* هوية الكتاب
الكتاب : زهير بن القين
المؤلف : سيد علي جمال أشرف
الناشر : دار الأنصار
عدد الصفحات والقطع : 272 صفحة - وزيري
الطبعة : الأُولى
سنة الطبع : 1387 ش - 1429 ه
عدد المطبوع : 2000 نسخة
المطبعة : سيد الشهداء
الشابك :7 - 53 - 8956 - 964
خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی
ص: 1
زهير بن القين
المؤلف : سيد علي جمال أشرف
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
ص: 4
الحمد للّه الذي لا إله إلاّ هو الملك الحقّ المبين ، المدبّر بلا وزير ، ولا خلق من عباده يستشير ، الأوّل غير موصوف ، والباقي بعد فناء الخلق ، العظيم الربوبية ، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما ، بغير عمد خلقهما، فاستقرت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثم علا ربّنا في السَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى ، فأنا أشهد بأنّك أنت اللّه ، لا رافع لما وضعت ، ولا واضع لما رفعت ، ولا معزّ لمن أذللت ، ولا مذلّ لمن أعززت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت(1) .
اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك ، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ ، كَمَا حُمِّلَ ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك ،َ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ
ص: 5
الْقَابِسِ ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ ، وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الَْمخْزُونِ ، وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ(1) .
اللّهم وضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك العترة الضائعة الخائفة المستذلة ، بقية الشجرة الطيبة الزاكية المباركة ، وأعل - اللّهم - كلمتهم ، وأفلج حجّتهم ، واكشف البلاء واللأواء ، وحنادس الأباطيل والعمى عنهم ، وثبّت قلوب شيعتهم وحزبك على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم ، وأعنهم وامنحهم الصبر على الأذى فيك ، واجعل لهم أياما مشهودة ، وأوقاتا محمودة مسعودة ، توشك فيها فرجهم ، وتوجب فيها تمكينهم ونصرهم ، كما ضمنت لأوليائك في كتابك المنزل ، فإنّك قلت - وقولك الحقّ - : « وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً »(2) .
والعن اللّهم أوّل ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد ، وآخر تابع له على ذلك ، اللّهم وأهلك من جعل يوم قتل ابن نبيك وخيرتك عيدا ،
ص: 6
واستهلّ به فرحا ومرحا ، وخذ آخرهم كما أخذت أولهم ، وأضعف اللّهم العذاب والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيك ، وأهلك أشياعهم وقادتهم ، وأبر حماتهم وجماعتهم(1) .
وصلّى اللّهم على الشهيد السعيد ، والسبط الثاني ، والإمام الثالث ، والمبارك ، والتابع لمرضاة اللّه ، المتحقّق بصفات اللّه ، والدليل على ذات اللّه ، أفضل ثقاة اللّه ، المشغول ليلاً ونهارا بطاعة اللّه ، الناصر لأولياء اللّه ، المنتقم من أعداء اللّه ، الإمام المظلوم ، الأسير المحروم ، الشهيد المرحوم ، القتيل المرجوم ، الإمام الشهيد ، الولي الرشيد ، الوصي السديد ، الطريد الفريد ، البطل الشديد ، الطيب الوفي ، الإمام الرضي ، ذو النسب العلي ، المنفق الملي ، أبو عبد اللّه الحسين بن علي ، منبع الأئمة ، شافع الأمّة ، سيد شباب أهل الجنة ، وعبرة كلّ مون ومونة ، صاحب المحنة الكبرى ، والواقعة العظمى ، وعبرة المونين في دار البلوى ، ومن كان بالإمامة أحقّ وأولى ، المقتول بكربلاء ، ثاني السيد الحصور يحيى ابن النبي الشهيد زكريا ، الحسين بن علي المرتضى ، زين المجتهدين ، وسراج المتوكّلين ، مفخر أئمة المهتدين ، وبضعة كبد سيد المرسلين ، نور العترة الفاطمية، وسراج الأنساب العلوية، وشرف غرس الأحساب الرضوية ، المقتول بأيدي شرّ البرية ، سبط الأسباط ، وطالب الثأر يوم الصراط ، أكرم العتر ، وأجلّ الأسر ، وأثمر الشجر ، وأزهر البدر ،
ص: 7
معظم مكرم موقر ، منظف مطهّر ، أكبر الخلائق في زمانه في النفس ، وأعزّهم في الجنس ، أذكاهم في العرف ، وأوفاهم في العرف ، أطيب العرق ، وأجمل الخلق ، وأحسن الخلق ، قطعة النور ، ولقلب النبي صلى الله عليه و آله سرور ، المنزّه عن الإفك والزور ، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور ، مع القلب المشروح حسور ، مجتبى الملك الغالب ، الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام(1) .
الذي حمله ميكائيل ، وناغاه في المهد جبرائيل ، الإمام القتيل ، الذي اسمه مكتوب على سرادق عرش الجليل ، الحسين مصباح الهدى ، وسفينة النجاة ، الشافع في يوم الجزاء ، سيدنا ومولانا سيد الشهداء(2) عليه السلام .
الذي ذكره اللّه في اللوح الأخضر فقال : . . وجعلت حسينا خازن
وحيي ، وأكرمته بالشهادة ، وختمت له بالسعادة ، فهو أفضل من استشهد ، وأرفع الشهداء درجة ، جعلت كلمتي التامّة معه ، والحجة البالغة عنده ، وبعترته أثيب وأعاقب(3) . .
الذي قال فيه جدّه المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه و آله : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ اللّه من أحبّ حسينا(4) ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وهو الصادق الأمين : إنّ حبّ علي قذف في قلوب المونين ، فلا يحبّه
ص: 8
إلاّ مون ، ولا يبغضه إلاّ منافق ، وإنّ حبّ الحسن والحسين قذف في قلوب المونين والمنافقين والكافرين ، فلا ترى لهم ذاما(1) .
فمن أيّ المخلوقات كان أولئك المردة العتاة ، وأبناء البغايا الرخيصات ، الذين قاتلوه بغضا لأبيه ، وسبوا الفاطميات ، ولم يحفظوا النبي صلى الله عليه و آله في ذراريه ، قال الإمام سيد الساجدين عليه السلام : . . أيّها الناس ، أصبحنا
مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم إجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلاّ إختلاق .
فواللّه لو أنّ النبي صلى الله عليه و آله تقدّم في قتالنا كما تقدّم اليهم في الوصاية بنا لما إزدادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا للّه وإنّا اليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأوجعها ، وأفجعها ، وأكظّها ، وأقطعها ، وأمرّها ، وأفدحها ، فعند اللّه نحتسبه فيما أصابنا ، وما بلغ بنا ، إنّه عزيز ذو إنتقام(2) .
ولكنّ اللّه لهم بالمرصاد ، فإنّ دمه الزاكي الذي سكن في الخلد ، واقشعرت له أظلّة العرش ، وبكى له جميع الخلائق ، وبكت له السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن ، وما بينهن ، ومن يتقلّب في الجنة والنار من خلق ربّنا ، وما يرى وما لا يرى ، سوف لا ولم ولن يسكن لأ نّه قتيل اللّه وابن قتيله ، وثار اللّه وابن ثاره ، ووتر اللّه الموتور في السماوات
ص: 9
والأرض(1) حتى « يبعث اللّه قائما يفرج عنها الهم والكربات » ، قال الحسين عليه السلام : يا ولدي ، يا علي ، واللّه لا يسكن دمي حتى يبعث اللّه المهدي(2) . . فذلك قائم آل محمد عليهم السلاميخرج فيقتل بدم الحسين عليه السلام بن علي . . وإذا قام - قائمنا - انتقم للّه ولرسوله ولنا أجمعين(3) . .
وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين صلى الله عليه و آله فقال : لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي - جلّ جلاله - فقال : يا محمد ، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها ، فجعلتك نبيا ، وشققت لك من اسمي اسما ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها عليا ، وجعلته وصيّك وخليفتك ، وزوج ابنتك ، وأبا ذريّتك ، وشققت له اسما من أسمائي ، فأنا العلي الأعلى ، وهو علي ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما ، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة ، فمن قبلها كان عندي من المقرّبين .
يا محمد ، لو أنّ عبدا عبدني حتى ينقطع ، ويصير كالشن البالي ، ثم أتاني جاحدا لولايتهم ، ما أسكنته جنّتي ، ولا أظللته تحت عرشي .
يا محمد ، تحبّ أن تراهم ؟ قلت : نعم يا ربّ ، فقال عزّ وجلّ : ارفع رأسك ، فرفعت رأسي ، وإذا أنا بأنوار علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى
ص: 10
بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن
علي ، و« م ح م د » بن الحسن القائم في وسطهم ، كأنّه كوكب درّي .
قلت : يا ربّ ، ومن هواء ؟ قال : هواء الأئمة ، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي ، ويحرّم حرامي ، وبه أنتقم من أعدائي ، وهو راحة لأوليائي ، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين ، فيخرج اللاّت والعزى طريين فيحرقهما ، فلفتنة الناس - يومئذ - بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري(1) .
وروى عبد اللّه بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام في يوم عاشوراء ، فألفيته كاسف اللّون ، ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر من عينيه كاللووالمتساقط ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ، ممّ بكاو ؟ لا أبكى اللّه عينيك ، فقال لي : أو في غفلة أنت ؟ أما علمت أنّ الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم ؟ ! فقلت : يا سيدي فما قولك في صومه ؟ فقال لي : صمه من غير تبييت ، وأفطره من غير تشميت ، ولا تجعله يوم صوم كملاً ، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء ، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول اللّه ، وانكشفت الملحمة عنهم ، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعا في مواليهم ، يعزّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله مصرعهم ، ولو كان في الدنيا - يومئذ - حيّا لكان صلى الله عليه و آله هو المعزّى بهم .
ص: 11
قال : وبكى أبو عبد اللّه عليه السلام حتى اخضلّت لحيته بدموعه . . ثم علّمه آداب يوم عاشوراء ، وآداب الزيارة في ذلك اليوم الى أن قال : ثم قل : اللّهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك ، وحاربوا أولياءك ، وعبدوا غيرك ، واستحلّوا محارمك ، والعن القادة والأتباع ، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم ، أو رضي بفعلهم لعنا كثيرا .
اللّهم وعجّل فرج آل محمد ، واجعل صلواتك عليه وعليهم ، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين ، والكفرة الجاحدين ، وافتح لهم فتحا يسيرا ، وأتح لهم روحا وفرجا قريبا ، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطانا نصيرا . .
اللّهم إنّ كثيرا من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمة ، وكفرت
بالكلمة ، وعكفت على القادة الظلمة ، وهجرت الكتاب والسنة ، وعدلت عن الحبلين اللّذين أمرت بطاعتهما ، والتمسك بهما ، فأماتت الحقّ ، وجارت عن القصد ، ومالأت الأحزاب ، وحرّفت الكتاب ، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها ، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها ، وضيّعت حقّك ، وأضلّت خلقك ، وقتلت أولاد نبيك ، وخيرة عبادك ، وحملة علمك ، وورثة حكمتك ووحيك .
اللّهم فزلزل أقدام أعدائك ، وأعداء رسولك ، وأهل بيت رسولك ، اللّهم وأخرب ديارهم ، وافلل سلاحهم ، وخالف بين كلمتهم ، وفتّ في أعضادهم ، وأوهن كيدهم ، واضربهم بسيفك القاطع ، وارمهم
ص: 12
بحجرك الدامغ ، وطمّهم بالبلاء طمّا ، وقمّهم بالعذاب قمّا ، وعذبهم عذابا نكرا ، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكت بها أعداءك ، إنّك ذو نقمة من المجرمين .
اللّهم إنّ سنتك ضائعة ، وأحكامك معطلة ، وعترة نبيك في الأرض
هائمة ، اللّهم فأعن الحقّ وأهله ، واقمع الباطل وأهله ، ومنّ علينا بالنجاة ، واهدنا إلى الإيمان ، وعجّل فرجنا ، وانظمه بفرج أوليائك ، واجعلهم لنا ودّا ، واجعلنا لهم وفدا(1) .
والصلاة والسلام على أصحاب الحسين عليه السلام الذين كشف لهم سيد الشهداء عليه السلام « الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة ، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها ، وإلى مكانه من الجنة(2) » ، ووعدهم ربّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم فقال : « ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ » يخاطب بذلك أصحاب الحسين(3) عليه السلام .
وصلّى اللّه وسلّم على صاحب ميمنة الحسين عليه السلام ، المحامي عن حرم
سيد المرسلين صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام ، والفادي نفسه للمعصوم وهو قائم للصلاة بين يدي ربّ العالمين ، الذي خاطبه الحجة المنتقم - عجّل اللّه تعالى فرجه - قائلاً :
ص: 13
السلام على زهير بن القين البجلي ، القائل للحسين وقد اذن له في
الانصراف : لا واللّه لا يكون ذلك أبداً ، أترك ابن رسول اللّه أسيراً في يد الأعداء وانجو ، لا أراني اللّه ذلك اليوم(1) .
أمّا بعد :
فإنّ الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومن سلّطلهم على رقاب المسلمين لم تنته بعد منذ أن بادروا الى مواجهة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله ، والى يوم الناس هذا ، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم ، والطالب بدم الحسين عليه السلام والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء .
ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورة أو مشهد أو موقف معين ، كما أ نّها لم تنحصر في زمن من الأزمان منذ أن سقط هابيل مضرجا بدمه .
وقد إمتاز الأمويون عبر التاريخ بالإعلام القوي ، والحرب النفسية ، والتسلل الماكر الى قلوب الناس وأفكارهم ، وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخداع ، وقد اشتهر كلامهم على الألسن : « للّه جنود من عسل » .
وكانت حربهم الإعلامية مع سيد الشهداء عليه السلام قوية ماكرة تتسم
بالخبث والشيطنة بحيث صوّرت سبط النبي صلى الله عليه و آله وريحانة الرسول ،
ص: 14
وسيد شباب أهل الجنة للمغرر بهم من السذج في صورة الخارجي ، وأبدت سكان سرادق العزّ من مخدرات الرسالة وعقائل الوحي في مشهد السبايا ..
فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار الذي شهد لهم الكتاب
والسنة بالطهارة والعصمة والقدس ، فما ظنّك بأنصارهم والمدافعين عنهم والمحامين عن حريمهم ..
وربما إضطر العدو - أحيانا - الى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمة
عموما ، وأنصار سيد الشهداء عليه السلام خصوصا ، لأ نّه لا يجد في الإمام مغمزا ولا مهمزا ، فيحاول الإقتراب من حريمه من خلال التعرض لأقرب الشخصيات منه ، والسعي في تهديم الأركان التي بنيت عليه أسس معسكرات الهدى .
فكان - فيما نحسب - زهير بن القين ، وهو أحد أركان معسكر سيد الشهداء عليه السلام ، لأ نّه صاحب ميمنته ، والمقرّب عنده ، هدفا مهما
للأعداء .
ولذلك نصبوه غرضا ، واتهموه بأقذر تهمة ، وسبّوه أقبح سبّة ، ورموه بفرية فادحة تقشعر لها القلوب والأبدان ، فقالوا عنه « عثماني » ، وأ نّه « كان يكره لقاء سيد شباب أهل الجنة عليه السلام » .
وتناقل الناس ما قاله عدو شرس من أعدائه وهو « عزرة بن قيس »
الذي كان على خيل ابن سعد - لعنهما اللّه - .
ص: 15
ولم نجد - على حدّ علمنا - من التفت الى ذلك سوى إشارة سريعة وخاطفة للأستاذ محمد نعمة السماوي حيث قال : « وكان زهير ذا ميول عثمانية على حدّ تعبير أحد جنود ابن سعد »(1) .
وناقش الشيخ محمد جواد الطبسي في المجلد الثالث من كتاب « مع
الركب الحسيني » هاتين التهمتين مناقشة مقتضبة سريعة غير أ نّها مركزة ودقيقة ، فجزاهما اللّه خير الجزاء ، وبيّض وجهيهما يوم الحشر حينما يواجهان زهير بن القين وسيد الشهداء عليه السلام .
* * *
كان الألم يعتصر قلبي كلّما قرأت في التاريخ أو سمعت من الخطباء
وخدّام سيد الشهداء عليه السلام ما يتناقلونه عن زهير بن القين ، بيد أنّي لم أسمح
- في يوم من الأيام - لنفسي أن ألومهم على ذلك ، فإنّهم ينقلون ما سطّره يراع العلماء والفطاحل والمؤرخين الكبار .
وأخيرا إستخرت اللّه وعزمت على متابعة الموضوع واستكشافه ،
وسجّلت ما فتح اللّه عليّ ، وله الحمد والمنّة ، ولسيد الشهداء عليه السلام الشكر والفضل .
فإن كان ما ذكرناه في هذا الكتاب كافيا وافيا مقنعا فالحمد للّه أولاً وآخرا ، وإلاّ فالأمل كبير في القراء الكرام أن يتجنّبوا ذكر زهير بالعثمانية ، فإنّه ذنب لا يحبّ المؤمن أن يذكر به .
ص: 16
ولا يقاس بالحر الرياحي فإنّه لم يذكر بهذه التهمة في التاريخ ،
حيث أ نّه كان قد خرج لقطع الطريق على الحسين عليه السلام وأصحابه وهو لا يرى أ نّهم يبلغون بالحسين عليه السلام هذا المبلغ ، فلمّا رأى حياة سيد شباب أهل الجنة وصحبه وأهل بيته في خطر انحاز من النار الى الجنة ، فيما كان مبشرا بالجنة من قبل ، يوم سمع الهاتف يخاطبه من ورائه إبان خروجه من قصر بني مقاتل ، وكان يعرف للحسين عليه السلام وأمّه حرمة صدّته عن ذكر أمّه إلاّ بأفضل ما يقدر عليه من الذكر الحسن .
وما ضرّنا أن ندع ذكر زهير بالتعثمن وكراهة لقاء محبوب خاتم
الأنبياء ، فلو لم يكن هو كذلك حقّا فلا نخجل منه غدا يوم اللقاء ، وإن كان - وليس كذلك - فلا يسوغ لنا ذكر المؤمن بما يشينه ، فإنّ ذلك من الكبائر ، واللّه الساتر .
وفي الختام :
ما كان في ثنايا الكتاب من كلام صحيح نافع فيه الخير والصلاح ، فهو من أهل البيت عليهم السلام ، وما كان شططا أو خطأً فهو منّي وأستغفر اللّه لي وللمؤمنين ، والحمد للّه ربّ العالمين .
وأخيرا أتقدّم بالشكر الجزيل للأستاذ الدكتور الحاج محمود البستاني
- حفظه اللّه ورعاه ورحم أمّه وأباه - فقد تفضّل عليّ بمراجعة الكتاب مشكورا مأجورا إن شاء اللّه .
ص: 17
اللّهم تقبّل منّا هذا القليل ، واجعله نافعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ولا تفرّق بيننا وبين سيد الشهداء الحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة طرفة عين أبدا ، واجعل وجه الحسين عليه السلام آخر وجه نراه في الدنيا وأول وجه نراه في القبر ويوم يقوم الناس لربّ العالمين ، وارحمني به وأولادي وأزواجي ووالديّ ومن ولدهما ومن ولدا والمؤمنين والمؤمنات ، وعجّل فرج وليّ أمرك الثائر لدم الحسين عليه السلام ، واجعلنا من جنده وأعوانه والآخذين بثأره . . آمين .
سيد علي جمال أشرف
20/6/1429«
ص: 18
اسمه ونسبه »
زهير بن القين بن قيس بن مالك بن دينار بن ثعلبة بن عمرو بن يشكر
بن علي بن مالك بن سعد بن بدر بن قيس الأنماري البجلي(1) .
وقد ورد في جميع المصادر باسم « زهير بن القين(2) » ، وأضافت بعضها
نسبته « الأنماري » ، وأكثرها « البجلي »(3) .
و« زهير » : من الزهر .
قال الطريحي في مجمع البحرين : « زهر » قوله تعالى : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا » بفتح الزاي وسكون الهاء ، أي زينتها وبهجتها .
والزهراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله ، سمّيت بذلك لأ نّها إذا قامت في محرابها زهر نورها إلى السماء ، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض .
ص: 19
وروي أ نّها سمّيت الزهراء ، لأنّ اللّه خلقها من نور عظمته .ومن صفاته : أزهر اللون ، أي نيّر اللون ، من الزهرة ، وهي البياض
النير ، وهو أحسن الألوان .
ومنه رجل أزهر : أي أبيض مشرق الوجه ، والمرأة زهراء .
وزهر الشيء يزهر - بفتحتين - : صفا لونه وأضاء .
قال في المصباح : وقد يستعمل في اللّون الأبيض خاصة .
وزهر الرجل : ابيض وجهه .
وزهر السراج والقمر والوجه - كمنع - زهورا : تلألأ .
واليوم الأزهر : يوم الجمعة .
وفي الخبر سورة البقرة وآل عمران الزهراوان ، أي المنيران .
وفي لسان العرب : زهر : الزَّهْرَةُ : نَوْرُ كلّ نبات ، والجمع زَهْرٌ ، وخصّ بعضهم به الأَبيض .
قال : الأَزْهَرُ من الرجال الأَبيض العتيقُ البياضِ النَّيِّرُ الحَسَنُ ، وهو أَحسن البياض كأَنَّ له بَرِيقاً ونُوراً ، يُزْهِرُ كما يُزْهِرُ النجم والسراج .
قال ابن سيده : والزَّاهِرُ : المشرق من أَلوان الرجال .
وتصغير الزَّهْرِ زُهَيْرٌ ، وبه سمّي الشاعر زُهَيْراً .
والزَّاهِرُ والأَزْهَرُ : الحسن الأَبيض من الرجال ، وقيل : هو الأَبيض فيه حمرة . ورجل أَزْهَرُ أَي أَبيض مُشْرِقُ الوجه .
والأَزهر : الأَبيض المستنير . والزُّهْرَةُ : البياض النِّيِّرُ ، وهو أَحسن الأَلوان .
ص: 20
والزَّشهُورُ : تَلأْلؤ السراج الزاهر .وزَهَرَ السراجُ يَزْهَرُ زُهُوراً وازْدَهَرَ : تلأَلأَ ، وكذلك الوجه والقمر والنجم .
والأَزْهَرَان : الشمسُ والقمرُ لنورهما .
ودُرَّةٌ زَهْرَاءٌ : بيضاء صافية .
وقد سمّت - العرب - زاهراً وأَزْهَرَ وزُهَيْراً .
والقين : بفتح القاف وسكون الياء المثناة من تحت والنون ، وهو في الأصل اسم للعبد وللحداد ، يستعمل علماً كثيراً(1) .«
ص: 21
زهير بن القين البجلي ، بجلي : بجيلة ، هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان ، من القحطانية ، من اليمن ، عرب الجنوب(1) .
وزهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي(2) قال في الأعيان : الأنماري يوصف به زهير بن القين(3) .
والأنماري : نسبة الى أنمار بن أراش من كهلان من القحطانية
، لا أنمار بن نزار بقرينة البجلي ، فإنّه نسبة الى بجيلة ، وهم بطن من أنمار بن أراش ، وبجيلة أمّهم ، وقال في العبر : هم بنو بجيلة بن أنمار بن أراش(4) .
ص: 22
يبدو أنّ زهير بن القين كان كبير السنّ في كربلاء(1) ، ويشهد لذلك اشتراكه في فتح « بلنجر » التي كانت أيام ملك عثمان بن عفان على أشهر الأقوال وأكثرها(2) قبل سنة « 25 » للهجرة(3) وقيل : إنّها كانت أيام ملك عمر بن الخطاب(4) .
ويشهد له أيضاً ما رواه الشيخ المظفر في بطل العلقمي عنه من حديث زواج أمير المؤمنين عليه السلام بأمّ البنين(5) عليهاالسلام ، لأنّ ولادة أبي الفضل العباس عليه السلام كانت سنة « 26 » للهجرة ، قال الشيخ المظفر : قال السيد الداودي في عمدة الطالب : قتل العباس عليه السلام وله « 34 » سنة ، وهذا
ص: 23
القول هو المشهور ، وهو الأصوب إن شاء اللّه ، فتكون ولادته سنة « 26 »من الهجرة(1) . . .
فإذا افترضنا أنّ عمره الشريف كان بين العشرين والثلاثين يوم شارك في فتح بلنجر - وهو أقلّ ما يمكن افتراضه - يكون عمره يوم استشهاده بين الخمسة والخمسين والخمسة والستين(2) على أقلّ التقادير ، واللّه العالم .
ص: 24
الظاهر أنّ زهير بن القين كان من الشيعة الملتزمين بتعاليم أهل البيت عليهم السلام تماماً ، وإنّ من أهم تعاليمهم التي يختبر بها مستوى إيمان الشيعي
هي التقية ، وكان زهير من المتمسكين بها تمسكاً شديداً ، وممّا يشهد لذلك :
تشبيه الإمام الحسين عليه السلام له بمؤمن آل فرعون ساعة وقف زهير يعظ القوم يوم العاشر من المحرم ، فقال له الحسين عليه السلام : « لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء ، وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ(1) » .
كما لعن قاتله لعن قاتل مؤمن آل فرعون في تأبينه له لمّا صرع ، فوقف عليه وقال عليه السلام : لا يبعدنّك اللّه يا زهير ، ولعن قاتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير .
ص: 25
وإنّما كان مؤمن آل فرعون يمتدح بتقيته ، قال اللّه تعالى : « وَقالَ رَجُلٌ
مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(1) » .
لشدّة عمله بالتقية ظنّه عزرة بن قيس أ نّه كان عثمانياً ، فقال له عزرة بن قيس : إنّك لتزكّى نفسك ما إستطعت ، فقال له زهير : يا عزرة ، إنّ اللّه قد زكّاها وهداها ، فاتق اللّه يا عزرة ، فإنّي لك من الناصحين ، أنشدك اللّه - يا عزرة - أن تكون ممّن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية .
قال : يا زهير ، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ! إنّما كنت عثمانياً !!!
قال : أفلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم(2) ؟!
إنّ زهير كان معروفاً ، ولكنّه لم يكن مشهوراً ، حاله كحال أكثر
أصحاب الحسين عليه السلام ، بل أكثر أصحاب الأئمة عليهم السلام .
لم يكن زهير مجهولاً عند أركان جيش الضلال ، ورؤوس عسكر
ابن سعد - لعنه اللّه - ، وكان من رجال الكوفة وشخصياتها ، وكان زهير
ص: 26
رجلاً شريفاً في قومه ، شجاعاً ، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن
مشهودة(1) ، وسيأتيك خبر اشتراكه في فتح بلنجر .
ويشهد لذلك تقديمه لوعظ القوم ، وإرساله لمحاورة الأعداء .
والرجل الذي يكون على وزان زهير في الشرف والجلالة والشجاعة في مجتمع قوامه السيف وقوة الساعد ، ورباطة الجأش ، لابد أن يكون مشهوراً ذا سمعة وجاه وصيت ، بيد أ نّه كان متكتّماً متّقياً نومة ، ينتظر يومه الذي اختاره اللّه له للوقوف مع ريحانة المصطفى صلى الله عليه و آله ، وقرّة عين فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ومهجة قلب علي المرتضى عليه السلام .
روى الكليني في الكافي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله : طُوبَى لِعَبْدٍ نُوَمَةٍ ، عَرَفَهُ اللَّهُ ولَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى ، ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ ، يَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ، لَيْسُوا بِالْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ ، ولا بِالْجُفَاةِ الْمُرَاءِينَ .
ص: 27
وقَالَ : قُولُوا الْخَيْرَ تُعْرَفُوا بِهِ ، واعْمَلُوا الْخَيْرَ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ ، ولا تَكُونُوا عُجُلاً مَذَايِيعَ ، فَإِنَّ خِيَارَكُمُ الَّذِينَ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِمْ ذُكِرَ اللَّهُ ، وشِرَارُكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالَّنمِيمَةِ ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأحِبَّةِ ، الْمُبْتَغُونَ لِلْبُرَآءِ الْمَعَايِبَ .
ص: 28
المعصوم لا ينطق عن الهوى، فإذا تكلّم بكلام لابد من التعامل مع-ه ب-دقّ-ة وجدّ ، ومحاولة استكشاف مراده على كلّ صعيد من خلال الدلالات المباشرة أو غير المباشرة التي تفيدها المواقف والظروف المؤثرة في فهم كلام المعصوم .
وفي تشبيه الإمام الحسين عليه السلام له بمؤمن آل فرعون دلالات كثيرة ، يمكن استكشافها من خلال مراجعة ما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام من توصيف مؤمن آل فرعون ، وبيان خصوصياته وسماته ، وسلوكه وأخلاقياته ، فإذا عرفنا ما قالوه في المشبّه به طبقناه على المشبّه ، وعرفنا الكثير من خصوصيات زهير بن القين(1) .
فمن تلك الدلالات :
لقد شهد له الحسين عليه السلام أ نّه رجل مؤمن لقوله تعالى : « وَقالَ رَجُلٌ
مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ » .
ص: 29
والمؤمن في أدب أهل البيت عليهم السلام هو الشيعي المتّبع لهم ، المعتقد بإمامتهم(1) ، ولا تطلق هذه الكلمة في روايات أهل البيت عليهم السلام على العثماني أبداً .
صفات المؤمن
وللمؤمن في أدب أهل البيت عليهم السلام تعريف واضح ، وصفات خاصة تميّزه عن غيره من بني البشر .
روى الكليني رحمه الله في الكافي في باب المؤمن وصفاته وعلاماته عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : قَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ « هَمَّامٌ » وَكَانَ عَابِداً نَاسِكاً مُجْتَهِداً إِلَى أَمِيرِ الْمُومِنِين عليه السلام وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ ،صِفْ لَنَا صِفَةَ الْمُومِنِ كَأَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ ؟
فَقَالَ : يَا هَمَّامُ ، الْمُومِنُ هُوَ : الْكَيِّسُ ، الْفَطِنُ ، بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ ، وَحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ ، أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً ، وَأَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً ، زَاجِرٌ عَنْ كُلِّ فَانٍ ، حَاضٌّ عَلَى كُلِّ حَسَنٍ ، لا حَقُودٌ ، وَلا حَسُودٌ ، وَلا وَثَّابٌ ، وَلا سَبَّابٌ ، وَلا عَيَّابٌ ، وَلا مُغْتَابٌ ، يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ ، وَيَشْنَأُ السُّمْعَةَ ، طَوِيلُ الْغَمِّ ، بَعِيدُ الْهَمِّ ، كَثِيرُ الصَّمْتِ ، وَقُورٌ ، ذَكُورٌ ، صَبُورٌ ، شَكُورٌ ، مَغْمُومٌ بِفِكْرِهِ ، مَسْرُورٌ بِفَقْرِهِ ، سَهْلُ الْخَلِيقَةِ ، لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ ، رَصِينُ الْوَفَاءِ ، قَلِيلُ الأَذَى ، لا مُتَأَفِّكٌ وَلا مُتَهَتِّكٌ ، إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَخْرَقْ ، وَإِنْ غَضِبَ لَمْ يَنْزَقْ ، ضِحْكُهُ تَبَسُّمٌ ، وَاسْتِفْهَامُهُ تَعَلُّمٌ ، وَمُرَاجَعَتُهُ تَفَهُّمٌ ، كَثِيرٌ عِلْمُهُ ، عَظِيمٌ حِلْمُهُ ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ ،
ص: 30
لا يَبْخَلُ ، وَلا يَعْجَلُ ، وَلا يَضْجَرُ ، وَلا يَبْطَرُ ، وَلا يَحِيفُ فِي حُكْمِهِ ، وَلا يَجُورُ فِي عِلْمِهِ ، نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ ، وَمُكَادَحَتُهُ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ ، لا جَشِعٌ ، وَلا هَلِعٌ ، وَلا عَنِفٌ ، وَلا صَلِفٌ ، وَلا مُتَكَلِّفٌ ، وَلا مُتَعَمِّقٌ ، جَمِيلُ الْمُنَازَعَةِ ، كَرِيمُ الْمُرَاجَعَةِ ، عَدْلٌ إِنْ غَضِبَ ، رَفِيقٌ إِنْ طَلَبَ ، لا يَتَهَوَّرُ ، وَلا يَتَهَتَّكُ ، وَلا يَتَجَبَّرُ ، خَالِصُ الْوُدِّ ، وَثِيقُ الْعَهْدِ ، وَفِيُّ الْعَقْدِ ، شَفِيقٌ ، وَصُولٌ ، حَلِيمٌ ، خَمُولٌ ، قَلِيلُ الْفُضُولِ ، رَاضٍ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مُخَالِفٌ لِهَوَاهُ ، لا يَغْلُظُ عَلَى مَنْ دُونَهُ ، وَلا يَخُوضُ فِيَما لا يَعْنِيهِ ، نَاصِرٌ لِلدِّينِ ، مُحَامٍ عَنِ الْمُومِنِينَ ، كَهْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، لا يَخْرِقُ الثَّنَاءُ سَمْعَهُ ، وَلا يَنْكِي الطَّمَعُ قَلْبَهُ ، وَلا يَصْرِفُ اللَّعِبُ حُكْمَهُ ، وَلا يُطْلِعُ الْجَاهِلَ عِلْمَهُ ، قَوَّالٌ عَمَّالٌ ، عَالِمٌ حَازِمٌ ، لا بِفَحَّاشٍ وَلا بِطَيَّاشٍ ، وَصُولٌ فِي غَيْرِ عُنْفٍ ، بَذُولٌ فِي غَيْرِ سَرَفٍ ، لا بِخَتَّالٍ ، وَلا بِغَدَّار،ٍ وَلا يَقْتَفِي أَثَراً، وَلا يَحِيفُ بَشَراً، رَفِيقٌ بِالْخَلْقِ، سَاعٍ فِي الأَرْضِ ، عَوْنٌ لِلضَّعِيفِ ، غَوْثٌ لِلْمَلْهُوفِ ، لا يَهْتِكُ سِتْراً ، وَلا يَكْشِفُ سِرّاً ، كَثِيرُ الْبَلْوَى ، قَلِيلُ الشَّكْوَى ، إِنْ رَأَى خَيْراً ذَكَرَهُ ، وَإِنْ عَايَنَ شَرّاً سَتَرَهُ ، يَسْتُرُ الْعَيْبَ ، وَيَحْفَظُ الْغَيْبَ ، وَيُقِيلُ الْعَثْرَةَ ، وَيَغْفِرُ الزَّلَّةَ لا يَطَّلِعُ عَلَى نُصْحٍ فَيَذَرَهُ وَلا يَدَعُ جِنْحَ حَيْفٍ فَيُصْلِحَهُ ، أَمِينٌ ، رَصِينٌ ، تَقِيٌّ ، نَقِيٌّ ، زَكِيٌّ ، رَضِيٌّ ، يَقْبَلُ الْعُذْرَ ، وَيُجْمِلُ الذِّكْرَ ، وَيُحْسِنُ بِالنَّاسِ الظَّنَّ ، وَيَتَّهِمُ عَلَى الْعَيْبِ نَفْسَهُ ، يُحِبُّ فِي اللَّهِ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ ، وَيَقْطَعُ فِي اللَّهِ بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ ، لا يَخْرَقُ بِهِ فَرَحٌ ، وَلا يَطِيشُ بِهِ مَرَحٌ ، مُذَكِّرٌ لِلْعَالِمِ ، مُعَلِّمٌ لِلْجَاهِلِ ، لا يُتَوَقَّعُ لَهُ بَائِقَةٌ ، وَلا يُخَافُ لَهُ غَائِلَةٌ ، كُلُّ سَعْيٍ أَخْلَصُ عِنْدَهُ
ص: 31
مِنْ سَعْيِهِ ، وَكُلُّ نَفْسٍ أَصْلَحُ عِنْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، عَالِمٌ بِعَيْبِهِ ، شَاغِلٌ بِغَمِّهِ ، لا يَثِقُ بِغَيْرِ رَبِّهِ ، غَرِيبٌ ، وَحِيدٌ ، جَرِيدٌ ، حَزِينٌ ، يُحِبُّ فِي اللَّهِ ، وَيُجَاهِدُ فِي اللَّهِ لِيَتَّبِعَ رِضَاهُ ، وَلا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلا يُوَالِي فِي سَخَطِ رَبِّهِ مُجَالِسٌ لأهْلِ الْفَقْرِ ، مُصَادِقٌ لأَهْلِ الصِّدْقِ ، مُوازِرٌ لأَهْلِ الْحَقِّ ، عَوْنٌ لِلْقَرِيبِ ، أَبٌ لِلْيَتِيمِ ، بَعْلٌ للأَرْمَلَةِ ، حَفِيٌّ بِأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ ، مَرْجُوٌّ لِكُلِّ كَرِيهَةٍ ، مَأْمُولٌ لِكُلِّ شِدَّةٍ ، هَشَّاشٌ بَشَّاشٌ ، لا بِعَبَّاسٍ وَلا بِجَسَّاسٍ ، صَلِيبٌ ، كَظَّامٌ ، بَسَّامٌ ، دَقِيقُ النَّظَرِ ، عَظِيمُ الْحَذَرِ ، لا يَجْهَلُ ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ يَحْلُمُ ، لا يَبْخَلُ وَإِنْ بُخِلَ عَلَيْهِ صَبَرَ ، عَقَلَ فَاسْتَحْيَا ، وَقَنِعَ فَاسْتَغْنَى ، حَيَاوهُ يَعْلُو شَهْوَتَهُ ، وَوُدُّهُ يَعْلُو حَسَدَهُ ، وَعَفْوُهُ يَعْلُو حِقْدَهُ ، لا يَنْطِقُ بِغَيْرِ صَوَابٍ ، وَلا يَلْبَسُ إِلاّ الاقْتِصَادِ ، مَشْيُهُ التَّوَاضُعُ ، خَاضِعٌ لِرَبِّهِ بِطَاعَتِهِ ، رَاضٍ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالاتِهِ ، نِيَّتُهُ خَالِصَةٌ ، أَعْمَالُهُ لَيْسَ فِيهَا غِشٌّ وَلا خَدِيعَةٌ ، نَظَرُهُ عِبْرَةٌ ، سُكُوتُهُ فِكْرَةٌ ، وَكَلامُهُ حِكْمَةٌ ، مُنَاصِحاً مُتَبَاذِلاً مُتَوَاخِياً ، نَاصِحٌ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ ، لا يَهْجُرُ أَخَاهُ وَلا يَغْتَابُهُ وَلا يَمْكُرُ بِهِ ، وَلا يَأْسَفُ عَلَى مَا فَاتَهُ ، وَلا يَحْزَنُ عَلَى مَا أَصَابَهُ ، وَلا يَرْجُو مَا لا يَجُوزُ لَهُ الرَّجَاءُ ، وَلا يَفْشَلُ فِي الشِّدَّةِ ، وَلا يَبْطَرُ فِي الرَّخَاءِ ، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ ، وَالْعَقْلَ بِالصَّبْرِ ، تَرَاهُ بَعِيداً كَسَلُهُ ، دَائِماً نَشَاطُهُ ، قَرِيباً أَمَلُهُ ، قَلِيلاً زَلَلُهُ ، مُتَوَقِّعاً لأَجَلِهِ ، خَاشِعاً قَلْبُهُ ، ذَاكِراً رَبَّهُ ، قَانِعَةً نَفْسُهُ ، مَنْفِيّاً جَهْلُهُ ، سَهْلاً أَمْرُهُ ، حَزِيناً لِذَنْبِهِ ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ ، كَظُوماً غَيْظَهُ ، صَافِياً خُلُقُهُ ، آمِناً مِنْهُ جَارُهُ ، ضَعِيفاً كِبْرُهُ ، قَانِعاً بِالَّذِي قُدِّرَ لَهُ ، مَتِيناً صَبْرُهُ ، مُحْكَماً أَمْرُهُ ، كَثِيراً ذِكْرُهُ ، يُخَالِطُ النَّاسَ لِيَعْلَمَ ،
ص: 32
وَيَصْمُتُ لِيَسْلَمَ ، وَيَسْأَلُ لِيَفْهَمَ ، وَيَتَّجِرُ لِيَغْنَمَ ، لا يُنْصِتُ لِلْخَبَرِ لِيَفْجُرَ بِهِ ، وَلا يَتَكَلَّمُ لِيَتَجَبَّرَ بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآِخِرَتِهِ فَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ ، إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ الَّذِي يَنْتَصِرُ لَهُ ، بُعْدُهُ مِمَّنْ تَبَاعَدَ مِنْهُ بُغْضٌ وَنَزَاهَةٌ ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ تَكَبُّراً وَلا عَظَمَةً ، وَلا دُنُوُّهُ خَدِيعَةً وَلا خِلابَةً بَلْ يَقْتَدِي بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ ، فَهُوَ إِمَامٌ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْبِرّ .
وعَنِ الدِّلْهَاثِ مَوْلَى الرِّضَا عليه السلام قَالَ : سَمِعْتُ الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ : لا يَكُونُ الْمُومِنُ مُومِناً حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاثُ خِصَالٍ : سُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ ، وسُنَّةٌ مِنْ نَبِيِّهِ ، وسُنَّةٌ مِنْ وَلِيِّهِ .
فَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ رَبِّهِ : فَكِتَْمانُ سِرِّهِ ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » .
وأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ نَبِيِّهِ : فَمُدَارَاةُ النَّاسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله بِمُدَارَاةِ النَّاسِ فَقَالَ : « خُذِ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ » .
وأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ وَلِيِّهِ : فَالصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ(1) .
ص: 33
ص: 34
ص: 35
ص: 36
ص: 37
ص: 38
ص: 39
ص: 40
هذه هي بعض صفات المؤمن ، وقد اتصف بها زهير وتزيّن بها ، وأقامها بحدودها ، حتى صار معلماً تشعّ منه أنوار الأخلاق الكريمة ، والصفات الحميدة ، وينتشر لذكر اسمه عبق المكارم والفضائل والمناقبوالمحامد والعلى والسؤدد .
شبهه سيد الشهداء عليه السلام بمؤمن آل فرعون ، والصفة الأهم التي وصفه بها القرآن بعد أن أثبت له الإيمان أ نّه كان « يكتم إيمانه » ، قال اللّه تعالى : « وَقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ » ، وكتمان الإيمان خصلة ممدوحة لا تصبغ إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان من العظماء ، وقد ورد الحثّ عليها كشرط للشيعي والموالي لأهل البيت عليهم السلام .
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن عليهماالسلام قَالَ : وَدِدْتُ واللَّهِ أَنِّي افْتَدَيْتُ خَصْلَتَيْنِ فِي الشِّيعَةِ لَنَا بِبَعْضِ لَحْمِ سَاعِدِي : النَّزَقَ ، وقِلَّةَ الْكِتَْمانِ(1)
ص: 41
وعَنْ سُلَيَْمانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام : يَا سُلَيَْمانُ ، إِنَّكُمْ عَلَى دِينٍ مَنْ كَتَمَهُ أَعَزَّهُ اللَّهُ ، ومَنْ أَذَاعَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ .
