ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الأوّل

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملِك الحقّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السَّماواتِ الْعُلى، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنتَ الله، لا رافع لما وضعت، ولا واضعَ لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى محمّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ،

ص: 5


1- بحار الأنوار: 83 / 332 الباب 45.

وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ((1)).

اللّهم وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ _ اللّهمّ _ كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ _ وقولك الحقّ _ : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).

ص: 6


1- نهج البلاغة: 101 خ 72.
2- مصباح المتهجّد: 785.

والعن اللّهم أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّد وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِرْ حماتهم وجماعتهم ((1)).

وصلّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذو النسب العلي، المنفِق الملي، أبو عبد الله الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأَولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا (علیه السلام) ، الحسين بن عليّ المرتضى.

ص: 7


1- مصباح المتهجّد: 785.

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبدسيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحَن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء (علیه السلام) ((2)).

الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.

الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((1)).الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((2)).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) _ وهو الصادق الأمين _ : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((3)).

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : «... أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَالله لو أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ ما

ص: 9


1- كمال الدين: 2 / 290 ح 1.
2- بحار الأنوار: 45 / 314.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((1)).ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((2))، حتّى «يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات».

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((3)).

فذلك قائم آل محمّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يخرج، فيقتل بدم الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .. «وإذا قام _ قائمنا _ انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((4)).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فقال: «لمّا أُسريَ بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جل جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي اطلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها،

ص: 10


1- بحار الأنوار: 45 / 147.
2- أُنظر: بحار الأنوار: 98 / 151 الباب 18.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
4- بحار الأنوار: 52 / 376.

فجعلتك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطلعت الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذرّيّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضت ولايتهم علىالملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين. يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع، ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي ولا أظللتُه تحت عرشي. يا محمّد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال (عزوجل) : إرفَعْ رأسك. فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و (م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ درّيّ.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنَةُ الناس _ يومئذٍ _ بهما أشدّ من فتنة العِجْل والسامريّ» ((1)).

ص: 11


1- كمال الدين: 1 / 252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار: 52 / 379 ح 185.

وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن عليّ أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مصرعهم، ولو كان في الدنيا _ يومئذٍ _ حيّاً لَكان (صلی الله علیه و آله و سلم) هو المعزّى بهم».

قال: وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: ثمّ قل:

«اللّهم عذِّبِ الفَجَرة الّذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخب وأوضع معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً.

اللّهم وعجّل فرج آل محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم

ص: 12

من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهمسلطاناً نصيراً..

اللّهم إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأَت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك.

اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك، وأهل بيت رسولك.

اللّهم وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفُتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين.

اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيّك في الأرض هائمة، اللّهمّ فأعِنِ الحقَّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

ص: 13


1- مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار: 98 / 305 الباب 24.

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیهم السلام) ، الّذين كشف لهم سيّدالشهداء (علیه السلام) «الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة» ((1))، ووعَدهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).

اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلده والبراءة من أعدائهم.. ((3)).

ص: 14


1- علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
2- تأويل الآيات الظاهرة: 272.
3- أُنظر: المزار لابن المشهدي: 177، بحار الأنوار للمجلسيّ: 97 / 428 _ زيارة المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمدُ لله الأوّلِ قبل الأشياء، والباقي بعد فناء الأشياء، العليم الّذي لا ينسى مَن ذكره.

وصلّى اللهُ على أشرف بريّته وخير خلقه محمّدٍ (صلی الله علیه و آله و سلم) وآله (علیهم السلام) ، واللعنُ الدائم الدائب أبداً على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخِرين.

أمّا بعد..

تناولنا قبل هذه الدراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، ثمّ (ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة)، فطُبعَت الدراستان في كتابَين مستقلَّين.

وقد وفّق اللهُ _ ببركة أهل البيت (علیهم السلام) وسيّد الشهداء (علیه السلام) _ فأتينا على دراسة ظروف دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة المكرّمة، وظروف إقامته _ فداه روحي _ فيها.

ونودّ هنا الإشارة _ باختصارٍ _ إلى بعض التنويهات الّتي ذكرناها في

ص: 15

كتاب (ظروف الخروج من المدينة)؛ لأهمّيّتها:

إنّ البحث أساساً يعتمد على نظرةٍ جديدة، أو ما يُعبَّر عنه في المفردات المعاصرة: (قراءة جديدة) لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي تحتاج إلى بيانٍ طويلٍ عريضٍ مفصَّل، يستدرج ذهنَ القارئ إلى النتائج، بَيْد أنّ ازدحام الأفكار وتشتّت البال وصعوبة الظروف وسعة المشروع الّتي لا تسعها طاقة الفرد الواحد كلّها عوامل تمنع من الإسراع في العمل.

وما أتمنّاه على القارئ الكريم أن يتفضّل علَيّ ويتكرّم، فيشملني بلطفه وصبره وتحمّله، ويقرأ البحث مع إغفال جميع السوابق الذهنيّة العالقة في أعماقه منذ أن نشأ وهو يقرأ عن قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ البحث فيه ظرافةٌ وتدقيقٌ أحياناً، وهو مُبتنٍ على الاستدلال التاريخيّ، مع التسليم بالعامل الغيبيّ والدوافع الغيبيّة، والتسليم بعصمة سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمامته، وأنّه الناطق عن الله المفترَض الطاعة، والتسليم بما تؤدّي إليه الاعتقادات الحقّة الضروريّة، والتسليم لنتائج الاعتقاد بالعامل الغيبيّ، غاية ما في الأمر أنّ البحث يُحاول أن يُثبت أنّ الدراسة التاريخيّة بالقراءة المتأنّية تؤدّي إلى نفس مؤدّى التفسير بالعامل الغيبيّ للقيام الحسيني.

وعليه، فإنّ أصل البحث وإثبات أصل الفكرة الّتي تتلخّص بكلمة:

«إنّ قيام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّه من أوّله إلى آخره كان دفاعاً محضاً مقابل هجوم العدوّ وعزمه وإقدامه على قتله، كما قُتل جدُّه وأُمّه

ص: 16

وأبوه وأخوه وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ».

وهذا ما يتطلّب دراسةً كاملةً شاملة، وإثباتاتٍ قويّةً متوفّرةً في التاريخ بكثرةٍ حسب فحصنا، وسوف نتابعها _ إن شاء الله تعالى _ إن بقيَ في العُمر بقيّة.

فلْيتفضّل القارئ بانتزاع السوابق الذهنيّة والمسلَّمات غير الاعتقاديّة، إلى حين ينتهي من قراءة هذه الوُريقات.

ومن الضروريّ أن لا يستعجل القارئ الكريم بإصدار الحكم على ما يقرأ حتّى ينتهي من مجموع الكتب الّتي احتوت هذه الدراسات.

وقد التزمنا أن لا نذكر متناً إلّا أنّ يلحقه التوثيق وذكر المصادر، وربّما كرّرنا ذكر المصادر تحت كلّ فقرةٍ كلّما اقتضت الضرورة ذكرها والاستشهاد بها، واعتمدنا المصادر التاريخيّة القديمة، واعتمدنا _ غالباً _ في تخريجها وتوثيقها على موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) (تاريخ إمام حسين (علیه السلام) ) الموفّقة، مع مراجعة النصوص في المتون والكتب الأصليّة في الغالب.

فالرجاء أن يتفضّل القارئ بملاحظة ذلك، إذ أنّ توثيق البحث يساعد على تسهيل القبول والاقتناع به.

كلّ ما جاء في هذا البحث إنّما هو دراسةٌ وقراءةٌ للأحداث التاريخيّة، ومحاولةٌ لفهم قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأسراره وفق نصوص التاريخ، وقد أشرنا في مواضع _ منها مقدّمة ترجمة رسالة العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) في بيان

ص: 17

حكمة قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) _ إلى النظريّات الّتي حاولَت تفسير قيام الإمام المظلوم (علیه السلام) ، فلا نعيد هنا، ولعلّنا نُوفَّق لتناولها بشكلٍ مفصَّل..

فالغرض لا يعدو كونه بحثاً لفهم وتفسير القيام المقدّس وفق نظرةٍ خاصّة، منتزَعة في الإساس من الأحاديث الشريفة والنصوص المقدّسة، بَيد أنّها تحاول هنا الوصول إلى نفس النتائج من خلال المتون التاريخيّة ليس إلّا، وبالتالي سيعرف المؤمن الحسينيّ مظلوميّة إمامه ومظلوميّة أهل البيت (علیهم السلام) ، ويعرف قدر دمعته وبكائه وتوجّعه لِما نزل بهم، ويُدرك شيئاً من شهقة سيّدة النساء فاطمة (علیها السلام) الّتي لا تفتر في كلّ يومٍ ودمعتها الّتي لا ترقأ أبداً، والله من وراء القصد.

وربّما استخدمنا لفظ (القيام) في ثنايا البحث، ونقصد به (القيام بأمر الله)، فإنّ الإمام قائمٌ بأمر الله (عزوجل) في كلّ حالاته وحركاته وسكناته، وكلّ واحدٍ من الأئمّة (علیهم السلام) هو قائمٌ بأمر الله، وهم جميعاً القوّامون بأمره.

* * * * *

لقد تحرّينا الاحتياط، وتقدّمنا في البحث خطوةً خطوة، كمن يمشي في منطقةٍ ملغومةٍ مظلمة، وقصدنا خدمة أهل البيت (علیهم السلام) ، وعزمنا الدفاع عن حريمهم وقداستهم وكلِّ ما يُنسَب إليهم، فإذا وقعنا بين خيارين: خيار التزام قداسة التاريخ والمؤرّخ، وخيار التزام قداسة الأولياء والأصفياء، فإنّنا اخترنا الخيار الثاني؛ طلباً لرضى الله ورسوله والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

ص: 18

فإن وُفّقنا في ذلك فهو فضلهم ومَنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإلّا فنستغفر الله، ونسأله أن يُعطينا أجر مَن أحسن عملاً، إنّه عفوٌّ جوادٌ كريم، وهو نِعْم المولى ونِعْم النصير.

ونرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، وينفعنا به ووالدينا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّيّاتنا خدمة زَين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) في الدنيا والآخرة، ويحشرنا في مماليك مولانا الغريب وعبيده المرضيّين، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يُرضيه ويُرضي النبيَّ الأمين (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطاهرين المعصومين (علیهم السلام) ، بحقّ مولانا مُهيّج أحزان يوم الطفوف (علیه السلام) وأُخته الطيّبة فاطمة المعصومة (علیها السلام) .

اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين، وعجِّلْ فرج وليّ أمرنا، الطالب بدم الإمام المظلوم غريب الغرباء (علیه السلام) ، آمين ربَّ العالمين.

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

قمّ المقدّسة

5 / ربيع الأوّل / 1439 ه-

ص: 19

ص: 20

تاريخ دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة ومدّة إقامته

اشارة

إتّفق قول المؤرّخين _ إلّا من شذّ، وهو نادر! _ على أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) دخل مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليالٍ مضين من شهر شعبان ((1))، كما اتّفقوا على خروجه من المدينة في الثامن والعشرين من شهر رجب الحرام، فتكون المدّة الّتي استغرقها الإمام (علیه السلام) لقطع المراحل العشر بين البلدين: خمسةً إلى ستّة أيّام، وفي ذلك دلالاتٌ وإشاراتٌ مهمّةٌ أتينا على تفصيلها في (ظروف حركة الإمام (علیه السلام) بين المدينة ومكّة).

ص: 21


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، 371، تاريخ الطبري: 5 / 343، 351، 381، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79، روضة الواعظين للفتّال: 147، الإفادة للزيدي: 57، إعلام الورى للطبرسي: 223، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، 327، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139. البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، 158.

مدّة إقامته

إتّفقوا بلا خلافٍ أنّ الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) أقام في مكّة شهر شعبانوشهر رمضان وشهر شوّال وشهر ذي القعدة ((1))، وأيّاماً مِن ذي الحجّة.

فتكون مدّة إقامته في مكّة _ بعد طرح ثلاث ليالٍ من شعبان وإضافة ثمانية أيّامٍ من ذي الحجّة _ أربعة أشهر كاملة وأيّاماً من ذي الحجّة.

وبحساب الأيّام تكون مدّة الإقامة زهاء مئةٍ وخمسٍ وعشرين يوماً إذا احتسبنا الشهور كاملة (ثلاثين يوماً).

فالمدّة طويلةٌ نسبيّاً في حساب حركة الإمام (علیه السلام) منذ أن خرج من المدينة حتّى استُشهد في كربلاء؛ إذ أنّ هذه المحطّة استغرقت أطول الفترات.

ففي المدينة لم تدُم الإقامة بعد أن هجموا على الإمام (علیه السلام) وهدّدوه وأحاطوا به وأحدق به الخطر الجدّي الحقيقي أكثر من ثلاثة أيّام،

ص: 22


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، 371، تاريخ الطبري: 5 / 343، 351، 381، الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بُغية الطلب لابن ا لعديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139، اللهوف لابن طاووس: 31، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، 158، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 132.

واستغرقت فترة الحركة بين المدينة ومكّة فترةً لا تزيد عن ستّة أيّام، واستغرقت الحركة بين مكّة وكربلاء أقلّ من الشهر الواحد، وأقام _ فداه العالمين _ في كربلاء ثمانية أيّامٍ على أقصى التقادير.

فتكون الإقامة في مكّة أكثر الفترات في تاريخ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى الشهادة، ومِن هنا ربّما حازت هذه الفترة الاهتمام البالغ، ودعَتْ إلى التدقيق فيها والتأمّل في مجريات الأحداث الّتي تخلّلتها.ومن خلال هذه الفترة يمكن استنطاق مواقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وتحرّكاته وتحرّكات مَن كان معه، فإنّها فترةٌ كافيةٌ تماماً _ سيّما بالنسبة إلى باقي المراحل من حركته _ لبيان أهداف الحركة وأسبابها وبواعثها وغاياتها.

وهذا ما نأمل أن نتابعه خلال هذه الدراسة، ومن الله التوفيق والتسديد.

ص: 23

ص: 24

الآية الّتي تلاها الإمام (علیه السلام) عند دخول مكّة واستخارته

اشارة

ذكر جماعةٌ من المؤرّخين أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا وافى مكّة ونظر إلى جبالها من بعيد، جعل يتلو هذه الآية: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ ((1)) ((2)).

وقال آخَرون أنّه (علیه السلام) تلاها لمّا دخل مكّة ((3))، وأنّه دخلها وهو يقرأ الآية ((4)).

ص: 25


1- سورة القصص: 22.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 37. مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، المنتخب للطريحي: 2 / 422.
3- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، 351، 381، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، 266، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، 385، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.
4- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 33، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79، روضة الواعظين للفتّال: 147، إعلام الورى للطبرسي: 223.

وقد أتينا على دلالات تلاوة هذه الآية المباركة في دراسة ظروف الخروج من المدينة، فلا نعيد!

دعاء الإمام (علیه السلام) واستخارته

ذكر الشيخ الطريحيّ دعاءً دعا به الإمام (علیه السلام) لمّا قَدِم مكّة، وربّما نقله عن كتاب (المقتل) المتداول لأبي مِخنَف، ففي (المنتخب) قال:

فلمّا قَدِم الحسينُ إلى مكّة، قال: «اللّهمّ خِرْ لي، وقرَّ عيني، واهدني سواءَ السبيل» ((1)).

وفي (المقتل) المتداول:

حتّى أتى مكّة، فلمّا أشرف عليها قال: «اللّهمّ خُذْ لي بحقّي، وقرَّ عيني، ربِّ اهدني سواء السبيل» ((2)).

وقد ذكرنا في بحث دلالات تلاوة الآية المذكورة أنّها تفيد معنى الاستخارة، فيكون هذا الدعاء بمعنى تلاوة الآية، على التفصيل المذكور في محلّه.

ص: 26


1- المنتخب للطريحي: 2 / 422.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 16.

تغيير والي مكّة

اشارة

التغييرات المذكورة في النصوص التاريخيّة تختلف، من حيث الوالي المعزول والوالي الجديد المنصوب عند دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة، وتتضمّن جملةً من المطالب، وسنحاول استعراض النصوص الواردة في المقام وما يتعلّق بذلك من خلال التوضيحات التالية:

التوضيح الأوّل: الوالي الّذي تمّ تغييره

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الواردة في الوالي الّذي تمّ تغييره إلى عدّة تغييرات:

التغيير الأوّل: عثمان بن محمّد
اشارة

ذكر ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة) ثلاث نصوصٍ متهافتة، أحدها يوافق المشهور، والآخرَين مرتبكَين:

النصّ الأوّل:

قال:

ص: 27

وذكروا أنّه لمّا بويع يزيد بن معاوية، خرج الحسينُ حتّى قدم مكّة، فأقام هو وابنُ الزبير.

قال: وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميراً على المدينة وعلى الموسم، وعزل الوليد بن عُقبة ((1)).

هذا النصّ يوافق المشهور، كما سنرى.

النصّ الثاني:

قال:

وذكروا أنّ يزيد بن معاوية عزل خالد بن الحكم عن المدينة، وولّاها عثمان بن محمّد بن أبي سفيان الثقفي، وخرج الحسينُ بن عليّ وعبد الله بن الزبير إلى مكّة.

وأقبل عثمان بن محمّد من الشام والياً على المدينة ومكّة وعلى الموسم في رمضان ((2)).

وهذا النصّ مرتبك، إذ يعتبر _ بشهادة السياق _ أنّ والي المدينة عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) كان خالد بن الحكم، ثمّ عزله يزيد وولّى عثمان ابن محمّد بن أبي سفيان الثقفي، وحينما أقبل عثمان _ ذكر ابن قُتيبة _ أنّه كان والياً على المدينة ومكّة والموسم، وهذا كلّه يخالف المشهور المتّفَقعليه

ص: 28


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176.

بين المؤرّخين في جميع موارده.

النصّ الثالث:

قال:

وذكروا أنّ يزيد بن معاوية عزل عمرو بن سعيد، وأمّر الوليد بن عُقبة، وخرج الحسينُ بن عليٍّ إلى مكّة، فمالَ الناس إليه وكثروا عنده واختلفوا إليه، وكان عبد الله بن الزبير فيمن يأتيه ((1)).

وهذا النصّ _ كما يُلاحَظ _ كأنّه معكوسٌ تماماً عن النصّ الأوّل وعن المشهور بين المؤرّخين.

وكان بالإمكان معالجته بفرض عزل عمرو وتأمير الوليد بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة أو بعد شهادته، وهذا ما أفادته المصادر التاريخيّة، كما سنسمع بعد قليل.

بَيد أنّ شهادة السياق تأبى هذه المعالجة؛ لأنّه يروي خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد تأمير الوليد إلى مكّة، لا مِن مكّة، ثمّ يسترسل في الحديث عن سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة.

فإن كان مجالٌ للقول بالتصحيف والسهو والاشتباه، أو باختلاف الزمان كأن لا يكون عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أو دخوله مكّة،فذاك، وإلّا ربّما كان الأوفق طرح النصَّين الأخيرين وردّهما على ابن قُتيبة،

ص: 29


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 2 / 5.

والأخذ بالنصّ الأوّل ليدخل في جملة أقوال المؤرّخين.

فإذا اعتمدنا النصّ الأوّل فإنّه لا يشير إلى الوالي المعزول، وإنّما يحدّد لنا الوالي القادم، وهو عمرو بن سعيد.

التغيير الثاني: يحيى بن حكيم

قال ابن قُتيبة:

ثمّ إنّ يزيد عزل يحيى بن حكيم بن صفوان بن أُميّة عن مكّة، واستعمل عليها عمرو ابن سعيد بن العاص بن أُميّة ((1)).

وروى البلاذريّ فقال:

وقال الواقديّ: عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة، لأنّ مروان كتب يذكر ضعفه ووهنه وإدهانه، وولّى المدينة عمرو بن سعيد الأشدق، وولَّى يحيى بن الحكم بن صفوان بن أُميّة بن خلف الجمحيّ مكّة.

وقال هشام ابن الكلبي: هو يحيى بن حكيم بن صفوان، ولّاه عمرو ابن سعيد مكّة وصار إلى المدينة ((2)).

وكان يحيى بن حكيم بن صفوان بن أُميّة ذا قدر، ولّاه عمرو بنسعيد مكّة، ورجع عمرو إلى المدينة ((3)).

ص: 30


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 7.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: 10 / 250.

قال ابن قُتيبة: إنّ يزيد عزل يحيى بن حكيم عن مكّة واستعمل عمرو ابن سعيد، وقد ذكرنا _ قبل قليل _ الارتباك الواضح في عبارته، ويبدو أنّ ثمّة اشتباهٌ يمكن معالجته بالنصوص الأُخرى الّتي وردت في نفس هذا المضمون، إذ أنّ من عادة الولاة يومها إذا ضُمّت إلى ولايتهم ولايةٌ أُخرى نصبوا والياً مِن قِبَلهم على إحداهما وباشروا الحضور في الأُخرى، تماماً كما فعل ابن زياد يوم ضمّ يزيدُ الكوفة إلى ولايته في البصرة، فجعل أخاه على البصرة وانصرف إلى الكوفة.

فربّما كان ما ذكره البلاذريّ يعالج هذا الاختلاف، حيث أفاد أنّ يزيد أمّر عمرو بن سعيد على المدينة، وكان واليه على مكّة، فجعل عمرو يحيى على مكّة، وانصرف هو إلى المدينة، وجعل يتردّد بينهما.

التغيير الثالث: الحارث بن خالد

روى البلاذريّ فقال:

قال أبو مِخنَف وعوانة وغيرهما: ولّى يزيدُ بن معاوية وعمّال أبيه على الكوفة النعمانَ بن بشير الأنصاريّ، وعلى البصرة عُبيدَ الله ابن زياد، وعلى المدينة الوليدَ بن عُتبة ابن أبي سفيان، وعلىمكّة عمرو بن سعيد الأشدق.

وقال بعضهم: كان على مكّة الحارث بن خالد، وعلى المدينة الأشدق، والأوّل أثبت.

ص: 31

فلمّا ولّى كتب إلى الوليد مع عبد الله بن عمرو بن أُويس أحد بني عامر بن لؤيّ: أمّا بعد، فإنّ معاوية بن أبي سفيان ... ((1)).

نسب البلاذري القول أنّه كان على مكّة الحارث بن خالد إلى بعضهم، وكفانا مؤونة المعالجة بتثبيت القول المشهور القائل أنّ عمرو بن سعيد كان على مكّة.

التغيير الر ابع: عبد الرحمان بن نبيه

روى البلاذريّ فقال:

وحدّثنا أحمد بن إبراهيم وأبو خيثمة، قالا: حدّثنا وهب بن جرير، عن ابن جعدبة، عن صالح بن كيسان قال:

مات معاوية والوليدُ أميرٌ على مكّة والمدينة، وكان على مكّة من قبله أخوه لأُمّه عبد الرحمان بن نبيه، فكتب اليه يزيد يأمره أن يأخذ بيعة حسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير، فاستضعفه في ذلك، فعزله، وأمّر عمرو بن سعيد الأشدق على المدينة ومكّة ((2)).أفادت هذه الرواية عند البلاذريّ أنّ والي مكّة كان الوليد، وكان الوليد قد أمّر عليها من قبله أخوه لأُمّه عبد الرحمان بن نبيه.

ص: 32


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 299.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.

وهو خلاف المصادر الأُخرى أيضاً!

وكيف كان، فليس عبد الرحمان هذا كان والياً من قِبَل يزيد، وإنّما كان نائباً عن الوليد، فلا موضوعيّة له.

التغيير الخامس: الوليد بن عُتبة

قال الطبريّ:

ونزع يزيدُ بن معاوية في هذه السنة الوليدَ بن عُتبة عن مكّة، وولّاها عمرو بن سعيد بن العاص، وذلك في شهر رمضان منها، فحجّ بالناس عمرو بن سعيد في هذه السنة.

وعن أبي معشر: وكان عاملُه على مكّة والمدينة في هذه السنة بعدما عزل الوليد بن عُتبة عمرو بن سعيد، وعلى الكوفة والبصرة وأعمالها عُبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شُريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة ((1)).

ابن عبد ربّه، الباعوني:

فقال: فقدم عمرو بن سعيد في رمضان أميراً على المدينةوالموسم، وعزل الوليد بن عُتبة ((2)).

ص: 33


1- تاريخ الطبري: 4 / 301.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

البلاذري:

عن صالح بن كيسان قال: مات معاوية والوليد أميرٌ على مكّة والمدينة ... ((1)).

ذكر الطبريّ في إحدى رواياته أنّ والي مكّة والمدينة كان الوليد بن عُتبة، فعزله يزيد وولّى عليهما عمرو بن سعيد.

التغيير السادس: مروان

قال الشيخ ابن شهرآشوب:

ووصل الخبر إلى يزيد، فعزل الوليد، وولّاها مروان ((2)).

ربّما تفرّد الشيخ ابن شهرآشوب بقوله أنّ التغيير إنّما حدث في المدينة بعزل الوليد بعد أن بلغ يزيد خبر تعامله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وتأمير مروان.

ومروان كان حاكماً في المدينة حتّى لو كان في الظلّ!

التغيير السابع: عمر بن سعد بن أبي وقّاص

قال الخوارزميّ في (المقتل) وهو يروي عن أحمد بن أعثم الكوفي أحداث دخول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة:

وكان أميرُ مكّة مِن قِبَل يزيد يومئذٍ عمر بن سعد بن أبي

ص: 34


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.
2- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88.

وقّاص ... ((1)).

لم نجد ما ذكره الخوارزميّ عن ابن أعثم في (الفتوح) المطبوع، ولا في مصوّرة النسخة المخطوطة الّتي عندنا، والحال أنّ الخوارزميّ يصرّح بنقله عن ابن أعثم.

ثمّ إنّ ولاية عمر بن سعد بن أبي وقّاص لمكّة لم يذكرها أحد، وأنّى له بولاية مكّة وقد قتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) طمعاً في مُلك الريّ كما زعم.

واحتمال التصحيف أو الاشتباه واردٌ جدّاً؛ للشبَه الشديد في الأسماء: (عمر بن سعد) و (عمرو بن سعيد)..

التغيير الثامن: عمرو بن سعيد
اشارة

وردت ثلاث طوائف من الأخبار في تولية عمرو بن سعيد مكّة أيّام خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أو عند وروده مكّة:

الطائفة الأُولى: تولية المدينة

قال ابن قُتيبة:

وذكروا أنّه لمّا بويع يزيدُ بن معاوية خرج الحسين حتّى قدم مكّة، فأقام هو وابن الزبير.

ص: 35


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 بداية الفصل العاشر.

قال: وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميراً على المدينة وعلى الموسم ((1)).

الطبري:

وفي هذه السنة عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة عن المدينة، عزله في شهر رمضان، فأقرّ عليها عمرو بن سعيد الأشدق، وفيها قَدِم عمرو بن سعيد بن العاص المدينة في رمضان ((2)).

ابن الأثير، ابن عساكر:

في هذه السنة [سنة 60 ه] عُزل الوليد بن عُتبة عن المدينة، عزله يزيد، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق ((3))، فقدمها في رمضان، فدخل عليه أهل المدينة ((4)).

ابن الجوزي:

وفي هذه السنة عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة عن المدينة، عزله في رمضان، وأمّر عليها عمرو بن سعيد، فقدمها ((5)).

ذكر محمّد بن عمر أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قَدِم

ص: 36


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3.
2- تاريخ الطبري: 4 / 254.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 208.
4- الكامل لابن الأثير: 3 / 265.
5- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324.

المدينة في رمضان (سنة 60)، فدخل عليه أهل المدينة ... ((1)).ابن عساكر، ابن خيّاط:

وبعث يزيدُ عمرو بن سعيد أميراً على المدينة، وعزل الوليدَ بن عُتبة ((2)).

وبويع يزيدُ بن معاوية، فأمر عمرو بن سعيد بن العاص على المدينة، فحجّ عمرو بالناس سنة ستّين.. ((3)).

ابن عبد البرّ:

فلمّا كفّ الوليدُ بن عُتبة عن الحسين وابن الزبير في شأن البيعة ليزيد ... عزله، وولّى يزيدُ عمرو بن سعيد الأشدق ... ((4)).

سبط ابن الجوزي:

ولمّا بلغ يزيدَ ما صنع الوليد، عزله عن المدينة، وولّاها عمرو بن سعيد الأشدق ((5)).

الذهبي:

ص: 37


1- تاريخ الطبري: 4 / 254.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190، تاريخ خليفة بن خيّاط: 178.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 46 / 37.
4- الاستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1388.
5- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.

وبعث يزيدُ بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص أميراً على المدينة ((1)).

القلقشندي:

فكان مَن وَلِيَها منهم: الوليد بن عتبة، ثمّ عمرو بن سعيد الأشدق، ثمّ الوليد بن عُتبة ثانياً ... ((2)).الباعوني:

وقَدِم عمرو بن سعيد في رمضان أميراً على المدينة والموسم، وعزل الوليد بن عُتبة ((3)).

* * * * *

تذكر هذه الطائفة أنّ يزيد ولّى عمرو بن سعيد على المدينة من دون الإشارة إلى سابق ولايته، إن كانت في مكّة أو لم تكن، فيكون التغيير قد شمل المدينة من دون لحاظ التغيير في مكّة.

إلّا أن يُستفاد ممّا ورد في بعضها أنّه قَدِم على الموسم أنّه كان أمير مكّة أيضاً، فتدخل في الطائفة الثالثة، بَيد أنّ أمير الحاجّ لا يلزم أن يكون أمير مكّة، كما يظهر من النصوص.

ص: 38


1- تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
2- صبح الأعشى للقلقشندي: 4 / 270.
3- جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

وهذه الطائفة تبقى قابلةً للانسجام مع الطائفتين الأُخريَين، لسكوتها عن سابقة سعيد.

الطائفة الثانية: تولية مكّة

ذكرت جملةٌ من المصادر أنّ يزيد القرود تسلّق على أعواد المنبر بعد أبيه وكان عمرو بن سعيد الأشدق أميراً على مكّة ((1)).

وفي روايةٍ للطبريّ أنّ ابن الزبير أتى مكّة وعليها عمرو بن سعيد ((2)).فهذه الطائفة تفيد أنّ عَمْراً كان والياً على مكّة مِن قبل أن يدخلها سيّدُ الشهداء (علیه السلام) ، وقد أقرّه يزيد على ما في يده.

وهي تنسجم مع الطائفة الأُولى، ومع الطائفة الثالثة كما سيأتي.

الطائفة الثالثة: تولية مكّة والمدينة

روى البلاذريّ والطبريّ وغيرهما أنّ عَمْراً كان على مكّة، فجمع له يزيد المدينة مع مكّة بعد أن عزل عنها الوليد ((3)).

ص: 39


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 299، تاريخ الطبري: 4 / 250، الكامل لابن الأثير: 4 / 14، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 156.
2- تاريخ الطبري: 4 / 254.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307، 311، تاريخ الطبري: 5 / 343، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 329، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158، مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي: 1 / 121، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي: 1 / 49.

وأضاف إليهما الطائف في (التذكرة الحمدونيّة) ((1)).

وقال ابن الأثير: كان العامل على مكّة والمدينة عمرو بن سعيد الأشدق ((2)). من دون الإشارة إلى عزل الوليد!

* * * * *

كيف كان، فإنّ الطوائف الثلاثة لا تتعارض وتنسجم لتفيد أنّ عمرو الأشدق كان هو الوالي على مكّة يوم دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها!

التوضيح الثاني: وقت التغيير

إذا رجّحنا التغيير السابع، كما صرّحت به المتون التاريخيّة، يكون التغيير قد حصل في المدينة وليس في مكّة، إذ كان عمرو الأشدق علىمكّة قبل أن يخرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وهذا يعني أنّه لم يحدث أيُّ تغييرٍ على صعيد ولاية مكّة، وإنّما انضمّت المدينة إلى واليها أيضاً، كما فعل القرد المخمور بالبصرة والكوفة حيث ضمّهما إلى ولاية ابن زياد.

وأمّا توقيت ذلك، فقد أفاد الشيخ ابن شهرآشوب وابن عبد البرّ

ص: 40


1- التذكرة الحمدونيّة: 8 / 31.
2- الكامل لابن الأثير: 4 / 43.

وغيرهما:

إنّ العزل والتولية كانت بعد أن بلغ يزيد خبر ما جرى بين سيّد الشهداء (علیه السلام) والوليد، وكفّ الأخير عن الإمام (علیه السلام) ((1)).

وصرّح جماعةٌ سبقهم الطبريّ أنّ الأشدق قدم المدينة في شهر رمضان من تلك السنة (سنة 60) ... ((2)).

وحدّد ابن حمدون وقت دخوله بالضبط، فقال: إنّه دخلها «قُبَيل العُتمة، فصلّى العتمة بالناس، فقرأ: ﴿لَمْ يَكُنْ﴾ و﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ﴾» ((3)).

وفي إحدى روايات الطبريّ: أنّه قدم المدينة في ذي القعدة سنة 60 ... ((4)).

ص: 41


1- أُنظر: الاستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1388، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 4 / 254، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي: 1 / 49.
3- التذكرة الحمدونيّة: 8 / 31.
4- تاريخ الطبري: 4 / 256.

وفي روايةٍ أُخرى له ذكر أنّ نزع الوليد ونصب الأشدق كان في شهر رمضان، من دون الإشارة إلى قدومه إلى المدينة ((1)).وذكر البلاذريّ أنّ عَمْراً صار إلى المدينة بعد أن ولّى يحيى على مكّة، من دون تحديد وقتٍ معيَّن ((2)).

وقد يُتحصَّل من مجموع الأخبار أنّ ورود عمرو الأشدق إلى المدينة كان في شهر رمضان، وأمّا رواية الطبريّ الّتي حدّدَته بذي القعدة فيمكن أن يكون قد رحل بعد شهر رمضان إلى مكّة وعاد إلى المدينة قبل أن يرجع إلى مكّة لحضور الموسم.

فإذا عرفنا أنّ الأشدق كان والياً على مكّة من قبل، وأنّ المدينة ضُمّت إليه فيما بعد، وأنّه دخل المدينة في شهر رمضان، فهذا يعني أنّه كان حاضراً في مكّة والياً عليها حين دخلها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لأنّ الإمام (علیه السلام) دخل مكّة في شهر شبعان.

التوضيح الثالث: علّة التغيير

اشارة

لقد وردت في نصوص المؤرّخين أسبابٌ وعللٌ منصوصةٌ صراحة، أو ملوَّحٌ بها، للتغيير الّذي قام به القرد المخمور في مكّة والمدينة، حيث جمع

ص: 42


1- تاريخ الطبري: 4 / 301.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307.

البلدَين وأخضعهما لوالٍ واحد، وعزل الوليد عن المدينة.

ويمكن تقسيمها إلى ثلاث عللٍ أساسيّة:

العلّة الأُولى: الوشاية بالوليد

روى البلاذريّ فقال:

قال الواقديّ: عزل يزيدُ الوليدَ بن عُتبة؛ لأنّ مروان كتب يذكر ضعفه ووهنه وإدهانه، وولّى المدينة عمرو بن سعيد الأشدق ... ((1)).

روى البلاذريّ عن الواقديّ تعليلاً صريحاً يفيد أنّ مروان وشى بالوليد عند القرد المخمور، وذكره بالضعف والوهن والإدهان، ممّا دعا يزيد إلى عزله، وهذا السبب وإن كان يرجع بالتالي إلى العلّة الثانية الّتي سنذكرها، بَيد أنّ الخبر نفسه أوعز العزل إلى الوشاية، بغضّ النظر عن المادة الّتي وُشيَ بها الوليد عند يزيد.

العلّة الثانية: خوفه من ضعف الوليد

روى البلاذريّ مسنداً خبر كتاب يزيد الخمور إلى الوليد وتشديده على أخذ البيعة من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ قال:

فاستضعفه في ذلك فعزله، وأمّر عمرو بن سعيد الأشدق على

ص: 43


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307.

المدينة ومكّة ((1)).

فيزيد يرى في الوليد ضعفاً، وقد تخوّف منه ومن ضعفه هذا، كماصرّح به ابن خيّاط وابن عساكر والذهبيّ وغيرهم، فقالوا:

وبعث يزيد عمرو بن سعيد أميراً على المدينة، وعزل الوليد بن عُتبة؛ تخوّفاً لضعف الوليد ((2)).

وقد عدّ القرد المخمور موقف الوليد ضعفاً، بل تفريطاً، كما يُستفاد من كلام ابن كثير، فكان العزل نتيجة التفريط:

عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عُتبة عن إمرة المدينة؛ لتفريطه ((3)).

ويبدو من عبارة ابن عبد البرّ أنّه أوعز العزل إلى نمط شخصيّة الوليد وأخلاقيّاته الّتي دعَتْه إلى الكفّ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فالوليد _ كما يزعم ابن عبد البرّ _ يتّصف بصفاتٍ لا تخدم يزيد في تلك المرحلة الّتي لا همّ له فيها سوى قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .

قال ابن عبد البرّ:

ص: 44


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.
2- تاريخ خليفة بن خيّاط: 178، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158.

فلمّا كفّ الوليد بن عُتبة عن الحسين وابن الزبير في شأن البيعة ليزيد، وكان الوليد رحيماً! حليماً! سريّاً!، عزله وولّى يزيدُ عمرو ابن سعيد الأشدق ... ((1)).

وأجمل آخَرون، فقالوا: إنّ الخبر وصل إلى يزيد وبلغه موقف الوليد فعزله، من دون تصريح ((2))، بَيد أنّ المفاد واحد، إذ أنّ ما بلغ القردالمخمور هو كفّ الوليد عن سيّد الشهداء (علیه السلام) .

العلّة الثالثة: تجبّر عمرو وتكبّره وطغيانه

صرّح الطبريّ وابن الأثير والمقريزيّ أنّ عمرو بن سعيد كان عظيم الكبر ((3))، ووصفه ابن كثير فقال: وكان متآلهاً متكبّراً ((4)).

وكان يزيد يحتاج إلى مثل هؤلاء الأذناب والجِراء لتنفيذ جرائمه النكراء وتحقيق مآربه الخسيسة، ولا يكون لها إلّا مثل هذه الوحوش الكواسر والمسوخ المتجبّرة، الّتي ولدَتها مستنقعاتُ الأرحام المُنتنة بسيلانات

ص: 45


1- الاستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1388.
2- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88.
3- تاريخ الطبري: 4 / 254، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158.

الزناة، من أمثال الأشدق وابن مرجانة.

التوضيح الرابع: الهدف من إنفاذ الأشدق

لقد جمع القردُ المخمور المسعور البصرةَ والكوفة لابن الأَمَة الفاجرة، كما جمع المدينة ومكّة لعمرو بن سعيد؛ لمواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومعالجة الموقف الّذي كان يخطّط له.

وربّما شهد لذلك أنّه نصب عمرو بن سعيد على المدينة ومكّة خلال فترة وجود سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ بعد أن استغنى عن خدماته الخاصّةالمتوقّعة في البطش بآل الله والقضاء على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، عمد إلى عزله بعد شهادة الإمام (علیه السلام) وإرجاع الوليد إلى منصبه، كما أفاد خليفة بن خيّاط وابن عساكر والمقريزيّ والقلقشنديّ:

ولّاه معاوية مكّة، ثمّ استعمله يزيد بن معاوية على المدينة في رمضان سنة ستّين، فباشرها، وكان عظيمَ الكبر، حتّى عزله في سنة إحدى وستّين في ولايته ((1)).

وبويع يزيدُ بن معاوية، فأمّر عمرو بن سعيد بن العاصي على المدينة، فحجّ عمرو بالناس سنة ستّين، وقُتل الحسين بن عليّ لعشرٍ خلَون من المحرّم سنة إحدى وستّين، ثمّ نزع عمرو عن

ص: 46


1- إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.

المدينة في سنة ستّين ((1)).

وكان على مكّة والمدينة ابنُ عُتبة، فولّى مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، ثمّ عزله سنة إحدى وستّين وأعاد الوليد بن عُتبة ((2)).

ويشهد لذلك أيضاً ما رواه البلاذريّ مسنداً، قال:

مات معاوية والوليدُ أميراً على مكّة والمدينة، وكان على مكّة من قبله أخوه لأُمّه عبد الرحمان بن نبيه، فكتب اليه يزيد يأمره أن يأخذ بيعة حسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير، فاستضعفه في ذلك فعزله، وأمّر عمرو بن سعيد الأشدق على المدينة ومكّة،وأمّره أن يبعث إليه بابن الزبير في جامعةٍ ولا يؤخّره ... ((3)).

وقد صرّح العلّامة المجلسيّ نقلاً عن بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد الخمور إنّما أنفذ هذا الوغد الكاسر والطاغي المتجبّر والمغرور المتكبّر للقبض على الإمام سرّاً أو الإقدام على قتله غِيلة، ومثل هذا المجرم المنحطّ يمكنه أن يُقدِم على مثل هذه الجناية العظمى.

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) :

ولقد رأيتُ في بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد

ص: 47


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 46 / 37، تاريخ خليفة بن خيّاط: 176.
2- مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي: 1 / 121.
3- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 311.

ابن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلِّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين (علیه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غِيلة.

ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين (علیه السلام) على أيّ حال اتّفق ((1)).

أجل، هذا الأُمويّ المتجبّر المعادي لأمير المؤمنين (علیه السلام) والمبغض لأهل البيت (علیهم السلام) يمكنه أن يكون ليزيد المسعور كالجرو الّذي سلّطه على الكوفة والبصرة، وهما بوجهَيهما الكالحَين وبطشهما وتهوّرهما يمكن أن يخيفا الناس ويُقدِما على أيّ جريمة، ولو كانت قتل سيّد شباب أهلالجنّة (علیه السلام) !

التوضيح الخامس: دخوله المدينة ومدّة مكثه فيها

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ سعيداً دخل المدينة قادماً من مكّة في شهر رمضان وقت العتمة، فصلّى بالناس، وقرأ: ﴿لَمْ يكُن﴾ و﴿إِذَا زُلْزِلَت﴾ ((2)).

كانت الأحداث في مكّة تغلي يوم تركها الأشدق، وكان الحدَث الأعظم بدخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها، وكان الخطر الآخر الّذي تصوّره الأمويّون هو دخول ابن الزبير إليها، فكان المفروض أن يتواجد الأشدق في تلك الفترة

ص: 48


1- بحار الأنوار: 45 / 99، المنتخَب للطريحي: 304.
2- تاريخ خليفة بن خيّاط: 178.

في مكّة، لا أن يخرج منها ويقيم في المدينة.

وستأتي بعد قليلٍ الإشارة إلى أنّ ذلك ربّما كان شاهداً على أنّ إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة كانت إقامةً عاديّة، لم يلحظ العدوُّ فيها ما يحتاج إلى وجود الوالي الطاغي فيها ليباشر مهامّه الخاصّة ويعالج ما يمكن أن يكون تمرّداً أو محاولةً للانقضاض على الحكم والتحريض على الحاكمين واستقطاب الأنصار والرجال، على الأقلّ في تلك الفترة بالخصوص.

التوضيح السادس: خطبته

في (التذكرة الحمدونيّة):

فلمّا أصبح خرج إلى الناس وعليه قميصٌ أحمر ورداءٌ أحمر وعمامةٌ حمراء، فرماه الناس بأبصارهم، فقال:

يا أهل المدينة، ما لكم ترمونا بأبصاركم، كأنّكم تريدون أن تغزوا بنا سيوفكم [أن تضربونا بسيوفكم]؟ أنسيتم ما فعلتم؟ أما لو أنّا ننقم منكم في الأُولى ما عدتم في الثانية.

أغرّكم أن قتلتم عثمان فوجدتم بعده ثائراً [ثائرنا] حليماً ومسنّاً مأموناً، قد فني غضبه وذهبت أذاته؟ فاغنموا أنفسكم، فقد وليناكم بالشابّ المقتبل البعيد الأمل، قد اعتدل جسمه، واشتدّ عظمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله ببأسه، فهو إن عضّ نهش، وإن وطئ فرس، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا.

ص: 49

فرعف وهو يتكلّم، فألقى إليه رجلٌ عمامةً فمسح بها، فقال رجلٌ من خثعم: دمٌ على منبرٍ في عمامة! وقال: فتنةٌ عمّت وعلا ذِكرها وربِّ الكعبة! فكانت الفتنة المشهورة ((1)).

* * * * *

لا نريد المكث عند هذه الخطبة وتحليلها، فإنّ خروجه بالأحمر،وتهديده بيزيد وبلُغة الأُمويّين المقيتة، وتذكيرهم بأحقادهم الدفينة، وثأرهم وانتقامهم لدم طاغيتهم الّذي بذريعته التافهة الخائبة أفسدوا الحرث والنسل وقتلوا الطيّبين، يكفي لحكاية تغطرسه وتجبّره وطغيانه، وسلوكه سلوك قومه في الإرعاب والإرهاب.

التوضيح السابع: متنٌ آخَر للخطبة

روى جماعةٌ أنّ يزيد بعث عمرو بن سعيد أميراً على المدينة، وعزل الوليد بن عُتبة تخوّفاً لضعف الوليد، فرقى عمرو المنبر حين دخل، وذكر ابن الزبير وما صنع، وقال: تعزّز أو تعوّذ بمكّة، ثمّ أقسم وكرّر قسَمه وأكّده أنّه سيغزوه لئن دخل الكعبة، وأكّد أنّه لَيحرقنّها عليه على رغم أنف مَن رغم، وفي بعض النصوص أنّه يحرق عليه مكّة ((2)).

ص: 50


1- التذكرة الحمدونيّة: 8 / 31.
2- أُنظر: تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268، تاريخ خليفة بن خيّاط: 178، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، المختصر لابن منظور: 12 / 190.

قال ابن خيّاط وابن عساكر والذهبيّ وغيرهم بألفاظٍ متقاربة، واللفظ للأخير:

وبعث يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص أميراً على المدينة، خوفاً من ضعف الوليد، فرقى المنبر وذكر ابنَ الزبير وتعوّذه بمكّة _ يعني أنّه عاذ ببيت الله وحرمه _، فواللهِ لَنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة لَنحرقنّها عليه على رغم أنف مَن رغم ((1)).ربّما قيل: إنّ هذا الكلام يناسب أن يكون بعد أن أقام الموسم ورجع إلى المدينة؛ لأنّه ذكر ابن الزبير، وكان هو في تلك الفترة يعدّ العدّة له.

بَيد أنّ مفاد عبارات المؤرّخين أنّه رقى المنبر بعد أن عزل يزيدُ الوليدَ وبعث عمرو.

وعلى فرض أنّه كانت بعد عودته من الموسم، فإنّها تكشف عن جرأته على الله وعلى حرماته، وهو يقسم بالله أنّه يحرق الكعبة!

التوضيح الثامن: رعف على المنبر

قالوا:

فلمّا استوى عمرو على المنبر رعف، فقال أعرابيّ: مَه، مَه! جاءنا

ص: 51


1- تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.

والله بالدم.

فتلقّاه رجلٌ بعمامته، فقال الأعرابيّ: مَه، واللهِ عمّ الناسَ شرّ!

ثمّ قام فخطب، فناولوه عصاً لها شعبتان، فقال الأعرابيّ: مَه، شعب أمر الناس والله ((1)). أو فقال: تشعّب ((2)) الناس والله! ((3))

وفي (إمتاع) المقريزي:

ولمّا رعف وهو يخطب، قال أعرابيّ: جاء بالدم. وناوله إنسانٌ عمامةً فمسحه بها، فقال أعرابيّ: عمّ الناسَ الدم. ثمّ ناوله إنسانٌعصاً ذات شعبتين، فقال أعرابيّ: شعب بين الناس ((4)).

لقد خرج بزيٍّ أحمر، ورعف على المنبر، وناولوه عصاً بشعبتين..

ربّما كان ذلك بتخطيطٍ واستعدادٍ مسبَق، يريد به الإرعاب وبثّ التشاؤم في نفوس الناس، وإشعارهم بخطورة القادم، وجرأته على الدماء، فتشأموا مِن مقدمه، وهو كلّه شؤم، رعف أم لم يرعف، لبس الأحمر أم لم يلبس، حمل عصاً برأس واحدٍ أو بشعبتين! وما برح الشؤم يغطّي أجواء المدينة منذ أن رحل عنها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) واجتمعوا في السقيفة، ومنذ أن

ص: 52


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.
2- في (جواهر المطالب) للباعوني: (شعّب أمر).
3- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.
4- إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.

هجموا على دار النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وهتكوا حرمته، ومنذ أن هاجر منها أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وما جرى بعد ذلك على أئمّة المسلمين وعلى المؤمنين جميعاً..

التوضيح التاسع: استعمال عمرو بن الزبير على الشرطة وما فعل بأنصار أخيه

قال ابن الأثير:

واستعمل على شرطته عمرو بن الزبير، لِما كان بينه وبين أخيه عبد الله من البغضاء، فأرسل إلى نفرٍ من أهل المدينة فضربهمضرباً شديداً، لهواهم في أخيه عبد الله، منهم: أخوه المنذر بن الزبير، وابنه محمّد بن المنذر، وعبد الرحمان بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمّد بن عمّار ابن ياسر، وغيرهم، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستّين ((1)).

قد مرّ معنا في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) و(ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة) أنّه حبس جماعةً ممّن لهم هوىً في ابن الزبير، وإنّما استعمل عمرو بن الزبير على شرطته وأرسله في محاربة أخيه إمعاناً في النكاية به، وكان ذلك بطلبٍ من عمرو بن الزبير نفسه.

ص: 53


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 265.

التوضيح العاشر: خروجه من المدينة

أفاد ابن عبد ربّه والباعونيّ من خلال السياق أنّ عمرو بن سعيد خرج إلى مكّة بعد الخطبة، فقالا بعد نقل قصّة رعفه على المنبر:

... فقال: تشعّب ((1)) الناس والله! ثمّ خرج إلى مكّة ((2)).

وأفاد ابن قُتيبة والباعونيّ أنّه خرج إلى مكّة فقدمها يوم التروية، «ثمّخرج عمرو إلى مكّة فقدمها يوم التروية» ((3))، وقد عرفنا أنّه دخل المدينة في شهر رمضان، فهو يفيد أنّه أقام هناك شهر رمضان وشوّال وذا القعدة، ثمّ خرج أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجّة بحيث وصل إلى مكّة في الثامن من ذي الحجّة يوم التروية!

وقد تظافرت النصوص على إقامة عمرو الموسم تلك السنة، وقد عاد إلى المدينة بعد الموسم.

يبقى الكلام أنّه: هل قضى الفترة ما بين شهر رمضان إلى أواخر ذي القعدة في المدينة، كما أفاد ابن قُتيبة والباعوني، والأحداث تغلي والأيّام تزدحم بالمستجدّات في مكّة، وكان فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن الزبير؟!

ص: 54


1- في (جواهر المطالب) للباعوني: (شعّب أمر).
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.
3- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

التوضيح الحادي عشر: أمير الموسم في شهر رمضان والحجّ

أفادت المصادر أنّ عمرو بن سعيد ولّاه يزيد الخمور على مكّة والمدينة والموسم، وقد قَدِم مكّةَ في الموسم وأقامه وحجّ بالناس، وكان حاضراً في مكّة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) منها ((1))، كما سيأتي مفصّلاً إن شاء الله (تعالى).

ص: 55


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 3، أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 307، تاريخ خليفة بن خيّاط: 178، الكامل لابن الأثير: 4 / 43، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 329، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 264.

ص: 56

عمرو بن سعيد بن العاص

اشارة

لمّا كان لعمرو بن سعيد الأشدق دورٌ مؤثّرٌ في هذه الفترة، بحكم تسليطه على الحرمين من قِبَل يزيد الخمور والفجور، اقتضى أن نأتي على شيءٍ من ترجمته، وسنتناول ذلك من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: مَن هو؟

عمرو بن سعيد _ بفتح العين _ : هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأُمويّ ((1))، يُعرف بالأشدق، ليست له صحبة ((2))، بل ولم يولد إلّا في زمان عثمان ((3))، ولا كان من التابعين بإحسان، ووالده مختلَفٌ في صحبته.

ص: 57


1- الاستيعاب لابن عبد البر: 3 / 1177، إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.
2- الإصابة لابن حجر: 6 / 557، عمدة القاري للعيني: 10 / 187، معرفة السنن والآثار للبيهقي: 7 / 486.
3- تهذيب التهذيب لابن حجر: 10 / 324.

وقال ابن الأثير: يُكنّى أبا أُميّة، وكان أمير المدينة، وغزا ابنَ الزبير، ثمّ قتله عبد الملك بن مروان بعد أن آمنه.ويقال: إنّه الّذي رأى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وروى عن عمر وعثمان، روى عنه بنوه وأُميّة وسعيد.

كان قتله سنة سبعين من الهجرة ((1)).

النقطة الثانية: سبب تلقيبه بالأشدق

قال العينيّ في (عمدة القاري):

عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، لطيم الشيطان، ليست له صحبة.

وعُرف بالأشدق؛ لأنّه صعد المنبر فبالغ في شتم عليّ، فأصابه لقوة.

ولّاه يزيد بن معاوية المدينة، وكان أحبّ الناس إلى أهل الشام، وكانوا يسمعون له ويطيعونه، وكتب إليه يزيد أن يوجّه إلى عبد الله بن الزبير جيشاً، فوجّهه، واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن العوّام ((2)).

فهو من أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) الّذين يجاهرون بشتم سيّد الوصيّين

ص: 58


1- عمدة القاري للعيني: 2 / 141.
2- عمدة القاري للعيني: 10 / 187.

على المنابر، وقد أصابه الله بسبب ذلك حتّى مال شِدْقه، وأظهر فيه آيات عليّ بن أبي طالب ظاهرةً للعَيان، غير أنّ الطغيان والعتوّ والغروروالاستكبار على الله وأوليائه ينشأ في هؤلاء من مزيج نطفهم القذرة العفنة المتكوّنة من تكاثف سيلانات الزناة السكارى في كنيف أرحام الفواجر الرخيصات المتسكّعات على أبواب خيام الحانات، لذا أحبّه أهل الشام وأطاعوه، لولعه بعداء نور الأنوار ومعادن الأطهار، ولانتمائه إلى الشجرة الملعونة في القرآن الّتي تتدلّى منها القرود المجذومة الجرباء.

النقطة الثالثة: وصَفَه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بالجبّار

روى أحمد في (مسنده) عن أبي هريرة قال:

سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «لَيرعفنّ على منبري جبّارٌ من جبابرة بني أُميّة، يسيل رعافه».

قال: فحدّثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتّى سال رعافه ((1)) على درج المنبر ((2))، رعف على المنبر أوّل ما خطب ((3)).

ص: 59


1- مسند أحمد: 2 / 522، المناقب لابن شهرآشوب: 1 / 96، بحار الأنوار: 18 / 133.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 2 / 150 الرقم 460.
3- إمتاع الأسماع للمقريزي: 12 / 272.

فالويل ثمّ الويل لمن وصفه نبيّ الرحمة بالجبّار، والويل لمن حكمهم ووُلّي عليهم، والويل لمن ولّاه وسلّطه على رقاب الناس، ومثل هذا الجبّار كان يريده يزيد القرود في مثل تلك الفترة، فهو المطلوب ليُقدِم على ارتكاب الجناية العظمى في تاريخ البشريّة.

النقطة الرابعة: أوّل مَن أخفت بالبسملة

قال البيهقيّ في (السنن):

... وكان يقول: أوّل مَن قرأ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم﴾ سرّاً بالمدينة عمرو بن سعيد بن العاص ((1)).

كذا أخبر عنه البيهقيّ، فإن كان هو الأوّل الّذي أخفت بالبسملة والتزم البدعة وروّج لها، فيكون من المؤسّسين ورؤوس المبتدعين. ألا لعنة الله على الظالمين.

النقطة الخامسة: موقفه حين سمع خبر شهادة الإمام (علیه السلام)

لمّا بلغ أهلَ المدينة مقتلُ الحسين (علیه السلام) ، كثر النوائح والصوارخ عليه، واشتدّت الواعية في دُور بني هاشم، فلمّا سمع عمرو بن سعيد أصواتهنّ

ص: 60


1- السنن الكبرى للبيهقي: 2 / 50.

ضحك! وقال: واعيةٌ بواعية عثمان ((1)).

لقد سمعناه في خطبته في المدينة يتوعّد ويذكر ثأره لدم عثمان، وهنا أيضاً عاد إليها، وكشف عن عفنه وأحقاده على أمير المؤمنين وأهل البيت (علیهم السلام) .ولو راجعنا النصوص التاريخيّة وقرأنا تصريحات الأُمويّين، نجدها تُزكم الأنوف وتقشعرّ لها الجلود والقلوب، وتُعلن بصراحةٍ ووقاحةٍ أنّ من أهمّ محفزّاتهم ودوافعهم لمحاربة أمير المؤمنين (علیه السلام) وقتل أولاده الطيّبين (علیهم السلام) وارتكاب الجناية العظمى بقتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، كلّها كانت انتقاماً لدم عثمان وثأراً لشيوخهم ورؤوسهم الموبوءة المحشوّة كفراً وعناداً وطغياناً وشركاً ونفاقاً..

- واعيةٌ بواعية عثمان!

- ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا..

وقد أبدى من الوقاحة والجسارة والجرأة على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما لا يأتي إلّا مِن أمثال هؤلاء الّذين دنّسوا التاريخ، ودخلوا الدنيا من النطف المجتمعة في الأرحام النتنة من ذوات الصنان والزناخة في حارات البغايا الرخيصات.

ص: 61


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 217، نهاية الإرب للنويري: 20 / 472، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 196.

كان الخبيث من الشامتين الّذين أظهروا الفرح والسرور والشماتة بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأبدوا كامن الأحقاد، وكان ممّن عجّل له ابن زياد بالبشارة بقتل ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فلمّا وصل إليه رسول ابن الأَمة الفاجرة ودخل عليه، قال:

قال عمرو بن سعيد: ما وراءك؟

فقلت: ما سرّ الأمير، قُتل الحسين بن عليّ.فقال: اخرُجْ فنادِ بقتله.

فناديت، فلم أسمع واللهِ واعيةً قطّ مثل واعية بني هاشم في دُورهم على الحسين بن عليّ (علیهما السلام) حين سمعوا النداء بقتله.

فدخلتُ على عمرو بن سعيد، فلمّا رآني تبسّم إليّ ضاحكاً، ثمّ أنشأ متمثّلاً بقول عمرو بن مَعدي كرب:

عجّت نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيج نسوتنا غداة

الأرنبِ

ثمّ قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعية عثمان.

ثمّ صعد المنبر فأعلم الناس قتلَ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، ودعا ليزيد ابن معاوية، ونزل ((1)).

ص: 62


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 84، تاريخ الطبري: 5 / 466، الإرشاد للمفيد: 2 / 127، بحار الأنوار: 45 / 121، العوالم للبحراني: 17 / 389، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 57، نفَس المهموم للقمّي: 415، الكامل لابن الأثير: 3 / 300، مثير الأحزان لابن نما: 51، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 68.

وروى ابن أبي الحديد:

كتب عُبيد الله بن زياد إلى عمرو بن سعيد يبشّره بقتل الحسين (علیه السلام) ، فقرأ كتابه على المنبر، وأنشد الرجز المذكور، وأومأ إلى القبر قائلاً: يومٌ بيوم بدر. فأنكر عليه قولَه قومٌ من الأنصار.

ذكر ذلك أبو عُبيدة في كتاب (المثالب) ((1)).

وهذا يفيد أنّ القزم الحقير والرجس النجس كان من رؤوس الأُمويّين الّذين يرون أنفسهم أصحاب ثارات، وقد جعل نفسه جهةً تقصد الانتقامبالذات، وكأنّه مفجوعٌ بنفسه ومطالب بذاته لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) بدم الأشياخ ودم عثمان، وما عسى أن يقول عنه الإنسان وقد تحدّث هو بنفسه عن نفسه وكشف نواياه وحقيقته بقوله وموقفه!

النقطة السادسة: كان أشدّ الناس في أمر مروان

قال البلاذريّ:

كان عمرو بن سعيد أشدّ الناس في أمر مروان، حتّى وليَ الخلافة وقاتل معه الضحّاك بن قيس الفهريّ يوم مرج راهط ((2)).

ص: 63


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 71.
2- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 443.

وقال ابن أبي الحديد:

كان على ميمنة مروان في موقعة مرج راهط ((1)).

كان مروان من أشدّ الناس في معاداة أهل البيت (علیهم السلام) ، وكان من أكثرهم شماتةً وحقداً على أمير المؤمنين وذرّيّته (علیهم السلام) ، وكان عمرو بن سعيد أشدّ الناس في أمر مروان، حتّى وليَ الخلافة، وكان يقاتل على ميمنته انتصاراً له، وهكذا هي الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، وهكذا هم القرود النازية على منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذين رجعوا بالناس القهقرى إلى دِين الجاهليّة، وهكذا هم قتَلَة أولاد الأنبياء والأوصياء وذراري الأوصياء.

النقطة السابعة: طمعه في المُلك وقتله

كان عمرو بن سعيد من جبابرة بني أُميّة، وكان متكبّراً مُعجَباً بنفسه، يطمع في المُلك، وقد ساند مروان ووقف معه، لاتّفاقٍ بينهما على أن يتشطّرا ضرعَيها، فيكون الأمر له بعد مروان، وتفيد النصوص أنّه كان يعمل على ذلك، ويستقطب الناس من أتباع القرود ويبني لنفسه قاعدةً من الأتباع، حتّى صار له موقعٌ عند الكثيرين، وصار ينافس أولاد مروان، وبايعه وجوه أهل الشام وناسها.

ص: 64


1- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 162.

قال البلاذريّ:

وامتنع عمرو بن سعيد من البيعة، ومات مروان وله ثلاثٌ وستّون سنة، ثمّ ملك عبد الملك بن مروان سنة ستٍّ وستّين.

فخرج عمرو بن سعيد بن العاص عليه، فصار أهل الشام فرقتين: فرقةً مع عبد الملك، وفرقةً مع عمرو بن سعيد، فدخلَت بنو أُميّة وأشراف أهل الشام بينهما، حتّى اصطلحا، على أن يكونا مشتركين في المُلك، وأن يكون مع كلّ عاملٍ لعبد الملك شريكٌ لعمرو بن سعيد، وعلى أنّ اسم الخلافة لعبد الملك، فإن مات عبد الملك فالخليفة من بعده عمرو بن سعيد، وكتبا فيما بينهما كتاباً، وأشهدا عليه أشراف أهل الشام.

وكان روح بن زنباع من أخصّ الناس بعبد الملك بن مروان،فقال له وقد خلا به يوماً: يا أمير المؤمنين، هل من رأيك الوفاء لعمرو؟ قال: ويحك يا ابن زنباع! وهل اجتمع فحلان في هجمةٍ قطّ إلّا قتل أحدهما صاحبه؟

وكان عمرو بن سعيد رجلاً معجباً بنفسه، متهاوناً في أمره، مغترّاً بأعدائه.

قال أبو مِخنَف في روايته وغيره:

كان عمرو بن سعيد أشدّ الناس في أمر مروان، حتّى وليَ الخلافة، وقاتل معه الضحّاك بن قيس الفهريّ يوم مرج راهط، فلمّا مات مروان وبويع عبد الملك بالخلافة بلغه أنّ مصعب بن الزبير بن

ص: 65

العوّام يريد الجزيرة متوجّهاً من العراق، فسار عبد الملك حتّى شارف الفرات، ومعه عمرو بن سعيد الأشدق، فقال له عمرو: إنّك تشخص إلى العراق، فقد كان أبوك أوعدني أن يولّيني الأمر بعده، وعلى ذلك قمتُ بشأنه وحاربتُ معه، فاجعلْ ليَ الأمر بعدك. فلم يُجبْه عبد الملك بشيءٍ ممّا يسرّه، فانصرف عن عبد الملك وقصد إلى دمشق حتّى دخلها، وقال: إنّ مروان كان ولّاني عهده، ولذلك قمت بنصره وصنعت ما أنتم عالمون به. فبايعه عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز _ وهو أبو خالد بن عبد الله البجليّ ثمّ القسريّ _، ثم بايعه وجوه أهل دمشق ومالوا إليه، لسخائه وجود كفّه، وألقى على سور دمشق المسوحوالخشب والكرابيس والفرش المحشوّة، وتهيّأ للحصار واستعدّ له، وبلغ عبد الملك خبره، فانكفأ راجعاً يغذّ السير ويجدّ فيه حتّى أتى دمشق، وقد أغلق عمرو أبوابها ... ((1))، إلى آخر ما قال.

وروى البلاذريّ أيضاً فقال:

وحدّثني هشام بن عمّار الدمشقي، أنبأنا صدقة بن خالد القرشيّ، عن خالد بن دهقان قال:

كان عمرو بن سعيد في عسكر عبد الملك، وقد فصل من دمشق وهو يريد العراق، فقال له: إنّ أباك وعدني أن يجعل لي الأمر بعده،

ص: 66


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 443.

فبايع لك ولعبد العزيز إنْ كان بعدك، فاجعل لي العهد بعدك. فقال له: يا لطيم الشيطان، أوَ أنت تصلح للخلافة؟! أنت ذو كبرٍ وجبنٍ وسرفٍ وعُجبٍ وإفكٍ ظاهر، لا ولا كرامة ولا نعمة عين!

فانخزل عنه، وأتى دمشق ودعا إلى نفسه، وكان سخيّاً، فبويع، وأغلق أبواب المدينة واستعدّ للحصار.

فرجع عبد الملك وترك وجهه ذلك، فحاصره، وجعل يرسل اليه ويعِدُه ويرفق به، ويحلف له لَيولّينّه عهده، فقبل ذلكوسكن إليه، وخرج إلى عبد الملك.

فيقال: إنّه دخل عليه وهو في قصرٍ كان في عسكره وأصحابُه مطيفون به، فقتله من يومه ((1)).

النقطة الثامنة: قتل عمرو بن سعيد بن العاص

قال الدينوريّ:

ثم إنّ عَمْراً دخل على عبد الملك يوماً، وقد استعدّ عبد الملك للغدر به، فأمر به فأُخذ، فأُضجع وذُبح ذبحاً، ولُفّ في بساط.

وأحسّ أصحاب عمرو بذلك وهم بالباب، فتنادوا، فأخذ عبد الملك خمسمئة صرّةٍ قد هُيّئت، وجعل في كلّ صرّةٍ ألفا درهم، فأمر بها، فأُصعدت إلى أعلى القصر، فأُلقيَت إلى أصحاب عمرو بن

ص: 67


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 445.

سعيد مع رأس عمرو، فترك أصحابُه الرأس ملقىً وأخذوا المال، وتفرّقوا.

فلمّا أصبح عبد الملك أخذ من أصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلاً فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير ((1)).وقيل: إنّ عبد الملك ذبحه بيده ((2)).

وقد شمت ابن الزبير بقتله، فقد رُوي أنّ عبد الله بن الزبير لمّا بلغه أنّ عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال: إنّ فم الذبان (الذئاب) ((3)) قتل لطيم الشيطان ((4)).

النقطة التاسعة: كلام صاحب (الغدير) فيه

قال العلّامة الأمينيّ (رحمة الله) بعد أن روى ما سبق في ترجمة عمرو الأشدق وصعوده المنبر وشماتته بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) :

ص: 68


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 286، وانظر أيضاً: الكشّاف للزمخشري: 2 / 568، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 450.
2- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال لليمني: 289.
3- تفسير البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي: 4 / 225.
4- المحرّر الوجيز لابن عطيّة الأندلسي: 2 / 346.

وكان أبو رافع عبداً لأبي أحيحة سعيد بن العاص بن أُميّة، فأعتق كلٌّ من بنيه نصيبه منه، إلّا خالد بن سعيد، فإنّه وهب نصيبه للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .

فلمّا ولي عمرو بن سعيد بن العاص المدينة أيّام معاوية، أرسل إلى البهيّ بن أبي رافع فقال له: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) . فضربه مئة سوط، ثمّ تركه، ثمّ دعاه، فقال: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) . فضربه مئة سوط، حتّى ضربه خمسمئة سوط، فلمّا خاف أن يموت قال له: أنا مولاك ((1)) (كامل المبرّد: 2 / 75، الإصابة: 4 / 68) ((2)).

النقطة العاشرة: هذا هو والي مكّة!

تبيّن أنّ والي مكّة والمدينة أيّام تواجد الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) في مكّة هو عمرو بن سعيد الأشدق، الخبيث المتجبّر المتكبّر المتغطرس اللاهث بوقاحةٍ وراء الدنيا، الطامع بالحكم والسلطان، العدوّ الحقود الحسود للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وذرّيّته (علیهم السلام) ، الشامت بالنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وبريحانته (علیه السلام) ، المتمادي في الغيّ والكفر والعتوّ بسبّ أمير المؤمنين (علیه السلام) على المنابر، الكَفّار

ص: 69


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 1 / 482، الإصابة لابن حجر: 2 / 372.
2- الغدير للأميني: 10 / 264.

العنيد والجبّار الشديد على النبيّ وآله، الّذي لا يعرف لله حرمة، ولا يتورّع عن إحراق الكعبة، ولا يمنعه من الإقدام على قتل سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) مانع، بل إنّ في منبته العفن وأصله النتن ومنشأه المشين ما يجعله يسعى في ذلك استجابةً لنوازعه ونزعاته وأحقاده وضغائنه، وما يعيشه من حقارة الولادة على فراشٍ تتنازعه شتّى الأعراق وتؤثّر فيه المؤثّرات الوراثية المتكثّرة بتكثّر الرجال الّذين شاركوا في إهراق نطفته القذرة المركّبة.

ص: 70

نزول الإمام (علیه السلام) دار العبّاس بن عبد المطّلب

اشارة

نزل الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة دارَ العبّاس بن عبد المطّلب عمّه ((1))، وكانت دار العبّاس قريبةً جدّاً من المسجد الحرام في المسعى ((2))..

وذكر الدينوريّ أنّه (علیه السلام) نزل في شِعْب عليّ (علیه السلام) ((3)).

ص: 71


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، التهذيب لابن بدران: 4 / 328، المختصر لابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341.
2- أُنظر: أخبار مكّة للأزرقي: 2 / 82، 119، 264، تاريخ مكّة المشرّفة لمحمّد بن أحمد الحنفي المكّي: 154 _ بتحقيق: علاء أيمن الأزهري.
3- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

فهو قد نزل في داره، ومكّة هي وطنه الأوّل، وإنْ كانت الدنيا قد أشرقت بنور ربّها بوجه سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة الّتي كانت مسقط رأسه، بَيد أنّ أهله وعشيرته وأعمامه كانوا في مكّة، فهو إنّما قصد بيت الله الحرام حيث يقطن أهلُه وذووه، وهي أصل منبته ومحتده، فهو سيّد قريش، وسيّد بني هاشم وبني عبد المطّلب، ويمكن للمرء أن يحتمي بهم في ساعةالعسرة، لو كانوا يلتزمون بالأخلاق والأعراف السائدة يومها، بغضّ النظر عن الدوافع الدينيّة والأوامر الإلهيّة والوصيّة النبويّة..

* * * * *

نزولٌ لا يحكي سوى دخول مكّة لمّا يدخل لها المعتمر والحاجّ، نزولٌ في دار عمّه أو شِعْب أبيه، نزل في داره، قريباً من بيت الله الحرام، على مرأىً ومسمعٍ من الناس والسلطة، في مكانٍ معروفٍ مشهود، يمتاز بحماية البيت لقربه منه، ويراه الرائح والغادي إلى بيت الله لأداء النسك والتهجّد، ويعرفه الأُمويّون، وهو محدَّدٌ عند السلطات، وموضعه يسهل ترصّده وجعله في متناول العيون والجلاوزة.

نزل الإمام (علیه السلام) بأهله وثِقْله وعياله ونسائه وأولاده ومَن معه من الأطفال والصبية والفتيان في مكّة، وسنسمع ما حدّثَنا به التاريخ، فنجده أقام في مكّة إقامة المستجير العائذ بالله وبيته وحرمه، لا يريد فيه سوى الأمن والاطمئنان والاستقرار، بعيداً عن حِراب القوم وسيوفهم ومخالبهم القذرة.

ص: 72

نزول الإمام بأعلى مكّة

اشارة

قد يُفهَم من خبر الخوارزميّ حيث روى عن ابن أعثم فقال:

قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي: ولمّا دخل الحسين مكّة، فرح به أهلُها فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه غدوةً وعشيّة، وكانقد نزل بأعلى مكّة، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً، ونزل عبدُ الله بن الزبير داره بقيقعان، ثمّ تحوّل الحسينُ إلى دار العبّاس، حوّله إليها عبد الله بن عبّاس، وكان أميرُ مكّة مِن قِبَل يزيد يومئذٍ عمرَ بن سعد بن أبي وقّاص، فأقام الحسينُ مؤذّناً رافعاً صوته فيصلّي بالناس ... ((1)).

ثمّ يسترسل فيما بعد في سرد الأحداث باعتبار أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مقيمٌ بمكّة نفسها.

أفاد البعض _ فيما حُكي _ أنّ نصّ الخوارزميّ يُعطي أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُقِم بمكّة، وإنّما نزل بأعلاها، وضرب هناك فسطاطاً ضخماً، وبقيَ فيه هو وأهلُه ونساؤه وصبيته وعياله وفتيان بني هاشم والطالبيّين وأُسَرهم وأولادهم والركبُ بمن فيه على ضخامته كلّ تلك المدّة الطويلة، بشهادة أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمير المؤمنين (علیه السلام) لم يقيما بمكّة بعد صلح الحديبيّة، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أَولى مَن استنّ بهما.

ص: 73


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190.

ويمكن أن يُلاحَظ على هذا القول عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولى: تفرّد الخوارزميّ

يُلاحَظ أنّ الخوارزميّ يصرّح بالرواية عن ابن أعثم، كما هو دأبه في كتابه (المقتل)، غير أنّ عبارة «بأعلى مكّة» لا توجد في كتاب (الفتوح)لابن أعثم ((1))، كما أنّ مصوّرة إحدى النسخ الخطّيّة للفتوح الموجودة لدينا لم تذكر ذلك!

أجل، قد يُقال: إنّ نسخة الخوارزميّ كانت تحتوي ما ذكره، وهو ليس ببعيد.

فإن قلنا أنّه كلام الخوارزميّ، يكون الخوارزميّ قد تفرّد بذلك، وإن قلنا بثبوته في نسخة الخوارزميّ من (الفتوح)، يكون ابن أعثم قد تفرّد في ذلك _ حسب الفحص _، وشأنه في ذلك شأن باقي متفرّداته، وما أكثرها.

الملاحظة الثانية: ارتباك النصّ

يُلاحَظ أنّ النصّ الّذي يرويه الخوارزميّ هنا فيه ارتباكٌ واضح، أو تصحيفٌ بيّن، وقد أتينا على بيان ذلك في ما سبق من الكلام فلا نعيد، ونكتفي بالإشارة إلى تصريحه أنّ والي مكّة كان يومها هو عمر بن سعد بن

ص: 74


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 23.

أبي وقّاص.

الملاحظة الثالثة: تصريح الخوارزميّ بالإقامة في مكّة

يُلاحَظ في نفس النصّ تصريحٌ من الخوارزميّ عن ابن أعثم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما نزل بأعلى مكّة عند دخوله، ثمّ تحوّل إلى مكّة بدعوة ابنعبّاس.

فيكون النزول بأعلى مكّة وضرب الفسطاط مرحلةً قبل النزول بمكّة نفسها، وكان الاستقرار في مكّة فيما بعد.

وهو نفسه حينما يسترسل في سرد الأحداث يرويها جميعاً في نفس مكّة، باعتبار أنّ الإمام قد استقرّ فيها وترك الفسطاط الّذي ضربه إبّان دخوله.

فلا يكون التفرّد إلّا في ضرب هذا الفسطاط إلى حين دخول الإمام مكّة، ويتّفق من بعد ذلك الخوارزميّ مع باقي المؤرّخين، وحينئذٍ لا يكون ثمّة مَن يخالف في نزول الإمام بمكّة من المؤرّخين، بما فيهم الخوارزميّ.

الملاحظة الرابعة: نزول المستجير بالبيت

يُلاحَظ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قَدِم مكّة مستجيراً عائذاً لائذاً بالله وببيته، خائفاً على أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وعياله، فالأَوفق به أن يكون قريباً من الكعبة، وكان بيت العبّاس لا يبعد عن الكعبة إلّا أمتاراً.

ص: 75

الملاحظة الخامسة: اختلاف الظروف

تختلف ظروف سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً عن ظروف جدّه وأبيه، وقداحتمل بعض الأعلام أنّ ترك المبيت في مكّة كان من خصائص أمير المؤمنين ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ((1))، والأحاديث في تحبيذ الإقامة واجتنابها متعارضة ((2))، وليس لدينا دليلٌ واضحٌ صريحٌ ناهضٌ أنّ الأئمّة المعصومين من أولاد الإمام الحسين (علیه السلام) لم يبيتوا في مكّة أبداً، وإثبات ذلك يحتاج إلى بحثٍ طويلٍ قد يُبعدنا عن أصل الموضوع.

ولا يخفى أنّ سلوك سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه سنّةٌ يُستنّ بها!

ثمّ إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل مكّة بثقله وأهله، وهم عددٌ كبيرٌ من النساء والأطفال والفتية والصبيان، وبقي مدّةً طويلةً مضطرّاً، قد يشقّ عليهم الإقامة في فسطاطٍ ضخمٍ واحدٍ كلّ هذه المدّة.

الملاحظة السادسة: على فرض صحّة القول

على فرض صحّة هذا القول وأنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أقام بأعلى مكّة كلّ هذه المدّة، وبقي هناك دون أن يدعوه أحدٌ ولا يحتفل بإقامته في فسطاطٍ وهو قد نزل ضيفاً على أهل مكّة، وهو ابن نبيّهم

ص: 76


1- أُنظر: روضة المتّقين للمجلسيّ الأب: 4 / 42.
2- أُنظر: روضة المتّقين للمجلسيّ الأب: 4 / 42.

وسيّدهم وشريفهم، وقد أمر الله أهل مكّة أن يفتحوا أبوابهم للحجّاج، فهذا يعني عدم اكتراث أهل مكّة، شريفهم _ حسب الاصطلاح العرفيّ السائد يومذاك _ ودنيّهم، وعدم التفاتهم إلى سيّد الخلق أجمعين، وكأنّالنازل في فسطاطٍ ليس أهل بيت نبيّهم وأقدس مقدّسٍ أمرهم الله ورسوله بتقديسه.

وربّما أفاد أيضاً أنّ الإمام إنّما اجتنب بلداً أخرج جدّه وكره أبوه المبيت بين أظهرهم، فهو لا يأمنهم على نفسه وعياله.

وعلى هذا الفهم يُضاف هذا الخبر إلى باقي الأخبار الّتي تسوق الأحداث في تلك الأيّام لتشهد بغربة سيّد الشهداء أيّام إقامته في مكّة، وأنّ أهل مكّة لم يحبّوه ولم يدفعوا عنه ولم يمنعوه..

ص: 77

ص: 78

لقاء الناس بالإمام (علیه السلام)

لمّا نزل الإمام سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) مكّة، اجتمع الناسُ عليه ((1))، وفرح به أهلها فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه ((2)) بكرةً وعشيّة ((3))، وكذا مَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ((4))، فكانوا يجتمعون عنده حلَقاً حلَقاً ((5))..

ص: 79


1- أُنظر: الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للديار بكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256.
2- أُنظر: إعلام الورى للطبرسي: 223، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.
4- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، تاريخ الطبري: 5 / 343، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، روضة الواعظين للفتّال: 147، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79.
5- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

هكذا نقل المؤرّخون خبر استقبال الناس لسيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، ولقائهم به والاجتماع معه وعليه، والاحتفاء به، ولم نجد _ حسب فحصنا _ أيّة إضافةٍ تذكر أو تفصّل ما كان يجري في اللقاءات.

ولم تُسجّل في الاستقبال وفي الأيّام الأُولى أيّة خطبةٍ أو تقريرٍ أو دعوةٍ أو استنهاضٍ أو طلبٍ للبيعة أو التحريض على التحلّل من البيعة ليزيد الخمور أو اجتنابها والامتناع عنها.

ولو كان لَبان! ولو في إشارةٍ أو تصريحٍ من قريبٍ أو بعيد..ومن المعلوم أنّ الناس كانوا يتبرّكون بالنظر إلى وجه سيّد الشهداء (علیه السلام) المذكّر بوجه جدّه (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وربّما سأله بعضهم عن مسألةٍ شرعيّة، أو طلب منه قضاء حاجة، كما ورد في بعض المتفرّقات من الأخبار، من قبيل فعل ابن مطيع وغيره.

وربّما استُشعر شيءٌ من تعبير ابن كثير في قوله:

فعكف الناس على الحسين يَفِدُون إليه ويُقدِمون عليه ويجلسون حواليه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد ((1))..

بَيد أنّ هذا التعبير لا يُغني ولا يثبت شيئاً؛ لانفراد ابن كثيرٍ به من جهة، ولأنّه توصيفٌ منه وليس نقلاً لحادث، وإنّما يبدو واضحاً عليه أنّه محاولة ربطٍ بقصد الإيحاء إلى المتلقّي.

ص: 80


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

وقد نقل نصّه الشيخ باقر شريف القرشيّ (رحمة الله) بلفظٍ آخَر، فقال:

يقول ابن كثير: وعكف الناس بمكّة يَفِدون إليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه وينتفعون بما يسمعون منه ويضبطون ما يروون عنه ((1)).

وليس في هذا اللفظ التتمّة الموهمة في اللفظ السابق، إذ أنّ مدار اللقاءات والوفود والجلوس مقفلٌ على طلب العلم والتعلّم والاستماع والانتفاع وضبط الرواية والحديث.أمّا الصفة الغالبة على عبارات المؤرّخين _ عدا ابن كثير _ فهي تتحدّث عن مطلق اللقاء والاجتماع، وهو أعمّ ممّا ذكره ابن كثير، فالإمام الحسين (علیه السلام) عند الناس هو الحسين بن عليّ وابن فاطمة، ومعدن العلم وأُصول الدين ومنتهى الكرم..

وهو في وطنه مكّة البلد الحرام، وفي بيت الله الحرام، والمفروض أن يكون آمناً مطمئنّاً لا يزعجه شيء، وفي هذه الحالة قد حقّق ما من أجله دخل مكّة، فإن كان ثمّة غرضٌ آخَر من دخولها لَعمل عليه ولو بالكنايات والإشارات، ولرصدها الراوي وذكرها المؤرّخ.

وأمّا قول الخوارزميّ مصرّحاً بالنقل عن (الفتوح) لابن أعثم: «فأقام

ص: 81


1- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي (رحمة الله) (الموسوعة): 13 / 307.

الحسين مؤذناً رافعاً صوته فيصلّي بالناس» ((1))..

فهو بالإضافة إلى تفرّده، فإنّ عبارة ابن أعثم في (الفتوح) هي: «وأقام الحسين بمكّة قد لزم الصوم والصلاة»..

ومع ذلك، فإنّ إقامة الصلاة جماعةً ورفع الأذان لها كان رائجاً ذلك اليوم، وكانت الجماعات تكثُر في البيت الحرام، وكان ابن الزبير يصلّي بأصحابه، ومجرّد إقامة الصلاة جماعةً لا تُعدّ دعوةً للبيعة ومستلزماتها، ولا تُعتبَر تكريساً لموقفٍ له أبعادٌ ومغازٍ وأهدافٌ بعيدةٌ عن العمل بالاستحبابالشرعيّ.

* * * * *

كيف كان، فإنّ ما بين أيدينا من النصوص لا يروي لنا كلاماً لسيّد الشهداء (علیه السلام) أو موقفاً يفيد انتصابه للخلافة الظاهرة، وتحريضه على السلطة، واستقطابه للأنصار، ودعوته لمحاربة القرد المسعور، عند دخوله مكّة ولا في أيّامه الأُولى، وما أفادته النصوص حصراً: أنّ الإمام (علیه السلام) دخل مكّة دخولاً عاديّاً كسائر مَن يدخلها من المسلمين، وأقام فيها تماماً كما يقيم فيها سائر المسلمين، مصلّياً متهجّداً عابداً متنسّكاً، يلتزم الصمت، ويدخل البيت الحرام للطواف والعبادة.

ص: 82


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.

ولا يمنع إن كان أحدٌ من المسلمين التقاه، واستعرض معه الوضع الراهن، وما يدور في تلك الأيّام من أحداثٍ تلت هلاك طاغية بني أُميّة واستخلاف نغله مِن بعده، فالإمام (علیه السلام) كان في السنام الأعلى والمقام الأسنى والشخص الأوّل بين وجوه القوم يومذاك بإجماع المسلمين، فمن الطبيعيّ أن تُطرَح هذه المسائل بين يديه وعليه، ويتوقّع الآخَرون من الإمام (علیه السلام) وينتظرون أن يسمعوا موقفه ويتعرّفوا على تقييمه للأوضاع حسب نظرتهم للإمام (علیه السلام) .

