لقاء الفرزدق و الامام الحسين علیه السلام

اشارة

لقاء الفرزدق والإمام الحسين علیه السلام

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

مشخصات ظاهری: 343ص

زبان : عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص: 1

اشارة

ص: 2

لقاء

الفرزدق والإمام الحسين (علیه السلام)

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملِك الحقُّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خَلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقَهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السماواتِ العُلى، الرحمانُ على العرشِ استوى، له ما فِي السماواتِ وما ِي الأَرضِ وما بينهما وما تحتَ الثرى، فأنا أشهدُ بأنّك أنت الله، لا رافع لِما وضعت، ولا واضع لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مُذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى محمّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَباطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ،

ص: 5


1- بحار الأنوار: 83 / 332 الباب 45.

وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ ((1)).

اللّهمّ وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ -- اللّهمّ -- كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ -- وقولك الحقّ -- : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).

ص: 6


1- نهج البلاغة: 101 خ 72.
2- مصباح المتهجّد: 785.

والعنِ اللّهمّ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِر حماتهم وجماعتهم ((1)).

وصلِّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذي النسب العلِيّ، المنفِق الملي، أبي عبد الله الحسين بن علي (علیهما السلام) ..

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأَولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا (علیه السلام) ، الحسين بن عليّ المرتضى..

ص: 7


1- مصباح المتهجّد: 785.

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجَر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملِك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء (علیه السلام) ((2)).

الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.

الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((1)).

الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين (صلی الله علیه و آله) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((2)).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) -- وهو الصادق الأمين -- : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((3)).

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : «أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تركٍ وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروهٍ ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَاللهِ لو أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ

ص: 9


1- كمال الدين: 2 / 290 ح 1.
2- بحار الأنوار: 45 / 314.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((1)).

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((2))، حتّى (يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكرباتِ).

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((3)).

فذلك قائم آل محمّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يخرج، فيقتل بدم الحسين بن علي (علیهما السلام) .. «وإذا قام -- قائمنا -- انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((4)).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فقال:

«لمّا أُسريَ بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي

ص: 10


1- بحار الأنوار: 45 / 147.
2- أُنظر: بحار الأنوار: 98 / 151 الباب 18.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
4- بحار الأنوار: 52 / 376.

اطّلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها، فجعلتك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطّلعتُ الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضتُ ولايتهم على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.

يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدَني حتّى ينقطع ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي، ولا أظللتُه تحت عرشي.

يا محمّد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال (عزوجل) : إرفَعْ رأسك.

فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و (م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ دُرّي.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي، ويحرّمحرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنةُ الناس

ص: 11

- يومئذٍ -- بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري» ((1)).

وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك!

فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن عليّ أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، ولْيكُن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مصرعهم، ولو كان في الدنيا -- يومئذٍ -- حيّاً لكان (صلی الله علیه و آله) هو المعزّى بهم».قال: وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: «ثمّ قل: اللّهمّ عذّب الفجَرة الّذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخب وأوضع

ص: 12


1- كمال الدين: 1 / 252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار: 52 / 379 ح 185.

معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً. اللّهمّ وعجِّلْ فرج آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً. اللّهمّ إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك، اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك وأهل بيت رسولك، اللّهمّ وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاءطمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات الّتي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين. اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللّهم فأعِنِ الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

ص: 13


1- مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار: 98 / 305 الباب 24.

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیه السلام) ، الّذين كشف لهم سيّد الشهداء (علیه السلام) (الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يُقدِم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة) ((1))، ووعدَهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).

اللّهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلده، والبراءة من أعدائهم ((3)).

ص: 14


1- علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
2- تأويل الآيات الظاهرة: 272.
3- أُنظر: المزار لابن المشهدي: 177، بحار الأنوار للمجلسيّ: 97 / 428 زيارة المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله أجمعين، واللعن الدائم على أعدائهم من الأولين والآخِرين.

وبعد:

لقاءٌ حصل بين الفرزدق وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان الإمام خارجاً من مكّة قاصداً الكوفة، وكان الفرزدق قاصداً مكّة، فقال الفرزدق كلمةً اتّخذها الناس مفتاحاً لفكّ الكثير من الرموز، وجعلها آخَرون أساساً لتقييم المواقف والكشف عن الكوامن وتحليل النفسيّات والمشاعر، وصارت بمستوىً من الأهمّيّة بحيث بُنيَت عليها البحوث وفُسّر بها بعض المفاصل المهمّة من حركة سيّد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه).

وقد أتينا على تفصيل الحديث عن هذا اللقاء ضمن تتبّعنا لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، بَيد أنّ طول البحث وتشعّبه واسترساله جعل من المادّة مؤهَّلةً لتكون كتاباً مستقلّاً.

فهذا الكتاب هو خطوةٌ قصيرةٌ وحلقةٌ متّصلةٌ بالبحوث السابقة عليها، الّتي خرجت في كتابين: (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)،

ص: 15

و(ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة)، ونرجو من الله أن يوفّقنا ببركة سيّد الشهداء لِإتمام ظروف تواجد الإمام سيّد شباب أهل الجنّة في مكّة، لتصل النوبة إلى ظروف الطريق بين مكّة والكوفة، ولقاء الفرزدق يتعلّق بهذه الفترة وهذا المقطع من الطريق، غير أنّ أهميّة الموضوع والتوفيق لتجهيزه مبكّراً دعانا لتقديمه إلى الطبع قبل غيره.

والبحث هنا يقوم على نفس الأُسس الّتي قام عليها في الكتابَين السابقين، وضمن نفس المنهج الجديد الّذي يعتمد تصوير (حركة الإمام الحسين (علیه السلام)) كحركةٍ دفاعيّةٍ خالصة.

* * * * *

يضطرنا البحث أحياناً لذكر بعض نصوص المعاصرين وغيرهم، ومناقشتها، فنستميح مَن نناقش أقوالهم مِن علمائنا الأبرار السابقين بالهجرة والإيمان والتأليف والتحقيق عذراً، ونقبّل أيديهم الكريمة، ونقول بكلّ خضوعٍ وتأدّبٍ ورعايةٍ لمقامهم وسبقهم في خدمة أهل البيت (علیهم السلام) ، لكنّ البحث العلميّ يأذن للتلاميذ الصغار أن يُشكلوا ويناقشوا أباءَهم وأساتذتهم.

ونقول هنا -- كما نقول دائماً -- :

لقد تحرّينا الاحتياط، وتقدّمنا في البحث خطوةً خطوة، كمن يمشي في منطقةٍ ملغومةٍ مُظلمة، وقصدنا خدمة أهل البيت (علیهم السلام) وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعزمنا الدفاع عن حريمهم وقداستهم وكلّ ما يُنسَب إليهم،

ص: 16

فإذا وقعنا بين خيارين، خيار التزام قداسة التاريخ والمؤرخ، وخيار التزام قداسة الأولياء والأصفياء، فإننا اخترنا الخيار الثاني، طلباً لرضى الله ورسوله والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .

فإن وُفّقنا في ذلك فهو فضلُهم ومنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإلّا فنستغفر الله، ونسأله أن يعطينا أجر مَن أحسن عملاً، إنّه عفوٌّ جوادٌ كريم، وهو نِعم المولى ونعم النصير.

ونرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، وينفعنا به ووالدينا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّيّاتنا خدمة زَين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) في الدنيا والآخرة، ويحشرنا في مماليك الغريب وعبيده المرضيّين، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يرضيه ويرضي النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطاهرين المعصومين (علیهم السلام) ، بحقّ مولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف (علیه السلام) وأُخته الطيّبة فاطمة المعصومة (علیها السلام) .

اللّهمّ اغفِرْ لنا ولولدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين، وعجِّلْ فرج وليّ أمرنا، الطالب بدم الإمام المظلوم غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) ، آمين ربّ العالمين.

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

قمّ المقدّسة

24 ربيع الأول 1438 ه

ص: 17

ص: 18

ترجمة الفرزدق

الفرزدق، هو: هَمّام بن غالب بن صعصعة بن ناحية بن عقال ((1)) بن محمّد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، الحنظليّ ((2)) التميميّ البصري ((3)).

والفرزدق لقبٌ لُقّب به، وليس باسمه، وإنّما لُقّب به لجهامة وجهه وغلظه، لأنّ الفرزدقة هي القطعة الضخمة من العجين، وقيل: إنّها الخبزة الغليظة الّتي تتّخذ منها النساء الفتوت ((4)).

والفرزدق -- كسفرجل -- : الرغيف الّذي يسقط في التنّور ((5))، ويقولون أيضاً: الفرزدقة، وقال بعضهم: فتات الخبز، وقال آخرون: الفرزدق: القطعة من العجين، وأصلها بالفارسيّة: برازده (خزانة الأدب) ((6)).

ص: 19


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 12 / 65.
2- لسان الميزان لابن حجر: 6 / 198.
3- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 4 / 590.
4- الأمالي للمرتضى: 1 / 45.
5- الكُنى والألقاب للقمّي: 3 / 27.
6- معجم المطبوعات العربيّة لسركيس: 2 / 1443.

وكان قصيراً غليظاً، فشُبّه بالفرزدقة، وهي الجردقة الّتي تُدَقّ ويشربها النساء ((1)).

وكنيته: أبو فراس، وقيل: إنّه كان يُكنّى في شبابه بأبي مكيّة، وهيأغرب كناه ((2)).

قال السيّد المرتضى:

وكان شيعيّاً مائلاً إلى بني هاشم، ونزع في آخِر عمره عمّا كان عليه من القذف والفسق، وراجع طريقة الدين، على أنّه لم يكن في خلال فسقه منسلخاً من الدين جملة، ولا مهملاً أمره أصلاً ((3)).

واستشهد لذلك بما رواه عن عبد الكريم، قال: دخلتُ على الفرزدق فجعلت أُحادثه، فسمعتُ صوت حديدٍ يتقعقع، فتأمّلت الأمر، فإذا هو مقيَّد الرجلين، فسألت عن السبب في ذلك، فقال: إنّي آليتُ على نفسي أنّي لا أنزع القيد من رجلي حتّى أحفظ القرآن.

وبما رواه عن سلام بن مسكين، قال: قيل للفرزدق: علا مَ تقذف المحصنات؟ فقال: والله، الله أحبُّ إليّ من عينَيّ هاتين، أفتراه يعذّبني

ص: 20


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 12 / 65.
2- الأمالي للمرتضى: 1 / 45.
3- الأمالي للمرتضى: 1 / 45.

بعدها؟

وبما رُوي أنّه تعلّق بأستار الكعبة، فعاهد الله على ترك الهجاء والقذف اللذَين كان ارتكبهما، وقال:

ألم ترني عاهدتُ ربّي؟ وإنّني

لَبين رتاجٍ قائماً ومقامِ

على حلفةٍ لا أشتم الدهر

مسلماً

ولا خارجاً مِن فِيّ زورُ كلامِأطعتُك يا إبليس تسعين حِجّةً

فلمّا قضى عمري وتمّ تمامي

فزعتُ إلى ربّي، وأيقنتُ أنّني

مُلاقٍ لأيام الحتوفِ حِمامي

وروي عن إدريس بن عمران قال: جاءني الفرزدق، فتذاكرنا رحمةَ الله وسعَتَها، فكان أوثقنا بالله، فقال له رجل: ألك هذا الرجاء والمذهب وأنت تقذف المحصنات وتفعل ما تفعل؟! فقال: أترونني لو أذنبتُ ذنباً إلى أبوَيّ أكانا يقذفاني في تنّورٍ وتطيب أنفسهما بذلك؟ قلنا: لا، بل كانا يرحمانك. قال: فأنا واللهِ برحمة ربّي أوثق منّي برحمتهما.

وروي أيضاً عن سليمان الطفاوي قال: شهدتُ الحسنَ البصريّ في جنازة النوّار امرأةِ الفرزدق، وكان الفرزدق حاضراً، فقال له الحسن -- وهو عند القبر -- : يا أبا فراس، ما أعددتَ لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله الّا الله منذ ثمانين سنة. فقال له الحسن: هذا العمود، فأين الطنب؟ وفي روايةٍ أُخرى أنّه قال: نِعمَ ما أعددت. ثمّ قال الفرزدق في الحال:

أخافُ وراء القبر إنْ لم يعافني

أشدّ من الموت التهاباً وأضيقا

ص: 21

إذا جاءني يوم القيامة قائدٌ

عنيفٌ وسوّاقٌ يسوق الفرزدقا

لقد خاب من أولاد آدم مَن

مشى

إلى النار مغلول القلادة أزرقا

يُقاد إلى نار الجحيم مسربلاً

سرابيل قطران لباسه محرقا

قال: فرأيتُ الحسن يدخل بعضه في بعض، ثمّ قال: حسبك.

ويُقال: إنّ رجلاً رأى الفرزدق بعد موته في منامه، فقال: ما فعل اللهبك؟ فقال عفا عنّي بتلك الأبيات ((1)).

فالسيّد (رحمة الله) -- كغيره ممّن ترجم للفرزدق -- يشهد عليه بالسلوك الملتوي، وارتكاب ما لا ينبغي للمؤمن أن يرتكبه، وقد صرّحوا بممارسته لقذف المحصنات وغيرها من الموبقات.. بيد أنّ السيّد ساق ما يمكن أن يكون شاهداً على توبته بعد أن قضى تسعين حجّةً من عمره، ولا شكّ أنّ الله عند حُسن ظنّ عبده، وأنّ رحمة الله وسعَت كلّ شيءٍ ما لم يكن آمِناً من مكر الله، وكان قد اعتقد الحقّ كما أراده الله ورسوله واتّبع مَن أمَرَ الله باتّباعه وتولّاه، أميرَ المؤمنين عليّاً (علیه السلام) ، وتبرّأ من أعدائه، والله غفورٌ رحيم.

ثمّ ساق السيّد (رحمة الله) شواهد، قال عنها أنّها تدلّ على تشيّعه، فقال:

وأمّا ما يدلّ على تشيّعه وميله إلى بني هاشم، ما رواه -- بإسناده -- عن أبي لبيد قال: جاء الكُميت إلى الفرزدق فقال: يا عمّ، إنّي قد قلتُ قصيدةً أُريد أعرضها عليك، فقال له:

ص: 22


1- أُنظر: الأمالي للمرتضى: 1 / 45 -- 47.

قل. فأنشده:

طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ..

فقال له الفرزدق: فإلى مَن طربتَ؟ ثكلتك أُمّك!

فقال:

ولا لَعِباً منّي، وذو الشيب يلعَبُ؟ولم تُلهِني دارٌ ولا رسمُ منزلٍ

ولم يتطرّبني بنانٌ مخضّبُ

فقال له: إلى مَ طربت؟

فقال:

ولا أنا ممّن يزجر الطير همّه

أصاح غرابٌ أم

تعرّض ثعلبُ

ولا السانحات البارحات عشيّةً

أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضبُ

ولكن إلى أهل الفضائل

والنُّهى

وخيرِ بني حوّاء،

والخير يُطلَبُ

قال الفرزدق: هؤلاء بنو دارم؟

فقال الكميت:

إلى النفَرِ البيض الّذين

بحبّهم

إلى الله فيما نابني أتقرّبُ

فقال الفرزدق: هؤلاء بنو هاشم!

فقال الكميت:

بني هاشمٍ رهط النبيّ، فإنّني

بهم ولهم أرضى مِراراً وأغضبُ

فقال له الفرزدق: واللهِ لو جزتهم إلى سواهم لَذهبَ قولُك

ص: 23

باطلاً ((1)).ولا ندري كيف دلّ كلامه هذا على تشيّعه، إذ أنّ الفرزدق انصرف ذهنُه إلى قومه بني دارم حينما وصف الكُمَيتُ الممدوحين بأنّهم (أهل الفضائل والنهى، وخير بني حوّاء..)، فهو يرى بني دارم خير بني حوّاء، وأنّهم المطلوبون، لأنّهم الخير بعينه! ولو كانت ذهنيّته ذهنيّة الشيعيّ الّذي لا يرى في البشر فضلاً إلّا في آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولا يرى الخير إلّا منهم، ولا يرى في أولاد حوّاء مَن هو أفضل من أهل البيت (علیهم السلام) ، وأنّهم معدن الخير والجود والكرم، لَانصرف ذهنه لهم لا لقومه.

أمّا قوله بعد أن حصر الكُميت من مدحهم، فقال:

إلى النفَرِ البيض الّذين بحبّهم

إلى الله فيما نابني أتقرّبُ

فلا يمكن أن يعدو بعدها آل البيت (علیهم السلام) ، إذ أنّهم القوم الّذين يتوسّلُ بهم المتوسّل إلى الله، فإذا سرح ذهنه، وهو شاعرٌ مارس المدح والهجاء في مباراة صعبة، فذلك هو العجب، وشهادته أنّ المقصود من شعر الكميت هم بنو هاشم، فهو من المعهود المألوف في كلّ شاعرٍ حين يحزر مراد الشاعر الآخَر إذا قال قبل أن يتمّ كلامه، مستفيداً من القرائن والصور والمشاهد الّتي يقوم عليها الشعر، فلا تُعَدّ نباهةً خارقة، ولا تعبيراً عن اعتقاد.

ص: 24


1- الأمالي للمرتضى: 1 / 47.

وأمّا قوله: (والله لو جُزتَهم إلى سواهم لَذهب قولك باطلاً)، فهو لا يدلّ على أكثر من تقييم للشعر، وتأكيدٍ لاستحقاق الممدوح لهذه الصفة..

بالإضافة إلى أنّه لم يحصر كلامه في أهل البيت (علیهم السلام) ، وإنّما عمّمهفي بني هاشم، وإن كان مقصود الكُميت هم آل البيت (علیهم السلام) ، لأنّ الكميت إنّما أفصح عن مراده بعد الاسترسال في القصيدة، ولم يكن إلى البيت المذكور قد حدّد، وكان تأييد الفرزدق إلى ذلك الحدّ، وهو حدٌّ عام.

ثمّ قال السيّد (رحمة الله) :

وممّا يشهد أيضاً بذلك [أي: بتشيّعه] ما أخبرنا به [وذكر إسناده] غير واحدٍ من أهل الأدب أنّ عليّ بن الحسين (علیه السلام) حجّ، فاستجهر الناس جَماله وتشوّفوا له، وجعلوا يقولون: مَن هذا؟ فقال الفرزدق: ...

ثمّ ذكر الأبيات..

وفي رواية الغلابي: أنّ هشام بن عبد الملِك حجّ في خلافة عبد الملِك أو الوليد، وهو حدث السنّ، فأراد أن يستلم الحجَر فلم يتمكّن من ذلك لتزاحم الناس عليه، فجلس ينتظر خلوة، فأقبل عليّ بن الحسين (علیه السلام) وعليه إزارٌ ورداء، وهو من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، بين عينيه سجّادةٌ كأنّها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت، فإذا بلغ الحجَر تنحّى الناس له عنه حتّى يستلمه هيبةً له واجلالاً، فغاظ ذلك هِشاماً، فقال له

ص: 25

رجلٌ من أهل الشام: مَن هذا الّذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه. لئلّا يرغب فيه أهل الشام.فقال الفرزدق -- وكان هناك حاضراً -- : لكنّي أعرفه. وذكر الأبيات، وهي أكثر ممّا رويناه، لكنّا تركناها لأنّها معروفة.

قال: فغضب هشام، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكّة والمدينة، فبلغ ذلك عليَّ بن الحسين (علیه السلام) ، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: «اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر منها لَوصلناك به». فردّها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله، ما قلتُ الّذي قلتُ إلّا غضباً لله ورسوله، وما كنتُ لأرزأ عليه شيئاً. وردّها إليه، فردّها عليه وأقسم عليه في قبولها، وقال له: «قد رأى الله مكانك، وعَلِم نيّتَك، وشكر لك، ونحن أهل بيتٍ إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه». فقبلها.

وجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس، وممّا هجاه به:

أتحبسني بين المدينة والّتي

إليها

رقاب الناس يهوي منيبها؟

يقلّب رأساً لم يكن رأس سيّد

وعيناً

له حولاء باد عيوبها ((1))

لا نحسب أنّ في هذا الموقف دلالةً كافيةً على تشيّع الرجل واعتقادِه الحقّ، ولا ما يكفي لجعله من أصحاب الإمام السجّاد (علیه السلام) ، وإن كان موقفاً

ص: 26


1- الأمالي للمرتضى: 1 / 45.

مشكوراً، قد شكره عليه الإمام (علیه السلام) ووصله ودعا له ووعده عن اللهخيراً، وعادة أهل البيت (علیهم السلام) أن يشكروا مَن أسدى إليهم معروفاً ولا يدَعُونه دون الردّ بالأحسن.

والغريب أنّنا لم نجد في شعره -- حسب الفحص -- أيّ مدحٍ لأهل البيت (علیهم السلام) غير هذه القصيدة، وممّا يثير الهواجس حوله أكثر أنّه لم يُروَ عنه ولا بيتٌ واحدٌ في رثاء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، مع أنّه كان معاصراً له، وسمع خبر مقتله، في حين رثى الحجّاج ((1)) وغيرَه! وسيأتي فيما بعد مفصّلاً أنّه لم يُروَ عنه ولا كلمة استرجاعٍ أو تنفّس الصعداء، أو أيّ كلمةٍ تفيد التفجّع والتأثّر بمصيبة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما كان همّه لعن عبد الله بن عمرو بن العاص الّذي أشار عليه باللحاق بالإمام (علیه السلام) مستهزئاً، فكان قد أرعبه وأزعجه أن لو كان قد سمع منه والتحق لَكان من المقتولين بين يديه (علیه السلام) .

وقد مدح الأُمويّين ((2))، ومدح ابن الزبير، ومدح أسماء بن خارجة الفزاريّ ((3)) الّذي خرج لقتال سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان من أعمدة عسكر ابن زياد، وقد طالبه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بدم المولى الغريب مسلم بن

ص: 27


1- أُنظُر: أنساب الأشراف للبلاذري: 12 / 101.
2- أُنظُر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 4 / 590.
3- أُنظُر: الأغاني لأبي الفرَج: 21 / 237.

عقيل (علیهما السلام) ، ومدح آل مروان وقال:

وأسلمتُ وجهي حين شدّت ركائبيإلى آل مروانٍ، بناتِ المكارمِ ((1))

وقد مدح الحجّاج، فقيل له: مدحتَ الحجّاج، فلمّا مات هجوتَه! فقال: إنّا نكون مع القوم ما كان الله معهم، فإذا تركهم تركناهم ((2)).

ومدح غيرهم من أعداء أهل البيت (علیهم السلام) ، ودخل في مساجلاتٍ شعريّةٍ معروفة.

وقد وصله الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو الإمام الّذي لا مغمز فيه ولا مهمز، وهو ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؛ ليتّقي لسانه! فقد روى ابن شهرآشوب في (المناقب) عن كتاب (أُنس المجلس): أنّ الفرزدق أتى الحسين (علیه السلام) لمّا أخرجه مروان من المدينة، فأعطاه (علیه السلام) أربعمئة دينار، فقيل له: شاعرٌ فاسقٌ مشهر! فقال (علیه السلام) : «إنّ خير مالِك ما وقيتَ به عرضك» ((3))، وستأتي رواية غيره أنّه وصله في لقائه وهو متوجّهٌ إلى العراق.

* * * * *

نكتفي بهذا القدر المقتضَب من ترجمته، ولا نودّ الدخول في تفاصيل ما

ص: 28


1- أُنظُر: الأمالي للشريف المرتضى: 3 / 47.
2- أُنظُر: أنساب الأشراف للبلاذري: 12 / 71.
3- أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 221.

رُوي عنه، وعن مغامراته المخزية أحياناً، وشعره الخليع الماجن، وهجوه ومدحه، وقد ”أمضى عمره يتعرّض للأُمراء والولاة والعمّال يمدحهم راغباً، ويهجوهم مهدِّداً حتّى يشتروا منه أعراضهم أحياءً وأمواتاً،وهو إن لم يُوفَّق إلى الكثير رضيَ بالقليل، فقنع بنحي من سمن مثلاً أو بشربة سويقٍ إذا كان عطشاناً“ ((1)).

فلا يُقاس بالشعراء الشيعة الّذين عاصرهم، من أمثال الكميت..

ص: 29


1- أُنظُر: مستدركات أعيان الشيعة للأمين: 3 / 295.

ص: 30

لقاء الفرزدق بالإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

روى لنا التاريخ لقاءً حصل بين الفرزدق وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، حيث كان الفرزدق متوجِّهاً إلى مكّة، وكان سيّد الشهداء (علیه السلام) متوجّهاً نحو العراق، ودار بينهما حديثٌ وكلام، قال فيه الفرزدق قولاً اتّخذه الكثير منطلقاً للدراسة والتحليل.

وسنحاول تناول اللقاء بشيءٍ من التفصيل، إن شاء الله (تعالى).

مكان اللقاء

اشارة

اختلفت المصادر في تعيين الموضع الّذي التقى فيه الفرزدق سيّد الشهداء (علیه السلام) :

فمنهم مَن لم يشر إلى المكان أصلاً ((1)).

ومنهم مَن عبّر تعبيراتٍ عامّة، أفاد أنّ اللقاء تمّ في الطريق منصرف

ص: 31


1- أُنظُر: نزهة الناظر للحلواني: 41، 43، مختصر ابن منظور: 27 / 120، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204، إسعاف الراغبين للصبان: 206.

الفرزدق من الكوفة ((1))، وفي مسيره ((2)) في بعض الطريق ((3))، والإمام متوجّهٌ إلى الكوفة ((4)).

ومنهم مَن لم يذكر المكان، واكتفى بذكر اللقاء بعد أن خرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ((5)) داخل الحرم ((6)).

ربّما اتفقت المصادر -- سواءً من صرّح منهم أو من أضمر -- أنّ اللقاء حصل في منصرف الفرزدق من الكوفة أو من البصرة متوجّهاً إلى مكّة، وخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة.

أمّا الّذين صرّحوا باسم المنزل الّذي التقوا فيه، فقد اختلفوا اختلافاً شديداً، فذكروا أربع مواضع:

ص: 32


1- كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.
2- الصواعق المُحرقة لابن حجر: 117.
3- الإنباء للعمراني: 14، الجوهرة للبري: 42، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
4- مطالب السَّؤُول لابن طلحة: 73، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 27، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 179، نور الأبصار للشبلنجي: 279.
5- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 2 / 268، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
6- الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

الموضع الأوّل: الصِّفاح

الموضع الأوّل: الصِّفاح ((1))

الصِّفاح -- بالكسر، وآخره حاء مهملة -- : في طريق نجد والعراق، والأنصاب على رأس ثنية الخل منتهى الحرم ((2))، وهو موضعٌ بين حنين وأنصاب الحرم، على يسرة الداخل إلى مكّة من مشاش ((3)).

قال ياقوت: وهناك لقيَ الفرزدق الحسينَ بن عليّ لمّا عزم على قصد العراق، قال:

لقيتُ الحسين بأرض الصفاح

عليه اليلامق والدرق ((4))لقيتُ الحسين بأرض الصفاح

عليه اليلامق والدرق ((5))

ص: 33


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، و63 -- 64 الرقم 287 -- 288، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، مختصر ابن منظور: 27 / 121، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، الأخبار الطِّوال للدينوري: 245، تاريخ الطبري: 5 / 386، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221، مثير الأحزان لابن نما: 20، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 410، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
2- أخبار مكّة: 2 / 309.
3- مراصد الاطلاع: 2 / 844، المعالم الأثيرة: 159.
4- معجم البلدان: 3 / 412.
5- معجم البلدان: 3 / 412.

وقيل: الصفاح: ثنيّة من وراء بستان ابن معمر، والناس يغلطون فيقولون: بستان ابن عامر ((1)).

الموضع الثاني: ذات عرق

الموضع الثاني: ذات عرق ((2))

في (أخبار مكّة): في طريق العراق، وهي الطريق الّتي يُقال لها اليوم: الطريق الشرقي، وذات عرق مندثرة، ويُحرم الحاجّ من الضريبة الّتي يقال لها اليوم: الخريبات، وهي بين المضيق ووادي العقيق، عقيق الطائف ((3)).

وهو بقرب أوطاس، وبينها وبين وجرة سبعةٌ وعشرون ميلاً، وذات عرق ميقات أهل العراق ((4))، وهو منزلٌ كثير الأهل والشجر، وماؤه من البرك، ومن ذات عرق إلى بستان ابن عامر اثنان وعشرون ميلاً، ومن بستان ابن عامر إلى مكّة أربعةٌ وعشرون ميلاً ((5)).

ص: 34


1- معجم ما استُعجِم: 3 / 835، الروض المعطار: 363.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 95، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
3- أخبار مكّة: 2 / 310.
4- الإشارات إلى معرفة الزيارات: 74.
5- الروض المعطار: 256.

قال في العزيزي: وبين ذات عرق وعمرة ستّة وعشرون ميلاً ((1)).

وهو الحدّ الفاصل بين نجدٍ وتُهامة ((2)).وقيل: عرق: جبلٌ بطريق مكّة، ومنه: ذات عرق، وقيل: عرق: الجبل المشرف على ذات عرق ((3)).

الموضع الثالث: بستان ابن أبي عامر

الموضع الثالث: بستان ابن أبي عامر ((4))، بستان بني عامر ((5))

بستان ابن معمر: مجتمع النخلتين: النخلة اليمانيّة، والنخلة الشاميّة، وهما واديان، والعامّة يسمّونه: بستان ابن عامر، وهو غلط.

قال الأصمعيّ وأبو عبيدة وغيرهما: بستان ابن عامر، إنّما هو لعمر بن عُبيد اللّه بن معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة ابن كعب بن لؤيّ بن غالب، ولكنّ الناس غلطوا فقالوا: بستان ابن عامر، وبستان بني عامر، وإنّما هو بستان ابن معمر، وقومٌ يقولون: نُسب إلى حضرميّ بن عامر، وآخرون يقولون: نُسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز، وكلّ ذلك ظنٌّ وترجيم.

ص: 35


1- الكتاب العزيزي: 24.
2- المعالم الأثيرة: 120.
3- المعالم الأثيرة: 189.
4- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186.
5- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

وذكر أبو محمّد عبد الله بن محمّد البطليوسيّ في شرح كتاب (أدب الكاتب) فقال: وقال -- يعني ابن قُتيبة -- : ويقولون: بستان ابن عامر، وإنّما هو بستان ابن معمر، وقال البطليوسي: بستان ابن معمر غير بستان ابن عامر، وليس أحدهما الآخَر، فأمّا بستان ابن معمر فهو الّذي يُعرَف ببطن نخلة، وابن معمر هو عمر بن عُبيد اللّه بن معمر التَّيمي، وأمّا بستان ابن عامر فهوموضعٌ آخَر قريبٌ من الجُحفة، وابن عامر هذا هو عبد الله بن عامر بن كريز ((1)).

الموضع الرابع: الشقوق

الموضع الرابع: الشقوق ((2))

بضمّ أوّله على لفظ جمع شقّ، منزلٌ بطريق مكّة، بعد واقصة، من الكوفة، والشقوق أيضاً: من مياه ضبّة، بأرض اليمامة ((3)).

قال البكريّ: موضعٌ من وراء الحزن طريق مكّة ((4)).

وربّما أفادت بعض النصوص أنّ ذات الشقوق من منازل بني العنبر،

ص: 36


1- معجم البلدان: 1 / 414.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 124 -- 129، المنتخب للطريحي: 1 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 223 -- 225.
3- مراصد الاطلاع: 2 / 806.
4- معجم ما استُعجم: 3 / 806.

ومنازل بني العنبر في جنوب الجزيرة العربيّة ((1)).

وبعدها تلقاء مكّة بطان وقبر العبادي، وهو لبني سلامة من بني أسد. والشقوق أيضاً: من مياه ضبّة بأرض اليمامة ((2)).

جمع الأقوال:

إنّ هذه المواضع جميعاً قريبةٌ من مكّة، وهي متقاربة، فربّما أُطلِق كلُّ اسمٍ منها على بقيّة المواضع، ومثل هذا الإطلاق واقعٌ في كثيرٍ من المواضع، حيث تُسمّى عدّة مواضع متقاربة باسم أحدها، ويمكن أن يقال: أنّ اللقاء تمّ على مشارف مكّة بعد أن تركها الإمام (علیه السلام) و(سار قاصداً لما دعاه الله إليه).أمّا عبارة السيّد في (اللهوف) وغيره، فقد أفادت أنّ اللقاء كان في زبالة أو بعدها، حيث قال بعد أن سرد ما وقع في زبالة من وصول خبر شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) :

ثمّ إنّ الحسين (علیه السلام) سار قاصداً لِما دعاه الله إليه، فلقيَه الفرزدق الشاعر، فسلّم عليه وقال: يا ابن رسول الله ((3))..

ص: 37


1- أُنظُر: المعالم الأثيرة: 152.
2- معجم البلدان: 3 / 356.
3- اللهوف لابن طاووس: 73.

إلى آخر ما قال.

فهو شاذٌّ يخالف المشهور، ولا يناسب لحوق الفرزدق بأُمّه بموسم الحجّ من تلك السنة، إلّا أن يقال: إنّ الفرزدق كان قاصداً العُمرة لا الحجّ، أو حصول اللقاء مرّتين، أو أن يكون ثمّة فرزدق آخَر التقى بالإمام (علیه السلام) ، فوقع سهوٌ أو خلط، فتصوّره الراوي الفرزدق الشاعر، وهو بعيد، وسيأتي الحديث عنه في بحث (الحوار الآخَر).

وكيف كان، فإنّ تحديد الموضع على وجه الدقّة قد لا يعنينا كثيراً بعد أن عرفنا أنّه في حدود الحرم ومشارف مكّة، إذ أنّنا نحاول اللحاق بأصل الأحداث والمجريات الّتي تفيدنا في فهم حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من بياناته وتصريحاته وردوده على القوم المعترضين، أو من يسمّونهم الناصحين، وما دار بين الإمام (علیه السلام) وبين الفرزدق من حديثٍ وحوار.

زمن اللقاء

ما وجدناه في المصادر من تواريخ يصلح أن يكون تحديداً زمنيّاً للقاء، فيه ما يحدّد تحديداً عامّاً، ومنها ما ينصّ على يومٍ بالذات..

فقد ورد بلفظ (خرجنا حجّاجاً) ((1))، و(أيّام الحجّ، وذلك في سنة

ص: 38


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144.

ستّين) ((1)).

وورد بتحديد (اليوم السادس من ذي الحجّة) ((2))، والتحديد الآخر هو (يوم التروية) ((3)).

ولا يخفى أنّ المشهور المتّفَق عليه بين المؤرّخين أنّ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة كان يوم التروية، في الثامن من ذي الحجّة ((4))، وما ورد من أقوالٍ أُخرى شاذّة إنّما هي بعد يوم التروية، كيوم عرفة، ويوم العيد العاشر من ذي الحجّة ((5))، فلا يمكن والحال هذه أن يكون اللقاء خارج

ص: 39


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
2- الأغاني لأبي الفرَج: 21 / 235.
3- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
4- أُنظُر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 371، تاريخ الطبري: 5 / 381، الفتوح لابن أعثم: 5 / 119، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 70، الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار: 44 / 363، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للديار بكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، وغيرها.
5- أُنظُر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات الكبرى لابن سعد: 61.

مكّة في يوم التروية، وهو يوم حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إلّا أن يقال أنّ اللقاء تمّ على مشارف مكّة لا مشارف الحرم.

وكذا لا يمكن حصول اللقاء يوم السادس مِن ذي الحجّة، والحال أنّالمؤرّخين اتفقوا قولاً واحداً أنّ اللقاء إنّما تمّ خارج مكّة، فكيف يمكن أن يحصل اللقاء قبل الخروج منها؟!

بَيد أنّ مَن ذكر اللقاء أيّام الحجّ بأيّ لفظٍ كان يمكن أن ينسجم مع حصوله خارج مكّة؛ لأنّ التعبير واسعٌ يشمل فترةً زمانيّةً قد تمتدّ أكثر من شهر.

ص: 40

مَن كان مع الفرزدق؟

وردت بعض النصوص بلفظ: (خرجنا حجّاجاً) ((1))، فربّما أفاد أنّ الفرزدق خرج مع جماعة، بيد أنّ ألفاظاً أُخرى تفيد أنّ الفرزدق خرج بأُمّه إلى الحجّ: (حججتُ بأمّي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلتُ الحرم في أيّام الحجّ) ((2))، (حججتُ بأُمّي في سنة ستّين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلتُ الحرم إذ لقيتُ الحسين) ((3))، ويؤيّد هذه المجموعة ما رود بلفظ: (خرجتُ أُريد الحجّ) ((4))، فهي جميعاً تتكلّم بضمير المفرد، وكأنّه خرج هو وأُمّه من دون الالتزام بقافلةٍ خاصّةٍ أو التزام رفقةٍ معيّنة.

ص: 41


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- تاريخ الطبري: 5 / 386، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
4- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

فيما أفادت بعض النصوص أنّ اللقاء حصل بحضور آخَرين: (أقبلْنا حتّى انتهينا إلى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر) ((1))، (إنّ عُبيد الله بن سليم والمذريّ قالا: أقبلنا حتّى أتينا إلى الصفاح، فلقينا الفرزدق الشاعر) ((2)).

ص: 42


1- تاريخ الطبري: 5 / 386.
2- مثير الأحزان لابن نما: 20.

مِن أين قَدِم الفرزدق؟

اشارة

إختلفت المصادر في تحديد مُنطَلق الفرزدق الّذي توجّه منه إلى مكّة..

القول الأوّل: من البصرة

نصّ ابن منظور في (المختصر) أنّ الفرزدق كان قد قدم من البصرة: (خرجتُ من البصرة أُريد العُمرة) ((1)).

القول الثاني: من الكوفة

قابلهما في النقل الإربلّي والمجلسيّ نقلاً عنه، فقال يحكي كلام الفرزدق: (لقيَني الحسين (علیه السلام) في منصرفي من الكوفة) ((2))، وفي هذا تصريحٌ بخروجه من الكوفة.

ص: 43


1- مختصر ابن منظور: 27 / 120.
2- كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.

القول الثالث: أكثر المصادر

أغفلَت أكثر المصادر ذِكر مبدأ حركة الفرزدق، واكتفت بنقل أحداث اللقاء، وأنّه كان في طريق حَجّه.

ويمكن أن تكون هذه المصادر شاهداً يعضد القول الأوّل بلحاظ أنّ موطن الفرزدق ومسكنه البصرة، فمن الطبيعيّ أن يخرج الحاجّ أو المعتمِر من بلده، سيّما إذا كان قد خرج بأُمّه الّتي تسكن البصرة أيضاً.

وربّما كان قد خرج من البصرة ومرّ بالكوفة في طريقه إلى الحجّ!

البلد الّذي سأل عنه سيّد الشهداء (علیه السلام)

هنا أيضاً اختلفوا في البلد الّذي سأل عنه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فذكر البلاذريّ أنّه (علیه السلام) قال: «ما ترى أهل الكوفة صانعين؟» ((1)).

وذكر ابن العديم أنّ الإمام (علیه السلام) سأل الفرزدق عمّا خلّف وراءه في البصرة: (حججت، فلمّا كنتُ بذات عرق لقيَني الحسين بن علي يريد الكوفة، فقصدتُه، فسلّمت عليه، فقال لي: «ما خلّفتَ لنا وراءك بالبصرة؟») ((2)).

ص: 44


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376.
2- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

وفي نصّ الدينوري لفظ السؤال عامٌّ يشمل البلدين: «كيف خلّفتَالناس بالعراق؟» ((1)).

فإن كان قد قدم من البصرة فالسؤال عن البصرة أوجه، وإن كان قد قدم من الكوفة فالمناسب أن يُسأل عنها، وإن كان السؤال بلفظ الدينوريّ فهو يشمل البصرة والكوفة.

ص: 45


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 245.

ص: 46

هيئة الركب

اشارة

يمكن ملاحظة ما ورد في النصوص الّتي وصفَت الركبَ الحسينيّ على لسان الفرزدق من خلال المشاهد التالية:

المشهد الأوّل: ركبٌ عليهم اليلامق ومعهم الدرق

رسم ابن سعد وابن عساكر وغيرهما مشهداً على لسان الفرزدق يصف فيه ركباً عليهم اليلامق ومعهم الدرق، قال: وإذا نحن بركبٍ عليهم اليلامق، ومعهم الدرق ((1)).

وأضاف البلاذريّ والذهبيّ وصفاً لليلامق: (عليهم يلامق الديباج) ((2))، واستبدل هذا النصّ وصف (الركب)، فقال: (في جماعة).

ص: 47


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.

وفي بغية الطلب لابن العديم: إذا بقومٍ عليهم هذه اليلامق، وعليهم درق، وإذا جماعة، وإذا ركبان ((1)).واليَلْمَق: القَباءُ المحشوّ ((2)).

والدَّرَقَةُ: ترس من جلود، ويجمع على دَرَقٍ وأَدْرَاق، والدَّوْرَقُ: مكيالٌ للشرب ((3)).

والدرَقة -- محرّكة -- : الحُجفة، تُتّخَذ من جلود، ليس فيها خشبٌ ولا عقب.

والدِّيباج: وهو من الثياب المتَّخَذة من الإبريسم سداه ولحمته، فارسيٌّ معرَّب ((4)).

* * * * *

يبدو المشهد -- وِفق هذه النصوص -- أنّ ركباً أو جماعةً يلبسون قباء الديباج، ومعهم أتراسٌ من جلودٍ أو أوعيةٌ من جلودٍ يُشرب فيها الماء.

وفي لبس الديباج مجالٌ للتريّث قبل القبول؛ إذ أنّ لبس الديباج للرجال فيه كلام، وقد وردَت بعضُ الأحاديث الشريفة تنهى عن ذلك.

ص: 48


1- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
2- أُنظُر: لسان العرب: مادّة لمق.
3- أُنظُر: كتاب العين: مادّة درق.
4- أُنظُر: مجمع البحرين: مادّة دبج.

أمّا الدروق، فالأنسب للسياق أن يُحمَل على التروس، إذ أنّ حمل أدوات التزوّد بالماء كان معتاداً ذلك اليوم، ولا يعني شيئاً خاصّاً يمكن أن يشدّ الفرزدق ويدعوه لوصفه وتمييزِه بالذكر من بين باقي الأدوات الّتي يحملها المسافر في الصحراء يومئذ.

بيد أنّ هذه الأتراس تبقى من جلود، فلا يبدو أنّ فيها بُعداً حربيّاًواضحاً، وإن كانت الدروق تُلبَس في الحرب أيضاً، سيّما إذا حملنا الترس على معناه اللغوي الأعمّ من الوسيلة الحربيّة، وهو كلّ ما يُتوقّى به، إذ أنّ الركب أو الجماعة كلّها كانت تحمل نفس النوع من التروس.

المشهد الثاني: قطارٌ معه أسيافٌ وأتراس

روى جماعةٌ عن الفرزدق قال:

إذ لقيتُ الحسين بن عليّ خارجاً من مكّة، معه أسيافه وأتراسه ((1))، فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن عليّ ((2)).

فالمشهد -- وفق هذا النصّ -- هو عبارةٌ عن إبلٍ تمشي في قطار، والقِطار:

ص: 49


1- مثير الأحزان لابن نما: 20، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
2- تاريخ الطبري: 5 / 386، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.

أن تُشَدَّ الإِبلُ على نَسَقٍ واحداً خَلفَ واحد ((1)).

وقد أبرز فيه اسم سيّد الشهداء (علیه السلام) الحسين بن عليّ ومعه أسيافه وأتراسه، وغيّب المشهد أيّ صورةٍ للعيال والأطفال، وبدى كأنّه قطارٌ حربيٌّ يسعى إلى الميدان، بيد أنّ هذه الصورة الحربيّة تتبدّد إذا أمعن القارئ فيها نظره، كما سنسمع بعد قليل.

المشهد الثالث: قِبابٌ مضروبةٌ وفساطيط

رسم ابن عبد ربّه المشهد بقوله على لسان الفرزدق: (فإذا بقبابٍ مضروبةٍ وفساطيط، فقلت: لمَن هذه؟ قالوا: للحسين) ((2)).

وفي (أمالي الشجري): (فإذا بها قبابٌ منصوبة) ((3)).

والقِباب: جمع القُبّة من الخِيام، بيتٌ صغيرٌ مستدير، وهو من بيوت العرب، وقيل: هي البناء من الأَدَم خاصّة ((4)).

نجد الركب في هذا المشهد مستقرّاً على الأرض غير متحرّكٍ على صعيد الجادّة، قد ضُربَت قبابه ونُصبَت فساطيطه، ونزل أهلُه تحت ظلال الخيام

ص: 50


1- أُنظُر: لسان العرب: مادّة قطر.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 384، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 275.
3- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186.
4- أُنظُر: لسان العرب: مادّة قبب.

والأبنية.

المشهد الرابع: الإمام (علیه السلام) في أهل بيته ونسائه وصبيته

عرض مسكويه المشهد قبل لقاء الفرزدق، فقال: (وخرج الحسين (علیه السلام) في أهل بيته، ونسائه، وصبيته) ((1)).. ثمّ روى أحداث اللقاء.

ربّما كانت هذه الصورة أصدق وأقرب الصور إلى المشهد، وأدقّتعبيراً عن الركب الّذي كان لا يضمّ إلّا مَن ذكرهم، علاوةً على بعض الرجال الّذين التحقوا في الطريق إلى حين التقاهم الفرزدق، إن كان ثمّة مُلتحِق.

المشهد الخامس: عسكراً في البرّية

اشارة

خرجتُ من البصرة أُريد العُمرة، فرأيت عسكراً في البرّية، فقلت: عسكر مَن هذا؟ قالوا: عسكر الحسين بن علي (علیه السلام) ((2)).

العَسْكر: الجيش، والعَسْكر: الكثيرُ مِن كلّ شي ء، يُقال: عَسْكَرٌ من رجالٍ وخيل ... وقال الأَزهريّ: عَسْكَرُ الرجلِ: جماعةُ مالِه ونَعَمِه ((3)).

ص: 51


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56.
2- مختصر ابن منظور: 27 / 120.
3- أُنظُر: لسان العرب: مادّة عسكر.

إذا كان العسكر المذكور في هذا المشهد يُقصَد به المعنى اللغويّ العامّ، فلا كلام، وإن كان المقصود به ما يتبادر من لفظ (العسكر)، وهو الجيش، كما يشهد له السياق والتبادر، فإنّ فيه تصويراً مزوّراً مفضوحاً، وعرضاً خائباً غير مستساغ لمن قرأ التاريخ وسمع أحداثه وتابع الركب الحسينيّ منذ خروجه من المدينة إلى حين لقاء الفرزدق به.

* * * * *

ويمكن أن نلمّح هنا تلميحين:

التلميح الأوّل: التمويه في تصوير الركب الحسينيّ

إنّ مشهد خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المفاصل الضروريّة في دراسة قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويمكن من خلال معرفتها بشكلٍ دقيقٍ تمييز الكثير من التصوّرات والانعكاسات المهمّة والمؤثّرة في فهم القيام، بَيد أنّ دراسة ذلك لا يسعها هذا البحث، وقد تناولنا مراحله الأُولى في المدينة ومكّة في دراساتٍ مستقلّة، ويمكن أن نقول هنا بكلمةٍ واحدةٍ نقلاً عن كتاب وقائع الشهادة ((1)):

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يخرج من المدينة بسيافه ولا تراسه، وإنّما خرج

ص: 52


1- أُنظُر: مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وقائع السفارة، للمؤلّف، الجزء السادس.

من المدينة خائفاً يترقّب في أهل بيته، وقد أمر القرد الأُمويّ التائه في قصر دمشق واليه على المدينة بأخذ البيعة من سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، أو إرسال رأسه المقدّس مع جواب الكتاب، فبات الإمام (علیه السلام) في مدينة جدّه مهدَّداً، مُباح الدم، مطلوباً للقتل، ومعرَّضاً في كلّ آنٍ لأن تُهتَك به حُرمة المدينة المنوّرة، فخرج -- فداه العالمين -- متوجّهاً إلى مكّة، ولم يُبدِ على حركته (علیه السلام) من المدينة أنّه عازمٌ على القيام أو ما يسمّونه الخروج بالمعنى المصطلح، ولم يصرّح أيّ تصريحٍ يفيد ذلك.. وغاية ما فعله ثَمّة أنّه تقبّض عن البيعة، ثمّ شكى لجدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّ القوم استضعفوه وخذلوهوضيّعوه، كما في (الفتوح) لابن أعثم.

وكذلك الأمر في خروجه من مكّة، حيث أُبيح دمه، ودُبّر اغتياله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فخرج منها متوجّهاً إلى الكوفة، حيث كانت ثمّة بعض الأصوات الواعدة بالنصر والدفاع عنه وفق ما ورد عليه من كتبهم ورسلهم، وهو عالمٌ جازمٌ متيقّن تماماً وعدَ الله وأنّه مقتول، فأصحر لمَن معه وللعالمين بما قاله في البيان العظيم يوم قام فخطب وقال: «خُطّ الموت على وُلد آدم..»، إلى قوله (علیه السلام) : «فمَن لحِقَ بي استُشهد، ومَن لم يلحق لم يبلغ الفتح».

ولم ينقل لنا التاريخ أنّ ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) كان ركب حربٍ وقتالٍ وهجومٍ مدجَّج بالسلاح ومثقلٍ بالحديد والرماح، بل كان صورته في المنطلقَين (المدينة ومكّة) على العكس من ذلك تماماً، فهو مجموعةٌ من

ص: 53

النساء والأطفال، وعددٌ من الشبّان والفتيان من ذوي الأعمار الّتي لا تبلغ مرحلة الشباب أحياناً، من أمثال القاسم بن الحسن (علیهما السلام) وأترابه من أولاد عقيل وأحفاده (علیهم السلام) ، وأكثرهم كان ممّن لم يباشر قبل يوم الحسين (علیه السلام) قتالاً ولا مارس حرباً، رغم أنّهم أبهروا العقول وأذهلوا التاريخ وأبدَوا مهاراتٍ قتاليّة عالية لم يعهد صناديد عسكر السقيفة ولا غيرهم لها مثيلاً، لكن بالرغم من ذلك فإنّ قبل يوم الطف لم يكن هؤلاء الأبطال معروفين كرجال حربٍ بين الناس، فهم بين شابٍّ فتيّ، وبين فتىً لم يبلغالحلُم أو إنّه راهق، فالركب في ظاهر الحال لم يكن ركباً عسكريّاً إلّا في بعض رجاله، من قبيل نفس الإمام الحسين (علیه السلام) وأخيه أبي الفضل العباس (علیه السلام) .

وحملُ مقدارٍ من السلاح يحمي به المسافر نفسه ومَن معه كان من ضروريّات السفر يومذاك، فلا يُعدّ المسافر الحامل للسيف أو الرمح أو كنانة النبل والقوس والدرقة محارباً، وإنّما هي طبيعة الحركة في صحراء قاحلة معرضة للسلب والنهب والتبييت.

ومن الواضح أنّ العدد الكبير من النسوة والأطفال الّذي ربّما كان يربو كثيراً على عدد الرجال الكبار، وقد خرج هؤلاء النسوة في كفالة مَن معهنّ من الرجال، فلابدّ أن يحملوا السلاح لحماية الركب رجالاً ونساءً وشبّاناً وأطفالاً.

هذا، والركب ليس ركباً عاديّاً يقطع الصحراء ليصل إلى مدينةٍ ما، بل

ص: 54

هو ركبٌ مهدَّد قد خرج من المدينة، والوالي مأمورٌ بقتل سيّدهم وإمامهم، وخرج من مكّة بعد أن بيّتوا قتله واغتياله، وأزلام القرد الأُمويّ ينتهزون منه الغرّة، ولا زالت كلاب السقيفة تعوي وتنتشر في كلّ منزلٍ وماءٍ وقرية ومدينة، بل إنّ ذئاب الغابة الأُمويّة كانت تجوب الصحراء.

فمن الطبيعي إذن أن يحمل الركب معه مقداراً من السلاح ليحمي نفسه ومن معه، وهذا المقدار من السلاح لا يعبَّر عنه ب-- (خرج بأسيافه وأتراسه)،لِما في هذا التعبير من إيقاعٍ حربيّ وجرس تحذيري، وهو مُشعِر بالإعداد والتسربل بالسلاح، وكأنّهم جيشٌ يُقلِق الصحراء باصطكاك عدّته وصهيل خيّالته ورجّالته.

وهل يُعدّ هذا العدد المحدود جدّاً بمجموعه -- رجالاً ونساءً وأطفالاً -- جيشاً قد خرج بالسيافة والتراسة؟!!

هذا باختصار ربّما يكون مخلّاً، غير إنّه كافٍ هنا لما نحن فيه، إذ يكشف لنا أنّ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة لم تكن في صورة جيش وعسكر قادم على حرب وقتال، ولم يبدُ عليها أنّها كانت حركةً هجوميّة، وربّما كان هذا التصوير كلّه من أضاليل الأُمويّين ((1)).

ص: 55


1- قد أتينا على بيان ذلك في كتابٍ يبحث مفصَّلاً ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة.

التلميح الثاني: تشويش الصورة

لا يكاد القارئ يلحظ المَشاهد إلّا ويرى فيها صوراً مشوَّشةً غير واضحةٍ ولا مستقرّة، يصعب جمعها وترتيبها وترصيفها، ففي مشهدٍ يعرض الركبَ في صورةٍ مهيبةٍ تبرز في ثياب الديباج وهم جماعةٌ وركب، وفي مشهدٍ تتحرّك الصورة عبر قطارٍ معه أسياف وأتراس، وفي مشهدٍ مجموعة من النساء والأطفال والصبية، وفي مشهد عسكراً في البرّية..

وهذا الارتباك والتضارب والتهافت ليس منحصراً على رسم مشهدهيئة الركب، فإنّه موجودٌ في جميع أجزاء الخبر الّتي استعرضناها، فلا تكاد تحصل على توافقٍ على المكان، ولا الزمان، و لا منطلق الفرزدق، وهكذا.

ص: 56

هل كانت بين الفرزدق والإمام (علیه السلام) معرفة؟

اشارة

ربّما إذا فتّشنا بطون الكتب وسبَرنا صفحات التاريخ، فربّما استطعنا أن نُثبت أو ننفي وجود علاقةٍ وطيدةٍ أو معرفةٍ مسبَقةٍ بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وبين الفرزدق قبل يوم اللقاء ((1))، بيد أنّنا لا نريد الخوض في ذلك، لأنّه لا يهمّنا كثيراً، والّذي يهمّنا هو ما أفادَته أخبار اللقاء في المقام، وهي -- كما سنسمعها -- غيرُ متوافقةٍ تماماً كبقيّة مفاصل الحكاية وأحداثها، ويمكن تقسيم أنماط العلاقة الواردة في هذه الأخبار إلى ما يلي، ونحن إنّما نبحث في كون الإمام (علیه السلام) يعرفه أو لا يعرفه حسب الموازين الظاهريّة والنصوص التاريخيّة، وإلّا فنحن نعتقد أنّ الإمام المعصوم (علیه السلام) يعرف الخلق جميعاً..

ص: 57


1- لم نقف -- بمقدار فحصنا -- على علاقةٍ خاصّةٍ مميّزةٍ مسبقةٍ بين الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) والفرزدق!

النمط الأوّل: مصادر أغفلت التصريح

عمدت جملةٌ من المصادر -- ولعلّها الأكثر -- إلى إغفال التصريح بوجود معرفةٍ مسبقةٍ أو عدم وجودها، واكتفت بذكر اللقاء، وأنّ الفرزدق لقيَ الإمام (علیه السلام) فتحاورا وكأنّهما متعارفان، ولم يفتّش أحدهما عن الآخر.

من قبيل ما رواه ابن سعد:

لقيني الحسين وهو خارجٌ من مكّة في جماعةٍ عليهم يلامق الديباج، فقال: «ما وراؤك؟».

وعن الهذلي: إنّ الفرزدق قال: لقيتُ حسيناً فقلت: بأبي أنت، لو أقمتَ حتّى يصدر الناس لَرجوتُ أن يتقصف أهل الموسم معك. فقال: «لم آمنهم يا أبا فراس» ((1)).

النمط الثاني: تشير إلى وجود معرفة

روت بعض المصادر حدث اللقاء بصورةٍ تفيد أنّ الحوار إنّما حصل بين اثنين متعارفَين، وكأنّ الفرزدق قد تفاجأ حين وقع بصره على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال: أي أبو عبد الله! ثمّ بادره الإمام (علیه السلام) يخاطبه باسمه: «ويحك يا فرزدق».. فهذا النمط وإن لم يصرّح بوجود معرفةٍ مسبقةٍ بينهما،

ص: 58


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.

بيد أنّه يفيد ذلك بوضوح، كما تفيد عبارة ابن سعد والخوارزميّ وغيرهما:

خرجنا حجّاجاً، فلمّا كنّا بالصفاح إذا نحن بركبٍ عليهم اليلامق ومعهم الدرق، فلمّا دنوتُ منهم إذا أنا بالحسين بن علي (علیه السلام) ، فقلت: أي أبو عبد الله! وسلّمتُ عليه، فقال: «ويحك يا فرزدق، ما وراك؟» ((1)).

وربّما كان في النصّ الّذي ذكره ابن سعد وابن منظور شبه تصريحٍ بمعرفة الإمام (علیه السلام) به، حيث وصله اتّقاءً لشرّه وقطعاً للسانه، وأكّد أنّه (الفرزدق)، وهو لا يؤمَن، فهو يعرفه ويعرف لسانه وشعره وتقلّبه.

قال ابن سعد:

لقيَ الفرزدقُ حسيناً بالصفاح، فسلّم عليه، فوصله بأربعمئة دينار، فقالوا: يا أبا عبد الله، تعطي شاعراً مبتهراً؟! قال: «إنّ خير ما أمضيت ما وقيت به عرضك». والفرزدق شاعرٌ لا يؤمن ((2)).

ص: 59


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.

النمط الثالث: سؤال الفرزدق عن الركب

أفاد مثل الطبريّ وابن عبد ربّه وغيرهما أنّ الفرزدق سأل عن القطارالّذي رآه، فأُخبِر أنّه للحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فأتاه وخاطبه بقوله: (يا ابن رسول الله)، فهو إنّما عرفه بعد أن سأل عنه وأُخبِر به، فعرف أنّه الإمام الحسين (علیه السلام) ، وهو ما لا يسع المسلم أن يجهله، فهو تعرّفَ على الإمام (علیه السلام) بعد أن عرّفوه.

قال ابن سعد:

إذ لقيتُ الحسين بن عليّ خارجاً من مكّة، معه أسيافه وتراسه، فقلت: لمَن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن عليّ. فأتيتُه فقلت: بأبي وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحج؟! ((1))

وقال ابن عبد ربّه:

وقال الفرزدق: خرجتُ أُريد مكّة، فإذا بقبابٍ مضروبةٍ وفساطيط، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: للحسين. فعدلتُ إليه، فسلّمت عليه ((2)).

ولكن يمكن أن يُقال أنّ هذا لا يدلّ على أنّ الفرزدق لم يكن يعرف

ص: 60


1- تاريخ الطبري: 5 / 386.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 384، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 275.

الإمام (علیه السلام) من قبل، والّذي سأل عنه الفرزدق إنّما هو (القطار)، أو القباب المضروبة، فهو يجهل الركب الّذي أثار فضوله حتّى سأل عنه، وإن كان يعرف الإمام (علیه السلام) فلا دلالة واضحة في الخبر على أنّ الفرزدق كان يعرف الإمام (علیه السلام) قبل اللقاء، أو أنّه لم يكن يعرفه.

النمط الرابع: الإمام (علیه السلام) لا يعرفه

اشارة

أفادت بعض المتون أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن يعرف الفرزدق، فسأله، وهي تنقسم إلى نموذجين:

النموذج الأوّل: لا يعرّف الفرزدق نفسه

روى الطبريّ والشيخ المفيد، عن الفرزدق الشاعر أنّه قال:

حججتُ بأُمّي في سنة ستّين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن عليّ (علیهما السلام) خارجاً من مكّة مع أسيافه وأتراسه، فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين ابن علي (علیهما السلام) . فأتيتُه، فسلّمت عليه، وقلت له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ، بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟! فقال: «لو لم أعجل لأُخذت»، ثمّ قال لي: «مَن أنت؟»، قلت: امرؤٌ من العرب. فلا والله ما فتّشني عن

ص: 61

أكثر من ذلك ((1))، واكتفى بها منّي ((2)).