ص: 42
وعَنْ عَبْدِ الأعْلَى قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنِ احْتَِمالِ أَمْرِنَا التَّصْدِيقُ لَهُ والْقَبُولُ فَقَطْ ، مِنِ احْتَِمالِ أَمْرِنَا سَتْرُهُ وصِيَانَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ ، فَأَقْرِئْهُمُ السَّلامَ وقُلْ لَهُمْ : رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً اجْتَرَّ مَوَدَّةَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِهِ ، حَدِّثُوهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ واسْتُرُوا عَنْهُمْ مَا يُنْكِرُونَ .
ثُمَّ قَالَ : واللَّهِ مَا النَّاصِبُ لَنَا حَرْباً بِأَشَدَّ عَلَيْنَا مَئُونَةً مِنَ النَّاطِقِ عَلَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ ، فَإِذَا عَرَفْتُمْ مِنْ عَبْدٍ إِذَاعَةً فَامْشُوا إِلَيْهِ ورُدُّوهُ عَنْهَا ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْكُمْ وإِلا فَتَحَمَّلُوا عَلَيْهِ بِمَنْ يُثَقِّلُ عَلَيْهِ ويَسْمَعُ مِنْهُ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَطْلُبُ الْحَاجَةَ فَيَلْطُفُ فِيهَا حَتَّى تُقْضَى لَهُ ، فَالْطُفُوا فِي حَاجَتِي كَمَا تَلْطُفُونَ فِي حَوَائِجِكُمْ ، فَإِنْ هُوَ قَبِلَ مِنْكُمْ وإِلا فَادْفِنُوا كَلامَهُ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ ، ولا تَقُولُوا إِنَّهُ يَقُولُ ويَقُولُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ .
أَمَا واللَّهِ ، لَوْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ مَا أَقُولُ لاقْرَرْتُ أَنَّكُمْ أَصْحَابِي ، هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ أَصْحَابٌ ، وهَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَهُ أَصْحَابٌ ، وأَنَا امْرُو مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ وَلَدَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله وعَلِمْتُ كِتَابَ اللَّهِ ، وفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ ، بَدْءِ الْخَلْقِ ، وأَمْرِ السَّمَاءِ وأَمْرِ الأرْضِ ، وأَمْرِ الأوَّلِينَ وأَمْرِ الآخِرِينَ ، وأَمْرِ مَا كَانَ وأَمْرِ مَا يَكُونُ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ذَلِكَ نُصْبَ عَيْنِي .
وعَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام : يَا مُعَلَّى ، اكْتُمْ أَمْرَنَا وَلا تُذِعْهُ ، فَإِنَّهُ مَنْ كَتَمَ أَمْرَنَا ولَمْ يُذِعْهُ أَعَزَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا ، وجَعَلَهُ نُوراً بَيْنَ عَيْنَيْهِ فِي الآخِرَةِ يَقُودُهُ إِلَى الْجَنَّةِ .
يَا مُعَلَّى ، مَنْ أَذَاعَ أَمْرَنَا ولَمْ يَكْتُمْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا ، ونَزَعَ النُّورَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ فِي الآخِرَةِ ، وجَعَلَهُ ظُلْمَةً تَقُودُهُ إِلَى النَّارِ .
ص: 43
يَا مُعَلَّى ، إِنَّ التَّقِيَّةَ مِنْ دِينِي ودِينِ آبَائِي ، ولا دِينَ لِمَنْ لا تَقِيَّةَ لَهُ .
يَا مُعَلَّى ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ فِي السِّرِّ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ فِي الْعَلانِيَةِ .
يَا مُعَلَّى إِنَّ الْمُذِيعَ لأمْرِنَا كَالْجَاحِدِ لَهُ .
قَالَ أَبُو جَعْفَر عليه السلام : وَلايَةُ اللَّهِ أَسَرَّهَا إِلَى جَبْرَئِيل عليه السلام وأَسَرَّهَا جَبْرَئِيلُ
إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وأَسَرَّهَا مُحَمَّدٌ إِلَى عَلِي عليه السلام وأَسَرَّهَا عَلِيٌّ إِلَى مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُذِيعُونَ ذَلِكَ ، مَنِ الَّذِي أَمْسَكَ حَرْفاً سَمِعَهُ .
وعَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ : نَفَسُالْمَهْمُومِ لَنَا الْمُغْتَمِّ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ ، وهَمُّهُ لأمْرِنَا عِبَادَةٌ ، وكِتَْمانُهُ لِسِرِّنَا جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ : اكْتُبْ هَذَا بِالذَّهَبِ ، فَمَا كَتَبْتَ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْهُ .
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو جَعْفَر عليه السلام : خَالِطُوهُمْ بِالْبَرَّانِيَّةِ ، وخَالِفُوهُمْ بِالْجَوَّانِيَّةِ ، إِذَا كَانَتِ الإمْرَةُ صِبْيَانِيَّةً (1)
ص: 44
وعَنْ دُرُسْتَ الْوَاسِطِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام : مَا بَلَغَتْ تَقِيَّةُ أَحَدٍ تَقِيَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، إِنْ كَانُوا لَيَشْهَدُونَ الأعْيَادَ ، ويَشُدُّونَ الزَّنَانِيرَ ،فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ .
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ : « أُولئِكَ يُوتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا » قَالَ : بِمَا صَبَرُوا عَلَى التَّقِيَّةِ ، « ويَدْرَونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ »قَالَ : الْحَسَنَةُ التَّقِيَّةُ ، والسَّيِّئَةُ الإذَاعَةُ .
وعَنْ أَبِي عُمَرَ الأعْجَمِيِّ قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام : يَا أَبَا عُمَرَ ، إِنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الدِّينِ فِي التَّقِيَّةِ ، ولا دِينَ لِمَنْ لا تَقِيَّةَ لَهُ ، والتَّقِيَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلا فِي النَّبِيذِ ، والْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .
ص: 45
وعَنْ هِشَامٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ : إِيَّاكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا عَمَلاً يُعَيِّرُونا بِهِ ، فَإِنَّ وَلَدَ السَّوْءِ يُعَيَّرُ وَالِدُهُ بِعَمَلِهِ ، كُونُوا لِمَنِ انْقَطَعْتُمْ إِلَيْهِ زَيْناً ، ولا تَكُونُوا عَلَيْهِ شَيْناً ، صَلُّوا فِي عَشَائِرِهِمْ ، وعُودُوا مَرْضَاهُمْ ، واشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ ، ولا يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ ، واللَّهِ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْخَبْ ءِ ، قُلْتُ : ومَا الْخَبْ ءُ ؟ قَالَ : التَّقِيَّةُ .
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام التَّقِيَّةُ مِنْ دِينِ اللَّهِ .
قُلْتُ : مِنْ دِينِ اللَّهِ ؟!
قَالَ : إِي واللَّهِ ، مِنْ دِينِ اللَّهِ ، ولَقَدْ قَالَ يُوسُف عليه السلام : « أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسارِقُونَ » واللَّهِ مَا كَانُوا سَرَقُوا شَيْئاً ، ولَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيم عليه السلام : « إِنِّي سَقِيمٌ » واللَّهِ مَا كَانَ سَقِيماً .
وعَنْ حَبِيبِ بْنِ بِشْرِ قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : لاواللَّهِ ، مَا عَلَى وَجْهِ الأرْضِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ التَّقِيَّةِ .
يَا حَبِيبُ ، إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ اللَّهُ .
يَا حَبِيبُ ، مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ وَضَعَهُ اللَّهُ .
يَا حَبِيبُ ، إِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا هُمْ فِي هُدْنَةٍ ، فَلَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : اتَّقُوا عَلَى دِينِكُمْ ،فَاحْجُبُوهُ بِالتَّقِيَّةِ ، فَإِنَّهُ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا تَقِيَّةَ لَهُ ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالنَّحْلِ فِي الطَّيْرِ ، لَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَعْلَمُ مَا فِي أَجْوَافِ النَّحْلِ مَا بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ
ص: 46
إِلا أَكَلَتْهُ ، ولَوْ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مَا فِي أَجْوَافِكُمْ ، أَنَّكُمْ تُحِبُّونَّا أَهْلَ الْبَيْتِ لاكَلُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ ، ولَنَحَلُوكُمْ فِي السِّرِّ والْعَلانِيَةِ ، رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً مِنْكُمْ كَانَ عَلَى وَلايَتِنَا .
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ « ولا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ » قَالَ : الْحَسَنَةُ التَّقِيَّةُ ، والسَّيِّئَةُ الإذَاعَةُ ، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ » قَالَ : الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ : التَّقِيَّةُ « فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(1) »
ص: 47
وعَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ : قِيلَ لأبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام : إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ عَلِيّا عليه السلام قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي ، ثُمَّ تُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي فَلا تَبَرَّءُوا مِنِّي .
فَقَالَ : مَا أَكْثَرَ مَا يَكْذِبُ النَّاسُ عَلَى عَلِي عليه السلام .
ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا قَالَ : إِنَّكُمْ سَتُدْعَوْنَ إِلَى سَبِّي فَسُبُّونِي ، ثُمَّ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنِّي ، وإِنِّي لَعَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ ، ولَمْ يَقُلْ لا تَبَرَّءُوا مِنِّي .
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : أَرَأَيْتَ إِنِ اخْتَارَ الْقَتْلَ دُونَ الْبَرَاءَةِ ؟
فَقَالَ : واللَّهِ مَا ذَلِكَ عَلَيْهِ ، ومَا لَهُ إِلاّ مَا مَضَى عَلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ حَيْثُ أَكْرَهَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - فِيهِ « إِلامَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ » فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله عِنْدَهَا : يَا عَمَّارُ ، إِنْ عَادُوا فَعُدْ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - عُذْرَكَ ، وأَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِنْ عَادُوا .
ص: 48
وعَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلادٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَن عليه السلام عَنِ الْقِيَامِ لِلْوُلاةِ، فَقَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَر عليه السلام : التَّقِيَّةُ مِنْ دِينِي ودِينِ آبَائِي ، ولا إِيمَانَ لِمَنْ لا تَقِيَّةَ لَهُ .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَر عليه السلام قَالَ : إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِيَّةُ لِيُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ ، فَإِذَا بَلَغَ الدَّمَ فَلَيْسَ تَقِيَّةٌ .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : كُلَّمَا تَقَارَبَ هَذَا الأمْرُ كَانَ أَشَدَّ لِلتَّقِيَّةِ .
وعَنْ حَرِيزٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ : قَالَ : التَّقِيَّةُ تُرْسُ اللَّهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ خَلْقِهِ .
وبعد كلّ هذه الأحاديث الشريفة في بيان التقية وحدودها ومواردها
وضرورة الإلتزام بها يكون من الطبيعي جدّاً أن يتصوّر العدو زهيراً في دائرة السلطة ، فيما كان زهير يعيش محنة معاوية ومن سبقه وولاتهم الذين لاحقوا شيعة أمير المؤمنين عليه السلام تحت كلّ حجر ومدر ، وهو من الشخصيات المعروفة ، حاله حال أصحاب الكهف ، وحال مؤمن آل فرعون ، سيما إذا عرفنا - كما سيأتي - أ نّه كان ينتظر يومه في نصرة سيد شباب آل محمد صلى الله عليه و آله .
ولو تأملنا عبارة العدو التي اتهم بها زهير نجدها دقيقة في التعبير عن سلوكه ، حيث قال : يا زهير ، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنّماكنت عثمانياً ، قال : أفلست تستدل بموقفي هذا أنّي منهم(1) ؟!!
ص: 49
قال العدو : ما كنت عندنا شيعياً ، بل كنت عندنا عثمانياً ، شهادة بيّنة أنّ ظاهره كان يوهم العدو أ نّه منهم، لأ نّهم كانوا يحسبونه «عندهم» لا في الواقع .
قال تعالى : « وَقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ » .
فهذا مؤمن آل فرعون يدافع عن المعصوم ويقول لهم لم تقتلونه ، وهو لم يفعل شيئاً سوى أ نّه قال : « رَبِّيَ اللَّهُ » ، وكذلك فعل زهير حينما خطب القوم وحذرهم من قتل الحسين عليه السلام وأهل بيته .
« وَقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(1) » .
ولو تأملنا خطبة زهير يوم عاشوراء نجدها تكرّس دعوة مؤمن آل فرعون تماماً ، وتكشف لهم عن البينات التي جاءهم بها الحسين عليه السلاموضرورة متابعته وترك مقاتلته ، لأنّ في ذلك الفوز الحتمي ، وبخلافه
سيعرّضون أنفسهم للخطر الذي لابد منه .
ص: 50
قال الصادق عليه السلام في كلام : يَا هِشَامُ ، ثُمَّ مَدَحَ الْقِلَّةَ ، فَقَالَ « وقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » ، وقَالَ « وقَلِيلٌ ما هُمْ » ، وقَالَ « وقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيم-انَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُ-ولَ رَبِّيَ اللَّهُ(1) » .
فكان مؤمن آل فرعون رجلاً واحداً بين أولئك الكثرة الكثيرة التي واجهها ، كما كان زهير وصحبه من القلّة التي اختارها اللّه للوقوف بين يدي الحسين عليه السلام في مواجهة تلك الجيوش الجرارة ، والسيول البشرية التي انحدرت لقتال الحقّ القائم في شخص سيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام .
برأ الحسين عليه السلام دينه وأ نّه لم يضفه اليهم بدينه
قال عليه السلام في حديث: وأمّا الحادي عشر : فقول اللّه - عزّ وجلّ - في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل مؤمن من آل فرعون « وقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ » تمام الآية ، فكان ابن خال فرعون ، فنسبه إلىفرعون بنسبه ولم يضفه إليه بدينه(2) .
ص: 51
وقال عليه السلام : وقوله « وقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ » كان ابن عمّه خربيل ، وهو الذي قال لموسى : « إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ »
نسبه إلى القرابة لا إلى الدين(1) .
وقد برّأ الحسين عليه السلام دين زهير بن القين ، وفرّق بينه وبين القوم دينياً بتشبيهه بمؤمن آل فرعون ، كما أنّ زهيراً نفسه خاطبهم خطاب واحد منهم ، ولكنّه أكدّ لهم أنّ للسيف حداّ فاصلاً قاطعا يميز بينهم دينياً ، ويقطع العصمة بينهم إذا ما وقع القتال .
كما أنّ العدو أقرّ باختلاف زهير معه في الدين وإن كان ينتسب اليهم بالقرابة ، كما هو واضح من الحوار الذي دار بينه وبينهم .
قال عليه السلام : ثم لم يزل أهل الإيمان وذوو البصائر كالأنبياء عليهم السلاموالصالحين
يكتمون إيمانهم من قومهم وعشائرهم ، لاقتضاء المصلحة ، كمؤمن آل فرعون الذي قصّ اللّه - تعالى - قصّته في كتابه فقال - عزّ وجلّ - : « وقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإِنْيَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » .
ص: 52
فإن كان أبو طالب بكتمان إيمانه وإخفاء إسلامه كفر ، فكذلك هذا الذي قد سمّاه اللّه في كتابه مؤمناً ، ثم شهد عليه أ نّه يكتم إيمانه قد كفر بكتمان إيمانه ، إذ كان كتمانه الإيمان هداية ، وهذا مؤمن آل فرعون كانت حاله مع قومه كحال أبي طالب - رضي اللّه عنه - مع قريش ، فإنّه كان يخفي عنهم حاله ، ويدخل معهم بيوت متعبداتهم ، ويقسم بمعبودهم ، ويأكل من مأكولهم ، ويشرب من مشروبهم ، حتى تمّ له ما كان يسرّه من التوحيد باللّه تعالى ، ولم يعلموا بحاله حتى جاءهم موسى فقال « أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ » .
ثم قدّم لهم « وإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ » حتى يخفي عليهم موضع عنايته به ، ولم يقل: وهو صادق ، وإنّما قال « وإِنْ يَكُ صادِقاً » تلطفاً بهم ، كما كان أبو طالب يتلطّف قومه ، فقبلوا منه رأيه .
وكان فرعون قد عزم على قتل موسى عليه السلام وشايعه قومه على ذلك ، وكان الرجل المؤمن مرضياً عندهم يرجعون إلى رأيه ، ويسمعون قوله ، فدفع عن موسى عليه السلام القتل بوجه لطيف ، ولو كان مظهراً الإيمان لما أطاعوه ، ولا قبلوا منه ، بل كانوا يعادونه ويقتلونه .
وهكذا كانت حالة أبي طالب مع قريش حذو القذة بالقذة يدعو بدعائهم ، ويحضر في مجامعهم ، ويقسم بمعبودهم ، وكان سيدهم الذي يصمدون إليه ، وعميدهم الذي يعولون عليه ، ويرجعون إلى قوله ،ويستمعون إلى حديثه ، وكان أوفى مرتبة من مؤمن آل فرعون ، لأ نّه صدق النبي صلى الله عليه و آله في أشعاره وخطبه ، وكشف أمره ، وأعلن بصحة نبوته ،
ص: 53
وخاصم قومه وناظرهم ، وكاشفهم ونابذهم ، ولذلك اجتمعت على نفيه إلى الشعب المعروف بشعب أبي طالب ، ونفي جماعته ، فصبروا معه ، وعامتهم مشركون للأصنام يعبدون(1) .
وكذلك فعل زهير فعل مؤمن آل فرعون وفعل أبي طالب عليه السلام .
عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال رجل وأنا عنده : إنّ الحسن البصري يروي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: من كتم علماً جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من النار !
قال: كذب - ويحه - فأين قول اللّه « قالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ » ثم مدّ بها أبو جعفر عليه السلام صوته فقال: ليذهبوا حيث شاءوا ، أما - واللّه - لا يجدون العلم إلاّ هاهنا ، ثم سكت ساعة ، ثم قال أبو جعفر عليه السلام : عند آل محمد(2) .
وروي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيَْمانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَر عليه السلام يَقُولُ وعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ « عُثَْمانُ الأعْمَى » وهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْحَسَنَالْبَصْرِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْعِلْمَ يُوذِي رِيحُ بُطُونِهِمْ أَهْلَ النَّارِ ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر عليه السلام : فَهَلَكَ إِذَنْ مُومِنُ آلِ فِرْعَوْنَ ، مَا زَالَ الْعِلْمُ مَكْتُوماً
ص: 54
مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ نُوحا عليه السلام فَلْيَذْهَبِ الْحَسَنُ يَمِيناً وشِمَالاً ، فَوَ اللَّهِ مَا يُوجَدُ الْعِلْمُ إِلا هَاهُنَا(1) .
وهكذا كان زهير - بمقتضى تشبيه الحسين عليه السلام له بمؤمن آل فرعون - في كتمانه لعلم الحقّ المكتوم منذ بعث اللّه نوحاً ، وقد أخذه من أهل بيت النبوة .
كان خازن فرعون مؤمناً بموسى عليه السلام قد كتم إيمانه ستمائة سنة ، وهو الذي قال اللّه « وقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ » .
وبلغ فرعون خبر قتل موسى عليه السلام الرجل ، فطلبه ليقتله ، فبعث المؤمن إلى موسى عليه السلام : « إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها » ، كما حكى اللّه « خائِفاً يَتَرَقَّبُ » قال: يلتفت عن يمنة ويسره ويقول « رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(2) »
مدح الحسين عليه السلام أسلوبه في الوعظ وشهد له بالبلاغة وقوةالعقل
قال ابن أبي الحديد ضمن أمثلة كثيرة ذكرها في قوة الخطباء
ص: 55
المستدرجين لمخاطبيهم وذوي الاحتجاجات القوية ، والأساليب المتينة في الحوارات الكاشفة عن قوة العقل :
قالوا : ومن ذلك قول اللّه - تعالى - حكاية عن مؤمن آل فرعون
« وقالَ رَجُلٌ مُومِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » .
فإنّه أخذ معهم في الاحتجاج بطريق التقسيم ، فقال: هذا الرجل إمّا أن يكون كاذباً ، فكذبه يعود عليه ولا يتعداه ، وإمّا أن يكون صادقاً فيصيبكم بعض ما يعدكم به ، ولم يقل كلّ ما يعدكم به مخادعة لهم ، وتلطفاً واستمالة لقلوبهم ، كي لا ينفروا منه لو أغلظ في القول ، وأظهر لهم أ نّه يهضمه بعض حقّه .
وكذلك تقديم قسم الكذب على قسم الصدق ، كأنّه رشاهم ذلك ، وجعله برطيلاً لهم ليطمئنوا إلى نصحه(1) . . .
وكذا كان زهير في خطابه الذي وجهه للقوم ، بل امتاز بدقته ، وقوته ،وفصاحته ، وبلاغته ، ورصانته في انتقاء المعاني والألفاظ والأفكار
والأمثال ، وقوة المحاججة . . .
ص: 56
عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قُلْتُ لأ َبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام : إِنَّ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ بِوَجْهِي يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْتَلِ بِهِ عَبْداً لَهُ فِيهِ حَاجَةٌ!
فَقَالَ لِي: لَقَدْ كَانَ مُومِنُ آلِ فِرْعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصَابِعِ ، فَكَانَ يَقُولُ هَكَذَا ، ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: « يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(1) » .
وفي هذا التشبيه منه عليه السلام أبلغ الدفاع وأقوى الإثبات على أنّ زهيرا لم يكن خارجاً من مكة حاجاً ، ولم يكن كارهاً لمنازلة الحسين عليه السلامفي الطريق ، لأ نّه شبيه السباق من الأمم الذين سبقوا الى الحقّ وبادروا الى نصرة المعصوم المظلوم .
وفي هذا التشبيه إشارة الى أ نّه كان سبّاقاً سبق من خرج من أقرانه لنصرة الحسين عليه السلام من أمثال مجمع بن عبد اللّه العائذي ونافع بن هلال وغيرهم .
بل في التشبيه إشارة تكاد تكون واضحة الى أ نّه سبق كلّ أنصارالحسين عليه السلام الملتحقين به من الكوفة حتى أمثال عابس بن شبيب وغيره ممّن التحق بالحسين عليه السلام في مكة أو في أوئل الطريق .
ص: 57
فهو إذن قد سكن البرية ، واعتزل العمران والبشرية ، واختار تحمل
الهجير والرمضاء والفيافي والصحراء منذ زمن بعيد انتظاراً لنصرة سيد شباب أهل الجنة وسبط خير البرية .
وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أ نّه قال : سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين : خربيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار صاحب ياسين ، وعلي بن أبي طالب عليهماالسلام ، وهو أفضلهم(1) .
وهذا الحديث ركّز على نفي الكفر مطلقاً عن هؤلاء السباقين ، ولو كان زهير ممّن قال بمقالة عثمان وحزبه أو مال اليهم لما شبهه المعصوم بهم ، فهو إذن نظيف الإيمان ، وإيمانه كامل الأركان ، وعقيدته لا يشوبها شك ولا ريب ولا أدران .
وعن أبي جعفر عليه السلام قال : السابقون أربعة : ابن آدم المقتول ، والسابق في أمة موسى ، وهو مؤمن آل فرعون ، والسابق في أمة عيسى ، وهو حبيب النجار ، والسابق في أمة محمد صلى الله عليه و آله ، وهو علي بن أبي طالب(2) عليهماالسلام .
السابقون هنا أربعة ، جمعهم إضافة الى السبق الذي تشبه به زهير ، أمر أخر هو أ نّهم قتلوا في سبيل اللّه والدفاع عن الحقّ الصراح ، ومحاربةالإنحراف في أمم الأنبياء ، والعودة بهم الى جادة الصواب وإلتزام السنة النبوية .
ص: 58
وقد تشبه بهم زهير وخرج مع مولاه الحسين عليه السلام الذي خرج يطلب
الإصلاح في أمّة جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقتل بين يديه تماماً كما قتل السباقون الذين شبه بهم .
وفي تفسير فرات الكوفي : عن ابن عباس قال قوله تعالى « رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ولإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ » قال : هم ثلاثة نفر مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب مدينة الأنطاكية وعلي بن أبي طالب(1) عليهماالسلام .
والتشبيه هنا بلحاظ السبق بالإيمان من جهة ، فلم يكن إيمان زهير
غضاً جديداً طارئاً أيام الطف ، وشموله للدعوة بالمغفرة من جهة ثانية .
وفي هذا التشبيه تأكيد على ما مرّ قبل قليل .
عن محمد بن فرات عن جعفر بن محمد عليهماالسلام في هذه الآية « ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ » ابن آدم الذي قتله أخوه ، ومؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار صاحب يس « وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ » علي بن أبي طالب عليهماالسلام(2) .
وعن أبي سعيد المدائني قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله تعالى « ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ » قال: «ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ » مؤمن آل فرعون ، « وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ » علي بن أبي طالب عليهماالسلام(3) .
ص: 59
عن داود بن بلال بن أحيحة عن النبي صلى الله عليه و آله : الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعلي بن أبي طالب الثالث ، وهو أفضلهم(1) .
رواه أحمد في كتاب فضائل علي عليه السلام الحديث الثامن عشر: الصديقون ثلاثة: حبيب(2) النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ، ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه ، وعلي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم .
عن أيوب بن الحر عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّوجلّ « فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا » فقال: أما لقد بسطوا عليه وقتلوه ، ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه .
وقد مرّ معنا قبل قليل تشبيهه بسباق الأمم ، وقد قتلوا جميعاً .
في تفسير القمي رحمه الله قوله « فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا » يعني مؤمن آل فرعون ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام واللّه لقد قطعوه إرباً إرباً ، ولكن وقاه اللّه أن يفتنوه في دينه(3) .
ص: 60
في مصباح الشريعة : قال اللّه - عزّ وجلّ - في مؤمن آل فرعون « وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ » .
والتفويض خمسة أحرف ، لكلّ حرف منها حكم ، فمن أتى بأحكامه فقد أتى به :
التاء : من تركه التدبير في الدنيا .
والفاء : من فناء كلّ همّة غير اللّه .
والواو : من وفاء العهد وتصديق الوعد .
والياء : اليأس من نفسك ، واليقين بربّك .
والضاد : الضمير الصافي للّه ، والضرورة إليه .
والمفوّض لا يصبح إلاّ سالماً من جميع الآفات ، ولا يمسي إلاّ معافاً بدينه(1) .
وقد فوّض مؤمن آل فرعون أمره إلى اللّه فقال: « وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا » ، ولا ريب أنّ هذامتفرع على قوة الإيمان باللّه وسبباً لشدّة اليقين أيضاً ، والرضا بقضاء اللّه في الشدّة والرخاء ، والعافية والبلاء .
وهذا أيضاً يحصل من الإيمان بكونه سبحانه مالكاً لنفع العباد
وضرّهم ، ولا يفعل بهم إلاّ ما هو الأصلح لهم.
ص: 61
ويصير أيضاً سبباً لكمال اليقين والتسليم لأمر اللّه ، أي الانقياد له في كلّ ما أمر به ونهى عنه ، ولنبيه وأوصيائه فيما صدر عنهم من الأقوال والأفعال ، كما قال سبحانه « فَلا ورَبِّكَ لا يُومِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ».
ومدخلية هذه الخصلة في الإيمان وكماله أظهر من أن يحتاج إلى البيان واللَّهُ الْمُسْتَعانُ(1) .
إنّ الموقن يتوكّل على اللّه، ويفوض أمره إليه، فيقيه عن كلّ مكروه كما قال - عزّ وجلّ - « أَلَيْسَ اللّه ُ بِكافٍ عَبْدَهُ » ، وكما قال مؤمن آل فرعون: « وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّه ِ إِنَّ اللّه َ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللّه ُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا » .
وسرّ ذلك أنّ المؤمن الموقن المنتهي إلى حدّ الكمال لا ينظر إلى الأسباب والوسائط في النفع والضر ، وإنّما نظره إلى مسببها ، وأمّا من لم يبلغ ذلك الحدّ من اليقين ، فإنّه يخاطب بالفرار قضاء لحقّ الوسائط(2) .
روى الشيخ الطوسي في حديث: . . . فجاء علي عليه السلام فقال له عثمان : ألا تغني عنّا سفيهك هذا !!
ص: 62
قال : أيّ سفيه ؟ قال : أبوذر .
قال علي عليه السلام ليس بسفيه ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء ، أصدق لهجة من أبي ذر ، أنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون ، إن يك كاذباً فعليه كذبه ، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم(1) .
في أوائل المقالات: قال في قصة مؤمن آل فرعون: « قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(2) » .
فكان القتل جسره الى جنات النعيم ، وبمجرد أن قتل قيل له ادخل الجنة ، وكذا كان زهير وصحبه فقد رأى موضعه في الجنة قبل القتل ، وقد شبه لهم الحسين عليه السلام في بعض كلماته الشهادة بالجسر الذي يعبرون عليه من الدنيا الفانية الى الآخرة الباقية .
إنّ أصحاب الكهف كتموا إيمانهم مع قومهم حتى تمكّنوا من مطلوبهم ، وقصتهم مشهورة ، وحالهم معلومة ، وقد روي عن الأئمة من آل محمد صلى الله عليه و آله ومواليهم أنّ حال أبي طالب عليه السلام كحال أصحاب الكهف ومؤمن آل فرعون .
ص: 63
ومثل ذلك في القرآن المجيد والسير والآثار كثير لا يبلغ أمده ولا يحصى عدده .
وقد روي بالإسناد عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السلامفي حديث طويل يذكر فيه : أنّ اللّه - تبارك وتعالى - أوحى إلى رسوله صلى الله عليه و آله : إنّي قد أيّدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سرّاً ، وشيعة تنصرك علانية ، فأمّا التي تنصرك سرّاً فسيدهم وأفضلهم عمّك أبو طالب عليه السلاموأمّا التي تنصرك علانية فسيدهم وأفضلهم ابنه علي بن أبي طالب عليهماالسلام ، ثم قال : وإنّ أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه .
وقال الصادق عليه السلام إنّ جبرئيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا محمد ، إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فأتاهم اللّه أجرهم مرتين ، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك ، فأتاه اللّه أجره مرتين(1) .
روي أ نّه دخل رجل على محمد بن علي بن موسى الرضا عليهماالسلام وهو مسرور ، فقال: ما لي أراك مسروراً؟ قال: يا ابن رسول اللّه ، سمعت أباك يقول: أحقّ يوم بأن يسرّ العبد فيه يوم يرزقه اللّه صدقات ومبرات وسدّ خلات من إخوان له مؤمنين ، وإنّه قصدني اليوم عشرة
ص: 64
من إخواني المؤمنين الفقراء لهم عيالات ، قصدوني من بلد كذا وكذا ، فأعطيت كلّ واحد منهم ، فلهذا سروري .
فقال محمد بن علي عليه السلام لعمري إنّك حقيق بأن تسرّ إن لم تكن أحبطته ، أو لم تحبطه فيما بعد .
فقال الرجل: وكيف أحبطته وأنا من شيعتكم الخلص ؟!
قال : هاه ، قد أبطلت برّك بإخوانك وصدقاتك .
قال : وكيف ذاك يا ابن رسول اللّه؟
قال له محمد بن علي عليهماالسلام : اقرأ قول اللّه عزّ وجلّ : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذى » .
قال الرجل : يا ابن رسول اللّه ، ما مننت على القوم الذين تصدّقت
عليهم ، ولا آذيتهم .
قال له محمد بن علي عليهماالسلام : إنّ اللّه - عزّ وجلّ - إنّما قال: « لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والأذى » ، ولم يقل: لا تبطلوا بالمنّ على من تتصدقون عليه، وبالأذى لمن تتصدقون عليه ، وهو كلّ أذى ، أفترى أذاك للقوم الذين تصدّقت عليهم أعظم ، أم أذاك لحفظتك وملائكة اللّه المقربين حواليك ، أم أذاك لنا ؟فقال الرجل : بل هذا يا ابن رسول اللّه .
فقال : فقد آذيتني وآذيتهم ، وأبطلت صدقتك .
قال : لماذا ؟ قال لقولك : وكيف أحبطته وأنا من شيعتكم الخلص ؟! ويحك ، أتدري من شيعتنا الخلص ؟ قال : لا .
ص: 65
قال : شيعتنا الخلص حزقيل المؤمن ، مؤمن آل فرعون ، وصاحب يس الذي قال اللّه تعالى فيه: « وجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى » ، وسلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمار ، أسوّيت نفسك بهؤلاء ؟! أما آذيت بهذا الملائكة ، وآذيتنا ؟
فقال الرجل : أستغفر اللّه وأتوب إليه ، فكيف أقول ؟
قال : قل: أنا من مواليكم ومحبّيكم ، ومعادي أعدائكم ، وموالي أوليائكم.
فقال : كذلك أقول ، وكذلك أنا يا ابن رسول اللّه ، وقد تبت من القول الذي أنكرته ، وأنكرته الملائكة ، فما أنكرتم ذلك إلاّ لإنكار اللّه عزّ وجلّ .
فقال محمد بن علي بن موسى الرضا عليهماالسلام : الآن قد عادت إليك مثوبات صدقاتك ، وزال عنها الإحباط(1) .
عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إذا قام قائم آل محمد صلى الله عليه و آله استخرج من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلاً ، خمسة عشر من قوم موسى الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون ، وسبعة من أصحاب الكهف ،ويوشع وصي موسى ، ومؤمن آل فرعون ، وسلمان الفارسي ، وأبا دجانة الأنصاري ، ومالك الأشتر(2) .
ولا شكّ أنّ زهير سيكرّ فيمن يكرّ من أصحاب سيد الشهداء عليه السلام .
ص: 66
بالرغم من شحّة النصوص التاريخية التي تتحدّث عن زهير بن القين وأصحاب سيد الشهداء عليه السلام الآخرين ، إلاّ أنّ ما توفر لدينا يرسم صورة مشرقة مشرفة تتطاول لها أعناق الموالين والشرفاء والأحرار والشيعة والمؤمنين في كلّ الأعصار والأمصار .
ويمكن للمحقّق والباحث أن يستنطق النصوص التاريخية ويستنتج منها الكثير من المواقف بمقدار ما يفتح عليه اللّه تبارك وتعالى، وسيد الشهداء عليه السلام .
ونحاول هنا أن نذكر بعض مواقفه ، ونترك البعض الآخر ممّا تناثر في ثنايا هذا الكتاب ، لئلا يلزم التكرار .
قال عقبة بن أبي العيزار : قام حسين عليه السلام بذي حسم ، فحمد اللّه وأثنىعليه ، ثم قال :
إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكرت ، وأدبر معروفها ، واستمرت جدا(1) فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ،
ص: 67
وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به ، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً ، فإني لا أرى الموت إلاّ شهادة(1) ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برما .
قال : فقام زهير بن القين البجلي ، فقال لأصحابه : تكلّمون أم أتكلّم ؟
قالوا : لا ، بل تكلّم .
فحمد اللّه فأثنى عليه ، ثم قال :
قد سمعنا - هداك اللّه يا ابن رسول اللّه - مقالتك ، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلدين ، إلاّ أنّ فراقها في نصرك ومواساتك ، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها .
قال : فدعا له الحسين ، ثم قال له خيرا(2) . .
قال الشيخ المفيد في الإرشاد : وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية ، فقال له الحسين عليه السلام : دعنا - ويحك - ننزل فيهذه القرية أو هذه - يعني نينوى والغاضرية(3) - أو هذه - يعني شفية - .
ص: 68
ص: 69
ص: 70
ص: 71
قال : لا واللّه ، ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث إليّ عيناً عليّ .
فقال له زهير بن القين : إنّي واللّه ، ما أراه يكون بعد هذا الذي ترون إلا أشدّ مما ترون ، يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم ما لا قبل لنا به .
فقال الحسين عليه السلام : صدقت يا زهير ، ولكن ما كنت بالذي أنذرهم بقتال حتى يبتدروني(1)
ص: 72
فقال له زهير : فسر بنا إلى هذه القرية ، فإنّها حصينة ، وهي على شاطيء الفرات ، فإن منعونا قاتلناهم ، فقتالهم أهون من قتال من يجيء من بعدهم .
فقال الحسين عليه السلام : وأيّة قرية هي ؟
قال : هي العقر .
فقال الحسين : اللّهم إنّي أعوذ بك من العقر .
فقال له زهير : فسر بنا حتى نصير بكربلاء ، فإنّها على شاطى ء الفرات فنكون هنالك ، فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنا باللّه عليهم .
قال : فدمعت عينا الحسين عليه السلام ثم قال : اللّهم ! ثم اللّهم ! إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء !
ص: 73
ونزل الحسين عليه السلام في موضعه ذلك ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه فيألف فارس(1) ، وذلك يوم الخميس وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين(2) .
لمّا جاء عمر بن سعد - لعنه اللّه - دعا بعض أصحابه ليمضي الى الحسين عليه السلام ويسأله عمّا جاء به الى كربلاء ، فاعتذروا اليه ، لأ نّهم كانوا
قد كاتبوه من قبل ودعوه .
فدعا ابن سعد - لعنه اللّه - بكثير بن شهاب وقال له : انطلق إلى الحسين عليه السلام وقل له : ما الذي جاء بك إلينا ؟ وأقدمك علينا ؟
فأقبل حتى وقف بإزاء الحسين عليه السلام ونادى : يا حسين ! ما الذي جاء بك إلينا وأقدمك علينا ؟
فقال الحسين عليه السلام أتعرفون هذا الرجل ؟
فقال له أبو ثمامة الصيداوي: هذا من أشرّ أهل الأرض.
فقال عليه السلام سلوه ما يريد ؟
فقال: أريد الدخول على الحسين عليه السلام .
ص: 74
فقال له زهير بن القين: ألق سلاحك وادخل .فقال: لست أفعل .
فقال: انصرف من حيث أتيت.
فانصرف إلى ابن سعد وأخبره بذلك(1) . . .
وقف أبو الأئمة عليهم السلام يوم عاشوراء ، وقد اجتمع عليه ثلاثون ألفاً ، وافترقوا عليه أربع فرق : فرقة بالسيوف ، وفرقة بالرماح ، وفرقة بالسهام ، وفرقة بالحجارة ، فبينا هو في هذه الحالة ، إذ حضرت صلاة الظهر ، فأمر عليه السلام لزهير بن القين وسعيد بن عبد اللّه الحنفي أن يتقدّما أمامه بنصف من تخلّف معه ، فتقدّما أمامه يقيان بنفسهما نفسه(2) وصلّى بهم صلاة الخوف بعد أن طلب منهم الفتور عن القتال لأداء الفرض .
قال ابن حصين : إنها لا تقبل منك ، قال حبيب بن مظاهر : لا يقبل من آل رسول اللّه وأنصارهم ، وتقبل منك وأنت شارب الخمر(3) ! !
ص: 75
وروى سبط ابن الجوزي هذا الموقف أيضاً فقال :
ثم جاء وقت صلاة الظهر ، فصلّى بأصحابه صلاة الخوف ، فبينا هم فيالصلاة تكالبوا عليه ، فحمل زهير بن القين يذبّ عن الحسين عليه السلامويقول : « أنا زهير وأنا ابن القين . . . » .
ثم صاح زهير بالحسين عليه السلام : « أقدم هديت هادياً مهديا(1) » .
روى صاحب الهداية الكبرى بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت علياً بن الحسين عليهماالسلام يقول :
لمّا كان اليوم الذي استشهد فيه أبو عبد اللّه عليه السلام جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم ، فقال لهم : يا أهلي وشيعتي ، اتخذوا هذا الليل جملاً لكم وانجوا بأنفسكم ، فليس المطلوب غيري ، ولو قتلوني ما فكروا فيكم ، فانجوا بأنفسكم رحمكم اللّه ، فأنتم في حلّ وسعة من بيعتي ، وعهد اللّه الذي عاهدتموني .
فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد : واللّه يا سيدنا أبا عبد اللّه ، لا تركناك أبداً ، أيش يقول الناس : تركوا إمامهم وسيدهم وكبيرهم وحده حتى قتل ؟! ونبلوا بيننا وبين اللّه عذراً ، وحاش للّه أن يكون ذلك أبداً ، أو نقتل دونك .
ص: 76
فقال عليه السلام : يا قوم ، فإني غداً أقتل وتقتلون كلّكم حتى لا يبقى منكم أحد .فقالوا : الحمد للّه الذي أكرمنا بنصرتك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ فقال لهم خيراً ، ودعا لهم بخير . . .
فقال له القاسم ابن أخيه الحسن عليه السلام : يا عمّ وأنا أقتل ؟
فاشفق عليه ، ثم قال : يا ابن أخي كيف الموت عندك ؟
قال : يا عمّ ، أحلى من العسل .
قال : أي واللّه ، إنّك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلو بلاءا عظيماً ، وابني عبد اللّه .
قال : يا عمّ ، ويصلون إلى النساء حتى يقتل عبد اللّه ، وهو رضيع ؟!!
فقال : فداك عمّك! يقتل عبد اللّه إذا جفت روحي عطشاً ، وصرت إلى خيامنا فطلبت ماء ولبناً ، فلا أجد قط ، فأقول : ناولني عبد اللّه أشرب من فيه أندي لهواتي ، فيعطوني إياه ، فأحمله على يدي ، فأدني فاه من في ، فيرميه فاسق منهم - لعنه اللّه - بسهم ، فينحره ، وهو يناغي ، فيفيض دمه في كفّي ، فأرفعه إلى السماء ، وأقول : اللّهم صبراً واحتساباً فيك ، فتلحقني الأسنة منهم ، والنار تحرق وتسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم ، فأكرّ عليهم في آخر أوقات بقائي في دار الدنيا ، فيكون ما يريد اللّه .
فبكى وبكينا ، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الخيم .
ص: 77
ويسألني زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عن علي عليه السلام فيقولان : يا سيدنا ، علي عليه السلام إلى ما يكون من حاله ؟فأقول مستعبراً : لم يكن اللّه ليقطع نسلي من الدنيا ، وكيف يصلون إليه ، وهو أبو ثمانية أئمة .
وكان كلّما قاله صار ، فكان هذا من دلائله(1) .
يكشف هذا السؤال عن مدى اهتمام حبيب وزهير - وهما يمثلان الأنصار ، لأنّهما على ميمنة معسكر الحسين عليه السلام وميسرته التي تضمّ
الأنصار جميعاً - بحرم الرسالة وسكان سرادق العزّة ، ومخدرات أمير المؤمنين عليه السلام لأنّهما سمعا من الصادق المصدق ، والسبط الزكي المطهر أنّ المعسكر كلّه سينتقل في يوم واحد الى رحاب اللّه ، حتى القاسم وعبد اللّه عليهماالسلام فمن يبقى مع النساء ؟ وهل ستقطع بنات الرسالة وعقائل النبوة
بقية المسيرة دون أن يكون معهن محرم أو ولي وحمي ؟!
إنّها الغيرة النبيلة على نساء الحسين عليه السلام وحرمه !
ثم إنّه سؤال يكشف أيضاً عن عمق معرفة هذين الرجلين المقدّسين
بالولاء والإمامة ، فهما يسألان ما إذا سيقتل علي بن الحسين عليهماالسلام أيضاً ، فهذا يعني أنّ الدنيا ستنتهي ، ونظام الكون سيتفكك ، وتقوم القيامة بعد الطف ، لأنّهما يعرفان تمام المعرفة أنّ أحاديث أهل البيت عليهم السلام نصت
ص: 78
بما لا يعتريه شك ولا ريب أنّ الدنيا لا تقوم إلاّ بإمام ، ولو خلت الأرض من حجة وإمام ولو للحظة واحدة لساخت بأهلها ، فإذا قتل زينالعابدين وسيد الساجدين عليه السلام فكيف ستستمر رحلة البشرية حتى تدرك القائم المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه ؟!