فإذا قال الإمام (علیه السلام) شيئاً، فهو يقول كسائر مَن كان يقول يومها، كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما كثير، مع فارق المقارنة والقياس.ومع ذلك سنتابع أقوال المؤرّخين لنعرف:

- هل ابتدأ الإمام (علیه السلام) بقول شيء؟

- أو أعلن عن موقفٍ ابتداءً؟

- أو خطب في الناس وأعلن لهم عن موقف؟

- أو جمع الجموع وحرّضهم على أحد؟

- أو أنّ بعض مَن يسمّونهم الوجوه كالعبدين (ابن عبّاس وابن عمر) هم الّذين بادروا الإمام (علیه السلام) فقالوا، وسمعوا من الإمام (علیه السلام) ، ولم يسمعوا منه سوى التظلّم وما تعرّض له من هجوم وحوش الأعداء وإساءتهم له، وإخراجه من تربة جدّه وأُمّه وأخيه ومسقط رأسه،

ص: 83

وأنّه يريد الدفاع عن نفسه، ويأبى أن يعطي بيده إعطاء الذليل ويقرّ له إقرار العبيد أو يفرّ منهم فرار العبيد!

والظاهر من كلمات المؤرّخين أنّهم لا يحدّثون عن فترةٍ من فترات تواجد الإمام (علیه السلام) في مكّة دون فترة، وإنّما يُخبرون عن مجموع الفترة الّتي أقامها الإمام (علیه السلام) في مكّة.

ص: 84

لو طلب البيعة لأجيب!!

ذكر المؤرّخون:

إنّ وجود الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة ساء ابن الزبير، وكان أثقلَ خلق الله عليه، لأنّه علم علماً أكيداً وعرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً ولا يلقون إليه ولا يتهيّأ له ما يطلب منهم ما دام الحسين (علیه السلام) في البلد، وأنّ الحسين (علیه السلام) أطوع في الناس وأجلّ، وهو عندهم أعظم في نفوسهم وأعينهم ((1)).

هذه خلاصة أقوالهم بعد حذف المكرّر منها، وفيها جميعاً دلالةٌ واضحةٌ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لو كان قد طلب البيعة من الناس لَاختاره

ص: 85


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 315، تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، تجار الأُمم لمسكويه: 2 / 39، إعلام الورى للطبرسي: 223، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.

الناس على ابن الزبير، والمتون التاريخية تؤكّد أنّ ابن الزبير لم ينصب نفسه للبيعة تلك الأيّام، وربّما كان من أسباب امتناعه عن ذلك حينها هو ما فسّر المؤرّخ من وجود سيّد الشهداء (علیه السلام) بمكّة، وهو يعلم أنّ الناس لايعدلون بسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أحداً.

ومؤدّى هذا التقرير: إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لو كان قد دعا إلى البيعة لَاستجاب له الناس وقدّموه على ابن الزبير.

وفي تعبير الدينوريّ إفادةٌ أعمّ ممّا ذكره مشهور المؤرّخين، حيث يقول:

وتركوا عبدَ الله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يحتفلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير وعلم أنّ الناس لا يحفلون به والحسين مقيمٌ بالبلد ((1))..

فالقضيّة قضيّة احتفاءٍ واحتفالٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) واختلاف الناس إليه، وليس القصّة فيها بيعةٌ ولا خوف منازعةٍ في سلطان، لا قياس عند الناس بين ابن الزبير وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .

ونحن لم نسمع في التاريخ _ حسب الفحص _ أنّ الإمام (علیه السلام) نصب نفسه للبيعة في مكّة، ودعا إليها وطلبها من أحد، ولم يروِ لنا أيضاً أنّ أحداً بايع الإمام (علیه السلام) في مكّة، ولم يجرِ أيُّ حديثٍ عن البيعة للإمام (علیه السلام) .

وكيف كان، فإنّ الوارد في هذا التقرير إنّما هو الإخبار عمّا في نفس ابن الزبير من حسدٍ ومن أوهام، وما يختلج في كوامنه من تحرّياتٍ للموقف

ص: 86


1- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

واعتمادٍ للحسابات، فإنّه يعلم أنْ لو وقع الخيار عند الناس بينه وبينريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لما عدل بسيّد الشهداء (علیه السلام) ولما اختاره أحدٌ ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) موجوداً، سواءً على مستوى البيعة أو الاحتفاء..

وكما لم نسمع أنّ الإمام (علیه السلام) قد نصب نفسه للبيعة في مكّة، كذلك لم نسمع أنّ الناس قد انثالوا عليه يبايعون..

فالكلام مجرّد تحليلٍ مِن قِبل المؤرّخ، أو تقرير لحال ابن الزبير ووضعه وموقفه، وليس فيه إشارةٌ إلى موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) أو نصب نفسه للبيعة!

وسيأتي مزيد بيانٍ عند الحديث عن خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، إن شاء الله (تعالى).

ص: 87

ص: 88

كتاب الأشدق ليزيد

اشارة

ورد في (مقتل الحسين (علیه السلام) ) للخوارزمي:

أنّ (ابن سعدٍ) ((1)) هاب أن يميل الحجّاج مع الحسين (علیه السلام) ؛ لِما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، فانحدر إلى المدينة، وكتب بذلك إلى يزيد ((2)).

ويمكن التريّث هنا قليلاً من خلال عدّة تلميحات:

التلميح الأوّل: اسم الوالي

ورد في المطبوع من كتاب (مقتل الحسين (علیه السلام) ) للخوارزمي اسم الوالي الّذي كتب الكتاب ليزيد هكذا: «عمر بن سعد بن أبي وقّاص»، ويبدو أنّ ثمّة تصحيفٌ وقع، إذ أنّ المتّفَق عليه _ كما مرّ معنا _ أنّ الوالي كان:

ص: 89


1- إذ أنّه قال أنّ عمر بن سعد بن أبي وقّاص كان واليَ مكّة يوم دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها. وفي (موسوعة تاريخ الإمام الحسين (علیه السلام) ): (ابن سعيد)، وفي هامشها: (في المطبوع: ابن سعد).
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190.

عمرو بن سعيد بن العاص.

التلميح الثاني: انفراد الخوارزميّ

يبدو لنا _ حسب الفحص _ أنّ الخوارزميّ قد تفرّد بنقل هذا الكتاب، ولم نقف عليه عند غيره، وبالرغم من أنّ الخوارزميّ ابتدأ كلامه في الفصل العاشر بقوله: «قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي»، ثمّ ذكر هذا الكتاب بعد زهاء خمسة سطور، غير أنّنا رجعنا إلى نسخ (الفتوح) المتوفّرة عندنا، فلم نجد خبراً عن هذا الكتاب، والله العالم.

التلميح الثالث: مخاوف السلطان

هذه هي مخاوف السلطان وأعداء الله دوماً وأبداً، وهذه هي طريقته في التهويل والتخويف والتلبيس، وتصوير ما يرهبهم ويهدّدهم بالشكل الّذي يرسم لهم صورة القَلِق الخائف على مستقبل السلطان، خوفاً على مستقبلهم وتزلّفاً لأربابهم، وطلباً للتمكّن من وسائل القضاء على العدوّ، وتشفّياً ممّن يكنّون له الحقد والضغينة والحسد..

كثر اختلاف الناس إليه من الآفاق.. وهذا الاختلاف بنفسه كان كافياً لزعزعة استقرار الجبناء، ومسوّغاً عندهم للاحتياط والخوف، وهذه جواسيسهم وعيونهم تملأ الآفاق وتمسح الأرض شرقاً وغرباً، سيّما في مكّة مجمع المسلمين من كلّ بقاع الأرض في أشهُر الحجّ.

ص: 90

التلميح الرابع: سبب المخاوف

هلّا كتب ابن سعيد لسائسه القرد المخمور شيئاً غير كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق، وهو في موقف التخويف والتهويل والإنذار والتحذير؟ كأن يخبره عن جمع الرجال والتخطيط لأمرٍ ما، أو المجاهرة بالتحريض على السلطة، أو العمل السرّي للدعوة إلى البيعة!

لو كان شيئاً من هذا لَضمّنه كتابه، والحال أنّه حذّر من ظاهرةٍ واحدة، وهي كثرة اختلاف الناس إليه، وخشي من عواقب هذا الاختلاف والتجمهر على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وللناس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) مقاصد وحوائج، وهم يحتاجون إليه ويتوقون إلى رؤيته ويتبرّكون به ويستنصحونه ويتعلّمون منه ويأخذون منه معالم دينهم، وغيرها من المقاصد الّتي يعسر حصرها..

التلميح الخامس: الإخبار عن فعل الناس

ربّما كان هذا التلميح يتبع التلميح السابق، وقد أفردناه للأهميّة:

يُلاحَظ أنّه لم يُخبِر عن سلوكٍ متعلّقٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما أخبر عن سلوك الناس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو لم يجد في تحرّكات سيّد الشهداء (علیه السلام) ما يمكن أن يُخبر به سيّدَه وسائسه، وإنّما وجد في تردّد الناس على الإمام (علیه السلام) واجتماعهم عنده، فهو لم يخبر عن فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) ،

ص: 91

إذ لم يجد له ما يمكن أن يخبر عنه.

ولا يقال:

إنّ اجتماع الناس حول سيّد الشهداء (علیه السلام) هو بنفسه تعبيرٌ عن حركةٍ ونشاطٍ للإمام (علیه السلام) .

لأنّ اجتماعهم عنده _ كما أفادت الأخبار من قبل _ كانت لأغراضٍ شتّى، منها: طلب البركة، وتعلّم الدين، وأخذ الحديث، وما شاكل.. ولو كان اجتماعهم عنده لغرضٍ خاصٍّ سعى من أجله سيّد الشهداء (علیه السلام) لسجّله وذكره في كتابه ووشى به، بل ربّما اقتضت الضرورة أن يضخّمه ويجعله تهديداً للسلطان، كأن يذكر للإمام (علیه السلام) خطباً أو مقالاتٍ أو نشاطاتٍ تحشيديّة أو تحريضيّة أو ما شابه ذلك.

التلميح السادس: الكتاب من المدينة

بغضّ النظر عن الغلط في اسم الوالي واعتباره (عمر بن سعد بن أبي وقّاص)، فإنّ الوالي كان في مكّة، فلماذا تقبّض عن الكتابة وأجّلها إلى أن خرج من مكّة ودخل المدينة، ثمّ كتب من هناك ليخبره عن مجريات الأحداث في مكّة؟!

التلميح السابع: خروج الوالي إلى المدينة!

لو كان وجود الإمام (علیه السلام) في مكّة يُعَدّ تهديداً حقيقيّاً جدّيّاً على

ص: 92

السلطان، لما تركها وخرج إلى المدينة، والحال أنّ الشخصَين اللذَين كان يخشاهما السلطان، وهما ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن الزبير، قد خرجا منها ودخلا مكّة.

فيما أفادت المتون التاريخيّة _ كما تبيّن لنا سابقاً _ أنّ والي مكّة الّذي أراده يزيد متسلّطاً على البلدَين ليحقّق له أغراضه في القضاء على الإمام (علیه السلام) ، فيما ترك الوالي مكّة والإمام (علیه السلام) فيها وانحدر إلى المدينة، وبقيَ هناك إلى أيّام الموسم، فجاء إلى مكّة لإقامة الموسم، والحال أنّ مقتضيات الأحداث كانت تتطلّب أن يبقى الوالي قريباً من موضع التهديد والبؤرة الملتهبة في ولايته! ((1))

التلميح الثامن: إخبار يزيد بنزول الإمام (علیه السلام)

ربّما كانت عبارة السيّد بحر العلوم في (مقتل الحسين (علیه السلام) ) أوفق برسم المشهد وأدّق في التعبير، قال:

ص: 93


1- أضاف أخٌ عزيزٌ حبيب _ حفظه الله ورحم أباه _ هنا احتمالاً يفيد أنّ الوالي ربّما أوعز إلى جلاوزته اغتيال الإمام (علیه السلام) والجدّ في ذلك، واتّفق معهم على الخطّة، ثمّ غادر إلى المدينة، ليقع ما يقع ويحدث ما يحدث والوالي ليس في مكّة، فلا يُتّهَم بشيءٍ من ذلك ويتنصّل بحسب الظاهر من تحمّل مسؤوليّة دم سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وكتب والي مكّة يومئذٍ عمرو بن سعيد الأشدق إلى يزيد بن معاوية بنزول الحسين (علیه السلام) وأبنائه وأهل بيته (مكّة)، واجتماعالناس إليه والتفافهم حوله، وأنّ في ذلك الخطر على خلافته ((1)).

وهذا النصّ يفيد أنّ الأشدق أراد بكتابه إخبار سائسه بنزول سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة، وهو متصوّر، لأنّه والٍ على بلدٍ قد حدث في ولايته حدَثٌ عظيم، فيلزمه أن يخبر سيّده وينقل له الصورة الّتي يراها، ويعبّر له عن مخاوفه.

فيمكن والحال هذه حمل عبارة الخوارزميّ على هذا المعنى، والله العالم.

التلميح التاسع: الخلاصة

كيف كان، فإنّ مؤدّى هذا التقرير ومؤدّى مجريات الأحداث التاريخيّة الّتي رواها المؤرّخ هو تجمهر الناس واختلافهم إليه، لا أكثر، ولو كان ثمّة دعوةٌ إلى البيعة والاستنهاض وما شاكلها من النشاطات الرامية إلى ما هو أبعد من مجرّد اللقاء بسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) للتبرّك به والأخذ عنه، لَبانت آثاره من خلال تكاثر الرجال حول سيّد الشهداء (علیه السلام) والتفافهم حوله والتزامهم البيعة معه والوقوف في صفّه، بحيث تكون له مكّة مأمناً يحميه ويوفّر له الموقع الآمِن والعدد الكافي، والحال أنّه خرج منها لفقدان الناصر الّذي

ص: 94


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144.

يدفع عنه القتل ويحمي البيت الحرام من الهتك.

ومجرّد اجتماع الناس حول الإمام (علیه السلام) كان تهديداً أو تنغيصاً واضحاً لا يحتمله السلطان، وقد رأينا لذلك أمثلةً كثيرةً مع غير سيّد الشهداء (علیه السلام) من الأئمّة (علیهم السلام) ، حيث كانت التقارير تُرفَع إلى السلطان بإمكان احتفاء الناس، بل حتّى الشيعة فقط بالإمام (علیه السلام) ، ممّا يثير حفيظة الطاغوت.

وكذا سمعنا بمواقف معاوية وجِرائه مع السبط الأكبر (علیه السلام) ، ومحاولاتهم البائسة الخاسرة من أجل خدش ساحة القدس الحسنيّ، وما يخالونه تكبيتاً وتوبيخاً، خوفاً من التفاف الناس حوله وخفق النعل خلفه كما يزعمون، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) حُجّة الله في الأرض، وهو ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وابن رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وابن فاطمة سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ، فكان في كلّ مرّةٍ يخزيهم ويعرّيهم ويفضحهم ويُلقمهم حجراً يكمّ أفواههم إلى أبد الآبدين.

فمجرّد التفاف الناس حول الإمام (علیه السلام) _ ولو طلباً للبركة والعلم والوجاهة بالتقرّب به إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) _ كان كافياً لإثارة الإحَن والحقد عليه والحسد والتحرّك ضدّه.

ص: 95

ص: 96

كتاب يزيد إلى أهل المدينة وردّ الإمام (علیه السلام)

اشارة

ورد في المتون التاريخيّة أنّ يزيد الخمور أرسل كتاباً إلى ابن عبّاس، وفي بعضها إلى أهل المدينة، وقال آخرون: إلى الأشدق، وأمره أن يقرأه على أهل الموسم، وسوف نستعرضها على التوالي.

فيكون مجموع ما أفادته النصوص أنّ يزيد القرود كأنّه كتب كتاباً واحداً في نسخٍ متعدّدة، أضاف على كلّ نسخةٍ منها ما يناسب المرسَل إليه.

وسنأتي على دراسته من خلال العناوين التالية:

ص: 97

ص: 98

العنوان الأوّل: وقت إرسال الكتاب

اشارة

يمكن تقسيم المصادر حسب ما ورد فيها من الإشارة إلى وقت إرسال الكتاب أو وصوله إلى وقتين:

الوقت الأوّل: إبّان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة

أفاد جماعةٌ _ ربّما كان أقدمهم ابن سعد في (ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات) ((1)) _ أنّ يزيد كتب إلى ابن عبّاس يخبره بخروج الحسين (علیه السلام) إلى مكّة، وذيّل كتابه بالأبيات الّتي سنقرأها بعد قليل، غير أنّهم ذكروه في تسلسل سرد الأحداث بعد كتاب الأشدق لسيّد الشهداء (علیه السلام) دون أن يذكروا في كتاب الأشدق الإشارة إلى شهادة مسلم (علیه السلام) ، وكذا بعد كتاب عبد الله بن جعفر (علیهما السلام) ضمن أحداثٍ قريبةٍ جدّاً من خروج سيّد

ص: 99


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

الشهداء (علیه السلام) .

وذكر ابن أعثم في (الفتوح) كتاب يزيد بعد أن ذكر كتاب الأشدق إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، ويذكر فيه أنّه بلغه عزم الإمام (علیه السلام) على المسير إلى العراق وشهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وأنصاره، ويحذّر الإمام (علیه السلام) من التوجّه إلى العراق، ويذكر جواب الإمام (علیه السلام) ، ثمّ يذكر الكتاب مورد البحث بقوله: «وإذا كتاب يزيد ...»، ثم يسرد أحداث انطلاق سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وذكر الخوارزميّ أنّ الكتاب أتى من يزيد إلى عمرو بن سعيد يأمره فيه أن يقرأه على أهل الموسم، ثمّ يقول: «وأتى مثله إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم»، ويروي ما رواه ابن أعثم ((1)).

فأجواء سرد الأحداث يفيد أنّ كتاب يزيد وصل إلى أهل المدينة إبان عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج وأوائل انطلاقه نحو العراق، وعند ابن أعثم بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، وستأتي مناقشته عن قريب.

الوقت الثاني: عند نزول الإمام (علیه السلام) في مكّة

أفاد الشجريّ أنّه كتب الكتاب حين لحق الإمام (علیه السلام) بمكّة ((2))، وصرّح

ص: 100


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.
2- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 182.

سبط ابن الجوزيّ أنّه كتب يزيد إلى ابن عبّاس لمّا نزل الحسينُ (علیه السلام) مكّة ((1)).

والتعبير ب- (حين لحق) و(لمّا نزل) يفيد أنّه في أوائل قدوم الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، ويعضده ما ورد في نسخة ابن سعد من إخبار يزيد أنّ الإمام (علیه السلام) خرج إلى مكّة.

إلّا أن يقال: إنّ المقصود الإشارة إلى ظرف كتابة الكتاب، وهو كون الإمام (علیه السلام) في مكّة، بغضّ النظر عن بيان الوقت على وجه التحديد، فيمكن الجمع مع المصادر السابقة.

ص: 101


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.

ص: 102

العنوان الثاني: نُسَخ الكتاب

اشارة

يبدو من نصّ ابن أعثم والخوارزميّ أنّ يزيد الخمور والفجور أرسل الكتاب في نسختين:

إحداهما: وجّهها إلى والي مكّة عمرو بن سعيد، وكان المخاطَب الأصليّ فيها جماعة الحجيج، إذ أمره أن يقرأه على أهل الموسم.

والنسخة الأُخرى: وجّهها إلى أهل المدينة، كما هو صريح النصّ.

ولا يُستبعَد أنّ يكون قد بعث النسختين إلى واليه، لتكون واحدةً للموسم في مكّة والأُخرى لأهل المدينة، أي: ليقرأها الوالي أو مَن يخوّله على أهل المدينة، والمقصود الأصليّ في المدينة هو إسماع قريش المدينة وبني هاشم.

ويشهد لذلك ما سنسمعه بعد قليلٍ من ابن سعدٍ وغيره: «وكتب بهذه الأبيات إليه _ يعني ابن عبّاس _ وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش» ((1)).

ص: 103


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

فيكون مفاد مجموع النصوص أنّ أربعة نسخ من الكتاب:

- أُرسلَت واحدةٌ إلى أهل المدينة، بمن فيهم من قريش وبني هاشم.

- والأُخرى إلى أهل مكّة.

- وثالثة إلى ابن عبّاس.

- ورابعة إلى الأشدق، ليقرأها على أهل الموسم.

إلّا أن يُقال: إنّ نسخة أهل مكّة هي نفسها نسخة الأشدق.

النسخة الأُولى: نسخة إلى أهل المدينة وغيرهم
اشارة

قال ابن أعثم:

وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد من قريش وغيرهم من بني هاشم، وفيه هذه الأبيات:

يا أيّها الراكب الغادي لطيّتِهِ

على عذافرةٍ في سيره

قحمُ

أبلِغْ قريشاً على نأْي المزار

بها

بيني وبين الحسينِ

اللهُ والرَّحِمُ

وموقفٌ بفِناء البيت ينشده

عهد الإله وما توفى به

الذممُ

عنّيتمُ قومَكم فخراً بأُمّكمُ

أُمٌّ لَعمري حصانٌ بَرّةٌ

كرمُ

هي الّتي لا يداني فضلَها أحدٌ

بنتُ

الرسولِ وخيرُ الناس قد علموا

ص: 104

وفضلُها لكمُ فضلٌ، وغيركمُ

من يومكم لهمُ في

فضلها قسمُ

إنّي لَأعلم حقّاً غير ما كذبٍ

والطرف

يصدق أحياناً ويقتصمُ

أنْ سوف

يدركْكُمُ ما تدّعون بها

قتلى تهاداكمُ العقبان

والرخمُ

يا قومنا لا

تشبّوا الحرب إذ سكنَتْ

تمسّكوا بجبال الخير

واعتصموا

قد غرّت

الحربُ مَن قد كان قبلكُمُ

من

القرون، وقد بادت بها الأُممُ

فأنصفوا

قومكم، لا تهلكوا بذخاً

فرُبّ ذي بذخٍ زلّت به

القدمُ

قال: فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ، فلمّا نظر فيه علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتب الحسين الجواب:

«بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾، والسلام» ((1)).

وروى الخوارزميّ فقال:

ثمّ أتى كتابٌ من يزيد بن معاوية إلى عمرو بن سعيد، يأمره فيهأن يقرأه على أهل الموسم، وفيه:

يا أيّها الراكب الغادي لطيّته

على عذافرةٍ في سيرها

قحمُ

أبلِغْ قريشاً على نأْي المزار

بها

بيني وبين الحسينِ

اللهُ والرحمُ

ص: 105


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 117.

وموقفٌ ببناء البيت ينشده

عهد الإله، وما توفى

به الذممُ

عنّيتمُ قومَكم فخراً بأُمّكم

أُمٌّ لَعمري حصانٌ

عمّها الكرمُ

هي الّتي لا يداني فضلَها أحدٌ

بنتُ

الرسول، وكلّ الناس قد علموا

وفضلها لكمُ فضلٌ، وغيركمُ

من

قومكم لهمُ من فضلها قسمُ

إنّي أظنّ وخير القول أصدقه

والظنّ يصدق أحياناً

وينتظمُ

أنْ سوف

يتركْكُمُ ما تدّعون به

قتلى تهاداكم العقبانُ

والرخمُ

يا قومَنا

لا تشبّوا الحرب إذ سكنَتْ

واستمسكوا

بحبال الخير واعتصموا

قد عضّت

الحربُ مَن قد كان قبلكُمُ

من

القرون، وقد بادت بها الأُممُ

فأنصفوا

قومكم، لا تشمخوا بذخاً

فرُبّ ذي بذخٍ زلّت به

القدمُ وأتى مثله إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم.

قال الشعبيّ: لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم!

قال: فوجّه أهلُ المدينة بهذه الأبيات إلى الحسين، ولم يُعلِموه أنّها من يزيد، فلمّا نظرها الحسين علم أنّها منه، وكتب إليهم في الجواب:

«بسم الله الرحمن الرحيم. فإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون» ((1)).

* * * * *

ص: 106


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.

يمكن تناول ما ورد في هذا المتن الّذي ذكره ابن أعثم والخوارزميّ من خلال الوقفات التالية:

الوقفة الأُولى: المخاطَب

يفيد نصّ ابن أعثم أنّ يزيد أرسل الكتاب إلى أهل المدينة، وفي هذا التعبير من الغموض والشمول والعموميّة ما يجعل المخاطَب مجهولاً تماماً، هذا غير ما في نفس العبارة من ارتباك: «وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد من قريش وغيرهم من بنيهاشم»، فما هو المقصود بالضبط من قوله: «من قريش وغيرهم من بني هاشم»؟! فربّما كان شرحاً وتفسيراً للمقصود من أهل المدينة، وكأنّ المخاطَب بالكتاب هم قريش المدينة وبني هاشم، أو أنّ البريد هو من قريش وبني هاشم.

وكيف كان، فإنّ في العبارة ارتباكاً يلوح للناظر، سيّما إذا لاحظنا أنّ بني هاشم من قريش وليسوا «غيرهم»! وإن كان في ذكر الخاصّ بعد العام تأكيد.

والحال أنّ الّذين نظروا فيه هم أهل المدينة حسب النصّ: «فنظر أهلُ المدينة إلى هذه الأبيات..»، وأنّ الّذي وجّه الأبيات والكتاب هم أهل المدينة: «ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ»..

فمَن ذا الّذي استلم الكتاب مِن أهل المدينة؟

ص: 107

ومَن قرأه؟

ومَن قرّر إرساله؟

ومَن أرسله؟

ومَن كان الرسول؟

ولو كان المخاطَب هم قريش وبنو هاشم على وجه الخصوص، يبقى المخاطَب مجهولاً عامّاً لم يُحدَّد، فمَن الّذي استلم الكتاب منهم؟ ومَن الذي قرأه؟ ومَن الّذي أرسله إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

الوقفة الثانية: معنى النظر في الكتاب

كأنّ قوله: «فلمّا نظر فيه عَلِم أنّه كتاب يزيد بن معاوية» يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) تأمّل الكتاب الحاوي على الأبيات، وعلم من خلال قراءته أنّه من يزيد، ومقتضى أن يكون الكتاب مبعوثاً من يزيد أن يكون مختوماً بخاتمه، فلا يحتاج معرفة مرسله إلى النظر في الكتاب!

أجل، قد يُقال أنّ المقصود من (النظر) الرؤية، وهو خلاف ظاهر النصّ.

بَيد أنّ الخوارزميّ الّذي اعتاد نقل المتون التاريخيّة في (المقتل) من كتاب ابن أعثم نقل النصّ نفسه بعبارةٍ أوضح وأكثر تماسكاً، ومع ذلك تبقى فيه بعض الثغرات الّتي لم تعالجها صياغة الخوارزميّ أيضاً.

ص: 108

الوقفة الثالثة: ابتداء القرد بالهجوم

لا يبدو _ حسب النصوص المتوفّرة ومجريات الأحداث المرويّة في المتون التاريخيّة _ أنّ سيد الشهداء (علیه السلام) قد أعلن على رؤوس الأشهاد وتكلّم بوضوحٍ وصراحةٍ بين جموع أهل مكّة وأهل الموسم عن مواجهته للقرد الأُمويّ ووقوفه في صفّ المحارب الّذي يريد أن ينقضّ عليه وعلى حُكمه..

بل لم يتوفّر لدينا نصٌّ يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هاجم القرد، ومارسما يسمّى ب (الحرب الإعلاميّة) ضدّه شخصيّاً كقردٍ أُمويٍّ متميّعٍ خليعٍ على رؤوس الأشهاد وفي التجمّعات العامّة.

أجل، روى لنا المؤرّخ أنّه ذكر يزيد بمثالبه عند أشخاص معيَّنين في حديثٍ خاصٍّ جرى بينهم، كحديثه (علیه السلام) مع العبدَين ابنِ عبّاسٍ وابنِ عمر في بعض النقول.

فيما أقدم يزيد المخمور المسعور لإعلانه الحرب وتهديده بالإبادة، مُعلِناً ذلك على أهل الموسم وأهل المدينة وقريش وبني هاشم.. فهو كان يسعى جاهداً لترويض الناس، وتجييش الغوغاء على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، لتحقيق غرضه المشؤوم ورسم المشهد في العقول الخاوية والأذهان الكليلة البالية، من خلال الإعذار لها وتجريم العدوّ قبل أن يُقدِم على أيّ خطوة، ليتسنّى له تنفيذ خطّته الّتي رُسمَت له من قبل، والّتي تهدف إلى إبادة آل

ص: 109

النبيّ (صلی الله علیه و آله) وكلّ مَعْلَمٍ من معالم الدين والإسلام والتوحيد ومعدنٍ من معادن الحقّ والهداية..

الوقفة الرابعة: مؤدّى الأبيات
اشارة

لا نريد تناول أبيات العُتلّ الزنيم بالدقّة والدخول في تفاصيل ما هذر به، ونكتفي بالإشارة السريعة إلى أهمّ ما تضمّنته، ونستغفر الله ونعتذر مسبقاً من ساحة القدس الإلهيّ خامسِ أصحاب الكساء (علیه السلام) ، ومن القارئ الكريم، إذأنّ الأبيات فيها من الجسارة وسوء الأدب الّذي ينمّ عن كوامن القرد المخمور، وإنّما اضطرّنا إلى الخوض فيها ضرورة البحث:

المؤدّى الأوّل: كتابٌ أبتر

يبدو من لفظ ابن أعثم أنّ كتاب يزيد كان يخلو من السلام والتحيّة والمقدّمة، وهو _ حسب النقل _ يبتدئ بالأبيات، حيث يُخبر عن وصول الكتاب وفيه هذه الأبيات، من دون الإشارة إلى المخاطَب أو البسملة والحمد والثناء والصلاة على النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وما شاكل ممّا هو مرسومٌ في مقدّمات الكتب والرسائل، ولا يبدو أنّ الناقل قد اختصر وبادر إلى أصل الموضوع.

وهذا النمط من المكاتبة ينمّ عن مدى غطرسة المرسِل وتجبّره وتكبّره وطغيانه وعتوّه واستكباره، وقل ما شئت من الألفاظ والمعاني الّتي تعبّر عن

ص: 110

مثل هذه الأخلاقيّات المذمومة، ولن تبلغ!

المؤدّى الثاني: تظلّم يزيد!

يتظلّم يزيد الخمور عند قريش، ويشكو إليهم ريحانة النبيّ الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويتظاهر بمناشدة الإمام بالله والرحم، ويعاهد الله له، وبكلّ ما يمكن أن توفى به الذمم من قيَمٍ وملزمات..

والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو الّذي يتظلّم من فعل القرد المسعوروجِرائه وزبانيته، الّذين لاحقوا الإمام (علیه السلام) وأزعجوه وأخرجوه من وطنه إلى حيث لا مأوى ولا مأمن!

المؤدّى الثالث: حصر مورد المفاخرة

ثمّ سحّت نفسُه بصديد الجاهليّة وأوحالها الّتي نشأ وترعرع وكبر على قيمها ومفاهيمها، وزعم أنّ أهل البيت (علیهم السلام) عنّتوا قومهم تفاخراً بأُمّهم، تماماً كما يتفاخر شاعرٌ جاهليٌّ على خصومه أو ينازعهم، وكأن ليس الإمام الحسين (علیه السلام) هو سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّد شباب أهل الجنّة والإمام المنصوب من الله المفترض الطاعة على الخلق الّذي دلّ عليه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكأن ليس الإمام (علیه السلام) بنفسه مفخراً للخلق أجمعين!

ولا شكّ أنّ الافتخار بفاطمة بنت النبيّ أُمّ الحسين حقّ، وقد اعترف به حتّى يزيد وغير يزيد من أسلافه وأتباعه.. بَيد أنّ المراوغة والتلوّن

ص: 111

والالتواء في كلام الوغد أنّه حصر سبب كلّ ما جرى على الإسلام والمسلمين وظلم آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في إلحاحهم بالفخر، بحيث عنّتوا قومهم وأجبروهم على ما فعلوا نتيجة العنت الّذي لحقهم من مفاخرة آل البيت (علیهم السلام) بأُمّهم (علیها السلام) .

كما أنّه حصر _ إيماءً _ حقّ سيّد الشهداء (علیه السلام) في رفع قامته والوقوف في وجه الطواغيت، وجميع حقوقه الأُخرى المسلوبة ومناصبه المغصوبةبفخره بأُمّه، أي: أنّ المسوغ الوحيد الّذي يدعو سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى اتّخاذ أيّ موقفٍ يريده إنّما هو باعتباره يشعر أنّه ابن (أُمٍّ) تختلف عن سائر الأُمّهات، وبها يسمو ويعلو ويرتفع ويقول ما يقول ويفعل ما يفعل..

أجل، أن يكون الإمام الحسين (علیه السلام) ابن بنت النبيّ فاطمة سيّدة نساء العالمين مفخراً، وأيّ مفخر، ولكنّه ليس هو السبب الوحيد، بل لأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وتعاليم القرآن وحاجة الإسلام والمسلمين وشخص الإمام المعصوم خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وغيرها من الأسباب الأُخرى الّتي فرضت على الخلق أجمعين الطاعة والتسليم له.. لكنّ القرد المخمور حصر الأمر بافتخارهم بأُمّهم!

المؤدّى الرابع: منازعة مورد التفاخر

يزعم أنّ أهل البيت (علیهم السلام) عنّتوا قومهم فخراً بالزهراء (علیها السلام) ، ثمّ يُقرّ له إقرار مجادلٍ أنّ فضل الزهراء (علیها السلام) يعلمه الناس كلّهم، فلا داعي للتفاخر والتأكيد

ص: 112

على شيءٍ يُقرّ به الناس جميعاً.

ثمّ يحاول أن ينسب هذا الفخر لنفسه ولغيره، فيقول: إنّ غيركم من قومكم لهم من فضلها قسم. وقد كذب اللعين ودلّس، لكي لا تكون لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) خصوصيّةٌ وفخرٌ بالزهراء (علیها السلام) يميّزه عن غيره إلّاقليلاً.

المؤدّى الخامس: التهديد

ثمّ جعل يتوقّع ويرجم بالغيب، ويقول: إنّ الظنّ يصدق أحياناً. في إشارةٍ إلى أنّ ظنّه هذا صادق، وأنّ هذا الفخر سيؤدّي بهم إلى القتل، فتكون أبدانهم طعاماً للعقبان والرخم.

هذا التفاخر الّذي لا يراه ابن آكلة الأكباد إلّا سكرةً تُخمّر الفكر فتجعله لا يبصر العواقب، فيرسم لها العاقبة هو في صورةٍ مفزعةٍ مرعبةٍ تستغرق في التهديد المهول، لأنّها تنتهي بالمتفاخِر إلى أن تمزّق أشلاءه السيوفُ وتتناوشه الرماحُ والأسنّة، فيقع صريعاً تحوم عليه النسور ووحوش الطيور، لتنتهش أجسادهم..

إنّه تهديدٌ صريح، وتصويرٌ وقح، وتعبيرٌ لا يصدر إزاء معادن الطهر إلّا من أولاد البغايا النتنات..

وهو مصرٌّ ومستمرٌّ في تهديده من خلال الأبيات المتتابعة الّتي تصوّر عاقبة مَن حاربوا مِن قبل كما يزعم، وأنّ الحرب قد عضّت السابقين

ص: 113

وأبادت الأُمم، ويشهد لذلك قول الشعبيّ الّذي رواه الخوارزميّ كتعليقٍ على الكتاب: «قال الشعبيّ: لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم»!

ويختم أبياته بالدعوة لإنصاف القوم وتجنّب البذخ، فالبذخ قد يزلّ بهقدم الباذخ.

المؤدّى السادس: العزم على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والاعتذار منه

إنّ الأبيات تتضمّن _ بخبثٍ _ إنكار الوصاية والولاية، وحصر أسباب الخلاف في الروح الجاهليّة والتفاخر بالأصل والأُمّهات، وتتضمّن تهديداً صريحاً وقحاً، وتضليلاً للعقول وحرفاً للأذهان، واتّهاماً لسيّد الشهداء (علیه السلام) بالبذخ والبطر والأشر والفساد، وهذا هو بالضبط الّذي نفاه الإمام (علیه السلام) في وصيّته لأخيه محمّد ابن الحنفيّة: «وإنّي لم أخرج أَشِراً ولا بطراً ولا مُفسداً ...».

وتريد أن توحي للناس أنّ يزيد الخليع الماجن قد أعذر وأنذر، وأنّ الحرب قد أقدم عليها سيّد الشهداء (علیه السلام) طلباً للحكم والدنيا، وأنّ ذلك سيتركه قتيلاً تتهاداه العقبان والرخم، وفي ذلك إعلانٌ صريحٌ لما ينويه الخبيث من الإقدام على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ يزيد الخمور كان عازماً على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أرسل هذا الكتاب إلى أهل المدينة يعتذر إليهم من قتل الإمام (علیه السلام) مقدّماً.

يؤكّد ذلك ما رواه الطبريّ، قال:

ص: 114

دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخّ، فوجده خائفاً يلتمس عذراً مِن قتْل مَن قَتَل، فقال له: أصلحالله الأمير، أُنشدك شعراً كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه مِن قتل الحسين بن عليّ (علیه السلام) . قال: أنشِدْني. فأنشده فقال: يا أيّها الراكب الغادي لطيّته ... إلى آخر الأبيات.

قال: فسرّى عن موسى بن عيسى بعضَ ما كان فيه ((1)).

الوقفة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

بعد أن نظر الإمام (علیه السلام) في الكتاب وعلم أنّه من يزيد، كتب جواباً. قال:

وكتب إليهم في الجواب:

«بسم الله الرحمن الرحيم. فإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بريءٌ ممّا تعملون» ((2)).

وهنا إشاراتٌ سريعةٌ يمكن التلويح إليها:

الإشارة الأُولى: المخاطَب

يظهر من قوله: «وكتب إليهم في الجواب» أنّ المخاطَب هم أهل

ص: 115


1- تاريخ الطبري: 6 / 420، معجم الأُدباء لياقوت: 16 / 158.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.

المدينة الّذين أرسلوا إليه الأبيات.

فيكون المكذِّب _ حينئذٍ _ هم أهل المدينة، والآية تنطبق عليهم، ويكون أهل المدينة كأنّهم قد تبنّوا ما في الأبيات، وإنّما اصطفّوا في صفّالقرود وصاروا يتكلّمون بلسانهم ويزقحون بزقحهم، ويخاطبون الإمام (علیه السلام) بنفس الخطاب الّذي ضمّنه يزيد الخمور في أبياته.

فهم قد عبّروا عن موقفهم تجاه سيّد الشهداء (علیه السلام) من خلال أبيات العتلّ يزيد، فكان الجواب موجَّهاً إليه وردّاً عليهم!

وهذا يعنّي أنّ إرسال الكتاب من قِبَل أهل المدينة لم يكن لا بأمر يزيد ولا عملٌ عفويٌّ غير مقصود، وإنّما يكون تعبيراً عن موقفٍ وتحذيراً للإمام (علیه السلام) تبنّاه أهلُ المدينة من خلال هذه الأبيات.

ويمكن أن يكون الجواب موجَّهاً إلى يزيد باعتباره ردّاً على الخطاب المتضمّن في الأبيات، وهي أبياته.

ولا يمنع أن يكون ردّاً للجميع.

وعلى كلّ تقدير، فإنّ مضمون الجواب واحدٌ بغضّ النظر عن المخاطَب.

الإشارة الثانية: مضمون الجواب

لقد أجاب الإمام (علیه السلام) بآيةٍ واحدةٍ فقط، وهي الآية 41 من سورة يونس، ولم يزدْ على ذلك شيء.

ص: 116

وخلاصة مؤدّى الآية الشريفة _ كما قال الفيض الكاشانيّ _ :

﴿وإِنْ كَذَّبُوكَ﴾: وإن يئست من إجابتهم، وأصرّوا على تكذيبك، ﴿فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُوَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾: لا تُؤاخَذون بعملي، ولا أُؤاخذ بعملكم، يعني: تبرّأْ منهم وخلِّهِم، فقد أعذرتَ إليهم ((1)).

وقال السيّد الطباطبائيّ صاحب (الميزان):

قوله (تعالى): ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ إلى آخر الآية، تلقينٌ للتبرّي على تقدير تكذيبهم له، وهو من مراتب الانتصار للحقّ ممّن انتهض لإحيائه، فالطريق هو حمل الناس عليه إن حملوا، وإلّا فالتبرّي منهم لئلّا يحملوه على باطلهم.

وقوله: ﴿أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ تفسيرٌ لقوله: ﴿ لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ ((2)).

الإشارة الثالثة: تطبيق الآية على المقام

تفيد الآية أنّ ثمّة تكليفٌ يتلخّص في ترك أهل الباطل والإعراض عنهم وعدم الاصطدام بهم، وليعمل كلٌّ على طريقته ويسير بسيرته، فلا يفرض

ص: 117


1- تفسير الصافي للكاشاني: 2 / 403.
2- الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي: 10 / 68.

الباطلُ نفسَه على الحقّ، ويتبرّأ الحقُّ من الباطل وفعله.

بمعنى: اتركوني وشأني، وأترككم وشأنكم، فلا أنتم تقبلون حقّي، ولاأنا أركع لباطلكم، وأنا أتبرأ من عملكم، وأنتم تبرّؤون من عملي، وأنا مسؤولٌ عمّا أعمل، وأنتم مسؤولون عمّا تعملون، وكلٌّ يتحمّل ما يترتّب على عمله..

سواءً أكان المخاطَب أهل المدينة الّذين أرسلوا الأبيات إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) أو يزيد الخمور الّذي كتبها، فإنّ موقف الإمام (علیه السلام) الّذي يرسمه الاستشهاد بهذه الآية كجوابٍ يعني أنّي سأبقى ملتزماً بالحقّ، فلا أُبايع، وأنتم افعلوا ما تشاؤون من الخذلان أو اقتحام الهلكة بقتلي، فإن كنتم تريدون سفك دمي والهجوم علَيّ فإنّي لا أُعطيكم بيدي ولا أُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..

فالأبيات _ كما هو واضحٌ _ تحمل التهديد الصريح بالقتل، وتحويل الرجال إلى طعامٍ تنتهشه مناقير الرخم والعقبان الحادّة، وتحذّر من الحرب، والإمام (علیه السلام) يجيب بما يشبه الصريح من خلال تطبيق الآية أنّه لا يقصد الحرب، وإنّما هو عازمٌ على أن يتمسّك بحقّه ويعتزل الباطلَ وأهلَه.

الإشارة الرابعة: تحديد مصداق المكذّب

الاستشهاد بالآية الكريمة يفيد أنّ المخاطَب بالكتاب مصداقٌ ينطبق عليه عنوان المكذّب بالدين وبالرسل والأنبياء والأوصياء، ولا يبعد أن

ص: 118

يكون لفظ الجمع الوارد في قوله (تعالى): ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يفيد أنّالمخاطَب هو يزيد وأهل المدينة الّذين أرسلوا الكتاب، وأنّهم جميعاً اشتركوا في التكذيب ومحاربة الحقّ وأهله.

الإشارة الخامسة: ازدراء المخاطَب

بملاحظة ما ذكرناه قبل قليلٍ في المؤدّى الأوّل، يكون ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بالمِثل على مَن كتب ومَن أرسل الكتاب، فقد بدأ يزيد الفجور والخمور كتابه بالأبيات من دون حتّى البسملة كما هو معهود، ولا الحمد والثناء ولا تحديد المخاطَب.

فجاء جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) على نفس النسق، إلّا فيما يخصّ الخلُق العظيم الّذي امتاز به الأئمّة الطاهرون (علیهم السلام) ، فهو قد ابتدأ الرسالة بالبسملة، لتكون بدايةً للرسالة وبدايةً لتلاوة الآية المباركة.

بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) ازدرى المخاطَب بكتابه، سواءً كان يزيد أو أهل المدينة أو هما معاً، فلم يبدأهم بتحيّة، ولا أيّ مقدّمةٍ من مقدّمات الكتب المعهودة.

بل يُلاحَظ أنّه ازدرى يزيد إلى حدٍّ لم يذكره أبداً ولا بالاسم، ولم يجعله بمستوىً يمكن أن يوجّه إليه الخطاب، فهو أقلّ وأحقر وأدون من أن يكون مخاطَباً أو ينهض لمقابلة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وكما خلا كتاب ابن هند من التحيّة والسلام، فقد ردّ عليه ابن سيّدة

ص: 119

نساء العالمين (علیها السلام) بالمِثل، فلم يسلّم عليه ولا على مَن كتب إليهم الكتاب.

ص: 120

النسخة الثانية: نسخة إلى ابن عبّاس
اشارة

روى ابن سعدٍ وتبعه ابنُ عساكر وابن بدران وابن منظور وابن العديم وابن كثير والمزّي نصَّ الكتاب الّذي بعث به القرد المخمور إلى ابن عبّاس وجواب ابن عبّاس عليه، فقالوا:

وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عبّاس، يُخبره بخروج الحسين إلى مكّة:

ونحسبه جاءه رجالٌ من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة، وعندك علمٌ منهم خبرةً وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع واشج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففْه عن السعي في الفرقة.

وكتب بهذه الأبيات إليه وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش ... ((1)).

ص: 121


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

ثمّ ذكر الأبيات الّتي سمعناها قبل قليل..

وروى الخبر الشجريّ مسنداً عن مجاهد ((1)) بشيءٍ من التفصيل، فقال:

لمّا امتنع الحسين (علیه السلام) وابن الزبير من البيعة ليزيد بن معاوية ولحقا بمكّة، كتب يزيد بن معاوية (لعنهما الله تعالى) إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد، فإنّ ابن عمّك حسيناً وعبد الله بن الزبير لحقا بمكّة مرصدين للفتنة، معرّضي أنفسهم للهلكة.

فأمّا ابن الزبير: فهو صريع القنا وقتيل الله (عزوجل) .

وأمّا الحسين: فإنّي قد أحببتُ الإعذار إليكم أهل البيت فيما كان منه، وقد بلغني أنّ أقواماً من أهل الكوفة يكاتبونه، يمنّونه بالخلافة ويمنّيهم الإمارة، وقد علمتَ واشج ما بيني وبينكم من القرابة والإصارة والرحم، وقد قطع ذلك ابن عمّك حسينٌ وبَتّه،

ص: 122


1- وبه: قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسن بن عليّ التنوخيّ، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن أحمد الدرويّ الورّاق من أصل كتابه يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلةٍ خلت من شعبان سنة اثنتين وسبعين وثلاثمئة، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن القاسم بن نصر، قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدّثنا محمّد بن الحكم الشيبانيّ، عن أبي مِخنَف، عن الحارث ابن كعب الأزديّ، عن مجاهد قال: ...

وأنت كبير أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فألقِه، فاكففْه عن الفرقة ورَدِّ هذه الأُمّة في الفتنة، فإن أقبل وأناب إلى قولك فنحن مجرون عليه ما كان نجريه على أخيه، وإن أبى إلّا أن نزيده فزِدْه ما أراك الله، واضمن ذلك علينا ننفذ ضمانك، ونُعطه ما أحبّ من ذلك الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدةوما تطمئنّ إليه إن شاء الله (تعالى)، والسلام ((1)).

ورواه سبط ابن الجوزيّ عن الواقديّ، فقال:

ولمّا نزل الحسين مكّة، كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد، فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ الله ابن الزبير التويا ببيعتي، ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة معرّضين أنفسهما للهلكة.

فأمّا ابن الزبير: فإنّه صريح الفناء وقتيل السيف غداً.

وأمّا الحسين: فقد أحببتُ الإعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه، وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم، ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فألقِه فاردده عن السعي في الفرقة ورُدَّ هذه الأُمّة عن الفتنة، فإن قَبِل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأُجري

ص: 123


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإن طلب الزيادة فاضمنْ له ما أراك الله، أُنفذُ ضمانك وأقوم له بذلك، وله علَيّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه.عجِّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبَلي، والسلام.

قال هشام بن محمّد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب: ...

ثمّ ذكر الأبيات الّتي سمعناها قبل قليل ((1))..

* * * * *

يمكن أن نتناول ما في هذه النسخة من خلال الإيضاحات التالية:

الإيضاح الأوّل: اتّحاد نُسَخ الكتاب!

قال ابن سعدٍ وغيره بعد أن روى نصّ كتاب ابن عبّاس:

وكتب بهذه الأبيات إليه وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش: ...

ثمّ ذكر الأبيات الّتي سمعناها قبل قليل ((2))..

ص: 124


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

وهو يفيد أنّ الأبيات كانت مشتركةً في نُسَخ الكتاب إلى ابن عبّاسٍ وإلى مَن بمكّة والمدينة من قريش، وإنّما أضاف في نسخة ابن عبّاس ما يخصّه من تكليفٍ ومهمّة!

الإيضاح الثاني: محاولة استبدال الرموز

كانت السقيفة بحاجةٍ إلى غطاءٍ شرعيٍّ يمكن أن يؤمّن لها البقاء فيدائرة النبيّ وآله، فجهدت على بناء وجودٍ له علاقةٌ نَسَبيّةٌ قريبةٌ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فجعلَت العبّاسَ عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) من أهل البيت، وابنَه عبدَ الله من أهل البيت، ونفخت فيه وضخّمَتْه حتّى صار حَبْرَ الأُمّة، وترجمان القرآن، وصاحب علم النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وغيرها من الألقاب الّتي سُرقَت من أمير المؤمنين (علیه السلام) ! وعلّقت على ابن عبّاس ليكون المنافس والبديل عن أهل البيت (علیهم السلام) ، ويمكن الرجوع إليه والاستناد عليه والأخذ عنه، فلا ينحصر الأمر في العَلَم الّذي نصبه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) للأُمّة!

والحال أنّ ابن عبّاس كان في حياة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) صبيّاً أو غلاماً غير يافع، فمِن أين أخذ؟ وكيف روى كلّ هذه الأعداد الهائلة من الحديث؟! وإن كان أخذها من أمير المؤمنين (علیه السلام) ونسبها إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرةً بحذف الواسطة أو بذكرها، فهو إذن عيالٌ على أهل البيت ((1)).

ص: 125


1- هذا البحث مفصَّلٌ وله شواهده وأدلّته المتينة، وليس هذا موضع ذِكرها.

ويُلاحَظ في سلوك رجال السقيفة الأصليّين وقرودها _ بما فيهم يزيد _ وأتباعها _ بما فيهم المؤرّخ الخؤون _ وابن عبّاسٍ نفسه، أنّهم يحاولون تقديم ابن عبّاسٍ كزعيمٍ وكبيرٍ لبني هاشم، وعلى ذلك شواهد كثيرةٌ جدّاً في التاريخ، منها هذه الرسالة الّتي يخاطب فيها يزيدُ ابنَ عبّاسٍ باعتباره: كبير أهل البيت، والمنظور إليه، وسيّد أهل البلد..

وليس الأمر كذلك، فابن عبّاسٍ لا يكبر الإمام الحسين (علیه السلام) من حيثالسنّ كثيراً، فهو إمّا مِن لدته، أو أكبر منه بسنتين أو ثلاث، لا أكثر.

ومن حيث الثِّقل الدينيّ والاجتماعيّ والنَّسَبيّ والعشائريّ، فلا يُقاس بابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسبطه وريحانته، وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ، وأخي الحسن المجتبى الأمين (علیه السلام) ، وأبي الأئمّة الميامين (علیهم السلام) ..

بَيد أنّ يزيد الخمور يصرّ في محاولةٍ بائسةٍ وقحةٍ أن يعرض ابن عبّاس باعتباره كبير أهل البيت الّذي يتظلّم عنده، ويشكو الإمام الحسين (علیه السلام) ، وعليه أن يوظّف نفوذه ككبير قومٍ في التأثير على الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي يحتاج إلى مَن يرشده ويسدّده ويعلّمه من الكبار!!!

وأنت كبير أهل بيتك.. وأنت زعيم أهل بيتك.. وسيّد أهل بلدك.. والمنظور إليه.. فإنّي قد أحببتُ الإعذار إليكم أهلَ البيت فيما كان منه. يعني الإمام الحسين (علیه السلام) !!

ص: 126

مقابل هذه الألقاب الرنّانة الضخمة يشكو إليه سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) في صورةٍ لا يجرؤ المرء على بيانها، ويمكن للمتأمّل في متن كتابه هذا وغيره من المواضع أن يرى تفاصيلها.

الإيضاح الثالث: تصوير سلطة ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام)

حينما يخاطِب يزيدُ ابنَ عبّاسٍ باعتباره الزعيم والكبير والشيخ والمنظور إليه، ويوحي إليه أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أحد أفراد زعامته ومشيخته الّذين ينظر إليهم ابن عبّاس ويحكمهم، لأنّه كبيرهم، فمن الطبيعيّ أن يقول له: «فاكفُفْه»، وكأنّ لابن عبّاس السلطة على الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وهو قادرٌ على كفّه وردعه والتصرّف فيه؛ لأنّه يتحمّل مسؤوليّته باعتباره أحد أهل البيت الّذين يتزعّمهم ابن عبّاس، ولذا فهو يعتذر إليهم من سلوك أحد أفرادهم.

فالإمام الحسين (علیه السلام) _ كما يريد تصويره يزيد (لعنه الله) _ شخصٌ ثانويٌّ يتصرّف كفردٍ عاديٍّ من أهل البيت، وعلى كبيرهم وزعيمه أن يكفّه، فإن لم يكفّه فلا يعتب فيما بعد!!!

ولا نريد أن نفتح الكلام أكثر لما يصوّره القرد المخمور، ونستغفر الله!

وربّما كان هذا ممّا جرّأ ابنَ عبّاس، فجعله يتكلّم بوقاحةٍ مع إمام زمانه، فيحاول منعه عن المسير، ولو بشبك يده في شعر رأسه!!!

ص: 127

الإيضاح الرابع: يزيد يكلّف ابن عبّاس بالمهمّة

بايع عبدُ الله بن عبّاس يزيد وهو في مكّة ((1))، وأمر بمبايعته ((2)).. فدخل فيما دخل فيه الناس، وألزم نفسه الطاعة، فوظّفه يزيد القرود ليبثّ من خلاله ما أراد إلصاقه بسيّد الشهداء (علیه السلام) واتّهامه أنّه إنّما خرج ليطلب المُلك والخلافة ويواجه السلطة ونظام الحكم القائم، ليمهّد لقتله من خلال المسوّغات الّتي يسوّقها إلى الناس، باعتباره نازع القوم سلطانهم فاستحقّ القتل، والملكُ عقيم، وأمره أن يلقى الإمام (علیه السلام) ويكفّه حسب زعمه، ومنحه الصلاحيّات في مفاوضته وتقديم ما يحسبه القرد مُرغّباً يستهوي به إمام الحقّ _ والعياذ بالله _ فيميل إلى الباطل ويبايع.

فكتب يزيد إلى ابن عبّاسٍ يأمره أن يلقى سيّد الشهداء (علیه السلام) : «فالقِه»، ويكفّه عن السعي في الفرقة، وردّ هذه الأُمّة في الفتنة..

وهذا الكتاب الواصل من يزيد يُعَدّ مرسوماً خوّل من خلاله ابنَ عبّاس، وكلّفه بمهمّةٍ رسميّةٍ مِن قِبَل السلطان، تتوفّر على ما يحتاج إليه من صلاحيّاتٍ لكفّ الإمام (علیه السلام) ومنعه والتصدّي له بأيّ وسيلة.

ص: 128


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، تاريخ الطبري: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 3852، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
2- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173.

وأقلّ ما يُقال فيه: إنّه تخويلٌ رسميٌّ للقيام بالوساطة، كما يُعبَّر عنه في هذه الأيام.وإنْ أبى إلّا أن نزيده فزده ما أراك الله، واضمن ذلك علينا ننفذ ضمانك، ونُعطه ما أحبّ من ذلك الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة وما تطمئنّ إليه إن شاء الله (تعالى) ((1)).

وإن طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله، أُنفذ ضمانك وأقوم له بذلك، وله علَيَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه. عجّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبَلي ((2)).

وبهذا منح يزيد لابن عبّاس كافّة الصلاحيّات، وخوّله تخويلاً مفتوحاً لتقديم الوعود الّتي يراها مناسبة، وقد ضمن له ما سيضمنه هو للإمام (علیه السلام) ، وقدّم له الأيمان المغلّظة الّتي يطمئنّ لها ابن عبّاس.

وقد قبل ابن عبّاس هذه المهمّة ووعد بالمباشرة:

فاستجاب له ابن عبّاس، ووعده أن لا يدع النصيحة فيما يجمع الله به الأُلفة والكلمة ويُخمد به الفتنة!!! ويحقن به دماء الأُمّة

ص: 129


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

ويطفئ النائرة! ((1))

وقال: وسألقاه فيما أشرتَ إليه ((2)).

ومضى فيها بكلّ ما أُوتيَ من قوّة، وبذل فيها جهده، وكأنّه اقتنع أنّه كبير أهل البيت وزعيمهم، والمخوَّل للأمر والنهي فيهم، والقادر علىصدّهم ومنعهم عمّا لا يريد ولا يرى، حتّى صار يتكلّم مع الإمام (علیه السلام) كأنّه الندّ، بل كأنّه الكبير الّذي ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يطيعه، كما هو واضحٌ لمن راجع نصوص الحوارات الّتي دارت بينهما، وشاهد المواقف الّتي وقفها ابن عبّاسٍ مع الإمام (علیه السلام) ، وتصريحاته في تقييم موقف الإمام (علیه السلام) معه بعد أن عجز عن ثنيه عن الخروج من مكّة.

فربّما يُستفاد من هذا الكتاب أنّ اعتراضات ابن عبّاس ولقاءاته بالإمام (علیه السلام) إنّما كانت تنفيذاً للأوامر الصادرة إليه من يزيد، ولا يمنع أن

ص: 130


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 304، الأمالي للشجري: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

تكون له شخصيّاً دوافع ذاتيّة أيضاً.

الإيضاح الخامس: هجوم العدوّ

لم يبدر من سيّد الشهداء (علیه السلام) لا في المدينة ولا في مكّة أيّ سلوكٍ أو تصريحٍ هجوميّ أو تعرّضٍ للسلطة ولا للأُمويّين كحكّام، وغاية ما فعله _ بشهادة جميع النصوص التاريخيّة _ أنّه امتنع عن البيعة امتناعاً أكيداً شديداً، غير قابل للمسامحة ولا المساومة، وحينما هُدّد بالقتل إذ امتنع خرج من المدينة، ثمّ من مكّة، وأقصى ما يُستفاد من أجوبته في جميع المراحل:

إنّه لا يعطي الدنيّة، وسيختار القتل الكريم على البيعة الذليلة الصاغرة..

هذا هو موقف الإمام (علیه السلام) إلى يوم وصول كتاب يزيد إلى ابن عبّاس!

فيما يعتبر القرد المسعور يزيد مجرّد ما يسمّيه هو (الالتواء بالبيعة)و(الخروج إلى مكّة) إرصاداً للفتنة، وتعرّضاً للهلكة، وتسبيباً للفرقة، وشقّاً للعصا، وموجباً للقتل المبرّر المعذور.

فهو لم يذكر أيّ نشاطٍ لسيّد الشهداء (علیه السلام) يستدلّ به على ما ذهب إليه سوى أنّه التوى بالبيعة ليزيد القرود ولحق بمكّة، واستنتج أنّه يرصد بذلك للفتنة ويعرّض نفسه للهلكة..

فلا خُطَب، ولا تجييش، ولا تصريحات مهيّجة، ولا تجمّعات، ولا

ص: 131

تحريك مجتمعات، ولا أيّ دليلٍ آخَر يمكن أن يذكره القرد الهائج الطاغي سوى أنّه (التوى على بيعته ولحق بمكّة)، وما سيذكره بعد قليلٍ من المكاتبة بينه وبين بعض الرجال من شيعة الإمام الحسين (علیه السلام) من أهل العراق.

وبهذا أراد يزيد الخمور أن يبرّر هجومه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وتولّعه في الولوغ بدمه المقدّس الزاكي، إذ أنّه ابتدأ التهديد والهجوم، وراح يُلقي باللائمة على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فزعم أنّه ابتدأ بالتحرّك ضدّه، والحال أنّ مجريات الأحداث لم تسجّل على سيّد الشهداء (علیه السلام) أيَّ موقفٍ زعمه اللئيم كذباً في تلك الأيام، بل لم يستدلّ بها هو نفسه في كتابه لابن عبّاس أو لغيره.

الإيضاح السادس: وضع الإمام (علیه السلام) وابن الزبير في موقفٍ واحد

شنشنةٌ نفثتها السقيفة منذ أن جرّت الدواهي على الإسلام وعلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وخليفة رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، حتّى صار يُقرَن بتلك النظائر!

وهكذا عمل القرد الهائج في ظِلال السقيفة، حتّى صار يقرن إمامَ الخلق بأمر الله وسيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام)

ص: 132

بابن الزبير!

فإنّ ابن عمّك حسيناً وعبد الله ابن الزبير لحقا ...

حسب رواية الشجريّ وسبط ابن الجوزيّ.

ثمّ يكتفي بتكليف ابن عبّاسٍ بمهمّة التعامل مع الإمام الحسين (علیه السلام) ومعالجة الموقف معه، إذ أنّه يعتبر نهاية ابن الزبير وخاتمته معلومة، وليس ثَمّة من يطالب له إذا قُتل، ولا يحتاج للاعتذار من قتله إلى أحد..

فإمّا ابن الزبير: فهو صريع القنا وقتيل الله.

وفي لفظ سبط ابن الجوزيّ:

فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف.

هذا هو التضليل والخداع، وقلب الموازين، وتزييف الحقّ وتمويه الباطل، إذ يوحّد يزيد اللئيم الصورة، ويحشر فيها خير الخلق وشرّ الخلق، والحقّ المطلق والباطل النزق، ويصوّرهما في صفٍّ واحد، ويُجري عليهماحكماً واحداً، بَيد أنّه يتريث مع سيّد الشهداء (علیه السلام) بمقدار ما يسعى به ابن عبّاس.

فهو يوحي من خلال هذا الدمج المشوّه إلى المتلقّي أنّ يزيد الخمور هو الحقّ، وهو الحاكم الإلهيّ، وأنّ ابن الزبير من العُصاة العتاة المردة الّذين يأمر الله بقتلهم، لشقّهم العصا وتفريقهم الأُمّة، ثمّ يُجري ذلك على سيّد الشهداء وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .

نستغفر الله ونستجير به وبآل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من هذا التصوير!

ص: 133

وربّما أفاد أنّ ابن الزبير يقدّم لهم الذرائع الكافية لقتله، من خلال تمرّده وإعلانه الخروج عليهم وسعيه المكشوف للاستئثار بالسلطة ومجاهرته في طلب الدنيا، أمّا سيّد الشهداء (علیه السلام) فليس ثَمّة ذريعةٌ في قيامه من هذه الذرائع.

الإيضاح السابع: النزاع على السلطة

يبدو من نصّ الكتاب أنّ القضيّة محصورةٌ عند يزيد القرود بالمُلك فقط، والمُلك عقيم، فلا يريد أن يرى له منازعاً في ذلك، فالقصّة كما يرويها يزيد المخمور أنّ جماعةً (منّوا الإمام بالخلافة، ووعدهم هو (علیه السلام) بالإمارة)، وقد قبل منهم هذا الوعد، وسعى إليهم، وبهذا نازع يزيد مُلكه، وغضّ النظر عن واشج القرابة والرحم والحرمة، وبالتوائه عن البيعة،والتحرّك لسلب الملك من يزيد القرود قطع الإمام _ حسب زعم يزيد فضّ الله فاه _ الرحم وبَتّه..

لا تسمع في كلامه سوى حديث المُلك والسلطان، والعلاقات القبليّة والعشائريّة، وكأنْ لا نبيّ بُعث، ولا قرآن نزل، ولا دين شُرّع، ولا خلافة ولا وصاية.

وكانت أُنشودته الّتي يتغنّى بها:

لعبت هاشمُ بالمُلك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

ص: 134

الإيضاح الثامن: الافتراء على الإمام (علیه السلام)
اشارة

تضمّن الكتاب جملةً من الافتراءات والأكاذيب الخطيرة جدّاً الّتي رمى بها القردُ القاذورة معدنَ الطهر ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بكلّ صراحةٍ ووقاحةٍ ودناءةٍ لتحقيق أغراضه المشؤومة، وسنتابعها من خلال الإشارة إلى ما تضمّنَته من مخازٍ وآفاتٍ ودنيّةٍ ورذائل وعارٍ وشنارٍ وصغار، على قائلها لعائن الله:

الدنيّة الأُولى:

تضمّن الكتاب جملةً من الافتراءات والأباطيل الّتي ينبغي أن تُعالَج كلُّ واحدةٍ تحت عنوان، لولا أنّها أكاذيب مستهلكة ممجوجة تافهة رخيصة، يعلم مَن يُطلقها قبل مَن يسمعها أنّها كذبٌ وافتراءٌ ومكرٌ وختلٌ وعتوٌّ وطغيانٌ على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السلام) .

إنّ القوم منذ يوم السقيفة وقبلها أسرعوا في قلب الموازين ونكس القيَم، ولبس الدين لبس الفرو مقلوباً، وتحريف القرآن ومعانيه، وتشتيت القلوب والأذهان، وتهديم بناء العقل البشريّ والبناء النفسيّ والروحيّ والعاطفيّ الّذي بناه سيّد الأكوان وأشرف الخلق النبيّ محمّد الأمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصيّه الناصح، وبناء عقلٍ حشوه الشرك وطلاؤه الإسلام، يرضى بالمتناقضات ويخنع للترّهات، فزيّفوا وحرّفوا وشكّكوا، ودخلوا قرية الدين

ص: 135

فدمّروها تدميراً، وهذا هو شأن الملوك والطواغيت إذا دخلوا قرية..

فنثروا هذا البيدر العفن من الأكاذيب والقيَم الزائفة الباطلة، ودار حمار طاحونتهم على نفس المنوال، فجعلوا عصيانهم عصا الطاحونة، وجعلوا القلوب الّتي تطحنها فتحوّلها إلى دقيقٍ مسمومٍ يعادي الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويبغض أهل بيته (علیهم السلام) ، وجعلوا أصنامهم هو الحبل الّذي ينبغي التمسّك به مقابل حبل الله الممدود بين الله وبين عباده (كتاب الله والعترة).

وقد جهد الأعداء على تصوير ذلك وتسويغه يوم سلبوا الإسلام عزّتهوبزّته، وأخّروا مَن قدّمه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقدّموا الذنابى، واغتصبوا حقّ أمير المؤمنين (علیه السلام) فعبدوا العِجْل بأمر السامريّ من دون الله..

فجعلوا أيّ مطالبةٍ بالحقّ المغصوب ولو بالكلمة شقّاً للعصا وتفريقاً للجماعة، وسمّوا العام الّذي خذل الناس فيه ريحانة النبيّ الإمام المجتبى (علیه السلام) وأفلتوا من التمسّك بالعروة الوثقى واستبدلوا غصن شجرة طوبى بعود الشجرة الملعونة في القرآن (معاوية): عام الجماعة!

والكلام في هذا يطول، وقد أتينا عليه في مواضع كثيرة من كتاب (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة)، وقد جاء في موضعٍ منه عند ذِكر المحاججة بينه وبين ابن الأَمة الفاجرة _ حينما دخل عليه القصر قبل شهادته، وافترى عليه الجرو الأُمويّ بهذه الافتراءات _ ردٌّ عنيفٌ من المولى الغريب (علیه السلام) ، ردٌّ أتى على بنيانه من القواعد وصعقه، وأبان الحقّ

ص: 136

وكشف الدجى بنيّر كلماته الّتي أثبت فيها أنّ ابن زيادٍ ومَن سلّطه على رقاب المسلمين هم الّذي شقّوا العصا وفرّقوا الكلمة وشتّتوا الجماعة ((1)).

الدنيّة الثانية:

إنّ مَن تسلّط على الناس بالحيلة والغلبة والقهر، ولم تكن الأُمّة مُجمعةٌعليه، فهو لم يصل إلى سدّة الحكم والسلطان بجعلٍ وتسديدٍ من الملِك المنّان، بل اختلسها اختلاساً، وغصبها غصباً من الولي الّذي جعله الله إماماً مفترض الطاعة وأَولى بالمؤمنين من أنفسهم، والإمام العدل الّذي جعل الله له الولاية على الخلق لم يُخلَع، ولن يُخلع بالغلبة والحيلة، ولم تسقط ولايته بإعراض جميع الخلق عنها، كيف وقد كان فيهم الكثير ممّن يعتقد بها ويدين الله بإمامته وحاكميّته وولايته!

فيزيد _ ومَن سبقه وحمله على رقاب الناس _ لا يمكن أن يكون إماماً مجعولاً من الله، وإنّما أخذها بالغلبة والقهر والحيلة والغدر، فلا هو منصوبٌ بالنصّ من الله (تعالى)، ولم يجتمع عليه مَن يسمّونهم بأهل الحلّ والعقد، ولا أفرزته شورى، ولا اجتمعت عليه الأُمّة.. فبأيّ معيارٍ استولى على الحكم؟ ومن أيّ شريعة استمدّ قوّة السلطان؟

فإذا كان الإمام وصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وخليفته الإمام الحسين والحسن

ص: 137


1- أُنظر: مسلم بن عقيل، وقائع السفارة (المجموعة الكاملة): 6 / 239 وما بعدها.

المجتبى (علیهما السلام) ومن قبلهما الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الوصيّين هم أئمّة الحقّ المنصوص عليهم من الله والمفروضة طاعتهم بنصّ رسول الله، فمخالفهم يُسمّى خارجيّاً مفارقاً للجماعة وشاقّاً للعصا!

الدنيّة الثالثة:

معاوية _ ومن سبقه _ ليس بخليفة، وبالأولويّة لم يكن ابنه يزيد خليفة،لأنّ معاوية لم يأخذ الحكم وفق شريعةٍ أقرّها الإسلام، ولا نصّ عليها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا ارتضاها ربّ العالمين، فكيف يخلّف عليها ابنه؟! أضف إلى ذلك أنّ وثيقة الصلح قد نصّت على عدم توريثه.

والإمام الحسين (علیه السلام) هو الخليفة بالحقّ، والوصيّ المنصوب عليه، فمَن تمسّك به وأطاعه فهو في طاعة الله، ومَن خالفه فقد هوى وغرق وشقّ العصا.

الخارجيّ هو معاوية ويزيد وابن زياد، ومَن تبعهم ولهث خلفهم ولحس قيأهم..

أمّا الإمام المعصوم، فهو الصراط المستقيم، ومَن كان في طاعة الحسين (علیه السلام) فهو في طاعة ربّ العالمين، فهو المحور وبهم الجماعة، ومن فارقها شبراً أو فتراً أو أقلّ من ذلك فقد شقّ العصا ودعا إلى الفرقة وشتّت الكلمة، ورجع إلى الجاهليّة القهقرى، وأكبّه الله منكوساً في جهنّم واللظى.

وهذه هي سنّة الله وسنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وليس كما يصوّره يزيد وأسياده،

ص: 138

والإمام الحقّ المنصوب من الله هو الجماعة، وبه ومعه تكون، وكلّ من خالف سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وقاتله وأعان عليه فهو خارجيٌّ خرج على إمام زمانه.

الدنيّة الرابعة:

يزيد وأسلافه هم أتون الفتنة، وكانون النار الخبيثة المشتعلة من عظام الأبرياء والمؤمنين والأتقياء، ولهيب العار الّذي يشرّد بالناس في عقائدهم وأفكارهم ودينهم وكتابه ونبيّهم وإمامهم، لقد كذبوا على الله ورسوله، وغيّروا وبدّلوا دين الله، ولا زالت صفحات التاريخ تأنّ من احتواء ما فعلوه، ولا زال المُراجع للتاريخ يصيبه الدوّار ويفغر فاه ويغلبه الغثيان من التردّد على سطور الكتب الّتي استعرضت فعالهم الّتي أرجعوا بها الناس إلى الجاهليّة الأُولى وعبادة الأوثان الّتي أنشأتها السقيفة..

لقد اعتبر يزيد المتوحّش اجتماع الأُمّة المنكوسة المنقلبة على أعقابها على سلطان أبيه وسلطانه جماعة، وجعل مَن يعترض عليه ويأبى التسليم والخضوع والخنوع لسلطانه دعوةً للأُمّة للرجوع إلى الفتنة والحروب والتشتّت، وحذّر من (ردّ الأُمّة إلى الفتنة) بعد أن استوسقت له ولأبيه الدنيا بعد أن قتلوا الإمام أمير المؤمنين وولده الإمام الحسن المجتبى الأمين (علیهما السلام) .

ص: 139

الدنيّة الخامسة:

بماذا استحلّ الخبيث النجس نسبة الإرصاد للفتنة وشقّ العصا والسعي في الفرقة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟بل حسب ما ورد في شعره نسب إليه البذخ والأشر والبطر، والّذي تزلّ به القدم، ويتّهمه بالتخطيط للحرب والشروع بها: «يا قومنا لا تشبّوا الحرب إذ سكنت»، ويدعوه للتمسّك بحبال السلم: «وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا»، باعتبار أنّ الحرب قد أبادت مَن قبلهم، وزعم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يجانب الإنصاف مع قومه، ويطلب ما يطلب فخراً بأُمّه لا غير.

على ماذا اعتمد، وإلى ماذا استند، فرمى سيّد الشهداء (علیه السلام) ومعدن الطُّهر بهذه الافتراءات الوقحة؟!

وغاية ما ذكره القرد المخمور المسعور أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد التوى ببيعته ولحق بمكّة!

تماماً كما هم أسلافه الّذين حملوه على رقاب الناس حينما رموا أباه أمير المؤمنين (علیه السلام) ومولى الموحّدين بهذه (الصفة البائسة) الثابتة عندهم يوم تقبّض عن بيعتهم.

الدنيّة السادسة:

إنّ يزيد القرود يريد أن يرسم لعصره وللتاريخ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو

ص: 140

الّذي خالف وخرج وشرع في الحرب والهجوم؛ ليبرّر فعلته ويسوّغ قتله.. ولو كان سيّد الشهداء (علیه السلام) باقياً في المدينة مغلِقاً عليه بابه، فإنّ الالتواء بالبيعة كافٍ لتوجيه جميع ما ذكره، ولهجم عليه داره كما هجموا على دارأبيه، ولَقتَلَه!

هو لا يريد إلّا أن يقتل سيّدَ الشهداء (علیه السلام) ، بَيد أنّه يريد أن يجعل قتله تحت عناوين رنّانةٍ تصلح أن تُقنع الأجلاف والزبد المتراكم تحت قدميه من أتباعه وأتباع السقيفة والمتخاذلين..

كلّ واحدةٍ من العناوين الّتي ذكرها _ وسيّد الشهداء (علیه السلام) منها براء _ هي كافيةٌ لتسويغ محاربته للإمام (علیه السلام) وقتله، من شقّ العصا، والسعي في الفرقة، وإعادة الناس في الفتنة، ويعني بها أنّ الناس قد خضعوا لأبيه وساروا على منهاج السقيفة ودين الأُمويّين بعد أن قتلوا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأخذوها عنوةً من الإمام الحسن المؤتمن (علیه السلام) ، وصفا لهم الملك، فلماذا يريد أن يُرجع الناس إلى حربٍ أتت على أهله من قبل؟ فهو يريد أن يقدّم الإمام الحسين (علیه السلام) باعتباره البادي بالحرب والمخطّط للهجوم على المُلك الّذي خضع له الناس، فيفرّقهم ويشتّتهم عن سلطان القرود..

وبهذا يبرّر فعلته في الإقدام على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في الشهر الحرام، باعتباره هو البادئ، والحال أنّ الإمام الرضا (علیه السلام) يقول في حديث:

«إنّ المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتك فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا،

ص: 141

وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرعَلرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حرمةٌ في أمرنا ...» ((1)).

وفي كلامه الشريف إشارةٌ واضحةٌ إلى أنّ القوم هم الّذين بدؤوا وقاتلوا جدّه الحسين (علیه السلام) في الشهر الحرام وهجموا عليه، وليس هو الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي بدأهم وقاتلهم!

الإيضاح التاسع: مكاتبة أهل الكوفة

في هذا الكتاب _ كما هو في كتب يزيد الأُخرى الّتي أشار فيها إلى مكاتبة أهل الكوفة _ إقرارٌ صريحٌ من يزيد الخمور أنّ أهل الكوفة _ أو على حدّ لفظ ابن سعد: «أهل هذا المشرق» _ هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) ، وهم الذين بدؤوا بالكتابة له، وليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي دعاهم وحرّضهم واستنصرهم واستنهضهم فأجابوه!

وثَمّة فرقٌ كبيرٌ جدّاً بين الفرضين، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) _ حسب الفرض الثابت تاريخيّاً، وقد أقرّ به الخبيث هنا وفي مواضع أُخرى _ لا يكون قد قصدهم وبنى على استجابتهم وخطّط للقيام بهم ومعهم من قبل، وليس الإمام (علیه السلام) هو الّذي حرّضهم وأثارهم وجيّشهم ودعاهم إلى أمرٍ أراده، فبحث له عن أنصارٍ وأعوانٍ وسيوفٍ وجيوشٍ وعساكر وغير ذلك!

ص: 142


1- الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 2.

وقد سمعنا سليمان بن صُرَد الخزاعيّ وهو يخطب على مَن اجتمع فيبيته فيقول:

وهذا الحسين بن عليّ قد خالفه، وصار إلى مكّة خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

فقال القوم: بل ننصره ونقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه، حتّى ينال حاجته ((1)).

فهو يصرّح لهم أنّ النصرة المطلوبة منهم لسيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هي الذبّ عن إمامهم، لأنّه خرج إلى مكة خائفاً من طواغيت بني أُميّة!

فالإمام (علیه السلام) لم يستنصر، ولم يستنهض، ولم يرصد الكوفة، وإنّما أهل الكوفة بلغهم الخطر المُحدِق بالإمام (علیه السلام) ، فرأوا أن يعلنوا نصرتهم له بالدفاع عنه ومنع طواغيت بني أُميّة عن قتله وسفك دمه.

الإيضاح العاشر: إقرار القرد المخمور بقلّة مَن كاتب ودعا

لقد تبيّن لنا في غير موضع، سيّما في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن

ص: 143


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیهما السلام) : 1 / 190، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 164.

عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة)، أنّ الكوفة كانت معسكراً موالياً للسقيفة ودينها ورموزها، وأنّ الأكثريّة الساحقة الّتي تغطّي كلّ الجغرافيا السكّانيّة كانوا من أتباع العجل والسامريّ، وأنّ الّذين كاتبوا وأعلنوا النصرة في الغالب كانوا من الزبد الطافح الضائع في رحلته على أمواج المصالح.

أمّا الشيعة في الكوفة، فبالرغم من كونهم أكثريّةً بالنسبة إلى باقي البلدان الّتي لم يكن فيها محبٌّ لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلّا نادراً، فإنّهم في الكوفة أقلّيّةٌ إذا قيسوا إلى سكّانها.

وقد تبيّن لنا في دراساتٍ سابقةٍ أنّ العدد المشهور المعروف (18 ألفاً) لم يشكّلوا يومها حتّى خُمس عدد السيوف المقاتلة في الكوفة، ولا يكونوا إلّا أقلّ بقليلٍ من عدد أتباع هاني إذا ركب بأحلافه من كِندة، إذ أنّه كان يركب في ثلاثين ألف دارع، والحال أنّ هاني زعيمٌ من زعماء مراد من مِذحج..

وأنّ الكوفة كانت بالأساس ثكنةً عسكريّةً مكتظّةً بالمقاتلين وعوائلهم وأُسَرهم، وهم مكتوبون في ديوان الدولة ويستلمون منها رواتبهم واستحقاقاتهم، ويتّبعون أوامرها وينتظم رجالها في قطعاتٍ وراياتٍ تتحكّم الدولة بهم في إرسالهم في المشاتي والمصايف والمغازي والحروب..

وأنّ هذه التشكيلة لم تُمسّ ولم تتضعضع، وإنّما بقي العسكر متماسكاً ثابتاً بكلّ قطعاته واختصاصاته من جيشٍ وشرطةٍ وحرسٍ وقوّات أمنٍ

ص: 144

داخليّ ((1))..

فلا يكون مَن كاتب وبايع إلّا أقلّيّة ليس أكثرهم من الشيعة، وقد تبيّن لنا موقفهم لحظة رفع المولى الغريب (علیه السلام) شعاره في الكوفة.

كيف كان، فإنّ هذه الحقيقة، بالإضافة إلى ما يدلّ عليها من نصوصٍ تاريخيّةٍ ومشاهد تتجلّى للمتأمّل بمجرد تصفّحه للتاريخ، بعيداً عن الضوضاء الّتي تحدثها حركة 18 ألف من الرجال في وضع متأزّم مكفهر..

فإنّ ما في هذا الكتاب من تعبير القرد المسعور يشير إلى ذلك بوضوح، مع ما يُلاحَظ في كتبه وكلامه دائماً من محاولة تهويل الأحداث بما يخدم مصالحه، ويحاول الإيحاء أنّ الإمام (علیه السلام) قد جيّش وحرّض وجمع وأعدّ واستعدّ وأثار عليه، ممّا اضطرّه للدفاع عن نفسه وحماية مُلكه وسلطانه.

فالمفروض به _ وهو يحاول أن يرسم صورةً لحركة الإمام الحسين (علیه السلام) باعتباره مهاجماً _ أن يزعم هنا أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو الّذي حرّك وحرّض ودعا وكاتب، والحال أنّه يصرّح أنّ أهل الكوفة هم الّذين كاتبوا ودعوا.

وينبغي حسب ما يريد تصويره أن يهوّل الموقف ويحشّد في المشهد خطراً ملحوظاً، كما صنع عمّالُه في كتبهم وتقاريرهم المرفوعة إليه من

ص: 145


1- أُنظر للتفصيل: (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة).

التهويل، وزعم أنّ الناس يجتمعون حول سيّد الشهداء (علیه السلام) وما شاكل.. فيزعم هنا يزيد أنّ بلداً من البلدان بحجم الكوفة _ باعتبارها موطن عسكره وثقله المقاتل _ قد تضعضع كلّه وانصاع ودعا الإمام (علیه السلام) ، لتكون له حجّةً ودليلاً على ما يريد أن يلصقه بالإمام (علیه السلام) من السعي لتقويض حكمه والانقضاض عليه واقتلاع الشجرة الملعونة وقطع امتداداتها لتبقى جذورها في قاع جهنّم.

قال في لفظ ابن سعد:

(ونحسبه جاءه رجالٌ من أهل هذا المشرق).

وفي لفظ غيره:

(أقواماً من أهل الكوفة).

(أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق).

«رجال»، «أقواماً».. كلاهما دالّان على التبعيض بوضوح.. «أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق» تبعيضٌ في تبعيض؛ فهم رجالٌ من شيعته، وليس كلّ شيعته، ومن شيعته من أهل العراق بالخصوص، فلا أهل العراق جميعاً كتبوا، ولا شيعته من أهل العراق جميعاً كتبوا!

الإيضاح الحادي عشر: يمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمارة
اشارة

لقد طفح التضليل والكذب والافتراء من بين سطور الكتاب، وهو حلقةٌمن حلقات الحرب الإعلاميّة الضخمة المجرمة الّتي مارسها يزيد

ص: 146

المجون ومَن سلّطه على رقاب المسلمين ضدّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لعرض الإمام (علیه السلام) في مشهد الطالب للسلطة والحكم والدنيا، وتصويره خارجيّاً، والعياذ بالله.

ويمكن الإشارة إلى ما في هذا الإيضاح من الاستطالة على الإمام (علیه السلام) المظلوم من خلال الاستطالات التالية:

الاستطالة الأُولى: الكذب الصريح

لقد عهدنا الكذب في كلام المضلّين من أمثال آل أبي سفيان ومَن سلّطهم على رقاب العالمين، وما أكثر الموارد الّتي تجد فيها الكذب المفترع والافتراء المفضوح الّذي مارسه يزيد الفسق والفجور وأزلامه وجِراؤه بحقّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته.

وقد مارسوا الكذب والافتراء وجهاً لوجهٍ معهم أحياناً، كما فعل ابن الأَمة الفاجرة مع المولى الغريب (علیه السلام) حينما دخل عليه في القصر، ولو أردنا أن نسرد لذلك الأمثلة لَطال بنا المقام، ويكفي أن نشرع من هنا بتعداد الموارد لنتبع قبل أن نمضي قدماً في متابعة الأحداث إلى شهادة أبي الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) .

وربّما كان هذا المورد الّذي نحن بصدد الحديث عنه من أوضح وأبرزالنماذج، إذ يزعم القرد المتميّع الخليع أنّ القوم كانوا يكاتبون الإمام الحسين (علیه السلام) فيمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمارة!!