وهذا المتن يفيد -- تماماً كالمتن الّذي يليه -- أنّ الفرزدق عرف الإمام (علیه السلام) من خلال السؤال عن القطار أو العسكر، وهو لا يفيد أكثر من أنّهعرف صاحب القطار هو الحسين بن علي (علیهما السلام) ، وهذا يكفي، سواءً كانت بينهما علاقةٌ من قبل أو لم تكن، إذ أنّ اسم الإمام (علیه السلام) معروفٌ لدى المسلمين، فكيف بمن كان شاعراً معروفاً يطوف في البلدان، ويتسكّع على المضايف والبلاطات والوجهاء والملوك؟

أمّا الإمام (علیه السلام) ، فإنّه قد سأله وفتّشه، فقال له: «مَن أنت؟»، قال: امرؤٌ من العرب. فلا والله ما فتّشه عن أكثر من ذلك ((3))، واكتفى بها منه ((4)).

وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) لم يعرفه حتّى بعد السؤال عنه، لأنّه لم يُفصِح عن شخصه، ولم ينتسب له، ولم يذكر له حتّى اسمه، فلا يكون حينئذٍ خصوصيّةٌ لشخص الفرزدق في السؤال عمّا وراءه، إذ اكتفى الإمام (علیه السلام)

ص: 62


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
2- تاريخ الطبري: 5 / 386.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
4- تاريخ الطبري: 5 / 386.

بالسؤال من امرئٍ من العرب حاله حال أيّ قادمٍ من العراق، يحتمل فيه أن يكون قد اطّلع على الأوضاع ورصدها أو صادفها وتمكّن من وصفها وتقديرها والحكاية عنها.

النموذج الثاني: انتسب له الفرزدق

روى ابن منظور:

قال الفرزدق: خرجتُ من البصرة أُريد العُمرة، فرأيتُ عسكراً في البرّيّة، فقلت: عسكر مَن هذا؟ قالوا: عسكر الحسين بنعلي (علیه السلام) . فقلت: لَأقضينّ بحقّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيه! فأتيتُه، فسلّمت، فقال: «مَن الرجل؟»، فقلت: الفرزدق بن غالب. قال: «هذا نسبٌ قصير»، فقلت: أنت أقصر منّي نسباً، أنت ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقال لي: «أبو مَن؟»، قلت: أبو فراس. فقال لي: «يا أبا فراس، كيف خلّفتَ الناس؟ ومن أين؟ وإلى أين؟» ((1)).

ربّما أفاد هذا الخبر أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد سمع بالفرزدق، وهو يعرف أنّ كنيته (أبا فراس)، غير أنّه لم يعرفه شخصيّاً ولم يلتقه بحيث يطبّق الاسم على الرسم، فلمّا سأله وانتسب له عرفه وناداه بكنيته.

ص: 63


1- مختصر ابن منظور: 27 / 120.

النمط الخامس: تصرّح بوجود المعرفة

قال ابن منظور:

وفي روايةٍ أُخرى: فنزلت [الفرزدق] عن راحلتي، وكان بيني وبينه معرفة، فأخذتُ بزمام راحلته ((1)).

يصرّح هذا الخبر أنّ الفرزدق يؤكّد على وجود معرفةٍ مسبقةٍ بينه وبين الإمام (علیه السلام) ، فإمّا أن يكون مقصوده من وجود المعرفة بالاسم، أي: أنّ كلاهما كان قد سمع باسم الآخر، وإمّا أن يكون مقصوده أنّ بينهما علاقةمسبقة ولقاء وتعارف، كما هو مفاد ظاهر العبارة.

إشارات

اشارة

يمكن أن نؤشّر هنا عدّة إشاراتٍ فيما يخصّ أخبار الباب:

الإشارة الأُولى: شخصان معروفان

لا يوجد في أخبار الأنماط المذكورة نمطاً يجزم بعدم وجود أيّ معرفةٍ بين الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) والفرزدق، والمفروض أن تكون بينهما أيّ مستوىً من مستويات المعرفة، وذلك لكونهما معروفين مشهورين لهما صيت، وقد ذاع اسمهما في الآفاق، فأحدهما ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته، وخامس

ص: 64


1- مختصر ابن منظور: 21 / 230.

أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وابن أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (علیهما السلام) ، وبكلمةٍ: هو الإمام الحسين (علیه السلام) ، والآخَر الفرزدق الشاعر المغامر المعروف في البلاطات والدواوين، المتنقّل بين الديار والبلدان.

الإشارة الثانية: متعارفان من دون لقاءٍ مسبق

ربّما أفادت الأنماط -- عدا النمط الأخير -- أنّ كلّاً منهما قد سمع باسم الآخَر ولم يلتقه، وربّما لا يبعد هذا عن التصوّر والإمكان، فالفرزدق كان شخصاً متهتّكاً متبذّلاً متملّقاً، يتسكّع على أبواب الملوك وأصحابالسلطان، ويحوم على جِيَف الدنيا، ويلهث وراء الملذّات والمال والدنيا والشهوات، وإن كانت في بلاط الأُمويّين والزبيريّين، فمن الطبيعيّ أن لا تكون له علاقاتٌ قريبةٌ من معدن الطهر والعفاف، وإن كان الإمام (علیه السلام) إماماً للخلق أجمعين، بَيد أنّ دوافع التباعد تكمن في سيرة الفرزدق ونوازعه.

فلا يبعد احتمال أنّ كلّاً منهما يعرف الآخَر بالاسم، ولم يلتقيا فيتعارفا بالأشخاص، وربّما أفاد ذلك مثل قوله (علیه السلام) : «هذا نسبٌ قصير»، ووصله بشيءٍ من المال قطعاً للسانه.

الإشارة الثالثة: اختلاف الأخبار

نرى في هذا المقطع من الحكاية نفس البلاء الّذي اعترى باقي المقاطع الّتي تناولناها لحدّ الآن، فالأخبار فيها مختلفةٌ إلى حدّ التعارض، من موضعٍ

ص: 65

يسأل فيه الإمامُ الفرزدقَ: «مَن الرجل؟»، فينتسب له، فيُفصح عن اسمه أو لا يفصح، إلى موضعٍ يزعم فيه الفرزدق أنّه كان بينه وبين الإمام (علیه السلام) معرفة!

فلا يبدو ثمّة خيطٌ يمكن أن يجمع الأخبار، إلّا أن يقال: إنّ زعم الفرزدق كان يفيد ما ذكرناه في الإشارة الثانية، استناداً إلى ما تضمّنته الإشارة الأُولى، فيكون جمع الأخبار بالقول: أنّ ثمّة معرفةً كانت بينهما بمستوى سماع كلّ منهما اسم الآخر، ومعرفة كلّ منهما الآخر بالصفاتالمشهورة المعروفة بين الناس.

ص: 66

سؤال الإمام (علیه السلام) من الفرزدق

اشارة

ورد سؤال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من الفرزدق بألفاظ شتّى في المصادر، قد يكون الجامع بينها سؤاله (علیه السلام) عن خبر الناس وموقفهم تجاه ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في العراق، بَيد أنّ في بعض الألفاظ صياغاتٍ وتراكيب تشير إلى معانٍ ربّما كانت أحياناً تدعو للتأمّل والتمعّن أكثر من السؤال المعهود الّذي يكاد يكون مشتركاً في المصادر جميعها تقريباً.

لذا اقتضى فرزها تحت عدّة عناوين، ليتسنّى التدقيق فيها إن شاء الله، ويمكن تقسيمها باعتبار البادئ بالسؤال أو الكلام إلى قسمين:

القسم الأوّل: الإمام (علیه السلام) يبادر

اشارة

ربّما كان العدد الأكبر من المصادر تروي أنّ الإمام (علیه السلام) هو الّذي بادر بالسؤال..

ص: 67

السؤال الأوّل: عمّا وراءه

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يا فرزدق! ما (الخبر) ((1)) وراؤك؟» ((2)).

ربّما كان هذا السؤال هو السؤال العامّ الجامع الشامل لما ورد في المصادر الأُخرى أو الألفاظ المختلفة، فهو يسأل عن الخبر وراء الفرزدق، وحسب الفرض فإنّ الفرزدق قادمٌ من العراق، سواءً من الكوفة أو من البصرة.

السؤال الثاني: عمّا يصنعه أهل الكوفة

فقال لي: «ما ترى أهل الكوفة صانعين (معي)؟ ((3)) فإنّ معي حملاً (حمل بعير) ((4)) من كتبهم» ((5)).

ص: 68


1- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، و21 / 230، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، الأغاني لأبي الفرَج: 21 / 235، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.
3- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
4- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304.
5- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376.

السؤال بهذه الصيغة يمكن أن يُحمَل على المعنى العامّ الّذي ذُكر في السؤال الأوّل، فيكون معناه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما سأله عن خبر الناس وموقفهم بهذا الأسلوب، ويمكن أن يكون فيه إشارةٌ تكشف عن عدم ثقة سيّد الشهداء (علیه السلام) بالناس، لأنّه يسأل عن موقفهم، لأنّه لا يثق بهم.

ويمكن أن يُفهَم بما يساعد عليه السياق من حيث ما فيه من دلالةٍ تستثير المتمعّن في النصّ، إذ أنّ النصّ يحاول إيحاء حالةٍ خاصّةٍ يعيشهاالسائل، حين يعرض الكتب الّتي أُرسلَت له، ويقول: إنّ هؤلاء قد أعطوني موثقهم، فما تراهم صانعين؟ فكأنّه لا يعرف الموقف ولا يدري ما يفعل ولا ما سيفعلون، وهو متوجّسٌ خائفٌ من المستقبل المجهول، وعاجزٌ عن قراءة الواقع وتشخيص المواقف، كأنّ في لحن السؤال ارتعاشة المترقّب الوَجِل، وتردّد الحيران، واستسلام المتورّط المحصور الّذي لا يعرف حيلةً تنجيه من عاقبةٍ لا يعرفها أبداً، فكأنّه لا يدري إن كانوا ينصرونه أو يخذلونه، ولا يحتمل أحدهما أبداً، ولا يدري ما يفعل إن حدث أحدُ الأمرين..

ما ترى أهل الكوفة صانعين معي؟

ص: 69

السؤال الثالث: عمّا خلّف بالعراق

• فقال له الحسين: «كيف خلّفتَ الناس بالعراق؟» ((1)).

• وقال (علیه السلام) للفرزدق لمّا سأله عن أهل العراق في جواب قوله ... ((2)).

• فسلّمتُ عليه، فقال: «مِن أين أقبلت؟»، قلت: من العراق. قال: «كيف تركتَ الناس؟» ((3)).

هذا السؤال لا يختلف كثيراً عن السؤال الأوّل، والفرق بينهما هوتحديد الموضع الّذي سأل الإمام (علیه السلام) عن الناس فيه (العراق).

السؤال الرابع: عن الناس

سأل سيّد الشهداء (علیه السلام) عن خبر الناس، فقال للفرزدق: «بيِّنْ لنا نبأ الناس خلفك» ((4))، أو «بيّن لي خبر الناس ((5)) خلفك» ((6)).

ص: 70


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 245.
2- نزهة الناظر للحلواني: 41، 43.
3- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 384، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 275.
4- تاريخ الطبري: 5 / 386، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56.
5- الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.
6- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 410.

وسأله تارةً أُخرى (عن الناس) ((1))، وكيف خلّفهم ((2))، وكيف ترك الناس وراءه ((3))، وسأله عن أمر الناس ((4)) وراءَه ((5)).

هذا مجموع الألفاظ الّتي وردَت للحديث عن السؤال عن الناس، فمرّةً يسأل عنهم مباشرة، ومرّة يسأل عن خبرهم، وأُخرى يسأل عن أمرهم، وكيف خلّفهم وتركهم وراءَه.

ويبدو منها جميعاً أنّ الناس المسؤول عنهم هم أهل العراق، أو أهل الكوفة خاصّةً، بقرينة قدوم الفرزدق من هناك وقصد سيّد الشهداء (علیه السلام) في المسير إليهم، وفهم المسؤول وردّه على السؤال بتقرير حال أهل العراق أو الكوفة خاصّة.

السؤال الخامس: عن الخبر

فلمّا بلغ ذات عرق، رأى الفرزدق الشاعر، فسأل الخبر ((6)).يبدو أنّ في التعبير اختصاراً وحكايةً واضحة، فيعود السؤال إلى

ص: 71


1- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 2 / 268.
2- مختصر ابن منظور: 27 / 120.
3- الإنباء للعمراني: 14.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الجوهرة للبري: 42.
5- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376.
6- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 95.

السؤال الأوّل، ويكون ثمّة تقديرٌ يتمّم المعنى، أي: فسأله عن خبر الناس الّذين خلّفهم وتركهم في العراق، أو في الكوفة.

السؤال السادس: عمّا خلّف لهم بالبصرة

فسلّمتُ عليه، فقال لي: «ما خلّفتَ لنا وراءك بالبصرة؟» ((1)).

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ هذا السؤال قد يكون الأنسب بالمقام، باعتبار أنّ الفرزدق من أبناء البصرة وسكّانها ومستوطنيها، وقد صرّح أنّه كان قد قَدِم منها إلى مكّة المكرّمة في نصّ ابن منظور ((2))، فإذا كان هو قادمٌ منها وهو من أهلها فالأنسب أن يُسأل عنها.

السؤال السابع: عن خبر الناس في الكوفة

تختلف هذه الطائفة من المصادر عن الّتي سبقتها أنّها أفادت أنّ السؤال إنّما كان عن خبر الناس في الكوفة على وجه الخصوص.

قال (علیه السلام) : «مِن أين أقبلت يا أبا فراس؟»، فقال: من الكوفة. فقال له: «بيّن خبر الناس» ((3)).

وربّما يُقال أنّ هذا الخبر لا ينصّ كما نصّ السؤال السابق: (ما خلّفت

ص: 72


1- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
2- أُنظُر: مختصر ابن منظور: 27 / 120.
3- الفصول المهمّة لابن الصباغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.

لنا وراءك بالبصرة)، بيد أنّ الإمام (علیه السلام) سأله أوّلاً: «من أين أقبلت؟»، فأجاب أنّه أقبل من الكوفة، فسأله عن خبر الناس، فمن الواضح أنّ السؤال سيكون عن خصوص البلد الّذي أقبل منه.

القسم الثاني: الفرزدق يبادر

اشارة

تنقسم أخبار هذا القسم إلى قسمين، حيث نجد أحدهما يتضمّن سؤال سيّد الشهداء (علیه السلام) عن الناس، ولا يتضمّن القسم الآخر سوى كلام الفرزدق، وسنكتفي هنا بذكر النموذج على أمل أن نتناول كلّ واحدٍ من النصوص في محلّه إن شاء الله (تعالى)..

الأوّل: كلام الفرزدق

• الفرزدق قال: لقيت الحسين، فقلت: القلوب معك والسيوف مع بني أُميّة ((1)).

• ومن ذلك ما حُكي أنّ الفرزدق لقيه (علیه السلام) وهو متوجّهٌ إلى الكوفة، فقال له: يا ابن رسول الله، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل ((2)) وشيعته؟! ((3))

ص: 73


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
2- الفصول المهمّة لابن الصباغ: 179، نور الأبصار للشبلنجي: 279.
3- مطالب السَّؤُول لابن طلحة: 73، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 27.

الثاني: سؤال سيّد الشهداء (علیه السلام)

قال الفرزدق: فأتيتُه، فسلّمتُ عليه، وقلت له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ، بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟! فقال: «لو لم أعجل لأُخذت»، ثمّ قال لي: «مَن أنت؟»، قلت: امرؤٌ من العرب. فلا والله ما فتّشني عن أكثر من ذلك، ثمّ قال لي: «أخبِرني عن الناس خلفك» ((1)).

الخلاصة:

خلاصة ما سمعناه في المتون المذكورة قبل قليلٍ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) سأل الفرزدق باعتباره رجلٌ قد قدم من الجهة الّتي يتوجّه نحوها الإمام (علیه السلام) ، سواءً كان قد عرف الفرزدق أو لم يعرفه، فإنّ المحصّل منها أنّ الإمام (علیه السلام) كان يريد الجواب، بغضّ النظر عن الشخص المسؤول منه سواءً كان الفرزدق أو غيره، بالخصوص إذا اعتمدنا جملة النصوص الّتي أكّد فيها الفرزدق أنّه اكتفى بتعريف نفسه للإمام (علیه السلام) كرجلٍ من أهل

ص: 74


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، مثير الأحزان لابن نما: 20، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

العراق، واكتفى الإمام (علیه السلام) بهذا المقدار ولم يفتّشه أكثر من ذلك.

والإمام (علیه السلام) إنّما سأله عن خبر الناس الّذين قدم الفرزدق من جهتهم،ولو جمعنا الأخبار ورصفناها إلى جنب بعضها ربّما أفادت بوضوح أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما سأل عن موقف الناس وخبرهم في ثباتهم على نصرته أو التخلّي عنه وخذلانه.

ص: 75

ص: 76

تلميحات

اشارة

يمكن تسجيل بعض التلميحات على مجموع ما ورد في النصوص الآنفة الذكر، كتلخيصٍ لمحتوياتها، والملاحظات الّتي تنقدح في الذهن عند المرور بها:

التلميح الأوّل: الطعن في تقييم المولى الغريب مسلم (علیه السلام)

كان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بناءً على الكتاب الّذي وصله من المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، يقول فيه: أقدِمْ، وبناءً على ما واجهه الإمام (علیه السلام) من عزم القوم على قتله غيلة، أو القبض عليه أسيراً، وكانت المدّة بين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) وبين وصول الكتاب ولقاء الفرزدق ليست بالفترات المتباعدة، إذ أنّ الفرزدق قد خرج من الكوفة أو من البصرة حسب الفرض، والتقى الإمام (علیه السلام) قرب الحرم بُعيد خروجه من مكّة، فيلزم أن يكون الفرزدق قد فارق الكوفة منذ زمنٍ بعيد، قد لا يبعد كثيراً عن الفترة الّتي كتب فيها المولى الغريب (علیه السلام) كتابه.إذا وقعت هذه المقدّمات موقع القبول، فإنّ في الخبر سُمّاً ناقعاً معسولاً

ص: 77

مغلَّفاً بنسج تصوير الشعراء، وذلك لأنّ معنى سؤال الإمام (علیه السلام) وكلام الفرزدق أنّ الإمام (علیه السلام) بعد لم يطمئنّ إلى ما قرّره له ثقته ومعتمده وأخوه مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، إذ أنّه سأل عن نفس الفترة الّتي حكى له عنها مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وهو من جهةٍ أُخرى قد صدّق كلام الفرزدق كما صرّحَت به بعض المتون، وهذا يتضمّن الطعن في تقييم المولى الغريب (علیه السلام) الّذي أخبره أنّ عدداً لا يُستهان به معه، فلْيقدِم.

إلّا أن يقال: أنّ الإمام (علیه السلام) كان على علمٍ بتقلّب أهل الكوفة وعدم ثباتهم، وبالتالي فإن كان ثمّة أيامٌ قلائل تفصل بين كتابة الكتاب وخروج الفرزدق، فإنّ هذا يكفي في تغيير موقفهم وتحويلهم من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وبالتالي فيسوغ السؤال؛ لِعلمه المسبَق بحالهم، فهو يسأل عنهم كلّ قادمٍ ولو تتالوا في الخروج في أيّامٍ متتاليةٍ متعاقبة.

ولكن هذا لا ينسجم مع ما افترضته النصوص من اعتماد الإمام (علیه السلام) عليهم، ولا ينسجم مع تقرير المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، كلّ هذا حسب ما يصوّرونه في نصوصهم.

التلميح الثاني: الطعن في موقف سيّد الشهداء (علیه السلام)

ربّما أشعر سؤال الإمام (علیه السلام) -- كما صاغه المؤرّخ -- بشيءٍ من التزلزل

ص: 78

وعدم الوثوق والارتباك والتشويش في موقفه (علیه السلام) ((1)) -- والعياذ بالله! --، ويُشعِر بتخوّف الإمام (علیه السلام) ممّا يُقدِم عليه، وانغلاق صورة المشهد عليه، وكأنّه لا يدري شيئاً ممّا يستقبله، وكأنّ الفرزدق وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم كانوا أعرف وأعلم وأبصر منه في تقرير الموقف وقراءته واستشراف المستقبل منه.. (ما ترى صانعين معي؟)..

يُوحي السؤال وأُسلوب طرحه أنّ السائل يُقدِم على مجهول، وهو لا يعلم موضع قدمه في كلّ مراحل حركته، وكأنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن عنده عزمٌ مبيَّت، وهو على يقينٍ من أمره، وعلمٍ من مخرجه ومولجه، ومعرفةٍ تامّة بالرجال الّذين كاتبوه، وخبرةٍ وبصيرةٍ نافذةٍ بالأيام الّتي يستقبلها، بغضّ النظر عن علم الإمامة ومقام الإمام، وإنّما باعتباره أعلم أهل زمانه، وأعلم من الزعانف أو الشخصيّات الّذين اعترضوه في مسيره!

كأنّ النصّ يريد أن يوحي للمتلقّي ما يريده قرود التاريخ (الأُمويّون) أنّ الإمام (علیه السلام) أقدم على شيءٍ من غير تروٍّ ولا علمٍ ولا دراية ولا معرفة كافية

ص: 79


1- نعتذر إلى الله (عزوجل) وإلى الإمام (علیه السلام) من هذا الكلام الجريء البائس، والتعدّي الوقح على ساحة قُدس الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ ضرورة البحث تضطرّنا إلى مثل هذه التعابير، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ويعلم سيّدي ومولاي ومليكي أنّ ما يدفعنا للكتابة إنّما هو الدفاع عنه، طلباً لنصرته وردّ المظالم الّتي ارتكبها أعداؤه في كتابة التاريخ، والله مِن وراء القصد!

بالأوضاع، فهو يريد أن يستخبر كلّ مستطرق، ويريد تحديد الموقففي كلّ منزل، ويتقلّب في مسيره وفق متقلّبات الظروف المجهولة لديه الّتي يحاول استكشافها من أفواه الرجال وتقديرات الشعراء!

التلميح الثالث: توفّر وسائل الاستكشاف والاستخبار

كانت لسيّد الشهداء (علیه السلام) قنواته واتّصالاته الّتي تكشف له عن الموقف في الكوفة حسب الوسائل الظاهريّة المتاحة يومذاك، وكانت كتب سفيره ومبعوثه ومعتمده المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) مستمرّة منه وإليه، والرسل تتنقّل بينه وبينه، وقد كتب المولى الغريب (علیه السلام) له، وكتب سيّد الشهداء (علیه السلام) لسفيره، وحمل الكتب بينهما ثقات الأصحاب، وكان بعض الأنصار يلتحق به في الطريق، إنْ من الكوفة أو من البصرة، وهم ممّن يُعتمَد عليهم وعلى متابعتهم للأوضاع، باعتبارها تخصّهم وتمسّهم من قريب، فما هي الضرورة للسؤال من مستطرقٍ أو أشخاصٍ لا يعنيهم الأمر كثيراً؟!

التلميح الرابع: لم يستخبر الإمامُ كلَّ مَن التقاه

الجادّة بين مكّة والعراق مزدحمةٌ بالمارّة والحجّاج والمعتمرين والمسافرين والتجّار والقوافل، وقد خرج الإمام (علیه السلام) أيّام الحجّ، والمفروض أنّ الكثير من الحجّاج كانوا قد بلغوا الموضع الّذي بلغه الفرزدق، وكذا قبل

ص: 80

ذلك الموضع وبعده، فإنّ الناس كثُرٌ يتردّدون في الجادّة أويتواجدون في منازل الطريق، ولم يُعهَد عن الإمام (علیه السلام) أنّه كان يسأل كلَّ مَن يلقاه، والأخبار الّتي تحدّثت عن سؤال الإمام (علیه السلام) محصورةٌ في موارد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فلماذا اقتصر الإمام (علیه السلام) على السؤال من الفرزدق بالخصوص؟!

التلميح الخامس: خبر فردٍ عابر

الخبر الّذي يمكن أن ينقله فردٌ عابرٌ على الكوفة، أو مستطرقٌ في شوارعها وأزقّتها، أو خارجٌ من محلّةٍ من محلّاتها، إنّما يحكي مشاهداته الشخصيّة بالقدر الّذي يتيحه له تحرّكه أو تنقّله في المناطق الّتي يمرّ بها، أو أنّه يروي ما يسمعه من أفواه الناس كإشاعاتٍ أو أخبار يصعب التحقّق من صحّتها والاعتماد عليها كحقائق يمكن أن يبني عليها الإنسان موقفاً بضخامة موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) .

إلّا أن يقال: أنّ هذه الوسيلة هي الوسيلة المتاحة يومذاك، وقد اشتهر قولهم: (سؤال الركبان) و(حديث الركبان)، بيد أنّ في التلميحَين السابقَين ما يفسح المجال للمناقشة في القيل المشهور بخصوص حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ص: 81

التلميح السادس: مَن لم يعتمد آلاف الكتب، يعتمد خبرفردٍ واحد؟

لقد أرسلوا إلى الإمام (علیه السلام) الكتب والرسل بأعدادٍ ضخمة، ولم يعتمد عليها الإمام (علیه السلام) ، ولم يتّخذ منها مستنداً يركن إليه، ولم يثق بها، ولم يصدّقها، وجعلها جميعاً في دائرة التشكيك.. حتّى أرسل إليهم أخاه وابن عمّه وثقته مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ليتأكد من خبرهم!

وربّما ولّد موقف الإمام (علیه السلام) هذا سؤالاً في ذهن المتابع، يمكن تلخيصه بالقول: كيف يعتمد الإمام (علیه السلام) على تقييم الفرزدق، وهو شخصٌ واحد، والحال أنّه لم يعتمد آلاف الإخبارات الّتي وردَته عن طريق الكتب والرسل، وكلّ كتابٍ يُعَدّ إخباراً، سيّما إذا لاحظنا مضامينها، فهي تُخبِر عن الوضع علاوةً على موقف المرسلين ودعوتهم وبيعتهم.

التلميح السابع: تجاهل أخبار المولى الغريب (علیه السلام)

يُفترض أن يكون مرور الفرزدق بالكوفة أو انطلاقه منها أيّام ذروة الحركة والغليان في الكوفة، أي: في الأيام الّتي كان اسم المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) قد شاع وذاع وصار حديث النوادي، والحال أنّنا لا نسمع في سؤال الإمام (علیه السلام) شيئاً عن الاستخبار عن حال مبعوثه ورسوله، ولا في جواب الفرزدق ما يشير إلى ذلك، وكأنّ حديث المولى الغريب (علیه السلام) ومجريات حوادثه لا تهمّ السائل ولا المجيب من قريبٍ ولا من بعيد، ويبدو

ص: 82

في المشهد تجاهلٌ تامٌّ للمولى الغريب (علیه السلام) ، وكأنّ الإمام (علیه السلام) لا يهمّه أن يسمع خبراً عن أخيه وابن عمّه (علیه السلام) ، وإن أمكن افتراض ذلك في الفرزدق فإنّ افتراضه في سيّد الوفاء والشهداء فيه جفاء.

التلميح الثامن: تجاهل أخبار المبايعين واضطراب الكوفة

سمعنا في ما سبق أنّ خروج الفرزدق من الكوفة كان أيّام ذروة حركة المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة، وفي الفترة الّتي كتب فيها المولى الغريب لسيّد الشهداء (علیهما السلام) يدعوه أن يَقدِم، فكيف تجاهل الفرزدق هذه الحركة الّتي ضربَت الكوفة بزلزالٍ عظيم جعل أمواج البشر فيها تتلاطم -- حسب ما وصفه المؤرّخ -- وبدت الكوفة كأنّها كانونٌ تستعر فيها نيران الغضب، وتتصاعد فيها ألسنة اللهب، فربّما كان في ذلك شاهدٌ على أنّ القوى المتحرّكة على الأرض لم تكن بالعدد المثير نسبةً إلى الأعداد الضخمة الّتي كانت تواجهها وتتحصّن بالقصر وحوله، وهي على استعدادٍ كاملٍ لسحق أيّ حركةٍ تعارض الطاغوت، فالعساكر والقوّات النظاميّة والشرطة والحرس والعشائر كلّها سارحةٌ في غابة القرود، وباقيةٌ على ولائها للسقيفة وجرذانها وقرودها، والعدد المذكور في التاريخ -- على فرض عدم المبالغة فيه -- فهو لا يُعدّ شيئاً بالقياس إلى قوّات الطاغوت، ولذا لم يلتفت إليها الفرزدق، ولميشر إليها من قريبٍ ولا من بعيد.

أمّا كتب المولى الغريب (علیه السلام) ، فكانت تقييماً لمن كاتب وبايع، فمهما

ص: 83

كان قليلاً أو كثيراً فإنّه سيرفعه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وفي العدد المذكور في التاريخ كفايةٌ للنصرة وإن كان قليلاً بالمقارنة إلى جند الشيطان.

وربّما قيل: إنّ الفرزدق إنّما تحدّث عن هؤلاء بالذات، وكأنّه أراد أن يكشف للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّ مَن كاتبك وبايعك لا يُرتكَن إليه ولا يُستنَد عليه، لأنّهم إنّما بايعوا لأنّهم يرغبون في ذلك لإرضاء قلوبهم وعقولهم، بَيد أنّهم لا يثبتون، لأنّ هواهم مع الأعداء وسيوفهم تبَعٌ لأهوائهم.

بيد أنّ هذا الكلام يعني معارضته لكتب المولى الغريب (علیه السلام) ، فلا نقيم له وزناً.

التلميح التاسع: التشكيك في مواقف الكوفيّين

ربّما أفاد سؤال الإمام (علیه السلام) عن أهل الكوفة وأهل العراق أنّه (علیه السلام) كان يتعامل مع جمهورٍ غير موثوقٍ به، يُتوقَّع منه الانقلاب والتغيير في كلّ آن، وربّما كان في بعض صياغات الأسئلة ما يؤكّد ذلك كقوله (علیه السلام) : «ما ترى أهل الكوفة صانعين؟»، كما يؤكّده إرسال مبعوثه الخاصّ وسفيرهالمولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وتكليفه أن يستبرئ وضع الناس، فإن كان قد اجتمع أهل الحجى والرأي منهم على ما جاءت به كتبُهم ورسلهم كتب إليه، ولم يكتفِ بالكتب والرسل ولم يعتمد عليها.

وهو لا يريد بذلك استكشاف شيءٍ لنفسه، فهو أعرف الخلق بهم،

ص: 84

بغضّ النظر عن البُعد الغيبيّ فيه باعتباره إماماً منصوباً من الله، وإنّما بحسب كونه أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم إحاطةً بالأوضاع، ولا يشكّ أحدٌ أنّه أعلم من ابن عبّاس وابن عمر والفرزدق وغيرهم بالوضع السائد يومها، فكان سؤاله عبارةً عن توجيهٍ للأذهان وكشفٍ للواقع أمام الأنظار وتنبيهٍ للغافلين، وتنويهٍ بالواقع المريض الّذي أقدم عليه الإمام (علیه السلام) عن علمٍ، لانسداد الطريق وانغلاق الأبواب، وإيصاد جميع الفُرج الّتي يمكن أن يتوجّه إليها الإمام (علیه السلام) غير الوجهة الّتي اختارها على علم، فإن كان وضع البلد الّذي أقدم عليه متزلزلاً يقتضي أن يسأل عنه كلّ حينٍ ويحتمل فيه الانقلاب كلّ ساعة، فإنّ غيره من البلدان كلّها ثباتٌ وعزمٌ منجَّز في خذلانه وقتله وأخذه واغتياله.

التلميح العاشر: السؤال عن الناس

لم يسأل الإمام (علیه السلام) عن أشخاص بأعيانهم، أو جماعاتٍ أو عشائر، أو شيوخ عشائر، أو شخصيّاتٍ مهمّةٍ من الشيعة المعروفين بالتشيّع والولاءالحقّ، ورجالها وجماجمها، وهو يعرفهم تماماً، أو المجموع الّذي بايع أو كاتب أو أعلن النصرة على يدَي المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، أو الأنصار الّذين عُرفوا بمواقفهم وانضمامهم إلى صفّ الدفاع عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وغيرها من العناوين المحدَّدة، وإنّما سأل عن خبر الناس، وهو سؤالٌ عام، لا يمكن استخلاص نتيجةٍ من جوابه، فهو بالتالي سؤالٌ عن موقف

ص: 85

الأكثريّة الّتي يمكن أن يُطلَق عليها اسم (الناس)، ومن الواضح أنّ موقف الأكثريّة كان في الصفّ المقابل لنصرة الحقّ وأهله، وكانت قد ميّزت موقفها بالانضمام إلى أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وهؤلاء قلوبهم وسيوفهم على الإمام (علیه السلام) ، وقد أتينا على بيان ذلك في المجموعة الكاملة لوقائع السفارة، وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله بعد قليل.

ولا يقال: إنّ الجند ذلك اليوم كان يتشكّل من الناس، سيّما في الكوفة الّتي كانت ثكنةً عسكريّةً عظيمةً تحت إمرة الوالي والسلطان الأُمويّ، فإنّ سؤال الإمام (علیه السلام) كان عن الناس كمجتمع مدنيّ لا كوجود نظاميّ عسكري، والوجود العسكريّ النظاميّ كان منتظماً متماسكاً متراصّاً في تشكيلاته، خاضعاً خضوعاً عسكريّاً تامّاً للوالي الأُمويّ، وقد أتينا على بيان ذلك مفصَّلاً في المجموعة الكاملة عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

التلميح الحادي عشر: عدم السؤال عن موقف السلطة

لم يسأل الإمامُ (علیه السلام) عن مواقف الحكّام والولاة والعسكر والاستعدادات، وربّما أفاد ذلك أنّ موقف السلطة العدائيّ واضح، وهم قد عزموا وأقدموا على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) مهما كلّفهم ذلك، وهو الّذي أخرجه من المدينة ومكّة وجعله يتوجّه إلى الكوفة، وموقف الجند والعسكر أيضاً، بيد أنّ وضع الناس هو الّذي يمكن أن يطرأ عليه التغيير في إعلان النصرة

ص: 86

للإمام الحسين (علیه السلام) أو الخنوع للحكّام والولاة.

التلميح الثاني عشر: فهم الخبر وفق الاعتقاد الحقّ

بالرغم ممّا يحاول النصّ تصويره والإيحاء به، فإنّ سؤال الإمام (علیه السلام) وأجوبته لمن يجيبه يمكن أن نفهمها فهماً آخَر على فرض صحّتها، كما حدث مع غير الفرزدق، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) يجيب في كثيرٍ من المواطن الّتي يحذّره المعترضون أو يخبره المخبرون أنّ الأمر لا يخفى عليه، وأنّه عالمٌ بما يقدم عليه، وحينئذٍ يفيد السؤال أنّ الإمام (علیه السلام) يريد أن يُفهِم الناس الحاضرَ منهم والغائبَ أنّه كان قد سأل وعرف الظروف طيلة فترة الحركةمن مكّة إلى الكوفة، فهو على علمٍ تامٍّ بالّذي يجري هناك في الأرض الموعودة، وهو إنّما يقدم على علمٍ منه..

هذا ما يفهمه المؤمن المعتقد بإمامة الإمام (علیه السلام) لمعرفته بإمامه، أمّا لحن النصوص لوحده فإنّه لا ينهض بهذا الفهم؛ لِما فيه من إشعاراتٍ وإيحاءاتٍ لا تخفى على المتأمّل فيها.

التلميح الثالث عشر: الموضع المسؤول عنه

وردت أسماء ثلاث مواضع وقع السؤال عنها: العراق، الكوفة، البصرة، وربّما يجعل الاختلاف بين الكوفة والبصرة فحسب، باعتبار أنّ العراق يمكن أن يُطلَق على أيّ واحدٍ من البلدَين على حِدة، ويمكن أن يُطلق

ص: 87

عليهما معاً، فيبقى حينئذٍ التعارض بين السؤالين، لأنّ الجواب سيؤثّر في بناء الموقف وتحديد الرؤية، فالكوفة بلدٌ مقصودٌ يتوجّه نحوه الإمام (علیه السلام) في مسيرته الّتي انطلق فيها من مكّة.

أمّا إذا كان التقييم والجواب يُخبِر عن البصرة، فهي بلدٌ خارجٌ عن ساحة الحدث الرئيسي، وإن كانت قريبةً منه، وموقف الناس في البصرة قد يكون غير موقف الناس في الكوفة، والّذي سيؤثّر مباشرةً وبشكلٍ فعّالٍ يدخل في تحديد النهاية والحسم إنّما هو خبر الكوفة بالذات، وللبصرة دورٌ ثانويٌّ على أقصى التقادير.

التلميح الرابع عشر: سؤال الإمام (علیه السلام) بعد سؤال الفرزدق

في القسم الثاني من النصوص الّتي صنّفناها قبل قليل، يبادر الفرزدق بالسؤال كأنّه يستغرب خروج الإمام (علیه السلام) قبل موسم الحجّ، فيخبره الإمام (علیه السلام) أن لو لم يعجل لأُخِذ، ثمّ يسأله عمّا وراءه، فربّما استشعر القارئ العارف بالإمام (علیه السلام) -- فضلاً عن المعتقد بإمامته أو المُقرّ له بالفضل والعلم -- أنّ الإمام (علیه السلام) أراد بذلك أن يكشف للجميع المحاصرة التامّة الّتي أحاطت به من كلّ جانب، والعزم الأكيد عند أعدائه على قتله ومَن معه، الّذي شبّهه الإمام (علیه السلام) بمخطّ القلادة على جِيد الفتاة وإحاطتها بها إحاطةً كاملةً، حتّى لا يكون فيها أيّ فرجة وهي تحيط بالعنق، ولو خرمت من

ص: 88

موضعٍ مهما كان فإنّها ستنكسر وتتفلّت.

فالسؤال يرسم المشهد الّذي كان مخيّماً على الركب الّذي كان يسير والمنايا تسير معه، فمن ورائه المدينة الخاذلة، ومكّة الّتي لو بقيَ فيها لَأُخِذ أو اغتيل، وأمامه سيوفٌ مشهورة، وعسكرٌ متكاثف متكاتف مجتمع على قتله.

وربّما أفاد سؤال الإمام (علیه السلام) -- وفق التصوير المذكور -- جواباً لسؤال الفرزدق، فإنّ الإمام (علیه السلام) إنّما استعجل الخروج قبل الموسم لئلّا يؤخَذ أويغتاله الأعداء، بشهادة ما يذكره الفرزدق نفسه من الوضع الّذي وصفه، فحال مكّة حال الكوفة، فلا مجال للعجب والاستغراب، فكما شاهد الفرزدق نفسه ووصف وضع الناس وأنّ سيوفهم عليه، فإنّ السيوف كانت عليه في مكّة، فله أن يخرج من بين ظهرانيهم، والفرق أنّ في الكوفة مَن وعد النصرة في ظاهر الحال ودعوى الكتب والرسل والرجال، وفيهم من يمكن الاعتداد بوعده كأنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذين ثبتوا معه، وقد خرجوا إليه من الكوفة والتحقوا به في كربلاء.

وسيأتي الكلام بشيءٍ من التفصيل عن القسم الثاني فيما بعد إن شاء الله (تعالى).

ص: 89

ص: 90

جواب الفرزدق

اشارة

بعد أن سأل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الفرزدق عمّا وراءه، انبرى الأخير للجواب، فجاء الجواب في المصادر بألفاظ شتّى يمكن أن تنتظم في عدّة طوائف:

الطائفة الأُولى: أحبّ الناس إلى الناس

اشارة

روى ابن سعدٍ وآخَرون جواب الفرزدق أنّه قال:

خير ((1))، أنت أحبّ الناس إلى الناس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أُميّة ((2)).

ورواه البلاذري وآخرون أنّه قال:

أنت أحبّ الناس إلى الناس، والسيوف مع بني أُميّة، والقضاء

ص: 91


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144.

من السماء ((1)).وهما لفظان متقاربان، بل كأنّهما متطابقان لولا عبارة (والقضاء من السماء) الّتي وردت عند ابن سعد (في) بدل (من)، وتقدّمت على قوله: (والسيوف مع بني أُميّة).

وفي (مقتل الحسين (علیه السلام)) للخوارزميّ زيادة كلمة (خير) في أوّل كلامه.

وتمتاز أخبار هذه الطائفة بعدّة امتيازاتٍ تجعلها أوفق برسم المشهد وأقوى على التعبير، وأكثر قدرةً على الكشف عن الموقف، وأوفر حظّاً للقبول والترجيح على غيرها من أخبار الطوائف الأُخرى:

الميزة الأُولى: قِدَم المصادر

ورد جواب الفرزدق بهذه الصيغة المقبولة في: (الطبقات) لابن سعد، و(تاريخ مدينة دمشق) لابن عساكر، و(مقتل الحسين (علیه السلام)) للخوارزمي، و(أنساب الأشراف) للبلاذري، و(بُغية الطلب) لابن العديم، و(المختصر) لابن منظور، و(التهذيب) لابن بدران، وهي مصادر قديمة ومعتمَدة تاريخيّاً، ويمكن لمن أراد أن يختار هذا النمَط من الجواب أن يرتكن إليها ويستند عليها، ويوثّق ما يختاره توثيقاً يسمح له أن يُثبت ما يريده، سيّما أنّ

ص: 92


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، مختصر ابن منظور: 21 / 230، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

الشواهد والظروف المقارنة للأشخاص والمجريات تؤكّد ذلك وتدعمه، ويمكن للباحث أن يرجّح هذه الطائفة من الأخبار ما دامت قد وردَت في مصادر معتمدة لها ثقلها ووزنها الملحوظ بحيثيّاتها من قبيلالقِدَم والمصدريّة.

الميزة الثانية: كلامٌ يناسب الفرزدق

سنسمع بعد قليلٍ أنّ الإخبار عمّا في القلوب لا يتسنّى لأحد، إذ أنّ القلوب لا يطّلع عليها ولا يعلم ما فيها من كوامن إلّا الله ومَن سلّطه الله على قلوب العالمين، وليس للفرزدق ولا لغيره الإخبار عن مثل هذه المعلومة الممنوعة عنه، وللفرزدق -- كغيره من الناس -- أن يُخبِر عن مشاهداته الّتي تطالها العيون، والإنباء عن الظواهر الخارجيّة الّتي يتسنّى لجميع بني البشر العادي أن يرصده ويراه، أو يسمعه ويرويه.

فمن المناسب للفرزدق أن يخبر عن السيوف المحتشدة، والرماح المتشابكة، والخيول الصافّة المتراصفة الضابحة الّتي يلوي اللجام عنقها استعداداً للانطلاق إلى ميدان الوغى وساحات القتال، فهي مشاهد يمكن أن ترصدها العيون وترويها الألسن وتلقفها الأسماع، وهذا القدر من الإخبار لا يُمنع على أحدٍ من العالمين حتّى الأعمى، فإنّه قد يصل إليها بالسمع والتحسّس.

وكذا يقال في الفقرتين الأخيرتين من كلامه، إذ أنّ تقدير أن يكون سيّد

ص: 93

الخلق وخامس أصحاب الكساء أحبّ الناس إلى الناس، وأنّ القضاءبيد الله وعنده وفي السماء ومن السماء، فهي معلوماتٌ مفروضاتٌ يتداولها المسلمون، بل وربّما غير المسلمين أيضاً.

الميزة الثالثة: جواب السؤال يكمن في فقرةٍ واحدة

يتكوّن كلام الفرزدق من ثلاث فقراتٍ أصليّة، كلٌّ منها تُعدّ تقريراً لواقع، وما يمكن الاستفادة منه كتقييم للوضع هو قوله: (والسيوف مع بني أُميّة)، فهذه العبارة فقط يمكن أن تكون معبِّرةً عن مشاهدته وخبر الناس عنده الّذي سأل عنه سيّد الشهداء (علیه السلام) .

أمّا الباقي، فهو في حدّ ذاته تعبيرٌ عن بديهيّات أو ضروريات يُفترض بالمسلم أن يعتقد بها، وإن كانت في مجموعها ترسم الصورة الّتي أراد الفرزدق أن يصحر عن رأيه وتقييمه للوضع من خلالها كما سنسمع بعد قليل، فمفروض السؤال الكشف عن موقف الناس، وقد كشفه بقوله: (السيوف مع بني أُميّة)، وأنّهم في موقفٍ عدائيّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّهم على استعدادٍ لقتله لأولاد البغايا، وإن كان المفروض أن يكون الإمام (علیه السلام) أحبّ الناس إلى الناس، بَيد أنّهم قد عزموا على قتل مَن له هذه المنزلة من الله.

الميزة الرابعة: فقرات الجواب

اشارة

يتألّف جواب الفرزدق من ثلاث فقرات أصليّة، تُعدّ كلّ فقرةٍ منها ركناً

ص: 94

ابتنى عليه الكلام واكتملَت به الصورة:

الفقرة الأُولى: أنت أحبّ الناس إلى الناس

لا يبدو من قوله: (أنت أحبّ الناس إلى الناس) أنّه يريد أن يخبر عمّا في قلوب الناس، وإنّما يريد أن يقرّر حقيقةً يُفترض أن لا تغيب عن أيّ مسلم، فسيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) لا يمكن أن يكون إلّا أحبّ الناس إلى الناس، فهو الكمال والجمال والحبّ والرحمة الواسعة، وفيه كلّ ما يحبّه الإنسان السويّ، ويحبّه كلّ من كان ذي طبعٍ بشريّ سليم، وهو سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابنه وابن ابنته (علیها السلام) الّذي أمر الله بحبّه، وأمر النبيُّ (صلی الله علیه و آله) بحبّه، وأمرت الشريعة بحبّه وتولّيه، وهو الّذي قذف الله حبّه في قلب المؤمن والكافر والمنافق، كما ورد في الحديث عن معاوية بن عمار عن الصادق (علیه السلام) : «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إنّ حبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قُذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((1)).

وهذا ما يجب على كلّ مسلمٍ أن يقوله ويعتقده ويقرّه ويقرّره ويؤمن به، بل حتّى غير المسلم، فيكون الفرزدق قد ذكره كضرورةٍ وبديهيّةٍ يجعلها مقدّمةً للنتيجة الّتي يريد أن يخلص إليها، ويعلن بها عن ضلال القوم

ص: 95


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

الّذين شهروا سيوفهم على مَن يجب عليهم أن يحبّوه، وعزموا على قتله لأعدائه الّذين يجب عليهم أن يتبرّؤوا منهم.

ولم يكن الفرزدق وحده قال ذلك، فهذا معاوية العدوّ اللدود شهد نفس الشهادة، فقال عن سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه أحبّ الناس إلى الناس ((1)).

وقد يكون من المستبعد أن يحمَل كلامه على تقرير وضع الناس والإخبار عن حبّهم؛ لشهادة السياق، ولمخالفته لواقعهم، إذ أنّ المتون التاريخيّة والنصوص المقدّسة تفيد بوضوح أنّ القوم إنّما قتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) تديّناً وبغضاً له ولأبيه، وإرضاءً لأعدائه أولاد البغايا، وهذا ما سنستعرضه مفصَّلاً في ما يأتي من البحث.

فيكون حينئذٍ غاية ما يريد بيانه الفرزدق هو الإخبار عن حال سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه في محلٍّ ومقامٍ يقال عنه: أنّه أحبّ الناس إلى الناس، ولا يريد الإخبار عن حال الناس، ولو أخبر بها عن حال الناس لخالف، لأنّ أهل المدينة لم يحبّوه، وأهل مكّة لم يحبّوه، ومَن قتلوه وتألّبوا عليه لم يحبّوه، ومن أعدّوا واستعدّوا وهيّؤوا ونقّبوا وتآزروا وتعاونوا وتكاثروا على

ص: 96


1- أُنظُر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 206، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 414، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 7، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 175.

قتاله لم يحبّوه..

وعلى كلّ حال، فإنّ قوله: (أنت أحبّ الناس إلى الناس) يختلف تماماً في المضمون والمؤدّى عن قوله: (قلوب الناس معك)، إلّا إذا قلنا أنّ مرادهفي العبارة الأخيرة لا يتضمّن الإخبار عن قلوب الناس وكوامنهم، وإنّما أراد الإخبار عن حقيقة كون الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) محبوبٌ في نفسه وأهلٌ للحبّ، فيتّحد المعنى، والله العالم.

الفقرة الثانية: السيوف مع بني أُميّة
اشارة

يمكن أن نتصوّر قوله: (السيوف مع بني أُميّة) بعدّة تصوّرات:

التصوّر الأوّل: تقييمٌ مستقلّ

يبدو من السياق أنّ هذه الصورة الّتي رسمها الفرزدق في هذه الفقرة من كلامه لا ترتّب بينها وبين ما سبقها وما لحقها، فهو لم يربط كون السيوف مع بني أُميّة بكون الإمام (علیه السلام) أحبّ الناس إلى الناس، كما يفيد السياق، وهو غير مؤدّى العبارة الأُخرى الّتي تفيد هذا الربط (قلوب الناس معك، وسيوفهم عليك، أو: السيوف مع بني أُميّة)، فإنّ هذه الصياغة تفيد الإخبار عن حال الناس، فيما تفيد الصياغة الّتي نحن بصدد بيانها، أنّه يخبر عن حال السيوف، وأنّها مع بني أُميّة، بغضّ النظر عمّا إذا كان حامل السيف قلبه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أو عليه.

ص: 97

التصوّر الثاني: تعبيرٌ عن القوّة

وممّا ذكرنا في التصوّر الأوّل ربّما أراد الفرزدق أن يخبر الإمامَ (علیه السلام) بما يتصوّره ويراه من أنّ القوّة مع بني أُميّة، بحكم كونهم سلاطين تُجبى لهمالأموال من الأقطار، فيشترون بها السلاح والذمم، ويسوقون الناس، ويملكون العساكر والجيوش، والناس على دين ملوكهم، فالقوّة معهم.. فعبّر عن القوّة بأنّ السيوف معهم، أي: عند بني أُميّة من الرجال والمقاتلين ما يجعلهم متفوّقين عسكريّاً.

التصوّر الثالث: أن يكون إخباراً عن حال الناس

ويحتمل أن يكون الفرزدق أراد الإخبار عن حال الناس، على تفصيلٍ سيأتي الحديث عنه بعد قليلٍ في الطائفة الثانية.

الفقرة الثالثة: القضاء في السماء

تحدّث في الفقرة الأُولى عن قوّة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه سلطان القلوب وعلى الناس أن يحبّوه، وتحدّث في الفقرة الثانية عن سلطان بني أُميّة وقوّتهم وعدّتهم وعديدهم، والحاكم بين الكفّتين هو ما يريده الله ويقدّره ويقضيه ويمضيه، فلا قوّة بني أُميّة وسلطانهم وسيوفهم تحسم الأمر وتجعلهم يركنون إليها فيحرزوا النصر، ولا قلّة عديد سيّد الشهداء (علیه السلام) وعدّته تجعل المراقب يجزم بغلبة عدوّه، لأنّ الله يقضي ما يشاء ويقدّر، ولا يُغلَب على أمره.

ص: 98

الحاصل:

ثلاث فقرات، كلّ واحدةٍ منها أشارت إلى حقيقةٍ قائمةٍ بذاتها، وهيتخبر عن واقعٍ صادقٍ لا شكّ فيه، ساقها الفرزدق كمقدّماتٍ بديهيّةٍ يمكن أن توصل إلى نتيجة، هي عبارةٌ عن الصورة الّتي أراد إيصالها كتقييم وجواب على سؤال سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإمام (علیه السلام) أحبّ الناس إلى الناس، والقوّة والسيوف والرجال والسلاح مع بني أُميّة، والنتيجة تنزل من السماء ويقدّرها ربّ العزّة والقوّة.

والتقييم بهذه الصورة تقييمٌ صحيحٌ لا نقاش فيه، ولا يلزم منه محذور، إلّا بعض المحاذير الّتي قد تسجَّل عليه بناءً على بعض الاحتمالات في تفسير الفقرة الثانية، وهذا ما سنسمعه بعد قليل.

الطائفة الثانية: قلوب الناس معك

اشارة

وردت ألفاظ الطائفة الثانية في المصادر باختلافات وزيادات جزئيّة، وقد جمعناها تحت عناوين ليتسنّى تناولها، وإن كانت جميعها تحتوي فقرة الجواب على سؤال الإمام (علیه السلام) :

ص: 99

الأوّل: يا ابن رسول الله

ورد في بعض المصادر خطاب الفرزدق للإمام بلفظ: (بأبي وأُمّي) ((1))، (يا ابن رسول الله) ((2))، أو (يا ابن بنت رسول الله)! ((3))والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كذلك لا يشكّ فيه إنسان، حتّى الّذين قتلوه، فإذا جمعنا هذا النمط من الخطاب مع ما قاله في الطائفة الأُولى، وإن خلَت تلك عن هذا الخطاب: (أحبّ الناس إلى الناس)، ربّما كشف عن مستوىً من الحبّ يكنّه الفرزدق لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، بَيد أنّها لا تفيد ظاهراً أكثر من ذلك، فلا يمكن الارتكان إليها لإثبات تشيّعه بالمعنى المصطلح، فإنّ أعدى أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يخاطبه بابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، لأنّها حقيقة نسَبيّة لا يمكن إنكارها، أمّا ما يلزم هذه النسبة من القداسة والوظائف والواجبات ووجوب الودّ والحبّ له، فقد تنكّر له الكثيرون وجحدوه على علمٍ منهم.

ص: 100


1- تاريخ الطبري: 5 / 386.
2- إسعاف الراغبين للصبان: 206، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259، الجوهرة للبري: 42، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
3- الإنباء للعمراني: 14.

قتلوه بعد علْمٍ منهمُ

أنّه خامسُ أصحاب الكسا

الثاني: أُصدقك؟

اشارة

حينما سأل الإمام (علیه السلام) الفرزدق عن خبر الناس، قال الفرزدق: أُصدقك؟ قال (علیه السلام) : «الصدق أُريد» ((1)).

لا شكّ أنّ الإمام (علیه السلام) كان جادّاً في سؤاله، ويريد أن يسمع منه الخبر، ولا معنى لسؤال الفرزدق: أُصدقك؟ فلا يبعد أن يكون الفرزدق قد وظّف هذا الأسلوب للأغراض التالية:

الغرض الأوّل: تأكيد صدقه قبل الشروع

إمّا بغرض أن يؤكّد صدقه للإمام (علیه السلام) قبل أن يشرع في الكلام، فهو شاعرٌ يحترف المديح والهجاء ونظم ما يعتقد وما لا يعتقد طمعاً بصلة السامع ورغبةً بما عنده، فربّما أراد أن يؤكّد للإمام (علیه السلام) أنّه في موقفه هذا لا يريد إلّا الصدق، بعيداً عن نفسيّة الشاعر المحترف.

الغرض الثاني: الإعداد للمفاجئة

أو أنّه استشعر فيما يريد أن يلقيه من خبرٍ فداحةً ومفاجأةً من العيار الثقيل، تقتضي أن يهيّئ الأجواء ليفاجئ الإمام (علیه السلام) بحقيقةٍ مُرّةٍ يرى

ص: 101


1- كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.

الفرزدق خطورتها ومرارتها وقساوتها، فهو خبر منفِّرٌ لا تستسيغه النفوس البشريّة، ولا ترتاح له القلوب الأبيّة، ويثقل على الأرواح الحرّة، ومن العسير أن يعزم المرء على القتال ويخرج من أجله، ثمّ يأتي مَن يثبّطه ويقول له: إنّ القوّة والعدّة والعدد ومؤهّلات النصر والظفَر مع عدوّك، أو أن يكون قد حسب حساباته في جمع الأنصار للدفاع عن نفسه ونصرته، ثمّ يسمع كلاماً يفيد أنّهم قد خانوه أو تألّبوا عليه وشهروا سيوفهم عليه، وقد وعدوه أن تكون سيوفهم معه.

الغرض الثالث: حقيقة مقابل الحقيقة!!!

أو أنّه أراد أن يُصحِر عمّا استشعره هو شخصيّاً في خياله وتوهّمه كما يخاله، أو حاول هو أو مَن صاغ عبارة الخبر خدمةً للأعداء، فظنّ أنّ سيّدالشهداء (علیه السلام) قد بنى على سيوف الناس، واعتمد كتبهم ورسلهم وإعلانهم النصرة، فتصوّر أنّ الخبر الّذي يريد أن يلقيه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) سيفاجئه بحيث لا يصدّقه ويأبى أن يستسلم له، ويتّهمه بالكذب لما في خبره مخالفةً لما يظنّه! في الناس، فقدّم له هذه المقدّمة، فكأنّه يريد أن يقول: إنّ ما أُخبرك به إنّما هو الصدق والنصيحة، وإن كنتَ أنت لا تحبّ أن تسمعها، فأنا سأُصدقك، أساءك ما سمعتَ أم أرضاك، لأنّي أُريد أن أُخبرك بالصدق.

والفرق بين هذا الغرض والغرض السابق أنّ الأوّل يتحدّث عن حالةٍ

ص: 102

عامّة يمكن أن تعرض للإنسان إذا سمع ما يخالف رغبته ويثبّط عزمه، أمّا في هذا الغرض فإنّه يفترض أنّه يريد أن يخالف ما يعتقده سيّد الشهداء (علیه السلام) ويعرفه من الناس، فهو يريد أن يفاجئه بحقيقةٍ تثبت له خطأه في التقدير واكتشاف الحقيقة، والعياذ بالله، وهذا ما دأب عليه العدوّ في تصويره لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته.

وربّما يشهد لذلك تعبير الفرزدق نفسه عن فهمه لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) في بعض المتون: فوَاللهِ لقد امتعض منها، وما أعجبَتْه ((1)).

الثالث: الخبير سألت

قال الفرزدق: (الخبير سألت) ((2))، (أجل، على الخبير سقطت) ((3)). وقد ذكر ابن كثير عبارة القوم بدون هذه الفقرة ((4)).

ص: 103


1- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، تاريخ الطبري: 5 / 386، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 410، مثير الأحزان لابن نما: 20، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
3- إسعاف الراغبين للصبان: 206، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

ربّما أراد بقوله هذا إقناع الإمام (علیه السلام) بما سيخبره، باعتباره خبيراً، وهو في نفس الوقت على عادته كشاعر مفاخرةٍ وخصام ابتدأ الكلام بمدح نفسه، وكأنّه يريد أن يقول لأعلم الخلق بالخلق أنّه قد أصاب بغيته ووقع على ما ينفعه، ويكشف له الحقيقة الغائبة عنه كشفاً وافياً يحدّد له الموقف بدقّة!

الرابع: القلوب معك والسيوف عليك

اشارة

قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة ((1)) عليك ((2))، والقضاء ينزل من السماء ((3))، والله يفعل ما يشاء ((4))، وربّنا

ص: 104


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 95، الأخبار الطِّوال للدينوري: 245، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، الإنباء للعمراني: 14، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
2- نزهة الناظر للحلواني: 41، 43، كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61، مثير الأحزان لابن نما: 20.
3- إسعاف الراغبين للصبان: 206، تاريخ الطبري: 5 / 386: (والقضاء بيد الله).
4- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، تاريخ الطبري: 5 / 386، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 410، الصواعق المحرقة لابن حجر: 117، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.

كلّ يومٍ هو في شأن ((1))، والنصر في السماء ((2)) من عند الله ((3)).

ربّما اختلفت الألفاظ الواردة في بيان هذا المقطع من كلام الفرزدق،بيد أنّها تنتظم في العبارة الّتي جمعناها من المصادر، بغضّ النظر عن الاختلافات الطفيفة الّتي لا تؤثّر في المعنى، ولا تؤدّي إلى تشكيل معنىً جديدٍ أكثر ممّا ذكرناه.

والمهمّ في العبارة قوله: (قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة عليك)، والباقي عبارةٌ عن تقريرات لا يناقش فيها مسلم، إلّا بمقدار ما نعرف سبب ذكرها في كلامه والمغزى الّذي يريد أن يوصله من خلالها.