يستمهل القوم مع العباس عليه السلام
سيأتي مفصلاً في مناقشة اتهامه بالتعثمن .
كتب عبيد اللّه بن زياد الى عمر بن سعد كتاباً جاء فيه : إذا أتاك كتابي هذا ، فلا تمهلن الحسين بن علي ، وخذ بكظمه ، وحل بين الماء وبينه ، كما حيل بين عثمان وبين الماء يوم الدار .
فلمّا وصل الكتاب إلى عمر بن سعد - لعنه اللّه - ، أمر مناديه ، فنادى : إنّا قد أجلنا حسيناً وأصحابه يومهم وليلتهم .
فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء ، قال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام : فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول لأصحابه :
ص: 79
أثني على اللّه أحسن الثناء ، وأحمده على السراء والضراء ، اللّهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ،وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين .
أمّا بعد :
فإنّي لا أعلم أصحابا أوفى ، ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عني خيراً .
ألا وإنّي لأظن يوماً لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلّ ، ليس عليكم حرج مني ولا ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً .
فقال له إخوته وأبناو وبنو أخيه وابنا عبد اللّه بن جعفر : لم نفعل ذلك! لنبقى بعدك ؟ لا أرانا اللّه ذلك أبداً .
بدأهم بهذا القول العباس بن علي عليهماالسلام واتبعته الجماعة عليه ، فتكلّموا بمثله ونحوه .
فقال الحسين عليه السلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل عليهماالسلام فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم .
فقالوا : سبحان اللّه ! ما يقول الناس ؟! نقول : إنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا ، خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ، لا واللّه ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح اللّه العيش بعدك .
ص: 80
وقام إليه مسلم بن عوسجة ، فقال : أنحن نخلي عنك ؟! وبما نعتذر إلى اللّه في أداء حقّك ؟ لا واللّه حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ماثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نخليك حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك .
أما واللّه ، لو علمت أني أقتل ، ثم أحيى ، ثم أحرق ، ثم أحيى ، ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك ، وإنما هي قتله واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً .
وقام زهير بن القين فقال : واللّه لوددت أنّي قتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت ، حتى أقتل هكذا ألف مرّة ، وأنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك .
وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فجزّاهم الحسين عليه السلام خيراً ، وانصرف إلى مضربه(1) .
وفي أمالي الصدوق : وقام إليه رجل يقال له « زهير بن القين البجلي »
فقال : يا بن رسول اللّه ، ووددت أني قتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت ، ثم نشرت فيك وفي الذين معك مائة قتلة ، وإنّ اللّه دفع بي عنكم أهل البيت . فقال له ولأصحابه : جزيتم خيرا(2) .
ص: 81
أعلن عمر بن سعد - لعنه اللّه - حربه على سيد الشهداء عليه السلاموأصحابهبسهم وضعه في كبد القوس ورمى به نحو معسكر الحسين عليه السلام ، وقال : اشهدوا لي أنّي أول من رمى ، ثم بدأت المعركة ، فكان أول هجوم شنّه الأشقياء بعد مبارزة عبد اللّه بن عمير الكلبي - من أصحاب الحسين عليه السلام - استهدف شخص زين السماوات والأرضين ، والحجّة على الخلق أجمعين . .
قال الشيخ المفيد رحمه الله وغيره : وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين عليه السلام - وكان زهير على الميمنة - فيمن كان معه من أهل الكوفة ، فلمّا دنا من الحسين عليه السلام جثوا له على الركب ، وأشرعوا الرماح نحوهم ، فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع ، فرشقهم أصحاب الحسين عليه السلام
بالنبل ، فصرعوا منهم رجالاً ، وجرحوا منهم آخرين(1) .
في إبصار العين للسماوي : وروى أبو مخنف عن حميد بن مسلم قال : حمل شمر حتى طعن فسطاط الحسين عليه السلام برمحه ، وقال : عليّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله ، فصاحت النساء ، وخرجن من الفسطاط .
فصاح الحسين عليه السلام : يا بن ذي الجوشن ، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي!! حرقك اللّه بالنار .
ص: 82
وحمل زهير بن القين في عشرة من أصحابه ، فشدّ على شمر وأصحابه ، فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها ، وقتل زهير أبا عزّة الضبابي منأصحاب الشمر وذوي قرباه ، وتبع أصحابه الباقين ، فتعطّف الناس عليهم ، فكثروهم ، وقتلوا أكثرهم ، وسلم زهير(1) .
وفي الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله : وقاتل أصحاب الحسين بن علي عليهماالسلام
القوم أشدّ قتال حتى انتصف النهار .
فلمّا رأى الحصين بن نمير - وكان على الرماة - صبر أصحاب الحسين عليه السلام تقدّم إلى أصحابه - وكانوا خمسمائة نابل - أن يرشقوا أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل ، فرشقوهم ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وجرحوا الرجال ، وأرجلوهم .
واشتد القتال بينهم ساعة ، وجاءهم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه ، فحمل عليهم زهير بن القين - رحمه اللّه - في عشرة رجال من أصحاب الحسين فكشفهم عن البيوت ، وعطف عليهم شمر بن ذي الجوشن فقتل من القوم ، وردّ الباقين إلى مواضعهم .
وأنشأ زهير بن القين يقول مخاطباً للحسين عليه السلام :
اليوم نلقى جدّك النبيا***وحسناً والمرتضى عليا
وذا الجناحين الفتى الكميا(2)
ص: 83
وفي بحار الأنوار للمجلسي رحمه الله : لمّا قتل مسلم بن عوسجة صاحت جارية له : يا سيداه ، يا ابن عوسجتاه ، فنادى أصحاب ابن سعدمستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة !
فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما إنّكم
تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة ، أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين .
ثم حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة ، فثبتوا له ، وقاتلهم أصحاب
الحسين عليه السلام قتالاً شديداً ، وإنما هم إثنان وثلاثون فارساً ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلاّ كشفوهم .
فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة ، فاقتبلوا
حتى دنوا من الحسين عليه السلام وأصحابه ، فرشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار ، واشتد القتال ، ولم يقدروا أن يأتوهم إلاّ من جانب واحد ، لاجتماع أبنيتهم ، وتقارب بعضها من بعض .
فأرسل عمر ابن سعد - لعنه اللّه - الرجال ليقوضوها عن أيمانهم وشمائلهم ، ليحيطوا بهم ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين عليه السلام يتخلّلون ، فيشدّون على الرجل يعرض وينهب ، فيرمونه عن قريب ، فيصرعونه فيقتلونه .
ص: 84
فقال ابن سعد : أحرقوها بالنار ! فأضرموا فيها .
فقال الحسين عليه السلام : دعوهم يحرقوها ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزواإليكم ، فكان كما قال عليه السلام . . .
وأخذوا لا يقاتلونهم إلاّ من وجه واحد ، وشدّ أصحاب زهير بن
القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر .
فلم يزل يقتل من أصحاب الحسين عليه السلام الواحد والإثنان فيبين ذلك فيهم لقلتهم ، ويقتل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم(1)
ص: 85
لقد امتاز أصحاب الحسين عليه السلام جميعاً بالشجاعة والفروسية والشهامة والإقدام ، وأول ما كشف عن شجاعتهم وإقدامهم وشهامتهم هو اختيارهم الوقوف في صف سيد الشهداء عليه السلام كالبنيان المرصوص ، حتى
لكأنّك تنظر الى رجل واحد يتكرر في عدّة صور ، بالرغم من وجود التفاوت الشخصي بينهم .
وإذا تأملنا في مواقف الأعداء نجد أ نّهم قدّموا إعترافات في حقّ بعض أصحاب الحسين عليه السلام كما حصل مع مسلم بن عوسجة ، أو فيهم ككوكبة كاملة كما سمعنا منادي القوم يصرخ : ويلكم يا حمقى ، مهلاً أتدرون من تقاتلون ؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوماً مستميتين(1) . .
فهم إذن قوم معروفون بالشجاعة والبصيرة والإستبسال ، وأ نّهم
أصحاب مقامات ووجاهات إجتماعية بارزة .
أمّا زهير بن القين فهو نجم لامع بين « فرسان المصر وأهل البصائر والمستميتين » ، وقد رأيناه في مواقفه مع أبي الضيم وسيد الشهداء عليه السلام
ص: 86
منذ اللحظة الأولى والشجاعة تتدفق من كلّ روحه وقلبه وجسمه وكلماته وكلّ شيء فيه .
وقد اعترف له العدو لمّا طلب مبارزته أو حبيب ، قال المفيد رحمه الله : وتبارزوا فبرز يسار مولى زياد بن أبي سفيان ، وبرز إليه عبد اللّه بن عمير ، فقال له يسار : من أنت ؟ فانتسب له ، فقال : لست أعرفك ! حتى يخرج إليّ زهير بن القين ، أو حبيب بن مظاهر(1) فقال له عبد اللّه بن عمير : يا ابن الفاعلة ، وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ، ثم شدّ عليه فضربه بسيفه حتى برد(2) . . .
إنّه طلب مبارزة زهير أو حبيب لأ نّهم فيما يرى من أشجع « فرسان المصر » ، والقتل بسيفهم مفخرة له لعنه اللّه .
ونحن لا نريد الإطالة والتكرار ، ففي المراجعة السريعة لبعض مواقفه التي سجلها لنا التاريخ كفاية لمعرفة شجاعته التي تذهل العقول ، وتمتلك القلوب !
أرأيته يوم وقف يستأذن الحسين عليه السلام في قتال عسكر الحر الذي خاله البعض سواد النخيل لتلاحمه وكثرته وتداخل راياته وأسنته وسيوفه ورماحه ، وهو في وعثاء السفر ، وأتعاب الطريق ، على غير ماء ولا ملجأ في وسط الصحراء القاحلة المكشوفة .
ص: 87
ورأيناه يوم وقف أمام تلك الجيوش الجرارة ، والوحوش الكاسرة ، والأمواج المتلاطمة من الرجال والسلاح ، وهو يعظهم بكلّ شجاعة وثبات وإستقامة . .
ورأيناه في غاية الثبات والإستقامة والشجاعة والإقدام وهو يواسي
الحسين بشهادة حبيب ، ويواسي العباس عليه السلام بذكر قصة زواج أمير المؤمنين عليه السلامبأمّه عليهاالسلام ويدفع هجوم الشمر وعسكره على الخيام في عشرة من رجاله فقط !! ويقف أمام الحسين عليه السلام ليقيه بنفسه في الصلاة ، ثم ينبري وحده ليفرق الجيش ويبعدهم عن الحسين عليه السلاموأصحابه وهم في الصلاة !!
وتوّج كلّ مشاهد الشجاعة في مبارزته وقتاله وأخيراً في شهادته . . .
ص: 88
في تاريخ الطبري ، والبداية والنهاية ، والكامل في التاريخ ، وتاريخ اليعقوبي ، ولواعج الأشجان ، واللفظ للأول :
قال أبو مخنف : فحدّثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين عليه السلام حين قتل يقال له « كثير بن عبد اللّه الشعبي(1) » قال :
لمّا زحفنا قبل الحسين عليه السلام خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب ، شاك في السلاح ، فقال:
يا أهل الكوفة ، نذار لكم من عذاب اللّه نذار(2) إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن إخوة ، وعلى دين واحد ، وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّة .
إنّ اللّه قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ،
ص: 89
لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم ، وخذلان الطاغية عبيد اللّه بن زياد ، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كله ، ليسملان(1) أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه ، وهانئ بن عروة وأشباهه .
قال : فسبّوه وأثنوا على عبيد اللّه بن زياد ، ودعوا له ، وقالوا : واللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك ، ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد اللّه سلماً .
فقال لهم : عباد اللّه ، إنّ ولد فاطمة رضوان اللّه عليها ، أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمية ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية ، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام .
قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم ، وقال : اسكت ، أسكت اللّه نأمتك(2) أبرمتنا بكثرة كلامك .
فقال له زهير : يا ابن البوال على عقبيه ، ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة ، واللّه ما أظنّك تحكم من كتاب اللّه آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم
ص: 90
فقال له شمر : إنّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة .
قال : أفبالموت تخوفني ؟! فواللّه للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم .
قال : ثم أقبل على الناس رافعاً صوته ، فقال : عباد اللّه ، لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فواللّه لا تنال شفاعة محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قوماً هراقوا دماء ذريته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم .
قال : فناداه رجل فقال له : إنّ أبا عبد اللّه يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والابلاغ(1) .
وفي العقائد الإسلامية نقلاً عن تاريخ الطبري : . . . فقال : عباد اللّه لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي.. فو اللّه لا تنال شفاعة محمد قوماً أراقوا دماء ذريته وأهل بيته !! ولا يقبل عمل المسلم إلاّ بحبّهم(2) .
* * *
وفي تاريخ اليعقوبي : وخرج زهير بن القين على فرس له فنادى :
يا أهل الكوفة ! نذار لكم من عذاب اللّه ! نذار عباد اللّه ! ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر من ولد سمية ، فإن لم تنصروهم ، فلا تقاتلوهم .
ص: 91
أيّها الناس ! إنّه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت نبي إلاّ الحسين عليه السلامفلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلاّ نغصه اللّه الدنيا ، وعذّبه أشدّ عذاب الآخرة(1) .
خرج زهير الى القوم وهو شاك في السلاح ، فيما كان يتقدّم إليهم بالنصح والوعظ والإرشاد ، ولابد أن يكون لخروجه في كامل عدّته دلالات لأ نّه من رجال الحسين عليه السلام ورجال الحسين عليه السلام يوم عاشوراء كانوا يتصرفون على مرأى ومسمع ومنظر من سيد الشهداء عليه السلام ولا يطئون موطأ ، ولا ينبسون بلفظة ، ولا يحركون ساكناً إلا بعد الاستئذان من المعصوم ، فتصرفاتهم ينتشر منها شذى العصمة المترشحة عليهم من أبي الأئمة المعصومين عليهم صلوات ربّ العالمين .
ويمكن أن نتصور لخروجه في هذه الصورة عدّة تصورات :
إنّ زهيراً خرج يعظ قوماً اصطفوا لقتاله ، وخرجوا لمحاربته ، ومعاطسهم تتمدد وتتهيج بما تتخيله من رائحة دمه ودماء أصحابه ، وأنيابهم تصطك استعداداً لتمزيق أبدانهم ، وقد مسخوا سباعاً متوحشة
ص: 92
لتمزيق أشلائهم ، فهم أعداء ، جهلة ، مضللين ، قد طبع على قلوبهم ،ورانت على أعينهم غشاوة ، وفرق بين أن يعظ الانسان قوماً يرجو فيهم
الصلاح ، ويتسمون بالهدوء والموضوعية والروة الإيجابية للناصح ، وبين أن يعظ قوماً مسودّة قلوبهم ، مظلمة حلومهم ، في جو مشحون بالعداوة والبغضاء.
فالموقف مع الطائفة الثانية تظلّه أجواء الشك والريبة وانعدام الثقة بين المتخاطبين ، فإذا تقدّم الواعظ للوعظ يحتاج إلى تقديم ضمانات تطمئن المخاطب ، وتدعوه إلى الوثوق بالواعظ ، وسلامة نواياه ، وأ نّه يتكلّم بدافع إرادة الخير للمخاطبين .
ولهذا خرج زهير شاك في السلاح ليوحي إليهم أ نّه لا يبتغي من وراء نصحه مصلحة له ، فهو لا يريد أن يثنيهم عن القتال ، ليكسب السلامة ، ويمدد فترة بقائه في هذه الدنيا الدنية الزائلة ، فهو عازم على القتال ، موطن نفسه على النزال ، مستعد للرحيل عن هذه الدنيا والتحليق إلى مجاورة النبي صلى الله عليه و آله ، والانتقال إلى الجنان ، ومعانقة الحور الحسان .
ومن كان موطناً نفسه على الموت ، مقبلاً عليه غير مدبر ، لا يظن أحد أ نّه يبتغي مصلحة خاصة له ، ويجرّ نفعاً لنفسه ، وينصح الآخرين ليجني ثمار نصحه .
إنّ زهيراً تقدّم للخطبة والوعظ في قوم شأنهم الغدر والمكر والفتك والاغتيال ، لا يعرفون القيم وآداب الحوار ، وقد بدرت منهم أكثر
ص: 93
من بادرة في إجابة المتكلّم بالسهام والنبال ، كما فعل شمر لعنه اللّه حينما قطع عليه خطابه وختم كلامه بسهم رماه به وقال : اسكت ، اسكت اللّه نامتك(1) .
وكما فعلوا مع برير :
روى محمد بن أبي طالب في تسلية المجالس وزينة المجالس قال: وركب
أصحاب عمر بن سعد - لعنه اللّه - ، فقرّب إلى الحسين عليه السلامفرسه ، فاستوى عليه ، وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه « برير بن خضير » ، فقال له الحسين عليه السلام كلّم القوم .
فتقدّم برير فقال : يا قوم ، اتقوا اللّه ، فإنّ ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذريّته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم ، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم ؟
فقالوا : نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد ، فيرى رأيه فيهم .
فقال لهم برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه ! ويلكم يا أهل الكوفة ! أنسيتم كتبكم ، وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم اللّه عليها ؟ يا ويلكم ، أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته ، ما لكم ، لا سقاكم اللّه يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم .
ص: 94
فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول !!فقال برير : الحمد للّه الذي زادني فيكم بصيرة ، اللّهم إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللّهم ألق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان . فجعل القوم يرمونه بالسهام(1) .
هذا هو دأبهم ، ومبلغ علمهم ، أن يردوا الكلام والفضيلة بالسهام
والنبال والقتل وسفك الدماء ، وقد فعل ذلك أميرهم اللعين يوم قابل وعظ سيد الشهداء الحسين عليه السلام بهذا المنطق الهمجي الأرعن ، فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه عليه السلامثم صرف بوجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما تنتظرون به ؟! احملوا بأجمعكم ، إنما هي أكلة واحدة(2) ! !
ومن لا تؤمن غوائله ، وقد عرف بالغدر والمكر والفتك لابد لمن وقف منه موقف العدو ، ونصب نفسه غرضاً مكشوفاً للأعداء أن يتحرز ، ويكون على أهبة الاستعداد للقتال والدفاع عن النفس .
استعراض القوة أمام العدو من أدبيات المقاتل المؤمن ، وقد أكد
القرآن الكريم على ذلك ، لما فيه من إرهاب للعدو وهزّ لكيانه ، وزلزلة في مواقفه فقال : « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » .
ص: 95
وروى سيد الساجدين علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليهم السلامقال :قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ صهيل الخيل ليقرع قلوب الأعداء ، ورأيت جبرئيل يتبسم عند صهيلها ، فقلت : يا جبرئيل ، لم تتبسم ؟ فقال : وما يمنعني والكفار ترجف قلوبهم في أجوافهم عند صهيلها وترعد كلاهم(1) .
وبنفس الإسناد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال : لمّا كان يوم بدر اعتم أبو دجانة بعمامته ، وأرخى عذبة للعمامة من خلفه بين كتفيه ، ثم جعل يتبختر بين يدي الصفين ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ هذه لمشية يبغضها اللّه - عزّ وجلّ - إلاّ عند القتال(2) .
فالظهور بمظهر يرهب الأعداء ، ويلقي في قلوبهم الرعب ، ويكشف لهم عن قوة رجال الحقّ واستعدادهم وتأهبهم للقتال مطلوب من أمثال رجال الحسين عليه السلام الذين اختصهم اللّه لأبي عبد اللّه صلوات اللّه عليه وعليهم .
كان زهير على ميمنة معسكر الأنبياء والأوصياء وسيد الشهداء عليه السلام فهو قائد عسكري مهم ، فلابد أن يكون على أهبة الاستعداد دائماً ، سيما وأ نّه كان يعظهم يوم عاشوراء ، وقد أزفت الحرب أن تقوم على ساق ، واستعد معسكر الحقّ ومعسكر الضلال للتلاقي ، فهو الآن يقف
ص: 96
موقف المحارب المقاتل الذي اقتحم ساحة الوغى ، ودخل الميدانالذي تحفّه المخاطر وتحوم حوله الأسنة والرماح كألسنة النيران واللظى ، وليست الموعظة هذه كباقي المواعظ التي يستمع اليها في رحاب الدعة والرخاء .
فالموقف يستدعي أن يكون المقاتل في زيه المرسوم ، وإن كان واعظاً ، بيد أ نّه يرتقي صهوة جواده بدل أعواد المنابر ، ويشير اليهم بالسنان بدل البنان . ..
ص: 97
بدأ خطابه لهم بنداء: « يا أهل الكوفة » ، والكوفة لها مكانتها ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَقُولُ : الْكُوفَةُ جُمْجُمَةُ الْعَرَبِ ، وَرُمْحُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَنْزُ الإيمَانِ(1) .
والكوفة لها تأريخها في الوقوف بوجه الضلال ، ومحاربة بني أمية ومعاوية ، ولها ثارات مع الأمويين ، فقد قتل معاوية رجالهم وشخصياتهم وكبارهم في صفين ، وبعد صفين ، فما الذي حدا بهم للوقوف مع سلطانه المتمثل بيزيد ؟! . . .
والكوفة كتبت إلى سيد الشهداء عليه السلام وسلطان المظلومين تدعوه وتعده النصر(2) .
فربما أراد زهير أن يذكرهم بكلّ هذا وغيره . . .
ص: 98
ثم إنّه ضخّ من خلال هذا الخطاب أنجع دواء لدائهم الفتاك الذي ابتلوا به يومئذ ، فلم يخاطبهم بجند الشيطان ، أو جند بني أمية ، أو جند يزيد ، أو ما شاكل ، مع أ نّهم حقّاً كذلك ، بل خاطبهم « يا أهل الكوفة » ، فأعطاهم بذلك جرعة مؤثرة تمنحهم فرصة العودة إلى الذات ، والتشبث بالإرادة ، والتمسك بالهوية الأصيلة التي ميّعتها الأطماع والرغبات والخوف من العقوبات .
« يا أهل الكوفة » . . تذكير لهم بأنّ لهم شخصية مستقلة قائمة بذاتها لها خصوصياتها ومواقفها وآراوا ، ولها أن تتخذ موقفاً بشكل مستقل ، لا يكون خاضعاً للأمويين الذي ولعوا بدمائهم . .
لقد أعلن زهير للملأ عن دوافعه في الوعظ وتقديم النصح ، ولخّصها في أمرين:
« نذار » : بفتح النون وكسر الراء ، أي : خافوا ، وهو اسم فعل من الإنذار ، وهو الإبلاغ مع التخويف(1) .
وهذا الأمر لا يستدعي أن يكون بينه وبينهم من الوشائج ما يدعوه
للقيام به ، فهو ينذرهم سواء كانوا مسلمين أو مشركين ، وعذاب اللّه ينتظرهم إن أصرّوا على معاندة إمام الدين سيد الشهداء الحسين عليه السلام .
ص: 99
فقال لهم: « نذار لكم من عذاب اللّه نذار » .
إنّه إنذار له وقع مهول على القلوب ، يهزّ الكيان ، ويرتجف له الإنسان ، وترتعد منه الفرائص والمفاصل . . نذار لكم . . من عذاب اللّه نذار !!
إنذار يشبه تماماً إنذار مؤمن آل فرعون حينما قال : « يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الأَْرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَْحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ » .
الدافع الثاني أو الأمر الثاني الذي دعاه للوقوف هذا الموقف هو أداء التكليف ، وإنصاف الآخرين من نفسه ، وقيامه بما عليه من واجب ، وما يعرفه وظيفة في دينه ، ألا وهي النصيحة .
إنّ للمسلم على مسلم حقوقاً تعلّمها زهير من أئمته عليهم السلام الذين بينوا له
دينه ، وهو الآن يقف موقفاً يريد فيه استمالة القلوب القاسية ، وتنوير الأفئدة المظلمة ، وترويض البهائم الجامحة ، وتقويم المواقف الجانحة ، وتعريف الممسوخين بهويتهم الحقيقية ، وإزاحة الغشاوة عن أبصارهم وبصائرهم .
ص: 100
قال زهير : « إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن إخوة ، وعلى دين واحد ، وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّة » .
والعصمة : أي المنعة بالإسلام ، يقال : من شهد الشهادتين فقد عصم نفسه أي منعها(1) .
كان خطاب زهير خطاباً متعدد الجوانب ، فهو يلقي الحجة عليهم ، وفي نفس الوقت يحاول إقناعهم ، وينبش رواسب قلوبهم ليكسح ما ران عليها ، ويثير كوامنهم لينفض عن فطرتهم ما تراكم عليها من الدنس والظلمات ، فيقول لهم : نحن حتى الآن إخوة ، وعلى دين واحد ، وملّة واحدة ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل . . .
إنّنا جميعاً مسلمون ، وإنّنا إخوة ، وعلى دين واحد ، فلماذا يقتل بعضنا بعضاً ، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، تعالوا نحتكم ونرجع إلى الدين الذين تدّعون أنّكم ارتضيتموه ، ارجعوا إلى الإسلام الذي تعتنقونه ، وتتعبدون اللّه به ، فإذا رضيتم أنّكم مسلمون ، فنحن وإياكم على دين واحد ، ونبينا واحد ، وقد بقي من عترته ذكرى واحدة ، ألا وهو الحسين عليه السلام ريحانته وسبطه ، فلماذا تقاتلونه وهو ابن النبي الذين تتدينون بدينه ؟
ص: 101
ونحن وإن كنّا حتى الآن إخوة ، وعلى دين واحد ، وملّة واحدة ، كانت لدمائنا حرمة ، ولكن إذا وقع بيننا وبينكم السيف انقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّة .
فلا تستحقون منّا بعدئذٍ النصيحة ، ولا حرمة لكم ، ولا تراحم ، لأنّنا ننشطر الى فريقين ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ولا تبقى بيننا العصمة ، وذلك أن لا عصمة ولا تراحم بين أهل الجنة وأهل النار .
إنّكم تحاربون اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ، وتشهرون السيف على التوحيد والقرآن ، وتسفكون دم النبي صلى الله عليه و آله ، فتخرجون من الدين برمته ، وتنكرون شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتتوغلون في الشرك ، والعبودية لغير اللّه .
خطب أمير المؤمنين عليه السلام فذكر صاحبة الجمل مرّة بعد مرّة ، فقال عمار : يا أمير المؤمنين ، كفّ عنها فإنها أمّك ؟! فقال عليه السلام : كلا ، إنّي مع اللّه على من خالفه ، وإنّ أمّكم! ابتلاكم اللّه بها ليعلم أمعه تكونون أم معها(1) ؟
وقال عمار يحرّض الناس على نصرة أمير المؤمنين عليه السلام على البغاة ، فذكر صاحبة الجمل وقال : ولكن اللّه - عزّ وجلّ - ابتلاكم لتتبعوه أو إياها(2) .
ص: 102
وفي لفظ آخر : ولكن اللّه - تبارك وتعالى - ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي(1) ؟
ورواه المفيد في الجمل بلفظ : ولكن اللّه قد ابتلاكم لينظر كيف تعملون(2) ؟
ولعل هذا يفسّر لنا قول زهير : « إنّ اللّه قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون » . .
فهناك ابتلاهم اللّه وخيّرهم بين طاعته وطاعة امرأة ركبت عسكراً ، وهنا ابتلاهم اللّه بين طاعة الحسين عليه السلام وهي طاعة اللّه ، وبين طاعة يزيد ، بين أن ينصروا اللّه أو ينصروا الطاغوت .
وقد أمرهم اللّه بمحبّة ذرية النبي صلى الله عليه و آله ونصرهم والوقوف معهم ، وأوجب المودّة لهم على الخلائق أجمعين ، وجعل مودّتهم أجر رسالة الأنبياء أجمعين ، فقال تعالى : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » ، ومن أدّى أجر خاتم الأنبياء فقد أدّى أجر الأنبياء جميعاً .
فذرية النبي صلى الله عليه و آله ابتلاء للبرّ والفاجر ، وإنّكم الآن في امتحان عسير ، لأنّكم تواجهون ذرية النبي صلى الله عليه و آله وعلى المبتلى أن يكون حذراً يقظاً لا تخبطه الفتنة ، ولا تستزله الشهوة ، ولا تغريه المطامع ، ولا يعميه بريق الصفراء والبيضاء .
ص: 103
يقول لهم : إنّنا أمام مفترق طريق لا محيص عن الاختيار فيه ، فإمّا أننكون مع ذرية النبي صلى الله عليه و آله على عدوّه ، فنكون من الفائزين ، أو نكون مع عدّوه حرباً على ربّ العالمين !
والابتلاء لنا جميعاً سواء ، فقد ابتلانا اللّه وإياكم . . . أمّا نحن فقد اخترنا الحسنيين معاً .
« إنّا ندعوكم إلى نصرهم » . .
إنّهم قد ران على قلوبهم ، وغطّت أبصارهم غشاوة ، فلا يستطيعون
تمييز الحقّ من الباطل ، وقد ركبتهم الفتنة ، وأعمت أمواجها بصائرهم ، فانبرى زهير يعينهم على تمييز الحقّ ، ويدلّهم على الطريق ، ويأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم ، فيدعوهم لنصرة الذرية الطيبة ، وينصحهم ، ويحدد لهم معالم طريق الحقّ والهدى والفوز بالجنان .
والفوز بنعيم الدنيا والآخرة منحصر في أمرين يقومان معاً :
أحدهما : نصر آل محمد صلى الله عليه و آله .
والآخر : خذلان الطاغية .
دعاهم إلى نصر آل محمد صلى الله عليه و آله ، وخذلان الطاغية ، وذكرهم بما ذاقوه في ظلّ الحكم الأموي الغاشم ، على يدي الأدعياء من أمثال زياد وابنه . .
ص: 104
« وخذلان الطاغية عبيد اللّه بن زياد ، فإنّكم لا تدركون منهمابسوءعمر سلطانهما كلّه ، ليسملان(1) أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه ، وهانئ بن عروة وأشباهه » .
إنّها دعوة صريحة واضحة ، ونصيحة نيرة لائحة ، حدّد فيها زهير
لكلّ ذي عينين معالم الطريق ، ورسم له منار المسار ، وأقام عليهم الحجة الساطعة ، دعاهم بصراحة إلى نبذ الأوثان العالقة في أعماقهم ، والتخلص من الأغلال التي صفّدت قلوبهم ، والإقلاع عن ممارسة بيع الآخرة بدنيا غيرهم ، فشجعهم وهزّ نفوسهم المستسلمة بدعوتهم إلى خذلان الطاغية ابن زياد ، فإنّه يمثّل الباطل بعينه ، وقد بان ذلك في مواجهته إمام زمانه المفترض عليه طاعته ، وإطاعته الأدعياء والطلقاء وخدمتهم ، واستدلّ لهم بتاريخه الأسود الذي تتدفق الدماء البريئة من كلّ سطوره وصفحاته .
وقد ذكّرهم زهير بمشاهد عاصروها ، ورأوها مل ء العين ، واكتووا بنارها الحامية ، ولا يزالون يئنون من لظاها ، وذكرهم بشخصياتهم وروسهم الشامخة التي اقتطفتها أحقاد الأمويين وأذنابهم من أمثال
حجر بن عدي وهاني بن عروة الذين صرّح باسميهما ، ومن أمثال ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهما ممّن ذكرهم بالصفة التي لقوا اللّه
ص: 105
بها على يدي شرار خلقه من قبيل قطع الأيدي والأرجل والصلبعلى جذوع النخل ... .
وقد اقتبس زهير كلامه هذا من كتاب الإمام الحسين عليه السلام لمعاوية حيث يقول عليه السلام في كلام له : .. ألست القاتلُ حجرا أخا كندة والمصلين العابدين ؟ الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في اللّه لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة ، والمواثيق المؤكدة ، أن لا تأخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم ، ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك عليهم .
أوَ لست قاتل عمرو بن الحمق ، صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ العبد الصالح
الذي أبلته العبادة فأنحلت جسمه ، واصفرّ لونه ، بعد ما أ مّنته وأعطيته عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ، ثمّ قتلته جرأة على ربك ، واستخفافا بذلك العهد .
أوَ لست المدعي زياد ابن سمية ؟ المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » ، فتركت سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله تعمّدا ، واتبعت هواك بغير هدى من اللّه ، ثمّ سلّطته على العراقين ، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ، ويسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأ نّك لست من هذه الأُمة وليس منك ...(1) .
ص: 106
فزهير إذن يتابع المشهد منذ ذلك اليوم ، منذ أن تمادى معاوية ومنسلّطه على رقاب المسلمين في الإجتراء على دماء الأخيار والأبرار من أمة محمد صلى الله عليه و آله وأتباع أمير المؤمنين عليه السلام .
أمّا ضمير التثينية في قوله « يسملان » « سلطانهما » « يقتلان » الخ فيحتمل فيه أمران :
أن يكون المراد عبيد اللّه وأبيه زياد ، فهو يريد أن يذكرهم بما فعل زياد في الكوفة من قتل خيارهم واستبقاء شرارهم ، وقد فعل الأفاعيل ، ولعل نسخة ابن الاثير وابن كثير والسيد الأمين تؤكد هذا المراد .
ففي الكامل لابن الأثير(1) والأعيان(2) للأمين : « وخذلان ابن الطاغية عبيد اللّه بن زياد » .
وفي البداية والنهاية لابن كثير : « وخذلان الطاغية ابن الطاغية ، عبيد اللّه بن زياد(3) » .
وكذا فهم الأستاذ الباحث محمد نعمة السماوي فقال في غضون كلامه عن خطبة زهير: « وقد دعاهم صراحة إلى نصرة الحسين عليه السلام
ص: 107
وخذلان الطاغية عبيد اللّه بن زياد ، وكان استعراضه لبعض أفعالهوأفعال أبيه زياد من قبل ، وعدم تحرجه من نعته بالطاغية يدلّ على أ نّه لم يكن أمامه إلاّ شبحاً هزيلاً غير جدير أن يخاف منه حتى أضعف الناس ، فكيف به ، هو الذي حمل قضية الإمام الحسين عليه السلاموتبني قضية الإسلام
الذي أوشك أن يدمر ويبعد عن الحياة(1) » .
ويؤكده ما روي من مقاطعة القوم له وردّهم عليه فيما رواه الشيخ السماوي في إبصار العين قال : فسبوّه وأثنوا على عبيد اللّه بن زياد وأبيه(2) . . . وهذا يعني أنّ الأوغاد فهموا منه إرادة زياد ابن أبيه لا يزيد - لعنهما اللّه - ، لأ نّهم أثنوا عليه في مقام الردّ على زهير .
فيكون حينئذٍ مرجع الضمير إلى زياد وابنه ، ولكن قد لا يوثق كثيراً بدّقتهما في النقل ، فقد رأينا ابن الأثير يضيف على ما زعموا أ نّه من قول مسلم بن عقيل حينما عزم على اغتيال ابن زياد في بيت هاني ، ثم امتنع ، فلمّا سئل عن ذلك قال : لما تذكرت من قول النبي صلى الله عليه و آله : الإيمان قيد الفتك ، ولا يفتك مؤمن بمؤمن ، فأضاف « بمؤمن » دون غيره من الرواة والمؤرخين ، ليقرر الإيمان لابن زياد ، أو ينسب هذا الاعتقاد لمسلم عليه السلام فيكون الممتنع والممتنع عنه مؤمنين
ص: 108
(1) !!!
فربما كان الطاغية ابن الطاغية كما أفاد ابن كثير ، أو ابن الطاغية كما أفاد ابن الأثير من زيادتهما ، لئلا يشمل الكلام أميرهم يزيد الذي عقدالأول فصلاً كاملاً في الدفاع عنه ، وإن كانت - بغض النظر عن سوء الظن بنقلهما - نافعة في المقام ، لأ نّها تكشف لنا عائد الضمير صراحة .
أن يكون المراد عبيد اللّه بن زياد ، ومن أمّره وخوّله بقتل الحسين عليه السلام
خليفته طاغية بني أمية يزيد ، فقد ورد في كتاب مقتل الحسين عليه السلامللسيد عبد الرزاق المقرم رحمه الله نقلاً عن تاريخ الطبري ما هذا لفظه :
« . . . إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد اللّه بن زياد ، فإنّكم لا تدركون منهما(2) . . . » .
وكذا نقل الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه حياة الإمام الحسين عليه السلام : 3/188 طبعة مدرسة الإيراواني ، نقلاً عن تاريخ الطبري : 6/243 ، ولكنّه عاد - حفظه اللّه - فنقل عبارة الطبري الموجودة في النسخة المطبوعة المتوفرة حالياً ، في الطبعة العاشرة من كتابه المذكور ( طبعة المؤسسة الإسلامية للبحوث والمعلومات ) .
وعلى حدّ نقل السيد المقرم والشيخ القرشي في الطبعة السالفة عن نسختيهما من تاريخ الطبري يكون مرجع الضمير واضحاً ، ويكون زهير قد صرّح باسم يزيد لعنه اللّه .
ص: 109
ولكننا قد نواجه سؤالاً يولد حينما يقال بعودة الضمير إلى يزيدوعبيد اللّه بن زياد - لعنهما اللّه - مع عدم وجود تصريح باسم يزيد ، بناءاً على النسخ المشهورة ، والسؤال هو : لماذا لم يصرح زهير باسم يزيد - لعنه اللّه - في خطبته ؟
ربما كان السبب في عدم ذكر يزيد صراحة وعلانية لاعتبارات ثلاث :
إنّ القرائن المقامية ، وضرورات الموقف ، دالة عليه بوضوح ، ولا شكّ أنّ ابن زياد لم يكن ليقدم على ما أقدم عليه لولا أمر سيده وإلاهه يزيد ، فهو يذكرهم بما فعل زياد في سالف الأيام بأمر معاوية ، ويقول لهم ذينك كهذين ، فهذا يزيد مقام معاوية ، وعبيد اللّه مقام زياد ، وما أشبه اليوم وغد بالبارحة إن رضيتم بهم أسياداً .
دأبه في التقية التي عمل بها طوال حياته ، كما مرّ سابقاً ، سيما إذا لاحظنا أ نّه بدأ كلامه بكلام مؤمن آل فرعون ، وختم له الحسين عليه السلامبتشبيهه بمؤمن آل فرعون .
إنّه لا يريد أن يستفزهم ويثير حفيظتهم ويلجأهم إلى التخندق والاعتزاز بالإثم ، ويقدم على سبّ ما يقدّسونه جهلاً وضلالاً ،
ص: 110
فهو يصرح بابن زياد ، لانّه معروف لديهم هو وأبوه من قبل ، ولا يجهل أحد أ نّه دعي ابن دعي ، وقد اكتوى الكوفيون بناره يوم دخل عليهم منالبصرة كأنّه حممة .
أمّا يزيد - لعنه اللّه - فإنّهم يزعمون - علواً واستكباراً - أ نّه خليفة ، وفي موقع يظنون جهلاً وعتواً أ نّه كبيرهم ، فهو لا يتعرّض له مباشرة ، لأدبه ومعرفته بأساليب الوعظ والإرشاد ، واستدراج العقل ، وترويض العواطف ، واستمالة القلوب .
قال : فسبّوه ، وأثنوا على عبيد اللّه بن زياد ، ودعوا له ، وقالوا : واللّه لا نبرح حتى نقتل صاحبك ، ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد اللّه سلماً .
نصحهم فسبوه ، وفضح لهم عبيد اللّه بن زياد ، فدعوا له وأيّدوه ، ودعاهم إلى نصر الحسين عليه السلام وخذلان الطاغية ، فخيّروه بين القتل والاستسلام للطاغية !!
دعاهم إلى الانتقال من الظلمات إلى النور ، ومن الباطل إلى الحقّ ، ومن الشقاء في الدارين إلى السعادة في نعيم الحسين عليه السلام إلاّ أ نّهم قابلوه
بالسبّ والاستفزاز ، ولم نسمع واحداً منهم دعاه للانحياز إليهم ، والانتقال إلى صفوفهم ، والعدول عن موقفه والانضمام إلى صفوفهم باعتبارهم يمثّلون الخطّ الأقرب إلى الإسلام أو الحقّ .
ص: 111
كما أ نّنا لم نسمع أحداً من القوم يرمي زهيراً بالتعثمن ، أو يعاتبه على موقفه مع الحسين عليه السلام ضدّ الأمويين ، ولو كان زهير عثمانياً كما زعم عزرةلعنه اللّه لكان هذا الموقف أجدر بالاعتراض عليه ، ولكان القوم كلّهم قد التفتوا إلى إنقلاب زهير من عثماني متهالك في الخط الأموي الزاعم أ نّه ينتقم من أمير المؤمنين عليوأصحابه لدم عثمان ، إلى صفّ الحسين عليه السلام الممثل الشرعي لأمير المؤمنين عليه السلامولعيّروه بذلك وعابوا عليه هجومه على أعضاد الأمويين وأذرعة بطشهم من أمثال الدعي ابن الدعي عبيد اللّه بن زياد .
ص: 112
عجيب أمر زهير في موقفه هذا ، ويحقّ لنا أن نقول أ نّه قد رشحت عليه شآبيب العصمة ، لأ نّه كان يتكلّم على مرآى ومسمع من المعصوم عليه السلاموبإذنه ، وقد أمضى المعصوم كلّ كلامه وتصرفاته .
ومن هنا نعرف ضرورة الإهتمام بكلام زهير ومواقفه وتصرفاته منذ أن رافق الحسين عليه السلام باعتباره انضوى داخل دائرة المراقبة المستمرة للمعصوم ، سيما وأنّ الموقف كان موقف حرب ، فلا يتصرف حينئذٍ أيّ فرد من الأفراد إلاّ بعد الاستئذان ، فكيف إذا كان القائد هو المعصوم ، والمقاتل هو المؤمن الذي لا يرى نفسه في سعة ما لم يأذن له إمامه في حياته العادية فضلاً عن إمتثاله له في ساحات القتال ، وأنّ الحرب التي يباشرها هي تكليف شرعي ، وأمر إلاهي يكشف عنه المعصوم ويتمثّل في شخصه .
لقد امتاز زهير هنا بسعة الصدر ، والصبر ، والتحمل ، والحرص على إقامة الحجة ، بشكل يثير الدهشة ، وقد رأيناه يقابلهم بالحجة والمنطق والعقل والعاطفة والدين والدنيا والآخرة ، فيجابه بالسباب والشتائم
ص: 113
والتهديد والوعيد ، والردود الوقحة ، وهو مع هذا كلّه يرجع إلى كلامه ، فيخاطبهم بتؤدة ورزانة ومتانة وكياسة ووقار وحلم يعزّ له مثيل .
« فقال لهم : عباد اللّه ، إنّ ولد فاطمة رضوان اللّه عليها ، أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمية ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية ، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام .
وقد تضمّن هذا المقطع على اختصاره من البلاغة والروعة والمتانة
والحجج ما يفحم الخصم ، ويفلج قلب المحبّ ، ويزيده اطمئناناً ويقيناً ، لأ نّه يدعوهم إلى التأمل في حقائق يدركها كلّ ذي مسكة ، أو شيء يسير من الإنصاف :
عباد اللّه . . صعقة جديدة لعلّها تهزّ الكيان الميت ، وتفيق الضمير المتحجر ، لو كان ثمة أمل في الأموات .
