري فان كل مركب من الحيوان و النبات و الجماد انما يتركب من خلقة العناصر الأربعة و يكون الغالب منها هو الجزء الأرضي و بعد انحلال هذا التركيب و فنائه ينحل الى الأربع التي يتركب منها و تتصل كل جزء بكله و كرته فالجزء الناري يتصل بكرة النار و الهوائي بكرة الهواء و المائي بكرة الماء و يبقى الجزء الغالب الأرضي متصلا بالأرض فالمراد من الحديث انما يدخل في القبر من جسد الأنسان ينحل و يتلاشى و يتفرق و لا يبقى شيء من أجزائه الأصلية و الفضلية في القبر الا طينته التي هي الجزء الغالب من اجزائه الأصلية اعني التراب فانه يبقى في القبر على الأستدارة،اما بمعناها

ص:249

الحقيقي نظرا الى انه جزء الكرة و جزء الكرى كرى او بمعناها المجازي اعني انتقاله من حال الى حال و تبدله من شأن الى شأن الى ان يخلق منه مرة اخرى بانضمام سائر الأجزاء الفضليّة المفارقة عنه اليه اذ كما خلق منه اول مرة.

تنبيه

المستفاد من الخبر المذكور ان المعاد انما هو الأجزاء الأصلية و اعادة الأجزاء الفضلية غير لازمة و بذلك يندفع الشبهة المشهورة الموردة على المعاد الجسماني حتى ربما قد يشك بها الملاحدة و اتباعهم من فساق المسلمين الذين هم امثالهم في الباطن و ان تميزوا عنهم في الظاهر على استحالة المعاد البدني فهي انّه لو كل انسان انسانا و صار جزء بدنه فاما ان لا يعاد اصلا و هو المطلوب او يعاد فيهما معا و هو محال او في احدهما وحده فلا يكون الآخر معادا،و هذا مع افضائه الى ترجيح من غير مرجح يستلزم المطلوب و هو عدم امكان اعادة جميع الأبدان بأعيانها.

و وجه الأندفاع انّ المعاد انّما هو الأجزاء الأصلية الباقية دون الأجزاء الفضلية الفانية، و هذا الأنسان المأكول الذي صار جزء لبدن الأكل ليس من الأجزاء الأصلية للمأكول اعيد فيه و الاّ فلا و بتقرير آخر نقول اجزاء الأنسان المأكول اصليّة له او فضليّة فضليّة للإنسان الآكل فيعاد كل منهما مع اجزائه الأصلية،و يرد اصليّة المأكول التي صارت فضليّة للآكل الى المأكول و يبقى اصليّة الآكل معه فلا يمتنع العود،ثم على تقدير عدم اعادة الأجزاء مطلقا اصلية كانت او فضلية نقول بقاء طينته التي يخلق منها كما خلق اوّل مرّة كاف في القول بالمعاد البدني و اليه يشر كلام بعض الفضلاء حيث قال:

الظاهر ان امثال هذه الأخبار وردت لرفع شبهة الملاحدة في نفي المعاد الجسماني لوارد في الكتاب و السنة المتواترة بحيث صار من الضروريات الدينية يكفر منكرها اجماعا وفاقا و شبهتهم انّ الميت اذا صار رميما و صار جزءا لبدن انسان اخر او حيوان فلا يمكن بعثه في البدنين و ان الأنسان الفاعل للخير و الشرّ في كل يوم يتحلل بدنه و الغذاء يصير بدل ما يتحلّل منه حتّى انّه لا يبقى في سنة ما كان في السنة السابقة فكيف يبعث؟

و الجواب ان التربة و النطفة المخلوق منها لا يفنى و لا يصير جزء للحيوان الآخر و يبعث منها و هو ممكن اخبر به الصادق عليه السّلام عن اللّه تعالى فيجب قبوله على ان اللّه تعالى قادر على ان لا يجعل كله جزء او يبعثه مع اجزائه الذاتية بالتحليل انتهى،و حاصله انّ المناط في الأعادة هو الأصل باي معنى اخذ أي سواء اخذ بمعنى التربة و النطفة و النفس الناطقة و غير ذلك مما مر فاذا اعيد الأصل بان يخلق منها الجسد و يبعث منها يحصل المعاد البدني و ان لم يحصل اعادة سائر الأجزاء الفضليّة و الأصليّة،و لا يخفى ان الشبهة لو قررت على الوجه المذكور فلا ريب في اندفاعها بالوجوه