ص: 147

وهذه كتب أهل الكوفة بنصوصها المأثورة وصلت بأيدينا، كما وصلت بأيدينا ردود سيّد الشهداء (علیه السلام) عليها، فأين كان فيها ما يزعم هذا الوغد الحقير؟

الاستطالة الثانية: محاولات التضليل

لقد صرّح الإمام (علیه السلام) في أكثر من موضعٍ ومع أكثر من شخصٍ أنّه إنّما خرج من المدينة تجنّباً لملاحقة كلاب بني أُميّة المسعورة، وابتعاداً عن مخالب القرود البغيّة الباغية المغرورة الّتي أبت إلّا أن يُحمَل إليها رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ثمّ صرّح في أكثر من موضعٍ ومع أكثر من شخصٍ أنّه إنّما خرج واستعجل الخروج من مكّة لأنّه إنْ بقي سُفك دمه واغتاله القوم أو أُخذ أخذاً.

بالرغم من ذلك، فإنّ الوحوش الأُمويّة الكاسرة ما تفتر عن التضليل وتلوين خروج الإمام (علیه السلام) بلون الخارجيّ، لتتمكّن من استهدافه فيسوغ لها قتله بموافقة الرأي العام.

وما فتر اللعين يصبغه بصبغة الدنيا والصراع على حطامها، ممّا يحيّدالناس (العقلاء)، ويطمع فيه أهل الدنيا والإغراء، وينفر منه أهل الزهد والحياء.

لقد حاولوا جهدهم أن يحوّلوا مظلوميّة الإمام الحسين (علیه السلام) وملاحقته

ص: 148

وقتله إلى حقٍّ مسلَّمٍ لهم في محاربته، فهو الّذي يريد أن يسلب منهم سلطانهم، والملك عقيم، فهاجمهم فدافعوا عن أنفسهم فقتلوه، لأنّه حاربهم بأماني الخلافة، وحارب مَن معه بأماني الإمارة!

الاستطالة الثالثة: منّوه الخلافة!

ورد اللفظ عند ابن سعد _ وهو من أقدم المصادر _ :

ونحسبه جاءه رجالٌ من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة ((1)).

ثمّ ورد في مصادر متأخّرة عنه بلفظ:

يمنّونه بالخلافة ويمنّيهم الإمارة ((2)).

ويفيد نصّ ابن سعدٍ أنّ ثمّة رجالاً جاؤوا إلى الإمام (علیه السلام) من أهل هذا المشرق، وربّما قصد باسم الإشارة (الكوفة) بالخصوص، فهم مشرقه، وربّما استخدم كلمة «أهل هذا المشرق» للتهويل والتضخيم.

وزعم أنّ رجالاً أتوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يشر النصّ إلى الكتب

ص: 149


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الأمالي للشجري: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

والرسائل الّتي وردت إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فمَن هم هؤلاء الرجال الّذين قصدهم من دون تحديد؟ والحال أنّ كلّ مَن جاء الإمام (علیه السلام) من أهل هذا المشرق كانوا رسلاً، ليس إلّا.

مَن ذا كان يمنّي الإمام (علیه السلام) بالخلافة؟ ولو اعتبر دعوات أهل الكوفة وكتبهم وُعُوداً منهم بالخلافة للإمام (علیه السلام) ، فمن أين زعم أنّ الإمام (علیه السلام) يمنّيهم بالإمارة؟

سبحانك اللّهمّ، إنّه إفكٌ عظيم! إنّه كذبٌ عظيمٌ يهتزّ له عرش الله، واتّهامٌ صريح وقح للإمام (علیه السلام) ، وافتراءٌ عليه، ليؤكّد أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما كان (يطلب السلطان).. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الاستطالة الرابعة: شاهدٌ على كذب يزيد

لا يخفى أنّ ظاهر النصّ الوارد لرسم هذا الخبر يكاد يصرّح أنّ يزيد أرسل الكتاب بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، أو إبّان وصوله إلى مكّة.

فقد جاء في الكتاب _ حسب لفظ ابن سعد ومَن والاه _ : (يخبره بخروج الحسين إلى مكّة).

وفي خبر الشجريّ: (كتبه لمّا امتنع الحسين من البيعة ولحق بمكّة).

وفي لفظ سبط ابن الجوزيّ عن الواقدي: (لمّا نزل الحسين مكّة).

فمتى وصلت كتب أهل الكوفة ورسلهم إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسيّد

ص: 150

الشهداء (علیه السلام) في الطريق أو أنّه دخل مكّة توّاً؟

أضف إلى أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يردّ على رسائل الكوفيّين ورسلهم إلّا متأخّراً بعد أن اجتمعت عنده الكتب، فردّ عليهم جميعاً في الخامس عشر من شهر رمضان على يد سفيره المولى الغريب (علیه السلام) وآخر رسولين قدما عليه من أهل الكوفة، أي: بعد زهاء الشهر ونصف الشهر من دخوله إلى مكّة، ولم يصل المولى الغريب بكتاب الإمام سيّد الشهداء (علیهما السلام) إلّا في الخامس من شهر شوّال.

فكيف قرّر يزيد فريته على سيّد الشهداء (علیه السلام) في قصّة مكاتبته مع أهل الكوفة؟

وإن قصد القرد المخمور ما جرى من مكاتباتٍ بين الإمام (علیه السلام) وبعض أهل الكوفة أيّام مُلك أبيه معاوية بعد شهادة الإمام المجتبى (علیه السلام) ، فهو بعيد، ومع ذلك فقد كذب وأثم وافترى على الله وعلى الإمام (علیه السلام) ، لأنّ الإمام (علیه السلام) أمرهم يومها بالسكوت ولزوم الأرض، ولم يَعِد أحداً بالإمرة.

الاستطالة الخامسة: اغترار الإمام (علیه السلام) بوعود الناس!

أشار القرد الأهوج الأرعن من خلال كلامه إلى جسارةٍ وقحة، ومارس جلفيّةً جافية، حيث حاول عرض الإمام (علیه السلام) في صورة من غرّته أماني القوم بالخلافة، وراح يمنّيهم هو بالإمارة.ولا نشكّ أنّه كان يعلم أنّ الخلافة حقّ الإمام المنصوب من الله، وأنّ

ص: 151

رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وأنّ الإمام (علیه السلام) هو خليفة الله لا غيره، وأنّه لا يعنيه دعوة الناس له ما لم تكن طاعةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، تماماً كما فعل أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) ومولى الموحّدين المنصوب يوم الغدير إماماً وخليفةً ووصيّاً على العالمين، يوم جاءه القوم يهرعون وانثالوا عليه من كلّ جانب، فردّهم؛ لأنّهم لم يبايعوا على طاعة الله، وإنّما بايعوا وفق سياقات السقيفة، ورأوا فيه تالياً لرجال السقيفة، ورابعاً بعد ثلاث، أفرز أحدهم السقيفة، والثاني التعيين، والثالث الشورى.

ولو بايع الناس يومها أمير المؤمنين (علیه السلام) امتثالاً لأمر الله وطاعةً لما أمر به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم الغدير، لما تأخّر الإمام (علیه السلام) لحظةً واحدة.

أيغترّ الإمام (علیه السلام) بأماني يعده بها الناس، والدنيا عنده أهون من عفطة عنز؟

وهل ينتظر الإمام (علیه السلام) أن يعده الناس بالخلافة؟

وهل يغترّ الإمام (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن الإمامة وعلم الإمام _ بوعودٍ كاذبةٍ باهتةٍ من قومٍ يعرفهم، وقد عاش معهم محنة أبيه وأخيه، وعرف تاريخهم سابقه وحاضره؟

إنّه افتراء موجع أن يفترض في الإمام (علیه السلام) أنّه إنّما تحرّك اغتراراً بوعود قومٍ كاذبين، سعياً إلى سلطان الدنيا، حتّى يبادلهم الوعود بالوعود، والمصلحةبالمصلحة، والمنفعة بالمنفعة، وانتهاز الفرصة بتوفير الفرص الدنيوية!

ص: 152

الإيضاح الثاني عشر: قطع الرحم وبتّه

وصل الكتاب إلى ابن عبّاس إبّان وصول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، وزعم الرجس العاقّ الشاقّ الغشوم الظلوم أنّ ثمّة رحماً واشجاً وإصارةً بينه وبين بني هاشم.

وقد علمت واشج ما بيني وبينكم من القرابة والإصارة والرحم.

وكأنّه يريد أن يقول: إنّه ملتزمٌ بهذه الرحم، مهتمٌّ بها، حريصٌ عليها، وأنّ خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) هو الّذي يسعى في قطعه..

وقد قطع ذلك ابن عمّك حسين وبتّه.

قتلُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته وسبيهم ليس قطعاً للرحم، فيما يكون مجرّد خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة حمايةً لحرمة حرم النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وصَوناً لدمه المقدّس قطعاً للرحم عند هذا المسخ المنكوس المتعوس!!!

ما الّذي فعله سيّد الشهداء (علیه السلام) حتّى افترى هذا الوغد الكاسر هذه الفرية النتنة وزعم هذا الزعم الوقح؟ لم يفعل سوى أنّه تقبّض عن البيعة وأبى أن يناول القرود.

إنّ ما يريد أن يوصله ابن آكلة الأكباد إلى ابن عبّاس _ ومَن بلغ _ من خلال هذه الفرية أنّ قتله لسيّد الشهداء (علیه السلام) وسبيه لعيال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) إنّماكان سببه هو الإمام (علیه السلام) نفسه، لأنّه هو الّذي أبى أن يناول، فصار سبباً

ص: 153

لهجوم القرود عليه وسفك دمه المقدّس الزكيّ، فهو الّذي كان سبباً لقطع الرحم، وإنّما كان يزيد في موقف المدافع المضطرّ لحماية سلطانه ووجوده وكيانه، في محاولةٍ بائسةٍ منه لتدليس الموقف بالإشارة إلى أنّ الإمام (علیه السلام) كان هو البادئ..

بل ربّما أراد أن يوحي للمتلقّي أنّ إقدامه على ارتكاب الجناية العظمى وسفكه الدم المقدّس الّذي سكن الخلد إنّما كان يهدف إلى حماية الرحم وتوحيد الأُمّة ولمّ شملها وجمع كلمتها!

الإيضاح الثالث عشر: الأمان والمساومة بالدنيا
اشارة

يمكن متابعة ما يتضمّنه هذا الإيضاح من خطيئةٍ وتجنٍّ من خلال الأُمور التالية:

الأمر الأوّل: تأخّر المقايضة

إنّ النصّ الذي ذكره ابن سعد _ وهو من أقدم المؤرّخين _ ومَن تلاه كابن كثيرٍ وغيره يخلو من عروض الترغيب وطرح المساومة بالمال وغيره، واحتوت التهديد والتهويل والإنذار بدقّ طبول الحرب وسفك الدماءوالقتل، وقد ختم كتابه بالأبيات الّتي مرّ ذكرها ((1)).

ص: 154


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

وقد وردت عروض الترغيب والإغراء والتغرير في كتبٍ تُعَدّ متأخّرةً بالنسبة لابن سعد، ومع ذلك فإنّ نسخة الكتاب المتأخّرة أيضاً جاء الترغيب فيها في ذيل الكتاب الّذي صدّره الخبيث بالتهديد والوعيد والإعلان عن الجرأة على الله والاستعداد الكامل التامّ لسفك الدم الزاكي الحرام من أجل الملك والسلطان.

الأمر الثاني: المقايضة

لقد هدّد القرد المسعور من خلال ما عبّر عنه بتعريض الإمام (علیه السلام) نفسه للهلكة لمجرّد التوائه بالبيعة، وغيرها من التعابير الوقحة الهابطة الّتي ذيّل بها كتابه، كما في المصادر، وبالأبيات الّتي مرّ ذكرها، وهي مشحونةٌ بالتهديد والوعيد والجرأة والعتوّ والطغيان على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السلام) ..

ثمّ عقّب كتابه بعد التهديد والوعيد والافتراءات والأكاذيب، فأعطى الأمان للإمام (علیه السلام) مشترطاً أن يُقبِل ويَقبل ويُنيب!

فإن قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأُجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإنْ طلب الزيادة

ص: 155

فاضمنْ له ما أراك الله، أُنفذُ ضمانك وأقوم له بذلك، وله علَيّ الأَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه.

عجِّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبلي، والسلام ((1)).

ويقصد بالإقبال أن يأتيه ويقبل به وينيب ويرجع إليه..

أفٍّ لهذا الكلام ما دامت السماوات والأرض، أن يولي الإنسان وجهه صوب القرود، إنّما هو الإدبار بعينه والارتكاس والانقلاب والرجوع إلى الحضيض.

أيُقال مثل هذا الكلام لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ويُطلَب من وجه الله الإقبال على العتلّ الزنيم يزيد؟!

لو أراد الإمام (علیه السلام) الدنيا لسخّرها كيف يشاء، ولما احتاج إلى عطاء الأنذال واللئام، بَيد أنّ عبيد الدنيا يتكلّمون بما يحسنون، وينطلقون من قيعان الغرائز وأوحال الشهوات ومستنقعات اللذّات، ويتكالبون على المال لأنّه مادّة الشهوات..

معاملةٌ هابطةٌ سافلةٌ ذليلةٌ لئيمةٌ عفنة، تُزكم الأُنوف وتجفّف الأرواح وتميت الحياة، وتشي بنذالة المتقدّم بها.

ص: 156


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، الأمالي للشجري: 1 / 182، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

يا له من حقيرٍ دنيٍّ متهالكٍ تافهٍ خبيثٍ خسيسٍ رجسٍ دنس! يكتبهذا الهراء، وهو يعرف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويعرف جدّه وأباه وأخاه، وقد شاهد بعينه المخمورة إباء آل أبي طالب وسموّهم وشموخهم وكرمهم وسخاءهم وعطاءهم وجلالة قدرهم وسموقهم ونَداهم.. وما قدر ما يريد أن يجريه على الإمام (علیه السلام) والدنيا كلّها طوع إرادته وخاضعةٌ لأمره؟

وهو لا يريد من الإمام (علیه السلام) أكثر من أن يناول ويقبل البيعة ولا يأبى عليه، فهو يخيّر الإمام (علیه السلام) بين القتل والمال! أيكون ملِكٌ متجبّرٌ عنيدٌ بهذا المستوى الصفيق المتدنّي من الحمق، ويكون أهوجاً إلى هذا الحدّ؟

والأدهى والأمرّ من ذلك أن يقول له: إن أبى إلّا الزيادة!! لا يدري أيضحك المرء أم يبكي من هذا الكلام الّذي جاوز حدود السخف وتسافل عن هراء، إنّه أشبه ما يكون بخنخنة القرود وزقحها منه بكلام مخلوقٍ يمكن أن يُطلق عليه اسم الإنسان.

فله عندي الكرامة!!

أتكون الكرامة عند أولاد البغايا ومعاقري الخمرة في دِنانها؟!

أتكون الكرامة عند مَن كرامتهم لا تعدو كرامة القرود والكلاب وخيام الدعارة وحارات البغاء وحانات الخمور وملاهي القمار؟!

فله عندي.. عند يزيد! يا لله! يا للكرامة الّتي أُهينت واحتُقرت، وهبطوا بها إلى قاعٍ لا قاع بعده، حتّى صارت الكرامة للحسين (علیه السلام)

ص: 157

خامس أصحاب الكساء الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهمتطهيراً عند يزيد!!!

الحسين (علیه السلام) .. الإمام.. خامس أصحاب الكساء.. سيّد الشهداء.. زين السماوات والأرض.. شنف العرش.. سيّد شباب أهل الجنّة.. حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .. معدن الكرم والكرامة وأصلها وفرعها وأُسّها..

الحسين (علیه السلام) .. الحسين (علیه السلام) .. الحسين (علیه السلام) ..

تكون له الكرامة عند ابن صخرٍ وهندٍ وكلّ فاحشٍ بذيءٍ سافلٍ ساقطٍ سكّيرٍ مخمورٍ منبوذٍ حقيرٍ رجسٍ نجسٍ دنسٍ قبيح؟!!

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

إنّها محاولةٌ بائسةٌ أُخرى لتحويل القضيّة إلى قضيّة مالٍ وسلطانٍ ومُلكٍ وراعٍ ورعيّةٍ ومساوماتٍ دنيويّة، من خلال منطق الإغراء وتأمين الغرائز والشهوات.. و«كلّ إناءٍ بالّذي فيه ينضحُ»..

الأمر الثالث: تقديم المواثيق

قدّم البغيّ يزيد المواثيقَ المؤكّدة والأَيمان المغلّظة الّتي يطمئنّ إليها ابن عبّاس، ويزعم أنّها ستكون بمستوىً تطمئن إليها نفس سيّد الشهداء (علیه السلام) القدسيّة..

ص: 158

- ونُعطه ما أحبّ من ذلك الأَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدةوما تطمئن إليه، إن شاء الله (تعالى) ((1)).

- وله علَيّ الأَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأُمور عليه ((2)).

تجاهل هذا الوغد ما فعله معاوية بالإمام أبي محمّدٍ الحسن المجتبى (علیه السلام) ، وما أعطاه من عهودٍ ومواثيق، وأعطاها لأخيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ جعلها جميعاً تحت قدميه، ونسي أو تناسى الكتاب الّذي أرسله سيّد الشهداء (علیه السلام) لأبيه معاوية حينما قتل الصحابيّ الجليل الشهيد المغدور عمرو بن الحَمِق الخزاعيّ!

وهل لبغيٍّ دعيٍّ سكيرٍ مخمورٍ مهارشٍ بالكلاب والقرود معاقرٍ للخمرة والقمار يمينٌ ومجالٌ للوثوق؟!

وقد حذّر أهل البيت (علیهم السلام) أن يُزوَّج المعاقر للخمرة أو يُشارك في تجارةٍ أو مال، فضلاً عن مثل هذه الأُمور العظيمة الّتي تتعلّق بالدماء الزاكية والأنفس القدسيّة!

وهل وفى أبوه أو أسلافه من مرتادي السقيفة المشؤومة وإفرازاتها كي

ص: 159


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

يفي هو؟!

ألم يصالح الإمام الحسن الأمين المجتبى (علیه السلام) ، ثمّ قتله الأدعياء وأبناءالأدعياء؟

ألم يغلق أمير المؤمنين (علیه السلام) بابه ويتاركهم، فهجموا عليه وهتكوا حرمة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وحرمة بيته، حتّى قتلوا ابنته وحبيبته وبضعته قتلةً فضيعةً اهتزّ لها عرش الله؟

أيّ مواثيقٍ وأيمانٍ لكَذوبٍ مارس الكذب في نفس هذا الكتاب؟!

أيّ مواثيقٍ وأيمانٍ مغلّظةٍ أو مخفّفةٍ لدعيٍّ انعقدت نطفته من حرامٍ في سلسلة أنساب اللئام، ونشأ في بيت دعارةٍ على موائد الخمرة تحت ظلال الأصنام، وترعرع في أحضان المومسات، وملأ كيانه عربدة القيان الثملات وغناء الجواري والغلمان، وازدحمت لحظات عمره بالموبقات واكتظّ سجلّه بالجرائم والآثام، وكان أكبر همّه في الدنيا أن يجالس (أبا قيس) قرينه ويراه سابقاً غيره من القرود، ويخاف من فراقها وفراق كلابه إذا فقد الحكم والسلطان؟!

الإيضاح الرابع عشر: إغراء ابن عبّاس

لقد وظّف القرد المهارش الأهوج أساليب الإغراء والنفخ والتضخيم والاستدراج مع ابن عبّاس، حيث وصفه بأوصافٍ ليست فيه جزماً،

ص: 160

وجعله كبير أهل البيت والمنظور إليه، وأشعره أنّه بمكانٍ من الوجاهة بحيث يمكنه أن يكفّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ويمنعه ويأمره وينهاه،وغيرها من الموارد الّتي ذكرناها قبل قليل.

ثمّ ذكر في ذيل الكتاب _ حسب رواية سبط ابن الجوزيّ _ ما يُثير الطمع ويسيل اللعاب المتكاثف من بريق الفضّة ولمعان الذهب ومادّة الشهوات وضامن بهارج الدنيا وزخارفها، فأكّد عليه أن يكتب له بكلّ حاجةٍ له إلى الوحش المتربّع على خزائن المال، فقال: «عجِّلْ بجواب كتابي وبكلّ حاجةٍ لك إليّ وقِبَلي» ((1)).

ص: 161


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

ص: 162

جواب ابن عبّاس
اشارة

روى ابن سعد فقال:

فكتب إليه عبدُ الله بن عبّاس: إنّي أرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له فيما يجمع الله به الأُلفة وتطفأ به النائرة ((1)).

وروى الشجريّ جواب الكتاب بتفصيل، كما فصّل في الكتاب نفسه:

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر حسيناً وابن الزبير ولحاقهما بمكّة.

فأمّا ابن الزبير: فرجلٌ منقطعٌ عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها علينا في صدره، ويوري وري الزناد، لا حلّل الله إسرارها، فأرى في أمره ما أنت راء.

ص: 163


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

وأمّا حسين: فإنّي لقيتُه، فسألته عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة حرفت به وعجّلت عليه، وأنظره رأيه، ولن أدع أداء النصيحة إليه في كلّ ما يجمع الله به الكلمة ويطفئ به الفتنة ويحقن به دماء الأُمّة.

وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به إن شاء الله، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا مُرصداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة، فكم من حافرٍ حفيراً لنفسه، وكم من آملٍ لم يؤتَ أمله، وكم من راجٍ لطول العمر مبسوطٌ له في بُعد الأمل، فبينا هو كذلك إذ نزل القضاء، فقطع أمله ونقص عمره، وأخرجه من سلطان الدنيا الفانية إلى سلطان الله وعدله في الآخرة. وخُذْ مع ما أوصيك به من النصيحة لهذه الأُمّة بحظّك من الركوع والسجود آناء الليل وتارات النهار، ولا يشغلك عن ذكر الله (تعالى) شيءٌ من ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما أنت مشتغلٌ به مِن ذات [الله] ينفع ويبقى، وكلّ ما أنت مشتغلٌ به عن ذات الله يضرّ ويفنى، فاجعل همّك فيما يُرضي ربّك، يكفك همّك.

داج حسيناً، وارفقْ به، ولا تعجّل عليه، ولا تنظره رأيه، عسى الله (عزوجل) أن يُحدث أمراً يلمّ به شعثاً ويشعب به صدعاً ويرتُق به

ص: 164

فتقاً، والسلام ((1)).

وروى سبط ابن الجوزيّ لفظ الجواب كتالي:

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة.

فأمّا ابن الزبير: فرجلٌ منقطعٌ عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لا فكّ الله أسيرها، فارأَ في أمره ما أنت راء.

وأمّا الحسين: فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألتُه عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه، وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرتَ إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويطفئ به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأُمّة.

فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً وأنت تريد لمسلمٍ غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافرٍ لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّلٍ أملاً لم يُؤتَ أمله، وخذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السنّة، وعليك بالصيام والقيام، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما اشتغلتَ به عن الله يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى،

ص: 165


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

والسلام ((1)).

* * * * *

إحتوى جواب ابن عبّاسٍ مضامين ومحتوياتٍ يمكن إجمالها من خلال الإشارات التالية:

المحتوى الأوّل: ما يراه ابنُ عبّاسٍ في نفسه

لقد أشار إليه يزيد في كتابه أنّه كبير أهل البيت والمنظور إليه، وكأنّه الآمر الناهي والشيخ المطاع والسيّد المحميّ والرأس في أهل البيت! فصدّق ابن عبّاسٍ ما نحله يزيد من ألقابٍ وصفاتٍ ومقامات، ويبدو أنّه كان يعتقد ذلك في نفسه دائماً، خصوصاً بعد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويبدو مِن تتبّع سلوكه وتعامله مع الإمامين الحسنين (علیهما السلام) أنّه كان يرى نفسه ندّاً لهما على الأقلّ، إنْ لم تفضحه تصرّفاته فتنمّ وتشي باعتقاده أنّه أكبر منهما وله عليهما درجة..

ولهذا استجاب بكلّ ترحيبٍ بالمهمّة الموكولة إليه مِن قِبَل القرد المسعور، من دون أيّ إشارةٍ في كتابه إلى فضل سيّد الشهداء (علیه السلام) عليه وعلى العالمين جميعاً، ولا الاعتراض عليه، ولا بيان أنّ الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 166


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

إمامُه والأكبرُ منه في أهل البيت مقاماً وجاهاً ومنزلة، وأنّه أفضل منه وأعظم، بل لم نجد في كتابه ما يفيد مدح الإمام (علیه السلام) بفضيلةٍ أو منقبةٍ أو حتّى قرابةٍ ورحمٍ برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومنزلةٍ عند الله، ولا بحديثٍ واحدٍ ممّا ذكره فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا إشارةٍ إلى وجوب مودّته وحبّه، والاستدلال له بحرمة أذاه والتعدّي عليه وإضمار البغض والعداوة له، وما إلى ذلك من أُمورٍ يمكن أن يذكرها ليزيد في مقامه وهو يسعى لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويحفر له ويبيّت له الغوائل.

بل نسمعه في نصّ الشجريّ يسمّي الإمام بالاسم المجرد «حسين، حسيناً»، خلافاً للأدب المتعارف الّذي تسالم عليه المسلمون قديماً وحديثاً، وهو ما تعلّموه من سيّد الرسل وخاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) .

المحتوى الثاني: تصريح الجواب بسبب الخروج من المدينة

مرّ معنا الحديث عن هذا المحتوى ضمن الكلام عن ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وغيره من المواضع، ونكتفي هنا بذكر النصّ للتذكير والتأكيد.

روى ابن سعدٍ ومَن تلاه، قال:

ص: 167

إني أرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه ((1)).

وروى الشجريّ فقال:

وأمّا حسين: فإنّي لقيتُه، فسألته عن مَقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة حرفت به وعجّلت عليه، وأنظره رأيه ((2)).

وروى سبط ابن الجوزيّ:

وأمّا الحسين: فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألتُه عن مَقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرتَ إليه ((3)).

يا لله! هكذا هي بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) دائماً، فلماذا يؤخذ بقول أيّ أحدٍ ولا يُلتفَت إلى كلامه (صلوات الله عليه) وهو يحكي عن نفسه ويصوّر ما يجري عليه ويشرح أسباب خروجه من المدينة أو من مكّة؟!!

ص: 168


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الأمالي للشجري: 1 / 182.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

بأيّ لغةٍ يتكلّم الإمام (علیه السلام) مع الناس ومع التاريخ كي يفهمونه؟!

أوَ ليس هو أمير الكلام وسيّد البيان وسلطان الفصاحة وملك البلاغة ومالكها؟ فما هي الضرورة الّتي تدعو القارئ للتاريخ أن يحمّل كلام الإمام (علیه السلام) ما لا يحتمل، أو يقوّله ما لا يقول، أو يفسّر بيانه بخلاف ما يبيّن؟

المحتوى الثالث: أداء النصيحة ومفادها
اشارة

إحتوى الكتاب موادّاً مهمّةً للنصيحة الّتي زعم ابن عبّاس أنّه لن يدَعها، يمكن أن نشير إليها ضمن الموادّ التالية:

المادّة الأُولى: النائرة، الفتنة، حقن الدماء..

المفردات الّتي وظّفها ابن عبّاسٍ في هذا المقطع من كلامه.. جمع الأُلفة! إطفاء النائرة! جمع الكلمة! إطفاء الفتنة! حقن دماء الأُمة! ((1))

فهو قد اعتقد بنشوب نار الأحقاد والعداوات (النائرة)، وأقرّ أن قد اختلفت الكلمة، ولقحت الفتنة، وهذا سيؤدّي إلى سفك دماء الأُمّة!

- مَن الّذي شبّ نار النائرة؟

ص: 169


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، الأمالي للشجري: 1 / 182.

- مَن الّذي أثار الأحقاد والعداوات الدفينة؟

- مَن الّذي فرّق الكلمة؟

- مَن الّذي ألقح الفتنة؟

- مَن الّذي تسبّب في تعريض الأُمّة للهلاك وسفك الدماء؟

هذا ما لم يذكره ابن عبّاس، ممّا يجعل الصورة مشوّشةً مغبّشةً موهومةً مظلمةً قاتمةً عاصفةً قاصفةً مدمّرةً مُهلكةً لمن يعتقد به أو يُقيم لكلامه وزناً!هو لم يجرؤ على تجريم القرد المتهوّر، ولم يُشِر في كلامه إلى ما يفيد تجاوز يزيد وتطاوله وعبوره حدود المنطق والعقل والدين في الجاهليّة والإسلام.

وإذا لاحظنا كون رسالته إلى يزيد إنّما كانت ردّاً على مزاعم يزيد وتهديداته، وجواباً على كتابه إلى ابن عبّاس الّذي يذكر فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يمكن أن يُستفاد بوضوحٍ أنّ ابن عبّاسٍ قد ماشى يزيد وتماهى معه وسايره فيما يزعم، ويتّهم به سيّد الشهداء (علیه السلام) .

سيّما أنّ ابن عبّاسٍ يعامل يزيد معاملة الحاكم والوالي ووليّ الأمر، وقد بايعه منذ البداية، فلا يمكن أن يحمل معنى الفتنة واختلاف الكلمة وإشعال النائرة والتورّط بدماء الأُمّة إلّا على من (خرج) على السلطان الحاكم!

كيف يمكن لمثل ابن عبّاسٍ _ إنْ بمنطق العشائر أو بمنطق الدين _ أن

ص: 170

يعدّ موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) فتنة، نائرة، تفريق كلمة؟!! وغيرها من العناوين الّتي ركّز عليها يزيد والأُمويُون ورجال السقيفة منذ اليوم الأوّل مقابل أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..

ألم يروِ ابنُ عبّاسٍ نفسُه ما سمعه من سيّد الشهداء (علیه السلام) عن سبب خروجه من المدينة؟ فلماذا ينصح الإمام الحسين (علیه السلام) حينئذ؟ وقد صرّح ليزيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) خرج من المدينة تحت ضغوط وتهديدات عمّاله، وهو قد قدم مكّة مستجيراً ببيت الله لائذاً عائذاً بالله..فلماذا يتكلّم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويَعِد أن لا يدع النصيحة له حتّى يأد الفتنة؟!

أوَ ليس كان الأحرى به أن يقول ليزيد: إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل مكّة مستأمناً، فدَعْه فيها آمِناً؟

كيف ما كان، فإنّ حديث ابن عبّاسٍ حمّالٌ ذو وجوه، والوجه الأوّل فيه بما يكاد يكون صريحاً واضحاً أنّه تحامل على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ووصفه بالأوصاف الّتي يصفه بها باغي الأُمويّين ونغل معاوية وعدوّ الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) يزيد الخمور، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

المادّة الثانية: يأمر يزيد بما يأمر به الإمام (علیه السلام)
اشارة

وفق نقل الشجريّ، فإنّ ابن عبّاسٍ يقول:

وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به إن شاء الله، فاتّقِ الله في السرّ

ص: 171

والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا مُرصِداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة ((1))..

إلى آخر وصيّته له..

لا ندري إنْ كان يريد أنّه يأمره بمثل ما يأمر به سيّد الشهداء (علیه السلام) ممّا مرّ من كلامه، أو ممّا يأتي فيما بعد، أي: الأمر بتقوى الله في السرّ والعلانية،إلى آخر الوصيّة..

وعلى كلا التقديرين، فإنّه قد ارتكب ما لا ينبغي له أن يرتكبه:

أوّلاً: جعل نفسه في موضع الآمِر للإمام (علیه السلام)

مَن هو ابن عبّاسٍ كي يجعل نفسه في مقام الآمر لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وإمام زمانه وإمام الأُمّة؟

وما هو المسوّغ له الّذي شجّعه على التطاول على سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ هل قربه من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟ فسیّد الشهداء (علیه السلام) أقرب، وهو بضعةٌ منه وابنه وريحانته! أم معرفته بالدين؟ وسيّد الشهداء (علیه السلام) إمام المسلمين، ووصيّ رسول الله! أم سنّه؟ وهو إمّا أن يكون مِن لِدة الإمام (علیه السلام) ، أو على أقصى التقادير أكبر منه بسنتين أو ثلاثٍ أو خمسةٍ في غاية ما يمكن أن يفترض له من العمر!

ص: 172


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

إلّا أن يقال: إنّه بنى مقامه من تأمير القرد المخمور والتفويض الّذي منحه إيّاه من خلال هذا الكتاب، أو من المقام الّذي روّجت له السقيفة.

وسواءً كان له مسوّغٌ أو لم يكن، فإنّ في تعبيره من الغرور والمجازفة وإساءة الأدب الّذي تجاوز الحدّ!

ثانياً: جمعه الإمام (علیه السلام) ويزيد في مستوىً واحدٍ من الخطاب

ثمّ إنّه تطاول على الإمام (علیه السلام) من حيث جعله في صفٍّ واحدٍ مع يزيد في خطابه، وجمع الطهر كلّه في مستوىً وصعيدٍ مع العهر كلّه، بحيثخاطب يزيد وسيّد الشهداء (علیه السلام) في جملةٍ واحدة: «وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به».

فهو يخاطب يزيد الخمور والفجور بنفس العبارة الّتي يخاطب فيها سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ويجعل مؤدّيات أمره لكليهما واحد، ولو لم تكن المؤدّيات واحدةٌ فإنّ مخاطبتهما في عبارةٍ واحدةٍ والتسوية بينهما من دون الفصل في الخطاب بينهما يكفي في انفجار قلب المؤمن حزناً على مظلوميّة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

عجبٌ والله لا ينقضي!

أمّا إذا قلنا أنّ قوله: «وأنا آمرك بمثل الّذي آمره به إن شاء الله» يعني أنّه يوجّه الخطاب لسيّد الشهداء (علیه السلام) ولو فرضاً بقوله الّذي ذكره بعد ذلك مباشرة:

فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا

ص: 173

مُرصداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة، فكم من حافرٍ حفيراً لنفسه ...

إلى آخر وصيّته.

فهو كلامٌ له دلالاتٌ ونتائج لا يمكننا التصريح بها، وهي أوضح من أن نذكرها وننوّه إليها لكلّ مَن اعتقد عصمة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمامته، بل حتّى لو افترضه صالحاً من صلحاء المسلمين، والعياذ بالله..ونحن نقول: ليس هذا هو مراده إن شاء الله، رغماً عن ظاهر العبارة ومفاد السياق.

المادّة الثالثة: تبييت يزيد وإرصاده وحفره لسيّد الشهداء (علیه السلام)

ورد في الكتاب _ برواية الشجريّ _ قول ابن عبّاس:

ولا تبيتنّ ليلةً مريداً مسلماً بغائلة، ولا مُرصداً له بمظلمة، ولا حافراً له مهواة، فكم من حافر حفيراً لنفسه، وكم من آملٍ لم يُؤتَ أمله، وكم من راجٍ لطول العمر مبسوطٍ له في بعد الأمل، فبينا هو كذلك إذ نزل القضاء، فقطع أمله ونقص عمره، وأخرجه من سلطان الدنيا الفانية إلى سلطان الله وعدله في الآخرة ((1)).

وروى سبط ابن الجوزيّ نفس المعنى بعبارةٍ مختصرة ((2))..

ص: 174


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245: ولا تبيتنّ ليلةً وأنت تريد لمسلمٍ غائلة، ولا ترصده بمظلمة، ولا تحفر له مهواة، فكم من حافرٍ لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّلٍ أملاً لم يُؤت أمله.

ونحن لا نريد أن نبسط الحديث في نصائح ابن عبّاس لرجلٍ يعاقر الخمر ولا يصحو إلّا حين ينتشي بالسكر ويعبّ الكأس بعد الكأس غارقاً في الدنان..

بَيد أنّ فيها معنىً يشير إلى نكتةٍ مهمّةٍ جدّاً يمكن أن تُستفاد من جملة هذا المقطع من موعظته..

وخلاصة الكلام:إنّ ابن عبّاس يحذّر يزيد الحقد والعداوات من أن يبيت ليلةً وهو يريد بمسلمٍ غائلةً أو يرصده بمظلمةٍ أو يحفر له حفيراً..

ولا ننسى أنّ كلام ابن عبّاسٍ كلّه في سياق الردّ على كتاب يزيد في قضيّة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو يقرّ من خلال هذه الموعظة الّتي حذّر فيها يزيد أنّ يزيد قد فعل أو عزم على فعل هذه الخصال القذرة، وقد بيّت لسيّد الشهداء (علیه السلام) غائلةً ورصده بمظلمةٍ وجعل يحفر له حفيراً.

وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ _ أو على الأقلّ إشارةٌ صريحة _ إلى المخطّط الّذي رسمه يزيد وأسلافه للقضاء على سيّد الشهداء (علیه السلام) وقتله، واستئصال شأفة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وآله (علیهم السلام) ، وأنّ القرد المسعور هو البادئ في

ص: 175

ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) والعازم على إنشاب أظفاره في الهيكل المقدّس، والمبيِّت له والحافر له حفيرةً تشفي الأحقاد الأُمويّة وتستوفي ثارات الجاهليّة..

فابن عبّاس لا يشهد على سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه خارجٌ على يزيد، بعد أن أكّد له أنّه لم يكن ليخرج لأمرٍ يكرهه، ولم يقرّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يبيّت القيام على السلطان والخروج بالمعنى المصطلح، وإنّما أقرّ أنّ يزيد يريد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ويبيّت له، ويسعى من أجل تحقيق ما يبيّته.

بمعنى: أنّه يدعو يزيد ويعظه أن يكفّ عن ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) ؛ لأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يأتِ _ على الأقلّ إلى حين كتابة الكتاب _ بمايمكن أن يكون تهديداً ليزيد وحكمه وسلطانه.

وإن قلنا: إنّ النصيحة موجّهةٌ للطرفين _ والعياذ بالله _ كما قال ابن عبّاس من تماثل نصيحته لهما، فنستغفر الله ونتوب إليه، ولا نزيد.

المادّة الرابعة: النصيحة لأولاد البغايا

قال الشجريّ:

وخُذْ مع ما أُوصيك به من النصيحة لهذه الأُمّة بحظّك من الركوع والسجود آناء الليل وتارات النهار، ولا يشغلك عن ذكر الله (تعالى) شيءٌ من ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما أنت مشتغلٌ به من ذات [الله] ينفع ويبقى، وكلّ ما أنت مشتغلٌ به عن ذات الله يضرّ

ص: 176

ويفنى، فاجعلْ همّك فيما يُرضي ربّك، يكفك همّك ((1)).

وقال سبط ابن الجوزيّ:

وخُذْ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السنّة، وعليك بالصيام والقيام، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها، فإنّ كلّ ما اشتغلتَ به عن الله يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام ((2)).نحسب أنّ ترك التعليق على هذه الموعظة المؤثّرة خيرٌ من الانسياب معها، إذ أنّ ابن عبّاسٍ جعل يعظ ابن ميسون وحفيد هند المتولّد من سيلانات النطف القذرة الممزوجة بالخمرة في بيوت الدعارة وحانات السكارى، الّتي تكاثفت في وجوده العفِن أعيانُ النجاسات متراكمةً بعضها فوق بعض، حتّى شبّ قرداً يلاعب أمثاله من القرود، وكبر مولعاً بالدماء الزاكية يلغ فيها ثملاً طروباً فرحان جذلان، ويرى الدنيا رقعة شطرنج يلعب عليها كما يمارس القمار، وقد نصحه أبوه من قبل وأصحابه ليرعوي ويحفظ سلطانه ويتظاهر أمام الملأ بالنسك والصلاح، تماماً كما كان يفعل أبوه وغيره ممّن سبقوه من ملوك الإسلام، بما يضمن له راحة الانغماس في

ص: 177


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 144، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 245.

مستنقعات غابة القرود الآسنة الّتي تشيع فيها الرذيلة والنزوات..

أمثل يزيد يوعظ بهذه الموعظة؟!

لكن قد يقال: إنّ أداء التكليف في النصيحة يدعو لإسدائها، باعتباره قد تربّع على تخت السلطان واستقرّ على عرش الملك.

بَيد أنّ هذا النصح إنْ كان مباحاً، فلماذا أُبيح لمثل ابن عبّاسٍ وحُرّم على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ولزم من إبدائه قتله؟

المادّة الخامسة: خاتمةٌ تفرّد بها الشجريّ

داجِ حسيناً، وارفقْ به، ولا تعجلْ عليه، ولا تنظره رأيه، عسى الله (عزوجل) أن يُحدث أمراً يلمّ به شعثاً ويشعب به صدعاً ويرتُق به فتقاً، والسلام ((1)).

داجى الرجلَ: ساتَرَه بالعداوة وأَخْفاها عنه، فكأنّه أتاه في الظُّلمة، وداجاه أيضاً: عاشَرَه وجامَله.

ويُقال: داجَيْتُ فلاناً، إذا ماسَحْتَه على ما في قلبه وجامَلْتَه.

والمُداجاةُ: المُداراةُ، والمُداجاةُ: المُطاولة، وداجَيْتُه: أي داريته، وكأنّك ساترته العَداوة.

المُداجَاةُ _ أيضاً _ : المَنْعُ بين الشِّدَّةِ والإِرْخاء.

ص: 178


1- الأمالي للشجري: 1 / 182.

والدُّجْيَةُ _ بالضمّ _ : قُتْرةُ الصائد ((1)).

وباقي المفردات واضحة، إلّا قوله: «ولا تنظره رأيه»، فلا ندري ما يقصد بقوله: «تنظره»؟ هل هو من النظرة، أي: التأخير، أو النظرة بمعنى التناظر والمقابلة، فلابدّ أن يقول تناظره، أو النظرة بمعنى التقبيح، فقد ورد استعمال النظرة في المرأة القبيحة، أو أيّ معنىً آخر يمكن أن ينطبق على هذهاللفظة ممّا ورد في كتب اللغة عند تتبّع الاستعمال، فإنّنا لم نجد معنىً محصّلاً من هذا، ولعلّ أهل الاختصاص يعرفون ذلك.

على العموم، فإنّ مؤدّى هذه المادّة هو استمهال يزيد الخمور ودعوته للتحلّم وضبط النفس والتريّث والتربّص بالإمام الحسين (علیه السلام) ، عسى أن تتحقّق الأغراض دون إثارة الفتن، فيلمّ الله بأمرٍ هو يُحدثه شعثاً ويشعب به صدعاً ويرتق به فتقاً.

فالأمر أشعث، والشعب منصدع، والرتق حاصل، وعسى الله أن يفعل أمراً يسدّ به هذه الخلال المتحقّقة، ويكون الفضل في ذلك ليزيد الخمور!

ص: 179


1- أُنظر: لسان العرب: دَجَو.

ص: 180

النسخة الثالثة: نسخة إلى عمرو بن سعيد
اشارة

روى الخوارزميّ فقال:

ثمّ أتى كتابٌ من يزيد بن معاوية إلى عمرو بن سعيد، يأمره فيه أن يقرأه على أهل الموسم، وفيه: ... [وذكر الأبيات المذكورة]

ثمّ قال: وأتى مثله إلى أهل المدينة من قريش وغيرهم.

قال الشعبيّ: لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم ((1)).

ثمّ ذكر توجيه أهل المدينة الأبيات إلى الإمام (علیه السلام) وجواب الإمام (علیه السلام) ، مثل ما ذكره ابن أعثم.

* * * * *

لقد مرّ الحديث عن أكثر مفاصل هذا النصّ، والّذي يهمّنا هنا بعض الإضافات الّتي وردت فيه:

ص: 181


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.
الإضافة الأُولى: نسخة الأشدق

يبدو من النصّ أنّ هذه هي نسخةٌ أُخرى للكتاب أرسلها القرد المخمور إلى الأشدق، ويبدو أنّ نسخته مع ما أرسله إلى أهل المدينة من بني هاشم واحدة، وهو يتضمّن الأبيات فقط، أمّا الزيادات الواردة في نسخة ابن عبّاسٍ فهي خاصّةٌ به دون غيره.

الإضافة الثانية: المخاطَب في هذه النسخة

يبدو أنّ المخاطَب بالكتاب ليس هو الأشدق بنفسه، وإنّما هو وسيلةٌ باعتباره الوالي والممثّل للقرد المسعور، وهو مكلَّفٌ بقراءته على أهل الموسم، إذ أنّ الأبيات تتضمّن الاعتذار إلى أهل الموسم عن قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، تماماً كما فعل مع قريش وبني هاشم وأهل المدينة في النسخة الأُولى، وليس الأشدق ممّن يُعتذَر إليه في ذلك ليكون مخاطَباً.

أضف إلى ما في صريح عبارة الخوارزميّ من أمر الأشدق بقراءته على أهل الموسم.

وهو يحمل نفس الروح الخبيثة الّتي حملها الكتاب المرسل إلى أهل المدينة من الغطرسة والكبر والغرور على الله وعباده، إذ لا سلام ولا بداية ولا ختام ولا بسملة، وإنّما تهديدٌ ووعيدٌ وإصحارٌ عمّا في الكامن العفن، والإعلان عن العزم الجادّ على قتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

ص: 182

الإضافة الثالثة: قول الشعبيّ

روى الخوارزميّ قول الشعبيّ: «لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم» ((1)).

كلام الشعبيّ هذا يفيد أنّ يزيد القرود قد عبّر عن عزمه على قتل الإمام (علیه السلام) ومَن معه تعبيراً واضحاً، وأنّه عازمٌ عن علمٍ وإصرارٍ مسبقٍ على رسم المشهد الّذي يريد تحقيقه وينوي تنفيذه، حتّى لَكأنّه ينظر إلى مصارع القوم، وهو تعبيرٌ آخَر عن التحقّق والوقوع!

ص: 183


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 218.

ص: 184

لقاء ابن عبّاس وابن عمر بالإمام (علیه السلام)

اشارة

لا نريد الدخول في الحديث عن الإخبارات الغيبيّة والأحاديث الشريفة والنصوص المقدّسة، لأنّنا بنينا البحث هنا على النصوص التاريخيّة وسياقات البحث التاريخيّ فقط.

بَيد أنّ النصّ التاريخيّ تضمّن مفاداً قد يفاد منه الإخبار الغيبيّ، فنحن سوف نتناوله هنا ضمن الفهم والمذاقات التاريخيّة، ونترك البحث فيه كنصٍّ فيه إخبارٌ غيبيّ إلى محلّه.

فقد روى لنا ابن أعثم وعنه الخوارزميّ لقاءً جمع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس وابن عمر، قالا _ في خبرٍ طويل _ بعد أن ذكر دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة:

وبمكّة يومئذٍ عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن عمر، وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة، فأقبلا حتّى دخلا على الحسين (علیه السلام) ، فابتدأ ابن عمر بالكلام وحذّر الإمام، فقال: يا أبا عبد الله، اتّقِ الله! رحمك الله

ص: 185

الّذي إليه معادك، فقد عرفتَ عداوة هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم، وقد وليَ الناسَ هذا الرجل يزيدُ بن معاوية، ولستُ آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء، فيقتلوك ويهلك فيك بشرٌ كثير، فإنّي سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «حسينٌ مقتول، فلئن خذلوه ولم ينصروه لَيخذلنّهم الله إلى يوم القيامة».

وأنا أُشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وتصبر كما صبرتَ لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين ((1)).

* * * * *

يمكن أن نستنطق النصّ المذكور من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: دخلا وقد عزما على الانصراف

يُفهَم من النصّ أنّ العبدين كانا في مكّة، وكانا قد عزما على الانصراف إلى المدينة، وكأنّهما قد قضيا عمرتهما، وهما ينويان العودة، فأقبلا قبل الخروج من مكّة حتّى دخلا على سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ويفيد تعبير المؤرّخ أنّهما دخلا على سيّد الشهداء (علیه السلام) عند عزمهما

ص: 186


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

على الرجوع إلى المدينة أنّهما لم يكونا قد اهتمّا بشأن سيّد الشهداء (علیه السلام) اهتماماً خاصّاً، فهما قد عزما على العودة رغم دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة دخولاً تحت طائلة الملاحقة وفي ظروفٍ حرجةٍ وحسّاسةٍ للغاية.

ولا ندري إن كان دخولهما على سيّد الشهداء (علیه السلام) تبرّعيّاً من عند أنفسهما، أو كان تنفيذاً لأمر يزيد وتحقيقاً لما طلبه من ابن عبّاس في كتابه!

الإضاءة الثانية: محاولة الإبقاء على سيّد الشهداء في الحرم

يبدو من صياغة النصّ أنّهما قد أقبلا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) محذّرَين معترضَين، في محاولةٍ منهما لثني أبي عبد الله (علیه السلام) عن الخروج إلى العراق وحبسه في مكّة والمدينة.

هذا في ظاهر العبارة، وربّما أفاد التأمّل أنّهما إن أفلحا في إقناع الإمام (علیه السلام) على الإقامة في مكّة أو الرجوع إلى المدينة، فإنّ ذلك سيؤول عاقبةً إلى تنفيذ المخطّط المرسوم، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) _ لا شكّ _ لا يقاتل في الحرم، فإمّا أن يتمكّنون من تحشيد العسكر والهجوم عليه، تماماً كما فعلوا مع ابن الزبير، أو أنّهم سيغتالونه، كما أفادت النصوص وصرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وهذا يعني أنّهما قد انساقا مع يزيد واستجابا لأمره ورغباته في الإبقاءعلى سيّد الشهداء (علیه السلام) في أحد الحرمين، سواءً قصدا ذلك أم لم يقصداه،

ص: 187

وقد أمر يزيدُ ابنَ عبّاس في كتابه إليه.

فكانت هذه المحاولة في نفس السياق والنسق، إذ أنّ الجميع يعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) سيبقى مطوّق اليد محاصَراً في مكّة، يصبر عنهم ويحاول إبقاء سيفه في غِمده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لئلّا تُهتَك به حرمة البيت الحرام، ويمكنهم حينئذٍ توظيف هذا العامل إلى أقصى ما يمكن توظيفه والاستفادة منه في حربهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإضاءة الثالثة: بدايةٌ وقحة!

إبتدأ العبد ابن عمر كلامه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) بعبارةٍ تنمّ عن مدى وقاحته وسوء سريرته ومستوى انحطاطه الأخلاقيّ في عدم معرفته بالرجال ومنازلهم ومراتبهم ومقاماتهم..

تجرّأ في مفتتح الكلام، وابتدأ حديثه بقوله: «اتّقِ الله»!

مَن هو هذا العبد الّذي اتّخذ إلهه هواه، حتّى يأمر الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) بهذا الخطاب ويأمر بتقوى الله؟!

لا يقال: إنّ هذه الصيغة معتادةٌ في الحديث، وهي تعبيرٌ عن التحذير ودعوةٌ للتأمّل والتفكير والتريّث وما شاكل..

فإنّ وقوف مثل ابن عمر موقف المحذّر والداعي للتأمّل والتريّثوتقمّص شخصيّة الناصح المشير العاقل مقابل سيّد العقلاء وسيّد

ص: 188

الكائنات في عصره الإمام الحسين (علیه السلام) هو أيضاً ينمّ عن عدم معرفةٍ أو يكشف عن الغرور والتكبّر والتجبّر.

ليس لمثل هذا العبد الحقير إلّا الإذعان أو الاقتداء بسلفه، والفرار من الزحف والابتعاد عن ساحة المواجهة الّتي لا تليق بأمثاله، والاختفاء بعيداً عن بريق السيوف ووميض الرماح والأسنّة وشهب النبال والسهام.

مِن هوان الدنيا على الله أن يقف هذا القزم هذا الموقف من سيّد الخلق في عصره، ويفوه أمامه بمثل هذه الكلمة ويأمره بمثل هذا الأمر، وكأنّه يذكّر الإمام (علیه السلام) بالله وبالقيامة والمعاد والوقوف بين يدَي الله.. «اتّقِ الله، رحمك الله الّذي إليه معادك».

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. لك الله يا أبا عبد الله، وما أعظم خُلقك وأوسع صدرك وأكبر حلمك!

الإضاءة الرابعة: ترتيب المقدّمات في كلام ابن عمر

اشارة

لقد قرّر ابن عمر في هذا النصّ جملةً من المقدّمات، ورتّب عليها نتيجةً خطيرةً لها علاقة بسيّد الشهداء (علیه السلام) من جهةٍ وبالناس من جهةٍ أُخرى، مستدلّاً لذلك بما سمعه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .ويمكن جمعها في المقدّمات التالية:

ص: 189

المقدّمة الأُولى:

قد قرّر ابن عمر أنّ بني أُميّة لا زالت على عداوتها للحسين (علیه السلام) وآل الحسين (علیهم السلام) ، فيزيد يتحرّك بدافع العداوة والبغضاء والأحقاد والإحَن والشقاء القديم الّذي تجذّر في الشجرة الملعونة.

وقد تبيّن من أسلاف يزيد _ والأشياء تُعرَف بنظائرها _ أنّهم سعوا في عداواتهم وأحقادهم حتّى ترجموها بالقتل والقتال مع الحقّ، فقد حارب أبو سفيان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولم يدخل الإسلام عمره إلّا ما تظاهر به حقناً لدمه، فدخل صاغراً طليقاً.

وقاتل معاوية الإمامَ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، ولم تهدأ أحقاده حتّى قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وقاتل الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، حتّى قتله.

واليوم وصلت النوبة لتبرز هذه الأحقاد في يزيد، فهو يريد قتل الإمام (علیه السلام) لعداوته وحقده، ساعياً في نفس الطريق المظلم الّذي سلكه آباؤه ومَن سلّطهم من قبل.

كما قرّر أنّ بني أُميّة قد ظلموا أهل البيت (علیهم السلام) ، وأنّهم على هذا المنوال لا يفترون ولا يتراجعون، وهم ماضون في ظلمهم لأهلالبيت (علیهم السلام) ، فيزيد ظالمٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يبدو من سيّد الشهداء (علیه السلام) موقف، وهو ظالمٌ له كأسلافه، سواءً اتّخذ سيّد الشهداء (علیه السلام) موقفاً أو لم يتّخذه، فظلم

ص: 190

الأُمويّين _ وخصوصاً يزيد _ لأهل البيت ليس سببه ما يدّعونه من تحريض سيّد الشهداء (علیه السلام) ضدّه وسعيه للانقضاض على سلطانه.

كما أكّد ابن عمر أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) عارفٌ بذلك عالمٌ به، يعرف الأُمويّين وعداوتهم وبغضهم وأحقادهم على أهل البيت (علیهم السلام) ، فالأمر ليس خافياً عليه.

فقد عرفتَ عداوة هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم..

هذا ما يخصّ يزيد والأُمويّين، وهو من الثوابت الّتي يعرفها الجميع، ويقرّ بها القريب والبعيد، وقد عرفها سيّد الشهداء (علیه السلام) كما عرفها ابن عمر!

المقدّمة الثانية:

قرّر أنّ الناس قد ولَّوا يزيد ورضوا به، بمعنى أنّ سلطنة القرد المخمور قد استقرّت ببيعة الناس له، وفراغهم من هذا الأمر المنجَز.

يبدو من كلام ابن عمر، وهو يخبر عن الجوّ العامّ ويتحدّث عن وضع الناس والمجتمع، ويؤكّد أنّ البيعة قد تمّت ليزيد، وقد دخلوا في طاعة القرود وانتهى الأمر، وقد وليهم يزيد، وتحكّم فيهم وتسلّط عليهم،فاجتمعت الأُمّة عليه، وإن كان ذلك بالباطل.

وهذا يعني أنّ إباء سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة في مدلول كلام ابن عمر يُعدّ خروجاً عن وحدة الأُمّة، وشقّاً لعصاها، وتفريقاً لكلمتها، وابتعاداً عن جماعتها!!

ص: 191

المقدّمة الثالثة:

قد قرّر أنّ الناس يميلون إلى الصفراء والبيضاء، ويحبّون الدنيا ويحوطونها، ولا يمنعهم أن يكونوا يداً للقرد البطّاش، فيقتلون سيّد الشهداء (علیه السلام) لمكان الاحتفاظ بدنياهم، فيخذلون سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويقدّمونه للسيوف والرماح والسهام نهباً.

* * * * *

وهذه المقدّمات الثلاث مسلَّمةٌ لا يناقش فيها أحد، وهي معلومةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد عبّر عنها هو بنفسه _ فداه العالمين _ في أكثر من موضع، كما هي معلومةٌ لكلّ المعاصرين، بل وغير المعاصرين ممّن يقرأ التاريخ ولو بعينٍ كليلة.

ومن هنا استخلص ابن عمر النتيجة:

النتيجة:

لمّا كان يزيد واحداً من بني أُميّة، بل هو وأبوه أخبثهم وأرجسهموأنجسهم، وكان قد وليَ الناس ودخل الناسُ في طاعته، والناس يميلون إلى البيضاء والصفراء والدنيا وعفنها..

ويزيد يريد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لشدّة عداوته ودوافعه الأُخرى، فإنّ الناس سيميلون معه ويكونوا يداً على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسينتج من ذلك خطران عظيمان:

ص: 192

الخطر الأوّل: فيقتلوك..

الخطر الثاني: ويهلك فيك بشرٌ كثير..

ولا ندري إنْ كان الخطر الأوّل يهمّ ابن عمر أو الخطر الثاني؟

الإضاءة الخامسة: هلاك البشر!

الظاهر أنّه لا يقصد من (هلاك البشر الكثير في الإمام الحسين (علیه السلام) ) أنّه سيُقتَل في الدفاع عنه بشرٌ كثير، إذ أنّه قرّر أنّ الناس سيميلون مع يزيد لمكان البيضاء والصفراء، وإنّما يعني الشقّ الثاني الّذي ذكره في حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذي رواه مستدلّاً له على كلامه.

فالحديث قد أخبر _ كما سنسمع _ خبرين: أحدهما: قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والآخَر: هلاك الناس بخذلانهم إلى يوم القيامة، لخذلانه وترك نصرته.

فهذا الّذي يعنيه ابن عمر من هلاك بشرٍ كثير، فكأنّه يقول لسيّدالشهداء (علیه السلام) : إنّ الناس سيخذلونك، ويتركوا نصرتك، وبهذا سيُخذَلون إلى يوم القيامة، وهذا يعني هلاكهم.

الإضاءة السادسة: حسينٌ مقتول!

بعد المقدّمة الّتي قدّمها ابن عمر، وأبان عداوة القوم وظلمهم لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ودأبهم وإصرارهم على التوغّل في عداوتهم وظلمهم، وأنّ

ص: 193

الناس قد بايعوا واستسلموا، وهم بطبعهم يميلون إلى الدنيا ويغترّون ببريق الصفراء والبيضاء، فما زال الناس أيدٍ للقردة، يبطشون بها وينفّذون مآربهم.. استدلّ لما يقوله بحديثٍ سمعه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) :

«حسينٌ مقتول»!

كما قُتل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وقُتلت فاطمة وقُتل أمير المؤمنين وقُتل الحسن (علیهم السلام) ، فالحسين مقتولٌ أيضاً!

مقتول.. لأنّ بني أُميّة الأعداء الظالمين لا زالوا مصرّين على القضاء على آل البيت جميعاً.. لا زالت مراجل الحقد والضغينة والتِّرات والتشفّي بالانتقام للأشياخ تغلي في أعماقهم جيلاً بعد جيل، يوصي بها الغابرُ الحاضر..

مقتول.. لأنّ الناس لا زالوا يناولون القردة، ويتمسّكون بأعواد الشجرة الملعونة، ويتباعدون عن العروة الوثقى، وتتفلّت قبضاتهم عن أغصان شجرةطوبى..

مقتول.. لأنّ الناس لا زالوا يمليون إلى الصفراء والبيضاء، ولا زال الأعداء يستقوون بالناس ويتّخذونهم خولاً وأيدٍ يبطشون بهم بالحقّ ورجاله بطش الجبّارين..

حسينٌ مقتول.. لأنّ العدوّ عازمٌ على قتله، والناس عبيد الدنيا، وخول للسلطان..

ص: 194

حسينٌ مقتول.. لا لذنبٍ يرتكبه ولا لصوتٍ يرفعه، بل لأنّ العدوّ يريد قتله!

فالنبيّ (صلی الله علیه و آله) يُخبر عن أمرٍ مفروغٍ عنه بصيغة اسم المفعول: «مقتول»! ثمّ يُخبر عن موقف الناس، فيقول: «فلئن خذلوه ولم ينصروه»..

فالخذلان وترك النصرة مقابل القتل الواقع عليه، أي: تركوه ولم يدافعوا عنه، ولم ينصروه بمنع القتل عن الوقوع والتحقّق..

فالحديث كلّه يدور في مساحةٍ واحدة، وهو عزم العدوّ على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) حتماً، وأنّ الناس لهم أن يمنعوا هذا القتل بنصره، والنصر هنا يعني دفع القتل عنه، والخذلان يعني التخلّي عنه ودفعه للسيوف الحاقدة..

فالحسين مقتول، وعلى الناس أن يدفعوا عنه القتل، فلا يخذلوه ولا يتركوا نصرته!

ليس في الحديث شيءٌ سوى الإخبار عن تحقّق وقوع القتل على سيّدالشهداء (علیه السلام) ، أي: أنّه إخبارٌ عن عزم الأعداء على ذلك وإصرارهم عليه، وتمكين الناس لهم من تحقيق هذه الجريمة العظمى.

وقد فهم ابن عمر هذا المعنى من الحديث، فقدّم له تلك المقدّمات..

فليس في الأمر أكثر من الإخبار عن التعدّي على سيّد الشهداء (علیه السلام) والعزم على قتله، وخذلان الناس وتركهم نصرته والدفاع عنه.. فالحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .. مهجومٌ عليه.. مطارَد.. مطلوبٌ للقتل!

ص: 195

الإضاءة السابعة: فهم ابن عمر لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام)

يبدو من كلام ابن عمر _ حسب هذا النصّ _ أنّه لم يفهم من سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه يريد شيئاً سوى أنّه يأبى البيعة، وأن يدفع عن نفسه وأهل بيته القتل الّذي عزم عليه العدوّ، ولذا قدّم له المقدّمات الّتي سمعناها قبل قليل، وعقّب على الحديث الّذي رواه قائلاً:

وأنا أُشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وتصبر كما صبرتَ لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبينالقوم الظالمين ((1)).

تخيّل ابنُ عمر أن لو صبر الإمام (علیه السلام) كما صبر أيّام معاوية، فلعلّ الأمر ينتهي لصالح الإمام (علیه السلام) ، فلا يُقتَل، ثمّ يحكم الله..

لقد شهد ابن عمر كما شهد العالمون جميعاً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) صبر أيّام معاوية، وهي الفترة الأطول من إمامته، فقد صبر زهاء عشر سنوات، طغى فيها الجبّار معاوية أيّما طغيان، ولم يكن يزيد ينزو على الأعواد لأكثر من أيّامٍ قليلةٍ فقط.

ص: 196


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

الإضاءة الثامنة: إشارة ابن عمر!

اشارة

أشار ابن عمر على الإمام (علیه السلام) تبرّعاً من دون أن يطلب منه الإمام (علیه السلام) مشورةً ورأياً، إن لم نقل أنّه كان ينفّذ المهمّة الموكولة إليه مِن قِبل القرد المسعور، أو سعيه هو أيضاً لتحقيق مآربه في آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في إقناع سيّد الشهداء (علیه السلام) للبقاء في مكّة، حتّى يتسنّى لهم تنفيذ الاغتيال أو الأسر، فيقتلونه أو يأخذونه أخذاً كما قال الإمام (علیه السلام) .

وقد جمع رأيه في الأُمور التالية:

الأمر الأوّل: الدخول في صلح ما دخل فيه الناس

أن يدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وهذا يعني أن يناول القرد الخليع ويبايع له، فهو يدعو الإمام (علیه السلام) إلى نفس ما دعاه إليه يزيد القرود، وكان من دون ذلك دم سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي سكن في الخلد.

الأمر الثاني: الصبر كما صبر على معاوية

أن يصبر على يزيد كما صبر على معاوية من قبل، وقد نسي هذا الغبيّ أنّ يزيد لا يقبل من الإمام (علیه السلام) إلّا البيعة أو القتل، بل إنّه _ بقرينة سير الحوادث وشهادة سابق التاريخ _ لا يترك الإمام (علیه السلام) حتّى لو كان قد بايع، وسيقتله بأيّ ذريعة، ولو لم يتوفّر على ذريعةٍ لَاغتاله بالسمّ كما اغتال أبوه الإمامَ المجتبى (علیه السلام) .

ص: 197

ثمّ إنّ هذا الغبيّ نسي أنّ معاوية قد تارك الإمامَ (علیه السلام) فتاركه الإمامُ (علیه السلام) ، أمّا يزيد فإنّه قد عزم على قتل الإمام (علیه السلام) وعدم متاركته.

الأمر الثالث: تهديد الإمام (علیه السلام)

لقد حذر ابن عمر الإمام (علیه السلام) وأمره بتقوى الله! وقدّم له مقدّمةً تفيد أنّه مقتولٌ بحسابات الظاهر المنظور من عداوة الأُمويّين وميل الناس معهم وسلطنة يزيد، وأكّد ذلك بالإخبار الغيبيّ بما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فهو يريد أن يهدّد الإمام (علیه السلام) بالقتل ويقول له: إمّا أن تدخل في صلح ما دخلالناس فيه وتبايع، وأمّا أن تُقتَل لا محالة.

هذا هو محصّل كلام ابن عمر، وهو نفس كلام يزيد القرود، لا يختلف عنه بتاتاً إلّا في طريقة التعبير ومحاولة الإقناع بالنتيجة، فالمطلوب نفس المطلوب، والأُسلوب نفس الأُسلوب، والتخيير نفس التخيير، ومؤدّى الخطاب نفس مؤدّى الخطاب:

إمّا أن تبايع، أو تُقتَل!

الإضاءة التاسعة: ردّ الإمام (علیه السلام)

اشارة

ردّ عليه الإمام (علیه السلام) بجوابٍ يفيد أنّ ما فعله هو الامتناع عن البيعة ليزيد ليس إلّا، فقال:

«يا أبا عبد الرحمان، أنا أُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال رسول

ص: 198

الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه وفي أبيه ما قاله؟!».

وسيأتي بعد قليلٍ إقرار ابن عبّاسٍ بما قاله النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في يزيد.

بَيد أنّ الملاحَظ في ردّ الإمام (علیه السلام) بعد الاستنكار الشديد على ابن عمر:

الملاحظة الأُولى: إنكار الدعوة للدخول في صلح يزيد

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يُنكر على ابن عمر سوى دعوته للدخول في صلح يزيد ومناولته والبيعة له.. ولم يدّعِ الإمام (علیه السلام) شيئاً آخَر بعد ذلك!فليس ثَمّة موضوعٌ تكلّم به ابن عمر سوى الدعوة للدخول في صلح يزيد ومبايعته، لذا كان جواب الإمام (علیه السلام) عن الموضوع نفسه.

بمعنى أنّ تحذير ابن عمر إنّما كان يركّز على ترك البيعة وعدم الاسترسال مع يزيد، وليس على فعلٍ يريد الإمام (علیه السلام) الإقدام عليه، إذ ليس ثمّة عملٌ معيَّنٌ وإقدامٌ خاصٌّ يلوح في الأُفق ويبدو في كلام الإمام (علیه السلام) أو حركاته ونشاطاته كي يحذّره منه ابن عمر.

ويؤكّد ذلك أنّ ردّ الإمام (علیه السلام) انحصر على دعوته، واستنكر عليه هذه الدعوة وقد قال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في يزيد ما قاله، ولم يبرّر له ما يريد الإقدام عليه، ولو كان ثمّة هجومٌ مبيَّتٌ لَبان في جواب الإمام (علیه السلام) ، ولَأشار إليه وكشف عن مسوّغاته ومبرّراته مثلاً أو استدلّ له.

ص: 199

الملاحظة الثانية: إذا كان الإمام مقتول، فلماذا يُدعى للبيعة الصاغرة؟

بناءً على ما ذكره ابن عمر في كلامه من تصويرٍ للظاهر المنظور واستدلالٍ بحديث النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكذلك ما سيذكره ابن عبّاس، فإنّ الإمام (علیه السلام) أراد الإشارة إلى أنّ يزيد عازمٌ على قتله كيف ما كان وبأيّ حجّةٍ ولأيّ سبب، سواءً أبايع أم لم يبايع، فكيف يدعوه ابن عمر لاختيار القتل مع الدنيّة؟!

الإضاءة العاشرة: عزم يزيد على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) بتقرير ابن عبّاس

اشارة

بعد أن استنكر الإمام (علیه السلام) على ابن عمر دعوته لبيعة يزيد والدخول في صلح ما دخل فيه الناس، واحتجّ عليه بقول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في يزيد، قرّر ابن عبّاس كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بما قاله النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) .

فقال ابن عبّاس:

صدقتَ أبا عبد الله، قد قال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : «ما لي وليزيد؟ لا بارك اللهُ في يزيد! فإنّه يقتل وَلدي ووَلد ابنتي الحسين بن عليّ، فوَالّذي نفسي بيده لا يُقتَل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم» ((1))..

ص: 200


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

يمكن أن نجد في كلام ابن عبّاسٍ عدّة إقراراتٍ وإفادات:

الإفادة الأُولى: تظافر الشهادات على يزيد

تظافرت في هذا اللقاء عدّة شهاداتٍ رُويت عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، شهد بها أطراف الحوار جميعاً:

شهادة ابن عمر أوّلاً، إذ روى عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «حسينٌ مقتول، فلئن خذلوه ولم ينصروه لَيخذلنّهم الله إلى يوم القيامة»..

ثمّ جاءت شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصدق الخلق: «وقد قال رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه وفي أبيه ما قاله؟!»..

وصدّق ابنُ عبّاسٍ سيّدَ الشهداء (علیه السلام) وشهد بما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : قال النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) : «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله في يزيد! فإنّه يقتل ولدي ...».

نجد هنا أنّ المتحاورين الثلاثة قد اتّفقوا على الرواية عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ما يخصّ يزيد ويذمّه ويقضي عليه باللعنة والإبعاد والتفريغ من أيّ بركةٍ وفائدة.

الإفادة الثانية: عزم الرجس على قتل الطُّهر

يبدو واضحاً من هذا الحديث الّذي ذكره ابن عبّاس تأكيداً لموقف

ص: 201

سيّد الشهداء (علیه السلام) تقريراً منه أنّ يزيد عازمٌ على قتل الحسين (علیه السلام) ، وقد أخبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعزمه ودعا عليه، لأنّه سيفعل ذلك ويحقّقه، فيزيد مُقدِمٌ على فعلته، سواءً توفّرت له المسوّغات المنظورة أو لم تتوفّر، إذ أنّ المسوّغات الظاهريّة الّتي سيعلنها على رؤوس الملأ ممّا يسمّيه خروجاً على السلطة وشقّاً للعصا بالامتناع عن البيعة إنّما هي لتفسير موقفه أمام الملأ في حاضره ومستقبله، أمّا العامل الأصليّ _ والكلام هنا خارج دائرة العامل الغيبيّ _ إنّما هو الأحقاد الذاتيّة والضغائن والعداوة، ونجاسة المعدن ورجس المنبت، والانتقام لجيفهم وفطائسهم في بدرٍ وما تلاها، وغيرها منالدوافع..

فيزيد لا ينفكّ عن إصراره على الإقدام على الجريمة العظمى، لعداوته وبغضه للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وللوصيّ وللأوصياء من بعده (علیهم السلام) ، أو لامتثال الأوامر وتحقيق ما صبا إليه أبوه ومَن سلّطهم على رقاب الناس.

الإفادة الثالثة: موقف الناس

بعد أن ذكر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) موقف يزيد، وتأوّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ونفث حزنه وألمه وقال: «ما لي وليزيد؟»، وأخبر أنّ يزيد عازمٌ بجدٍّ على قتل الحسين (علیه السلام) من دون جُرمٍ يجترمه، ذكر ما يتعلّق بموقف الناس، فقال:

«فوَالّذي نفسي بيده، لا يُقتَل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه ...».

ص: 202

يُقتل بين ظهراني قوم.. فلا يمنعونه! لا يمنعون القتل عنه!

يزيد يقتل.. والناس لا يمنعون القتل!

الإفادة الرابعة: المطلوب من الناس

ليس المراد من الناس أكثر من أن يمنعوا القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) .

قتلٌ محقَّقٌ قصده العدوّ، فهو مطلوبٌ ومهدور الدم، ولم يُكلَّف الناسُ بأكثر من الوقوف دون وقوع هذه الجناية العظمى وصدّ العدوّ ودفع القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ..المطلوب ليس هو القيام مع الحسين (علیه السلام) إذا دعاهم لحرب العدوّ، وإنّما الوقوف مع الحسين (علیه السلام) إذا هجم عليه العدوّ ليقتله.. الوقوف معه لصدّ الهجوم عنه، إذ قال: «فلا يمنعونه»، يمنعوا القتل، أو يمنعوا الحسين (علیه السلام) ، فلا يكون المطلوب منهم أكثر من الدفاع عن الحسين ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

المطلوب ليس هو عدم خذلان سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بالاصطفاف معه حينما يدعوهم لمواجهة السلطة ويدعوهم لإسقاط حكم القرود، وإنّما المطلوب هو خذلان الظالم والدفاع عن الإمام الحسين (علیه السلام) حينما يهجم عليه السلطان ويقصد القضاء عليه وقتله، ودفع القتل عن ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

لا تجد في حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في جميع الشهادات المذكورة في هذا اللقاء ما يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) سيهجم وعلى الناس أن يقوموا معه، وإنّما

ص: 203

سيهجمون على الإمام (علیه السلام) ، وعلى الناس صدّ الهجوم عنه!

الإفادة الخامسة: أثر الخذلان

حينما يمتنع الناس عن الدفاع عن الإمام (علیه السلام) حتّى يُقتَل بين ظهرانيهم، فإنّ الله سيرميهم بداءٍ عضال، فيخالف بين قلوبهم وألسنتهم، وهو صورةٌ مجسّدة للنفاق والكذب، وهما أُمّ الرذائل وأصلها، ومَن تطبّع الكذبوالنفاق لا يمتنع عن أيّ رذيلةٍ ودنيّة، ويمضي أمره في سفال، والعياذ بالله.

الإضاءة الحادية عشر: بكاء الحسين (علیه السلام) وابن عبّاس!

بعد أن أكّد ابن عمر أنّ العدوّ عازمٌ على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ الناس موقفهم مع العدوّ لمكان ميلهم إلى الصفراء والبيضاء، وأنّ كلامه هذا صحيحٌ واستنتاجه صائب، بدليل إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) عن عزم العدوّ وإشارته إلى موقف الناس وخذلانهم حتّى يُقتَل بين ظهرانيهم، وتأكيد سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه لم يفعل سوى الامتناع عن البيعة، وليس له في مواجهة القرود قولٌ ولا فعل، وأكّد ابن عبّاسٍ ما قاله ابن عمر وقرّر ما قاله سيّد الشهداء (علیه السلام) بالحديث الّذي سمعناه، فحينئذٍ بكى ابن عبّاسٍ وبكى معه سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ويبدو أنّ تفسير هذا البكاء يكاد ينحصر في التعبير عن المظلوميّة،

ص: 204

وغربة سيّد الشهداء (علیه السلام) في هذه الأُمّة ومحاصرته ومطاردته وبقائه وحيداً فريداً، وخذلان الأُمّة لابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن ابنته (علیهما السلام) ، وتسليمه إلى الطاغي ليقتله دونما رعاية لحقّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه.

ولو كان ثمّة أفكارٌ واهتماماتٌ أُخرى سوى المظلوميّة تجلّل الموقف وتغطّي الأجواء، لما كان للبكاء معنىً واضح! وممّا يؤكّد ذلك ما سنسمعهفي العنوان التالي.

الإضاءة الثانية عشر: إعلان سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مطاردته وعزمهم على قتله وإهدار دمه وإزعاجه بلا مسوّغ، وتظلّمه ومناشدته

بعد أن بكى ابن عبّاسٍ وبكى معه الإمام الحسين (علیه السلام) ، قال مخاطباً ابن عبّاس:

«أتعلم أنّي ابنُ بنت رسول الله؟».

فقال: اللّهمّ نعم، لا نعرف في الدنيا أحداً هو ابن بنت رسول الله غيرك، وأنّ نصرك لَفرضٌ على هذه الأُمّة، كفريضة الصيام والزكاة الّتي لا تُقبَل إحداهما دون الأُخرى! ((1))

ص: 205


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

كأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يقيم على ابن عبّاسٍ ومَن بلغ الحجّة، ويسأله إن كنتُ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكلّهم يعلم ويقرّ ولا مناص له من الاعتراف بذلك، فلِمَ يلاحقوني ويريدون قتلي من دون جرمٍ ولا قصاص؟

فهو يسأل ابن عبّاس ليقرّره ذلك، فيجيب ابن عبّاس مقرّاً معترفاً عنهوعن غيره، إذ يردّ على الإمام (علیه السلام) بضمير الجمع: «لا نعرف»، مؤكّداً أن ليس على وجه الأرض يومها ابن بنت نبيّ غير سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، وهذا لا ينفي أن يكون للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) غير سيّد الشهداء (علیه السلام) أبناء، لأنّهما يتحدّثان عن ذلك اليوم بالذات لا عمّا مضى من الأيّام، وهما يتحدّثان عن (الابن) على وجه الخصوص، وإلّا فالصديقة الصغرى وأُختها أُمّ كلثوم بنات رسول الله، والحكم جارٍ فيهما أيضاً.

ويقرّر ابن عبّاس أيضاً أنّ نصر سيّد الشهداء (علیه السلام) فرضٌ على الأُمّة، والنصر هنا معلومٌ تماماً، وهو الذبّ والدفاع عنه ومنع قتله، ويشهد له ما احتجّ به سيّد الشهداء حيث قال (علیه السلام) :

«يا ابن عبّاس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره وموضع قراره ومولده وحرم رسوله ومجاورة قبره ومسجده وموضع مهاجرته، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرارٍ

ص: 206

ولا يأوي إلى وطن، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً ولا اتّخذ دون الله وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخلفاؤه من بعده؟» ((1)).

اَلله أكبر! أتجد تصريحاً أكثر وضوحاً وتعبيراً من هذا التصريح؟سيّد الشهداء (علیه السلام) يفسّر خروجه من المدينة ويعلّله بكلماتٍ واضحاتٍ بيّناتٍ صريحات، لا تكاد تقبل التأويل ولا الالتفاف عليها، ولا إقحام ما ليس منها فيها!

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يخرج من المدينة طواعية، وإنّما أخرجوه وهو ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

أخرجوه من وطنه وداره..

أخرجوه من موضع قراره، فلم تعد المدينة له موضع قرار..

أخرجوه من مولده ومسقط رأسه..

أخرجوه من حرم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذي يعتقد به ويؤمن به (رسوله)، والظاهر أنّ الهاء في رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) يعود على سيّد الشهداء (علیه السلام) بقرينة السياق..

أخرجوه، وحرموه من مجاورة قبر جدّه ومسجده، وهو شرع لكلّ

ص: 207


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

المسلمين..

أخرجوه من موضع مهاجرة جدّه (صلی الله علیه و آله و سلم) ، الموضع الّذي بايع فيه المهاجرون رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) جدّه أن يدفعوا عنه وعن أهله كما يدافعون عن أهاليهم وذويهم..

تركوه خائفاً!

تركوه مرعوباً!تركوه لا يستقرّ في قرار!

لا تقلّه الأرض ولا تظلّه السماء! (فكأنّما الدنيا عليه محرّم)..

تركوه لا يأوي إلى وطن! (لا يدري أين يُريح بُدن ركابه)..

طاردوه هذه المطاردة، وحاربوه هذه الحرب القاسية، لا يريدون بذلك سوى شيءٍ واحد!

إنّهم جعلوا المطالبة بالبيعة ذريعةً ليس إلّا، لأنّهم يعلمون أنّه لن يُبايع، أمّا قصدهم الأساس هو ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) وحصره..

إنّهم يريدون قتله وسفك دمه!

هم يريدون قتله، وهو لم يشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ دون الله وليّاً، ولم يخرج عن ملّة الإسلام، ولم يغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه من بعده!

إنّه لم يفعل ما يستوجب القتل على جميع المباني والشرائع.. لا على

ص: 208

شريعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا على شريعة السقيفة..

لم يفعل ما يستوجب المطاردة وإهدار الدم والقتل..

هكذا تظلّم الإمام (علیه السلام) ، وصرّح بوضوحٍ عن سبب تركه المدينة ودخوله مكّة لائذاً عائذاً بالله وببيته..

إنّما ترك المدينة؛ لأنّهم أخرجوه واضطرّوه للخروج عن وطنه، لأنّهم يريدون قتله وسفك دمه.. لا لأنّه يريد الخروج منها ليواجههم ويحاربهموقد خطّط لإسقاط حكمهم والانقضاض على ملكهم، بل إنّما خرج لأنّهم أرادوا أن يستبيحوا حرمته وحرمة جدّه ومدينة جدّه الّتي جعلها النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) حرماً آمناً ما بين لابتَيها..

ولو كان ثَمّة سببٌ آخَر لَأشار إليه أبو الشهداء (علیه السلام) ولَنوّه إليه، ولَما اقتصر في تحريضهما على الذبّ عنه شخصيّاً والدفاع عن دمه ومنع القتل عنه.

تصريحٌ واضحٌ جليٌّ من سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّ القوم أرادوا قتله وسفك دمه، فخرج مضطرّاً لحفظ نفسه وحرمه، فهم أرادوا قتله فخرج، لا أنّه أراد قتلهم وقتالهم فخرج!

ولو كان ثمّة تخطيطٌ مسبَقٌ عند الإمام (علیه السلام) للانقضاض على السلطة وتقويض دعائم بني أُميّة الحاكمة، لَأشار إليها ولو من بعيد! إنّه لم يذكر علّةً لخروجه من المدينة سوى الدفاع عن نفسه النفيس _ فداه روحي _!

ص: 209

الإضاءة الثالثة عشر: إقرار ابن عبّاس بمظلوميّة الإمام (علیه السلام)

اشارة

يمكن الحديث في هذه الإضاءة ضمن اللمعات التالية:

اللمعة الأُولى: الإقرار بالمظلوميّة والحكم على الناس

أجاب ابن عبّاسٍ مناشدة الإمام (علیه السلام) وتظلّمه دون اعتراضٍ عليه، فلم يقل له: أنت الّذي عزمتَ على الخروج من المدينة بحثاً عن أنصارٍ ومبايعين يلتفّون حولك ويقاتلون بين يديك لتقاتل المتسلّطين على الناس والغاصبين للحكم، وإنّ مَن يطلب مثل ما تطلب لا يخاف ولا يكلّ، وعليك أن تنظر إلى الناس، فإنّهم كما أخبرك ابن عمر عبيد الصفراء والبيضاء، وقد بايعوا يزيد وما لهم فيك مأرب.. وغيره من كلامٍ يشبه هذا.

وإنّما أقرّ بما جرى لسيّد الشهداء (علیه السلام) من خذلانٍ ومطاردةٍ وتنجيزٍ لإرادة قتله وسفك دمه، وحكم على الناس بقوله:

ما أقول فيهم ﴿إِلّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾ ((1))، ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلّا قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء﴾ ((2))_ الآية، فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى.

ص: 210


1- سورة التوبة: 54.
2- سورة النساء: 142 و143.

وأمّا أنت أبا عبد الله، فإنّك رأس الفخار، ابنُ رسول الله وابنُ وصيّه، وفرخُ الزهراء نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن رسول الله بأنّ الله غافلٌ عمّا يعمل الظالمون ...

فهم كفّارٌ بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، منافقون، لا يذكرون الله، ظالمون، تنزلعلى مثلهم البطشة الكبرى..

والإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) مظلوم، وهو ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن وصيّه (علیه السلام) ، وفرخ الزهراء نظيرة البتول (علیهما السلام) الّتي عاداها قومها لأنّها ولدت عيسى (علیه السلام) ..

والحسين (علیه السلام) بعين الله، واللهُ لا يغفل عمّا يعمل الظالمون.. فلا يظنّ!! الحسين (علیه السلام) أنّ الله يغفل عن ظليمته..

وربّما كان قصده مِن «لا تظنّ» المواساة والتعزية والتسلية لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه بعين الله.

هذا، إنْ أحسنّا الظنّ بابن عبّاس، وإلّا ففي لحن كلامه سوء أدبٍ مع الإمام (علیه السلام) ، «فلا تظنّ..»، إذ لا ينبغي لمثل ابن عبّاس أن يعظ الإمام (علیه السلام) ويذكّره ويعلّمه أنّ الله لا يغفل عن الظالمين!

وما مدح به ابن عبّاس سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّها حقائق لا ينكرها أحد، وقد ذكرها ابن عبّاسٍ للمقارنة بينه وبين أعدائه الّذين يريدون قتله.