خاطبهم بعباد اللّه ، ليقول لهم : إنّكم عباد اللّه ولستم عبيد عبيد اللّه ابن زيد أو يزيد ، وعلى عباد اللّه أن يحبّوا من أحبّه اللّه وأمر بحبّه ، ويبغضوا من أبغض اللّه وأمر ببغضه .
وقد أحبّ اللّه حسيناً ، وأبغض يزيد وابن زياد ، وأحبّ ولد
فاطمة عليهاالسلاموأبغض بني أمية ، فأيّهما أحقّ بالود والنصر ؟!
ص: 114
قال الأستاذ محمد نعمة السماوي : كانت المقارنة بين أبناء سيدة نساء العالمين ، ومن أذهب اللّه عنها الرجس وطهرها تطهيراً ، وبين ابن البغي المشهورة سمية ، صاحبة الراية في الجاهلية كفيلة بإثارة كلّ من يشعر بانتماء حقيقي لهذا الدين الحنيف .. ، فهل من المعقول أن يتخلّى الناس عن أبناء فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويختارون نصر ابن سمية ، ويذهبون إلى المدى الذي ينفذون به كلّ رغباته ، وفي مقدمتها قتل الحسين وآله وأصحابه(1) .
« ولد فاطمة عليهاالسلام أحقّ بالودّ والنصر » عبارة كرّس فيها زهير كمّاً هائلاً من الأدلة القرآنية والحديثية ، وذكرهم بقوله تعالى : « قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى » ، وذكّرهم بما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله في سبطه وريحانته الذي أحبّه وأمر بحبّه .
وذكّرهم أيضاً بدناءة ابن زياد ، ولؤم أصله ، ونجاسته وقذارة نسبه ، والرجس الذي ترعرع فيه ونشأ .
وهو يعلمون هذه الحقائق جيداً ، فكيف يتردّدون بنصر الحسين عليه السلام
وهم يعلمون أ نّه ابن فاطمة عليهاالسلام التي جعل اللّه غضبه في غضبها ، ورضاه في رضاها ؟
قد يتردّد العاقل إذا دار أمره بين الحسن والأحسن ، أو بين الطاهر والأطهر ، أو بين عدلين متقاربين في الوزن والصفة ، أمّا أن يتردّد الإنسان
ص: 115
بين الطهارة المطلقة والنجاسة المطلقة ، أو بين الحسن المطلق والقبح المطلق ، أو بين النقاء والصفاء والنور وبين الدرن والرجس والكدر والنجس والظلمة ، فهذا ما لا يمكن أن يتصوره أحد .
ويكشف هذا الكلام عن مدى عمق إيمان زهير وولائه ومعرفته بأهل البيت عليهم السلام وأعدائهم ، وقد تضمن كلامه الداعي إلى نصر الحسين عليه السلام وخذلان الطاغية ، والتمييز بين ولد فاطمة عليهاالسلام وابن سمية ، كلّ معاني الولاء والبراءة .
إنّه دعاهم قبل قليل إلى دعوتين : إحداهما: نصر آل محمد ، والثانية: خذلان الطاغية ، والآن يتنزل معهم في المحاججة ، ويهوّن عليهم الخيار ، فيقول لهم: إذا كنتم قد اخترتم الشقاء ، والتفت الساق بالساق ، وأبيتم نصرهم ، فإنّ ترك نصرهم وبقائكم مع الطاغية يؤول في النهاية إلى قتلهم ، فإذا فقدتم الإرادة فلم تعودوا في موقف تسمح لكم نفوسكم باتخاذ قرار ، فإنّي ألجئكم إلى اللّه القوي القادر ، إلجأووا إلى اللّه ، فهو ربّكم
والقادر على حمايتكم وإعانتكم ، فإنّكم إن بقيتم على حالكم هذه من الإبتعاد عن اللّه فلا محال سيستحوذ عليكم الشيطان وتسلمون القياد لأنفسكم وشهواتكم وعماكم وضلالتكم ، فتقتلوهم . . . « فإن لم تنصروهم فأعيذكم باللّه أن تقتلوهم » .
ص: 116
لم يجد زهير أي تجاوب أو انفعال في القوم ، فدعاهم هذه المرّة إلى أمر كان محرجاً لهم لو كانوا أصحاب مبدأ أو قضية ، أو كانوا يعقلون .
دعاهم إلى الحياد ، فبنو هاشم يرتبطون في ظاهر الأنساب مع بني أمية ارتباطاً عضوياً ، فهم أبناء عم ، فما دخل الغرباء الهمج الرعاع بين الأقرباء ، وبهذا سلبهم حججهم وأفرغهم من كلّ دعوى . « فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية » .
وهنا يلامس زهير وتراً حساساً ، فيستهدف أهم الخطوط التي استعملها ابن زياد في تجييش الخواطر ، وتأليب النفوس ، ويقطع الأواصر بين القيادة والقاعدة ، فيشكّكهم في مواقفهم.
فمن ذا الذي يزعم أن يزيد أراد منكم قتل الحسين عليه السلام ولو أنّكم استعذتم باللّه ، فأعاذكم ، وتركتم قتل الحسين عليه السلام فإنّ يزيد يرضى عنكم ، وليس رضا يزيد عنكم منحصر في قتل الحسين عليه السلام فابحثوا لكم عن طريق آخر يضمن لكم رضاه ، دون قتل سيد شباب أهل الجنة . . « فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام » .
لم يترك زهير أيّ حجّة إلاّ أقامها ، ولم يترك لهم أيّ زعم إلاّ فنده ، فماذا ترى سيكون جواب القوم ؟!
لم يكن القوم من ذوي البصائر والنطف الطاهرة ، ولا من أهل الكلام
ص: 117
والحوار ، ولم تكن عندهم أيّ حجّة ولو كانت واهية ، بل لم تكن الأخلاقيات والمنطق من أدبياتهم ، فركنوا إلى ما تطفح به آنيتهم من الأقذار والكدر والوقاحة والزيف ، فنبذوا الحياء ، وجانبوا الصواب ، وأخلدوا إلى السقوط في النتن والعفن الذي تنطوي عليه صدورهم ، وأجابوه بمنطقهم المعهود ، حيث يقارعون الحجة بالسيف ، والكلمة بالنبال ، فانبرى له شمر بن ذي الجوشن فرماه بسهم ، وقال : اسكت ، أسكت اللّه نأمتك(1) أبرمتنا بكثرة كلامك .
وما عسى هذا الوحش الكاسر وأشباهه من حاشية ابن زياد أن يفهم
من كلام زهير ، وكيف لا يتبرّم ، وهو لا يريد أن يفهم كلام إمام الكلام ، فيقول لسيد الشهداء عليه السلام ما نفهم ما تقول يا ابن فاطمة عليهاالسلام !!
وقد احتقره زهير أيما احتقار ، وأجاب سهمه بسهام من لسانه الذي
استله كالسيف في الذبّ عن آل الرسول صلى الله عليه و آله ، ووضع شمراً في الحضيض
الذي يليق به . . .
فقال له زهير : يا ابن البوّال على عقبيه ، ما إياك أخاطب ، إنّما أنت بهيمة ، واللّه ما أظنّك تحكم من كتاب اللّه آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم .
فشمر منحدر من عائلة بدوية قذرة ، لا يعرف كبارها حتى كيف يبولون ، وغاية علمهم أن يقفوا كالبهائم ويملؤوا شقوق أعقابهم ببولهم .
ص: 118
وزهير يعرف شمراً ، يتحسس غلظته وجفاءه وبداوته ووحشيته ، وأ نّه ممّن ختم اللّه على قلوبهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، فهم لا يعقلون ، ولهذا قال له: ما إياك أخاطب ، فلا يكون شمر كليماً لزهير ، وهل يكلّم البشر الكامل العاقل البهيمة ؟!
وقد استعمل زهير كلّ وسائل التأكيد والحصر لئلا يخرج شمر بأيّ
مبرر من حضيرة البهائم: « إنما أنت بهيمة » .
هذا من الناحية التكوينية ، أمّا إذا أراد شمر أن يدعي شيئاً في الدين ، فقد أوقفه زهير عند حدّه مؤكداً كلامه بالقسم ، وقال له : « واللّه ما أظنّك تحكم من كتاب اللّه آيتين » ، أيّ آيتين ، من أول كتاب اللّه الكريم إلى آخره .
ثم رسم له ولمن يسمع تحاورهما العاقبة التي تنتظره ، فقال: « فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم » . ولكن « لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ »(1) .
فقال له شمر : إنّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة .
قال : أفبالموت تخوفني ؟! فواللّه للموت معه أحبّ إليّ من الخلد
معكم .
ص: 119
ردّ شمر على زهير ردّاً وقحاً ، يكشف عن صلافته وغيّه ومدى ولعه
بسفك الدماء الطاهرة ، وعمق الضغائن والأحقاد الدفينة والمتجذرة في وجوده العفن ، إنّه لا يفهم سوى لغة التهديد والقتل وسفك الدماء ، ينتظر قتل سيد الشهداء عليه السلام وأصحابه لحظة بعد لحظة ، ويتوثب لحرب اللّه ورسوله وتمزيق صفحات القرآن المتمثلة في وجود سبط النبي صلى الله عليه و آله .
فأجابه زهير بجواب يدهش السامع ، ويحيّر اللبيب ، لما تضمن من
بلاغة وفصاحة وعمق في الولاء ، وتفاني في الحبّ حتى ليحسب الإنسان أن لو أراد الناس كلّهم أن يعبّروا عمّا عبّر عنه زهير في حبّه للحسين عليه السلام لما استطاعوا أن يعبّروا عن كلّ هذا الحبّ الذي لا يبلغ أحد مداه ولا يتصور بشر عمقه وشدّته ومستواه ..
وقد تضمّن الجواب أميرين :
فإنّ أقصى ما يخوّف به الإنسان هو الموت ، وقد تضمّن تهديد شمر بالقتل الإشارة الى أ نّه سيقتل زهير والحسين عليه السلام معاً ، والموت عند زهير مع الحسين عليه السلام وفي سبيله أقصى ما يتمنّاه ، وقد خرج منذ فترة طويلة
متحملاً أعباء السفر ، ومتجشماً الغربة والتشرد في الفيافي والقفار انتظاراً لهذا اليوم الموعود ، فالموت في هذا اليوم ، والتضرج بدمه على رمضاء كربلاء التي ستحتضن جسد ريحانة الرسول صلى الله عليه و آلهأحلى عنده من العسل ، وتحقيقاً لغاية المنى ، فبماذا يهدد هذا الجلف الجافي ؟!
ص: 120
ولهذا قال له : أفبالموت تخوفني ؟! فردّ عليه تهديده ، وخيب سعيه ، وألقمه حجراً كسّر أنيابه .
سبحان اللّه . . واللّه أكبر . . يقسم زهير قسماً باراً ويقول : فواللّه للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم .
ولا يبدو أنّ المقصود في كلام زهير هو الموت الذي يعبر به إلى الجنان مع الحسين عليه السلام فحسب ، وإنّما يوحي كلامه بالموت الذي يعتقده شمر وأمثاله ، والخلود الذي يظنونه هم في معتقدهم وتصوراتهم .
فالموت بالمعنى الأول لا شك عند زهير وعند غيره ممن يؤمن بالآخرة والمعاد أفضل من الحياة مع هؤلاء وغيرهم ، إلاّ أنّ الخلد في الدنيا التي هي نعيم عند الكفار والمنافقين ، وخلاص من النار وسجين ، والموت أول العذاب والرحيل الى دركات الجحيم . .
فيكون من معاني كلامه في هذا الترجيح أ نّه يقول لهم : إنّ الحسين هو جنتي ونعيمي ، هو أقصى أمنيتي وأملي . . . .
فلو كان الخلود في الدنيا نعيما كما تظنونه ، فإنّ الموت مع الحسين عليه السلام
أحبّ إليّ ، لأنّ نعيم الموت مع الحسين عليه السلام أولى من الخلد في نعيمكم
البائس الهزيل التافه .
احتقر زهير شمراً ، وأعرض عنه ، لأ نّه أعلى شأناً ، وأرفع مقاماً
ص: 121
من أن يكّلم بهيمة ، ويتردّد في الحوار معه ، ليعلم كلّ من حضر أنّ شمراً ليس ممن يستمع اليه ، ولا يستحق أن يصغى العاقل الى كلامه ، فأقبل على الناس رافعاً صوته ، فقال :
عباد اللّه ، لا يغرنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فواللّه لا تنال شفاعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم قوماً هراقوا دماء ذريته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم .
وتضمن هذا المقطع من كلامه أقوى الحجج ، وأبلغ النصيحة ، تتلخص في ما يلي :
أولاً : إنّكم عباد اللّه .
ثانياً : إنّ شمر وأشباهه من الأجلاف الجفاة يريدون أن يغرّوكم من دينكم ، فلا تلتفتوا لهم ، لأ نّهم أجلاف جفاة ، وحقراء نكرات ، يبغون لكم الفتنة ، ويدعونكم إلى النار .
ثالثاً : إنّكم عباد اللّه ، وتدعون أنّكم تتدينون بدين نبيه محمد صلى الله عليه و آله ، وتزعمون أنّكم ترجون شفاعته لينقذكم يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ويعبر بكم على الصراط الى الجنان ، فكيف ترجون شفاعته ونصرته يوم القيامة وأنتم تسفكون دماء ذريته ، وأهل بيته ، ومن أغاثهم ، وحماهم ودافع عنهم ونصرهم .
رابعاً : خيّرهم بين فريقين ، فريق يقوده الأجلاف الجفاة ، وفريق يقوده رجل تجلّت فيه أسماء اللّه ، وأنصاره الذين عرفوا بالرحمة والرأفة والرفق والحلم والوقار.
ص: 122
خامساً : أثار فيهم حميتهم وغيرتهم ، إن كانت فيهم بقية من غيرة أو حمية ، فذكّرهم أنّ الذين وقفوا مع الحسين عليه السلام إنما قاموا للذبّ عن حرمات اللّه ، وتنادوا للدفاع عن حرم نبيهم ، واستماتوا في صون المخدرات من عقائل الوحي ، لئلا يقترب من أسوار خدرهن هؤلاء الجفاة الأجلاف .
ص: 123
قال : فناداه رجل فقال له : إنّ أبا عبد اللّه يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والابلاغ(1) .
يبدو من سعة صدر زهير ، وإصراره في إقامة الحجة على القوم ، وعلو همّته في كسب وسام « لئن يهدين اللّه بك رجل » ، وقوته في الإبلاغ والوعظ أ نّه سيبقى واقفاً يعظ القوم ويحتج عليهم ، ولو كلّفه ذلك دهراً ، حتى يتيقن أ نّه قد أدّى ما عليه ، وأنجز تكليفه ، ولا يمكن أن يطمئن إلى هذه النتيجة إلاّ إذا أخبره المعصوم بذلك ، وربما كان نداء الحسين عليه السلام لذلك .
فناداه أن أقبل . . ولم يقل له عد أو ارجع أو أدبر ، وإنّما « أقبل » ، لأ نّه سوف ييمم وجهه نحو الحسين عليه السلام والحسين عليه السلام هو وجه اللّه الذي منه يؤتى ، فهو الإقبال بعينه .
ص: 124
ثم أقسم له الحسين عليه السلام بحياته هو ، بحياة محبوبه الذي يتمنى الموت معه ، والموت معه عنده أحبّ من الخلد مع غيره ... أقسم له بأحبّ مقدس عنده ، أقسم له بحياة الحسين عليه السلام . .
وطمأنه أ نّه أدّى ما عليه ، وأنّ القوم لا ينفعهم النصح ، لأنّك نصحت وأبلغت ، « لو » نفع النصح ، و« لو » أداة أمتناع لامتناع !!!
أمّا تشبيهه بمؤمن آل فرعون ، فقد مرّ الكلام فيه مفصلاً .
قال الشيخ باقر شريف القرشي - حفظه اللّه - تعليقاً على خطاب زهير : « ووجم الكثيرون ، واستولت عليهم الحيرة والذهول ، ولمّا رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن خاف أن يثوب الجيش إلى الرشاد ، فسدّد سهماً إلى زهير ، وهو يقول: اسكت أسكت اللّه نأمتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك(1) » .
ربما كان في كلامه - حفظه اللّه - إشارة إلى أنّ الجيش قد انفعل ، ولو انفعالاً بسيطاً بكلام زهير ، بحيث دعاه الخطاب إلى الوجوم والتردد في الموقف ، والحيرة والذهول ، حتى أنّ شمراً اكتشف ذلك في وجوههم ، وقرأ ما في ضمائرهم وصدورهم ، فانبرى يشوّش عليهم انقطاعهم وخلوتهم بأنفسهم ، ويربك عليهم وجومهم ، ويخرجهم من حيرتهم ، وينبههم عن ذهولهم .
ص: 125
وكأنّ هذا الوغد الجلف الجافي الأرعن الفتاك يمكنه أن يقرأ الأفكار ، ويستكشف المواقف ، ويستشرف ما يقبل من الأحداث ، فيما نسمع الحسين عليه السلام يقرر لنا حقيقة تخالف ذلك تماماً حينما قال : أقبل ، فلعمري لئن
كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والإبلاغ(1) .
لم يكن في أدبيات شمر وأصحابه ما يعبّرون به سوى السباب والشتائم
والتهديد بالقتل ، فلم يكن جوابه القاسي الوقح إلاّ تعبيراً عن حجته في الخصام ، وهذا هو دأبهم .
قال الأستاذ محمد نعمة السماوي : وإذا ما كان أمثال ابن زياد ، يجدون دائماً أمثال شمر يدافع عنهم بالسباب والقول البذيء الفاحش ، ويشهر السيف بوجه أعدائهم ، فليس معنى ذلك أ نّهم على حقّ ، وإلا فلماذا لا يلجأون إلى الحجة القوية الدامغة ، يسكتون بها حجج أعدائهم من أمثال زهير ، إذا كانت لديهم مثل تلك الحجة(2) .
وقد أتمّ زهير الحجة عليهم ، ولم يبق لهم مجالاً للشك أو التردد أو الوجوم ، فقد لاح الحقّ واتضحت معالمه جلية ناصعة لا غبار عليها ولا تعتيم « ومع ذلك فلم يستجب له أحد ، وبدا أنّ الحشد الذي تألّف منه
ص: 126
جيش ابن زياد كان فاقد الإرادة تماماً ، وإذا ما كان قد عزم على شيء ، فإنّما على البقاء جثة هامدة بين أيدي الأعداء أعوان السلطة ، يقلّبونه كيفما يشاون ، ويسيّرونه وفق هواهم وأغراضهم .
كان الجميع مصممين على أمر واحد ، وهو عدم الاستماع لحجج أصحاب الحسين عليه السلام تماماً كما كان يفعل المشركون في زمن الجاهلية الأولى ، إذ يضعون أصابعهم في آذانهم ، ويصرخون ويعربدون ويسخرون ويضحكون ، لئلا يصل إليهم صوت الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ، وأصوات أصحابه ، وهي تردد آيات الكتاب العزيز ، وتدعوهم إلى اللّه وإلى دينه القويم . . . »(1) .
فلا يبدو أنّ الدافع لشمر في مواجهة زهير بوقاحة وانعدام أدب هو تقديره للموقف ، وإدراكه للإفرازات وردود الأفعال المتوقعة من تأثير كلام زهير في جيشه ، وإنما هو سخفه وضعفه وفظاظته وغلظة طبعه وطينته القذرة ، وهكذا هو كلام شمر ، ولا يعرف شمر إسلوباً آخر في الكلام سواء كان في الحرب أو في السلم ، مع العدو أو مع الصديق .
كما أ نّنا لم نجد في التاريخ أيّ مؤشر - مهما كان ضعيفاً - على تأثر الجيش بأيّ أشكال التأثر والإنفعال ، ولو على مستوى الوجوم والذهول والحيرة ، بل كان تقرير سيد الشهداء عليه السلام وأعرف الخلق بالخلق على
خلاف ذلك تماماً !!!
ص: 127
قال ابن أعثم الكوفي : وخرج .. زهير بن القين البجلي ، وهو يرتجز ويقول :
أنا زهير وأنا ابن القين*أذودكم بالسيف عن حسين
إنّ حسيناً أحد السبطين*من عترة البر التقي الزين
ذاك رسول اللّه غير المين*أضربكم ولا أرى من شين(1)
يا ليت نفسي قسمت نصفين(2)
وقال الطبري : وقاتل زهير بن القين قتالاً شديداً ، وأخذ يقول :
أنا زهير وأنا ابن القين*أذودهم بالسيف عن حسين
قال : وأخذ يضرب على منكب حسين عليه السلام ويقول :
أقدم هديت هادياً مهدياً*فاليوم تلقى جدّك النبيا
وحسناً والمرتضى علياً * وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد اللّه الشهيد الحيا(3)
ص: 128
وقال الخوارزمي في المقتل : « أقدم حسين هاديا مهدياً » الأبيات التي تقدّمت للحجاج بن مسروق ، فلا أدري أهو منشؤها أم الحجاج بن مسروق(1) ؟
ص: 129
يلاحظ أحياناً أنّ أكثر من واحد من أصحاب الحسين عليه السلام يرتجزون برجز واحد ، ولذا نجد الخوارزمي يتردّد في نسبة الأبيات التي ارتجز بها زهير الى الحجاج أو زهير ، فهو لا يشكك في أ نّهما ارتجزا بها معاً ، ولكنّه لا يدري من المنشيء أولاً .
إنّ زهير بن القين كانت له أكثر من حملة ، وأكثر من هجمة على الأعداء ، وقد برز يقاتل عدّة مرات منذ أن بدأت المعركة ، وزحفت جيوش الظلام لإنطفاء نور اللّه ، ولهذا كان له أكثر من رجز .
قوله :
أنا زهير وأنا ابن القين * أذودكم بالسيف عن حسين
إنّ حسيناً أحد السبطين * من عترة البرّ التقي الزين
ص: 130
ذاك رسول اللّه غير المين * أضربكم ولا أرى من شين
يا ليت نفسي قسمت نصفين
عرّفهم أولاً بنفسه ، وهو يعلم أنّ اسمه وحده كاف في ضعضعة أركان
معسكر الأعداء ، فهو نجم زاهر بين « فرسان المصر » ، واسمه معروف عند المشركين والمعاندين الذين خرجوا لحرب اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ، وقتال سيد شباب أهل الجنة .
فذكره اسمه واسم أبيه كاف في الإنتساب ، ولا حاجة للإطالة ، بعد أن دمدم عليهم بالصاعقة الحارقة « زهير بن القين » .
ثم ذكر لهم ما يريد أن يصنع بهم ، وهو الشجاع البطل الذي يستحثّ
بسيفه ملك الموت في الإجهاز على أعداء الحسين عليه السلام إنّه يريد أن يذودهم
بالسيف ، يكردهم ويطردهم ويحصدهم بسيفه ، في صورة مؤثرة تقطع الأكباد حزناً على قرّة عين البتول عليهاالسلام وريحانة الرسول صلى الله عليه و آله .
« أذودكم بالسيف عن حسين » يرسم لنا صورة الوحوش الكاسرة التي كشرت عن أنيابها وأحاطت بالحسين عليه السلام كالهيم العطاش التي تتزاحم وتتدافع لترد الماء ، وزهير الفارس الضرغام يذودهم ويدفعهم بسيفه عن سيد شباب أهل الجنة عليه السلام .
ص: 131
ثم ذكر لهم سبب دفاعه عن الحسين عليه السلام وذوده إياهم بالسيف ، فمن هذا الحسين الذي يضحي زهير من أجله ، ويقتل الآخرين لئلا يصلوا اليه ؟
إنّ حسيناً أحد السبطين * من عترة البرّ التقي الزين
عرّف الحسين عليه السلام بتعريفين :
الأول :
إنّ الحسين عليه السلام هو أحد سبطي النبي صلى الله عليه و آله ، والسبط هو طريقهم الى الفوز والنجاة وتلقي الدين من اللّه ، وقد قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله : حسين منّي وأنا
من حسين ، أحبّ اللّه من أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط(1) .
وروي عن أبي هريرة قال : قلت لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ لكلّ نبي وصي وسبطان ، فمن وصيك وسبطاك ؟ فسكت ولم يرد الجواب ، فانصرفت حزيناً .
فلمّا حان الظهر قال : ادن يا أبا هريرة ، فجعلت أدنوا وأقول : أعوذ باللّه من غضب اللّه وغضب رسوله .
ص: 132
ثم قال : إنّ اللّه بعث أربعة ألف نبي ، وكان لهم أربعة ألف وصي وثمانيةألف سبط ، فوالذي نفسي بيده لأنا خير النبيين ، ووصي خير الوصيين ، وإنّ سبطي خير الأسباط .
ثم قال عليه السلام : سبطي خير الأسباط ، الحسن والحسين سبطي هذه الأمة ، وأنّ الأسباط كانوا من ولد يعقوب ، وكانوا إثني عشر رجال ، وأنّ الأئمة بعدي إثنا عشر من أهل بيتي ، علي أولهم ، وأوسطهم محمد ، وآخرهم محمد ، ومهدي هذه الأمة الذي عيسى بن مريم خلفه ، ألا إنّ من تمسك بهم بعدي فقد تمسك بحبل اللّه ، ومن تخلّى منهم فقد تخلّى من اللّه (1) .
والسبط في كلام العرب خاصة الأولاد(2) والسبط الشجرة التي لها فروع ، والسبط بمنزلة القبيلة من بني إسرائيل .
« ومن المعلوم أن الأسباط هم ورثة الأنبياء ، فالحسين عليه السلام سبط قد ورث من الأنبياء رسالاتهم في إحياء دين اللّه الإسلام .
وجاء في كتاب النهاية لابن الأثير : الحسين سبط من الأسباط أي أمّة من الأمم في الخير ، والأسباط من ولد إسحاق بن إبراهيم الخليل بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل ، وفي الحديث الحسن والحسين عليهماالسلامسبطا رسول اللّه صلى الله عليه و آله أي طائفتان وقطعتان منه(3) » .
ص: 133
والحديث الأول اتفق الناس كلّهم على نقله ، وتظافر الجمهور على روايته ، ولا يمكن أن يكون ثمة من ينكر سماعه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو عنه ،ولذا احتج به سيد الشهداء عليه السلام نفسه على القوم ، وهو يتضمّن مقدّمة قدّمها النبي صلى الله عليه و آله حينما قال : « حسين منّي وأنا من حسين ».
فزهير يذكرهم أ نّهم يقاتلون النبي صلى الله عليه و آله نفسه على نحو الحقيقة ، ويقاتلون من جعل النبي صلى الله عليه و آله حبّه ميزاناً لحبّ اللّه « أحبّ اللّه من أحبّ حسيناً » ، « حسين سبط من الأسباط » .
الثاني :
إنّ الحسين عليه السلام « من عترة البرّ التقي الزين » وعلى العباد أنّ يتمسكوا به ، لأ نّه عدل القرآن ، وأ نّه لا يفترق عنه أبداً حتى يرد الحوض على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومن تمسك به لن يضلّ ، وهو إشارة صريحة ، وتضمين رائع لحديث الثقلين المتواتر بين المسلمين جميعاً ، ولا أحسب أ نّنا بحاجة الى توثيق الخبر أو تخريجه وذكر مصادره وطرقه ، فإنّ ذلك يضطرنا الى وضع كتاب خاص ، ولا أحسب أيضاً أنّ أيّ مصدر أو جزء حديثي يخلو من ذكر هذا الحديث بأيّ لفظ من ألفاظه .
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : وإنى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه - عزّ وجلّ - وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروني بم تخلفوني فيهما(1) .
ص: 134
وفي بعض الألفاظ نهي عن التقدّم عليهم أو التخلّف عنهم ، والأمر بملازمتهم ، وفي بعضها الوصاية بهم . . .فزهير بن القين يدعوهم في رجزه ، ولا يتخلّى عن كشف الحقائق لهم
ووعظهم وهو يقاتلهم ، ويذكّرهم المرّة تلو الأخرى أ نّهم يقاتلون عدل القرآن ، ومن أمروا بالتمسك به لئلا يضلّوا ، وأ نّهم بشر خطّاؤون والحسين عليه السلام معصوم لا يتخلّف عن القرآن ولا يخالفه .
ثم إنّه رتّب لهم موازنة عجيبة ، وخيّرهم بين إتباع أولاد الطلقاء ، والأدعياء من أبناء البغايا ذوات الرايات ، وبين الأسباط من أولاد الأنبياء الأبرار الأتقياء .
بعد أنّ ذكر في رجزه حديثين مهمين يقوم عليهما الدين والعقيدة ، أكدّ لهم أنّ الذي استدلّ به إنما هو مروي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والنبي صادق
أمين لا يتهم بكذب « ذاك رسول اللّه غير المين » والمين الكاذب ، فإذا آمنتم بالنبي صلى الله عليه و آله واعتقدتم أ نّه صادق غير كاذب ، فاقبلوا بالحديثين السابقين في سيد شباب أهل الجنة وسيد الشهداء الحسين عليه السلام .
اللفتة الثالثة :
ذكر زهير أ نّه يذودهم بسيفه عن الحسين عليه السلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و آله
حسين مني وأنا من حسين ، أحبّ اللّه من أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط ، ويقاتلهم لأ نّه يدافع عن الثقلين ، كتاب اللّه والعترة ، فهو على بصيرة من أمره مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين ، فلا شكّ يساوره
ص: 135
في موقفه ، ولا تردّد يزلزل عليه عقائده ، لأ نّه يقاتل قوماً خالفوا اللّه ورسوله ، وحاربوا الكتاب والعترة ، وعزموا على سحق ريحانة الرسول ،وتفتيت كبد الزهراء البتول عليهاالسلاموغرز السنان في عين عين اللّه أمير المؤمنين عليه السلام وهتك حرمة نساء جعل اللّه ملائكته خدامهم وحراسهم ، وقد أقام عليهم الحجة زهير بن القين ، بعد أنّ أتمّ عليهم الحجة من قبل سيده الحسين عليه السلام .
وحينئذٍ لا يرى زهير في قتالهم أيّ شين ، إنّهم قوم يستحقّون أن يعجّل زهير وأصحابه بأرواحهم الى دركات الجحيم ، ويذيقهم الموت الزئام ، ويلقيهم بسيفه في أسفل الفيلوق ، ولا يخاف في ذلك لومة لائم .
« أضربكم ولا أرى من شين » ، أضربكم ضرب الواثق المعتقد المؤمن الواعي العارف بما يقدم عليه .
اللفتة الرابعة :
وهنا يختم زهير رجزه بأمنية صادقة ، وفي نفس الوقت معبّر غاية
التعبير عن مدى حبّه لسلطان المظلومين وسيد الشهداء الحسين عليه السلامفهو ينظر الى ريحانة الرسول صلى الله عليه و آله وقرّة عين الزهراء البتول عليهاالسلام وقد حوصر هو وأصحابه بكربلا ، واجتمع عليه خيل أهل الشام ، وأناخوا عليه ، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا الحسين - صلوات اللّه عليه - وأصحابه ، وأيقنوا أن لا يأتي الحسين ناصر ، ولا يمدّه أهل العراق ، بأبي المستضعف الغريب(1) .
ص: 136
وهو يسمع بكاء مخدرات الوحي ، وعقائل النبوة ، وصراخ أطفال الحسين واستغاثتهم ، ويرى شفاههم الذابلة المتشققة من العطش ، وتهزّهمشاهد أصحابه المجزرين كالأضاحي على الرمضاء ، تصهرهم حرارة الشمس ، فيتمني أن تنقسم نفسه نصفين ، وينصدع قلبه لما يلقاه من هؤلاء الأوغاد سيده الحسين عليه السلام .
أو أ نّه يتمني أن يكون زهير زهيرين ، وتنقسم نفسه قسمين ، إذا فنت الأولى قاتل بالأخرى .
أو أ نّه يتمنى أن يجعل قسماً من نفسه وقاءاً للحسين عليه السلام وقسماً آخر يقاتل به الأعداء ليذودهم عن إمامه عليه السلام الغريب الوحيد .
أو أ نّه يتمنى أن تكون له نفس بعد نفس يدافع بالأولى عن محبوبه
الحسين ويدافع بالأخرى عن حرمه وعن إمام زمانه علي بن الحسين عليهماالسلام .
« يا ليت نفسي قسمت نصفين » .
قال : وأخذ يضرب على منكب حسين عليه السلام ويقول :
أقدم هديت هادياً مهدياً * فاليوم تلقى جدّك النبيا
وحسناً والمرتضى علياً * وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد اللّه الشهيد الحيا
ص: 137
اللفتة الأولى :
إنّ ضربه على منكب الحسين عليه السلام ومواساته بهذه الأبيات يكشف عن مدى قرب زهير من الحسين عليه السلام كما أ نّه يشير - نحو إشارة - الى أنّ عمر زهير بن القين أكثر ممّا استظهرناه فيما سبق ، فمن البعيد أن يتصرّف زهير مع إمامه هذا التصرّف لو لم يكن له ما يسوّغه ، غير ما ذكرناه من قربه وشدّة علاقته ، فلو افترضنا أ نّه كان أكبر سنّاً من الحسين عليه السلامفيكون فارق السن مسوّغاً بالإضافة الى العلاقة .
اللفتة الثانية :
أقدم هديت هادياً مهدياً * فاليوم تلقى جدّك النبيا
لقد بلغ زهير في أبياته هذه مدى لا يمكن لأحد أن يدركه فيتحدّث
عنه ويستكشف موقفه . سيما إذا علمنا أنّ رجزه هذا كان قبيل شهادته ، فهو يواسي الحسين عليه السلام إبان انطلاقه للقاء من ذكرهم للحسين عليه السلام فهو يريد أن يعجّل الحسين ويقدم لكي لا تطول مدّة الفراق بينهما .
« أقدم » هكذا هو زهير ، ثبات وإستقامة ويقين ، يخاطب سيد شباب أهل الجنه ويحثّه على الإقدام !! وهنا لا يسعنا إلاّ أن نسكت ونترك الموقف بين زهير ومحبوبه وإمامه .
اللفتة الثالثة :
ثم عبّر زهير عن اعتقاده بعصمة الحسين عليه السلام « هديت هادياً مهدياً » ،
ص: 138
ومن البديهي أنّ الذي يقدم دائماً ، ولا يحجم أبداً هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، والذي يسدّده اللّه ويوحي إليه فعل الخيرات ، وهو الهاديالمهدي ، وهي صفة لا تصدق إلاّ على المعصوم قال تعالى : «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » .
فإذا أقدم الحسين عليه السلام أقدم زهير متبعاً للحقّ الذي لا يعتريه شّكّ ولا شبهة ولا باطل .
وبهذا كشف زهير لنا وعرض اعتقاده على إمامه في ساحة الوغى ،
وجلجل صوته مرتفعاً على صهيل خيل عساكر الكفر والضلال والجحود وقعقعة سلاحهم .
اللفتة الرابعة :
قال : « أقدم . . . فاليوم تلقى جدّك النبيا » إنّه يوم فرح وسرور ، وإبتهاج وحبور ، يتلهّف له زهير ، ولا يرى فيه سوى الإقدام ، لأ نّه يوم يحمل له أعظم بشرى ، بشرى لقاء النبي صلى الله عليه و آله والمرتضى علي
عليه السلاموصنوه الحسن عليه السلام وجعفر وحمزة .
وفي بعض النسخ : « نلقى » بدل « تلقى » ، ولا يوجد كثير فرق بين التعبيرين ، لأنّ لقاء الحسين عليه السلام بهم يتبعه لقاء زهير وصحبه .
وهو يعلم ما في لقاء هؤلاء الأحبة من أثر في قلب المكروب المغموم
الوحيد الفريد العطشان الغريب ، إنّه لقاء بحبيبه المصطفى جدّه الذي كان يشمّه ويشبعه لثماً وتقبيلاً ، وحبّاً وحناناً وعطفاً ، ولقاء بأبيه المرتضى علي عليه السلام وأخيه وأعمامه الأطهار الأبرار حمزة وجعفر الطيار عليهماالسلام .
ص: 139
اللفتة الخامسة :
لا يخفى ما في تعبيره « جدّك النبيا . . . » وهو يرتجز أمام الأعداء ،ويسمعهم كلامه مع الحسين عليه السلام من بيان مقام الحسين عليه السلام وأنّ جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأباه أمير المؤمنين ، وأخاه المجتبى ، وأعمامه هم جعفر الطيار وحمزة سيد الشهداء عليهم السلام وهم من لا يحتاج أحد ممّن حضر في ذلك اليوم الى بيان فضلهم ومنزلتهم ومقامهم ، مسلماً كان أو غير مسلم ، فزهير يفتخر أمامهم بمفاخر سيده الحسين عليه السلام ولا يرى لنفسه مفخرة تذكر أمام الأعداء ، وإنما يرى مفاخر إمامه مفاخراً له .
اللفتة السادسة :
« وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد اللّه الشهيد الحيا »
ما أروع اختياره لهذين العمّين من بين الأعمام ، وما أروع الصفات
التي وصف بها جعفراً وحمزة ، حيث اختار من الصفات ما يناسب المقام من الفتوة والإستعداد والبسالة والشجاعة والإقدام ، فأحدهما « الفتى الكمي » ، والآخر « أسد اللّه » .
ثم وصف أحدهما بذي الجناحين ، والآخر بالشهيد الحي ، وهذه هي العاقبة التي تنتظرهم هم أيضاً .
اللفتة السابعة :
إنّ التوظيف الدقيق للصفات ، والتضمين العميق الصائب للأحاديث الشريفة في أبياته هذه ، وفي الأبيات التي سبقت تكشف عن مدى
ص: 140
سعة معرفة زهير بالحديث الشريف ، وعمق إيمانه وتسليمه بما قاله النبي صلى الله عليه و آله ، ودقته في وعي النص وفقهه ، وبلاغته الرشيقة ، وفصاحتهالرفيعة ، وقوته في معرفته دينه .
اللفتة الثامنة :
ربما تلجلج في الصدر سؤال مفاده : لماذا لم يذكر زهير فيمن ذكر أ نّه سيلقاهم الحسين عليه السلام فاطمة عليهاالسلام ؟
والجواب على ذلك يمكن أن يكون أحد أمرين ، أو هما معاً :
الجواب الأول :
إنّ زهير يعرف جيّداً أنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام هي المستورة الكبرى ، والصديقة المحجوبة التي فطم الخلق عن معرفتها(1) فهو لا يريد أن يذكرها إجلالاً وإعظاماً وغيرة ، وهذا أدب رفيع في التعامل مع الصديقة الكبرى حيث يأبى أن يجري اسمها على لسانه احتراماً لها ولولدها .
ثم إنّه يعلم أنّ مقام فاطمة يوم القيامة مقام « غضوا أبصاركم » فهو لا يطمع أن يلقاها مباشرة كما يأمل في لقاء الباقين الذين ذكرهم ، ويتأكد هذا المعنى إذا اخترنا قراءة « نلقى » .
الجواب الثاني :
إنّه ذكر النبي والوصي ، والشهيد الحي والفتى الكمي ، لمناسبة الموقف ،
ص: 141
فهو في ميدان الحرب والقتال ، وشحذ الهمم ومواساة الرجال ، وهذا المقام لا يناسب تأجيج العواطف ، والشجون والتذكير بالأحزان والآلاموالدموع ، وذكر الصديقة فاطمة عليهاالسلام عند الحسين عليه السلاميثير زفرته ، ويهيج عليه آلامه ، وهو لا يناسب المقام .
وربما كان لا لهذا ولا ذاك ، فاللّه أعلم بما في صدور أوليائه الأكرمين .
ص: 142
روى الشيخ ذبيح اللّه المحلاتي في فرسان الهيجاء رجز زهير مع زيادات ، وفيه بعض الأشطر المنسوبة الى أبي الفضل العباس عليه السلام .
قال : فحمل عليهم زهير كأنّه التنين الصائل أو الشهاب الحارق ، وقلب الميمنة على الميسرة ، وحمي أتون الحرب ، فقال مرتجزاً :
أنا زهير وأنا ابن القين * وفي يميني مرهف الحدين
أذودكم بالسيف عن حسين * إن حسيناً أحد السبطين
ابن علي طاهر الجدين * من عترة البر التقي الزين
ذاك رسول اللّه غير المين * يا ليت نفسي قسمت قسمين
وعن إمام صادق اليقين * أضربكم محامياً عن ديني
أضربكم ولا أرى من شين * أضربكم ضرب غلام زين
بأبيض وأسمر ردين(1)
ثم قال : ودّع زهير الحسين عليه السلام بأرجوزة ، وسار نحو ميدان القتال :
ص: 143
فدتك نفسي هادياً مهدياً(1)* اليوم تلقى جدّك النبيا
وحسناً والمرتضى علياً * وذا الجناحين الشهيد الحيا
وفاطم الطاهرة الزكيا * ومن مضى من قبلنا تقيّا
وعليه يكون قد ذكر فاطمة الزهراء عليهاالسلام في رجزه أيضاً فلا يكون لما ذكرناه قبل قليل مجال للسؤال فضلاً عن الجواب .
وفي موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام : عن الفرهاني : وفي رواية : وخرج زهير بن القين ، فوضع يده على منكب الحسين عليه السلاموقال مستأذناً :
أقدم هديت هادياً مهدياً * فاليوم ألقى جدّك النبيا
وحسناً والمرتضى عليا * وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد اللّه الشهيد الحيا * فقال الحسين عليه السلام : وأنا ألقاهما على أثرك(2) .
وفي ينابيع المودّة: ثم برز زهير وهو يقول(3) :
أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا * ثم أباك الطاهر المؤيدا
والحسن المسموم ذاك الأمجدا * وذا الجناحين حليف الشهدا
وحمزة الليث الهمام الاسعدا * في جنة الفردوس عاشوا سعدا
* * *
ص: 144
المستند في ما لصق بزهير من الإفتراء والبهتان والإتهام إنّما هو ما ورد في تاريخ الطبري على لسان العدو حينما قال له في ظرف له ملابساته : « يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنما كنت عثمانياً » .
فصدّق الناس جميعاً مخالفهم ومؤالفهم هذه الفرية ، وهي أقذع سبّة ، وأوقح شتمة ، وأقذر تهمة ، يمكن أن تلوث بها ساحة بطل ضرغام يقول فيه المعصوم: طبت وطابت الأرض التي فيها دفنت .
أمّا النص التاريخي الذي وردت فيه هذه الفرية فهو :
« . . . ثم إنّ عمر بن سعد نادى : يا خيل اللّه اركبي وأبشري ، فركب في الناس ، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر ، وحسين جالس أمام بيته محتبياً بسيفه ، إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت أخته زينب الصيحة ، فدنت من أخيها ، فقالت : يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت .
قال : فرفع الحسين رأسه ، فقال : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المنام ، فقال لي : إنّك تروح إلينا .
قال : فلطمت أخته وجه ها وقالت : يا ويلتا ، فقال : ليس لك الويل يا أخيتي ، اسكني رحمك الرحمن .