ص:250

المذكورة و لكن يمكن ان يقرر بوجه لا يندفع بهذه الوجوه بان يقال:على ما اخترتم من كون الأصل هو التربة فاذا فني بدن شخص و تحلّل و بقي منه مجرد التربة في القبر و زالت سائر اجزائه فلا ريب في انّ هذه التربة هو الأصل الذي يخلق منه بدن هذا الشخص فاذا فرض انّ هذه التربة صارت غذاء و هذا الغذاء صار مادة لنطفة تولّد منها شخص آخر فلا ريب في ان هذه التربة اصل بالنسبة الى هذا الشخص الآخر ايضا لكونه مخلوقا منها فاذا مات هذا الشخص الثاني و بلى جسده يزول جميع اجزاء بدنه و انّما يبقى في القبر مجرد هذه التربة التي خلق منها بدنه و هذه التربة بعينها كانت اصلا لبدن الشخص الأول،و المفروض انّه اصل بالنسبة الى بدن هذا الشخص الثاني ايضا و يلزم الشبهة حينئذ بانها اما ان لا تعاد فهو المطلوب او يعاد فيهما معا و هو محال او في احدهما وحده فلا يكون الآخر بعينه معادا و لكون هذه التربة جزء اصليا بالأتفاق لا يمكن الجواب بما مر.

تتمة اعلم ان الحكم المذكور في هذا الخبر اعني بلى لا لجسد و فناؤه مخصص بغير النبي صلّى اللّه عليه و آله و عترتع المعصومين عليهم السّلام لما ورد في اخبار كثيرة و آثار عديدة من ان اجسادهم الطاهرة و ابدانهم القادسة لا تبلى و لا تتغير كقول الصادق عليه السّلام على ما في الفقيه ان اللّه عز و جل حرم عظامنا على الأرض و لحومنا على الدود ان يطعم منها شيئا و كقول النبي صلّى اللّه عليه و آله على ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله من الطريقين حياتي خير لكم و مماتي خير لكم قالوا:يا رسول اللّه و كيف ذلك قال:اما حياتي فان اللّه تعالى يقول وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ و اما مفرقتي اياكم فان اعمالكم تعرض علي كل يوم فما كان من عمل حسن استزدت اللّه لكم و ما كان من عمل قبيح استغفر اللّه لكم قالوا:و قد رممت يا رسول اللّه؟(يعنون صرت رميما)فقال:كلا ان اللّه عز و جل حرم لحومنا على الأرض ان يطعم منها شيئا و مثله ورد في حديث طويل اورده الصدوق في الفقيه و انت تعلم ان من ظاهر هذه الأخبار بملاحظة ما نقل من نقل عظام آدم عليه السّلام الى الغري و نقل عظام يوسف عليه السّلام الى الأرض المقدسة يستفاد اختصاص هذا الحكم اعني بلى الجسد و تغييره بغير خاتم الرسل و اوصيائه المعصومين صلوات اللّه و سلامه عليهم اجمعين و لا يجري ذلك في سائر الأنبياء و اوصيائهم عليهم الصلاة و السّلام فتأمل.

ص:251

الفهرست

نور في بعض التراكيب المشكلة 3

نور في المزاح و المطايبات و بعض الهزل و بعض المضحكات 71

و بعض الأجوبة المسكتة و ما ناسب هذا 71

نور في مقدمات الموت من الأمراض و دوائها 117

و ما ناسب هذا المقام 117

نور آخر في طب الرضا(ع)وضعه للمأمون 128

نور آخر في مقدمة من مقدمات هادم اللذات و هي الأجل 138

نور في القيامة الكبرى 175

(نور في موقف الناس في القيامة و بعض احوالهم)180

(نور يكشف عن النار و ما فيها من العذاب)196

(نور في الجنة و بعض ما فيها)200

خاتمة في مجمل احوال مؤلف هذا الكتاب و هو 209

نعمة اللّه الحسيني الجزائري 209

حديث حذيفة اليماني رضي اللّه عنه 223

بعض فضائل امير المؤمنين عليه السّلام الخاصة 240

الجسد بعد الموت 246

ص:252

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.