ويمكن أن يستشعر منها شيء من تخفيف الوقع وإرجاع الأمر إلى الله تسليةً للمخاطب.

ويبدو أنّ الكلام يحتاج إلى وقفةٍ طويلةٍ لاستكناه معناه ومفهومه ودلالاته، بيد أنّنا سوف نتوقّف عنده من خلال إضاءات وومضات

ص: 105


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 2 / 268، و4 / 384، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 275، الجوهرة للبري: 42.
3- نزهة الناظر للحلواني: 41، 43، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.

سريعة:

الومضة الأُولى: تقييمان عن فترةٍ واحدة

يبدو من سير الحوادث أنّ خروج الفرزدق كان قبل شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، ربّما كان في الأيام الّتي كتب فيها المولى الغريب (علیه السلام) كتابه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبره بمبايعة جماعةٍ كبيرة من الملأ، حيث كتب المولى الغريب (علیه السلام) كتابه قبل أن يُقتَل لسبعٍ وعشرين ليلة ((1))، أي: في نهايات العِقد الأوّل من ذي القعدة، وقد التقى الفرزدقالإمام (علیه السلام) قريباً من مكّة في بدايات ذي الحجّة، فيلزم أن يكون قد خرج من الكوفة -- على فرض خروجه منها -- قبل مدّةٍ لا تزيد على عشرين يوماً، وهي المدّة اللازمة للسفر من الكوفة إلى مكّة للمُجدّ، فيكون خروجه في بدايات ذي القعدة من الكوفة، أي: في ذات الفترة الّتي كتب فيها المولى الغريب (علیه السلام) كتابه، بفارق أيّامٍ في فرض الزيادة والنقصان، ويكون خروجه قبل شهادة المولى الغريب (علیه السلام) جزماً استناداً إلى الحساب المذكور.

الومضة الثانية: اتّضاح الصورة لكلّ ناظر

ربّما أفادت الومضة الأُولى في إشارةٍ إلى أنّ حال أهل الكوفة أو أهل

ص: 106


1- أُنظُر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 378، تاريخ الطبري: 5 / 395، نهاية الإرب للنويري: 20 / 413، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 168، نفَس المهموم للقمّي: 177.

العراق كان واضحاً، يعرفه مَن يشاهده ويمرّ عليه مروراً سريعاً، ولو كان في ركبٍ عابرٍ يجتاز البلد في طريقه الى بلدٍ آخَر ولا يحطّ فيه إلّا بمقدار اتّخاذه منزلاً في الطريق.

وفيه إشارةٌ واضحةٌ إلى أنّ حالهم هذا كان قديماً منذ أنّ مرّ بهم الفرزدق أو خرج من عندهم، أي: قبل زهاء عشرين يوماً أو أكثر على أقلّ التقادير.

ويبدو من هذه الإشارة أنّ الظواهر والمظاهر ترسم مشهداً يتراءى لكلّ ذي عينين، وهو يرى السيوف مشهورةً والأجناد في حالة نفير عام، وفي قوله: (السيوف مشهورة) أنّ المواقف كانت معلَنةً غير مخفيّة، كما سيأتي بيانه في محلّه.فهم منذ أنّ مرّ بهم الفرزدق قد شهروا سيوفهم لحرب الإمام (علیه السلام) نصرةً لبني أُميّة، واصطفّوا في صفّ أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد فعلوا ذلك مُعلِنين مجاهرين متظافرين متكاثرين محتشدين، بحيث عرفه الفرزدق، سواءً كان قد انطلق منهم أو مرّ بهم، فليست الصورة تحتاج إلى تأمّلٍ وتحليلٍ وجمع شواهد، وإنّما هي صورةٌ واضحةٌ يفضحها بريق السيوف المسلولة المشهورة.

الومضة الثالثة: التعارض بين تقييم الفرزدق وتقييم المولى الغريب (علیه السلام)

ربّما أفاد الارتكان إلى الومضتين السالفتين أنّ ثمّة تعارضاً وتناقضاً بين مؤدّى كتاب المولى الغريب (علیه السلام) وتقييمه للوضع في الكوفة عموماً وإخباره

ص: 107

عن وجود عددٍ من المبايعين، وتشخيصه للموقف بحيث كتب إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يقدم، فيما اكتشف الفرزدق الموقف وتبصّر فيه ونفذت بصيرته حتّى عرف كوامن القلوب ومظاهر الرجال، وتبيّن له أنّ الموقف يستدعي أن لا يقدم الإمام (علیه السلام) ..

ولا يخفى أنّ التقييمَين للموقف يتحدّثان عن نفس الأيام أو عن أيّام متقاربةٍ محصورةٍ في فترة لا تتجاوز زهاء عشرة أيّام في أقصى التقادير.

ولا يبدو أنّ هذا التناقض بين التقييمَين فيه شيءٌ من الغموض والتعقيد على مَن لاحظهما مجتمعَين، ولا يحتاج إلى كثير تمعّنٍ وتأمّلٍ وتحليلٍ واستنباطٍ واستنتاج وترتيب مقدّمات للوصول إلى التعارض والتناقضبينهما.

ويترتّب على ذلك ما يمكن أن يُستوحى من جمع الأخبار، فقد عرضت لنا نمطين من التقدير والتقييم، ودعوتين صريحتين، إحداهما تكشف زيف المجتمع الكوفي والازدواجية الّتي يعيشها -- كما يقولون --، وبالتالي يترتّب على ذلك أن يمتنع الإمام (علیه السلام) وأن لا يقدم عليهم، وقد خانوا وغدروا وانقلبوا، وكادت سيوفهم تلغ في الدماء الزاكيات.

ويقابله تقييم المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، الّذي وعد بوجود سيوفٍ مع الإمام (علیه السلام) لا تقلّ عن ثمانية عشر ألف سيف، وأنّ ثمّة مبايعين يعدّون النصرة، فرتّب عليه الدعوة بالقدوم.

ص: 108

وبناءً على النتائج الّتي أفرزتها الأحداث، سيصل القارئ إلى قناعةٍ تسرّبَت إليه -- من حيث يدري أو لا يدري -- أنّ الفرزدق نافذ البصيرة، دقيق النظرة، عميق الفكرة، خبيرٌ عارف، مقدِّرٌ للأُمور، ناظرٌ في عواقبها ومطّلعٌ على مآلاتها، وأمّا المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) -- نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، وحاشا مولاي الغريب! -- خلاف ذلك.

وهذه النتيجة التعيسة هي الّتي ركّز عليها المؤرّخ في جميع المفاصل الكلّيّة والجزئيّة والهامّة وغير الهامّة في تسجيل تاريخ المولى الغريب (علیه السلام) لأغراضٍ غير خافية، وقد أتينا على تفصيل الكلام مطوَّلاً في ذلك في مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وقد انتشر الكلام في إثباتهعلى جميع أجزاء المجموعة الثمانية.

ومن البعيد جدّاً أن يُحمَل كلام الفرزدق هنا على التقييم العامّ لأهل الكوفة أو أهل العراق، فيكون على غِرار كلام ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما، إذ أنّه كان يتكلّم عن وضع الكوفة عند خروجه منها جواباً على سؤال الإمام: «ما خلّفت لنا؟»، وما في معناه، فهو يُخبِر عمّا شاهد، ولا يحكم من خلال التقديرات والسوابق والمعروف عنهم.

وعليه يتبيّن أنّ في كلام الفرزدق إشارةً إلى تخطئة المولى الغريب (علیه السلام) ضمنيّاً ولو بالإيحاء، إذ أنّه تقييمٌ يخالف تماماً ما جاء في نصّ كتاب المولى الغريب (علیه السلام) الّذي وعد فيه بوجود الأنصار، ولو حسب المشاهدة الخارجيّة، ولا شكّ أنّ المولى الغريب (علیه السلام) كان عالماً بقلوب الناس؛ لامتناع

ص: 109

افتراض ذلك في الفرزدق ومنعه على المولى الغريب (علیه السلام) ، ولأنّ الفرزدق أخبر عن السيوف المشهورة في حكايةٍ للمشاهدات الخارجيّة الّتي اقتنصها أثناء إقامته في الكوفة.

الومضة الرابعة: تجاهل المبايعين ومعارضة كتاب المولى الغريب (علیه السلام)

تجاهل الفرزدق تماماً حركة ثمانية عشر ألفاً كانوا أيّام خروجه من الكوفة يعلنون النصرة ويبايعون، وليس العدد -- رغم قلّته بالنسبة الى عدد المقاتلين في الكوفة -- بالعدد الّذي يُستهان به بحيث لا يُذكَر ولا يشار إليه.

وربّما قيل: إنّ الفرزدق تجاهلهم وتغافل عنهم؛ لعلمه أنّهم خوَنةٌغدّارون، فنسبهم إلى بني أُميّة وهو يراهم يعلنون النصرة لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ هذا يناقض ويعارض تماماً كتاب المولى الغريب (علیه السلام) أيضاً، وإن كان المولى (علیه السلام) يعرف حقيقة أمرهم بيد أنّه عمل بالظاهر المأمور به وكتب للإمام (علیه السلام) ما شاهده منهم وأبرزوه في مواقفهم.

فيكون والحال هذه تكذيباً لكتاب المولى معتمَد الحسين (علیهما السلام) ، ولا خير في كلامٍ يعارض كلاماً اعتمده سيّد الخلق الإمام الحسين (علیه السلام) .

ولا يمكن أن نتصوّر حذق الفرزدق وخبرته في التشخيص بما عجز عنه سليل إبراهيم الخليل ومعتمَد الإمام الحسين (علیه السلام) وثقته والخبير الممارس لأهل الكوفة منذ عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وربّما يقال أيضاً: إنّ الفرزدق تحدّث عن الحالة العامّة والظاهرة الّتي

ص: 110

اجتاحت الكوفة يومذاك، وما ذكره المولى الغريب (علیه السلام) تقريرٌ خاصٌّ تحدّث عن الّذين أعلنوا النصرة، فإنّ هذا لا يعدو أن يكون تكذيباً لما قرّره المولى الغريب (علیه السلام) عاقبة، ويبقى فيه تقدير ينمّ عن تخطئةٍ لتقديرات مسلم (علیه السلام) ، إضافةً إلى ما سنسمعه في الومضة التالية.

الومضة الخامسة: عدم دقّة التقييم

إنّ تجاهل العدد الّذي أعلن عنه المولى الغريب (علیه السلام) في كتابه لسيّد الشهداء (علیه السلام) من المبايعين يفيد عدم الدقّة في التقييم والابتعاد عن الصواب، وإخفاءً للجانب الّذي يمكن أن يكون مؤثّراً في اتّخاذ أيّ قرار، فلا يبدو أنّهقد عبّر عن كلّ ما شاهد، وإنّما صوّر ما كان يراه هو مع إغفال الواقع الّذي كانت تزدحم به سكك الكوفة وأزقّتها، والحركة الّتي كانت تضطرب بها محلّاتها ومركزها، حسب تصوير المؤرّخ.

فلا يبدو الفرزدق حينئذٍ قد صدق في سؤاله من الإمام (أُصدقك)، إذ أنّه لم يصدق، ولم يروِ المشهد كما هو، وكان عليه أن يذكر مشاهدته ما كان له وما كان عليه، فيُخبر عن ثمانية عشر ألف سيفٍ كانت قد أعلنت النصرة، وإن كانت في حقيقتها غادرة، وأيّ صدقيّةٍ في تقييمٍ يتجاهل عدداً بهذه الضخامة إذا نظرنا إليه في نفسه، بغضّ النظر عن مقارنته بعدد الأعداء وعسكر السقيفة؟

ص: 111

الومضة السادسة: مَن يقاتلك أكثر ممّن ينصرك

ربّما كان المقصود من عبارة الفرزدق أنّه أراد أن يقول للإمام (علیه السلام) : إنّ مَن يقاتلك أكثر ممّن ينصرك، فعبّر عن الحالة الأشمل والأقوى بهذه العبارة العامّة الشاملة، فإنّه يبقى التعبير غير دقيق، ولا يناسب شاعر العرب وأديبها بحيث تغلق عليه الألفاظ فلا يجد ما يوصل به مراده.

الومضة السابعة: كون القلوب معك لا يغني شيئاً

يُحتمل أن يكون المراد من قوله: (السيوف مع بني أُميّة)، أي: أنّ القوّة مع بني أُميّة، بغضّ النظر عن الناس، فهو لا يريد أن يُخبر عن مواقف الناس، وإنّما يريد أن يُخبر عن القوّة الأقوى، وبعبارةٍ أُخرى: إنّه يريد أن يقولللإمام (علیه السلام) : إنّ بني أُميّة هم أُولو القوّة والرجال والعتاد، وإنّك الأضعف من حيث القوّة، فإذا كانت قلوب الناس معك وكانوا يحبّونك، فإنّ هذا لا يغني عنك شيئاً، لأنّ الخذلان يمكن أن يجتمع مع الحبّ، وإن كان الحبّ كاذباً ومزعوماً.

الومضة الثامنة: التعبير عن (ازدواجيّة) الشخصيّة

ربّما يُفهَم من كلام الفرزدق أنّه تعبيرٌ عن (ازدواج الشخصيّة) الّذي ابتُلي به أهل الكوفة، فقال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك ((1)).

ص: 112


1- أُنظُر: مع الركب الحسيني: 1 / 133.

وازدواجيّةُ الشخصيّة -- كما ورد في معاجم اللغة المعاصرة -- : هو الظهور بمَظهَرَين، وهي حالة الفرد إذا كان له نوعان من السلوك، أحدهما سويٌّ وثانيهما مَرَضيٌّ لا إراديّ ((1)).

وقالوا: إنّ ازدواج الشخصيّة ليس وهماً، وإنّما اضطرابٌ نفسيٌّ حقيقي، حيث يظهر الشخص بأكثر من شخصيّة، وهو أحد الاضطرابات الانشقاقيّة (Dissociative Disorders)، كان يُسمّى اضطراب تعدّد الشخصيّة (Multiple Personality Disorder) في التصنيف الثالث (DSM-III-R)، وأصبح الآن يُسمّى: اضطراب الهويّة الانشقاقي (Dissociative Identity Disorder) حسب التصنيف الرابع (.DSM-IV).

هذا يعني أنّ مفهوم (ازدواج الشخصيّة) -- وهو مفهومٌ نفسيٌّ وليس اجتماعي -- لم يعد متداولاً في الطبّ النفسي، وأنّه استُبدل بمفهوم(اضطراب الهويّة الانشطاري)، يملك المُصاب به هويّتين أو شخصيّتين، وقد يصل العدد الى العشرات! لكلّ واحدةٍ أُسلوبها الخاصّ بها في السلوك والإدراك والتفكير والتاريخ الشخصيّ والعلاقة بالآخرين.

يحدث الانتقال من شخصيّةٍ لأُخرى عند وجود ضغطٍ نفسيٍّ اجتماعيٍّ شديد، ويتمّ الانتقال فجأةً خلال ثوانٍ الى دقائق.. وقد تناقض كلّ شخصيّةٍ الأُخرى، كأن تتحوّل الآنسة الخجول فجأةً إلى فتاةٍ جريئةٍ لا

ص: 113


1- أُنظُر: معجم المعاني: ازدواج.

تتورّع عن القيام بأيّ عملٍ لا أخلاقي.

وهناك حالاتٌ لتعدّد الشخصيّة عند الإنسان، وهي:

1 _ يظهر ويتحدّد بشخصيّتين تظهر على سلوك الفرد الواحد.

2 _ يظهر بأكثر من شخصيّتين، وتكون تلك الشخصيّات منفصلة الواحدة عن الأُخرى، ولها استقلاليّتها.

وكلّ شخصيّةٍ تظهر بالتتابع والتعاقب لدى الفرد المصاب، أي: لها أُسلوبها الخاص، وليس لها صلة كلّ شخصيّة مع الأُخريين السابقة لها واللاحقة.

من خلال هذه المعلومات عرّفوا الشخصيّة الازدواجية أنّها: انشطار وعي الشخصيّة للفرد إلى جزأين، يعيشهما الفرد وبأوقات مختلفة وبالتوالي، شخصيّتين، إحداهما تظهر والأُخرى تكون مضمرة، وبدون معرفة الشخص المصاب بذلك، وحكم فقدان الذاكرة لإحدى الشخصيّتين وارد، لأنّفقدان الذاكرة بأحدهما تظهر الأُخرى ((1)).

والإنسان عادةً ما يسلك سلوكاً متناقضاً دون أن يشعر بهذا التناقض في سلوكه أو يعترف به، وينشأ ذلك عند وقوع الإنسان تحت تأثير نظامين متناقضين من القيَم أو المفاهيم، فيستجيب لأحدهما تارةً وللآخر تارةً أُخرى.

ص: 114


1- أُنظُر: ازدواج الشخصيّة حالةٌ مرضيّةٌ أم سِمةٌ من سمات الشخصيّة / د. وائل فاضل علي.

إذن، فالتعدّد في الشخصيّة يشير إلى أنّ هناك تصدّعاً وانفصالاً في المحتوى العقليّ للإنسان، يمثّل ردّ الفعل التفكيكي الّذي يتميّز بوجود نظامين من أنظمة الشخصيّة منفصلةً بعضها عن البعض الآخر ((1)).

ويعرّف البعض (الازدواجيّة الشخصيّة) على أنّها خللٌ أو اضطرابٌ عقليّ يعتري الذات، فيصبح الفرد كمن يعيش جانبين من الحياة لا يقوم بينهما اتّصال، أي: إنّ الازدواج يشير إلى تناوب شخصيّتين، الواحدة منهما مستقلّةٌ عن الأُخرى ((2)).

يقول (ميد) أُستاذ الفلسفة في جامعة شيكاغو سابقاً: إنّ نشأة الازدواجيّة تكمن في التركيبة النفسيّة للفرد، فهناك نفسٌ فرديّةٌ طبيعيّة، وأُخرى اجتماعيّة، وعادةً ما يحدث بينهما صراع، فيُطلَق على الأُولى:

ص: 115


1- الازدواجية الشخصيّة بين عصبيّة الانتماء والولاء الوطني (دراسة اجتماعيّة تحليليّة)، إعداد: الدكتور موح عراك عليوي، الأفغاني جمال الدين: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، مع دراسةٍ عن الأفغاني، الحقيقة الكليّة، تحرير ودراسة: محمّد عمارة ن القاهرة، دار الكتاب العربيّ، 1968.
2- الازدواجيّة الشخصيّة بين عصبيّة الانتماء والولاء الوطني (دراسة اجتماعيّة تحليليّة)، إعداد: الدكتور موح عراك عليوي، الأنصاري عبده فيلالي: الاسلام، العلمانيّة، الديمقراطيّة، ترجمة السيّد ولد أباه، مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، العدد 26، 2000 م.

(ME / إياي)، وعلى الثانية: (I / أنا) ((1)).أمّا (يونك)، فمن جانبه يرى الازدواجيّة الشخصيّة مردّها أنّ الإنسان يملك في شخصيّته عنصر الخضوع وعنصر التمرّد في الوقت نفسه، فهو يخضع لقيَم ومعايير مجتمعه بإحدى نفسَيه، ويتمرّد عليها بالنفس الأُخرى ((2)).

وهو بهذا ليس منافقاً أو مرائياً كما يحبّ البعض أن يسمّيه بذلك، بل هو في الواقع ذو شخصيّتين، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيّتَيه ينسى ما فعله آنفاً بالشخصيّة الأُخرى، فهو إذ يدعو إلى المُثُل العليا أو المبادئ السامية، مخلصٌ فيما يقول، جادٌّ فيما يدّعي، أمّا إذا بدر منه بعدئذٍ عكس ذلك فمردّه إلى ظهور نفسٍ أُخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأُولى وماذا فعلت ((3)).

كيف كان، فإنّ ازدواجيّة الشخصيّة مرضٌ نفسيٌّ ناتجٌ عن اضطراب عقليّ وانشطار في النفس والشخصيّة، وهو شيءٌ غير النفاق وغير التقيّة

ص: 116


1- أُنظُر: شخصيّة الفرد العراقي / السيّد علي الوردي: 43.
2- الازدواجيّة الشخصيّة بين عصبيّة الانتماء والولاء الوطني (دراسة اجتماعيّة تحليليّة)، إعداد: الدكتور موح عراك عليوي، بركات حليم: التغير التحوّلي في المجتمع العربي، مواقف، السنة السادسة، العدد 28، 1974 م.
3- شخصيّة الفرد العراقي / السيّد علي الوردي: 48.

الّتي هي مداراة الآخَر.

وازدواج الشخصيّة ليس إبطان شيءٍ وإظهار شيءٍ آخَر، وإنّما هي الظهور بمظهرين، كلّ مظهرٍ ينتج عن الباطن الفعّال في وقت الظهور، فما يعمله الفرد أثناء الظهور بمظهر الشخصيّة رقم واحد -- مثلاً -- يفعله عن قناعةٍ ورضى، وينتج عن باطنٍ متحكّمٍ فاعلٍ بالظاهر..وعليه، يكون الفاعل حين الظهور بالشخصيّة عامداً قاصداً عالماً بما يفعل، وإن تنكّر لفعله بعد أن يظهر في شخصيّته الأُخرى.

فهو إمّا أن يقال عنه: مريضٌ نفسيّاً ومضطربٌ عقليّاً، فيسقط عنه التكليف، ولا يُحاسَب، ولا يُعاقَب، ويكون بريئاً أبداً.

وإمّا أن يقال عنه: قاصدٌ عامدٌ ما دام قد تلبّس بالشخصيّة الّتي دعَتْه للفعل، فيُحمَّل مسؤوليّة فعله، وإن تنكّر له فيما بعد.

ويبدو من التعاريف العلميّة لازدواج الشخصيّة أنّه مرض، فهل يكون مَن اتّخذ موقفاً من سيّد الشهداء (علیه السلام) وشهر عليه سيفه وقاتله معذوراً، إذ أنّ المضطرب عقليّاً لا تكليف عليه ولا حساب؟!

فيكون في وصم مَن باشر القتال مع الإمام (علیه السلام) بالازدواجيّة تبريراً وتسويغاً لهم، نعوذ بالله من هذه النتيجة.

وإن ارتضينا الاحتمال الثاني، رغم مخالفته للتعاريف العلميّة لهذا المصطلَح، فهم ملعونون قتَلَة، لأنّهم قاصدون عامدون، وإن كان القصد والعمد تحت وطأة الازدواجيّة، فما الفائدة من هذه الصفة، وماذا سيُنتج

ص: 117

هذا التحليل؟

وحينئذٍ (لم تختلف عمليّاً حال المزدوجين عن حال المضلّلين بالباطل الأُموي، ذلك لأنّ الحكم الأُمويّ استطاع أن يجنّد الصنفين معاً تحترايته، فأسرجوا وألجموا وتنقّبوا للقضاء على) ((1)) الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه.

أضف إلى ذلك، إن كان يريد الفرزدق أن يخبر عن ازدواجيّة الناس، وكشف زيف المبايعين، فسيلزم منه تخطئة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) أيضاً!

هذا باختصارٍ شديدٍ ذكرناه على عجَل فيما يتعلّق بفهم قول الفرزدق كتعبيرٍ عن الازدواجيّة ((2))، ولبحثه موضعٌ آخر سيأتي إن شاء الله (تعالى).

الومضة التاسعة: الإخبار عن المتخاذلين
اشارة

قد يقال: إنّ الفرزدق إنّما تحدّث عن المتخاذلين، فربّما كان ثَمّة مجالٌ لتصحيح كلام الفرزدق إذا فهمنا من كلامه تقييم وضع الخاذلين لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فربّما يجتمع -- ولو كذباً وادعاءً -- الخذلان، وأن تكون القلوب معه، وهذا ما ربّما عبّروا عنه ب-- (الشلل النفسي).

ولا ندري ما يعني الشلل النفسي، فهو ليس من الأمراض النفسيّة

ص: 118


1- أُنظُر: مع الركب الحسيني: 1 / 133.
2- لا يخفى أنّ مصطلح (ازدواجيّة الشخصيّة) اصطلاحٌ محدَث، ممّا اضطرّنا إلى الاستشهاد بأقوال المتخصّصين في العصر الراهن.

المعروفة المتداولة كما يُقال عن ازدواج الشخصيّة والنفاق والرياء وغيرها، وقد ضربوا له مثلاً ما رواه الطبريّ عن سعد بن عبيدة:

أنّه رأى في وقعة كربلاء أشياخاً من أهل الكوفة واقفين على التلّ يبكون ويقولون: اللّهمّ أنزِلْ نصرك [أي: على الحسين (علیه السلام) ]. فقاللهم سعد: يا أعداء الله، ألا تنزلون فتنصرونه؟! ((1))

وذكروا نماذج وأمثلة أُخرى للشلل النفسي، لسنا بصدد سردها، لأنّها جميعاً على نسق هذه القصّة، بل ربّما كانت هذه القصّة أوضح الأمثلة ((2)).

ويمكن مناقشة هذه القصّة بعدّة مناقشات، رغم أنّها من متفرّدات البلاذريّ ((3)) والطبريّ حسب فحصنا السريع..

المناقشة الأُولى: الأشياخ كبار السن!

تتحدّث القصّة عن أشياخ، وربّما أُريد بهم كبار السنّ، إذ لو كانوا من الأشياخ بمعنى مَن يسمّونهم الوجوه والشخصيّات الكبيرة لَكانوا معروفين، ولذُكرت أسماؤهم، ولَما كلّمهم الراوي بهذه اللغة الشديدة القويّة.

ص: 119


1- مع الركب الحسيني: 1 / 135 -- عن: تاريخ الطبري: 4 / 295.
2- مع الركب الحسيني: 1 / 135.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 424.
المناقشة الثانية: راوي القصّة

ثمّ إنّ راوي القصّة (سعد بن عبيدة السلَميّ) ((1)) كان مع ابن سعد، ومن القريبين منه، وقد قال نفسه: (إنّا لَمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد) ((2))، وكان جالساً عند ابن زياد (فجي ء برأس الحسين (علیه السلام) إلى ابن زياد، فوضع بين يديه) ((3))، وله مواقف أُخرى مفجعة يرويها بصلافة، فهو من أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ومقاتليه، فماذا يعني استنكاره؟! وربّما لم يكن على نحو الاستنكار، بل كان على نحو الاستهزاء، أو لأيّ غرضٍ كان!

المناقشة الثالثة: ما يصنع هؤلاء الأشياخ في أرض المعركة؟

ماذا كان يصنع هؤلاء الأشياخ على التلّ، والمنطقة عسكريّة مقفَلَة مزروعة بالخيل والعسكر، وليس فيها إلّا مَن كان مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أو مع جند السقيفة؟

ولمّا لم يكونوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) فهم قد خرجوا مع الأعداء،

ص: 120


1- أُنظُر: بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2638.
2- أُنظُر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 424، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2638، تاريخ الطبري: 5 / 393، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 171، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 348.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 424، بغية الطلب لابن عديم: 6 / 2638، تاريخ الطبري: 5 / 393، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 171.

ويشهد له أنّهم تواجدوا على تلٍّ تواجد فيه عدوّ الله الّذي التفت إليهم ووبّخهم.

المناقشة الرابعة: أفراد معدودون

كيف ما كان، فإنّ هؤلاء الأشياخ إنّما هم أفرادٌ معدودون، في عسكرٍ جحفلٍ جرّارٍ ملأ الصحارى خيلاً ورجالاً وعدّةً وعتاداً، فلا يمكن أن يشكّلوا ظاهرةً وهم شواذ، والشاذّ يؤكّد القاعدة -- كما يقولون --، حتّى لو جمعنا إلى هذا المثال الأمثلة الأُخرى المذكورة في المقام فإنّها تبقى مفردات متفرقة لا تشكّل ظاهرةً اجتماعيّة.

المناقشة الخامسة: الشلل النفسي لا يُعدّ عذراً

ربّما أشعر تعبير (الشلل النفسي) بالعجز، وكأنّ الإنسان قد فقد القدرة على التسلّط والسيطرة، وبالتالي عجز -- نتيجة (الشلل) -- عن اتّخاذ الموقف المطلوب، فهو والحال هذه معذورٌ غير مؤاخَذ، ويتضمّن نوعاً مبطَّناً من التبرير والتسويغ لمن ابتُلي بهذا الداء، فالمشلول لا يقوى على شيء، بغضّالنظر عن سبب الشلل وعلّة المرض.

فهو بالتالي إمّا أن يكون قادراً على التصرّف واتّخاذ الموقف، فهو محاسَبٌ ملعون، لا فرق بينه وبين أيّ عامدٍ قاصدٍ مباشرٍ بالقتال، سيّما هؤلاء المشايخ الّذين حضروا الطفّ وسمعوا واعية الحسين (علیه السلام) ، ومَن سمع واعية الحسين ولم ينصره أكبّه الله على منخريه في النار، ولا أناله الله

ص: 121

شفاعة النبيّ وآله (صلی الله علیه و آله) .

وإمّا أن يكون مشلولاً عاجزاً لا يقوى على اتّخاذ الموقف، فهو معذور، ولا قائل بذلك، فإذا كان الأمر كذلك فما فائدة تصنيفهم والتبرير والتسويغ لهم؟

المناقشة الخامسة: الشلل النفسيّ غطاء

حينما نراجع الأمثلة المذكورة للشلل النفسيّ، كموقف ابن عمر وموقف هؤلاء الأشياخ وموقف هرثمة بن سليم ((1)) وغيرها، نجد التعبير بالشلل النفسيّ إنّما هو تعبيرٌ آخَر عن الجبن، وحبّ الدنيا، واستبدال الّذي هو خير بالّذي هو أدنى، والخذلان، والإخلاد إلى الطين، والتثاقل، والرضى بالدنيا الذليلة الخانعة، والركون إلى الظالم والرذيلة.. فلماذا نلبسه لباس المرض ونُدخله دائرة العجز ونسمّيه شللاً، ولا نسمّيه توانياً وتماهياً وارتماءً في قيعان الرذيلة والسقوط والانحطاط والانحدار واقتحام جهنّم والنيران،والقبول بسوء العاقبة والتماس القذر العاجل المنتشر في غابة القرود على حساب الفضيلة والتمسّك بأغصان شجرة طوبى والخلود في النعيم السرمديّ الخالد إلى الأبد؟

إنّه ليس شللاً ولا مرضاً، وإنّما هو موقفٌ قائمٌ على أُسس الأخلاق الذميمة من قبيل الجبن وحبّ الدنيا، وناتجٌ عن وضع نفسيّ يرجّح البقاء

ص: 122


1- أُنظُر: مع الركب الحسيني: 1 / 133 وما بعدها.

مع الوحوش في الدنيا، والرضى بالعيش التافه على السموّ والرقيّ والتمسّك بالأخلاق الحميدة والرضى بما عند الله واختيار جوار النبيّين والصالحين عند مليكٍ مقتدر.

إنّهم خُيّروا بين الدنيا والآخرة، فاختاروا الدنيا، وخُيّروا بين الجنّة والنار، فاختاروا النار.. فهم قد اختاروا الدنيّة، فأين الشلل وهم قادرون على الاختيار؟! بل قد اختاروا!

المناقشة السادسة: تصريحه بمراده

تكلّم الفرزدق عن السيوف المشهورة على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو لا يريد الإخبار عن المتخاذلين، ولا الحديث عنهم، فشاهر السلاح لا يُعَدّ متخاذلاً، وإنّما يحسَب في عداد المحاربين..

إلّا أن يقال: إنّ هذا نمطٌ من أنماط التعبير، ولا يقصد بإشهار السيوف المقاتلين بالفعل، ولكن لا يساعد عليه السياق، ومقام الجواب، والإخبار عمّا خلّف وراءه، ووصف المشاهدة الّتي عاينها في الكوفة.

المناقشة السابعة: ازدواجيّة الفرزدق

إذا كان المقصود من العبارة هو التعبير عن الازدواجيّة، فإنّ الفرزدق هو نفسه من مصاديق هذا التشخيص، سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار شاعريّته وشعره الباطل الكثير الّذي يتقمّص في كلّ قصيدة، وربّما في كلّ بيتٍ فيه شخصيّة، ويتلبّس في كلّ موقفٍ من مواقفه شخصيّةً تختلف

ص: 123

تماماً عن الأُخرى، بالخصوص حينما نراه يمدح ويذمّ شخصاً في يومٍ واحدٍ أو في موقفٍ واحد، وليس هذا النموذج بعزيز لمن قرأ ترجمته، وهو لا شكّ من الخاذلين، فهو إذن قد ابتلي بنفس البلاء، وهو أيضاً مزدوج الشخصيّة.

فكيف يمكن الاعتماد على تقييم إنسانٍ مريض، لا ندري بأيّة شخصيّةٍ من شخصيّاته نطق، ولا نعرف التقييم قد صدر في حال تقمّصه شخصيته السويّة -- إن كان لشاعرٍ متبذّلٍ ينظم أكثر شعره في الباطل شخصيّةً سويّةً يمكن أن تستمرّ معه -- أو شخصيّته المنتحلة، ولا يمكن التثبّت منه إذا كان قد عبّر عن إفرازات عقليّته الحاكمة في مساحة القلوب الّتي مع الحسين (علیه السلام) ، أو عقليّته الّتي حكمت شخصيّته الّتي تدعو لأن تكون السيوف عليه؟!

وستأتي تتمّة للكلام فيما يأتي من البحث إن شاء الله (تعالى).

الومضة العاشرة: الفعل تعبيرٌ عن الكوامن

ربّما يُبتلى الإنسان بالنفاق، وهو أن يُبطِن الكفر ويُعلن الإسلام، فيكون بينهما، فربّما سلك سلوك الصالحين نفاقاً ورياءً، بَيد أنّ الحالة الّتي عرضها الفرزدق لا يمكن أن يصدق عليها النفاق بالدقّة، لأنّهم يضمرون -- حسب فرضه -- الإيمان ويعلنون الكفر، وهو ليس من التقيّة في شيءٍ جزماً!

وحينئذٍ لو شكّكنا في باطن أحد، بل حتّى لو زعم أنّه يحبّ أحداً، ثمّ سلك معه سلوكاً يناقض الحبّ وينقضه، فهل نصدّق سلوكه أو زعمه؟

ص: 124

يقول: إنّه يحبّ الإمام الحسين (علیه السلام) ، ثمّ يعدو عليه فيقتله، أو يشارك في الحرب عليه، ويشهر عليه سيفه، فهل نصدّق زعمه أو نصدّق فعله؟ كيف وقد أخبر عن زعمه غيره!

هذا هو الفرزدق يخبر أنّ القلوب مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد كذّبوه بأفعالهم حيث جعلوا السيوف عليه بشهادة الفرزدق نفسه.

بل يمكن أن يقال: إنّ كلام الفرزدق يكذّب بعضه بعضاً، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان يحبّ أحداً ويشهر عليه السيف ويبادر إلى قتله ويقتله في نفس الوقت، إلّا في بعض الموارد الاستثنائية، وهي في الحقيقة ليست قتلاً من باب العداوة، كما لو أقام شخصٌ الحدّ بأمر الإمام (علیه السلام) على رجلٍ قد اقترف ذنباً وتاب منه، وجاء عند الإمام (علیه السلام) ليطهّره، فهو إن أقام عليه الحدّ يبقى على حبّه له، والحدّ هنا ليس مظهراً من مظاهر العداوة، بخلاف ما فعلهالأوباش الّذين أخبر عنهم الفرزدق، فإنّه أخبر عن أُناسٍ قتلوا حبيب الله وحبيب رسوله ظلماً وعدواناً وسبوا عياله، فهل يمكن أن يكونوا يحبّونه وهم يرتكبون في حقّه الجريمة العظمى؟

أخبر عنهم الفرزدق أنّ قلوبهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو فردٌ واحد، وقد أظهروا بفعلهم العداوة والبغضاء وشهروا السيوف، فهل نصدّق خبر الفرد الواحد ونكذّب شهادة الآلاف؟

ص: 125

الومضة الحادية عشر: تناقض إخبار الفرزدق وتصريحات القوم

إنّ الفرزدق أخبر عن قلوب الناس، والناس من أهل الكوفة بالذات، وهم الّذين شهروا سيوفهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) على وجه التحديد، وقد كذّب هؤلاء القوم أنفسهم كلام الفرزدق، فأعلنوا عداوتهم وأصحروا وقالوها بملء أفواههم وصرخوا بها في وجه حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ولطالما أبدوا له صفحتهم وعادوه بغضاً له ولأبيه، ولكثر ما تنكّروا له وتنكّروا لمقامه وقرابته وقربه من النبي (صلی الله علیه و آله) ، فمن الغريب أن نقول لهم: إنّكم مخطؤون، لأنّ الفرزدق أخبر عن قلوبكم وقال: إنّها مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فنصدّق الفرزدق فيما أخبر ونكذّبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم!!

إنّهم أعلنوا أنّهم يبغضون الإمام (علیه السلام) ، ويبغضون أباه (علیه السلام) ، وأكّدوا قولهمبأفعالهم، فهل نتجاهل ذلك كلّه ونقول: إنّ الغير قد أخبر عن قلوبكم، وأنّكم تحبّون الإمام (علیه السلام) ؟

الومضة الثانية عشر: إخبار فرد

يبقى إخبار الفرزدق إخبار فردٍ واحد، وهو شاعرٌ بما تحمل هذه الكلمة من معانٍ سلبيّة، فلا نقول ذلك تهاوناً وامتهاناً لحقّ الشاعر المؤمن الموالي الملتزم بالحقّ وحدوده، وإنّما نقصد به الشاعر المهزوز الّذي يلهث وراء اللذّات والشهوات، ويتسكّع في البلاطات، ويحيك السراب والكذب في صور خدّاعة خلّابة، إلى آخر ما يُعرَف في الشاعر الّذي يحترف الشعر

ص: 126

ويستأكل به ويتعيّش عليه، وغيرها من الصفات الّتي تجعل شخصيّته في المجتمع معروفة للقاصي والداني.

ولو فرضناه إنساناً سويّاً، يبقى هو فردٌ واحدٌ له حجمه الخاصّ، فهل تُبنى المواقف وتؤسَّس النظريّات ويُحكَم على المجتمع والأفراد والجماعات من خلال تقييمه، ويفسّر قيام الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويفسّر موقف أعدائه، والجيش الّذي عدا عليه فقتله وسلبه وسبى بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتفهّم نفسيّاتهم، ويحكم على أفعالهم بما قاله الفرزدق؟

تذكير مهمّ:

سمعنا في أخبار الطائفة الأُولى لفظاً ربّما وافق الواقع، وربّما لا يلزم منهأكثر الإشكالات أو الأسئلة الّتي يمكن أن تعترض أخبار بقيّة الطائفة الثانية، وقد وردت في مصادر مهمّة وقديمة، بل ربّما كان بعضها هو الأقدم، فهل ثمّة ضرورة تدعو للالتزام بهذا التعبير بالذات؟

الخامس: دعاء الفرزدق

فقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ ((1)) يا ابن رسول

ص: 127


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.

الله! ((1))

وقال له: أعطاك الله سؤلك، وبلّغك مأمولك في جميع ما تحبّ ((2)).

ورد لفظ الدعاء عند الطبريّ ومَن تلاه، كما يبدو من مراجعة المصادر حسب فحصنا، وهو يحتمل أن يكون دعاءً عامّاً قدّمه الفرزدق كأدب وتوطئة لافتتاح الكلام مع أمير الكلام، ويُحتمل أن يكون دعاءً يتعلّق بالموقف خاصّة، فهو يرى الإمام (علیه السلام) عازماً على المسير، ومتوجّهاً إلى غاية وبلد، فدعا له أن يعطيه الله سؤله ويبلّغه مأموله في حركته تلك، وقوله: (في جميع ما تحبّ) يمكن أن ينسجم مع الاحتمالين.

السادس: ما أعجلك؟

اشارة

ما أعجلك عن الحجّ (الموسم)؟ فقال: «لو لم أعجل لَأُخذت ((3))

ص: 128


1- مثير الأحزان لابن نما: 20.
2- الفصول المهمّة لابن الصباغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
3- مثير الأحزان لابن نما: 20، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.

أخذاً» ((1)).

سؤال جاش في الصدور، وتلجلج على الألسن تارة، وقفز من بين الشفاه أُخرى، وكان الفرزدق ممّن أصحر به..

لقد كان الإمام (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مقيماً في مكّة منذ شهور، ومكّة حرم الله الآمن للمخلوقات، فلماذا عجّل وهاجر وخرج منه؟

وعلى حدّ قول من ذهب إلى أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما توجّه نحو مكّة، وكان مقيماً فيها ليستقطب الناس، ويحدّثهم ويعقد فيها اللقاءات والحوارات، ويُقنِع من يقتنع منهم.

(وكان قصده الرئيسيّ في التوجّه إليها هو إبلاغ وفود العالم الإسلاميّ من المعتمرين والحجّاج بقيامه ونهضته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلباً للنصرة وإتماماً للحجّة على الناس) ((2))..

فقد كان الأحرى أن يبقى الإمام (علیه السلام) فيها أيّام الموسم وأداء النسُك، إذ أنّها أيّامٌ معدودات يجتمع فيها أهل الموسم في أوقات وأماكن ومواقفمحصورة محدودة، يتسنّى لمن أراد أن يبلّغهم شيئاً أن يبلّغهم جميعاً في مقامٍ واحد، فإذا اجتمع الناس في عرفة فإنّهم سيقفون جميعاً في مساحةٍ محدودةٍ

ص: 129


1- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
2- أُنظُر: مع الركب الحسيني: 2 / 17.

وفي وقتٍ محدودٍ بين الظهر والمغرب، وكذا في المزدلفة حيث يبيت الحاجّ ليلته حتّى الصباح، وفي منى يجتمعون يوم العيد جميعاً عند الجمرة الكبرى، وهو مكانٌ محصورٌ مضبوطٌ محدَّدٌ يقصده كلُّ حاجّ خلال فترة زمنيّة محدودة..

جميع هذه المواقف والأيام المعدودات تعَدّ فرصةً استثنائيّةً لتحقيق الغرض المذكور، فلماذا خرج الإمام (علیه السلام) ؟

بين خروج سيّد الشهداء وغريب الغرباء (علیه السلام) من مكّة وبين تمام انقضاء مناسك الحجّ أيامٌ لا تتجاوز الخمسة، أي: أقلّ من أُسبوع، أوَليس هذا تعجّلٌ في الخروج؟

وماذا كان يختلف في موازين (النهضة) لو تأخّر الإمام (علیه السلام) في مكّة، فالتقى الناس واستنصرهم واستنهضهم، وهو مقبلٌ على ما هو مقبلٌ عليه؟ وقد ورد عليه كتاب المولى الغريب (علیه السلام) يقرّر له وجود عددٍ معتدٍّ به زهاء ثمانية عشر ألف مبايع، وهو منهم على شكّ، وهم ليسوا بمستوى الوثوق، وقد أكّد الإمام (علیه السلام) ذلك من خلال إرساله مبعوثه الخاصّ مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ليتوثّق من نواياهم، وهو يعرفهم ويعرف تاريخهم، وقد حذّرهمنهم أغبى الخلق ابن عمر، وغيره من قبيل ابن عبّاس وغيرهما، فلو تريّث الإمام (علیه السلام) في مكّة الحرم الآمن، واستقطب السيوف والقلوب، وجهّز لنفسه عسكراً يجرّه من ورائه، ويدخل بهم الكوفة فاتحاً مظفّراً، ولو خانه أهل الكوفة ومَن وعده النصرة منهم، فإنّ فيمن حملهم معه من سائر المسلمين

ص: 130

كفاية.

أضف إلى أنّ تأخّره في مكّة سيكشف -- والكلام دائماً بغضّ النظر عن علم الإمامة ووفق الحسابات الظاهريّة -- أهلَ الكوفة أكثر، وما كانت إلّا أيّامٌ معدودات حتّى كشّر القوم عن أنيابهم، وتنكّروا له، وانقلبوا إلى غابة القرود، وخذلوا سفيره وأسلموه للسباع الضارية، وكانوا بين مقاتِلٍ له وبين متفرّج شامت..

ولو لم يلتحق به الحجّاج والمعتمرون لَعادوا إلى بلدانهم وأخبروا من كان قبلهم، وحملوا لهم استنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فكان فيهم مَن يستجيب ويخرج ليلتحق بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان أبلغ في إقامة الحجّة وإتمامها.

* * * * *

وكيف كان، فإنّ مَن أقام في مكّة زهاء مئةٍ وخمسين يوماً أو أكثر، بقصد استقطاب الناس وإقامة الحجّة عليهم، يبقى خمسة أيّامٍ أُخرى لإتمام الحجّة وتوظيف الفرصة.وإنّ من يقدم على (نهضة)!! لا يستعجل الزمن قبل أن يستوفي اللوازم والمؤهّلات والكادر والجمهور المطلوب، ويزيد لا زال في أيّامه الأُولى، والبلاد -- حسب ما يُقال -- تعيش فراغاً وتخلخلاً وتزلزلاً يسمح بالتواصل مع بقية البلدان، وتجييش العواطف، ورصّ الصفوف ورصف الأفكار، وفضح العدوّ وكشف الزيف، والدلالة على المحجّة وشرح مفاصل

ص: 131

المشروع!! وتوضيح الشعارات والأهداف والأغراض، وما إلى ذلك..

فتأخير الحركة من صالح النهضة، حسب مجريات الأحداث ومقتضيات النهضات، وتأخيرها زهاء خمسة أيّامٍ أو ما يقارب ذلك إن لم يكن نافعاً فإنّه لا يضرّ.

وبغضّ النظر إن كان التأخير صالحاً أو لا، فإنّ استعجال الخروج من مكّة في تلك الأيّام بالخصوص ولّد سؤالاً عريضاً استولى على الأذهان، وإنّما أصحر عنه الفرزدق فسأل، كما سأل غيرُه، أو كما استمهله غيره..

سيّما وقد ذكر الإمام (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه قدم مكّة عائذاً بالله لائذاً ببيته كما قال للأشدق، وأنّه مقيمٌ في مكّة ما أحبّه أهلُها ومنعوه ودفعوا عنه ولم يخذلوه كما قال لابن عباس وابن عمر، وكان يمارس حياةً طبيعيّةً في مكّة، ليس فيها نشاطٌ واضحٌ ضدّ السلطة، ولا تحريضٌ عليها، ولم يؤلّف تشكيلاتٍ ذات طابع خاصّ، ولم يحدّثنا التاريخ بتجمّعاتٍ وحركاتٍ مركّزة تتجمهر فيها الناس، تثير الالتفات وتهيّج السلطة وتدعوها للهلعوالحذر والخوف ومحاولة الإمساك بالوضع المنفلت، فإنّ مكّة كانت قبل دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) كما هي حينما أقام بها، وهي كذلك عند خروجه منها، تعيش حياتها الطبيعيّة في ازدحامٍ معتاد، بين متبضّع في السوق ومستطرقٍ وطائفٍ وعاكفٍ ومجاور، من دون أيّ انفلاتٍ أمنيّ أو سياسيّ أو اجتماعيّ ملحوظ، أو ضجيج وغليان سوى ضجيج المعتمرين

ص: 132

والحجيج، فهي ليست كالكوفة، وليس فيها مَن انقسم، ولم تكن فيها فئةٌ أعلنت النصرة والبيعة -- ولو كذباً -- بحيث تنكث بعد أيّام أو قبل خروج الإمام (علیه السلام) مثلاً، وطائفة أُخرى موالية للسلطان، وإنّما كان الجميع كلٌّ على خطّه، والجميع داخلٌ في بيعة يزيد الخمور، فلماذا استعجل الخروج؟

إنّه سؤالٌ يتطلّب ذكر مقدّماتٍ كثيرة لطرحه وللإجابة عليه، بَيد أنّنا سنختصر الكلام، ونؤجّل التفصيل إلى محلّه، ونقتصر على ذكر جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه -- فداه العالمين --، بعد التنويه إلى بعض الإشارات المجمَلة.

الإشارة الأُولى: لا حاجة إلى البحث في التوقيت

قالوا: لمّا كان خروج الإمام (علیه السلام) بأمرٍ إلهيّ، وكانت في جميع مراحلها ومفاصلها وتفصيلاتها ذات بُعدٍ غيبيّ، فلا ينبغي البحث في التوقيتات، وسببِ خروجه من مكّة قبل الحجّ وما شاكل، فإنّ جميع ما فعل سيّدالشهداء (علیه السلام) إنّما فعله بأمر الله وانتهى.

وهو كلامٌ صحيحٌ ومتين، يقوم على أساس التفسير الغَيبيّ والتعبّديّ للقيام الحسيني، وهو تفسيرٌ صحيحٌ ومتين، غير أنّه لا يمنع عن البحث في الحكمة والأسباب حسب ما تبلغه عقول البشر كاحتمالاتٍ غير جزميّة، إلّا ما يكون مستنداً إلى نصٍّ شرعيّ مقدّس.

أضف إلى ذلك أنّنا بنينا بحثنا هنا على أساسٍ تاريخيّ، بغضّ النظر

ص: 133

عن العامل الغيبيّ والتعبّدي، مع اعتقادنا التامّ به وتسليمنا له تسليماً مطلقاً، فلا يمنع اختلافُ اللحاظ الخوضَ في بحث التوقيتات على أساس الظواهر ومجريات الأحداث والبعد الظاهري للقيام، سيّما أنّ هذا المقطع بالخصوص فيه جوابٌ منصوصٌ -- تاريخيّاً -- عن سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإشارة الثانية: أجوبةٌ منوّعة

ربّما نجد أجوبةً مختلفةً ومتنوّعةً لهذا السؤال، يقوم البعض منها على أساس التحليل والتعليل وإعمال النظر والتأمّل والتفكير في مجريات الأحداث وجديد الحوادث، من قبيل محاولة اغتنام الفرصة في الكوفة، وتوظيف العامل البشريّ الّذي أعلن البيعة قبل أن يرتدّ، وهو صاحب السوابق المعروفة، أو اغتنام الفرصة وتوظيف الفراغ الحاصل في الكوفة واضطراب الأوضاع وظهور بوادر التمرّد وخلع ربقة الذلّ ونير العبوديّة للقرود الأُمويّة، أو الاستجابة لدعوة المولى الغريب (علیه السلام) إذ طلب في كتابهمن الإمام (علیه السلام) أن يعجل، وما شاكل، وكلّها يمكن أن تصحّ، وأن يكون لها أثرٌ في تعجيل الخروج، ويمكن أن تكون جميعها عوامل مجتمعة مع غيرها من العوامل الأُخرى أدّت إلى التبكير بالخروج..

بيد أنّنا نجد في هذا النصّ تصريحاً من سيّد الشهداء (علیه السلام) يغني عن تلك التحليلات والاحتمالات، فلنستمع الجواب من سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، كما جاء في هذا النصّ:

ص: 134

جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) :

فقال: «لم آمنهم يا أبا فراس ((1))، لو لم أعجل لأُخذتُ ((2)) أخذاً» ((3)).

لقد أشرنا في أكثر من موضع أنّ الّذين خمّنوا الوضع ودرسوه وتابعوا سير الحوادث وقايسوها إلى الماضي، من قبيل ابن عبّاس وابن عمر والفرزدق وغيرهم، اقترحوا على سيّد الشهداء (علیه السلام) أن لا يعجل في خروجه من المدينة، أو من مكّة، وكان في حسابهم أن يتريّث سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وزعموا -- كما زعم غيرهم -- أنّه إن بقيَ في مكّة فهو سيّد العرب وهو ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فلا يناله غلواء القرود المسعورة ما دام في حرم الله الآمن أو في حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وحسبوا أن لو بقي الإمام (علیه السلام) مدّةً في مكّة أو خرج إلى اليمن مثلاً، فإنّه سيجمع الأنصار ويحرّض الناس على يزيدويدعوهم إلى نفسه.

وكلّما حدّثهم سيّد الشهداء (علیه السلام) وشرح لهم إمامُ الأُمّة وأبان لهم ما

ص: 135


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.
2- مثير الأحزان لابن نما: 20، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
3- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

يتعرّض له من تهديدٍ جدّيّ ظاهرٍ لكلّ مراقب، رجعوا إلى كلامهم الأوّل، ولعلّ في ما رواه ابن أعثم من حوارٍ بين ابن عبّاسٍ وابن عمر من جهة والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من جهةٍ أُخرى شاهدٌ واضحٌ جدّاً، إذ يشرح لهم الإمام (علیه السلام) الظروف، وأنّه أُخرج من المدينة بعد أن أزعجوه وطاردوه وأرعبوه وأخافوه وغيرها، وأنّه مقيمٌ في مكّة ما أحبّه أهلُها ودفعوا عنه ومنعوه، وكلامٌ آخَر صريحٌ وواضح، وبعد أن ينتهي الإمام (علیه السلام) من كلامه في كلّ مرّةٍ يعود ابن عمر ليقول له: لو دخلتَ فيما دخل فيه الناس، ورجعتَ إلى المدينة! ويؤكّد له الإمام (علیه السلام) أنّ القوم لن يتركوه حتّى لو بايع، فيعود ابن عمر إلى منواله الأوّل ويتغابى ويكرّر نفس الكلام، ويعرض عليه أن يعود ولا يناول، وهكذا..

عجيبٌ والله أمر هؤلاء الناس! لا ندري أهُم في حيرةٍ من أمرهم، لأنّهم يرون بأعينهم أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) معرَّضٌ للقتل ولا تسمح نفوسهم بنصره حبّاً في الدنيا أو رضوخاً للظالم وخوفاً منه، أو أنّهم يسعَون إلى ما يسعى إليه العدوّ، ولكن بسهامٍ ناعمة، أو أنّ الحدث أكبر منهم فلا يستوعبونه، أو أنّهم أطوارٌ وأشكال، ولكلّ واحدةٍ من هذه الاحتمالات وغيرها رجالٌ ومصاديق من بين من كلّم الإمام (علیه السلام) .. اَلله العالم!يبدو في تقديرات هؤلاء وأمثالهم أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في المدينة من قبل، واليوم في مكّة، أصلح وأنفع.. وراحت كلماتهم تسري حتّى صارت

ص: 136

مقياساً يُقاس إليه فعل الإمام (علیه السلام) ، ومنطلقاً لفهم حركة الإمام (علیه السلام) وتحركاته وتنقّلاته واختياراته في الخروج من بلدٍ إلى بلد، وتوقيتاته..

فليقدّروا ما شاء لهم التقدير، وليتصوّروا ويصوّروا ما شاء لهم التصوير، وليفسّروا وليقترحوا ما بدا لهم، فإنّ صاحب الأمر أعرف بما يفعل!

إنّ الحصار قد أطبق على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو يعرف أهل البلدان جميعاً، يعرف أهل المدينة، فقد وُلد وكبر فيها -- بحساب السنين من العمر الدنيوي --، ويعرف أهل مكّة، فإنّها أصله ومنبت شجرته، ويعرف أهل اليمن، ويعرف أهل الكوفة، وقد عاشهم وعالجهم ومارس معهم كلّ صنوف التعاملات، بغضّ النظر عن كونه إماماً، وأنّه أعرف الخلق بالخلق، فإنّ الناس على الإطلاق، كبيرهم وصغيرهم، وجيههم ووضيعهم، شريفهم ودنيّهم، جميعاً يقرّون أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) هو أعلم الناس، وأعرف الناس بالناس، وأنّه سيّد العرب وسيّد الناس، فهلّا استمعوا إليه، وتركوا تخرّصاتهم وظنونهم؟!

أيعرف ابن عمر وابن عبّاس والفرزدق أنّ مكّة بلدٌ آمِن، وأنّ الحجيج يجتمع تلك الأيام في صعيدٍ واحد، ولا يعرف ذلك سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ؟لا قائل بذلك، معاذ الله! إلّا بعض الجهّال من ذوي الإدّعاءات الباطلة الّذين عاصروا الإمام (علیه السلام) ، ولا نسمّيهم.

فلْيقل القائل بتقديراته وحساباته الفاترة الباهتة القائمة على أُسس

ص: 137

المشاهدات والظنون والتخمينات والخيالات الباطلة: إنّه لو بقي أيّاماً وتريّث قليلاً كان خيراً له ...

أيصدقون في تقديراتهم فنقبلها! ونتغافل أو نتجاهل ما شاهده الإمام (علیه السلام) ولمسه ورآه رأي العين؟! وقلنا: بغضّ النظر عن إمامته، فهو الرجل العظيم الخبير العالم العارف بزمانه، لقد رآى الإمام (علیه السلام) ما رأوه، فتغافلوا لأيّ غرضٍ وسبب، ولو كان من باب عجز بعضهم أن يجد للإمام (علیه السلام) مخرجاً من أمره، فاختار التريّث والبقاء في مكّة لظنّه أنّه أسلم الخيارات، وأكثرها أمناً واطمئناناً.

بيد أنّ الإمام (علیه السلام) يعلن بصراحةٍ واضحةٍ أنّه لا يأمنهم.. لا يأمنهم! إنّهم يسابقون الزمن، ويركبون كلّ صعبٍ وذلول، ويطوُون السماء والأرض، ويطيرون بكلّ جناح، ليبلغوا في ريحانة النبيّ الإمام الحسين (علیه السلام) غايتهم ومأربهم.. لا مكّة، ولا غير مكّة عندهم تقي سيّد الشهداء (علیه السلام) من سيوفهم ووحشيّتهم وجرأتهم على الله، إنّ مَن لم يحفظ حرمة الدم المقدّس، أيحفظ حرمة الأرض والأحجار الهامدة؟!!

إن هي إلّا أيّامٌ قلائل قد لا تبلغ الأُسبوع، بين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) وبين انقضاء مناسك الحجّ.

أجل، فقد خرج (علیه السلام) في الثامن من ذي الحجّة، وأقصى ما يحتاج إليه الحاجّ لأداء المناسك هو اليوم الثالث عشر، فهي خمسة أيّامٍ فقط، خمسة

ص: 138

أيّام! وقد بقيَ سيّد الشهداء (علیه السلام) زهاء مئةٍ وخمسين يوماً في مكّة قبل ذلك، ولكنّ الموسم أصبح خطراً حقيقيّاً جدّيّاً على حياة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

إنّه إن بقيَ أيّام الموسم يعني أنّه قد أغرى العدوّ بنفسه، يعني أنّه قد استسلم للخطر الجزميّ القطعيّ المُحدِق به، يعني أنّه يُؤخَذ أخذاً!

يؤخَذ أخذاً.. كلمة تفيد المباغتة، تفيد الأخذ بقوّة، تفيد السرعة في الأخذ، تفيد الأخذ بشكل يمنع الدفاع عن النفس، تفيد الانتهاء من الأخذ قبل ترتيب أيّ ردّة فعل ...

أُخذتُ أخذاً.. أتعني: قُتلتُ مباغتة؟ اغتيالاً؟

أُخذتُ أخذاً.. أتعني: أن يؤسَر ويقيَّد، فيُقاد إلى القرد البغيّ، تماماً كما عزموا على فعلها مع أخيه السبط الأكبر (علیه السلام) ، فأرادوا أن يقيّدوه ويحملوه إلى معاوية، ثمّ إمّا أن يقتله أو يمنّ عليه فيطلقه، كما قال الإمام الحسن (علیه السلام) نفسه..

أيُقتَل أبو عبد الله بين الحجيج بنشّابةٍ غادرةٍ طائشة، إن في المواقف، أو في بيت الله الحرام، فتُهتَك حرمة دمه وحرمة البيت الحرام، ولا يسمع له حسيسٌ ويضيع دمه بين مئات الحجيج؟!ليس في الناس من يهمّه الأمر، سواءً أهل مكّة أو الحجّاج، فقد كانوا وكان الإمام (علیه السلام) بين ظهرانيهم، ولم يدفعوا عنه، ولم يمنعوه، ولم يحفظوا فيه جدّه، ولم يعرفوا حرمته، تماماً كما فعلوا مع أُمّه وأبيه وأخيه (علیهم السلام) ، بل وجدّه (صلی الله علیه و آله) أيضاً..

ص: 139

فلو أُخِذ الإمام (علیه السلام) أخذاً، أكان فيهم من تحركه حفيظة، أو تدفعه حميّة، أو تدعوه غيرة على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى العهود والمواثيق الّتي ألزمتهم الدفاع عن أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم؟!

لو كان الأمر كذلك لَما ضيّعوه وخذلوه، وتركوه يخرج من المدينة أو من مكّة (خائفاً يترقّب، ويتكتّم).. يتلو قوله (تعالى): ﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفَاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ﴾..