ص: 145
وقال العباس بن علي : يا أخي ، أتاك القوم .قال : فنهض ثم قال : يا عباس ، اركب بنفسي أنت يا أخي ، حتى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ، فأتاهم العباس ، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً ، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر .
فقال لهم العباس : ما بدا لكم ؟ وما تريدون ؟
قالوا : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم .
قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبى عبد اللّه ، فأعرض عليه ما ذكرتم .
قال : فوقفوا ، ثم قالوا : القه فأعلمه ذلك ، ثم ألقنا بما يقول .
قال : فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين يخبره بالخبر .
وقف أصحابه يخاطبون القوم ، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلّم القوم إن شئت ، وإن شئت كلّمتهم ، فقال له زهير : أنت بدأت بهذا ، فكن أنت تكلّمهم ، فقال لهم حبيب بن مظاهر : أما واللّه لبئس القوم عند اللّه غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه صلى الله عليه و آلهوعترته وأهل بيته عليهم السلام ، وعبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار ، والذاكرين اللّه كثيراً .
فقال له عزرة بن قيس : إنّك لتزكى نفسك ما استطعت !
فقال له زهير : يا عزرة ، إنّ اللّه قد زكّاها وهداها ، فاتق اللّه يا عزرة ، فإني لك من الناصحين ، أنشدك اللّه - يا عزرة - أن تكون ممّن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية .
ص: 146
قال : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنما كنت عثمانياً .قال : أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم . أما واللّه ما كتبت إليه كتاباً قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولاً قطّ ، ولا وعدته نصرتي قطّ ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم ، فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه ، حفظاً لما ضيعتم من حقّ اللّه وحق رسوله عليه السلام .
قال : وأقبل العباس بن علي يركض حتى انتهى إليهم(1) . . .
ص: 147
إنّنا لم نجد لهذا الخبر مصدراً أقدم من تاريخ الطبري ، وكلّ من جاء بعد الطبري أخذ عنه ، وأقرب مصدر للطبري نقل الخبر أيضاً هو الفتوح لابن أعثم ، فابن جرير الطبري صاحب التاريخ توفي سنة « 310 » للهجرة ، وتوفي ابن أعثم الكوفي سنة « 314 » للهجرة .
قال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللّه - : والظاهر أنّ أقدم مصدر تاريخي وردت فيه الإشارة بصراحة الى عثمانية زهير بن القين هو تاريخ الطبري وأنساب الأشراف للبلاذري .
قال البلاذري : قالوا : وكان زهير بن القين البجلي بمكة ، وكان عثمانياً(1) . . .
ولا نحتاج الى إطالة المقام مع البلاذري ، وذلك أ نّه لم يذكر مصدر كلامه ، وإنما اكتفى بالإسناد الى : « قالوا(2) » .
ص: 148
ثم إنّه لم ينقل خبراً ، ولم يرو رواية في قوله « قالوا : . . . وكان عثمانياً » ،والظاهر من عبارته أ نّه يقرر فهمه الخاص ، واستنتاجه من التاريخ ، فأغلب الظن أ نّه إستند في تقريره إلى كلام عزرة/ ، ولذا سنخرجه هنا ، ونقتصر الكلام على رواية الطبري.
أمّا السند الذي روى به الطبري هذا الخبر ، فهو :
قال أبو مخنف ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد اللّه بن شريك العامري .
ولا نجد ضرورة لمناقشة السند ، لأنّنا لا نقيم للسند وزناً ذا قيمة منفردة في إثبات الحدث التاريخي أو نفيه ، وإنما قد يكون مفردة تأكيدية تزيد الإطمئنان أو تخدشه ، ولإثبات ذلك مكان آخر .
على أ نّنا لا نريد تكذيب الخبر مطلقاً ، وإنما نبقي الخبر على ما كان ، ونحسب أنّ من الممكن قراءته قراءة جديدة ، تقدّم له فهماً يتلائم مع كون زهير علوياً بريئاً من أيّ صبغة عثمانية .
ص: 149
ورد في المصادر وكتب الرجال : عزرة بن قيس البجلي من أحمس من بني دهن ، من أنفسهم ، روى عن خالد بن الوليد ، وكان معه في مغازيه بالشام ، وروى أبو وائل عن عزرة بن قيس(1)
وقيل : أ نّه عزرة بن قيس بن غزية الأحمسي البجلي الدهني الكوفي شهد خطبة خالد بن الوليد حين جاءه عزل عمر إياه ، روى عنه أبو وائل ، وولي عزرة حلوان في خلافة عمر ، وغزا شهرزور منها فلم يفتحها حتى افتتحها عتبة بن فرقد(2) . . .
وله بهذا الاسم والمواصفات ترجمة مفصلة في كتب الرجال والتاريخ . غير أنّ الشيخ علي النمازي ذكره وقال : عروة بن قيس الأحمسي : لم يذكروه . هو ممّن كتب إلى الحسين عليه السلام . . ثم كان مع عمر بن سعد . وكان رئيساً على الخيل(3) .
ص: 150
وقال الشيخ محمد السماوي : عزرة بن قيس الأحمسي : بفتح العين المهملة ، وسكون الزاء المعجمة ، وبعدها الراء المهملة ، وصحّفه من لم يضبطه بعروة(1) .
وكان عزرة هذا ممّن كاتب الحسين عليه السلام فلمّا بعثه عمر بن سعد الى الحسين عليه السلاموقال له : ائته فسله ما الذي جاء به ؟ وماذا يريد ؟ فأبى أن يحمل الرسالة ، واعتذر اليه أ نّه كان قد كاتبه ، وهو يستحي أن يواجهه!! فعرض ذلك على سائر من كاتب الحسين عليه السلام فاعتذر الجميع(2) .
وفي كتاب الفتوح : قال : ثم دعا عمر بن سعد رجلاً من أصحابه يقال
له « عروة بن قيس » ، فقال له : امض يا هذا إلى الحسين فقل له : ما تصنع في هذا الموضع ؟ وما الذي أخرجه عن مكة ، وقد كان مستوطناً بها ؟ فقال عروة بن قيس : أيّها الأمير ! إنّي كنت اليوم أكاتب الحسين ويكاتبني ، وأنا أستحيي أن أسير إليه ، فإن رأيت أن تبعث غيري فابعث(3) .
ولا شكّ أ نّه كان كاذباً في إدعائه الحياء ، وهل يعرف الحياء من يقاتل ريحانة المصطفى صلى الله عليه و آله ، ويكون على الخيل التي هتكت حرم اللّه ، وداست خدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟!
ص: 151
من أين تخجل أوجه أموية * سكبت بلذات الفجور حياءها
وإنّما اعتذر - كما اعتذر الآخرون - لأ نّه محجوج للحسين عليه السلاموهو يعرف الجواب مسبقاً ، فلو حمل الرسالة ، وجاء عند سيد الشهداء عليه السلام وسأله : ما الذي جاء به ؟ وماذا يريد ؟ وما يصنع في هذا الموضع ؟ وما الذي أخرجه عن مكة ، وقد كان مستوطناً بها ؟ لكان الجواب : أتتني رسلك ، وأجبت دعوتك ، وأغثت صرختك ...
وهو إنّما كاتب الحسين عليه السلام طمعاً في الدنيا وحبّاً للدعة ، وانتهازاً للفرص ، وركوباً للموجة التي كان يستشرف منها جني قطاف العيش الرغيد الذي استروحه يوم ماجت الكوفة بذكر الحسين عليه السلام واللجوء اليه فراراً من الحكم الأموي الذي اهتزت أركانه بوفاة معاوية .
ويمكن استكشاف ذلك من نص الكتاب الذي أمضاه عزرة وجماعة الإنتهازيين من أمثال شبث بن ربعي وحجار وأمثالهم .
روي أ نّه كتب شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ، ويزيد بن رويم ، وعزرة ابن قيس ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير التميمي : أمّا بعد ، فقد اخضر الجناب ، وأينعت الثمار ، وطمت الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند ، والسلام عليك(1) .
فكلام هؤلاء الأوغاد يتركز على جنات خضراء ، وثمار يانعة ، وآبار طامية ، وزروع باسقة ، تنتظر القطاف ، وجنى الثمار ، وهم في رفاهية
ص: 152
من العيش ودعة من الحياة ، فان شاء الحسين عليه السلام فليقدم لأنّ الناس ينتظرونه. الناس ينتظرونه ، أمّا هم أنفسهم فإنّهم ينتظرون القطاف ، فإذا جاء كانوا هم معه ، وقد قدّموا لذلك مع من قدّم ، وسجّلوا موقفاً مع من سجّل ، وإن لم يأتي الحسين عليه السلام فليأتي غيره ، ولا خطر عليهم في ظلّ الغير لأ نّهم منه .
ثم إنّهم قالوا : إذا شئت أقدم على جند لك مجندة ، فكأنّهم يريدون إخباره عليه السلامبما يجري من بيعة الناس له ، ولا يريدون أن يعلنوا له عن إستعدادهم البته ، فلا يريدونه أن يقدم عليهم إماماً وأميراً يحاربون تحت لوائه ، فهم يقولون : أقدم على جند لك ، ولا يقولون : أقدم علينا فإنّنا جند لك !
ولكي تتضح الفكرة ، ونعرف الفرق بين هؤلاء النفر من المتزلفين ، وبين من يخاطب الإمام الحسين عليه السلام معتقداً بإمامته وقيادته ، ومتذمّراً من الحكم الأموي المنحرف ، وهارباً من ظلم المتمردين على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه و آله وملتجأ الى العدل المطلق ، ومعلناً عن إستعداده للموت بين يدي الحقّ ، علينا أن نقرأ نموذجاً آخر من الكتب التي وصلت الى الحسين عليه السلام من شيعته :
روى الطبري وغيره عن محمد بن بشر الهمداني قال : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد ، فذكرنا هلاك معاوية ، فحمدنا اللّه عليه ، فقال لنا سليمان بن صرد : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ،
ص: 153
فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل ، فلا تغرّوا الرجل من نفسه .
قالوا : لا ، بل نقاتل عدوه ، ونقتل أنفسنا دونه .
قال : فاكتبوا إليه . فكتبوا إليه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، لحسين بن علي من سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة ابن شداد ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة :
سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد :
فالحمد للّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة ، فابتزها أمرها ، وغصبها فيأها ، وتأمر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال اللّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء اللّه ، والسلام ورحمة اللّه عليك(1) .
قارن بين الكتابين تعرف الفريقين ، فريق يمدّ عينيه الى زهرة الحياة الدنيا والجنان المخضرة ، والثمار اليانعة ، والمياه الجارية ، وفريق يتضوّر من الكفر والظلم والجور ، ويتوق الى الإيمان والعدل والشهادة والحور ...
ص: 154
فالفريق الأول لا يعاني من مضايقات ، ولا مطاردات في ظلّ الحكم القائم ، ويرى ازدهار مسيرة العمران الدنيوي ، وكلّ ما يراه هو نعيم وحدائق ذات بهجة ، ونخيل باسقات حان اقتطافها ، وأكل دائم يخشون انقطاعه .
فريق يتكلّم بضمير الغائب ، وفريق ينطق بضمير المتكلّم . .
فريق يتحدّث عن استعداد الغير ، وفريق يعد النصرة بالنفس . .
فريق يعد عن جند لا يعدّ نفسه منهم ، وفريق يعد المبادرة . .
فريق يكتب بالكناية والتلويح ، ويستعمل العبارات التي لا تدخل السرور على قلب الحسين عليه السلام ولا تحزن أعداءه ، تماماً كما يعبّر القرآن الكريم : « لا إِلى هولاءِ وَلا إِلى هولاءِ » ولو وقع الكتاب بيد أعداء الحسين عليه السلام فإنّ فيه متسع ، ومجال اعتذار ، ومدح مبطن يكشف بعد شرح ما بين السطور من كلماتهم ، وهم لا يذكرون هلاك الطاغية ، ولم يبدوا فرحاً بضعف الدولة الحاكمة في الشام ، ولم يتعرّضوا للوالي الممثل له في الكوفة .
وفريق يصرّح بالبراءة من أعداء اللّه وأعداء الحسين عليه السلام ويحمد اللّه على هلاك الطاغية ، ويعلن استعداده لمواجهة الوالي الممثل له في الكوفة ، ولا يخاف في اللّه لومة لائم ، ويعرض الدنيا خراباً تنتظر يد الرأفة الحسينية لتمسح عليها ، وتنفخ فيها روح الحياة والعمران .
وهكذا هم عزرة ونظائره ، متقلّبون ، متزلّفون ، انتهازيون ، يميلون مع كلّ ريح ترحل بهم الى مآربهم وأطماعهم ، فإذا كانت الدنيا مع الأدعياء ركعوا لهم ، وتزلفوا اليهم ، وتخندقوا في خنادقهم .
ص: 155
وليس عزرة هذا من مجاهيل معسكر الضلال ، بل هو في عداد من يحوم حول قياداته ، ويتسكع بين يدي عمر بن سعد ، ويتحرّك تحت نظره ، فهو من الشرذمة المشؤومة التي كانت تحوط الأثيم ابن سعد - لعنه اللّه - ، ومن المقربين عنده ، بحيث ينتدبه كأول خيار لحمل رسالته الى الحسين عليه السلام ويجعله على خيله(1) ويكلّفه حراسة خيام الحسين عليه السلام ليلة العاشر .
قال ابن كثير : وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون ، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم ، عليها عزرة بن قيس الأحمسي ، والحسين يقرأ : « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُومِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ »(2) الآية(3) . .
وقد التحم بمعارك ضارية قاسية مع أصحاب الحسين عليه السلام وسعى في إحراق أوراق القرآن الكريم المتمثلة في أنوار الثلة المدافعة عن القرآن الناطق.
وبلغ به الأمر أن يحسب الحرب حربه ، والمعركة معركته ، والخيل خيله لمّا درات رحى الحرب وقامت على ساق ، وقاتلهم أصحاب الحسين عليه السلام
ص: 156
قتالاً شديداً ، وأخذت خيلهم تحمل ، وإنما هم إثنان وثلاثون فارساً ، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته ، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس ، وهو على خيل أهل الكوفة ، أنّ خيله تنكشف من كلّ جانب ، بعث إلى عمر بن سعد عبد الرحمن بن حصن ، فقال : أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة(1) . . .
إنّها فرية رماه بها العدو ، العدو المتقلّب الماكر ، الذي رأينا قبل قليل شخصيته ، ودناءته ، وإجرامه ، عزرة . .
عزرة فقط ، لم نسمع هذه السبة من غيره ، لا من الرواة ولا الرجاليين ولا المؤرخين ، ولا حتى الأعداء أنفسهم .
قال عزرة : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانياً !
فمن يقصد بقوله : « عندنا » ؟ إن كان يقصد عند السلطان وأتباعه ، أو عند الكوفيين ، فلماذا لم نسمع أحداً من عبيد السلطان أو الخارجين على الإمام المعصوم من الكوفيين ، بل حتى الرجاليين والمؤرخين منهم يؤكد ما قاله هذا الجلف الكذاب .
ص: 157
وما بال حميد بن مسلم ، أو قاتل زهير نفسه ، أو عمر بن سعد ، أو شمر ، أو شبث بن ربعي ، وغيرهم من روس الضلال لم يذكر زهير بهذه الصفة ، ولم يشر اليها ، ولم يعاتب أو يحاسب أو ينتقص زهير بها ؟
إنّه يقول : « عندنا » لا يقصد إلاّ نفسه ، ولو كان غيره لذكره .
لقد سجّل التاريخ لنا هذه التهمة على زهير ، وقد افترضنا صحّة ما حدّثنا به الطبري عن أبي مخنف ، ولم نناقش سندها أو نكذبها من رأس ، فلابد إذن - على فرض اجتراء عزرة على هذا الكلام - أن تكون ثمة دوافع وأغراض استهدفها اللعين بما رمى به ساحة الطهر والصفاء والقداسة المتمثلة في شخصية زهير .
ويمكن تصور ذلك في أحد الأمور التالية :
الأمر الأول : التقية
قد تكون التقية التي كان يمتاز بها سلوك زهير ، كما مرّ معنا ، عاملاً مهماً في تكوين صورة خاصة عند عزرة ، من خلال مراقبته وملاحظته كفرد من جلاوزة السلطان ، وقد حقّق زهير ما أراد من التقية حتى أوهم عزرة صاحب خيل العدو في تصوراته ، بحيث كان يحسب أ نّه منهم .
وقد مرّ معنا أنّ أجلى صور التقية ، وأقوى مواضعها هي التقية مع السلطان ، فإذا لا يستعمل زهير التقية مع عزرة فمتى يستعملها ؟ ولمن يدخر العمل بها ؟
ص: 158
ولكن هذا الأمر يقتضي أن تكون التقية قد حملت زهير على إيهام أفراد العدو ، وعبيد السلطان جميعاً ، بل جميع المجتمع المعادي الذي كان يعيشه زهير ، والحال أ نّنا ما سمعنا هذا التصور من أحد قط غير عزرة .
فأمّا أن يكون زهير قد اعتزل المجتمع في الغالب ، فلم يشتهر بينهم بهذا السلوك .
وأمّا أن يكون لعزرة موقف خاص مع زهير اضطره للتقية ، للحفاظ على نفسه ، ليدخرها ليومها الموعود ، ولا نستبعد ذلك بعد أن عرفنا نذالة عزرة ، وحكمة زهير .
وكيف كان فإنّ زهير قد بلغ المرام في التقية حينما ظنّ العدو به هذا الظنّ ، وقد أفلح وزكى ورقى ذرى المجد بالطاعة والتسليم لأهل البيت عليهم السلام .
الأمر الثاني : التسقيط
يمثل زهير ركناً من أركان عسكر الإيمان والحقّ - كما سيأتي - باعتباره صاحب ميمنة سيد الشهداء عليه السلام فهو هدف مهم للعدو ، والمتأمل في أساليب الأمويين في حروبهم يعرف جيداً أ نّهم كانوا يمارسون الحرب النفسية والإعلامية في أدقّ صورها ، ويجيدون أساليب التسقيط والخدش وإغتيال « الشخصية » .
وقد رأيناهم في حربهم مع سيد الموحدين وإمام المتقين وأميرالمؤمنين ، وأول القوم إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وأحوطهم على الإسلام ،
ص: 159
كيف صوّروه للبسطاء والمضللين حتى إذا سمعوا أنّ علياً قتل في المحراب وهو يصلّي تعجبوا ، وعضوا أناملهم من العجب وهم يتسائلون : أكان علي يصلّي ؟! وكذا فعلوا مع الحسن والحسين عليهماالسلاموبقية أعدائهم .
وقد سمعنا سيل التهم والافتراءات والبهتان والأكاذيب التي انهال بها عبيد اللّه ابن زياد على ثقة الحسين عليه السلام والعابد المتهجد والمفضل عند خيرة اللّه وسيد الشهداء مسلم بن عقيل عليهماالسلام كما روى ابن نما في مثير الأحزان ، والسيد ابن طاووس في اللهوف ، والسيد الأمين في لواعج الأحزان ، وابن أعثم الكوفي في الفتوح ، واللفظ للأخير :
. . . فقال له ابن زياد : يا شاق ! يا عاق ! خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة .
فقال مسلم : كذبت يا بن زياد! واللّه ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمة ، بل تغلّب على وصي النبي بالحيلة ، وأخذ عنه الخلافة بالغصب وكذلك ابنه يزيد . وأمّا الفتنة فإنّك ألقحتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني اللّه الشهادة على يدي شرّ بريته ، فواللّه ما خالفت ولا كفرت ولا بدّلت! وإنما أنا في طاعة الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد .
فقال له ابن زياد : يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة ؟!!! فقال مسلم بن عقيل: أحقّ واللّه بشرب الخمر مني من يقتل النفس الحرام ، وهو في ذلك يلهو ويلعب ، كأنّه لم يسمع شيئاً .
ص: 160
فقال له ابن زياد : يا فاسق! منتك نفسك أمرا أحالك اللّه دونه وجعله لأهله.
فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد ومعاوية.
فقال مسلم بن عقيل : الحمد للّه كفى باللّه حكماً بيننا وبينكم .
فقال ابن زياد - لعنه اللّه - : أتظن أنّ لك من الأمر شيئاً ؟
فقال مسلم بن عقيل : لا واللّه ما هو الظن ولكنّه اليقين .
فقال ابن زياد : قتلني اللّه إن لم أقتلك !
فقال مسلم : إنّك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة(1) . . .
فلا غرابة أن يتهمّ العدو ضمن خطة شملت أصحاب سيد الشهداء عليه السلام كلّ واحد منهم بشكل يناسب شخصيته ، وموقعه الإجتماعي ، فكان حصة شخصية زهير إتهامه بالتعثمن .
معنى اصطلاح « عثماني »
واصطلاح « عثماني » له دلالاته في التاريخ ، فلو تصفحنا كتب الرجال والتاريخ نجد هذا المصلطح يطلق على من يعتقد مظلومية عثمان ، وأ نّه قتل شهيداً مظلوماً محتسباً !! ويتفجّر حقداً وغيظاً وعداوة لأمير المؤمنين
ص: 161
علي عليه السلام باعتباره معيناً على قتل عثمان !! ومطلوباً بدمه هو وولده ، ويوالي بني أمية ولاءاً مطلقاً لأ نّهم الطالبون بدم عثمان .
ففي الأغاني في ترجمة كعب بن مالك الأنصاري قال : . . لمّا بويع لعلي بن أبي طالب عليهماالسلام بلغه عن حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، والنعمان بن بشير ، وكانوا عثمانية ، أ نّهم يقدّمون بني أمية على بني هاشم ، ويقولون : الشام خير من المدينة(1) . . .
وفي فتح الباري لابن حجر : العثمانية : الذين يغالون في حبّ عثمان ، وينتقصون عليا(2) .
هذا ، وقد تبلور الفكر لديهم بمرور الزمن ، ونظّروا لعقائدهم وأفكارهم ، ودخلوا في ميدان الصراع الدموي ، وحملوا السيف ، وتكونت لهم هوية خاصة تميّزهم عن غيرهم .
قال علي محمد علي دخيل : لم يكن عثمان بن عفان صاحب مذهب ، وإمام طريقة ، والمذاهب القائمة اليوم والتي انقرضت حدثت في القرن الثاني والثالث ، فلم يدرك مؤسسوها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ، بل ولم يدركوا الصحابة والتابعين .
إنّ سبب النسبة الى بعض الأشخاص ب-« العثماني » هو نصرته لعثمان ، أو تبنّيه فكرة مظلوميته(3) . . .
ص: 162
وقال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللّه - : والعثماني أو عثماني الميل والهوى يومذاك مصطلح سياسي يعني - على الأقل - التأييد الكامل لبني أمية في دعوى مظلومية عثمان بن عفان ، ومعاداة علي عليه السلام بسبب ذلك ، ويعني - على الأكثر - الإشتراك في حرب أو أكثر ضدّ علي عليه السلام تحت راية المطالبة بالثأر لدم عثمان ، كما في الجمل وصفين(1) .
وقد امتاز حاملوا هذا اللقب بحبّ الدنيا ، والسقوط الإجتماعي ، وارتكاب الجرائم ، والولاء للسلطان الظالم ، والغوص في مستنقع الشهوة واللذة والرذيلة ، والركض وراء بريق الذهب والفضة وبدرات الوالي ، وغيرها من السلوكيات التي أنشأهم عليها آل أمية من الإستعباد والإستذلال ، والتقليد للأسياد الأنذال .
وعزرة من قيادات الجيش الأموي ، وهو يعلم ماذا تعني هذه الكلمة
عند الناس عامة(2) ، وعند أصحاب الحسين عليه السلام ، ويعلم أ نّه يطعن زهير
ص: 163
في أعماق إيمانه وقلبه بهذه السبّة المقذعة التي لا يصبر عليها إلاّ من تعلّم الصبر عند الحسين عليه السلام الذي سجد البلاء والصبر بين يديه .الأمر الثالث: زعزعة الثقة بين أصحاب الحسين عليه السلام دأب معسكر الظلام والضلال على خلخلة الصفوف في معسكر النور والهدى ، لأ نّه يقدّر وفق تصوراته وأهوائه ، ويفهم الآخرين ضمن معتقداته وموازينه ، ويتعامل معه من منطلقاته ، أو أ نّه يحاول متخبطاً في حماقاته ورعونته ووحشيته ، أو لأيّ سبب آخر .
فهو يجهد بأيّ وسيلة لفصل أبي الفضل العباس وأخوته عليهم السلام عن إمامهم وسيدهم ، فيكتب أماناً ويدعوهم - بصلافة ووقاحة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً - الى الدنيا ، ويلوح لهم بالأمان والعيش الرغيد إن هم تركوا الحسين عليه السلام الغريب وحيداً والتحقوا بمعسكر الأعداء ، أو اعتزلوا الحرب .
وكذا فعلوا مع غيرهم .
واليوم وقد أوشكت الحرب أن تقوم على ساق ، وتقطع الأيدي ، وتحلب الأعناق ، ويفرق بين الروس والأجساد ، يحاول العدو- وقد خاب - أن يلقي بين أصحاب سيد الشهداء عليه السلام الشك والريب ، ويزعزع الثقة بينهم ، ويوحي اليهم أنّ أحد أكبر القادة الشجعان في معسكرهم كان « عثمانياً » ، فلا يركن اليه ، ولا يعتمد عليه ، فلعله يسلمهم عند الوثبة ، أو يثب عليهم وعلى إمامهم عند اصطكاك الأسنة ، والتحام الحراب .
ص: 164
وكان العدو يكتفي من حبيب والذين كانوا معه هناك أن ينظروا الى زهير نظرة يشوبها الإرتياب ، ويرى في أعينهم علامات سؤالتدور من عين الى عين .
فإذا تزلزت الثقة ، انقطعت العرى ، وسقطت الميمنة ، وفرق بين الصفوف ، واعترى عسكر سيد الشهداء عليه السلام التفكك والاختلاف .
وفاتهم عليهم لعائن اللّه أنّ أصحاب الحسين عليه السلام يعرف بعضهم بعضاً
منذ عالم الأظلّة ، وقد أقدموا على ما أقدموا عليه على بصيرة وهدى ، وقد اجتمعوا ليلتها ليروا مكانهم في الجنان العلى .
ربما كان أشدّ تكذيب ، وأقوى ردّ على كلام الكذاب المفتري عزرة جواب زهير نفسه ، حيث قال له بمتانة ووقار : « أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم(1) » .
إنّه جواب يكشف ثبات الواثق ، وحلم المحاور ، وهدوء المقاتل ، وسكينة القلب ، واطمئنان النفس .
لا يحتاج إلى دفاع ولا إنكار ولا استنكار ، ولا نقض وإبرام ، ولا مناقشة ومغالبة في الكلام .
أجاب بكلمتين أتت على كلّ ما بناه أو أراد أن يبينه العدو ،
ص: 165
وقوّض أهدافه ، وفنّد مقاله ، وخيّب آماله : « أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم » .« إنّي منهم » ، أما تستكشف الماضي من الحاضر ؟
يقول له : إنّك تدعي ما لا تستدل عليه ، وما يدريك وأنت جرثومة
الخطايا والقذر ما في قلبي وما يحتويه ضميري من إعتقادي ، تتهم وتفتري وأنت في موقف المعادي المحارب ، ومن يبتغي قتلي لا يمنعه شيء عن الإفتراء والكذب عليّ .
أمّا أنا - زهير - فإنّي أستدل على عقيدتي بسلوكي وموقفي ، والموقف
كاشف عن الإعتقاد حينما يكون الموقف حرجاً أقلّ ما يتوقع فيه الموت ، وفراق الأحبة والأهل والمال والدنيا .
ردّ زهير ما قاله عدوّه ردّاً قاطعاًً ، ولم يقم لقوله وزناً ، ولم يدخله في حسابه داخل دائرة الصحة ولو مثقال ذرة .
ولو كان في كلام العدو رائحة ولو من بعيد تكشف عن صحة الدعوى
لنفاها زهير ، ولقال - مثلاً - : كنت كما زعمت ، وتبت الى اللّه ، واللّه يحبّ التوابين ، وعرفت حقّ الحسين عليه السلام وباطل بني أمية ، وإنّي لك ناصح أمين ، اترك صفّ العدو وانحاز إلينا تكن من المفلحين الفائزين .
ولا يعوز زهير قوة في يقين ، ولا بلاغة في التعبير ووعظ الآخرين ، ولكنه أبى أن يسجّل عليه التاريخ إقراراً بالانتساب إلى الأمويين ، ولو طرفة عين .
ص: 166
قال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللّه - : وإذا تأمّلنا جيداً في ما قاله عزرة بن قيس لزهير ، وما ردّ به زهير - على ما في رواية الطبري -يتجلّى لنا أنّ زهير بن القين لم يكن عثمانياً في يوم الأيام ، ذلك لأنّ زهير أجاب عزرة الذي اتهمه بالعثمانية فيما مضى قائلاً : « أفلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم ؟! » أي من أهل هذا البيت عليهم السلامرأياً وميلاً وانتماءً .
ولم يقل له مثلاً : نعم ، كنت عثمانياً كما تقول ، ثم هداني اللّه ، فصرت من أتباع أهل هذا البيت عليهم السلام وأنصارهم ، أو ما يشبه ذلك .
بل كان في قوله : « أفلست تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم » نفي ضمني لعثمانيته مطلقاً في الماضي والحاضر .
ثم إنّ سكوت عزرة بعد ذلك عن الردّ كاشف عن تراجعه عن تهمة العثمانية ، فتأمل(1) .
وأمّا قوله : « أما واللّه ما كتبت إليه كتاباً قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولاً قط ، ولا وعدته نصرتي قطّ ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه
وحزبكم ، فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيعتم من حقّ اللّه وحقّ رسوله(2) .
ص: 167
فليس في كلامه أيّ شطط ، وهو كلام محكم ومتين ، وقائم على الصدق واليقين ، فهو لم يخطأ حينما قال : أ نّه لم يكاتب الحسين عليه السلامولم يعدهالنصر . . . الى آخر كلامه .
لأ نّه لم يعد النصر بالفعل ، ولم يكاتب الحسين عليه السلام أساساً فيضمّن كتبه الوعد بالنصر وما شاكل ، وقد جمعه الطريق مع الحسين عليه السلامبالفعل ، وإن كان زهير خارجاً يتلقّاه عليه السلام ولكنّه ربما قصد من كلامه أحد المقاصد التالية أو جميعها :
كان زهير عليه السلام يعرّض بعزرة خاصة ، وبمن معه عامة في قوله أ نّه لم يكاتب الحسين عليه السلام ولم يعده النصر ، يقول له : تزعم أني كنت عثمانياً ، ولكني الآن نصرت ريحانة المصطفى صلى الله عليه و آله ، وأنا لم أكاتبه ونصرته فما بالك يا عزرة لا تنصره وقد وعدته وكاتبته ، فما حملك على الخيانة ونبذ المواثيق ، والتنكّر للحقّ الذي عرفته من قبل ، ثم طبع على قلبك فرفضته الآن ؟!
لغة التعريض واضحة في كلمات زهير الكيس المتماسك الحليم الرصين .
قال الشيخ محمد جواد الطبسي : ولا يخفى ما في هذه العبائر من تعيير زهير لعزرة بن قيس ، لأنّ هذا الأخير كان من جملة الذين كتبوا(1) للإمام عليه السلاموراسلوه في مكة واعدين إيّاه بالنصرة(2) !
ص: 168
إنّ زهير رجل خبير في الوعظ والاحتجاج ، وقد أقام الحجة علىالقوم ، وأتاهم من حيث هم ، ومن حيث لا يحتسبون ، ودعاهم لللحاق بركب الفاتحين الشهداء ، فقد ضمّن كلامه استدلالاً قوياً ، ومناظرة لا يصمد أمامها أيّ ردّ في قوله :
« أما واللّه ما كتبت إليه كتاباً قطّ ، ولا أرسلت إليه رسولاً قط ، ولا وعدته نصرتي قطّ ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلمّا رأيته ذكرت به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم ، فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيعتم من حقّ اللّه وحقّ رسوله(1) صلى الله عليه و آله .
فزهير صادق تمام الصدق وكماله في قوله « إنّه لم يرسل له ولم يكاتبه » لأ نّه لم يفعل ذلك ، وإنما كان ينتظره ، ويعلم أنّ الحسين عليه السلامعلى موعد معه ، وزهير موعود بهذا اليوم منذ أيام بلنجر .
أولاً :
احتج عليهم أ نّهم كاتبوا الإمام ، ووعدوه النصر ، فلا يحقّ لهم الآن خذلانه والتنصل عن مواقفهم .
ص: 169
ثانياً :
أثبت لهم أنهم منافقون أدعياء عبيد ، لأنّ المؤمن لا يخلف وعده ،والحر وعده دين ، والشريف لا ينقلب من الحقّ الى الباطل .
ثالثاً :
إنّ مجرد روة الحسين عليه السلام تذكر بجدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومكانه منه ، والنظر اليه كاف لهداية الأطياب الطاهرين ، فما بالهم لا يهتدون ، وقد رأوا الحسين عليه السلام في عرصة الطف .
رابعاً :
بيّن لهم أ نّهم يقفون موقف العداء للحسين عليه السلام وأ نّهم على ضلال ، لأنّ عداوة الحسين عليه السلام تعني عداوة الرسول وعداوة اللّه وعداوة النور والهدى
والإيمان .
خامساً :
عليهم أن يخيّروا أنفسهم بين أن يكونوا مع الحسين عليه السلاموفي حزبه ، أو مع أعدائه وفي حزبهم ، وعليهم أن ينتفضوا على أنفسهم ، وينظروا الى قلوبهم ، ولا يستسلموا لكبرائهم ، ولا يلغوا عقولهم وقلوبهم ، ويظنوا أ نّهم في أمر قد فرغوا منه ، فليراجعوا أمرهم ويختاروا الجنة أو النار .
سادساً :
إنّهم في موقفهم هذا قد ضيّعوا اللّه وحقّ رسوله ، وعليهم أن يوطنوا النفس على الموت في سبيل حفظ هذين الحقّين ، وإلا حقّت عليهم اللعنة وسوء العذاب .
ص: 170
لم يرد أيّ مؤشر يدلّ على أنّ ثمة توبة وقعت من زهير ، لا قبل الطفولا في أيامه ، أو أنّ الحسين عليه السلام قبل توبته ، وذنب التعثمن من أعظم الذنوب ، كما عرفنا سابقاً .
ولم يرد إقرار من زهير بالذنب ، ولا إشارة الى التوبة والرجوع ، أو الندم على ما ضيّع من عمره بعيداً عن الحقّ والولاء .
خامساً : موقف أهل البيت عليه السلام
لم يرد أيّ مؤشر أو تصريح عن أهل البيت عليهم السلام الذين عاصرهم زهير كالامام الحسين والامام زين العابدين والامام الباقر عليهم السلام ومن قبلهم من الأئمة الأطهار عليهم السلام ولا الأئمة الذين جاوا بعد الطف يثبت أو يؤكد ما ذكره التاريخ من تعثمن زهير أو كراهيته لمنازلة الحسين عليه السلامولو كان لبان .
ولو كان عثماني الهوى ، أموي المذهب ، لذكّره الحسين عليه السلام بذلك حينما دعاه ، ولشجعه على التوبة وغسل الذنوب والتطهير ، كما فعل ذلك مع عبيد اللّه بن الحر الجعفي .
فقد حدّثنا التاريخ أ نّه لمّا نزل الحسين عليه السلام في قصر بني مقاتل ، فإذا هو بفسطاط مضروب ، ورمح منصوب ، وسيف معلّق ، وفرس واقف على مذوده ، فقال الحسين عليه السلام : لمن هذا الفسطاط ؟ فقيل : لرجل يقال له « عبيد اللّه بن الحر الجعفي » .
ص: 171
قال : فأرسل الحسين عليه السلام برجل من أصحابه يقال له « الحجاج بن مسروق الجعفي » .فأقبل حتى دخل عليه في فسطاطه ، فسلّم عليه فردّ عليه السلام ، ثم قال : ما وراءك ؟
فقال الحجاج : واللّه ! ورائي يا بن الحر ! واللّه قد أهدى اللّه إليك كرامة ، إن قبلتها !
قال : وما ذاك ؟
فقال : هذا الحسين بن علي عليهماالسلام يدعوك إلى نصرته ، فإن قاتلت بين يديه أجرت ، وإن متّ فإنّك استشهدت !
فقال له عبيد اللّه : واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ مخافة أن يدخلها الحسين بن علي عليهماالسلام وأنا فيها فلا أنصره ، لأنه ليس له في الكوفة شيعة ولا أنصار ، إلاّ وقد مالوا إلى الدنيا ، إلاّ من عصم اللّه منهم ، فارجع إليه وخبره بذاك .
فأقبل الحجاج إلى الحسين عليه السلام فخبّره بذلك ، فقام الحسين عليه السلام ثم صار إليه في جماعة من إخوانه .
فلمّا دخل وسلّم وثب عبيد اللّه بن الحر من صدر المجلس ، وجلس الحسين فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد : يا بن الحر ! فإنّ مصركم هذه كتبوا إليّ ، وخبروني أنهم مجتمعون على نصرتي ، وأن يقوموا دوني ، ويقاتلوا عدوي ، وأنهم سألوني القدوم عليهم ، فقدمت ولست أدري
ص: 172
القوم على ما زعموا ، لأنهم قد أعانوا على قتل ابن عمي مسلم بن عقيل رحمه اللّه وشيعته ، وأجمعوا على ابن مرجانة عبيد اللّه بن زياديبايعني ليزيد بن معاوية .
وأنت يا بن الحر ، فاعلم أنّ اللّه - عزّ وجلّ - مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية ، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب ، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت ، فإن أعطينا حقّنا حمدنا اللّه على ذلك وقبلناه ، وإن منعنا حقنا وركبنا بالظلم كنت من أعواني على طلب الحقّ .
فقال عبيد اللّه بن الحر : واللّه يا بن بنت رسول اللّه ! لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنت أنا أشدّهم على عدوك ، ولكني رأيت شيعتك بالكوفة ، وقد لزموا منازلهم خوفاً من بني أمية ومن سيوفهم ، فأنشدك باللّه أن تطلب مني هذه المنزلة ، وأنا أواسيك بكلّ ما أقدر عليه ، وهذه فرسي ملجمة ، واللّه ما طلبت عليها شيئاً إلاّ أذقته حياض الموت ، ولا طلبت وأنا عليها فلحقت ، وخذ سيفي هذا ، فو اللّه ما ضربت به إلاّ قطعت .
فقال له الحسين عليه السلام : يا بن الحر ! ما جئناك لفرسك وسيفك ، إنما أتيناك لنسألك النصرة ، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك ، ولم أكن بالذي اتخذ المضلين عضداً ، لأني قد سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلم ) وهو يقول : من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقّهم إلاّ أكبّه اللّه على وجهه في النار .
ص: 173
ثم سار الحسين عليه السلام من عنده ورجع إلى رحله(1) .دعوة واضحة من الحسين عليه السلام الرؤوف لابن الحرّ - لعنه اللّه - الى التوبة ، وقد ذكّره بصراحة بأنّه مذنب يحتاج الى غسل الذنوب ، وأ نّه من المضلين ، فيما لم نسمع بتاتاً شيء من هذا القبيل حدث مع زهير ، بل على العكس تماماً فقد سمعنا الحسين عليه السلام يشبهه بمؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه .
فلم نسمع توبة من زهير كما سمعنا عن الحر ، ولم نسمع دعوة للتوبة من الحسين كما سمعنا عن عبيد اللّه بن الحر الجعفي .
سادساً : إطلاعه على خصوصيات حياة أمير المؤمنين عليه السلام
يكشف موقف زهير في الطف مع أبي الفضل العباس عليه السلام يوم حثّه على قتال القوم بعد رجوعه من اجتماعه بشمر عن عمق العلاقة وشدّة القرب من أمير المؤمنين لمعرفته بخصوصيات حياة الإمام عليه السلامومعرفته بالأسباب
التي حدّدها سيد الأوصياء لاختياره أم البنين .
روي أنّ زهير أتى إلى عبد اللّه بن عقيل قبل أن يقتل ، فقال : يا أخي ناولني الراية !
فقال له عبد اللّه : أو فيّ قصور عن حملها ؟
قال : لا ، ولكن لي بها حاجة .
ص: 174
قال : فدفعها إليه ، وأخذها زهير وأتى إلى العباس بن علي عليهماالسلاموقال :يا بن أمير المؤمنين ، أريد أن أحدّثك بحديث .
فقال : حدّث فقد حلى وقت الحديث :
حدث ولا حرج عليك فإنما
تروي لنا متواتر الإسناد
فقال : اعلم يا أبا الفضل ، إنّ أباك أمير المؤمنين لمّا أراد أن يتزوج بأُمك أم البنين عليهاالسلام بعث إلى أخيه عقيل ، وكان عارفاً بأنساب العرب ،
فقال عليه السلام : يا أخي أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة لكي أصيب منها ولداً شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين - ليواسيه في طفّ كربلا ، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم ، فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخواتك .
قال : فارتعد العباس عليه السلام وتمطّى في ركابه حتى قطعه ، وقال : يا زهير ! تشجعني في مثل هذا اليوم ؟! واللّه لأرينك شيئاً ما رأيته قط(1) . . .
هذا زهير يتحدّث عن سرّ من أسرار الطف ، إنّه عارف تمام المعرفة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لماذا أمر عقيل عليه السلام بخطبة أم البنين عليهاالسلامإنّه ينتظر منها بطلاً هماماً ، وفارساً شجاعاً ينصر ولده سلطان المظلومين في عرصة الطف ، وهذا يكشف عن مدى قرب زهير واختصاصه بأمير المؤمنين عليه السلامكما يكشف عن انتظاره وتتبعه لأخبار كربلاء ، فهو يحيط علماً بكلّ ما يحدّد له معالم اليوم الموعود الذي ينتظره .
ص: 175
وفي هذا الموقف دلالات واضحة ، وإشارات لائحة تكشف عدّةأمور ، منها :
أولاً :
إنّ أمر الخطبة واختيار الزوجة يعدّ من خصوصيات الرجل العادي ، فكيف بسيد الرجال ، وأمير المؤمنين علي عليه السلام ولا يمكن أن يطلع عليه إلاّ المقرّبون والخواص .
ثانياً :
إنّ زهير لم يرو للعباس عليه السلام عن أفواه الرجال ، وإنما روى له ما وعاه وعاشه وسمعه وعرفه مباشرة ، ولو كان عثمانياً لما اقترب من أمير المؤمنين كلّ هذا الاقتراب .
ثالثاً :
زواج أمير المؤمنين عليه السلام بأم البنين عليهاالسلام يختلف عن زواجه بسائر
زوجاته(1) لأ نّه كان يستهدف إقامة ركن مهم من أركان الطف ، وهو أبو الفضل العباس عليه السلامفهو داخل ضمن المخطط الرباني لإقامة العدل والدفاع
عن الحقّ ، وهو من الأسرار الخاصة بكربلاء ، وهل يمكن لعثماني أن يطلّع بهذه السهولة على أسرار كربلاء ؟
ص: 176
رابعاً :شهد زهير على هذا الزواج وادخره في أعماق روحه ، وطوى عليه شغافه ، لمثل هذا اليوم ، يوم عاشوراء ، لأ نّه كان عالماً أ نّه سيمثل يوماً ما شاهداً على ما جرى في بيت أمير المؤمنين عليه السلام فهو يتوق لهذا اليوم ، ويحسب له حسابه .