ص: 211

اللمعة الثانية: تأكيد ما ذكره الإمام (علیه السلام)

ثمّ أكّد ما ذكره الإمام (علیه السلام) من إرادة قتله وسفك دمه بشهادةٍ قدّمها بين يدَي الإمام (علیه السلام) ، فقال:وأنا أشهد أنّ مَن رغب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك ((1))، فما له في الآخرة من خَلاق ((2)).

فهم الّذين رغبوا عن مجاورة الإمام (علیه السلام) ، وطمعوا في محاربته ومحاربة نبيّ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وبنيه، وهؤلاء ليس لهم في الآخرة من خَلاق..

هم الّذين طمعوا في محاربة الإمام (علیه السلام) ، وليس الإمام (علیه السلام) هو مَن بادر إلى محاربة أحدٍ أو منافسة أحدٍ أو الدعوة إلى البيعة في مقابل بيعة أحد!

وقد أشهد سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) اللهَ على شهادة ابن عبّاس، فقال: «اللّهمّ اشهدْ ...».

المقابلة في كلام ابن عبّاسٍ بين مجاورة الإمام (علیه السلام) ومحاربته، فهي مِن جانب الإمام (علیه السلام) مجاورة، ومن جانب الأعداء طمعٌ في محاربته، ويبدو واضحاً ما في الطمع من إشعارٍ عميق.

ويبدو أنّهما معاً (المجاورة والطمع في المحاربة) إذا اجتمعا تجعلان

ص: 212


1- في المقتل: (مجاورة نبيّك).
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

الفرد ما له من خَلاق.

اللمعة الثالثة: اللّهمّ اشهدْ

بعد أن أنهى ابن عبّاسٍ كلامه، قال الإمام (علیه السلام) : «اللّهمّ اشهدْ ...» ((1)).

أوَ ليس يعني ذلك: اللّهمّ اشهد على ابن عبّاس؟ اللّهمّ اشهد أنّ ابنعبّاس يزعم أنّه يعرفني، وأنّي رأس الفخار، وأنّ مَن يرغب عن مجاورتي ويطمع في محاربتي كافرٌ منافقٌ يستحقّ أن تنزل عليه البطشة الكبرى!

اللّهمّ اشهد أنّ ابن عبّاسٍ يزعم أنّ مَن يرغب عن مجاورتي ويطمع في محاربتي ما له من خَلاق..

اللّهمّ اشهد أنّ ابن عبّاسٍ قال هذا كلّه، وهو يعلم ما يقول، وهو يعرف يزيد ويعرف ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ويعلم أنّ ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) والوصيّ (علیه السلام) والطاهرة البتول (علیها السلام) في خطر، وأنّه مظلوم، وأنّ القوم لا يتركوه حتّى يقتلوه..

اللّهمّ اشهدْ.. لا يمكن التفكيك بينها وبين كلام ابن عبّاس، وأنّها شهادةٌ عليه فيما قال، وتسجيلٌ وتثبيتٌ لما قال، وأنّه هو ابن عبّاسٍ الّذي قال، والله لا يضلّ ولا ينسى..

يبدو أنّ ابن عبّاس فهمها، فقال: كأنّك تريدني إلى نفسك ...

ص: 213


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
اللمعة الرابعة: كأنّك تريدني إلى نفسك!

فقال ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك [تنعى إليّ نفسك، و] تريدني إلى نفسك وتريد منّي أن أنصرك! واللهِ الّذي لا إله إلّا هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي [خ ل: كتفي]، لَما كنتُ ممّن أُوفي من حقّك عُشر العشر! وها أنا بين يديك، مُرْنيبأمرك.

بعد كلّ الحُجج الّتي أقامها عليهما سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أدرك ابن عبّاس على نحو الاحتمال (كأنّك) أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مظلومٌ معتدىً عليه، وهو في خطر، وكأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يريده ليدفع عنه ويمنعه، وأنّه يريد منه أن ينصره! فأقسم بالله أن لو ضرب بين يديه حتّى ينخلع كتفه أو كفّه لما وفى من حقّه عُشر العشر، وأعلن أنّه بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) يأتمر بأمره..

فهل وقف يذبّ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ وهل كان صادقاً فيما قال بحيث يوافق قوله عمله؟! أو أنّه كأهل الكوفة وغيرهم ممّن أعلن النصرة أوّلاً، فلمّا جدّ الجدّ وكشّر العدوّ عن أنيابه وصرّت الحربُ أسنانها وقامت على ساقٍ انكفأ؟!

أكان ابن عبّاسٍ على استعدادٍ لبذل مهجته في الدفاع عن ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟

فلمَ لمْ يحضر كربلاء؟!

ص: 214

لم يحضر ابن عبّاس! ولا يبدو الاعتذار له أنّه كان كفيفاً اعتذاراً مقبولاً، فهو إنّما أعلن عن نصرته، لأنّه كان قادراً عليها ولو بما يناسبه.

لم يدفع أحدَ أولاده وإخوته وأولاد إخوته، أو أيَّ أحدٍ من رجال بني العبّاس وشبابهم وفتيتهم للحضور بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) !

إنّ القوم لا يردعهم رادعٌ عن ارتكاب الجناية العظمى، وقد عدَوا علىابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فذبحوه، بَيد أنّهم ربّما تريّثوا أو تذبذبوا وارتجّ موقف بعضهم إذا رأى ابن عبّاسٍ في صفّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو صديق عمر، وله عند رجالات السقيفة المنزلة والمكانة والوجاهة الوجيهة..

هلّا نصر إمامه بخطبةٍ أو كلمة، أو مكاتباتٍ مستمرّةٍ مع يزيد القرود، أو حثٍّ وتشجيعٍ للحجيج ليعرّفهم بمظلومية إمامهم وابن نبيّهم، وغيرها ممّا كان بالإمكان أن يكون لو أراد أن يكون؟

لقد أذن سيّد الشهداء (علیه السلام) لأهل بيته وأصحابه بصراحةٍ وبوضوحٍ في أكثر من موقف، بَيد أنّهم لم يخذلوه.. ولم يحضر أحدٌ من بني العبّاس كربلاء!!

لقد قال له سيّد الشهداء (علیه السلام) :

«فامضِ إلى المدينة في حفظ الله، ولا تُخفِ علَيّ شيئاً من أخبارك ...».

قالها له سيّد الشهداء (علیه السلام) مبادراً مستدركاً كلامه بعد أن أنهى كلامه

ص: 215

مع ابن عمر، كما سنسمع بعد قليل.

«وأنت يا ابن عبّاس، فامضِ إلى المدينة».. وهذا الاستدراك والمبادرة بعد أن قطع ابن عمر كلام ابن عبّاس وتدخّل، وتداول الكلام مع الإمام (علیه السلام) ، فردّه الإمام (علیه السلام) ، ثمّ التفت إلى ابن عبّاسٍ فقال له: «وأنت.. فامضِ..»، يُشعر بعدم جدّيّة ابن عبّاسٍ في ما عرض، وأنّه أعلن ذلكليستفيد من حياء الإمام (علیه السلام) وإبائه وترفّعه واستغنائه، وهو يعلم _ لمعرفته بالإمام (علیه السلام) _ أنّه سيأذن له ويصرفه، والإمام (علیه السلام) أعرف الخلق بالخلق، وقد أطلعه الله على نوايا العباد، والمواقف تكشف الرجال، وتقاسيم الوجه وتعابير العيون ومعاني الوجه قد تنطق بما لا ينطق به اللسان.

فإن كان الإمام (علیه السلام) قد أذن لابن عبّاسٍ في هذا الموقف، فلقد استنهضه في موقفٍ بعده حين كتب كتابه إلى بني هاشم:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

ص: 216


1- أُنظر: بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 482 الباب 9 ح 5، كامل الزيارات لابن قولويه: 75 الباب 23 ح 15، دلائل الإمامة للطبري: 188، نوادر المعجزات للطبري: 245، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 98 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

ولو كان ابن عبّاسٍ جادّاً فيما عرضه على الإمام (علیه السلام) من النصرة حتّى ينخلع كفّه أو كتفه، لَلزم ركاب الإمام (علیه السلام) وما فارقه، بل سارع إلى بيعة يزيد وهو في مكّة، كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى من البحث وذكرنا مصادره.

ولا يصلح الاعتذار له بكبر السن؛ وذلك لأنّه لا يكبر الإمام (علیه السلام) بحساب السنين إلّا بضع سنين بالاتّفاق، وقد قاتل بين يدَي الإمام (علیه السلام) مَن هو أكبر منه سنّاً بكثير، وأبلى بلاءً حسناً، وهو من بني هاشم!

ولا يفيد كلام الإمام (علیه السلام) أنّه قد كلّفه بمهمّةٍ تخلّفَ مِن أجلها فيالمدينة، إذ أنّه قال له: «امضِ إلى المدينة، ولا تُخفِ علَيّ أخبارك».. أخباره هو شخصيّاً كابن عمٍّ للإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يطلب منه أن يخبره بما يجري في المدينة، كأن يكون عيناً له أو ما شاكل.

إنّها الأخلاق الحسينيّة، والمداراة، والاهتمام بالرحم أيّاً كان!

على كلّ حال، فإنّ عبارة الإمام (علیه السلام) : «فامضِ إلى المدينة في حفظ الله» قد لا تفيد حتّى الإذن، وإنّما عرض ابنُ عبّاسٍ على الإمام (علیه السلام) نصرته عرضاً محرجاً بعد أن أقام الإمام (علیه السلام) عليه الحجج والبراهين، من خلال كلامه معه مباشرةً أو من خلال كلامه مع ابن عمر، وهو يسمع، فأُحرج الرجل واضطُرّ إلى عرض نصرته غير راغبٍ فيها، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) معدن الحياء وأصله، وهو لا يريد أن يقاتل معه أحدٌ محرَجاً، كما بان لنا

ص: 217

من خلال تعامله مع أصحابه وأهل بيته، فقال له: «وأنت يا ابن عبّاس، فامضِ إلى المدينة»..

فربّما أشعر ذلك أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يرفع الحرج عنه، فقال له: «امضِ إلى المدينة»، فاستقبلها ابن عبّاس، ومضى.. ولو كان صادقاً فيما زعم لَأقام حتّى يكلّ عن فري أوداج الأعداء، ويُقتَل بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو على الأقلّ لَراجع الإمام (علیه السلام) ولو مرّةً واحدةً بعدها!

ويُلاحَظ أنّ ابن عبّاس لم يَعِد الإمام (علیه السلام) بالقتال بين يديه حتّى الموت، وإنّما قال له: «لو ضربتُ بين يديك بسيفي حتّى ينقطع وتنخلع يدايجميعاً، لَما كنتُ أبلغ من حقّك..»، فهو لم يفترض القتل بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد افترض القتال افتراضاً مستخدماً (لو)! والحال أنّه قدّم له: «كأنّك تنعى إليّ نفسك»، فهو قد علم من كلام الإمام (علیه السلام) أنّ الإمام (علیه السلام) ينعى نفسه وأنّه سيُقتَل، ولكنّه لم يَعِد الإمام (علیه السلام) أن يُقتَل دونه، وإنّما وعده أن يقاتل ما استطاع إلى القتال سبيلاً.

* * * * *

لكن يبقى هذا فرقٌ بين ابن عبّاسٍ وابن عمر؛ إذ أنّ ابن عبّاسٍ هاشميّ، وقد عاش في أجواءٍ قريبةٍ من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتعلّم من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) شيئاً من الأدب، والهاشميّ _ في الغالب _ بطبعه دمث الأخلاق، رقيق، ليّن العريكة، مجامل، عذب البيان، ذَلِق اللسان،

ص: 218

مرهف الحسّ، حاذق، ذكيّ، حاضر البديهة، بليغ التعبير.

لذا انبرى ابن عبّاسٍ ليعالج حرجه بعد أن لاحت الحجّة وتمّ البيان، ليعلن عن موقف، وإن لم يكن له بالحسبان، ولم يفكّر في الثبات عليه، وهو يعرف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه سوف لا يكرهه على شيءٍ هو يعلم أنّه غير جدّيّ فيه، فيجعله بما عنده من حذق وخبرة له أماناً ورخصةً وإذناً وعذراً وفسحة.

بيد أنّ ابن عمر _ الّذي نشأ على يدَي أبيه الّذي أجمع الناسُ على وصفه بالغلظة والفضاضة وصلابة الوجه _ لم يُبدِ هذا القدر من المجاملة،ولم يتحرّج من الموقف، وكأنّه من أهل القبور.. (وما أنت بمسمعٍ مَن في القبور).

الإضاءة الرابعة عشر: سماجة ابن عمر، مع اعترافه أنّ العدوّ عازمٌ على قتل الحسين (علیه السلام)

لقد سمع ابن عمر كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والمفروض فيه أن يعيَ الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ، والدوافعَ الّتي اضطرّته إلى ترك المدينة والتوجّه إلى مكّة البلد الحرام، وكان في ما عرضه سيّد الشهداء (علیه السلام) ما يكفي لو لم يكن في العقل خفّةٌ وقدرةٌ على التعايش مع التناقضات والتسليم للتخريف والمماحكات..

ص: 219

لقد بكى ابن عبّاس، وبكى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يحدّثنا الراوي أنّ ابن عمر بكى هنا، رغم حضوره في نفس المكان واشتراكه في الموقف، وبعد كلّ ما جرى من حديثٍ يُفهِم الغبيّ فضلاً عن الفطن، ويُدركه مَن له أدنى مسكةٍ من عقل، عاد ابن عمر ليُقبِل على سيّد الشهداء (علیه السلام) ويقول:

مهلاً أبا عبد الله عمّا أزمعتَ ((1)) عليه، وارجعْ معنا ((2)) إلى المدينة، وادخلْ في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك وحرمجدّك، ولا تجعل لهؤلاء القوم الّذين لا خَلاق لهم على نفسك حجّةً وسبيلاً، وإنْ أحببتَ أن لا تبايع فإنّك متروكٌ حتّى ترى رأيك، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلّا قليلاً، فيكفيك الله أمره ((3)).

* * * * *

لا يُدرى بماذا يُفسَّر كلام ابن عمر؟ كيف يعود إلى نفس الموقف ويعيد نفس الكلام؟!

أوَليس قد عرف أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لن يبايع يزيد؟

أوَليس قد حكم على نفسه حينما سأله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأكّد

ص: 220


1- في (المقتل): (عزمت).
2- في (الفتوح): (من هنا).
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.

بنفسه أن لا يجدر بمثل الحسين ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يكون على خطأ، ولا يصلح لمثل الحسين (علیه السلام) أن يسلّم على يزيد القرود والخمور بالخلافة؟!

أوَليس قد أبان له سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه خرج من المدينة مضطرّاً مهدَّداً مهدور الدم مباح الحرمة، لولا أن تداركها هو _ فداه روحي _ بخروجه؟!

أنسي الظليمة التي تظلّم بها سيّد الشهداء (علیه السلام) في نفس الموقف، أم تغابى عنها، أم أنّه غبيٌّ لا يسعه فهم الكلام؟

أم أنّه يريد أن يشكّك في كلام الإمام (علیه السلام) ؟أم أنّ الدنيا أعمته وأصمّته، وأفقده ميله إلى الصفراء والبيضاء صوابه؟!

أم أنّ مبادئ السقيفة تشرّبت في عروقه، وطرائق السلف عرّقت في كيانه ووجوده؟

أم أنّه أراد أن يتظاهر بزيّ المتنسّكين؟

أو حاول أن يُبدي نفسه في زمرة العقلاء والمدبّرين؟

أو أنّه كان يُفرغ عن لسان يزيد وطواغيته، ويسعى جاهداً لتحقيق أغراضه ليبلغ مآربه في قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟

أو هي جميعاً مجتمعة؟! ربّما!

ص: 221

لقد عاد من جديدٍ يهوّن الخطب، وكأن لم تعد الدنيا محرّمة على قرّة عين الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وبضعته، وكأن لم يتقاذفه الفضاء الأعظم نتيجة ملاحقة القوم لسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وكأن لم يزبد يزيد ويرعد ويتوثّب ويغلي بطبعه كقردٍ متوحّشٍ مسعورٍ ليلغ في الدماء الزاكية، فيطالب الولاة برأس الحسين (علیه السلام) !

ثمّ إن عاش يزيد طويلاً، فماذا سيصنع الإمام (علیه السلام) ؟ وهل كان ابن عمر مخوّلاً بهذا الكلام من قِبل يزيد؟ وهل كانت عنده عهودٌ ومواثيقٌ من الله أن سيقضي على يزيد عاجلاً ويريح سيّد الشهداء (علیه السلام) منه؟!

الإضاءة الخامسة عشر: ردّ سيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

ردّ عليه سيّد الشهداء (علیه السلام) ردّاً أبلغه فيه تذمّره من كلامه، ثمّ جعل يناشده ويحتجّ عليه، حتّى حَجَّه وأقام عليه الحجّة كاملةً تامّة، فقال (علیه السلام) :

أُفٍّ لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض! أسألك بالله يا أبا عبد الرحمان ((1))، أعندك أنّي على خطأٍ من أمري هذا؟ فإنْ كنتُ عندك على خطأٍ فردّني عنه، فإنّي أخضع ((2)) وأسمع وأُطيع.

فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله (تبارك وتعالى) ليجعل ابن

ص: 222


1- في (الفتوح): (عبد الله).
2- في (المقتل): (أرجع).

بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك في طهارته وصفوته وموضعه من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يسلّم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة ((1))، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجعْ معنا إلى المدينة، وإن لم تحبّ أن تبايع ((2)) فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك ((3)).

* * * * *

تضمّن هذا المقطع من النصّ عدّة مضامين:

المضمون الأوّل: لو كان الحياء رجلاً لَكان الحسين (علیه السلام)

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حديث: «لو كان الحياء رجلاً لَكان الحسين (علیه السلام) » ((4))، وهو إمام الخلق، ويجري فيه ما يجري في جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .. ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾!

وما أوسع صدر سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي رضّته الخيل؟! كيف تعامل مع الوغد الغبيّ، والمتسافل المتملّق، المتمسّك بذيل القرد المخمور، ووسعه

ص: 223


1- في (الفتوح): (على مثل يزيد بن معاوية لعنه الله باسم الخلافة).
2- في (المقتل): (وإن شئت أن لا تبايع).
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
4- أُنظر: مئة منقبة لابن شاذان: 136 المنقبة 68.

وتواضع له؟!

أوَ مثل سيّد الشهداء (علیه السلام) وسيّد شباب أهل الجنّة يقول له: «فإن كنتُ عندك على خطأٍ فردّني، فإنّي أخضع وأسمع وأُطيع»؟!!

أيّ حلمٍ هذا؟ وأيّ تواضع؟ وأيّ يقين؟ لا والله لا يمكن أن يكون إلّا في المظهر الحقّ لصفات الله وجماله وجلاله.

أمّا أن يُفهم من هذا الكلام أنّ الإمام (علیه السلام) قد جعل في رأيه مساحةً للخطأ والصواب خارجةً عن الاختيار، فهو فرضٌ مرفوضٌ عند القائل بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) وعصمته، وسيأتي الكلام في ذلك عن قريب.

أجل، قد يكون _ على أقصى التقادير _ من باب المحاججة والتسليم، على وزان قوله (تعالى): ﴿إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ((1))،وحمل الأوّل للأوّل والثاني للثاني.

المضمون الثاني: أُفٍّ لهذا الكلام!

كانت دعوة ابن عمر تتلخّص في أن يتمهّل الإمام (علیه السلام) فيما عزم عليه، ويرجع الإمام (علیه السلام) إلى المدينة، ويدخل في صلح القوم، ولا يجعل للقوم عليه حجّةً وسبيلاً، ويترك الأمر حتّى يموت يزيد، وهو يأمل أن يعيش قليلاً.

ص: 224


1- سورة سبأ: 24.

فردّ عليه الإمام (علیه السلام) : «أُفٍّ لهذا الكلام ما دامت السماوات والأرض..».

أُفٍّ لهذا الكلام أبد الدهر.. أُفٍّ لهذا الكلام كلّه بجميع فقراته..

أُفٍّ لهذا الكلام؛ لأنّه يتضمّن الإفك على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والتعامي والتغافل والتغابي عن الحقائق والوقائع المنظورة لكلّ ذي عينين..

أُفٍّ لهذا الكلام؛ لأنّه ينمّ عن جهلٍ مطبق مطلَق بالإمام (علیه السلام) ..

أُفٍّ لقوله: «مهلاً عمّا أزمعتَ عليه»؛ لأنّه كذبٌ على الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّه لم يزمع إلّا على الدفاع عن نفسه، فكيف يدعوه للتمهّل في ذلك؟

أُفٍّ لقوله: «ارجع معنا إلى المدينة»؛ لأنّه صمّ أُذنه وطبع على قلبه، ولم يسمع الإمام (علیه السلام) وهو يتظلّم إليه ويشرح له ظروفه في المدينة وسبب خروجه منها، وملاحقة القوم له وإزعاجه، فخرج مضطرّاً لا راغباً في الخروج!

أُفٍّ لقوله: «ادخل في صلح القوم»؛ لأنّه يعرف سيّد الشهداء (علیه السلام) ،ويعرف القوم، ويعلم أنّ مثل الإمام (علیه السلام) لا يصلح له أن يدخل في صلحهم ويبايعهم ويناول القرود، ويعلم أنّ القوم لا يبغون الصلح، وإنّما يريدون قتل الإمام (علیه السلام) .

أُفٍّ لقوله: «لا تغب عن وطنك وحرم جدّك».. وهو يعلم ما تجرّعه الإمام (علیه السلام) من القوم قبل أن يخرج ويغيب عن وطنه وحرم جدّه، وهو يُوري بكلامه هذا الأحزانَ في قلوب مَن كان مع الإمام (علیه السلام) ، ويضاعف

ص: 225

وجْدَهم وألمهم الّذي خلّفه الفراق لتربة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ومسقط الرأس.

أُفٍّ لقوله: «لا تجعل لهؤلاء القوم الّذين لا خَلاق لهم على نفسك حُجّةً وسبيلاً».. إن كان يعترف ابن عمر أنّ هؤلاء القوم لا خلاق لهم، ويؤمن أنّ الإمام ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّد المسلمين، فكيف يفوه بمثل هذا الهراء، إن كان يتلو كتاب الله العزيز وهو يقول: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرينَ عَلَى الْمُؤْمِنينَ سَبِيلاً﴾ ((1)

ثمّ بماذا يكون لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) الحجّة والسبيل، وهو لم يفعل شيئاً، ولم يُعلِن شيئاً، ولم يتّخذ موقفاً سوى إباء البيعة؟

أيكون الدفاع عن النفس جرماً يؤاخَذ به الرجل؟أُفٍّ له؛ لأنّه صمّ سمعه عن كلام الإمام (علیه السلام) ، وهو يُخبره عن موقفه في المدينة.

أيُّ حجّةٍ لهم عليه أو سبيلٍ كي يريدون قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دون الله وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه من بعده؟

أُفٍّ لقوله: «إن أحببت أن لا تبايع، فإنّك متروكٌ حتّى ترى رأيك»..

ص: 226


1- سورة النساء: 141.

فمَن هو ابن عمر هذا؟ أيقول ما يقول بتخويلٍ من يزيد؟ فقد كذب وكذب يزيد، إذ أنّ يزيد أبى إلّا أن يخيّر الإمام (علیه السلام) بين السلّة والذلّة، وبين المناولة والقتل، فكيف يزعم ابن عمر أنّه إن أحبّ أن لا يبايع، وأنّه متروكٌ حتّى يرى رأيه؟

ألم يخبرهم سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه لن يبايع، فأبوا إلّا أن يبايع أو يُقتل؟ فكيف يزعم ابن عمر من عند نفسه ذلك، وقد سمع من الإمام (علیه السلام) ما أخبره به في نفس الموقف؟

أيكذّب هذا الصعلوك الواطي الإمامَ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويقول له: إنّك إن أقمت في المدينة ولم تبايع، فإنّهم سوف يتركونك؟

أم أنّه لا يفهم ولا يُدرك ولا يعقل، وقد أخبره الإمام (علیه السلام) بمجريات أحداث المدينة ومحاصرته هناك وتخييره؟ ألم يسمع كلام الإمام (علیه السلام) ؟ ألم يدرك كلام الإمام (علیه السلام) ؟ ألم يفهم كلام الإمام (علیه السلام) ؟بأيّ لغةٍ كلّمه سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ ألم يكلّمه باللغة العربيّة، وهو أميرها ومالكها، فلماذا لا يفهم ولا يُدرك؟

أُفٍّ لقوله: «فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلّا قليلاً»؛ لأنّه يغالط ويراوغ مراوغة الثعلب الماكر الخبيث، لأنّه يريد أن يستمهل الإمام (علیه السلام) ، ويستبقيه في محلّه حتّى يتسنّى للقرد أن يفعل فعلته كما خطّط لها، فيقضي على الإمام (علیه السلام) غيلةً أو أسراً في المدينة بين ظهراني الأنصار

ص: 227

والمهاجرين وفي حرم الرسول الأمين (صلی الله علیه و آله و سلم) .

فيزيد لا يترك الإمام (علیه السلام) قطعاً جزماً، كما أخبر ابن عمر نفسه، وأخبر ابن عبّاس، وشهدت بذلك سلوكيّاته وتحرّيّاته وكتبه وفعّاليّاته، وبذلك فإنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يعيش إلّا قليلاً إن رجع إلى المدينة، فكيف يتعامى ويتغابى ويريد أن يُقنع الإمام (علیه السلام) بهذه الوسائل الطائشة الّتي تنمّ عن رعونته؟

ثمّ إنّه لم يكن هو ممّن يعرف الآجال والمنايا، فمَن ذا الّذي يضمن أنّ يزيد سيعيش قليلاً؟ فإن طال به الأمد، فهل سيكفّ عن الإمام (علیه السلام) ولا ينشب فيه أظفاره ومخالبه؟

وإن كفاه الله أمره فأماته، فستنتهي القضيّة وتصفو الأجواء ويكون البلد سلاماً على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وبنو أمية لا زالوا يتسلّقون الواحد تلو الآخَر على أعواد المنبر، يرصدون لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويبيّتون القضاء عليهمواستئصالهم عن جديد الأرض؟

أُفٍّ لكلّ كلمةٍ من كلمات ابن عمر.. أُفٍّ لكلّ جملةٍ خرجت من فمه.. أُفٍّ لكلّ كلامه من أوّله إلى آخره..

أُفٍّ لأفكاره وطريقة عرضه وإقناعه.. أُفٍّ لإفكه وكذبه وغبائه وإعراضه عن استماع الحقّ وفهمه واتّباعه..

أُفٍّ لدعوته وبيانه ومغالطاته ومراوغته... أُفٍّ لكلامه.. أُفٍّ لا ينتهي

ص: 228

ولا ينقضي ما دامت السماوات والأرض.. أُفٍّ له أبداً لا أمد له..

المضمون الثالث: القسَم على ابن عمر

قال له الإمام (علیه السلام) : «أُفٍّ لهذا الكلام»، ولم يقل له: أُفٍّ لك.. إنّه الأدب والحلم الحسيني!

ثمّ ناشده الإمام (علیه السلام) ، وأقسم عليه بالله، وسأله وخاطبه باسمه: «أسألك بالله يا عبد الله».. وفي نسخة الخوارزميّ خاطبه بكنيته: «يا أبا عبد الرحمان!»، فالسؤال له بالذات دون غيره.

ثمّ سأله الإمام (علیه السلام) سؤالاً واحداً: «أنا عندك على خطأٍ من أمري هذا؟».

يُلاحَظ أنّه سأله إن كان على خطأٍ عنده، يعني إن كان ابن عمر شخصيّاً يعتقد أنّ الإمام (علیه السلام) على خطأ! فالإمام (علیه السلام) هو إمامٌ عالمٌ عارفٌ بما أقدم عليه من أمره، فهو على يقينٍ من أمره، إنّما يريد أن يقرّر ابن عمر ويحتجّعليه ويحكمه بما يعتقده هو بالذات.

ثمّ عاد الإمام (علیه السلام) ليؤكّد له نفس المضمون بعبارةٍ أُخرى في نفس الجملة: «فإن كنتُ عندك على خطأٍ فردّني».

وهذه العبارة تحمل روح العبارة الأُولى من الإشارة بوضوحٍ إلى اعتقاد ابن عمر شخصيّاً بخطأ الإمام (علیه السلام) .. «فإن كنتُ عندك»، ولم يفترض الإمام (علیه السلام) في موقفه خطأً كي يُقال: إنّ الإمام (علیه السلام) جعل في رأيه مسافةً لإمكان الخطأ والصواب!

ص: 229

المضمون الرابع: الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام)

حينما يقول الإمام (علیه السلام) لابن عمر: «على خطأٍ من أمري»، ينبغي أن نعرف هذا الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام) إلى تلك اللحظة الّتي حصلت فيها المحاورة على الأقلّ.

ومن الواضح من خلال تتبّع النصّ وسير الأحداث أنّ غاية ما كان من أمر الإمام (علیه السلام) يومذاك إنّما هو الامتناع عن البيعة الّذي أعلنه الإمام (علیه السلام) عند والي المدينة، ولم نسمع في التاريخ أيّ نشاطٍ إلى تلك الساعة قد مارسه الإمام (علیه السلام) أو مَن كان معه من أهل بيته وأتباعه.

الامتناع عن البيعة فقط! هذا هو الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام) ، لا غير، ويؤكّد ذلك أنّ حديث ابن عمر البائس إنّما كان يتركّز على الدخولفي البيعة والدخول في صلح يزيد وفي صلح ما دخل فيه الناس.. ولم يكن ثَمّة أمرٌ آخَر تعرّض له ابن عمر في كلامه أو سجّله التاريخ غير الإباء عن البيعة.

فسؤال الإمام (علیه السلام) من ابن عمر إنْ كان مخطأً في أمره على اعتقاد ابن عمر إنّما ينحصر في هذا الأمر الوحيد إلى تلك الساعة، كما سنسمع ذلك واضحاً من جواب ابن عمر حينما ردّ على هذا السؤال بالذات.

المضمون الخامس: فردّني..

يبدو أنّ قول الإمام (علیه السلام) : «فردّني، فإنّي أخضع وأسمع وأُطيع»، إن كان ابن

ص: 230

عمر يعتقد أنّ الإمام (علیه السلام) على خطأٍ في امتناعه عن البيعة، أشبه ما يكون بالتعليق على المستحيل، من قبيل: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ ((1))، إذ يستحيل أن يكون الإمام (علیه السلام) على خطأ، وهو المعصوم المسدَّد من الله، وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وقد فرض الله طاعته على العباد، بل على المخلوقات جميعاً.

فالإمام معصومٌ من جهة، ومفروض الطاعة على العباد من جهةٍ أُخرى، فلا يمكن أن يخطأ، ولا أن يخضع أو يطيع غيره من الخطّائين المذنبين فيأمرٍ لا يعرفونه ولا يمكنهم إدراك كنهه.

غير أنّ الإمام (علیه السلام) جرى معه مجرى التسليم الجدليّ ومداراة الجاهل، وعبّر له عن ثقته ويقينه بصحّة ما يفعله من الامتناع عن البيعة، وسايره ليقرّره بنفسه، ويفسح له المجال ليعترف بخطئه هو (أي: ابن عمر) بلسانه، ويشرح بنفسه مسوّغات الإمام (علیه السلام) في الامتناع، وأنّ الإمام (علیه السلام) على حقّ، وأنّ ابن عمر على خطأٍ فيما يقول.

المضمون السادس: من فوائد التقرير

لقد قرّر سيّد الشهداء (علیه السلام) ابن عمر على صحّة موقفه، وأقسم عليه كي يستلّ منه هذا الاعتراف، فيكون حجّةً عليه، فلا يتقوّل فيما بعد على

ص: 231


1- سورة الأنبياء: 63.

الإمام (علیه السلام) ، ولا يُقبَل منه إذا زعم أنّ الإمام (علیه السلام) كان على خطأ، وأنّه قد نصح الإمام (علیه السلام) ليصحّح له موقفه، ويكفّ عن بثّ الشبهات ورمي الإمام (علیه السلام) بالتهم والإفتراءات الّتي كان الإمام (علیه السلام) يلحّ في دفعها عند خروجه من المدينة.

فلا يقولنّ ابن عمر فيما بعد أنّه كان أشراً أو بطراً أو مفسداً أو ظالماً، كما فعلها الخبيث فيما بعد!

الإضاءة السادسة عشر: جواب ابن عمر

اشارة

قال ابن أعثم:فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله (تعالى) يجعل ابن بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) على مثل يزيد بن معاوية (لعنه الله) باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجعْ معنا إلى المدينة، وإن لم تحبّ أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك ((1)).

وقال الخوارزميّ:

فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله (تبارك وتعالى) ليجعل ابن

ص: 232


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 _ 44.

بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول أن يسلّم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجعْ معنا إلى المدينة، وإن شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك ((1)).

* * * * *

تتضمّن هذه الإضاءة عدّة مطالب:

المطلب الأوّل: الارتباك في تعبير ابن أعثم

يُلاحَظ شيءٌ من الارتباك في تعبير ابن أعثم، سيّما في المقطع الأوّل منه في قوله: «وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول _ وفي نسخة: آل الرسول _ على مثل يزيد بن معاوية (لعنه الله) باسم الخلافة»، إذ أنّ قوله: «باسم الخلافة» كأنّ الجار والمجرور لا متعلّق له.

أضف إلى أنّ لعن يزيد يبدو أنّه من ابن أعثم أو من الناسخ، ومن البعيد أن يكون اللعن صادراً من ابن عمر، لأسبابٍ لا تخفى على مَن يعرفه، ولخلوّ متن الخوارزميّ منه.

بَيد أنّ نصّ الخوارزميّ الّذي يروي عن ابن أعثم خالياً من هذه

ص: 233


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 _ 193.

الملاحظات، وربّما كانت نسخ ابن أعثم المتعدّدة قد تعرّضت للتشويه، وسلمت النسخة الّتي وصلت إلى الخوارزميّ ونقل عنها، وربّما يشهد لذلك صورة النسخة الخطّيّة الّتي حصلنا عليها، فإنّ فيها تشويهاً بالحبر في مواضع كثيرة لا تروق أتباع السقيفة.

لذا سنعتمد متن الخوارزميّ هنا، إذ أنّ المضمون والمحتوى والمراد واحد رغم ارتباك عبارة ابن أعثم، إلّا أنّها تفيد نفس ما في عبارة الخوارزميّ تماماً.

المطلب الثاني: استشهاد ابن عمر بالله

لقد ناشد الإمام (علیه السلام) مخاطبه ابن عمر بالله، وأقسم عليه أن يقول ما يعتقد، لذا بدأ ابن عمر جوابه بالاستشهاد بالله: «اللّهمّ، لا»، فهو يُشهد الله أنّ الإمام (علیه السلام) ليس على خطأ، وإنّما هو على صوابٍ من أمره، ثمّ أخذ في ذِكر الدليل على ما يعتقده من صحّة موقف الإمام (علیه السلام) .

فهو إذن يعتقد أنّ الإمام (علیه السلام) ليس على خطأٍ من أمره! عجبٌ والله! ما سنسمعه منه بعد قليل..

المطلب الثالث: أدلّة ابن عمر على صحّة مواقف الإمام
اشارة

بعد أن شهد ابن عمر لله أنّ الإمام (علیه السلام) ليس على خطأ، وأنّه على صوابٍ من أمره، أخذ يذكر لما أعلنه من أدلّةٍ تجعله واثقاً من موقف الإمام (علیه السلام) ، فذكر عدّة أدلّة:

ص: 234

الدليل الأوّل: العصمة والتسديد الإلهيّ

كأنّه أراد أن يعبّر عن العصمة بطريقته من دون الإذعان بها للإمام (علیه السلام) مباشرة، فقال: «ولم يكن الله (تبارك وتعالى) ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ»، فهو ينفي الخطأ عن الإمام (علیه السلام) هنا بسبب التسديد الإلهيّ الخاصّ لابن بنت رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهو تعبيرٌ آخَر عن العصمة، غير أنّ العبارة فضفاضةٌ واسعةٌ يمكن التنصّل عن الإقرار بالعصمة الّتي أثبتها الله لأهلالبيت (علیهم السلام) ، وإرجاع قوله إلى ما يذهب إليه الجمهور إذا اضطرّته الضرورة إلى تأويل كلامه.

وعلى كلّ حال، فقد أقرّ ابن عمر للإمام (علیه السلام) أنّ الله يسدّده، ولم يكن الله (تعالى) ليجعل ابن بنت رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) على خطأ.

الدليل الثاني: موانع المناولة

أتبع التسديد الإلهيّ بالكمالات الذاتيّة في الإمام (علیه السلام) ومقامه ومنزلته وموضعه من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وطهارته الّتي شهد بها القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ ((1))، وهو ما أجمع عليه أهل القبلة، وليس ثمّة أحدٌ من أهل الأرض يُنكر أنّ سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) داخلٌ في (أهل البيت) المذكورين في الآية.

ص: 235


1- سورة الأحزاب: 33.

ومَن كان مثل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) في الطهارة والمكان والمنزلة والموضع الخاصّ من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، لا يسلّم على يزيد بالخلافة.

فيزيد معدن النجاسة والنتن والعفن والدرن والقذر والكدر والوسخ والرجس والنذالة والانحطاط، والإمام (علیه السلام) معدن الطهارة والقداسة والنظافة والنقاء والسموّ والعظمة والجلال والجمال، وليس لمثل الإمام (علیه السلام) أن يسلّم على يزيد بالخلافة.فالتسديد الإلهيّ والطُّهر الذاتيّ عند الإمام (علیه السلام) يمنعان عن بيعة الإمام (علیه السلام) ومناولته للقرد المخمور.

المطلب الرابع: مخاوف ابن عمر رغم إقراراته
اشارة

أقرّ إذن ابن عمر أنّ الإمام (علیه السلام) على حقٍّ وصوابٍ من أمره، ولا ينبغي أن يكون على خطأٍ أبداً، بَيد أنّه رغم إقراره هذا ورغم أنّه أشهد اللهَ على أنّ هذا هو ما يعتقده شخصيّاً، أبدى مخاوفه الّتي جعلها مسوّغةً لما يريد أن يعرضه على الإمام (علیه السلام) ، واختصرها في خوفين:

الخوف الأوّل: الخوف من ضرب وجه الإمام (علیه السلام) بالسيوف

إستدرك ابن عمر ب- (لكن)، بعد أن أكّد للإمام (علیه السلام) أنّه على صواب، ليُصحِر للإمام (علیه السلام) عن سبب ما يدعوه إليه من المناولة والبيعة رغم امتناعها عليه، فقال:

ولكن أخشى أن يُضرَب وجهُك هذا الحسن الجميل بالسيوف.

ص: 236

وصف وجه الإمام (علیه السلام) وحليته بالحسن الجميل، ثمّ أبدى خشيته أن يُضرَب هذا الحُسن والجمال بالسيوف، فهو كلامٌ حمّالٌ يفيد العطف والتحنّن والخشية، كما يحمل في طيّاته التهديد والتخويف والتهويل والتحذير من القتل المروّع، والتمثيل الّذي يجعل السيوف تعبث بجمال الوجه وحُسنه.

الخوف الثاني: أن يرى الإمامُ (علیه السلام) من الأُمّة ما لا يحبّ

عاد ابن عمر ليؤكّد ما جاء في الأحاديث الشريفة عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) من خذلان هذه الأُمّة المنكوسة لسيّدها وابن سيّدها، فيرى الإمام (علیه السلام) منها ما لا يحبّه.

فهو يخشى على الإمام (علیه السلام) القتل، كما يخشى خذلان الأُمّة، وإتيانها المنكر الّذي لا يحبّه الإمام (علیه السلام) في مواقفها ضدّه وانقلابها عليه.

المطلب الخامس: عودة العبد إلى هرائه

نتيجة ما يخشاه ابن عمر يفيد أنّ القوم سيقدمون على قتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الأُمّة ستُريه ما لا يحبّ بمجرد إبائه عن البيعة لا أكثر، وعليه رجع إلى هرائه من جديد، فعرض على الإمام (علیه السلام) أن يرجع إلى المدينة، وأن لا يبايع إنْ شاء، ويكتفي بالقعود في منزله.

عجبٌ والله أمر هذا العبد! كيف يحمل التناقضات والتهافت في عقله، إن كان له عقل؟! وكيف يتعامل مع الأُمور؟ وكأنّه لا يسمع الإمام (علیه السلام)

ص: 237

يحدّثه، ولا يرى الأحداث الجارية على عينه، وكأنّه لا يسمع ولا يرى إقدامات القرد المسعور! ولا ندري بماذا يمكن التعليق على كلامه المعاند المملّ.

بَيد أنّ حِلم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وسع هذا العبد، وبقي يردّ عليهويجيبه..

المطلب السادس: الدعوة إلى مجانبة الصواب

تبيّن من دعوة ابن عمر _ بعد إقراره بصواب الإمام (علیه السلام) وأنّه لا يمكن أن يكون على خطأ _ أنّه يدعو الإمام (علیه السلام) إلى مجانبة الصواب الّذي هو عليه بالاتّفاق، وركوب الخطأ الّذي يدعوه إليه ابن عمر عن علم، وما ذلك إلّا لأغراضٍ تافهةٍ سخيفةٍ رخيصةٍ باردةٍ عقيمةٍ تتواءم مع ابن عمر، ولا يمكن أن تقترب من ساحة سيّد الكائنات (علیه السلام) وأشرفهم جميعاً بعد مَن استثناهم الله.

المطلب السابع: خلاصة كلام ابن عمر

يمكن تلخيص ما مرّ من كلام ابن عمر:

يبدو من كلام ابن عمر أنّه قد بدأ يُدرك أصل المشكلة، وعرف أنّ الأمر يدور بين البيعة الّتي ستضطرّ الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أن يسلّم على سليل البغاء يزيد القرود بالخلافة، وهذا ما لا يكون لمثل الإمام

ص: 238

سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فليس في الأمر شيءٌ وراء الامتناع عن البيعة الّتي يخشى ابن عمر أن تؤدّي إلى قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وخذلان الناس له بحيث يرى منهم ما لا يحبّ.

يبدو أنّه أدرك أنّ غاية ما فعله الإمام سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه امتنع عنالبيعة، وهو لا يروم سوى أن يُترك لحاله، وأن لا يُكره عليها، وهو مع ذلك يعود ليدعو الإمام (علیه السلام) ليرجع إلى المدينة ولا يبايع ويقعد في منزله، والإمام (علیه السلام) يقول له: «أُفٍّ لهذا الكلام ما دامت السماوات».

أغباءٌ هذا، أم تغابي، أم شيءٌ وراء ذلك؟! ففي تعبير ابن عمر لحن التهديد يشي بمكامنه: «ولكن أخشى أن يُضرَب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ».

هو يقبل أنّ الإمام (علیه السلام) لا يقصد في خروجه من المدينة سوى الخروج من بين براثن الأعداء ومخالب عُسلان الفلوات، والخلاص من البيعة الآثمة، وهو يعلم أنّ القوم إنّما اضطرّوا الإمام (علیه السلام) أن يخرج من المدينة، لأنّهم خيّروه بين القتل الأكيد أو البيعة، ولو كان القوم يتركونه لحاله ولا يُكرهونه على البيعة لَما خرج من بلده ومولده وتربة جدّه وأُمّه وأخيه (علیهم السلام) ..

ومع ذلك تحمّله الإمام (علیه السلام) وداراه، وأجابه جواباً يكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد، وأقنعه أنّ القوم لا يرومون سوى قتله على أيّة حالٍ وفي أيّ مكان، وهو مطلوبٌ للقتل أو الذلّة، وهيهات منه الذلّة والرضوخ

ص: 239

والاستسلام إلى طاعة اللئام.. كما سنسمع فيما يلي:

الإضاءة السابعة عشر: إصرار القوم على ملاحقة الإمام (علیه السلام) وقتله كيف ما كان

اشارة

لو ارتكب الإمام (علیه السلام) _ وحاشاه _ ما دعاه إليه العبد ابن عمر، فسيبقى القوم يلاحقون الإمام (علیه السلام) ولا يتركونه، ويستخرجونه أينما حلّ وارتحل أبداً، دون انقطاعٍ ولا مللٍ ما دام سيّد الشهداء (علیه السلام) حيّاً لم يُقتَل، فإن أصابوه فإنّهم سيقتلونه، لأنّهم يطالبونه بالبيعة وهو كاره، وهم يعلمون أنّه لن يبايعهم، فسيقتلونه من غير جُرمٍ ولا ذحل، تماماً كما فعلوا مع يحيى بن زكريّا المقتول من غير جرم، وتماماً كما كان بنو إسرائيل يفعلون مع أنبيائهم، إذ كانوا يتلذّذون بقتل الأنبياء (علیهم السلام) ، ويعاودون الكَرّة عليهم كلّ صباح، ويتبركون بذلك ولا يتأثّمون، فيمارسون أعمالهم ويطلبون دنياهم وكأنّهم لم يفعلوا شيئاً..

لو كان سيّد الشهداء (علیه السلام) قد خرج ليواجه قرود الأُمويّين ويقاتلهم ويحاربهم ويألّب عليهم ويجمع الجموع لمقابلتهم، لَما تمثّل بيحيى (علیه السلام) وأنبياء بني إسرائيل، ولَما استدلّ لابن عمر بفعال القوم، وأنّهم لا يتركونه أبداً حتّى يبايع أو يُقتَل، فهو لا يتكلّم بلغة المهاجم، وإنّما يتكلّم بلغة المدافع الّذي لا يريد منهم سوى أن يتركوه ولا يُكرهونه على البيعة لهم.

ص: 240

فالقوم مثل بني إسرائيل في سلوكيّاتهم، وهو مثل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) في الاعتداء عليه لإرضاء البغايا وإشباع الغرائز والاستجابة للشهوات والاستحواذ على الدنيا واللذّات الرخيصة..

فإذا هم قتلوه فلا يستخفّنّهم المهل، فإنّ الله يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذو انتقام، تماماً كما فعل ببني إسرائيل.

ثمّ أقام الإمام (علیه السلام) الحجّة على ابن عمر بعد أن استطرد معه كثيراً في سرد الدليل تلو الدليل، ليبيّن له أنّ القوم يريدون قتله وسفك دمه، وما المطالبة بالبيعة إلّا ذريعةً مفضوحةً وحجّةً واهيةً ملفَّقةً أرادوا بها إغواء أتباعهم الجاهلين، إذ أنّهم يعلمون علم اليقين أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لن يبايع أبداً، فخيّروه بين الإثنين!

فدعاه إلى نصرته، وليس المقصود من الدعوة إلى النصرة هنا أكثر من تمييز ابن عمر ليكون مع المتّقين، فيدفع عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) القتل بأيّ وسيلةٍ يقوى عليها، وبين أن يكون جرواً سارحاً في غابة القرود، لاحساً قيأهم وجامعاً لفضلاتهم بلحيته، ليتاجر بها ويعيش أيّاماً قلائل بين الوحوش آمناً متثاقلاً مخلّداً إلى الطين.

لا تدعنّ نصرتي بعد أن سمعت إصرار القوم على قتلي، وأنت تعرف مَن أنا _ كما زعمت _ من خلال كلامك وإقرارك أنّ مثلي لا يصلح له أن يسلّم بالخلافة على مثل يزيد.

ص: 241

فقال له الحسين:«هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبوني ((1)) أبداً حتّى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني.

ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ من هوان هذه الدنيا على الله أن يُؤتى برأس يحيى بن زكريّا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجّة عليهم، فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريّا، بل ساد الشهداء، فهو سيّدهم يوم القيامة؟

ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام؟

فاتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدَعنّ نصرتي!» ((2)).

* * * * *

يمكن متابعة كلمات الإمام (علیه السلام) في ردّ ابن عمر من خلال المقاطع التالية:

ص: 242


1- في (الفتوح): «إنّ القوم لا يتركوني وإن أصابوني، وإن لم يصيبوني فلا يزالوان [خ ل: يزالوا] حتّى أُبايع وأنا كاره».
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
المقطع الأوّل: الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ أبداً وعلى كلّ حال

فقال له الحسين (علیه السلام) : «هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لا يتركونيإن أصابوني، وإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبوني ((1)) أبداً حتّى أُبايع، وأنا كاره، أو يقتلوني».

«هيهات» كلمة تبعيد، ومعناها البُعد ((2)).

لقد حصر الإمام (علیه السلام) أمر القوم في بيانٍ واضح، فهم لا يتركون الإمام (علیه السلام) أبداً، ويلاحقونه دائماً، حتّى يقتلوه على كلّ حال!

فغرض العدوّ وهدفه الأوّل والأخير هو أن يُصيب الإمام (علیه السلام) فيقتله، فهم إن أصابوا الإمام (علیه السلام) فقد نالوا ما أرادوا، وإن لم يصيبوه فإنّهم لن يتركوه كما يظنّ بعض الجهلة وذوي الأماني، فإنّ العدوّ سيبقى يطلب الإمام (علیه السلام) أبداً دائماً لا ينقطع ولا يفتر ولا يتراجع ولا يغفل، حتّى يظفر به ويخيّره بين البيعة (كارهاً) وبين القتل، ولمّا لم يكن الإمام (علیه السلام) يبايع كارهاً، ولا ينبغي له كما قال ابن عمر، فسيقتلونه لا محالة.

نحسب أنّ هذا المقطع من أوضح وأصرح وأبين وأجلى وأبدى وأبرز وأظهر وأعرب وأفصح، وقل ما شئت من تعابير يمكن أن تفيد الوضوح

ص: 243


1- في (الفتوح): «إنّ القوم لا يتركوني وإن أصابوني، وإن لم يصيبوني فلا يزالوان [خ ل: يزالوا] حتّى أُبايع وأنا كاره».
2- أُنظر: لسان العرب: هوه.

والجلاء والانكشاف التامّ والصراحة لبيان معنىً من المعاني ومقصدٍ من المقاصد.

إنّه نصٌّ صريحٌ واضحٌ يصعب على التأويل، ويأبى الوجوهوالاحتمالات في بيان حال الإمام (علیه السلام) وما يبيّته له العدوّ ويقصده به ويعزم على تنفيذه ويسعى إلى تحقيقه..

فالإمام (علیه السلام) مطلوبٌ على كلّ حال، سواءً بايع أم لم يبايع، وسواءً ناول أم لم يناول، وسواءً اعتزل وابتعد وانزوى واختار التشرّد في الصحارى والفيافي والقفار وسفوح الجبال وكهوفها ومغاراتها، أو اختار التنقّل بين البلدان.. إنّ القوم لن يتركوه، وسيقتلونه، تماماً كما فعلوا مع أسلافه الطاهرين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ..

فمَن ذا الّذي سيكون _ والحال هذه _ في موضع الهجوم، ومَن سيكون في موقف الدفاع؟!

أوَليس العدوّ هو الّذي خطّط وعزم وأقدم على الهجوم، وجعل الإمام (علیه السلام) في موقف الدفاع وردّ عادية الوحوش الكاسرة؟

وهذا هو دأب المجرمين والظالمين والجبّارين في الأرض، كانوا كذلك من قبل، كما سنسمع في أمثلة الإمام (علیه السلام) لابن عمر، وسيبقون هكذا حتّى (يبعث الله قائماً يُفرّج عنهم الهمّ والكربات).

ص: 244

المقطع الثاني: الاستشهاد بيحيى (علیه السلام)
اشارة

«ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ مِن هوان هذه الدنيا على الله أن يُؤتى برأس يحيى بن زكريّا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجّة عليهم، فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريّا،بل ساد الشهداء، فهو سيّدهم يوم القيامة؟».

* * * * *

في هذا المقطع عدّة إشارات:

الإشارة الأُولى: خلاصة قصّة يحيى (علیه السلام)

قال ابن شهرآشوب: كان حمل يحيى (علیه السلام) ستّة أشهر، وحمل الحسين (علیه السلام) ستّة أشهر، وذُبح يحيى (علیه السلام) كما ذُبح الحسين (علیه السلام) ، ولم تبكِ السماء والأرض إلّا عليهما ((1)).

ورُوي عن الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام) قال: «خرجنا مع الحسين (علیه السلام) ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا وذكر يحيى بن زكريّا (علیهما السلام) ، وقال يوماً: مِن هوان الدنيا على الله (عزوجل) أنّ رأس يحيى بن زكريّا أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل» ((2)).

ص: 245


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 133 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، دلائل الإمامة للطبري: 513، كمال الدين للصدوق: 461 الباب 43، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 273.
2- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 133 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الإرشاد للمفيد: 2 / 132، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 429، تفسير مجمع البيان للطبرسي: 6 / 405، نور الثقلين للحويزي: 3 / 324، بحار الأنوار: 45 / 89، العوالم للبحراني: 17 / 315، نفَس المهموم للقمّي: 185، كشف الغمّة للإربلّي: 2 / 9.

وفي حديثٍ عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) :

«إنّ امرأة ملِك بني إسرائيل كبرت وأرادت أن تزوّج بنتها منه للملك، فاستشار الملك يحيى بن زكريّا، فنهاه عن ذلك، فعرفت المرأة ذلك، وزيّنت بنتها وبعثَتها إلى الملك، فذهبت ولعبت بين يديه، فقال لها الملك: ما حاجتكِ؟ قالت: رأس يحيى بن زكريّا. فقال الملك: يا بنيّة، حاجة غير هذه! قالت: ما أُريد غيره.وكان الملِك إذا كذب فيهم عُزل عن ملكه، فخُيّر بين ملكه وبين قتل يحيى، فقتله.

ثمّ بعث برأسه إليها في طشتٍ من ذهب، فأُمرت الأرض فأخذتها، وسلّط الله عليهم بخت نصّر، فجعل يرمي عليهم بالمجانيق ولا تعمل شيئاً، فخرجت عليه عجوزٌ من المدينة فقالت: أيّها الملك، إنّ هذه مدينة الأنبياء، لا تنفتح إلّا بما أدلّك عليه. قال: لكِ ما سألتِ. قالت: ارمها بالخبث والعذرة.

ففعل، فتقطّعت، فدخلها، فقال: علَيّ بالعجوز. فقال لها: ما حاجتكِ؟ قالت: في المدينة دمٌ يغلي، فاقتلْ عليه حتّى يسكن. فقتل عليه سبعين ألفاً حتّى سكن.

يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث المهديَّ الله، فيقتل على

ص: 246

دمي من المنافقين الكفرة الفسقة سبعين ألفاً» ((1)).

وفي (البحار)، عن (قصص الأنبياء (علیهم السلام) )، بالإسناد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«إنّ ملِكاً كان على عهد يحيى بن زكريّا (علیهما السلام) ، لم يكفِه ما كان عليه من الطروقة حتّى تناول امرأةً بغياً، فكانت تأتيه حتّى أسنّت، فلمّا أسنّت هيّأت ابنتها، ثمّ قالت لها: إنّي أُريد أن آتي بكِ الملك، فإذا واقعكِ فيسألك: ما حاجتكِ؟ فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) . فلمّا واقعها سألها عن حاجتها، فقالت: قتل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) !فلمّا كان في الثالثة بعث إلى يحيى، فجاء به، فدعا بطست ذهبٍ فذبحه فيها، وصبّوه على الأرض فيرتفع الدم ويعلو، وأقبل الناس يطرحون عليه التراب فيعلو عليه الدم، حتّى صار تلّاً عظيماً، ومضى ذلك القرن.

فلمّا كان من أمر بخت نصّر ما كان رأى ذلك الدم، فسأل عنه، فلم يجد أحداً يعرفه، حتّى دُّل على شيخٍ كبير، فسأله، فقال: أخبرَني أبي عن جدّي أنّه كان من قصّة يحيى بن زكريا (علیه السلام) كذا وكذا، وقصّ عليه القصّة، والدم دمه، فقال بخت نصّر: لا جرم، لَأقتلنّ عليه حتّى يسكن. فقتل عليه سبعين ألفاً، فلمّا وفى عليه سكن الدم».

ص: 247


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 133 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تفسير القمّي: 1 / 88.

وفي خبرٍ آخر:

إنّ هذه البغيّ كانت زوجة ملِكٍ جبّارٍ قبل هذا الملِك، وتزوّجها هذا بعده، فلمّا أسنّت، وكان لها ابنةٌ من الملِك الأوّل، قالت لهذا الملك: تزوّجْ أنت بها. فقال: لَأسأل يحيى بن زكريّا (علیه السلام) عن ذلك، فإن أذن فعلت. فسأله عنه، فقال: لا يجوز. فهيّأت بنتها وزيّنتها في حال سكره وعرضَتها عليه، فكان من حال قتل يحيى (علیه السلام) ما ذُكر، فكان ما كان ((1)).

وفي (مختصر) ابن منظور: قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) :

«أقبلنا مع الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، فكان قلّما نزل منزلاً إلّا حدّثنا حديث يحيى بن زكريّا (علیه السلام) حيث قُتل.قال: كان ملِكٌ مات، فترك امرأته وابنته، فورث مُلكه أخوه، فأراد أن يتزوّج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريّا (علیه السلام) ، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوّجها، فإنّها بغي.

فسمعت المرأة، وعرفَت أنّه من قِبل يحيى، فقالت: لَيقتلنّ يحيى أو لَيخرجنّ من ملكه. فعمدت إلى بنتها فصنعتها، وقالت: اذهبي إلى عمّكِ عند الملأ، فإنّه يدعوكِ ويُجلسكِ في حِجْره، ويقول: سليني ما شئتِ، فإنّك لن تسأليني شيئاً إلّا أعطيتكِ، فقولي: لا أسأل شيئاً إلّا رأس يحيى بن زكريّا!

ص: 248


1- بحار الأنوار: 14 / 180 الباب 15 ح 20 و21، قصص الأنبياء للراوندي: 219، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين للجزائري: 400.

وكانت الملوك إذا تكلّم أحدهم بشيءٍ على رؤوس الملأ ثمّ لم يمضِ له نُزع من ملكه، ففعلت ذلك، فجعل يأتيه الموت من قتل يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه، فقتله، فساخت بأُمّها الأرض» ((1)).

وروى الطبرانيّ مسنداً عن عليّ بن الحسين (علیه السلام) ، قال: «قال لي الحسين ابن عليّ (علیه السلام) قبل قتله بيوم: إنّ بني إسرائيل كان لهم ملك ...»، وذكر الحديث ((2)).

قال العلّامة المازندرانيّ في (المعالي):

عن سعد بن عبد الله قال: قلتُ لصاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) : أخبِرْني يا ابن رسول الله عن تفسير ﴿كهيعص﴾.قال (علیه السلام) : «هذه الحروف من أخبار الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريّا، ثمّ قصّها على محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه الأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل وعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن سُرّ ودُفع عنه غمومه وفُرّج همومه وانجلى كربُه، وعندما ذكر الحسين (علیه السلام) خنقَته العبرةُ ووقعت عليه الكدورة.

فقال ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرتُ أربعةً منهم تسلّيتُ بأسمائهم من

ص: 249


1- مختصر ابن منظور: 27 / 251.
2- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 114 الرقم 2816، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.

همومي، وإذا ذكرتُ الحسين (علیه السلام) تدمع عيني ويكسر خاطري؟!

فأنبأه الله (تبارك وتعالى) عن قصّته ووقعته، فقال: ﴿كهيعص﴾، الكاف: اسم كربلاء، والهاء: هلاك العترة، والياء: يزيد، وهو ظالم الحسين (علیه السلام) ، والعين: عطشه، والصاد: صبره ((1)).

يا قتيلاً صبره الممدوح من ربّ العباد

حيث قال الله فيه: كاف، ها، يا، عين، صاد

كربلاء الكاف، قد حلّ بها كلّ البلا

قُتلَت فيه بيوم الطفّ ساداتُ الملا

ويزيدٌ يائها المعهود، والعين تلا

عطش السبط وقد أضرم ناراً للفؤاد

فلمّا سمع زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع الناس من الدخولعليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يقول: إلهي، أتفجع خير جميع الخلق بولده؟ إلهي، أتُنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي، أتُلبس عليّاً ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحة محمّدٍ وعليّ؟

ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ افجعني بموته كما تفجع محمّداً حبيبك بولده ((2)) ...

ص: 250


1- أُنظر: كمال الدين للصدوق: 2 / 461، بحار الأنوار: 44 / 223.
2- أُنظر: كمال الدين للصدوق: 2 / 461، بحار الأنوار: 44 / 223.

فاستجاب الله دعاءه، وكان يوم استجابة دعائه اليوم الأوّل من المحرّم، وأمر الملائكة فنادت زكريّا وهو قائمٌ يصلّي في محرابه: ﴿أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ ((1)).

ذكر المؤرّخون: إنّ زكريّا لما بُشّر بيحيى، فمن غاية سروره وبهجته وانبساطه جعل يقول: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً﴾ ((2))، فقال الله (عزوجل) : ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ ((3))، فحملت حنانة زوجته بيحيى، فوُلد يحيى لستّة أشهر.

ولمّا وُلد رفعوه إلى السماء، وكان في السماء إلى أن تمّ مدّة الرضاع، ثمّ نزلوا به، ففي أيّ بيتٍ كان يضيء من نور وجهه، وكان طفلاً، وبلغ ما بلغ من النبوّة والحكم والكتاب، وقيل: له من العمر ثلاث سنين أوحى الله إليه: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾، وقال (تعالى): ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾، يعني: أحكام النبوّة الّتي تتعلّق بالعباد، ﴿وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَتَقِيّاً﴾ ((4)).

ص: 251


1- سورة آل عمران: 39.
2- سورة مريم: 8.
3- سورة مريم: 9.
4- سورة مريم: 12 و13.

ومِن شفقة الله (تعالى) عليه أنّه إذا قال: يا ربّ، فيقول الله: لبّيك يا يحيى، ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً﴾ ((1)).

ومن ألطاف الله (تعالى) عليه أن نجّاه من الخطرات في ثلاثة أحوال، وهي أشدّ الأحوال على الإنسان، وهي الساعة الّتي يولَد فيها، والساعة الّتي يموت، والساعة الّتي يُحشر إلى القيامة.

ولقد أشبه يحيى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، وكان الحسين (علیه السلام) شبيهاً بيحيى (علیه السلام) من جهاتٍ شتّى:

في مدّة الحمل، كان حمل يحيى ستّة أشهر، وحمل الحسين (علیه السلام) ستّة أشهر.

ثم إنّ يحيى بُشّر به زكريّا قبل ولادته، والحسين (علیه السلام) أيضاً بُشّر قبل ولادته النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، إلّا أنّ البشارة بيحيى أوجبَتْ فرحاً وسروراً، والبشارة بالحسين (علیه السلام) أوجبَت حزناً وكرباً، بحيث أنّ أُمّه فاطمة (علیها السلام) حملَتْه كُرهاً ووضعَته كُرهاً، فولدته باكيةً وتقول: ليتني لم ألده.

يحيى لم يُسمَّ به، يعني باسمه قبله، والحسين (علیه السلام) أيضاً لم يُسمَّ باسمهقبله أحد.

ص: 252


1- سورة مريم: 14 و15.

يحيى سمّاه الله بنفسه، فقال (تعالى): ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾ ((1))، والحسين (علیه السلام) أيضاً سمّاه الله بنفسه، نزل جبرئيل وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يُقرئك السلام، ويقول: إنّي سمّيتُ هذا المولود حسيناً.

يحيى (علیه السلام) لم يرضع من ثدي أُمّه غالباً، وأُرضع من السماء، والحسين (علیه السلام) لم يرضع من فاطمة (علیها السلام) ، بل أُرضع من لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فيأتيه ويضع إبهامه أو لسانه في فيه، وكان يمصّ حتّى يرتوي ويتغذّى ليومين أو ثلاثاً، حتّى نبت لحمُه من لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعظمُه من عظم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .

يحيى رفعوا به إلى السماء بعد الولادة، والحسين (علیه السلام) أيضاً عُرج به إلى السماء ليزوره الملائكة يوم السابع من ولادته ويوم شهادته.

يحيى (علیه السلام) كان يتكلّم في بطن أُمّه، والحسين (علیه السلام) كذلك، قيل: كان يقول: يا أُمّاه أنا العطشان، يا أُمّاه أنا العريان، يا أُمّاه أنا المسحوق.

يحيى (علیه السلام) لم يرَ فرحاً طول عمره، والحسين (علیه السلام) كذلك.

يحيى (علیه السلام) قُتل مظلوماً، والحسين (علیه السلام) قُتل مظلوماً.

قاتل يحيى ولد زنا، وقاتل الحسين كذلك.

يحيى (علیه السلام) بكت عليه ملائكة السماوات، والحسين (علیه السلام) بكت عليهالسماوات والأرضون وجميع الموجودات.

ص: 253


1- سورة مريم: 7.

يحيى (علیه السلام) بقي دمه يغلي، فكلّما وضعوا عليه التراب ازداد غلياناً حتّى صار تلّاً عظيماً، فما سكن حتّى سلّط الله على بني إسرائيل بخت نصّر وقتل سبعين ألفاً من بني إسرائيل، ولكنّ الحسين (علیه السلام) دمه يغلي حتّى يظهر ولدُه المهديّ (علیه السلام) ، وإن كان قد قُتل به سبعون ألفاً وسبعون ألفاً وسبعون ألفاً، ولكنّه ما سكن حتّى يطلب المهديّ (علیه السلام) بثاره، ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ ((1)).

ولله درّ القائل:

أنت الوليّ لمن بظلمٍ قُتلوا

وعلى العدى سلطانك المنصورُ

ولو انّك استأصلتَ كلَّ قبيلةٍ

قتلاً، فلا سَرَفٌ ولا تبذيرُ

يحيى (علیه السلام) لمّا قُتل وُضع رأسه في الطشت بين يدَي عدوّه ونطق بكلمة، وهي أن قال: اتّقِ الله أيّها الملِك، فإنّها لا تجوز لك أن تباشر ابنتك. يعني ربيبتك، والحسين (علیه السلام) لمّا قُتل سمعوا رأسه الشريف يقرأ القرآن على الرمح، ولقد وُضع في الطشت بين يدَي يزيد وقرأ الآية الشريفة، واللعين جعل يضرب ثناياه بقضيبٍ من خيزران، ولكن هل تُقاس مصيبة يحيىبالحسين (علیه السلام) ؟!

يحيى (علیه السلام) قُتل وحده، وما قُتل له أخٌ كقمر بني هاشم وابنٌ كعليّ

ص: 254


1- سورة الإسراء: 33.

الأكبر (علیهما السلام) ، وما ذُبح له في حِجْره رضيعٌ كعبد الله الرضيع (علیه السلام) .

يحيى (علیه السلام) ما قُتل عطشاناً، والحسين (علیه السلام) ينادي: يا قوم، اسقوني شربةً من الماء!

يحيى (علیه السلام) ما قُطع اصعبه وكفّه وما مُثّل به، والحسين (علیه السلام) قطع اصبعه بجدلُ بن سليم وقطع كفَّيه الجمّال.

يحيى (علیه السلام) ما رضّت الخيلُ صدره، والحسين (علیه السلام) نادى ابن سعد: يا قوم، مَن ينتدب للحسين (علیه السلام) ؟ ...

يحيى (علیه السلام) ما سُبيَت حرمٌ له، والحسين (علیه السلام) سُبيَت حرمه ونساؤه وأخواته وبناته، كزينب وأُمّ كلثوم وسكينة ورباب (علیهم السلام) من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام.

فإنْ تكن آلُ إسرائيل قد حملت

كريم يحيى على طشتٍ من الذهبِ

فآل سفيان يوم الطفّ قد حملوا

رأس ابن فاطمةٍ فوق القنا السلبِ

وهل حُمِلْن ليحيى في السِّبا حرمٌ

كزينبٍ ويتاماها على القُتُبِ؟!

ولأنّ مصيبة يحيى (علیه السلام) شبيهةٌ بمصيبة الحسين (علیه السلام) ، يذكر يحيى (علیه السلام) ومصيبته في طريقه حين خروجه من مكّة إلى كربلاء، أوّل ما ذكر حين أقبل إليه عبد الله بن عمر، تكلّم وأجابه بما أجابه ... ((1)).

ص: 255


1- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 183 وما بعدها.
الإشارة الثانية: الإمام (علیه السلام) يُكثِر من ذِكر يحيى (علیه السلام)

أكّدت الأحاديث الشريفة على أوجُه الشبَه بين يحيى (علیه السلام) والإمام الحسين (علیه السلام) ، وكان الإمام الحسين (علیه السلام) نفسُه يُكثر من ذِكره، حتّى قال الإمام زين العابدين (علیه السلام) : «خرجنا مع الحسين (علیه السلام) ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا وذكر يحيى بن زكريا (علیهما السلام) ».

فيحيى (علیه السلام) حاضرٌ مع الإمام (علیه السلام) في جميع مراحل سفره إلى أرض المصرع، وقد ذكره هنا لابن عمر أيضاً، فيلزم أن يكون لهذا التشبيه والاستشهاد ودوام الذكر ليحيى (علیه السلام) معنىً خاصٌّ ودلالاتٌ يمكن استشفافها واستشعارها من كلام الإمام (علیه السلام) ، ولا شكّ أنّ هذا التشبيه والتمثّل يرتكز إلى أوجه شبَهٍ ظاهرةٍ أو قابلةٍ للاستظهار.

الإشارة الثالثة: قتل يحيى (علیه السلام) تشفّياً وانتقاماً

أفادت الأخبار الّتي ذكرناها أنّ المرأة البغيّ حرّضَت الملِكَ على قتل يحيى (علیه السلام) انتقاماً وتشفّياً، فأجاب السلطان طلبها ليضمن دنياه وشهواته، ويتمكّن من سرير المُلك، ويلبّي صرخات الحقد والضغينة والعداواتالدفينة، ولو لم يكن دافعٌ ذاتيٌّ عند الملك لَما أقدم على هذه الجناية العظيمة وذبح يحيى (علیه السلام) في طشت الذهب وحمل رأسه المقدّس.

الإشارة الرابعة: البغيّ الّذي أُهدي إليه رأس الإمام (علیه السلام)

كانت البغيّ الّتي أُهدي إليها رأس يحيى (علیه السلام) امرأة، وكانت هي

ص: 256

المحرّض الأوّل على قتل يحيى (علیه السلام) ، فهل كانت ثَمّة بغيٌّ حرّضت على قتل الإمام (علیه السلام) ، وكان قتل الإمام (علیه السلام) يرضيها ويحقّق لها ما تتمنّاه؟ سواءً كانت حاضرةً يوم قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) أو لم تكن حاضرة، كأن تكون آكلة الأكباد، ومَن حاربت أباه أميرَ المؤمنين (علیه السلام) ، أو غيرهما ممّن شابههما، أو هنّ جميعاً.

ويشهد لذلك تمثّل القرد المخمور بأبيات ابن الزبعرى، وتمنّيه أن يشهده أشياخه، ليفرحوا بما صنع بآل النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وآل الوصيّ (علیهم السلام) ، وأنّه قد أخذ لهم ثاراتهم.

وسمعتُ من أحد المحقّقين أنّه وجد في كتابٍ لم يحضرني اسمه، أنّ أُخت معاوية (أُمّ الحكم) الّتي كان الإمام الباقر (علیه السلام) لا ينفتل عن صلاته حتّى يلعن ثمانيةً هي واحدةٌ منهم ((1))، كانت جالسةً في مجلس يزيد، وقد قدّم اللعين الرأس المقدّس لها.وربّما كان المقصود من (البغيّ) ما يشمل المذكّر والمؤنّث، فيكون الرأس قد أُهدي إلى يزيد البغيّ، وقد حُمل إليه.

وكيف كان، فإنّ رأس يحيى (علیه السلام) أُهدي إلى بغيّ، ورأس سيّد الشهداء (علیه السلام) حُمل وأُهدي إلى بغيّ، وقد عرفنا البغيّ الّذي حُمل إليه

ص: 257


1- أُنظر: الكافي للكليني: 3 / 342 ح 10.

الرأس المقدّس الأوّل، فربّما وفّق الله أصحاب التحقيق والنظر والمعرفة والاختصاص أن يحدّدوا لنا البغيّ الّذي أُهدي له رأس سيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء، حبيب الله وحبيب رسوله وحبيب المؤمنين (علیه السلام) .

الإشارة الخامسة: براءة يحيى وقتله دون ذنب

لقد ذُبح يحيى (علیه السلام) ذبحاً، وفُصل رأسُه دون أيّ جرم، وهو (علیه السلام) لم يُقدِم على أيّ فعلٍ أو إقدامٍ يمكن أن يحرّك السلطان عليه، فلا استنهض ولا واجه ولا جيّش ولا دعا الناس إلى بيعته، ولا حرّك يداً ولا رجلاً، ولا نبس ببنت شفة، وغاية ما فعله _ على ما في بعض الأخبار الّتي سمعناها _ أنّه سُئل عن الحكم الشرعيّ فأجاب..

فهو لم يسعَ إلى تنفيذه، ولا فرضه على الملِك، واكتفى بإخباره بالحكم بعد أن سُئل، ليس إلّا!

وقد أُخذ يحيى (علیه السلام) أخذاً، وقُتل وذُبح ذبحاً، ولم يتركوا له حتّى مجال الدفاع عن نفسه.وكذا كان حال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً، فقد أحكموا عليه الحصار كالحلقة، وقتلوه صبراً هو ومَن كان معه، وسبوا عياله وأهله، مِن غير ذنبٍ ولا جرم، ومن دون أن يكون له أيّ إقدامٍ عليهم أو تحريضٍ أو تجييشٍ أو سعيٍ للإطاحة بهم وبدنياهم الّتي كانوا يعبدونها!

ص: 258

الإشارة السادسة: مبادرة العدوّ وإقدامه على قتل يحيى (علیه السلام)

ربّما كان فيما مضى قبل قليل كفاية للحديث عن هذه الإشارة، بَيد أنّها تحتاج إلى تأكيدٍ أكثر، لذا أفردناها هنا.

فمن راجع أخبار يحيى (علیه السلام) يجد بوضوحٍ أنّ العدوّ هو الّذي قصد وعزم وبيّت وسعى ونفّذ وبادر بجرأة، وأقدم على قتل يحيى (علیه السلام) وإهداء رأسه المقدّس، ولم يكن ليحيى (علیه السلام) أيّ مبادرةٍ سابقةٍ أو نشاطٍ يُبدي فيه إقدامه على محاربة السلطان، أو السعي من أجل ذلك أو الإعداد والاستعداد له، وإنّما بادر الملك إلى أخذه وقتله، ولم يكن معه مَن كان مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ليدفعوا عنه فقتلوه، وكذا كان سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً، فقد بادر الأشرار وأقدم ذراري المشركين وأولاد البغايا على قتله، فقتلوا مَن كان معه، ثمّ تكاثروا عليه وأحاطوا به فقتلوه صبراً.

الإشارة السابعة: الانتقام ليحيى (علیه السلام)

لقد بقي دم يحيى (علیه السلام) يغلي، لم يسكن حتّى بعث الله بخت نصّر فانتقم له، وقتل سبعين ألفاً، والحال أنّ الّذي باشر القتل هو واحد، ولم يكن فيحربٍ ولا قتالٍ ومواجهة، وإنّما قتل هذا العدد لرضاهم.

وقد خذل القوم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وتقاعسوا وتقاعدوا وأسلموه إلى السيوف والرماح والأسنّة، ولم يمنعوه، فدمه لن يسكن، وسيبقى يغلي حتّى يبعث الله المهديّ القائم (علیه السلام) ، فيقتل على دمه المنافقين الكفَرة الفسقة.

ص: 259

الإشارة الثامنة: هوان الدنيا على الله (عزوجل)

لو كان للدنيا قدرٌ وقيمةٌ عند الله مقدار جناح بعوضة، لَما سقى فيها كافراً جرعة ماء، وهي عند أولياء الله كذلك، وهذا المُلك الّذي من أجله يقتل أهلُ الدنيا الأنبياءَ والأوصياء والصالحين (علیهم السلام) عند أولياء الله أهون من عفطة عنز، وأنتن وأحقر من عراق خنزيرٍ بيد مجذوم، والدار الآخرة هي الحيَوان لو كانوا يعلمون، ولمثلها يتنافس المتنافسون ويعمل العاملون.

فلا غرو إن قتل فيها أولياءُ الشيطان أولياءَ الرحمان، وسيأتي اليوم الّذي يقضي الله فيه ما يريد، ويمنّ على الّذين استضُعفوا في الأرض ويجعلهم أئمّةً ويجعلهم الوارثين، ويومئذٍ يخسر المبطلون، ويعلم التالون غبّ ما فعله الأوّلون، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، والعاقبة للمتّقين.

ولولا هوان الدنيا على الله لَما أمهل الملِكَ حتّى يذبح يحيى بن زكريّا (علیه السلام) ، ويهدي رأسه إلى بغيٍّ من البغايا..

يُهدى رأسه إلى بغيّ، إلى ساقطةٍ هابطة.. رأس وليّ الله يُهدى إلى زانيةٍ عفنةٍ نتنة.. يُهدى إلى نجسةٍ فاحشة.. يُهدى إلى وجودٍ وسخٍ لا قيمة له عندالبشر..

لم يكن رأسه المقدّس غايةً للملِك نفسه، ولا لإنسانٍ يمكن أن يكون محترماً في ميزانٍ من موازين البشر..

ص: 260

الدنيا هيّنةٌ لا قيمة لها ولا وزن، ومن أرجس أرجاسها البغاء، ورأس وليّ الله يُهدى إليها..

والرأس ينطق بالحجّة عليهم.. لقد بقيَت الكرامة والعزّة والحياة لوليّ الله وإن فصلوا رأسه.. وهم الأموات، لأنّهم لم يتّعظوا ولم يرعوُوا.

وهو ما سيفعلونه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أخبر الإمام (علیه السلام) هنا بتفاصيل ما سيقع عليه وعلى رأسه المقدّس، وأخبر أنّ رأسه سينطق بالحقّ عليهم..

وفي كلام الإمام (علیه السلام) هذا ردٌّ وجوابٌ على ما ذكره ابن عمر من الخوف على وجه سيّد الشهداء (علیه السلام) الجميل أن يُضرب بالسيوف وأن يقتله الناس لأولاد البغايا، فإنّ هذا هو شأن الدنيا، وقديماً فعلوها مع الأنبياء (علیهم السلام) والصالحين والأولياء.

ويبدو من صيغة التعبير في كلام الإمام أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد قرّر ابن عمر هنا أيضاً: «ألا تعلم أبا عبد الرحمان»، فهو إذن يعلم ويقرّ ويعترف تماماً كما أقرّ واعترف بما سبق من صوابيّة موقف الإمام (علیه السلام) وصحّة ما يفعله!

الإشارة التاسعة: ما يتعرّض له الأولياء لا يُنقص من قدرهم

نبّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ابنَ عمر إلى أمرٍ قد يكون حدّث الأخير نفسه به، أو أنّه سيُحدّث به فيما بعد هو أو غيره، بل قد قاله طاغوت عصره

ص: 261

وصرّح به، وزعم أنّ قتله لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كان بتمكينٍ من الله ونصره، وحاولوا توظيف ذلك من أجل الإضرار بمقام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإطفاء نوره، ويأبى الله إلّا أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون!

فقال سيّد الشهداء (علیه السلام) تعقيباً على ما ذكره له من قصّة يحيى (علیه السلام) :

«فلم يضرّ ذلك يحيى بن زكريّا (علیه السلام) ، بل ساد الشهداء، فهو سيّدهم يوم القيامة».

لم يضرّ ما فعله الطاغوت بيحيى (علیه السلام) وبرأسه المقدّس، وبقي يحيى (علیه السلام) سيّد شهداء عصره، وبقيَت له هذه الفضيلة إلى يوم القيامة، وهو تماماً كذلك مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّه سيّد الشهداء من الأوّلين والآخِرين إلّا مَن استثناهم الله (عزوجل) .

وكأنّ عقيلة بني هاشم زينب بنت أمير المؤمنين (علیهما السلام) كانت تشرح كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) هذا، وتُفرغ عن لسان أخيها حين قالت في خطبتها في مجلس الطاغية المخمور:

أظننتَ _ يا يزيد _ حين أخذتَ علينا أقطار الأرض وضيّقتعلينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في إسارٍ نُساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من الله هواناً وعليك منه كرامةً وامتناناً، وأنّ ذلك لِعظم خطَرك وجلالةِ قدرك؟ فشمختَ بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأُمورَ لديك متّسقة،

ص: 262

وحين صفا لك مُلكنا وخلص لك سلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيتَ قولَ الله (عزوجل) : ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ((1)) ((2)) ...

المقطع الثالث: الاستشهاد بقتل بني إسرائيل الأنبياء (علیهم السلام)
اشارة

«ألا تعلم أبا عبد الرحمان أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام؟».

ألا تعلم؟ تقريرٌ جديد، وتأكيدٌ جديد يُضاف إلى ما ذكره الإمام (علیه السلام) في المقطع السابق..ويمكن ملاحظة ما فيه من التنبيهات:

التنبيه الأوّل: قتل الأنبياء (علیهم السلام) بغير حقّ

ليس هو يحيى (علیه السلام) وحده المقتول، بَيد أنّ ما ميّز يحيى (علیه السلام) أنّه ذُبح وأُهدي رأسه إلى بغيّ..

ص: 263


1- سورة آل عمران: 178.
2- أُنظر: بلاغات النساء لابن طيفور: 35، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 308.

وهؤلاء بنو إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) بغير حقّ، كانوا يقتلونهم بغير ذنبٍ ولا جُرم، كانوا يقتلونهم دون أن تبدر منهم بادرةٌ سوى التذكير بالله واليوم الآخِر..

لم يكن الأنبياء (علیهم السلام) في بني إسرائيل يجيّشون الجيوش، ويقاتلون السلاطين ويثورون في وجوههم، ويجمعون لهم العساكر، ويهدّدون سلطانهم ودنياهم.. إنّما كانوا يدعونهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وربّما أفصحوا عن حكم الله وكفى، تماماً كما فعل يحيى (علیه السلام) حيث أبان حرمة ما عزم على فعله الملِك، ولم يفعل أكثر من ذلك..

كانوا يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) لأحقادٍ وأضغانٍ وعداوةٍ لله ولأنبيائه (علیهم السلام) ، يقتلونهم دفاعاً عن شهواتهم ولذّاتهم ونزعاتهم ونزواتهم، يقتلونهم لأنّهم معدن الطهر والدعاة إلى الهدى وإلى صراطٍ مستقيم.. وهذا القدر كافٍ عند معادن النجس والرجس والقذر ليعادونهم ويعدوا عليهم فيقتلونهم..

كذلك سيُقتَل سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً كما يُقتَل الأنبياء (علیهم السلام) من بني إسرائيل!

التنبيه الثاني: ممارسة الجريمة في أشرف الأوقات

كان بنو إسرائيل يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) في أشرف الأوقات: بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وهو أفضل أوقات العبادة والتوجّه إلى الله، وهو الوقت الّذي يستقبل الإنسان فيه يومه ويتفأل أو يتشاءم به لِما يأتي من

ص: 264

نهاره.. هو الوقت الشريف الّذي ترتاح وتأمن به جميع المخلوقات.

كذلك سيقتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) في الشهر الحرام، في محرّم الّذي كان يعظّمه العرب جميعاً في الجاهليّة والإسلام، في الزمن الحرام الّذي يأمن فيه الناس.. ويُهدَّد في الأرض الحرام، ويعزموا على اغتياله وقتله في بيت الله الّذي جعله الله مثابةً للناس وأمناً!

التنبيه الثالث: اجتماعهم على الجريمة

كان بنو إسرائيل يتكاتفون ويتعاضدون على قتل الأنبياء (علیهم السلام) ، إمّا مباشرةً أو بالخذلان والرضى بقتلهم.. كانت الفعلة فعلة القوم أجمعين، لم تكن فعلة واحدٍ منهم.. تماماً كما سيفعل الناس مع ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، حيث سيباشرون قتاله، ويُسرجوا ويُلجموا ويتنقّبوا ويتكاتفوا ويتظافروا ويتساندوا ويتساعدوا، فيزدلف إلى قتله مَن يزدلف، ويخذل مَن يخذل، ويرضى بقتله مَن يرضى!

التنبيه الرابع: عدم الاكتراث بالجريمة

كانوا يقتلون ويجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون، كأنّهم لم يفعلواشيئاً، لم تهتزّ فيهم شعرة، ولم يرتعش لهم جفن.. يقتلون الأنبياء (علیهم السلام) ثمّ يولّون إلى دنياهم، يمارسون حياتهم الرتيبة، وكأنّ قتل الأنبياء (علیهم السلام) من ممارسات الحياة اليوميّة الّتي تستهويهم، لا يشعرون باقتراف ذنب، ولا يعدّونه عملاً قبيحاً، بل هو عملٌ تدفعهم نحوه الحوافز، يتلذّذون به

ص: 265

ويستذوقونه..

وربّما كان هذا المعنى وجهٌ من وجوه ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام) وهم يصفون قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) : «ذُبح كما يُذبَح الكبش»، فإنّ مَن يذبح كبشاً أمام الملأ لا يستنكر عليه أحد، ولا يثير منظره المارّ، ولا يستجيش العواطف، ينظر إليه الناس ببرود، وربّما استحسنوا فعله ومدحوه وأثنوا عليه..