لقد رأى سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّهم جهدوا ودبّروا وأعدّوا واستعدّوا في مكّة، وفي أيّام الحجّ وأداء المناسك، حتّى ما عاد يأمنهم، وأنّه لو بقيَ لَأخذوه أخذاً.. هذا هو تقدير سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو المقصود بالأحداث، والأعرف بأحوال الناس كزعيمٍ دان له جميع المعاصرين أنّه سيّدهم وأعرفهم، ودائماً بغضّ النظر عن الإمامة، فلْيقدّر الفرزدق وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم ما يقدّرون، ويخمّنوا ما يخمّنون، ولْيحتملوا ما يحتملون، ويقترحوا ما يقترحون، ولْيقولوا ما يقولون، ولْيتقوّلوا ما يتقوّلون.. هذا هو ماقاله سيّد الشهداء (علیه السلام) وقدّره، إن بقيَ ولو في الأيّام القلائل الباقية فإنّه يُؤخَذ أخذاً!

يا لَها من مصيبةٍ عظيمةٍ في السماوات والأرضين، خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) بإجماع المسلمين، ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابنه وابن بنته وابن

ص: 140

وصيّه وابن خليفتهم، وسيّد شباب أهل الجنّة، لا تكون له مكّة أمناً، ولو بقي فيها -- ولو أيّاماً -- فإنّه يؤخَذ أخذاً!

لقد خرج الإمام (علیه السلام) من المدينة بعد أن بيّتوا له ودبّروا قتله، وخرج من مكّة بعد أن بيّتوا له ودبّروا قتله، وصار البقاء فيها يعني أخذه أخذاً.. وليس هذا فرارٌ من الموت، ولا فرارٌ من الزحف، لقد خرج جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسيّد الكائنات من مكّة تحت جنح الليل بعد أن بيّتوا ودبّروا قتله إلى المدينة، وما أكثر الشواهد والأدلّة على ذلك في تاريخ الأنبياء والأوصياء، كقصّة موسى الّتي تلا الإمام (علیه السلام) آيتها عند خروجه من المدينة.

إنّ دفع القتل عن النفس واجب، وليس فراراً، وقد صرّح الإمام (علیه السلام) في أكثر من موضعٍ ومع أكثر من شخصٍ أنّه لا يحبّ أن يُقتَل في مكّة، وأنّه إن قُتل خارجها بشبرٍ أحبّ إليه من أن يُقتَل فيها.

إنّ خروج الإمام (علیه السلام) في تلك الأيّام متعجِّلاً يعني أنّ القوم كانوا خلال فترة وجوده الشريف في مكّة يدبّرون ويخطّطون ويعدّون لقتله أيّام الحجّ، وفي أيّام أداء المناسك، إذ أنّه لم يتريّث، وإنّما استعجل الخروج لئلّا يؤخَذأخذاً..

* * * * *

لو فرضنا -- ونقول ذلك على نحو الفرض! -- لو أنّ كتاب المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لم يصل إلى الإمام (علیه السلام) ، ولو أنّ أهل الكوفة لم يَعِدوه النصرة والدفاع عنه، فإنّ الإمام (علیه السلام) -- حسب ما أجاب به الفرزدق -- كان

ص: 141

سوف يخرج من مكّة..

إلى أين؟ الله العالم.. لا ندري، ولا نريد أن نطيل المكث عند هذا الاحتمال، لأنّنا إنّما فرضناه لنعرف أنّ مكّة ما كانت لتسعه وتؤويه وفق ما قرّره الإمام (علیه السلام) ، فإنّه إن بقي بها لَأُخذ أخذاً، فهو لابدّ خارجٌ عنها، لأنّه لا يحبّ أن يُقتَل فيها.

بمعنى أنّ بقاءه في مكّة -- بناءً على سير الأحداث -- كان لا يُنتج سوى قتله، فكان المكث فيها بحجّة أنّها الأرض الحرام الّتي جعلها الله أمناً للعاكف فيها والباد، غيرَ مُجدٍ في تلك الساعات الحرجة.

* * * * *

ثمّ إنّ قوله: «لَأُخذت أخذاً»، مع حراجة الوقت وانشغال الناس بمناسك الحجّ، يفيد بوضوح أنّ القوم كانوا في سباق مع الزمن، وأنّ الساعات والأيّام كانت تؤثّر في الحسم النهائيّ والإجهاز على سيّدالشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّ المفروض أن لا يغادر الإمام (علیه السلام) مكّة أيّام أداء النسُك، كما هو تصوُّر كلِّ مَن تابع الأحداث، حتّى الفرزدق، فإنّه عجب من حركة الإمام (علیه السلام) وخروجه في تلك الأيّام، فخروجه يفيد أنّ تأخّره ولو ساعات في مكّة كان يعني تنفيذ القوم ما يريدون ويطمحون إليه ويطمعون به، وهو قتله (علیه السلام) ، فالوقت حرج، ولولا حراجة الموقف وتسارع الأحداث لَما تعجّل الإمام (علیه السلام) ، ولَمكث حتّى تنتهي المناسك، كما أشاروا عليه.

وبكلمةٍ واحدة: إنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في تلك الأيام (وهي لا تتجاوز

ص: 142

الخمسة) كان يعني قتله جزماً قطعاً بلا شكٍّ ولا تردّد، ولا يبدو أنّ ثمّة معنىً آخر لكلامه (علیه السلام) : «لا آمنهم، لو لم أعجل لأُخذت ((1)) أخذاً» ((2)).

أوَ بعد هذا الكلام الواضح الصريح، يسأل سائل: لمَ تعجّل الإمام (علیه السلام) الخروجَ من مكّة؟ لا نبحث عن أجوبةٍ وقد أجاب -- فداه روحي -- بنفسه على السؤال.

مِثلُ ابن فاطمةٍ يبيت مشرَّداً

ويزيدُ في لذّاته يتنعَّمُ

يرقى منابرَ أحمدٍ متأمِّراً

في المسلمين، وليس ينكُرُ مُسلمُ

ويُضيّق الدُنيا على ابنِ محمّدٍ

حتّى تقاذفهُ الفضاءُ الأعظَمُ

خَرَجَ الحسينُ من المدينةِ خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتَّمُوقد انجلى عن مكّةٍ، وهو ابنُها

وبه تشرَّفَتِ الحطيمُ وزمزمُ

لَمْ يدرِ أينَ يُريحُ بُدنَ رِكابِهِ

فكأنَّما المأوى عليهِ مُحرَّمُ

لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون..

فداك روحي يا غريب الغرباء، فداك العالمين يا حبيب الله وحبيب رسوله، وحبيبَ قلوب المؤمنين.. يا لها من مصيبة!

ص: 143


1- مثير الأحزان لابن نما: 20، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
2- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

السابع: اِتّقِ الله!

فاتّقِ الله في نفسك، وارجع ((1)).

لا نطيل المكث هنا، ولا نعلّق على كلام الفرزدق كثيراً، بَيد أنّ قوله: فاتق الله في نفسك، بعد أن قرّر للإمام (علیه السلام) أنّ السيوف مشهورةٌ عليه، والناس في صفّ بني أُميّة، فلا محيص من اجتناب هذا الجوّ الملتهب ضدّ إمام الحقّ، والذهاب إليه يعني المخاطرة بالنفس، ولذا اقتضى التنويه في نظر الفرزدق وغيره إلى حدّ التحذير بهذه الكلمات القاسية مع الإمام (علیه السلام) ، ففرّع بالفاء، ثمّ قال: اتّقِ الله في نفسك، وارجع..

إتّقِ الله في نفسك وارجع، بمعنى أنّ عدم الرجوع يخالف تقوى الله في النفس، وهو إلقاءٌ للنفس بالتهلكة، لأنّه يَقدِم على قومٍ لا يتورّعون عن قتله، بل إنّهم عازمون على ذلك، وقد شهروا سيوفَهم عليه، وأعدّوا واستعدّوا وتنقّبوا وتهيّؤوا لذلك..فلا نزيد هنا على أن نقول: أيبلغ سوء الأدب إلى هذا الحدّ للحديث بهذه الطريقة الّتي تنمّ عن الجرأة وتجاهل الشخصيّة العظيمة الّتي يخاطبونها؟ ودائماً نكرّر: بغضّ النظر عن اعتقادنا في الإمام (علیه السلام) ووجوب طاعته المفترضة من الله، وأنّه مخزن علم الله وعَيبته.. أما يعتقد الفرزدق فيه أنّه ابن رسول الله، وأنّه سيّد العرب، وأنّه العليم الخبير بالناس، وأنّه

ص: 144


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

أعلم منه وأخبر بأهل زمانه؟ فكيف يخاطبه بصيغة الأمر، ويحذّره بهذا الأُسلوب الوقح؟! ومن البعيد حمل كلامه على الترجّي والدعاء، فإنّ هؤلاء القوم اعتادوا التجاسر وعدم رعاية أحجامهم بإزاء الإمام (علیه السلام) ، وله -- كما سنسمع بعد قليل -- أنّه يقول: فلم يطعني ((1))، تماماً كما تعامل بوقاحةٍ معه ابن عبّاسٍ حين أراد أن يشبك يده في شعر الإمام (علیه السلام) ورأسه ليمنعه لو استطاع إلى ذلك سبيلاً وكان نافعاً مع الإمام (علیه السلام) ، على حدّ زعمه!!!

لك الله يا سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام الخلق أجمعين.. الفرزدق الشاعر يقول: لم يطعني، ويأمره أن يرجع، ويحذّره الله، ويقول له: اتّقِ الله في نفسك، وابن عبّاسٍ يريد أن يشبك يده في شعره، وابن عمر يأمره أن يطيعه، ويلبس له لبوس الناصح العارف الحكيم.. وليس فيهم أحدٌ يُدرك ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، ويتفهّم وضعه، ولا فيهم واحدٌ ينظر إلى الواقع كما ينظر إليه الإمام (علیه السلام) ، أو أنّهم لا يريدون ذلك!!

اَلله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

الطائفة الثالثة: يخذلونك، فلا تذهب

اشارة

• فقال لي: «ما ترى أهل الكوفة صانعين؟ فإنّ معي حملاً من كتبهم» ((2)).

ص: 145


1- أُنظُر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204، 304.

• قلت: يخذلونك، فلا تذهب ((1))، فإنّك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك. فلم يطعني ((2)).

• قلت: لا شي ء، يخذلونك، لا تذهب إليهم. فلم يطعني ((3)).

وقد مرّ معنا فيما سبق من البحث أكثر فقرات هذه الطائفة، لذا فإنّنا سنقتصر هنا على قدحاتٍ مستعجلة قد تساعدنا على استيعاب ما يميّز المتن عن سوابقه.

القدحة الأُولى: كلام سيّد الشهداء (علیه السلام)

القدحة ((4)) الأُولى: كلام سيّد الشهداء (علیه السلام)

لقد مرّ معنا كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل قليل، فلا نعيد، بيد أنّنا نؤكّد هنا أنّ في العبارة ما يثير في النفس الشجَن والحزن، وربّما أثار الغضب والغيرة على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لِما في صياغة العبارة من إيحاءٍ سلبيّ

ص: 146


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304.
4- قَدْحةٌ وقُدْحة، أي: غُرْفةٌ، القَدْحة: المرّة الواحدة من الفعل، والقُدْحَةُ: ما اقْتُدِحَ، يُقال: أَعطني قُدْحَةً من مَرَقَتِكَ، أي: غُرْفةً (أُنظُر: لسان العرب).

يُفتضَح ويتهاوى ويضمحلّ وينماث ويتلاشى في معدن الإباء والعلموالعزّة الإلهيّة والأخلاق الربّانيّة، إمام الخلق سيّد الشهداء (علیه السلام) .. إذ أنّ في رنة السؤال وإيقاعه تنافرٌ وعدم انسجام، وتلبُّكٌ غير محمود، فالإمام -- حسب صياغة المؤرّخ -- يعرض كتب القوم، وأنّها بلغت حملاً، والمشهور في المتون التاريخيّة أنّها حملان، ثمّ يتساءل: ما ترى أهل الكوفة صانعين؟

الحيرة المخيّمة على الموقف، والتيه المظلّل على الأجواء، وظلاميّة المستقبل الّذي لا يمكن استشرافه، واليأس والعجز، والتلبّك باديةٌ لمَن لمس السؤال ومقدّمته لمس استشعارٍ وتأمّلٍ وتحسّس ((1))، وحاشى لسيّد الكائنات في عصره، والعالم بالله، والإمام المعصوم (علیه السلام) ، بل حتّى لو أغمضنا النظر عن الإمام كإمام، ونظرنا إليه بمنظار المؤرّخ وغيره من المعاصرين للإمام (علیه السلام) ممّن لا يعتقد إمامته، فإنّ الجميع لا يشكّون ولا يتردّدون في علم الإمام (علیه السلام) وسيادته ومعرفته بزمانه، ومعرفته بأهل الكوفة وبالمكاتبين والمبايعين، وقد امتلأت صفحات التاريخ ببيانات الإمام (علیه السلام) في غير موضع

ص: 147


1- نستغفر الله، ونعتذر إلى مليكنا سيّد الشهداء (علیه السلام) من هذه العبائر، بَيد أنّها ضرورة البحث، ويعلم الله ورسوله وفاطمة الزهراء والأئمّة المعصومون (علیهم السلام) أنّنا نكتب مثل هذه الكلمات بيدٍ مرتعشةٍ وقلبٍ واجفٍ وروح وجلةٍ ونفسٍ مضطربة، حياءً وخوفاً، ولكنّ ضرورة البحث تضطرّنا، وأهمّيّة بيان المعنى المقصود تجرّنا، والله وآل الله أَولى بالعذر.

ومع غير واحدٍ أنّه لا يخفى عليه الأمر..

علاوةً على ما زوّده به سفيره وثقته مسلم بن عقيل (علیهما السلام) من تقريرٍ واضح المعالم، يصف له المجتمع كما هو، مع علم المولى الغريب والإمام الحسين (علیهما السلام) بحال أهل الكوفة جميعاً، مَن بايع، ومَن خذل، ومَن هو ثابتٌ على النصرة.كيف كان، فإنّ المشهد لم يكن ضبابيّاً ولا مغبّشاً ولا مُعتِماً، ولا يعتريه أيّ ارتباكٍ وارتجاج وارتعاش واهتزاز يمنع من وضوح الرؤيا بالنسبة لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، حتّى يسأل الفرزدق بهذه الطريقة المقذعة! وهو الإمام الحسين (علیه السلام) ، معدن الإباء والعزّ والشجاعة والعلم.

القدحة الثانية: لا شيء

ذكر ابن عساكر ومَن تلاه أنّ الفرزدق ابتدأ جوابه للإمام (علیه السلام) بقوله: (لا شيء) ((1))، ثمّ تبعها أنّهم يخذلون الإمام (علیه السلام) .. وإنّما كان ذلك في مقام الردّ على قول الإمام (علیه السلام) : «ما ترى أهل الكوفة صانعين؟ فإنّ معي حملاً من كتبهم» ((2)).

ص: 148


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204، 304.

يشعر الإنسان أنّ في الجواب (لا شيء) في الجوّ الّذي تكلّم فيه الإمام (علیه السلام) كما أشرنا إليه آنفاً، وتتمّة جواب الفرزدق، ما يمكن أن يعبّر عنه أنّه (نكبةٌ موجعة).

إيقاع الكلمة في تلك الأجواء إيقاع مهاجم مستهزئ ومتهاون، في تعبيره رنّة المباغتة لمغفَّلٍ لا يستفيق من الدوّامة الّتي استغفلته.. ونحن نستغفر الله من هذا الكلام، بيد أنّنا نشعر أنّ هذا هو مؤدّى كلام الفرزدق وأجواؤه، ونحاول تجنّب ذكر اسم الإمام (علیه السلام) لعلّنا نتباعد عن تجاوز حدودالأدب.

فالسؤال افترض أنّ حملاً من الكتب والوعود يستند إليها، ومع ذلك فالمشهد غائمٌ مجهولٌ لا يُدرى ما تفعل هذه الوعود والكتب، غير أنّ الاسترسال يقضي الاعتماد عليها، والإقدام بالاستناد إليها، فيجيب الفرزدق بوقاحة: (لا شيء).. إنّهم يخذلونك..

ما تراهم صانعين؟ لا شيء.. فجميع الحسابات لا شيء..

ولا نستطيع الاسترسال في بيان ما في هذه الكلمة من جرسٍ مزعجٍ منفِّرٍ مثيرٍ للتقزّز، وباعث على التعجّب من الأُسلوب البائس في اختيار الكلمات، وهو الشاعر الّذي يطوّع المفردات بين شدقيه أيسر من تطويع الخاتم في يده، ونخشى أن نستمرّ فنقع في تجاوز حريم الأدب مع زين

ص: 149

السماوات والأرضين.

القدحة الثالثة: يخذلونك، فلا تذهب إليهم

يبدو في هذا المتن أنّ جواب الفرزدق ليس تقييماً لأهل الكوفة جميعاً، كما هو ظاهر النصوص السابقة، وإنّما هو جوابٌ لبيان حال المكاتبين الّذين جمع الإمام (علیه السلام) كتبهم في حملٍ وعرضها على الفرزدق، وسأله: ماذا تراهم صانعين؟

فإذا كان المكاتِب المبايع هذا حاله، فغيره أَولى بالخذلان، ولذا عقّب بالنهي عن الذهاب إليهم..وهنا بتّ الفرزدق بالموقف، وأصدر نهيه بحسم، وتيقّن من الوقائع الّتي تنتظر الإمام (علیه السلام) ، وهو يقصد هؤلاء المكاتبين، وجزم بعاقبتهم.

يبدو أنّ الدلالات والإشارات والمؤشّرات كلّها كانت واضحةً لكلّ ذي عينين، وتاريخ أهل الكوفة يومها كان مكشوفاً، وسيرتهم الذاتيّة تحكم أنّ لاحق أيّامهم كسابقها، وهم نمطٌ واحد لا يتغيّر..

كما أنّ التكليف أمام هذا النموذج من البشر كان واضحاً عند الفرزدق وغيره، لذا نهى الإمامَ (علیه السلام) بضرسٍ قاطع عن الذهاب إليهم، فهو وإن عرف أهل الكوفة كما يزعم فنهى عن التوجّه إليهم، بيد أنّه لا يعرف أو لا يريد أن يعرف، أو أنّه كان بعيداً عن سير الحوادث في مكّة والمدينة، فهو لا يدري أنّ المكث فيها ولو أيّاماً يعني الخطر المحدق الجزميّ بالإمام (علیه السلام) ، وهو

ص: 150

حاله أين ما توجّه ذلك اليوم، غير أنّ الكوفة ليست كسواها، حيث كتب منها جماعةٌ يَعِدون النصرة ويُعلنون البيعة للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، وهم مَن عرفهم الإمام (علیه السلام) وخبَرَهم وعالجهم وحضر مشاهدهم بين يدَي أبيه أمير المؤمنين وأخيه الإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) ، فضلاً عن كونه الإمام العالم بالله، وأعرف الخلق بالخلق أجمعين، فأمرهم لا يخفى على الإمام (علیه السلام) ومصداقيّة كتبهم ووعودهم مكشوفةٌ لديه.

* * * * *وهنا أيضاً نواجه التعارض الّذي ابتلت به النصوص السالفة، فتقييم الفرزدق ونهيه عن الذهاب إليهم يعارض تماماً ما ذكره المولى الغريب (علیه السلام) في كتابه ودعوته الإمام (علیه السلام) أن يقدم عليهم، وهم لا يخفون على مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، السفير الثقة المؤتمن الّذي مارسهم ممارسة الخبير العالم العارف منذ أمدٍ ليس بالقريب.

لم يعتمد الإمام (علیه السلام) على ما في كتب المكاتبين، حتّى أرسل إليهم أخاه وثقته المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) يتوثّق منهم، ويرى توافق كتبهم مع مواقف ذوي الحجى والرأي فيهم، أيترك تقييم ثقة الإمام (علیه السلام) ومعتمده إلى تقييم الفرزدق ونهيه؟!

ثمّ إنْ خذل هؤلاء، فإنّ في الكوفة معدناً طاهراً فار منه تنّور الموالين من أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذين ثبتوا معه، من أمثال: حبيب، وعابس، وزُهير، وبُرَير، وغيرهم الكثير ممّن وثب للذبّ عن حرم الله وحرم

ص: 151

رسوله، وحفظ في النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولده، وأطاع وُلاة أمره، وهم يُقصَدون لانعدامهم في أيّ بلدٍ آخَر.

وما كان في البصرة من نبع هذا المعدن الطيب الطاهر فقد التحق بالإمام (علیه السلام) ، إمّا في مكّة، أو في الطريق، أو في كربلاء.

* * * * *

كيف كان، فإنّ في لحن الجواب -- كما يشعر به تركيب الجملة -جفوةً وقسوةً وأُسلوباً حادّاً، لا يتحسّس القارئ منه آثار التقديس والاحترام والتقدير، وموقع المتكلّم من فوق أو المساوي، فهو لا يُبدي رأياً، وإنّما يعيّن تكليفاً ويحدّد موقفاً يرى أنّ على الإمام (علیه السلام) أن يطيعه، لذا عقّب فقال -- وهو يروي الخبر -- : فلم يطعني!

القدحة الرابعة: قلوبهم معك، وأيديهم عليك

إنفرد -- حسب الفحص -- من بين من نقلوا هذا المتن البلاذريّ بزيادة: (فإنّك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك) ((1))، والمفروض أنّه الأقدم فيهم، وهي عبارةٌ لا تختلف كثيراً عمّا ورد في المتون السابقة، غير أنّها بحكم التفريع بالفاء تفيد التعليل للحكم الجازم الّذي أصدره، ونهى فيه الإمام (علیه السلام) من إتيان القوم، وترد فيه المناقشات الّتي مرّت، فلا نعيد.

ص: 152


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376.

القدحة الخامسة: فلم يطعني

قراءة هذا النصّ من أوّله إلى آخره يجعل القارئ العارف بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولو على مستوى ما يعتقده الجميع فيه أنّه سيّد العرب، وأنّه ابن رسول الله وريحانته، بغضّ النظر عن الاعتقاد بالإمامة، يجعله متشنّجاً مستنكِراً منزعجاً غاضباً، لِما فيه من جرأةٍ وسوء أدبٍ واستهانةٍ وتنكّرٍوتطاول، فمَن هو هذا الفرزدق ليقول: لا تذهب، ثمّ يقول: لم يطعني؟ مَن هو حتّى يطيعه سيّد البشر بعد مَن استثناهم الله؟

يا لها من سخريّة الأيام وتفاهة الموازين.. إنّها لَمِن المضحكات المبكيات أن يتطاول قزمٌ متضائلٌ متهاودٌ لا يكاد يبين لولا شعره الماجن وخياله الباهت ومنازلاته بالباطل في الدفاع عن قومه في الباطل أمام العزّ الإلهيّ ومعدن الإباء ومعلّم البشريّة جمعاء، فيقول: لم يطعني.. لم يطعني! يا لله!

لا ندري متى كان تحديث الفرزدق بهذا الحديث، هل كان قبل شهادة الإمام (علیه السلام) أو بعد شهادته، فربّما كان بعد شهادته، فأراد أن يقول أنّه قد عرف النتيجة، ولو كان سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام الخلق قد أطاعه لما كانت النتيجة ما كانت.

ومتى كان كلامه؟ وكيف كان؟ فإنّ مجموع كلامه -- مع ملاحظة اختتامه بقوله: لم يطعني -- أنّه يُخطّئ الإمام (علیه السلام) ويعتبر رأيه صحيحاً، ولا نزيد على ذلك، فالذكيّ اللبيب سيقرأ الكلام إلى آخره.

ص: 153

الطائفة الرابعة: تقريرٌ لحال أهل البصرة

اشارة

فقال لي: «يا أبا فراس، كيف خلّفتَ الناس؟ ومن أين؟ وإلى أين؟».قلت: من البصرة، أُريد العمرة، وما سألتَ عنه من أمر الناس، فقلوبهم معك وسيوفهم مع بني أُميّة، والقضاء ينزل من السماء ((1)).

ويمتاز هذا المتن عن غيره من المتون بعدّة ميزات:

الميزة الأُولى: سؤال الإمام (علیه السلام) قبل أن يعرف مصدر الفرزدق

يبدو من النصّ أنّ الإمام (علیه السلام) سأل الفرزدق عن الناس قبل أن يسأله عن مصدره ومورده، إذ قدّم السؤال عن الناس، ثمّ سأله: «مِن أين؟ وإلى أين؟».

فربّما أفاد ذلك أنّ الإمام (علیه السلام) يسأل عن حال الناس الّذين خلّفهم الفرزدق أينما كانوا، سواءً في الكوفة أو البصرة أو أيّ مصدرٍ آخر صدر عنه، والظاهر أنّه لا يعدو أن يكون من أحد البلدَين المذكورَين غالباً، لوضوح الجادّة الّتي أقبل فيها، وباعتباره بصريٌّ يتردّد على الكوفة، أو أنّ الطريق الّذي سلكه يسلكه حجّاج أحد البلدَين غالباً.

ص: 154


1- مختصر ابن منظور: 27 / 120.

الميزة الثانية: المصدر والمقصد

في جواب الفرزدق غرابةٌ تشذّ عن المتون السابقة جميعاً، في المصدر والمقصد، ففي المصادر أنّه قادم من الكوفة يريد الحجّ، فيما أخبر في هذاالمتن أنّه قادمٌ من البصرة يريد العمرة!

مجيئه من البصرة محتمَل، إذ أنّه بصريّ، ولا يبعد أن يكون قد خرج من البصرة وجعل طريقه على الكوفة، ثمّ توجّه إلى مكّة، لكنّه يبقى شاذّاً، لأنّ ما ذكرناه مجرّد احتمالٍ للتوفيق مع باقي المتون، ليس إلّا.

وخروجه للعمرة أيضاً فيه غرابة، من حيث مخالفته للمتون الباقية الّتي ينصّ فيها أنّه خرج حاجّاً، ولأنّ الأيّام أيّام الحجّ، وقد وصل إلى مشارف مكّة وهو يستمهل الإمام (علیه السلام) -- كما في نصوص أُخرى -- حتّى يتقصف الموسم، فما معنى العمرة الّتي قصدها؟

إلّا أن يقال: إنّ كلّ حاجّ يبدأ حجّه بالعمرة، وقد ذكر عمله الأوّل من نسُكه، وهو استعمالٌ بعيد، لا يليق بمتحدّثٍ غير عربيّ فضلاً عن الفرزدق الشاعر.

وإمّا أن يقال: إنّ الفرزدق خرج للعمرة ولم يقصد الحجّ، وهو لا بأس به، فقد يحضر المرء الموسم ويعتمر ويحلّ من إحرامه، وليس عليه أن يُحرم للحجّ، ويخرج إلى المواقف لأداء نسك الحجّ، سيّما إذا كان قد أدّى ما عليه من حجّة الإسلام.

وهنا أيضاً إن هي إلّا احتمالات تسعى للتوفيق بين هذا المتن والمتون

ص: 155

الأُخرى وتصحّح الاستعمال، وهي غير ناهضة لرفع الشذوذ والغرابة في الخبر.وهذا كلّه لمراعاة المتون الأكثر، وإلّا فخروجه من البصرة أوفق.

الميزة الثالثة: جوابه عن أمر الناس

يلاحَظ في جوابه أنّه قال: وما سألتَ عنه من أمر الناس.. كأنّه عطف الجواب على سؤال الإمام (علیه السلام) ، ولمّا كان سؤال الإمام (علیه السلام) قبل أن يعرف مصدر الفرزدق، وكأنّه يسأل عن الناس أينما كانوا، فيكون جواب الفرزدق أيضاً عامّاً لا يقصد به بلداً خاصّاً من البلدان، وكأنّه يريد تقييم الناس عموماً، فإنّهم هكذا، وربّما كان هذا الفهم أوفق بالمقام وبسياق الكلام.

ويحتمَل أن يكون الفرزدق قد أخبر عن البلد الّذي قدم منه، وهو هنا البصرة.

* * * * *

كيف كان، فإنّ الكلام في هذا المقطع قد مرّ معنا في الطائفة الثانية، وترد فيه نفس المناقشات، بيد أنّ الأمر هنا أهون نسبيّاً، وربّما أراد أن يقول للإمام (علیه السلام) أنّ البصرة قد تكون تُكِنّ لك الحبّ والتقدير، بَيد أنّك لا تحسب عليهم، لأنّ أيديهم عليك، فإذا جدّ الجدّ خذلوك، والبصرة لم تباشر إشهار السيوف على الإمام (علیه السلام) ، ولم تباشر بالقتال، وإنّما باشرته بالخذلان وترك النصرة، فكانت أيديهم عليه ولم تكن معه، وقد أشرنا فيما سبق أن

ص: 156

قد يجتمع الخذلان والحبّ في شخص.

ويبقى هذا تقدير الفرزدق، وهو لا يغني عن الخاذل شيئاً، ولا يكون له عذراً، فإنّه إن كانت يده على الإمام (علیه السلام) ، فما يعنينا إن كان قلبه معه؟!

ص: 157

ص: 158

جواب الإمام (علیه السلام) على تقييم الفرزدق

اشارة

لقد ذكرت بعض المصادر جواباً للإمام (علیه السلام) ردّاً على ما قاله الفرزدق، واختلفوا -- كالعادة -- في ذلك، سيّما أنّهم اختلفوا من قبل في نقل ما قاله الفرزدق نفسه، وسنقسّمها إلى عناوين فرعيّة تسهل علينا استيعابها، بحول الله وقوّته:

الجواب الأوّل: لم تذكر جواباً

لم تروِ جملةٌ من المصادر -- ومنها مصادر قديمة، كابن سعدٍ والبلاذريّ والدينوريّ وغيرهم -- أيّ جوابٍ للإمام (علیه السلام) ، وتنهي المشهد بالافتراق من دون أن يردّ الإمام (علیه السلام) على الفرزدق ((1)).

ص: 159


1- أُنظُر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، الأخبار الطِّوال للدينوري: 245، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 2 / 268، الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221، مختصر ابن منظور: 21 / 230، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304، مثير الأحزان لابن نما: 20، الجوهرة للبري: 42، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204، الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.

ويمكن لمن أراد أن يختار موقفاً ويسجّل حدَثاً تاريخيّاً أن يعتمد على مثل هذه المصادر الّتي تُعَدّ من أُمّهات المراجع التاريخيّة، وعندها ينتفيالحديث، وربّما لا يبقى لكلام الفرزدق قيمةٌ تُذكَر، ولا يحظى باهتمام، ولا يلفت نظراً، ولا ضرورة للتأمّل فيه والتوقّف عنده.

الجواب الثاني: «لم آمنهم»

إنّ الفرزدق قال: لقيتُ حسيناً، فقلت: بأبي أنت، لو أقمتَ حتّى يصدر الناس، لَرجوتُ أن يتقصّف أهل الموسم معك. فقال: «لم آمنهم يا أبا فراس» ((1)).

لقد تناولنا هذا الجواب فيما مضى، فلا نعيد.

ص: 160


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.

الجواب الثالث: «لو لم أعجل لَأُخذت»

فأتيتُه فقلت: بأبي وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟ فقال: «لو لم أعجل لَأُخذت ((1)) أخذاً» ((2)).

وهذا الجواب أيضاً أشرنا إليه آنفاً، فلا نعيد، وهما يفيدان معنىً واحداً.

الجواب الرابع: «الناس عبيد الدنيا»

اشارة

ورد جوابٌ للإمام (علیه السلام) في بعض المصادر الّتي تُعَدّ متأخّرةً بالنسبةلمصادر الأجوبة الأُخرى، من قبيل (نزهة) الحلواني و(كشف) الإربلّي:

وقال (علیه السلام) للفرزدق لمّا سأله عن أهل العراق في جواب قوله: أمّا القلوب فمعك، وأمّا السيوف فمع بني أُميّة عليك، والنصر من عند الله.

فقال (علیه السلام) : «ما أراك إلّا صدقت، إنّ الناس عبيد المال، والدين لَعِقٌ (لغوٌ) على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون» ((3)).

ص: 161


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، مثير الأحزان لابن نما: 20، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.
2- الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
3- نزهة الناظر للحلواني: 41، 43، كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.

وروى ابن منظور قدوم الفرزدق من البصرة:

فاغرورقت عيناه، وقال: «هكذا الناس في كلّ زمان، أتباعٌ لذي الدينار والدرهم، والدين لغوٌ على ألسنتهم، فإذا فحصوا بالابتلاء قلّ الديانون» ((1)).

وروى ابن العديم في مقام الجواب على سؤال (ما خلّفتَ لنا في البصرة)، جواب الإمام (علیه السلام) :

فقال: «ما أشكّ في أنّك صادق، الناس عبيد الدنيا، والدين لغوٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معائشهم، فإذا استنبطوا قلّ الديّانون» ((2)).

ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الإلماعات:

الإلماعة الأُولى: عدم ورود جوابٍ في المصادر القديمة

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ المصادر القديمة لم تذكر جواباً للإمام (علیه السلام) ، فيكون الحديث عن جواب الإمام (علیه السلام) ، وتفصيل القول فيه على مستوى المصادر المتأخّرة بالنسبة للمصادر الأُولى.

ص: 162


1- مختصر ابن منظور: 27 / 120.
2- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

الإلماعة الثانية: السؤال عن البصرة

لا يخفى أنّ ما رواه ابن منظور وابن العديم يتعلّق بالسؤال عن خبر البصرة وأهلها، ولا علاقة له بالكوفة وعسكرها، كما هو صريح سؤال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيلزم أن يختلف التعامل مع النصّ التاريخيّ وفق ظروفه ومدلولاته، وإن كان مفاد جواب الإمام (علیه السلام) يفيد العموم والشمول.

الإلماعة الثالثة: مداراة الإمام (علیه السلام) للآخرين

مَن تأمّل في ردود الإمام (علیه السلام) وأجوبته لمن عارضه أو حاوره طيلة أيّام حركته من المدينة إلى كربلاء، يجد الكمال في أخلاق الإمام (علیه السلام) ومداراته وتعامله معهم، كلٌّ حسب قدرته ومقدار فهمه وإدراكه، فربّما صحّح له عموماً ورد في كلام المخاطب، أو كليّة صادقة، أو يُمضي له رأيه في نفسه بغضّ النظر عن موقف الإمام (علیه السلام) ، وما شاكل، وربّما يكتشف المتتبّع ما قلناه في ثنايا دراستنا هذه أو من خلال مطالعته السريعة لصفحات التاريخ، ولسنا هنا بصدد التدليل والإثبات لذلك.وفي جواب الإمام (علیه السلام) للفرزدق شاهدٌ على ما نقول، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) يُمضي كلام الفرزدق من خلال ما يبيّنه هو (علیه السلام) : «ما أراك إلّا صدقت، إنّ الناس عبيد المال، والدين لعقٌ (لغوٌ) على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به

ص: 163

معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون» ((1))، «هكذا الناس في كلّ زمان، أتباعٌ لذي الدينار والدرهم ...» ((2))، «ما أشكّ في أنّك صادق، الناس عبيد الدنيا، والدين لغوٌ على ألسنتهم ...» ((3)).

الإلماعة الرابعة: الإمام (علیه السلام) يفصّل كلام الفرزدق ويبيّنه

يبدو أنّ الإمام (علیه السلام) شرح بجوابه كلام الفرزدق، وكشف ما فيه من غموض، وإن شئت فقل: تصحيح، فهو لم يصدّق كلام الفرزدق مطلقاً، ولم يقرّره على ما قال إلّا بعد أن علّق على كلامه وأبانه، فكلام الفرزدق إنّما يصدق حينما يكون بالمعنى الّذي أبانه الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّ القلوب تكون مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) في السلم والرخاء، وما دام هذا الحبّ لا يعارض دنياهم، ولا يحرمهم من لذّاتهم وشهواتهم، أمّا إذا وقع التصادم بين حبّ الدنيا والشهوات ومقتضياتها الّتي استعبدتهم، وحبّ أهل البيت (علیهم السلام) ومقتضياته، فإنّ الناس يميلون إلى الدنيا، والدين والحقّ كلّهلعقٌ أو لغوٌ على ألسنتهم، ولا يتعدّى الألسن.

ص: 164


1- نزهة الناظر للحلواني: 41، 43، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 195، العوالم للبحراني: 17 / 61.
2- مختصر ابن منظور: 27 / 120.
3- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

وهو بالتالي تأكيدٌ على أنّ السيوف مع بني أُميّة، لأنّ الدينار والدرهم والدنيا الوبيلة بأيدهم، والناس يتبعونها.

وهو يكشف أنّ المشهد واضحٌ عند الإمام (علیه السلام) ، وهو لم يعتمد على الناس وعلى سيوفهم الموعودة في الكوفة، ويكفي أن يكون سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما جاء إلى الكوفة وقصدها لهؤلاء الديّانين القليلين الّذين التحقوا به وقاتلوا معه!

الإلماعة الخامسة: عموم كلام الإمام (علیه السلام)

ربّما يُستفاد من كلام الإمام (علیه السلام) أنّ هذا هو الأصل في الناس، فكلامه عامٌّ ولا يبدو فيه تخصيصٌ بأهل الكوفة، ولا أهل ذلك الزمان بالخصوص، فهم كذلك مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهم كذلك مع الصدّيقة الطاهرة (علیها السلام) ، وهم كذلك مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وهم كذلك مع الحسن (علیه السلام) ، وهم كذلك مع باقي الأئمّة (علیهم السلام) ، بل هم كذلك مع جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) طول خطّ التاريخ وطيلة فترة المسيرة البشرية، وستبقى كذلك إلى أن يحملها الله على الهدى والصواب والرشد، ويضع الصاحب يده على رؤوس العالمين فتكتمل أحلامهم، وتترشّد عقولهم، ويبصرون طريقهم، ويختارون نجد الهدى والسعادة.وفي كلامه (علیه السلام) إشارةٌ إلى حقيقةٍ يطول شرحها، وتحتاج إلى سِفرٍ عظيم لإثباتها، وردت في شذرات كلام أهل البيت (علیهم السلام) ، وكلّ كلامهم نور،

ص: 165

تتلخّص في أنّ الله (عزوجل) خلق الخلق وجعل التوحيد والحقّ في فطرتهم، وأرسل إليهم الرسل والأنبياء (علیهم السلام) ، وجعل فيهم الأوصياء والحجج (علیهم السلام) ، وأنزل إليهم الكتب والفرقان، وبذلك وفّر لهم كلّ ما يحتاجونه لاختيار نجد الخير وسبيل الهدى، ثم خيّرهم، إن شاؤوا اتّبعوا الرسل وأطاعوا الأوصياء وسلّموا لما جاء في الكتاب، وبذلك يسعدوا في الدنيا والآخرة، وأمّا إن أعرضوا عن ذلك وشقّوا لأنفسهم طريقاً آخَر ومنهجاً مرصوفاً بلبنةٍ من الحقّ وأُخرى من الباطل، فأخذوا ضغثاً من هذا وضغثاً من هذا، أو اختاروا محض الباطل، فعدوا على الرسل والأوصياء (علیهم السلام) فقتلوهم، واتّخذوا القرآن مهجوراً، ولبسوا الدين لبس الفرو مقلوباً، وهم كذلك دائماً، وقليلٌ من عباد الله الشكور، ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ ((1))، ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ ((2))، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ ((3))، وما أكثر الآيات والأحاديث الشريفة الدالّة بصراحة على هذا المعنى، فأبعدوا الأوصياء (علیهم السلام) وحاربوهم، وبدّلوا نعمة الله كفراً، فغصبوا حقوقهم، وحالوا بينهم وبين ما وضعهم الله فيه، فركبواالمطيّة الصعبة الّتي لا تستقيم أبداً، وصاروا «كراكب الصعبة، إنْ

ص: 166


1- سورة ص:24.
2- سورة المؤمنون: 70.
3- سورة يوسف: 106.

أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم» ((1))، وما دام الخيار بيد الإنسان الظلوم الجهول، فهو لا يختار إلّا نفسه وذاته وشهواته ولذّاته، ولا يحكّم إلّا أنانيّته والصنم القابع في أعماقه، حتّى يأتي اليوم الّذي يقتنع الانسان أنّه قد عجز عن انقاذ نفسه، وأنّ الّذين أضلّوه إنّما فعلوا ذلك لأنفسهم، فضلّوا وأضلّوا، ولا يترك الله العباد سُدىً حتّى يبتليهم، بَيد أنّه خلقهم ليعبدوا، ولربّهم يسلّموا، وما أنزل القرآنَ وكتُبَ الفرقان وأرسل الرسل وخلّف فيهم الأوصياء والحجج (علیهم السلام) إلّا ليعلّم الناسَ طريق الهدى فيتّبعونه، فإذا بقيَت البشريّة في ظلالها أرسل لهم مَن يأخذ بأيديهم بعد أن تتمّ الحجّة عليهم، ويتبيّن لهم أنّهم لا خلاق لهم، وأنّهم لا يفلحون إلّا بالمعصوم العامل بالكتاب، الموفّق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة، فيأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، ويلوي الأعناق لترى الحقّ فتختاره وتسعد به، وقد ورد في نصٍّ شريفٍ ما يفيد أنّ عمر الدنيا منذ هبوط آدم إلى يوم ظهور الوليّ الخاتم ليس إلّا خُمس الدنيا، بمعنى أنّ أربعة أخماس الدنيا سيكون بعد ظهور الوليّ الخاتم.

فقد روى الحلّي في (مختصر البصائر)، عن (البشارة) للسيّد رضيّ الدين عليّ بن طاوس (رحمة الله) : وجدتُ في كتاب تأليف جعفر بن محمّد بنمالك

ص: 167


1- نهج البلاغة: الخطبة الشقشقيّة.

الكوفي، بإسناده إلى حمران بن أعين قال: عمر الدنيا مئة ألف سنة، لسائر الناس عشرون ألف سنة، وثمانون ألف سنةٍ لآل محمّد (عليه وعليهم السلام).

قال السيّد رضيّ الدين (رحمة الله) : وأعتقد أنّني وجدتُ في كتاب طاهر بن عبد الله أبسط من هذه الرواية ((1)).

فالإنسان يحكّم نفسه -- بعيداً عن هداية الله المبذولة بكلّ ما يحتاجه البشر -- خلال خُمس الدنيا، كفترة امتحانٍ وابتلاء، ليرى الإنسان ما فيه من كفاءةٍ وتأهيلٍ للخيار الأفضل، فبعد أن يثبت له عجزه عن ذلك سيفعل الله ما يريد، والمؤمن في هذه الفترة (القليلة عند الله، الطويلة في الحساب البشريّ) غريبٌ مستضعَف، وسيأتيه اليوم الّذي يُعزّه الله به تحت راية الإمام المنتظر وأئمة الهدى (علیهم السلام) ، ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ ((2)).

ص: 168


1- مختصر بصائر الدرجات للحلّي: 494 ح557، بحار الأنوار: 53 / 116، رياض الأبرار للجزائري: 3 / 265، الإيقاظ من الهجعة للحرّ العاملي: 339، وقال في ذيل الخبر: أقول: هذا أيضاً لا يبعد أن يُراد به المبالغة، وقد يُراد به أنّ نسبة دولة أهل الدول إلى دولة آل محمّدٍ كهذه النسبة، يعنى الخُمس، والله أعلم، هذا على تقدير معارض ثابت له، وإلّا فالاستبعاد ليس بشيء، وهو بالنسبة إلى قدرة الله وقابليّة أهله قليلٌ كما لا يخفى.
2- سورة القصص: 5.

والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) حاله كحال الأنبياء والأوصياء السابقين واللاحقين، مستضعَفٌ في هذه الفترة، «بأبي المستضعف الغريب» ((1))،وسيعود وسيأتي بعد أن تنتهي فترة الابتلاء والامتحان والفتنة، وتنقضي السنون الحُرُم.

فهو يقرّر أنّ الناس عبيد الدنيا، لعلمه بذلك، وأنّهم سوف لن يختاروا ما فرض الله عليهم من فرض طاعته، ويعصون الله لصالح دنياهم ودرهمهم ودينارهم، فهم لا ولن يدفعوا عنه، إلّا القليل من الديّانين، فلا كتبهم ولا وعودهم ولا بيعتهم صحّت وصدقت مع مَن سبقه من الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ، وهم لم ينصتوا ولم يسلّموا لأشرف الكائنات وخير الرسل جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وعصوه واتّبعوا العجل والسامريّ في أيّام حياته وبعد وفاته، فليس للإمام (علیه السلام) حسابٌ مع الأكثريّة، ولم يعتدّ بها، وإن أقام الحجّة عليها، وإنّما الحساب كلّ الحساب على المؤمنين الديّانين الّذين اختاروا ما اختار الله لهم منذ اليوم الأوّل وإلى أن تقوم الساعة، وقليلٌ ما هُم!

وهذا معنى تصديق قول الفرزدق، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) صدّق أنّ السيوف عليه، وأنّ الناس مع بني أُميّة، لأنّ دنياهم سيح قيء القرود، وهم يلهثون وراء بريق اللعاب المخمور اللزج المتدلّي من شفاه القرود وألسنتها المدلعة،

ص: 169


1- أُنظُر: الكافي للكليني: 4 / 147 ح 7، في حديث عبد الملك عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) .

ويركضون وراء القرود يتسقّطون ما يتناثر من الأقذار المعلّقة بأذنابها..

وبهذا التقرير ربّما نفى الإمام (علیه السلام) أن يكون ثمّة قصدٌ لتغيير الناس، فإنّهم لا يسلكون إلّا ما رسمه الإمام (علیه السلام) لهم في فترة المحنة والامتحان، فالدين لغوٌ أو لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معايشهم، فهم لاشكّ سيقتلون ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لابن آكلة الأكباد، ولا يرعوُون ولا يفيقون إلّا على الصيحة وانبلاج فجر صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

ومَن كان دأبه اتّخاذ الدين وسيلةً للدنيا، لا تهتزّ فيه شَعرة، ولا تتوثّب فيه نفسٌ كريمة، ولا تنتفض فيه روحٌ محبوسةٌ بين أسوار المطامع والخنوع لزيف بهارج الدنيا، وهو مرتاحٌ مخلَّدٌ للطين، ومبتهجٌ لثقل الشهوات في مستنقع اللذّات، لا تحرّكه ارتجاجاتٌ ولا تهزّه الصعقات النفسيّة لتنقذه من الشلل النفسي، وتستفيقه من الازدواجيّة، لأنّ الناس كلّ الناس -- أي: الأكثريّة من غير المؤمنين الديّانين -- تركب الدين أمواجاً تصل بها إلى مآربها، وتوفّر لها فرصة أن ترتع في مستنقعات غابة القرود والبهائم الراتعة في وديان مواجهة الحقّ وأهله.

الإلماعة السادسة: لا ازدواجيّة في الموقف والرؤيا

لقد حدّد الإمام (علیه السلام) موقف الأكثريّة (الناس)، وعرفنا من خلال تقرير الإمام (علیه السلام) أنّ هؤلاء الناس عبيد الدنيا، وعبيد الدينار والدرهم، وأنّهم أتباعٌ لمن وفّر لهم معبودهم، وأنّهم إنّما يتّبعونه ويقصدونه لأنّه يحقّق لهم ما

ص: 170

يبتغون، ويغدق عليهم ما يأملون، ويبلغ بهم إلى ما يهدفون، فهم يريدون عرض الدنيا، ويتّبعون مَن يوسع عليهم ويرفدهم بها، وهم يرون النجد الآخر علاماته لائحة ومعالمه واضحة، ويسمعون ويزعمون أنّهميؤمنون بالله واليوم الآخر، بيد أنّهم يستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، ويبيعون الآخرة بالدنيا، وهم يعلمون..

فالناس يعلمون ما يصنعون، ويخطّطون لتحقيق ما إليه يصبون، ويتوسّلون بكلّ وسيلةٍ يمكن أن توصلهم إلى مآربهم وأطماعهم، وهم يعرفون كيفيّة التعامل مع الدنيا والدين، ويميّزون بين يزيد الخمور والفجور وسيّد شباب أهل الجنّة الحسين (علیه السلام) ، ويعرفون متى يصطفّون مع هذا، ومتى يفارقون ذاك، بل فيهم من الدهاء والشيطنة ما يجعلهم يوظّفون الآخِرة الآجلة لتحصيل الدنيا العاجلة، ويتّخذون الدين آلةً للاستحواذ على الشهوات والدنيا.. يحيطون بالدين ما درّت معايشهم!

فلا يبدو أنّ ثمّة ازدواجيّةً في شخصيّة هؤلاء الناس، وفق ما قرّره سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّهم يعلمون على ماذا يقدمون، وقد حدّدوا لأنفسهم هدفاً وهم إليه يسعون، وعلى أساس أطماعهم الّتي يعوها اتّخذوا موقفاً، واصطفّوا مع مَن ضمن لهم ذلك.

كما لا يبدو منهم أنّهم مصابون بشلل إرادة، ولا ارتباكٍ نفسيّ يمنعهم من الإقدام على نصرة الدين وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وسبط النبيّ

ص: 171

الأمين (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما هم قد فكّروا وقدّروا وميّزوا أنفسهم، واختاروا الدنيّة، فعزموا على المضيّ فيما اختاروا، فأرادوا وشيّدوا إرادتهم ورسّخوها وأقدموا.

الإلماعة السابعة: الإخبار عن حالتين مختلفتين

أفاد الفرزدق أنّ قلوب الناس مع الإمام (علیه السلام) وسيوفهم مع بني أُميّة، فربّما تصوّر مَن سمع كلامه أنّه يُخبر عن حالتين مجتمعتَين في القوم في ذات الوقت، وتحت نفس الظروف، فأبان الإمام (علیه السلام) أنّ ما يصدق من كلام الفرزدق ويصحّ إنّما هو حالتان تتحقّق كلّ واحدةٍ منهما في وقتٍ غير الوقت الآخر، ولكلّ واحدةٍ منهما ظروفها الّتي توفّر الدوافع للتمسّك بالموقف الّذي يصحر عن الكوامن.

فالناس قلوبهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ومع الدين ما درّت معايشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء فسيوفهم على الدين ورجاله، فهم مع الدين في حال الأمن والطمأنينة والرخاء والدعة والرفاهيّة وعدم تعرّض الدين لدنياهم، فإذا رأوا في الدين تهديداً لديناهم وانقضاضاً على شهواتهم ولذّاتهم، فإنّهم يحاربون الدين!

من هنا لا يصعب التصوير الّذي قد يتراءى للناظر العجلان من أنّ هؤلاء الناس يحاربون الإمام (علیه السلام) ويقتلونه وهم يحبّونه، كما صوّره البعض!! فاستفاد ازدواجيّة الشخصيّة الّتي اجتاحت هؤلاء الناس، وأنّهم أقدموا على ما أقدموا عليه من غير قناعاتٍ داخليّة، إذ أنّهم في أعماقهم

ص: 172

يحبّون الإمام (علیه السلام) ، وأعاروا سيوفهم لأعدائه لئلّا يفقدوا متاع الحياة الدنيا، وخوفاً من سطوة السلطان، وغيرها من التسويغات الباردة والتبريراتالفارغة.

الإلماعة الثامنة: الأصل في الناس

يستشعر مَن يسمع كلام الإمام (علیه السلام) أنّه يؤسّس الأصل القويم لمعرفة الناس الّذين أخبر عنهم (الأكثريّة)، كما يؤسّس لمعرفة الأقليّة (الديّانين)، فالأصل في الفريق الأوّل إنّما هو العبوديّة للدنيا والشهوات والدينار والدرهم، والدين طارئٌ سريع الزوال، وهو لا يتعدّى الألسن، ولا يغور إلى الأعماق، لأنّ القلوب ممنوعةٌ أو ممتنعةٌ عن الحقّ، فهم عبيد الدنيا ولذي الدينار والدرهم، والدين لعقٌ أو لغوٌ على ألسنتهم فقط..

حتّى بهذا القدر الضئيل، أي: بقدر أن يكون الدين لعقٌ على ألسنتهم أيضاً، إنّما يحوطونه ما درّت معايشهم وتحقّقت به أغراضهم، فالأصل فيهم العبوديّة للدنيا لا للدين والآخرة، وليس الدين إلّا وسيلةً لتحقيق الدنيا عندهم.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ هؤلاء الناس الّذين أخبر عنهم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ليست لهم في الحقيقة حالتان ولا موقفان، وإنّما هو موقفٌ واحد لا يتغيّر، وهو السعي من أجل الاستحواذ على الدنيا، كلٌّ بحسَبه، أمّا الدين فليس له موضعٌ ومحلٌّ ومكانٌ في قلوبهم وكياناتهم، فهو عندهم يدور

ص: 173

على الألسن دوراناً، فيأخذون منهم لعقةً أو يجعلونه على ألسنتهم لغواً، لأنّه يحقّق لهم معبودهم، فليس للدين عندهم وزنٌ ولا قدرٌ ولا قيمة، وليس لهم مع الدين موقفٌ بالأصالة، وإنّما هو أداةٌ كسائر الأدوات الّتي تخدم موقفهم مع الدنيا.

الإلماعة التاسعة: تكذيب الفرزدق

بناءً على ما ذكرناه في الإلماعات السابقة، سيّما في الإلماعة الأخيرة، ربّما تبيّن لنا أنّ الإمام (علیه السلام) حينما استطرد بالكلام تعليقاً على الفرزدق وأبان مقصوده، ردّ بذلك على كلام الفرزدق الّذي زعم أنّ قلوب الناس مع الإمام (علیه السلام) وسيوفهم مع بني أُميّة، إذ أخبره أنّ قلوب الناس ليست معه كما يزعم الفرزدق، وإنّما حبّهم له لا يتجاوز أن يكون لعقاً ولغواً على ألسنتهم ما درّت معايشهم، وهم مع ذي الدينار والدرهم والموفِّرِ لهم دنياهم.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ الإمام (علیه السلام) قد خطّأ الفرزدق ورفض تقريره وما ذكره، وليست كلمة: «صدقتَ» إلّا بحكم الاستدراك بمعنى (بل)، وهذا من سموّ أدب أهل البيت (علیهم السلام) الّذين تخلّقوا بأخلاق الله، فهم يعاملون الناس باللين والعطف والأدب الرفيع، وهذا النمط من الاستعمالات ليس بعزيزٍ في كلام الله وكلام أهل البيت، بل ما أكثره، فهو بدل أن يقول له: أخطأت وكذبت مثلاً، يقول له: صدقت، ولكن بهذا المعنى الّذي سأذكره لك.

ص: 174

وربّما تكون (صدقت) من باب التسليم جدلاً، بمعنى وإن صدّقنا قولك، فإنّ الحقّ وواقع الناس إنّما هو ما نقوله نحن لا ما تقوله أنت، فربّما تزعم أنّ الناس يحبّوننا، ونحن نصدّق قولك، بَيد أنّ حقيقة الناس هي أنّهم عبيد الدنيا، وما يلوكونه بألسنتهم إنّما هو زعمٌ يزعمونه ما درّت معايشهم، أمّا إذا مُحّصوا بالبلاء فإنّهم يرجعون إلى حقيقتهم من عبوديّتهم للدنيا.

الإلماعة العاشرة: صدقتَ في الإخبار عن السيوف المشهورة

يفيد سياق ردّ الإمام (علیه السلام) أنّ التصديق إنّما هو لإخباره عن السيوف المشهورة على الإمام (علیه السلام) ، ويشهد له أنّ الإمام (علیه السلام) أكّد له طبع الناس، وأنّهم عبيد الدنيا والدرهم والدينار، وهو في الأساس المورد الّذي سأل عنه الإمام (علیه السلام) بالخصوص، فإنّ الإمام (علیه السلام) لم يسأل الفرزدق عن حبّهم له، وإنّما سأله عمّا خلّف وعن المشهد الّذي شهده من موقف الناس، فلمّا أخبره عنهم وأنّ سيوفهم مشهورةٌ عليه صدّق الإمام (علیه السلام) هذا المقطع الأخير من قول الفرزدق، وأكّدها بالتعليق عليه، وكأنّ الإمام (علیه السلام) قد أغفل المقطع الأوّل من كلام الفرزدق ولم يُعِره اهتماماً، وأخذ المقطع الثاني والإخبار عن السيوف المشهورة، فصدّقه وأكّده، وكأنّه يريد أن يخبره أنّها حالة متوقّعة وموقف غير مستبعد ممّن استعبدتهم الدنيا، وسيأتي بعد قليلٍ ما يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) صدّق المقطع الأخير من كلام الفرزدق الوارد في نصوص الجواب

ص: 175

الخامس (والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء) بشهادة السياق، ومَن يلاحظ سياق كلام الإمام (علیه السلام) بأدنى تدقيقٍ وتمعّنٍ تتّضح له العبارة من غير كثير عناء.

الجواب الخامس: «لله الأمر، والله يفعل ما يشاء»

اشارة

ولمّا صار الحسين إلى الصفاح، لقيَه الفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن أمر الناس وراءه، فقال له الفرزدق: الخبير سألت، إنّ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة، والقضاء من السماء، والله يفعل ما يشاء، (وربّنا كلّ يومٍ هو في شأن) ((1)).

فقال الحسين: «صدقت.. لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يومٍ ربّنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد (يبعد، يتعدّ) مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته» ((2)).

ص: 176


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
2- أُنظُر: تاريخ الطبري: 5 / 386، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 410، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215، نزهة الناظر للحلواني: 41، 43 ليس فيه «صدقت»، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259، وانظر أيضاً: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56، الأمالي للشجري: 1 / 166، 186، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 95.

وقد تضمّن هذا الجواب عدّة لفتات:

اللفتة الأُولى: «صدقت»

أعرض الإمام (علیه السلام) عن الفقرات الأُولى من كلام الفرزدق، ثمّ قال: «صدقت»، وذكر باقي كلامه، ومن الواضح أنّ التصديق إنّما كان لما ذكره الإمام (علیه السلام) من كلام الفرزدق بالخصوص، فهو يقول: «صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء».. وكأنّ الكلام الّذي سبق قوله: (لله الأمر ...) لم يكن.

فمن الصعب تقطيع كلام الإمام (علیه السلام) وجعل بقيّة الكلام (لله الأمر) وما بعدها جملةً مستأنفةً معزولةً مقطوعةً عن قوله (صدقت)، والسياق يفيد بوضوح أنّ التصديق إنّما انصبّ على المقطع الأخير من كلام الفرزدق.

اللفتة الثانية: التركيز على السيوف المشهورة

أن تكون القلوب مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّها لا تغيّر شيئاً في المشهد، وإنّما يتغيّر المشهد بناءً على اصطفاف السيوف، فالكلام كلّه ينصبّ على السيوف المشهورة، فإن ركنت إلى الظالم واصطفّت معه بغت على سيّد

ص: 177

الشهداء (علیه السلام) وقتلته، وإن تحيّدت أو نصرت الحقّ دفعت عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ومنعت القتل عنه، فلا قيمة ولا وزن ولا حساب على القلوب دون موقف السيوف، والسيف يصحر عمّا في القلب عاقبة.

اللفتة الثالثة: احتمال التغيير في موقف السيوف المشهورة

لمّا كان الأمر لله، وهو يفعل ما يشاء، وكلّ يومٍ هو في شأن، فهذا معناهأنّ هذه السيوف المشهورة يمكن أن تغمَد، بل يمكن أن تتحوّل إلى سيوفٍ على الأعداء، فالله يفعل ما يشاء، وهو على كلّ شيءٍ قدير، وكلّ يومٍ هو في شأن.

ويشهد لذلك أنّ الكلام الّذي ترتّب على هذه المقدّمة بقيَ مردَّداً بين أمرين: بين أن ينزل القضاء بما نحبّ، وبين حيلولة القضاء دون الرجاء.

وفي هذا ردٌّ للجزميّة الّتي تحدّث بها الفرزدق والحكم الفاصل الّذي حكم به من خلال إخباره عن السيوف المشهورة، وأنّ القوم سيقتلونه، وليس فيهم نصير ألبتّة.

اللفتة الرابعة: ما نحب.. الرجاء!

اشارة

قال سيّد الشهداء (علیه السلام) : «إن نزل القضاء بما نحبّ»، و«إن حال القضاء دون الرجاء»..