يقول : وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم . . فهو يعلم إذن أنّ رجال الطف مدخرون ، عمل على إعدادهم أمير المؤمنين عليه السلام ويعلم أنّ ثمة يوماً ادخروا له الرجال والشجعان ، ويعلم بالتالي أ نّه هو أيضاً من الرجال المدخرين ، وأ نّه من العدّة المعدّة لنصرة الحسين عليه السلام .
خامساً :
لم ينكر أبو الفضل العباس عليه السلام على زهير روايته ، ولم يقل له من أين علمت ذلك ، وإنما قبلها منه ، وأرسل ما سمعه منه إرسال المسلمات ، لأ نّه يعرف أنّ زهيراً أهل لما وعى وروى ، لقربه من أبيه وأخيه وأهل بيته عليهم السلام.
قال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللّه - : فإذا صحّت هذه الرواية ، فإنّ هذا الحديث الذي « وعاه » زهير ، ورواه للعباس عليه السلامكاشف عن أنّ زهيراً على إطلاع منذ سنين بأخبار ووقائع البيت العلوي ، وقد وعى أنباءهم وعياً! وأ نّه كان على قرب من أهل هذا البيت المقدّس غير متباعد عنهم !
أفيمكن أن يكون مثل هذا الرجل عثمانياً ؟! إنّنا نستبعد ذلك بقوة(1) .
ص: 177
سابعاً : إنّه كان مبشراً بنصرة الحسين عليه السلامكان زهير بن القين محارباً قديماً ، شجاعاً مقداماً ، شارك في فتح « بلنجر(1) » .
قال البكري الأندلسي(2) : بلنجر - بفتح أوله وثانيه ، وإسكان ثالثه ، بعده جيم مفتوحة ، وراء مهملة -: مدينة ببلاد الروم ، شهد فتحها عدد من الصحابة .
قال زهير بن القين البجلي : غزوت بلنجر ، وشهدت فتحها ، فسمعت سلمان الفارسي رضي اللّه عنه يقول : أفرحتم بفتح اللّه لكم ، فإذا أدركتم شباب آل محمد ، - وفي رواية : سيد شباب آل محمد صلى الله عليه و آله - فكونوا أشدّ
فرحاً بقتالكم معهم(3) . . .
وفي الكامل في التاريخ(4) وروضة الواعظين لابن الفتال النيسابوري(5) أخبر زهير عن سلمان الفارسي أيضاً ، وروى عنه عن سلمان الباهلي في
ص: 178
تاريخ الطبري(1) وفي إبصار العين للعلامة السماوي عن سلمان من دون تحديد ، ثم قال : قوله : فقال لنا سلمان : يحتمل الباهلي ، لانّه رئيس الجيش ،ويحتمل الفارسي ، لأ نّه في الجيش على ما ذكره ابن الأثير في الكامل(2) .
فزهير مبشر من أيام عثمان أ نّه سيكون ممن ينصر شباب آل محمد صلى الله عليه و آله
أو سيد شبابهم عليه السلام وقد سمع زهير ذلك ، ووعاه في جو الظفر والنصر والغلبة على الأعداء ، وفي ظل ظروف خاصة أحاطت بالخبر ، فهو لم يسمعه في بيته ، أو في النادي الذي ألفه مع أصحابه للسمر وتبادل أحاديث الركبان ، وقصاص الليل ، وإنما سمعه بعد أن إمتلأت أذنه بصهيل الخيل ، وإصطكاك الأسنة ، وقعقعة السلاح ، ومن ثم أهازيج النصر .
خبر إقترن بالنصر ، بالجهاد ، بالفتح ، وحفته ظروف تجعل من العسير ، بل ربما كان من المستحيل أن ينساه ، أو يغفل عنه في مرحلة من مراحل عمره .
أ نّه موعود بنصر شباب آل محمد صلى الله عليه و آله ، فكيف يكون عثمانياً ، وهو ينتظر نصرة آل محمد صلى الله عليه و آله ، والقتال معهم ؟!!
الاستماع إلى خطبه ومواعظه وكلماته مع الحسين عليه السلاموتصريحاته مع الأعداء مؤشر واضح يرقى بكلّ كفاءة إلى أ نّه كان مؤمناً راسخاً في الإيمان ، وليس جديد عهد بالولاء .
ص: 179
قال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللّه - : إنّ التأمل في أقوال زهير بن القين وفي قول زوجه وموقفها ، يكشف عن أنّ زهيراً وزوجه كانا يعرفان حقّ أهل البيت عليهم السلام وتعمر قلبيهما مودّتهم .تأمل في قوله لزوجه - على رواية السيد ابن طاووس - : « وقد عزمت
على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي » .
وفي قولها له : « كان اللّه عوناً ومعيناً ، خار اللّه لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام » !
أو قوله لها - على رواية الدينوري - : « فإنّي قد وطّنت نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام » .
وقوله لأصحابه : « من أحبّ منكم الشهادة فليقم . . . » .
وإخباره إياهم بحديث سلمان الفارسي - على ما في رواية الإرشاد - : « إذا أدركتم سيد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم . . . » .
وتأمل بتعمق أكثر في قوله : « وطّنت نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام » .
وقوله : « من أحبّ منكم الشهادة فليقم . . . ».
وقول زوجه : « أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام » .
وقوله لأصحابه : « من أحبّ منكم أن يتبعني وإلا فإنّه آخر العهد » .
تجد أنّ هذه العائلة الكريمة كانت على علم بأنّ الإمام عليه السلامسيستشهد في سفره هذا مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه ، وذلك قبل أن تظهر
ص: 180
في الأفق معالم الإنكسار الظاهري ، وخذلان أهل الكوفة ، وقبل أن يصل الى الإمام عليه السلام نبأ مقتل مسلم بن عقيل عليهماالسلام وهانيء بن عروة ، وعبد اللّه بن يقطر .وهذا كاشف عن أنّ زهيراً كان ذا عناية واهتمام بأخبار الإمام الحسين عليه السلام ومتابعاً لأنباء مستقبل حركته وقيامه .
حتى لو فرضنا أنّ زهيراً كغيره من الناس كان قد سمع بأخبار الملاحم المتعلقة بنهضة الحسين عليه السلام واستشهاده ، أو سمع من نفس الإمام عليه السلام بعض خطبه في مكة التي كان قد أشار فيها عليه السلام الى استشهاده(1) .
وسيأتي البحث في كلماته وخطاباته إن شاء اللّه تعالى .
تاسعاً: نمط علاقته بالحسين عليه السلام
نمط العلاقة التي امتاز بها زهير بن القين مع الحسين عليه السلام منذ التحاقه ،
وانفتاحه في التعامل معه ، واتخاذه قريباً لصيقاً في كلّ المواقف يكشف لنا عن مدى عمق الصلة بينهما ، بحيث لا يتسنى هذا النمط من العلاقات لفرد جديد عهد بالولاء ، والاعتقاد بإمامة سيد الشهداء عليه السلام لأنّ المفروض أنّ
العلاقة ليست من نمط العلاقات العادية التي تتشكّل وتتشابك وتقوم بين الأفراد العاديين ، وإنما هي علاقة قائمة على الإعتقاد والإيمان بعقيدة راسخة بكيان معصوم معيّن من قبل ربّ العالمين ، مفترض الطاعة ،
ص: 181
يجب التسليم له ، وإلغاء كلّ ما سواه من الوجودات على صعيد النفس والمجتمع ، والسلوك والعقيدة .
معرفة الحسين عليه السلام الإمام
الذي يفتدى بالروح والغالي والنفيس ،والمال والأهل والوطن ، وكلّ ما يملك الإنسان ويقدر على التضحية به في سبيله ليست أمراً هيناً يتحقّق للإنسان العادي في ظروف عادية ، فهذا جون مولى أبي ذر يتقدّم للشهادة بين يدي الحسين عليه السلامفيقف عليه أبو الشهداء الحسين عليه السلامويقول: اللّهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع
الأبرار ، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد(1) .
والحال أ نّنا نرى زهيراً يحتلّ هذا الموقع العظيم ، ويرتفع إلى تلك المنزلة السامية من القرب من حبيب اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ، وأبي الأئمة وقرّة عين الزهراءوفلذة كبد أمير المؤمنين عليه السلام ونذكر لذلك بعض الصور لا على سبيل الحصر ، بل على سبيل المثال :
الصورة الأولى : حضوره المستمر بين يدي الحسين عليه السلام
قربه من الحسين عليه السلام في كلّ المواقف وملازمته له بحيث يكون هو أول من يجيب الحسين عليه السلام إذا سأل في الغالب ، سيما في المواقع التي تتطلب
الموقف العسكري .
كما حدث في لقاء الحر بهم في الطريق ، وعند النزول في كربلاء ، وعند زحف جيش الظلام والضلال عصر تاسوعاء ، وعند الهجوم على خيام حرم اللّه يوم عاشوراء ، وغيرها ممّا سيأتيك مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .
ص: 182
الصورة الثانية : اختياره للميمنة
اختيار خيرة اللّه الحسين عليه السلام له ليكون على ميمنة عسكره وجعل تحت رايته عشرين رجلاً ، مع أنّ كلّ من كان في معسكره يعدّ من الأبطالالشجعان من ذوي الخبرة في القتال ومقارعة الأبطال .
صاحب ميمنة الحسين عليه السلام
لقد عبأ الحسين عليه السلام أصحابه ، وقسم جنده إلى ثلاثة أقسام ، فتكوّنت له ثلاث كتائب صغيرة ، فجعل واحدة في الوسط ، وهو القلب ، واثنين مجنبتين ميمنة وميسرة ، وهذا التقسيم للرجالة المشاة .
فجعل قائد المجنبة اليمنى ، وهي عشرون رجلاً ، زهير بن القين البجلي .
وقائد المجنبة اليسرى ، وهي أيضاً عشرون رجلاً ، حبيب بن مظاهر الأسدي .
وجعل قائد كتيبة القلب ، وهي ثلاثون رجلاً ، أخاه العباس بن علي عليهماالسلام ودفع إليه لواء العسكر ، وهو لواو الأعظم .
ووضع له عليه السلام كرسي فجلس عليه في مركز القلب خلف موقف حامل اللواء .
وهذه الكتائب الثلاثة أقامها حرساً للأخبية والبيوت ، ولتصدّ هجمات العدو على تخوم ذلك المناخ ، وجعل قائد القوات جميعاًً أخاه العباس عليه السلام .
وجعل له حرساً خاصاً أقامه على رأسه ليدفع عنه من قصده من مردة الأعداء ، وهذا الحرس مؤلف من أربعة أبطال من أنصاره وهم : نافع بن هلال الجملي البجلي ، وحنظلة بن أسعد الشبامي الهمداني ،
ص: 183
وأبو ثمامة الصائدي الهمداني ، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ، ورأس عليهم ابنه علي الأكبر فعلي الأكبر عليه السلامرئيس الحرس الحسيني الخاص .
ونافع بن هلال تلقى وظيفة إمارة الرماة ، فكان من رجال الحرسالخاص وقائداً للرماة .
ثم ألف عليه السلام كتيبة رابعة وهي كتيبة الخيالة الفرسان ، ويبلغ عدد فرسانها سبعين فارساً جعلها كبكبة واحدة . .
وجعل كتيبة الرماة أمام كتيبة الخيل حامية لها من هجمات الأعداء
المفاجئة ، وجعلها صفّاً واحداً أمام فرسانه ، وفي هذه الكتيبة من مهرة الرماة الفنانين وخبرائهم ومن لا تخطئ له رميه نادراً؛ أمير الكتيبة نافع بن هلال وأبو الشعثاء يزيد بن المهاصر الكندي أحد بني هند ، وكانت معه مائة نبلة نثلها أمام قدمي الحسين عليه السلاموكان يقول : « بنو بهدلة فتيان العرجلة » فأخطأ بخمس نبال ، وأصاب بخمسة وتسعين نبلة ، وكان كلّما رمى نبلة قال الحسين عليه السلام : اللّهم سدّد رميته ، واجعل ثواب عمله الجنة ،
وكذلك فعل نافع بن هلال ، وكان يكتب على النبلة اسمه واسم أبيه ، فيرمي فلا يخطئ(1) . . .
وقد أجمع المؤرخون على أنّ زهيراً كان على ميمنة عسكر الحسين عليه السلام
ولم نجد في التاريخ أيّ اسم آخر يذكر أ نّه نال هذا الشرف ، ولو على نحو الاحتمال أو التردّد .
ص: 184
ولا يتّخذ الرجل صاحب راية ما لم تتوفر فيه خصال مميزة ، تؤهله لهذه المسؤولية الخطيرة .
قال الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه بطل العلقمي ، وهو يشرحتقسيمات أمير المؤمنين عليه السلام العسكرية لجيشه :
ويجعل في كلّ من المجنبتين أكابر القوّاد وأركان الجيش ، لأنّ هاتين القوتين بمنزلة جناحي الطائر إذا كسر أحدهما لم يستقل الطائر بالطيران ، فلذلك ينتخب نخبة القواد الماهرين بفنون الحرب ، والمدرّبين على القتال والمجالدة والكفاح مع كونهم من أهل النجدة والبسالة والإقدام(1) . . .
يعدّ صاحب الراية من أركان الجيش ، وقوامه ، لأنّ ثبات الجيش في ثباته ، وإقدام العسكر بإقدامه ، فلا تدفع الراية إلاّ إلى رجل لا يحتمل فيه أيّ زلّة في مقام الثبات ، ولا يتصور في حقّه الفرار أو الإحجام والتزلزل في الموقف ، ولا يكون هذا الرسوخ في الموقف إلا إذا كان ناتجاً عن بصيرة نافذة ، واعتقاد راسخ بالحرب التي يقدم عليها .
وتكون له من قوة الشخصية ، وعصامية النفس ، وقوة الإرادة ، والعقل والحزم واليقين والوقار ما يخوّله إتخاذ القرار المناسب للموقف المناسب ، وإقناع المحارب تحت إمرته بحكمه وإرادته وصواب قراراته ، والسيطرة على المقاتلين بين يديه سيطرة هيمنة تحوّله إلى آلة طيعة يقاتل بها بالطريقة التي يستصوبها .
وقد بلغ زهير المدى في حيازة ثقة أبي الأحرار وأبي الضيم الحسين عليه السلام
ص: 185
حتى جعله الحسين عليه السلام حامياً لحرم اللّه وحرم رسوله عليه السلامحيث أقامه حرساً للأخبية والبيوت ، وليصدّ بمن تحت إمرته هجمات العدو على خيامه وحرمه ، وقد استبسل زهير بالفعل في الدفاع عنها وحمايتها ، كماسنقرأ ذلك فيما يأتي إن شاء اللّه .
الصورة الثالثة : ضرب على كتف الحسين عليه السلام
روى الطبري في تاريخه قال : وأخذ يضرب على منكب حسين عليه السلام ويقول : « أقدم هديت هاديا مهديا(1) » .
وقال الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين عليه السلام : روي أنّ زهيراً لمّا أراد الحملة وقف على الحسين عليه السلام وضرب على كتفه وقال : « أقدم حسيناً هادياً مهدياً »...الأبيات(2) .
روى ابن قولويه في كامل الزيارات مسنداً عن أبي عبد اللّه الجدلي ، قال : دخلت على أمير المؤمنين والحسين عليهماالسلام إلى جنبه ، فضرب بيده على
كتف الحسين عليه السلام ثم قال : إنّ هذا يقتل ولا ينصره أحد(3) . . .
وأسند الخزاز إلى سلمان أنّ النبي صلى الله عليه و آله وضع يده على كتف الحسين عليه السلام
وقال : إنّه إمام ابن الإمام ، تسعة من صلبه أئمة أبرار ، أمناء معصومون ، والتاسع قائمهم(4) .
ص: 186
لقد وضع زهير يده في موضع وضع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يده ، وشهد له
بالإمامة ، وأ نّه أبو الأئمة وأبو القائم المنتقم المهدي عجل اللّه تعالى فرجه .
وضرب بيده في الموضع الذي ضرب عليه أمير المؤمنين عليه السلام يوم أخبربقتله ولا ناصر له ولا معين .
إنّ زهيراً عالم عارف خبير حكيم لا يتصرف جزافاً ، ولا يعمل عملاً يخلو من معان عميقة .
وهذا العمل يشير بوضوح إلى نوع خاص من العلاقة كانت بين زهير
ومولاه الحسين عليه السلام ميّزته عن كلّ أقرانه وأصحابه ، ولم نعهد أحداً من أصحاب الحسين وأهل بيته الذين استشهدوا معه في كربلاء كانت له مثل هذه العلاقة المنفتحة التي تبيح له أن يضرب على عاتق الحسين عليه السلام ! !
وهذا النمط من العلاقة لا يمكن أن يحصل - عادة - في غضون أيام
قليلة ، وإنما يدلّ على عشرة طويلة .
الصورة الرابعة : مواساته للحسين عليه السلام
في كتاب فرسان الهيجاء للمحلاتي عن مقتل أبي مخنف : كانت شهادة
زهير بعد حبيب بن مظاهر ، فلمّا استشهد حبيب بانَ الإِنْكِسارُ في وَجْهِ الْحُسَيْن عليه السلام ثُمَّ قالَ : للّهِ دَرُّكَ يا حَبيبُ ، لَقَدْ كُنْتَ فاضِلاً تَخْتِمُ الْقُرانَ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ .
فَقامَ اِلَيْهِ زُهَيْرُ بْنُ الْقَينَِ وَقالَ : بِاَبي اَنْتَ وَاُمّي يَا بْنَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما هذا الإِنْكِسارُ الَّذي اَراهُ في وَجْهِكَ ؟ اَلَسْتَ تَعْلَمُ اِنّا عَلَى الْحَقِّ ؟
ص: 187
قالَ : بَلى وَاِلهَ الْخَلْقِ ، اِنِّي لأََعْلَمُ عِلْمَاً يَقيناً إِنِّي وَإيّاكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدى .
فَقالَ زُهَيْرٌ : اِذاً لا نُبالي وَنَحْنُ نَصيرُ إِلَى الْجَنَّةِ وَنَعيمِها(1) .تذكرك هذه الكلمات بما سمعته من حوار دار بين الحسين سيد الشهداء عليه السلاموبين حبيب قلبه وعزيزه وولده علي الأكبر عليه السلام يوم ارتحلوا من قصر بني مقاتل ، فخفق الحسين عليه السلام وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثم انتبه ، وهو يقول : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، والحمد للّه رب العالمين ، ففعل
ذلك مرتين أو ثلاثا .
فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين عليهماالسلام على فرس فقال : ممّ حمدت اللّه واسترجعت ؟ فقال : يا بني ، إنّي خفقت خفقة ، فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا .
فقال له : يا أبت لا أراك اللّه سوءاً ، ألسنا على الحقّ ؟ قال : بلى ، والذي إليه مرجع العباد .
قال : فإنّنا إذا لا نبالي أن نموت محقّين ، فقال له الحسين عليه السلام جزاك اللّه من ولد خير ما جزى ولداً عن والده(2) .
ص: 188
إنّه زهير بن القين القريب من قلب الإمام المكروب الغريب الذي يستطيع أن يتحمل هذا الموقف في المواساة للحسين عليه السلام والشحذ لهمم الأصحاب في تلك الساعة العصيبة الكئيبة التي بان فيها الإنكسار علىوجه الحسين عليه السلام .
وكذا نلمس قوته في مواساة الإمام الغريب في رجزه الذي يقول فيه : « أقدم حسيناً هادياً مهديا » . . . الأبيات .
عاشراً : لو كان عثمانياً لتوثب لقتال الحسين عليه السلام
لو كان زهير عثمانياً حقيقة لكان متوثباً تواقاً لحرب الحسين عليه السلاممنتظراً للحظة الإجهاز عليه وعلى كلّ ما يمتّ الى أبي تراب بصلة ، انتقاماً لعثمان وانتصاراً لبني أمية ، كما هو دأب العثمانيين والأمويين .
قال الشيخ محمد جواد الطبسي - حفظه اللّه - : لم يحدّثنا التاريخ في إطار سيرة زهير بن القين عن أيّ واقعة أو حدث أو محاورة أو تصريح من زهير نفسه تتجلّى فيه هذه العثمانية التي ألصقت فيه ، مع أنّ الآخرين ممّن عرفوا بعثمانيتهم كانوا قد عرفوا بها من خلال آرائهم ومواقفهم واشتراكهم في حرب أو أكثر ضدّ علي عليه السلام(1) .
ص: 189
روى الطبري في تاريخه قال : فأقبل الحسين عليه السلام حتى إذا كان بالماء فوق زرود .
قال أبو مخنف : فحدّثني السدي عن رجل من بني فزارة قال : لمّا كان زمن الحجاج بن يوسف كنّا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في التمارين التي أقطعت بعد زهير بن القين من بني عمرو ابن يشكر من بجيلة ، وكان أهل الشأم لا يدخلونها ، فكنّا محتبين فيها .
قال : فقلت للفزاري : حدّثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي عليهماالسلام .
قال : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير
الحسين عليه السلامفلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين عليه السلامتخلّف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين عليه السلام تقدّم زهير ، حتى
نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين عليه السلام في جانب ، ونزلنا في جانب .
فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلامحتى سلّم ، ثم دخل ، فقال : يا زهير بن القين!! إنّ أبا عبد اللّه الحسين بن علي عليهماالسلامبعثني إليك لتأتيه .
ص: 190
قال : فطرح كلّ إنسان ما في يده حتى كأنّنا على روسنا الطير .
وزاد السيد محسن الأمين في الأعيان قال : فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده حتى كأنّ على روسنا الطير ، كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين عليه السلام فإنهم كانوا عثمانية يبغضون الحسين وأباه(1) .
قال أبو مخنف : فحدّثتني دلهم بنت عمرو ، امرأة زهير بن القين ، قالت : فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثم لا تأتيه ، سبحان اللّه ، لو أتيته فسمعت من كلامه ، ثم انصرفت .
قالت : فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه .
قالت : فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقدّم وحمل إلى الحسين عليه السلام .
ثم قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك ، فإني لا أحبّ أن يصيبك من سببي إلاّ خير .
ثم قال لأصحابه : من أحبّ منكم أن يتبعني وإلا فإنّه آخر العهد ، إنّي سأحدثكم حديثاً :
غزونا « بلنجر » ففتح اللّه علينا ، وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الباهلي(2) : أفرحتم بما فتح اللّه عليكم ، وأصبتم من المغانم ؟! فقلنا : نعم .
ص: 191
فقال لنا : إذا أدركتم شباب آل محمد صلى الله عليه و آله ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكممعهم بما أصبتم من الغنائم .
فأمّا أنا ، فإني أستودعكم اللّه .
قال : ثم - واللّه - ما زال في أول القوم حتى قتل(1) .
بالرغم من أنّ الرواية مروية « عن السدي عن رجل من بني فزارة » فهي ضعيفة على الأقل بمجهولية الفزاري ، إلاّ أ نّنا لم نلتزم بمناقشة السند ، لأنّنا لا نريد إسقاط الرواية وتكذيبها ، وإنّما نفترض صحّة النقل ، بيد أ نّنا نحاول أن نقرأ الخبر قراءة جديدة ، ونفهمه فهماً ينسجم تماماً مع علوية زهير وخروجه لتلقي سيد شباب آل محمد صلى الله عليه و آله .
نقرأ في ظروف نقل الخبر أنّ الراوي كان في إزمة أمنية شديدة ، خائفاً على نفسه ، ملاحقاً متخفياً لاجئاً الى موضع يأمن فيه الطلب وفق حساباته .
ص: 192
قال : « لمّا كان زمن الحجاج بن يوسف كنّا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في التمارين التي أقطعت بعد زهير بن القين من بني عمرو ابن يشكرمن بجيلة ، وكان أهل الشأم لا يدخلونها ، فكنّا محتبين فيها .
قال : فقلت للفزاري : حدّثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي عليهماالسلام » .
ونحن لا ندري لم تخلّف هذا الفزاري عن التحاق بركب الشهادة ، ثم أصبح اليوم خائفاً متلدّداً ؟
وكيف كان ، فإنّ المفروض أن لا يكون الخائف على نفسه ، المتخفي في موضع يظنّ أنّ فيه أمانا من الطلب قادراً على نقل الحقائق وفق مجريات الأحداث والواقع ، وكيف يمكنه أن يشي بنفسه ويعترف أ نّه كان في موقف يمكن أن يسجّل عليه في مماشاة الحسين عليه السلام أو ما يستشمّ منه نية النصرة أو ما شاكل .
ولا نقصد بالنصرة نصرته شخصياً ، لأ نّه خذل الحسين عليه السلام قطعاً ، ولولا ذاك لما بقي الى يوم نقل الخبر ، وإنّما نقصد أ نّه ينقل قصة زهير باعتباره خارجاً يتلقى الحسين عليه السلام فيؤاخذ بها من حيث كونه مسايراً لزهير ، وتكون حجة عليه بيد خصمه .
فلا يمكن الإطمئنان الى كلّ تفاصيل الخبر ودقة المنقول في أجواء
الخوف من أعداء الحسين عليه السلام .
صرحت الرواية أنّ زهيراً لم يكن وحده في تلك الصحراء ، وإنما كان
ص: 193
مع جماعة من أهله وأبناء عمومته وممّن التحق به كالفزاري وجماعته ، سيما إذا تأملنا قوله « كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة » ،فإنّه عبّر بالجمع عن نفسه ومن كان معه ، ولم يقل : « كنت » .
وقد روى الخبر الفتال النيسابوري والسيد ابن نما والسيد الأمين
والسيد ابن طاووس والسيد شرف الدين عن جماعة من الفزاريين والبجليين ، فقالوا : وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة(1) .
ويترتب على ذلك عدّة أمور تأتي إن شاء اللّه تعالى .
قال الفزاري : « كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين عليه السلام تخلّف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين عليه السلامتقدّم زهير ، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين عليه السلام في جانب ، ونزلنا في جانب » .
ويمكن تسجيل عدّة ملاحظات على هذا المقطع :
الملاحظة الأولى : المسايرة
إنّ الظاهر من قول الفزاري : « أقبلنا من مكة نساير الحسين عليه السلام »
ص: 194
أ نّه كان قد خرج من مكة مع الإمام الحسين عليه السلام وكيف يمكنهم مسايرة
ركب الفتح الحسيني من مكة وقد سبقهم سيد الشهداء عليه السلامبالخروج منذيوم التروية ؟ والحال أ نّهم كانوا قد أتمّوا الحج ؟!
الملاحظة الثانية :
قال الشيخ محمد جواد الطبسي حفظه اللّه : لا يستقيم محتوى متنها - يعني الرواية - مع الحقيقة التاريخية والجغرافية ، ذلك لأنّ زهير بن القين كان عائداً من مكة الى الكوفة بعد الإنتهاء من أداء الحج ، فلو فرضنا أ نّه قد خرج من مكة بعد إنتهاء مراسم الحج مباشرة ، فإنّه يكون قد خرج منها في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة على الأقوى ، وبهذا يكون الفرق الزمني بين يوم خروجه ويوم خروج الإمام عليه السلام منها خمسة أيام على الأقل .
وإذا كان هذا فكيف يصحّ ما في متن الرواية : « كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين عليه السلام . . » الدال حسب الظاهر
أ نّهم سايروا الإمام عليه السلام من مكة(1) !
فكيف يمكن اختزال خمسة أيام مسير في البرية على الدواب والتمكن
من الالتحاق بالحسين عليه السلام ؟
الملاحظة الثالثة :
قد يقال : إنّ زهيراً خرج متعجلاً مجدّاً في السير وبذلك استطاع اللحاق بالركب الحسيني !
ص: 195
ويجاب ذلك :
أولاً :« لو أ نّنا افترضنا أنّ زهير بن القين بادر بعد الفراغ من أداء مناسك الحج « فانصرف من مكة متعجلاً » - على ما في رواية البلاذري - ، وجدّ السير لا يلوي على شيء ، فإنّ الفارق الزمني في أثره على الفارق المكاني قد لا يتغيّر ، ويبقى كما هو على الأقوى ، لأنّ الإمام عليه السلامحسب متون تاريخية عديدة كان قد خرج من مكة يجدّ السير أيضاً نحو العراق ، ولا يلوي على شيء(1) » .
فالركبان مجدّان ، لا يلويان على شيء ، مسرعان معاً على وسائل
متماثلة في السرعة ، ممّا يجعل الفارق الزمني باقياً على حاله .
ثانياً :
لمّا كان زهير ومن معه كارهاً لمنازلة الحسين عليه السلام فلماذا العجلة والجدّ في السير ، كان بإمكان المكث في مكة أو السير كما تسير كلّ القوافل العائدة من الحج ، ويحتفظ بالفارق الزمني بينهما ، وخمسة أيام من المسير ليست بالقليلة .
الملاحظة الرابعة :
قد يقال : إنّ ركب الشهادة الحسيني كان ركباً كبيراً ، وقد ضمّ الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والشبان ، فهو مهما كان مجدّاً في السير لا يمكن أن يكون سيره سريعاً حثيثاً !
ص: 196
ويجاب على ذلك :
أولاً :إنّ الواقع التاريخي يثبت خلاف ذلك ، فإنّ الركب الحسيني قطع المسافة بين مكة وكربلاء في زهاء أربعة وعشرين يوماً حيث خرج من مكة يوم التروية « الثامن من ذي الحجة » ووصل كربلاء في اليوم الثاني من محرم الحرام ، وهي فترة لا يمكن لقافلة كبيرة أن تستغرقها في قطع مثل هذه المسافة في الحالات العادية .
ثانياً :
مرّ معنا قبل قليل أنّ زهيراً أيضاً كان مع قافلة ليست بالصغيرة ، حيث ضمّت أهله وأقرباءه والملتحقين به من أمثال الفزاري الراوي لهذا الخبر .
ذكر بعض المؤرخين امتناع زهير عن إجابة دعوة سيد الشهداء عليه السلام وريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وفسّروا ذلك بتعثمنه ، ولكنّنا نجد مؤرخين
آخرين رووا قصة زهير دون أن يرد في روايتهم أيّ ذكر لامتناعه من الذهاب الى الإمام الحسين عليه السلام .
« فها هو ابن أعثم الكوفي(1) - المعاصر لكل من الطبري والدينوري والبلاذري - يروي قصة هذا اللقاء بدون أيّ ذكر للعثمانية أو للإمتناع - قائلاً : ثم مضى الحسين فلقيه زهير بن القين ، فدعاه الحسين الى نصرته ،
ص: 197
فأجابه لذلك ، وحمل اليه فسطاطه ، وطلّق امرأته ، وصرفها الى أهلها ، وقال لأصحابه : إنّي كنت غزوت بلنجر مع سلمان الفارسي ، فلمّا فتحعلينا اشتدّ سرورنا بالفتح ، فقال لنا سلمان : لقد فرحتم بما أفاء اللّه عليكم! قلنا : نعم .
قال : فإذا أدركتم شباب آل محمد صلى الله عليه و آله فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه منكم بما أصبتم اليوم . فأنا أستودعكم اللّه تعالى ، ثم ما زال مع الحسين حتى قتل(1) » .
في تعبير صاحب الأعيان إشارة تكاد تكون صريحة الى أن المرافقين هم الذين كرهوا ذهاب زهير وتلبيته دعوة أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام لأ نّهم كانوا عثمانية ، ولم يصرح أنّ زهيراً كان كارهاً أو أ نّه كان عثمانياً .
فليس هو زهير الذي امتنع أو كان عثمانياً ، وإنما كان مرافقوه يكرهون اللقاء لأنهم من العثمانية .
قال رحمه الله : فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده حتى كأنّ على روسنا الطير ، كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين عليه السلام فإنهم كانوا عثمانية يبغضون الحسين وأباه(2) .
ص: 198
ومن الطبيعي أن يتقي زهير في مثل هذا الموقف كما فعل حبيب بن مظاهر يوم بلغه كتاب الحسين عليه السلام يدعوه فيه للإلتحاق به .ويؤكد ما ذكره السيد الأمين رحمه الله ما قاله الفزاري في رواية الطبري ، قال : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين عليه السلام فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين عليه السلام تخلّف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين عليه السلام تقدّم زهير .
فكأنّه كان يعبّر عن موقفه وأصحابه فقال : فلم يكن شيء أبغض إلينا ، ثم تحدّث عن موقف زهير ، فقال : فإذا سار الحسين عليه السلام تخلّف زهير بن القين .
فربما أفاد هذا التمييز في الكلام أ نّهم كانوا يكرهون منازلة الحسين عليه السلام وكان زهير باعتباره صاحب القافلة يجاريهم ويداريهم في ذلك ، ولو كان الجميع بما فيهم زهير يكرهون المنازلة ، لنسب الكراهية لزهير ، أو أ نّه كان يستمر في إستعمال ضمير « نا » ويقول مثلاً : فإذا سار الحسين عليه السلام تخلّفنا ، وإذا نزل الحسين عليه السلام تقدّمنا . . .
فليس في عبارة الفزاري ما ينسب الكراهة الى زهير شخصياً ، ولاصراحة في نسبة الكراهة له مباشرة .
لم يرد في ما نعرفه من النصوص التاريخية أنّ الحسين عليه السلام سأل عن النازل الى جنبه ، كما روي في قصة عبيد اللّه بن الحر الجعفي ، وقد دخل الرسول متوجهاً في كلامه الى زهير مباشرة ، ومخاطباً له دون سواه .
ص: 199
قال الفزاري : « حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين عليه السلام في جانب ، ونزلنا في جانب .فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلامحتى سلّم ، ثم دخل ، فقال : يا زهير بن القين!! إنّ أبا عبد اللّه الحسين بن علي عليهماالسلامبعثني إليك لتأتيه » .
هكذا دخل بعد أن سلّم، فلم يسألهم أي سؤال عن هويه الركب، ولم يسأل عن شخص زهير ليتعرف عليه ، وإنما توجه الى ركب يعرفه جيداً ، ويعرف من بين كلّ أولئك الرجال زهيراً فيتوجه اليه بالخطاب مباشرة دون أي تردّد أو بحث في الوجوه . فلم يقل مثلاً : لمن هذا الركب ؟ أو من منكم زهير ؟
كما أ نّه دفع رسالة الحسين عليه السلام الى زهير فقط دون غيره من أعضاء الركب ، « فقال : يا زهير بن القين !! إنّ أبا عبد اللّه الحسين بن علي عليهماالسلام بعثني إليك لتأتيه » .
تأمّل كيف نادى زهيراً بالاسم الكامل ، فقال : يا زهير بن القين ، ثم وجه له رسالة أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام مستخدماً ضمير الخطاب المفرد
« بعثني اليك لتأتيه » !!
يفيد ذلك أنّ الدعوة كانت لرجل معروف ، يعرفه الحسين عليه السلامويطلبه بعينه ، ويقدّم له الدعوة الموعود بها من قبل . . .
پخرج أنصار الحسين عليه السلام يتلقّون سيدهم كلّ بطريقته التي يسّرها
ص: 200
اللّه له ، وكان الحسين عليه السلام يلتقطهم في الطريق واحداً بعد واحد ، وجماعة بعد جماعة ، فمنهم من التحق به في مكة .ومنهم من التحق به على مشارف مكة ، مثل يزيد بن ثبيط العبدي وابنيه عبد اللّه وعبيد اللّه .
قال الشيخ السماوي رحمه الله : كان يزيد من الشيعة ، ومن أصحاب أبي الأسود ، وكان شريفاً في قومه .
قال أبو جعفر الطبري : كانت مارية ابنة منقذ العبدية تتشيع ، وكانت دارها مألفاً للشيعة يتحدّثون فيه ، وقد كان ابن زياد بلغه إقبال الحسين عليه السلام
ومكاتبة أهل العراق له ، فأمر عامله أن يضع المناظر ، ويأخذ الطريق ؟
فأجمع يزيد بن ثبيط على الخروج إلى الحسين عليه السلام وكان له بنون عشرة ، فدعاهم إلى الخروج معه ، وقال : أيّكم يخرج معي متقدّماً ؟ فانتدب له إثنان عبد اللّه ، وعبيد اللّه .
فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة : إنّي قد أزمعت على الخروج ، وأنا خارج ، فمن يخرج معي ؟ فقالوا له : إنّا نخاف أصحاب ابن زياد ، فقال : إنّي واللّه أن لو قد استوت أخفافها بالجدد لهان عليّ طلب من طلبني .
ثم خرج وابناه ، وصحبه عامر ، ومولاه ، وسيف بن مالك ، والأدهم
بن أمية ، وقوى في الطريق حتى انتهى إلى الحسين عليه السلام وهو بالأبطح من
مكة ، فاستراح في رحله ، ثم خرج إلى الحسين عليه السلام إلى منزله .
وبلغ الحسين عليه السلام مجيئه ، فجعل يطلبه حتى جاء إلى رحله ، فقيل له : قد خرج إلى منزلك ، فجلس في رحله ينتظره .
ص: 201
وأقبل يزيد لمّا لم يجد الحسين عليه السلام في منزله ، وسمع أ نّه ذهب إليه راجعاً على أثره ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام في رحله قال : « قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِفَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا » ، السلام عليك يا بن رسول اللّه ، ثم سلّم عليه ، وجلس إليه ، وأخبره بالذي جاء له ، فدعا له الحسين عليه السلامبخير ، ثم ضمّ رحله إلى رحله ، وما زال معه حتى قتل بين يديه في الطف مبارزة ، وقتل ابناه في الحملة الأولى(1) .
ومنهم من اتخذ خروج الناس لحرب الحسين عليه السلام مطية ، فخرج مع
عسكر ابن سعد - لعنه اللّه - ثم التحق بركب الشهادة ، وهم كثيرون ، منهم مسعود بن الحجاج التيمي وابنه عبد الرحمن بن مسعود وبكر بن حي بن تيم اللّه (2) .
ومنهم من انتظره في منازل جهينة كعباد بن المهاجر الجهني ، وعقبة بن الصلت الجهني وغيرهم(3) وهكذا . . .
أسدي ينتظر الشهادة مع الحسين عليه السلام في كربلاء
ومنهم من كان ينتظره في الصحراء ، وقد ابتعد عن المدينة وتحمل هجير القفار ، واكتوى بلهيب الرمضاء انتظاراً لليوم الموعود ، وتحقيقاً للأمل المنشود .
ص: 202
ففي تاريخ دمشق لابن عساكر بإسناده عن العريان بن الهيثم قال : كان أبي يتبدى ، فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين عليه السلامفكنا لا نبدو إلاّ وجدنا رجلاً من بني أسد هناك .
فقال له : إنّي أراك ملازماً هذا المكان ؟!
قال : بلغني أنّ حسيناً يقتل ها هنا ! فأنا أخرج لعلي أصادفه فأقتل معه .
فلمّا قتل الحسين عليه السلام قال أبي : انطلقوا ننظر هل الأسدي فيمن قتل !! وأتينا المعركة ، فطوفنا ، فإذا الأسدي مقتول(1) .
خروج الكلبي مع أهله في طلب الحسين عليه السلام
روى الشيخ حسين البلادي البحراني قال : نزل الحسين عليه السلام في موضع يسمى ب« غدير الهيجا » ، فأقام فيه يومه كلّه ، فلمّا كان اليوم الثاني خرج الحسين عليه السلام من خيمته منفرداً بنفسه ، فإذا هو بفسطاط مضروب ، وفرس مربوط ، ورمح مركوز ، وجارية جالسة على الطريق ، عن يمينها وشمالها أربعة أولاد ، وأمامهم عجوز مكفوفة البصر .
وكان عليه السلام إذا قصد مكاناً يسبقه النور الذي في وجهه ، وكان إذا رآه الرجل يقول : ما أشبه هذا النور بنور رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإذا أراد أن يتكلّم تبسّم أولاً .
ص: 203
فلمّا رأى الحسين عليه السلام تلك الجارية قصد اليها ، فسبق ذلك النور قبل أن يصل لها ، فالتفتت الجارية ، فإذا هي ترى نوراً ساطعاً كأنّه القمر ، فلمّارأت ذلك النور تذكرت نور رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وبكت ، فقالت لها عمّتها : ما يبكيك ؟ فسكتت ولم تردّ عليها جواباً .
فلمّا وصل الحسين عليه السلام إلى الجارية رحّبت به ، وأدخلته الخيمة ، وبسطت له بساطاً ، ووضعت له متكئاً ، وأكرمته غاية الإكرام ، فنشر الحسين عليه السلام بردته على البساط ، وجعل يسبح اللّه تعالى ويقدّسه ، ثم التفت إلى الجارية فقال : يا عاتكة! أين مضى بعلك ؟ وكان اسمها عاتكة بنت جابر الأزدي .
فقالت له : مضى منذ ثلاثة أيام في طلب الماء .
فقال لها : ناوليني شربة .
فقالت له : واللّه ما بقيت عندي إلاّ قطرة في شنّ يابس أبلل به أفواه الأطفال .
فقال عليه السلام : عليّ بها يا جارية ، وكان من عادة العرب أ نّهم يملّكون الضيف جميع ما يطلب .
فقالت الجارية : واللّه لأعطينّك هذه القطرة ولو . . .(1) .
فناولته ذلك الشنّ ، فذاقه ، ثم غمس يده فيه ، وردّه اليها ، فتناولته ، فإذا هو مليء ماء بقدرة اللّه تعالى ، ثم مدّ يده ثانية في طرف الخيمة
ص: 204
فخطّ بها خطاً ، وقيل : غمس يده في التراب ، ثم رفعها ، فإذا الماء يجري كأنّه العين الفائضة بقدرة اللّه تعالى ، ثم قال عليه السلام : يا عاتكة ، أتريدين أنأزيدك من هذا ؟ فلو أردتي أن أصيّره شطّاً لفعلت .
فقالت له : باللّه عليك يا مولاي ؟!
فقال عليه السلام : إنّك لعارفة بي !! لكنّك معذورة حيث أنّك وبعلك في طلب شيء تريدون به الفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، ولولا الذي صار فيه قلبك لعرفتيني حقّ المعرفة !
فقالت له : ما اسم بعلي ؟
قال : وهب .
فقالت له : وما اسم أبي ؟
قال : جابر بن يزيد الأزدي .
فقالت : وما اسم عمّتي ؟
قال : اسمها رقية ، وها أنا ماض عنكم ، ولكن يا عاتكة ، إذا أقبل بعلك وهب فقولي له : إن الذي تطلبه وتسأل عنه في البراري والأودية ها هو أمامك يؤم الظعينة مصاحباً للكرب والبلاء ، ومقرّه كربلاء .
فأقبلت على عمّتها رقية وقالت : يا عمّتاه ، إنّ الذي قد أقبل شممت منه رائحة المسك والعنبر ، وقد رأيت منه معاجز كثيرة .
فقالت لها : وما هذه المعاجز التي رأيتيها منه ؟
فقالت لها : أولها : ناولته الشنّ وهو يابس ، فلمّا مسكه بيده صار ملآناً ، والثانية : أ نّه خطّ بإصبعه خطاً فنبع الماء ، وقد عرف اسمي واسمك
ص: 205
واسم بعلي ، وأخبر عن شيء في ضميرنا ، ولمّا أراد الخروج من عندنا رأيت النعل قد دار في رجليه ، ونور وجهه مشرق مضيء ، وقد قالعند خروجه : يا عاتكة ، إذا أقبل ابن عمّك وهب ، فقولي له : إنّ الذي
أنت ماض في طلبه هو أمامك ، يؤم الضعينة ، مصاحباً للكرب والبلاء ، ومقرّه كربلاء .