لقد قتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) .. كلٌّ يتقرّب بدمه إلى الله.. قتلوه ببرود.. قتلوه ولم يتأثّموا.. قتلوه ثمّ عادوا إلى معيشتهم.. قتلوه وافتخروا بقتله.. قتلوه وكأنّهم لم يصنعوا شيئاً، بل زعموا أنّهم تعبّدوا الله في ذلك!

التنبيه الخامس: الانتقام من القتَلَة

إنْ لم يُعجّل الله على بني إسرائيل، فإنّه أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام.. والحسين (علیه السلام) حبيب الله وريحانة حبيبه وابن حبيبته.

كأنّ هذا المقطع من كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو يخاطب ابن عمر، أفرغت عنه أُخته الصدّيقة الصغرى (علیها السلام) وهي تخاطب أهل الكوفة:... فلا يستخفّنّكم المهل، فإنّه لا يُحفزه البدار، ولا يُخاف عليه فوت الثأر، كلّا، إنّ ربّك لَبالمرصاد ((1)).

ص: 266


1- أُنظر: الأمالي للطوسي: 93 المجلس 3، الأمالي للمفيد: 323 المجلس 38.

وقد انتقم الله من القوم الظالمين، وسيبعث الله ولده المنتقم، ويجعل له سلطاناً، فلا يُسرف في القتل.. أليس الصبح بقريب؟

المقطع الرابع: التعريض بابن عمر
اشارة

«فاتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدَعَنّ نصرتي، واذكُرني في صلاتك».

في هذا المقطع من كلام الإمام (علیه السلام) عدّة تعريضات:

التعريض الأوّل: الدعوة إلى تقوى الله

كان ابن عمر على خطأٍ من رأيه، وأقرّ للإمام (علیه السلام) تحت طائلة القسَم أنّ الإمام (علیه السلام) على صواب، ولا ينبغي له أن يكون على خطأ، فمَن أحقُّ أن يتّقي الله؟

لقد دعا ابنُ عمر الإمامَ (علیه السلام) لارتكاب ما لا ينبغي له باعتراف ابن عمر نفسه، وأصرّ على الإمام (علیه السلام) أن يُطيعه ويدخل فيما دخل فيه الناس، وهو خطأٌ جزماً عند ابن عمر نفسه، وابتدأ كلامه مع الإمام (علیه السلام) بالأمر بتقوى الله!!

والآن يدعوه الإمام (علیه السلام) إلى تقوى الله بعد أن أقام عليه الحجّة البالغة،وأتمّ له الأدلّة والبيان، أوَليس هذه الدعوة إلى التقوى هي الدعوة الحقّ؟ وقد صدرت من سيّد الخلق والإمام المفترض الطاعة، وهو يدعوه إلى الجنّة، وابن عمر يدعو إلى النار.

ص: 267

التعريض الثاني: الدعوة إلى النصرة

«ولا تدَعَنّ نصرتي».. النصرة هنا واضحة.. لا يريد الإمام (علیه السلام) منه أكثر من أن يمنعه، أن يدفع عنه، أن يردّ عنه عادية القرود المسعورة، أن يقف في صفّ أولياء الله وأحبّائه.. لا يريد منه أكثر من ذلك.

فقد اتّضح من الحوار الّذي دار بينهما أنّ الإمام (علیه السلام) أحدقت به دائرةُ الخطر، وأنّ الجبّارين يطلبون رأسه، ويتلهّفون ليلغوا ويكرعوا دمه الزاكي، وهو يريد أن يدفع عن نفسه القتل.. لقد صرّح بذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) بوضوحٍ وجلاء، وأقرّه عليه ابن عمر.

ولو كان في ابن عمر بقيّة شرفٍ وعزّةٍ لَوعد الإمام (علیه السلام) بالنصر بالكلمة وتخذيل الناس عن أعدائه..

كان بإمكانه أن يعتذر عن القتال بين يديه دفاعاً عنه، إخلاداً إلى الأرض..

كان بإمكانه أن يُعلن موقفاً معادياً بلسانه بين يدَي الإمام (علیه السلام) فقط..

كان بإمكانه أن يوظّف نفوذه الّذي يزعمه عند أتباع أبيه، فيعلن لهم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مظلوم، وأنّ القوم يريدون قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ..كان بإمكانه أن يَعِد الإمامَ (علیه السلام) أنّه سيحدّث الناس بفضائله وبما سمعه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في نصره والدفاع عنه، وأن يبيّن لهم أنّ هذا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ومَن يريد قتله ابن هند، ولا سواء..

ص: 268

بل كان بإمكانه أن يَعِد الإمامَ (علیه السلام) بالنصرة ولو بالدعاء.. حتّى هذا لم يفعله!

لقد أطبق الإمام (علیه السلام) الخناق على ابن عمر، أقام عليه الحجّة تامّة، فأنّى يُؤفَك؟!

التعريض الثالث: اذكرني في صلاتك

في النفس شيءٌ من هذه العبارة، والعبارةِ الّتي ستأتي بعد قليل، ولا طريق للتأكّد من زيادات النصّ وتفاصيله؛ لانفراد ابن أعثم به، ولكن سنعالجه على فرض صحّة الكلام كلّه بما فيه هذه العبارة.

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء في غنىً عن دعاء ابن عمر، وما قيمة صلاة ابن عمر بعد أن خذل إمام زمانه (علیه السلام) وأسلم وجهه الجميل للسيوف؟ فلا يبعد أن تكون دعوة الإمام (علیه السلام) لابن عمر أن يدعو له دبر كلّ صلاةٍ نوعَ تعريضٍ به، بمعنى أن لا تترك نصرتي ولو بهذا المستوى، وقد أكّد عليه ذلك، إذ أعادها عليه مرّتين في نفس الحديث، ممّا يفيد أنّ ابن عمر كان يبخل على الإمام (علیه السلام) حتّى بالدعاء له!

وربّما أكّد عليه أن يذكره دُبر كلّ صلاة، كي يبقى في كلّ حينٍ علىذكرى دائمة، ولا ينسى موقفه المتخاذل الجبان، وأنّه قد خذل ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وتقاعس عن نصرته ورضي بقتله، فهو في كلّ صلاةٍ يذكر حُجّة الإمام الحسين (علیه السلام) عليه، كي يذكر كلّ يومٍ وعند كلّ صلاةٍ أن لا قيمة

ص: 269

لصلاته الّتي تمسّك بها وخذل الإمام (علیه السلام) ، فما تنفعه صلاته.

فيكون هذا نوعٌ من التوبيخ والتعريض، لو كان يعقل هذا الغبيّ!

هذا، والإمام (علیه السلام) أعرف وأعلم بما قال إن كان قد قال!

الإضاءة الثامنة عشر: إتمام الحُجّة

اشارة

«فوَالّذي بعث جدّي محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) بشيراً ونذيراً، لو أنّ أباك عمر بن الخطّاب أدرك زماني لَنصرني كنصرته جدّي، وأقام من دوني قيامه بين يدَي جدّي.

يا ابن عمر، فإنْ كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل، فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولا تعجل بالبيعة لهم حتّى تعلم ما تؤول الأُمور».

يمكن تقسيم الكلام في هذه الإضاءة إلى عدّة أشطر:

الشطر الأوّل: لو أدرك عمر زماني لَنصرني!
اشارة

«فوَالّذي بعث جدّي محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) بشيراً ونذيراً، لو أنّ أباكعمر بن الخطّاب أدرك زماني لَنصرني كنصرته جدّي، وأقام مِن دوني قيامه بين يدي جدّي».

نجد في كلام الإمام (علیه السلام) عدّة تنويهات:

ص: 270

التنويه الأوّل: القسَم بجدّه البشير النذير

أقسم الإمام (علیه السلام) بالّذي بعث جدّه البشير النذير، فنوّه في كلامه لابن عمر بالنسبة القريبة بينه وبين النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، إذ كان بالإمكان أن يُقسم بالّذي بعث النبيّ محمّداً (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهو القسَم المعهود عادة، بَيد أنّ قسم الإمام (علیه السلام) بهذه الصيغة جعل نفسه ضمن القسم، وأنّ المبعوث مِن قِبل الله هو جدّه!

وقد ذكر جدَّه المبعوث بصفتين خاصّتين، هما: التبشير والإنذار، فالمبشّر والمنذر إنّما هو جدّه، وهو قد ورث هاتان الصفتان من جدّه، وكان وهو يكلّم ابن عمر في نفس هذا المقام، فهو يدعوه إلى الجنّة والطاعة والعبوديّة لله، وينذره مغبّة موقفه الجبان المتخاذل البائس، ويعلّمه ويهديه إلى الصراط المستقيم.

التنويه الثاني: حجّةٌ جديدةٌ ودليلٌ آخَر
اشارة

حُجّةٌ جديدة.. ودليلٌ آخَر.. يحتجّ بها الإمام (علیه السلام) على ابن عمر، ويضعه في موقفٍ لا يمكنه أن يدفع عن نفسه، فبعد أن أقنعه الإمام (علیه السلام) أنّه على صواب، وأنّ ما أشار به ودعا الإمام (علیه السلام) إليه خطأٌ لا ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يأتي به، وجعله يعترف بلسانه ويقرّ بمنزلة الإمام (علیه السلام) من الله ورسولهوطهارته وعصمته وتسديده الربّانيّ، وقذارة عدوّه ونجاسة محتده ورجاسة أفعاله، عاد الإمام (علیه السلام) ليقيم الحجّة عليه من جهةٍ أُخرى لا يمكن

ص: 271

لابن عمر أن يتنكّر لها..

«لو أنّ أباك عمر بن الخطّاب أدرك زماني لَنصرني كنصرته جدّي، وأقام من دوني قيامه بين يدي جدّي».

ويمكن أن يُفهَم كلام الإمام (علیه السلام) على وجوه:

الوجه الأول: احتجاجٌ تنزّليّ

يمكن أن يُفهم كلام الإمام (علیه السلام) كنمط احتجاجٍ تنزّلي، فكأنّه يقول لابن عمر: إنّك تزعم في أبيك المزاعم، وتتّبعه وتستنّ بسنّته، وتفتخر وتتبجّح بما شرّعه وسنّه في السقيفة وقبلها وبعدها، وتعتقد أنّه نصر النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) لما يراه هو من استشرافٍ للمستقبل، فلو كان أبوك حاضراً لَكان يرى ضمن ضوابطه وقوانينه وشريعته أنّي مظلومٌ مُعتَدىً علَيّ، ولَشمّر للدفاع عنّي.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ نصري والدفاع عنّي فرضٌ على كلّ الموازين الإلهيّة والأرضيّة، وعلى موازين الأعداء والأصدقاء، وعلى موازين الدين وموازين السقيفة..

الوجه الثاني: وفق دوافع أبيك ونوازعه

ربّما كان في قوله (علیه السلام) : «كنصرته» إشارةٌ خاصّة، فأنت يا ابن عمر تعرفدوافع أبيك ونوازعه ومحرّكاته الّتي دعَتْه لنصرة جدّي، وتعرف مقدار نصرته لجدّي ومستوى قيامه معه، والأهداف والغايات الّتي كان يتوخّاها من نصرته وقيامه، فإنّي أرضى منك ولو بهذا المستوى من النصرة والقيام، كما

ص: 272

رضي جدّي من أبيك..

ولْتكن دوافعك ونوازعك وأهدافك وغاياتك ما تكون، ولْيكن مستوى نصرتك بمستوى نصرة أبيك، ولو بالتظاهر بأن يكون موقفك إلى جنبي، ولو لم تدفع عنّي بسيف، ولم تطعن بين يدَيّ برمح، وتقوم بين يدَيّ ولو لم تنصب نفسك للأسنّة والسهام غرضاً، كما كان يفعل أبوك مع جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ..

الوجه الثالث: الاقتداء بسنّة أبيه

نفترض أنّ ابن عمر كان يخال أنّ أباه دافع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وقام بين يديه ورمى بنفسه في لهوات الموت حمايةً لحياة النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وخاض غمرات الحروب، وسقى الأعداء كؤوس المنون، وواجه أكداس الحديد، وتسربل في كلّ وقعةٍ بالدماء، ليحمي النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) .. فهو إن كان يزعم ذلك لأبيه _ تنزّلاً وجدلاً، إذ لم يسجّل لنا التاريخ موقفاً من هذا القبيل لأبيه _، فلْيكن هو على سرّ أبيه ويقتدي به، وينصر ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) كما نصر أبوه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه..فكأنّ الإمام (علیه السلام) يقول له: إنّك أقررتَ أنّي مكان جدّي وبموضعٍ منه، فلْتكن أنت مكان أبيك وبموضعٍ منه.

الشطر الثاني: الإعذار

«يا ابن عمر، فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل،

ص: 273

فأنت في أوسع العذر».

لاحظ انتقالات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في خطاباته مع ابن عمر، فهو يخاطبه بالكنية أحياناً، وبالاسم أحياناً، وهنا خاطبه بنسبته إلى أبيه، إذ أنّه احتجّ عليه به، فقال له: «يا ابن عمر!».

بعد كلّ ما مرّ من الاحتجاج والاستدلال والإفحام، لم تهتزّ في ابن عمر شعرة، ولم يرمش له جفن، ولم تبدُ عليه أيُّ علامةٍ من علامات الحياة والتأثّر والانفعال، وبقي سامداً.. هامداً.. جامداً.. ساكناً.. سمجاً.. قاسياً.. جلفاً.. متحجّراً.. غليظاً.. فظّاً.. عديم الإحساس.. خامد المشاعر..

كأنّه أصمّ لا يسمع، وأكمه لا يبصر.. طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره.. فبادره الإمام (علیه السلام) ، وهو رحمة الله الواسعة، والغنيّ بالله عن كلّ شيءٍ سواه، مع ذلك فقد قدّر الإمام (علیه السلام) له حرجه وعيّه وجبنه وضعفه وانغلاق الأمر عليه، فقال:

«فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل، فأنت في أوسع العذر».إنّه من الّذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله أثّاقل إلى الأرض، ورضيَ بالحياة الدنيا من الآخرة.. إنّه ممّن يصعب عليه الإقلاع عن الحضيض، والإفلات من أسار الشهوات والرغبات والغرائز.. إنّه ممّن يثقل عليه الحقّ، ويخفّ للهوى والانحدار والتساقط والانحطاط.. ومثل هذا لا

ص: 274

يُنتفَع به، ولا يُحسب عليه، ولا جدوى فيه، ولا يُرتجى خيره.. فلْيذهب حيث شاء..

فهو في أوسع العذر.. إن كان الخروج مع الإمام (علیه السلام) يصعب عليه ويثقل، فهو في أوسع العذر..

غير أنّ العبارة كأنّها لا تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد عذره، إذ لم ينسب العذر له، ولم يقل: إنّك معذورٌ عندي، أو إنّي أعذرك، وإنّما قال له: أنت في أوسع العذر..

إنّك في عذرٍ واسعٍ تعذر به نفسك.. تنحت لنفسك المعاذير وتتذرّع بها، أمّا أنّها مقبولةٌ عند الإمام (علیه السلام) وممضاةٌ من قِبله، فلا يبدو أنّ في العبارة ما يفيد ذلك..

ثمّ استثنى الإمام (علیه السلام) ، كما سنسمع في الشطر الثالث.

الشطر الثالث: الدعاء والتباطؤ

«ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولا تعجلْ بالبيعة لهم حتّى تعلم ما تؤول الأُمور».جعله الإمام (علیه السلام) في سعةٍ من العذر.. بَيد أنّه أكّد له أن يدعو له دبر كلّ صلاة، وقد أشرنا إلى ذلك قبل قليل، فلا نعيد.

ثمّ دعاه إلى أقلّ ما يمكن أن يفعله ويبقى في أمان، فيجمع بين حُبّه للدنيا والاحتفاظ ببقيّةٍ ممّا يمكن أن يُنجيه في الدارين.. أمره بالجلوس عن

ص: 275

القوم، فلا يستخفّه الظالمون، ولا يميل إلى الباطل ميلاً صريحاً واضحاً..

يجلس عنهم، ولا يُدخِل نفسَه في زمرتهم، ثمّ ليتربّص، فلا يستعجل البيعة حتّى ينظر ما تؤول إليه الأُمور..

يكفي لمثل ابن عمر أن يحيّد موقفه لفترةٍ من الزمن، وإنْ لم تكن طويلة، ليصبر أيّاماً قلائل.. يكفي أن يتقبّض ويتباطأ، ويتأنّى ويتراخى ويتقاعد حيناً قد لا يمتدّ كثيراً، ثمّ ليفعل ما يشاء..

فالأجواء كانت مشحونة، والمشهد كان مزدحماً بالأحداث، والأيّام حُبلى بالمفاجآت، وهو في سعةٍ من العذر عند مثل يزيد، وهو ابن عمر المأمون الجانب، المعتمَد عند القوم، فلا يضرّه أن يجمع يده ولا يناول لفترةٍ قصيرة..

بَيد أنّه لم يفعل.. لقد سارع إلى الببيعة!

الإضاءة التاسعة عشر: هدف الإمام (علیه السلام) من دخول مكّة والبقاء فيها

اشارة

ثمّ أقبل على عبد الله بن عبّاس وقال له: «وأنت يا ابن عبّاس ابن عمّ أبي ...

فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهلَه يحبّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ

ص: 276

بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم أُلقي في النار: حسبي الله ونِعْم الوكيل، فكانت النار عليه برداً وسلاماً» ((1)).

فبكى ابنُ عبّاسٍ وابنُ عمر ذلك الوقت بكاءً شديداً، وبكى الحسين (علیه السلام) معهما، ثم ودّعهما.

فصار ابن عبّاسٍ وابن عمر إلى المدينة، وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة، ولزم الصلاة والصيام ((2)) [في (المقتل) للخوارزمي: الصلاة في الصلاة] ((3)).

* * * * *

يمكن أن نلخّص الكلام في هذا التصريح بالنقاط التالية ((4)):

النقطة الأُولى: الاستيطان والإقامة أبداً

في هذا المقطع من الحوار بيانٌ واضحٌ وصريحٌ لا لبس فيه ولا تغبيش، ولا تعمية ولا تشويش، ينصّ فيه الإمام (علیه السلام) بكلّ وضوحٍ وجلاءٍ على سبب القدوم إلى مكّة، فهو يريد اتّخاذها وطناً يستقرّ فيه ويتوطّن، ويريد

ص: 277


1- أتينا قبل قليلٍ على تفصيل الكلام في هذا المقطع من كلام الإمام (علیه السلام) .
2- في (الفتوح): «الصلاة والصيام».
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
4- إقتباسٌ من كتاب (ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة).

أن يُقيم فيه أبداً.. أي: أنّه دخل مكّة كي لا يخرج منها، وإنّما يبقى فيها بقيّة العمر! وربّما كان هذا من أوضح معاني الاستيطان والإقامة الأبديّة.

فإذا لاحظنا تصريحه في نفس الحوار عن سبب خروجه من المدينة، وأنّه كان مطارَداً مطلوب الدم، فخرج _ حسب النصّ _ مرعوباً خائفاً لئلّا تُهتَك به حرمةُ المدينة، بالإضافة إلى الدلائل والمؤشّرات الأُخرى الدالّة على نفس المضمون.

ولاحظنا أيضاً أنّه كان مطالَباً بمناولة القرد المخمور المسعور، وأنّه لن يَقبَل بالدنيّة، ولن يُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

يتبيّن لنا أنّه إنّما قَدِم إلى مكّة ليستوطنها ويقيم بها أبداً، باعتبارها الحرم الآمن الّذي لا يفزع فيه مَن دخله.

أجل، إذا كان الحرم لا يوفّر له هذا الأمان، لجرأة الطاغي على حرمات الله، فالإمام (علیه السلام) يأبى أن تُهتَك به حرمةُ البيت الحرام، تماماً كما أبى أن تُهتَك به حرمة المدينة المنوّرة، وسيكون حينئذٍ موقفٌ آخَر، سنسمعه فيما يلي..إذن!

ما يفيده هذا النصّ الصريح أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قصد مكّة ليستوطن فيها ويقيم فيها أبداً، بعد أن أُزعج وأُخرج من مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ومولده اضطراراً.

ص: 278

وليس في الكلام _ سابقاً ولاحقاً _ ما يفيد _ ولو إشارةً _ أنّ له غرضاً آخَر غير ما ذكرنا من دخول مكّة، ويشهد له قوله: «مستوطنٌ هذا الحرم ومقيمٌ فيه أبداً».

ولو كان الإمام يريد شيئاً سوى الامتناع عن البيعة، وكان يخطّط لجمع الخيل والرجال لغرضٍ آخَر سوى الدفاع عن نفسه ودفع القتل عنه وعن أهل بيته، لَما رضي بمكّة مقاماً أبداً ما نصرته ولم تخذله!

والله العالم.

النقطة الثانية: شرط البقاء
اشارة

لقد اشترط الإمام (علیه السلام) للاستيطان في مكّة والإقامة بها أبداً شرطاً ذا شعبتين:

الشعبة الأُولى: الحبّ

الشعبة الأُولى الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ، قال: «ما رأيتُ أهله يحبّونني»، فهو علّق البقاء على ما سيراه منهم، والمناط هنا ما يُظهرونه له من الحبّوالنصرة، لا فيما يُضمرونه له في قلوبهم، ولا بما يعلمه هو بما منحه الله وخوّله من علم الإمامة، وما أطلعه الله على قلوب العباد ومنويّاتهم ومستقبلهم.

المطلوب: أحبّوني! أحبّوه شخصيّاً! أحبّوه هو بالذات..

وممّا لا يشكّ فيه أحدٌ يزعم أنّه يؤمن بالله والنبيّ (صلی الله علیه و آله) واليوم الآخِر أنّ

ص: 279

حبّ الحسين (علیه السلام) _ كما هو حبّ أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً _ واجبٌ مفروضٌ من الله على العباد، وهو تكليفٌ إلهيٌّ وفرضٌ دِينيٌّ نصّ عليه القرآن الكريم والنبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، وأكّدته الشريعة الربّانيّة بكلّ الوسائل..

ولسنا بصدد التدليل على ذلك وسرد النصوص المقدّسة المصرِّحة بذلك، فإنّ ذلك من بديهيّات الدين وضروريّات الإسلام، ولتفصيل الكلام فيها موضعٌ آخَر.

فبغضّ النظر عن هذا، فإنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو بذاته محبوب، يتوفّر على كلّ خصلةٍ ومحمدةٍ وخُلُقٍ عظيم، وهو (ربّ النوع) لكلّ ما جعله الإنسان طول التاريخ مِن مُثُلٍ وقيَمٍ كرّسها في الآلهة الّتي اصطنعها لنفسه كلّما عجز عن الوصول إلى الغاية في خصلةٍ من خصال الخير..

فهو الجمال، وهو الكمال، وهو الحبّ، وهو المودّة، وهو الرحمة، وهو العطاء والسخاء، وهو الغوث، وكلّ ما يمكن أن يحبّه الإنسان السويّ..وهو القائد، وهو الإمام، وهو الزعيم، وهو السيّد، وهو كلُّ أملٍ يرجوه الإنسان في دنياه وآخرته..

ولو أردنا استقصاء ما في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من خصالٍ تأسر القلوبَ وتأخذ بالعقول وتسخّر الألباب وتستجيش العواطف، لَطال بنا المقام..

فهو محبوبٌ فرضاً من الله، ومحبوبٌ بحسب فطرة الإنسان السويّ

ص: 280

وطبعه وقيَمه وأخلاقه ومُثُله وتطلّعاته..

مع ذلك، لم يطلب منهم ولم يكلّفهم أكثر من أن يحبّوه، بل أن يرى منهم ذلك! «ما رأيتُ أهله يحبّونني»!

رُوي عن الصادق (علیه السلام) ، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إنّ حبّ عليٍّ قُذف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قُذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((1)).

فمن أيّ أصناف المخلوقات كان أُولئك الّذين عاصروا الإمام (علیه السلام) أيّام تواجده في مكّة المكرّمة؟!!

إنّهم لم يُبدوا له الحبّ، عصياناً وعتوّاً على أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وتمرّداً على القرآن والسنّة المطهّرة، ومجانبةً للفطرة السليمة والذوقالبشريّ والطبع الإنسانيّ، ومفارقةً لكلّ ما يمكن أن يجعلهم في صنف ذوي الإحساس والشعور والمعرفة وتتبّع الخير واستشعار الجمال وإدراك السموّ والأخلاق والرفعة..

إنّهم أعرضوا عن وجه الله ولم يُحبّوه، ولو أحبّوه لَما خرج عن مكّة! فلمّا خرج عن مكّة عرفنا أنّهم لم يعوا شرطه، ولم يلتفتوا إليه، ولم يُظهِروا له سوى وجوهاً ميّتةً منطفأةً كالحةً عبوسةً مكفهرّة، وقلوباً منكوسةً معكوسةً

ص: 281


1- المناقب لابن شهرآشوب: 9 / 47 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

متعوسةً منحوسة..

الشعبة الثانية: النصرة

النصرة.. كما أشرنا إلى المقصود منها مراراً عديدةً كلّما دعت مناسبة الحديث إلى بيانها، فإنّها هنا وفق مجريات الأحداث ومقتضيات الظروف وما تفرضه الأجواء الّتي خيّمت على المدينة يوم نزح عنها ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، والأجواء الّتي ظلّلت مكّة يوم أقام فيها قبل الخروج منها حين كان الإمام (علیه السلام) مهدور الدم، مطلوب الرأس، محكوماً بالقتل، ومرصوداً متربَّصاً به للاغتيال أو الأسر، كما أفادت النصوص المشار إليها في أكثر من موضعٍ وغيرها، كلّ ذلك شاهدٌ على أنّ المقصود بالنصرة إنّما هو الذبّ والدفاع عن ابن بنت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودفع القتل عنه، ومنع عادية القرود المسعورة وكبحها وقصّ مخالبها وأظفارها، لئلّا تنشب بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فتقضي ديونها منه ومن أبيه وجدّه (علیهما السلام) ،وتنتقم وتثأر لفطائسها في بدر وأُحُد وغيرها من مشاهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) .

هذا هو المطلوب في تلك الأيام.. دفع القتل عن ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وحفظ النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ولده.. والدلالات في المتون التاريخيّة صريحةٌ واضحةٌ بيّنةٌ في ذلك.

وعلى فرض عدم التسليم بها _ إن أمكن ذلك، وهو بعيد؛ لصراحة

ص: 282

المتون _، فإنّه القدر المتيقّن الّذي لا يشكّ فيه مَن يقرأ التاريخ متصفِّحاً فضلاً عمّا إذا كان متأمِّلاً..

وبهذا القدر المتيقّن أيضاً خانت الأُمّةُ بعهودها، وتنكّرت لبيعتها مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأخلفت وعودها، وتركت ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولم تدفع عنه ولم تمنعه، بل لم تعِدْه النصرة ولو كذباً، ولم تُبرِز له أيَّ بادرةٍ تجعله يبقى في مكّة البلد الآمن، وهي قد تجمّعت للحجّ تطوف على أحجار الكعبة وتتنقّل في المشاعر المقدّسة..

لقد صرّح التاريخ وأبان الإمام (علیه السلام) نفسه _ فداه العالمين _ أنّه إن بقي في مكّة سيغتاله الطغاة، وأنّه إن بقي فإنّه مقتولٌ لا محالة، ولهذا عجّل الخروج من مكّة ولم ينتظر الموسم حتّى ينقضي، ولو كان فيهم عِرقٌ ينبض أو صبابةٌ من بقايا غَيرةٍ تجيش في أعماق النفوس لَمنعوه!

لقد تعجّل الإمام (علیه السلام) الخروج، وخرج بالفعل، وهذا يعني أنّهم لمينصروه أبداً، ولم يعدوه النصر والدفاع عنه.. بل يبدو لمن تأمّل في النصوص التاريخيّة أنّهم مارسوا طقوسهم وكأنّ شيئاً لم يكن!

«ما رأيتُ أهله يحبّونني وينصرونني»!!!

النقطة الثالثة: فرض عدم توفّر الشرط

بغضّ النظر عن علم الإمام والإمامة، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يعرف القوم، وقد عركهم وخبرهم كأبرز شخصيّةٍ وأهمّ رمزٍ عاصر محنة الإسلام

ص: 283

والحقّ منذ عهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) والسقيفة والشورى وفتنة عثمان والتحكيم، وما تلاها من أحداثٍ جرت على مرأىً ومسمع منه، وقد رأى الناس في المدينة ومكّة والكوفة وغيرها من الحواضر والبلدان الّتي كانت تُسمّى يومها: بلاد المسلمين..

فالإمام (علیه السلام) يعرفهم من خلال سلوكهم وسوابقهم المعروفة، وهو أعرف الخلق بالخلق، لذا افترض فيهم أن يخذلوه، فقال: «فإذا هم خذلوني»..

«هم خذلوني»..

مَن المقصود؟

- أهل مكّة؟

- المجاورون؟- الحُجّاج والمعتمرون؟

أو أنّ جميع هؤلاء كانوا مقصودين؟ فأيّ واحدٍ كان قد دخل مكّة يومذاك يمكن أنّ يحبّ الإمام الحسين (علیه السلام) وينصره ولا يخذله..

وقد صدق (علیه السلام) _ وهو الصادق المصدّق _ إذ أنّه جعل خذلانهم فرضاً مقابل فرض المحبّة والنصرة، فخذلوه بالفعل ولم ينصروه! سواءً كان قد استنهضهم واستنصرهم ودعاهم، أو لم يفعل ذلك..

فإن كان قد استنهضهم واستنصرهم فخذلوه، فتلك الطامّة الكبرى..

وإن كان لم يفعل ذلك، فهذا يعني أنّه لم يعدّ العدّة لأمرٍ ما، وإنّما كان لا

ص: 284

يبغي منهم أكثر من الدفاع عنه، وكان عليهم أن يدفعوا عنه كمسلمٍ من المسلمين قد دخل بيت الله مستأمناً مستجيراً لائذاً عائذاً بالله، فضلاً عن كونه سيّد شباب أهل الجنّة وابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته ووديعته في أُمّته، إذ أنّهم كفروا بأمر الله وكذّبوا رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولم يقبلوه إماماً مفترض الطاعة منصوباً من الله (عزّ سلطانه).

وبهذا نعرف مدى خذلان القوم لسيّد الشهداء (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، إذ كان بمستوىً بحيث لو هجموا عليه وأرادوا قتله واغتياله لَما ردّهم أحدٌ أبداً من أُولئك الغوغاء وأشباه المسلمين الّذين ملؤوا مكّة والمطاف والمشاعر يومها ضجيجاً وعجيجاً!

النقطة الرابعة: البديل
اشارة

هنا قدّم الإمام (علیه السلام) البديل في حال خذله القوم ولم يحبّوه، وجاء البديل ضمن موقفين مترابطين يتمّم أحدهما الآخَر:

الموقف الأوّل: الاستبدال

«استبدلتُ بهم غيرهم ...».

جاء في حديث الأربعمئة المعروف من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) : «عليكم

ص: 285

بالمحجّة العظمى فاسلكوها، لا تستبدل بكم غيركم» ((1)).

وورد في كثيرٍ من الأدعية الشريفة عن أهل البيت (علیهم السلام) توسّل العبد بالله أن يجعله ممّن ينتصر به لدينه ولا يستبدل به غيره..

وأن يستبدل الإمام (علیه السلام) قوماً بغيرهم يعني أنّ الله يستبدلهم.. يعني أنّهم ليسوا ممّن ينتصر الله بهم لدينه.. يعني أنّهم خذلوا الله وخذلوا رسوله (صلی الله علیه و آله) فخذلهم وأوكلهم إلى أنفسهم..

وقد افترض الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) فرضاً أن لو خذلوه ولم ينصروه، فإنّه سوف يستبدل بهم غيرهم.. بمعنى أنّه سيغادر بلدهم ويتركهم ويرحل إلى قومٍ آخَرين.. يخرج إلى حيث يجد مَن يدفع عنهوينصره ويمنع عنه عادية الطغاة.. يهاجر إلى حيث أمره الله وأعدّ له نصره، ليجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيزٌ حكيم.

كلمات الإمام (علیه السلام) تذكّرنا بقوّةٍ بما جرى في هجرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) من مكّة، وترسم لنا مشهداً متطابقاً مع تلك المرحلة من حياة الإسلام.

قال (عزوجل) : ﴿إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَليماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ * إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ

ص: 286


1- الخصال للصدوق: 2 / 633.

سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيم﴾ ((1)).

فاستبدالهم بقومٍ آخَرين سيكون فيه العزّة والنصرة له، والخزي والعار والذلّ والصغار لأعدائه وخاذليه.

الموقف الثاني: الاستعصام بكلمة إبراهيم (علیه السلام)

«واستعصمتُ بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم أُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، فكانت النار عليه برداً وسلاماً».ورد في الأحاديث الشريفة:

إنّ إبراهيم الخليل (علیه السلام) لمّا أُريد قذفه في النار فرُمي به في المنجنيق، فبعث الله جبرئيل فقال له: أدرِكْ عبدي. فجاء فلقيَه في الهواء، فقال له: كلِّفْني ما بدا لك، فقد بعثني الله لنصرتك. فقال إبراهيم: حسبيَ اللهُ ونِعْم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلّا إليه ((2)).

وفي لفظٍ آخَر:

قال: لا أقترح على ربّي، بل حسبيَ اللهُ ونِعْم الوكيل ((3)).. فكانت

ص: 287


1- سورة التوبة: 39 و40.
2- أُنظر: الاحتجاج للطبرسي: 1 / 24، تفسير الصافي للكاشاني: 1 / 504، بحار الأنوار: 9 / 260.
3- الدعوات للراوندي: 168.

النار عليه برداً وسلاماً.

وبهذا أعلن الإمام (علیه السلام) أنّه في غنىً عن العالمين، ولا يحتاج أحداً من أهل مكّة للدفاع عنه ولا لنصرته، فهو في حمى الله، وهو متوكّلٌ عليه، وهو نِعْم الوكيل، وهو لا يحتاج سوى ربّه، وبه قد استعصم..

فمن خذل.. فقد غرّته الدنيا، وباع حظّه بالأرذل الأدنى، وشرى آخرته بالثمن الأوكس، وتغطرس وتردّى في هواه، وأسخط نبيَّه، وأطاع من أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار المستوجبين النار.

أمّا الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه، فلا يضرّه كيدهم شيئاً، ولا يحتاج نصرتهم، والله وليّه وناصره وحاميه.

النقطة الخامسة: التشبيه بإبراهيم الخليل (علیه السلام)

إنّ استعصام الإمام (علیه السلام) بكلمة جدّه إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، أشار إلى المشهد الّذي تعرّض له جدّه، والنتيجة الّتي تحقّقت بعد أن قال كلمته وثبت عليها..

والمشهد باختصار هو:

اجتماع الملأ والطاغوت يومها للقضاء على إبراهيم (علیه السلام) وقتله، والقضاء عليه بقتله ورميه في النار، وكان إبراهيم الخليل (علیه السلام) نفسه مقصوداً مطلوباً للقتل مبيّتاً له، قد أعدّوا النار واستعدّوا، وجمعوا الناس وحشّدوا ليتفرّجوا وينظروا سطوة الطاغي وتنكيله بأعدائه.

ص: 288

وهو يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) أيضاً كان مطلوباً، يقصد القومُ قتلَه وإراقة دمه، إنْ بالاغتيال أو الفتك به ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، تماماً كجدّه إبراهيم (علیه السلام) .

فإذا استعصم الإمام (علیه السلام) بكلمة جدّه ستكون النتيجة تماماً كنتيجة جدّه، إذ جعل الله عليه النار برداً وسلاماً، وأنجاه الله من القتل والإحراق وأخرجه سالماً.

وربّما أفاد هذا أنّ الإمام (علیه السلام) أشار بذلك إلى أنّه سيخرج من مكّة سالماً، وأنّهم رغم تجييشهم واستعدادهم وإقدامهم الوقح على إراقة دمه المقدّس في مكّة، فإنّ الله سيجعل له ذلك أمناً وأماناً، ولا يجسر أحدٌ علىفعل شيء، والله وكيله وحسبه.. فإنّ مكّة ستكون عليه برداً وسلاماً، تماماً كما كانت النار على جدّه إبراهيم (علیه السلام) برداً وسلاماً.

ولو أردنا حصر المشهد في جملة، نقول:

إنْ خذَلَ أهلُ مكّة ولم ينصروا الإمام (علیه السلام) وكانوا عليه إلباً مع الطاغوت كما كان القوم زمن أبيه إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، فإنّ الإمام (علیه السلام) أخبر أنّه سيستبدل بهم غيرهم، فيُحرمون من هذا الشرف العظيم والخاتمة الحسنة، ويستعصم بكلمة جدّه، فيعلن غناه عنهم، وأنّ الله الّذي جعل النار على جدّه برداً وسلاماً سيجعل له مكّة أمناً وأماناً رغم أُنوفهم حتّى يخرج منها سالماً.

ص: 289

النقطة السادسة: وأنت يا ابن عبّاس!
اشارة

قال: ثمّ أقبل الحسين على عبد الله بن عبّاس فقال: «يا ابن عبّاس! إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتُك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك، فتشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله [وكلائه]، ولا يخفى علَيّ [خ ل: ولا تُخفِ علَيّ] شيءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمت بالكلمة الّتي قالها إبراهيم الخليل يوم أُلقي في النار: حسبيَ الله ونعم الوكيل، فكانت النار عليه برداً وسلاماً».* * * * *

لقد مرّت الإشارة إلى بعض مفاصل هذه النقطة فيما سبق من الكلام، وإنّما ذكرناها هنا كي نستطيع استكمال مشهد حديث الإمام (علیه السلام) مع ابن عبّاس، وسنحاول التعرّض لها باختصارٍ شديدٍ ضمن الومضات التالية:

الومضة الأُولى: التفاتة الإمام (علیه السلام) إلى ابن عبّاس!

كان آخر ما تكلّم به الإمام (علیه السلام) مع ابن عمر أنّه قال له:

«فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل، فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دُبر كلّ صلاة، واجلس عن

ص: 290

القوم، ولا تعجل بالبيعة لهم حتّى تعلم إلى ما تؤول الأُمور».

بعد هذا الكلام الواضح في إعذار ابن عمر بعد أن أقام عليه الحجّة البالغة التامّة، وتخاذل ابن عمر بوضوح، قال له الإمام (علیه السلام) : «أنت في أوسع العذر»، وقد أتينا على بيانها قبل قليل، واكتفى منه بالدعاء والقعود عن القوم إلى حين، وعدم استعجال البيعة لهم.

ثمّ بعد ذلك مباشرةً أقبل على ابن عبّاس فقال: «يا ابن عبّاس ...»، ممّا يُشعِر أنّ المشهد السابق بعدُ لم ينتهي، وأنّ الكلام متّصلٌ والحديث واحد، فقد عاد الإمام (علیه السلام) في نهاية الحوار إلى توجيه كلّ واحدٍ منهما، ومعالجة مواقفهما، وجعلهما في «أوسع العذر»، فهما في خانةٍ واحدةٍ وموقفٍ واحدٍولهما حكمٌ واحد، بَيد أنّ طريق الحديث مع الأفراد تختلف، كما أنّهما كانا يختلفان بمستوى التلقّي والتأثّر، فقد بكى ابن عبّاس مرّتين، وبكى ابن عمر مرّةً واحدة!

الومضة الثانية: حرج ابن عبّاس

يبدو أنّ إحراج ابن عبّاسٍ كان واضحاً بادياً، وسيّد الشهداء (علیه السلام) مع الغنى والجود والسماحة والحلم والكرم والمداراة، فإنّ المعهود الواضح في سلوك أهل البيت (صلوات الله عليهم جميعاً) أنّهم كانوا يقيمون للرحم وزناً، ويجعلون له مقاماً خاصّاً مهما كان الرحم، ولا يتنكّرون للرحم مهما نأت وبعُدَت، والأمثلة والأحاديث في ذلك كثيرةٌ لا تُحصى، ليس هذا

ص: 291

موضع ذِكرها.

ويبدو من اتّصال الحديث وانتقال سيّد الشهداء (علیه السلام) من مخاطبة ابن عمر والإقبال فوراً إلى ابن عبّاس أنّه يريد أن يجعل بينهما ما يميّز الخطاب معهما.

وقد عبّر ابنُ عبّاسٍ عن الحرج الّذي انتابه، وأعلن النصرة ولو بانتظار الإذن والإعذار، على خلاف ابن عمر.

ففرّق الإمام (علیه السلام) هنا في خطابه بينهما، وجعل مداراة ابن عبّاس أكثر، وكأنّه يريد أن يقول له: إنّك لستَ كابن عمر، فأنت ابن عمّ أبي، ولك رحم، ولك علاقةٌ سابقةٌ مع أبي.ويمكن أن تُفهَم هذه المقدّمة على نحوٍ آخَر، تستلهم من الجوّ العام الّذي ظلّل المحادثة وإقامة الحجج والبراهين عليهما، فتكون بمثابة نوعٍ من التقريع والعتاب، فكأنّه يقول له: إنّك ابن عمّ أبي، وكان لك كذا وكذا من المواقف مع أبي، بَيد أنّك الآن تقف منّي هذا الموقف، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله، ولا حاجة لي فيك.

الومضة الثالثة: المداراة والتودّد

بالرغم من أنّنا نتحفّظ قليلاً على ما ورد في تفاصيل كلام الإمام (علیه السلام) مع ابن عبّاس في هذه الفقرة، ومن أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يستشير ويشير هو عليه بالرشاد والصواب، فإنّ هذا ما يزعمه ابن عبّاس، وقد

ص: 292

وجدنا خلافه في التاريخ، ولَطالما أشار بالخطأ على أمير المؤمنين فخالف الإمامُ رأيه، فانزعج ابن عبّاس، وقد جئنا على بيان ذلك فيما سبق، بَيد أنّنا نفترض صحّة ذلك.

وعلى فرض صحّة هذه الزيادة، فإنّ فيها من المداراة والتودّد لابن عبّاس ما يلائم أخلاق سيّد الشهداء (علیه السلام) وحِلمه ومداراته، وكلامه مع الناس كلّ حسب ما يناسبه وكلّ على قدر عقله ومقامه.

وربّما كان الإمام (علیه السلام) يستشير ويستنصح ابن عبّاس، وليس في ذلك ضَير، وقد قال له الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ما مضمونه: إن استشاره فلْيشر عليه، ولكن عليه أن يطيع أمر إمامه، وليس الإمام (علیه السلام) ملزماً بالعمل بما يقولابن عبّاس ولا غيره.

الومضة الرابعة: تطييب خاطره

يُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) قد قرّر أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يستشير ابن عبّاس ويستنصحه، وكان ابن عبّاس يشير عليه بما فيه الرشاد ويشير عليه بالصواب، ولكنّه لم يذكر له أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعمل بما يشير عليه.. فهو صوابٌ ورشادٌ حسب رأي ابن عبّاس نفسه.

وربّما ذكر الإمام (علیه السلام) هذا الأمر بعد أن أقنع ابنَ عبّاسٍ وابنَ عمرٍ في هذا اللقاء أنّهما على خطأ، وأنّ رأيهما غير سديد، وأنّه لا ينوي العمل بما أشارا، بل عازمٌ على مخالفته، فأراد الإمام (علیه السلام) بأخلاقه الحسينيّة المميّزة عن

ص: 293

العالمين أن يطيّب خاطر ابن عبّاس الّذي هو ابن عمّ أبيه! وللرحم عند أهل البيت (علیهم السلام) مقام!

الومضة الخامسة: إنْ كنتَ تشير بالرشاد فإنّك أخطأتَ اليوم

ربّما شهد لما ذكرناه آنفاً في الومضة السابقة أنّ الإمام (علیه السلام) قال لابن عبّاس: «فامضِ إلى المدينة»، ثمّ قال: «فإنّي مستوطن ...».

أي: لك أن تستمرّ بما أنت عازمٌ عليه، وهو الرجوع إلى المدينة، ودَعْني في مكّة، فلا أعود معكما إلى المدينة، ولا تمتعض إن لم أعمل بمشورتك، فإنّك كنتَ تشير على أبي، وكانت إشاراتك سديدة، ولكنّ اليوم أخطأت الرشاد والسداد.* * * * *

ولا يخفى أنّ الحديث في الحوار كلّه كان يدور حول رجوع الإمام (علیه السلام) إلى المدينة، ولم يُذكَر فيه الخروج إلى الكوفة، وإنّما كانت محاولات العبدين تنصبّ على إقناع الإمام (علیه السلام) بالرجوع معهما إلى المدينة، وقد خالفهما الإمام (علیه السلام) ، وأصرّ على الإقامة في مكّة مستوطناً مقيماً أبداً ما رأى أهله يحبّونه وينصرونه.

الومضة السادسة: هل استبدل الله بابن عبّاس وابن عمر؟!

لقد كانت الظروف المحيطة بركب الإمام (علیه السلام) حرجة للغاية، وكان الإمام (علیه السلام) ملاحَقاً مطلوباً للقتل، وكان (علیه السلام) قد وضّح الموقف للعبدين

ص: 294

بتفاصيله وبعباراتٍ واضحةٍ مفهومةٍ لا تحتاج إلى تأويل وتحليل.

ثمّ قال لابن عبّاس: «فامضِ إلى المدينة ... فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم ومقيمٌ به ...».

ثمّ أخبره أنّهم إن خذلوه استبدل بهم غيرهم، واستعصم بالكلمة الّتي قالها إبراهيم (علیه السلام) ..

فهل يُشعِر ذلك أنّ الله قد استبدل بابن عبّاس وابن عمر، إذ أشاحوا وركبوا سفن الدنيا ليحفظوا بقيّة العمر، ويعيشوا حفنةً من السنين بعده، ولم ينصروه ولو بما يناسبهم ويلتئم مع طبعهم ومزاجهم؟!

الومضة السابعة: هل في كلام الإمام عذرٌ لابن عبّاس؟

ربّما كان الإمام (علیه السلام) يتكلّم مع ابن عمر ليُسمِع ابن عبّاس من دون أن يباشره بالكلام، على قاعدة: (إيّاكِ أعني واسمعي يا جارتي)، ليحفظ لابن عبّاس قرابته ووجاهته، وهذا هو السبب الّذي دعا ابن عبّاس ليقول: «كأنّك تريد منّي أن أنصرك!»، فهو قد فهم _ بفطنة الهاشميّ وذكائه _ أنّ الإمام (علیه السلام) يقصده.

وقد اتّضحَت الحجج وبانت الأُمور ولاحت المحجّة بأجلى صورة، وقد ختم الإمام (علیه السلام) كلامه مع ابن عبّاسٍ بقوله: «امضِ إلى المدينة في حفظ الله، ولا تُخفِ علَيّ شيئاً من أخبارك»، ولا يبدو في هذا القدر أنّ لابن عبّاس عذراً واضحاً يمكن أن يعتذر به، وربّما كان هذا هو السبب وراء ما تمحّله وتكلّفه

ص: 295

فيما بعد من الإعذار والدفاع عن نفسه بشتّى الذرائع، وسيأتي ذِكرها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

ولا يبدو في هذا المتن بالخصوص أنّ الإمام (علیه السلام) قد كلّف ابن عبّاسٍ بتكليفٍ خاصّ، ولم يجعله عيناً له على المدينة، إذ أنّه قال له: «لا تُخفِ علَيّ شيئاً من أخبارك».. (أخبارك)! أخباره الخاصّة به، باعتباره عبد الله بن عبّاس ابن عمّ أبيه، لا أكثر..

فلا يجد في هذا الكلام ما يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد كلّفه بشيء، ولا أمَرَهبأمرٍ خاصٍّ يجعله يتخلّف في المدينة من أجل تنفيذ أمر الإمام (علیه السلام) ، فيما نجد يزيد قد كلّف ابن عبّاس وأمره أن يتابع أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) ويفاوضه ويمنعه عن الخروج، وقد منحه صلاحيّاتٍ واسعة.

النقطة السابعة: بكاؤهم جميعاً

علِمَ العبدان أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لا يبايع أبداً، وأنّ القوم لا يتركونه أبداً، وستكون العاقبة أنّهم يقتلونه ويقتلون مَن معه ومَن سينصره، فبكيا، وبكى معهما سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

إنّها واللهِ الظليمة العظمى!

هل بكى ابن عبّاسٍ وابن عمر لأنّهما رأيا الإمام (علیه السلام) مقتولاً، وقد تنجّزت الإخبارات الغيبيّة، وشهدت كلّ الظروف ومجريات الأحداث بذلك؟

ص: 296

هل بكيا على ظليمة سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام الأبرار والأوفياء؟

هل بكيا لبكاء سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟ فبكاؤه لا يُحتمَل، وكان بكاؤه شجيّاً محزناً يُبكي مَن سمعه ورآه!

هل بكيا متأثّرَين تأثّراً تكوينيّاً؟ لأنّ انكسار قلب الإمام (علیه السلام) _ وهو قلب العالَم _ يؤثّر في الموجودات، وإن كانت من الصمّ الصياخيد!

هل بكيا على حظّهما العاثر وخذلانهما للإمام (علیه السلام) على علم، فبكيا علىعاقبتهما؟

هل بكيا على فراق سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

الإضاءة العشرون: أقام الإمام بمكّة ولزم الصلاة

اشارة

قال ابن أعثم:

ثمّ ودّعهما، وصار ابنُ عمر وابنُ عبّاس إلى المدينة، وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة قد لزم الصوم والصلاة ((1)).

وقال الخوارزميّ:

ثمّ ودّعهما، فصار ابن عبّاس وابن عمر إلى المدينة، وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة، ولزم الصلاة في الصلاة ((2)).

ص: 297


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 44.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 193.

يمكن متابعة هذه الفقرة الأخيرة من نصّ ابن أعثم والخوارزميّ من خلال جملة إنارات:

الإنارة الأُولى: صار العبدان إلى المدينة!

ودّعهما الإمام (علیه السلام) ، وصار ابن عبّاسٍ وابن عمر إلى المدينة، كأنّهما لم يسمعا حُجج الإمام (علیه السلام) ، ولم يَعِيا ظرف الإمام (علیه السلام) والخطر المُحدِق به، وكأنّهما غير معنيّين بحياة الإمام (علیه السلام) والدفاع عنه والذبّ عن آل رسولالله (صلی الله علیه و آله و سلم) !

لا ندري بماذا يبرّر العبدان موقفهما وانصرافهما، وبماذا يسوّغان تركهما لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهما يعلمان ويجزمان كأنّهما يريان بأُمّ العين أنّه مقتولٌ مذبوح؟!

لا ندري كيف يسوّغ الآخَرون موقفهما ويدافعون عنهما ويبرّرون لهما، ويفهمون انصرافهما إلى المدينة وقد حازا رضى الله ورضى الإمام (علیه السلام) ؟!

الإنارة الثانية: أقام الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة

نجد في النصّ تأكيداً على إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة، التأكيد على الإقامة فقط، ولم يضيفا إلى الإقامة إلى هذا الحدّ من النصّ أيَّ نشاطٍ آخَر إلّا ما سنسمعه في الإنارة التالية!

أقام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة وفق ما رسمه هو للعبدين، مقيماً مستوطناً، لا يريد استبدال أهلها ولا تركها ومغادرتها ما دامت قد دفعَت

ص: 298

عنه وحفظَته وأظهرت له المحبّة..

لا يبدو ثَمّة غرضٌ آخَر سوى الإقامة والاحتماء بالبيت الحرام، مع احتمال منعه من قِبل المقيمين بها، إنْ مِن أهلها أو الحجّاج والمعتمرين والمجاورين.

الإنارة الثالثة: لزوم الصلاة

غاية ما ذكره المؤرّخ هنا وسجّله من نشاطٍ يمكن الإشارة إليهوالاهتمام به، هو: ما يفعله أيُّ مجاورٍ مقيمٍ في البيت الحرام..

لقد لزم الصلاة والصوم..

لزم الصلاة!

وأضاف الخوارزميّ: أنّه لزم الصلاة في الصلاة، والظاهر يعني بذلك أنّ الإمام لزم الجماعة مع القوم!! أي: أنّه كان يصلّي بصلاتهم، وهذا من غريب ما يرويه الخوارزميّ، إذ أنّ بعض النصوص تؤكّد أنّه كان يصلّي لوحده ولا يأتمّ بهم، وتمام الكلام في هذا سيأتي في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

إنّ الإمام (علیه السلام) لزم الصلاة والصوم.. ولم يشيرا إلى أنّه بادر إلى مبادراتٍ تشحذ الهمم، وتجيّش النفوس، وتستنهض الرجال لمحاربة السلطة والالتحاق بمسيرة الانقضاض على أركان الحكم المتسلّط، ومحاولة الإمساك بزمام الأُمور في مكّة أو في غيرها من البلدان..

لزم الصلاة والصوم!

ص: 299

ص: 300

محتويات الكتاب

الديباجة........................................................................... 5

المقدّمة.......................................................................... 15

تاريخ دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة ومدّة إقامته.................... 21

مدّة إقامته.................................................................................... 22

الآية الّتي تلاها الإمام (علیه السلام) عند دخول مكّة واستخارته........ 25

دعاء الإمام (علیه السلام) واستخارته............................................................ 26

تغيير والي مكّة................................................................ 27

التوضيح الأوّل: الوالي الّذي تمّ تغييره........................................ 27

التغيير الأوّل: عثمان بن محمّد........................................................................................ 27

النصّ الأوّل:............................................................................................................ 27

النصّ الثاني:............................................................................................................ 28

النصّ الثالث:........................................................................................................... 29

التغيير الثاني: يحيى بن حكيم......................................................................................... 30

التغيير الثالث: الحارث بن خالد...................................................................................... 31

التغيير الر ابع: عبد الرحمان بن نبيه................................................................................. 32

التغيير الخامس: الوليد بن عُتبة....................................................................................... 33

ص: 301

التغيير السادس: مروان................................................................................................... 34

التغيير السابع: عمر بن سعد بن أبي وقّاص....................................................................... 34

التغيير الثامن: عمرو بن سعيد.......................................................................................... 35

الطائفة الأُولى: تولية المدينة.................................................................................... 35

الطائفة الثانية: تولية مكّة........................................................................................... 39

الطائفة الثالثة: تولية مكّة والمدينة............................................................................. 39

التوضيح الثاني: وقت التغيير......................................................... 40

التوضيح الثالث: علّة التغيير........................................................... 42

العلّة الأُولى: الوشاية بالوليد........................................................................................... 43

العلّة الثانية: خوفه من ضعف الوليد................................................................................. 43

العلّة الثالثة: تجبّر عمرو وتكبّره وطغيانه.......................................................................... 45

التوضيح الرابع: الهدف من إنفاذ الأشدق..................................... 46

التوضيح الخامس: دخوله المدينة ومدّة مكثه فيها........................ 48

التوضيح السادس: خطبته.............................................................. 49

التوضيح السابع: متنٌ آخَر للخطبة................................................ 50

التوضيح الثامن: رعف على المنبر................................................ 51

التوضيح التاسع: استعمال عمرو بن الزبير على الشرطة وما فعل بأنصار أخيه 53

التوضيح العاشر: خروجه من المدينة............................................ 54

التوضيح الحادي عشر: أمير الموسم في شهر رمضان والحجّ......... 55

عمرو بن سعيد بن العاص.................................................. 57

النقطة الأُولى: مَن هو؟................................................................. 57

النقطة الثانية: سبب تلقيبه بالأشدق............................................... 58

ص: 302

النقطة الثالثة: وصَفَه النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بالجبّار........................................ 59

النقطة الرابعة: أوّل مَن أخفت بالبسملة......................................... 60

النقطة الخامسة: موقفه حين سمع خبر شهادة الإمام (علیه السلام) .............. 60

النقطة السادسة: كان أشدّ الناس في أمر مروان............................ 63

النقطة السابعة: طمعه في المُلك وقتله.......................................... 64

النقطة الثامنة: قتل عمرو بن سعيد بن العاص................................ 67

النقطة التاسعة: كلام صاحب (الغدير) فيه..................................... 68

النقطة العاشرة: هذا هو والي مكّة!................................................ 69

نزول الإمام (علیه السلام) دار العبّاس بن عبد المطّلب..................... 71

نزول الإمام بأعلى مكّة................................................................. 73

الملاحظة الأُولى: تفرّد الخوارزميّ................................................................................. 74

الملاحظة الثانية: ارتباك النصّ...................................................................................... 74

الملاحظة الثالثة: تصريح الخوارزميّ بالإقامة في مكّة...................................................... 75

الملاحظة الرابعة: نزول المستجير بالبيت......................................................................... 75

الملاحظة الخامسة: اختلاف الظروف............................................................................. 76

الملاحظة السادسة: على فرض صحّة القول.................................................................... 76

لقاء الناس بالإمام (علیه السلام) ...................................................... 79

لو طلب البيعة لأجيب!!.................................................... 85

كتاب الأشدق ليزيد......................................................... 89

التلميح الأوّل: اسم الوالي............................................................ 89

التلميح الثاني: انفراد الخوارزميّ................................................. 90

ص: 303

التلميح الثالث: مخاوف السلطان................................................... 90

التلميح الرابع: سبب المخاوف..................................................... 91

التلميح الخامس: الإخبار عن فعل الناس...................................... 91

التلميح السادس: الكتاب من المدينة............................................ 92

التلميح السابع: خروج الوالي إلى المدينة!.................................. 92

التلميح الثامن: إخبار يزيد بنزول الإمام (علیه السلام) ............................... 93

التلميح التاسع: الخلاصة............................................................... 94

كتاب يزيد إلى أهل المدينة وردّ الإمام (علیه السلام) ...................... 97

العنوان الأوّل: وقت إرسال الكتاب.................................... 99

الوقت الأوّل: إبّان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة.................. 99

الوقت الثاني: عند نزول الإمام (علیه السلام) في مكّة.............................. 100

العنوان الثاني: نُسَخ الكتاب............................................. 103

النسخة الأُولى: نسخة إلى أهل المدينة وغيرهم......................... 104

الوقفة الأُولى: المخاطَب............................................................ 107

الوقفة الثانية: معنى النظر في الكتاب.......................................... 108

الوقفة الثالثة: ابتداء القرد بالهجوم............................................. 109

الوقفة الرابعة: مؤدّى الأبيات...................................................... 110

المؤدّى الأوّل: كتابٌ أبتر............................................................................................ 110

المؤدّى الثاني: تظلّم يزيد!........................................................................................... 111

المؤدّى الثالث: حصر مورد المفاخرة........................................................................... 111

المؤدّى الرابع: منازعة مورد التفاخر............................................................................. 112

ص: 304

المؤدّى الخامس: التهديد............................................................................................ 113

المؤدّى السادس: العزم على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والاعتذار منه................................... 114

الوقفة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) .............................................. 115

الإشارة الأُولى: المخاطَب............................................................................................ 115

الإشارة الثانية: مضمون الجواب................................................................................... 116

الإشارة الثالثة: تطبيق الآية على المقام.......................................................................... 117

الإشارة الرابعة: تحديد مصداق المكذّب...................................................................... 118

الإشارة الخامسة: ازدراء المخاطَب............................................................................... 119

النسخة الثانية: نسخة إلى ابن عبّاس.................................. 121

الإيضاح الأوّل: اتّحاد نُسَخ الكتاب!............................................. 124

الإيضاح الثاني: محاولة استبدال الرموز..................................... 125

الإيضاح الثالث: تصوير سلطة ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام) ........... 127

الإيضاح الرابع: يزيد يكلّف ابن عبّاس بالمهمّة........................... 128

الإيضاح الخامس: هجوم العدوّ.................................................. 131

الإيضاح السادس: وضع الإمام (علیه السلام) وابن الزبير في موقفٍ واحد 132

الإيضاح السابع: النزاع على السلطة............................................ 134

الإيضاح الثامن: الافتراء على الإمام (علیه السلام) .................................... 135

الدنيّة الأُولى:.............................................................................................................. 135

الدنيّة الثانية:................................................................................................................ 137

الدنيّة الثالثة:................................................................................................................ 138

الدنيّة الرابعة:............................................................................................................... 139

الدنيّة الخامسة:............................................................................................................ 140

الدنيّة السادسة:............................................................................................................ 140

ص: 305

الإيضاح التاسع: مكاتبة أهل الكوفة............................................ 142

الإيضاح العاشر: إقرار القرد المخمور بقلّة مَن كاتب ودعا.......... 143

الإيضاح الحادي عشر: يمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمارة............... 146

الاستطالة الأُولى: الكذب الصريح................................................................................ 147

الاستطالة الثانية: محاولات التضليل.............................................................................. 148

الاستطالة الثالثة: منّوه الخلافة!...................................................................................... 149

الاستطالة الرابعة: شاهدٌ على كذب يزيد...................................................................... 150

الاستطالة الخامسة: اغترار الإمام (علیه السلام) بوعود الناس!....................................................... 151

الإيضاح الثاني عشر: قطع الرحم وبتّه......................................... 153

الإيضاح الثالث عشر: الأمان والمساومة بالدنيا............................. 154

الأمر الأوّل: تأخّر المقايضة.......................................................................................... 154

الأمر الثاني: المقايضة.................................................................................................. 155

الأمر الثالث: تقديم المواثيق........................................................................................ 158

الإيضاح الرابع عشر: إغراء ابن عبّاس......................................... 160

جواب ابن عبّاس........................................................... 163

المحتوى الأوّل: ما يراه ابنُ عبّاسٍ في نفسه.............................. 166

المحتوى الثاني: تصريح الجواب بسبب الخروج من المدينة.... 167

المحتوى الثالث: أداء النصيحة ومفادها..................................... 169

المادّة الأُولى: النائرة، الفتنة، حقن الدماء...................................................................... 169

المادّة الثانية: يأمر يزيد بما يأمر به الإمام (علیه السلام) ................................................................ 171

أوّلاً: جعل نفسه في موضع الآمِر للإمام (علیه السلام) ........................................................... 172

ثانياً: جمعه الإمام (علیه السلام) ويزيد في مستوىً واحدٍ من الخطاب.................................... 173

المادّة الثالثة: تبييت يزيد وإرصاده وحفره لسيّد الشهداء (علیه السلام) ........................................ 174

ص: 306

المادّة الرابعة: النصيحة لأولاد البغايا............................................................................. 176

المادّة الخامسة: خاتمةٌ تفرّد بها الشجريّ...................................................................... 178

النسخة الثالثة: نسخة إلى عمرو بن سعيد........................... 181

الإضافة الأُولى: نسخة الأشدق.................................................... 182

الإضافة الثانية: المخاطَب في هذه النسخة................................. 182

الإضافة الثالثة: قول الشعبيّ........................................................ 183

لقاء ابن عبّاس وابن عمر بالإمام (علیه السلام) ................................ 185

الإضاءة الأُولى: دخلا وقد عزما على الانصراف.......................... 186

الإضاءة الثانية: محاولة الإبقاء على سيّد الشهداء في الحرم........ 187

الإضاءة الثالثة: بدايةٌ وقحة!........................................................ 188

الإضاءة الرابعة: ترتيب المقدّمات في كلام ابن عمر.................. 189

المقدّمة الأُولى:........................................................................................................... 190

المقدّمة الثانية:............................................................................................................. 191

المقدّمة الثالثة:............................................................................................................. 192

النتيجة:....................................................................................................................... 192

الإضاءة الخامسة: هلاك البشر!................................................... 193

الإضاءة السادسة: حسينٌ مقتول!................................................. 193

الإضاءة السابعة: فهم ابن عمر لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ............. 196

الإضاءة الثامنة: إشارة ابن عمر!.................................................. 197

الأمر الأوّل: الدخول في صلح ما دخل فيه الناس.......................................................... 197

الأمر الثاني: الصبر كما صبر على معاوية...................................................................... 197

الأمر الثالث: تهديد الإمام (علیه السلام) ..................................................................................... 198

ص: 307

الإضاءة التاسعة: ردّ الإمام (علیه السلام) ................................................... 198

الملاحظة الأُولى: إنكار الدعوة للدخول في صلح يزيد................................................ 199

الملاحظة الثانية: إذا كان الإمام مقتول، فلماذا يُدعى للبيعة الصاغرة؟............................ 200

الإضاءة العاشرة: عزم يزيد على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) بتقرير ابن عبّاس 200

الإفادة الأُولى: تظافر الشهادات على يزيد.................................................................... 201

الإفادة الثانية: عزم الرجس على قتل الطُّهر.................................................................... 201

الإفادة الثالثة: موقف الناس.......................................................................................... 202

الإفادة الرابعة: المطلوب من الناس............................................................................... 203

الإفادة الخامسة: أثر الخذلان....................................................................................... 204

الإضاءة الحادية عشر: بكاء الحسين (علیه السلام) وابن عبّاس!................. 204

الإضاءة الثانية عشر: إعلان سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مطاردته وعزمهم على قتله وإهدار دمه وإزعاجه بلا مسوّغ، وتظلّمه ومناشدته....................................................................... 205

الإضاءة الثالثة عشر: إقرار ابن عبّاس بمظلوميّة الإمام (علیه السلام) .......... 210

اللمعة الأُولى: الإقرار بالمظلوميّة والحكم على الناس.................................................... 210

اللمعة الثانية: تأكيد ما ذكره الإمام (علیه السلام) ......................................................................... 212

اللمعة الثالثة: اللّهمّ اشهدْ.............................................................................................. 213

اللمعة الرابعة: كأنّك تريدني إلى نفسك!.................................................................... 214

الإضاءة الرابعة عشر: سماجة ابن عمر، مع اعترافه أنّ العدوّ عازمٌ على قتل الحسين (علیه السلام) 219

الإضاءة الخامسة عشر: ردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ................................ 222

المضمون الأوّل: لو كان الحياء رجلاً لَكان الحسين (علیه السلام) ............................................... 223

المضمون الثاني: أُفٍّ لهذا الكلام!................................................................................ 224

المضمون الثالث: القسَم على ابن عمر.......................................................................... 229

ص: 308

المضمون الرابع: الأمر الّذي كان عليه الإمام (علیه السلام) .......................................................... 230

المضمون الخامس: فردّني........................................................................................... 230

المضمون السادس: من فوائد التقرير............................................................................ 231

الإضاءة السادسة عشر: جواب ابن عمر........................................ 232

المطلب الأوّل: الارتباك في تعبير ابن أعثم................................................................. 233

المطلب الثاني: استشهاد ابن عمر بالله............................................................................ 234

المطلب الثالث: أدلّة ابن عمر على صحّة مواقف الإمام................................................. 234

الدليل الأوّل: العصمة والتسديد الإلهيّ.................................................................. 235

الدليل الثاني: موانع المناولة................................................................................... 235

المطلب الرابع: مخاوف ابن عمر رغم إقراراته.............................................................. 236

الخوف الأوّل: الخوف من ضرب وجه الإمام (علیه السلام) بالسيوف................................... 236

الخوف الثاني: أن يرى الإمامُ (علیه السلام) من الأُمّة ما لا يحبّ........................................... 237

المطلب الخامس: عودة العبد إلى هرائه....................................................................... 237

المطلب السادس: الدعوة إلى مجانبة الصواب.............................................................. 238

المطلب السابع: خلاصة كلام ابن عمر......................................................................... 238

الإضاءة السابعة عشر: إصرار القوم على ملاحقة الإمام (علیه السلام) وقتله كيف ما كان............................................................................................ 240

المقطع الأوّل: الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ أبداً وعلى كلّ حال.................................................. 243

المقطع الثاني: الاستشهاد بيحيى (علیه السلام) ............................................................................. 245

الإشارة الأُولى: خلاصة قصّة يحيى (علیه السلام) ................................................................. 245

الإشارة الثانية: الإمام (علیه السلام) يُكثِر من ذِكر يحيى (علیه السلام) ................................................. 256

الإشارة الثالثة: قتل يحيى (علیه السلام) تشفّياً وانتقاماً............................................................ 256

الإشارة الرابعة: البغيّ الّذي أُهدي إليه رأس الإمام (علیه السلام) ........................................... 256

الإشارة الخامسة: براءة يحيى وقتله دون ذنب......................................................... 258

ص: 309

الإشارة السادسة: مبادرة العدوّ وإقدامه على قتل يحيى (علیه السلام) ..................................... 259

الإشارة السابعة: الانتقام ليحيى (علیه السلام) ........................................................................ 259

الإشارة الثامنة: هوان الدنيا على الله (عزوجل) ................................................................ 260

الإشارة التاسعة: ما يتعرّض له الأولياء لا يُنقص من قدرهم..................................... 261

المقطع الثالث: الاستشهاد بقتل بني إسرائيل الأنبياء (علیهم السلام) ............................................ 263

التنبيه الأوّل: قتل الأنبياء (علیهم السلام) بغير حقّ................................................................ 263

التنبيه الثاني: ممارسة الجريمة في أشرف الأوقات.................................................. 264

التنبيه الثالث: اجتماعهم على الجريمة.................................................................... 265

التنبيه الرابع: عدم الاكتراث بالجريمة.................................................................... 265

التنبيه الخامس: الانتقام من القتَلَة........................................................................... 266

المقطع الرابع: التعريض بابن عمر................................................................................. 267

التعريض الأوّل: الدعوة إلى تقوى الله.................................................................... 267

التعريض الثاني: الدعوة إلى النصرة........................................................................ 268

التعريض الثالث: اذكرني في صلاتك................................................................... 269

الإضاءة الثامنة عشر: إتمام الحُجّة............................................... 270

الشطر الأوّل: لو أدرك عمر زماني لَنصرني!................................................................ 270

التنويه الأوّل: القسَم بجدّه البشير النذير.................................................................. 271

التنويه الثاني: حجّةٌ جديدةٌ ودليلٌ آخَر.................................................................. 271

الوجه الأول: احتجاجٌ تنزّليّ................................................................................ 272

الوجه الثاني: وفق دوافع أبيك ونوازعه................................................................. 272

الوجه الثالث: الاقتداء بسنّة أبيه............................................................................. 273

الشطر الثاني: الإعذار................................................................................................... 273

الشطر الثالث: الدعاء والتباطؤ....................................................................................... 275

الإضاءة التاسعة عشر: هدف الإمام (علیه السلام) من دخول مكّة والبقاء فيها 276

ص: 310

النقطة الأُولى: الاستيطان والإقامة أبداً........................................................................... 277

النقطة الثانية: شرط البقاء.............................................................................................. 279

الشعبة الأُولى: الحبّ............................................................................................. 279

الشعبة الثانية: النصرة.............................................................................................. 282

النقطة الثالثة: فرض عدم توفّر الشرط........................................................................... 283

النقطة الرابعة: البديل................................................................................................... 285

الموقف الأوّل: الاستبدال...................................................................................... 285

الموقف الثاني: الاستعصام بكلمة إبراهيم (علیه السلام) ........................................................ 287

النقطة الخامسة: التشبيه بإبراهيم الخليل (علیه السلام) .................................................................. 288

النقطة السادسة: وأنت يا ابن عبّاس!.............................................................................. 290

الومضة الأُولى: التفاتة الإمام (علیه السلام) إلى ابن عبّاس!.................................................... 290

الومضة الثانية: حرج ابن عبّاس.............................................................................. 291

الومضة الثالثة: المداراة والتودّد.............................................................................. 292

الومضة الرابعة: تطييب خاطره................................................................................ 293

الومضة الخامسة: إنْ كنتَ تشير بالرشاد فإنّك أخطأتَ اليوم.................................. 294

الومضة السادسة: هل استبدل الله بابن عبّاس وابن عمر؟!......................................... 294

الومضة السابعة: هل في كلام الإمام عذرٌ لابن عبّاس؟............................................ 295

النقطة السابعة: بكاؤهم جميعاً...................................................................................... 296

الإضاءة العشرون: أقام الإمام بمكّة ولزم الصلاة.......................... 297

الإنارة الأُولى: صار العبدان إلى المدينة!................................................................ 298

الإنارة الثانية: أقام الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة............................................................. 298

الإنارة الثالثة: لزوم الصلاة..................................................................................... 299

ص: 311

المجلد 2

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

القسم الثاني

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

لقاء ابن عمر

اشارة

ورد أنّ ابن عمر التقى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ويمكن تقسيمه إلى ثلاث متون:

المتن الأوّل: رواية الشيخ ابن نما (رحمة الله)

روى الشيخ ابن نما (رحمة الله) فقال:

وعن الشعبيّ، عن عبد الله بن عمر أنّه كان بماءٍ له، فبلغه أنّ الحسين (علیه السلام) قد توجّه إلى العراق، فجاء إليه، وأشار عليه بالطاعة والانقياد، وحذّره من مشاققة أهل العناد.

فقال: «يا عبد الله! أما علمتَ أنّ مِن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا (علیه السلام) أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام؟».

ص: 5

ثمّ قال له: «اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدَعَنّ نصرتي!» ((1)).

المتن الثاني: رواية السيّد ابن طاووس (رحمة الله)

روى السيّد ابن طاووس (رحمة الله) وغيره:

ثمّ جاء عبد الله بن عمر، فأشار إليه بصلح أهل الضلال، وحذّره من القتل والقتال.

فقال له: «يا أبا عبد الرحمان! أما علمتَ أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، بل أمهلهم، وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ ذي انتقام؟ اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدعَنّ نصرتي!» ((2)).

المتن الثالث: رواية الشيخ الطريحيّ (رحمة الله)

اشارة

قال الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) :

ص: 6


1- مثير الأحزان لابن نما: 20.
2- اللهوف لابن طاووس: 30، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 214، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 236، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 248.

رُوي عن بعض الثقات: إنّ عبد الله بن عمر لمّا بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) متوجّهٌ إلى العراق، جاء إليه، وأشار عليه بالطاعة والانقياد لابن زياد، وحذّره من مشاقّة أهل العناد.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يا عبد الله، إنّ من هوان هذه الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا (علیه السلام) أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، فامتلأ به سروراً، ولم يعجّل اللهُ عليهم بالانتقام، وعاشوا في الدنيا مغتبطين. ألم تعلم _ يا عبد الله _ أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يفعلوا شيئاً، ولم يعجّل الله عليهم بانتقام، بل أخذهم الله أخذ عزيزٍ مقتدر؟».

ثمّ قال: يا عبد الله، اتّقِ الله ولا تدَعَنّ نصرتي، ولا تركننّ إلى الدنيا، لأنّها دارٌ لا يدوم فيها نعيم، ولا يبقى أحدٌ من شرّها سليماً، متواترةٌ مِحَنُها، متكاثرةٌ فتنُها، أعظمُ الناس فيها بلاءً الأنبياء، ثمّ الأئمّةُ الأُمناء، ثمّ المؤمنون، ثمّ الأمثل بالأمثل».

قال (علیه السلام) : «يا عبد الله، قد خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جِيد الفتاة، وما أولهني إلى لقاء أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأْنَ منّي أكراشاً جُوفاً وأجوفةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوافينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله

ص: 7

لُحمته، هي مجموعةٌ لنا في حظيرة القُدس، تقرّ بهم عينه وينجز لهم وعده، فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسَه، فلْيرحل معي، فإنّي راحلٌ مُصبحاً، إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

* * * * *

يمكن أن نتعقّب هذا اللقاء من خلال ما يلي:

التعقّب الأوّل: هل كان لقاءً مستقلّاً؟

يبدو أنّ المتون الثلاثة كلَّها تتحدّث عن لقاءٍ واحد، والأقدم فيها هو نصّ الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، ويفيد السياق أنّ السيّد ابن طاووس (رحمة الله) والشيخ الطريحيّ (رحمة الله) ينقلان عنه.

وقد روى الشيخ ابن نما عن الشعبيّ عن ابن عمر، فربّما اختصر الشعبيّ (أو ابن عمر) اللقاء المذكور آنفاً الّذي جمعه وابن عبّاس بالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سيّما إذا لاحظنا أنّ الخبر جاء بلفظ الغائب لا المتكلِّم: «فبلغه.. وأشار عليه.. وحذّره..»، واختصر محاججة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، واكتفى بذِكر التحذير والدعوة إلى الطاعة، ثمّ ذكر جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) فيما يخصّ أفعال بني إسرائيل ورأس يحيى (علیه السلام) ، فربّما كان هو إشارةٌ إلى ذات اللقاء المذكور سابقاً.

ص: 8


1- المنتخب للطريحي: 2 / 389.

وكيف كان، فإن كان لقاءً جديداً، وقلنا بتعدّد اللقاء مرّةً مع ابن عبّاس ومرّةً وحده، حيث كان على ماءٍ له فجاء إلى الإمام (علیه السلام) ، فقد اتّفق هؤلاء الأطياب الثلاثة على رواية حدَثٍ واحد، رواه الشيخ ابن نما وتبعه عليه مَن تأخّر عنه.

التعقّب الثاني: وقت اللقاء

جاء هذا اللقاء عند الشيخ ابن نما بعد أن ذكر لقاء الفرزدق، ثمّ عقّبه بذكر خطبة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال بعد أن روى اللقاء: «ثمّ قام خطيباً فقال: ... خُطّ الموت على وُلد آدم»، إلى آخر الخطبة.. ثمّ ذكر فوراً ما حدث في التنعيم، فقال: «ثمّ أقبل الحسين (علیه السلام) حتّى مرّ بالتنعيم ...».

فكأنّ السياق وتسلسل الأحداث عند الشيخ (رحمة الله) تفيد أنّ اللقاء كان في الساعة الأخيرة مِن تشرّف مكّة بالإمام (علیه السلام) ، أو أنّه بعد أن انطلق منها فالتقاه على مشارفها، وكان ابن عمر على ماءٍ له خارجاً عنها.

ولا يبعد أن يكون الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) قد نقل عن الشيخ ابن نما، فاسترسل في رواية الخطبة، وفهم أنّها كانت خطاباً لابن عمر، فصدّرها بقوله: «يا عبد الله، قد خُطّ ...».

التعقّب الثالث: تخاذل ابن عمر على علم!

تعرّضنا لبيان مضمون اللقاء بالتفصيل قبل قليلٍ عند الحديث عن

ص: 9

لقاء العبدَين مع الإمام (علیه السلام) ، فلا نعيد.

بَيد أنّ هذا النصّ يؤكّد إقامة الحجّة على ابن عمر، وأنّه دُعي بالاسم وقامت الحجّة عليه بالذات حين قال له الإمام (علیه السلام) : «اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدَعَنّ نصرتي».

فسمع ووعى، وتخاذل عن نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والدفاع عنه والذبّ عن آل الله على علم!

التعقّب الرابع: إضافاتٌ في المتن

أضاف العلّامة المازندرانيّ في (المعالي) على رواية السيّد ابن طاووس (رحمة الله) :

قال (ابن عمر): يا أبا عبد الله، اكشِفْ لي عن الموضع الّذي كان يقبّله رسول الله (صلی الله علیه و آله) مراراً. فكشف (علیه السلام) عن سُرّته، فقبّل المحلّ ثلاث مرّاتٍ وبكى، وقال: أودعتُك الله يا حسين، وأنا أدري تُقتَل بهذا السفر.

أيّ موضعٍ قبّل ابنُ عمر وبكى؟ قبّل موضعاً كان يقبّله رسول الله (صلی الله علیه و آله) مراراً، وكذا عليٌّ وفاطمة والحسن (علیهم السلام) ، وقبّل موضعاً أتاه يوم عاشوراء سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ له ثلاث شُعَب.

وأضاف السيّد الأمين في (أعيان الشيعة):

وكان الحسين (علیه السلام) يقول: «وأيمُ اللهِ لو كنتُ في جُحْر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، واللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت

ص: 10

اليهود في السبت، واللهِ لا يدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يُذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة.

يبدو أنّ العَلَمين أدخلوا الأخبار بعضها في بعض، ونقلوا ما يناسب المشهد من الأخبار، وسيأتي الحديث عنها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

ص: 11

ص: 12

لقاء ابن عبّاس وابن الزبير

روى السيّد ابن طاووسٍ (رحمة الله) وغيرُه:

قال: وجاء عبد الله بن عبّاسٍ وعبد الله بن الزبير، فأشارا إليه بالإمساك، فقال لهما: «إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه».

قال: فخرج ابن عبّاسٍ وهو يقول: وا حسيناه! ((1))

واختصرها الشيخ السماويّ (رحمة الله) في (الإبصار) فقال:

فمانعه ابن عبّاسٍ وابن الزبير، فلم يمتنع! ((2))

* * * * *

هل جاء ابن عبّاسٍ وابن الزبير معاً عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فأشارا إليه _ أو: «أشارا عليه» كما في (البحار) _، أو أنّ كلّ واحدٍ منهما جاءه

ص: 13


1- اللهوف لابن طاووس: 31، بحار الأنوار: 44 / 364، العوالم للبحراني: 17 / 214، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 236، أسرار الشهادة للدربندي: 245، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 248.
2- إبصار العين للسماوي: 6.

وحده، غير أنّهما يتّحدان في موقف المعارضة ومحاولة منعه من الخروج والبقاء في مكّة أو الرجوع إلى المدينة، فكان جوابهما واحداً، أو كانت الكلمات وألفاظ الأخبار متقاربة، فجمعها السيّد (رحمة الله) ولخّص اللقاءين، لأنّه بنى كتابه على الاختصار؟

ربّما أفاد السياق أنّهما جاءا معاً!

فإن كانا قد جاءا معاً، لا ندري لماذا يأتي ابن عبّاسٍ مع أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويدعوه إلى ما يدعوه له أعداؤه؟!!

وفي كلّ مرّةٍ يأتي ابن عبّاس يكلّم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يخرج منه جازماً قاطعاً متأكّداً أنّ الإمام (علیه السلام) سيُقتَل لا محالة، وأنّ كلّ الشواهد والمشاهد وسير الأحداث وتكاتف الظروف والأجواء تفيد ذلك بالجزم واليقين، سيّما إذا لوحظت الأخبار الغيبيّة في المقام..

ثمّ يكتفي بالبكاء أو بالندبة، وينتهي المشهد وتتلاشى عزيمتُه، ولا تنهض به غيرةٌ ولا همّةٌ ولا رحمٌ للدفاع عن سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، وقد اكتفى هنا أيضاً أنّه خرج وهو يقول: «وا حسيناه!».

وهي ندبةٌ تنمّ عن جزمه ويقينه أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) مقتولٌ لا محالة.

ص: 14

لقاء ابن عبّاس قُبَيل الخروج

اشارة

أفادت المصادر حصول لقاءٍ متكرّرٍ بين ابن عبّاسٍ وسيّد الشهداء (علیه السلام) في ظرفٍ واحد، وكأنّ اللقاء كان يتكرّر ليُتمّم كلُّ لقاءٍ اللقاءَ الّذي سبقه، بَيد أنّ تتبّع النصوص يرسم كيفيّة حصول اللقاء في صورٍ مختلفة، وقد قسّمنا النصوص إلى عدّة لقاءات كي يتسنّى تتبّعها واستنطاقها، إن شاء الله (تعالى).

ويبدو مِن تصنيف النصوص وترصيفها أنّها ترسم أكثر من مشهدٍ لمجموع اللقاءات، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مشاهد:

المشهد الأوّل: ابن عبّاس يقصد الإمام (علیه السلام) في اللقاء الأوّل والثاني ((1)).

ص: 15


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72، دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، الأربعون لابن زهرة: 46 و50، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

المشهد الثاني: الإمام الحسين (علیه السلام) يقصد ابن عبّاس ((1)).

المشهد الثالث: حصول اللقاء من دون قصدٍ وعزم سابق ((2)).

ص: 16


1- أُنظر: ذخائر العقبى للطبري: 150، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192، المناقب لمحمّد بن سلمان: 2 / 260 الرقم 725، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 356، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216 و217 و219، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603، كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.
2- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 186، إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.

اللقاء الأوّل

اشارة

روى ابن سعد، وابن عساكر، وابن العديم، والمزّي، والذهبيّ، وابن كثير:

ودخل عبد الله بن عبّاسٍ على الحسين، فكلّمه طويلاً، وقال: أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتي العراق، وإن كنتَ لابدّ فاعلاً فأقِمْ حتّى ينقضي الموسم، وتلقى الناس وتعلم على ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك. وذلك في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

فأبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق.

فقال له ابن عبّاس: والله إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان بين نسائه وبناته، واللهِ إنّي لَأخاف أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال الحسين: «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت».

فقال ابن عبّاس: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلم أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلت، ولكن لا أخالُ ذلك نافعي.

فقال له الحسين: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليّ أن تُستحلّ

ص: 17

بي»، يعني مكّة.

قال: فبكى ابن عبّاس، وقال: أقررتَ عينَ ابن الزبير، فذلك الّذي سلى بنفسي عنه.

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس مِن عنده ((1)).

وروى البلاذريّ:

وأتاه عبد الله بن عبّاس فقال له: يا ابن عمّ، إنّ الناس قد أرجفوا بأنّك سائر إلى العراق!

فقال: «نعم».