فما هو ما يحبّه الإمام (علیه السلام) ؟ وما هو الرجاء الّذي يمكن أن يحول دونه القضاء؟

ص: 178

سنحاول التوصّل إلى مفاد هذه اللفتة من خلال الومضات التالية:

الومضة الأُولى: اتّحاد الحبّ والرجاء

يبدو من السياق أنّ «ما نحبّ» هو نفسه الرجاء، وليس ثمّة خياران يتحقّق أحدهما بنفي الآخر، وإنّما قد يتحقّق ما نحبّ، وهو الّذي نرجوه،وقد يحول القضاء دون تحقّق ما نحبّ، فلا يحصل ما نرجوه.

الومضة الثانية: الإمام (علیه السلام) يحبّ ما يحبّه الله

لا شكّ عند مَن يعتقد بإمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) -- تماماً كما هو الكلام في باقي الأئمّة (علیهم السلام) -- أنّ الإمام (علیه السلام) لا يحبّ إلّا ما أحبّه الله، ولا يرضى إلّا بما يرضي الله (تبارك وتعالى)، فرضى الله رضاهم أهل البيت (علیهم السلام) ، ولا يمكن أن تقع مغايرةٌ بين إرادة الأنوار الأربعة عشر وإرادة الله (عزوجل) ، ولا يمكن أن يسخطوا على ما أحبّ الله، ولا أن يحبّوا ما أسخط الله، وهذا بحثٌ عقائديٌّ له تفاصيله واستدلالاته وإثباتاته، ولا يناسب بحثنا هذا الاسترسال به، وإنّما ذكرنا ذلك كضروراتٍ ثابتة، وهذه الأوراق تخاطب مَن اعتقد بها وسلّم لها، فلا حاجة للاستدلال عليها.

وكذا الكلام فيما يرجوه الإمام (علیه السلام) ، لأنّ رجاءه لا يتخلّف عن الإرادة الإلهيّة، ولا يعارض قضاء الله أبداً، فما يرجوه الإمام (علیه السلام) لا يمكن أن يكون خارجاً عن القضاء، ولا عمّا يحبّه الله.

ص: 179

الومضة الثالثة: كلام الإمام (علیه السلام) عن النتيجة النهائيّة

يفيد السياق -- باعتبار أنّ كلام الإمام (علیه السلام) كان جواباً على ما ذكره الفرزدق: (السيوف مع بني أُميّة) -- أنّ الإمام (علیه السلام) يتحدّث عن النتيجة النهائيّة والمشهد الأخير الّذي سيختم الأحداث، وهو معلومٌ معروفٌ واضحٌ مكشوفٌ بيّنٌ جليٌّ ساطعٌ سافرٌ لدى الإمام (علیه السلام) ، ولدى المعاصرين والغابرينواللاحقين، من خلال سير الحوادث ومجريات الأحداث، وسلوكيّات العدوّ، علاوةً على الإخبارات الغيبيّة.

فالقوم قد عزموا على قتله، وأقدموا على تنفيذ عزمهم، وجمّعوا له الجموع، واستجاشوا الجيوش والعساكر، وكردسوا العدّة والعديد، حتّى غدت السيوف مشهورة، والأكراش سغباً، والأجربة جوفاً، والأنياب مكشّرة، والوحوش الكواسر محشورة، لتحيط بالإمام (علیه السلام) ومن معه.

فالنتيجة لائحةٌ واضحةٌ مسفرةٌ باديةٌ أبلج من الصبح إذا أسفر، فالركب يسير والمنايا تسير معه، وكربلاء تنتظر احتضان الهياكل المقدّسة، واكتناز الدماء الزاكية.

الومضة الرابعة: حبّ لقاء الله

بناءً على ما مرّ في الومضات السابقة، ربّما يقال: إنّ ما أحبّه الإمام (علیه السلام) إنّما هو لقاء الله ولقاء الأحبّة الّذي أراده الله له وأحبّه، وقد سمعنا فيما رواه ابن أعثم وغيره في لقاء الإمام بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) بعد أن شكى إليه، فقال:

ص: 180

«السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين ابن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك والثِّقْل الّذي خلّفتَه في أُمّتك، فاشهد عليهم -- يا نبيّ الله -- أنّهم قد خذلوني وضيّعوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك، صلّى الله عليك ...».فأغفى على قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ، ورأى رؤياه الّتي قال له فيها: «يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً، فخُذني إليك، واجعلني معك إلى منزلك» ((1)).

ولذلك شواهد أُخرى ربّما أفادت أنّ المحبوب لدى سيّد الشهداء (علیه السلام) والرجاء الّذي ينتظر تحقيقه إنّما هو الشهادة واللحاق بالأحبّة.

الومضة الخامسة: التعليق على مشيئة الله

ربّما كان معنى العبارة -- بغضّ النظر عمّا ذكرناه في الومضات السابقة -- أنّ الإمام (علیه السلام) أجاب الفرزدق كما يعدّ جواباً لغيره أيضاً، وفيه تعبيرٌ عن التسليم المطلق لله الّذي يمتاز به الإمام (علیه السلام) من بين الخلائق أجمعين، وهو في الحقيقة تكليف كلّ مؤمنٍ بالله واليوم الآخِر، فيكون الجواب على هذا الفهم أنّ المهمّ إنّما هو التسليم لله (عزوجل) على كلّ فرضٍ وفي كلّ حال.

ص: 181


1- أُنظُر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186.
الومضة السادسة: ما يقابل الحبّ.. الرجاء

إسترسال الكلام يقتضي أن يكون مقابل (ما نحبّ): (ما لا نحبّ)، أو (ما نكره)، فيقول مثلاً: (وإن حال القضاء دون ما نحبّ)، أو (وإن نزل القضاء بما نكره)، فيما نجد في كلام الإمام (علیه السلام) لفتةً غايةً في الروعة ونهايةً في الجمال، وسموّاً وسموقاً في أدب الخطاب مع الله وبين يدَي الله (عزوجل) ،فهو يجعل (الرجاء) مقابل (ما نحبّ).

إذن، لا يوجد في مقابل قضاء الله صورةٌ تخالف ما يحبّ الإمام (علیه السلام) ، وهو في كلا الحالين وعلى كلا الفرضين حبٌّ ورجاء!

الومضة السابعة: الرجاء، النصرة

ربّما أمكن الاستفادة من مجموع المتون التاريخيّة وسير الأحداث أنّ الرجاء الّذي كان يرجوه الإمام (علیه السلام) منذ خروجه من مدينة جدّه، ومن جملة المكاتبات والرسائل والرسل الّتي وصلَته من أهل الكوفة، أن تتوفّر له النصرة الكافية للدفاع عنه والذبّ عن آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وبهذا تنجو الأُمّة بقيامها بتكليفها تجاه الوديعة الّتي أودعها الله، وخلّفها فيهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فتقوم بواجب حفظ الأمانة ولا تضيّعها ولا تخذلها، والعافية لآل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، وحفظ دمائهم وأعراضهم وصون مخدّراتهم من أهمّ ما يحبّه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) ، سيّما أنّه سيلزم نجاة الأُمّة وعدم انهيار سقف الدنيا عليها وخلودها في نار الجحيم.

ص: 182

الومضة الثامنة: النجاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ربّما يقال: إنّ المحبوب المرجوّ إنّما هو (التوفيق للمعروف)، سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكره ابن أعثم في حديث الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عند قبر جدّه حين الاستخارة ومناجاة الله (تبارك وتعالى)، حيث قال في الليلة الثانية:«وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أُحّب المعروف، وأُنكِر المنكر، وإنّي أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَن فيه، إلّا اخترتَ لي من أمري ما هو لك رضى، ولرسولك رضى، وللمؤمنين رضى» ((1)).

ولا يخفى أنّ الإمام (علیه السلام) هنا لم يذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما ذكر المعروف وأعلن حبّه له، وأعلن عن إنكاره المنكر، فالحديث عن المعروف والمنكر، وليس الأمر بالأوّل والنهي عن الثاني!

ومع ذلك، فإنّه بخروجه من المدينة ومكّة وتقبّضه عن البيعة ودفاعه عن نفسه وعن آل الله قد فعل كلّ ذلك، والنتيجة النهائيّة الّتي يُخبر عنها هذا التسليم المطلق لله لا علاقة له من قريبٍ ولا من بعيدٍ بقضيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((2)).

ص: 183


1- أُنظُر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186.
2- أُنظُر للتفصيل كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء من المدينة).
الومضة التاسعة: عدم الاكتراث بموقف السيوف

ربّما أفاد جواب الإمام (علیه السلام) للفرزدق أنّ الّذي يحرّكه إنّما هو الامتثال لقضاء الله وأمره والتسليم له، فسواءً كانت السيوف مشهورةً عليه أو مشهورةً له على عدوّه، فإنّه لا يكترث بها، لأنّ المهمّ إنّما هو تحقيق ما أراده الله وأحبّه وقضاه، فعلى فرض تحقيق ما أحبّه أو الحيلولة دون ما رجاه، فهوراضٍ بما ارتضاه الله، وموقف الناس عليه أو له لا دخل له في تشييد عزمه ولا تغيير موقفه، وقد أخذ الأعداء عليه أقطار الأرض وآفاق السماء، فهو يمضي إلى حيث أمره الله في الدفاع عن نفسه وأهل بيته، ويشهد لذلك الكثير من النصوص التاريخيّة الّتي ذكرنا بعضها وسيأتي بعضها الآخر في موضعه، من قبيل رجزه (علیه السلام) الأخير يوم العاشر.

الومضة العاشرة: مخرجات الوصيّة

ربّما قيل: إنّ ما يحبّه الإمام (علیه السلام) وما يرجوه إنّما هو ما نصّ عليه في وصيّته الّتي دفعها إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة في المدينة المنوّرة قُبيل خروجه منها، وفيها أنّه إنّما خرج لطلب الصلاح والنجاح في أُمّة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسير بسيرة أبيه وجدّه والخلفاء الراشدين من بعده.

أو أنّه السعي من أجل إسقاط الكيان الحاكم أو فضحه، وإقامة حكم الله وتحكيم الحقّ وأهله، وغيرها من الشعارات الّتي افترضها المحلّلون.

ص: 184

فقد ناقشنا الوصيّة المشار إليها بإسهابٍ سنداً ودلالةً في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء من المدينة المنورة)، وما ذكرناه هناك يفي لبيان ما في هذا القول، فلا نعيد.

اللفتة الخامسة: «لم يتعدَّ مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته»

اشارة

يمكن أن نستجلي ما في هذه الفقرة من خلال النكات التالية:

النكتة الأُولى: اختلاف اللفظ

ورد في النصوص لفظ: «فلم يتعدّ» و«فلم يعتد» و«فلم يبعد»، والظاهر أنّها متقاربة المعنى وتؤدّي إلى مرادٍ واحدٍ ومقصودٍ مشترك، فليس الاختلاف ذي خطرٍ يُعتدّ به.

النكتة الثانية: التفريع

التفريع الوارد «فلم يعتد» إنّما هو تفريعٌ على حيلولة القضاء على الرجاء، وهذا الّذي لم يتعدّ أو يبعد أو يعتدّ هو مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته، فهو قد أدّى ما عليه واستبرأ ذمّته، وقام بما ينبغي عليه أن يقوم به، واستنفذ ما في وسعه، وبذل غاية المجهود في مراده.. وهو على كلّ حالٍ مصيبٌ غير مخطئ، وهو قد نوى الحقّ وبنى سريرته على التقوى.

النكتة الثالثة: اختلاف الضمير في الفرضين

حينما ذكر الإمام (علیه السلام) الفرض الأوّل: «إن نزل القضاء بما نحبّ»، فرّع

ص: 185

عليه فقال: «فنحمد الله على نعمائه ...»، وهو الفرض الّذي لا يمكن أن يتخلّف -- حسب ما نعتقده -- في ما يحبّ وما لا يحبّالإمام (علیه السلام) ، باعتباره لا يحبّ إلّا ما يحبّ الله، ولا تختلف إرادته عن إرادة الله، ولا تتخلّف عن قضائه، لذا أخبر عن ما يحبّ بضمير المتكلّم: «نحبّ»، وفرّع عليه بضمير المتكلّم: «فنحمد».

فيما ذكر الفرض الثاني: «وإن حال القضاء دون الرجاء»، والله على كلّ شيءٍ قدير، وهو لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، والإمام (علیه السلام) تابعٌ في إرادته لإرادة الله، بيد أنّ هذا الفرض كأنّه غير منظورٍ ولا مقصود إلّا من باب رعاية مقام الربوبيّة وأدب العبوديّة مع الله (عزوجل) ، لذا ذكر الرجاء دون أن ينسبه إلى نفسه، وفرّع عليه بضمير الغائب، ولم ينسبه إلى نفسه المقدّسة أيضاً، فقال: «فلم يعتدّ مَن كان الحقّ نيّته»، في تعبيرٍ عامّ شامل، كأنّه يقرّر كلّيّةً تصدق على مَن دخل تحت عمومها وكليّتها، وحقّق مصداقاً من مصاديقها، من دون إدخال نفسه القدسيّة بخطابٍ مباشرٍ داخل سياجها، بخلاف التفريع ب-- «فنحمد الله» الّذي تحدّث فيه عن نفسه مباشرةً بضمير المتكلّم.

النكتة الرابعة: تأكيدٌ على التعامل مع الله

على كلا التقديرين المذكورين في كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ الإمام (علیه السلام) لا يقصد سوى التعامل مع الله، فإن نزل القضاء بما يحبّ فهو يحمد الله، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء،

ص: 186

فإنّ التعامل -- أيضاً -- سيكون مع الله فقط، إذ أنّه يُخبِر عن نيّة الحقّوإسرار التقوى، وهما شأنان يتعامل بهما العبد مع ربّه، والله هو المطّلع على السرائر، وهو الحقّ.

الجواب السادس: «ها! إنّها لَمملوءة كتباً»

اشارة

فقال له: يا ابن بنت رسول الله، تركتُ القلوب معكم، والسيوف مع بني أُميّة. فقال: «ها، إنّها لَمملوءة كتباً»، وأشار إلى حقيبةٍ كانت تحته ((1)).

ويمكن متابعة ما ورد في هذا الجواب من خلال عدّة خطرات:

الخَطرة الأُولى: معارضة الأجوبة المشهورة

تفرّد -- حسب الفحص -- العمرانيُّ برواية الجواب بهذا اللفظ، وهو من أبناء نهايات القرن السادس، وهو يعارض تماماً -- من حيث المؤدّى النهائيّ -- جميع ما ورد في المقام في المصادر الّتي سبقَته والمصادر الّتي جاءت بعده، فلا ضرورة للبناء عليه والاعتداد به وإطالة المكث عنده كثيراً.

الخَطرة الثانية: ردّ المقطع الأخير

بغضّ النظر عمّا في الخبر، فإنّه يفيد -- عاقبةً -- أنّ الإمام (علیه السلام) ردّ المقطع

ص: 187


1- الإنباء للعمراني: 14.

الأخير من كلام الفرزدق، إذ أنّ قول الفرزدق: (إنّ السيوف عليك)يُشعِر أنّ الناس على الإمام (علیه السلام) ، وأنّه لا ناصر له ولا معين، فقال الإمام (علیه السلام) : «ها، إنّها لَمملوءة كتباً»، وأشار إلى حقيبةٍ كانت تحته، فهو يكذّب زعم الفرزدق، ويستدلّ له على وجود الناصر والمعين بشهادة الكتب الّتي ملأت الحقيبة.

وبناءً على هذا الفهم، لا يصلح لمن أراد الاستفادة من كلام الفرزدق في تقييم المجتمع الّذي أخبر عنه، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) كذّب الفرزدق وتقييمه.

الخَطرة الثالثة: إقامة الحُجّة

ربّما أفاد قوله: «ها، إنّها لَمملوءةٌ كتباً»، وتأكيدها بوسائل التأكيد اللفظيّة، والإشارة، وإراءة الحقيبة، ووجودها تحته واستقراره عليها وتمكّنه منها، أنّ الإمام (علیه السلام) يشير إلى الفرزدق أنّ ما يزعمه لا يقاوم الحجج الّتي مع الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الإمام (علیه السلام) له أن يحتجّ عليهم ويقنعهم ويناظرهم، فيرجعون ويرعوُون ويفيقون ويثوبون إلى رشدهم.

وإن لم يرجعوا، ولم تنتفض بهم غيرة، ولا تنهض بهم كرامة، ولا تنفعل فيهم مشاعر، ولا تقوم بهم قيمهم، فقد حمل الإمام (علیه السلام) معه ما يلزمهم بما ألزموا به أنفسهم، ويتمّم الحجّة عليهم، وهو حجّة الله البالغة.

الخطرة الرابعة: وثوق الإمام بما معه

ربّما أشعر السياق وطريقة صياغة الخبر أنّ الإمام (علیه السلام) قد وثق بالكتب الّتي ملأت الحقيبة، وأنّه قد عدّهم من جنده، واعتمد وعودهم، واستند

ص: 188

إلى دعوتهم، وهو ماضٍ بالارتكان إلى تلك الأصوات، ومبتهجٌ بالنظر إلى بريق السيوف المختبئة بين سطور الكتب والرسائل، ومستشرفٌ للنصر العسكريّ بالركون إلى تلك الوعود.

فإن كان هذا هو المقصود من إرسال الخبر وروايته وسياقه وصياغته، فهو تزييفٌ بائس، وبهرجةٌ مفضوحة، وتصويرٌ فجٌّ باهت، وتشويشٌ مشوَّش، سرعان ما يتبدّد وينكشف لكلّ ذي عينين.

فإنّ الإمام (علیه السلام) قد صرّح في أكثر من موضع أنّه لا يقيم لدعواتهم وزناً، وإنّما هو ماضٍ في طريقه، سائرٌ على المحجّة البيضاء اللائحة، عالمٌ بمن خاطبه ومن كاتبه، عارفٌ بهم، ولو أُغمض النظر عن إمامته -- وهو فرضٌ مستحيل -- فإنّ أغبياء عصره -- من قبيل عبد الله بن عمر، وغيره من المعاصرين، كابن عبّاس وابن مطيع وغيرهما -- قد أدركوا غدر الكوفيّين، ولوّحوا بذلك للإمام (علیه السلام) ، وأصحروا له وكاشفوه بصراحةٍ تامّة، والإمام (علیه السلام) قد عاش مع من كاتبه وعالجهم ولفظهم بعد أن عجمهم، فلا يمكن أن يتصوّر أحدٌ في شرق الأرض أو غربها غابرها وحاضرها أنّ ثمّة غمامةٌ تغطّي الموقف، أو ضبابٌ يلفّ المشهد، بحيث يمنع الإمام (علیه السلام) -- والعياذ بالله -- أو غيره من رؤية الواقع كما هو.. وقد أتينا على بيان ذلك تفصيلاً في أكثر من موضع، فلا نعيد.

ص: 189

الجواب السابع: امتعض وما أعجبَته!

اشارة

قلت: أنت أحبّ الناس إلى الناس، والسيوف مع بني أُميّة، والقضاء من السماء، قال: فوَاللهِ لقد امتعض منها وما أعجبَته، قال: ثمّ مضى ومضيت ((1)).

ويمكن أن نفهم هذا الجواب في الإبرازات التالية:

الإبراز الأوّل: معارضة الأجوبة المشهورة

في هذا الجواب إشعارٌ يوحي للمتلقّي نفس المعنى الّذي يسرّبه الجواب السادس، وربّما اختصر المؤلّف ما استفاده من العمرانيّ أو أعاد صياغته، إذ أنّ ابن العديم تفرّد بحكاية هذا الجواب -- حسب الفحص -- وهو من أبناء القرن السابع.

وكيف كان، فإنّ هذه الحكاية تعارض -- بالمآل -- الأجوبة المشهورة المنقولة في كتب مَن سبق ومن لحق.

الإبراز الثاني: سبب الامتعاض

أيّ شيءٍ امتعض منه الإمام (علیه السلام) ؟

هل امتعض من إخباره أنّه أحبّ الناس إلى الناس، فلم يعجبه

ص: 190


1- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

ذلك؟

أو إخباره -- ونستغفر الله -- أنّ القضاء ينزل من السماء؟

كلاهما لا يمكن أن يسبّبان للإمام (علیه السلام) ولا لغيره الامتعاض وعدم الإعجاب، ومن المعيب الاستمرار للاستدلال على ذلك، فلا يبقى إلّا أن يكون قد امتعض من إخباره أنّ السيوف مع بني أُميّة.

فلماذا يمتعض الإمام (علیه السلام) وقد استخبره واستجلى خبر الناس منه؟ وهل كانت هذه النتيجة خافيةً على الإمام (علیه السلام) ؟ وهو الّذي أخبر جدّه في المدينة قبل أن يخرج منها أنّ الناس قد ضيّعوه وخذلوه، وهو أعلم الخلق بالخلق، وأعرف الناس بأهل الكوفة!

ولِمَ يمتعض من خبرٍ يعينه على اكتشاف الوجهة الّتي يمّم وجهه نحوها وقصدها وهو الآن بعيد عنها؟

الإبراز الثالث: مفاد الامتعاض

اشارة

قد لا يتكلّم الرجل بكلامٍ يعبّر فيه عن كوامنه ويصحر به عن مخبيّات سرائره، بيد أنّه يشير إشارةً أو يسلك سلوكاً أو يعبّر تعبيراً من خلال ملامح وجهه أو نظراته، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) علاوةً على كونه إماماً يُحتجّ بفعله وقوله وإمضائه، فإنّه سيّد العقلاء وأمير الكلام وكمال القوّة في التعبير بكلّ أشكاله وتفاصيله، فلمّا أخبر عنه الفرزدق أنّه قد امتعض ولم يعجبه كلامه، فيلزم أن يكون لهذا الامتعاض مفادٌ أراد الفرزدق التلويح به

ص: 191

لمن يسمع كلامه، ويمكن أن يكون أحد مفادين:

المفاد الأوّل: كراهية التعرّف على الواقع

مرّ معنا قول الفرزدق للإمام (علیه السلام) في بعض الألفاظ: (على الخبير سقطت)، أو (أُصدقك الخبر)، وأتينا على بيانها في موضعها، فكأنّ الفرزدق يعرف الحقيقة، فواجه بها الإمام (علیه السلام) وكره الإمامُ (علیه السلام) التعرّف على الواقع كما هو!

فكأنّه يسعى إلى تصوير الإمام (علیه السلام) -- والعياذ بالله ونستغفر الله! -- بأنّه يريد أن يتغافل عن الواقع، ويستسلم لما يتصوّره هو من دون الإذعان للآخرين وللوقائع، ويأبى الاستماع إلى نصائحهم ومعارفهم وتجاربهم ورؤاهم، وهذا ما دأب عليه عمّال الحكّام، وجرى على تصويره مثل العبدين ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما، كما هو واضحٌ لمن قرأ كلامهم وحواراتهم مع الإمام (علیه السلام) وتصريحاتهم بعد شهادته (علیه السلام) .

المفاد الثاني: تكذيب الفرزدق وتسخيف رأيه

يمكن أن يُفهَم سبب الامتعاض بفهمٍ آخر ربّما يكون أوفق وأكثر توفيقاً، بغضّ النظر عمّا في الخبر..

إنّما امتعض الإمام (علیه السلام) من إخبار الفرزدق ولم يعجبه تكذيباً له، وتسخيفاً لرأيه، وإغماداً للسيوف الّتي زعم أنّها عليه، إذ لا يمكن افتراض التكذيب والتسخيف في كلام الفرزدق إلّا في المقطع الأخير، فلا الإخبار

ص: 192

عن كون الإمام (علیه السلام) أحبّ الناس إلى الناس، ولا نزول القضاء من السماء يمكن أن تردّ وتكذّب وتسخّف وهي الحقّ بعينه.

فإن تمّ هذا الفهم، فسيقصر الخبر عن النهوض لمن أراد أن يوظّف كلام الفرزدق ويستنبط منه ويستخلص منه رؤى وتصوراتٍ ومواقف، ويرتّب عليه نتائج قد تكون خطيرة.

الإبراز الرابع: التلويح بمقاصد العدوّ وافتراءاته على الإمام (علیه السلام)

إمعان النظر في النصّ يُشعِر المتأمّل أنّ الإمام (علیه السلام) ينطوي على شيء -- نعتذر من خامس أصحاب الكساء لتجاوز حدود الأدب في الكلام، بيد أنّها ضرورة البحث -- ويريد تحقيقه، فلا يعجبه الاستماع إلى ما يخالف ما يطمح إليه، ويمتعض من مواجهته بما يثبّطه لما خطّط له وأعدّ له الذخيرة والعدّة، في تسريبٍ غير محسوسٍ لذهن المتلقّي بمقاصد لم يصرّح بها الإمام (علیه السلام) ولم يذكرها، ليقنع المتابع للأحداث أنّ الإمام (علیه السلام) قد بيّت للخروج بالمعنى المصطلَح، وما يترتّب عليه من مكاسب!

ونكتفي بهذا القدر؛ تفادياً للتوسّع والاستطراد لفتح المراد تفصيلاً، تحسّباً من التورّط في التعبير بكلماتٍ ومفرداتٍ لا تناسب مقام أشرف الخلق بعد من استثناهم الله، واللبيب تكفيه الإشارة.

ص: 193

الإبراز الخامس: تقييم الفرزدق وتصوّره

لا يخفى على من قرأ النصّ -- ولو على عجل -- أنّ الفرزدق بادر إلى بيان حال الإمام (علیه السلام) ووصف ردّ فعله، فأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ الفرزدق فهم من صمت الإمام (علیه السلام) وسكوته وتعابير وجهه الّتي لم يرويها لنا الفرزدق أنّه (علیه السلام) قد امتعض ولم يعجبه الكلام، ولم يحكِ لنا الفرزدق مشاهداته الّتي ولّدت عنده هذا التصوّر، فربّما سمعناها ولم نفهم منها ما فهم منها الفرزدق.

والإمام (علیه السلام) لم يصرّح -- حسب هذا النصّ -- بأيّ كلمةٍ ولم يردّ عليه شيئاً، ولم يروِ لنا أحدٌ غير الفرزدق، سواءً من كان معه أو من كان في الركب الحسيني أو غيرهم ممّن حضر، إن كان ثمّة من حضر، فهو تصوّرٌ خاصٌّ بالفرزدق، لا ندري مدى صوابه ومصداقيّته وصحّة فهمه لمشاهداته.

الجواب الثامن: «أنا أَولى مَن قام بنصرة دين الله!»

اشارة

فلمّا وصل بستان بني عامر لقيَ الفرزدق الشاعر، وكان يوم التروية، فقال له: إلى أين يا ابن رسول الله؟ ما أعجلَك عن الموسم؟! قال: «لو لم أعجل لَأُخذت أخذاً، فأخبِرْني يا فرزدق عمّا وراءك»، فقال: تركتُ الناس بالعراق قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أُميّة، فاتّقِ الله في نفسك وارجع.فقال له: «يا فرزدق، إنّ هؤلاء قومٌ لزموا طاعة الشيطان، وتركوا

ص: 194

طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أَولى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزازِ شرعه، والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا». فأعرض عنه الفرزدق، وسار ((1)).

وقد مرّ معنا فيما مضى تفصيل الحديث في كلام الفرزدق، والّذي يهمّنا الآن إنّما هو جواب الإمام (علیه السلام) ، وسنتعرّض له في خطوات:

الخطوة الأُولى: تغيّر الأجوبة في الكتب المتأخّرة

لاحظنا في الجواب السادس والسابع ثمّ في هذا الجواب الثامن أنّ الجواب نحى منحىً يختلف عن المصادر المتقدّمة، وهذا الجواب تفرّد به سبط ابن الجوزي، وهو من أبناء القرن السابع أيضاً، وفي الجواب غرابةٌ لا تتواءم ولا تنسجم ولا تتّفق مع الأجوبة الواردة في المصادر السابقة من جهة، ولا تلتئم مع مجريات الأحداث وظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وخروجه من المدينة ومن مكّة وملاحقة القوم له، ولم يسبق لسيّد الشهداء (علیه السلام) كلامٌ على وزان ما رواه سبط ابن الجوزي.ولا يخفى على من قرأ سير الأحداث في المصادر، وقارنها بما في (تذكرة الخواصّ) من رواية سبط ابن الجوزي، يجد أنّ الأخير يمتاز بتصوير

ص: 195


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

الأحداث تصويراً له صبغة خاصّة تختلف عن الرواية المشهورة في المصادر.

ومن الغريب أنّ ما رواه ابن الجوزيّ وتفرّد به -- حسب الفحص -- بقي غريباً، إذ أعرض عنه العلماء والمؤرّخون، ولم يشتهر بينهم الارتكان عليه والاستناد إليه والاستدلال به في بحوثهم، بل أعرضوا حتّى عن روايته، فهو ليس متناً معروفاً مشهوراً عند المتقدّمين والمتأخّرين.

الخطوة الثانية: متى لزم القوم طاعة الشيطان؟

لقد لزم القوم طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، منذ أن عصوا الله في بيعة الغدير، وانقلبوا على أعقابهم في السقيفة، وكفروا بآيات الله، وبدّلوا نعمة الله كفراً، وأحلّوا قومهم دار البوار، ونصبوا الأوثان البشريّة لتُعبَد من دون الله، وصعدوا على أكتاف آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وقد شربوا الخمور منذ عهد معاوية وما قبله، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وليس في ذلك مجالٌ لمنازع أو مكابر، ونحن لا نريد الخوض في الاستدلال لذلك وذكر النصوصالتاريخيّة، فقد تكفّلَت بها عشرات الكتب بل مئاتها ((1))، ويكفي قراءة كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) لمعاوية لاقتباس صورةٍ واضحة مختصرة عن المشهد الّذي

ص: 196


1- أُنظُر للتفصيل موسوعة (الغدير) للعلّامة الأميني، رحمه الله وحشره مع أمير المؤمنين (علیه السلام) .

يرسمه الإمام (علیه السلام) لتلك الفترات، فلم يكن ما ذكره سبط ابن الجوزيّ جديداً جدّ في تلك الأيام، ولم يكن من قبل، وقد جرى ما جرى ممّا هو أشدّ وأدهى في عصر إمامة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، وكان معه أخوه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهما ريحانتا النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبطاه وسيّدا شباب أهل الجنّة، وقد آثرا الصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين، ولم يطلقا شعار (الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا).

كما ترك الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) رفع هذا الشعار خلال زهاء عشر سنين من فترة إمامته، ولم تمرّ على أيّام نزو يزيد على الأعواد إلى يوم لقاء الفرزدق أكثر من شهور معدودات لا تبلغ الخمسة شهور كاملة، فقد نزا يزيد على الأعواد في النصف من رجب، والتقى الفرزدق الإمام (علیه السلام) -- حسب رواية سبط ابن الجوزيّ -- في الثامن من ذي الحجّة، فما رآه الإمام (علیه السلام) منذ غُصبَت الخلافة بعد شهادة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى يوم هلاك معاوية، وخلال فترة إمامته بعد شهادة أخيه الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) إلى هلاك معاوية، أكثر وأشدّ وأعظم وأدهى، بما في ذلك قضيّة توريثالمُلك، إذ أنّها بدأت منذ أيّام معاوية وقبل هلاكه بسنين.

ولم تكن الظروف في هذه الأيّام أكثر تهيّأً من الأيّام السالفة بشهادة الفرزدق نفسه، الّذي رأى ما رأى، وأمر الإمام (علیه السلام) أن يرجع ويتّقي الله في نفسه، وأنّ السيوف عليه مع بني أُميّة تماماً كما كانت من قبل!

ص: 197

الخطوة الثالثة: إمكان التغيير!

اشارة

يمكن أن يكون التخطيط للتغيير الموعود في أحد فترتين:

الفترة الأُولى: في حياة سيّد الشهداء (علیه السلام)
اشارة

تفيد العبارة الّتي يرويها سبط ابن الجوزيّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا رأى ما رأى من القوم عزم على التغيير، لأنّه أحقّ من غيّر، فيفهم منها أنّ قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) يستهدف أساساً هذا التغيير، ولكي يستطيع التغيير لابدّ أن يقضي على الكيان الموجود ويبني كياناً جديداً على أنقاض الكيان البائد.

بيد أنّ هذه الفكرة أساساً قد ناقشناها -- ولو باختصارٍ شديد -- في الخطوة التالية، كما سنسمع.

ومع ذلك، يمكن أن يقال:

لقد كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) إمام الأُمّة، ووصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخليفته من بعده، وقد شهد القوم بيعة الغدير وبايعوه، وقالوا له: بخٍ بخٍ لك يا عليّ، لقد أصبحتَ مولانا ومولا كلّ مؤمنٍ ومؤمنة.. ثمّ دبّروافعلتهم وحزموا أمرهم منذ أيّام النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ونفّذوا ما أرادوا بعد أن قضى النبيّ (صلی الله علیه و آله) نحبه شهيداً، واجتمعوا في السقيفة والنبيّ (صلی الله علیه و آله) بعدُ لم تجفّ أكفانه!

فانقلبوا على أعقابهم، تماماً كما أخبر القرآن: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ

ص: 198

عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ((1)).

ثمّ بعد أن قضى الثلاثة الأوائل، اجتمع الناس كربيضة الغنم على أبي الحسن، ودعوه للبيعة الّتي بايعوا بها مَن كان قبله على موازين السقيفة وقوانينها، فأبى عليهم، ثمّ لم يتركوه حتّى بايعوه، وهم على أوثانهم عاكفون، وبدينهم الّذي ابتدعوه راضون متديّنون.

وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) معروفاً لديهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويعتقدون أنّه أفضل الصحابة على الإطلاق أو من أفضلهم -- حسب عقيدتهم --، وقد شهدوا مشاهده مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) منذ اليوم الأوّل للبعثة حتّى شهادة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وسمعوا ما نزل فيه من آي القرآن الكريم، ووعوا ما قاله فيه رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله) ، وعلموا أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) أعلمهم، وأقضاهم، وأولاهم بالأمر، وأقربهم من الله ورسوله.. والكلام في ذلك يطول ولا ينتهي، ومَن ينكر فضائل أمير المؤمنين؟ ولوأنكرها منكر فمن باب ﴿جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾ ((2)).

مع كلّ ما كان للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ومع أنّهم هم الّذين دعوه للبيعة وبايعوه طوعاً، بيد أنّهم أبوا عليه أن يسير بهم على المحجّة البيضاء، فلم يقبلوا منه أن يغيّر عليهم شيئاً من دين أوثانهم، وبدع أئمّتهم

ص: 199


1- سورة آل عمران: 144.
2- سورة النمل: 14.

وأربابهم.

روى الشيخ الثقة الكلينيّ في (الكافي)، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عثمان، عن سُلَيم بن قيس الهلاليّ قال:

خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ صلّى على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ثمّ قال:

«ألا إنّ أخوَفَ ما أخافُ عليكم خِلّتان: اتّباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة.

ألا إنّ الدنيا قد ترحّلت مُدبِرة، وإنّ الآخرة قد ترحّلَت مُقبِلة، ولكلّ واحدةٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ اليوم عملٌ ولا حساب، وإنّ غداً حسابٌ ولا عمل.

وإنّما بدء وقوع الفتن مِن أهواءٍ تُتَّبَع، وأحكامٍ تُبتَدَع،يُخالَف فيها حُكمُ الله، يتولّى فيها رجالٌ رجالاً.

ألا إنّ الحقّ لو خَلُصَ لم يكن اختلاف، ولو أنّ الباطل خَلُصَ لم يَخْفَ على ذي حِجى، لكنّه يُؤخَذُ مِن هذا ضِغْثٌ ومِن هذا ضِغث، فيُمزَجان فيجلّلان ((1)) معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الّذين سبقَت لهم من الله الحسنى.

ص: 200


1- في كتاب سُلَيم: «فيُمزَجان فيحسبان».

إنّي سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: كيف أنتم إذا لبِسَتكم فتنةٌ يربو فيها الصغير، ويَهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتّخذونها سُنّة، فإذا غُيّر منها شيءٌ قيل: قد غيّرت السنّة.

وقد أتى الناس مُنكَراً، ثم تشتدّ البليّة، وتسبى الذرّيّة، وتدقّهم الفتنة كما تدقّ النارُ الحطب، وكما تدقّ الرحى بثفالها، ويتفقّهون لغير الله، ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخِرة».

ثمّ أقبل بوجهه، وحوله ناسٌ من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال:

«قد عملَت الولاةُ قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرينلسُنّته، ولو حملتُ الناسَ على تركها وحوّلتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لَتفرّق عنّي جُندي، حتّى أبقى وحدي، أو قليلٍ من شيعتيَ الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله (عزوجل) وسُنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

أرأيتُم لو أمرتُ بمقام إبراهيم (علیه السلام) فرددتُه إلى الموضع الّذي وضعه فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ورددتُ فدكاً إلى ورثة فاطمة (علیها السلام) ، ورددتُ صاع رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما كان، وأمضيتُ قطائع أقطعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأقوامٍ لم تمضِ لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددتُ قضايا من الجَور قُضيَ بها، ونزعت نساء

ص: 201

تحت رجالٍ بغير حقٍّ فرددتهنّ إلى أزواجهنّ، واستقبلتُ بهنّ الحكم في الفروج والأحكام، وسبيتُ ذراري بني تغلب، ورددتُ ما قُسّم من أرض خيبر، ومحَوْتُ دواوين العطايا، وأعطيتُ كما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يُعطي بالسويّة، ولم أجعلها دُولَةً بين الأغنياء، وألقيتُ المساحة، وسوّيتُ بين المناكح، وأنفذت خُمس الرسول كما أنزل الله (عزوجل) وفرضه، ورددتُ مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى ما كان عليه، وسددتُ مافُتِح فيه من الأبواب، وفتحتُ ما سُدّ منه، وحرّمتُ المسح على الخُفَّين، وحددتُ على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتَين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ب-- (بسم الله الرحمن الرحيم)، وأخرجت مَن أُدخِل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجده ممّن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخرجه، وأدخلت مَن أُخرج بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ممّن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن، وعلى الطلاق على السُّنّة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغُسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الأُمم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، إذاً لَتفرّقوا عنّي!

واللهِ لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة، وأعلمتُهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل

ص: 202

عسكري ممّن يقاتل معي ((1)): يا أهل الإسلام، غُيّرَت سُنّة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً.ولقد خِفتُ أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ((2)).

ص: 203


1- في (بحار الأنوار) عن (الاحتجاج): «فنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل دوني، وسيفه معي أتّقي به في الإسلام وأهله».
2- في (بحار الأنوار: 34 / 167 ح 975): تفسير العيّاشي، عن حَريز، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما قال: «لمّا كان أمير المؤمنين (علیه السلام) في الكوفة، أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماماً يؤمّنا في شهر رمضان. فقال: لا. ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وا رمضاناه. فأتاه الحارث الأعور في أُناسٍ فقال: يا أمير المؤمنين، ضجّ الناس وكرهوا قولك! فقال (علیه السلام) : دَعُوهم وما يريدون، ليصلّي بهم مَن شاؤوا. ثمّ قال: فمَن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً. (التهذيب): عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد المدائنيّ، عن مصدّق بن صدقة، عن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: سألتُه عن الصلاة في شهر رمضان في المساجد، قال: «لمّا قدم أمير المؤمنين (علیه السلام) الكوفة، أمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ (علیه السلام) بما أمره به أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ (علیه السلام) صاحوا: وا عُمَراه، وا عُمراه! فلمّا رجع إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناس يصيحون: وا عُمراه، وا عمراه. فقال أمير المؤمنين: قل لهم: صلُّوا.

ما ((1)) لقيتُ من هذه الأُمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار!

وأعطيت ((2)) من ذلك سهم ذي القربى الّذي قال الله (عزوجل) : ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ ((3))، فنحن واللهِ عنى بذي القربى، الّذي قرننا الله بنفسه وبرسوله (صلی الله علیه و آله) ، فقال (تعالى): ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، فينا خاصّة، ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في ظلم آل محمّد، ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ((4)) لمن ظلمهم، رحمةً منه لنا، وغنىً أغنانا الله به ووصّى

ص: 204


1- في كتاب سُلَيم: «بؤسى لما لقيت..».
2- في (بحار الأنوار) عن (الاحتجاج): «وأعظم من ذلك سهم ذوي القربى، الّذين قال الله (تبارك وتعالى) في حقهم: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾. وفي كتاب سُلَيم: «ولم أُعطِ سهم ذوي القربى منهم إلّا لمَن أمر الله بإعطائه، الّذين قال الله: (إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ).
3- سورة الأنفال: 41.
4- سورة الحشر: 7.

به نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم الله رسوله (صلی الله علیه و آله) وأكرمنا أهل البيت أن يُطعِمنا من أوساخ الناس، فكذّبوا الله وكذّبوا رسوله، وجحدواكتاب الله الناطق بحقّنا، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا.

ما لقي أهل بيت نبيٍّ من أُمّته ما لقينا بعد نبيّنا (صلی الله علیه و آله) ، والله المستعان على مَن ظلمنا، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ((1)).

هذا نموذجٌ ومثال لا أكثر، ولمن راجع التاريخ والحديث وقع على عشرات الأمثلة، بل مئاتها.

وهذا أمير المؤمنين (علیه السلام) في مكانه وموضعه في الأُمّة، وكان في الناس من الصحابة الّذين رأوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وسمعوا ما نزل فيه من آيات الذكر الحكيم وما قاله فيه النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، وعرفوه عن قرب، شهدوا مشاهده وعاصروا مواقفه، وأقرّوا له بالولاية والوصاية وإمرة المؤمنين.

وقديماً قيل: يُعرف حكم الشيء من الأشباه والنظائر، فإذا كان هذا حال الأُمّة ومجتمع الصحابة مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فهل كان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يغيّر المجتمع الّذي شبّ على البدعة وأُشرب حبّ العجل

ص: 205


1- الكافي للكليني: 8 / 58 ح 21، وفي كتاب سُليم: 2 / 718 ح 18 بزيادات، وفي بحار الأنوار: 34 / 167 ح 975 عن الاحتجاج بشيءٍ من التفاوت الطفيف وتتمّةٍ طويلة.

والسامريّ في قلبه، وتلقّى بدعهم بالقبول والتسليم والتعبّد واليقين، وقاتل أباه (علیه السلام) وخذل أخاه (علیه السلام) وقتله، وشهر السيوف في وجهه؟

مجتمعٌ نما في مزابل غابات القرود، ورعى في دِمنها، وشرب قيء خمورها ولحسها، ووُلد ونشأ وتربّى على الضلال، وابتعد عن عصرالنبيّ (صلی الله علیه و آله) عقوداً من الزمن!

لقائلٍ أن يقول:
اشارة

ربّما يقول قائل: إنّ الأزمان تختلف، والحوادث تتغيّر، وربّما توفّرت الفرصة لسيّد الشهداء (علیه السلام) ولم تتوفّر لأبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وربّما جادت الأيّام على سيّد الشهداء (علیه السلام) فهيّأت له الأجواء، أو كانت ثمّة خصائص في شخصه ممّا يجعله قادراً على أن يغيّر ما لم يغيّره أبوه (علیه السلام) من قبل.

فإنّ هذا القول غير مُجدٍ وليس له ما يرتكن إليه ويسنده سوى الاحتمالات والتظنّي والوهم المغبّش وزخارف كلام منقوشة على سراب يرفع صورة واقع في عالم الخيال، ولا نريد الإطالة في مناقشته، فإنّ المؤمن المعتقد بالإمامة والمتابع لسير حوادث التاريخ لا يجد مسوّغاً للردّ على مثل هذه الفرضيّات، ونكتفي بالإشارة للتذكير ليس إلّا..

التذكير الأوّل: أمير المؤمنين أفضل من وُلده

إنّ المؤمن المعتقد لا يشكّ في أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أفضل الأئمّة جميعاً، وأنّ ما عند سيّد الشهداء عند أمير المؤمنين (علیهما السلام) ، والمتابع لسير

ص: 206

الأحداث والظروف الّتي أحاطت بالإمامين يكتشف بدون أدنى عناءٍ أنّ الظروف الّتي قامت للمولى أمير المؤمنين (علیه السلام) لم تقم لواحدٍ من وُلده، وقد سمعنا بعض الإشارات إليها قبل قليل، فمن هذه الجهة لا يمكنالارتكان إلى هذا الفرض، ولا حتّى توهّمه، لأنّه سيؤدّي بنا إلى المغالطة والتعسّف والحياد عن صفحة الواقع.

التذكير الثاني: مضامين الأحاديث الشريفة

لا نريد تحكيم العامل الغيبيّ هنا، وإنّما نريد أن نستفيد من مضامين الأحاديث الشريفة ضمن مجال الفهم التاريخي، فإنّ الأحاديث استفاضت أنّ المغيِّر الأعظم والمنقذ الأكبر للبشريّة إنّما هو ابن الإمام سيّد الشهداء (علیهما السلام) ، وأنّ الأئمّة من آبائه (علیهم السلام) لا ولم يغيّروا حتّى يأذن الله لهم في الرجعة.

فبغضّ النظر عن الجانب الغيبيّ الواضح في مثل هذه الأحاديث، فإنّنا نستشعر مضامين تاريخيّة كامنة فيها تنبأ عن تقييم وتقدير الوضع الاجتماعي والمستوى النفسي والأخلاقي والفكري والديني الّذي ستعيشه الأُمّة حتّى يبعث الله القائم (علیه السلام) من آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وأنّ الأُمّة سوف لا ولن تكون معدَّة لتقبّل فيض السماء والتأثر بالغيث النازل عليها في الكتاب والسنّة، وبالتالي ستكون بعيدةً عن الانتفاع بنور الإمام الحاكم وسلطان الله المبسوط على الأرض، وتأبى التسليم والاستسلام لأحكام الله وفرائض

ص: 207

القرآن، وستبقى متمرّدةً على الأمر الربّانيّ الّذي صدع به رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الغدير، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في أكثر من موضع، فلا نعيد.

التذكير الثالث: سيره بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام)

في وصيّة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة الّتي أرسلها ابن أعثم وتفرّد في نقلها، قال سيّد الشهداء (علیه السلام) :

«أُريد أن آمر بالمعروف، وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين (رضی الله عنهم) » ((1)).

وقد ارتكن إليها الكثيرون واستندوا عليها، وتلقّوها بقبولٍ حسن، وفهموها فهماً يدعم ما يذهبون إليه، وبناءً على ما ذهبوا إليه فإنّ الإمام (علیه السلام) هنا يعد ويرسم الطريق الّذي يريد أن يسلكه في الأُمّة، وهو السير بسيرة جدّه وأبيه، وكلاهما سار في الأُمّة بسيرة المداراة وتأليف القلوب، ومشى بهم مشياً تفرضه التقيّة وظروفها، وقد سمعنا قبل قليلٍ كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) وشكواه، وهذا ما لا يخفى على ذي عينين، ولا يحتاج إلى مزيد بيانٍ واستدلال.

وأمّا الخلفاء الراشدون من بعده، فسواءً كان المقصود بهم الأئمّة

ص: 208


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 29، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 187.

المعصومين (علیهم السلام) أو المعنى المصطلح من هذه الكلمة، إذ أنّ الأئمّة (علیهم السلام) من وُلده ينبغي أن يسيروا بسيرة أبيهم وجدّهم سيّد الشهداء (علیه السلام) وليس العكس، ومع ذلك فإنّ الأئمّة (علیهم السلام) من وُلده جميعاًلم يمارسوا شيئاً من هذا التغيير المزعوم.

وأمّا إذا كان المقصود بالخلفاء الراشدين المعنى المصطلح، فإنّهم أصل البلاء، ومعادن البدَع، والعِجل المعبود من دون الله بتضليل السامري.

وقد أتينا على تفصيل الكلام في ذلك، وتناولنا الوصيّة سنداً ومتناً في بحثٍ طويلٍ في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة).

وكيف كان، فإنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد صرّح -- وفق هذا النصّ -- أنّه سيسير بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، ومقتضى ذلك أنّه كان سيغيّر بطريقتهم ووفق التزامات سيرتهم، وقد رأينا النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) وعملهما في التغيير والتزام التقيّة!

التذكير الرابع: الفرصة الموهومة!

إنّ الفرصة المتوهّمة والخصوصيّات المفترضة لم تثبت في صقع الواقع المنظور الّذي قرأناه على صفحات التاريخ وتواتر النقل على روايته، فلا الأُمّة كانت ناهضةً متفتّحةً مستعدّةً لاستقبال الرحمة الإلهيّة، وواعيةً لموقفها بين يدَي الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة، بل بقيَت متمرّدةً معكوسةً منتكسةً منقلبةً مرتكسةً في غيّها وضلالها واتّباعها للأرجاس والطواغيت،

ص: 209

وقد عدَت فقتلت إمامها ومنقذها، وأبعدت في الركض عكس الصراط المستقيم، وأمعنت في التفنّن بارتكاب الرذيلة الّتي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.من هنا يبدو أنّ هذا الفرض لا يستقيم، ولا يصحّ ولا يصمد للمناقشة، بالرغم من أنّنا لم نتناوله تناولاً جدّيّاً، واكتفينا بهذا القدر، ولتفنيده مجالٌ واسعٌ من الحديث، نتركه إلى محلّه إن شاء الله (تعالى).

الفترة الثانية: بعد شهادته

قد يقال: إنّ المقصود هو التغيير بالتضحية، وتقديم الغالي والنفيس، وتوظيف ما في سفك الدماء المحرّمة من تأثيرٍ في الناس، والقوّة الخارقة الّتي تمتاز بها التضحية في التغلغل في النفس البشريّة، وسحب البساط من تحت أقدام الطواغيت، و(أن يقوم بثورته العظيمة والانتحاريّة)!!! ((1))

فإنّ هذا الكلام يخالف ظاهر السياق، بل صريحه، إضافةً إلى ما يعترضه من موانع ومشاكل ومعضلات تحول دون التسليم به والانسياق معه، وهذا ما سنسمعه بعد قليلٍ في الخطوة التالية، إن شاء الله (تعالى).

الخطوة الرابعة: الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا

اشارة

هذا الشعار أساساً هو ما تحاول هذه الدراسة بحثه بشكل مسهب،

ص: 210


1- أنصار الحسين (علیه السلام) للشيخ محمّد مهدي شمس الدين: 12.

ومتابعة إثبات مدى صحّة نسبته لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) من جهة، وعلى فرض صحّة ذلك فما هو معناه؟ وقد يرى المتابع جميع الشواهد والأدلّة تقوم على خلاف ذلك..فلا يسع المجال هنا تناوله بالتفصيل، وربّما وفّقنا الله وأتاح الفرصة للتفصيل والتدليل على ذلك بعد أن نستجمع مشاهد القيام ونرصفها جنباً إلى جنب لتكتمل الصورة، ثمّ نتناول هذه المفردة بالذات.

ونكتفي هنا بالإشارة السريعة من دون تفصيلٍ واستدلال، وربّما تكررت في ثنايا البحوث الّتي سبقَت هذا البحث، وينبغي معرفة المراد من (لتكون كلمة الله هي العليا).

ويمكن أن يكون المقصود أحد المرادات التالية:

المراد الأوّل: إقامة الحكم الإلهيّ
اشارة

إذا كان المراد إقامة الحكم الإلهي، وتحكيم شرع الله، والحكم بين الناس بالحقّ الّذي أنزله الله، وإرجاع كلّ مظلمة، وتنفيذ الإرادة الإلهيّة، فهذا ما لا يمكن المصير إليه، للموانع التالية:

المانع الأوّل: تظافر النصوص

فقد تظافرت الأدلّة والأحاديث الشريفة الّتي بلغت حدّ التواتر (المعنوي) -- وربّما تجاوزته كثيراً -- أنّ ذلك لم يكن منذ أن هبط آدم أبو البشر إلى الأرض، ولا يكون أبداً إلى أن (يبعث الله قائماً) من وُلد فاطمة (علیها السلام)

ص: 211

يملؤها قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً، وبعد أن يكرّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ويرجع الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) .وقد رأينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحكم بين الناس بالتقيّة والظاهر، وكذا حكم أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) في مجتمعٍ كان شعاره: (وا سُنّة عمراه)! وكان يخاف أن يثور عليه عسكره لأدنى كلمةٍ يقولها من الحقّ، أو أن يذكر أوثان الباطل، وكذا أخوه (علیه السلام) .

المانع الثاني: اتّفاق علماء الطائفة

لقد اتّفقَت كلمات علماء الطائفة الحقّة بكلّ اتجاهاتهم ومشاربهم، وليس فيهم مَن شذّ عن ذلك _ إلّا أقلّ القليل ممّن لا يُعدّ في زمرة العلماء والفقهاء _ على أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن طالباً للحكم راغباً فيه، ولم يكن ساعياً من أجله.

المانع الثالث: مخالفة النصوص الشرعيّة والتاريخيّة

لا يمكن المصير إلى هذا القول مع تظافر النصوص الشرعيّة والتاريخيّة الّتي تؤكّد على شهادة الإمام (علیه السلام) ومَن معه في قيامه هذا، فبعد أن وردت الإخبارات برواية جميع الفرق عن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين نفسه (علیهم السلام) ومَن سبقهم من الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مقتولٌ في خروجه هذا إلى العراق، وأنّ مدفنه كربلاء..

ص: 212

وقد اتّضح بما لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ أنّ سير الأحداث والشواهد التاريخيّة تؤكّد أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ للقتل، وأنّ العدوّ عازمٌ على قتله، وأنّالناس قد خذلوه وضيّعوه على الأقلّ إلى يوم اللقاء بالفرزدق، وأنّ القوم الّذين استقبلهم غدّارون خوَنة، سيوفهم مع بني أُميّة، فكيف سيكون الإمام (علیه السلام) طالباً للحكم، لتكون كلمة الله هي العليا عن هذا الطريق؟

المانع الرابع: بماذا ولمن يحكّم شرع الله؟

ثمّ بماذا؟ وبمن؟ ولمن كان يحكّم شرع الله؟ أبهؤلاء الغدَرة الّذين كانت سيوفهم مع بني أُميّة، كما قال الفرزدق وأثبتته الأيام، وكان الإمام (علیه السلام) وغير الإمام على علمٍ تامّ بهم؟ ألمن خذلوه وأزعجوه وأخرجوه وضيّعوه في مدينة جدّه وبيت الله الحرام وبقيّة الأمصار الّتي ما عرفَت حقّه؟

أللقوم الّذين صرخوا في وجه أبيه: (وا سنّة عمراه)، أم للقوم الّذين عدَوا على أخيه ليُكتِفوه ويُسلِموه إلى معاوية؟

أللقوم الّذين تربّوا على دِين السقيفة وأُشرب في قلوبهم حبّ العجل والسامريّ، وأبوا أن يأخذوا إلّا منهما؟!

لقد حكم من قبل أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الوصيّين، وأخوه الإمام الأمين (علیه السلام) ، ولم يرضَ له الناس أن يمحو بدَع مَن سبقه ويقيم لهم السنّة، بل لقد ابتدع من ابتدع على مرأى ومسع من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وعارضوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعصوه جهاراً نهاراً عتوّاً واستكباراً.

ص: 213

المانع الخامس: الاستمرار بعد الخذلان

قد يقال: لقد خذل أهلُ المدينة وأهل مكّة ومَن كان فيهما منالمجاورين والمعتمرين والحجّاج خامسَ أصحاب الكساء (علیه السلام) ، ثمّ وصلت رسائل الكوفيّين وكتبهم، فانطلق الإمام (علیه السلام) نحو الكوفة ليجاهد وتكون كلمة الله هي العليا..

بَيد أنّه حينما بلغه خبر شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وهاني بن عروة ومن معهما، وأنّه لم يبقَ له في الكوفة ناصرٌ ولا معين، وقد انقلب الناس هناك جميعاً، ولم يفِ له أحدٌ ممّن كاتبه وراسله، وكان ركب الإمام (علیه السلام) بعد لم يبلغ (شِراف)، حيث أسره ومَن معه جيشُ الحرّ بن يزيد الرياحي، وحينئذٍ انكشفت الأُمور تمام الانكشاف، وتبيّن أن ليس في القوم من يرغب في حبيب الله، ولا في دين الله، ولا كلمة الله، فلماذا استمرّ الإمام (علیه السلام) في مسيره؟ وقد اتّضح بما لا يقبل الشكّ والريب أنّ إقامة حكم الله لا يمكن أن يتحقّق، فإذا قُتل سيّد الشهداء (علیه السلام) فمَن سيتولّى إقامة الحكم المنشود؟

ثمّ إنّ الطموح في إقامة حكم الله والجزم بالقتل لا يجتمعان، فالأوّل يقتضي البقاء، والثاني يؤدّي إلى الشهادة!

أمّا على غير فرض السعي من أجل إقامة حكم الله، فإنّ للاستمرار في المسير نحو الكوفة مسوّغات سيأتي الحديث عنها في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 214

المشكلة الرابعة: لم يُحي الدين ولم تمت البدع

علاوةً على ما سمعناه قبل قليل في المشكلة الثالثة، فإنّ متابعة الوقائع وتسريح النظر في الحوادث منذ وقوع المصيبة العظمى إلى يوم الناس هذا، يفيد بوضوحٍ لا غبش فيه ولا تشويش أنّ ما يرسمونه من تأثير للدم الزاكي في إحياء الدين وإماتة البدع لم تعمّ ولم تشمل المجتمع الإسلاميّ، فضلاً عن غيره من المجتمعات، فإنّ سكّان الأرض كانوا قبل شهادة الإمام (علیه السلام) أكثريّةً تابعةً لدين السقيفة وأحكامها، وأقلّيّةً قليلةً جدّاً لا تكاد تبين بين حشود المجتمعات الّتي تقطن الأرض، فالناس كانوا بين مشركٍ ومتديّنٍ بدين أهل الكتاب، وعوام تدين بدين السقيفة، تشكّل الهيكل العام لمسمّى الأُمّة الإسلاميّة، وهم بعد شهادة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) منذ يوم استشهاده إلى اليوم لا زالوا كما كانوا قبلها، بل ازداد الأمر سوءً وفق الملاحظات الواقعيّة والنصوص الشرعيّة.

فمن كان من المسلمين أكثريّةً كان على دينٍ اختاره، ولا زالوا على دينهم وبدعهم، ومن كان منهم على الحقّ والصراط المستقيم من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإنّهم كانوا قبل وبعد الشهادة على الدين والسنّة، ولا زالوا أقلّيّةً بين بقيّة الأديان والمذاهب الّتي تسود المعمورة.

ولو ألقينا نظرةً سريعةً على صفحات التاريخ، نجد أنّ الفترة الّتي نظّروا فيها للضلال وأُسّس للأفكار والعقائد والأحكام والبدع الّتي تلت شهادة

ص: 215

الإمام (علیه السلام) أطول زماناً من الفترة الّتي سبقت شهادته (علیه السلام) ، وإن كان المؤسّس الأوّل هو السقيفة، بيد أنّ فترة الحكم الأُمويّ والعبّاسيّ الّذي دام قروناً جهدوا فيها على التنظير والتأسيس ووضع القواعد واختراع المذاهب ونشر الضلال.

أمّا دين الإماميّة، فهو محفوظٌ وقائمٌ بوجود الإمام المعصوم (علیه السلام) في كلّ آنٍ وزمان، أمّا الشيعة أنفسهم، فربّما تجد في تطبيقاتهم الكثير من السنن الّتي يخشى المؤمن من الإتيان بها وإقامتها نتيجة التربية والمفاهيم والمتبنّيات والسلوكيّات والتأثّر بالمجتمعات الّتي يعيشون فيها.

وبكلمة: فإنّ هؤلاء القوم الّذين «لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين»، كانوا قبل شهادته، ولم يزالوا بعدها!

المانع السادس: لم يفعل ذلك أحدٌ من المعصومين (علیهم السلام)

ربّما كان هذا المانع مضمّناً في المانع الأوّل، وإنّما أفردناه للأهميّة، فإنّنا لم نعهد هذا النوع من السعي من أجل إقامة حكم الله بالمعنى الاصطلاحيّ في أيّ واحدٍ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ، لا فيمن سبق الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) منهم، ولا فيمن لحق من أولاده الميامين (علیهم السلام) ، وربّما لا نجد دليلاً واضحاً مصرِّحاً أو ملوِّحاً باختصاص سيّد الشهداء (علیه السلام) بهذا التكليف دون غيره من الأئمّة (علیهم السلام) .