فقالت رقية : يا عاتكة ، هذه الأوصاف لا توجد في زماننا إلاّ في الحسين بن علي عليهماالسلام وهو الذي يتطلّبه بعلك ، وكربلاء هي مقرّه ومدفنه ، ولكن قومي يا عاتكة ، اعلميني بالمكان الذي وطأ فيه الحسين عليه السلامبنعله ، اجعله شفاء لعيني ، لأ نّها لا تبصر بهما .
فلمّا أقبلت بها على المكان الذي وطأه الحسين عليه السلام بنعله أهوت رقية
عليه ، وقبّلت تلك الأقدام ، وقالت : اللّهم إن كانت هذه الأقدام أقدام ابن بنت نبيك محمد صلى الله عليه و آله الذي يقتل غريباً عطشاناً ردّ عليّ بصري ، إنّك على كلّ شيء قدير .
فما أتمّت كلامها إلاّ وقد ردّ اللّه تعالى بصرها ببركة الحسين عليه السلام .
فبكت رقية وقالت : يا عاتكة ، ألا ترين كيف ردّ اللّه تعالى عليّ بصري ، فهذا هو مولانا الحسين عليه السلام .
فلمّا أقبل الليل ، أقبل وهب ، فلمّا قرب من الخيمة قال : يا أمّاه أنّي أشمّ عندكم رائحة الجنّة !
فقالت أمّه : يا بني ، هذا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذي أنت تطلبه ، وقد رأى ذلك الماء ، وأمّه ردّ عليها بصرها بعد العمى .
ص: 206
فقال : وما قال لكم عند رواحه عنكم ؟
فقالت : يؤم الضعينة ، مصاحباً للكرب والبلاء ، ومقرّه أرض كربلاء .لمّا سمع وهب ذلك تهلل وجهه فرحاً وسروراً ، وقوّض خيامه ، ولحق
سيده وإمامه ، حتى أناخ معه في كربلاء ، مصاحباً معه الكرب والبلاء .
فلمّا صار يوم النزال ، اشتد القتال ، قالت له أمّه : يا بني فانصر ابن بنت رسول اللّه عليهم السلام .
فقال : أفعل يا أمّ ولا أقصّر .
فبرز رضوان اللّه عليه ، وطلب الرخصة من الحسين عليه السلام في الجهاد بين
يديه ، وخرج لحومة الميدان ، ومقابلة الشجعان ، وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن الكلبي
سوف تروني وترون ضربي
وحملتي وصولتي في الحرب
أدرك ثاري بعد ثار صحبي
وأدفع الكرب أمام الكرب
ليس جهادي في الوغى باللعب
ثم حمل ولم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ثم رجع الى إمرأته وأمّه ، وقال : يا أمّاه رضيت ؟
فقالت : ما رضيت ، حتى تقتل بين يدي الحسين عليه السلام(1) . . .
* * *
فهذا زهير بن القين حاله حال هؤلاء ، خرج يتلقّى الحسين عليه السلام وقد صرّح بذلك صاحب كتاب معجم ما استعجم ، كما سيأتي ..
ص: 207
لم نعثر على أيّ نصّ يتحدّث عمّا دار بين الحسين عليه السلام وزهير بن القينحينما تشرف باللقاء الأول ، ويبدو من كلام زوجته الذي نقله الطبري
وغيره أنّ اللقاء لم يدم طويلاً لأ نّها تقول : فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه .
فتعبير « ما لبث » يفيد أ نّه سرعان ما عاد الى رحله ، وأصحر عن نيته وعزمه في نصرة ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
بيد أنّ الشيخ باقر شريف القرشي - حفظه اللّه - قال في سياق نقل وقائع التحاق زهير بركب الشهادة :
« ماذا أسرّ اليه ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى جعله يتغيّر ؟ هل وعده بمال أو مغنم ؟! ولو وعده بذلك لما طلّق زوجته ، ولا ودّع أصحابه الوداع الأخير ، لقد بشّره بالشهادة ، والفوز بالجنة ، وذكّره بحديث طالت الأيام فنساه ، وقد حدّث به أصحابه قائلاً : سأحدّثكم حديثاً : غزونا بلنجر(1) . . . » .
وليس ثمة مؤشر - مهما كان ضعيفاً - يؤكد ما نقله سماحته من تذكير
الإمام له بحديث بلنجر ، وإنما روى زهير « قصة بلنجر » لأصحابه ومرافقيه من تلقاء نفسه ، ربما ليبرر لهم التحاقه الفوري ، وسرعة إجابته لسيد الشهداء عليه السلام .
ص: 208
بل إنّنا سنسمع بعد قليل ما قاله البكري الأندلسي ممّا يفيد أنّ زهيراً لم ينس حديث بلنجر قط ، وإنما كان يعدّ الأيام والليالي لينال أمنيته فينصر سيد شباب آل محمد صلى الله عليه و آله .
ولكن إذا فهمنا من رواية إبراهيم بن سعد التي رواها الطبري الشيعي
في دلائل الإمامة أ نّه ينقل ما دار بينهما فيكون هذا هو النص الوحيد المتوفر بأيدينا الكاشف عن حديثهما .
روى الطبري الشيعي بالإسناد عن عمارة بن زيد قال : حدّثنا إبراهيم
بن سعد قال : أخبرني أ نّه كان مع زهير بن القين حين صحب الحسين عليه السلام فقال له : يا زهير ، إعلم أنّ ها هنا مشهدي ، ويحمل هذا من جسدي - يعني رأسه - زحر بن قيس ، فيدخل به على يزيد يرجو نواله ، فلا يعطيه شيئاً(1) .
فإذا فهمنا من قوله : « كان مع زهير حين صحب الحسين عليه السلام فقال له .. » أ نّه كان معه حينما مضى الى الحسين عليه السلام في اللقاء الأول فيكون نقلاً لما دار في ذلك اللقاء .
قال الشيخ القرشي - حفظه اللّه - : وروى إبراهيم بن سعيد ، وكان قد صحب زهيراً حينما مضى الى الإمام الحسين عليه السلام قال له(2) . .
ص: 209
ويفيد هذا الفهم مدى عظمة زهير وتحمّله وثباته ومعرفته بالحسين عليه السلام بحيث يكشف له الإمام منذ اللحظة الأولى كلّ ما سيجري مفصلاً حتى ماسيجري على رأسه المقدس ، وخيبة حامله الملعون .
ولكن قد يقال : أ نّه لم يقل : صحب زهيراً حينما مضى الى الحسين عليه السلام أو عندما التقى الحسين عليه السلام مثلاً ، وإنّما قال : « كان مع زهير حين صحب الحسين عليه السلام فقال له . . » ، وكلمة « حين » أعم دلالة من التعبير عن اللقاء الأول ، سيما إذا لاحظنا قوله عليه السلام : « إعلم أنّ ها هنا مشهدي » فإنّ فيه إشارة الى القريب « ها هنا » وهو كربلاء ، فربما كان الحديث في كربلاء أو على مشارفها ، لا في زرود البعيدة عن المشهد وأرض المصرع .
فتكون « حين صحب » تعني خلال فترة مصاحبة زهير للإمام عليه السلام حتى لو كان ذلك في كربلاء أو على مشارفها .
وكيف كان ، فإنّ الرواية تفيد قرب زهير من ريحانة الرسول صلى الله عليه و آله ، بمستوى يؤهله لسماع عظائم الأمور ، التي لا يحتويها صدر « عثماني » جديد عهد بالولاء .
« لقد كان زهير يحمل في قلبه إيماناً وثباتاً ، ووعياً مشرقاً ، فالتحق بموكب العترة الطاهرة ، وصار من أصلب المدافعين عنها ، ومن ألمع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ففداه بروحه ، واستشهد في سبيل قضيته العادلة التي تحمل هدي الإسلام ، ودوافع الإيمان(1) » .
ص: 210
قال البكري الأندلسي « ت 487 هجرية » في كتابه معجم ما استعجمفي مادة « بلنجر » :
« بلنجر » بفتح أوله وثانيه ، وإسكان ثالثه ، بعده جيم مفتوحة ، وراء مهملة : مدينة ببلاد الروم ، شهد فتحها عدد من الصحابة .
قال زهير بن القين البجلي : غزوت بلنجر ، وشهدت فتحها ، فسمعت
سلمان الفارسي رحمه الله يقول : أفرحتم بفتح اللّه لكم ! فإذا أدركتم شباب آل محمد صلى الله عليه و آله ، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم .
فلمّا سمع زهير بخروج الحسين بن علي عليهماالسلام تلقّاه ، فكان في جملته ، وقتل معه بكربلاء .
وكان الحسين عليه السلام يتمثّل في ذلك اليوم :
لعمرك ما بالموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
فإن عاش لم يندم وإن مات لم يلم
كفى بك موتاً أن تذلّ وتظلما(1)
وهذا تصريح واضح وصريح يدلّ بوضوح أنّ زهيراً لم ينس في يوم ما بشرى سلمان الفارسي ، ووعده لهم بنصرة شباب آل محمد صلى الله عليه و آله ، وأ نّه هو الفوز العظيم الذي ينبغي أن يدخر له كلّ فرح وسرور وحبور .
وأنّ زهيراً خرج قاصداً عامداً ميمّماً وجهه نحو سيد الشهداء عليه السلام
مترقباً للساعة التي تجمعه بركب السعداء ، فأعرض عن الرخاء ،
ص: 211
وتحمّل رمضاء الصحراء ، ليقع على طريق ركب الشهادة ، فيدرك الفوز بالسعادة ، وينال شرف الدعوة الحسينية الكريمة التي توجهت له ليشاركهفي جهاده .
إنّها عبارة صريحة شفافة « فلمّا سمع زهير بخروج الحسين بن علي عليهماالسلام
تلقّاه ، فكان في جملته ، وقتل معه بكربلاء » .
فلمّا سمع زهير بخروج الحسين عليه السلام تلقّاه ، وهذا يعني أ نّه كان يتسقّط أخبار الحسين عليه السلاموينتظر
خروجه ، فلمّا سمع بخروجه خرج لاستقباله ، وجهّز نفسه لآخرته ، وهو يسمع سيد الشهداء عليه السلام يتمثّل بأبيات تكشف عن عزمه على الشهادة .
هذا ، وقد رأينا جماعة من أصحاب الحسين عليه السلام خرجوا من الكوفة للفوز بلقاء الحسين عليه السلامونصرته
، وإفلاتاً من يد الطاغية الذي كان يسجن على الظنة والتهمة في حبّ الحسين عليه السلام وقد عجّت السجون بالشيعة في ذلك اليوم ، وقتل منهم أعداداً هائلة .
دأب المؤرخ على تشويه حركة الحسين عليه السلام
وتشويه صورة أصحابه ما استطاع الى ذلك سبيلاً ، ولم يكن زهير وحده الذي تعرّض لهذا الهجوم الشرس من قبل المؤرخ ، بل شمل الهجوم وجوهاً ناصعة أخرى من قبيل الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي .
ص: 212
والغريب أ نّنا لم نجد أحداً قبل من المؤرخ ما ذكره في حقّ هذا الصحابي الجليل ، فلماذا نقبل ذلك في زهير دون غيره ؟!قال البلاذري : « وكان أنس بن الحارث الكاهلي سمع مقالة الحسين عليه السلام
لابن الحرّ ، وكان قدم من الكوفة بمثل ما قدم له ابن الحر ، فلمّا خرج - أي خرج الحسين عليه السلام
من فسطاط ابن الحر - من عند ابن الحر سلّم على الحسين وقال له : واللّه ما أخرجني من الكوفة إلاّ ما أخرج هذا من كراهة قتالك أو القتال معك ! ولكن اللّه قذف في قلبي نصرتك ! وشجّعني على المسير معك !
فقال له الحسين عليه السلام : فاخرج معنا راشداً محفوظاً(1) » .
ونحن هنا لا نريد مناقشة هذا الخبر بالتفصيل ، بيد أنّ ما ذكره البلاذري « لا يتلائم مع ما رواه جماعة من أهل السير عن هذا الصحابي الكبير ، أ نّه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : إنّ ابني هذا - يعني الحسين عليه السلام - يقتل بأرض كربلاء ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره !
قال : فخرج أنس بن الحارث الى كربلاء فقتل مع الحسين عليه السلام(2) !
ص: 213
كما لا يتلائم ما ذكره البلاذري من أنّ مكان لقائه بالإمام عليه السلام في قصر بني مقاتل مع ما يوحيه ظاهر رواية ابن عساكر ، وما ذكره ابن حجر العسقلاني(1) من أ نّه خرج الى كربلاء فقتل مع الحسين عليه السلام .وفي إبصار العين : أ نّه كان جاء الى الحسين عليه السلام عند نزوله كربلاء ، والتقى معه ليلاً فيمن أدركته السعادة(2) . . .
وقد ذكر الشيخ باقر شريف القرشي أنّ الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي قد لازم الإمام الحسين عليه السلام وصحبه من مكة(3) ، ولعل الشيخ القرشي عثر على وثيقة تاريخية تقول بذلك ، أو لعل هذا من سهو قلمه الشريف ، لأنّ الذي عليه أهل السير أنّ أنس بن الحارث الكاهلي قد التحق بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكة - في العراق(4) - أو عند نزوله كربلاء »(5) .
ص: 214
سلمان بن مضارب بن قيس الأنماري البجلي ، كان سلمان ابن عمّ زهير لحّاً ، فإنّ القين أخو مضارب ، وأبوهما قيس .
وكان سلمان حجّ! مع ابن عمّه سنة ستين ، ولمّا مال في الطريق مع الحسين وحمل ثقله إليه مال معه في مضربه .
قال صاحب الحدائق : إنّ سلمان قتل فيمن قتل بعد صلاة الظهر ،
فكأنّه قتل قبل زهير(1) .
وذكره شمس الدين في أنصار الحسين عليه السلام وقال : ذكره الخوارزمي ، وقال عنه: أ نّه ابن عم زهير بن القين ، وذكر أ نّه مال إلى معسكر الحسين عليه السلام مع ابن عمّه زهير قبيل الوصول إلى كربلاء(2) .
وذكره السيد الخوئي في معجم رجال الحديث(3) . قال رحمه الله : سلمان بن مضارب بن قيس ، ابن عم زهير بن القين ، عدّه بعضهم من المستشهدين مع زهير بن القين يوم الطف .
ص: 215
وذكره الشيخ النمازي في مستدركات علم رجال الحديث(1) .
وذكره السيد محسن الأمين في الأعيان(2) .
وقال أحمد حسين يعقوب : قال سلمان بن مضارب البجلي ابن عم زهير بن القين : ائذن لي بالخروج يا ابن رسول اللّه ، فأذن له الإمام فقاتل الجموع الزاحفة نحو الإمام حتى قتل(3) .
ص: 216
ورد اسمها في بعض المصادر « دلهم بنت عمرو(1) » ، وفي بعضها « ديلم بنت عمرو(2) .
ولم نجد في كتب الرجال والتاريخ لها أيّ ذكر إلاّ بعد أن جاء رسول الحسين يدعو زهيراً .
بيد أنّ موقفها الذي سجّله التاريخ بكلّ عزّ وافتخار جعلها في رتبة النساء المميزات ، وكشف عن عمق ولائها ، ومعرفتها بالحقّ ، وأدبها الرفيع في التعامل مع إمامها وزوجها .
روى الطبري عن أبي مخنف قال : فحدّثتني دلهم بنت عمرو ، امرأة
زهير بن القين ...
وروى السيد ابن طاووس قال : فقالت له زوجته ، وهي ديلم بنت عمرو : سبحان اللّه ، أيبعث إليك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم لا تأتيه ، فلو أتيته ، فسمعت من كلامه .
ص: 217
فمضى إليه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فحوّل إلى الحسين عليه السلام وقال لامرأته : أنت طالق ، فإني لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلاملأفديه بنفسي ، وأقيه بروحي ، ثم أعطاها مالها ، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها .
فقامت إليه ، وبكت وودعته ، وقالت : كان اللّه عوناً ومعيناً ، خار اللّه لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام .
فقال لأصحابه : من أحبّ أن يصحبني وإلا فهو آخر العهد منى به(1) .
* * *
وهذا المقطع التاريخي يتحدّث لنا عن موقف زوجة زهير بن القين ، هذه الأبية الصابرة ، والمؤمنة العارفة ، والمضحية الموالية الواعية .
وبالرغم من أنّ هذا النصّ التاريخي لا يتضمّن أكثر من موقف واحد
لا أكثر إلاّ أ نّه يكشف عن صورة تكاد تكون شاملة تؤدي الى تفاصيل تستوعب حياة هذه الحرّة العظيمة .
يعرف عقل الإنسان ومعرفته في الهزاهز والمواقف الصعبة التي تحتاج
الى اتخاذ القرار في فترة وجيزة لتحديد المسار على مفترق الطرق ، سيما إذا
ص: 218
كان الطريقان من الخطورة بمكان ، فإمّا الى الجنة والسعادة الأبدية ، وإمّا الى النار والشقاوة السرمدية ، فإذا اختار الطريق المفضية الى الجنان فهو عاقل لأنّ العقل هو ما اكتسب به الجنان ، فيما روي عن الصادق(1) .
والأكثر من ذلك أن يكون الإنسان من الدقة ورهافة الحسّ ما يقدّر
به موقف الآخرين ، فيتصرف تصرفاً يرفع به الحرج عنهم .
فزوجة زهير أدركت بحسّها المرهف ، وشعورها اللطيف أنّ زهير وقع
في ورطة بين أولئك الرجال الذين كانوا يحيطونه ، وكانوا على الأغلب عثمانية ، كما نصّ على ذلك بعض المؤرخين ، فتحرّكت بعقلها ومداراتها لتستوعب الموقف ، وتخرج زهيراً من حرجه بين القوم ، فانبرت تحرضه على قبول دعوة ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، لتكون مشجعة له من جهة ، وتقدّم له مبرراً أمام القوم للاستجابة من جهة أخرى .
وكان احتجاجها عليه احتجاجاً لا يقبل الردّ ، فليذهب ويستمع الى ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم ينصرف ، المهم أ نّها فرصة لا كباقي الفرص أن تأتي دعوة من سيد شباب أهل الجنة ، فكيف تضيع الفرصة ، لأنّ الفرص تمرّ مرّ السحاب ، ولو أفلتت الفرص فقلّما تعود .
وهكذا تخاطبه بصيغة المتعجب الذي لا ينقضي عجبه ، وتوحي له ولمرافقيه أنّ الموقف لا يحتاج الى تأمّل أو مداراة لأحد ، فإنّ الداعي ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو من يتمنى أيّ رجل أن تتوجه له دعوة منه ،
ص: 219
فكيف يتردّد زهير أو غير زهير ، وكأنّها تقول له ولمرافقيه - وهم الأصل في خطابها - لا يمكن أن تتوقعوا من زهير أن يزهد أو يتردّد في لقاء ريحانة رسول اللّه وسيد شباب أهل الجنة .
وبأسلوب التعجب وبالإحتجاج القوي الذي لا يحتمل الردّ وفّرت كلّ ما يحتاجه زهير من عذر أمام القوم في الإستجابة لدعوة الحسين عليه السلام .
وفي نفس الوقت أدّت دورها كشقّ آخر لزهير - الزوج - في شدّ عزمه ، ودفعه الى المسارعة والسباق الى اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله ، والتنافس في
الخيرات والباقيات الصالحات .
وهكذا هي المرأة الصالحة التي يجعلها اللّه من عمّاله في الأرض ، يهمّها سعادة زوجها ، وأن تراه في الموضع الذي يحبّه اللّه ورسوله وابن رسوله ، ولا تستسلم لأنانيتها وخلودها الى الدعة والراحة ، فإذا ضمنت ما يرضيها لا تعير لما أصاب زوجها ، خيراً كان أو شرّاً ، سعيداً كان أو شقياً .
فقالت له زوجته : سبحان اللّه ، أيبعث إليك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم لا تأتيه ؟! فلو أتيته ، فسمعت من كلامه .
ويبدو أنّ عقلها ورزانتها وكياستها وسرعة بديهتها هي التي جعلت زهيراً يصارحها فوراً بما عزم عليه ، ويصحر لها عمّا في نيته ، وقد أعلن لها ولغيرها قبل ذلك باستبشاره وإشراقة وجهه ، فقال لها دون أيّ مقدمات
ص: 220
إعتماداً على معرفتها وقوة يقينها وإيمانها بعد أن جعلها في حلّ منه : وقد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بنفسي ، وأقيه بروحي .
فهو الفراق الذي لا لقاء بعده إلاّ في الجنة ، وهو إخبار عن فراق الزوج المحبوب الذي لا يريد أن يصيب زوجته بسببه إلاّ الخير ، وفي نفس الوقت إخبار لها بالشهادة ، وقد استوعبت الخبرين برحابة صدر ، وتسليم مطلق لزوجها وإمامها .
يبدو أنّ زوجة زهير عاشت في ظلّ زوجها حياة سعيدة ، لوفور عقلها وعمق معرفتها من جهة ، ولأ نّها وزوجها متمسكان بحبل اللّه المتين ، ومتدينان بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه و آله ، وسائران على منهاج سيد
الموحدين وأمير المؤمنين عليه السلام .
ويبدو أنّ العشرة بينهما قد طالت وامتدت الأيام المشتركة بينهما ، وقد طووا رحلة الحياة معاً تحت شعار زهير الذي أعلن عنه ساعة الإصحار بعزمه على الشهادة « لا أريد أن يصيبك بسببي إلاّ الخير ».
هذا هو الإساس المتين في العلاقة بين الزوجين ، أنّ الزوج لا يريد لزوجه الا الخير.
وفي هذا الشعار إشارة الى أنّ زوجة زهير كانت تعيش في ظلّ رجل لم تر منه الا الخير ، أو أ نّه كان ينوي ذلك لها في كلّ تصرفاته معها ، فهو ينوي لها الخير دائماً وأبداً.
ص: 221
وما سجّله لنا التاريخ مهما كان سريعاً وخاطفاً ومقتضباً إلاّ أ نّه يكشف لنا عن عمق التسليم ، وشدّة الوقار والإتزان ، وقوة اليقين ، والضبط الحازم للعواطف التي إمتازت به هذه الحرّة المضحية.
فالوداع والفراق بين زوجين حبيبين ثقيل عسير ، تلتهب فيه العواطف ، وتتكسر فيه الجمل والعبارات ، وتموت فيه الكلمات ، وتختفي فيه كلّ تفاصيل الحياة وراء هواجس البعاد ، هذا لو كان الفراق والوداع لسفر ينتظر بعده اللقاء القريب ، فماذا لو كان الوداع لفراق لا لقاء بعده إلاّ في الآخرة ؟
ولكنّها « قامت اليه » وانتصبت أمامه ، واستعدت له استعداد المتجلّد
الصابر ، و« بكت » و« ودعته » .
وكيف لا تبكي وهي تودع زهيراً الزوج الصابر الحنون الذي تراه
ببصيرتها ويقينها بكلام إمامها - بعد أيام قليلة - صريعاً على الرمضاء ، مضرجاً بالدماء ، مقطعاً إرباً إرباً بسيوف الأعداء ، وهي تحثّه بشجاعة المؤمن المحتسب ليقدّم روحه وجسمه وكلّ دنياه لدينه وإمامه فداء ، فما هي إلاّ أيام تعدّ ساعتها في فترة وجيزة وبرهة سريعة حتى يتقطع هذا البطل الضرغام أشلاء ، وترمله الدماء ، ويفصل بين رأسه وجسده ، ويرفع رأسه على السنان ، ويشهر به في البلدان.
بكت على زهير بن القين الزوج الذي سينصر الحسين عليه السلام فهي تبكي لزوجها وتبكي لصاحب ميمنة سلطان المظلومين . . .
ص: 222
إنّ بكاءها وتلاطم المشاعر والأحاسيس ، وزحمة العواطف ساعة الوداع لم يمنعها من تقوية عزمه ، وتشجيعه وحثّه ، والربط على قلبه ، وشدّ أزره ، والدعاء له ، وإغتنام الفرصة لتسجيل موقف عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقالت له : كان اللّه عوناً ومعيناً ، خار اللّه لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام .
وقد ذكرت في كلمات الوداع ثلاث فقرات:
الفقرة الأولى: كان اللّه عوناً ومعيناً
إنّ زهير بن القين مقدم على أمر ليس باليسير ، عليه أن يشقّ أمواج الفتن بسفن النجاة ، فهو يريد أن يواجه الدنيا بأسرها ، يقارع عساكر الدنيا والنفس ، وينصر اللّه ورسوله وإمام زمانه المفترض عليه طاعته في معركة يتمنى فيها زهير الموت ألف مرّة على أن لا يصيب الحسين وفتيته أذى ، ويقاتل جيوش الكفر وعساكر الظلام والضلال ، وقد إجتمع الناس كلّهم على الحسين عليه السلامورجاله .
وقد تظاهر الأعداء وتكردسوا في قطعات عسكرية انتشر خبرها في أرجاء الصحراء ، وصارت تنحدر كالسيل الى أرض كربلاء ، لتقاتل عدداً محدوداً من رجال الحقّ الأوفياء .
فالعدو كثير العدد ، قوي العدّة ، شرس الطبع ، وحشي السيرة ، لا يعرف القيم والأخلاق ، ممسوخ لا يذكر شيئاً من الإنسانية ، ولا يألف الرحمة والرأفة والآداب .
ص: 223
والأهم أن يعرف الإنسان موطأ قدمه على أرض الإيمان ونصرة ولي الرحمن ، فيقف عليها ثابتاً راسخ القدم لا تزلزله العواصف والعواطف وتقلّب المواقف ، فيبقى على يقين واستقامة في صف الإيمان لئلا يحدث ثغرة في بنيان الحقّ المرصوص .
وهذا كلّه لا يكون إلاّ بعون اللّه والإستعانة به ، ومن أعانه اللّه وكان عونه ومعينه لا يخشى بعده أحداً أبداً ، ولو اجتمع عليه الثقلان ، بل كلّ مخلوقات القوي المنان .
ولهذا دعت له فقالت : كان اللّه عوناً ومعيناً ، شحذت له همته ، وشدّت على عضده ، وحرضته على الإقدام في نصر الحسين عليه السلام فإنّ قلبه وعضده
مسددة بعون اللّه وإعانته .
الفقرة الثانية: خار اللّه لك
الإستخارة في معناها اللغوي : طلب الخير من اللّه سبحانه ، وهي أدب شرعي ، لا يستغني عنها المؤمن في كلّ صغيرة أو كبيرة من تفاصيل حياته ، وقد ورد الحث عليها في روايات أهل البيت عليهم السلامكثيراً(1) .
ومن هذا الدعاء نستكشف فقاهة هذه المرأة الصالحة ، وتأدبها بالأدب الشرعي ، حيث تدعو لزوجها بالخيرة من اللّه ، وتلتزم بالإستخارة في أدق وأهم موقف في حياتها وحياة زوجها.
ص: 224
وربما كان قولها: « خار اللّه لك » ، إخباراً وليس إنشاءاً ، بمعنى أ نّها تخبره أنّ اللّه قد خصّك بالخير كلّه ، ووفقك لللحاق بركب الشهادة بين يدي سيد الشهداء الحسين عليه السلام .
فتكون حينئذٍ قد عبّرت عن مدى نفاذ بصيرتها ، وقوة معرفتها ويقينها وولائها من خلال تمييزها الدقيق بين خطي الضلال والهدى ، ومعرفتها أنّ نصر ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله هو الخير الذي أراده اللّه لعباده الصالحين ، وأوليائه الصابرين .
الفقرة الثالثة : أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام
رجاء أخير تتمنّاه زوجة محبوبة مواتية معينة لزوجها على أمر دنياه وآخرته من زوج وفي لا يريد لزوجته أن يصلها منه إلاّ الخير . .
لقد وظفت دلهم المرأة الصابرة الموقف أفضل توظيف ، وحشّدت العواطف والعقل معاً في ظلّ ظروف خاصة لا تنسى ولا تردّ فيها حاجة ، وتقدّمت لزوجها في آخر ساعات عمرها المبارك معه برجاء تتمنى فيه على زوجها البرّ أن يحققه لها في آخر لقاء بينهما ، فاستخدمت لفظ « السؤال » ، لتعبّر له عن حاجة في نفسها ، فهي ليست أمنية محضة ، وإنما هي حاجة أيضاً .
ومن البديهي أنّ الموقف بظروفه وأجوائه لا يترك لأيّ زوج أن يخيب أمل زوجته فيه ، فكيف إذا كان المرجو زهير ، والراجي دلهم .
ص: 225
لا يخفى أنّ رجاءها الأخير ، ورجاء دلهم الأخير من زوجها يشير الى عظمة قدرها ، وعلو مقامها ، وسمو نفسها ، فإنّها لا تنسى في آخر لحظات عمرها مع زهير أن تذكر عنده أ نّها قد ضحت كما سيضحي زهير ، وتقول له: اذكرني عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أي قل له ، واسرد عليه قصّتي ، وموقفي معك ، ونصرتي لولده وريحانته عليه السلام .
فهي وإن لم تقاتل بالسيف والسنان ، ولم تدافع عن فلذة كبد النبي صلى الله عليه و آله
بيدها في الميدان إلاّ أ نّها شاركت بما يناسبها في نصرة أولياء الرحمن .
وما أحلى ما تقربت به الى الرسول صلى الله عليه و آله ، فهي تخاطبه ب« جدّ الحسين عليه السلام » وتقول: اذكرني عند جدّ الحسين عليه السلام فالحسين عليه السلام هو سبط النبي صلى الله عليه و آله الذي تقرّبت به اليه .
إذا كان زهير يريد الإلتحاق بركب الشهادة ، وقد عزم على الموت بين يدي الحسين عليه السلام ونوى أن يردّ زوجه الى أهلها ، فلماذا طلّقها ، وهل كان ثمة فرق بين أن يطلّقها أو أن يفارقها بالموت بعد أيام ، وتبقى في عهدته ؟
الجواب الأول :
يبدو لأول وهلة أنّ زهير بن القين قد أجاب بنفسه عن هذا السؤال ، حيث قال لها : أنت طالق ، فإني لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلا خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي ، وأقيه بروحي .
ص: 226
فهو قد ذكر لها سبب الطلاق بعد أن أصحر لها عن عزمه على الموت بين يدي الحسين عليه السلام وقال أ نّه لا يريد أن يصيبها بسببه الخير .
وهذا يعني أ نّه كان عالماً متيقناً أنّ المنية تسرع اليه وتنتظره في كربلاء ، ويعلم أنّ أهل بيت الحسين عليه السلام يسيرون الى السبي والسلب والنهب بعد شهادة الأولياء والحماة ، فهو لا يريد أن يعرضها لهذا السبي ، ويكون هو السبب في مجيئها الى كربلاء .
الجواب الثاني :
ربما كان بقاوا في حبال الزوجية يغري بها الأعداء ما كانت منتسبة الى أحد أبرز أصحاب الحسين عليه السلام وصاحب ميمنته ، فيضيق عليها ابن زياد وجلاوزته ، ويؤذونها بعد شهادته ، فإذا طلّقها خرجت من حبالته ولم يعد لأعداء اللّه سبيل يحتجون عليها به ، ولعل قوله فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير ، إشارة الى ذلك .
الجواب الثالث :
ربما كان زهير لم يعقب - وهو إحتمال بعيد - ويشهد لذلك أنّ المؤرخين
والنسابة لم يذكروا له عقباً ، ولو كان لبان ، ولذكر لأولاده موقف في ساعة اللقاء أو في اللحاق به في كربلاء ، أو بعد الشهادة ، أو ما شابه ذلك .
ويشهد له أيضاً أ نّه سلّمها إلى بعض بني عمّها ، ولم يسلّمها الى أولادها ، ولو كانوا لسلّمها اليهم ولم يسلّمها الى بني عمّها .
ويشهد له أيضاً أ نّه طلب من ابن عمّه أن « يوصلها إلى أهلها » ، ولم يذكر تسليمها الى ولدها مثلاً .
ص: 227
وفي عبارة ابن طاووس أ نّه « أعطاها مالها » ، إشارة الى أ نّه دفع لها ما تستحقه من صداق أو تركة، لئلا تتورط فيما بعد مع الورثة من أقربائه ، حيث سترث مع الطبقة الثانية أو الثالثة ، وهم الأخوة والأعمام والأخوال ، ومن بعدهم من رتب الطبقات، هذا كلّه على فرض عدم وجود الأولاد والأبوين.
الجواب الرابع :
كان الطلاق علامة العزم على الموت ، وكناية عن الرحيل الى الآخرة
وعدم الرجوع الى الحياة الدنيا وزهرتها من الأموال والأزواج والأولاد ، فربما طلّقها للإعلان عن عزمه .
وربما كان لفظ الطلاق ليس المراد به المعنى الإصطلاحي الشرعي الذي تترتب عليه الآثار الشرعية ، وإنما هو استعمال مجازي يراد به الكناية عمّا مرّ ذكره ، تماماً كما فعل حبيب ليلة العاشر عندما استخبر نيات أصحابه ، فقال لهم : لم طلّقتم حلائلكم ؟ فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة(1) .
وبأيّ معنى كان الطلاق لم يكن زهير وحده قد أقدم عليه ، بل لقد فعل زهير ما فعله أصحاب الحسين عليه السلام جميعاً بناءاً على ما ذكره المازندراني من سؤال حبيب .
هل التقت دلهم الحسين عليه السلام ؟
لم نجد أيّ نصّ ولا أيّ مؤشر أو تلويح في التاريخ يدلّ على أن دلهم زوجة زهير بن القين قد التقت الحسين عليه السلام أو أهل بيته .
ص: 228
بيد أ نّنا نحسب إستئناساً وتخميناً لا دليل لنا عليه إلاّ ما سنذكره من الإحتمال والتوقّع من خلال معرفتنا القاصرة بها وبزوجها ، وبأدب الشيعي والموالي وذوقه في التعامل مع إمامه وأهل بيت نبيه عليهم السلاموتلهّفه لروته وزيارته.
فربما قيل: إنّ من البعيد جدّاً أن تكون زوجة زهير قد أمكنتها الفرصة من لقاء إمامها وسيدتها زينب بنت أمير المؤمنين وعقائل الوحي عليهم السلام وهي تعلم أ نّهم يسيرون والمنايا تسرع اليهم ، وأ نّها سوف لا ترى وجه الحسين عليه السلام بعد ذلك اليوم ، ثم لا تذهب للقائهم ، وقد جمعتهم الصحراء في موضع واحد ، وتقاربت أبنيتهم ، وقدّمت دلهم حياة زوجها هدية للحسين عليه السلام وهي تتمنى على زوجها أن يذكرها عند جدّ الحسين عليه السلام ثم لا تتشرف بروة الحسين عليه السلام وشريكته زينب عليهاالسلام وهي معهم في موضع واحد !!
امرأة زهير تكفن الحسين عليه السلام وزوجها
قال ابن سعد صاحب الطبقات الكبرى: وكان زهير بن القين قد قتل مع الحسين عليه السلام ، فقالت امرأته لغلام له يقال له « شجرة » : انطلق فكفن مولاك .
قال : فجئت فرأيت حسينا عليه السلام ملقى ، فقلت : أكفن مولاي وأدع حسيناً ! فكفنت حسيناً ، ثم رجعت ، فقلت ذلك لها ، فقالت : أحسنت ، وأعطتني كفناً آخر ، وقالت : انطلق فكفن مولاك ، ففعلت(1) .
ص: 229
وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : وقالت امرأة - زهير -
لغلام له : اذهب فكفن مولاك ، فذهب فرأى الحسين عليه السلاممجرداً ! فقال :
أكفن مولاي وأدع الحسين! لا واللّه ، فكفنه ، ثم كفن مولاه في كفن آخر(1) .
وقال الشيخ عباس القمي رحمه الله بعد أن ذكر قصة التحاق زهير بركب الحسين عليه السلام ويأتي بعد ذلك أنّ زهيراً لمّا قتل مع الحسين عليه السلام بعثت زوجته غلاماً له ليذهب الى كربلاء ويكفن مولاه ، ثم ذكر كلام سبط ابن الجوزي في التذكرة(2) . . .
وقيل تعليقاً على هذا الخبر : أ نّه قد ثبت في محلّه أ نّه لا يلي أمر المعصوم إلاّ المعصوم ، وأنّ الإمام لا يغسله إلاّ الإمام ، ولو قبض إمام في المشرق وكان وصيه في المغرب لجمع اللّه بينهما .
ونحن لا نريد - هنا - نفي الخبر أو إثباته إلاّ أنّ هذا الكلام يبدو أ نّه في غير محلّه ، لأنّ هذا الغلام لم يتولّ أمر الإمام الشهيد ، وغاية ما فعله أ نّه رأى قرّة عين الرسول عارياً على الرمضاء ، تسفي عليه الريح ، فلم تطاوعه نفسه أن يترك الحسين عليه السلام بهذه الصورة المفجعة ، فألقى عليه الكفن ، أمّا الذي تولى تجهيز الحسين عليه السلام فهو ولده المكروب المغموم صاحب الدمعة الساكبة زين العابدين وقرّة عين الناظرين عليه أفضل صلوات ربّ العالمين .
ص: 230
ورد في زيارة زهير نمطان من الزيارة :
وهي وإن كانت زيارة تضمّنت أسماء أكثر الشهداء ، وذكر فيها زهير ضمن السياق العام ، إلاّ أ نّه حاز شرفاً عظيماً ، ومقاماً منيفاً ، ودرجة سامية لا ينالها إلاّ من كان مثله ، فاستحقّ أن ينصّ عليه الآخذ بثأره باسمه .
وحسب تفحّصنا للمصادر لم يرد ذلك إلاّ في النص الوارد عن الإمام صاحب العصر - عجّل اللّه تعالى فرجه - ، وفي ذلك مزية فوق مزية ، وإشارات مهمة وسنية .
تسليم الحجة عليه السلام عليه فقد نال شرف الشهادة بين يدي الحسين عليه السلام وزاد شرفه ذاك شرفاً
ص: 231
تسليم الحجة المنتقم عليه في الناحية والرجبية ، وقد ذكره عليه السلامبتكريم خاص ، واهتم بموقفه اهتماماً بالغاً ، فنقل عنه مقالته للحسين عليه السلام .
قال عليه السلام كما في المزار لابن المشهدي ، وإقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ، وبحار الأنوار للمجلسي ، والعوالم للشيخ البحراني :
السلام على زهير بن القين البجلي ، القائل للحسين وقد اذن له في الانصراف : لا واللّه لا يكون ذلك أبداً ، أترك ابن رسول اللّه أسيراً في يد الأعداء وانجو ، لا أراني اللّه ذلك اليوم(1) .
وفي هذا شهادة وتأكيد من الإمام المعصوم عليه السلام على صدق نية المجاهد
المضحي ، فقد قال زهير ذلك ، وأكدّ قوله باليمين ، ثم أثبته بالفعل والعمل ، ثم أمضاه له سيد الشهداء الحسين عليه السلام وأمضاه له الإمام الحجة المنتظر عليه السلام .
في المزار للشهيد الأول ، وإقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ، وبحار الأنوار للمجلسي :
السلام على حر بن يزيد الرياحي ، السلام على زهير بن القين ، السلام على حبيب(2) .
وربما كان في إفراده بالزيارة من قبل ولي الأمر وصاحب الزمان دلالات
وإشارات منها :
ص: 232
أولاً: إختصاص زهير بالإكرام
إكرامه إكراماً خاصاً ، وتشريفه بالنصّ عليه والإشارة الى اسمه
الكريم ، لأنّ تنصيص الإمام على شخص بعينه له من الآثار والتعظيم والتكريم ما يعرفه أهله .
ثانياً: الثأر لدم زهير
إنّ الذي ذكره بالاسم ، ونصّ عليه خاصة هو الإمام المنتقم له ، الآخذ بثأره ، فهو إمامه وقد قدّر له موقفه من جدّه يوم قال قولته ، فهو الآن يردّد اسمه ، ويسلّم عليه ، لنعلم أنّ الثأر لدمه الزاكي سوف لا يطول به الإنتظار ، وأ نّه سينتقم له يوم يسلّ سيفه من غمده ، ويأذن له ربّه ، فزهير ينتظر - كما ننتظر - أن تنتهي هذه السنين الحرم العجاف !!
ثالثاً: ليلة العاشر كانت مركز الإبتلاء
لم يكن السلام على زهير مجرداً ، وإنما كان مصحوباً - حسب النصّ الأول - بقولته الخالدة التي تتفجر ولاءاً وثباتاً ، وقد اختارها المولى من بين كلّ مواقف زهير ، وبياناته ومحاوراته وخطاباته التي توجه بها للناس عامة ولأصحاب الحسين عليه السلام خاصة ، بل لسيد الشهداء عليه السلام
أيضاً .
وربما كان التركيز على هذا الموقف باعتبار أنّ ليلة العاشر - ظرف الكلام - كانت هي مركز الثقل في الابتلاء والامتحان الإلهي ، لأنّ ما قبل ليلة العاشر كان زمناً فيه متسع لمن أراد الفرار ، وقد فرّ القوم
ص: 233
وخذلوا قرّة عين الرسول صلى الله عليه و آله ، قال الشيخ المفيد في الإرشاد : « ثم ارتحلوا ، فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر عبد اللّه بن يقطر ، فأخرج إلى الناس كتاباً فقرأه عليهم:
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أمّا بعد : فإنّه قد أتانا خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد اللّه بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج ليس عليه ذمام . فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً(1) .
وما بعد تلك الليلة كان نتيجة الامتحان ، وآثار النجاح في الاختبار ، وقد كشف لهم سيد الشهداء عليه السلام عن مواقعهم في الجنان ، وبذلك دخلوا عالم الروح والريحان ، والحور والولدان ، ومجاورة النبي في عدن الرضوان ، روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : أخبرني عن أصحاب الحسين عليه السلام وإقدامهم على الموت ؟
فقال : إنهم كشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة ، فكان
الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها ، وإلى مكانه من الجنة(2) .
فصور التضحية والفداء التي رسمها زهير واخوانه يوم الطف إن هي
ص: 234
إلاّ بناء ارتكز على ما أسسوه من ثبات ليلة العاشر ، حينما أعلنوا
عن مواقفهم ، وأصحروا عن نياتهم .
فذكر المولى عليه السلام لموقفه ليلة العاشر كان عبارة عن تلخيص لمسيرته الوضاءة المعطاء ، تكشف عن الثبات ما قبلها ، والعطاء فيما بعدها .
رابعاً: شكر الموقف
قال في شرح الشافية : ثم برز جابر بن عروة الغفاري ، وكان شيخاً
كبيراً ، وقد شهد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بدراً وحنيناً ، فجعل يشدّ وسطه بعمامته ، ثم شدّ حاجبيه بعصابة حتى رفعهما عن عينيه ، والحسين عليه السلام ينظر اليه ويقول: شكر اللّه تعالى سعيك يا شيخ ، فحمل(1) . . .