قال ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أتذهب _ رحمك الله _ إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون خِراج بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، فلا آمنُ أن يغرّوك ويكذبوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

قال الحسين: «فإنّي أستخير الله وأنظر» ((2)).

ص: 18


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.

الدينوريّ:

فلمّا عزم على الخروج وأخذ في الجهاز، بلغ ذلك عبدَ الله بن عبّاس، فأقبل حتّى دخل على الحسين فقال: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد المسير إلى العراق!

قال الحسين: «أنا على ذلك».

قال عبد الله: أُعيذك بالله يا ابن عمّ من ذلك.

قال الحسين: «قد عزمتُ، ولابدّ من المسير».

قال له عبد الله: أتسير إلى قومٍ طردوا أميرهم عنهم وضبطوا بلادهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما يدعونك إليهم وأميرهم عليهم وعمّاله يجبونهم، فإنّهم إنّما يدعونك إلى الحرب، ولا آمنهم أن يخذلوك كما خذلوا أباك وأخاك.

قال الحسين: «يا ابن عمّ، سأنظر فيما قلت» ((1)).

الطبريّ:

قال أبو مِخنَف: وحدّثني الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عقبة بن سمعان: إنّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة، أتاه عبد الله بن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّك قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟

ص: 19


1- الأخبار الطوال للدينوري: 243.

قال: «إنّي قد أجمعتُ المسير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبرني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له الحسين: «وإنّي أستخير الله وأنظر ما يكون».

قال: فخرج ابن عبّاسٍ من عنده ((1)).

ابن أعثم:

قال: وقدم ابن عبّاسٍ في تلك الأيام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) يريد أن يصير إلى العراق، فأقبل حتّى دخل عليه مسلِّماً، فقال: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، إنّه قد شاع الخبرُ في الناس وأرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع!

فقال الحسين: «نعم، إنّي أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله».

ص: 20


1- تاريخ الطبري: 5 / 383.

فقال ابن عبّاس (رحمة الله) : أُعيذك بالله من ذلك! فإن تَصِرْ إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم في مسيرك إليهم لَعمري الرشادُ والسداد، وإن كانوا إنّما دعَوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، وإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وإنّك تعلم أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك، وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم، ولا آمنُ عليك أن تُقتَل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم.

فقال له الحسين: «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

المسعوديّ:

فلمّا همّ الحسين بالخروج إلى العراق، أتاه ابن العبّاس فقال له: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجلْ، وإن أبَيتَ إلّا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكّة، فاشخص إلى اليمن، فإنّها في عزلة، ولك فيها أنصارٌ وإخوان، فأقِمْ بها وبُثَّ دُعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيُخرِجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفَوه عنها

ص: 21


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

ولم يكن بها أحدٌ يعاديك أتيتَهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشعاباً.

فقال الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي لَأعلمُ أنّك لي ناصحٌ وعلَيّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعتُ على المسير [إليهم]».

قال: إنّهم مَن خبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وقتَلَتُك غداً مع أميرهم، إنّك لو قد خرجتَ فبلغ ابنَ زيادٍ خروجُك استنفرهم إليك، وكان الّذين كتبوا إليك أشدّ مِن عدوّك، فإن عصيتني وأبَيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة فلا تُخرجنّ نساءك ووُلدَك معك، فواللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ مِن أن أُستحلّ بمكّة.

فيئس ابن عبّاسٍ منه، وخرج من عنده ((1)).

أبو الفرَج:

وجاء به عبد الله بن عبّاس، وقد أجمع رأيه على الخروج وحقّقه، فجعل يناشده في المقام ويُعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلّا

ص: 22


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

خاذليك!

فقال له: «هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم».

فقال له ابن عبّاس: أما إذا كنت لابدّ فاعلاً، فلا تُخرج أحداً من وُلدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليقٌ أن تُقتَل وهم ينظرون إليك، كما قُتل ابن عفّان.

فأبى ذلك ولم يقبله.

قال: فذكر مَن حضره يوم قُتل وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاسٍ فيما أشار علَيّ به ((1)).

الطبريّ الشيعيّ، والبحرانيّ:

قال أبو جعفر: حدّثنا محروز بن منصور، عن أبي مِخنَف لوط بن يحيى قال: حدّثنا عبّاس بن عبد الله، عن عبد الله بن عبّاس قال: أتيتُ الحسينَ (علیه السلام) وهو يخرج إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، لا تخرج!

فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إن منعتني من هناك، فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

قلت له: فأنّى لك ذلك؟

ص: 23


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

قال: «بسِرٍّ سُرّه لي وعلمٍ أُعطيتُه» ((1)).

مسكويه:

وأتاه عبد الله بن عبّاسٍ فقال: يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناسُ أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال له: «إنّي قد أجمعتُ السير إلى العراق في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبِرْني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «فإنّي أستخير الله، وأنظر» ((2)).

الخوارزميّ:

وقدم ابن عبّاس في تلك الأيام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مسلّماً، ثمّ قال له: جُعلتُ فداك، إنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق،

ص: 24


1- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.

فبيِّنْ لي ما أنت عليه.

فقال: «نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».

فقال ابن عبّاس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنّك إنْ سرتَ إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، ففي مسيرك إليهم لَعمري الرشاد والسداد، وإنْ سرتَ إلى قومٍ دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وأنت تعلم أنّه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله، وعُبيد الله في البلد يفرض ويعطي، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمَنُ عليك أن تُقتَل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم، فإنْ كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص فصِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين: «لابدّ من العراق!».

قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءك، فيقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فواللهِ ما آمَنُ أن تُقتَل ونساؤك ينظرن، كما قُتل عثمان.

فقال الحسين: «واللهِ _ يا ابن عمّ _ لئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ مِن

ص: 25

أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

إبن شهرآشوب:

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُنْ باليمن لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشِراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين».

فأتاه ابن عبّاسٍ وتكلّم في ذلك كثيراً، فانصرف ((2)).

إبن الجوزيّ:

وكان قد أشار عليه جماعةٌ منهم ابن عبّاس أن لا يخرج، وكان من جملة ما قال له: أتسير إلى قومٍ أميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم؟ فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يكذبوك.

فقال: «أستخير الله» ((3)).

ص: 26


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94.
3- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.

إبن الأثير، والنويريّ:

قال: وأتاه عبد الله بن عبّاس فقال له: قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال له: «قد أجمعتُ السير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، خبِّرْني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين: «فإنّي أستخير الله وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاس ((1)).

سبط ابن الجوزيّ:

فعزم على المسير، فجاء إليه ابنُ عبّاسٍ ونهاه عن ذلك، وقال له: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه، وفعلوا ما فعلوا.

ص: 27


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406.

فقال: «هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ المسير لقتال أعداء الله».

فبكى ابن عبّاس، وقال: وا حسيناه!

وذكر المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب):

إنّ ابن عبّاسٍ قال له: إنْ كرهتَ المقام بمكّة خوفاً على نفسك، فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها عزلة، ولنا بها أنصارٌ وأعوان، وبها قِلاعٌ وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلّموها إلى نائبك فسِرْ إليهم، فإنّك إنْ سرتَ إليهم على هذه الحالة لم آمن عليك منهم، وإن عصيتَني فاترك أهلك وأولادك هاهنا، فواللهِ إنّي لَخائفٌ عليك أن تُقتَل، كما قُتل عثمان ونساؤه وأهله ينظرون إليه.

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر مِن سترٍ رقيق.

فلمّا يئس ابن عبّاس منه، حزن لفقده ((1)).

الذهبيّ:

وقال ابن عبّاس: إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان، وإنّي لَأخاف أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 28


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

قال: «أبا العبّاس! إنّك شيخٌ قد كبرت» ((1)).

إبن كثير:

وروى أبو مِخنَف، عن الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عقبة بن سمعان:

إنّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال: «إنّي قد أجمعتُ المسير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: أخبِرْني إن كان قد دعوك بعدما قتلوا أميرهم ونفوا عدوّهم وضبطوا بلادهم فسِرْ إليهم، وإن كان أميرهم حيٌّ وهو مقيمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمنُ عليك أن يستفزّوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الّذي دعوك أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي أستخير الله وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ عنه ((2)).

ص: 29


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

إبن الصبّاغ، والشبلنجيّ:

ثمّ جاءه بعد ذلك عبد الله بن عبّاس ومعه جماعةٌ من أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور، فقال: إنّ الناس قد أرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق، فهل عزمتَ على شيءٍ من ذلك؟

فقال: «نعم، إنّي قد أجمعتُ على المسير في أحد يومَيّ هذين، أُريد اللحاق بابن عمّي مسلم بن عقيل، إن شاء الله (تعالى)».

فقال ابن عبّاس والجماعة الّذين معه: نعيذك بالله من ذلك، أخبِرنا أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك وأميرهم قائمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّالهم تجبي بلادهم وتأخذ خراجهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك من أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويتبعوك، ثمّ يستفزّوا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي أستخير الله (تعالى)، ثمّ أنظر ماذا يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ والجماعة الّذين معه ((1)).

الحرّ العامليّ:

وروى صاحب كتاب (فاطمة (علیها السلام) وولدها)، بإسناده عن ابن عبّاسٍ قال:

ص: 30


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.

لقيتُ الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق، فقلتُ له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟» ((1))

البحرانيّ، والمازندرانيّ:

قال: فالتفت الحسين (علیه السلام) إلى ابن عبّاسٍ وقال له: «ما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت نبيّهم عن وطنه وداره وقراره وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرارٍ ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمائه، ولم يُشرِك بالله شيئاً ولم يرتكب منكراً ولا إثماً؟».

فقال له ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا حسين، إنْ كنتَ لابدّ سائراً إلى الكوفة فلا تسير بأهلك ونسائك.

فقال له: «يا ابن العمّ، إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وقد أمر بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وأنّه أمرني بأخذهم معي».

وفي نقلٍ آخَر أنّه قال: «يا ابن العمّ، إنّهنّ ودائع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا آمَنُ عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لا يفارقنني».

فسمع ابن عبّاسٍ بكاءً من ورائه، وقائلةً تقول: يا ابن عبّاس، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله،

ص: 31


1- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.

بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

فبكى ابن عبّاسٍ بكاءً شديداً، وجعل يقول: يعزّ علَيّ والله فراقك يا ابن عمّاه.

ثمّ أقبل على الحسين (علیه السلام) ، وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أُميّة، فقال الحسين (علیه السلام) : «هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لا يتركوني، وأنّهم يطلبوني أين كنت حتّى أُبايعهم كرهاً، ويقتلوني، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه وقتلوني، واللهِ إنّهم لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدى اليهود في يوم السبت، وإنّي في أمر جدّي رسول الله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).

الخافي الشافعيّ:

في (التبر المذاب) للخافي الشافعيّ:

فعزم على المسير، فجاء عبد الله بن عبّاس وقال: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه.

فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم، وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)».

ص: 32


1- مدينة المعاجز للبحراني: 243، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزدي: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157 و158.

فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه! ((1))

المازندرانيّ:

وفي بعض الكتب: جاء عبد الله بن عبّاس إلى الحسين (علیه السلام) ، وتكلّم معه بما تكلّم، إلى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أُميّة.

فقال الحسين (علیه السلام) : «هيهات هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لن يتركوني، وأنّهم يطلبونني أين كنتُ حتّى أُبايعهم كرهاً، ويقتلوني، واللهِ إنّهم لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث أمرني، إنّا لله وإنّا إليه راجعون».

فقال: يا ابن العمّ، بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، فأقِمْ بمكّة.

فقال (علیه السلام) : «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ من أن أُستحَلّ بمكّة، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم وقام لهم العذر علَيّ عند الله (سبحانه)».

فبكى عبد الله حتّى بُلّت لحيته، وقال: وا حسيناه، وا أسفاه على حسين! ((2))

ص: 33


1- التِّبر المذاب للخافي: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 246.

* * * * *

يمكن البحث في هذه المتون من خلال عدّة حصص:

ص: 34

الحصّة الأولى: رجوع ابن عبّاس إلى مكّة

لقد مرّ معنا فيما مضى أنّ ابن عبّاسٍ وابن عمر دخلا على الإمام الحسين (علیه السلام) وقد عزما على الانصراف إلى المدينة، كما صرّح به ابن أعثم والخوارزميّ ((1))، وعادا ليصرّحا هنا أنّ ابن عبّاس قدم في تلك الأيّام إلى مكّة وقد بلغه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) عزم على المسير إلى العراق، فيلزم أن يكون ابن عبّاس قد ذهب إلى المدينة ثمّ عاد إلى مكّة.

والظاهر أنّ بقيّة المصادر قد أغفلت ذهابه وعودته، واقتصرت على ذِكر اللقاءات!

ص: 35


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190.

ص: 36

الحصّة الثانية: زمان اللقاء

أفادت جملة المصادر أنّ اللقاء كان قبل موسم الحجّ، إذ أنّ ابن عبّاسٍ اقترح _ في بعض النصوص _ على الإمام (علیه السلام) أن يُقيم حتّى ينقضي الموسم ((1)).

وذكرت مصادر أُخرى أنّه أتاه لمّا همّ وعزم على الخروج وحقّقه وأخذ في الجهاز ((2))، وحدّده بعضهم بأيّامٍ قريبةٍ متّصلة بالخروج.. «قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله» ((3)).

ص: 37


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، الأربعون لابن زهرة: 46 و50، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 72.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406.

وقال آخَرون أنّه كان بيومٍ أو يومين قبل الخروج.. «إنّي قد أجمعتُ السير إلى العراق في أحد يومَيّ هذين إن شاء الله» ((1)).

وجعلها بعضهم مقارنةً للخروج.. «لقيت الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق» ((2))، أو «وهو يخرج» ((3))، وإن كان هذا التعبير يفيد المقارنة، بَيد أنّه ينسجم مع التوقيتات الأُخرى أيضاً.

وقد روى الدينوريّ اللقاء الثاني المتّصل بما قبله في اليوم الثالث ((4))، وذكره آخَرون في العشيّ من نفس اليوم أو من الغد ((5)).

وعلى هذا يكون اللقاء في زحمة التجهيز والإعداد لمغادرة مكّة، وفي الأيّام الأخيرة قبل الخروج، قد تكون يومين أو ثلاثة.

ص: 38


1- تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.
3- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.
4- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
5- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408.
الحصّة الثالثة: موضع اللقاء

يبدو من أجواء اللقاء والتأكيد على حدَث الخروج إلى العراق أنّ اللقاء تمّ في مكّة، وقد تكرّر اللقاء أكثر من مرّة، من دون الإشارة في النصوص على موضع اللقاء على وجه التحديد في أيّ محلٍّ من محلّات مكّة أو أيّ مكانٍ بالضبط.

أجل، ورد في أخبار اللقاء الرابع أنّه كان في بيت الله الحرام ((1)).

ص: 39


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 186.

ص: 40

الحصّة الرابعة: كلام ابن عبّاس
اشارة

يمكن فرز هذا المقطع من كلام ابن عبّاس إلى عدّة إبرازات:

الإبراز الأوّل: إنّ الناس قد أرجفوا
اشارة

ذكرت جملةٌ من المصادر هذا الإبراز بألفاظٍ مختلفةٍ تتّفق على أصل الموضوع، وأنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي بادر، فأتى الإمام (علیه السلام) وقصده، وتختلف في شيءٍ من التفاصيل وطريقة العرض، ويمكن ملاحظتها من خلال الإيضاحات التالية:

الإيضاح الأوّل: إرجاف الناس وشيوع الخبر

ورد في بعض الأخبار أنّ ابن عبّاسٍ قال: «بلغني أنّك تريد العراق» ((1))، من دون تحديد المورد الّذي استقى منه هذه المعلومة، ولم يُسندها إلى أحدٍ أو قومٍ أو جماعة، فربّما أخبره فردٌ واحد، وربّما أخبره فردان

ص: 41


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

أو ثلاثة، وقد يكون قد شاع الخبر وذاع فبلغه.

بَيد أنّ غيرها من المصادر الأُخرى ذكرت أنّه قال: إنّ خبر مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) قد شاع في الناس، وأنّ الناس قد أرجفوا بذلك، وجمعَت بعضها بين شيوع الخبر وإرجاف الناس.

* * * * *

أرجف القوم: إذا خاضوا في الأخبار السيّئة وذِكْر الفتن. قال الله (تعالى): ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ ((1))، وهم الّذين يولّدون الأخبار الكاذبة الّتي يكون معها اضطرابٌ في الناس.

والإرجاف واحد أراجيف: الأخبار، وقد أرجفوا في الشيء، أي: خاضوا فيه ((2)).

ففي التعبير بالإرجاف لحنٌ يفيد التكذيب من جهة، والخوض في الأخبار السيّئة وذِكر الفتن، أو ما يُعبَّر عنه اليوم بالإشاعة والشائعات، وهي قد تكون مُغرِضةً أحياناً، وقد تكون جزءاً من الفتنة وشُعبةً من الجيوش وجُنداً من جنود المعركة..

سواءً أكان المقصود الإرجاف بما فيه من لحنٍ وإيحاء، أو كان يريد أن يعبّر عن الإذاعة وشيوع الخبر بين الناس، فإنّه يفيد انتشار خبر خروج

ص: 42


1- سورة الأحزاب: 60.
2- أُنظر: لسان العرب: رَجَف.

سيّد الشهداء (علیه السلام) وهجرته عن مكّة، بحيث سمع الناس كلّهم وتداولوه ولاكَتْه ألسنتُهم وتناقلوه في المحافل والتجمّعات وتحدّثوا به.

وهذا القدر من زعم ابن عبّاسٍ لا نجد عليه شاهداً ولا دليلاً في نصوص التاريخ ومتون الكتب، ولا ندري من أين حصل الناس على خبر خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، ولم يُعهَد للإمام (علیه السلام) قبل لقاء ابن عبّاس به وزعمه هذا خطابٌ أو كلامٌ أو لقاءٌ عامٌّ وشى الإمام (علیه السلام) فيه عن عزمه وأعلنه على رؤوس الأشهاد.

أجل، كانت له لقاءاتٌ خاصّةٌ مع الرسل الّذين حملوا له الكتب عن أهل الكوفة، وهم كانوا يقصدون الإمام (علیه السلام) شخصيّاً، ويدفعون له الكتب يداً بيد، وكان الإمام (علیه السلام) لا يجيبهم ولا يردّ عليهم، حتّى عزم على إرسال المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

وهذه المواقف والتصرّفات جميعها ليس فيها ما يمكن أن يجعل الخبرَ عامّاً شاملاً يسمعه الناس جميعاً.

نعم، قد يُقال: إنّ عظمة الإمام (علیه السلام) وحراجة الموقف وتشنّج المشهد يومها جعل الإمام (علیه السلام) مطمحاً للأنظار، فكان الناس يتابعونه في كلّ تفاصيل حركاته وسكناته، ووجود الرسل واجتماع بعض الأفراد مهما كان عددهم قليلاً من أهل الكوفة حوله _ وهم الرسل الّذين كانوا يحملون له الكتب والرسائل _ أثار فضول الناس وجعلهم يرجمون بالظنون ويحتملون

ص: 43

خروجه إلى الكوفة، فشاع هذا الخبر بينهم، فأرجفوا فيه.

أو يقال: إنّ ابن عبّاس قال: إنّهم أرجفوا في خبر خروجه، فهم زعموا وبنوا على الاحتمالات والظنون، وهذا هو المقصود بالإرجاف، وأنّهم قد كذبوا على الإمام (علیه السلام) ، لأنّهم زعموا خروجه ونشروه وأذاعوه من دون أن يكون لهم دليلٌ على ما يقولون ممّا سمعوه من الإمام (علیه السلام) ، وهذا الّذي دعا ابن عبّاس ليدخل على الإمام (علیه السلام) ويستجلي الأمر منه.

الإيضاح الثاني: استجلاء موقف الإمام (علیه السلام)

لمّا نسب ابن عبّاس انتشار خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى الناس، وأنّه بلغه، وهم قد أرجفوا فيه، لذا صار يستجلي الخبر من الإمام (علیه السلام) مباشرةً كما ورد في بعض النصوص، فقال له: «فبيِّنْ لي ما أنت صانع» ((1))، أو: «ما أنت عليه» ((2))، أو: «فهل عزمتَ على شيءٍ من ذلك؟» ((3)).

وإن كانت متونٌ أُخرى كثيرةٌ استمرّت في نقل كلام ابن عبّاس وتقديمه النصح للإمام (علیه السلام) قبل أن يستجلي الخبر ويسمع من الإمام (علیه السلام)

ص: 44


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 11، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

نفسه ((1))، وكأنّه اعتمد ما أرجفوا.

* * * * *

قد يُستشعَر من يسمع كلام ابن عبّاس وسؤاله المترتّب على ما بلغه وأرجف فيه الناس أنّه يستجوب الإمام (علیه السلام) ويسأله سؤال المحاسِب اللائم، وسؤال المستغرب الّذي لا يتوقّع صدور هذا الفعل من المخاطَب، ويوحي لمن قرأ السؤال في سياق المتون أنّ ابن عبّاس كأنّه يرى نفسه الأكبر الّذي ينبغي أن لا يفعل مَن هو أصغر منه، أو العالم الّذي ينبغي لمن هو دونه في العلم أن يستشيره ويسأله ويخبره بما يريد أن يفعل لئلّا يفعل ما لا ينبغي، وأنّه الخبير الّذي يستنطق غير الخبير ليدلّه على ما يصلحه ويسدّده، سيّما إذا لاحظنا تأكيده على ضرورة الأخذ برأيه وقوله: «إنْ عصيتَني»!

ص: 45


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72، دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 89، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 343.
الإيضاح الثالث: قدوم جماعةٍ مع ابن عبّاس

ذكر ابن الصبّاغ والشبلنجيّ أنّ ابن عبّاس جاء إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ومعه جماعةٌ من أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور، وأنّهم شاركوه في قوله ونصحه للإمام (علیه السلام) واتفقوا مع ابن عبّاسٍ في الرأي ((1)).

ولا نعرف المصدر الّذي اعتمده ابن الصبّاغ في نقل هذه المعلومة الّتي لم نجدها _ حسب الفحص _ عند مَن تقدّمه، وهي معلومةٌ غريبةٌ لا تنسجم مع ما نعرفه من الأحداث الّتي رواها لنا المؤرّخ في تلك الأيام.

ولم يُفصِح لنا ابن الصبّاغ عن أسماء هؤلاء القوم، فمَن هم «أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور»؟ هل كانوا شخصيّاتٍ معروفةً مشهورة؟ فلماذا لم يسجّل لنا التاريخ لهم موقفاً مستقلّاً أو ينوّه بأسمائهم؟!

هذا، بغضّ النظر عن اعتقادنا في الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة، وأنّ مَن خالفه أو عارضه أو قال شيئاً مقابل ما قاله فهو جاهلٌ بسيطٌ أو جاهلٌ مركَّب، أو مغرورٌ أو متكبّرٌ على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولا يمكن أن يُعَدّ في ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور!

الإيضاح الرابع: جواب الإمام (علیه السلام)

سمعنا قبل قليلٍ أنّ جملةً من المصادر ذكرت كلام ابن عبّاس دون

ص: 46


1- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

سؤاله عن عزم الإمام (علیه السلام) وقصده، وأنّه أخبر الإمام (علیه السلام) بما بلغه عن توجّهه نحو العراق، ثمّ بادر إلى تقديم النصح والتحذير من عاقبة هذا الإقدام وخطورة عواقبه ووخامتها، فهي خارجةٌ عن محلّ الكلام هنا، وإنّما نستعرض في هذا الإيضاح المتون الّتي ذكرت استجواب ابن عبّاس وذكرت جواباً للإمام (علیه السلام) ..

فقد اكتفى البلاذريّ بقوله: «نعم» ((1)).

وقال الدينوريّ: قال الحسين (علیه السلام) : «أنا على ذلك» ((2)).

وروى الطبريّ عن أبي مخنف مسنداً: قال: «إنّي قد أجمعتُ المسير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)» ((3)).

وقال ابن أعثم: فقال الحسين (علیه السلام) : «نعم، إنّي أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ((4)).

وقال مسكويه وابن الأثير والنويريّ وابن كثير: فقال له: «إنّي قد أجمعتُ السير إلى العراق في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله» ((5)).

ص: 47


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
2- الأخبار الطوال للدينوري: 243.
3- تاريخ الطبري: 5 / 383.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
5- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ: فقال: «نعم، إنّي قد أجمعتُ على المسير في أحد يومَيّ هذين، أُريد اللحاق بابن عمّي مسلم بن عقيل، إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

* * * * *

يبدو أنّ التفصيل في الجواب ورد عند الطبريّ ومَن تلاه، أمّا من سبق الطبريّ كالبلاذريّ والدينوريّ فجوابهما كأنّه جوابٌ واحد، والاختلاف في اللفظ، فقوله: «نعم» و«أنا على ذلك» يؤدّي نفس المؤدّى، أي: نعم أنا على ذلك، على ما ذكرته ممّا بلغك أنّي عازمٌ على الخروج من مكّة.

وهو لا يتعارض مع ما ذكره الطبريّ وغيره، لأنّ الجميع اتّفقوا قولاً واحداً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أكّد لابن عبّاسٍ على عزمه على الخروج، والفرق في النصوص المتأخّرة عن البلاذريّ والدينوريّ ما ذكروه من التفصيل الإضافي.

والمصادر الّتي فصّلَت قليلاً في الجواب اتّفقَت على ذكر الفترة الّتي سيخرج فيها الإمام (علیه السلام) من مكّة، وهي عند الطبريّ وغيره محدّدةٌ أحد يومَي القريبَين قبل الخروج ((2))، وانفرد عنهم ابن أعثم بقوله: «أيّامي هذه»،

ص: 48


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وهو تعبيرٌ يتّفق أيضاً مع التحديد باليومين، مع أضافة قوله: «إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ((1)).

وتفرّد ابن الصبّاغ والشبلنجيّ بزيادة قوله: «أُريد اللحاق بابن عمّي مسلم بن عقيل، إن شاء الله (تعالى)» ((2))، بعد تأكيد الخروج خلال يومين.

* * * * *

ربّما أفاد تحديد المدّة بيومين على الأقلّ قبل الخروج أنّ الكلام كان في نفس مكّة، ولم يكن في منى أو في غيرها من المناسك، لأنّ الإمام (علیه السلام) قد خرج في الثامن من ذي الحجّة، ولم يكن الحاجّ يخرج إلى المشاعر قبل يوم التروية.

وما تفرّد به _ حسب الفحص _ ابنُ الصبّاغ، فهو يفيد اللحاق بالمولى الغريب (علیه السلام) المبعوث إلى الكوفة، أي: أُريد اللحاق بالكوفة الّتي دخلها مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، لأنّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) لم يكن يومها قد استُشهد، ولم يكن خبر شهادته قد وصل إلى الإمام (علیه السلام) في الظاهر، فلا يمكن حمل اللحاق هنا على معنى الشهادة.

ص: 49


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
الإبراز الثاني: أقِمْ حتّى ينقضي الموسم
اشارة

روى ابن سعدٍ وابن عساكر وابن العديم والمزّيّ والذهبيّ وابن كثير أنّ ابن عبّاسٍ دخل على الإمام الحسين (علیه السلام) فكلّمه طويلاً، وقال:

أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتي العراق، وإن كنتَ لابدّ فاعلاً فأقِمْ حتّى ينقضي الموسم، وتلقى الناسَ وتعلم ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك.

وذلك في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

فأبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق ((1)).

* * * * *

يمكن تقسيم ما ورد في هذا الإبراز إلى عدّة أشطر:

الشطر الأوّل: كلّمه طويلاً ثمّ قال

جاء في النصّ أنّ ابن عبّاس دخل على الإمام الحسين (علیه السلام) فكلّمه طويلاً، وقال: ...

فهل كان الكلام الّذي وصفه بالطويل هو ما ذكره فيما بعد؟ فتكون

ص: 50


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

الواو في «وقال» تفسيريّة، أي: أنّ الكلام الطويل هو الّذي رواه من المناشدة واقتراح التأخير إلى آخر ما جاء في كلام ابن عبّاس.

أو أنّ ابن عبّاس تكلّم كلاماً طويلاً، ثمّ قال له في آخر كلامه أو من جملة كلامه ما رواه ابن سعدٍ من المناشدة وغيرها، فيكون ما رواه من كلام ابن عبّاس جزءاً من الكلام أو ملخّصاً له.

فإن كان الكلام أكثر ممّا ذكره، فلا ندري ما كان هذا الكلام، ولم يروه لنا أحد، إذ لا نعلم أنّ من روى الحوار بين الإمام (علیه السلام) وابن عبّاس هو نفسه ما قصده ابن سعد بالكلام الطويل، أو أنّ ثَمّة كلامٌ آخر غيره، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل أوجه وأظهر وأوفق بطريقة كلام الرواة والمؤرّخين.

الشطر الثاني: المناشدة والتحذير والنهي

تضمّن هذا الشطر من كلام ابن عبّاس مناشدةً وتحذيراً ونهياً، فهو يبتدئ كلامه بمناشدة الإمام (علیه السلام) بالله، وكأنّه يُقسِم عليه بالله أن يلتفت إلى تحذيره ويعمل به، خوفاً من العواقب الّتي يراها ابن عبّاس قطعيّةً جزميّة.

وقد حذّر الإمام (علیه السلام) من الهلاك! في المستقبل القريب بحال مضيعة.

والمضيعة _ بكسر الضاد، مَفْعِلَةٌ _ : من الضياع، الاطِّراحِ والهوان، كأَنّه

ص: 51

فيه ضائع، أي: في حالٍ من الهوان والضياع حتّى لا يُفتقَد ((1)).

ثمّ لمّا كانت صورة المستقبل القريب في حسابات ابن عبّاس واضحةً جدّاً، رتّب عليها نهيه للإمام (علیه السلام) : «لا تأتي العراق».

الأمر محسومٌ عند ابن عبّاس، لا يراجع فيها الإمام (علیه السلام) ، ولا يريد أن يسمع من الإمام (علیه السلام) ، ولا يرى للإمام (علیه السلام) إزاءه خياراً أمام ما ينهاه عنه.

ويبدو من صياغة عبارة المؤلّف أنّ النهي في قوله: «لا تأتي العراق» غير متفرّعٍ على الجملة السابقة، إذ لم يكن فيها فاءٌ أو غيرها من الحروف الّتي تفيد التفريع، فربّما أشعر هذا التركيب إيقاعاً فيه جفافٌ وزجرٌ شديدٌ وأمرٌ غاضبٌ أكيد..

كأنّ ابن عبّاس يُصدِر هنا أمراً أكيداً للإمام (علیه السلام) ، ولا يرى للإمام (علیه السلام) مجالاً لمخالفته، فهو لا يقدّم ما قدّم على نحو المشورة وإبداء الرأي وللإمام (علیه السلام) العمل وفق إرادته في الردّ والقبول.

وربّما كان هذا النمط من التعامل مِن خُلُق ابن عبّاس، لِما يرى في نفسه من اعتدادٍ أو يرى لنفسه من مقامٍ ورتبة، ولعلّه يرى في نفسه ندّاً لخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، إنْ لم نقل أنّه يرى لنفسه من السابقة والقرابة من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ما ليس للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) !

ص: 52


1- أُنظر: لسان العرب: ضَيَع.

وربّما كان السبب غير هذا، إلّا أنّه كان من دأبه أن يتكلّم بهذه الصيغة ويستخدم هذا الأُسلوب، حتّى قال له أمير المؤمنين (علیه السلام) مرّة: «لك أن تشير علَيّ وأرى، فإنْ عصيتُك فأطعني» ((1)).

فإذا كان هذا تعامله مع أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الكائنات والخلق أجمعين بعد النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، فما ظنّك به وهو يكلّم ابنه الإمام الحسين (علیه السلام) ؟!

الشطر الثالث: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً
اشارة

رغم الأمر الّذي أصدره ابن عبّاس ونهيه الأكيد الّذي افترض أنّ على الإمام (علیه السلام) العمل والالتزام به، فإنّه افترض أيضاً في الإمام (علیه السلام) مخالفته وعدم التزامه، وركوبه أمواج المخاطر والمغامرة.. (ونستغفر الله من هذا التعبير، ونعتذر إلى إمامنا خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، بَيد أنّ هذا هو مفاد عبارة ابن عبّاس كما فهمناها من خلال السياق، والله العالم)، وحينئذٍ أصدر أمره الثاني على فرض عدم الأخذ برأيه.

يقول للإمام (علیه السلام) : إنْ كنتَ مصرّاً على المخالفة والخروج إلى العراق، واخترت الهلاك في المضيعة، فانتظر قليلاً حتّى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك..

ص: 53


1- نهج البلاغة (صبحي الصالح): 531 الرقم 321.

ويمكن أن يُستشفّ من كلام ابن عبّاس الأُمور التالية:

الاستشفاف الأوّل: انتظار انقضاء الموسم

أمر ابن عبّاس الإمام (علیه السلام) بالإقامة حتّى ينقضي الموسم، ليلقى الناس ويعلم ما يصدرون.

وقد أتينا على بيان مؤدّيات هذا الأمر من ابن عبّاس في بحث لقاء الفرزدق، إذ أنّه تقدّم بنفس هذا الاقتراح وأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه إن بقيَ فإنّهم يغتالونه أو يأخذونه أخذاً، وتناولنا هناك البحث بالتفصيل، فلا نعيد.

وسنقتصر هنا على إشاراتٍ سريعةٍ لا يلزم منها التكرار، إن شاء الله (تعالى):إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أبان لابن عبّاسٍ ولابن عمر أنّه مُهدَّد في مكّة الآمنة للخلائق أجمعين، وأنّه إنّما خرج من المدينة لأنّ بقاءه فيها سيؤدّي إلى القضاء عليه أو أخذه أكيداً، ونفس السبب لا زال يطارده في مكّة، وأنّه إن بقيَ فيها فسيُقتَل أو يؤخَذ أخذاً، وهو لا يحبّ أن يُقتَل فيها.

لقد كرّر الإمام (علیه السلام) هذا الكلام على ابن عبّاس، وعلى غيره في غير موضع، وشرح له ظروفه والمخاطر المحدقة به بما لا يجعل له خياراً سوى الخروج من مكّة حفاظاً على حرمتها، أو الاستسلام للقتل أو الأسر فيها،

ص: 54

وهو ما لا يحبّه الإمام.

وكذا كانت هي جميع المؤشّرات والأحداث ودلائل سلوكيّات العدوّ المتوحّش واضحةً لكلّ ناظر، فهو مضطرٌّ للخروج من مكّة بحكم الظروف المسيطرة على الأجواء يومها.

ويشهد لخطورة الوضع المتنجّز على الإمام (علیه السلام) وحياته وحياة مَن معه أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من مكّة يوم التروية، وهو يوم شروع المناسك وانتقال الحاجّ إلى مِنى، وبينه وبين انقضاء الموسم أربعةٌ أو خمسة أيّام على أقصى التقادير.

وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ أنّ الإمام (علیه السلام) كان يسابق الأيّام لحماية حياته في مكّة، وأنّ بقاءه خلال هذه الأيّام في مكّة يعرّضه للخطر الجدّي الحقيقي، بمعنى تمكين العدوّ من نفسه وفسح المجال أمامه للقيام بما يريده وتحقيق غرضه في قتل الإمام (علیه السلام) أو أخذه.

فخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة قبل انقضاء الموسم يفيد بجلاءٍ أنّ بقاءه خلال تلك الفترة في مكّة كان يعني قتله أو أخذه، وقد فسّر الإمام (علیه السلام) ذلك لابن عبّاسٍ وشرحه له شرحاً وافياً، فكيف يأمره أن يقيم في مكّة حتّى ينقضي الموسم؟!

الاستشفاف الثاني: لقاء الناس

الغرض من الإقامة حتّى ينقضي الموسم هو أن يلقى الإمام (علیه السلام) الناس،

ص: 55

وترتيب الأثر على ذلك واتّخاذ القرار وفق نتائج اللقاء.

أوَلم يكن الإمام (علیه السلام) مقيماً في مكّة منذ أربعة شهور (شعبان، وشهر رمضان، وشوّال، وذي القعدة)؟

أوَلم يكن الإمام (علیه السلام) مقيماً في مكّة أيّام ازدحام الناس حُجّاجاً ومعتمرين ومقيمين ومجاورين في الأيّام الأُولى من ذي الحجّة الحرام، وهي الأيّام الّتي يجتمع فيها الناس في مكّة قُبيل الخروج إلى المشاعر المقدّسة؟

أوَلم يكن في تلك المدّة الطويلة الّتي أقام فيها الإمام (علیه السلام) في مكّة كفاية؟ فما هي فائدة التريّث لإدراك أيّام الموسم؟

ربّما يُقال: لأنّ الحاجّ يجتمعون على صعيدٍ واحدٍ في المشاعر كعرفة ومنى، فيتسنّى للإمام (علیه السلام) أن يلقى الناس في موضعٍ واحد! وكأنّ المسجد الحرام ليس ملتقىً للناس ولا مكّة الّتي كانت يومها تحيط بالحرم، ويمكن أن يصرخ الإنسان على جبل أبي قُبيس صرخةً واحدةً تجمع له أهلها.

لقد توفّرت الفرص الكافية ليقول الإمام (علیه السلام) كلمته ويجمع الناس ويخطب فيهم ويحرّضهم ويفعل ما يشاء في مكّة وفي البيت الحرام خلال فترة الشهور الأُربعة، أو الأيّام السبعة من ذي الحجّة قبل الخروج إلى منى يوم التروية، فإن كان الإمام (علیه السلام) يريد أن يبلّغ الناس شيئاً وينظر ما يصدرون لَفعل.

بَيد أنّ التاريخ لا يسجّل لنا موقفاً من هذا القبيل يحكي خطاباتٍ

ص: 56

واجتماعاتٍ لهذا الغرض بالخصوص مع الناس، ولم يسجّل لنا تجمّعاتٍ دعا لها الإمام (علیه السلام) ووظّفها في التحريض على الظلَمة الحاكمين أو الدعوة إلى محاربتهم ومواجهتهم عسكريّاً وما شاكل..

إنّ فرصة لقاء الناس لم تنحصر في الموسم، وليس ثمّة مبرّراتٌ ومسوّغاتٌ خاصّةٌ يمكن أن تجعل أيّام الموسم لها خصوصيّة إذا لاحظنا مدّة إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة قبل أيّام الحجّ، وأثناء أيّام الحجّ من أوّل ذي الحجّة إلى يوم التروية.

هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار مطاردة القوم للإمام (علیه السلام) ، وهم لا يوفّرون ساعةً لتوظيفها في اغتياله أو أخذه أخذاً.

الاستشفاف الثالث: تعلم ما يصدرون!

لقد كان الإمام (علیه السلام) مدّةً مديدةً في مكّة كافيةً لاستثارة كوامن الناس والكشف عن عزائمهم ونيّاتهم وفضح مواقفهم.

لقد كانت المدّة كافيةً لانكشاف تخاذل الناس وإعراضهم عن وجه الله وترك الإمام (علیه السلام) ، وقد تجاهلوا وجوده المقدّس، وعميَت أبصارهم وبصائرهم عن نوره، وكأنّه لم يكن بين ظهرانيهم، وقد انساقوا يلهثون ويمارسون برتابةٍ كلَّ ما يمارسونه في سفرهم وفي أيّامهم العاديّة.. وعلى حدّ تعبير الإمام (علیه السلام) نفسه في وصف بني إسرائيل الّذين كانوا يقتلون سبعين نبيّاً بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، ثمّ يجلسون في دكاكينهم، ويقعدون

ص: 57

في أسواقهم يزاولون أعمالهم الرتيبة، وكأنّهم لم يفعلوا شيئاً!

فإذا كانت قلوب الناس أشدّ قساوةً من الصمّ الصياخيد، وآذانهم صمّاء، وعيونهم عمياء، وألسنتهم بكماء، وهم يرَون الإمام (علیه السلام) في مكّة والبيت الحرام خلال فترة أربعة أشهر، ولم يستشعروا ما هو فيه من الملاحقة والتهديد، ولم يستشعروا الخطر الّذي يقصد حياته ودمه، فهل ستحرّكهم الأيّام الأربعة في المناسك، وهم مشغولون بأنفسهم وأداء نسكهم حسب ما يزعمون ويعتقدون؟!

لقد علم الإمام (علیه السلام) (ما يصدرون)، كما علم ابن عبّاس، وعلم الأوّلون والآخِرون موقف الناس وخذلانهم، فما فائدة التريّث، وهو لا يفيد سوى يزيد وأزلامه وذئابه الّذين كانوا يتربّصون بالإمام (علیه السلام) ؟

الاستشفاف الرابع: ثمّ ترى رأيك

أمر ابن عبّاسٍ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يقيم في مكّة حتّى ينقضي الموسم، فيجتمع بالناس ويلتقي بهم، ويعلم ما يصدرون، ثمّ يرى رأيه، وكأنّ على الإمام (علیه السلام) أن ينتظر موقف الناس ويرتّب موقفه وفقاً لمواقفهم.

فإن أراد ابن عبّاس بذلك أن يجمع الأنصار من الموسم، ليتمكّن من الإقدام بجيشٍ جرّارٍ فيحقّق ما يريد، فهو من العجب؛ إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد شرح لابن عبّاس المخاطر الّتي تُحدق به، وأنّه مُهدَّدٌ بالقتل، وأنّه يريد الخروج من مكّة على عجلٍ لئلّا تُهتَك به حرمة البيت!

ص: 58

وإن أراد أن يوحي أنّ الإمام (علیه السلام) يريد أن يخرج على يزيد، وعليه أن يعدّ العدّة لخروجه على النظام الحاكم، فقد رأى خلال مدّة إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة أن لا أحد يلتفت إليه، وأنّ ثَمّة وُعودٌ وصلت من الكوفة، إن كذب الأكثر منها فإنّ في القليل الديّانين من أمثال حبيب وزُهير وبُرير وعابس وغيرهم كفاية، على أنّ نفس هذا الإيحاء فيه تشويهٌ لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما سنسمع بعد قليل.

هذا بغضّ النظر عن التفسير الغَيبيّ لقيام الإمام (علیه السلام) ، وأنّه تكليفٌ خاصٌّ سعى إلى إطاعته سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق التفسير المشهور، وبغضّ النظر عن اعتقادنا بالإمام (علیه السلام) ، وأنّه لا يتبع الرعيّة وإنّما الرعيّة تبَعٌ له، وهو يفعل ما يأمره به الله (عزوجل) سواءً كان الناس معه أم لم يكونوا، ولا يستوحش من طريق الحقّ لقلّة سالكيه..

بَيد أنّ ابن عبّاس كأنّه يريد للإمام (علیه السلام) ما يريده لأيّ شخصٍ آخَر يعزم على الخروج للمواجهة، ضمن الضوابط والقواعد العامّة من تحريض الناس وتحريكهم واستدراجهم للالتفاف حول القائد الّذي يحاول إقناع أكبر عددٍ ممكن، وحشدهم لتحقيق أغراضه.

وربّما أفاد أمر الإمام (علیه السلام) بالتريّث حتّى ينقضي الموسم، ولقاء الناس وترتيب اتّخاذ القرار وفقاً للنتائج المتمخّضة عن ذلك، على فرض أنّ ابن عبّاس قد علم كما علم الجميع أنّ الناس سوف لا يستجيب منهم أحدٌ

ص: 59

لغريب الغرباء، فكأنّه أراد من الإمام (علیه السلام) أن يتريّث ليعلم أنّ الناس ليسوا معه، فيثنيه ذلك عن الخروج.

وبكلمةٍ أُخرى: إنّه دعا الإمام (علیه السلام) أن يتّخذ قرار الخروج بناءً على ما سيراه من استجابة الناس وتفاعلهم معه، وهو يعلم أنّهم لم يستجيبوا له؛ لدخلوهم تحت طائلة البيعة والخوف والطمع وحبّ الدَّعَة، واعتقادهم دين السقيفة واتّباعهم يزيد تعبّداً، وغيرها من الأسباب، وبهذا سيقتنع الإمام (علیه السلام) أن لا فائدة من خروجه! فيرجع عن عزمه ذلك.

ونسي ابن عبّاس ما شرحه له الإمام (علیه السلام) في أكثر من موطنٍ أنّه ليس في صدد الخروج بالمعنى الّذي ذكره له يزيد في رسالته لابن عبّاس، وإنّما في مقام الدفاع عن نفسه، ودَرْأ القتل والمنع من سفك دمه المقدّس في مكّة المكرّمة.

الاستشفاف الخامس: الغرض من تأخير الإمام
اشارة

قد يسأل سائل: ما هو الغرض من إلحاح ابن عبّاسٍ على الإمام (علیه السلام) وأمره بالتريّث والبقاء حتّى ينقضي الموسم، ولقائه الناس ليرى ما يصدرون؟

يمكن أن نتصوّر عدّة أغراضٍ لابن عبّاس وفق ما تشير إليه الأحداث والتصريحات:

الغرض الأوّل: تجميع الأنصار للدفاع عن الإمام (علیه السلام) في مكّة وغيرها

ص: 60

قد يكون ابن عبّاس ألحّ على الإمام (علیه السلام) وأمره بالبقاء وانتظار الموسم ليتسنّى للإمام (علیه السلام) الوقت الكافي ليجمع فيه الأنصار، فيدفع عن نفسه في مكّة، ويوفّر له فرصة اجتماع الرجال حوله لئلّا يقتله القوم.

وهذا الغرض يبدو بعيداً كلّ البعد عن مساعي ابن عبّاس؛ وذلك لأنّ سياقات كلام ابن عبّاس ومؤدّيات حديثه لا يفيد هذا الغرض، من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى: فإنّ الإمام (علیه السلام) قد شرح له، وبيّن سعي القوم الحثيث في القضاء عليه بالاغتيال أو الأخذ، ولو لم يبيّن له الإمام (علیه السلام) لَكان المفروض به _ وهو حَبرُ الأُمّة وعالمها وترجمان القرآن وصاحب المقام السامي، كما يصفونه ويزعم في نفسه! _ أن يكون قد قرأ الأحداث وساير مجرياتها، واتّضح له ذلك بما لا يحتاج إلى بيان.

فكيف يستمهل الإمام (علیه السلام) ويأمره أن يتريّث؟

وقد اتّضح له موقف الناس جميعاً في مكّة، وأن ليس فيهم ناصر، ولا مدافع، ولا مانعٌ يمنع ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

كما اتّضح له سعي القرود وجرائها وذئابها الحثيث في تمزيق أوصال حبيب الله بأنيابها، وهم متعطّشون لسفك دمه المقدّس واغتياله، أو غرز مخالبهم فيه وأخذه أخذاً!

فبقاؤه ولو يوماً واحداً سيحقّق ليزيد وأشياخه ما يتمنّون، ويعينهم على توفير الفرص وشراء الوقت من أجل تحقيق الغرض، وإدخال السرور

ص: 61

على قبور فطائس أشياخ يزيد الّذين رحلوا إلى جهنّم في بدر وغيرها من المشاهد، وتنفيذ القرار في إبادة الإسلام الحقّ القائم في شخص الإمام (علیه السلام) .

وحينئذٍ نعرف خطأ ابن عبّاس في رأيه وفق هذا الغرض، إن كان لابن عبّاسٍ غرضاً بهذا المعنى.

الغرض الثاني: تجميع الأنصار للخروج مع الإمام (علیه السلام) والإطاحة بيزيد

يبدو أنّ ابن عبّاس قد اقتنع تماماً بما ذكره له يزيد في كتابه له، حينما صوّر له الإمام (علیه السلام) ، وأخبره أنّ رجالاً من أهل المشرق قد منّوا الإمام (علیه السلام) الخلافة وأنّه منّاهم الإمارة، وأنّ الإمام (علیه السلام) خارجيٌّ يريد الخروج على يزيد، ويعزم على الإطاحة به وإنزاله من أعواد المنبر وسوقه إلى درك القرود في الجحيم..

هكذا رسم يزيد صورة الإمام (علیه السلام) في كتابه لابن عبّاس، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيه فيما مضى.

ويشهد لهذا الفهم عند ابن عبّاس سياق حديثه هنا وفي غير هذا الموضع.

والحال أنّ الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) قد أفصح له عن سبب خروجه من المدينة، وعن دواعي بقائه في مكّة، وأسباب خروجه من مكّة، وأنّه لا يحبّ أن يُقتَل فيها، وأن يُقتَل خارجها بشبرٍ أحبّ إليه، فلو بقيَ فيها فهو القتل المحتّم وهتك الحرمات الأكيد!

ص: 62

غير أنّ ابن عبّاس قَبلَ ما قرّره له يزيد في كتابه، وما أرجف فيه الناس وفقاً لما روّجه السلطان وجلاوزته وأزلامه، وبنى على ذلك.

فأصدر هذا الأمر للإمام (علیه السلام) ليتريّث لعلّه يجمع من أجل ذلك الأنصار والرجال، ويحرّك القلوب الّتي تتزلزل الجبال ولا تتزلزل هي عن مواقفها في نصرة السقيفة وبقاياها المتمثّلة يومها بيزيد الّذي بايعوه طواعيةً وكرهاً، بيد أنّهم يرونها بيعةً مُلزمة..

فإن كان هذا غرضه، فقد تبيّن من خلال فترة إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة أنّ الناس لا ينصرونه ولا يحبّونه ولا يمنعونه.

والمفروض أنّ ابن عبّاس من الذكاء والحفظ بمستوىً يمنعه من نسيان كلام الإمام (علیه السلام) معه قبل أيّام، يوم التقاه هو وابن عمر وأخبرهما الإمام (علیه السلام) أنّه مقيمٌ في مكّة أبداً ما رأى أهلها يحبّونه ويمنعونه وينصرونه، فلمّا عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج منها يقضي على ابن عبّاس (الذكيّ الحافظ) أن يعلم أنّ القوم ليسوا كما أرادهم الإمام (علیه السلام) ، فهو إنّما يخرج عنهم لأنّهم خذلوه ولم يحبّوه ولم يمنعوه ولم ينصروه.. وقد أتينا على تفصيل كلام الإمام (علیه السلام) مع العبدَين فيما مضى من هذه الدراسة.

وقد أثبتت الوقائع ومجريات الأحداث ذلك بوضوحٍ خلال أربعة أشهر من إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة، بحيث أصبح الإمام (علیه السلام) غيرَ آمنٍ في البيت الحرام الّذي جعله الله مثابةً للناس وأمناً، ممّا اضطرّه لاستعجال الخروج

ص: 63

منها.

ثم إنّ الأنصار الّذين يريدهم ابن عبّاس _ فيما يزعم _ قد توفّروا للإمام (علیه السلام) في الكوفة، وقد وصلَتْه منهم رسائل وكتب كثيرة، والناس هم الناس.. وبغضّ النظر عن علم الإمامة، فإنّ الإمام (علیه السلام) قد خبَر أهلَ الكوفة وعرفهم، والخليط الغير متجانس الّذي سيجمعه من الموسم قد يحتاج إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ حتّى يُستكشَف وتُخبَر كوامنه وحقائق نيّاته.

والعدد الواعد في الكوفة يومها كان عدداً مقبولاً، بل فوق المقبول لتحقيق الغرض وفق ما يراه ابن عبّاس، فهذا الغرض متحقّقٌ في الكوفة، والبقاء في مكّة مخاطرةٌ أكيدة!

وإن كان العدد المطلوب في الكوفة للإمام (علیه السلام) ينحصر في الديّانين القليل الّذين نصروه ودفعوا عنه وعن أهله ومنعوه، ولبسوا قلوبهم فوق الدروع ليقوه بأنفسهم وأرواحهم وأعزّ ما يملكون، وهو غير متوفّرٍ في مكّة، وفيمن حضر الموسم جزماً؛ بشهادة خذلانهم وتقاعسهم وتجاهلهم وإعراضهم عن منعه ونصره والدفاع عنه.

فإن كان ابن عبّاس يريد إبقاء الإمام (علیه السلام) لجمع الأنصار للغرض الّذي يصوّره يزيد ويروّج له ابن عبّاس، فقد تبيّن خطأه في ذلك أيضاً، وأنّ خروج الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة هو الصواب بلا أدنى شكّ.

إضافةً إلى أنّه يجرّ عاقبةً إلى توفير الوقت اللازم لتنفيذ يزيد القرود

ص: 64

مخطّطه في اغتيال الإمام (علیه السلام) أو أخذه.

الغرض الثالث: توظيف الوقت لإقناع أحد الأطراف

ربّما كان الغرض هو تأخير الإمام (علیه السلام) بعض الأيّام لتتوفّر الفرصة لدى ابن عبّاسٍ وأمثاله مثلاً للتوسّط، ومحاولة رأب الصدع وسدّ الفجوات، وجمع الشمل، والحيلولة دون إراقة الدماء، من خلال إقناع أحد الطرفين عن الرجوع عن عزمه، بصدّ الإمام (علیه السلام) عن الخروج الّذي يتخيّله ابن عبّاس، أو إقناع يزيد عن مواجهة الإمام (علیه السلام) مواجهةً عسكريّة.

وهذا الغرض لا يبدو سديداً؛ وذلك لأنّه لم يُذكر في كلام ابن عبّاس، وليس في حديثه ما يفيد ذلك من قريبٍ ولا من بعيد، فهو محض تخرّصٍ واحتمالٍ لا شاهد عليه ولا دليل.

وهو غرضٌ غير موفَّقٍ أيضاً، إذ أنّ الوقت كان يتصرّم لصالح عدوّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد وشى العدوّ بما عزم عليه، والأمر بالنسبة له مفروغٌ منه، قد توارثه عن أبيه ومَن سلّطوه.

وأنّى للإمام (علیه السلام) أن يتريّث والقوم يلاحقونه ليغتالوه ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، وقد كان في المدّة الّتي خرج فيها الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى يوم حديث ابن عبّاس معه كفايةً لمن أراد أن يفعل ذلك.

فهذا الغرض خطأٌ أيضاً، بالإضافة إلى كونه مجرّد احتمالٍ لا يسنده شيء، وسيخدم العدوّ، ويوفّر له الوقت لينجز ما يريد، وابن عبّاسٍ يعلم

ص: 65

أنّه لا يثني يزيد عن عزمه.

الشطر الرابع: التوقيت

ذكر النصّ أنّ اللقاء كان «في عشر ذي الحجّة سنة ستّين».

والكلام في «عشر ذي الحجّة»، فإن كان يقصد في اليوم العاشر من ذي الحجّة فهو مخالفٌ للمُجمَع عليه، بل ينافي ما ورد في المتن نفسه، إذ أنّ ابن عبّاسٍ يأمر الإمام (علیه السلام) أن يتريّث حتّى ينقضي الموسم، والعاشر من ذي الحجّة يوافق يوم العيد، فهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد حضر المشاعر في عرفة والمزدلفة وأفاض إلى منى، ولم يبقَ من مناسك الحجّ إلّا الطواف والمبيت في منى.

وإن كان يقصد في «عشر من ذي الحجّة» أي: في العشر الأوائل من ذي الحجّة فهو صحيح، لأنّه يصدق على الأيّام الّتي كان الإمام (علیه السلام) في مكّة حتّى قبل يوم التروية.

الشطر الخامس: أبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق

الإباء: كراهية الشيء وأشدّ الامتناع.

وكأنّ ابن عبّاس أقام الحجّة كاملةً بالغةً على الإمام (علیه السلام) ، فامتنع الإمام (علیه السلام) عليه أشدّ الامتناع ولم يقبل منه، غير أنّنا قد تبيّن لنا بعقولنا المحدودة الّتي لا تكاد تدرك مواقف المعصوم لولا أن يكشف لها عن نفسه

ص: 66

بما تستوعبه وتطيقه، عرفنا أنّ كلام ابن عبّاس وأوامره كلّها خطأٌ في خطأ، ولا تستحقّ العمل بها، بل العمل بها سيخدم الأعداء خدمةً يتمنّونها، والله العالم.

الإبراز الثالث: نهي ابن عبّاس وتحذيره من أهل الكوفة
اشارة

روى البلاذريّ:

قال ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أتذهب _ رحمك الله _ إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا [ذلك] فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون خراج بلادهم [خ ل: تجبي بلادهم]، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، فلا آمَنُ [عليك] أن يغروّك ويكذبوك [ويخالفوك ويخذلوك، وأن] يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

قال الحسين: «فإنّي استخير الله، وأنظر ((1)) ما يكون» ((2)).

وقال الدينوريّ:

قال عبد الله: أُعيذك بالله يا ابن عمّ من ذلك.

قال الحسين: «قد عزمت، ولابدّ من المسير».

ص: 67


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
2- تاريخ الطبري: 5 / 383.

قال له عبد الله: أتسير إلى قومٍ طردوا أميرهم عنهم وضبطوا بلادهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما يدعونك إليهم وأميرهم عليهم وعمّاله يجبونهم، فإنّهم إنّما يدعونك إلى الحرب، ولا آمنهم أن يخذلوك كما خذلوا أباك وأخاك.

قال الحسين: «يا ابن عمّ، سأنظر فيما قلت» ((1)).

وقال ابن أعثم:

فقال ابن عبّاس (رحمة الله) : أُعيذك بالله من ذلك! فإن تَصِر [ خ ل: سرتَ] إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، ففي مسيرك إليهم لَعمري الرشاد والسداد، وإن [سرت إلى قومٍ] كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وإنك [أنت] تعلم أنّه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك [وقد بايعه أهله]، وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم، ولا آمَنُ عليك أن تُقتل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم.

فقال له الحسين: «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما

ص: 68


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.

يكون» ((1)).

وفي (المقتل) للخوارزميّ:

فإنْ كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص، فصِرْ إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين: «لابدّ من العراق!» ((2)).

وقال المسعوديّ:

أتاه ابن العبّاس فقال له: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإنْ أَبيتَ إلّا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكّة فاشخص إلى اليمن؛ فإنّها في عُزلة، ولك فيها أنصارٌ وإخوان، فأقِمْ بها وبثّ دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيُخرِجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها ولم يكن بها أحدٌ يعاديك أتيتَهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشعاباً.

فقال الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي لَأعلم أنّك لي ناصحٌ وعلَيّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعتُ على المسير [إليهم]».

ص: 69


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

قال: إنّهم من خَبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وقتلتك غداً مع أميرهم، إنّك لو قد خرجتَ فبلغ ابنَ زيادٍ خروجُك استنفرهم إليك، وكان الّذين كتبوا إليك أشدّ من عدوّك» ((1)) ...

وقال أبو الفرَج:

فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلّا خاذليك.

فقال له: «هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم» ((2)).

وقال الطبريّ (الشيعي) بسندٍ مرّ ذِكره:

عن عبد الله بن عبّاس قال: أتيتُ الحسينَ وهو يخرج إلى العراق، فقلتُ له: يا ابن رسول الله لا تخرج!

فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إن منعتني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

قلت له: فأنّى لك ذلك؟

قال: «بسرٍّ سُرّه لي وعلمٍ أُعطيتُه» ((3)).

ص: 70


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: 72.
3- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.

وقال مسكويه:

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبِرني _ رحمك الله _ أتسيرُ إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمَنُ أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له الحسين: «فإنّي أستخير الله، وأنظر» ((1)).

وقال ابن شهرآشوب:

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُن باليمن؛ لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين».

فأتاه ابن عبّاسٍ وتكلّم في ذلك كثيراً، فانصرف ((2)).

ص: 71


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94.

وقال ابن الجوزيّ:

وكان قد أشار عليه جماعةٌ منهم ابن عبّاس أن لا يخرج، وكان من جملة ما قال له: أتسير إلى قومٍ أميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم؟ فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يكذبوك.

فقال: «أستخير الله» ((1)).

وقال ابن الأثير والنويريّ:

قال: وأتاه عبد الله بن عبّاس، فقال له: قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال له: «قد أجمعت السير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، خبِّرني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمنُ عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين: «فإنّي أستخير الله، وأنظر ما يكون».

ص: 72


1- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.

فخرج ابن عبّاس ((1)).

وقال سبط ابن الجوزيّ:

فجاء إليه ابن عبّاس ونهاه عن ذلك، وقال له: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه، وفعلوا ما فعلوا.

فقال: «هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ المسير لقتال أعداء الله».

فبكى ابن عبّاس، وقال: وا حسيناه!

وذكر المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب):

إنّ ابن عبّاسٍ قال له: إنْ كرهتَ المقام بمكّةٍ خوفاً على نفسك، فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها عزلة، ولنا بها أنصارٌ وأعوان، وبها قلاعٌ وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلّموها إلى نائبك فسِرْ إليهم، فإنّك إنْ سرتَ إليهم على هذه الحالة لم آمن عليك منهم ((2)).

وقال ابن كثير:

فقال له ابن عبّاس: أخبِرْني إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوّهم وضبطوا بلادهم فسِرْ إليهم، وإن كان أميرهم حيّ وهو مقيمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزّوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الّذي دعوك أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين: «إنّي أستخير الله، وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاس عنه ((3)).

وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ:

فقال ابن عبّاس والجماعةُ الّذين معه: نعيذك بالله من ذلك، أخبِرنا أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم

ص: 73


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك وأميرهم قائمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّالهم تجبي بلادهم وتأخذ خراجهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك من أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويتبعوك ثمّ يستفزّوا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي أستخير الله (تعالى)، ثمّ أنظر ماذا يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ والجماعة الّذين معه ((1)).

وروى صاحب كتاب (فاطمة وولدها)، بإسناده عن ابن عبّاسٍ قال: لقيتُ الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق، فقلت له: يا ابن

ص: 74


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.

رسول الله لا تخرج.

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟» ((1)).

وفي (التبر المذاب) للخافي الشافعيّ:

فعزم على المسير، فجاء عبد الله بن عبّاس وقال: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه.

فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)».

فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه! ((2))

* * * * *

يمكن تناول ما ورد في نصوص هذا الإبراز من خلال الوقفات التالية:

الوقفة الأُولى: أُعيذك بالله من ذلك
اشارة

ورد عند جماعةٍ منهم البلاذريّ والطبريّ وغيرهما قول ابن عبّاس لسيّد الشهداء (علیه السلام) : «فإنّي أُعيذك بالله من ذلك» ((3)).

ص: 75


1- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.
2- التبر المذاب للخافي: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.

ولمّا كان ابن الصبّاغ قد افترض جماعةً مع ابن عبّاس، جاء بلفظ الجمع: «فقال ابن عبّاسٍ والجماعة الّذين معه: نعيذك بالله من ذلك» ((1)).

وقد انفرد الدينوريّ بذكر خطاب ابن عبّاس للإمام الحسين (علیه السلام) بزيادة: «يا ابن عمّ»، وإيرادِ جوابٍ لسيّد الشهداء (علیه السلام) على كلام ابن عبّاس: «قال الحسين: قد عزمتُ ولابدّ من المسير» ((2)).

* * * * *

العَوذ والتعوّذ: هو الالتجاء والاعتصام، وهو تركيبٌ يُستعمَل في موارد تحصين المخاطَب من خطرٍ أو سوءٍ أو جهلٍ يداهمه، سواءً كان خارجيّاً أو قلبيّاً.

والتعوّذ: هو الالتجاء والاعتصام، إمّا في الخارج إذا كان في الأُمور الخارجيّة، أو في القلب إذا كان معنويّاً ((3)).

ص: 76


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
3- أُنظر: التحقيق في كلمات القرآن: 8 / 260.

قال (تعالى):

- ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ﴾.

- ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ﴾.

- ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾.

- ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾.

- ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾.

- ﴿عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾.

- ﴿قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾.

- ﴿قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.

- ﴿قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ﴾.

فلابدّ من افتراض موردٍ عوّذ ابنُ عبّاس من أجله الإمام الحسين (علیه السلام) بالله، ويمكن افتراض عدّة موارد لذلك:

المورد الأوّل: التعويذ من القتل

لقد جزم ابن عبّاس أنّ مسير الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة سيؤدّي به إلى القتل، بناءً على ملاحظته لمجريات الأحداث والظروف والأجواء الحاكمة يومها على المشهد، واستناداً إلى ما بلغه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسمعه من أمير

ص: 77

المؤمنين (علیه السلام) ، فدعاه الخوف على الإمام (علیه السلام) أن يعوّذه بالله من القتل، ويحصّنه بالالتجاء والاعتصام به (تعالى).

المورد الثاني: التعويذ من ارتكاب الجهل والعناد

إذا لاحظنا أجواء كلام ابن عبّاس وتتمّته، وتأكيدَه على أنّ أهل الكوفة قومٌ غدروا بأمير المؤمنين وبالإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) ، وأنّه إن أراد أن يَقدِم عليهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك إلّا إذا طردوا أميرهم وأخرجوا عدوّه وعدوّهم، أمّا إذا كانوا على حالهم وأميرهم حاكمٌ عليهم والأموال تُجبى إليه، فإنّهم إنّما يريدون تعريضه للسيوف، وأنّهم يدعونه للحرب.

فقال ابن عبّاس (رحمة الله) : أُعيذك بالله من ذلك! فإن تَصِر [خ ل: سرتَ] إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، ففي مسيرك إليهم لَعمري الرشاد والسداد، وإن [سرتَ إلى قومٍ] كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وإنّك [أنت] تعلم أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك [وقد بايعه أهله]، وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم، ولا آمَنُ عليك أن تُقتَل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم.

وإذا لا حظنا جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) حسب رواية الدينوري في هذا المقطع من الكلام..

ص: 78

فإنّ المعنى يمكن أن يكون بمعنى (نستغفر الله ونعوذ به، بَيد أنّها ضرورة البحث): التعويذ من ارتكاب الخطأ والعناد والجهل وما لا تُحمَد عقباه، والاستعجال في الأُمور من دون التدبّر في الحاضر وتصوّر المستقبل، أي: إنّي أُعيذك بالله أن لا تسمع كلامي ولا تقبل منّي نصحي وموعظتي وتحذيري لك، فردّ عليه الإمام (علیه السلام) _ كما في رواية الدينوري _ : «قد عزمتُ ولابدّ من المسير» ((1))..

الوقفة الثانية: فرضيّات ابن عبّاس
اشارة

يمكن استشفاف عدّة مطالب من نصوص هذه الوقفة:

المطلب الأوّل: فرضيّة تمهيد القوم

إفترض ابن عبّاسٍ فرضيتين: إحداهما صحيحة، والأُخرى خاطئة، كما سيتبيّن لنا.

والفرضيّة الأُولى في كلامه تؤكّد أنّ القوم قد قتلوا أميرهم أو طردوه وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، فإن فعلوا ذلك فليسِر إليهم الإمام (علیه السلام) ((2)

ص: 79


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وفي ذلك الرشاد والسداد ((1)).

وهذه هي الفرضيّة الصائبة الصحيحة حسب تصوّر ابن عبّاس، وقد أقسم _ كما في نصّ ابن أعثم _ على صحّة الفرض، وأنّ فيه السداد والرشاد، وقال: «لَعمري».

والفرضيّة تقوم على أساس ما رسمه يزيد القرود من تصويرٍ لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من حيث أنّ أهل الكوفة قد منّوه الخلافة وأنّه قد منّاهم الإمارة، وتفترض أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما يريد الخروج من مكّة متوجّهاً إلى العراق طمعاً في توفّر الظروف المناسبة، وتظافر الرجال لمحاربة السلطان الحاكم ومقاتلة القرد واقتلاعه من أعواد المنبر ورميه في جهنّم وسقر، وهذا ما يفيده سياق حديث ابن عبّاس، ويشهد له ما في كلامه من تفاصيل.

وكأنّ ابن عبّاسٍ يُدرك تماماً ما يقوله يزيد ويفهمه، ولا يريد أن يُدرك أو يفهم ما يقوله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويتغاضى عن المخاطر الّتي تُحدق بالإمام (علیه السلام) في مكّة، ويغضّ النظر عامداً أو غير عامدٍ عن جميع بيانات الإمام (علیه السلام) له ولابن عمر ولغيرهما، وتأكيده لمن حضر ولمن غبر ممّن استمع إليه وأصغى إلى كلامه تصريحاً وتلويحاً: إنّ بقاءه في مكّة يعني قتله أو أخذه، وأنّه لا يحبّ أن يُقتَل في مكّة، ولو قُتِل خارجاً عنها بشبرٍ أحبّ

ص: 80


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

إليه!

كأنّ ابن عبّاسٍ لا يريد أن يُدرك أو يتفهّم أنّ الدافع الأساس والعامل الأصل في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مكّة أنّها لم تعُد آمنةً له، وأنّ العدوّ يسابق الزمن ويتحيّن الفرص ويستعجل من أجل تنفيذ خطّته المشؤومة في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، فلو بقي سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة ولو أيّاماً قلائل لَأجهزوا عليه وقتلوه غيلةً أو أخذوه أخذاً.

وربّما كان اقتراح ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام) أن يذهب إلى اليمن _ كما سنسمع بعد قليل _ يشي بأنّ ابن عبّاس يدرك بنحوٍ ما محاصرةَ الإمام (علیه السلام) والخطر المحدق به على فرض بقائه في مكّة، ولذا اقترح عليه أن يتوجّه إلى اليمن إذا كان لابدّ من الخروج من مكّة.

وكيف كان، فإنّ ابن عبّاس يفترض هنا أنّ الإمام يريد أن يستولي على الكوفة، ويحارب يزيد وينحّيه عن دفّة الحكم والسلطان، وهو يحتاج إلى أنصارٍ أوفياء يقفون معه حتّى تحقيق الهدف المنشود.

والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما يريد الخروج من مكّة فوراً تفادياً لهتك حرمة البيت الحرام وسفك دمه المقدّس فيه، وإنّما قصد الكوفة دون غيرها لأنّ فيها مَن وعده النصرة، وفيهم الديّانون القليل الّذين سيبذلون أرواحهم في الدفاع عنه!

ونحن لم نسمع إلى هذه اللحظة تصريحاً من الإمام (علیه السلام) نفسه ولا بياناً

ص: 81

واضحاً يفيد أنّه يريد ما زعمه ابن عبّاس، وما نسبه يزيد إلى الإمام (علیه السلام) ، ولم نجد _ حسب الفحص _ أيّ كلامٍ للإمام (علیه السلام) يفيد بصراحةٍ ووضوحٍ أنّه عازمٌ على محاربة يزيد وإسقاطه عن تخت السلطنة والاستيلاء على الحكم، وكلّ ما سمعناه من الإمام (علیه السلام) أنّ أذناب الطواغيت ضيّقوا عليه في المدينة، وأغلظوا له، وخيّروه بين القتل في الحرم ومناولة القرود، فأبى عليهم وخرج من المدينة، ثمّ لاحقوه في مكّة ليقتلوه غِيلةً أو يأخذوه أخذاً، فعزم على الخروج منها، وأيّ شيءٍ غير هذا إنّما هو تصوير يزيد وأتباعه وأذنابه وخيالات ابن الزبير وابن عمر وابن عبّاس وأضرابهم!

والمفروض أن نأخذ من الإمام (علیه السلام) ما نريد أن ننسبه إليه، ولا نصغي لغيره، فهو الحقّ، ولا يخرج منه إلّا الحقّ، وليس من الصواب الاستماع إلى غير صاحب القضيّة مهما علت الصرخات وارتفعت الأصوات وكثرت المحاولات!

فلْيقُل أهلُ الكوفة، وليقُل ابن عبّاس، وليقُل يزيد، وليقُل كلُّ مَن يريد أن يقول، وليصوِّر من يريد التصوير، فهو زيف، ما لم يكن قد نصّ عليه الإمام (علیه السلام) نفسه وصرّح به بوضوح، إذ أنّ قضيّةً بهذه الضخامة لا يُكتفى فيها بتلويحٍ عابرٍ أو إشارةٍ بعيدة، إن وُجدَت! وقد أتينا على بيان هذا الأمر في أكثر من موضع.

ص: 82

المطلب الثاني: فرضيّة دعوة الإمام (علیه السلام) قبل التمهيد
اشارة

وافترض ابن عبّاس فرضيّةً أُخرى، وهي أنّ القوم قد دعوا الإمام (علیه السلام) وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون خراج بلادهم، فحينئذٍ جعل جملةً من المحاذير المترتّبة على هذه الفرضيّة.

وتتلخّص في النقاط التالية:

أوّلاً: إنّ هذا يعني أنّهم إنّما يدعونه ليباشر الحرب والقتال بنفسه

ربّما أفاد هذا التحذير أنّ القوم يخطّطون لاستدراج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ليوقعونه في كانون الحرب والقتال، وكأنّهم إنّما دعوه وكاتبوه ضمن المخطّط الأُمويّ ليزحف الإمام (علیه السلام) إلى العراق حيث تتواجد عساكرهم، فلا يكلّفهم تحريك القطعات العسكريّة من بلدٍ إلى بلد.

ثمّ إنّ للكوفة صيتٌ في احتواء الشيعة، وكانت يومها مركزهم على قلّة عددهم بين الأكثريّة الكاثرة من المخالفين الّذين كانوا يشكّلون نسيجها الاجتماعي، وحينئذٍ يتمكّن العدوّ من إطلاق فريته الّتي أطلقها منذ يوم قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى اليوم، حيث طوّقوا شيعة الإمام (علیه السلام) دم إمامهم، فقالوا: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قتله شيعتُه، وغيرها من المسوّغات والأغراض.

فابن عبّاسٍ يحذّر الإمام (علیه السلام) من كون أهل الكوفة إنّما دعوه للحرب والقتال، وليس للنصرة والانتصار.

ص: 83

وقد ذهب بعض المحقّقين إلى القول بأنّ الكتب والرسائل من بعض رؤوس القبائل والشخصيّات الّتي يسمّونها الوجوه في الكوفة إنّما كانت بأمرٍ من الأُمويّين لاستدراج الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة ليُقتَل فيها، لأغراضٍ يطول ذكرها هنا.

ومن الواضح أنّ هذه الخدعة إن كانت، فإنّها لا تخفى على الإمام (علیه السلام) في حين ظهرت لابن عبّاس!

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) لم يعتمد مزاعم المكاتبين، ولم يبنِ على وعودهم، بل شكّك فيها تشكيكاً واضحاً يُعرَف من المهمّة الّتي أناطها بسفيره المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، إذ كلّفه أن يرى مدى تطابق مزاعمهم في كتبهم ورسائلهم مع آرائهم وعزائمهم.

والإمام (علیه السلام) يعلم _ كما يعلم كلّ من تابع الأحداث، بغضّ النظر عن علم الإمامة _ أنّ الأُمويّين لا يتركونه، وأنّه ملاحَقٌ مطلوبٌ للقتل في الكوفة، تماماً كما هو كذلك في المدينة ومكّة، وتماماً كما لو ذهب إلى أيّ صقعٍ من أصقاع الأرض أو أيّ بلدٍ من البلدان، فالحرب والقتال ينتظرانه أينما حلّ وارتحل، وقد تبيّن لنا أنّ الإمام (علیه السلام) لا يطلب ما يزعمه يزيد وابن عبّاس من محاربة يزيد والاستيلاء على الحكم، وإنّما كان في مقام الدفاع عن نفسه وصدّ عادية القرود المسعورة.

ولأجل تحقيق غرض الدفاع عن نفسه، يكفي أن يخرج من مكّة لئلّا

ص: 84

تُستباح ويُستباح دمُه فيها، ويكفي أن يجد في الكوفة القلّة من الديّانين الّذين وعدوه وعداً صادقاً، وثبتوا على وعدهم وبذلوا مُهَجَهم فيه.

ثانياً: إنّه لا يأمن أن يغرّوه ويكذبوه ويخذلوه كما خذلوا أباه وأخاه

لقد ذكرنا في مواضع كثيرةٍ أنّ السبُل كانت موصدة، وليس ثمّة طريقٌ يمكن أن يسلكه الإمام (علیه السلام) _ وفق الحسابات الظاهريّة الّتي تبدو للباحث _ سوى طريق الكوفة، فالبلدان جميعاً قد خذلَته وأسلمَته إلى السيوف، واستسلمت للطاغوت، ولم يكن صوتٌ واعدٌ بالنصر والذبّ عن حرم الله وحرم رسوله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلّا الأصوات المنبعثة من الكوفة، وهي وإن كانت متذبذبةً يمكن أن تتنقّل من موقفٍ إلى موقفٍ مقابل، غير أنّها وعدت النصرة والدفاع، وبهذا قد أقامت الحجّة على نفسها، ورزحت تحت طائلة المسؤوليّة الّتي تفتح المجال للإمام (علیه السلام) للاحتجاج عليها من جهة، ولعلمه _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ أنّ فيها أصواتاً صادقةً ثابتةً راسخةً تستأنس بالموت دونه استئناس الطفل بثدي أُمّه، وترى في القتل بين يديه حياة الأبد ورضى الله (عزوجل) ورضى رسوله (صلی الله علیه و آله) ورضى الإمام (علیه السلام) .

والعجيب أنّ ما كرّره ابن عبّاسٍ وغيره من المعترضين على الإمام (علیه السلام) من التأكيد على غدر أهل الكوفة وكذبهم وخداعهم وتلوّنهم، كأنّها أُمورٌ غائبةٌ عن إمام الخلق وسيّد الكائنات يومها!

وكيف كان، فإن كان ابن عبّاسٍ لا يأمن أن يغرّوا الإمام (علیه السلام) ويكذبوه،

ص: 85

فإنّ الإمام (علیه السلام) أعلم بذلك منه على كلّ صعيدٍ مفترَضٍ في علم الإمام (علیه السلام) .

ثالثاً: علم الإمام (علیه السلام) بالظروف

إنّ الإمام (علیه السلام) يعلم أنّه بلدٌ قُتل فيه أبوه، واغتيل فيه أخوه، وقُتل فيه ابن عمّه! وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس عبيد الدينار والدرهم، وسيستنفروا إليه، فيكونوا أشدّ الناس عليه.. ولهذا لا يأمن ابن عبّاسٍ على الإمام (علیه السلام) أن يُقتَل ((1)).

يُلاحَظ في هذه النقطة بعض التهافت والارتباك، إذ أنّ ابن عبّاس أخبر عن ولاية ابن زيادٍ على الكوفة، وأخبر عن مقتل المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیه السلام) ، والحال أنّ المولى الغريب مسلم (علیه السلام) لم يكن قد قُتِل بعد! لأنّ حديثه مع الإمام (علیه السلام) كان قبل يومين من خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة على أقلّ التقادير، وقد خرج الإمام (علیه السلام) يوم الثامن من ذي الحجّة، وقد استُشهد المولى الغريب (علیه السلام) يوم التاسع من ذي الحجّة، فكيف أخبر عن قتله قبل وقوعه؟!

ص: 86


1- أُنظر للنقاط الثلاثة: جُمل من أنساب لأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

ثمّ إنّه أخبر عن ولاية ابن زيادٍ على الكوفة، وتسلّطه على الناس هناك، والحال أنّه دخلها في وقتٍ متأخّرٍ في أوائل ذي الحجّة، إلّا أن يكون خبر ولايته الكوفة كان قد انتشر أو قد بلغ ابن عبّاسٍ عن طريق البريد الحكوميّ!

أمّا الباقي من كلامه فهو تقريرٌ للواقع، فقد بايع الناس يزيد، والإمام (علیه السلام) يعلم ذلك.. وعبيد الله يفرض ويعطي، والإمام (علیه السلام) يعلم ذلك، وهو (علیه السلام) القائل: «الناس عبيد الدنيا».. وأنّ الناس يستنفرون لقتاله، والإمام (علیه السلام) يعلم بذلك..

وكانت الكوفة يومها بيد الوالي، والعساكر منتظمةٌ والشرطة متحكّمةٌ في البلاد، والناس بين مُحايدٍ _ وهم الأقلّ _ وبين منخرطٍ في التشكيلات النظاميّة المعروفة يومها، والعدد المكاتِب والمبايع لسيّد الشهداء (علیه السلام) كان يومها أقلّيّةً بالنسبة لمدينةٍ عسكريّةٍ كبيرةٍ مثل الكوفة تحتوي مئة ألف سيف، ويركب فيها هاني _ وهو زعيمٌ من زعماء مذحج _ مع أحلافه في ثلاثين ألف، على تفصيلٍ أتينا عليه في المجموعة الكاملة عن (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة).

والإمام (علیه السلام) يعلم ذلك باعتراف ابن عبّاس، والإمام (علیه السلام) أعلم وأعرف وهو الحكيم، ولا يبدو ابن عبّاس كأنّه يكشف سرّاً أو يحذّر من شيءٍ يخفى على الإمام (علیه السلام) أو ينبّهه لشيءٍ غائب عنه، غير أنّه لا يُدرِك موقف

ص: 87

الإمام (علیه السلام) ولا يفقه كلامه، أو أنّه لا يريد ذلك!

والملاحَظ أنّ ابن عبّاس يذكّر الإمام (علیه السلام) أنّ الناس قد بايعوا يزيد، بمعنى أنّهم ألزموا أنفسهم بما لا يسمح لهم التنصّل عنه والوقوف مع الإمام (علیه السلام) ، والحال أنّنا _ إلى هذا الموقف _ لم نسمع من الإمام (علیه السلام) دعوةً للناس تفيد التنصّل عن بيعته، أو تحرّضهم على يزيد وتدعوهم إلى قتاله ومحاربته!

رابعاً: على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم

رابعاً: على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم ((1))

عبارةٌ غير مؤدَّبة، ودعوةٌ غير مهذَّبة، وخطابٌ أكبر من حجم ابن عبّاسٍ وهو يقف بين يدَي إمامه، ويكلّمه بأنفٍ لا ينبغي له أن يعطس إلّا ذُلّاً وتسليماً للإمام (علیه السلام) ، وهو يدعو الإمام (علیه السلام) إلى تقوى الله ولزوم الحرم، وسنسمعه بعد قليل يقول للإمام (علیه السلام) : «إن عصيتَني..»!

ولا ندري كيف يمكن أن يفهم ابن عبّاس أنّ لزوم الحرم يعني قتل الإمام (علیه السلام) جزماً، والعدوّ يسعى في ذلك جادّاً دون تريّث؟ وقد أخبره الإمام (علیه السلام) _ وهو الصادق المصدَّق _ بذلك، وشهدت له سيرة الأحداث ومجريات الحوادث.

لقد دار الأمر بين القتل المحقَّق في مكّة والقتل المحتمَل في الكوفة،

ص: 88


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

على أسوء الفروض، وفق ما ذكره ابن عبّاس من أدلّةٍ قرأها في التاريخ القريب والواقع الحاضر، ومن الطبيعيّ أن يكون اجتياز القتل المحقّق إلى القتل المحتمل هو الخيار الأصوب، والبقاء في مكّة هو الخيار الخطأ، على العكس تماماً ممّا زعمه ابن عبّاس الّذي جعل اختيار العراق وفق الأدلّة التي ساقها خطأً.

وراح ابن عبّاسٍ يؤكّد أنّه لا يأمن على الإمام (علیه السلام) من القتل وخذلان أهل الكوفة، وعباراته تفيد أنّه غير جازمٍ جزماً قاطعاً، والإمام (علیه السلام) أخبره أنّه جازمٌ جزماً قاطعاً أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله، فلا محيص من القول بخطأ ما ذهب إليه ابن عبّاس، وأنّه خيارٌ غير مسدَّد ولا موفَّق، يجلّله الخطل، ويفنّده ما فيه من الزلل، وهو يصبّ عاقبةً في صالح العدوّ الّذي كان يتربّص الدوائر بالإمام (علیه السلام) ليقتله في مكّة، ويحتاج إلى الوقت وتأخير الإمام (علیه السلام) فيها كي يتسنّى له أن ينفّذ ما يريد، ولو خلال أيّام الحجّ.

الوقفة الثالثة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

قدّم ابن عبّاس ما لديه من تحذيراتٍ للإمام (علیه السلام) بناءً على الفرضيّات الّتي تصوّرها بعد أن أعاذ الإمام (علیه السلام) من الذهاب إلى قومٍ لم يضبطوا بلادهم ولم يطردوا إمامهم ولم ينفوا عدوّهم، وهم قومٌ قتلوا أباه وغدروا أخاه، وبايعوا يزيد واستسلموا لأميرهم القاهر عليهم، فلا يأمن ابنُ عبّاسٍ أن يكونوا إنّما دعوا الإمام (علیه السلام) للحرب والقتال، وأنّهم سيغرّوه ويستنفروا إليه

ص: 89

ويخالفوه، ويكونوا أشدّ الناس عليه، ويقتلوه بما يبذله لهم ابن زياد من الدينار والدرهم.

ردّ عليه الإمام (علیه السلام) رداً مقتضباً مختصراً يمكن حصره في الأجوبة التالية:

الجواب الأوّل: النظر والاستخارة

ورد في جملة المصادر المتقدّمة من قبيل البلاذريّ والدينوريّ والطبريّ ومَن تلاهم أنّ الإمام (علیه السلام) قال أنّه سيستخير الله ((1))، ثمّ ينظر ((2))، وفي بعضها ينظر في مقال ابن عبّاس ((3))، وفي بعضها ينظر ما يكون ((4)).