ص: 216

أجل، تظافرت الأدلّة على اختصاص الإمام صاحب الأمر والزمان (علیه السلام) بذلك!

المانع السابع: العمل بالعلم الظاهريّ

ربّما يُقال: إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما عمل بالعلم الظاهري، والحسابات الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة الظاهريّة، ثمّ أقدم لإعلاء كلمة الله بالمعنى المقصود في هذا المراد.

فإنّ هذا الفرض باردٌ لا يصمد أمام النقد، وقد ناقشه العلماء والمتخصّصون وأثبتوا بطلانه، علاوةً على ما سيعرفه مَن يتصفّح كتب التاريخ على عجلٍ من انكشاف فشل هذا الإقدام منذ اللحظة الأُولى، وقد صرّح بذلك أمثال العبدَين ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما، فكيف يخفى على الإمام (علیه السلام) ، وإن كان وفق الحسابات الظاهريّة؟

المراد الثاني: إحياء الدين وإقامة السنن
اشارة

قد يقال: إنّ المقصود من الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله، إنّما هو بإقامة السنن وإحياء معالم الدين..

فهو إمّا أن يكون عن طريق إقامة الحكم الإلهيّ والاستيلاء على زمام السلطة، فقد أشرنا باختصارٍ إلى الإجابة عليها في المراد الأوّل، وسيأتي التفصيل في محلّه إن شاء الله (تعالى).

وإن كان المراد من خلال الشهادة، بمعنى أنّ ذلك سيترتّب علىسفك

ص: 217

دمه وبذل مهجته، أو ما عبّر عنه سماحة الشيخ شمس الدين -- رحمه الله وحشره مع الحسين (علیه السلام) -- بالعمليّة الانتحاريّة! فإذا قُتِل الإمام (علیه السلام) فإنّ الدين سينتعش ويحيى والسنن ستُقام وتموت البدع، فإنّ ثَمّة مشاكل تواجه هذا الفهم والتفسير:

المشكلة الأُولى: الإمام (علیه السلام) هو الدين والسنّة

قلنا: إنّ الحديث هنا مجرّد إشارات، وسيأتي بحث هذا الموضوع بتفاصيله وتشعّباته استدلاليّاً في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ونكتفي هنا بالإشارة إلى قضيّةٍ اعتقاديّةٍ لا يختلف عليها اثنان من المعتقدين بالإمامة والمذهب الحقّ، أجل، ربّما اختلفوا في كيفيّة تصويرها، فالجميع يعتقد أنّ الدين قائمٌ بالإمام (علیه السلام) ، والسنّة لا يمثّلها سواه، بل إنّ قوله وفعله وتقريره هو السنّة بذاتها، بل نعتقد أنّ الدين بكلّ تفاصيله وأبعاده إنّما هو جزءٌ من الإمام (علیه السلام) ، وكلّ واحدٍ من الأئمّة الاثني عشر (علیهم السلام) يصدق عليه هذا الاعتقاد من دون تفاوت، فالدين والسنّة قائمان بكلّ شخصٍ من الذوات المقدّسة الأربعة عشر (علیهم السلام) .

فإذا قُتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقد قُتل الدين والسنّة القائمة به، فلا يبقى دينٌ ولا تبقى سنّة، وإنّما يبقيان حينما يقوم الإمام من بعده بالأمر، فلولا وجود الإمام سيّد الساجدين وزين العابدين بعد الإمام الحسين (علیهما السلام) ، لَمااستطاع أحدٌ أن يصوّر للدين وجوداً، بل لَما بقيَ كونٌ ولا

ص: 218

زمانٌ ولا مكان، إذ لو خلت الأرض من الإمام الحجّة لحظةً لَساخت بأهلها، وقد دلّت الأحاديث الشريفة على ذلك، واعتقده الشيعة اتّباعاً ِلما قاله أئمّتهم (علیهم السلام) .

فالدين والسنّة قامت بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ثمّ بمَن جعله الله خليفةً له ووصيّاً أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ثمّ بالإمام الحسن الأمين (علیه السلام) ، ثمّ بالحسين الشهيد (علیه السلام) ، ثم بقيا قائمان بولده زين العابدين (علیه السلام) ، وهكذا إلى يوم الناس هذا حيث يقومان بصاحب العصر والزمان (علیه السلام) ، وسيبقى الدين قائماً بالإمام (علیه السلام) إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.

المشكلة الثانية: الأثر التكوينيّ

لقتل الإمام (علیه السلام) آثارٌ تكوينيّةٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، ويبدو أن ليس منها أثرٌ تكوينيّ يقضي بإحياء الدين، ولا دليل على ذلك من الشرع، فإن كان سفك دم الإمام (علیه السلام) وقتله يؤثّر تكويناً في إحياء الدين وإقامة السنّة، لَما تخلّف الأثر عنه بحال، ولَكانت الأرض ومَن عليها تزهو الآن وتزدهر وتشرق بنور ربّها، وتنعم البشريّة في ظلال حكم الله وترفل بالسعادة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد سُفك دمه وقُتل.

ثمّ إنّ هذا الأثر التكوينيّ يثبت لكلّ إمام، وليس لسيّد الشهداء (علیه السلام) في هذا خصوصيّةً تميّزه عن سائر الأئمّة (علیهم السلام) ، وقد سُفك من قبله دم أبيه،وحينئذٍ لصفت الأرض من الأرجاس الأنجاس، وأُقيم الدين وأُحييَت

ص: 219

السنن، ولما وصلت النوبة إلى قتل الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) فضلاً عن الإمام الحسين (علیه السلام) الشهيد بكربلاء.

وقد قُتل من بعد الإمام سيّد الشهداء أولاده المعصومون (علیهم السلام) ، فلم يترتّب هذا الأثر المزعوم.

أمّا ما ورد في زيارته:

«أنّه الفائز بكرامتك، أكرمتَه بكتابك، وخصصتَه وائْتمنتَه على وحيك، وأعطيتَه مواريث الأنبياء، وجعلتَه حُجّةً على خلقك من الأصفياء -- فأعذر في الدعاء، وبذل مهجته فيك -- ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشكّ والارتياب إلى باب الهدى من الردى» ((1))..

فقد مرّ معنا بيان ذلك في بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة)، فلا نعيد، إذ أنّ الاستنقاذ من الضلالة متعلّقٌ وامتدادٌ لجعله حجّةً على الخلق، فحينما جعل الإمام حُجّة، فإنّه بهذا الجعل قد استنقذ العباد من الضلالة والجهالة، فأعذر الإمام في الدعاء، وبذل مهجته في الله خاصّة، وقد أعذر الأئمّة (علیهم السلام) جميعاً في الدعاء، وبذلوا مهجهم في الله،إنْ قتلاً بالسيف كأمير المؤمنين وسيّد الشهداء (علیهما السلام) ، أو قتلاً بالسمّ كباقي الأئمّة (علیهم السلام) ، فليس الأمر خاصّاً بسيّد الشهداء (علیه السلام) دون

ص: 220


1- أُنظُر: كامل الزيارات لابن قولويه: 228.

غيره من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ((1)).

المشكلة الثالثة: قتلوا بقتله الإسلام

ما ورد في الزيارات ومؤدّيات النصوص الشرعيّة أنّهم:

قد قتلوا بقتله «الإسلام، وعطّلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام، وهدموا قواعد الإيمان، وحرّفوا آيات القرآن، وهملجوا في البغي والعدوان. لقد أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) موتوراً، وعاد كتاب الله (عزوجل) مهجوراً، وغُودر الحقّ إذ قُهرتَ مقهوراً، وفُقِد بفقدك التكبير والتهليل، والتحريم والتحليل، والتنزيل والتأويل، وظهر بعدك التغيير والتبديل، والإلحاد والتعطيل، والأهواء والأضاليل، والفتن والأباطيل» ((2)).

ولم نجد في النصوص الشرعيّة ما يدلّ على أنّ الدين يقوم وينتعش ويرتوى، فيحيى -- كما يقولون! -- بسفك دم سيّد الشهداء (علیه السلام) أو دم غيره من الأئمّة النجباء (علیهم السلام) .

المشكلة الخامسة: دَور الأئمّة (علیهم السلام) من بعد الإمام الحسين (علیه السلام)

لقد عاش الأئمّة بعد سيّد الشهداء (علیهم السلام) في مجتمعٍ عمّه الظلام

ص: 221


1- أُنظُر للتفصيل كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة).
2- أُنظُر: المزار الكبير لابن المشهدي: 505، بحار الأنوار: 98 / 241.

الدامس، وأغرقه الانحراف الفكريّ والعقائديّ والسلوكيّ، والانحطاط الأخلاقي والحكومي، وتسلّط الطغاة والمستكبرين، وانتشرت مذاهب الضلال، وابتدعت الأحكام، وفشا الكذب على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وغيرها من الظواهر والمظاهر الّتي لا تخفى على من يقرأ التاريخ، وهم مع ذلك لم يفعلوا ما فعله سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فهل يقال: إنّ الأئمة بعد سيّد الشهداء (علیهم السلام) لم يقوموا بدورهم في إحياء الدين، وإقامة السنّة، وترويج الأحكام، ونشر الهدى، وإقامة الحجّة على العباد؟ نستغفر الله من هذا السؤال، بيد أنّها ضرورة البحث.

وتكفي قراءة زيارة الجامعة الكبيرة مرّةً واحدةً عن النظر والتنقير في الأحاديث والزيارات الأُخرى، لمعرفة أنّ الأئمة (علیهم السلام) قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كانوا مصابيح هدى، وبهم أحيى الله الدين والسنّة، وأقام على العباد الحجّة، وكلّهم أعذروا في الدعاء وبذلوا مهجهم في الله..

المراد الثالث: إعادة الحكم إلى الخلافة بعد أن صار وراثة
اشارة

قد يقال: إنّ المقصود من الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا، بمعنى الجهاد من أجل إرجاع الخلافة إلى نصابها! إذ أنّ معاوية أرادها ملكاً عضوضاً موروثاً.فربّما أُجيب: أنّ هذا القول يوجَّه إليه بعض المعضلات..

ص: 222

المعضلة الأُولى: الانحراف منذ السقيفة

في مجتمعٍ يفترض أن يحكمه الإسلام الّذي بعث به الله نبيّه سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وأنزل معه الكتاب المبين، يلزم أن يمضي حيث أمره ربّ العالمين وفق تعاليم الدين الحنيف، وقصّة الخلافة والإمامة وانحراف الأُمّة عن الصراط المستقيم الّذي هداهم إليه الخلّاق العليم الحكيم، وانقلابهم على الأعقاب، وتمردّهم على سلطان ربّ العزة وتكبّرهم على ربّ الكبرياء، معروفةٌ مشهورة لا تحتاج إلى تطويل.

ويكفي هذا القدر من التذكير لنعرف أنّ القوم قد سلّطوا من نحّاهم الله، ونحّوا من سلّطه الله، واختاروا الدنيّة لدينهم ودنياهم، فما الفرق بعدئذٍ أن يكون الحكم وراثيّاً أُسريّاً أو كرةً تتقاذفه الأقدام وتتلقّفه الأيدي، كلٌّ حسب خبرته وشيطنته ودهائه ومكره؟

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) :

«لقد تقمّصها ابنُ أبي قحافة أخو تَيم، وإنّه لَيعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحها [خ ل: كشحاً]، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخيةٍ عمياء، يشيبفيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمنٌ حتّى يلقى ربّه، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تُراثي نهباً.

ص: 223

حتّى إذا مضى لسبيله، فأدلى بها لأخي عَديٍّ بعده، فيا عجَباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخَر بعد وفاته! فصيّرها في حوزةٍ خشناء، يخشن مسّها، ويغلظ كلَمُها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن عنّف بها حرن، وإن أسلس بها غسق، فمُنيَ الناس بتلوّنٍ واعتراضٍ وبلوى، وهو مع هنٍ وهن.

فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زعم أنّي منهم! فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرَنُ إلى هذه النظائر؟ فمال رجل لضغنه وأصغى آخَر لصهره.

وقام ثالث القوم، نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبت الربيع، حتّى أجهز عليه عمله وكبت به مطيّته [خ ل: بطنته]»((1)).

فقد أدلى بها الأوّل إلى الثاني، وأدلى بها الثاني إلى الثالث، وصبّ جمعهم أركان سلطنة الرابع منهم (معاوية)، وقام معه بنو أبيه بتصريح أمير المؤمنين (علیه السلام) منذ ملك الثالث منهم.

فهو علاوة على الانحراف التامّ عن أمر الله ووصيّة رسول الله، فإنّه نوع توريثٍ وتنصيبٍ ووصايةٍ منذ أن أوصى بها الأوّل للثاني، وهو يزعم أنّ

ص: 224


1- أُنظُر: علل الشرائع للصدوق: 1 / 150 ح 2.

رسول الله مضى ولم يوصِ!

فلم يكُ في حركة المجتمع والحكم ثمّة جديدٌ منذ يوم السقيفة، وقد صبر أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وصبر الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) ، وصبر أبو عبد الله الحسين (علیه السلام) زهاء عشر سنين!

المعضلة الثانية: التوريث في عهد معاوية

لقد حصل التوريث منذ عهد معاوية، فقد روى التاريخ أنّ معاوية عمل في سنيّ عمره الأخيرة من أجل توريث الحكم إلى يزيد، وأخذ البيعة من البلدان والأصقاع، ودخل الناسُ في جميع الأقطار في بيعة يزيد -- قبل أن يهلك معاوية -- طائعين، إلّا القليل منهم دخلوا كارهين، ولم يتقبّض عن البيعة إلّا عددٌ محدودٌ جدّاً، قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وقد أتينا على تفصيل ذلك في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) منالمدينة المنورة)، فلا نعيد.

فلم يكن ثمّة جديدٌ في التوريث بعد هلاك معاوية، إذ أنّ التوريث حصل من قبل!

المعضلة الثالثة: المشكلة في التوريث الأُسريّ

قد يقال: إنّ المشكلة ليست في الوصيّة الّتي حصلت أيّام الملوك الأوائل، وإنّما المشكلة في التوريث العائليّ والأُسريّ، فخشيَ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من تحوّل الوراثة إلى قانونٍ شرعيّ وعرفيّ يحكم المجتمع

ص: 225

الإسلامي.

فإنّ الوراثة -- كما يبدو -- ليست هي المشكلة، والتوريث الأُسريّ بما هو توريثٌ أُسريّ لا يستحقّ أن يبذل سيّد الشهداء (علیه السلام) دمه الزاكي الّذي سكن الخلد، ويضحّي بنفسه وهو الإمام (علیه السلام) ! وبمن معه، وكلّهم ليس لهم شبيهون على وجه الأرض، لأنّ أصل قانون الوراثة هو الحاكم في عقائد الشيعة، وهو الّذي ارتضاه الله لعباده منذ أن أهبط آدم (علیه السلام) على وجه الأرض، وكلّ إمامٍ يرث الإمامة من أبيه، إلّا في الحسنين (علیهما السلام) ، فقد توارثها أخوان الأكبر ثمّ الأصغر منه، وهو شرع الله، وإنّما كان ذلك بأمر الله وتعيينه وتنصيبه، فليست المشكلة في أصل التوريث بما هو توريث ووراثة، وإنّما المشكلة الأُمّ في الحكم بغير ما أنزل الله.

المعضلة الرابعة: البيعة العامّة ليزيد!

قد يقال: إنّ معاوية رشّح نغله للمُلك بعده، ثمّ فرض على الناس بيعته، فبادروا هم للبيعة طائعين أو كارهين، وكيف كان، فإنّ يزيد قد حكم الناس ببيعتهم، وقد بادر الناس إلى تجديد البيعة بعد هلاك معاوية، كما صرّحت به النصوص الّتي أتينا على ذكرها في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فهو لم يكن توريثاً محضاً وفرضاً مطلقاً على الناس.

وهذا القول لا يبرّر نزو القرد المسعور المخمور على منبر الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولا

ص: 226

يصحّح بيعة الناس له، ولا يسوّغ فرض طاعته على الخلق، ولا نريد هنا مناقشة تفرعن يزيد وتسلّطه ظلماً وعتوّاً واستكباراً على الله على رقاب الناس، إذ أنّ الباطل ركب أعناق الخلائق منذ يوم السقيفة، فبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ صعود القرد المخمور على أكتاف آل محمّد (صلی الله علیه و آله) واستقراره على رؤوس الناس إنّما كان برضىً من هذا الخلق المتعوس المنكوس، وقديماً قيل: كيف ما تكونوا يُوَلَّ عليكم، فليست الوراثة هي الركن الركين، والأصل الوحيد، والأُسّ الفريد الّذي به تسلّق يزيد أعواد المنبر، وإنّما هو المنهج المتّبَع يومها ضمن مقرّرات السقيفة.

المعضلة الخامسة: إباء الإمام (علیه السلام) عن البيعة لشخص يزيد

لو رصفنا كلمات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وبياناته منذ أن هجم عليه العدوّ في المدينة، وخيّره بين المناولة والقتل، نجد فيها إباء سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة لشخص يزيد الخمور والفجور، ولم نجد فيها -- حسب الفحص -- اعتراضاً يصرّح فيه الإمام (علیه السلام) بإبائه لعنوان التوريث والوراثة، وأنّه إنّما أبى عن بيعة يزيد لأنّ أباه قد ورّثه الحكم، وأنّه لا يرضى بيزيد لأنّه قد تسلّق الأعواد بغير طريق التنصيب الإلهيّ أو الانتخاب أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد، وما شاكلها من الصيغ الّتي تسوّغ للحاكم سلطانه.

وهذه من المشاكل المنهجيّة الّتي تواجه الباحث في قيام سيّد

ص: 227

الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّ المحلّلون والمراقبون والمتابعون والمؤرّخون يفترضون شعاراً أو هدفاً أو دافعاً وما شابه ذلك لسيّد الشهداء (علیه السلام) وقيامه، ثمّ يؤسّسون على ذلك، ويستنتجون ويستنبطون ويسترسلون، وكأنّ الأمر مفروغٌ عنه، سواءً أعلن الإمام (علیه السلام) ذلك أو لم يعلنه، وسواءً وافق سير الأحداث وأفادته المتون التاريخيّة أو لا.

بل ربّما يضطرّ الباحث إلى تأويل كلام الإمام (علیه السلام) وصرفه عن ظاهره الصريح النصّي، ويلوي عنق النصوص التاريخيّة بالقوّة، ويفرض عليها فهماً خاصّاً، وربّما يُحدِث قفزاتٍ تستغفل ذهن المتلقّي ليقرأ النصّ قراءةً توافقتحليلاته واستهدافاته!

تقبّض الإمام (علیه السلام) وأبى البيعة ليزيد، وقال -- كما في رواية ابن أعثم -- : «مثلي لا يبايع مثله»، ووصف يزيد بما هو فيه، ولم نسمعه يردّ أو يناقش أو يعترض على الصيغة الّتي وصل به يزيد إلى السلطة.

إنّ هذا لا يعنى أنّنا نريد تسويغ الصيغة الّتي وصل بها يزيد إلى الحكم، فهي باطلٌ في باطل، وزيفٌ في زيف، وخداعٌ في خداع، واستكبارٌ على الله في استكبار، وقل ما تشاء، وصِفْ بأيّ وصفٍ يمكن أن يعبّر عن ظلم القوم وطغيانهم وباطلهم وبطلانهم، فالبحث هنا ليس بحثاً سياسيّاً أو عقائديّاً كي نُثبت بطلان ذلك، ولإثباته محلٌّ آخَر.

وغاية ما نريد التنويه إليه هنا:

ص: 228

إنّ ما نريد أن نجعله باعثاً ودافعاً وسبباً لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ينبغي أن نسأل سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه عنه، وقد فحصنا -- بحسب الوسع -- فلم نجد في كلمات الإمام (علیه السلام) وبياناته خلال فترة قيامه أنّه جعل الانتقاض والاعتراض والانقضاض على قانون الوراثة وعمليّة التوريث الّتي أقدم عليها معاوية وتنجّز يزيد الحكم والسلطان بها سبباً ودافعاً دعاه للقيام الّذي انتهى بوقوع المصيبة العظمى في تاريخ البشريّة وشهادته وشهادة مَن معه، وأنّه إنّما ضحّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه وعياله من أجل أن يمنع من تحقّق ذلك، ولو في المستقبل!!!

المعضلة السادسة: بقاء الواقع على ما هو عليه!

لقد هلك يزيد، فورّثها لولده معاوية، فانقطع هذا الخيط، وانفتل خيط الفخذ الآخَر من الأُمويّين، وبقيت الخلافة وراثةً في الأُمويّين، ثم تلقّفها العبّاسيّون، فبقيَت الوراثة فيهم، فوصلت إلى العثمانيّين، وسرت الوراثة فيهم، ولم يتغيّر شيءٌ من هذا القانون، إذ بقيَ المُلك عضوضاً موروثاً بعد الشهادة، فيما لم يكن قبلها وراثيّاً في زعم مَن زعم أنّ الملوك الّذين سبقوا معاوية لم يتوارثوا الحكم!

وربّما قيل: إنّ شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) أثبتَت للعالم زيف هذا النهج. فإنّ ذلك كان حاصلاً قبل شهادة الإمام (علیه السلام) ؛ لما أكّده القرآن، وقضى النبيّ (صلی الله علیه و آله) عمره منذ الأيّام الأُولى للبعثة إلى أن استُشهد يؤكّد ذلك

ص: 229

ويشرحه ويعلن زيفه وبطلانه، وجرى على ذلك الأئمّة (علیهم السلام) جميعاً، وشيعتهم، هذا على المستوى الفكريّ والنظريّ والعقائديّ، أمّا على المستوى العمليّ والتطبيقيّ، فإنّ الواقع لم يتغيّر قطّ كما هو مشهودٌ ملحوظ.

المعضلة السابعة: لو فرضنا انتفاء الوراثة، ما هو البديل؟

لقد بقيت الوراثة هي الحاكمة بين حكّام العصور المتعاقبة بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولكن لو فرضنا أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ضحّى من أجل أن يلغي قانون الوراثة، فما هو البديل الّذي سيحلّ محلّه؟

هل سيأتي حاكمٌ ظالمٌ عسوفٌ متجبّرٌ طاغوتٌ بأيّ وسيلةٍ من الوسائلسوى الوراثة؟ ثمّ ماذا؟

أيكون ثمن دم حبيب الله وسيّد شباب أهل الجنّة رصّ السلالم ليتسلّق ظالمٌ بعد ظالمٍ عليه، ويتسلّطوا على رقاب العالمين؟

ولو فرضنا أنّ ثمن سيّد الشهداء (علیه السلام) هو إلغاء قانون الوراثة في الحكم، وقد ألغى ذلك، كما يُقال، فهل سيكون ثمن دم سيّد الشهداء (علیه السلام) هم سلالة الملوك الأُمويّين والعباسيّين ومَن تلاهم؟

أم سيكون البديل الإمام المعصوم (علیه السلام) ، وهو في السبي والأسر، وبعد ذلك في جوّ التقيّة والمضايقات والملاحقة، حتّى قضى شهيداً هو وأولاده المعصومون (علیهم السلام) صالحٌ بعد صالح؟ وهو لم يتحقّق في مَن لحق الإمام سيّد الشهداء من الأئمّة (علیهم السلام) الّذين قُتِلوا، إلّا فيمن سيمنّ الله به على

ص: 230

البشريّة، فيبعث قائماً يملؤها قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.

فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قاتل وقُتل، وكانت جميع المؤشّرات الغيبيّة والأحداث الظاهريّة تفيد على نحو الجزم أنّه سيُقتَل، فهو لا يريد إبطال التوريث الأُمويّ ليحكم هو، وهذا مفروغٌ عنه، فلمن إذاً قاتل وضحّى وبذل دمه الّذي لا يعدله شيءٌ من الخلائق إلّا مَن استثناهم الله؟

فإمّا أن يكون لمن يلي بعده من الأئمّة (علیهم السلام) ، فقد ثبت أنّ هذا لم يتحقّق، ولم يحكم أحدٌ من وُلده المعصومين (علیهم السلام) ، ولم يسعَ إليها أحدُهم قطّ حتّى قضوا جميعاً شهداء غرباء مظلومين ملاحَقين، وقد ثبتبالأدلّة الكافية الوافية الشافية المتظافرة أن لا أحد يحكم من وُلد الحسين المعصومين (علیهم السلام) حتّى يبعث الله (قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات).

وإمّا أن يأتي بديلٌ غير المعصوم، بأيّ صيغةٍ من الصيغ المرسومة في العقد الاجتماعيّ لتسلّط الحاكم وفرض طاعته، إذ لا يمكن أن يكون ذلك بأمر الله وشرعه، لأنّ شرع الله يقتصر ذلك على الإمام المعصوم، ولم يأتِ بعد الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) البديل الّذي نصّ هو عليه، وقد أعرض الناس عمّن نصّ عليه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وغلبه المتسلّطون الجبّارون، فلم يكن البديل إلّا الظالم الّذي حاربه الإمام (علیه السلام) فقتله!!

المراد الرابع: إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
اشارة

ذكرنا أكثر من مرّةٍ ونحن نمضي في هذا المقطع من البحث أنّنا لا نريد

ص: 231

استيعاب هذا المطلب الخطير هنا، وله محلٌّ آخَر سيأتي تفصيلاً إن شاء الله، بَيد أنّنا سنشير إليه على عجلٍ ونتناوله كقبسة العجلان:

القبسة الأُولى: جميع الأئمّة (علیهم السلام) أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الواجبات الّتي بها يقوم الدين ويستقيم الفرد والمجتمع، غير أنّه لم يكن تكليفاً خاصّاً -- كأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر -- بسيّد الشهداء (علیه السلام) دون غيره من الأئمّة (علیهم السلام) ، بل والأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) جميعاً، ونحن نشهد في اعتقاداتنا وزياراتنا لجميع الأئمّة (علیهم السلام) أنّهم أمروا بالمعروف ونهوا عنالمنكر وأقاموا حدود الله (تبارك وتعالى)، فالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) سواءً قُتل بهذه القتلة الّتي لم يُقتَل بها أحدٌ من العالمين أو لم يُقتَل، فإنّه إمامٌ قائمٌ بأمر الله آمرٌ بالمعروف ناهٍ عن المنكر، كسائر الأئمّة (علیهم السلام) ممّن سبقه أو أولاده المعصومين ممّن لحقه، وسواءً خرج إلى العراق أو لم يخرج، وهو قد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر في فترة إمامته بعد شهادة أخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) إلى خروجه من المدينة وتوجُّهه إلى العراق، ونستغفر الله أن يزعم أحدٌ ممّن يعتقد إمامته أنّه لم يكن قائماً لله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر في تلك الأيّام!

القبسة الثانية: مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنوانٌ عامٌّ لتكليفٍ شرعي، ينطبق على مصاديق ومفردات وظواهر ومظاهر تدخل تحت هذا العنوان، فيكون

ص: 232

معروفاً مهجوراً أو منكراً مرتكباً، فيقع الأمر بالأوّل والنهي عن الثاني، فنحن حينما نقول أنّ الإمام (علیه السلام) قُتل لتكون كلمة الله هي العليا بمعنى أنّه أراد الإتيان بهذا الواجب، فينبغي أن نعرف هل أراد إحياء أصل التكليف وتعليم الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أنّه أمر بمعروفٍ خاصٍّ ونهى عن منكرٍ بعينه؟

فإن كان المعروف هو حكاية الخلافة والحكم والوراثة، فربّما كان فيما سبق من كلامٍ جواباً كافياً على اختصاره.وإن كان للموارد الّتي ذُكرت في نفس النصّ الّذي يرويه سبط ابن الجوزي، وأنّه أحقّ مَن غيّر، فإنّ من أوضح البديهيّات أنّ هذا التغيير لم يحصل، وقد بقيَت الأُمور على ما هي عليه، بل سارت الأيّام من سيّءٍ إلى أسوء، وهي كانت قبله وبعده.

وإن كان المقصود العمل بأصل التكليف، فإنّ الإسلام والمعروف قد قُتِل بقتله، وارتُكِب المنكر الأعظم، وظهرت البدع، وتفاقم الضلال، وعمّ الظلام، وتعطّلَت الصلاة والصيام، وأصبح القرآن بقتله مهجوراً..

القبسة الثالثة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إنّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطاً يتعيّن العمل بها، فإذا توفّرت الشروط وجب الفعل، وإذا انخرمت أو انعدمت سقط الوجوب، وربّما تعيّن الترك في حالات، ونحن لا نريد هنا تعيين التكليف للإمام

ص: 233

- والعياذ بالله --، ففعل الإمام هو الحكم الشرعيّ المتعيّن، وما صحّ من فعله فهو الصحيح، بَيد أنّ الكلام هو في أصل ثبوت ذلك عنه (علیه السلام) ، فليس في كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ما يفيد أنّه إنّما خرج للقتل هو ومَن معه وسبي نسائه لهذا الهدف بالذات، أي: من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا ما ورد في الوصيّة لأخيه محمّد ابن الحنفيّة، وقد تكفّل كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) تفصيل ذلك، فلا نعيد.

وعلى فرض أن يكون القيام إنّما كان من أجل الأمر بالمعروف والنهيعن المنكر، فإنّ القيام بهذا الواجب لا يلزم منه هذه النتائج الفظيعة وحصول هذه المصائب الكاظّة الفادحة القارحة القادحة الّتي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ولا يلزم منه قتل حبيب الله ووصيّه وسبط النبيّ وريحانته وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، فما أكثر مَن واجه يزيد الخمور والفجور نفسه بكلامٍ أشدّ ممّا قاله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كابن الحنفيّة أخيه وغيره.

فمجرّد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -- بأيّ معنىً سقناه وأخذناه -- لا يلزم بكلّ الحسابات هذه الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى والإقدام على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وسبي عياله.

القبسة الرابعة: المصلحة في القتل من أجل الأمر بالمعروف
اشارة

كلامنا دائماً حسب الموازين الظاهريّة وسير الحوادث التاريخيّة، بغضّ النظر عن العامل الغيبي.

ص: 234

وعليه، يمكن أن يقال: إنّ قتل الإمام (علیه السلام) في سبيل إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نفسه كان فيه مصلحة أعظم من حياة الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، من قبيل دلالة الناس على أهميّة هذا الواجب وضرورة القيام به تحت أيّ ظرفٍ ومهما كانت النتائج، ولو من خلال (عمليّة انتحاريّة) كما سمّاه أحدهم (رحمة الله) .

أو أنّ الإمام (علیه السلام) علم -- ودائماً حسب الموازين الظاهريّة -- أنّ دمهالزاكي سيوقظ الضمير الإنسانيّ الخامد الهامد، ويهزّ الغيرة البشريّة، وينفخ في جسد الأُمّة المشلول روح التضحية والفداء، ويمنحها الإرادة، ويقوّي العزائم، ويعالج النفوس المريضة المبتلاة بالازدواجيّة، وغيرها من الشعارات والتصوّرات والتحليلات المفترضة في المقام.

فإنّ هذا الكلام بجميع تفاصيله المذكورة وغير المذكورة لا يكاد يصمد أمام النقد الهادئ البعيد عن الجوّ العام الحاكم، والتصوّرات المفروضة سابقاً في الأذهان، وذلك للاعتراضات التالية:

الاعتراض الأوّل: إثبات أنّ إقامة فرعٍ من فروع الدين أعزّ من حياة الإمام (علیه السلام)

إثبات أنّ إقامة هذا الواجب -- وهو فرعٌ من فروع الدين -- بالذات أعزّ من حياة الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وهو الدين كلّه، هو أوّل الكلام، ودون إثباته عوائق وموانع من الأدلّة الشرعيّة والعقليّة والعرفيّة ما يحول دون ذلك، فلا شيء في المخلوقات -- بلا استثناء من وجودات، وإن

ص: 235

كانت معنويّةً أو دينيّة، بل الدين نفسه -- أعزّ من كلّ واحدٍ من أفراد الأنوار الأربعة عشر.

الاعتراض الثاني: بقاء ما كان على ما كان

إنّ حصول النتيجة المتوخّاة من الفعل شرطٌ في قبول هذه الفكرة، ويبدو لمَن تابع التاريخ بهدوء بعيداً عن الخلفيّات والسوابق الذهنيّة والافتراضات المفروضة رغماً على أجواء البحث يجد بوضوحٍ أنّ أيّواحدةٍ من النتائج المجعولة لهذا الفعل لم تتحقّق.

فلا الأُمّة ارعوَت، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قام، ولا المعروف استقام في الأُمّة، ولا المنكر انمحى، ولا الأُمّة اهتزّت، ولا امتلكت الإرادة، ولا اتّحدَت شخصيّتُها، ولم تكتشف هويّتَها الّتي فطرها الله عليها، وبقيَ كلُّ شيءٍ على ما كان عليه!

ولا نحسب افتراض بعض التصوّرات يصحّح هذه الفكرة، فوثوب عدّة نفرٍ هنا أو عدّة نفرٍ هناك في ظلّ حكم ظالم جائر لا يعَدّ صحوةً هزّت الأعماق وغيّرت الموازين الحاكمة في المجتمع، سيّما إذا لاحظنا بعض تلك الانتفاضات والارتعاشات والتململات الاجتماعيّة الخفيفة ودوافعها ونوازعها وآثارها ونتائجها وتأثّراتها، فليس بالضرورة كلّها كانت نتيجة التأثّر بالقيام الحسيني، وللدوافع الذاتيّة والمصلحيّة والمظالم الآنيّة دَورٌ لا يُنكَر.

وهي إذا قيست بطول مدّة حكم الأُمويّين والعبّاسيّين ومَن تلاهم،

ص: 236

ستكون قليلةً جدّاً ومحدودةً ولا تكاد تبين ولا تحسَب في حسابات التغيير والتغيّر.

إضافةً إلى أنّها جميعاً كانت عقيمةً انتهت بالقمع والإبادة والنفي والقتل والأسر والفضائع، ولم يثمر منها تغييراً إلّا ما سبّب تسلّطاً لظالمٍ واستبدل جائراً بجائر.ولا يُعدّ مثل حركة التوّابين وحركة المختار ثورةً وتغييراً وإرادةً لإصلاح الوضع القائم، وإنّما كانت -- بصريح الفعل والبيانات الصادرة عنهم -- مجرّد انتقامٍ من قتَلَة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتكفيراً عن التقصير الصادر منهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) كما في حركة التوّابين.

ولا نريد استعراض الحركات الاجتماعيّة واحدةً واحدةً وتحليلها وتفسيرها وبيان تأثّرها وتأثيراتها، لأنّنا بنينا البحث هنا على الاختصار، والاقتصار على التذكير دون الاستدلال للمطالب، إلى حين نأتي على تناول الموضوع في محلّه إن شاء الله.

وكيف كان، فإنّ هذه الحركات كانت قليلةً في امتداد زمن الحكم الجائر، ولم يثبت أنّها جميعاً كانت بدوافع الرجوع إلى الصراط المستقيم، وكانت عقيمة التأثير في الواقع، إلّا من بعض التأثير الموضعيّ الّذي لا يغيّر في الحياة الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة شيئاً.

فالوضع الاجتماعيّ والتديّنيّ لم يتغيّر، ويشهد لذلك التاريخ.

ص: 237

الاعتراض الثالث: عدم انقراض سلطان الأُمويّين

قالوا: كان من ثمار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انقراض الأُمويّين، وهو قولٌ لا يصحّ كثيراً، إذ قالوا: إنّ ما فعله الإمام (علیه السلام) من أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر وركّز ذلك بدمه الزاكي أدّى إلى انقراض الدولة الأُمويّة، ولولا ذلك لبقيَت أكثر من ذلك كثيراً..فإنّ في هذا الكلام مصادراتٍ وبناءً على افتراضاتٍ لا تقوى على النهوض لتكون بقيمة دم سيّد الشهداء (علیه السلام) من جهة، ثمّ إنّ الأُمويّين بقوا بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) عشرات السنين، فإنّ يزيد الّذي ارتكب الجناية العظمى بقيَ ثلاث سنين بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ نزى على منبر النبيّ -- كما أخبر هو بنفسه (صلی الله علیه و آله) -- الأُمويّون، ولم ينزلوا حتّى تناولها بنو العبّاس، فالأُمويّون لم ينقرضوا، وإنّما بقوا عشرات السنين، ثمّ إنّهم حينما انقرضوا لم يتغيّر شيء، وإنّما جاء أشباههم، فاستمرّ حبلهم وبقيَت آثامهم.

الاعتراض الرابع: الافتقار للنصّ

أضف إلى ذلك إنّ افتراض سببٍ لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ودافع بهذا الوزن، بحيث يكون هو الأصل والأساس والسبب الرئيس، يحتاج إلى إثبات ذلك عن طريق سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه أو مَن سبقه ومَن لحقه من المعصومين (علیهم السلام) ، يكون صريحاً في المطلوب واضحاً متظافراً مستفيضاً يرقى إلى مستوى ما وقع على سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه وعياله ونساءه من ظلمٍ ومصائب، ولا يصحّ الاعتماد على ما ورد في الوصيّة، وهي مبتلاة

ص: 238

بالإرسال والإعراض وتفرّد ابن أعثم بها.

ولا يصحّ أن نتصوّر تحليلاً ثمّ ننسبه على نحو الجزم واليقين، ونبني عليه كلّ الشيء، ونجعل دم خير الخلق طرّاً ثمناً لما تصوّرناه! فنحن كبشر -- مهما كنّا -- خطّاؤون، والمعصوم هو الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن عصمهالله.

المراد الخامس: حفظ الإمامة والعقائد الحقّة

ربّما يقال: إنّ المراد من إعلاء كلمة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير وما إلى ذلك، إنّما هو حفظ الإمامة، وحماية العقائد الحقّة، وترسيخ شجرة المؤمنين الطيّبة.

فإنّ الجواب على ذلك تخلّل ما ورد في الحديث عن المرادات السابقة بتفريعاتها، ويمكن أن يلخّص بكلمة:

إنّ قتل الإمام (علیه السلام) يعني قتل الإمامة تماماً، كما كان قد قُتِل به الإسلام، وهو قتلٌ لحصّةٍ من حصصها المتمثّلة بخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) على الأقلّ.

ثمّ إنّ الإمامة تبقى محفوظة بالإمام (علیه السلام) الّذي يليه، من دون الحاجة إلى أيّ شيءٍ تتوقّف عليه سوى شخص الإمام (علیه السلام) من بعده، فسواءً قُتل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أو عاش مئات السنين ثمّ قضى مسموماً أو لأيّ سببٍ آخر، فإنّ الإمامة تجري فيمن جعله الله إماماً من فوق سبع سماوات.

ص: 239

أجل، إلّا أن يقال: إنّ الله عوّض خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أن جعل الإمامة في ذريّته، فهذا صحيح، وقد وردت به الأحاديث الشريفة، بيد أنّه خارجٌ عن محلّ البحث؛ لتعلّقه ببحث العامل الغيبيّ في قيام الإمام الحسين (علیه السلام) ، وسيأتي الحديث عنه بمزيدٍ من البيان في محلّه إن شاء الله(تعالى).

أمّا أن تكون شهادته تستهدف حماية العقائد الحقّة وبقاءها وبقاء المؤمنين، فإنّ الأرض ومَن عليها كلّه جميعاً فرعٌ لوجود الإمام، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى: فإنّ العقائد الحقّة والتشيّع والدين كلّه محفوظٌ وموجودٌ بوجود الإمام المعصوم، وما دام الإمام زين العابدين (علیه السلام) بقي موجوداً بعد الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقد بقي كلّ الحقّ والعقائد والدين والتشيّع، وبقيت الأسباب الكافية لاستمرار الدنيا، كما أفادت الأحاديث الشريفة الّتي أشارت إلى أنّ وجود الإمام ومأموم واحد يكفي لبقاء الكون وما فيه، إذ أنّ الهدف من الخلقة ﴿لِيَعْبُدون﴾ ((1)) متحقّقٌ بوجود العابد الحقّ.

علاوةً على ذلك، فإنّ المؤمنين كانوا قبل شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وبعدها، وبقوا على حالهم، فهم أقلّيّةٌ ممدوحةٌ ثابتةٌ على الحقّ، أمّا الباقي

ص: 240


1- سورة الذاريات: 56.

فزبَد، ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ ((1))، ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ ((2)).

فالدين والأمر والأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبقاء المؤمن والإيمان كلّها متوقفة على وجود الإمام (علیه السلام) ، لا على طريقة موته!

المراد السادس: «مثلي لا يبايع مثله»

«إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين».

يبدو أنّ المراد من «هؤلاء» هو الحكّام من بني أُميّة وأذنابهم المتسلّطين على رقاب المسلمين، بشهادة السياق، وأنّ الإمام (علیه السلام) لا يريد أن يقاتل الناس ويحارب المسلمين، وهم مغلوبٌ على أمرهم حسب الفرض.

وحينئذٍ قد يقال: بالإضافة إلى ما سمعنا قبل قليل من مناقشات، أنّ هذه الأُمور حصلت جميعاً منذ قبض النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وكم شكى منها أبوه وأخوه (عليهما صلوات الله وسلامه)، فتكون هذه العبارة بقوّة قوله:

«يزيد رجلٌ فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرَّمة، مُعلِنٌ

ص: 241


1- سورة المائدة: 103.
2- سورة سبأ: 13.

بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله» ((1)).

ويكون الجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الله يتحقّق بالإباء عن البيعة الذليلة، والإمام (علیه السلام) هو كلمة الله العليا، والتغيير بمعنى رفض أن يخضع الإمام المعصوم المفترض الطاعة من الله على الخلائق لقردٍ مخمور مسعورخليع ماجن.

وبكلمة: إنّ الإمام (علیه السلام) أبى أن يبايع قوماً لزموا طاعة الشيطان وفعلوا ما ذكره الإمام (علیه السلام) من الأفاعيل، وهذا الإباء والرفض والتقبّض عن البيعة هو نفسه تغييرٌ وجهادٌ في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فالإمام هو سبيل الله -- كما صرّحت به الأحاديث الشريفة -- وهو كلمة الله!

الخطوة الخامسة: سبب الاستطراد

كلّ هذه المناقشات بغضّ النظر عن إرسال النصّ، وتفرّد سبط ابن الجوزي بنقله، وإعراض المشهور عن روايته والاستناد إليه، وإنّما ناقشناه لأنّه نصٌّ تاريخي، ولو كان حديثاً مسنداً لأهل بيت العصمة (علیهم السلام) لَعالجنا النصّ بمعالجاتٍ أُخرى ترعى أدب التعامل مع النصّ المقدّس، ولا نتردّد في الرجوع عن أيّ فكرةٍ لو ثبت في كلام أهل البيت (علیهم السلام) ما يعارضها.

وقد استطردنا في مناقشته بشيءٍ من الاسترسال باعتبار أنّه النصّ

ص: 242


1- أُنظُر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 17.

الأوّل الّذي يواجهنا في مسيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) منذ أن خرج من المدينة يحمل هذه الشحنة الخاصّة الّتي انساقت البحوث وفقها.

ومن الواضح -- بشهادة السياق -- أنّ المقصود من العبارة إنّما هو المراد الأوّل دون غيره من المرادات، ونرجو من الله التوفيق لتناول الموضوع بشكلٍ واسع مفصّل مدعوماً بالاستدلال في موضعه إن شاء الله (تعالى).

الخطوة السادسة: موقف الفرزدق

لقد أقام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الحجّة البالغة تامّةً على الفرزدق، وبيّن له الموقف وأوضح له المحجّة، وأوقفه على حقيقة القوم وأفعالهم، وأبان له موقفه هو -- فداه العالمين -- وعزمه وما ينوي القيام به، على أيّ معنىً كان المراد من كلامه (علیه السلام) ، فليس المقصود هنا تحديد المراد..

فماذا كان ردّ فعل الفرزدق؟ وكيف كان جوابه واستجابته؟

يقول النصّ: فأعرض عنه الفرزدق، وسار ((1)).

تعبيرٌ مشحونٌ بالجفاء والقسوة والغلظة (فأعرض عنه)، تفريعٌ بالفاء ربّما أفاد الفوريّة والسرعة والاستعجال، وإعراض!

إعراضٌ عن وجه الله؟ إعراضٌ عن سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ؟ إعراضٌ عن الإمام المفترض الطاعة؟ إعراضٌ عن حبيب الله وحبيب

ص: 243


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

رسوله؟ إعراضٌ عن الحسين (علیه السلام) ؟ إعراضٌ عن الحسين (علیه السلام) !!!

أعرض.. ثمّ سار بعدها وكأنّه لم يسمع شيئاً ولم يحدث حدثاً ولم يلقَ سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

جمع الأجوبة

نجد أقدم المصادر تركت كلام الفرزدق دون جواب، وكأنّ الإمام قدتجاهله وتغافل عنه، وكأنّه لم يكن ولم يقل شيئاً.

ثمّ تلتها جملةٌ من الأجوبة: «لم آمنهم»، «أُخذتُ أخذاً»، «الناس عبيد الدنيا»، «لله الأمر»، (امتعض وما أعجبَته).

وامتاز جوابان، هما: «ها، إنّها مملوءةٌ كتباً»، و«أنا أَولى مَن قام بنصر دِين الله».

ص: 244

حوارٌ آخَر

اشارة

ثمّة حوارٌ آخَر رُوي في المصادر المتأخّرة بالنسبة للمصادر الّتي روت الحوار الأوّل، وهو يختلف من حيث المضمون، ومن حيث الزمان والمكان، والحيثيّاتِ الأُخرى، ولذا أفردناه هنا، ويمكن أن نحصره في لفظين:

اللفظ الأوّل:

اشارة

وقال: وقد التقاه وهو متوجّهٌ إلى الكوفة الفرزدقُ بن غالب الشاعر، فقال له: يا ابن رسول الله، كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟ فترحّم على مسلم وقال: «صار إلى روح الله ورضوانه، أما إنّه قضى ما عليه، وبقي ما علينا»، وأنشد:

«فإن تكنِ

الدنيا تُعَدُّ نفيسةً

فإنّ

ثوابَ الله أغلى وأنبلُ

وإن تكنِ الأبدانُ للموت أُنشِئَت

فقَتلُ امرئٍ في الله بالسيف أفضلُوإن تكنِ الأبدانُ للموت أُنشِئَت

فقَتلُ امرئٍ في الله بالسيف أفضلُ

وإن تكنِ

الأرزاقُ قسماً مقدَّراً

فقلّة حرص المرء في الكسب أجملُ

ص: 245

وإن تكنِ

الأموالُ للترك جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرء يبخلُ؟» ((1))

* * * * *

يمكن أن نلقي عدّة نظراتٍ مختلسةٍ عجلى على ما ورد في هذا الحوار:

النظرة الأُولى: تأخّر المصادر

يلاحَظ أنّ مصادر هذه الرواية -- حسب الفحص -- كلّها متأخّرة عن مصادر الرواية الأُولى بزمانٍ يُعدّ طويلاً، وزمانها يوافق زمان دخول التغيير على نصّ الرواية الأُولى، فهي من نتاج القرن السابع وما بعده، وربّما أخذ من تأخّر عن السيّد ابن طاووس عنه.

ورغم ذلك، فإنّ ناقلي هذه الرواية هم على مستوىً عالٍ من العلم والوثاقة والتديّن والجلالة.

النظرة الثانية: مكان وزمان اللقاء

يبدو من النصّ أنّ اللقاء تمّ بعد بلوغ خبر شهادة المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام) ، فهو في منزلٍ من منازل الطريق الأقرب من الكوفة منها إلى مكّة، فهو لقاءٌ متأخِّرٌ زماناً ومكاناً عمّا رُوي في المصادر السابقةالقديمة.

ص: 246


1- أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 73، مطالب السَّؤُول لابن طلحة: 73، كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 27، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 179، نور الأبصار للشبلنجي: 279.

ولا نحسب أنّ ثمّة ضرورة تضطرّنا لاستقصاء الاحتمالات ومعالجة التعارض الحاصل بين ما رُوي في المصادر القديمة وما روي هنا، وافتراض تكرّر اللقاء وإمكان حصول ذلك، وما شاكل، إذ أنّ ما يهمّنا في بحثنا إنّما هو الحوار ومضامينه وما فيه من بيانات الإمام (علیه السلام) ، ولْيكن هذا الاختلاف ثغرةً يوظّفها كلٌّ حسَب ما يحتاجه من البحث.

النظرة الثالثة: كلام الفرزدق

اشارة

وقال: وقد التقاه وهو متوجّهٌ إلى الكوفة الفرزدقُ بن غالب الشاعر، فقال له: يا ابن رسول الله، كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟

يمكن أن نتابع كلام الفرزدق من خلال اللمحات التالية:

اللمحة الأُولى: مؤدّى الكلام

يبدو أنّ مؤدّى كلام الفرزدق في هذا الحوار لا يختلف عن كلامه في الحوار السابق، وإن اختلفت الصياغة والألفاظ، إذ أنّ مؤدّى كلامه السابق أنّه أخبر سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّ السيوف مع بني أُميّة وأنّه لا ناصر له يمكن أن يعتمد عليه ويحسب له حساب، فالسيوف والعساكر مع عدوّه عليه، وأنّ القوم لا ينوُون الدفاع عنه والانقضاض على عدوّه، وهنا أيضاً سألالإمام (علیه السلام) سؤالاً يفيد نفس المعنى ويؤدّي نفس المؤدّى، فهو يقول للإمام (علیه السلام) : إنّ القوم قد خانوا وغدروا وقتلوا ابن عمّك وسفيرك وأصحابه،

ص: 247

فسيوفهم عليك، وقد أثبتوا ذلك بقتلهم سفيرك، فلا يمكنك الاعتماد عليهم والركون إلى وعودهم، فإنّهم قاتلوك.

اللمحة الثانية: انكشاف الواقع ووضوح المشهد

لقد غدرت الكوفة، وعدَت على سفير خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) فقتلته وأصحابَه، وانقلبت على أعقابها، وأعرضت عن وجه الله، وتمسّكت بذيول القرود الأُمويّة المتدلّية من الشجرة الملعونة في نار جهنّم، ولم يبقَ في الكوفة ناصرٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ولا معينٌ يكاد يبين، فهم بين قتيلٍ وسجينٍ ومختفٍ يرسم طريق اللحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) في الأرض الموعودة، وهم من حيث العدد أقلّ القليل بين تلك الجموع المنكوسة الّتي كانت تملأ الصحراء خيلاً ورجالاً..

ولقد اتّضحت خيانة المكاتبين تماماً، كما أشار ولوّح سيّد الشهداء (علیه السلام) بعاقبتهم من خلال ما ضمّنه كتابه الّذي كلّف به المولى الغريب (علیه السلام) ، إذ تبيّن أنّ نوايا القوم ورأي رؤوسهم وكبرائهم لا تتطابق مع ما ورد في كتبهم وعلى لسان رسلهم..

نكثوا البيعة، وانكفؤوا، وعادوا إلى بيعتهم للقرد المسعور المخمور لأيّسببٍ كان ((1))، ولم يعد المشهد يشوبه أيّ شكٍّ أو غموض، ولا تُعَدّ المواقف

ص: 248


1- أتينا على بيان أسباب ذلك في مجموعة (المولى الغريب، وقائع السفارة).

متزلزلةً والأقدام متردّدةً بين الجنّة والنار، وإنّما اختاروا النار على علمٍ منهم، وليس ثمّة ما يدعو للارتكان إلى كتب أهل الكوفة ورسلهم في الظاهر المنظور، فمَن كاتب نكث وغدر وانقلب وانتكس وارتكس في الحضيض، وسلّ سيفه على الأبرار وانضوى تحت راية الفجّار الكفّار.

لقد اتّضحت حقيقة المجتمع الكوفيّ يومذاك، فمن كان ثابت القدم على نصرة الباطل ولم يكاتب الإمام (علیه السلام) ولم يُرسِل إليه ولم يَعِده النصرة، بل بقي على ولائه للسقيفة ورجالها، منضبطاً في معسكره، ملتزماً بالأوامر العسكريّة، أو محايداً لم يعلن موقفاً، بيد أنّه بقي في موقعه الّذي كان من حيث كونه يعيش في مجتمع بايع يزيد وجدّد له البيعة، وهو يتبع العسكر النظاميّ الّذي يقبض منه مرتّبه وعطاءه، وهؤلاء هم الأكثريّة الّتي لا تقاس بها الأعداد المبايعة، ولا يكوّن المكاتبون والمبايعون إلّا العدد الأقلّ بالقياس إلى الأكثريّة، إذ كانت الأعداد المبايعة ثمانية عشر ألفاً، وكانت السيوف يومها في الكوفة مئة ألف، وكان هاني بن عروة يركب بمراد وأحلافه من كندة في ثلاثين ألف دارع، فالعدد المبايع كان أقلّ من خُمس عدد السيوف المنتظمة في القطعات العسكريّة في الكوفة يومها، وأقلّ بقليلٍمن العدد الّذي كان يركب به هاني، وهاني كان زعيماً لطائفةٍ من مراد، ومراد جزءٌ من مِذحَج، وقد أتينا على بيان ذلك تفصيلاً في المجموعة الكاملة (وقائع السفارة)، فلا نعيد.

ص: 249

اللمحة الثالثة: انكشاف الأمر للإمام (علیه السلام)

مَن يقرأ التاريخ ويتمعّن في الحوارات الّتي جرت بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وغيره من الناس، كالعَبادلة: ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع، والفرزدق، وغيرهم، يجد القوم يتعاملون مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وكأنّهم قد عرفوا شيئاً قد غاب عنه، وأصابوا في التقدير من دون الإمام (علیه السلام) العالم بالله، وربّما يجد المتابع لبعض الكتّاب أنّهم يفكّرون على هذه الطريقة ويفسّرون مواقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وأقواله وفق ما يتصوّرونه هم ويؤسّسوا له، كسوابق تفرض على المتلقّي فهماً خاصّاً للإمام (علیه السلام) ومشاهده، وهذا من أغرب الغرائب الّتي لا ينقضي منها العجب!

اللمحة الرابعة: سؤال الجميع

بعد أن تبيّن الموقف تماماً، واستُشهد المولى الغريب (علیه السلام) ومَن معه، وخذلت الكوفة بقضّها وقضيضها، وبلغ الخبر سيّد الشهداء (علیه السلام) وركبه وهم في الطريق قبل شراف، قبل أن يأسره جيش الحرّ، وقبل أن يواجه قطعات جيش العدوّ، فلماذا استمرّ سيّد الشهداء (علیه السلام) نحو الكوفة -- في الظاهر المنظور -؟لقد سأل الفرزدق -- حسب هذا النصّ -- سؤالاً يجيش في صدور العالمين!

ص: 250

اللمحة الخامسة: سوء فهم السائل

الفرزدق شاعر، يملك من المفردات والصوَر ما يعجز عنها غيره، وهو يرتجل الشعر ارتجالاً، فاللغة ومفرداتها بين يديه، وهي حاضرةٌ في ذهنه وقلبه، يمكنه أن يختار منها ما يعبّر به عن كوامنه بسهولةٍ وسلاسة، وهو يصيغ سؤاله هذه الصياغة الّتي تنمّ عن سوء اختيار أو سوء فهم لموقف الإمام (علیه السلام) ، وربّما تكشف جهله بمقام الإمام (علیه السلام) وأدب الحديث معه:

كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم ابن عقيل وشيعته؟

سؤاله يوحي للمتلقّي بوضوح أنّه افترض أنّ الإمام (علیه السلام) قد ركن إلى أهل الكوفة، وهم فعلوا ما فعلوا، وكأنّه يستنكر أو يستفهم عن شيءٍ مكشوفٍ لديه دون الإمام (علیه السلام) -- ولا نريد استخدام تعبيرٍ آخَر؛ خوفاً من الوقوع فيما وقع فيه الفرزدق نفسه في خطابه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ! -.

فهو قد افترض أنّ الإمام (علیه السلام) قد ركن إليهم، وفرض على الإمام (علیه السلام) موقفاً قبل أن يستجلي الأمر من الإمام (علیه السلام) نفسه.

النظرة الرابعة: ردّ الإمام (علیه السلام) على كلام الفرزدق

فترحّم على مسلم وقال: «صار إلى رَوح الله ورضوانه، أما إنّه قضى ما عليه، وبقي ما علينا».

سأل الفرزدق مستنكِراً أو متعجبّاً من استمرار الإمام (علیه السلام) في مسيره

ص: 251

وركونه إلى أهل الكوفة بعد ما فعلوا من الغدر، فلم نسمع من الإمام (علیه السلام) جواباً وردّاً صريحاً على سؤال الفرزدق، إذ كان من المفروض أن يذكر الإمام (علیه السلام) للفرزدق مسوّغات ركونه إلى أهل الكوفة رغم ما فعلوا، أو أن يذكر له مسوّغاتٍ أُخرى يسع الفرزدق وأمثاله إدراكها واستيعابها، كوجود الناصر، أو أنّه يخرج له الحقيبة ويشير إليها -- مثلاً -- ويقول: «ها، إنّها مملوءةٌ من كتبهم»، كما ورد في بعض الأجوبة السابقة في الحوار السابق.

لم يفعل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) شيئاً من هذا القبيل، وكأنّ الفرزدق لم يذكر له شيئاً عن الوجهة الّتي يتوجّه إليها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكأنّه لم يذكر أهل الكوفة بتاتاً!

النظرة الخامسة: مؤدّى جواب الإمام (علیه السلام) سوى الشعر

اشارة

ترحّم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) رحمةُ الله الواسعة على المولى الغريب (علیه السلام) ، مستقبِلاً الأمر كخبرٍ متوقَّع، وأنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علىالإمام (علیه السلام) ، وبهذا ربّما أفهم الإمام (علیه السلام) الفرزدق ومَن بلغ عدّة مفاهيم:

الإفهام الأوّل: دَور الغدَرة من أهل الكوفة في حركته

أعرض الإمام (علیه السلام) عن كلام الفرزدق، فلم يلتفت في جوابه إلى أهل الكوفة وما فعلوا، ولم يردّ على غدرتهم، وأجابه جواباً تخطّى فيه الإشارة إلى أهل الكوفة وموقفهم تخطّياً تامّاً، وهذا ليس هو المورد الوحيد الّذي يتعامل معه سيّد الشهداء (علیه السلام) بهذه الصورة.

ص: 252

فربّما أفاد ذلك أنّ الإمام (علیه السلام) أفهم الفرزدق أنّه لم يحسب على أهل الكوفة حساباً يمكنه أن يغيّر في موقفه ومسيره، وهو لم يتفاجأ بما صدر ويصدر منهم، وأنّ في الديّانين القليلين ناصراً ومعيناً، وفيما عنده عليهم من إثباتاتٍ وكتب موقَّعةٍ بأسمائهم كفاية في إقامة الحجّة للإعذار وإشغال الذمم بالمسؤوليّة أمام الله والإمام المنصوب من الله.

الإفهام الثاني: عاقبة المولى الغريب (علیه السلام) وعاقبة قتَلَته
اشارة

فترحّم على مسلم وقال: «صار إلى روح الله ورضوانه، أما إنّه قضى ما عليه، وبقي ما علينا».

لقد نال المولى الغريب (علیه السلام) من إمام زمانه خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ثلاثة أوسمةٍ لا ينالها إلّا مَن كان مثله:

الوسام الأوّل: الترحّم عليه

قد ترحّم عليه رحمة الله الواسعة، الإمام المعصوم الّذي ينطق عن الله، ويُخبر عن الله، ويرضيه ما أرضى الله، ويريد ما أراد الله (تبارك وتعالى)، ويا له من فخر.

وسواءً كان ترحّم الإمام (علیه السلام) هو كما فهمه الفرزدق كدعاء، إذ لم ينقل لفظ الإمام (علیه السلام) ، وإنّما قال: (ترحّمَ عليه)، فإنّ دعاء الإمام (علیه السلام) مستجابٌ لا شكّ ولا ريب.

ص: 253

أو أنّ الإمام (علیه السلام) قال: «رحمه الله» مثلاً، وهو تعبيرٌ يحتمل الإخبار، سيّما بقرينة السياق، حيث عقّب الإمام (علیه السلام) وقال: «صار إلى رَوح الله ورضوانه».