وقد جزّى سيد الشهداء في أكثر من موقف أصحابه خيراً ، وشكر لهم
صنيعهم بالرغم من أ نّهم يؤدون واجبهم ، وينجزون تكليفهم ،أنّ أبا الأئمة وأولاده الطيبين الأوفياء يظهرون بأفعالهم وأقوالهم أسماء اللّه وصفاته وجماله وجلاله ، فهم رحمة اللّه الواسعة ، ورضاهم رضا اللّه ، وإرادتهم إرادة اللّه ، واللّه هو الغني الشكور .
فربما كان التركيز على هذا الموقف الزهيري الزاهر بالخصوص من قبل ولي الأمر بمثابة قول سيد الشهداء عليه السلام وجدّ الحجة المنتظر لعروة: « شكر اللّه سعيك » ، ليكون صورة من صور الإشادة بالموقف والثناء عليه ،
ص: 235
والشكر له ، وكأنّ المولى جزّاه على ذلك خيراً من خلال إبرازه كموقف
مشكور محمود .
خامساً: خصوصية الموقف ليلة العاشر
وربما كان إستحقاق هذا الشكر والثناء من ولي دم سيد الشهداء عليهماالسلام
لأنّ الموقف في تلك الليلة العسيرة المكفهرة العصيبة كان يختلف تماماً عن أيّ موقف آخر ، حتى عن الموقف يوم العاشر ، حيث أدخل فيه السرور على قلب سلطان المكروبين ، وزين الغرباء الحسين عليه السلاموواساه حين خذله المنكوبون المنكوسون ، في يوم كان فيه الحسين عليه السلاممستوحشاً
إلى الرجال على حدّ تعبير الطرماح(1) فيما كانت بنات رسول ربّ العالمين يتوجسن ويراقبن مواقف الأصحاب وأهل البيت المظلومين ، ويترقبن ما تحمل لهم تلك الليلة في أحشائها من ألم وسبي ومصيبة وفقد أحبّة وأنين .
لم يكن الموقف يشبه غيره من المواقف ، ولهذا انبرى ليلتها العباس بن أمير المؤمنين عليهماالسلام للإعلان عمّا في نيته ونية أهل البيت ، وانبرى الأصحاب يعبّرون عمّا في ضمائرهم ، وحرم اللّه ورسوله يسمعن ، فتطمئن قلوبهن إلى ما يسمعن من ثبات حماتهن .
فكلام زهير في تلك الليلة العصيبة المتجهّمة كان تفريجاً ومواساة لسيد الشهداء ولبنات رسول ربّ السماء صلى الله عليه و آله .
ص: 236
وردت نصوص مقدّسة كثيرة في زيارة أنصار سيد الشهداء عليه السلام فهي وإن لم تذكر زهير بن القين على نحو الخصوص ، ولم تنصّ على اسمه كما سمعنا في النمط الأول ، إلاّ أ نّها تخاطب الأنصار المستشهدين بين يدي ريحانة رسول اللّه ، وعبرة أنبياء اللّه ، ككائن موحد ، وهالة واحدة محيطة بمركز النور.. تخاطبهم بخطاب واحد ضمن دائرة واحدة وهي نصرة الغريب العطشان ، وتلغي الخصوصيات باعتبارهم شعاعا لنور واحد.
تقرأ ضمير الجمع في نصّ الزيارة ، ولكنّه ضمير يتوزع على كلّ فرد فرد منهم ، ويشملهم نوراً نوراً ، فهو كلّي ينطبق على أفراده بالتواطيء ، وكلّ واحد منهم مفردة يتوجه له الخطاب ، وينطبق عليه الوصف أو المدح الوارد على حدة .
فالزيارة عامة لكلّ الشهداء بيد أ نّها تشمل زهيرا ، كما تشمل حبيبا ، وتشمل جونا ، وتشمل بريرا ، وهكذا تشمل كلّ المستشهدين بين يدي سيد الشهداء عليه السلام .
ولا نريد هنا دراسة نصوص الزيارات المقدسة جميعاً ، وإنّما نحاول أن نطبق النصوص على زهير بن القين باعتباره فرداً داخلاً تحت ضمير الجمع والخطاب الوارد على لسان المعصوم عليه السلام في زيارة واحدة .
ص: 237
في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : ثم توجه إلى الشهداء ، وقل :
السلام عليكم يا أولياء اللّه وأحباءه .
السلام عليكم يا أصفياء اللّه وأوداءه .
السلام عليكم يا أنصار دين اللّه .
السلام عليكم يا أنصار رسول اللّه .
السلام عليكم يا أنصار أمير المؤمنين .
السلام عليكم يا أنصار فاطمة سيدة نساء العالمين .
السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن بن علي الولي الناصح .
السلام عليكم يا أنصار أبي عبد اللّه .
بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً
عظيماً ، فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم(1) .
* * *
يمكن الإشارة هنا الى عدّة نكات جديرة بالإلتفات:
النكتة الأولى :
إنّ الضمير الموظف في تعبير المعصوم هو ضمير الخطاب ، وهي إشارة
الى أنّك تقوم بين يدي من يسمعك مباشرة ، فأنت تخاطبه خطاباً وهو ليس وجوداً غائباً عنك ، بل هو حي حاضر .
ص: 238
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم وقف على شهداء أحد وقد التفت إلى الناس : أيّها الناس ، ائتوهم فزوروهم ، وسلّموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلاّ ردّوا عليه السلام(1) .
النكتة الثانية:
إنّ السلام وضمير الخطاب يتكرر في كلّ فقرة ، تشهد فيها للمزور
بنصرته للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين ولفاطمة وللحسن والحسين وفي ذلك إشارة الى أنّك تسلّم عليه باعتبار كلّ مفردة من مفردات النصرة ، لتؤكد على أنّ نصرته لسيد الشهداء كانت نصرة لكلّ واحد من أصحاب الكساء لا على نحو التضمن .
أي أنّك تخاطبه فتقول له: إنّك نصرت رسول اللّه ، ونصرت أمير
المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام لا أنّك نصرت الحسين
عليه السلامفكأنّك نصرت أولئك ، وإنّما أنت نصرتهم بالفعل .
فنصرته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله غير نصرته للحسين عليه السلام ونصرته لأمير المؤمنين عليه السلامغير نصرته للحسين عليه السلام وهكذا ، فهو نصر كلّ نور نور من أنوارهم المقدسة ، ولكنّها وقعت جميعاً في طف كربلاء بين يدي الحسين سيد الشهداء عليه السلام .
النكتة الثالثة :
إنّ المعصوم يخاطبه قائلاً : « بأبي أنتم وأمّي » ، وفي هذا ما لا يخفى
ص: 239
على الزائر المؤمن الذي يعرف المعصوم ، ويعرف أباه وأمّه ، فإذا كانوا
بأب المعصوم وأمّه فما قيمة أباء الزائرين وأمهاتهم ؟!
إلا أن يقال في الزيارات التي يعلّمها المعصوم للمؤمن فيقول أولها مثلاً : « إذا أردت الزيارة فقل » ، فإنّه عليه السلام حينئذٍ يكون في مقام التعليم فلا يشمله الخطاب ، فربما علّمنا المعصوم كيف نزور ، أمّا المعصوم بنفسه فقد يخاطبهم بخطاب آخر .
ومن البديهي أنّ كلّ زائر يزورهم سيخاطبهم بهذا الخطاب ، وهذا
يعني أنّ أباء الناس جميعاً وأمهاتهم جميعاً فداء لتراب أقدام هؤلاء الشهداء الأبرار .
النكتة الرابعة:
يشهد لهم المعصوم بالفوز العظيم ، ويتمنى أن يكون معهم !! فيالها من منزلة ، وياله من إكرام .
النكتة الخامسة:
علمنا من فقرات الزيارة المباركة أنّ ثمة أوسمة وصفات نالها زهير بالإضافة الى ما مرّ معنا من مضامين النكات الأربعة الآنفة ، منها:
أولاً : إنّه ولي اللّه وحبيبه.
ثانياً : إنّه صفي اللّه وممّن ودّهم اللّه.
ثالثاً : إنّه ناصر دين اللّه.
رابعاً : إنّه ناصر رسول اللّه.
ص: 240
خامساً : إنّه ناصر أمير المؤمنين.
سادساً : إنّه ناصر فاطمة سيدة نساء العالمين.
سابعاً : إنّه ناصر الحسن الزكي الأمين.
ثامناً : إنّه ناصر الحسين سيد الشهداء من الأولين والآخرين.
تاسعاً : إنّه طيب مدفون في أرض طيبة ، أو أ نّه سبب لطيبة الأرض
التي دفن فيها.
عاشراً : إنّه قد فاز فوزاً عظيماً ...
الحادي عشر : إنّه مشمول بقول المعصوم: « بأبي أنتم وأمي ».
الثاني عشر : إنّه مشمول بقول المعصوم: « فيا ليتني كنت معكم ».
في كامل الزيارات لابن قولويه: ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومي إليهم أجمعين وتقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، السلام عليكم يا أهل القبور من أهل ديار المؤمنين ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار(1)
ص: 241
السلام علیکم یا انصار الله و انصار رسوله ، و انصار امیرالمومنین و انصار ابن رسوله و انصار دینه
ص: 242
أشهد أنّكم أنصار اللّه كما قال اللّه عز وجل : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا » ، فما ضعفتم وما استكنتم حتى لقيتم اللّه على سبيل الحق ، صلّى اللّه عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، أبشروا بموعد اللّه الذي لا خلف له ولا تبديل ، إنّ اللّه لا يخلف وعده ، واللّه مدرك بكم ثار ما وعدكم .أنتم خاصة اللّه ، اختصكم اللّه لأبي عبد اللّه - عليه السلام - ، أنتم الشهداء ، وأنتم السعداء ، سعدتم عند اللّه ، وفزتم بالدرجات من جنات لا يطعن أهلها ولا يهرمون ، ورضوا بالمقام في دار السلام ، مع من نصرتم .
جزاكم اللّه خيراً من أعوان ، جزاء من صبر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، أنجز اللّه ما وعدكم من الكرامة في جواره وداره مع النبيين والمرسلين ، وأمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين .
أسأل اللّه الذي حملني إليكم حتى أراني مصارعكم أن يرينيكم على الحوض رواء مرويين ، ويريني أعداءكم في أسفل درك من الجحيم ، فإنهم قتلوكم ظلماً ، وأرادوا إماتة الحقّ ، وسلبوكم لابن سمية وابن آكلة الأكباد ، فأسأل اللّه أن يرينيهم ظمأ مظمئين ، مسلسلين مغلّلين ، يساقون إلى الجحيم .
السلام عليكم يا أنصار ابن رسول اللّه مني ما بقيت ، والسلام عليكم دائماً إذا فنيت وبليت .
لهفي عليكم أيّ مصيبة أصابت كلّ مولى لمحمد وآل محمد ، لقد عظمت وخصّت وجلّت وعمّت مصيبتكم ، أنا بكم لجزع ، وأنا بكم لموجع محزون ، وأنا بكم لمصاب ملهوف .
ص: 243
هنيئاً لكم ما أعطيتم ، وهنيئاً لكم ما به حييتم ، فلقد بكتكم الملائكة ، وحفّت بكم ، وسكنت معسكركم ، وحلّت مصارعكم ، وقدّست وصفت بأجنحتها عليكم ، ليس لها عنكم فراق إلى يوم التلاق ، ويوم المحشر ، ويوم المنشر ، طافت عليكم رحمة من اللّه ، وبلغتم بها شرف الآخرة .
أتيتكم شوقاً وزرتكم خوفاً ، أسال اللّه أن يرينيكم على الحوض ، وفيالجنان مع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً(1) .
السلام عليكم يا أنصار اللّه ورجاله من أهل الحقّ والبلوى ، والمجاهدين على بصيرة في سبيله ، أشهد أنّكم كما قال اللّه عز وجل : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ » ، فما ضعفتم ،
وما استكنتم حتى لقيتم اللّه على سبيل الحقّ ونصره وكلمة اللّه التامة .
صلّى اللّه على أرواحكم وأبدانكم وسلّم تسليماً وفزتم ، واللّه لوددت أني كنت معكم فأفوز فوزاً ، أبشروا بمواعيد اللّه التي لا خلف لها إنّه لا يخلف الميعاد .
أشهد أنّكم النجباء وسادة الشهداء في الدنيا والآخرة ، وأشهد أنّكم جاهدتم في سبيل اللّه ، وقتلتم على منهاج رسول اللّه ، أنتم السابقون والمجاهدون . أشهد أنّكم أنصار اللّه وأنصار رسوله .
ص: 244
الحمد للّه الذي صدقكم وعده ، وأراكم ما تحبّون ، والسلام عليكم
ورحمة اللّه وبركاته(1) .
السلام عليكم أيّها الربانيون ، أنتم خيرة اللّه ، اختاركم اللّه لأبي عبد اللّه عليه السلام ، وأنتم خاصته اختصكم اللّه .
أشهد أنّكم قتلتم على الدعاء إلى الحقّ ونصرتم ووفيتم وبذلتم مهجكم مع ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وأنتم سعداء ، سعدتم وفزتم بالدرجات .
فجزاكم اللّه من أعوان واخوان خير ما جازى من صبر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، هنيئاً لكم ما أعطيتم ، وهنيئاً لكم بما حييتم ، طافت عليكم من اللّه الرحمة ، وبلغتم بها شرف الآخرة(2) .
ثُمَّ تَقُومُ فَتُومِئُ بِيَدِكَ إِلَى الشُّهَدَاءِ وتَقُولُ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ السَّلامُ
عَلَيْكُمْ السَّلامُ عَلَيْكُمْ فُزْتُمْ واللَّهِ فُزْتُمْ واللَّهِ فُزْتُمْ واللَّهِ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَكُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً(3) .
ص: 245
ثم تسلم على الشهداء من أصحاب الحسين عليه وعليهم السلام ، تستقبل وتقول :
السلام عليكم يا أنصار اللّه ، وأنصار رسوله ، وأنصار علي بن أبي طالب ، وأنصار فاطمة الزهراء ، وأنصار الحسن والحسين ، وأنصار الإسلام .أشهد لقد نصحتم للّه ، وجاهدتم في سبيله ، فجزاكم اللّه عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء ، فزتم واللّه فوزاً عظيماً ، يا ليتني كنت معكم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً .
أشهد أنّكم أحياء عند ربّكم ترزقون ، وأشهد أنّكم الشهداء ، وأنّكم السعداء ، وأنّكم في درجات العلى ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته(1) .
وزر الشهداء رضوان اللّه عليهم ، ثم تنحرف من عند الرجلين إلى القبلة ، وتقول :
السلام عليكم أيّها الصديقون ، السلام عليكم أيّها الشهداء الصابرون .
أشهد أنّكم جاهدتم في سبيل اللّه ، وصبرتم على الأذى في جنب اللّه ، ونصحتم للّه ولرسوله ولابن رسوله حتى أتاكم اليقين .
أشهد أنّكم أحياء عند ربّكم ترزقون ، فجزاكم اللّه عن الإسلام وأهله أفضل ما جزى المحسنين ، وجمع بيننا وبينكم في محلّ النعيم(2) .
ص: 246
السلام عليكم يا خير أنصار ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، وبوأكم اللّه مبوء الأبرار .
أشهد لقد كشف لكم الغطاء ، ومهّد لكم الوطاء ، وأجزل لكم العطاء ، وكنتم عن الحقّ غير بطاء ، وأنتم لنا فرط ، ونحن لكم خلطاء في دارالبقاء ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته(1) .
السلام عليك يا أبا عبد اللّه وعلى الأرواح التي حلت بفنائك وأناخت برحلك عليك منّي سلام اللّه أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار ولاجعله اللّه آخر العهد منّي لزيارتكم السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين(2) .
والتفت إلى قبور الشهداء فقال : السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبد اللّه ، السلام عليكم يا شيعة اللّه وشيعة رسوله وشيعة أمير المؤمنين والحسن والحسين، السلام عليكم يا طاهرون ، السلام عليكم يا مهديون،
ص: 247
السلام عليكم يا أبرار ، السلام عليكم وعلى ملائكة اللّه الحافين بقبوركم ، جمعني اللّه وإياكم في مستقرّ رحمته تحت عرشه(1) .
ثم امش حتى تأتي قبور الشهداء ، فقف وقل :السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام ، السلام عليكم يا طاهرين من الدنس ، السلام عليكم يا مهديين ، السلام عليكم يا أبرار اللّه ، السلام عليكم وعلى الملائكة الحافين بقبوركم أجمعين ، جمعنا اللّه وإياكم في مستقرّ رحمته وتحت عرشه ، إنّه أرحم الراحمين ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته(2) .
ثم انحرف إلى قبور الشهداء وقل :
السلام عليكم أيّها الذابّون عن توحيد اللّه ، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، بأبي أنتم وأمّي ، فزتم فوزاً عظيماً(3) .
ص: 248
اختلف المؤرخون في وقت خروج زهير بن القين الى المبارزة :فمنهم من قال : أ نّه برز بعد الحر ، وقبل حبيب(1) .
ومنهم من قال : أ نّه برز بعد الحجاج بن مسروق(2) .
ومنهم من قال : أ نّه برز بعد الحر جماعة ثم برز زهير(3) .
ومنهم من قال : أ نّه برز قبل نافع بن هلال البجلي(4) .
ومنهم من قال : أ نّه برز بعد سعيد بن عبد اللّه الحنفي .(5)
والظاهر أنّ زهير قاتل وبرز الى القوم مرّات عديدة، فهو صاحب الميمنة، والذابّ عن الحرمة ، والمشهود له بالنجدة ، وقد التحم مع العدو في صولاته وحملاته، ليحمي ظهر بعض الأصحاب، كما فعل مع الحرّ بن يزيد الرياحي(5).
ص: 249
يبدو أنّ زهير بن القين - وهو حامل راية الميمنة - استشهد بعد حبيب(1) حامل راية الميسرة في معسكر سيد الشهداء عليه السلام .
وكان زهير باقياً الى حين هجوم القوم الأول على خيام الحسين عليه السلام
وإحراقها ، وكان زهير قد دفعهم عنها في عشرة من أصحابه .
وكان في وقت صلاة الظهر حيث قدّمه الحسين عليه السلام مع سعيد بن عبد اللّه الحنفي أمامه يقيانه هجوم الأعداء(2) .
« 1 »
في تذكرة الشهداء للملا حبيب الكاشاني: قال أبو مخنف: لمّا فرغ الإمام من صلاته خطب في أصحابه يحرّضهم على القتال ، فقال: يا أصحابي ، إنّ هذه الجنة قد فتحت أبوابها ، واتصلت أنهارها ، وأينعت ثمارها ، وزيّنت قصورها ، وتؤلفت ولدانها وحورها ، وهذا رسول اللّه صلى الله عليه و آلهوالشهداء الذين قتلوا معه ، وأبي وأمي ، يتوقّعون قدومكم ، ويتباشرون بكم ، وهم مشتاقون اليكم ، فحاموا عن دين اللّه ، وذبّوا عن حرم رسول اللّه (3) .
ص: 250
فخرجن ربات الخدور من الخيام ، وكان الأصحاب في سبحات ملكوتية محضة ، فصحن وقلن: يا معشر المسلمين ، ويا عصبة المؤمنين ، حاموا عن اللّه ، وذبّوا عن حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعن إمامكم وابن بنت نبيكم ، فقد امتحنكم اللّه بنا ، فأنتم جيراننا في جوار جدّنا والكرام علينا ، وأهل مودّتنا ، فدافعوا بارك اللّه فيكم عنّا .
فلمّا سمعوا ضجّوا بالبكاء والنحيب وقالوا : نفوسنا دون أنفسكم ، ودماوا دون دمائكم ، وأرواحنا لكم الفداء ، واللّه لا يصل اليكم أحد بمكروه وفينا الحياة ، وقد وهبنا للسيوف نفوسنا ، ولعلّنا نقيكم زحفالصفوف ، ونشرب دونكم الحتوف ، فقد فاز من كسب اليوم خيراً ، وكان
لكم من المنون مجيراً(1) .
فكان أول من برز زهير بن القين ، وهو يرتجز ، ولم يزل يقاتل حتى
قتل سبعين فارساً ، وتكاثروا عليه وقتلوه(2) .
« 2 »
قال السماوي رحمه الله : ثم صلّى الحسين عليه السلام صلاة الخوف ، ولمّا فرغ منها تقدّم زهير ، فجعل يقاتل قتالاً لم ير مثله ، ولم يسمع بشبهه ، وأخذ يحمل على القوم فيقول : « أنا زهير وأنا بن القين . . . » فكأنّه ودّعه ،
ص: 251
وعاد يقاتل فشدّ عليه كثير بن عبد اللّه الشعبي ، ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه(1) .
وقال السيد شرف الدين رحمه الله : زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانية ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلى جانب الحسين بن علي عليهماالسلام .
وقد أبدى شجاعة منقطعة النظير في سوح الوغى ... وفي ظهيرة يوم العاشر وقف هو وسعيد بن عبد اللّه يقيان الإمام من السهام حتى ينهي صلاته .وبرز بعدها إلى القتال ، وقاتل قتال الأبطال ، وكان حينها يرتجز
قائلاً(2) .. .
وقال ابن أعثم الكوفي: وخرج . . زهير بن القين البجلي ، وهو يرتجز ... ثم حمل ، ولم يزل يقاتل حتى قتل(3) .
وقال ابن شهر آشوب رحمه الله : ثم صلّى الحسين عليه السلام بهم الظهر صلاة شدّة الخوف، ثم برز زهير بن القين البجلي ، وهو يقول : « أنا زهير وأنا ابن القين ... » ، فقتل مائة وعشرين رجلاً ، قتله كثير بن عبد اللّه الشعبي ومهاجر بن أوس(4) .
ص: 252
وفي فرسان الهيجاء : فحمل عليهم زهير كأنّه التنين الصائل ، أو الشهاب الحارق ، وقلب الميمنة على الميسرة ، وحمي أتون الحرب ، فقال مرتجزاً: « أنا زهير وأنا ابن القين... » ، وحمل عليهم كالصاعقة النارية بعد أن أتمّ رجزه ، غاص في أوساطهم، وقلب الميمنة على الميسرة، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة.
وفي رواية محمد بن أبي طالب المذكورة في البحار : كان عدد القتلى مائة وعشرين رجلاً من صناديد الكوفة(1) . . .
وبعد أن نقل كلام زهير مع الإمام عليه السلام بعد شهادة حبيب قال: عند ذلك ودّع زهير الحسين عليه السلام بأرجوزة ، وسار نحو ميدان القتال: « فدتك نفسي هادياً مهدياً . . . » .وهجم ثانية كالصرصر العاصف على جيش العدو المخالف ، وقاتل قتال الوالهين الى مرضاة ربّ العالمين ، وبينما هو يقاتل إذ بصر به عبد اللّه الشعبي والمهاجر بن أوس التميمي ، وكانا في شغل به ، فحانت منه فرصة ، فطعنه أحدهما بالرمح ، وضربه الآخر بالسيف ، فخرّ صريعاً الى الأرض(2) . . .
وفي الأمالي للصدوق وغيره: ثم برز..زهير بن القين البجلي ، وهو يقول مخاطباً للحسين عليه السلام « اليوم نلقى جدّك النبيا . . . » ، فقتل منهم تسعة
عشر رجلاً ، ثم صرع وهو يقول : « أنا زهير وأنا ابن القين(3) . . »
ص: 253
« 3 »
قال الطبري : ثم صلّوا الظهر ، صلّى بهم الحسين عليه السلام صلاة الخوف ، ثم اقتتلوا بعد الظهر ، فاشتد قتالهم ، ووصل إلى الحسين عليه السلام فاستقدم الحنفي
أمامه ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً قائماً بين يديه ، فما زال يرمى حتى سقط ، وقاتل زهير بن القين قتالاً شديداً ، وأخذ يقول : « أنا زهير وأنا ابن القين... ».
قال : فشدّ عليه كثير بن عبد اللّه الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه .
وروى سبط ابن الجوزي قال : ثم جاء وقت صلاة الظهر ، فصلّى بأصحابه صلاة الخوف ، فبينا هم في الصلاة تكالبوا عليه ، فحمل زهير بن القين يذبّ عن الحسين عليه السلام ويقول : « أنا زهير وأنا ابنالقين ... » .
ثم صاح زهير بالحسين عليه السلام : « أقدم هديت هادياً مهديا(1) » .
وقال ابن كثير: وقاتل زهير بن القين بين يدي الحسين عليه السلام قتالاً شديداً ، ، ورمي بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين عليه السلام كأنّ فيه إشارة الى سعيد بن عبد اللّه الحنفي وجعل زهير يرتجز ويقول : « أنا زهير وأنا ابن القين . . . » .
قال : فشدّ عليه كثير بن عبد اللّه الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه(2) .
ص: 254
« 4 »
يبدو من الطوائف الثلاثة من الأخبار التي ذكرناها آنفاً ، أنّ زهير بن القين بعد أن قاتل قتالاً شديداً بين يدي الحسين عليه السلام ودفع القوم عن الحرم والعيال ، واستلحم مع الأعداء مشاركاً إخوانه الأبطال ، قدّمه سيد الشهداء الحسين عليه السلام هو وسعيد بن عبد اللّه الحنفي ووقف للصلاة ، ولم يفتر القوم من رمي الحسين عليه السلام وأصحابه بالنبال ، حتى سقط سعيد بن عبد اللّه
الحنفي مضرجاً بين يدي ريحانة الرسول صلى الله عليه و آلهوقرّة عين البتول عليهاالسلام فتكالب القوم حينئذٍ على الحسين عليه السلام ولم يكتفوا برشقه وصحبه بالسهام والنبال ، فهجموا عليه بالسيوف والرماح ، فاستأذن زهير بن القين من الحسين بالضرب على كتفه ، وأنشده تلك الأبيات ، ثم كرّ على القوميدفعهم عن حجة اللّه الغريب المظلوم العطشان وهو يصرخ فيهم: « أذبّكم بالسيف عن حسين » ، فرموه بالنبال ، وتكاثروا عليه بالسيوف والسنان ، وهو يشغلهم بنفسه عن سيده وصحبه ، ويقدّم بدنه قطعة قطعة ، وبضعة بضعة ، للدفاع عن سيد الشهداءفبادره اللعينان كثير بن عبد اللّه الشعبي ومهاجر بن أوس ، فطعنه أحدهم بالرمح ، وضربه الآخر بالسيف ، فقتلاه . . . وا زهيراه ! . . وا مظلوماه !«
ص: 255
هكذا كان الإمام الروف ، والحبيب العطوف ، سيد الشهداء عليه السلام مع أنصاره وأهل بيته ، من أبي الفضل العباس وعلي الأكبر والقاسم الى عبيد اللّه بن الحسن عليهم السلام ومن مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر وزهير بن القين الى جون والغلام الصغير الذي استشهد أبوه في المعركة .
يمشي اليه ، ويقف عليه ، ويؤبنه ويشكر له سعيه ، ويعده اللقاء القريب في الجنة ، وهو سيد الكونين ، وزين السماوات والأرضين .
ولمّا صرع زهير بن القين وقف عليه أبو الشهداء الحسين عليه السلامفقال : لا يبعدنك اللّه يا زهير ، ولعن اللّه قاتليك ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير(1) .
ويحتمل في قوله عليه السلام « لا يبعدنك اللّه يا زهير » ، وجهين :
ص: 256
إذا جعلنا التقدير :
لا يبعدنّك اللّه يا زهير عنّي ، فيكون الإمام عليه السلام يدعو اللّه أن يبقي زهير قريباً منه ، لأنّ البعد نقيض القرب(1) وقد رحل زهير الى جوار ربّه ، فلا يكون قريباً من الحسين عليه السلام إلاّ إذا التحق عليه السلام هو أيضاً بالرفيق الأعلى .
فتكون معنى العبارة : لا فرّق اللّه بيني وبينك يا زهير ، وهو بقوة قوله عليه السلامعلى الدنيا بعدك العفا ، أو ما أقبح العيش بعدك يا زهير .
قال المحقّق الحاج علي الشاوي - حفظه اللّه ورحم أمّه وأباه - : ما أعلا منزلة زهير ، إذ كم هو الفارق كبير بين من يتمنّى القرب من رحمة اللّه ، وبين من تتمنّى رحمة اللّه الواسعة دوام القرب منه!! لا يبعدنك اللّه يا زهير(2) . .
أن نجعل التقدير : لا يبعدنك اللّه عن رحمته ، أي أن يجعلك قريباً من رحمته و(رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الُْمحْسِنِينَ) ، فهي تتضمّن شهادة من سيد الشهداء عليه السلام لزهير بن القين أ نّه من المحسنين ، وللمحسنين صفات
وخصال خاصة وردت في كتاب اللّه وكلام المعصومين .
ص: 257
وهي شهادة تضاف الى ما حازه زهير من الحسين عليه السلام من شهاداتمن قبيل تشبيهه بمؤمن آل فرعون .
فيكون كلامه عليه السلام يعبّر عن إحسان زهير وشكره عليه السلام على إحسانه .
وربما قيل : أنّ رحمة اللّه الواسعة هو الحسين عليه السلام فيؤول هذا الوجه الى الوجه الأول ، واللّه العالم .
قال عليه السلام ولعن اللّه قاتليك ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير .
شبّه أبو الشهداء عليه السلام في بداية المعركة زهير بن القين بمؤمن آل فرعون ، وختم له بنفس التشبيه لكن هذه المرّة من خلال لعن قاتله ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير ، وهم بنو إسرائيل الذين قتلوا مؤمن آل فرعون .
فأيّ شبه عظيم بين هذين السبّاقين المؤمنين الداعين الى اللّه ، والمسارعين الى حفظ حرمات اللّه ، وأيّ قصد لسيد الشهداء عليه السلام من وراء هذا التشبيه ؟
اللّه ورسوله وأهل بيته وسيدي ومولاي الحسين عليه السلام أعلم .
* * *
قال الشيخ السماوي رحمه الله في تأبين زهير بن القين(1) :
لا يبعدنك اللّه من رجل * وعظ العدى بالواحد الأحد
ثم انثنى نحو الخميس فما * أبقى لدفع الضيم من أحد
ص: 258
لمّا بقي الإمام الغريب العطشان وحيداً فريداً توجه نحو القوم ، وجعل ينظر يميناً وشمالاً ، فلم ير أحداً من أصحابه وأنصاره إلاّ من صافح التراب جبينه ، ومن قطع الحمام أنينه ، فنادى عليه السلام :
يا مسلم بن عقيل ! ويا هاني بن عروة ! ويا حبيب بن مظاهر ! ويا زهير بن القين ! ويا . . ويا يحيى بن كثير ! ويا هلال بن نافع ! ويا إبراهيم بن الحصين ! ويا عمير بن المطاع ! ويا أسد الكلبي ! ويا عبد اللّه بن عقيل ! ويا مسلم بن عوسجة ! ويا داود بن الطرماح ! ويا حر الرياحي ! ويا علي بن الحسين !
ويا أبطال الصفا ! ويا فرسان الهيجاء ! ما لي أناديكم فلا تجيبوني ، وأدعوكم فلا تسمعوني ؟!
أنتم نيام أرجوكم تنتبهون ، أم حالت منيّتكم عن إمامكم فلا تنصرونه ؟!
فهذه نساء الرسول صلى الله عليه و آله لفقدكم قد علاهن النحول ، فقوموا من نومتكم ، أيّها الكرام! وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام .
ص: 259
ولكن صرعكم - واللّه - ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، وإلالما كنتم عن دعوتي تقصرون ، ولا عن نصرتي تحتجبون ، فها نحن عليكم
مفتجعون ، وبكم لاحقون ، فإنا للّه وإنا إليه راجعون .
ثم أنشأ يقول :
قوم إذا نودوا لدفع ملمّة
والقوم بين مدعس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا
يتهافتون على ذهاب الأنفس
نصروا الحسين فيالها من فتية
عافوا الحياة والبسوا من سندس(1)
وكيف لا يعلو النحول بنات الرسول على زهير ، وهو من أبطال الصفا ، وفرسان الهيجا ، وقد دافع عن خدرهن ، وحرس حدودهن ، ودفع الأعداء عن خيامهن ، وكانت قلوبهن مطمئنة آمنة على أملهن الحسين عليه السلام ما دامت عيون أصحابه تطرف وسيوفهم في أيديهم .
صلّى اللّه عليك يا زهير ، ولعن قاتليك
* * *
ص: 260
المقدّمة... 5
اسمه ونسبه... 19
لقبه ونسبته... 22
البجلي... 22
الأنماري... 22
سنّه... 23
مكانته وشخصيته... 25
التزامه بالتقية... 25
أولاً : تشبيه الحسين عليه السلام له بمؤمن آل فرعون... 25
ثانياً : إتهام الأعداء له... 26
ثالثاً : إنّه لم يكن مشهوراً... 26
دلالات تشبيهه بمؤمن آل فرعون... 29
أ نّه مؤمن... 29
صفات المؤمن... 30
إنّه عامل بالتقية... 41
ص: 261
إنّه يدافع عن المعصوم... 50إنّه يعتقد أنّ الحسين جاء بالبينات... 50
إنّه من القلّة الممدوحة... 51
برأ الحسين عليه السلام دينه وأ نّه لم يضفه اليهم بدينه... 51
إنّه من الصالحين العاملين بالتقية... 52
إنّه ممدوح بكتمان علمه... 54
إنّه تحمل البقاء مع الأعداء لحماية الإمام... 55
مدح الحسين عليه السلام أسلوبه في الوعظ وشهد له بالبلاغة وقوة العقل... 55
إنّه ممدوح بتحمله البلاء والدعوة مع ابتلائه... 57
تشبيهه بسباق الأمم وأنهم لم يكفروا باللّه طرفة عين... 57
تشبيهه بالثلة من الأولين... 59
تشبيهه بالصديقين... 60
إخباره أ نّه ممّن لا يفتن في دينه... 60
إخباره عليه السلام له بقتله إخباراً خاصاً وأ نّه يقطع إرباً... 60
إخباره عن تسليمه وتفويض أمره للّه... 61
امتداحه باليقين والصبر على الشدائد... 62
أشار الى وجوب الأخذ بكلامه لأ نّه موافق للاحتياط... 62
الشهادة له بأنّه ممّن يدخل الجنة بمجرد القتل... 63
تشبيهه بأصحاب الكهف وأبي طالب وأنّ اللّه كتب لهم الأجر مرّتين... 63
الشهادة له بأنّه من شيعة أهل البيت الخلص... 64
ص: 262
شبهه بمن يقومون مع القائم قياماً خاصاً... 66مواقف زهير... 67
موقف زهير بذي حسم... 67
زهير مع الحسين عليه السلام على مشارف كربلاء... 68
منع العدو من الدخول على الحسين عليه السلام خوفاً من إغتياله... 74
الوقوف أمام الحسين عليه السلام يقيه بنفسه في الصلاة... 75
الحسين عليه السلام يخبر عن سؤال زهير وحبيب... 76
زهير في جملة الممثلين للحسين عليه السلام... 79
يستمهل القوم مع العباس عليه السلام... 79
موقف زهير ليلة العاشر... 79
دفاع زهير ورجاله في الميمنة عن الحسين عليه السلام... 82
دفاع زهير عن حرم الحسين عليه السلام... 82
شجاعة زهير... 86
مقام الوعظ... 89
خروجه شاك في السلاح... 92
التصوّر الأول... 92
إنّه متقدّم للموت فنصيحته لا مصلحة له فيها للدنيا... 92
التصور الثاني : تحرزاً من القوم... 93
التصور الثالث: استعرض القوة والاستعداد أمام العدو... 95
التصور الرابع : لأ نّه قائد عسكري في ساحة الوغى... 96
ص: 263
مضامين خطبته... 98أولاً : يا أهل الكوفة... 98
ثانياً : إعلانه عن مهمته... 99
الأمر الأول : الإنذار... 99
الأمر الثاني: النصيحة... 100
ثالثاً : أتباع الدين الواحد لا يتقاتلون... 101
رابعاً : التحذير من الارتداد والكفر... 102
خامساً : ابتلانا اللّه وإياكم بذرية النبي صلى الله عليه و آله... 102
سادساً : دعوتهم إلى نصر الحسين عليه السلام... 104
سابعاً : دعوتهم إلى خذلان الطاغية... 104
عائد ضمير التثنية في كلام زهير... 107
الأول : المراد عبيد اللّه وأبيه زياد... 107
الثاني : المراد يزيد وابن زياد... 109
لماذا لم يصرح زهير باسم يزيد ؟... 110
الجواب... 110
الأول : دلالة القرائن عليه... 110
الثاني : دأبه في التقية... 110
الثالث : تجنب الاستفزاز... 110
ردّ المسوخ... 111
خطاب آخر ودعوة أخرى... 113
أولاً : إنّ ولد فاطمة
عليهاالسلام أحقّ بالودّ والنصر من ابن سمية... 114
ص: 264
ثانياً : إن لم تنصروهم فلا تقتلوهم... 116ثالثاً : تكسبون رضا يزيد بدون قتل الحسين عليه السلام... 117
ردّ القوم... 117
أفبالموت تخوفني ؟!... 119
الأمر الأول : الردّ على تهديده بالقتل... 120
الأمر الثاني : بيان حبّه للبقاء مع الحسين عليه السلام على كلّ حال... 121
عودة إلى خطاب الأعداء... 121
الحسين عليه السلام يدعو زهيراً... 124
هل تأثر القوم بموعظة زهير ؟... 125
رجز زهير... 128
وقفات... 130
الوقفة الأولى... 130
الوقفة الثانية... 130
الوقفة الثالثة... 130
« لفتات »... 131
اللفتة الأولى... 131
اللفتة الثانية... 132
اللفتة الثالثة... 135
اللفتة الرابعة... 136
الوقفة الرابعة... 137
ص: 265
« لفتات »... 138اللفتة الأولى... 138
اللفتة الثانية... 138
اللفتة الثالثة... 138
اللفتة الرابعة... 139
اللفتة الخامسة... 140
اللفتة السادسة... 140
اللفتة السابعة... 140
اللفتة الثامنة... 141
زيادات وروايات أخرى في الرجز... 143
هل كان زهير عثمانياً ؟... 145
مناقشة الخبر... 148
أولاً: أقدم مصدر نقل الخبر... 148
ثانياً: سند الخبر... 149
مناقشة المتن... 150
أولاً : من هو عزرة الذي اتهم زهيراً... 150
ثانياً : إنّها تهمة من العدو... 157
لماذا اتهم عزرة زهيراً ؟... 158
الأمر الأول : التقية... 158
الأمر الثاني : التسقيط... 159
ص: 266
معنى اصطلاح « عثماني »... 161الأمر الثالث: زعزعة الثقة بين أصحاب الحسين عليه السلام... 164
ثالثاً : جواب زهير على الفرية... 165
المقصد الأول : التعريض بعزرة... 168
المقصد الثاني : وعظ عزرة ومن معه... 169
مضامين كلام زهير... 169
أولاً... 169
ثانياً... 170
ثالثاً... 170
رابعاً... 170
خامساً... 170
سادساً... 170
رابعاً : لا دليل على توبته... 171
خامساً : موقف أهل البيت عليه السلام... 171
سادساً : إطلاعه على خصوصيات حياة أمير المؤمنين عليه السلام... 174
أولاً... 176
ثانياً... 176
ثالثاً... 176
رابعاً... 177
خامساً... 177
ص: 267
سابعاً : إنّه كان مبشراً بنصرة الحسين عليه السلام... 178ثامناً: دلالات خطبه... 179
تاسعاً: نمط علاقته بالحسين عليه السلام... 181
الصورة الأولى : حضوره المستمر بين يدي الحسين عليه السلام... 182
الصورة الثانية : اختياره للميمنة... 183
صاحب ميمنة الحسين عليه السلام... 183
الصورة الثالثة : ضرب على كتف الحسين عليه السلام... 186
الصورة الرابعة : مواساته للحسين عليه السلام... 187
عاشراً : لو كان عثمانياً لتوثب لقتال الحسين عليه السلام... 189
هل كره زهير منازلة الحسين عليه السلام ؟... 190
أولاً : السند... 192
ثانياً : ظروف نقل الخبر... 192
ثالثاً : لم يكن زهير وحده في تلك الرحلة... 193
رابعاً : خروج زهير من مكة بعد الحج... 194
الملاحظة الأولى : المسايرة... 194
الملاحظة الثانية... 195
الملاحظة الثالثة... 195
الملاحظة الرابعة... 196
خامساً : روايات لم تذكر امتناع زهير... 197
سادساً : المرافقون كانوا عثمانية... 198
ص: 268
سابعاً : المطلوب للحسين عليه السلام زهير بن القين فقط... 199ثامناً : ينتظرون الحسين عليه السلام في الصحراء... 200
أسدي ينتظر الشهادة مع الحسين عليه السلام في كربلاء... 202
خروج الكلبي مع أهله في طلب الحسين عليه السلام... 203
تاسعاً : ما لبث أن جاء مستبشراً... 208
عاشراً : زهير بن القين خرج يتلقّى الحسين عليه السلام... 211
الحادي عشر : ورد هذا الاتهام في حقّ غير زهير... 212
ابن عمّه المستشهد معه... 215
دلهم بنت عمرو زوجة زهير بن القين... 217
عقلها ومعرفتها... 218
إخبارها بالفراق والشهادة... 220
وداعها مع زوجها... 221
كلمات الوداع... 223
الفقرة الأولى: كان اللّه عوناً ومعيناً... 223
الفقرة الثانية: خار اللّه لك... 224
الفقرة الثالثة : أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام... 225
الرجاء العظيم... 226
لماذا الطلاق ؟... 226
الجواب الأول... 226
الجواب الثاني... 227
ص: 269
الجواب الثالث... 227الجواب الرابع... 228
هل التقت دلهم الحسين عليه السلام ؟... 228
امرأة زهير تكفن الحسين عليه السلام وزوجها... 229
زيارة زهير بن القين... 231
النمط الأول : الزيارة الخاصة... 231
تسليم الحجة عليه السلام عليه... 231
أولاً: إختصاص زهير بالإكرام... 233
ثانياً: الثأر لدم زهير... 233
ثالثاً: ليلة العاشر كانت مركز الإبتلاء... 233
رابعاً: شكر الموقف... 235
خامساً: خصوصية الموقف ليلة العاشر... 236
النمط الثاني : الزيارة العامة... 237
النص الأول... 238
النكتة الأولى... 238
النكتة الثانية... 239
النكتة الثالثة... 239
النكتة الرابعة... 240
النكتة الخامسة... 240
ص: 270
النص الثاني... 241النص الثالث... 244
النص الرابع... 245
النص الخامس... 245
النص السادس... 246
النص السابع... 246
النص الثامن... 247
النص التاسع... 247
النص العاشر... 247
النص الحادي عشر... 248
النص الثاني عشر... 248
شهادة زهير... 249
مبارزة زهير... 249
متى استشهد زهير... 250
شهادته... 250
« 1 »... 250
« 2 »... 251
« 3 »... 254
« 4 »... 255
ص: 271
تأبين الحسين عليه السلام لزهير... 256الوجه الأول... 257
الوجه الثاني... 257
لعن اللّه قاتل زهير... 258
الإمام الغريب يستصرخ زهير وإخوته بعد الشهادة... 259
الفهرست... 261
ص: 272