وفي رواية ابن أعثم ختم ابن عبّاس كلامه بقوله: «فاتّقِ الله والزم هذا الحرم»، فقال له الحسين (علیه السلام) : «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((5)).

ص: 90


1- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.
3- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
4- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، تاريخ الطبري: 5 / 383، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
5- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

* * * * *

قال ابن منظور: الاستِخارَة: طلَبُ الخِيرَة في الشي ء، وهو استفعالٌ منه. وفي الحديث: كان رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) يعلّمنا الاستخارة في كلّ شي ء.

وخارَ اللهُ لك، أي: أعطاك ما هو خيرٌ لك، والخِيْرَة _ بسكون الياء _ : الاسم من ذلك، ومنه دعاء الاستخارة: اللّهمّ خِرْ لي، أي: اختَرْ لي أصلَحَ الأمرين، واجعل لي الخِيْرَة فيه. واستخار اللهَ: طلب منه الخِيَرَة، وخار لك في ذلك: جعل لك فيه الخِيَرَة.

والخِيْرَةُ الاسم من قولك: خار الله لك في هذا الأمر، والاختيار: الاصطفاء، وكذلك التَّخَيُّرُ، ويُقال: اسْتَخِرِ الله يَخِرْ لك، والله يَخِير للعبد إذا اسْتَخارَه ((1)).

فالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قدّم الاستخارة على النظر، أي: أنّه يدعو الله أن يختار له، ثمّ ينظر، فيجعل الله الخيرة فيما ينظر.

لقد شرح الإمام (علیه السلام) لابن عبّاس الظروف والأوضاع شرحاً وافياً كما ذكرنا في أكثر من موضع، ومع ذلك فقد ألحّ ابن عبّاس على ما يقول يحسب أنّه الحقّ والصواب، فكيف يمكن لمثل ابن عبّاس أن يُدرك ويقبل من الإمام (علیه السلام) ؟!

ص: 91


1- أُنظر: لسان العرب: خَيَر.

أحاله الإمام (علیه السلام) على الاستخارة والنظر فيما يقول، ولو كان حقّاً وصواباً لما أحاله الإمام (علیه السلام) ، ولَقبل منه فوراً.

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) خرج فيما بعد ولم يلتفت إلى ما قرّره ابن عبّاس، فيلزم أن يكون قد اختار الله له خلاف ما اختاره له ابن عبّاس، ويلزم أن يكون قد نظر الإمام (علیه السلام) فيما قال ابن عبّاس، وتبيّن خطأ ما قاله ابن عبّاس، وأنّ الصواب في خلاف ما قاله ابن عبّاس، فلا يمكن أن يكون رأي ابن عبّاس إلّا أفنٌ وخطأٌ وخطلٌ وزلل، لا يوافق خيرة الله، ولا نتيجة نظر الإمام (علیه السلام) .

ونحسب أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) تعامل مع ابن عبّاسٍ هنا بالحِلم وسعة الصدر والمداراة، في محاولةٍ لإقناعه بما يناسب مستواه ومقدار عقله ورأيه ونظره، كما كان يفعل (علیه السلام) مع سائر الناس من المداراة وإعطاء كلٍّ حسب طاقته وتحمّله واستيعابه وتفكيره.

وأمّا ما ذكره ابن أعثم:

فقال له الحسين (علیه السلام) : «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبُّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

فإنّ فيه بياناً واضحاً أتينا على تفصيل الكلام فيه في أكثر من موضع،

ص: 92


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

فلا نعيد.. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ جواب الإمام (علیه السلام) فيه _ بغضّ النظر عمّا في كلامه (علیه السلام) من إخبارٍ غَيبيّ _ ما يكفي لمن زوّده الله بمقدار الضرورة من العقل أن يفهم ويُدرك موقف الإمام (علیه السلام) ، وأنّ القتل أَمامه، وأنّ الأعداء سوف لن يتركوه حتّى يقتلوه، فإنْ يُقتَل في العراق أحبّ إليه من أن يُقتَل في مكّة، فهو إن بقيَ في مكّة مقتول، مقتول! فالعدوّ يريد قتله ولا زال يلاحقه، والإمام (علیه السلام) لا يريد أن يُقتَل في مكّة، وبقاؤه في مكّة يعني قتله، وهذا ما لا يفهمه ابن عبّاسٍ أو لا يريد فهمه، لذا قال له الإمام (علیه السلام) بعد أن أفصح له عن الموقف بشكلٍ واضح: «وأنا مع ذلك أستخير الله، وأنظر ما يكون».

يعني إنّي قد أوضحتُ وبيّنتُ لك أنّ بقائي في مكّة يعني قتلي، وإنّي لا أُحبُّ أن أُقتَل بمكّة، وأنْ أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ، فالخيار في موضع القتل، أمّا أصل القتل فقد عزم عليه العدوّ وصمّم وأعدّ واستعدّ وجهّز وأقدم، فلا محيص عنه، ومع اتّضاح ذلك وانكشافه انكشافاً تامّاً لكلّ عاقل، ومع ذلك، فإنّ الإمام (علیه السلام) قال: «سأستخير الله، وأنظر ما يكون».

* * * * *

هذا الجواب يبدو أوفق وأكثر مناسبةً لأجوبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأوفق وأكثر مناسبةً لحال ابن عبّاس ومستوى إدراكه وفهمه، وطريقته في الإلحاح والسماجة والإصرار ومحاولة إقناع الإمام (علیه السلام) وشرح الصورة له،

ص: 93

وكأنّها غائبة عن العالِم بالله لكلّ حاضرٍ وغابرٍ ومستقبل.

وقد ورد كما رأينا في أُمّهات المصادر القديمة الّتي تُعَدّ في الطراز الأوّل من المصادر التاريخيّة، والله العالم.

الجواب الثاني: كتبهم وكتاب مسلم (علیه السلام)
اشارة

إختلف أبو الفرج في نقل المحاورة عموماً، حيث اختصرها وقال:

فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلّا خاذليك.

فقال له: «هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم» ((1)).

واختلف سبط ابن الجوزيّ أيضاً في روايته كعادته، فنقل المحاورة كالتالي:

فجاء إليه ابن عبّاس ونهاه عن ذلك، وقال له: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه، وفعلوا ما فعلوا.

فقال: «هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ المسير لقتال أعداء الله».

فبكى ابن عبّاس وقال: وا حسيناه! ((2))

ص: 94


1- مقاتل الطالبييّن لأبي الفرج: 72.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

وفي (التبر المذاب) للخافي الشافعي:

فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)».

فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه! ((1))

* * * * *

يمكن أن يُلاحَظ على الجواب الثاني عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولى: تفرّد أبي الفرج

يبدو أنّ ما نقله الخافي الشافعيّ في (التبر المذاب) أخذه عن سبط ابن الجوزيّ، وقد تتبّعنا مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) فيه عند تحقيقنا له، فوجدناه يروي عنه ويتابعه وينقل عنه حرفيّاً.

ولا يبعد أن يكون (سبط) قد أخذ عن أبي الفرَج، بَيد أنّه نقل المضمون وتصرّف بنحوٍ ما في العبارة، ولم نجد ما قاله أبو الفرج وسبط ابن الجوزيّ في غيرهما من المصادر حسب الفحص.

وعلى كلّ حال، فإنّ المصدر الأسبق لهذا الجواب بهذه الصورة بالذات إنّما هو أبو الفرج، إلّا ما سنذكره بعد قليلٍ من رواية المسعوديّ القريبة ممّا ذكره أبو الفرج.

ص: 95


1- التبر المذاب للخافي: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
الملاحظة الثانية: زيادات سبط ابن الجوزيّ

يُلاحَظ أنّ ما ذكره أبو الفرج هو استشهاد الإمام (علیه السلام) بكتب القوم الّتي معه، وكتاب المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) الّذي يُخبِر فيه باجتماعهم، وينتهي النصّ عنده إلى هذا الحدّ.

أمّا الزيادة الواردة في كلام سبط ابن الجوزيّ من وجوب المسير عليه لقتال أعداء الله، فقد تفرّد بها هو دون غيره من المؤرّخين، حتّى أبو الفرج لم يروِها، وقد امتازت رواية سبط ابن الجوزيّ بهذا النفَس، وقد أتينا على تفصيل ذلك في دراسة لقاء الفرزدق والإمام الحسين (علیه السلام) (مطبوع)، فلا نعيد.

الملاحظة الثالثة: إخبار ابن عبّاس بمقتل المولى الغريب (علیه السلام) !

مرّ معنا قبل قليلٍ أنّ ابن عبّاس قد ذكر للإمام (علیه السلام) مقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فكيف يستشهد الإمام (علیه السلام) هنا بكتاب مسلم (علیه السلام) نفسه باجتماعهم؟!

غير أنّ هذه الملاحظة يمكن أن يُردّ عليها أنّ النص المذكور آنفاً يتهافت بما فيه، فلا يقوم لمقابلة النصوص الأُخرى، فيبقى هذا النصّ سالماً لا يعارضه، لأنّ من رواه لا يقول بمقتل المولى الغريب (علیه السلام) حين اللقاء والمحاورة.

الملاحظة الرابعة: كتب القوم وكتاب المولى الغريب (علیه السلام)

ص: 96

المسوّغ الّذي ذكره سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس في متن أبي الفرج ينصّ على الاعتماد على كتبهم الّتي معه، وكتاب المولى الغريب مسلم (علیه السلام) باجتماعهم، وهو بالرغم من انفراده وتأخّره بالنسبة إلى المتون المتقدّمة عليه، إلّا أنّه ليس غريباً عن مجريات الأحداث وتقريرات الواقع يومها، إذ أنّ جملة الكتب كانت كثيرة، وإن كانت بالنسبة إلى مجموع سكّان الكوفة لم تكن سوى أقلّيّة، كما فصّلنا الحديث في ذلك في مجموعة (المولى الغريب (علیه السلام) _ وقائع السفارة)، كما أنّ كتاب المعتمَد الأوّل (مسلم بن عقيل (علیهما السلام)) الّذي وصل سيّد الشهداء (علیه السلام) (على فرض وصوله يوم حصول المحادثة مع ابن عبّاس) كان ينصّ على اجتماع القوم على نصرته (علیه السلام) ، فيدور الأمر حينئذٍ _ كما أشرنا فيما سبق _ بين القتل المحتوم في مكّة وهتك حرمة البيت والدم المقدّس في الحرم، وبين النصرة المحتملَة، وإن كان احتمال الغدر والخذلان قائماً فيهم بناءً على سوابقهم وتاريخهم مع أبيه وأخيه، ولا شكّ أنّ قصد الموضع الّذي فيه احتمال النصرة أقوى وهو قصدٌ صحيحٌ صائب، والبقاء في الموضع الّذي يكون القتل فيه محتوماً أو على الأقلّ محتمَلاً احتمالاً منجَّزاً مع الجزم بعدم وجود الناصر والمعين والمدافع _ ولو زعماً وادعاءً _ خطأ وغير صائب.

أضف إلى أنّنا قد ذكرنا أكثر من مرّةٍ وفي غير موضع، أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان عالماً _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ بغدر المكاتبين

ص: 97

ومتوقّعاً خذلانهم، وقد أرسل أخاه وابن عمّه المولى الغريب (علیه السلام) ليتحقّق من ذلك ميدانيّاً، وهو قد عاش المجتمع الكوفيّ بنفسه وخَبَرَهم، بَيد أنّه كان يقصد القليل الديّانين فيهم من الّذين كاتبوه أو انتظروه ليدفعوا عنه ويذبّوا عن حرم الله وحرم رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقد فعلوا وثبتوا حتّى أدّوا ما عليهم، وهم يخشون أنّهم قد قصّروا، فجزاهم الله خيراً.

الملاحظة الخامسة: زيادة سبط ابن الجوزيّ

لقد ناقشنا مفصّلاً نصّ سبط ابن الجوزيّ، وأشرنا إلى ما فيه من ملاحظاتٍ تجعل مَن يتعامل معه يتريّث ويتردّد أكثر من مرّةٍ قبل قبوله والإذعان به، وتبيّن لنا أنّ هذا النمط من المتون جاء متأخّراً، وهو نَفَسٌ جديدٌ تميّز عن المتون السابقة له طرّاً.

ومع ذلك، فإنّ المتن مبنيٌّ أساساً على تصوير سابقة لحركة الإمام (علیه السلام) رسمها يزيد في كتابه لأهل المدينة ولابن عبّاس، وأمر واليه أن يقرأه على أهل الموسم، تقوم على أساس إقدام الإمام (علیه السلام) على محاربة يزيد القرود وابتدائه طمعاً في الخلافة، واستجابةً لمكاتبات أهل الكوفة له، وأنّهم منّوه الخلافة ومنّاهم الإمارة.

ومسير الأحداث وبيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) تأبى ذلك تماماً، كما يأباه إجماع المؤمنين الشيعة وعلمائهم الأبرار.

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) لا يتحرّك وفق ما يرسمه له الناس، وإنّما يتحرّك وفق

ص: 98

ما يأمره به الله (تبارك وتعالى).

أجل، إلّا أن يقال: أنّ المقصود من وجوب المسير لقتال أعداء الله بمعنى أنّ الناصر قد حصل في الكوفة، فوجب أن أتوجّه إليها للدفاع عن نفسي وقتال أعداء الله الّذين يريدون قتلي، فيستقيم المقصود مع مجريات الأحداث وبيانات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بَيد أنّ هذا القيل لا ينسجم مع سياقات سبط الجوزيّ وطريقة عرضه لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى الكوفة.

الملاحظة السادسة: بكاء ابن عبّاس وندبته

أفاد سبط ابن الجوزيّ وتبعه الخافي الشافعيّ أنّ ابن عبّاسٍ بكى بعد أن سمع جواب الإمام (علیه السلام) ، وندبه قائلاً: وا حسيناه!

وهذا يعني أنّ ابن عبّاس كان جازماً قاطعاً باتّاً بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في سفره هذا نحو الكوفة، وقد أخبر بذلك الأنبياءُ والأوصياء (علیهم السلام) ، وحاول ابنُ عبّاسٍ أن يُثني الإمام (علیه السلام) عن عزمه، رغم علمه بالأحاديث من جهة، وعلمه بعلم إمام الكائنات بما حدّث به الأنبياء، وبما حذّره منه ابن عبّاس، فبكى وندب الإمام (علیه السلام) ، ليُعلن للناس أنّه على صوابٍ حينما منع سيّد الشهداء (علیه السلام) عن المسير إلى الكوفة، وربّما ليُقال فيما بعد: لقد صدق ابن عبّاس، وعرف وتنبّأ بما سيؤول إليه أمر الإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 99

وربّما بكى لما سيجري على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله الكرام (علیهم السلام) ، وهو واثقٌ من وقوع ما لا يتمنّاه ويرجو أن لا يقع!

الوقفة الرابعة: اقتراح اليمن
اشارة

قال المسعوديّ:

أتاه ابن العبّاس فقال له: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإنْ أبَيتَ إلّا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكّة فاشخصْ إلى اليمن؛ فإنّها في عزلة، ولك فيها أنصارٌ وإخوان، فأقِمْ بها، وبُثّ دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيُخرِجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها ولم يكن بها أحدٌ يُعاديك أتيتَهم، وما أنا لغدرهم بآمِن، وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشِعاباً.

فقال الحسين (علیه السلام) : «يا ابن عمّ، إنّي لَأعلمُ أنّك لي ناصحٌ وعلَيّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعتُ على المسير إليهم».

قال: إنّهم من خَبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وقتلَتُك غداً مع أميرهم، إنّك لو قد خرجت فبلغ ابنَ زيادٍ خروجُك استنفرهم إليك، وكان الّذين كتبوا إليك أشدّ من

ص: 100

عدوّك ((1)) ...

قال سبط ابن الجوزيّ:

وذكر المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب):

إنّ ابن عبّاس قال له: إنْ كرهتَ المقام بمكّة خوفاً على نفسك فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها عزلة، ولنا بها أنصارٌ وأعوان، وبها قلاعٌ وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلّموها إلى نائبك فسِرْ إليهم، فإنّك إن سرتَ إليهم على هذه الحالة لم آمن عليك منهم ((2)).

وفي (المقتل) للخوارزميّ:

فإن كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص فصِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين: «لابدّ من العراق!» ((3)).

* * * * *

ورد اقتراح اليمن على لسان ابن عبّاس هنا ضمن هذه المحادثة، وسنكتفي بجملةٍ من التنويهات في المقام:

ص: 101


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
التنويه الأوّل: قبل اقتراح اليمن

ما ذكره المسعوديّ من كلام ابن عبّاس قبل أن يقترح عليه التوجّه إلى اليمن يكاد يكون بنفس المضمون الّذي ذكره غيرُه من المؤرّخين الّذين ذكرناهم في الوقفات السابقة، إلّا بعض الفوارق من قبيل أنّه تكلّم من دون تردّدٍ أو تعبيرٍ عن كونه يأمن أو لا يأمن على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقال: «إنّ أهل العراق أهل غدر»، وبتّ في كونهم إنّما يدعونه للحرب، وأمره أن لا يعجل!

وحاول تفسير سبب مغادرة الإمام (علیه السلام) _ في متن المسعوديّ _ أنّ الإمام (علیه السلام) يأبى إلّا محاربة يزيد الجبّار، وهو _ أي: الإمام (علیه السلام) _ يكره المقام بمكّة! من دون بيان سبب كراهية الإمام (علیه السلام) لذلك، والحال أنّ الإمام (علیه السلام) قد صرّح بسبب خروجه، وأنّ قتله خارجاً عنها أحبّ إليه من قتله فيها.

التنويه الثاني: التوجّه إلى اليمن

ثمّ إنّه اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يتوجّه إلى اليمن إن كره المقام في مكّة، وأن يعزف عن الكوفة، وقد ناقشنا اقتراحه هذا مفصّلاً فيما مضى من دراسات، سيّما في بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فلا نعيد.

غير أنّنا نودّ التنويه هنا إلى أنّ اقتراح ابن عبّاس هذا باطلٌ زائفٌ خائبٌ خطأٌ لا يحظى بأيّة مصداقيّة، ولا وزن له في موازين الصواب

ص: 102

والحكمة، ولو كان فيه شيءٌ من الصواب لَقبله منه الإمام (علیه السلام) ، أو لكان الإمام (علیه السلام) عاملاً به قبل أن يتفوّه به ابن عبّاس وغيره.

ولا يصحّ _ مع ملاحظة مناقشات الاقتراح بالتفصيل _ أن يُبنى على قول ابن عبّاسٍ أو يُعتبَر خياراً، لتصل النوبة إلى تصنيفه في خيارات الإمام (علیه السلام) أو نسبتها للإمام (علیه السلام) أو دراستها لاحتمال الصواب فيها، فهي على كلّ تقديرٍ نتاج فكر ابن عبّاسٍ وأضرابه، ولم نسمع من الإمام (علیه السلام) ما يصوّبه صراحةً أو يقبل به بوضوح.

التنويه الثالث: إفادة الخطر المُحدِق بالإمام (علیه السلام) في مكّة

يظهر من كلام ابن عبّاس _ برواية المسعوديّ _ أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يشكّل له خطراً، وذهابه إلى الكوفة خطرٌ أيضاً، لذا اقترح عليه أن يرحل إلى أرضٍ معزولةٍ له فيها _ كما يزعم ابن عبّاس _ أنصارٌ وأعوان، فإنْ نجح أهل الكوفة في ما يختبرهم به وأثبتوا له أنّهم قادرون على طرد أعدائه ونصره، وإلّا فلْيبقَ آمناً في اليمن بين حصونها وجبالها وأنصاره! ليكون بعيداً عن مخالب القرود ومتناول سيوفها، ويشهد لذلك ذيل كلام ابن عبّاس: «وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشعاباً».

ويشهد له أيضاً ما رواه سبط ابن الجوزيّ عن المسعوديّ: «إن كرهتَ المقام بمكّة خوفاً على نفسك»، حيث ذكر سبب كراهية الإمام (علیه السلام) المقام في

ص: 103

مكّة خوفاً على نفسه.

كما يشهد له ما سنسمعه بعد قليلٍ في رواية الخوارزميّ: «فإن كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص فصِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس»، إذ يفترض ابن عبّاسٍ هنا أنّ الإمام (علیه السلام) على حالٍ في مكّة لابدّ له أن يشخص منها.

وهذا يعني أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يخشى فيه حتّى ابن عبّاس على نفس الإمام (علیه السلام) ، وأنّه إن بقي فيها فسوف يُقتَل، ولابدّ له من الخروج والرحيل عنها تفادياً لهتك الحرمات.

التنويه الرابع: المقارنة بين رواية المسعوديّ ونقل سبط ابن الجوزيّ

يبدو أنّ سبط ابن الجوزيّ نقل رواية المسعوديّ بالمعنى ولم يلتزم النصّ، فهو قد صرّح أنّه يروي عن المسعودي في كتاب (المروج)، وها هما النصّان أمام النواظر يمكن المقارنة بينهما لنجد الاختلاف في صياغة العبارة والاختصار ونقل ما فهم سبط من كلام المسعوديّ.

إنّما ذكرنا هذا التنويه ليكون تنويهاً منهجيّاً يفيد المُراجع للتاريخ والمُقارِن بين عبارات المؤرّخين، فربّما فسّر لنا التفاوت في نقل الأحداث مع اعتماد بعضهم بعضاً.

التنويه الخامس: رواية الخوارزميّ

مؤدّى رواية الخوارزميّ أنّ ابن عبّاس يفترض في الإمام (علیه السلام) حالاً لابدّ

ص: 104

له أن يشخص من مكّة، فهو لا يمكنه البقاء فيها بحال، فحينئذٍ يوجّهه إلى اليمن لأسبابٍ نصّ عليها، وهي ثلاثة:

أوّلها: إنّ له بها حصوناً، أي أنّ العامل الجغرافيّ سيخدمه ويكون لصالحه.

وثانيها: إنّ فيها شيعةً لأبيه، أي أنّ العامل البشريّ سيكون لصالحه.

وثالثها: يكون منقطعاً عن الناس، ولا ندري ما يقصد بالناس هنا؟ فإنّ في اليمن ناساً أيضاً، فإن كان يقصد ابتعاده عن أهل الكوفة وأهل المدينة ومكّة وغيرها من البلدان الّتي بايعَت ليزيد القرود، وهو يدعو الإمام (علیه السلام) للانقطاع والابتعاد عن الخلق، فكيف افترض ابن عبّاسٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يريد محاربة هذا الطاغوت، وأنّه يريد أن يقاتل يزيد؟!

وكيف كان، فإنّ هذا النصّ أيضاً يفيد بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) كان مطلوباً، وأنّ اليمن ستكون له بلداً آمناً في تصوّر ابن عبّاس، وبهذا سيدفع عن الإمام (علیه السلام) القتل الّذي يلاحقه به يزيد وباقي القرود وذئابها المسعورة.

أمّا أنّ اليمن هل يمكن أن يكون آمِناً للإمام (علیه السلام) ؟ وهل كان أهله على استعدادٍ لنصرة الإمام (علیه السلام) والدفاع عنه؟ وهل كان الذهاب إلى اليمن سينفع الإمام (علیه السلام) على كلّ تقدير، سواءً أكان الإمام (علیه السلام) يريد محاربة يزيد أو يريد الدفاع عن نفسه وأهل بيته؟ فهذا ما أجبنا عليه بالتفصيل، فلا

ص: 105

نعيد.

التنويه السادس: جواب الإمام (علیه السلام)

في متن الخوارزميّ: أجاب الإمام (علیه السلام) ابن عبّاسٍ حينما وجّهه إلى اليمن قائلاً: «لابدّ من العراق!» ((1)).

لابدّ من العراق.. يمكن أن تفسَّر بالعامل الغَيبيّ، وأنّ الإمام (علیه السلام) مأمورٌ مِن قِبَل الله أن يذهب إلى العراق؛ ليُقتَل هناك وفق المخطّط الربّانيّ، وللحكمة الإلهيّة القاضية بذلك، وغيرها من البيانات الّتي تشرح وتبيّن العامل الغَيبيّ ودَوره في حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وتوجّهه إلى العراق.

لابدّ من العراق.. وفق ما ورد من قِبَل أهلها من كتب ورسائل ووعودٍ بالنصرة والذبّ والدفاع عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) ، وما ورده من كتاب المولى الغريب (علیه السلام) يُخبره فيه باجتماع أهل الكوفة.

لابدّ من العراق.. لأيّ غرضٍ أو هدفٍ أو سببٍ ذكره الإمام (علیه السلام) أو لم يذكره، اكتشفه المحقّقون والمحلّلون أم لم يكتشفوه.

فإنّ التقادير كلّها تفيد معنىً واحداً، وتجتمع على تأكيده، وهو خطأ ابن عبّاس، إذ أنّ ابن عبّاس أمر الإمام (علیه السلام) بالتوجّه إلى اليمن، وقال الإمام (علیه السلام) : «لابدّ من العراق».. فأيّهما أحقُّ أن يُتّبَع؟!

ص: 106


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

نحن نعتقد اعتقاداً راسخاً بعصمة خامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (علیه السلام) ، فلابدّ أن يكون ابن عبّاسٍ قد أخطأ خطأً فضيعاً، نسأل الله السداد والتأييد.

الوقفة الخامسة: حكاية ابن شهرآشوب

قال ابن شهرآشوب:

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُنْ باليمن لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين» ((1)).

فأتاه ابن عبّاسٍ وتكلّم في ذلك كثيراً، فانصرف ((2)).

نقل الشيخ ابن شهرآشوب (رحمة الله) قبل كلام ابن عبّاس هذا اعتراض المولى محمّد ابن الحنفيّة وغيره من المعترضين، ثمّ نقل كلام ابن عبّاس مختصراً، ثم اقتطع جزءاً ممّا تفرّد بنقله ابن أعثم في الوصيّة كجوابٍ ارتجاليٍّ

ص: 107


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 143 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94.

من الشيخ (رحمة الله) يصلح أن يكون ردّاً على جميع المعترضين.

فهو (رحمة الله) ينقل أوّلاً كلام ثلاثةٍ من المعترضين على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم: ابن الحنفيّة، وابن مطيع، وابن عبّاس، ثمّ يقتطع نصّاً من الوصيّة، فيجعله ردّاً عليهم جميعاً بلفظ: «فقال»، وكأنّه قولٌ له وليست وصيّة!

ومن الملاحَظ أنّ ابن شهرآشوب يعتمد في رواية مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) كثيراً على الخوارزميّ وابن أعثم، كما يبدو جليّاً لمن تتبّعه، وقد لاحظنا ذلك بوضوحٍ عند تحقيق كتاب (المناقب) الّذي طُبع في اثني عشر مجلَّداً.

وقد اعتاد ابن شهرآشوب على النقل بالمعنى، أو ترميم النصّ وتقليمه والانتقاء منه، وعدم الالتزام الدقيق والنقل الحرفيّ عن المصادر، وهذا مُلاحَظٌ بوضوحٍ لمن تتبّع منهجه (رحمة الله) في النقل.

لذا فإنّنا لا نعتبر الجواب الّذي نقله الشيخ ابن شهرآشوب جواباً مستقلّاً قاله الإمام (علیه السلام) في المقام أثناء المحاورة، وإنّما هو من تجميع النصوص وترميمها والتلفيق بينها ليصلح جواباً على المعترضين الثلاثة في آنٍ واحد، وقد أتينا على مناقشته وتفصيل الكلام فيه في كتاب (ظروف خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة)، فلا نعيد.

الوقفة السادسة: رواية الطبريّ (الشيعيّ)
اشارة

روى الشيخ الطبريّ الشيعيّ (رحمة الله) بسندٍ مرّ ذكره، قال:

ص: 108

عن عبد الله بن عبّاس قال: أتيتُ الحسينَ وهو يخرج إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله لا تخرج.

فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إنْ منعتَني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

قلت له: فأنّى لك ذلك؟

قال: «بسرٍّ سُرّه لي، وعلمٍ أُعطيتُه» ((1)).

وقال الحرّ العامليّ (رحمة الله) :

روى صاحب كتاب (فاطمة وولدها)، بإسناده عن ابن عبّاسٍ قال: لقيتُ الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله لا تخرج.

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟» ((2)).

* * * * *

لا ندري إن كان هذا اللقاء الّذي يرويه ابن عبّاس هنا هو نفسه اللقاء الّذي ذكرته بقيّة المصادر، إذ أنّه يحدّد زمانه بنفس الفترة الواردة في تلك المصادر، وهو عند خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق.

ص: 109


1- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.
2- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.

فإن كان نفس اللقاء، فإمّا أن يكون هذا الجزء بالخصوص قد غيّبَته المصادر التاريخيّة، وقد دار بينهما الحديث وكان هذا المقطع من جملته، وقد اختصر ابن عبّاس في هذا الرواية كلّ ما جرى بمؤدّى كلامه ومؤدّى كلام الإمام (علیه السلام) .

أو أنّه لقاءٌ آخَر غير اللقاء المعهود، وقد أغفل المؤرّخون السابقون ذكره، فأتى مسنَداً عند الشيخ الطبريّ (رحمة الله) .

على كلّ حال، فإنّ الّذي دعانا لسرد هذا المتن ضمن هذا اللقاء إنّما هو تحديد زمن اللقاء، وأنّه كان عند خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وباعتباره تضمّن منع ابن عبّاس وتحذيره الإمام (علیه السلام) من التوجّه للعراق، فهو فيما يخصّ موقف ابن عبّاس يشارك النصوص السابقة عليه، وإنّما يختلف عنها في جواب الإمام (علیه السلام) .

جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

يبدو للوهلة الأُولى أنّ هذا الجواب يمكن أن يُحمَل على التفسير بالعامل الغَيبيّ، وأنّ الله شاء أن يراه قتيلاً في أرض كربٍ وبلاء، وأنّ قاتله لا يكون إلّا يزيد لعين السماوات والأرضين ومَن فيهنّ وما فيهنّ، ولا نريد الخوض في هذا المضمار، فإنّ هذا التفسير له أبعاده ومغازيه ومعانيه وحكمته وتفصيلاته، وقد بنينا البحث هنا على الدراسة التاريخيّة وفق النصوص التاريخيّة، وللدمج بينهما محلٌّ آخَر سنأتي على بيانه في وقته، إن

ص: 110

شاء الله (تعالى) إن بقي في العمر بقيّة.

أمّا وقد أجّلنا الحديث عن العامل الغيبيّ وتأثيراته وآثاره، فلا نأخذ هنا إلّا ما يخصّ الاستفادة من المتن كنصٍّ تاريخيّ، وسنقتصر على الإشارة إلى بعض التلويحات العابرة:

التلويح الأوّل: أما علمتَ؟!

كأنّ قوله (علیه السلام) : «أما علمتَ..» نوع توبيخٍ أو عتابٍ أو تذكيرٍ أو استنكارٍ على ابن عبّاس، إذ أنّه يزعم أنّه راويةٌ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد سمع حسب الفرض عنهما وسمع عن غيرهما أنّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) يوماً مع هؤلاء الظالمين، وأنّه مقتولٌ لا محالة على شاطئ الفرات ظمآناً عطشاناً غريباً فريداً وحيداً لا ناصر له ولا معين من هذه الأُمّة المتعوسة، إلّا مَن كتب الله له السعادة، فبذل دونه ماله ونفسه ودنياه.. فكيف إذن يمنع ابن عبّاسٍ ويلحّ ويصرّ على شيءٍ يزعم أنّه يعلمه ويعلم بكلّ هذه التفاصيل؟!

وربّما قيل: إن كان الحرص على حياة الإمام (علیه السلام) والخوف عليه يدعوه لهذا الإصرار والإلحاح، لَكان بصيغةٍ أُخرى فيها رنّة النياحة والحزن والتسليم بعد أن يُخبره الإمام (علیه السلام) بعزمه على الخروج، تماماً كما فعلَت أُمُّ سلَمة!

التلويح الثاني: علم الإمام (علیه السلام)

ص: 111

حينما أخبر الإمام (علیه السلام) ابن عبّاسٍ أنّ منيّته ومصارع أصحابه في العراق، انبرى ابن عبّاسٍ يسأل الإمام (علیه السلام) عن المصدر الّذي عَرف به ذلك: «فأنّى لك ذلك؟»، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه بسرّ سُرّ إليه وعلم أُعطيه.

يمكن الاستشهاد بسؤال ابن عبّاسٍ هذا على أنّ التقريع والتوبيخ والاستنكار احتمالٌ واردٌ جدّاً في سؤال الإمام (علیه السلام) الأوّل: «أما علمتَ»، فمن العجب الّذي لا ينقضي أن يسأل ابن عبّاس هذا السؤال من الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وهو يزعم أنّه سمع حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحديث أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فكيف لم يسمع مؤدّى كلام الإمام (علیه السلام) منهما؟

ثمّ إنّه بسؤاله هذا تنكّر لمقام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو _ والقياس مع الفارق _ كحال من سألَت النبيّ (صلی الله علیه و آله) : ﴿فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَليمُ الْخَبير﴾ ((1)).

أوَليس يعرف ابن عبّاس مقام الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ومنزلته من الله ومن رسوله (صلی الله علیه و آله) وقربه منهما؟ أوَليس يعرف إمامته؟ فكيف يسأله: أنّى لك ذلك؟!

التلويح الثالث: أعلمُ ما لم تعلم

لقد أجاب الإمام (علیه السلام) ابن عبّاسٍ جواباً يتضمّن تجهيله وكفّه وإيقافه

ص: 112


1- سورة التحريم: 3.

عند حدّه، فابن عبّاسٍ يرى في نفسه عالماً مقرَّباً من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقد وصفه الناس ب- (ترجمان القرآن) وب- (حَبر الأُمّة)، وبصفاتٍ أُخرى كثيرة، تبيّن أنّها لا يمكن أن تُقاس بالإمام (علیه السلام) ، ولا يمكن لابن عبّاسٍ أن يرى في نفسه شيئاً منها إذا قيس بإزاء الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) أخبره أنّه قد أسرّوا إليه وأُعطي علماً مُنع عن ابن عبّاس، فهو لا يُدركه ولا ينبغي له أن يدّعيه، فلْيقِفْ عند حدّه، ولْيُمسِك قدّه وقدره، ولا يجادل الإمام (علیه السلام) فيما لا يعلم، وأنّه لابدّ أن يعرف أنّه لا يعلم كلّ شيء، ولم يُعطَ العلمَ الّذي أُعطي لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وليس للجاهل إلّا التسليم للعالم والانقياد له!

التلويح الرابع: أنصار الإمام في العراق

في رواية الطبريّ:

«أما علمتَ إن منعتَني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

يمكن أن يُستفاد منه بوضوحٍ أنّ الكلام حينما يتوجّه إلى ابن عبّاس الّذي كان _ بناءً على النصوص السابقة _ يلحّ على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم أو يخرج إلى اليمن، وبناءً على هذا الخبر يمنع الإمام (علیه السلام) من الخروج إلى العراق، وهذا يعني بالتالي أحد الأمرين السابقين: (البقاء في مكّة، أو الخروج إلى اليمن)، فقد أجابه الإمام (علیه السلام) جواباً يُفهِمه فيه: إنّك إنْ منعتَني من العراق معناه أنّك منعتني من الذهاب إلى بلدٍ فيه أنصاري،

ص: 113

فليس لي في مكّة ولا اليمن أنصار، وإنّما أنصاري في العراق، فهم هناك ومصارعهم هناك!

فيكون قول الإمام (علیه السلام) : «فإنّ مصارع أصحابي هناك»، أي: إنّ أنصاري هناك، فكيف تمنعني من الذهاب إلى بلدٍ لي فيه أنصارٌ يدفعون عنّي؟!

التلويح الخامس: محاربة عسكر السقيفة في الكوفة!

في لفظ الحرّ العامليّ:

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟».

يُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) فرّق في التعبير عن منيّته ومصارع أصحابه، فقال في منيّته: «من هناك»، وقال في مصارع أصحابه: «هناك».

ربّما أفاد هذا التفريق _ والحديث لسيّد البلاغة والعالِم بجميع اللغات وخفاياها _ أنّه أراد أن يقول: إنّ منيّتي وموتي يأتي من جهة العراق، فسواءً ذهبتُ أنا أو لا فإنّهم سيأتون ويقصدوني، فهو العسكر الّذي أعدّه رجال السقيفة للقضاء على آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وعلى كلّ مَن يرونه عدوّاً وتهديداً لمُلكهم وسلطانهم، فمنيّتي من هناك، ومنعك لا يمنعهم عنّي.

وفي المقابل، فإنّ أنصاري الّذين يضحّون بأنفسهم وأهليهم ودنياهم في الذبّ عنّي في العراق.

فإذا كانت منيّتي من العراق سواءً ذهبتُ أو لم أذهب، وأنصاري الّذين

ص: 114

يدفعون عنّي في العراق، فلماذا إذن تمنعني من الذهاب إلى بلدٍ لي فيه أنصار، وتطلب منّي البقاء في أيّ بلدٍ سواه، وعسكر العراق يمكن أن يلاحقني فيه لأنّ منيّتي من قِبلهم؟!

الإبراز الرابع: النهي عن أخذ النساء والأطفال، والانتقام لعثمان
اشارة

• فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتِل عثمان بين نسائه وبناته، واللهِ إنّي لَأخافُ أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال الحسين: «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت» ((1)).

• فإن عصيتَني وأَبيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة، فلا تُخرجنّ نساءك ووُلدك معك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ من أن أُستحَلّ بمكّة».

ص: 115


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

فيئس ابن عبّاسٍ منه، وخرج من عنده ((1)).

• فقال له ابن عبّاس: أما إذا كنتَ لابدّ فاعلاً، فلا تُخرِج أحداً من وُلدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليقٌ أن تُقتَل وهم ينظرون إليك، كما قُتل ابن عفّان.

فأبى ذلك ولم يقبله.

قال: فذكر مَن حضره يوم قُتل، وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاس فيما أشار علَيّ به ((2)).

• قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءك، فيُقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوَاللهِ ما آمَنُ أن تُقتَل ونساؤك ينظرن، كما قُتل عثمان.

فقال الحسين: «والله يا ابن عمّ، لئن أُقتل بالعراق أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((3)).

• عن المسعوديّ: وإن عصيتَني فاترك أهلك وأولادك هاهنا، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ عليك أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه وأهله ينظرون

ص: 116


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

إليه.

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر مِن سترٍ رقيق.

فلمّا يئس ابن عبّاسٍ منه حزن لفقده ((1)).

* * * * *

يمكن التوقّف مع هذه النصوص في محطّات:

المحطّة الأُولى: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً!

قالوا:

فأبى الحسين (علیه السلام) إلّا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك ... ((2)).

وقالوا أيضاً:

أما إذا كنتَ لابدّ فاعلاً، فلا تُخرج أحداً من ولدك ... ((3)).

ص: 117


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 343.
3- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

يفيد قوله: «فأبى الحسين (علیه السلام) »، وقوله: «أما إذا كنتَ لابدّ فاعلاً».. أنّ نصائح ابن عبّاس وأدلّته كانت كافية، بَيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) تمنّع عليه وأبى أن يأخذ بها، فأقسم له ابن عبّاسٍ أنّه يظنّ أنّه سيُقتَل غداً بين نسائه وبناته، كذا قال ابن عبّاس: «غداً»، فهو يرى قتل سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) قريباً جدّاً وأكيداً جدّاً، وإن عبّر بلفظ الظنّ، فإنّ قسَمَه يفيد أنّ الظنّ هنا بمعنى اليقين.

ويمكن استشعار ما سيأتي في المحطّة الثانية من هذا التعبير.

المحطّة الثانية: إنْ عصيتَني

فإن عصيتني ((1)) وأَبيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة، فلا تُخرجنّ نساءك ووُلدك معك ((2))..

لقد استعمل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الحِلم مع ابن عبّاس، وشرح له الظرف بتفاصيله على كلّ صعيدٍ وفي كلّ اتجاه، غير أنّه لا زال يلحّ ويرتكب ما لا تُحمَد عقباه ولا تُؤمَن بوائقه.

«فإن عصيتَني».. هل يرى ابن عبّاسٍ لنفسه على الإمام (علیه السلام) ولاية، فإذا ترك العمل برأيه يعتبره ابن عبّاس عاصياً، والعياذ بالله؟

ص: 118


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137 _ عن: المسعودي.
2- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

أو يرى أنّه على صوابٍ جازمٍ حازمٍ قاطع، ويرى الإمام (علیه السلام) على خطأٍ أكيد، والعياذ بالله؟

أو يرى له على الإمام (علیه السلام) طاعة، فإذا أمره بأمرٍ ولم يأخذ به الإمام (علیه السلام) يدخل دائرة العصيان؟

هل يرى ابنُ عبّاسٍ نفسه ندّاً للإمام (علیه السلام) ؟

هل يرى ابنُ عبّاسٍ نفسه أعلم من الإمام (علیه السلام) وأعرف منه؟

كيف تجرّأ ابن عبّاسٍ على استعمال هذا اللفظ مع سيّد الكائنات وأعلم الخلق بعد مَن استثناهم الله؟

كيف اقتحم هذه المخاطر، وتجاوز الحدود وجانَبَ الأدب؟ أو أنّه يرى لنفسه مثل هذا الحقّ؟

نرجّح ترك التعليق على مثل هذه السفاهة وإساءة الأدب، ونرجو أن لا تكون أكيدة.

ولا يقال: إنّ استعمال لفظٍ في مقام الخطاب لا يعني بالضرورة لوازمه، فهو إنّما يريد أن يقول للإمام (علیه السلام) : إن لم تكن تعمل برأيي ولم تقبل منّي..

فإنّ السياق يشهد بخلاف هذا التأويل، وظاهر اللفظ يكذب مثل هذا التسويغ.

أضف إلى أنّ مثل ابن عبّاس وما يزعمه في نفسه وينعته به الآخرون لا تتمرّد عليه الكلمات والمفردات، وهو هاشميّ، وابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن

ص: 119

أمير المؤمنين (علیه السلام) !

علاوةً على ذلك، فإنّ الألفاظ والمفردات لها وقعها وجرسها ودلالاتها، ويمكن أن يختار اللفظ المناسب لمقام سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وكم أكّد الله (تبارك وتعالى) على اختيار الألفاظ ورعاية مقام المخاطب: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرينَ عَذابٌ أَليم﴾ ((1))، والآداب القرآنيّة والنبويّة الواردة في هذا الباب كثيرة، يُخرجنا ذِكرها عن موضوع الكتاب.

المحطّة الثالثة: النهي عن حمل العائلة

تكلّم ابن عبّاسٍ هنا بلهجةٍ هجوميّةٍ في محاولةٍ منه لتصوير صواب رأيه وما يذهب إليه.

ومن الغريب أنّه بعد أن حاول شتّى المحاولات وجرّب الأساليب، وسمع من الإمام (علیه السلام) ما يكفي العاقل لتصوّر الموقف، وقد أبان الإمام (علیه السلام) في أكثر من حوارٍ وأكثر من موقفٍ مع ابن عبّاس كلّ ما يؤهّل المخاطَب للفهم والاستيعاب، وكرّر عليه أنّه إنّما خرج من المدينة بعد أن حاصروه وأزعجوه وأغلظوا له وعاجلوه وخيّروه بين القتل المحتّم والمناولة للقرود، وأنّه يعاني من نفس التهديد بمضاعفاتٍ كثيرةٍ ترفع مستوى التهديد إلى حدّ التنفيذ

ص: 120


1- سورة البقرة: 104.

الجزميّ، وأنّه إن بقي في مكّة فإنّه عُرضةً للاغتيال أو الأخذ، ولم يرعوِ ابنُ عبّاسٍ ولم يُدرك ظرف الإمام (علیه السلام) والخطر الجدّيّ المحدق به، أو أنّه لم يُرد ذلك.

عاد ابن عبّاسٍ ليحذّر الإمام (علیه السلام) ، ويكلّمه بلهجة المهدِّد والكاشف له عن المستقبل الخطير، وهو بذلك ينمّ عن قناعته الراسخة أنّ سفر الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة سيكون عاقبته القتل المحتوم، غير أنّه غفل أنّ المخاطر المحيطة بالإمام (علیه السلام) بذاتها تهدّد أهله وعياله وإخوانه وأخواته ونساءه وأطفاله وباقي عياله.

وغفل _ على ما يبدو _ أنّ نفس إخراج الأهل والعيال والنساء والأطفال مع الإمام (علیه السلام) شاهدٌ قويٌّ على أنّ الإمام (علیه السلام) لم يخرج من المدينة لحرب الطاغوت والإعداد لإسقاطه وإنزاله من أعواد المنبر المغتصَب، وإنّما هو قد خرج مهدَّداً في نفسه وأهله، ولم تكن بلدةٌ بعد الحرمَين الآمنَين آمنةً له ولهم.

لم يخرج _ فداه العالمين _ بعُدّةٍ وعَدد، ولم يستنهض أحداً، وإنّما خرج متخفّياً من المدينة، ودخل مكّة مستأمِناً، وخرج منها قاصداً الأرض الّتي وعده فيها الأبرار الأوفياء بالنصرة، ووعده الزبد المتموّج المتلوّن بالنصرة أيضاً، فوجد فيها ما لم يجده في مكّة والمدينة، فهو يريد أن يتوجّه إليهم على أن تبقى العائلة في حمايته وحماه وحماية الأشاوس الأبطال من

ص: 121

الهاشميّين، من قبيل عليّ بن الحسين السجّاد وعليّ الأكبر وأبي الفضل العبّاس، وغيرهم من الأنصار الّذين بذلوا مُهجَهم دون آل الله.

وسيأتي الحديث عن سبب إخراج الإمام (علیه السلام) عائلته معه مفصّلاً في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

المحطّة الرابعة: أسباب التحذير عن حمل العائلة

روى ابن سعدٍ وابن عساكر والمزّي وابن كثير وغيرهم أنّ ابن عبّاسٍ حذّر الإمام (علیه السلام) من حمل بناته ونسائه وأولاده معه؛ لئلّا يُقتَل وهم ينظرون إليه، تماماً كما قُتِل عثمان، وأكّد للإمام (علیه السلام) أنّه يخاف أن يكون الّذي يُقاد به عثمان ((1)).

وفي لفظ الخوارزميّ تصريحٌ يشرح معنى القود المذكور في كلام ابن عبّاس:

ص: 122


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 72، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

فيُقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوَاللهِ ما آمَنُ أن تُقتَل ونساؤك ينظرن، كما قُتل عثمان ((1)).

قد يبدو للوهلة الأُولى أنّ ابن عبّاس يخاف على العائلة أن تُروَّع بالنظر إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو يُقتَل، غير أنّ متابعة النصوص تفيد أنّ ما يريد التركيز عليه ابن عبّاسٍ هو ليس هذا، وإنّما هو أن يُقاد لعثمان من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيقتلونه بنفس القتلة الّتي قُتل بها صاحبهم.

فالمهمّ في الكلام إذن هو: (القود) و(الثأر) لدم عثمان، وليس كلام ابن عبّاس هذا غريباً، فهو يحاكي _ بنحوٍ ما _ ما صرّح به القرد المخمور في مجلسه يوم وضع رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بين يديه وجعل يضربه بمخصرته ويتبجّح بالأبيات المعروفة الّتي خاطب بها فطائسهم في بدر: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ...».

وهو نفس مؤدّى كلام ابن زيادٍ يوم أمر بمنع الماء عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهله ورهطه وعياله، ليُقتَل عطشاً كما قُتل عثمان.

فابن عبّاس هنا يُخبِر عن دوافع القوم وكوامنهم، ويريد أن يُعرِب لسيّد الشهداء (علیه السلام) عن أمرٍ غير خفيّ عليه..

أجل، لقد عَدَوا على خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ومَن معه من آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، فقتلوهم ثأراً لدماء فطائسهم وثأراً لدم عثمان الّذي قاتلوا

ص: 123


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

بذريعته سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإنّ حربَي الجمل وصفّين ما كانتا إلّا بهذه الذريعة، سواءً أكانوا مجدّين في ذلك أو أنّهم اتّخذوه ذريعةً ليصلوا إلى مآربهم.

فالانتقام لدم عثمان من الدوافع المهمّة الّتي دفعَت العدوّ لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما كان الانتقام لفطائس بدر والجاهليّة دافعاً أساسيّاً لارتكابهم الجناية العظمى في تاريخ البشريّة.

وفي ذلك إشارة _ بل دلالةٌ واضحة _ أنّ العدوّ كان قاصداً دم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، مخطِّطاً مبيِّتاً له عازماً على قتله، بل كان عازماً على قتله على مرأىً من نسائه وبناته وأولاده، فكان العيال والنساء والبنات والأولاد مقصودين تماماً كما كان سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه مقصوداً مطلوباً.

فإذا كانت خطّة العدوّ تقوم على الانتقام لدم عثمان من أمير المؤمنين ومن سيّد الشهداء (علیهما السلام) وقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) على النحو الّذي قتلوا به عثمان، فإنّ هذا يؤكّد أنّ العيال والنساء والبنات كانوا هدفاً للعدوّ.

لقد أصحر ابن عبّاس هنا عن واحدٍ من أهمّ العوامل والدوافع المحرّكة للعدوّ نحو قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سواءً كان ذلك بتحليله من خلال قراءته للأحداث ومعرفته بالعدوّ وأخلاقيّاته وسلوكيّاته وأحقاده وأضغانه، أو كان ذلك لشيءٍ سمعه منهم أو تتبّعه في تصريحاتهم سابقاً ولاحقاً.

ولنا مع كلام ابن عبّاس هذا وقفةٌ طويلةٌ إن شاء الله فيما بعد عند دراسة دوافع القوم لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وبيان أنّ حركة سيّد

ص: 124

الشهداء (علیه السلام) كانت دفاعيّةً محضةً منذ خروجه من المدينة إلى حين استشهاده، وأنّ القوم كانت عندهم محرّكاتٌ ودوافع وثارات لا تسكن دون قتله وسبي عياله، وأهدافٌ لا تتحقّق إلّا بسفك الدم المقدّس ودماء من معه.

المحطّة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

رُويَت عدّة أجوبةٍ للإمام (علیه السلام) على هذا المقطع من كلام ابن عبّاس:

الجواب الأوّل: «إنّك شيخٌ قد كبُرتَ»
اشارة

يبدو أنّ أوّل مَن روى هذا الجواب هو ابن سعد، وهو الأقدم، وتبعه كثيرون، وهم الأكثر بالقياس إلى الأجوبة الأُخرى.

ويمكن الإشارة إلى بعض ما يمكن أن يُلاحَظ في هذا الجواب:

الإشارة الأُولى: إنّك شيخ!

ورد في حديث أهل البيت (علیهم السلام) أنّ مَن تجاوز الأربعين من عمره فهو شيخ، وبهذا يصدق على ابن عبّاسٍ أنّه شيخٌ من حيث سِنّه.

بَيد أنّه لم يكن في عمره أكبر من الإمام الحسين (علیه السلام) كثيراً، فهو على أعلى التقادير في سِنّه أنّه كان يوم رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الثالثة عشر من عمره، فتكون ولادته ثلاث سنين قبل الهجرة، فهو بحساب السنين أكبر من سيّد الشهداء (علیه السلام) بخمسٍ أو ستّ سنين على أقصى التقادير.

أي: أنّه يربو على الستّين بسنتين أو ثلاثٍ يوم الطفّ.

ص: 125

وهذا الفاصل القصير في السنّ بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس لا يجعل لكلمة: «إنّك شيخٌ قد كبرت» ((1)) معنىً ومؤدّىً سوى التوبيخ والتعريض!

وبكلمةٍ أوضح: إنّها كنايةٌ عن الخرف والخطَل والتخليط وضعف العقل وسخفه وانطماس المدارك..

فكأنّ الإمام (علیه السلام) _ حسب هذا النصّ _ يقول لابن عبّاس: إنّك شيخٌ مخرّفٌ لا تعي ما تقول، ورأيُك أفن، ونظرك لا يمكن الاعتماد عليه، فدَعْك عنّي.

الإشارة الثانية: أدب سيّد الشهداء (علیه السلام)

ربّما يُعترض على مثل هذا الجواب فيقال: إنّه لا ينسجم مع ما عرفناه من أدب سيّد الشهداء (علیه السلام) والأئمّة النجباء (علیهم السلام) في الحديث مع من يكبرهم في السنّ، ولو كان بسنةٍ أو سنتين، وبرعايتهم لحرمة الرحم، والصلة والقرابة والصداقة والصحبة، بل مطلق الأدب في خطاب الآخَر،

ص: 126


1- ترجمة الإمام الحسين من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164. سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

وإن كان من الأعداء، ولنا في خطابات سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أعدائه وقتلَتِه في كربلاء شاهدٌ ودليل، فهو قد خاطب أعداءه وقتلَتَه في أشدّ ساعات كربلاء كرباً وبلاءً ومصيبةً وعناء، بعد أن ترجّل للموت على رمضاء كربلاء وحالوا بينه وبين رحله، فصاح بهم معدن الأدب والكرم والإباء:

«ويحكم يا شيعة آل سفيان! إنْ لم يكن دينٌ وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم أعراباً كما تزعمون».

فناداه الشمر بن ذي الجوشن (لعنه الله): ماذا تقول يا حسين؟

قال: «أقول: أنا الّذي أُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس لكم عليهنّ جناح، فامنعوا عُتاتكم وطغاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً».

فقال الشمر: لك ذلك يا ابن فاطمة.

ثمّ صاح الشمر بأصحابه وقال: إليكم عن حريم الرجل، واقصدوه في نفسه ... ((1)).

ص: 127


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 214، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 74، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 407، تاريخ الطبري: 5 / 450، نهاية الإرب للنويري: 20 / 58، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 187، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 79، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 72، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 32، الكامل لابن الأثير: 3 / 294.

فربّما قيل: إنّ من البعيد جدّاً أن يخاطب سيّد الشهداء (علیه السلام) ابن عبّاس بهذا الخطاب القويّ.

وربّما قيل: إنّ الموقف كان يستدعي ذلك، إذ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد داراه مداراةً عظيمة، وفهّمه وشرح له في أكثر من موقفٍ وموطنٍ بواضح العبارة، وبيّن له الظروف والضرورات بما تتّضح معه الصورة للأعمى والغبيّ، فلا داعي للإصرار، فربّما كان الموقف يستدعي أن يوبّخ ابنَ عبّاسٍ توبيخاً يُوقِفه عند حدّه، لأنّه قد تطاول على الإمام (علیه السلام) وتعامل معه بجفوةٍ وقسوةٍ وسوء أدب، وخاطبه مخاطبة الآمِر الناهي المتعالي عليه في المقام، وكأنّه له على الإمام (علیه السلام) طاعةٌ واجبة، وانقيادٌ مفروض، وتسليمٌ حتميّ، فوضعه الإمام (علیه السلام) في الحجم المناسب له، ليسكت ويعرف كيف يتكلّم إذا وقف بين يدَي العظماء أولياء الله الّذين فرض الله طاعتهم.

وقد عامله الإمام (علیه السلام) بأدبه الرفيع، حيث كنّى له كنايةً ليّنةً جميلة، ولم يستعمل معه الكلمات القويّة الصريحة الّتي يمكن أن تلكمه، والمفردات في جميع اللغات كلّها طوع الإمام (علیه السلام) ، والله العالم.

وربّما قيل: إنّ في هذا الجواب فائدةً أُخرى مهمّةً تأتي على بيان موقف ابن عبّاس من أوّله إلى آخره، وتكشف عن مدى صوابيّة تصريحاته واقتراحاته ومواقفه في تلك الآونة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد أعلن عن خطل

ص: 128

رأي ابن عبّاس وتخليطه لأنّه قد كبر، فلا يُعتَدّ بأيّ شيءٍ يقوله أو يفوه به أو يقيّمه أو يقترحه أو يذهب إليه، فلا يمكن الارتكان إلى كلام ابن عبّاس بعدئذٍ والبناء عليه وتصويبه، أو جعله ممّا يُنظَر إليه ويُحسَب عليه.

وربّما شهد لذلك ما رواه الكلينيّ في (الكافي) الشريف، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال:

بينا أبي جالسٌ وعنده نفر، إذا استضحك حتّى اغرورقت عيناه دموعاً، ثمّ قال: هل تدرون ما أضحكني؟

قال: فقالوا: لا.

قال: زعم ابنُ عبّاسٍ أنّه من ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ((1))!

فقلت له: هل رأيتَ الملائكة يا ابن عبّاس تُخبرك بولايتها لك في الدنيا والآخرة مع الأمن من الخوف والحزن؟

وساق الحديث، وفيه أنّ الإمام (علیه السلام) يستضحك كلّما سأله فجهل الجواب.. إلى أن قال:

قال: فاستضحكت، ثمّ تركتُه يومه ذلك لسخافة عقله، ثمّ لقيتُه ... ((2)).

ص: 129


1- سورة فُصّلَت: 30.
2- الكافي للكليني: 1 / 247 ح 2.

إلى آخر الحديث، وسيأتي عن قريبٍ ذِكره كاملاً.

في هذا الحديث ما يفيد سخف عقل الرجل كما صرّح به الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، وهو عبارةٌ أُخرى عن قول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) : «إنّك شيخٌ قد كبرت».

الجواب الثاني: «لئن أُقتَل خارج مكّة أحبّ»

سمعنا جواب الإمام (علیه السلام) في المصادر القديمة والمصادر الّتي تلتها، بَيد أنّ المسعوديّ روى جواباً آخر، ورواه الخوارزميّ بلفظٍ آخَر لا يشذّ كثيراً عن لفظ المسعوديّ:

• فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ مِن أن أُستحَلّ بمكّة».

فيئس ابنُ عبّاسٍ منه، وخرج من عنده ((1)).

• فقال الحسين (علیه السلام) : «واللهِ _ يا ابن عمّ _ لئن أُقتَل بالعراق أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((2)).

وقد أتينا على بيان مؤدّى هذا الجواب في أكثر من موضع، فلا نعيد.

غير أنّنا نشير هنا إشارةً سريعة:

ص: 130


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

إنّ ابن عبّاس ألحّ على الإمام (علیه السلام) بلهجة الآمِر والمحذِّر، وربّما أفاد كلامه التهديد، وحاول منع الإمام (علیه السلام) عن الخروج من مكّة، فإن عصاه! وأبى إلّا الخروج فلْيتجنب حملَ النساء والأولاد معه! كلّ ذلك والإمام (علیه السلام) يداريه ويجيبه بما يناسب المقام ويقبله العقل السويّ، وكان هذا الجواب من جملة تلك الأجوبة.

ذكرنا في أكثر من موضعٍ أنّ دراستنا هنا تقوم على أساس البحث التاريخيّ، فما كان من المتون والنصوص يفيد الإخبار الغيبيّ نقبل به ونعتقده، غير أنّنا نعامله معاملة الخبر التاريخيّ، ونحاول استنطاقه ضمن الضوابط التاريخيّة وفهم القارئ للتاريخ، بغضّ النظر عن الجانب الغيبيّ، مع التسليم به.

فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبّ إليّ من أن أُستحَلّ بمكّة».

فيئس ابن عبّاسٍ منه وخرج من عنده.

فردّ الإمام (علیه السلام) على ابن عبّاس بقوله: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا» من دون تحديدٍ في لفظ المسعوديّ، وفي لفظ الخوارزميّ: «في العراق» باعتباره كان متوجّهاً إلى هناك، يفيد بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يشير إلى حقيقةٍ ثابتةٍ تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) إنْ بقيَ في مكّة فهو مقتولٌ لا محالة، وهو لا يحبّ أن تُستحَلّ به مكّة، فلابدّ والحال هذه من الخروج من مكّة لئلّا يقع المحذور.

وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) في تلك البرهة الحرجة من الزمان الصعب

ص: 131

كان مضطرّاً للخروج من مكّة؛ لأنّ بقاءه فيها يساوق قتله بلا أدنى شكّ، وهذا هو ما صرّح به الإمام (علیه السلام) في غير موضع.

وهذا يعني أيضاً أنّ دعوة ابن عبّاس الإمام (علیه السلام) للبقاء في مكّة دعوةٌ خاطئة.. باطلة.. زائفة.. سخيفة.. لا تُنتجُ سوى قتل الإمام (علیه السلام) في الحرم الإلهيّ.

فابن عبّاسٍ على أصحّ المحامل يكون مخطئاً في إلحاحه على الإمام (علیه السلام) ، وإصرارِه على بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة أو رجوعه إلى المدينة.

فلابدّ من الخروج عن مكّة.. ولكن إلى أين؟

إلى اليمن؟! كما زعم ابن عبّاس في بعض النصوص، فقد أتينا على بيان خطأه، ويكفي في إثبات خطأ هذا الاقتراح إعراض الإمام (علیه السلام) عنه وترك العمل به، بغضّ النظر عمّا ذكرناه من الشواهد والمشاهد والظروف والأسباب.

وكذا الكلام في باقي البلاد الأُخرى ممّا كان يسمّى (بلاد المسلمين)، فلا يبقى إلّا العراق، وهو الموضع الّذي ذكره الإمام (علیه السلام) وقال: «لئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة»، فقد ذكرنا في أكثر من موضع أنّ للإمام (علیه السلام) في العراق أنصاراً ربّانيّين ديّانين قليلين، وله أنصارٌ وَعَدُوه النصرة، وإن كانوا كاذبين، وهو ما لم يتوفّر في غيرها من البلدان، إضافةً إلى أنّ «ما قضى اللهُ فهو كائن»!

ص: 132

ومع ذلك، فقد وعد الإمام (علیه السلام) _ حسب متن الخوارزميّ _ أن يستخير الله وينظر ما يكون ((1))، وقد توجّه الإمام (علیه السلام) أخيراً إلى العراق، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) قد استخار الله فخار الله له العراق، ونظر الإمام (علیه السلام) ما يكون، فكان نظره التوجّه إلى العراق، ولا تُقاس خيرة الله ولا يُقاس نظر الإمام (علیه السلام) بخيرة ابن عبّاس ونظره!

وبعد أن تبيّن مخالفة نظر ابن عبّاس وأمره وما ألحّ عليه وأمر به لخيرة الله وما اختاره الإمام (علیه السلام) ، يتبيّن بوضوحٍ خطأ ابن عبّاس ومجانبته للصواب.

الجواب الثالث: فأبى ذلك ولم يقبله

يبدو أنّ أبا الفرج ذكر نتيجة ما أدّى إليه اللقاء، فقال: «فأبى ذلك ولم يقبله» ((2)).

وقد عبّر المسعوديّ عن ذلك من خلال التعبير عن حال ابن عبّاس فقال: «فيئس ابن عبّاسٍ منه وخرج مِن عنده» ((3)).

وقول سبط ابن الجوزيّ: «فلمّا يئس ابن عبّاسٍ منه حزن

ص: 133


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
3- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64.

لفقده» ((1)).

وكلا العبارتين توحيان للمتلقّي أنّ ابن عبّاس قد أدّى ما عليه من النصح، وقدّم للإمام (علیه السلام) الخيار الأفضل والموقف الأصوب، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) أبى عليه ولم يقبل منه، وقد حاول ابن عبّاسٍ مع الإمام (علیه السلام) كلّ محاولةٍ وسلك كلّ واد، وأتى بجميع الحجج والأدلّة المقنعة، لكنّه لم يفلح في إقناع الإمام (علیه السلام) ، فيئس منه وخرج من عنده، وممّا يشهد لمحاولتهم هذه ما سيأتي بعد قليلٍ في المحطّة القادمة.

وقد تبيّن لنا من قبل قليل أنّ هذا الإيحاء باطلٌ زائف، لا ينهض بما يريده المؤرّخ ولا يصمد أمام النقد.

ولو أغمضنا النظر _ وهو فرضٌ محال _ عن عصمة خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وعلمه الإلهيّ، فإنّ الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) _ وهو أكبر شخصيّةٍ وأعظم رجال عصره بلا منازع _ قد عاصر وعاش ما عاشه ابن عبّاس، ورأى ما رآه، فلو تعارض نظرهما وقولهما، فإنّ المرجّح بلا أدنى شكّ قول سيّد الشهداء (علیه السلام) ونظره، وفق الموازين الظاهريّة، وممارسة الإمام (علیه السلام) للقوم منذ عصر السقيفة، وهو في مركز الأحداث يعالج الناس والملوك والطواغيت معالجةً مباشرة، ويعرفهم ويراهم، ولا مقارنة في زمانه بينه وبين ابن عبّاس، ولا غير ابن عبّاس من جميع البشر.

ص: 134


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
المحطّة السادسة: تذكّر الإمام (علیه السلام) إشارة ابن عبّاس يوم عاشوراء
اشارة

روى أبو الفرج الأُمويّ في (مقاتله) قائلاً:

فذكر مَن حضره يوم قُتل، وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاس فيما أشار علَيّ به ((1)).وعلّق سبط ابن الجوزيّ على نهي ابن عبّاسٍ عن إخراج النساء والبنات قائلاً:

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر من سترٍ رقيق.

فلمّا يئس ابن عبّاسٍ منه حزن لفقده ((2)).

* * * * *

يمكن نكز هذا الهراء بعدّة نكزات:

النكزة الأُولى: مؤدّى الكلام

كِلا المتنين يشيران إلى ندم سيّد الشهداء (علیه السلام) على مخالفة ابن عبّاس، وإقراره بصواب رأي ابن عبّاس!

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، ونستغفر الله

ص: 135


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

ونعتذر إلى مليكنا وسيّدنا وسيّد الخلق خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) مِن ذِكر هذا الهراء والكذب والافتراء التافه الساقط الهابط الّذي يجرح القلوب، ويعذّب الأرواح، ويصمّ الأسماع، ويخدش ساحة القدس، ويتعدّى على الحقّ والحقيقة، وينمّ عن نذالة، وتهاوٍ في القيَم، وانقلابٍ في الموازين، وتعرٍّ فاضحٍ للخداع، وتبديل نعمة الله، وتقديم الذنابى، وتصحيح غير المعصوم، والطعن بمن ليس فيه مغمَزٌ ولا مهمَز!

فبئس الكذبة الّتي تترك المتلقّي ذاهلاً حيالها، لا يدري كيف يستوعب جرأة هؤلاء الأوباش على أولياء الله الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً!

إنّ هذه الصورة الكالحة القبيحة المشوَّهة لا تستحقّ النقد والوقوف عندها، فهي محاولةٌ بائسةٌ يائسةٌ منكوبة، تحاول تقديم ابن عبّاس كرجلٍ يفوق هو وأبوه في النظر والتدبير واستشراف المستقبل أميرَ المؤمنين (علیه السلام) وأولادَه المعصومين (علیهم السلام) .

لم يكتفوا بتقديم ابن عبّاسٍ كعَلَمٍ منافسٍ وندٍّ لأمير المؤمنين، فوصفوه بحَبر الأُمّة، وترجمان القرآن، ومفسّر القرآن، وغيرها من الألقاب المغصوبة من أمير المؤمنين (علیه السلام) الّتي نحلوها له، ليجعلوه عَلَماً يمكن لرجالهم الاحتماء به، وتوظيفه كغطاءٍ شرعيّ يمتّ إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، بعد أن قرّروا أنّ العمّ أَولى بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) من ابن العمّ، وحاولوا جعل الرابط الوثيق _ في تصويرهم _ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) من خلال ابن عبّاس الحبر العالم، كما وصفوه، ليكونوا على

ص: 136

تماسٍ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتحت غطاء بني هاشم بإزاء أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الوصيّين وصاحب بيعة الغدير.

لم يكتفوا بذلك، وإنّما جهدوا لقلب الصورة تماماً، وعرضِ العبّاس وابنه في صورةٍ تجعل لهم الحظّ الأوفر والعلم الأكبر والمقام الأقرب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فوضعوا لتسريب هذه الفكرة المنكوبة المتهرّئة المفكّكة الأوصال والعُرى قصصاً وحكايات، كما سنسمع فيما يلي، والبحث في ذلك طويلٌ ليس هذا موضعه.

النكزة الثانية: بين أمير المؤمنين (علیه السلام) والعبّاس

زعموا أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال للعبّاس نفس ما زعموا أنّه قاله لابنه عبد الله، فقد روى ابن أبي الحديد قائلاً:

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن أبي المنذر وهشام ابن محمّد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال:

كان بين العبّاس وعليّ مباعدة، فلقي ابنُ عبّاسٍ عليّاً فقال: إنْ كان لك في النظر إلى عمّك حاجةٌ فأْتِه، وما أراك تلقاه بعدها.

فوجم لها، وقال: تقدّمْني واستأذِن.

فتقدّمتُه واستأذنتُ له، فأذن، فدخل، فاعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وأقبل عليٌّ (علیه السلام) على يده ورجله يقبّلهما!!! ويقول: يا عمّ، ارضَ عنّي، رضيَ الله عنك. قال: قد رضيتُ عنك.

ص: 137

ثمّ قال: يا ابن أخي، قد أشرتُ عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل، ورأيتَ في عاقبتها ما كرهت! وها أنا ذا أُشير عليك برأيٍ رابع، فإنْ قبلتَه وإلّا نالك ما نالك ممّا كان قبله.

قال: وما ذاك يا عمّ؟

قال: أشرتُ عليك في مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تسأله، فإن كان الأمر فينا أعطاناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقلت: أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده، فمضت تلك. فلمّا قُبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة، فدعوناك إلى أن نبايعك، وقلتُ لك: ابسِطْ يدك أُبايعك ويبايعك هذا الشيخ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحدٌ من بني عبد مناف، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحدٌ من قريش، وإذا بايعَتْك قريشٌ لم يختلف عليك أحدٌ من العرب، فقلت: لنا بجهاز رسول الله (صلی الله علیه و آله) شُغل، وهذا الأمر فليس نخشى عليه. فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة، فقلت: يا عمّ ما هذا؟ قلت: ما دعوناك إليه فأبيت، قلت: سبحان الله، أوَ يكون هذا؟! قلت: نعم، قلت: أفلا يُردّ؟ قلت لك: وهل رُدّ مثل هذا قطّ. ثمّ أشرتُ عليك حين طُعن عمر، فقلت: لا تُدخِل نفسك في الشورى، فإنّك إن اعتزلتهم قدّموك، وإن ساويتهم تقدّموك، فدخلتَ معهم، فكان ما رأيت. ثمّ أنا الآن أُشير عليك برأيٍ رابع، فإن قبلتَه وإلّا نالك ما نالك ممّا كان قبله، إنّي أرى أنّ هذا الرجل _ يعني

ص: 138

عثمان _ قد أخذ في أُمور، واللهِ لَكأنّي بالعرب قد سارت إليه حتّى يُنحَر في بيته كما يُنحَر الجمل، واللهِ إن كان ذلك وأنت بالمدينة ألزمك الناس به، وإذا كان ذلك لم تنَلْ من الأمر شيئاً إلّا من بعد شرٍّ لا خير معه.

قال عبد الله بن عبّاس: فلمّا كان يوم الجمل عرضتُ له، وقد قُتل طلحة، وقد أكثر أهل الكوفة في سبّه وغمصه! فقال عليّ (علیه السلام) : أما والله لئن قالوا ذلك لقد كان كما قال أخو جعفي:

فتىً كان

يدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استغنى

ويبعده الفقرُ

ثمّ قال: واللهِ لَكأنّ عمّي كان ينظر من وراء سترٍ رقيق، واللهِ ما نلتُ من هذا الأمر شيئاً إلّا بعد شرٍّ لا خير معه ((1)).

لا نريد المكث عند هذا الخبر المقرِف المقزّز، لأنّ قراءته تجرّ إلى الغثيان والتهوّع، لِما فيه من كذبٍ مهين، ونخشى أن نخرج من موضوعنا، إنّما ذكرناه هنا ليتبيّن لنا ربط الأحداث ومغازي خبراء الحياكة والافتراء، ورصف لَبِنات الهراء، ومزج ألوان الخدع لنسج صورةٍ لأشخاصٍ تُرفَع بإزاء أمير المؤمنين (علیه السلام) ومَن نصبه الله من فوق عرشه وفرضَ طاعته على الخلائق أجمعين.

هذا بغض النظر عمّا في الخبر من تهافتٍ وتفاصيل غير دقيقة، والطمعِ

ص: 139


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2 / 48.

في المُلك والسلطان والدنيا، والتعامل ضمن ضوابط السقيفة وما زعموه من موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) دون أن ينصّ على أحدٍ من بعده، وكأنّ الأمر لم يكن فرضاً من الله (تبارك وتعالى)، وكأنّ يوم الغدير لم يكن، وكأنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يدري شيئاً عن يوم الغدير، وكأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) لم يطلب كَتِفاً ودواةً ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، ولم يُجابَه بتلك القسوة والجفاء فينادي الجلف الجافي على مرأىً ومسمع من أشرف الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) : «إنّ الرجل لَيهجر»! وكأنّ للعبّاس في الأمر نصيب، وكأنّ العبّاس نفسه لا يعرف النبيّ (صلی الله علیه و آله) وليس هو ابن أخيه، فيسأله فيكلّف أمير المؤمنين (علیه السلام) ليسأله، وكأنّ العبّاس كان مصيباً دائماً وأمير المؤمنين (علیه السلام) مخطأً دائماً..

والأكثر من ذلك كلّه، فإنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) يُقرّ ويعترف بذلك كلّه للعبّاس، ويُقرّ ويعترف بخطئه وصواب العبّاس في جميع تلك الموارد..

كذبوا والله وأثموا!!

إنّ هذا الخبر مفضوحٌ لا يحتاج إلى مناقشةٍ لمن اعتقد عصمة أمير المؤمنين (علیه السلام) وإمامته، بل لكلّ منصفٍ يعرف العبّاس ويعرف أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعنده لُمّة مهما كانت سريعةً بالأحداث، ويكفي قراءته مرّةً واحدةً ليتبيّن العوار والنتن الّذي يطفح منه، فلا نبتعد عن موضوعنا في الاسترسال في دحض ما فيه من أكاذيب وإحَن وأهدافٍ مشبوهةٍ مموّهة.

بَيد أنّ قراءته تفيدنا في فهم ما نحن فيه من نسبة هذا القول لأمير

ص: 140

المؤمنين (علیه السلام) في حقّ ابن عبّاس، وكذا نسبته لأبي الشهداء (علیه السلام) في حقّه أيضاً، فالكذبة نابعةٌ من بئرٍ موبوءةٍ واحدة.

فربّما نسبوا هذا القول للعبّاس كإقرارٍ من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بخطأه أمام عمّه العبّاس، وجروا في ذلك مع ابنه عبد الله، ثمّ كرّروها مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ليوعزوا أنّ العبّاس وأولاده أصحّ من أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده (علیهم السلام) ، وأعرف بالسياسة ومعالجة الأحداث.

أجل، إنّ ما يقوله العبّاس لا يخفى على أمير المؤمنين (علیه السلام) ولا على أولاده الميامين (علیهم السلام) ، غير أنّ العبّاس وربّما ابنه عبد الله أرادَوها مُلكاً ونالوها بعد حين، وسرَت في أولادهما الّذين قَتلوا عليها ومن أجلها أولادَ أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاد الحسين الأئمّة الميامين (علیهم السلام) .

النكزة الثالثة: متى وأين قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عبّاس؟
اشارة

روى البلاذريّ فقال:

• حدّثنا عبّاس بن هشام، عن أبيه، عن جدّه محمّد بن السائب والشرقيّ بن القطاميّ قالا:

سمعنا الناس يتحدّثون بأنّ ابن عبّاسٍ خلا بعليٍّ حين أراد أن يبعث أبا موسى، فقال: إنّي أخاف أن يخدع معاوية وعمرو أبا موسى، فابعثني حكماً ولا تبعثه، ولا تلتفت إلى قول الأشعث وغيره ممّن اختاره. فأبى.

فلمّا كان من أمر أبي موسى وخديعة عمرو له ما كان، قال عليّ: للَّهِ

ص: 141

دَرُّ ابن عبّاس؛ إنْ كان لَينظر إلى الغَيب من سترٍ رقيق ((1)).

• وقال: قال ابن عبّاسٍ لعليّ: اجعلني السفير بينك وبين معاوية في الحكمين، فواللهِ لَأفتلنّ حبلاً لا ينقطع وسطه ولا ينبت طرفاه.

قال عليّ: لستُ من كيدك وكيد معاوية في شيء، واللهِ لا أُعطيه إلّا السيف حتّى يدخل في الحقّ.

قال ابن عبّاس: هو والله لا يعطيك إلّا السيف حتّى يغلب بباطله حقَّك.

قال عليّ: وكيف ذلك؟

قال: لأنّك اليوم تُطاع وتُعصى غداً، وإنّه يُطاع فلا يُعصى.

فلمّا انتشر على عليّ أصحابه، وابن عبّاس بالبصرة، قال: لله دَرّ ابن عبّاس؛ إنّه لَينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق ((2)).

• روى أبو عُبيدة القاسم بن سلام، عمّن حدّثه، عن أبي سنان العجليّ قال:

قال ابن عبّاسٍ لعليّ: ابعثني إلى معاوية، فواللهِ لَأفتلنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه.

قال: لستُ من مكرك ومكره في شيء، ولا أُعطيه إلّا السيف حتّى يغلب الحقُّ الباطل.

ص: 142


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 2 / 347.
2- أخبار الدولة العبّاسية لمؤلّفٍ مجهول: 37.

فقال ابن عبّاس: أو غير هذا!

قال: كيف؟

قال: لأنّه يُطاع ولا يُعصى، وأنت عن قليلٍ تُعصى ولا تُطاع.

قال: فلمّا جعل أهل العراق يختلفون على عليّ قال: للهِ دَرّ ابن عبّاس؛ إنّه لَينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق ((1)).

* * * * *

يمكن الإشارة هنا إلى عدّة تنويهات:

التنويه الأوّل: نقل قول الإمام (علیه السلام) فقط

لاحظنا عند مراجعة المصادر بحثاً عن هذا القول أنّ المترجمين لابن عبّاس ينقلون كلمة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فقط دون نقل الحدَث الّذي صدرت فيه الكلمة، على فرض صدورها.

فربّما يُقال: إنّهم يريدون تسجيل نقطةٍ إيجابيّةٍ لابن عبّاس، ويقصدون بيان مدحه على لسان أمير المؤمنين (علیه السلام) وشهادته له، ولا يهمّهم بعدُ السببَ الّذي دعاه لهذه الشهادة.

وربّما قيل: إنّهم علموا أنّ ذكر القصة كاملةً تدعو المتلقّي إلى التوقّف والتريّث والمراجعة، فحذفوا ما يدعو إلى ذلك، والله العالم.

ص: 143


1- تاريخ الإسلام للذهبي: 3 / 538.
التنويه الثاني: مؤدّى الخبر

مؤدّى هذا الخبر هو ما قاله الزمخشريّ عند نقله الخبر، قال:

أشار ابن عبّاس على عليّ بشيءٍ فلم يعمل به، ثمّ ندم، فقال: ويحَ ابن عبّاس، كأنّما ينظر إلى الغيب من وراء سترٍ رقيق ((1)).

أجل، مؤدّى هذه الحكاية البائسة والحكاية السابقة الّتي رُويَت عن العبّاس وأمير المؤمنين (علیه السلام) أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) نَدِم!

ومؤدّاها أيضاً الّذي يفهمه أيّ عاقلٍ إذا قرأها بتأمّلٍ أو بغير تأمّل، أنّ ابن عبّاسٍ أعلمُ من أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأعرف بالمستقبل، وأعرف بمعسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعسكر معاوية، وأنّ ابن عبّاس متمكّنٌ من استشراف المستقبل ومسلَّطٌ على أحداث المستقبل، وأنّه ينظر إليه من وراء سترٍ رقيق!

ولوازم قبول هذه الحكاية الخائبة وتتبّع مؤدّياتها سيُدخلنا في متاهاتٍ عقائديّة، ومخالفاتٍ للواقع، وانتكاسٍ في قوى التقدير والتقييم، وارتكاسٍ في ضلال، ويضطرّنا إلى الاختلاق، ويمشي بنا على غير الجادّة، ويرقل بنا في مسارب الاعوجاج والتلفيق، ولا نريد الجنوح والشذوذ بالاسترسال؛ خوفاً من الوقوع في مستنقع الإساءة إلى سيّد الأوصياء ومولى الموحّدين (علیه السلام) .

ص: 144


1- ربيع الأبرار للزمخشري: 3 / 302.
التنويه الثالث: «لو كُشف ليَ الغطاء ...»

لو بلغ ابنُ عبّاسٍ ما بلغ، فإنّ أقصى ما يبلغه أن يتشرّف ليكون تراب أقدام سيّد الوصيّين (علیه السلام) ، في كلّ صعيدٍ وعلى كلّ مستوىً في العلم والعمل، وهو لا يمكن أن يوازي أمير المؤمنين (علیه السلام) في شيءٍ أبداً، وقد أجمع الناس _ ولا يراجع في ذلك أحدٌ أبداً _ أنّ ابن عبّاس كان تلميذ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإن كان ابن عبّاسٍ ينظر للغيب من وراء سترٍ رقيق، فإنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد انكشف له الغيب انكشاف الشهادة، وأشدّ من ذلك، فهو القائل _ وهو الصادق المصدّق _ : «لو كُشفَ ليَ الغطاءُ لَما ازددتُ يقيناً» ((1)).

وقد قال ابن عبّاس: «عليٌّ (علیه السلام) عُلّم علماً علّمه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) ، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) علّمه الله، فعِلمُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) علمُ الله، وعلمُ عليٍّ (علیه السلام) من علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وعلمي من علم عليّ (علیه السلام) ، وما علمي وعلمُ أصحاب محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) في علم عليّ (علیه السلام) إلّا كقطرةٍ في سبعة أبحر» ((2)).

وقال: «أُعطيَ عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) تسعة أعشار العلم، وإنّه

ص: 145


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المناقب للخوارزمي: 375، غرر الحكم للآمدي: 2 / 142 ح 1، إرشاد القلوب للديلمي: 1 / 124 الباب 27، مطلوب كلّ طالب: 3.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 92، أمالي المفيد: 236، أمالي الطوسي: 12 المجلس 1 ح 14.

لَأعلمهم بالعُشر الباقي» ((1)).

فربّما موّه الستر الرقيق على ابن عبّاسٍ فلم ينكشف له الغيب على الحقيقة، والإمام أمير المؤمنين هو عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) ، خزانة علم الله، وعَيبة علمه الّذي أعطاه الله علمه إلّا ما استأثر به لنفسه، وباب علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقد ثبت ذلك للقاصي والداني والشريف والوضيع، والاسترسال في إثبات ذلك قد يُدخلنا في مقارنة الإمام (علیه السلام) إلى مثل هذه النظائر، وهو فعلٌ سقيمٌ خطير العواقب!

التنويه الرابع: ما عجز عنه الخوارج ناله ابنُ عبّاس

جهد الخوارج أن يستنطقوا الإمام (علیه السلام) بكلمةٍ تعطيهم أنّه قد أخطأ في موقفه في قصّة التحكيم واختيار الأشعريّ، فأبى عليهم الإمام (علیه السلام) ، وهو الحقّ وهو الإمام المبين، فحاربوه وقاتلوه على ذلك.

بَيد أنّ مثل هذه الحكاية البائسة نطقت على لسان أمير المؤمنين (علیه السلام) وجعلَته يقرّ بالندم والخطأ، وبصحّة قول ابن عبّاس الّذي ينظر إلى الغيب من وراء سترٍ رقيق! قد حُرم الإمام (علیه السلام) من هذا النظر وصار الستر الّذي يفصل بينه وبين الغيب كثيفاً سميكاً، وقد اعترف الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بهذه الفضيلة لابن عبّاس، وسجّل على نفسه ما سيبقى إلى أبد الدهر،

ص: 146


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 92، دلائل الإمامة للطبري: 22، الإستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1104، شواهد التنزيل للحسكاني: 1 / 110 الرقم 123.

وحقّق للخوارج آمالهم وأثبت صحّة موقفهم.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

التنويه الخامس: لا غضاضة على الإمام (علیه السلام) إذا أقرّ لابن عمّه!!

قال السيّد الخرسان (حفظه الله) بعد أن نقل رواية الذهبيّ:

فهذا الخبر وإن اشتمل على جهالةٍ في السند، فلا يجوز الاعتماد عليه فيما انفرد، لكن مرّ بنا ما يشبهه في أوّل خلافة الإمام (علیه السلام) ، وأحسب أنّ هذا هو ذاك حين قال لابن عبّاس: (دعني من هنيّاتك وهنيّات معاوية في شيء)، كما ورد في حديثٍ عند البلاذريّ قول الإمام (علیه السلام) في ابن عبّاس: (لله درّ ابن عبّاس؛ إن كان لَينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق)، والسند عنده ينتهي إلى محمّد بن السائب والشرقيّ بن القطاميّ، قال: سمعنا الناس يتحدّثون. إذن، فالخبر قد شاع وذاع حتّى صار يتحدّث الناس به.