الوسام الثاني: مصيره إلى رَوح الله ورضوانه

إخبار الإمام (علیه السلام) عن مصيره الّذي صار إليه المولى الغريب (علیه السلام) ، وتنجّز ذلك له، فقد رحمه الله، وصار إلى روح الله ورضوانه، لا أنّه سيصير إلى ذلك في المستقبل، إنّما هو قد استقرّ في روح الله ورضوانه، وأنجز الله ما وعده بالفعل..

ولا يخفى على المؤمن الفهيم أنّ المصير إلى روح الله ورضوانه درجةٌ لا يبلغها أيّ أحد، وهي كرامةٌ تفوق كرامة دخول الجنّة، فرضوان الله يتمنّاهأهل الجنان، ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾ ((1)).

إنّ المولى الغريب (علیه السلام) استقرّ -- بشهادة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) -- في ذُرى الجِنان وأعالي درجاتها ومقاماتها عند مليكٍ مقتدر.

* * * * *

ربّما يتصوّر أحدٌ أنّ القضيّة تنحصر في بيان مقام المولى الغريب (علیه السلام) ومنزلته عند الله وعند إمام زمانه، بَيد أنّ الأمر لا ينحصر في ذلك، وإنّما فيه

ص: 254


1- سورة التوبة: 72.

تلويحٌ قويٌّ يتّضح لمن توغّل في التعرّف إلى سلوك الأُمويّين، ومَن سبقهم من الملوك الّذين دأبوا على التظاهر بظاهر الدين، وسعوا جاهدين لإطفاء نور الله، وعرض أئمّة الهدى وأهل البيت (علیهم السلام) وأتباعهم خارجين عن الدين، فإنّ شهادة الإمام (علیه السلام) بحسن عاقبة المولى الغريب (علیه السلام) -- الّذي يفيد بالملازمة سوء عاقبة قاتله وخاذله والمؤلّب عليه -- تُعَدّ من وسائل المواجهة الضروريّة في كشف زيف الأعداء، وتكذيب ادّعاياتهم، وفضح أكاذيبهم، والإرشاد إلى الحقّ والهدى الّذي كان عليه المولى الغريب (علیه السلام) ومَن استُشهد بين يديه، والبحث في ذلك يطول، نؤخّره إلى موضعه إن شاء الله (تعالى).

الوسام الثالث: «قضى ما عليه»

هذا الوسام سنفرده في عنوانٍ خاصٍّ لأهميّته، وندرجه ضمن الفهومالّتي يمكن أن تستفاد من كلامه (علیه السلام) .

الإفهام الثالث: أداء المولى الغريب (علیه السلام) للمهمّة كاملة

شهادةٌ من إمام زمانه يحقّ للمولى الغريب (علیه السلام) أن يفتخر بها على البشر منذ أن خلقهم الله، ويحقّ لمن تولّاه أن يباهي به إلى يوم القيامة.

لقد «قضى ما عليه».. لقد أنجز ما كلّفه به الإمام (علیه السلام) ، وأدّى مهمّته على أكمل وجه.. لم يهن، ولم ينكل، ولم يقصّر، ولم يتخاذل، ولم يفشل!

حاشا لسيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء أن يشهد للمولى

ص: 255

الغريب (علیه السلام) أنّه قضى ما عليه وهو -- والعياذ بالله -- كان قد فشل في حركته ولم يؤدِّ ما عليه كما أمره به إمام زمانه!

فالعجب كلّ العجب ممّن يعبّر عن حركة المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة بالفشل، ويكرر قولة: (فشل حركة مسلم (علیه السلام) في الكوفة)، وما شاكلها من التعبيرات.. أيشهد له الإمام (علیه السلام) بالقيام بالمهمّة والنجاح، وأنّه قضى ما عليه، ويشهد عليه الآخَرون أنّه قد فشل؟!!

لقد أتينا على هذا الموضوع بشكلٍ مفصَّلٍ في الجزء الأوّل من المجموعة الكاملة في وقائع السفارة تحت عنوان (ثائرٌ أم سفير)، نودّ أن يتفضّل علينا القارئ الكريم بمراجعتها هناك.

الإفهام الرابع: «منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر»

حينما بلغ الإمامَ سيّد الشهداء (علیه السلام) خبرُ شهادة سفيره قيس بن مسهرالصيداوي، ترقرقت عيناه ولم يملك دمعه، ثمّ قال:

«﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ ((1))، اللّهمّ اجعلْ لنا ولهم الجنّة نُزُلاً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك»! ((2))

ص: 256


1- سورة الأحزاب: 23.
2- تاريخ الطبري: 5 / 404، الكامل لابن الأثير: 3 / 281، نهاية الإرب للنويري: 20 / 420.

وكان كلّ من أراد الخروج من أصحابه، ودّع الحسين (علیه السلام) ، فيأتي الرجل بعد الرجل فيقول: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه الحسين (علیه السلام) : «وعليك السلام، ونحن خلفك»، ويقرأ: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ ((1)).

فلا يبعد أن يكون قول الإمام (علیه السلام) في هذا الموضع للفرزدق: «أما إنّه قضى ما عليه، وبقي ما علينا»، بمعنى تلاوته قوله (تعالى): ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ﴾.

وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) أعلن للفرزدق أنّه عالمٌ بعاقبة هؤلاء الغدَرة القتَلَة المجرمين وموقفهم معه، وأنّه يسير والمنايا تسير معه، وأنّه ماضٍ إلى ما مضى إليه المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وهي الشهادة لا مناص عن ذلك أبداً.

الإفهام الخامس: ما هو الّذي على الإمام (علیه السلام) أن يقضيه؟

ربّما اختلف المتلقّون في فهم ما ذكره سيّد الشهداء (علیه السلام) في قوله: «وبقي ما علينا»، فربّما يفهم البعض أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قام بواجب محاربة

ص: 257


1- أُنظُر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 25، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 100، تفسير الصافي للكاشاني: 4 / 181، تفسير نور الثقلين للحويزي: 4 / 260.

الظالم والطاغوت، وأراد الاستيلاء على الكوفة، بيد أنّه فشل في تحقيق ذلك! -- والعياذ بالله!! -- فهو قد أدّى ما عليه وإن لم يبلغ الغاية، وبذل في ذلك غاية المجهود، وبقي ما علينا أن نحاول نفس المحاولة الفاشلة!! -- والعياذ بالله! --، بحكم الضرورة الّتي تثبتها الأحداث والمعطيات والمؤشرات، ونقضي ما علينا، ثمّ نلاقي المصير الّذي لاقاه المولى الغريب (علیه السلام) ، فإنّا والحال هذه قد أدّينا ما علينا وجئنا بالتكليف، ولا تهمّنا النتيجة.

بيد أنّ هذا الفهم قد يكون ركيكاً صفيقاً، وربّما نمّ عن ضعفٍ في فهم النصوص التاريخيّة وتشخيص مهمّة المولى الغريب (علیه السلام) ، وقد أتينا على بيانها تفصيلاً في مجموعة (وقائع السفارة)، كما أنّه لا ينسجم مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وبياناته، سيّما الّتي تمثّل لها بالأبيات كما سنسمعها بعد قليل.

فربّما كان المقصود من العبارة ما ذكرناه في الإفهام الرابع، أو أنّه قضى ما عليه من الثبات على الولاية والإباء من الاستسلام ومناولة القرود، ومضىعلى بصيرةٍ من أمره متّبعاً للنبيّين والصالحين وإمام زمانه، فاختار السلّة والشهادة على الذلّة والبيعة للقرود، وبقي علينا أن نمضي على ذلك، وسيأتي تفصيل الموضوع في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 258

النظرة السادسة: تتميم الجواب بالشعر

اشارة

«فإن تكنِ

الدنيا تُعَدُّ نفيسةً

فإنّ

ثوابَ الله أغلى وأنبلُ

وإن تكنِ الأبدانُ للموت أُنشِئَت

فقَتلُ امرئٍ في الله بالسيف أفضلُ

وإن تكنِ

الأرزاقُ قسماً مقدَّراً

فقلّة حرص المرء في الكسب أجملُ

وإن تكنِ

الأموالُ للترك جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرء يبخلُ؟»

يمكن أن تطلّ علينا هذه الأبيات الرائعة بعدّة إطلالات:

الإطلالة الأُولى:

ذيّل الإمام (علیه السلام) كلامه بأبياتٍ من الشعر، تعَدّ من أروع المواعظ، وأرقى وأغلى الحكم الّتي جمعت في ألفاظٍ قليلةٍ معانيَ جليلة، واختصرت كلّ ما يروم الإمام (علیه السلام) إيصاله، وما ينبغي للمؤمن أن يعمل عليه في الدنيا الفانية،وقايسَت بين الدنيا الزائلة والآخرة الباقية، واختيار الموقف حين يقع المؤمن في مفترق طريقٍ ليختار أحدهما، والأسباب والعلل الّتي تجعل المؤمن يرجّح الآخرة على الدنيا..

إنّها لوحةٌ فنّيّةٌ لا يقوى على تشكيلها في ألفاظٍ سلسةٍ ومعاني جزيلة، ولا يمكن أن يرصفها في قوالب متينةٍ سوى الإمام (علیه السلام) ، كلمات تحقّر الدنيا في عين المؤمن وتعظّم الآخرة، وتفتح روحه على الله..

مقارنة بين الدنيا الّتي تعدّ عند البعض نفيسة، وبين ثواب الله، واختيار الأفضل، وبين الموت والقتل في الله، واختيار النهاية الحتميّة

ص: 259

للأبدان في هذه الدنيا بالأفضل، والتسليم بتقدير الأرزاق، واستحصال الراحة بقلّة الحرص في الكسب، والتسليم بأنّ النهاية لجمع الأموال إنّما هو تركها في هذه الدنيا، واجتناب البخل، والتعجيل بها إلى تلك الدار حيث ينتفع بها هناك..

وبعد هذه الإطلالة الخاطفة على الأبيات، نحاول الآن استجلاء ما فيها من الدلالة كجواب للفرزدق.

الإطلالة الثانية:

جاءت هذه الأبيات -- حسب ما في النصّ -- في منطقةٍ هي الأقرب إلى الكوفة منها إلى مكّة والمدينة، وصدرت في موضعٍ هو حسب تسلسل الأحداث بعد أن وصلت كتب أهل الكوفة وتجمّعَت عند الإمام، وبعد أنأرسل إليهم المولى الغريب (علیه السلام) ، وبعد أن غدروا به وخانوه وعدَوا عليه فقتلوه وسحلوا بدنه المقدّس بالحبال في شوارع الكوفة وأزقّتها..

لقد صدرت الأبيات في موضعٍ كان المفروض أن تتجلّى فيه كلّ أهداف الإمام (علیه السلام) من حركته وقيامه، أو ما يسمّونه (خروجه)، وكان المتوقّع أن يقول الإمام (علیه السلام) كلمته الّتي تنسب إليه من إرادة التغيير والإصلاح، أو الانقضاض على الظالمين والطواغيت والإطاحة بهم، وبكلمة: التصريح بعزمه على (الخروج) بالمعنى المصلطح!

وهذه الأبيات لا توحي بشيءٍ من ذلك، ولا يستشعر منها المتلقّي ما

ص: 260

يمكن أن يصوّره في هذا المجال..

هذا بيانٌ من بيانات الإمام (علیه السلام) ، وفي هذا الموضع، وفي هذا الوقت، بعد أن اتّضحَت الأُمور وتبيّنت المواقف! ولم نسمع من الإمام (علیه السلام) من خلال هذه الأبيات ما يُنسَب إليه من أهداف وأسباب يصوّرها غيره لقيامه، وإنّما تؤكّد أنّهم يلاحقونه بالموت، وهو يريد اختيار القتل بالسيف، لأنّه الأفضل!

وبعبارةٍ أُخرى: ليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي أقدم عليهم ليقتلوه، فيحقّق أغراضه وأهدافه بموته، وإنّما هم الّذين حاصروه وأقدموا على قتله، فاختار هو الدفاع عن نفسه ليُقتَل عزيزاً، إذ أنّه لا يرضخ للبيعة ليموت موتاً بارداً ويحمي دنياه، لأنّ الدنيا النفيسة لا تقارن بثواب الله وجوار الله، وليس فيها ما يدوم ويستحقّ الدفاع عنه والتضحية بالكرامة والعزّة والإباء من أجله، فهوإن لم يُقتَل يمت، وهو لا يرجّح الموت على القتل.

الإطلالة الثالثة: التخيير بين الدنيا النفيسة، فكيف بالدنيا الذليلة؟

إفترض الإمام (علیه السلام) في البيت الأوّل التخيير بين الدنيا الّتي (تُعَدّ نفيسة) وبين ثواب الله، فكيف إذا كانت الدنيا ذليلة؟ فهي غير قابلةٍ للمقارنة والمقايسة، ولا يمكن أن يجعلها الإمام أبيّ الضيم (علیه السلام) مورداً للمقايسة، حاشاه سيّدي ومولاي، بَيد أنّ في هذا التصوير من روعة الجمال ما يُبهِر العقول، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قارن بين أفضل وأرقى وأجمل وأعلى مستوىً

ص: 261

للدنيا الّتي يتمنّاها أبناء الدنيا وبين ثواب الله، قارن بين الدنيا حينما تكون ممّا يستحقّ الاهتمام به والسعي إليه، حينما تكون نفيسة، غاليةً لها قيمة، وبين ثواب الله..

وربّما كان البيت الأوّل بقوّة قوله (علیه السلام) :

«قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحُجورٌ طابت وطهرت، وأُنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» ((1)).

فالدنيا مهما كانت نفيسة، حينما يلزم الاحتفاظ بها خسارة ثواب الله وإعطاء الدنيّة ومناولة القرود، فإنّها تصبح ذليلة، وتكون الرغبة في لقاء اللهوثوابه والآخرة أغلى وأعلى وأنبل.

الإطلالة الرابعة: التخيير بين الموت والقتل

من البديهيّ أنّ الأبدان أُنشئت للموت، فهي عاقبة جميع المخلوقات، والأبدان من المخلوقات، وها نحن نراها كيف تتهاوى وتموت تباعاً، فلا نهاية للأبدان سوى الموت، بيد أنّ للموت صوراً وحالاتٍ وأسباباً، وأخلاق أهل البيت (علیهم السلام) ودأبهم وديدنهم صغاراً وكباراً كان اختيار القتل في الله، وهو الموت العزيز الّذي يناسب مثل أشخاصهم الكريمة المقدّسة.

ص: 262


1- اللهوف لابن طاووس: 97.

روى الكلينيّ بإسناده عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) ، قال: سألتُه عن قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «واللهِ لَألفُ ضربةٍ بالسيف أهون من موتٍ على فراش»، قال: «في سبيل الله» ((1)).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبةٍ له يوم الجمل:

«أيّها الناس! إنّ الموت لا يفوته المقيم، ولا يُعجِزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يُقتَل، وإنّ أفضل الموت القتل، والّذي نفسي بيده لَألفُ ضربةٍ بالسيف أهون علَيّ من مِيتةٍ على فراش ...» ((2)).ومن كلامٍ له (علیه السلام) :

«إنّ الموت طالبٌ حثيث، لا يفوته المقيم، ولا يُعجزه الهارب، إنّ أكرم الموت القتل، والّذي نفسُ ابن أبي طالبٍ بيده لَألفُ ضربةٍ بالسيف أهونُ علَيّ من مِيتةٍ على الفراش في غير طاعة الله» ((3)).

وفي خبرٍ طويل:

قال الإمام الحسين (علیه السلام) لابن أخيه القاسم بن الحسن (علیهم السلام) : «يا ابن أخي، كيف الموت عندك؟»، قال: يا عمّ، أحلى من العسل!

ص: 263


1- الكافي للكليني: 5 / 53 ح 1.
2- الكافي للكليني: 5 / 54 ح 4.
3- نهج البلاغة، صبحي الصالح: 180 خ 123.

قال: «إي والله، فذلك أحلى» ((1)).

وقال المولى الغريب (علیه السلام) في رجَزه:

أقسمتُ لا أُقتَل إلّا حُرّاً

إنّي رأيتُ الموت شيئاً نُكرا ((2))

إنّ صور مفارقة هذه الدنيا كثيرة، إلّا أنّها تتناهى إلى عناوين كلّيّة محدودة، فهو:

إمّا أن يموت بالقتل حرّاً.

أو بالقتل غير حرّ.أو يموت بأيّ صنفٍ من صنوف الموت عدا القتل.

أمّا أن يُقتل غير حرّ، فهذا أدون من أدنى صور الموت وهيئاته، وهو لا يكون في أهل البيت (علیهم السلام) أبداً، فهو خارجٌ عن المشهد، لأنّه غير متصوَّر.

تبقى المفاضلة بين الموت والقتل حرّاً، والأخير هو خيرة أهل البيت (علیهم السلام) ، لأنّهم تحسّسوا الموت واستشعروه، فعاينوه وذاقوه، فلمّا ذاقوه وجدوه منكَراً مُرّاً مقرفاً مقزّزاً، تنفر منه الطباع السليمة، وتأنفه الهمم العالية، وتأباه الهامات الشامخة.. لمسوا الموت، فاستخشنوه واستوعروه.. إنّه مُرّ المذاق مُنكَرٌ لا يُحتمَل ولا يُطاق، لأنّهم أحرار، فلماذا يختاروه، ولا يختاروا القتل أحراراً؟ لأنّ الأحرار يستذوقون القتل ويأنسون به ولا

ص: 264


1- أُنظُر: الهداية الكبرى للخصيبي: 204.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 58، إعلام الورى للطبرسي: 228.

يكرهونه، بل تألفه أرواحهم الحرّة السامية المحلّقة العالية الّتي تجاوزت حدود الدنيا الفانية..

فإذا تخيّروا بين الموت غُصّةً مصبّرةً مرّةً يَشرُق بها الحرّ الكريم، وبين القتل حرّاً في رضى الله، وهو حلوٌ أحلى من العسل، وأمرئُ من لبن الأُمّ الحنون، هنيءٌ سائغٌ لورّاد حياض الشهادة والسعادة ((1)).

الإطلالة الخامسة: تضمين الشعر موعظةً للفرزدق

سمع الفرزدق هذه الأبيات من الإمام (علیه السلام) ، والفرزدق شاعر، وربّما كان ذلك مناسبةً كلّم بها الإمام (علیه السلام) الفرزدق بلغته، والمفروض في مثلالفرزدق وشاعريّته المميّزة أن يذوب ويتصاغر وينماث وينصهر في هذه الموعظة الّتي جاءت تحاكي وجدانه وجوانحه، وتهزّ كيانه، وتزلزل أعماقه، فالصور الّتي ترتسم في خيال الشاعر بفعل هذه الألفاظ والمعاني الّتي كبست في قالب الأبيات يكون لها أبلغ الأثر في نفسه، وتنتفض لها مشاعره، وترتعش فيه وجدانيّاته، وتلمس عواطفه وعقله لمسات يتحسّسها أكثر من غيره!

فالفرزدق شاعرٌ محترف، يتعيّش بشعره ويركض لاهثاً وراء سراب زخارف الدنيا، وهذه الأبيات مسّت الأوتار المهمّة الّتي يلحّن بالضرب عليها شعره وشاعريّته..

ص: 265


1- اقتباسٌ من شرح رجز المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وللتفصيل انظر المجموعة الكاملة (مسلم بن عقيل (علیهما السلام) -- وقائع السفارة: 5 / 459 وما بعدها).

فهي موعظةٌ بليغةٌ قويّةٌ مؤثّرةٌ طرقت مسامع الفرزدق بالأُسلوب الّذي يستسيغه ويتأثّر به، فهل ارعوى؟ هل تأثّر بها؟ هل وعاها وأدرك مغزاها؟

النظرة السابعة: تفسير الموقف

إعتماد العامل الغيبيّ يجيب على سؤال الفرزدق، وكذا يجيبه ما سنذكره في محلّه إن شاء الله (تعالى) من تفسير العوامل الظاهريّة الّتي تسوق الأسباب لإنفاذ العامل الغيبي.

أمّا على قول من يرى في الإمام (علیه السلام) مُقدِماً على ما يسمّونه (مشروعاً) إصلاحيّاً وتغييريّاً على كلّ صعيد، فإنّهم يسوّغون الإقدام بتسويغاتٍ يأباها مسير الأحداث وتفسير الوقائع، وهو أشبه ما يكون بما يسمّى اليوم بالعمليّةالانتحاريّة، أو الاستشهاديّة من أجل تحقيق غرضٍ أسمى وأعلى هو أهمّ من حياة منفّذ العمليّة، وإن كان المنفّذ هو شخص الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) !!!

إذ أنّ الأحداث والمؤشّرات والشواهد وجميع الدلائل تدلّ بوضوحٍ لا غبار عليه أنّ إقدام سيّد الشهداء (علیه السلام) على الاستمرار في المسير إلى الكوفة في تلك الظروف ستكون نتيجته القتل، وأنّه سوف لا يحقّق شيئاً مباشراً في إبادة العدوّ والقضاء عليه واستئصال شأفته، وزعزعة كيانه والانقضاض عليه وعلى مبادئه وإزاحته عن صدر الأُمّة، الّتي جثم عليها وأفقدها صوابها ورشدها.

ص: 266

كانت النتيجة بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) -- وفق الدلائل الظاهريّة -- محسومةً ومعلومة، فالقوم قد غدروا وانقلبوا على أعقابهم، وأعدّوا وتهيّؤوا واستعدّوا لقتال ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّ كلّ خطوةٍ يتقدّم بها الإمام (علیه السلام) وركبه نحو الكوفة تعني تقدّمه نحو المنيّة والقتل الأكيد، وكان الركب يسير والمنايا تسير معه..

إنّ مَن يقدم على (الخروج بالمعنى المصطلح) يقف هنا، ولا يجد مسوّغاً للتوغّل في عمق العدوّ، والاقتراب من مركز تجمّع قوّاته وتجحفل عساكره، فلا عسكر يعينه ويرتكن إليه، ولا قواعد يستند عليها، ولا جمهور يمكن أن ينصره ويرفع شعاراته، بل كلٌّ متربّصٌ به، ينتظر اللحظة الّتييروي بها عطشه من الدماء الزاكية، ويملأ جوفه ويسدّ جوعه ونهمه لتمزيق الأوصال المقدّسة.. فعلامَ يُقدِم؟

والكلام دائماً مرسومٌ وفق البحث التاريخيّ، واستنطاق الظواهر الظاهرة للعيان، بغضّ النظر عن التفسير بالعامل الغيبيّ، إذ أنّ الرجوع إلى العامل الغيبيّ يحلّ المعضل ويجيب على السؤال، ولكن ليس لأصحاب هذا القول الاعتماد عليه والاستدلال به، حيث ينزعون لتفسير الموقف حسب المؤشّرات التاريخيّة.

أجل، بناءً على القول بأنّ الإمام (علیه السلام) كان في موقف الدفاع المحض، وأنّه إنّما خرج من المدينة ومكّة ليدفع القتل عن نفسه وأهل بيته، ولا يعطي بيده إعطاء الذليل ولا يقرّ قرار العبيد، فلاستمراره مسوّغاتٌ ظاهريّةٌ

ص: 267

- أيضاً بغضّ النظر عن العامل الغيبيّ -- مدركةٌ ومفهومة، بيد أنّنا لا نريد أن نخوض في هذا البحث هنا، وله موضعٌ آخَر، ونكتفي هنا بالإشارة السريعة لبعض المسوّغات الّتي يرسمها التاريخ، وقد أشرنا إليها في غير موضع.

فالإمام (علیه السلام) قد خرج من المدينة بعد أن خذلَته، وخرج من مكّة بعد أن خذلَته ولم تحبّه، وتوجّه إلى العراق بعد أن خذلَته الأمصار قاطبة، فلا اليمن ولا غير اليمن أعلَنت له النصرة أو وعدته ذلك.

وكان في الكوفة صنفان قد وعداه النصرة:أحدهما: صادقٌ وفيٌّ ثابتٌ راسخٌ يُعتمَد عليه ويُعتَدّ به، وهم أقلّيّة، بَيد أنّها قويّة، وهم عددٌ كبيرٌ من أنصاره الّذين التحقوا به من الكوفة أو حتّى من البصرة.

والآخر: عددٌ كبيرٌ بلغ ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون، وهؤلاء قد نكثوا وغدروا وانجحروا تحت راية الضلال، ولكن مع ذلك فلا يعلم أحدٌ -- في الحسابات الظاهريّة دائماً -- هل ستبقى مع العدوّ أو ترجع إلى رشدها، فهم ركامٌ متموّجٌ متقلّب، فربّما ارعووا أو ارعوى بعضهم، وربّما ارتكسوا في الحضيض ولم يخرجوا من الظلام إلى النور، فالأمر مشتبَهٌ لا يجزم أحدٌ بعاقبته.

وعلى فرض أنّهم كانوا قد خرجوا من النور إلى الظلمات من غير رجعة، كما هو حقيقة أمرهم الّتي ثبتوا عليها حتّى قتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ،

ص: 268

فإنّ في هؤلاء الزبد الواعد كذباً مجالاً محتمَلاً -- ولو كان في غاية الضعف -- لمن تابع مسيرة الإمام (علیه السلام) ، وهو أفضل من المدينة ومكّة الّتي حسمَت أمرها في الخذلان، وعلى الأقلّ كان يمكن الاحتجاج عليهم بما كتبوه ووعدوه من النصرة، كما فعل الإمام (علیه السلام) معهم بالفعل.

ولو لم يكن في هذا العدد الكبير أيّ فائدةٍ أو مسوّغ للاستمرار، فإنّ في العدد القليل الّذي ذكرناه قبل قليلٍ مسوّغاً كافياً للاستمرار، فعددهم القليل هو الّذي سطّر ملاحم البطولة والشجاعة في كربلاء، وذبّ عن سيّدالشهداء (علیه السلام) وعياله، ولم يتسنّ هذا العدد مهما كان قليلاً في غيره من البلدان، ونترك بقية الكلام إلى محلّه إن شاء الله (تعالى).

اللفظ الثاني:

اشارة

ولقي الفرزدق فسأله، فقال: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة، والقضاء ينزل من السماء. فهمّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم، فقالوا: لا نرجع حتّى نصيب بثأره، أو نُقتَل ((1)).

يمكن أن نتناول هذا اللفظ من خلال لمساتٍ سريعةٍ عجلى بعد أن استوفينا الحديث في الألفاظ السابقة:

ص: 269


1- إسعاف الراغبين للصبان: 206.

اللمسة الأُولى: تسجيل موقفَين

هذا هو اللفظ الأوّل الّذي يروي لقاء الفرزدق بالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ويسجّل لنا موقفين في آنٍ واحد، أحدهما لسيّد الشهداء (علیه السلام) والآخَر لإخوة مسلم (علیه السلام) ، فيما كانت المصادر المتقدّمة جميعاً تروي موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وجوابه فقط، ولا يخفى أنّ الصبّان من أبناء القرن الرابع عشر الهجري (ت 1306)، فهو من المتأخّرين جدّاً.

اللمسة الثانية: مَن الّذي حدّد موقف الإمام (علیه السلام) ؟

لم يذكر النصّ أيّ تصريحٍ للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، واكتفى بقوله: (فهمّ أن يرجع)، ولم يذكر مِن أين حصل له هذا الفهم، فهل صدر من الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قولاً أو فعلاً يُفهَم منه هذا الهمّ؟ والحال أنّ الهمّ أمرٌ نفسيٌّ لا يمكن استكشافه مباشرةً من قِبل الإنسان العادي، فكيف اكتشفه مَن قاله؟

ولا ندري إن كان هذا القول هو قول الفرزدق، أو الرواي، أو المؤلّف، فربّما عبّر المؤلّف عن فهمه!

وكيف كان، فإنّه فهمٌ وتصويرٌ من قِبل شخصٍ هو غير الإمام (علیه السلام) ، فلا يمكن الاعتماد على فهمه، ولا الارتكان إليه في تقييم الموقف، حتّى لو كان فهم الفرزدق نفسه، سيّما أنّنا لا ندري ما اعتمد عليه في استحصال هذا الفهم.

ص: 270

اللمسة الثالثة: تأثير كلام الفرزدق في موقف الإمام (علیه السلام) !

لقد سمع الإمام (علیه السلام) كلّ شيء، وعرف الأخبار بالطرق المرسومة يومها، بغضّ النظر عن علم الإمامة، وانكشف له موقف الخذلان وأن لا ناصر له ولا معين، بيد أنّه كان مصرّاً على الاستمرار في المسير، وكان كلام الفرزدق وحده هو الّذي غيّر عزم الإمام (علیه السلام) ، وكان هو المؤثّر الوحيد الّذياستطاع التأثير على عزم الإمام (علیه السلام) ، وكأنّ الإمام (علیه السلام) لم يسمع قبل الفرزدق بأيّ خبر، أو أنّه رغم سماعه كان لا يلوي على شيء، وبكلمةٍ من الفرزدق تغيّرت الموازين عند الإمام (علیه السلام) ! وهذا من أعجب العجب!

اللمسة الرابعة: التردّد في موقف الإمام (علیه السلام) !

لقد رأينا في النصوص التاريخيّة الكثير من المتون ما يوحي أو يحاول أن يوحي للمتلقّي أنّ الإمام (علیه السلام) -- والعياذ بالله -- وأصحابَه وسيوفَه كالمولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) كانت مواقفهم تتّسم بالتردّد والتنقّل بين الإحجام والإقدام لأيّ عارضٍ أو أيّ رأي يمكن أن يُسمَع أو يُتّبَع، فمجرّد أن سمع الإمام (علیه السلام) من الفرزدق همّ بالرجوع، ثمّ سمع كلام إخوة مسلم (علیه السلام) فرجع عن همٍّ وعزمٍ على المسير نحو القتل المحتوم، وحاشا الإمام (علیه السلام) أن يكون متردّداً أو مُقدِماً أو مُحجِماً بناءً على آراء رعيّته، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾!

ص: 271

اللمسة الخامسة: تسجيل موقف آل عقيل

ربّما دمج الصبان بعض النصوص وخرج بهذه النتيجة الّتي سجّل فيها موقفاً لآل عقيل في هذا المشهد، فقد جاء في بعض المصادر موقفٌ لآل عقيل في غير هذا الموضع، بغضّ النظر عن مناقشته فعلاً، حيث روى الطبريّ والمُزيّ والذهبيّ وغيرهم اعتراض الحرّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) على بُعدثلاثة أميالٍ من القادسيّة..

فقال له الحرّ: أين تريد؟ فقال: «أُريد هذا المصر». قال له: ارجع؛ فإنّي لم أدَعْ لك خلفي خيراً أرجوه. فهمّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، فقالوا: واللهِ لا نرجع حتّى نصيب بثأرنا أو نُقتَل. فقال: «لا خير في الحياة بعدكم» ((1)).

وروى ابن قتيبة، قال:

وذكروا أنّ عُبيد الله بن زياد بعث جيشاً أمّر عليهم عمرو بن سعيد، وقد جاء الحسينَ الخبر، فهمّ أن يرجع ومعه خمسةٌ من بني عقيل، فقالوا له: أترجع وقد قُتِل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به؟ فقال لبعض أصحابه: «واللهِ ما لي عن هؤلاء

ص: 272


1- تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 427، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 308، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 304، تاريخ الطبري: 4 / 292.

من صبر»، يعني بني عقيل ((1)).

فربّما استفاد الصبان من مثل هذه النصوص، حيث لم نجد -- حسب الفحص -- في لقاء الفرزدق ما ذكره، فدمج أو سهى، أو ما شاكل ذلك.

اللمسة السادسة: عزم أولاد عقيل على القتل بين يدَي الإمام (علیه السلام)

بغضّ النظر عن مناقشة هذا الخبر، وهل كان موقفٌ لأولاد عقيل هنا أو في موضع آخَر، وهل كان ابتداءً منهم -- كما جاء في نصّ الصبان -- أو أنّهم أجابوا سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد أن سألهم أو أذن لهم بالانصراف اكتفاءً بشهادة أخيهم مسلم (علیه السلام) ؟ فإنّ هذه كلّها أسئلة، وثمّة أسئلةٌ أُخرى أجبنا على بعضها في الجزء الثامن من مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) -- وقائع السفارة)، وسيأتي الجواب مفصَّلاً في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ونكتفي هنا بالقول:

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يعتريه شكٌّ ولا يتردّد؛ لأنّ إرادته إرادة الله، ومشيئته مشيئة الله، ورضاه رضى الله (عزوجل) ، تماماً كما قال سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه:

«رضى الله رضانا أهل البيت!» ((2)).

ص: 273


1- أُنظُر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 5، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 268.
2- أُنظُر: كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 29، مُثير الأحزان لابن نما: 41، بحار الأنوار: 44 / 367.

أمّا أولاد عقيل، فإنّهم إذ سمعوا بشهادة كبيرهم وعميدهم عزموا على التصريح بموقفهم، باعتبارهم مخصوصون بهذا الخبر، وربّما تصوّر مَن تصوّر في حقّهم أنّهم قد تأثّروا بهذا الخبر وربّما غيّر موقفهم، فجاء الجواب على هذا الخيال الباطل واضحاً جليّاً صريحاً بيّناً لا التواء فيه ولا تغبيش.. قالوا جميعاً، وأعلنوا بصوتٍ واحد، وكشفوا عن موقفٍ واحد..(قالوا: لا نرجع حتّى نصيب بثأره، أو نُقتَل).

صاروا صفّاً واحداً، بنياناً مرصوصاً، تماسكت العزائم، تظافرت الإرادات، ترسّخت القناعات، ازدادت الدوافع، فإن كانوا من قبل قد لازموا ركاب الإمام (علیه السلام) لأداء التكليف في القيام، فاليوم قد ازدادوا عزماً للثأر لعميدهم وكبيرهم، وقد خيّروا أنفسهم بين الثأر والمواساة ليذوقوا ما ذاق ((1)).

وبهذا أفادوا أنّهم كانوا مُقدِمين على القتل في الدفاع عن سيّدهم وإمامهم، وهم الآن يقدمون مزوَّدين بدافع إضافيّ، حيث أنّهم يريدون أخذ ثأرهم، فأعلنوا عن عزمهم وثباتهم ومضيّهم في أمرهم لإمام زمانهم.

اللمسة السابعة: مبادرة آل عقيل

هذا كلّه على فرض أنّ أولاد عقيل كانوا قد بادروا إلى إعلان موقفهم

ص: 274


1- إقتباسٌ من المجموعة الكاملة لوقائع السفارة، وللتفصيل انظر: 8 / 37.

من دون أن يسألهم الإمام (علیه السلام) أو يأذن لهم، وإلّا فأولاد عقيل معروفون بتسليمهم وطاعتهم وتفانيهم بين يدي إمامهم، وهم المثال الأروع والنموذج الأسمى -- الّذي لا يرقى إليه نموذجٌ من سائر الخلق إلّا من استثناهم الله -- في أدب التعامل مع إمامهم وشيخهم، فإنّهم إن كانوا قد أحسّوا ما أحسّه الفرزدق أو مَن صاغ الخبر، وعرفوا في سيّد الشهداء (علیه السلام) الإمام المفترضالطاعة أنّه يهمّ بالرجوع لَامتثلوا وسلّموا.

ص: 275

ص: 276

تعليق الفرزدق على كلام الإمام (علیه السلام)

لقد دار بين سيّد الشهداء (علیه السلام) والفرزدق حوارٌ اختلفت المصادر في رواية تفاصيله بين الإجمال والتفصيل، والّذي يهمّنا تناوله هنا هو الخاتمة الّتي أنهى الفرزدق بها كلامه وختم الحوار، بحيث يمكن أن يُستخلَص منه رأيه الأخير والحصيلة النهائيّة الّتي خرج بها وعبّر عنها.

وقد جاءت في (سيَر أعلام) الذهبيّ بلفظ (قلت: يخذلونك، فلا تذهب) ((1))، وفي جملةٍ من المصادر بلفظ: (فلم يطعني) ((2)).

فكأنّه قد درس الموضوع من جميع جوانبه، وخمّن النتائج، ثمّ جزم بها جزماً قاطعاً لا يقبل التردّد والنقاش، ثمّ استخلص منها تكليفاً وموقفاً فصاغه نهياً أكيداً، وتوقّع من الإمام (علیه السلام) أن يطيعه، لصحّة ما ذهب إليه في رأيه، ثم قرّر بعد ذلك أنّ الإمام (علیه السلام) لم يطعه!!

ص: 277


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، مختصر ابن منظور: 7 / 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304.

ولا نريد إطالة المكث مع الفرزدق هنا، ويكفي أن نقول: إنّه لم يتعامل بأدب، وجانب جادّة الصواب، وتعدّى وتجاوز حدّه بما لا يُحمَد عقباه،فمَن هو الفرزدق وغير الفرزدق حتّى يقول: لم يطعني!

وهذا التعبير غير لائق، وفيه تجاوزٌ للحدود، بغضّ النظر عن الاعتقاد الشيعيّ بفرض طاعة الإمام (علیه السلام) على الخلائق أجمعين، فلو وزن الفرزدق نفسه بأيّ ميزانٍ من الموازين يجد نفسه أقلّ بما لا يقبل المقارنة، وأدون من أن يتفوّه بمثل هذه الكلمات، فهو شاعرٌ يتكسّب من شعره، وسيّد الشهداء (علیه السلام) هو الحسين خامس أصحاب الكساء، وهو من سائر الناس، والإمام الحسين (علیه السلام) من الشجرة الّتي غرسها الله على عينه وأخرجه من صلب خير خلقه.

وهكذا لو استعرضنا الموازين والمعايير على كلّ صعيد، لا نجد في أحدها مسوّغاً يبيح للفرزدق أن يقول: لم يطعني!

ص: 278

نهاية اللقاء

اشارة

إختلفت المصادر في تحديد المبادِر بإنهاء اللقاء إلى قسمين:

النهاية الأُولى: انفضاض اللقاء بمبادرةٍ من الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

يفيد الطبريّ وغيره أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أنهى اللقاء، فسلّم عليه وافترقا. قال:

ثمّ حرّك الحسين راحلته، فقال: «السلام عليك»، ثمّ افترقا ((1)).

وقال ابن نما:

ثمّ حرّك راحلته ومضى ((2)).

وروى ابن العديم عن الفرزدق نفسه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) بادر فمضى ممتعضاً من كلامه، ثمّ مضى الفرزدق. قال:

فو الله لقد امتعض منها وما أعجبَته، قال: ثمّ مضى

ص: 279


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56.
2- مثير الأحزان لابن نما: 20.

ومضيت ((1)).

واكتفى ابن الصبّاغ والشبلنجي بذكر مفارقة الإمام (علیه السلام) له:

ثمّ فارقه الحسين (علیه السلام) ((2)).

وهذه النصوص ترسم مشهداً متشنّجاً، يكشف عن عدم رضى الإمام (علیه السلام) وامتعاضه وعدم ارتياحه، فمنها ما صرّح بذلك كما أخبر الفرزدق نفسه في رواية ابن العديم، ومنها ما يمكن استشعار ذلك منه كما في باقي النصوص.

بعد الاستفتاء والدعاء

ثمّة طائفةٌ أُخرى من النصوص أنهت اللقاء بمبادرةٍ من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بيد أنّها تختلف عن المشهد الأوّل، رواها الشيخ المفيد والطبرسيّ وغيرهما:

فقلت له: أجل، بلّغك الله ما تحبّ، وكفاك ما تحذر. وسألتُه عن أشياء من نذورٍ ومناسك، فأخبرني بها، وحرّك راحلته وقال: «السلام عليك»، ثمّ افترقنا ((3)).

ص: 280


1- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215.

وخبر الشيخ المفيد هذا يفيد أنّ المبادرة أيضاً كانت من الإمام (علیه السلام) ، بيد أنّ ما حصل في المشهد أنّ الفرزدق دعا للإمام (علیه السلام) وسأله بعض المسائل الشرعيّة.

وسيأتي الكلام، لقد اكتفى الفرزدق من نصرة الإمام (علیه السلام) بهذا الدعاء، وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) هو مَن يؤخذ منه الدين ومعالم الدين، ورغم ذلك يزعم أنّه نهى الإمام (علیه السلام) ولم يطعه!

النهاية الثانية: انفضاض اللقاء بمبادرةٍ من الفرزدق

اشارة

رسم الخوارزمي مشهداً أفاد فيه أنّ الفرزدق ومَن معه هم الّذين بادروا بإنهاء اللقاء وبالانصراف:

ثمّ فارقناه، وسِرنا ((1)).

وقال ابن الجوزي:

فأعرض عنه الفرزدق، وسار ((2)).

وهذا المشهد يُشعِر أيضاً بشيءٍ من التشنّج يمكن أن يُستشعِر من (فارقناه)، وكان بالإمكان التعبير ب-- (ودّعناه وانصرفنا) أو شيءٍ من هذا القبيل، ويشهد له تعبير: (فأعرض عنه الفرزدق).

ص: 281


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

وعلى التقديرين، أي: على تقدير مبادرة الإمام (علیه السلام) أو مبادرة الفرزدق،فإنّ الامتعاض والإعراض ووقوع الافتراق على غير ما يرام هو المسيطر على الموقف، وأجواء التشنّج في كلا المشهدين تغطّي الفراق، سواءً كان من قِبَل الإمام (علیه السلام) أو من قِبل الفرزدق.

بعد الاستفتاء

هنا أيضاً -- على فرض مبادرة الفرزدق أيضاً -- روى الطبريّ أنّ الفرزدق استفتى الإمام (علیه السلام) في بعض المناسك والنذور، ثمّ مضى..

قال: فقال لي: «صدقت». قال: فسألتُه عن أشياء فأخبرني بها من نذور ومناسك ... قال: ثمّ مضيت ((1)).

واكتفى الحلواني بإنهاء اللقاء بدعاء الفرزدق للإمام (علیه السلام) :

فقال له الفرزدق: أجل، بلّغك الله ما تحبّ وكفاك ما تحذر ((2)).

ص: 282


1- تاريخ الطبري: 5 / 386.
2- نزهة الناظر للحلواني: 41، 43.

إصابة الإمام بالبرسام

اشارة

لقيت الحسين ... وإذا في لسانه ثقلٌ من برسامٍ كان عرض له ((1)) بالعراق ((2)).

كذا قال البلاذريّ والطبريّ والذهبي، نقلاً عن الفرزدق.

معنى البرسام

قال ابن منظور:

البِرسامُ: المُومُ، ويُقال لهذه العِلَّة: البِرسامُ، وكأنّه معرَّب، وبر: هو الصدر، وسام: من أسماء الموت، وقيل: معناه الابن، والأوّل أصحُّ؛ لأنّ العِلَّة إذا كانت في الرأس يقال: سِرْسام، وسِرْ هو الرأْس، والمُبَلْسَم ومُبَرْسَم واحد.

وفي (المصباح المنير):

البِرْسَامُ: داءٌ معروفٌ، وفي بَعْضِ كُتُبِ الطِّبِّ أنَّه وَرَمٌ حارٌّ

ص: 283


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 376، تاريخ الطبري: 5 / 386.

يَعْرِضُ للحِجَابِ الّذي بَيْن الكَبِدِ والمِعَى، ثمّ يَتَّصِلُ بالدِّمَاغ، قال ابنُ دُرَيْدٍ: (الْبِرْسَامُ) مُعَرَّبٌ.

وقال الطريحي:

في الحديث: خَرَجَ الْحُسَيْنُ (علیه السلام) مُعْتَمِراً، وَقَدْ سَاقَ بَدَنَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى السُّقْيَا فَبَرْسَمَ.

هو من البِرْسَام -- بالكسر -- : عِلّةٌ معروفةٌ يهذي فيها!!! يقال: بَرْسَمَ الرجلُ فهو مُبَرْسَمٌ.

وفي (المعجم الوسيط) و(معجم الرائد):

البِرْسام: ذاتُ الجنب، وهو التهابٌ في الغِشاء المُحيطِ بالرئة.

وقال آخرون: إنّه مرض ذات الجنب، وهو وجعٌ يعرض في الصدر ((1)).

* * * * *

يبدو أنّ الشيخ الطريحيّ يقصد أنّ هذا المرض قد يجرّ إلى أن يهذي المبتلى به، ونحن مضطرّون لتفسير عبارته على هذا النحو، لأنّ من المستبعد أن يكون قاصداً لما يظهر من عبارته، وهو أنّ البرسام يلزم الهذيان دائماً، إذ أنّ المثال الّذي ساقه -- وهو إصابة سيّد الشهداء (علیه السلام) بذلك في عُمرته -- يقضي أن ننزّه الشيخ (رحمة الله) عن مثل هذا الوصف لإمامه خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .

ص: 284


1- فرهنگ ابجدي: مادّة برسم.

والّذي يفيده ابن منظور و(المعجم الوسيط) و(الرائد) و(المعجم الأبجديّ) -- وهو فارسي -- أنّه مرضٌ يصيب الصدر.

ولا ندري حينئذٍ ما علاقة إصابة الرئة بثقل اللسان؟! ولا ندري إن كان يقصد بثقل اللسان البهر أو غيره!

ثمّ لا ندري إن كان يقصد أنّ الإمام (علیه السلام) أُصيب بالبرسام في العراق، بمعنى أيّام إقامته في العراق مع أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أو منذ أن دخلها في سفرته تلك؟ والحال أنّه التقاه -- وفق أكثر المصادر -- خارج الحرم ولم يصل إلى العراق بعد.

ص: 285

ص: 286

طلب الفرزدق من الإمام (علیه السلام) أن يتريّث

ذكرت مصادر كثيرة، ابتداءً بابن سعد في (الطبقات) ومَن تلاه، أنّ الفرزدق استمهل الإمام (علیه السلام) وطلب منه أن يتريّث في الخروج من مكّة حتّى ينتهي موسم الحجّ، وأنّه أبدى استغرابه وتعجّبه من الاستعجال في الخروج، فقال ابن سعد:

أخبرنا عليّ بن محمّد، عن الهذلي: إنّ الفرزدق قال: لقيتُ حسيناً فقلت: بأبي أنت، لو أقمتَ حتّى يصدر الناس، لَرجوتُ أن يتقصّف أهل الموسم معك. فقال: «لم آمنهم يا أبا فراس» ((1)).

وقال الطبريّ وغيره:

قال هشام: عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن

ص: 287


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.

غالب، عن أبيه قال: حججتُ بأُمّي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في أيّام الحجّ، وذلك في سنة ستّين، إذ لقيتُالحسين بن عليّ خارجاً من مكّة، معه أسيافه وتراسه، فقلت: لمَن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن عليّ. فأتيتُه فقلت: بأبي وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟! فقال: «لو لم أعجل لَأُخذت» ((1)).

وكان جواب الإمام (علیه السلام) واحداً في جميع النصوص: إنّه لم يأمنهم على نفسه، وأنّه لو لم يعجل لَأُخذ أخذاً.

لا نريد الوقوف هنا، لأنّنا أشرنا إلى ذلك فيما مضى من هذا البحث، وفي مواضع أُخرى كثيرة، وإنّما اقتصرنا هنا على ذكر نماذج من النصوص للتذكير بحقيقةٍ مُرّةٍ لا تُستساغ، ربّما تتغيّب عن الكثير، وهي:

إنّ الإمام (علیه السلام) كان مهدَّداً تهديداً جدّيّاً حقيقيّاً واقعيّاً، لا على مستوى الفرض والتوقّع، وأنّ حياته في خطرٍ مُحدِقٍ قطعيّ جزمي، سواءً قتلاً أو أسراً، وأنّ مكّة الحرم الآمن لم تعِد مكاناً آمناً لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا

ص: 288


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، الإرشاد للمفيد: 2 / 68، إعلام الورى للطبرسي: 230، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 215، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، مثير الأحزان لابن نما: 20.

لشخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ريحانة النبيّ والإمام المفترض الطاعة على الخلق أجمعين.

وهذا يؤكّد بوضوحٍ لا غبش فيه وجلاءٍ لا غبار عليه أنّ الإمام (علیه السلام) كان في موقف الدفاع عن نفسه، وأنّه كان بصدد حماية شخصه النفيس، والابتعاد عن مخالب القرد المهارش المسعور وذئابه الّتي كانت تتربّصبالإمام (علیه السلام) ، تريد أن تملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً.

ص: 289

ص: 290

الإمام يصل الفرزدق بمال

روى ابن سعدٍ في (الطبقات) وابن منظور في (المختصر) مسنداً عن إسماعيل بن يسار، قال:

لقي الفرزدقُ حسيناً بالصفاح، فسلّم عليه، فوصله بأربعمئة دينار، فقالوا: يا أبا عبد الله، تعطي شاعراً مبتهراً؟! قال: «إنّ خير ما أمضيت ما وقيت به عرضك، والفرزدق شاعرٌ لا يؤمن».

فقال قومٌ لإسماعيل: وما عسى أن يقول في الحسين ومكانه مكانه، وأبوه وأُمّه مَن قد علمت؟! قال: اسكتوا، فإنّ الشاعر ملعون، إن لم يقل في أبيه وأُمّه قال في نفسه ((1)).

والابتهار: قول الكذب والحلف عليه، وادّعاء الشيء كذباً، والتشهير بالآخرين ((2)).

ص: 291


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.
2- أُنظُر: لسان العرب: مادّة بهر.

نرجّح هنا ترك التعليق على هذا الخبر، فمن قرأه وصدّق به يعرف مدى خطورة هذا الشاعر المرتزق بشعره، ومدى جرأته وتهوره وغدره (لا يؤمن)، ويدرك حينئذٍ مدى مصداقيّة تقييماته وآرائه وأقواله ومواقفه، ويكفي للمتلقّي قراءة كلمات الإمام (علیه السلام) وكلمات إسماعيل ولو قراءةً عابرة، فضلاً عن التأمّل فيها.

ويبدو أنّ من الظليمة أنّ تُحكم حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتُقيَّم مواقف أُمّةٍ من الناس، وتفسّر وتُحلَّل ذواتهم ونفسيّاتهم على أساس قول شاعرٍ يقطع الإمام (علیه السلام) لسانه بعطيّة، ويكفّ شرّ لسانه ويقي عرضه ويتحرّز منه، وهو الإمام (علیه السلام) الّذي ليس فيه مغمز ولا مهمز.

ص: 292

عدد مَن كان مع الحسين (علیه السلام)

قال الذهبي:

وقيل: كان مع الحسين وجماعته اثنان وثلاثون فرساً ((1)).

وقال مسكويه:

وخرج الحسين في أهل بيته ونسائه وصبيته، فلقي الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا ((2)).

لا نريد هنا الخوض في تحديد عدد مَن خرج مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، فلذلك موضعٌ آخَر يأتي في محلّه إن شاء الله، بَيد أنّنا ذكرنا النصوص هنا باعتبار أنّها جاءت في سياق لقاء الفرزدق، فاكتفينا بذكرها.

ص: 293


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 197، 200، 204.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56.

ص: 294

موقف الفرزدق

اشارة

يمكن تقسيم البحث في موقف الفرزدق إزاء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى ثلاث فترات:

الفترة الأُولى: قبل اللقاء

لم نجد لقاءً أو أثراً لأيّ نوع من أنواع الارتباط والاتّصال بين الفرزدق وبين سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) قبل هذا اللقاء الّذي هو محلّ بحثنا.

وإنّما نقول: لم نجد، بالمقدار الّذي فحصنا عنه، ولا ندّعي الاستقصاء ولا الاستقراء ولا المتابعة الدقيقة الّتي تسوّغ لنا الجزم وتورث عندنا اليقين، بيد أنّ ما توفّر لدينا من الكتب والمضانّ ­­_ على كثرتها ووفرتها _ الّتي كنّا نحسب أن نلتقط منها معلومةً تفيد حصول أيّ نوع من أنواع اللقاء أو الاتّصال بالإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فلم نعثر عليها، ولم نقف على إشارةٍ أو تلويح يفيد ذلك، وربّما يكون، فعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، كما قالوا، والله العالم.

ص: 295

الفترة الثانية: عند اللقاء

نشير هنا باختصارٍ إلى الموقف عند اللقاء، وسيأتي التفصيل بعد قليلٍ في الفترة الثالثة.

لقد سمعنا قبل قليلٍ أنّ اللقاء قد انتهى، إمّا بإعراض سيّد الشهداء (علیه السلام) عنه، أو بإعراضه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويبدو من إشعارات النصوص أنّ نهاية اللقاء لم تكن بالنسبة إلى الفرزدق محمودة، ولم تكن على ما يرام، ويشهد لذلك أنّ الفرزدق قد تنصّل عن المسؤوليّة، وتعامل مع الأمر ببرودٍ باهتٍ ولا أٌباليّة بعيدة المدى، رغم محاولته التظاهر في صورة الحريص الّذي يهمّه أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقابَلَ الموقف بروح الشاعر المبتهر المتسكّع الّذي ينشد الدنيا أينما سال قيحها، ويسيل لعابه لرائحة شهواتها ولذّاتها وزخارفها وسفاسفها، وتنبهر عيناه وتتوسّع أحداقها لمجرّد وميضٍ خافتٍ لبريق الدراهم والدنانير، ويلهث راكضاً لينال زيادةً في حياةٍ مهما كانت حقيرةً ودنيئة.

قصد الإمام الحسين (علیه السلام) ولم يقصده، وابتدأ السؤال وبادر إلى استكشاف علّة استعجال الإمام (علیه السلام) ، وتفحّص عن سبب الخروج قبل أن يتقصّف الموسم، وأبان له الإمام (علیه السلام) بكلّ وضوح أنّ القرود تطلب دمه وتطلب رأسه، وأنّه إن تريّث أكثر من ذلك ولو أيّاماً في مكّة لَأُخذ أخذاً، وأنّه لم يأمنهم، ورغم ذلك انصرف ومضى ولوى عنق ناقته ميمّماً بيت الله

ص: 296

ليحجّ!

ساق بعيره وبعير أُمّه، وانسلّ مع من كان معه نحو مناسك جامدةٍ هامدةٍ لا معنى لها لولا أن تكون طاعةً لله وطاعةً لمن افترض الله طاعته، وأعرض عن وجه الله، وترك ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولم يستعمل حتّى كلامه الشاعريّ حمّال الوجوه ليَعِد بالنصرة، أو الالتحاق ولو بعد الانتهاء من الحجّ.

سار، وكأن لم يلتقِ الإمام (علیه السلام) ، وكأن لم يسمع شيئاً، وكأن لم يرَ أحداً، وكأن لم يحدث في مسيره حدَثاً، وكأن لم يُخبره الإمام (علیه السلام) أنّه مهدَّد، وكأن لم يخبره الإمام (علیه السلام) أنّه لا يسَعْه البقاء في بيت الله الحرام الآمِن ولو لأيّامٍ قلائل حتّى ينقضي موسم الحجّ..

لوى عنق بعيره وانصرف، ولم يُخبِر -- ولو كذباً -- أنّه كان ينوي نصرة الإمام (علیه السلام) فيما يأتي من الأيّام، كما سنسمع بعد قليل.

الفترة الثالثة: بعد الشهادة

اشارة

روى الفرزدق لقاءً له مع عبد الله بن عمرو بن العاص في منى، إذ قصده الفرزدق، فدار بينهما حوار، ونحن لا نريد الدخول في تفاصيل اللقاء الجانبيّة، وسنأخذ منه موضع الحاجة ممّا له علاقة مباشرةً بحديثنا، وخلاصة ما في المصادر:

أخبر الفرزدق أنّه بعد أن فارق الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) دخل

ص: 297

مكّة، فلمّا كان بمنى وجد فسطاطاً وسرادق، فسأل عنه، فقيل: لعبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه، فسأله عن الحسين، فقال له عبد الله: ويلك! فهلّا اتبعتَه، فوَاللهِ ليملكنّ، إنّه لا يحيك فيه السلاح ((1))، ولا يجوز فيه وفي أصحابه ((2)). وحثّه على الالتحاق به ((3))، فإنّه إن أراد الدنيا أصابها وإن أراد الآخرة أصابها ((4)).

فأجابه الفرزدق وفق رواية ابن منظور:

ما مثَله إلّا مثل موسى حين خرج هارباً من آل فرعون ((5)).

وفي رواية ابن سعد، سأله الفرزدق قائلاً:

أترى أن أنصر حسيناً؟ قال: إذاً تصيب أجراً وذخراً. فقال له

ص: 298


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
3- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144.
4- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 الرقم 286، مختصر ابن منظور: 27 / 122، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
5- مختصر ابن منظور: 21 / 230.

الفرزدق: بلا دنيا؟ فأطرق، ثمّ قال: يا ابن غالب، لتتمنّ خلافة يزيد، فانظرن. فكرهتُ ما قال ((1)).

قال الفرزدق: فهممتُ والله أن ألحق به، ووقع في قلبي مقالته، ثمّ ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدّني ذلك عن اللحاق بهم ((2)).

ثمّ خرج الفرزدق ومَن كان معه من عبد الله راجعاً إلى ديارهوأهله، فلمّا أتى ماءً يقال له: تعشار، جعل لا يمرّ بهم أحدٌ إلّا سألوه عن الحسين، حتّى مرّ بهم ركب، فنادوهم: ما فعل الحسين بن علي؟ قالوا: قُتِل.

فجعل الفرزدق يسبّ ابن عمرو ويلعنه، ويرفع يده ويقول: فعل الله بعبد الله بن عمرو وفعل ((3)) إن كان قد سخر بي ((4)).

وذكر جماعة سؤال الركبان دون تحديد الموضع ((5))، أو ذكر أنّ ذلك كان

ص: 299


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.
2- تاريخ الطبري: 5 / 386، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
3- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
4- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
5- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.

على ماءٍ بين الكوفة ومكّة ((1)).

وفي رواية ابن سعد، قال الفرزدق:

فرحلتُ نحوه -- أي: نحو الإمام الحسين (علیه السلام) --، فلمّا كنت في بعض الطريق بلغني قتله، فرجعت إلى عبد الله بن عمرو، فقلت: أين ما قلت لي؟! قال: كان رأياً رأيتُه ((2)).

وفي رواية الطبري أنّه رجع إلى أهله ثمّ سأل عن الإمام (علیه السلام) ، قال:

فقدمتُ على أهلي بعسفان، قال: فواللهِ إنّي لَعندهم إذ أقبلَت عِيرٌ قد امتارت من الكوفة، فلمّا سمعتُ بهم خرجتُ في آثارهم، حتّى إذا أسمعتهم الصوت وعجّلت عن إتيانهم صرخت بهم: ألا ما فعل الحسين بن علي؟ قال: فردّوا علَيّ: ألاقد قُتل. قال: فانصرفت، وأنا ألعن عبد الله بن عمرو بن العاص ((3)).

* * * * *

ص: 300


1- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 الرقم 286، مختصر ابن منظور: 27 / 122، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
3- تاريخ الطبري: 5 / 386.

هنا يمكن أن نلحظ موقف عبد الله بن عمرو وكلامه، ثمّ نلحظ موقف الفرزدق وكلامه:

اللحاظ الأوّل: عبد الله بن عمرو بن العاص

لا يهمّنا كثيراً موقف ابن عمرو، فهو معروف، قد تجذّر فيه الخبث والنذالة والبغض والعداوة والشحناء من أبيه وجدّه، فهو من بُؤَر القذَر والبؤس، وما عسى ابن عتيق عورته أن يقوله في سيّد الشهداء (علیه السلام) ومعدن الطهر والإباء؟

سواءً كان كلامه مع الفرزدق على نحو الاستهزاء بالإمام (علیه السلام) والاستهزاء بالفرزدق، وسواءً كان رأياً رآه، أو قولاً قاله، أو تعبيراً عن اعتقاده أنّ مُلك يزيد من أقدار ربّ العالمين، وأنّه لا يزحزحه شيءٌ حتّى يستوفي أيّامه ويملك ما خوّله الله به، كما يزعم، أو لأيّ غرضٍ آخَر، فإنّه كنيفٌ لا يطفح منه إلّا ما يقزّز ويزكم الأُنوف.

فلا حاجة للوقوف عند كلامه، وهو خارجٌ عن محلّ البحث.

اللحاظ الثاني: الفرزدق

اشارة

نحتاج هنا إلى عدّة متابعاتٍ للفرزدق لنتعرّف إلى حاله وموقفه وكلماته وشأنه مع سيّد الشهداء:

ص: 301

المتابعة الأُولى: قصد الإمام (علیه السلام) وقصد ابن عمرو

أفادت النصوص أنّ الفرزدق قال لمَن كان معه، تماماً كما قال له حين رأى ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو حين رأى فسطاطاً عامراً وسرادق ضخمة وأبنيةً وقباباً وهيئةً حسنة، قال لصاحبه: لو أتيناه. فأتاه فسأل عنه، فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص ((1)).

وقد لا تجد ذلك عزيزاً في حياته، إذ أنّه كان يتسكّع، ويدور على الأحياء والأندية والوجوه والأشراف، ويتكسّب بلسانه وشعره، كذا كان!

من هنا، قد لا يكون قصده لركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ذا خصوصيّةٍ خاصّة، وله بواعث مميّزة، ومقاصد عالية، وغايات وأهداف وسعي للتحرّي واستكشاف موقف أو لاهتمام خاصّ بسيّد الشهداء، وربّما كان يكتفي بالسلام والوداع لولا أنْ سأله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وربّما كان حين نال العطيّة وقبض الدراهم مودّعاً قبل أن يفوه بكلمة، لو كان قد أخذها من أوّل اللقاء، والله العالم!

المتابعة الثانية: تصوير الفرزدق لموقف الإمام (علیه السلام)

وفق ما ورد في (المختصر) لابن منظور، نقرأ تصويراً يرسمه الفرزدق في

ص: 302


1- أُنظُر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، و21 / 230، تاريخ الطبري: 5 / 386.

مقام الردّ على ابن عمرو، يقول فيه:

ما مَثله إلّا مَثَل موسى حين خرج هارباً من آل فرعون ((1)).

وهو يتضمّن مفاد تلاوة الإمام (علیه السلام) للآيات ذات العلاقة عند خروجه من المدينة وعند دخوله إلى مكّة، ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ..﴾، ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ ((2)).

فالصورة في كلا التعبيرين ترسم مشهداً واحداً، وهو:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) حاله تماماً كحال موسى (علیه السلام) يوم طلبه فرعون وآل فرعون ليقتلوه بالرجل، والإمام (علیه السلام) اليوم أيضاً طلبه فرعون زمانه ليقتله، ويشهد لذلك ترنّمه بأبيات ابن الزبعرى: (ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا)، فخرج (علیه السلام) من المدينة ومن مكّة!

وربّما استفاد الفرزدق ذلك من تأكيد الإمام (علیه السلام) له كما سمعنا في أكثر من مصدر، حين سأله الفرزدق عن سبب استعجاله في الخروج ودعا للتريّث والاستمهال حتّى يتقصّف الموسم، فقال له الإمام (علیه السلام) : إنّه إن بقي فسيُؤخَذ أخذاً، وأنّه لا يأمنهم.

المتابعة الثالثة: اللحاق طلباً للدنيا

في رواية ابن سعد، سأله الفرزدق قائلاً:

ص: 303


1- مختصر ابن منظور: 21 / 230.
2- سورة القصص: 21 و22.

أترى أن أنصر حسيناً؟ قال: إذاً تصيب أجراً وذخراً. فقال له الفرزدق: بلا دنيا؟ ((1))

يبدو واضحاً -- من تعليق الفرزدق على كلام ابن عمرو -- مدى طلبه للدنيا وسعيه لاهثاً من أجلها، وكأنّ قوله: بلا دنيا، بصيغة الاستنكار، وكأنّه لا يريد الأجر والذخر ما لم يكن له حظٌّ وافرٌ من الدنيا، وبهذا يمكن أن نعرف مصداقيّة هذا الرجل وطريقة تفكيره ومقاصده في الحياة، ونترك التأمّل في كلامه هذا للمتلقّي، سيّما أنّه ذكر الدنيا نكرة: (بلا دنيا).

المتابعة الرابعة:

شمّ الفرزدق من كلام ابن عمرو أنّ ثمّة دنيا يمكن أن ينالها إذا لحق بالإمام (علیه السلام) ، من دون أن يفقد حياته، أي: أنّه سيكون في مأمنٍ من الموت، إذ أنّه فهم من كلام ابن عمرو أنّ الإمام (علیه السلام) لا يحيك به وبأصحابه السلاح، فهمّ حينئذٍ باللحاق به. قال الفرزدق: فهممتُ واللهِ أن ألحق به، ووقع في قلبي مقالته ((2)).

بَيد أنّه لم يستسلم وراجع نفسه ليتأكّد، يقول: ثمّ ذكرتُ الأنبياء

ص: 304


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.
2- تاريخ الطبري: 5 / 386، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

وقتلهم، فصدّني ذلك عن اللحاق بهم ((1)).

فاستدلّ بما ذكره من أمر الأنبياء (علیه السلام) وتعرّضهم للقتل والأذى، فعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه يدخلون في دائرة القتل، وهذا يعني أنّه يعرّض نفسه للخطر إذا ما التحق، فصدّه ذلك..

إنّه لا يريد أن يُقتل، ولا يريد أن يموت، وإنّما يريد الدنيا، يريد أن يعيش!

ولم يقتصر على التفكير والتريّث في قبول حثّ ابن عمرو، والاستدلال العقليّ على بطلان قوله، بل راح يلعنه ويدعو عليه ويقول: فعل الله به وفعل، حين سمع بمقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّه اقتنع أنّ صاحبه كان يريد له القتل إن أطاعه والتحق.

فلمّا أتى ماءً يقال له: تعشار، جعل لا يمرّ بهم أحدٌ إلّا سألوه عن الحسين، حتّى مرّ بهم ركب، فنادوهم: ما فعل الحسين بن علي؟ قالوا: قُتِل.

فجعل الفرزدق يسبّ ابن عمرو ويلعنه ويرفع يده ويقول: فعل الله بعبد الله بن عمرو وفعل ((2)) إن كان قد سخر

ص: 305


1- تاريخ الطبري: 5 / 386، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

بي ((1)).

المتابعة الخامسة:
اشارة

في روايةٍ أُخرى لابن سعد، قال الفرزدق:

فرحلتُ نحوه -- أي: نحو الإمام الحسين (علیه السلام) --، فلمّا كنتُ في بعض الطريق بلغني قتله، فرجعت إلى عبد الله بن عمرو، فقلت: أين ما قلت لي؟! قال: كان رأياً رأيتُه ((2)).

رحل نحو الإمام (علیه السلام) طمعاً في الدنيا، اعتماداً على قول صاحبه أنّ السلاح لا يحيك فيه، وأنّه سوف ينال ما يصبو إليه دونما ضرر، وأنّه لا يُقتَل، فلمّا سمع بمقتله لم يهدأ ولم يهجع، وعاد -- وفق هذا الخبر -- إلى صاحبه ليلومه على التغرير به وخداعه، وسأله عمّا قال له، وكأنّه يريد أن يقول له: كيف أردتَ أن تدفعني إلى القتل؟ كيف قلت أنّ الحسين وأصحابه لا يحيك فيهم السلاح؟ وقد اعتمدتُ قولك ورحلت نحوه، والآن بلغني مقتله، فلو كنتُ قد أطعتك وعملت بقولك لَكنتُ من المقتولين!!

ص: 306


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 الرقم 286، مختصر ابن منظور: 27 / 122، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
متى بلغه مقتل الإمام (علیه السلام) ، وأين؟

ذكر ابن سعدٍ وجماعةً أنّ الفرزدق لمّا رجع من حجّه وأتى ماءً يقال له: تعشار، جعل يسأل الركبان عن الإمام الحسين (علیه السلام) ، حتّى مرّ بهم ركب، فنادوهم: ما فعل الحسين بن علي؟ قالوا: قُتِل ((1)).وذكر جماعةٌ سؤال الركبان دون تحديد الموضع ((2))، أو ذكر أنّ ذلك كان على ماءٍ بين الكوفة ومكّة ((3)).

وفي رواية الطبريّ أنّه رجع إلى أهله في عسفان، قال:

فوَاللهِ إنّي لَعندهم إذ أقبلَت عِيرٌ قد امتارت من الكوفة، فلمّا سمعتُ بهم خرجت في آثارهم، حتّى إذا أسمعتهم الصوت وعجّلت عن إتيانهم صرخت بهم: ألا ما فعل الحسين بن علي؟ قال: فردّوا عليّ: ألا قد قُتِل! فانصرفت، وأنا ألعن عبد الله بن عمرو بن العاص ((4)).

ص: 307


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 -- 64 الرقم 287 -- 288، مختصر ابن منظور: 27 / 121.
3- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.
4- تاريخ الطبري: 5 / 386.

فرواية الطبري تفيد أنّه سمع خبر مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد فترةٍ من قدومه على أهله.

المتابعة السادسة: موقفه حين سمع بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام)
اشارة

لو أردنا متابعة ما سجّله التاريخ من أقوالٍ للفرزدق حين سمع خبر شهادة الإمام (علیه السلام) ، نجدها تجتمع في مقالات:

المقالة الأُولى: رجع إلى عبد الله ولامه

وفي رواية ابن سعد، قال الفرزدق:

فرحلتُ نحوه -- أي: نحو الإمام الحسين (علیه السلام) --، فلمّا كنتُ فيبعض الطريق بلغني قتله، فرجعت إلى عبد الله بن عمرو، فقلت: أين ما قلت لي؟! قال: كان رأياً رأيتُه ((1)).

ذكرنا هذه المقالة قبل قليل، فلا نعيد.

المقالة الثانية: لعن عبد الله بن عمرو ودعا عليه

جعل الفرزدق يسبّ ابن عمرو ويلعنه ويرفع يده ويقول:

فعل الله بعبد الله بن عمرو وفعل ((2)) إن كان قد سخر

ص: 308


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63 الرقم 286، مختصر ابن منظور: 27 / 122، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62 الرقم 284، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 144، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

بي ((1)).

وفي رواية الطبري: رجع إلى أهله، ثمّ سأل عن الإمام (علیه السلام) ، قال:

فقدمتُ على أهلي بعسفان، قال: فوَاللهِ إنّي لَعندهم إذ أقبلَت عِيرٌ قد امتارت من الكوفة، فلمّا سمعت بهم خرجت في آثارهم، حتّى إذا أسمعتهم الصوت وعجّلت عن إتيانهم صرخت بهم: ألا ما فعل الحسين بن علي؟ قال: فردّوا علَيّ: ألا قد قُتِل. قال: فانصرفت، وأنا ألعن عبد الله بن عمرو بن العاص ((2)).

المقالة الثالثة: رواية (الأغاني)

قال: فلمّا قُتِل الحسين -- صلوات الله عليه -- قال الفرزدق:انظروا، فإن غضبَت العرب لابن سيّدها وخيرها، فاعلموا أنّه سيدوم عزّها وتبقى هيبتها، وإن صبرَت عليه ولم تتغيّر، لم يزدها الله إلّا ذلّاً إلى آخر الدهر. وأنشد في ذلك:

فإن أنتمُ لم تثأروا لابن خيركم

فألقوا السلاح

واغزلوا بالمغازلِ ((3))

ص: 309


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 221.
2- تاريخ الطبري: 5 / 386.
3- الأغاني لأبي الفرَج: 21 / 235.

على هذه الرواية الّتي تفرّد بها أبو الفرج في (الأغاني)، فإنّه قال قولاً يعرفه كلّ عاقل، ولا ترى فيه شيئاً من التحزّن والتفجّع والأسف والتعبير عن الموقف الشخصيّ، وإنّما ذكر -- كأيّ شخصٍ آخَر -- نتيجةً قالها قبله سيّد الشهداء (علیه السلام) في مواطن كثيرة، منها في لقائه مع أبي هرّة:

«إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله لَتقتلني الفئة الباغية، ولَيُلبسهم اللهُ ذلّاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنّ الله عليهم مَن يذلّهم» ((1)).

كيف كان، فإنّك لا تشعر من كلماته هذه تعبيراً عن موقفٍ شخصي، ولو على مستوى الحزن والتفجّع.

حاصل المقالات: لم يأسف على الإمام الحسين (علیه السلام)

لو نظرنا إلى مقالات الفرزدق في كلّ صعيد، لم نستشعر منه ما يفيد أسفه على شهادة الإمام (علیه السلام) أو حزنه وتفجّعه أو استشعاره بعظيم المصيبة، وأنّه مصابٌ بما جرى على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) مِن قتلٍ وسبيٍ وإبادة، واكتفى بالسؤال -- كلامنا كلّه وفق ما وصلنا من النصوص الّتي قرأناها قبل قليل -- :

ص: 310


1- أُنظُر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 123، الأمالي للصدوق: 153، بحار الأنوار: 44 / 314، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70، العوالم للبحراني: 17 / 217، نفَس المهموم للقمّي: 183.

ما فعل؟ فقالوا: قُتِل! وانتهى الأمر، ولم يتابع الخبر أكثر من ذلك، سيّما أنّه تتبّع الركبان، وكأنّه ناداهم من بعيدٍ كما تفيد بعض النصوص.

أجل، إنّه أسف وغضب، وجعل يلعن ويدعو على ابن عمرو، لأنّه حدّثه بحديثٍ لو كان قد أصغى إليه وأطاعه لَكان في المقتولين، فهو لم يأسف على الإمام ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما أسف أن لو كان قد خرج لقُتِل!!!

ولو تابعنا النصوص، نجد أنّها جميعاً لم تروِ لنا استرجاعاً ولا حوقلةً ولا أيّ عبارةٍ تفيد أنّه واجه خبراً محزناً، بل لم تروِ لنا كلمةً له تفيد أنّه قد تفاجأ أو لم يستسغ الخبر، أو أنّه أحسّ بشيءٍ مهما كان، لم يعبّر عن كوامنه فيما يخصّ خبر الشهادة، وإنّما أصحر عمّا يجيش في نفسه من خوفه من القتل على فرض لحاقه!!!

يبدو أنّه تلقّى خبر المصيبة العظمى ببرودٍ غير متصوّرٍ ولا متوقّع من أيّ ذي روح، والحال أنّ مقتله أبكى السماوات والأرضين والجنّة والنار ومافيهنّ ومَن فيهنّ وما يُرى وما لا يُرى مِن خلق ربّنا.

لم تدمع له عين، لم يبكِ، لم يقطّب جبينه، لم يكفهرّ وجهه، ولم يعبس، ولم تهتزّ فيه شعرة، وربّما شهد لذلك -- إضافةً إلى ما روته لنا النصوص المذكورة قبل قليل -- أنّه شاعر، والشاعر إذا ضرب داخله زلزالٌ تهدّمَت مشاعره على شكل صورٍ منظومةٍ وأبياتٍ شعريّة، والحال أنّنا -- حسب فحصنا -- لم نقف له على بيت شعرٍ في رثاء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سواءً

ص: 311

كان عند سماعه الخبر أو فيما بعد إلى يوم خرج من هذه الدنيا، وهذه قصائده وديوانه وأشعاره الّتي وصلَت إلينا لم نجد فيها ما يفيد أنّه استشعر مصاباً أو رثى سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

وما ذكره أبو الفرج الأصفهاني، فهو مجرّد بيتٍ يتيمٍ ليس فيه رثاء! لو ثبت، ولو أنّه كان قد أنشأه في الحال ارتجالاً.

ولو راجعنا ديوانه نجده يرثي ويمدح مَن لا يستحق اسم البشر إلّا تجوّزاً.

ص: 312

رؤيا ابن الفرزدق

روى ابن العديم مسنداً عن لبطة بن الفرزدق قال:

رأيتُ أبي في النوم بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقصدي الحسين وسلامي عليه ((1)).

إنّها رؤيا قال ابنه أنّه رأى فيها أباه، وقد ذكرنا قبل قليلٍ أنّه كان يقصد كلّ من يرجو عنده نيلاً، فقد قصد سيّد الشهداء (علیه السلام) كما قصد عبد الله ابن عمرو بن العاص، وكما قصد غيرهما..

ولكن مع ذلك:

إن دلّت هذه الرؤيا على شيء، إنّما تدلّ على مدى سعة رحمة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، رحمة الله الواسعة، وأنّ زيارته في حياته تماماً كما هي زيارته بعد شهادته والحضور عند قبره، بل وإن كانت زيارته عن بعد -- بناءً على ما ورد من أحاديث صحاح متظافرة -- توجب المغفرة، وأنّ زائره يُغفَر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، والكثير الكثير من الآثار المترتّبة على زيارته الّتي

ص: 313


1- بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612.

تسلتزم إفراد كتابٍ من أكثر من مجلّد لاستيعابها، وقد ذكر ابن قولويه في (كامله) والمجلسيّ في (بحاره) عدداً معتدّاً به منها، والاستطراد في بيان ذلك يخرجنا عن موضوع البحث.

ص: 314

حكاية أخرى للقاء الفرزدق معه (علیه السلام)

اشارة

روى ابن أعثم في (الفتوح)، والطريحيّ في (المنتخب)، واللفظ للأوّل، قال:

• وسار الحسين حتّى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه، فسلّم، ثمّ دنا منه فقبّل يده، فقال الحسين: «مِن أين أقبلتَ يا أبا فراس؟»، فقال: من الكوفة يا ابن بنت رسول الله. فقال: «كيف خلّفتَ أهل الكوفة؟»، فقال: خلّفتُ الناس معك، وسيوفهم مع بني أُميّة، والله يفعل في خلقه ما يشاء! فقال: «صدقتَ وبررت، إنّ الأمر لله، يفعل ما يشاء، وربّنا تعالى كلُّ يومٍ هو في شأن، فإن نزل القضاء بما نحبّ، فالحمد لله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من [كان] الحقّ نيّته».

فقال الفرزدق: يا ابن بنت رسول الله، كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم قد قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟ قال:فاستعبر الحسين بالبكاء، ثمّ قال: «رحم الله مسلماً! فلقد

ص: 315

صار إلى روح الله وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا».

قال: ثمّ أنشأ الحسين يقول:

وإن تكنِ الدنيا تُعَدّ نفيسةً

فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ

وإن تكنِ الأبدانُ للموت

أُنشئَت

فقتل امرئٍ بالسيف

في الله أفضلُ

وإن تكنِ الأرزاقُ رزقاً مقدَّراً

فقلّة حرص المرء

في الرزق أجملُ

وإن تكنِ الأموالُ للترك

جمعُها

فما بالُ متروكٍ به الخير يبخلُ؟

قال: ثم ودّعه الفرزدق في نفرٍ من أصحابه، ومضى يريد مكّة.

• فأقبل عليه ابن عمٍّ له من بني مجاشع، فقال: أبا فراس، هذا الحسين بن عليّ؟ فقال الفرزدق: هذا الحسين ابن فاطمة الزهراء بنت محمّد [ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، هذا واللهِ ابنُ خِيرة الله، وأفضل مَن مشى على وجه الأرض بعد محمّد]، وقد كنتُ قلتُ فيه أبياتاً قبل اليوم، فلا عليك أن تسمعها. فقال له ابن عمّه: ما أكره ذلك يا أبا فراس، فإن رأيتَ أن تُنشدني ما قلت فيه. فقال الفرزدق: نعم، أنا القائل فيه وفي أبيه وأخيه وجدّه (صلوات اللهعليهم) هذه الأبيات:

هذا الّذي تعرف البطحاءُ

وَطْأتَه

والبيتُ يعرفُهُ

والحِلُّ والحرمُ

هذا ابنُ خير عباد الله كلِّهمُ

هذا التقيُّ النقيّ

الطاهرُ العلَمُ

ص: 316

هذا حسينٌ، رسولُ الله والدُه

أمست

بنور هداه تهتدي الأُممُ

هذا ابن فاطمة الزهراء، عترتها

في جنّة الخُلد

مجريّاً بها القلمُ

إذا رأته قريشٌ قال قائلها:

إلى مكارم هذا ينتهي

الكرمُ

يكاد يُمسكه عِرفانُ راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء

يستلمُ

بكفّه خيزران، ريحُه عَبِقٌ

بكفّ أروع، في عِرنينه

شمَمُ

يُغضي حياءً ويُغضى من مهابته

فلا يُكلَّمُ إلّا حين

يبتسمُ

ينشقّ نورُ الدجى عن نور غرّته

كالشمس

تنجابُ عن إشراقها الظُّلَمُ

مُشتقَّةٌ مِن رسول الله نبعته

طابت أُرومتُه والخيم

والشيَمُ

في معشرٍ حبُّهم شكرٌ،

وبغضُهُمُ

كفرٌ، وقربهُمُ منجىً

ومُعتصَمُ

يُستدفَعُ الضرُّ والبلوى بحبّهمُ

ويستقيم به الإحسان

والنعمُ

إنْ عُدّ أهلُ الندى كانوا

أئمّتَهم

أو

قيل: مَن خَير أهل الأرض؟ قيل: هُمُ

لا يستطيع جوادٌ بعد جودهم

ولا يدانيهمُ قومٌ وإن

كرموا

بيوتهم من قريشٍ، يُستضاء بها

في

النائبات، وعند الحكم إن حكموا

فجدّه من قريشٍ في أُرومتها

محمّدٌ وعليٌّ بعده

علمُقال: ثمّ أقبل الفرزدق على ابن عمّه فقال: واللهِ لقد قلت فيه هذه الأبيات غير متعرّضٍ إلى معروفه، غير أنّي أردتُ الله

ص: 317

والدار الآخرة ((1)).

وروى ذلك الخوارزميّ في (المقتل) عن ابن أعثم بأدنى اختلافٍ وزيادةٍ في الشعر، ثمّ قال:

وذكر غيره: إنّ الحسين بن عليّ (علیه السلام) دخل المسجد الحرام وقت ما كان بمكّة، وهو يخطر في مشيته، فقال الفرزدق: مَن هذا؟ فقيل: الحسين بن عليّ. فقال: حقّ له. ثمّ وقف عليه فأنشده الأبيات ((2)).

وكذا ذكر الحكاية كلٌّ من ابن طلحة في (مطالب السَّؤُول) والإربلّي في (كشف الغُمّة)، مثل ابن أعثم، بأدنى اختلافٍ في الألفاظ وشيء من الزيادة في الشعر، وذكر مقدّمة القصّة دون ذكر الأبيات في مدح الإمام (علیه السلام) السيّد ابن طاووس والشيخ المجلسيّ ((3)).

* * * * *

قد أتينا على المقدّمة في خبر السيّد والشيخ فيما سبق من البحث، وأعرضنا هنا عن تتبّع القصيدة والاختلاف في بعض أبياتها زيادةً ونقيصة،

ص: 318


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 124 -- 129، المنتخب للطريحي: 1 / 111.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 223 -- 225.
3- أُنظُر: مطالب السَّؤُول لابن طلحة: 75، كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 43، اللهوف لابن طاووس: 74، بحار الأنوار: 44 / 374، العوالم للبحراني: 17 / 224.

ونكتفي بما ورد في هذا الخبر من زيادةٍ على ما مرّ سابقاً، وسنتناوله من خلال عدّة كلمات:

الكلمة الأُولى: مصدر القصّة

يبدو أنّ مصدر القصّة إنّما هو ابن أعثم في (الفتوح)، وكلّ من رواها فيما بعد إمّا أنّه يصرّح بالنقل عنه أو اعتاد النقل عنه من دون تصريح، وإنّما يعرف ذلك المتابع.

وكيف كان، فإنّ المصدر الأقدم هو ابن أعثم، وما أكثر ما تفرّد به ابن أعثم، وهو يرسل الحكايات إرسالاً دون إسنادٍ ولا إرجاع، في أسلوبٍ قصصيّ حكواتي، والحال أنّه هو بنفسه مجهولٌ لا يُعرَف عنه شيءٌ سوى كلماتٍ لا تبلغ السطر الواحد قالها فيه ياقوت في (معجم الأُدباء).

ولكن سنغضّ الطرف عن ذلك، جرياً على عادتنا في إغفال الحديث عن السند في قضايا التاريخ، واعتبار السند ذي دورٍ ثانويّ أو أقلّ من الثانويّ على تفصيلٍ أتينا على ذكره في الجزء الأوّل من مجموع (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام)) تحت عنوان (المدخل).

ص: 319

الكلمة الثانية: نسبة الإمام إلى فاطمة (علیها السلام) والنبيّ (صلی الله علیه و آله) !

يقول ابن أعثم:

إنّ الفرزدق بعد أن فارق سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أقبل عليه ابن عمٍّ له من بني مجاشع، فسأله إن كان هذا الّذي التقاه هو الحسين بن علي، فقال له الفرزدق: هذا الحسين ابن فاطمة الزهراء بنت محمّد (صلی الله علیه و آله) ، هذا واللهِ ابن خيرة الله، وأفضل من مشى على وجه الأرض بعد محمّد!!

ربّما كان في تجاوزه نسبة سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) هنا ونسبته إلى فاطمة الزهراء (علیها السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعدّه أفضل مَن مشى على وجه الأرض بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، حزازة لا ترتاح لها النفس إذا صدرت من مثل الفرزدق الشاعر الّذي يرى اللغة طوع بنانه.

وهذا ما يلاحَظ في الأبيات الأُولى من قصيدته، حيث يكرّس نسبة الإمام (علیه السلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، واقتصر على ذكر أمير المؤمنين (علیه السلام) في البيت الأخير -- حسب رواية ابن أعثم --، دون التصريح بنسبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إليه، وقد وصفه بالعَلَم بصيغة النكرة:

فجدّه من قريشٍ في أُرومتها

محمّدٌ وعليٌّ بعده عَلَمُ

فعليٌّ أمير المؤمنين (علیه السلام) علَم، وهذا لا يفيد الحصر، وإنّما هو علَمٌ من

ص: 320

الأعلام، وليس هو العلم الوحيد بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله) !

قد يفهم ذلك منه إذا تعامل أحدٌ معه بغير حسن الظنّ! وإلّا اكتفى بما قاله قُبيل إنشاد الشعر من أنّ القصيدة فيه وفي أبيه وجدّه، وما في القصيدة من أبياتٍ يمدح فيها أمير المؤمنين (علیه السلام) .

الكلمة الثالثة: ما قرأ القصيدة عند الإمام (علیه السلام) !

أقبل عليه ابن عمّه المجاشعيّ بعد لقائه بالإمام (علیه السلام) ، وكان الفرزدق -- حسب تعبيره -- قد قال قصيدته في الإمام (علیه السلام) قبل ذاك اليوم، أي: كانت الأبيات جاهزةً عنده قبل لقائه بالإمام (علیه السلام) ، وقد وصله الإمام (علیه السلام) بدراهم، كما في بعض المتون الّتي سمعناها فيما مضى، مع ذلك لا نرى إشارةً في متن ابن أعثم ولا غيره في هذا اللفظ من الخبر أنّ الفرزدق قد أنشد أبياته عند الإمام (علیه السلام) ، وإنّما أنشدها لابن عمّه بعد أن سأله عن الإمام الحسين (علیه السلام) ، فأخبره وقال: قد كنتُ قلتُ فيه أبياتاً قبل اليوم، فلا عليك أن تسمعها.

فإن كانت الأبيات جاهزةً من قبل، فلماذا لم يقرأها للإمام (علیه السلام) ؟

الكلمة الرابعة: جواب ابن عمّه

لا يبدو في ابن عمّ الفرزدق المجاشعيّ أيّ حماسٍ أو انشدادٍ أو تطلّع

ص: 321

لاستماع الأبيات، وكأنّه قد أحرجه الفرزدق، فجرّه الفضول إلى الاستماع.

ويشهد لذلك سياق عبارته في الردّ على اقتراح الفرزدق أن يُسمعه الأبيات.

وربّما كان الفرزدق يعرف ذلك فيه، إذ قال له: فلا عليك أن تسمعها، فقال له: ما أكره ذلك يا أبا فراس! فإن رأيت أن تنشدني ما قلتَ فيه.

يقول: ما أكره ذلك.. فإن رأيتَ أن تنشدني ما قلت فيه.. فهو لا يحبّ أن يسمع مدح سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يطلب الاستماع، وإنّما لا يكره إن شاء الفرزدق!

الكلمة الخامسة: تعليقه على القصيدة

بعد أن قرأ قصيدته، وهي بحقٍّ من روائع الشعر الخالد في مدح الآل (علیهم السلام) ، أقبل على ابن عمّه فقال:

واللهِ لقد قلتُ فيه هذه الأبيات غير متعرّضٍ إلى معروفه، غير أنّي أردتُ الله والدار الآخرة.

كذا قال الفرزدق لابن عمّه، وقد قال الإمام أبو عبد الله الصادق (علیه السلام) : «مَن قال فينا بيت شعر، بنى الله (تعالى) له بيتاً في الجنّة» ((1)).

ص: 322


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق: 1 / 7 ح 1، بشارة المصطفى للطبري: 2 / 208، تفسير الصافي للكاشاني: 4 / 56، بحار الأنوار: 26 / 231 الباب 2 ح3.

والله العالم بالنيّات والمقاصد والسرائر، وما علينا إلّا أن نحمل عمل المسلم على الصحّة، وقوله على الصدق، والله واسعٌ عليم، وأهل البيت أصل الكرم والجود والسخاء والعطاء والوفاء، وقد رُوي عن الإمام الحسين (علیه السلام) أنّه قال: «مَن أحبّنا لله نفعه الله بحبّنا، ومَن أحبّنا لغير الله فإنّ الله لنا، إنّ حُبّنا أهل البيت تساقط عن العبد الذنوب كما تساقط الريح الورق من الشجر» ((1)).

ويروى أنّ الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (علیهما السلام) جاءه قومٌ من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يعودونه في علّته، فقالوا: كيف أصبحتَ يا ابن رسول الله؟ فدتك أنفسنا! قال: «في عافية، واللهُ محمود. كيف أصبحتم جميعاً؟»، قالوا: أصبحنا واللهِ لك يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) محبّين وادّين. فقال لهم: «مَن أحبّنا لله أسكنه الله في ظلٍّ ظليلٍ يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، ومَن أحبّنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنّا الجنّة، ومَن أحبّنا لعوض دنيانا أتاه الله رزقه من حيث لا يحتسب» ((2)).

وقال الإمام زين العابدين (علیه السلام) : «مَن أحبّنا لله وردنا نحن وهو على نبيّنا (صلی الله علیه و آله) هكذا -- وضمّ أصابعه --، ومَن أحبّنا للدنيا فإنّ الدنيا تسَعُ البَرّ

ص: 323


1- كتاب الأربعين للقمّيّ الشيرازي: 472.
2- نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: 103.

والفاجر» ((1)).

وقال أبو عبد الله الصادق (علیه السلام) : «مَن أحبّنا لله نفعه الله بذلك ولو كان أسيراً في يد الديلم، ومَن أحبّنا لغير الله فإنّ الله يفعل به ما يشاء، إنّ حُبّنا أهل البيت لَيحطّ الذنوب عن العباد كما تحطّ الريح الشديدة الورق عن الشجر» ((2)).

والأحاديث في ذلك كثيرة لا يحصيها كتابٌ واحد، لكن نبقى -- بناءً على هذه الرواية -- نسأل الفرزدق: لِمَ لَمْ يقرأها لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد وصله الإمام (علیه السلام) ؟

الكلمة السادسة: إنشادها في المسجد الحرام لسيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

قال الخوارزميّ بعد نقل رواية ابن أعثم:

وذكر غيره: إنّ الحسين بن عليّ (علیه السلام) دخل المسجد الحرام وقت ما كان بمكّة، وهو يخطر في مشيته، فقال الفرزدق: مَن هذا؟ فقيل: الحسين بن علي. فقال: حقّ له. ثمّ وقف عليه، فأنشده الأبيات ((3)).

ص: 324


1- بشارة المصطفى للطبري: 2 / 123.
2- قرب الإسناد للحميري: 39 ح 126.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 223 -- 225.

يمكن أن ينكز كلامه هذا بعدّة نكزات:

النكزة الأُولى: تفرّده

تفرّد ابن أعثم برواية هذا الشعر عن الفرزدق للإمام الحسين (علیه السلام) ، ولكن نقل عنه من جاء بعده، وكان الخوارزميّ أحدهم، بَيد أنّ هذه الزيادة الّتي تفيد أنّ الرجل قد أنشأ ارتجالاً هذه الأبيات في مكّة وفي المسجد الحرام، فإنّ هذا ما تفرّد به الخوارزميّ وبقي شاذّاً لم نقف على أحدٍ رواه لا قبله ولا رواه عنه.

النكزة الثانية: متى كان؟

لا ندري ما يقصد بقوله: (وقت ما كان بمكّة)، فإن كان يقصد وقت ما كان الإمام (علیه السلام) في مكّة ذات مرّة، فهذا غير معروف، وإن كان يقصد وقت ما كان بمكّة أيام خروجه منها إلى العراق، وهو ظاهر العبارة ومفاد السياق، فهو أيضاً غريب، لم يسمع به من قبل غيره ولا من قبله وهو يتحدّث عن لقاء الفرزدق بالإمام (علیه السلام) ، إذ أنّ المتّفق عليه ولو على نحو الإجماع المركّب أنّ الفرزدق لم يلتقِ الإمام (علیه السلام) تلك الأيّام في المسجد الحرام.

النكزة الثالثة: يخطر بمشيته

لقد رأى الفرزدق الإمام (علیه السلام) يخطر في مشيه بشكلٍ مثير، بحيث سأل عنه الفرزدق، وهذا ما لم يُعهَد في مشي أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً، وهم ﴿عِبادُ

ص: 325

الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامَاً﴾ ((1))، فكيف إذا كان يمشي في المسجد الحرام في بيت الله، وهو الموضع الّذي لا تجد على وجه الأرض خاشعاً خاضعاً متذلّلاً متعبّداً لله أشدّ من الإمام (علیه السلام) !

ولا يقال: قد يكون الخطر في المشي مرغوباً يحثّ عليه الشرع، فإنّ تلك الموارد محدودة، منها المشي بين الصفَّين في الحرب، ولا شكّ أنّ المشي في المسجد عامّة والمسجد الحرام خاصّة ليس منها.

النكزة الرابعة: عدم ذكر جواب الإمام (علیه السلام)

كلام الخوارزميّ أغفل ذكر موقف الإمام (علیه السلام) وردّه على الفرزدق، إن كان قد قالها فيه وقرأها عليه في نفس الموضع، فإنّ العادة تقتضي أن يردّ الممدوح ولو بكلمة: أحسنت، أو بصلةٍ أو ما شاكل، فكيف إذا كان الممدوح سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يُعهَد عن أهل البيت (علیهم السلام) أن تعرّض لهم أحدٌ بمثل هذا المدح -- بل بدونه -- وتركوه دون صلة، ولو بكلمةٍ طيّبةٍ ودعوةٍ حسنة.

ص: 326


1- سورة الفرقان: 63.

الکلمة السابعة: رواية الطبراني

روى الطبرانيّ في (المعجم الكبير)، قال:

حدّثنا أبو حنيفة محمّد بن حنيفة الواسطيّ، ثنا يزيد بن عمرو ابن البراء الغنويّ، ثنا سليمان بن الهيثم قال:

كان الحسين بن عليّ يطوف بالبيت، فأراد أن يستلم الحجر فأوسع الناس له، والفرزدق بن غالب ينظر إليه، فقال رجل: يا أبا فراس، مَن هذا؟ فقال الفرزدق: ...

ثمّ ذكر بعض أبيات القصيدة ((1)).

ورواية الطبرانيّ تختلف عن خبر الخوارزميّ من حيث، وتتّفق معها من حيث آخَر، فرواية الطبرانيّ تجمع بين ما يروى في حقّ الإمام زين العابدين (علیه السلام) من تفرّق الناس عنه حين استلامه للحجر، غاية ما في الأمر يخلو المشهد فيها من حضور هشام بن عبد الملك، وتتّفق مع رواية الخوارزميّ من حيث أنّ الأبيات قيلت في أبي الشهداء وفي المسجد الحرام، فيلزمها ما يلزم تلك، فلا نعيد.

وقال ابن كثير بعد أن روى ذلك عن الطبراني:

هكذا أوردها الطبرانيّ في ترجمة الحسين في (معجمه الكبير)،

ص: 327


1- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 101 الرقم 2800.

وهو غريب؛ فإنّ المشهور أنّها مِن قيل الفرزدق في عليّ بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه، فإنّ الفرزدق لم يرَ الحسين إلّا وهو مقبلٌ إلى الحجّ والحسين ذاهبٌ إلى العراق، فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدّم، ثمّ إنّ الحسين قُتِل بعد مفارقته له بأيّامٍ يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت؟ والله أعلم ((1)).

الكلمة الثامنة: قالها في الإمام الحسين (علیه السلام) أو الإمام السجّاد (علیه السلام) ؟

ورد في مصادر كثيرة أنّ الفرزدق قال هذه القصيدة في موقفٍ شهده في المسجد الحرام.

وكان هشام بن عبد الملك قد حجّ، فلم يقدر على استلام الحجر من الزحام، فنُصِب له منبرٌ وجلس عليه، وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين (علیهما السلام) ، وعليه أزارٌ ورداء، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجّادة، فجعل يطوف، فإذا بلغ موضع الحجر تنحّى الناس حتّى يستلمه، هيبةً له.

ص: 328


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 227.

فقال شاميّ: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟! فقال: لا أعرفه, لئلّا يرغب فيه أهل الشام.

فقال الفرزدق -- وكان حاضراً -- : لكنّي أنا أعرفه. فقال الشامي: مَن هو يا أبا فراس؟ فأنشأ هذه القصيدة ((1)).

ص: 329


1- أُنظُر: روضة الواعظين للفتّال: 200، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 264، الإرشاد للمفيد: 2 / 151، الاختصاص للمفيد: 191، الأمالي للشريف المرتضى: 1 / 48، المناقب لابن المغازلي: 311، عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 63، الخرائج والجرائح للراوندي: 1 / 267، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 306، بحار الأنوار: 46 / 125، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 200، تفسير السمعاني: 5 / 113، اختيار معرفة الرجال للطوسي: 1 / 343 الرقم 207، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 41 / 400، تهذيب الكمال للمزّي: 20 / 401، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 4 / 398، طبقات الشافعيّة للسبكي: 1 / 291، الأغاني لأبي الفرَج: 15 / 217، المنتظم لابن الجوزي: 6 / 331، وفَيات الأعيان لابن خَلِّكان: 6 / 95، تاريخ الإسلام للذهبي: 6 / 438، البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 126، حياة الحيوان الكبرى للدميري: 1 / 20، شذرات الذهب لابن العماد: 1 / 142، بشارة المصطفى للطبري: 376، معارج الوصول للزرندي: 116، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 869، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي: 2 / 384، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 108 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.

والحال أنّ ابن أعثم والخوازميّ والطبرانيّ يقولون: أنّه أنشدها في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) !

فإن كان لابدّ من الجمع، فربّما يقال: أنّ الفرزدق كان قد قالها في سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ لمّا استدعى الموقف أن يردّ على هشام انبرى إليه وأنشدها، وربّما أضاف إليها بعض الأبيات الّتي تناسب الموقف، وهذا هو ما فهمه ابن طلحة والإربلّي، فقد قالا بعد نقل قصة هشام والإمام (علیه السلام) :

وأنشد هشاماً من الأبيات الّتي قالها في أبيه الحسين (علیه السلام) ، وقد تقدّم ذِكرها ((1)).

سيّما إذا قلنا أنّه لم يكن قد نشرها كثيراً من قبل لأيّ سببٍ كان، فكانت كأنّها قد سُمعَت لأوّل مرّةٍ على رؤوس الأشهاد، وكأنّه قد أنشدها ارتجالاً، والله العالم.

ص: 330


1- مطالب السؤول لابن طلحة: 418، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 291.

محتويات الكتاب

الديباجة........ 5

المقدّمة...... 15

ترجمة الفرزدق... 19

لقاء الفرزدق بالإمام الحسين (علیه السلام) ..... 31

مكان اللقاء...... 31

الموضع الأوّل: الصِّفاح........... 33

الموضع الثاني: ذات عرق....... 34

الموضع الثالث: بستان ابن أبي عامر، بستان بني عامر.... 35

الموضع الرابع: الشقوق........... 36

جمع الأقوال:....... 37

زمن اللقاء...... 38

مَن كان مع الفرزدق؟... 41

مِن أين قَدِم الفرزدق؟........... 43

القول الأوّل: من البصرة..... 43

القول الثاني: من الكوفة...... 43

القول الثالث: أكثر المصادر.......... 44

البلد الّذي سأل عنه سيّد الشهداء (علیه السلام) ...... 44

ص: 331

هيئة الركب......... 47

المشهد الأوّل: ركبٌ عليهم اليلامق ومعهم الدرق......... 47

المشهد الثاني: قطارٌ معه أسيافٌ وأتراس.... 49

المشهد الثالث: قِبابٌ مضروبةٌ وفساطيط.... 50

المشهد الرابع: الإمام (علیه السلام) في أهل بيته ونسائه وصبيته.... 51

المشهد الخامس: عسكراً في البرّية........... 51

التلميح الأوّل: التمويه في تصوير الركب الحسينيّ....... 52

التلميح الثاني: تشويش الصورة........ 56

هل كانت بين الفرزدق والإمام (علیه السلام) معرفة؟........ 57

النمط الأوّل: مصادر أغفلت التصريح....... 58

النمط الثاني: تشير إلى وجود معرفة......... 58

النمط الثالث: سؤال الفرزدق عن الركب.......... 60

النمط الرابع: الإمام (علیه السلام) لا يعرفه..... 61

النموذج الأوّل: لا يعرّف الفرزدق نفسه..... 61

النموذج الثاني: انتسب له الفرزدق... 63

النمط الخامس: تصرّح بوجود المعرفة..... 64

إشارات.......... 64

الإشارة الأُولى: شخصان معروفان.... 64

الإشارة الثانية: متعارفان من دون لقاءٍ مسبق........ 65

الإشارة الثالثة: اختلاف الأخبار........ 65

سؤال الإمام (علیه السلام) من الفرزدق.......... 67

القسم الأوّل: الإمام (علیه السلام) يبادر......... 67

السؤال الأوّل: عمّا وراءه......... 68

ص: 332

السؤال الثاني: عمّا يصنعه أهل الكوفة........ 68

السؤال الثالث: عمّا خلّف بالعراق..... 70

السؤال الرابع: عن الناس......... 70

السؤال الخامس: عن الخبر...... 71

السؤال السادس: عمّا خلّف لهم بالبصرة.... 72

السؤال السابع: عن خبر الناس في الكوفة... 72

القسم الثاني: الفرزدق يبادر.......... 73

الأوّل: كلام الفرزدق..... 73

الثاني: سؤال سيّد الشهداء (علیه السلام) ......... 74

الخلاصة:........ 74

تلميحات.... 77

التلميح الأوّل: الطعن في تقييم المولى الغريب مسلم (علیه السلام) ....... 77

التلميح الثاني: الطعن في موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ........ 78

التلميح الثالث: توفّر وسائل الاستكشاف والاستخبار....... 80

التلميح الرابع: لم يستخبر الإمامُ كلَّ مَن التقاه.... 80

التلميح الخامس: خبر فردٍ عابر....... 81

التلميح السادس: مَن لم يعتمد آلاف الكتب، يعتمد خبر فردٍ واحد؟... 82

التلميح السابع: تجاهل أخبار المولى الغريب (علیه السلام) ......... 82

التلميح الثامن: تجاهل أخبار المبايعين واضطراب الكوفة....... 83

التلميح التاسع: التشكيك في مواقف الكوفيّين.... 84

التلميح العاشر: السؤال عن الناس... 85

التلميح الحادي عشر: عدم السؤال عن موقف السلطة.... 86

التلميح الثاني عشر: فهم الخبر وفق الاعتقاد الحقّ........ 87

التلميح الثالث عشر: الموضع المسؤول عنه......... 87

التلميح الرابع عشر: سؤال الإمام (علیه السلام) بعد سؤال الفرزدق........ 88

ص: 333

جواب الفرزدق... 91

الطائفة الأُولى: أحبّ الناس إلى الناس..... 91

الميزة الأُولى: قِدَم المصادر.... 92

الميزة الثانية: كلامٌ يناسب الفرزدق........... 93

الميزة الثالثة: جواب السؤال يكمن في فقرةٍ واحدة...... 94

الميزة الرابعة: فقرات الجواب.......... 94

الفقرة الأُولى: أنت أحبّ الناس إلى الناس......... 95

الفقرة الثانية: السيوف مع بني أُميّة.... 97

التصوّر الأوّل: تقييمٌ مستقلّ.... 97

التصوّر الثاني: تعبيرٌ عن القوّة.......... 98

التصوّر الثالث: أن يكون إخباراً عن حال الناس.......... 98

الفقرة الثالثة: القضاء في السماء........ 98

الحاصل:..... 99

الطائفة الثانية: قلوب الناس معك.... 99

الأوّل: يا ابن رسول الله......... 100

الثاني: أُصدقك؟........ 101

الغرض الأوّل: تأكيد صدقه قبل الشروع.......... 101

الغرض الثاني: الإعداد للمفاجئة.... 101

الغرض الثالث: حقيقة مقابل الحقيقة!!!... 102

الثالث: الخبير سألت.... 103

الرابع: القلوب معك والسيوف عليك.... 104

الومضة الأُولى: تقييمان عن فترةٍ واحدة........... 106

الومضة الثانية: اتّضاح الصورة لكلّ ناظر.......... 106

الومضة الثالثة: التعارض بين تقييم الفرزدق وتقييم المولى الغريب (علیه السلام) .......... 107

ص: 334

الومضة الرابعة: تجاهل المبايعين ومعارضة كتاب المولى الغريب (علیه السلام) ... 110

الومضة الخامسة: عدم دقّة التقييم........... 111

الومضة السادسة: مَن يقاتلك أكثر ممّن ينصرك..... 112

الومضة السابعة: كون القلوب معك لا يغني شيئاً...... 112

الومضة الثامنة: التعبير عن (ازدواجيّة) الشخصيّة........ 112

الومضة التاسعة: الإخبار عن المتخاذلين........... 118

المناقشة الأُولى: الأشياخ كبار السن!...... 119

المناقشة الثانية: راوي القصّة.......... 120

المناقشة الثالثة: ما يصنع هؤلاء الأشياخ في أرض المعركة؟........ 120

المناقشة الرابعة: أفراد معدودون.... 121

المناقشة الخامسة: الشلل النفسي لا يُعدّ عذراً... 121

المناقشة الخامسة: الشلل النفسيّ غطاء.... 122

المناقشة السادسة: تصريحه بمراده.......... 123

المناقشة السابعة: ازدواجيّة الفرزدق........ 123

الومضة العاشرة: الفعل تعبيرٌ عن الكوامن......... 124

الومضة الحادية عشر: تناقض إخبار الفرزدق وتصريحات القوم........... 126

الومضة الثانية عشر: إخبار فرد....... 126

الخامس: دعاء الفرزدق........ 127

السادس: ما أعجلك؟.......... 128

الإشارة الأُولى: لا حاجة إلى البحث في التوقيت...... 133

الإشارة الثانية: أجوبةٌ منوّعة........... 134

جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) :..... 135

السابع: اِتّقِ الله!... 144

الطائفة الثالثة: يخذلونك، فلا تذهب..... 145

القدحة الأُولى: كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) ... 146

ص: 335

القدحة الثانية: لا شيء.......... 148

القدحة الثالثة: يخذلونك، فلا تذهب إليهم..... 150

القدحة الرابعة: قلوبهم معك، وأيديهم عليك.......... 152

القدحة الخامسة: فلم يطعني.......... 153

الطائفة الرابعة: تقريرٌ لحال أهل البصرة........... 154

الميزة الأُولى: سؤال الإمام (علیه السلام) قبل أن يعرف مصدر الفرزدق..... 154

الميزة الثانية: المصدر والمقصد..... 155

الميزة الثالثة: جوابه عن أمر الناس........... 156

جواب الإمام (علیه السلام) على تقييم الفرزدق..... 159

الجواب الأوّل: لم تذكر جواباً.... 159

الجواب الثاني: «لم آمنهم»......... 160

الجواب الثالث: «لو لم أعجل لَأُخذت»........... 161

الجواب الرابع: «الناس عبيد الدنيا»....... 161

الإلماعة الأُولى: عدم ورود جوابٍ في المصادر القديمة..... 162

الإلماعة الثانية: السؤال عن البصرة........... 163

الإلماعة الثالثة: مداراة الإمام (علیه السلام) للآخرين....... 163

الإلماعة الرابعة: الإمام (علیه السلام) يفصّل كلام الفرزدق ويبيّنه...... 164

الإلماعة الخامسة: عموم كلام الإمام (علیه السلام) .......... 165

الإلماعة السادسة: لا ازدواجيّة في الموقف والرؤيا.... 170

الإلماعة السابعة: الإخبار عن حالتين مختلفتين........... 172

الإلماعة الثامنة: الأصل في الناس... 173

الإلماعة التاسعة: تكذيب الفرزدق.......... 174

الإلماعة العاشرة: صدقتَ في الإخبار عن السيوف المشهورة........ 175

الجواب الخامس: «لله الأمر، والله يفعل ما يشاء»........ 176

ص: 336

اللفتة الأُولى: «صدقت»........ 177

اللفتة الثانية: التركيز على السيوف المشهورة.... 177

اللفتة الثالثة: احتمال التغيير في موقف السيوف المشهورة... 178

اللفتة الرابعة: ما نحب.. الرجاء!...... 178

الومضة الأُولى: اتّحاد الحبّ والرجاء...... 179

الومضة الثانية: الإمام (علیه السلام) يحبّ ما يحبّه الله...... 179

الومضة الثالثة: كلام الإمام (علیه السلام) عن النتيجة النهائيّة.... 180

الومضة الرابعة: حبّ لقاء الله.......... 180

الومضة الخامسة: التعليق على مشيئة الله... 181

الومضة السادسة: ما يقابل الحبّ.. الرجاء......... 182

الومضة السابعة: الرجاء، النصرة..... 182

الومضة الثامنة: النجاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..... 183

الومضة التاسعة: عدم الاكتراث بموقف السيوف....... 184

الومضة العاشرة: مخرجات الوصيّة.......... 184

اللفتة الخامسة: «لم يتعدَّ مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته»....... 185

النكتة الأُولى: اختلاف اللفظ........ 185

النكتة الثانية: التفريع.... 185

النكتة الثالثة: اختلاف الضمير في الفرضين...... 185

النكتة الرابعة: تأكيدٌ على التعامل مع الله........... 186

الجواب السادس: «ها! إنّها لَمملوءة كتباً»........ 187

الخَطرة الأُولى: معارضة الأجوبة المشهورة....... 187

الخَطرة الثانية: ردّ المقطع الأخير.... 187

الخَطرة الثالثة: إقامة الحُجّة... 188

الخطرة الرابعة: وثوق الإمام بما معه........ 188

الجواب السابع: امتعض وما أعجبَته!....... 190

ص: 337

الإبراز الأوّل: معارضة الأجوبة المشهورة.......... 190

الإبراز الثاني: سبب الامتعاض........ 190

الإبراز الثالث: مفاد الامتعاض........ 191

المفاد الأوّل: كراهية التعرّف على الواقع.......... 192

المفاد الثاني: تكذيب الفرزدق وتسخيف رأيه.......... 192

الإبراز الرابع: التلويح بمقاصد العدوّ وافتراءاته على الإمام (علیه السلام) ..... 193

الإبراز الخامس: تقييم الفرزدق وتصوّره.......... 194

الجواب الثامن: «أنا أَولى مَن قام بنصرة دين الله!».... 194

الخطوة الأُولى: تغيّر الأجوبة في الكتب المتأخّرة...... 195

الخطوة الثانية: متى لزم القوم طاعة الشيطان؟.... 196

الخطوة الثالثة: إمكان التغيير!......... 198

الفترة الأُولى: في حياة سيّد الشهداء (علیه السلام) .......... 198

لقائلٍ أن يقول:........... 206

التذكير الأوّل: أمير المؤمنين أفضل من وُلده... 206

التذكير الثاني: مضامين الأحاديث الشريفة...... 207

التذكير الثالث: سيره بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ......... 208

التذكير الرابع: الفرصة الموهومة!........... 209

الفترة الثانية: بعد شهادته...... 210

الخطوة الرابعة: الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا........... 210

المراد الأوّل: إقامة الحكم الإلهيّ........... 211

المانع الأوّل: تظافر النصوص........ 211

المانع الثاني: اتّفاق علماء الطائفة... 212

المانع الثالث: مخالفة النصوص الشرعيّة والتاريخيّة... 212

المانع الرابع: بماذا ولمن يحكّم شرع الله؟........ 213

المانع الخامس: الاستمرار بعد الخذلان........... 214

ص: 338

المشكلة الرابعة: لم يُحي الدين ولم تمت البدع........ 215

المانع السادس: لم يفعل ذلك أحدٌ من المعصومين (علیهم السلام) ......... 216

المانع السابع: العمل بالعلم الظاهريّ........ 217

المراد الثاني: إحياء الدين وإقامة السنن... 217

المشكلة الأُولى: الإمام (علیه السلام) هو الدين والسنّة.... 218

المشكلة الثانية: الأثر التكوينيّ...... 219

المشكلة الثالثة: قتلوا بقتله الإسلام.......... 221

المشكلة الخامسة: دَور الأئمّة (علیهم السلام) من بعد الإمام الحسين (علیه السلام) ........... 221

المراد الثالث: إعادة الحكم إلى الخلافة بعد أن صار وراثة.......... 222

المعضلة الأُولى: الانحراف منذ السقيفة........... 223

المعضلة الثانية: التوريث في عهد معاوية.......... 225

المعضلة الثالثة: المشكلة في التوريث الأُسريّ........... 225

المعضلة الرابعة: البيعة العامّة ليزيد!......... 226

المعضلة الخامسة: إباء الإمام (علیه السلام) عن البيعة لشخص يزيد... 227

المعضلة السادسة: بقاء الواقع على ما هو عليه!........... 229

المعضلة السابعة: لو فرضنا انتفاء الوراثة، ما هو البديل؟...... 230

المراد الرابع: إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...... 231

القبسة الأُولى: جميع الأئمّة (علیهم السلام) أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر... 232

القبسة الثانية: مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...... 232

القبسة الثالثة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.... 233

القبسة الرابعة: المصلحة في القتل من أجل الأمر بالمعروف......... 234

الاعتراض الأوّل: إثبات أنّ إقامة فرعٍ من فروع الدين أعزّ من حياة الإمام (علیه السلام) . 235

الاعتراض الثاني: بقاء ما كان على ما كان......... 236

الاعتراض الثالث: عدم انقراض سلطان الأُمويّين......... 238

الاعتراض الرابع: الافتقار للنصّ....... 238

ص: 339

المراد الخامس: حفظ الإمامة والعقائد الحقّة.... 239

المراد السادس: «مثلي لا يبايع مثله»........ 241

الخطوة الخامسة: سبب الاستطراد........... 242

الخطوة السادسة: موقف الفرزدق........... 243

جمع الأجوبة......... 244

حوارٌ آخَر......... 245

اللفظ الأوّل:.......... 245

النظرة الأُولى: تأخّر المصادر......... 246

النظرة الثانية: مكان وزمان اللقاء.... 246

النظرة الثالثة: كلام الفرزدق........... 247

اللمحة الأُولى: مؤدّى الكلام......... 247

اللمحة الثانية: انكشاف الواقع ووضوح المشهد......... 248

اللمحة الثالثة: انكشاف الأمر للإمام (علیه السلام) ........... 250

اللمحة الرابعة: سؤال الجميع.......... 250

اللمحة الخامسة: سوء فهم السائل........... 251

النظرة الرابعة: ردّ الإمام (علیه السلام) على كلام الفرزدق........ 251

النظرة الخامسة: مؤدّى جواب الإمام (علیه السلام) سوى الشعر......... 252

الإفهام الأوّل: دَور الغدَرة من أهل الكوفة في حركته......... 252

الإفهام الثاني: عاقبة المولى الغريب (علیه السلام) وعاقبة قتَلَته........... 253

الوسام الأوّل: الترحّم عليه.... 253

الوسام الثاني: مصيره إلى رَوح الله ورضوانه..... 254

الوسام الثالث: «قضى ما عليه»....... 255

الإفهام الثالث: أداء المولى الغريب (علیه السلام) للمهمّة كاملة......... 255

الإفهام الرابع: «منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر»........ 256

ص: 340

الإفهام الخامس: ما هو الّذي على الإمام (علیه السلام) أن يقضيه؟.... 257

النظرة السادسة: تتميم الجواب بالشعر..... 259

الإطلالة الأُولى:.......... 259

الإطلالة الثانية:... 260

الإطلالة الثالثة: التخيير بين الدنيا النفيسة، فكيف بالدنيا الذليلة؟... 261

الإطلالة الرابعة: التخيير بين الموت والقتل....... 262

الإطلالة الخامسة: تضمين الشعر موعظةً للفرزدق...... 265

النظرة السابعة: تفسير الموقف........ 266

اللفظ الثاني:.......... 269

اللمسة الأُولى: تسجيل موقفَين....... 270

اللمسة الثانية: مَن الّذي حدّد موقف الإمام (علیه السلام) ؟........ 270

اللمسة الثالثة: تأثير كلام الفرزدق في موقف الإمام (علیه السلام) !..... 271

اللمسة الرابعة: التردّد في موقف الإمام (علیه السلام) !...... 271

اللمسة الخامسة: تسجيل موقف آل عقيل......... 272

اللمسة السادسة: عزم أولاد عقيل على القتل بين يدَي الإمام (علیه السلام) ........... 273

اللمسة السابعة: مبادرة آل عقيل..... 274

تعليق الفرزدق على كلام الإمام (علیه السلام) ....... 277

نهاية اللقاء......... 279

النهاية الأُولى: انفضاض اللقاء بمبادرةٍ من الإمام الحسين (علیه السلام) .......... 279

بعد الاستفتاء والدعاء........... 280

النهاية الثانية: انفضاض اللقاء بمبادرةٍ من الفرزدق...... 281

بعد الاستفتاء...... 282

إصابة الإمام بالبرسام... 283

معنى البرسام.......... 283

ص: 341

طلب الفرزدق من الإمام (علیه السلام) أن يتريّث........... 287

الإمام يصل الفرزدق بمال.... 291

عدد مَن كان مع الحسين (علیه السلام) ........ 293

موقف الفرزدق.......... 295

الفترة الأُولى: قبل اللقاء.... 295

الفترة الثانية: عند اللقاء..... 296

الفترة الثالثة: بعد الشهادة... 297

اللحاظ الأوّل: عبد الله بن عمرو بن العاص....... 301

اللحاظ الثاني: الفرزدق......... 301

المتابعة الأُولى: قصد الإمام (علیه السلام) وقصد ابن عمرو...... 302

المتابعة الثانية: تصوير الفرزدق لموقف الإمام (علیه السلام) ..... 302

المتابعة الثالثة: اللحاق طلباً للدنيا.... 303

المتابعة الرابعة:... 304

المتابعة الخامسة:......... 306

متى بلغه مقتل الإمام (علیه السلام) ، وأين؟... 307

المتابعة السادسة: موقفه حين سمع بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ........ 308

المقالة الأُولى: رجع إلى عبد الله ولامه... 308

المقالة الثانية: لعن عبد الله بن عمرو ودعا عليه.......... 308

المقالة الثالثة: رواية (الأغاني)....... 309

حاصل المقالات: لم يأسف على الإمام الحسين (علیه السلام) ......... 310

رؤيا ابن الفرزدق........ 313

حكاية أخرى للقاء الفرزدق معه (علیه السلام) ...... 315

الكلمة الأُولى: مصدر القصّة......... 319

الكلمة الثانية: نسبة الإمام إلى فاطمة (علیها السلام) والنبيّ (صلی الله علیه و آله) !......... 320

ص: 342

الكلمة الثالثة: ما قرأ القصيدة عند الإمام (علیه السلام) !..... 321

الكلمة الرابعة: جواب ابن عمّه..... 321

الكلمة الخامسة: تعليقه على القصيدة....... 322

الكلمة السادسة: إنشادها في المسجد الحرام لسيّد الشهداء (علیه السلام) ......... 324

النكزة الأُولى: تفرّده... 325

النكزة الثانية: متى كان؟....... 325

النكزة الثالثة: يخطر بمشيته... 325

النكزة الرابعة: عدم ذكر جواب الإمام (علیه السلام) ....... 326

الکلمة السابعة: رواية الطبراني...... 327

الكلمة الثامنة: قالها في الإمام الحسين (علیه السلام) أو الإمام السجّاد (علیه السلام) ....... 328

محتويات الكتاب....... 331

ص: 343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.