ومهما يكن مدى صحّته، فالّذي لا شكّ فيه أنّ ابن عبّاسٍ كان مستشاراً أميناً عند الإمام (علیه السلام) ، وكان هو أيضاً مشيراً صادقاً، فلا غضاضة لو اختلفا في الرأي، كلٌّ حسب نظره وتكليفه، كما لا غضاضة لو قرّظ الإمام ابن عمّه عندما تتكشّف الحقيقة للناس كما رآها ابن عبّاس، وإن كان هو تلميذه ومن بحره ينزف، وهو القائل: ما علمي وعلم أصحاب محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) في علم عليٍّ إلّا كقطرةٍ في سبعة أبحر ...

ص: 147

وقد دلّت الأحداث الآتية على صحّة مضمون الخبر ((1)).

* * * * *

السند _ كما ذكر سماحة السيّد _ غير ناهض، والدلالة كما سمعنا قبل قليلٍ متهاويةٌ متهافتةٌ تافهة، فكيف يصحّ ويُعتمَد على الخبر، ويبرّر ولو على حساب الاعتقاد بأمير المؤمنين (علیه السلام) ومولى الموحدين من أجل إثبات شيءٍ لابن عبّاس؟!

أن لا تكون غضاضةٌ لو اختلفا في الرأي فنعم، كلٌّ حسب نظره، وقد اختلف أمير المؤمنين (علیه السلام) وعمر، واختلف أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعاوية، أمّا أن يكون كلٌّ حسب تكليفه فلا، كيف وابن عبّاسٍ رعيّة الإمام (علیه السلام) وعليه أن يطيعه ولا يعصيه!

أجل، قد يُقال: كلٌّ حسب تكليفه بمعنى أنّ على ابن عبّاس المستشار أن يُبدي رأيه، سواءً كان مخالفاً للإمام (علیه السلام) أو موافقاً. فهو أيضاً لا يُقبَل على المستوى الاعتقاديّ؛ إذ ليس للرعيّة مع الإمام (علیه السلام) رأيٌ ونظر، فإن أبداه وتبيّن له أنّ قول الإمام (علیه السلام) يخالفه فعليه أن يرجع ولا يعتبر رأيه بعد ذلك، ويعتقد الخطأ فيما ذهب إليه، وقد قال له أمير المؤمنين (علیه السلام) : «لك أن تُشير علَيّ وأرى، فإن عصيتُك فأطعني» ((2)).

ص: 148


1- موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد الخرسان: 4 / 137.
2- نهج البلاغة (صبحي الصالح): 531 الرقم 321.

أمّا أن يقال: لا غضاضة لو قرّظ الإمام (علیه السلام) ابن عمّه عندما تتكشّف الحقيقة للناس كما رآها ابن عبّاس.. فهذا ما لا يمكن المصير إليه، ولا القول به بحال، ونحن نخشى التعليق على هذا الكلام خوفاً من تعدّي حدود الأدب مع السيّد الخرسان (حفظه الله وأبقاه).

وإلّا، فالملاحَظ أنّ الخبر يؤكّد أنّ الحقيقة تكشّفَتْ لأمير المؤمنين (علیه السلام) لا للناس، ثمّ إن كان التكشّف قد حصل للناس، فهل كان هذا الانكشاف خافياً على الإمام (علیه السلام) أو لا؟ فإن كان غير خافٍ على الإمام (علیه السلام) فما معنى أن يقرّض الإمام (علیه السلام) ابن عبّاس في قضيةٍ كانت منكشفةً عنده؟ وإن كانت خافيةً على الإمام (علیه السلام) فالقول به مجازفةٌ ومخاطرةٌ ومخالفةٌ للاعتقاد بعصمة أمير المؤمنين (علیه السلام) !

وكيف يخفى على الإمام (علیه السلام) ويعلم ابن عبّاس، وابن عبّاسٍ تلميذه، وهو القائل: ما علمي وعلم أصحاب محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) في علم عليٍّ إلاّ كقطرةٍ في سبعة أبحر؟!

لا نحسب أنّ ابن عبّاسٍ بمنزلةٍ ومقامٍ يضطرّنا إلى محاباته على حساب أمير المؤمنين (علیه السلام) وحقّه وعلمه ومنزلته ومقامه!

التنويه السادس: الغرض من ذكر قصّة العبّاس وابنه

إنّما ذكرنا حكاية العبّاس وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وابن عبّاس وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وما زعموه من إقرار أمير المؤمنين (علیه السلام) لهما بالصحّة، واعترافه

ص: 149

أنّهما ينظران إلى الغيب من وراء سترٍ رقيق، وأنّه قد ندم حين مخالفتهما.. لنشير إلى أنّ ما نسبوه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو في نفس السياق، وليس يبعد كثيراً عن محاولات الأُمويّين والعبّاسيّين في تشويه صورة أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ، وإثبات أنّ العبّاس وأولاده أَولى بالأمر؛ لِما فيهم من علمٍ في السياسة والمستقبل، وغير ذلك ممّا يُخرجنا عن موضوع دراستنا، ولكن نسوا أنّ الله (عزوجل) قال: ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ((1)).

النكزة الرابعة: سبقوا أبا الفرَج!

ذكر البلاذريّ والطبريّ وغيرهما خطبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم عاشوراء، يعظ فيها القوم ويحذّرهم ويؤكّد لهم أنّه راجعٌ عنهم إن كرهوا مَقدَمَه عليهم، فلمّا انتهى من كلامه (علیه السلام) بكين أخواتُه، فسكّتهنّ، ثمّ قال: لا يبعد الله ابن عبّاس. وكان نهاه أن يُخرجهنّ معه ((2)).

وفي رواية الطبريّ: لا يبعد ابن عبّاس. قال: فظنّنا أنّه إنّما قالها حين سمع بكاؤهنّ، لأنّه قد كان نهاه أن يخرج بهنّ ... ((3)).

ص: 150


1- سورة التوبة: 32.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 396.
3- تاريخ الطبري: 5 / 424.

وقال ابن كثير: لا يُبعِد الله ابن عبّاس. يعني حين أشار عليه أن لا يخرج بالنساء معه ويدَعَهنّ بمكّة إلى أن ينتظم الأمر ((1)).

إنّ ما ذكره أبو الفرج لم نسمعه عند غيره، لا قبله ولا بعده، حسب فحصنا، وما ذكره سبط ابن الجوزيّ يشبه تماماً ما ذكره البلاذريّ والطبريّ وابن كثير، وهو يختلف تماماً عمّا ذكره أبو الفرج، إذ أنّ سبط ابن الجوزيّ والبلاذريّ وغيرهما إنّما طبّقوا من كلام الإمام (علیه السلام) على الموقف، فيما زعم الأوّل أنّ مَن حضره يوم قُتل ذكر التفاته إلى حرمه وإخوته وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاس فيما أشار علَيّ به ((2)).

وهو حدَثٌ لم نسمع به عند المتقدّمين، ولا عند المتأخّرين، ولا عند الأفّاكين، فمِن أين جاء به هذا الأُمويّ أبو الفرج؟ وهو لم يذكر لنا مَن هو هذا الّذي حضر وروى ما روى!

وكيف يقول الإمام (علیه السلام) ذلك وهو الّذي أكّد لغير واحدٍ أنّ الله شاء أن يراهن سبايا؟ وقد أفاد سير الأحداث بوضوحٍ أنّ تركهم في المدينة أو مكّة يعني تعريضهم إلى الخطر القطعيّ، وهذا ما سيأتي الحديث عنه في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ص: 151


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 178.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
النكزة الخامسة: لو دار الأمر بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!

مؤدّى هذا الخبر البائس المأفوك أنّ ابن عبّاس كان قد نصح الإمام (علیه السلام) نصيحة، وقد عرف ما خفي على الإمام (علیه السلام) ، واستكشف المستقبل الّذي خفي على الإمام (علیه السلام) ، ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) وقف على صحّة ما قاله ابن عبّاس حين لا مناص، فاعترف له وأقرّ بصوابه.

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر من مولانا ومليكنا خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، بَيد أنّ ضرورة البحث تضطرّنا إلى ذِكر مثل هذه الترّهات والمجازفات والمخاطر الّتي تهوي بالإنسان في وديان الضلال والابتعاد عن الواقع.

أجل، الابتعاد عن الواقع، إذ لو دار الأمر بين تصحيح كلام ابن عبّاس وتصحيح كلام الإمام سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فلا يمكن قبول الأوّل بحال!

فلو أغمضنا النظر _ من باب فرض المحال _ عن عصمة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعن علمه الإلهيّ، وعن الجوّ الّذي نشأ فيه، وهو جوّ النبوّة والوحي، فإنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كشخصيّةٍ كان لا يُقاس بابن عبّاسٍ ولا بغيره من معاصريه في العلم والمعرفة ومعالجة القوم، ومعرفته بالأُمويّين وبيزيد، وبأهل البلدان الثلاثة (المدينة ومكّة والكوفة)، وبعساكرهم وأخلاقيّاتهم وسلوكيّاتهم وأضغانهم وأحقادهم، وغيرها ممّا أهّل ابن عبّاسٍ لما نسبوه إليه من معرفةٍ واستشرافٍ للمستقبل.

ص: 152

فقبول هذه الحكاية الممجوجة يخالف الواقع، ويقلب الموازين في معرفة الرجال، كيف والإمام الحسين (علیه السلام) هو الإمام المنصوب من الله المفترض الطاعة، وهو خزينة علم الله وعَيبته، وحكمه في ذلك حكم أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) !

المحطّة السابعة: موقف العقيلة الحوراء في رواية البحرانيّ

روى السيّد هاشم البحرانيّ وغيره نصّاً آخَر لهذا الإبراز وردّاً آخَر للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، نقتصر على ذِكره دون التعليق عليه، رغم أنّ فيه فوائد جليلة، نترك استخلاصها للمتلقّي ولما سيأتي من البحث، إن شاء الله (تعالى).

روى السيّد البحرانيّ وغيره، قال:

فقال له ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا حسين، إنْ كنتَ لابدّ سائراً إلى الكوفة فلا تسير بأهلك ونسائك.

فقال له: «يا ابن العمّ، إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وقد أمر بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وأنّه أمرني بأخذهم معي».

وفي نقلٍ آخَر أنّه قال: «يا ابن العمّ، إنّهنّ ودائع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا آمَنُ عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لا يفارقنني».

فسمع ابن عبّاسٍ بكاءً من ورائه، وقائلةً تقول: يا ابن عبّاس! تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده؟! لا والله،

ص: 153

بل نحيى معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

فبكى ابن عبّاسٍ بكاءً شديداً، وجعل يقول: يعزّ علَيّ واللهِ فراقك يا ابن عمّاه ((1)).

الإبراز الخامس: الردع بالاشتباك

فقال ابن عبّاس: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلم أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلت، ولكن لا أخال ذلك نافعي.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليّ أن تُستحلّ بي»، يعنّي مكّة.

قال: فبكى ابن عبّاس ... ((2)).

سيأتي بعد قليلٍ الكلام في هذا الإبراز، وذِكرُ المصادر الأُخرى الّتي ذكرت هذا المعنى.

ص: 154


1- مدينة المعاجز للبحراني:243، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزدي: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157 و158.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
الحصة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام)

لقد سمعنا ردود الإمام (علیه السلام) على ابن عبّاس في غضون الحديث عن الحوار الّذي دار بينهما، فلا حاجة للإعادة.

غير أنّنا نودّ التنويه هنا إلى نكتةٍ قد تظهر جليّةً لمن راجع جملة الردود والأجوبة المذكورة في المصادر، فهي في الغالب تؤكّد على الاستخارة والنظر فيما قال ((1))، وذكر كثيرون قول سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس: «إنّك شيخٌ قد كبرت» ((2))، وذكر بعضٌ أنّ الإمام (علیه السلام) أكّد لابن عبّاس أنّ قتله خارج

ص: 155


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

مكّة أحبُّ إليه من قتله فيها؛ لئلّا تُستحلّ به مكّة ((1))، وتناثرت بعض الردود الّتي تفرّد بها بعضهم، من قبيل عزمه على اللحاق بابن عمّه مسلم، أو أنّ ابن عمّه كتب له باجتماع أهل الكوفة على نصرته، بالإضافة إلى ذكر الاستخارة والنظر، وغيرها من الردود ((2)).

فربّما أمكن الخروج بحصيلةٍ من جملة هذه الردود والأجوبة أنّ الأصل في جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس كان يتعلّق بالوضع في مكّة، وليس الحديث عن الكوفة، فالمتلقّي لا يجد في كلام الإمام (علیه السلام) ما يفيد عزمه على مواجهة الطاغوت ومحاربة القرد حتّى اقتلاعه من أعواد المنبر الّتي تعلّق بها، وإنّما تعالج خطر بقائه في مكّة على نفسه وعلى عياله، وأنّه ينظر ويرى أيّ الخطرين أشدّ عليه وأكثر تنجّزاً.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يتحدّث مع ابن عبّاسٍ عن

ص: 156


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.
2- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، مقاتل الطالبييّن لأبي الفرج: 72، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

عزمٍ لمواجهة الطاغوت وضرورته، وضرورة التضحية من أجل ذلك، وإنّما يتحدّث عن هجوم القرد المخمور المسعور وذئابه، والمكانِ الأفضل لردّ عاديتهم ودفعهم.

ص: 157

ص: 158

اللقاء الثاني: معاودة اللقاء

البلاذريّ

ثمّ عاد ابنُ عبّاسٍ إليه فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر فلا أصبر، إنّي أتخوّفُ عليك الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فأقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإن أرادك أهل العراق وأحبّوا نصرك فاكتب إليهم أن ينفوا عدوَّهم، ثمّ صِرْ إليهم، وإلّا فإنّ في اليمن جبالاً وشعاباً وحصوناً ليس بشيءٍ من العراق مثلها، واليمن أرضٌ طويلةٌ عريضة، ولأبيك بها شيعة، فأْتِها، ثمّ أثبِتْ دُعاتك وكتبك، يأتك الناس.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، أنت الناصح الشفيق، ولكنّي قد أزمعتُ المسير ونويتُه».

فقال ابن عبّاس: فإنْ كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وأصبيتك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ينظرون إليه.

ورُوي: أنّ ابن عبّاسٍ خرج من عند حسين وهو يقول: وا حسيناه!

ص: 159

أنعى حسيناً لمن سمع ((1)).

الدينوريّ

قالوا: ولمّا كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عبّاس إلى الحسين، فقال له: يا ابن عمّ، لا تقرب أهلَ الكوفة، فإنّهم قومٌ غدَرَة، وأقِمْ بهذه البلدة، فإنّك سيّدُ أهلها، فإنْ أَبيتَ فسِرْ إلى أرض اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ طويلةٌ عريضة، ولأبيك فيها شيعة، فتكون عن الناس في عزلة، وتبثّ دعاتك في الآفاق، فإنّي أرجو إنْ فعلتَ ذلك أتاك الّذي تحبّ في عافية.

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ابن عمّ، واللهِ إنّي لَأعلم أنّك ناصحٌ مُشفِق، غير أنّي قد عزمتُ على الخروج».

قال ابن عبّاس: فإن كنتَ لا محالة سائراً فلا تُخرج النساء والصبيان، فإنّي لا آمن أن تُقتَل، كما قُتل ابن عفّان وصبيته ينظرون إليه.

قال الحسين (علیه السلام) : «ما أرى إلّا الخروج بالأهل والوُلد».

فخرج ابن عبّاسٍ من عند الحسين ((2)).

ص: 160


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
الطبريّ

قال: فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، أتى الحسينَ عبدُ الله بن العبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، أقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلْينفوا عدوَّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، فإنْ أَبيتَ إلّا أنه تخرج فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الّذي تحبّ في عافية.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي واللهِ لَأعلمُ أنّك ناصحٌ مُشفِق، ولكنّي قد أزمعتُ وأجمعتُ على المسير».

فقال له ابن عبّاس: فإن كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

ثمّ قال ابن عبّاس: لقد أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، واللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني، لَفعلتُ ذلك.

ص: 161

قال: ثمّ خرج ابن عبّاسٍ من عنده ((1)).

إبن أعثم

ثمّ بعد ذلك أقبل عبدُ الله بن عبّاسٍ إليه، فدخل وقال: يا ابن بنت رسول الله، إنّي قد رأيتُ رأيين إن قبلتَ منّي.

فقال الحسين: «وما ذاك؟».

قال: تخرج إلى بلاد اليمن؛ فإنّ فيها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، وإنّ لك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فإذا استوطنتَ بها اكتب إلى الناس وأعلِمْهم مكانك.

فقال الحسين: «يا ابن عمّي، إنّي لَأعلم أنّك ناصحٌ شفوق، ولكنّي أزمعتُ على المسير إلى العراق، ولابدّ من ذلك».

فأطرق ابن عبّاسٍ (رحمة الله) ساعة، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول الله، إنْ كنتَ قد أزمعتَ ولابدّ لك من ذلك، فلا تسِرْ بنسائك وأولادك، فإنّي خائفٌ عليك أن تُقتَل، كما قُتل عثمان بن عفان وأهلُه ووُلده ينظرون إليه ولا يقدرون له على حيلة، واللهِ يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لقد أقررتَ عين ابن الزبير بخروجك عن مكّة وتخليتك إيّاه هذا البلد، وهو اليوم لا يُنظَر إليه، فإذا خرجتَ نظر إليه الناس بعد ذلك.

ص: 162


1- تاريخ الطبري: 5 / 383.

فقال الحسين (رضی الله عنه) : «إنّي أستخير الله (تعالى) في هذا الأمر ماذا يكون».

قال: فخرج ابن عبّاس من عنده وهو يقول: وا حبيباه! ((1))

مِسكوَيه

فجاءه من الغد ابنُ عبّاسٍ وقال له: ابنَ عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّفُ عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فأقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإنْ كان أهلُ العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلْينفوا عدوَّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، فإنْ أبيتَ إلّا الخروج فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشِعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت في عزلةٍ عن الناس، فتكتب وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك ما تحبّ في عافية.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي أعلم أنّك ناصحٌ شفيق، ولكنّي قد أجمعتُ على المسير».

فقال له ابن عبّاس: فإنْ كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فوَاللهِ إنّي أخاف أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه، وواللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلمُ أنّي إذا أخذتُ بشعرك

ص: 163


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

وناصيتك حتّى تجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلت.

فلمّا أبى عليه قال له: قد أقررتَ عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه معك.

وخرج من عند الحسين ((1)).

الخوارزميّ

ثمّ عاد عليه ابنُ عبّاسٍ مرّةً ثانية، فأشار عليه بما أشار عليه أوّلاً، ونهاه أن يخرج إلى العراق، وأن يخرج بنسائه وأهله فيُقتَل وهم ينظرون إليه، كما قُتل عثمان وأهلُه ينظرون إليه فلا يقدرون له على حيلة، ثمّ قال: واللهِ يا ابن رسول الله لقد أقررتَ عينَي ابن الزبير بخروجك عن مكّة وتخليتك إيّاه في هذه البلدة، فهو اليوم لا ينظر إليه أحد، وإذا خرجتَ نظر الناس إليه بعدك.

فقال الحسين: «فإنّي أستخير الله في هذا الأمر، وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ وهو يقول: وا حسيناه! ((2))

إبن الجوزيّ

ثمّ عاد إليه فقال له: إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك أهل العراق، فإنّهم أهل غدر، أقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّد الحجاز، فإنْ

ص: 164


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217 و219.

كان أهلُ العراق يريدونك [فاكتب إليهم] فلْينفوا عدوّهم، وإن أبيتَ فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضة.

فقال: «قد أجمعتُ المسير».

قال: فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فإنّي أخاف ما جرى لعثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه، ولقد أقررتَ عينَي ابن الزبير بتخليتك إيّاه بالحجاز، واللهِ لو أنّي أعلمُ أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني، لَفعلت.

ثمّ خرج ((1)).

إبن الأثير، النويريّ

قال: فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، أتاه ابنُ عبّاسٍ فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاكَ والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، أقِمْ في هذا البلد، فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلْينفوا عاملَهم وعدوَّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، فإنْ أبيت إلّا أن تخرج فسِرْ إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن

ص: 165


1- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.

يأتيك عند ذلك الّذي تحبّ في عافية.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي واللهِ لَأعلمُ أنّك ناصحٌ مشفق، وقد أزمعتُ وأجمعتُ المسير».

فقال له ابن عبّاس: فإن كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فإنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

ثمّ قال له ابن عبّاس: لقد أقررتَ عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، واللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنّي إنْ أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت، لَفعلتُ ذلك.

ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده ((1)).

إبن كثير

فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، جاء ابن عبّاسٍ إلى الحسين فقال له: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تغترّنّ بهم، أقِمْ في هذا البلد حتّى ينفي أهل العراق عدوّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، وإلّا فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكُن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبثّ دعاتك فيهم، فإنّي أرجو إذا فعلتَ ذلك

ص: 166


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408.

أن يكون ما تحبّ.

فقال الحسين: «يا ابن عمّ، واللهِ إنّي لَأعلمُ أنّك ناصحٌ شفيق، ولكنّي قد أزمعتُ المسير».

فقال له: فإن كنتَ ولابدّ سائراً فلا تسِرْ بأولادك ونسائك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

ثمّ قال ابن عبّاس: أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه بالحجاز، فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلتُ ذلك.

قال: ثمّ خرج من عنده ((1)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ
اشارة

فلمّا كان من الغد فإذا بعبد الله بن عبّاس وقد جاء إلى الحسين (علیه السلام) ثانياً، فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك من هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قومٌ غدروا، فلا تأمنْهم، وأقِمْ بهذا البيت الشريف، فإنّك سيّد أهل الحجاز، وإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا اكتب إليهم ينفوا عاملهم ويُخرجوه عنهم، ثمّ تَقدِم عليهم، وإن رأيتَ فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ طويلةٌ عريضة،

ص: 167


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

ولأبيك بها شيعةٌ كثيرة، وتكون بها منعزلاً، فتكتب إلى الناس ويكتبون إليك، وتلبّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الفرج الّذي تحبّ في عافية.

فقال الحسين (علیه السلام) : «يا ابن عمّ، أعلمُ أنّك ناصحٌ مُشفق، ولكنّي قد أزمعتُ وأجمعتُ على المسير إلى هذا الوجه».

فقال له ابن عبّاس: فإن كنتَ سائراً ولابدّ فلا تسر بنسائك وصبيانك.

قال: «ولا أتركهم خلفي».

فقال له ابن عبّاس: واللهِ لو أعلمُ أنّي إذا أخذتُ بناصيتك وأخذتَ بناصيتي حتّى يجتمع الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلت.

ثمّ خرج عنه ابن عبّاسٍ وهو يقول: واللهِ لقد قرّت عينُ ابن الزبير بمخرجك من الحجاز ((1)).

* * * * *

روت المصادر أنّ ابن عبّاسٍ بعد أن كلّم الإمام (علیه السلام) وردّ الإمام عليه خرج منه وقد يئس منه، ثمّ عاود اللقاء مرّةً أُخرى.

ويمكن استعراض جملةٍ من المطالب الّتي تحيط بالنصوص باعتبار أنّ أكثر مضامينها أو جميعها قد مرّت في اللقاء الأوّل أو اللقاءات السابقة،

ص: 168


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.

وسنتناولها من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: زمن اللقاء

بعد الاتّفاق على حصول لقاءٍ ثانٍ بعد اللقاء الأوّل، اختلفوا في تحديد اللقاء الثاني..

فمنهم مَن اقتصر على العودة من دون تحديد زمن: «ثمّ عاد ابن عبّاسٍ إليه» ((1))، «مرّةً ثانية» ((2))، أو قال: «ثمّ بعد ذلك أقبل عبد الله بن عبّاس عليه» ((3)).

ومنهم مَن جعله في نفس اليوم في العشيّ أو غداة اليوم التالي: «فلمّا كان من العشيّ أو من الغد أتى الحسينَ عبدُ الله بن عبّاس» ((4)).ومنهم مَن بتّ أنّه كان في الغد: «فجاءه من الغد ابن عبّاس» ((5)).

ص: 169


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.
4- تاريخ الطبري: 5 / 383، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
5- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وجعله الدينوريّ في اليوم الثالث: «ولمّا كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عبّاس إلى الحسين» ((1)).

هذه النصوص جميعها تفيد تكرّر اللقاء، وتتراوح المدّة بين العشيّ من نفس اليوم أو الغد، وبين اليوم الثالث الّذي انفرد به الدينوريّ.

الإضاءة الثانية: تداخل اللقاءات

المقارنة بين نصوص اللقاء الأوّل واللقاء الثاني قد تجعل المتلقّي يظنّ أنّ اللقاء واحد، فالمضامين المنقولة في اللقاءين متقاربة، بل ربّما كانت متشابهةً إلى حدٍّ كبير، وقد تُورِث عند المتلقّي تصوّراً يقضي تداخل اللقاءات والحوارات، بَيد أنّ التصريح بتكرّر اللقاء ووجود فاصلٍ زمنيّ بين اللقاءين يؤكّد عدم اتّحاد اللقاء بما لا يقبل التردّد.

وربّما كان الراوي والمؤرّخ دمج أحياناً بعض موادّ الحوار، فدخل ما كان في اللقاء الأوّل في اللقاء الثاني وكذا العكس، لكنّ هذا الاحتمال أيضاً يتزعزع حينما نقرأ المؤرّخ الواحد ينقل اللقاءين ومضامينها متتالية، ونجد نفس الموادّ تتكرّر في اللقاءين.

على كلّ حال، فإنّ ابن عبّاسٍ كان يلحّ ويصرّ على الإمام (علیه السلام) ويكرّر عليه نفس كلامه في لقاءاته، وكان الإمام (علیه السلام) يجيبه بأجوبةٍ مختلفة،

ص: 170


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.

ويداريه ويوسّع من صدره الّذي وسع العالمين ووسع العلم الإلهيّ، صدرِه الشريف الّذي داسته خيلُ الأعداء بحوافرها.

الإضاءة الثالثة: معاودة اللقاء وتكرار الكلام

تكرّر اللقاء في الفترة الّتي سبقَت خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، فضلاً عن اللقاء السابق على ذلك، والغريب أنّ اللقاء كان يتكرّر بمضامينه، ويحتوي نفس المطالب من ابن عبّاس، ونفس الاقتراحات، ونفس الأُسلوب، ونفس السماجة والإلحاح والإصرار، والادّعاءات والمزاعم، ونفس الروح والنفَس وطريقة التعامل!

لله صبرك يا أبا عبد الله، حقّاً لقد عجبَت من صبرك ملائكةُ السماء!

لقد تقدّم المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة بين يدَي أخيه وإمامه، وأبدى هواجسه ومخاوفه على الإمام (علیه السلام) ، وقدّم ما بدا له من اقتراحاتٍ كان يرى فيها خلاص الإمام (علیه السلام) من القتل المحتوم حسب مجريات الأحداث، فلمّا شرح الإمام (علیه السلام) له الموقف وكشف له عن عزم القوم على قتله وأنّ بقاءه في المدينة أو مكّة يؤدّي إلى استحلال حرمة البيت وهتك حرمة دمه المقدّس فيها، رجع باكياً مسلِّماً لإمامه.

وتقدّم عبد الله بن جعفر، وأنفذ ما اعتقد أنّه يمكن أن يُبعد عنه شبح مخاوفه على إمام زمانه (علیه السلام) ويدفع عنه القتل، فلمّا كلّمه الإمام (علیه السلام) سلّم أمره لإمامه، وقدّم أولاده ليدفعوا عن إمامه وإمامهم ويفدوه بأرواحهم.

ص: 171

وتقدّمت أُمُّ المؤمنين أُمّ سلَمة، وأبدت مخاوفها وافتجاعها بفراق الإمام (علیه السلام) وحزنها وتوجّسها من توجّهه إلى العراق، حيث أخبرها النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه سيُقتَل هناك، فكلّمها الإمام (علیه السلام) ، فسلّمت له وأرخت عينها بالدموع.

غير أنّ ابن عبّاسٍ لا زال مصرّاً، كأنّه لا يسمع، أو يسمع ولا يعي ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، أو أنّه لا يريد أن يسمع أو يعي.

ولا زال ابن عبّاسٍ مصرّاً على أُمورٍ تبعث في النفس الوساوس، فلماذا كلّ هذا الإصرار على تخطئة الإمام (علیه السلام) ، ومحاولاته المكرّرة لإقناع الإمام (علیه السلام) ليبقى في مكّة؟!

بعد أن أكّد له الإمام (علیه السلام) وشرح له بما لا مزيد عليه أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله وهتك حرمة البيت بدمه المقدّس، وأنّه لا يحبّ ذلك، وفصّل له وأبان له، وعرّفه ما يترتّب على بقائه في مكّة، وما يترتّب على خروجه منها وتوجّهه نحو العراق، بقي ابنُ عبّاس مصرّاً على موقفه، يعاود الاقتراح مرّةً بعد أُخرى، ويكرّر نفس الكلام: لا تخرج إلى العراق، ارجع إلى مكّة، أو توجّه إلى اليمن!!

فإمّا أنّ ابن عبّاسٍ لا يفهم ولا يعي ولا يُدرك كلام الإمام (علیه السلام) ، وهو خلاف ما يزعمونه فيه من كونه حَبر الأُمّة وترجمان القرآن، وغيرها من الألقاب الّتي لا تنسجم مع هذا الفرض، إضافةً إلى أنّه هاشميّ!

وإمّا أن يكون خائفاً على الإمام (علیه السلام) حريصاً أن لا يُقتَل، غير أنّه لا

ص: 172

يعتقد بإمامته وعصته وفرض طاعته، فيفترض أنّ ما عزم عليه يحتمل الخطأ والصواب، وهو يرى خطأه وإمكانَ إقناعه ورَدِّه، فربّما استطاع أن يُوقفه على خطأه ويُرجعَه عمّا عزم عليه ويخلّصه من القتل.

وإمّا أن يكون متمرّداً، لا يريد التسليم للإمام (علیه السلام) ولإرادة الله المتمثّلة في إرادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء، يفعل ذلك كلّه من أجل أن يدفع القتل بما يتصوّره صحيحاً.

وإمّا أن يكون قد كُلّف من قِبل السلطان بمهمّة الوساطة وإقناع الإمام (علیه السلام) بالمكث في مكّة، وهو لا يعلم أو لا يعي أنّ الطاغوت يريد أن ينفذ في الإمام (علیه السلام) مأربه وهدفه من خلال الاغتيال أو الأخذ، وهذا الفرض بعيدٌ باعتبار نباهة ابن عبّاس من جهة وعلمه المزعوم فيه، ويبعد الفرض أكثر أنّ الإمام (علیه السلام) قد صرّح له بذلك وأخبره أنّ بقاءَه في مكّة يعني قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، فهل كان عليه أن يصدّق كلام الإمام (علیه السلام) أو كلام الطاغوت؟!

وإمّا أن يكون قد اقتنع بما خوّله السلطان وأعطاه من وسائل التأمين والأمان وكلّفه به من الوساطة، وأنّه سيّد أهل بيته وأنّه الكبير المطاع، فحاول توظيف ذلك، فربّما استطاع حقن الدماء ودفع القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وظنّ أنّ القرد المخمور صادقٌ فيما زعمه وخوّله وكلّفه به، غير أنّه قد سمع من الإمام (علیه السلام) ما يكذّب ذلك، وقد تابع الأحداث عن كثبٍ ورأى بعينه الأخطار المحدقة بالإمام (علیه السلام) ، والوقائع المكذّبة للقرد

ص: 173

المخمور في مزاعمه، ولو لم يكن شاهداً على ذلك من الوقائع سوى إصراره على الإمام (علیه السلام) للبقاء في مكّة أو التوجّه إلى اليمن لَكفى، فهو إنّما كان يلحّ على ذلك لأنّه قد جزم من خلال الوقائع أنّ خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق سيؤدّي إلى قتله، وأنّ بقاءه في مكّة سيؤدّي إلى قتله، فحاول أن ينجو بالإمام (علیه السلام) من خلال توجيهه إلى اليمن إن لم يكن الإمام (علیه السلام) مقتنعاً بسلامة البقاء في مكّة.

وسيأتي الكلام بعد قليلٍ عن محاولة إبراز الإمام (علیه السلام) في صورة العازم على الانقضاض على مُلك القرد المخمور.

وكيف كان، فعلى أيّ محملٍ حُمل إصرار ابن عبّاسٍ وإلحاحه، فإنّه سيؤدّي إلى مزلقٍ خطيرٍ انزلق به المذكور إلى حافّة هاويةٍ لا يُرى قعرها، يمكن أن تتلخّص _ على أحسن التقادير وحُسن الظنّ _ في عدم تسليم ابن عبّاسٍ للإمام (علیه السلام) ، أو تخطئة الإمام (علیه السلام) في القرار الّذي اتّخذه في التوجّه إلى العراق، وصواب ابن عبّاسٍ فيما يراه مقابل ما قاله الإمام (علیه السلام) وعزم عليه.

الإضاءة الرابعة: رسم صورةٍ لحركة الإمام (علیه السلام) في كلام ابن عبّاس
اشارة

إقترح ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام) في لقائه هذا أن يقيم في مكّة، لأنّه سيّد أهل الحجاز، فإن أراده أهل العراق وأحبّوا نصره فلْيكتُب إليهم

ص: 174

الإمام (علیه السلام) لينفوا عدوّهم، ثمّ يذهب إليهم، وإلّا فلْيرحل إلى اليمن، ثمّ يبثّ دعاته وكتبه فيأتيه الناس! ((1))

لقد ركّز ابن عبّاس في غير موضع على نفي العدوّ وإعداد الكوفة والاستيلاء عليها قبل دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتجنّب التوجّه نحوها ما دام فيها حاكمٌ قاهرٌ متسلّط، كما ركّز على التحصّن باليمن ومخاطبة الناس من هناك، حتّى يستحكم الأمر وتتوفّر العدّة والعدد اللازم، والانزعاج من إقرار عين ابن الزبير، وهذه هي المشكلة العويصة الّتي كان ابن عبّاس وأمثاله قد تورّطوا فيها، ولا ندري كيف احتوتهم الغشاوة الكثيفة الّتي منعتهم من فهم كلام الإمام (علیه السلام) وإدراك موقفه!

لم نسمع من الإمام (علیه السلام) _ إلى هذه الساعة على الأقلّ _ أيَّ تصريحٍ موثوقٍ به، أو أنّه يتحلّى بمستوىً من الوثوق بحيث يورث الاطمئنان أو يسمح للمتابع الاعتماد عليه والارتكان إليه، يفيد عزماً ممّا يزعمه ويرسمه يزيد وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم.

ص: 175


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

لم يصرّح الإمام (علیه السلام) ولم يشر إلى عزمه على الاستيلاء على الكوفة أو الاستيلاء على السلطة والحكم واقتلاع القرود من أعواد المنبر الّذي نزوا عليه..

وهنا مشكلتان:

المشكلة الأُولى: تصوير ابن عبّاس

نجد في موقف ابن عبّاس غموضاً يكتنفه لا نجرؤ على اقتحامه وفكّ رموزه احتراماً لابن عبّاس! إذ أنّه يحاول هو وأضرابه تصوير موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته في صورةٍ معيّنةٍ تخدم الطاغوت، رغم ما يسمعونه من أجوبةٍ متماثلةٍ ومتشابهةٍ وإصرارٍ واضحٍ من الإمام (علیه السلام) وتأكيداتٍ صريحةٍ تفيد أنّه في خطر، وأنّ حياته مهدَّدةٌ تهديداً جدّيّاً حقيقيّاً منجّزاً، وأنّه في موقف الدفاع المحض عن نفسه وأهل بيته آل الله، وأنّه في مقام ردّ عادية القرود المسعورة.

فلماذا بقي ابن عبّاس وأمثاله يلحّ على عرض الإمام (علیه السلام) في صورةٍ لم يرسمها الإمام (علیه السلام) نفسه؟!

المشكلة الثانية: متابعة ابن عبّاس

نرى في متابعات الآخَرين البناء على تصوير ابن عبّاس وأمثاله والإعراض عن أجوبة الإمام (علیه السلام) وردوده، وعدم ملاحظة الظروف المحدقة

ص: 176

بتواجد الإمام (علیه السلام) يومذاك في مكّة والمدينة وغيرهما، وملاحظة تحرّكات العدوّ وسوابقه.

فابن عبّاسٍ ومَن نسجَ على منواله لا يألوا جهداً أن يرسموا للإمام (علیه السلام) صورة الخارج على السلطة والحكم القائم، وهي نفس الصورة الّتي جهد العدوّ على رسمها لحركة الإمام (علیه السلام) ليسوّغ قتله ويبرّر جريمته الشنيعة، والحال أنّ جميع المؤشّرات تفيد أنّ الخارج المتجاوز المعتدّي المبتدئ بالهجوم هو العدوّ، وأنّ الإمام (علیه السلام) كان في موقف الدفاع عن نفسه وأهل بيته.

وقد شرح الإمام (علیه السلام) في أكثر من موقفٍ لابن عبّاس وغيره الظروف التي اضطرّته للهجرة من مدينة جدّه ومسقط رأسه والاستجارة ببيت الله الحرم الآمن، وكشف لهم الإمام (علیه السلام) بوضوح طريقة تعامل العدوّ معه، وإقدامه بجدٍّ وعزمٍ على قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، وأجابهم أحياناً بأجوبةٍ مختصرة، كالتعويل على الاستخارة والنظر فيما يقولون، ولم يصرّح الإمام (علیه السلام) ولم يُصحِر لهم عن عزمه على ما يزعمونه.

رغم ذلك، لم يلتفت أحدٌ إلى ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، ولم يدقّق في كلماته البيّنات الواضحات، وإنّما اعتُمِد كلام العدوّ وتصوير ابن عبّاس وغيره، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 177

الإضاءة الخامسة: إقرار عين ابن الزبير
اشارة

روى الطبريّ وغيره، قال:

ثمّ قال ابن عبّاس: لقد أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز ((1)) والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك.. ((2)).

وقال ابن أعثم:

واللهِ _ يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) _ لقد أقررتَ عينَ ابن الزبير بخروجك عن مكّة وتخليتك إيّاه هذا البلد، وهو اليوم لا يُنظَر إليه، فإذا خرجتَ نظر إليه الناس بعد ذلك.. ((3)).

* * * * *

يمكن ملاحظة ما في النصّ من خلال عدّة متابعات:

المتابعة الأُولى: بداية الخبر

حسب تتبّعنا وفحصنا، يُعتبَر الطبريّ أوّل من روى تحسّس ابن عبّاسٍ من تخلية الحجاز لابن الزبير، وتحسّره على ذلك أثناء حواره مع

ص: 178


1- أُنظر: المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
2- تاريخ الطبري: 5 / 383، وانظر: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 45، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ لم نجده عند مَن سبقه من قبيل ابن سعدٍ والبلاذريّ والدينوريّ، كما ذكر ذلك ابن أعثم، وهو معاصرٌ للطبريّ، رغم أنّ من سبق الطبريّ وابن أعثم قد أتى على ذِكر الحوار واللقاء.

أجل، ذكر ابنُ سعدٍ كلام ابن عبّاس مع ابن الزبير، كما سنسمعه بعد قليل.

المتابعة الثانية: اهتمام ابن عبّاس وإعراض الإمام (علیه السلام)

يُلاحَظ أنّ مَن روى كلام ابن عبّاسٍ هذا لم يذكر تعليقاً للإمام (علیه السلام) عليه، وكأنّ الإمام (علیه السلام) لم يسمع من ابن عبّاسٍ ما قال، وأعرض عنه إعراضاً تامّاً، ولا يبدو أنّه اهتمّ بما قال، أو صدّقه، أو رضيَ به.

وذلك لأنّ الطريقة الّتي يفكّر بها ابن عبّاس وتصوّراته الّتي ابتنى عليها وتخيّلها متوهّماً لسبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة تختلف تمام الاختلاف عن تلك الّتي شرحها له الإمام (علیه السلام) وبيّنها.

فاهتمام ابن عبّاسٍ ينصبّ على قصّة الحكم والسلطان، واهتمام الإمام (علیه السلام) يتركّز في حماية نفسه وأهله وعياله والبقيّة من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ولا ندري ما الّذي جرى لابن عبّاس بحيث عجز عن التفكير إلّا بما يتوهّمه، وعجز عن فهم كلام الإمام (علیه السلام) وإدراك موقفه، وما الّذي دعاه إلى تجاهل سكوت الإمام (علیه السلام) وعدم ردّه على مثل هذه التصوّرات؟!

والحال أنّ ابن عبّاس قد سمع تعريض الإمام (علیه السلام) بابن الزبير وإشارته

ص: 179

إليه، وأنّه لا يحبّ أن يكون الّذي تُستباح به الكعبة!

ويشهد له ما رواه ابن سعدٍ وغيره، قال:

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس من عنده وهو مغضب، وابن الزبير على الباب، فلمّا رآه قال: يا ابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك، هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك والحجاز.

ثمّ قال:

يا لكِ من قنبرةٍ بمعمرِ

خلا

لكِ الجوّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري ((1))

وسيأتي قريباً مزيدٌ من النصوص والحديث في ذلك.

المتابعة الثالثة: رعاية حرمة الكعبة

صرّح الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في أكثر من موضع أنّه لا يحبّ أن تُهتَك به حرمة الكعبة والحرم، وهذا الأمر بالنسبة للإمام (علیه السلام) في غاية الأهمّيّة، والقضيّة فوق قضيّة الحكم والسلطان ومحاربة الأعداء، فالبيت الحرام مكانٌ مقدَّسٌ حُرّم فيه القتال إلّا في استثناءاتٍ خاصّة.

أمّا طلّاب الدنيا الّذين دلعوا ألسنتهم، فلا يهمّهم أن يسيل لعابهم النحس ودمهم النجس في أروقة المسجد الحرام، ولا يهمّهم أن تُهتَك أيُّ

ص: 180


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211.

حرمةٍ من حُرَم الله، ويتّخذون الدين آلةً للدنيا، فلا ضَير عند ابن الزبير والأُمويّين وأمثالهم من تدنيس المواطن المقدّسة وتعدّي حدود الله (تبارك وتعالى).

ولا ندري إن كان ابن عبّاسٍ يُدرك ذلك، أو أنّه كان يتجاهله، أو أنّه كان يتعامل مع الأُمور بنفس طريقة ابن الزبير؟!

المتابعة الرابعة: مقايسة الإمام (علیه السلام) بابن الزبير

ربّما فهم المتلقّي من كلام ابن عبّاسٍ للوهلة الأُولى أنّه يفضّل سيّد الشهداء (علیه السلام) على ابن الزبير، حيث أنّه كان يؤكّد أنّ أحداً لا يلتفت إلى ابن الزبير ما دام الإمام (علیه السلام) في مكّة، فإذا خرج التفت الناس إلى ابن الزبير، ولذا كان خروجه إقراراً لعين ابن الزبير، وهذا هو ما حاول المؤرّخ تمريره من خلال تعليقته على وجود سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة (أنّه كان أثقل الناس على ابن الزبير، لأنّه كان يعلم أنّ أحداً لا يبايعه ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) فيها).

بَيد أنّ هذه الدعوى نفسها فيها مقارنةٌ غير منصفةٍ وباطلةٌ وتافهةٌ بين خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وابن الزبير، بحيث تجعل ابن الزبير بديلاً لسيّد الشهداء (علیه السلام) ومنافِساً له في الدعوة والشخصيّة، وكأنّ شخص ابن الزبير يأتي في المرتبة الثانية بعد الإمام الحسين (علیه السلام) .

كما يفيد نحواً من المقارنة بين الدعوتين، دعوة الإمام (علیه السلام) _ حسب

ص: 181

تصويرهم _ ودعوة ابن الزبير، وكأنّ الدعوتين من جنسٍ واحد، غير أنّ شخص الإمام (علیه السلام) يفوق شخص ابن الزبير، فلو غاب شخص الإمام (علیه السلام) بلغ ابن الزبير مقام الإمام (علیه السلام) بين الناس وبلغت دعوتُه منهم وأصابت مواضع القبول من قلوبهم، فأجابوه!

المتابعة الخامسة: اختلاف الأتباع

يبدو واضحاً لمن تتبّع الأحداث وتعرّف إلى الناس أنّ مَن يقتنع بدعوة ابن الزبير ويحبّه ويستجيب له غير مَن يشايع الإمام (علیه السلام) ويتابعه ويؤمن به.

وقد تبيّن فيما بعد الاختلاف البيّن بين الأتباع، وأنّ مَن كان مستعدّاً لبذل نفسه في دنيا ابن الزبير، أو كان قابلاً للتأثّر به، أو كان مؤهّلاً للاستجابة لضلالاته، لا يستجيب للإمام (علیه السلام) ولا يقبل منه.

وبكلمة: فإنّ أتباع ابن الزبير هم ممّن يصدق عليهم قول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) : «الناس عبيد الدنيا ...»، وأتباع الإمام (علیه السلام) وشيعته _ في ذلك الموقف المشهود بالخصوص _ لا يمكن أن يكونوا إلّا من القلّة الديّانين.

المتابعة السادسة: كفاية مدّة الإقامة

كان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مقيماً في مكّة أكثر من أربعة أشهر، وكانت هذه المدّة كافيةً لاجتماع الأنصار، لو وُجدوا، وكانت دعوة

ص: 182

الإمام (علیه السلام) _ بزعم ابن عبّاس _ كدعوة ابن الزبير، وكان ابن الزبير متواجداً في مكّة في نفس تلك الفترة.

فإن كان ابن عبّاس يقصد من إقناع الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة لجمع الأنصار لما يتصوّره هو في حركته، فقد كان في تلك الفترة الطويلة مدّة كافية لجمع الأتباع والأنصار والمحبّين، وقد تبيّن أن ليس في مكّة مَن يحبّ الإمام (علیه السلام) وينوي الذبّ عنه ومنعه والدفاع عنه، أو القيام معه لغرض الإطاحة بالحكم والاستيلاء على السلطان كما يتوهّم ابن عبّاس وأمثاله، وقد أتينا على بيان ذلك مفصّلاً، فلا نعيد.

المتابعة السابعة: تكثّر الجبهات

إن كان ابن عبّاسٍ يريد من بقاء الإمام (علیه السلام) منع ابن الزبير من جمع الأنصار والأتباع والوصول إلى غايته، فليس هذا النمط من التفكير والتدبير ممّا يليق بابن عبّاس، إذ أنّ منع ابن الزبير من تجميع الأنصار وصدّه عن فتح جبهةٍ جديدةٍ على العدوّ، وإرباك الأعداء ومشاغلتهم على أكثر من صعيدٍ وجبهةٍ وبلدٍ لا يخدم قضيّة الإمام (علیه السلام) .

فكلّما التهب الوضع ذلك اليوم، وتكثّر أعداء السلطة، وكثرت جبهات المعارضة والقتال، ضعف العدوّ عن محاربة الإمام (علیه السلام) ، وتشتّتت عساكره وتفرّقت أفكاره واهتماماته.

فلْتكن حركة في مكّة لمن لا يرى لها حرمة، ولتكن حركة في الكوفة،

ص: 183

وأُخرى في البصرة، وهكذا، كي يعجز العدوّ عن مواجهتها جميعاً في آنٍ واحد، ولا يكون الظفر إلّا لمن لا يرى الناس فيه عِدلاً لغيره، ولا يبايعون غيره أيّاً كان، وفق تقرير ابن عبّاس الّذي أكّد أن لا أحد يلتفت إلى ابن الزبير ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) موجوداً.

المتابعة الثامنة: المواجهة بين الإمام (علیه السلام) ويزيد

ربّما كان من خطأ تقديرات ابن عبّاس ومَن كان يفكّر بطريقته، إذ صوّر من خلال قوله: إنّ خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة يقرّ عين ابن الزبير، أنّ ثَمّة منافسةٌ بين الإمام (علیه السلام) وابن الزبير في مكّة.

والحال أنّ العدوّ الّذي كان يتربّص بالإمام (علیه السلام) ويبغي له الغوائل ويبيّت قتله ويسعى في ذلك، إنّما هو يزيد وأذنابه وذئابه، وإن كان ابن الزبير يُضمِر العداء والحقد والضغينة للإمام (علیه السلام) ولآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، غير أنّه كان مشغولاً يومها بنفسه وبتحقيق غاياته، وعاجزاً عن مواجهة الإمام (علیه السلام) ومحاربته.

فالمواجهة الحقيقيّة يومها كانت مع يزيد، ولم تكن أيّ نوعٍ من أنواع المواجهة بين ابن الزبير وبين الإمام (علیه السلام) ، ولم تكن ثمّة مخطّطاتٌ للمواجهة بينهما، أو منافسةٌ كما يصوّرها كلام ابن عبّاس.

ص: 184

المتابعة التاسعة: الإمام (علیه السلام) يعمل بتكليفه

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يعمل بتكليفه الإلهيّ، ويمتثل أمر الله، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم، سواءً أكان في ذلك ما يقرّ عين ابن الزبير أو ما يسخنها، فليس رضى فلان وسخط فلان بذي بالٍ ولا ذي قيمةٍ بتاتاً فيما يفعله الإمام (علیه السلام) ويختاره، وهو خيرة الله، وإرادته إرادته، ولا يصدر فعلُه إلّا عن أمره، وليس رضى الإمام (علیه السلام) سوى رضى الله (عزوجل) ، فإن كان فيما يفعله رضى المخلوقين فهي سعادتهم وتوفيقهم، وإن كان فيما يفعله سخط المخلوقين فلْيسخطوا ليسخط الله عليهم.

فلا معنى لتحديد تكليفٍ للإمام (علیه السلام) رعايةً لما يُسخِط ابن الزبير أو يُرضيه، وما يقرّ عينه أو يسخنها.

وبكلمة: إنّ الأمر لا يتعلّق بالحكم والسلطان والاستيلاء على الدنيا، ليكون فيها مجالٌ لهذا النمط من التفكير الّذي يشي بروح الحسد والمنافسة والمسابقة في جمع الأنصار ولو على الباطل، والتحرّز عن تقديم المكاسب للمنافس، وغيرها من إفرازات التنافس على حطام الدنيا.

المتابعة العاشرة: جواب الإمام (علیه السلام) في نصّ ابن أعثم

إنّ مَن روى كلام ابن عبّاس هنا لم يذكر للإمام (علیه السلام) ردّاً عليه، إلّا ابن أعثم _ حسب فحصنا _ حيث عقّب على كلام ابن عبّاس بقوله:

فقال الحسين: «إنّي أستخير الله (تعالى) في هذا الأمر ماذا

ص: 185

يكون» ... ((1)).

وقد ورد نفس هذا الردّ في كلام المؤرّخين قبل هذا الموضع من كلام ابن عبّاس، وانتهى المقطع عندهم بتهديد ابن عبّاس أن لولا خوفه أن يُزرى به لَشبك يده في شعر الإمام (علیه السلام) حتّى يمنعه، ثمّ يخرج مغاضباً، أو يخرج وهو ينعى قتيل العَبرة.

أمّا ابن أعثم، فلو قُرئ متنه يتبيّن أنّه أخّر ردّ الإمام (علیه السلام) بالاستخارة والنظر عن الموضع المعتاد عند المؤرّخين إلى نهاية اللقاء، ليكون ردّاً على جميع ما قاله ابن عبّاس، فهو لا يبدو ردّاً خاصّاً بكلامه هذا على وجه التحديد.

وعلى فرض أنّه ردّ على هذا الكلام بالخصوص، فإنّه أيضاً أرجعه إلى الاستخارة والنظر فيما يكون من هذا الأمر، ويبدو واضحاً ما يحتويه من المداراة والحديث معه على قدر عقله.

الإضاءة السادسة: ابنُ عبّاسٍ ينعى الإمامَ (علیه السلام)
اشارة

روى جملةٌ من المؤرّخين ختام اللقاء الثاني على النحو التالي:

ورُوي أنّ ابن عبّاسٍ خرج مِن عند حسينٍ وهو يقول: وا

ص: 186


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

حسيناه! ((1)) أنعى حسيناً لمن سمع ((2)).

وقال جماعةٌ سبقهم الدينوريّ:

فخرج ابن عبّاسٍ مِن عند الحسين ((3)).

وقال ابن أعثم:

فخرج ابن عبّاسٍ من عنده وهو يقول: وا حبيباه! ((4))

وربّما كان ما رواه ابن أعثم هو نفس ما رواه الخوارزميّ الّذي اعتاد النقل عنه، فحصل شيءٌ من التصحيف، ففي نصّ الخوارزميّ: «واحسيناه»، وفي نصّ ابن أعثم: «وا حبيباه»، وليس الأمر ذا بال.

* * * * *

يمكن تسليط بعض الأضواء على هذا المقطع من المتن:

الضوء الأوّل: ختامٌ غاضِب

مَن يعيش أجواء هذا اللقاء ويسمع خواتيمه حين تمنّى ابنُ عبّاسٍ أن

ص: 187


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
3- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، وانظر أيضاً: تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
4- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

يأخذ بناصية الإمام ((1)) خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وشعره! وغيرها من تهديداته في حال عصاه الإمام (علیه السلام) ولم يُطِعه _ حسب زعمه _، وطريقة حديثه مع الإمام (علیه السلام) .. يستشعر بوضوحٍ أنّ اللقاء قد انتهى وابن عبّاسٍ كان منزعجاً غاضباً، أمّا الإمام الحسين (علیه السلام) فهو رحمةٌ للعالمين قد وسع العالمين بحلمه وتحمّله وصبره.

فختام اللقاء ونهايته كان ختاماً مشدوداً متشنّجاً، بعيداً عن الرضى والتسليم للإمام (علیه السلام) وليِّ أمر ابن عبّاس والخلق أجمعين، سواءً أكان تمرّده على الإمام (علیه السلام) نابعاً عن شفقته وحرصه على الإمام (علیه السلام) ، أو كان لأيّ سببٍ آخَر.

ويشهد له ما رواه ابن سعد وابن عساكر _ واللفظ للأوّل _ :

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس من عنده وهو مُغضب، وابن الزبير على الباب، فلمّا رآه قال: يا ابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك، هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك والحجاز ... ((2)).

ص: 188


1- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، المتنظم لابن الجوزي: 5 / 328، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211.

وكان ينبغي لابن عبّاسٍ أن يتذكّر في مثل هذا الموقف ما رواه نفسُه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) :

روى ابن عبّاس: قال لي الحسين بن عليّ (علیه السلام) : يا ابن عبّاس، لا تتكلمنّ بما لا يعنيك، فإنّي أخاف عليك الوزر، ولا تتكلمنّ بما يعنيك حتّى ترى له موضعاً، فرُبّ متكلّمٍ قد تكلّم بحقٍّ فعِيب، ولا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يرديك، ولا تقولنّ خلف أحدٍ إذا توارى عنك إلّا مثل ما تحبّ أن يقول عنك إذا تواريتَ عنه، واعملْ عمَلَ عبدٍ يعلم أنّه مأخوذٌ بالإجرام مجزيٌّ بالإحسان، والسلام ((1)).

الضوء الثاني: دلالات النعي!

ربّما تفجّع ابن عبّاسٍ لما سيلقاه الإمام (علیه السلام) حبيبُ الله وحبيبُ رسوله (صلی الله علیه و آله) في سفره الّذي عزم عليه، تماماً كما تفجّعَت السيّدة الطاهرة أُمُّ سلَمة أُمّ المؤمنين، وكما تفجّع أهل البيت (علیهم السلام) ؛ لعلمهم أنّه سفرٌ لا عَود فيه، وقد ازداد ابن عبّاسٍ ألماً حين وجد نفسه عاجزاً عن إقناع الإمام (علیه السلام) ، وهو يعلم أنّه يسير والمنايا تسير معه.

ص: 189


1- موسوعة ابن عبّاس للسيّد الخرسان: 5 / 246 _ عن: كنز الفوائد: 194، الأعلام للديلمي: 145.

وربّما كان النعي بمعنى الإشادة بنفسه، سيّما أنّه أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وأكّد أنّه ينعى حسيناً لمن سمع، ليقول: إنّه قد نصح الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأخبره بما سيؤول إليه أمره، غير أنّ الإمام (علیه السلام) عصى وأبى أن يطيعه، على حدّ زعمه! فكانت النتيجة كما تنبّأ وأخبر، وكأنّه قد علم واستكشف واستشرف ما خفي على غيره حتّى على الإمام (علیه السلام) !

بَيد أنّ الناس جميعاً قد سمعوا إخبار خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ، وغيرهما ممّن سبق ولحق من الأولياء (علیهم السلام) ، فإنْ أخبرَ فإنّما أخبر عنهم، لا باجتهاده ومعرفته بالأُمور والمستقبل وانكشاف الغَيب له من وراء سترٍ رقيق!

ص: 190

اللقاء الثالث: «لولا أن يُزرى بي أو بك لَشبكتُ بيدي في رأسك»!

اشارة

يمكن تقسيم متون هذا اللقاء إلى مشهدَين:

المشهد الأوّل: تتمّة اللقاء
اشارة

روى ابن سعد، وابن عساكر، وابن العديم، والمزّيّ، والذهبيّ، وابن كثير:

فقال الحسين: «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت».

فقال ابن عبّاس: لولا أن يُزري ذلك بي أو بك لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلمُ أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلت، ولكن لا أخالُ ذلك نافعي ((1)).

ص: 191


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، وانظر أيضاً: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

ثمّ قال ابن عبّاس: أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه بالحجاز، فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو، لو أعلمُ أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتني وأقمت، لَفعلتُ ذلك.

قال: ثمّ خرج مِن عنده ((1)).

وقال أبو الفرَج:

فلمّا أبى الحسين قبول رأي ابن عبّاس، قال له: واللهِ لو أعلمُ أنّي إذا تشبّثتُ بك وقبضتُ على مجامع ثوبك وأدخلتُ يدي في شعرك حتّى يجتمع الناس علَيّ وعليك كان ذلك نافعي، لَفعلتُه، ولكن أعلمُ أنّ الله بالغ أمره.

ثمّ أرسل عينيه فبكى، وودّع الحسين، وانصرف ((2)).

وقال ابن الصبّاغ، والشبلنجيّ:

فقال له ابن عبّاس: واللهِ لو أعلمُ أنّي إذا أخذتُ بناصيتك وأخذتَ بناصيتي حتّى يجتمع الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلت.

ص: 192


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، وانظر أيضاً: المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

ثمّ خرج عنه ابن عبّاسٍ وهو يقول: واللهِ لقد قرّت عينُ ابن الزبير بمخرجك من الحجاز ((1)).

* * * * *

يبدو لمن نظر في هذه المتون مدى التشنّج والغضب الحاكم على المشهد، وشدّة التعابير المستخدمة تخبر بوضوحٍ عن التهاب الموقف واشتعال اللقاء، فسيّد الشهداء (علیه السلام) ومعدن الحلم والكرم والجود ومكارم الأخلاق يقول لابن عبّاس _ وفق نصّ ابن سعد وآخرين _ : «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت»، ويجابه ابنُ عبّاسٍ سيّدَه وإمامه ووليّ أمره بأشدّ العبارات الوقحة والتهديد القبيح، كما سنرى بعد قليل.

ويمكن أن نقرأ النصوص من خلال الشعلات التالية:

الشعلة الأُولى: معاني بعض الكلمات
اشارة

قبل الدخول في قراءة النصوص، نحاول بيان معاني بعض الكلمات الّتي استخدمها ابن عبّاس هنا:

الناصية:

واحدة النواصي، قُصاصُ الشَّعْر في مُقدَّم الرأس.

قال الأزهريّ: النَّاصِيَة عند العرب: مَنْبِتُ الشعر في مقدَّم الرأس، لا

ص: 193


1- الفصول المهمّة لابن الصباغ: 185، 187، نور الأبصار للشبلنجي: 257- 259.

الشَّعَرُ الّذي تسمّيه العامّة: النَّاصِيَة، وسُمّي الشعر ناصيةً لنباته من ذلك الموضع، وقيل في قوله (تعالى): ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾، أي: لنُسَوِّدَنَّ وجهه، فكَفَتِ الناصِيَةُ، لأنّها في مقدّم الوجه من الوجه.

وقوله (عزوجل) : ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾، قال الزجّاج: معناه في قَبْضَته تَنالُه بما شاء قُدرته، (أي: متمكِّنٌ منها) ((1)).

وقال ابن دريد: نَاصَيْتُه، جَذَبْتُ ناصِيَتَه ((2)).

ونَصَوتُه: قبَضْتُ على ناصِيَته فمددتُها.

وناصَيْتَ فلاناً إذا قاتلته، فأخذتما بناصِيَتَيْكما ((3)).

قال الطُّريحيّ:

قوله (تعالى): ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾، أي: هو مالكٌ لها، قادرٌ عليها يصرفها على ما يُريدُ بها، والأخذ بالنواصي تمثيل.

قوله (تعالى): ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ﴾، قيل: يُجمَعُ بين ناصِيَته قَدَمِه بسلسلةٍ مِن وراءِ ظَهره، وقيل: يُسحَبُون تارةً بأخذ النواصي وتارةً بالأقدام.

وفي الحديث: «يُؤخَذُ الرجُلُ بلحيَتِه والمرأةُ بناصيتها»، أي: لَنذلّنّه

ص: 194


1- المفردات للراغب: نَصَا.
2- لسان العرب لابن منظور: نَصَا.
3- كتاب العَين للفراهيدي: نَصَوَ.

ونُقيمه مقام الأذلّة، ففي الأخذ بالناصية إهانةٌ واستخفاف! وقيل: معناه: لَنُغيّرنّ وجهه.

والناصية: قصاص الشعر فوق الجبهة، والجمع: النواصي.

وفي الدعاء: «والنواصي كلُّها بيدك»، أيضاً من باب التمثيل، أي: كلّ شيءٍ في قبضتك ومُلكك وتحت قدرتك وسلطانك ((1)).

وفي حديث ابن عبّاس قال للحسين (علیه السلام) حين أراد العراق: «لولا أنّي أكره لَنَصَوْتُك»، أي: أخذتُ بناصِيَتك ولم أدَعْك تخرج.

إبن برّي: قال ابن دريد: النَّصِيُّ: عَظْمُ العُنُق ((2)).

زري:

الزَّرْيُ: أن يَزْرِيَ فُلانٌ على صاحبِه أمْراً، إذا عابَه وعنَّفَه ليرجع، فهو زارٍ عليه، وإذا أدخل الرجلُ على غيره أمراً فقد أزرى به ((3)).

نشب:

الليث: نشِبَ الشيءُ في الشي ءِ نَشَباً، كما يَنْشَبُ الصَّيْدُ في الحِبالة.

الجوهريّ: نَشِبَ الشيءُ في الشي ءِ _ بالكسر _ نُشوباً، أي: عَلِقَ فيه، وأنْشَبْتُه أنا فيه، أي: أَعْلَقْتُه فانْتَشَب، وأنْشَبَ الصائدُ: أعْلَقَ، ويُقال:

ص: 195


1- مجمع البحرين للطريحي: نَصَا.
2- لسان العرب لابن منظور، والنهاية في غريب الحديث والأثر: نَصَا.
3- أُنظر: كتاب العين للفراهيدي، ولسان العرب: زَرِيَ.

نَشِبَت الحربُ بينهم، وقد ناشَبَه الحرْبَ، أي: نابَذَه.

يقال: نَشِبَ في الشيء، إذا وَقَعَ فيما لا مَخْلَص له منه ((1)).

الشعلة الثانية: إساءة الأدب

نشبتُ يدي في رأسك!!!

أخذتُ بشعرك وناصيتك!!!

أدخلتُ يدي في شعرك!!!

أخذتُ بناصيتك!!!

قبضتُ على مجامع ثوبك، وأدخلتُ يدي في شعرك!!!

الإمام الحسين (علیه السلام) حرم الله.. رأس الإمام (علیه السلام) أعظم حُرم الله.. شعر الإمام (علیه السلام) حرم الله.. ناصية الإمام (علیه السلام) حرم الله.. العزّة الإلهية.. ناصيته ناصية التوحيد والإسلام والدين والكون والتكوين..

الإمام الحسين (علیه السلام) من شعائر الله العظمى الّتي أمر الله أن تُعظَّم.. ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ((2))..

الإمام الحسين هو الإمام الحسين (علیه السلام) ، فما نقول فيه فنحن العاجزون، ولو اجتمع الجنّ والإنس ليقولوا فيه وفي حرمته وقداسته ما بلغوا..

ص: 196


1- أُنظر: لسان العرب: نشب.
2- سورة الحجّ: 32.

فلْيكن ابن عبّاسٍ مَن يكن.. فإنّه _ وسائر العالمين، إلّا مَن استثناهم الله _ لو خرق الأرض وبلغ الجبال طولاً لا يساوي تراب أقدام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فأنّى له أن يتجاسر على الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) بهذه الجسارة الوقحة، لأيّ سببٍ كان، ولأيّ دافع!!!

أتطال يدُ ابن عبّاسٍ القصيرة! لتنشب في رأس سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ؟!

أيكون لمثل يد ابن عبّاسٍ أن تنال ناصية سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ؟!

أيكون لابن عبّاسٍ من الحجم والوزن والكيان ما يمكنه أن (يأخذ بناصية) حبيب الله ووصيّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقد سمعنا قبل قليلٍ كيف استعمل الله (تبارك وتعالى) هذا التعبير للامتهان والتهوين والإهانة والاستخفاف؟!

ناصية الوصيّ.. ورأس الوصيّ.. تمتدّ لها يد ابن عبّاسٍ لتمنعه إذلالاً وقهراً وإجباراً!

يتمنّى ابن عبّاسٍ أن يُخضِع الرأس المقدّس الّذي ما سجد إلّا لله، ويجعله منصاعاً مطاوعاً له فيما يريد؟!

إنّها نكبةٌ لا يقوم منها صاحبها، وعثرةٌ لا تُقال!

ولا نرى من الصلاح الاستمرار في بيان عظيم ما تفوّه به عبد الله بن

ص: 197

عبّاس، فنسكت رعايةً لحجم ابن عبّاس عند الناس، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

والقليل الّذي ذكرناه من بيان ما في كلماته من جسارةٍ إنّما أقدمنا عليه لأنّنا قايسنا ابن عبّاس إلى سيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) ، حيث يتضاءل أمامه كلُّ عظيمٍ من المخلوقات، إلّا مَن استثناهم الله.

الشعلة الثالثة: حُسن النوايا!

قد يقال: إنّ ابن عبّاس فعل ذلك حبّاً بالإمام (علیه السلام) وشفقةً عليه، لمّا رأى نفسه عاجزاً عن إقناعه بما يريد له من السلامة والبقاء، ولأنّه يعرف جلفيّة الأعداء وجرأتهم على الله وعلى حرمات الله.

غير أنّ هذا لا يشفع له؛ فإنّ الحبّ والشفقة لا يصدر منهما إلّا رعاية الأدب والمعرفة بالمخاطَب، وليس له _ وهو بين يدَي بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه _ أن يتخطّى حجمَه، ويتعدّى طورَه، ويُسيءَ الأدبَ في محضر الوليّ الأعظم وصاحب الزمان، ووليّ أمره وراعيه وإمامه.

وقد حاول البعض تبرير فعلة ابن الخطّاب بين يدَي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم قال: إنّ الرجل أو إنّ النبيّ لَيهجر، فقالوا: إنّه كان غضوباً، فغضب للنبيّ (صلی الله علیه و آله) وأراد أن يُسكِت مَن بحضرته، فنهرهم بهذه الكلمات، فهل كان هذا مسوّغاً له أن يفوه بهذه الكلمات الّتي أنكر من خلالها النبوّة واعتدى على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؟!

ص: 198

فإن كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) _ والعياذ بالله _ يهجر، فإنّ جميع ما جاء به قد يكون من الهجر، فلا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه، ولا القول بنبوّته.. نستغفر الله ونتوب إليه، وقد قال الله _ وهو أصدق القائلين _ : ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ((1)).

أيسوغ لمن تحرّكه الشفقة والغضب _ كما يزعمون _ أن يتنكّر للحقّ، وينكر الحقّ ورجاله، ويعتدي على النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ؟!

الشعلة الرابعة: يُزرى بي أو بك

في لفظ ابن سعدٍ وابن عساكر وابن العديم والمزّيّ والذهبيّ وابن كثيرٍ وغيرهم: «لولا أن يزري ذلك بي أو بك!».

يزري ذلك بي أو بك!

ربّما كانت هذه من المشاكل الّتي تورّط بها ابن عبّاس، إذ أنّه كان يعدّ نفسه رقماً بين يدَي سيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) ، فهو يخشى أن يُزرى به قبل أن يخشى أن يُزرى بالإمام (علیه السلام) ، فيقدّم نفسه في الكلام على إمامه!

ويُشعِر استخدام «أو» أنّه جعل نفسه عِدْلاً للإمام (علیه السلام) في هذا الأمر، وجعل نفسه مقابل الإمام (علیه السلام) فيما يخشاه، فهو يخشى أن يُزرى به أو بالإمام (علیه السلام) ! ولم يقل: لولا أن يزري ذلك بي وبك، أو يقدّم الإمام (علیه السلام) على

ص: 199


1- سورة النجم: 3 و4.

نفسه كما هو مقتضى الأدب، فيقول: بك وبي.

ولم يكن تعبيره هذا منحصراً بهذا اللفظ، فقد قال أيضاً: «حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس».

الشعلة الرابعة: افتراض سلوكٍ للإمام (علیه السلام) !

إذا تناصينا!!

إذا أخذتُ بناصيتك، وأخذتَ بناصيتي!!

إنّ هذا لمن أعجب العجب؛ إذ افترض ابنُ عبّاسٍ أنّه إن أخذ بناصية الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) سيشتبك معه، ويفعل نفس الفعلة، فيأخذ بناصيته.. فمن أين علم أنّ الإمام (علیه السلام) سيسلك نفس سلوكه ويتعامل معه بنفس التعامل؟ والحال أنّ الإمام (علیه السلام) معدن جميع المحامد، وهو أصل الجود والكرم والترفّع عن الجهل والجهالة والجهّال، وقد طهّره الله تطهيراً، وقوله وفعله وتقريره حجّة، فليس يُقاس فعل ابن عبّاسٍ بفعل الإمام (علیه السلام) !

ولو كان الإمام (علیه السلام) قد أخذ بناصية ابن عبّاسٍ لقلنا عنها: ناصية كاذبة خاطئة، فلْيحمدِ الله أنّ الإمام (علیه السلام) لم يأخذ بناصيته.

وعلى كلّ تقدير، سواءً كان ابن عبّاس يأخذ بناصية الإمام (علیه السلام) ، أو يأخذ الإمام (علیه السلام) بناصيته، فإنّه إنّما يأخذ بها إلى النار، أعاذنا الله منها.

ص: 200

الشعلة الخامسة: يجتمع علَيّ وعليك الناس!

يصوّر ابن عبّاسٍ ما سيحدث إذا تناصا مع الإمام (علیه السلام) وأخذ برأسه ونشب يده في شعره وأخذ بمجامع ثوبه، حتّى يجتمع الناس عليه وعلى الإمام (علیه السلام) ، فهو يقدّم نفسه هنا على الإمام (علیه السلام) أيضاً، فلا يقول: يجتمع عليك وعلَيّ الناس، ويصوّر المشهد تصويراً فيه شيءٌ من الإساءة والوقاحة، إذ أنّه سيتصرّف بشكلٍ قاسٍ فجٍّ فيه ضجيجٌ غير عاديٍّ بحيث يثير تعجّب الناس وفضولهم، فيجتمعون عليهما ليشهدوا مشهداً غير طبيعيّ، ولا نقول أكثر من ذلك.

الشعلة السادسة: أطعتَني!

يبدو أنّ ابن عبّاسٍ لا يرى نفسه في هذا الموقف مشيراً، أو صاحب رأيٍ يعرضه على الإمام (علیه السلام) ، وإنّما يتكلّم من موقع الآمِر الناهي، وعلى الإمام (علیه السلام) أن يطيع لا غير!

وقد سمعنا قبل قليلٍ أنّه كان يتعامل هكذا مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فكيف مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ونحن لم نجد لحدّ الآن حسب فحصنا ما يفيد بوضوح أنّ ابن عبّاسٍ يعتقد بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) ، والاحترام والتقدير والتعظيم بحكم الرحم أو النسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيء، والاعتقاد بالإمامة وفرض الطاعة شيء آخَر!

ص: 201

وقد رأيناه يكرّر كلمة: «أطِعْني»، أو: «أطعتَني»، أو: «إنْ عصيتَني»..

فإن كان يعتقد أنّ على الإمام (علیه السلام) إطاعته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وإن كان يستعمل هذه الألفاظ ولا يعني وجوب الإطاعة أو ضرورته، فهو استعمالٌ غير موفَّق، بل غير مؤدّب، ورحم الله امرئاً عرف قدر نفسه، وأدرك حجمه ووزنه، واستشعر وقوفه بين يدَي أولياء الله، ودخولَه في بيوتٍ أذنَ اللهُ أن تُرفَع، وقد أمرنا الله أن نطيعهم ونسلّم لهم ونعظّمهم..

الشعلة السابعة: الغاية من هذا التصرّف المشين

يبدو من المتون الّتي نقلَت الحدث أنّ الغرض الأصليّ من هذا الضغط والإصرار إلى حدّ تمنّي ارتكاب هذه الفعلة الشنيعة وسلوك هذا الطريق المهول الخطير بالاشتباك مع الإمام (علیه السلام) بهذه الصورة القاسية والفجّة، هو أن يضطرّ الإمام (علیه السلام) لإطاعته وقبول قوله، والإقامة في مكّة.

وتفيد هذه المتون أنّ السبب في ذلك الخشيةُ من أن يكون خروجه (علیه السلام) إقرار عين ابن الزبير بتخلية الحجاز له ((1))، كما ترى واضحاً في النصوص الّتي ذكرناها، وقد ذكرت النصوص الأُخرى أسباباً أُخرى، وقد أتينا على ذِكرها، فلا نعيد.

ص: 202


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
الشعلة الثامنة: المانع من القيام بهذه الفعلة

يمكن أن نستخرج الموانع الّتي منعَت ابنَ عبّاسٍ عن القيام بما تمنّاه حسب ما ورد في تصريحاته هنا، إذ أنّه قال: «ولكن لا أخالُ ذلك نافعي»، فالمانع هنا علمه أنّ فعله لا ينفعه هو، ولا يمكن تحقيق مآربه.

وقال: «لو أعلمُ أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك ... أطعتَني وأقمت، لَفعلتُ ذلك»، فالمانع هنا علمه أنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يطيعه.

وأرجع _ حسب نصّ أبي الفرج _ السببَ إلى مانعَين: أنّه لا ينفعه، وأنّه يعلم أنّ الله بالغ أمره.

ومن العجيب، إذا كان ابن عبّاسٍ يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) لا يطيعه، وأنّه أعجز من أن يُقنِع الإمام (علیه السلام) ويضطرّه إلى السعي لتحقيق مآرب ابن عبّاس وما يرجوه، وأنّ الله بالغ أمره، فلماذا يلحّ هذا الإلحاح، ويتمنّى أنّه لو كان يقدر أن يفعل هذه الفعلة، ويعبّر بهذه الطريقة الّتي لا تنسجم مع مقام الاحترام والأدب مع سيّد الكائنات؟!

أوَليس كان الأَولى به _ وهو حَبر الأُمّة وترجمان القرآن وراوية الحديث النبويّ والملازم لسيّد الوصيّين (علیه السلام) _ أن يمتنع عن هذه الأُمنية والإصحار بها، ويرعى قداسة الإمام (علیه السلام) ووجوب تعظيمه والإذعان والتسليم والخضوع له، لأنّ التسليم له تسليمٌ لإرادة الله وأوامره؟

ص: 203

الشعلة التاسعة: النهاية

إنتهى اللقاء هنا بخروج ابن عبّاس، ويمكن استشعار مدى الغضب واليأس المسيطر على موقفه عند الخروج من خلال ملاحظة سياقات النصوص.

وقد ذكر أبو الفرج هنا مشهد الخروج بقوله: «ثمّ أرسل عينَيه فبكى، وودّع الحسين (علیه السلام) وانصرف»، فإن لم يفد هذا التعبير أجواء الغضب، فإنّه يفيد مدى اليأس والعجز عن إقناع الإمام (علیه السلام) .

المشهد الثاني: بعد الاستشارة
اشارة

روى محمّد بن سلمان الكوفيّ:

بالإسناد عن طاووس أنّه سمع ابن عبّاسٍ يقول: استشارني الحسين في الخروج، فقلت له: لولا أنّه أرزأ بي أو بك، لَنشبتُ يدي في شعرك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «لَئن أُقتَل بكذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحَلّ بي» [يعني مكّة].

فقال ابن عبّاس: فذلك الّذي سلى بنفسي عنه ((1)).

الطبرانيّ، والهيثميّ:

ص: 204


1- المناقب لمحمّد بن سلمان: 2 / 260 الرقم 725.

بالإسناد عن طاووس قال: قال ابن عبّاس: استأذنني حسينٌ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَشبكتُ بيدي في رأسك.

قال: فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا أحبّ إليّ من أن يُستحَلّ بي حرم الله ورسوله».

قال: فذلك الّذي سلى بنفسي عنه ((1)).

الخوارزميّ:

بالإسناد عن طاووس قال: سمعتُ ابن عبّاسٍ يقول: استشارني الحسين بن عليّ في الخروج من مكّة، فقلت: لولا أن يزري بي وبك، لَنشبتُ بيدي في رأسك.

قال: فقال: «ما أُحبّ أن تُستحَلّ بي»، يعني مكّة ((2)).

إبن عساكر، والمحامليّ:

• بالإسناد عن طاووس، عن ابن عبّاسٍ قال: استشارني الحسين بن عليّ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ

ص: 205


1- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 219.

من أن أستحل حرمتها»، يعني الحرم، وكان الّذي سلا بنفسي عنه.

قال: ثمّ يقول طاووس: ما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للحرم من ابن عبّاس، ولو أشاء أن أبكي لَبكيت.

• بالإسناد عن إبراهيم بن ميسرة سمع طاووساً يقول: [قال ابن عبّاس:] استشارني الحسين بن عليّ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي ذلك».

فقال: الّذي سلا بنفسي عنه.

ثمّ قال: ثمّ يحلف طاووس أنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((1)).

إبن العديم:

بالإسناد عن طاووس قال: سمعتُ ابن عبّاسٍ يقول: استشارني الحسين بن عليّ (علیهما السلام) بالخروج بمكّة، قال: فقلت: لولا أن يزرى بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

قال: فقال: «ما أُحبّ أن تُستحَلّ بي»، يعني مكّة.

قال: يقول طاووس: وما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن

ص: 206


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215.

عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((1)).

الذهبيّ:

عن طاووس، عن ابن عبّاسٍ قال: استشارني الحسين في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

فقال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ من أن أستحل حرمتها»، يعني مكّة، وكان ذلك الّذي سلا نفسي عنه ((2)).

الطبريّ في (الذخائر):

وعن ابن عبّاسٍ قال: استأذنني الحسين في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَقلتُ بيدي في رأسك.

قال: فكان الّذي قال لي: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحَلّ بي».

قال: فذاك سلى نفسي عنه.

خرجه ابن بنت منيع ((3)).

إبن كثير:

عن طاووس، عن ابن عبّاسٍ قال: استشارني الحسين بن عليّ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس، لَشبثتُ يدي في

ص: 207


1- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196.
3- ذخائر العقبى للطبري: 150.

رأسك فلم أتركك تذهب.

فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل في مكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أُقتَل بمكّة».

قال: فكان هذا الّذي سلى نفسي عنه ((1)).

إبن حجر:

عن طاووس، عن ابن عبّاس: استشارني الحسين في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يزري بك وبي، لَنشبت يدي رأسك ((2)).

الهنديّ:

عن طاووس قال: قال ابن عبّاس: جاءني حسينٌ يستشيرني في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يرزؤوا بك، لَشبثتُ يدي في شعرك، إلى أين تخرج؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟ ((3))

وكان الّذي سخا بنفسه عنه أن قال لي: «إنّ هذا الحرم يُستحلّ برجل، ولئن أُقتَل في أرض كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أكون أنا هو» ((4)).

* * * * *

ص: 208


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 356.
3- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.
4- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

متون هذا المشهد متقاربة، تكاد لا تختلف إلّا بعض الاختلاف الطفيف جدّاً في بعض الألفاظ، وهي جميعاً تحكي معنىً واحداً، وهي تتّفق في رواية حديث الاشتباك الّذي كان ابن عبّاسٍ ينوي القيام به لولا خوفه أن يزرى به أو بسيّد الشهداء (علیه السلام) لَفعله، ولهذا فإنّنا سنقتصر هنا على مواضع الاختلاف مع المشهد السابق كي لا نعيد.

ويمكن أن نشير إلى ذلك من خلال عدّة تنويهات:

التنويه الأوّل: اتّحاد الراوي في المصادر

يُلاحَظ في جميع النصوص المذكورة في المصادر اتّحاد الراوي الّذي يروي هذه القصّة، فالجميع اتّفقوا على نقلها مرسَلةً أو مُسندةً عن طاووس عن ابن عبّاسٍ نفسه.

التنويه الثاني: استشارني، استأذنني!

المتحدّث في هذا الخبر هو ابن عبّاس، وقد ذكر أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد (استشاره)، وفي لفظ آخَر (استأذنه) ((1)).

يبدو واضحاً لمن قرأ نصوص اللقاءات السابقة بما فيها المشهد الأوّل من هذا اللقاء، أنّ ابن عبّاس هو الّذي ابتدأ الإمام (علیه السلام) وبادر للدخول

ص: 209


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192، ذخائر العقبى للطبري: 150.

عليه، ولم نسمع فيها أنّ الإمام (علیه السلام) قد استشاره!

ولو كان قد استشاره، فإنّما عليه أن يُبدي رأيه، ثمّ يطيع الإمام (علیه السلام) ولا يتجاسر بهذه العبارات الفجّة السمجة.

ولا ندري إن كان ابن عبّاس يريد أن يعرض نفسه في صورة كبير القوم والمستشار الّذي لا يتعدّى رأيَه أميرُ المؤمنين (علیه السلام) وأولاده الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) ، ليركّز ما يروّجه هو ومَن نفخ في عنوانه واسمه باعتباره كبير أهل البيت وشيخ بني هاشم! إذ أنّنا لم نقرأ في التاريخ أنّ سيّد الخلق _ بعد مَن استثناهم الله _ الإمامَ الحسين (علیه السلام) قد استشار أحداً في خروجه من المدينة أو من مكّة، فكيف انفرد ابن عبّاسٍ بهذه الخصوصية، وفي هذا الخبر بالخصوص الّذي يُروى عنه؟!

والأدهى من ذلك لفظ الطبرانيّ والهيثميّ والطبريّ في (الذخائر): «استأذنني»، وكأنّ على الإمام (علیه السلام) أن يستأذن ابن عبّاس!!

نكتفي بهذا القدر، فمن يعتقد إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) وعصمته، وصغر ابن عبّاسٍ مقابله، يفهم، ولا يحتاج إلى تعليقٍ وتذكير!

التنويه الثالث: جاءني حسين!

في لفظ الهنديّ: قال ابن عبّاس: «جاءني حسين! يستشيرني» ((1)

ص: 210


1- أُنظر: كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

كذا ذكر الاسم من دون (ألف لام) التحلية والتعظيم، وهو خلاف ما درج على استعماله الأوّلون والآخرون، حتّى سيّد الرسل وأشرف الخلق جدّه محمّد (صلی الله علیه و آله) .

كذا زعم ابن عبّاسٍ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كان هو الّذي جاءه وقصده ليستشيره، حسب هذا النص.

وهذا الزعم يخالف جميع النصوص المذكورة في المقام، سيّما نصوص المشهد الأوّل، واللقاءات السابقة الّتي تصرّح أنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي قصد الإمام (علیه السلام) ودخل عليه.

ثمّ إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يكن متردّداً ولا متوقّفاً في خروجه من المدينة، وكذا خروجه من مكّة، ولم يكن محتاجاً لأحدٍ ولا لرأي أحدٍ ولا لنصح أحدٍ من العالمين، وكان قد عزم وتحرّك ولم يستشر أحداً، لوضوح الأحداث ومجرياتها ونتائجها، وهو العالم بالله، ولأنّه كان ماضٍ فيما أمره الله وشاءه.

أجل، لقد قصده الآخرون ودخلوا عليه وعارضوه أو عرضوا عليه ما يخالونه نصحاً بدوافع مختلفة، وقد أجاب الإمام (علیه السلام) كلَّ واحدٍ منهم بما يناسبه.

التنويه الرابع: ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

فقال سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) :

ص: 211

• «لَئن أُقتَل بكذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي»، يعني مكّة ((1)).

• «ما أُحبُّ أن تُستحلّ بي»، يعني مكّة ((2)).

• «... أُحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة» ((3)).

• فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي حرم الله ورسوله» ((4)).

• «... مِن أن أستحلّ حرمتها»، يعني الحرم ((5)).

• «... أن يُستحَلّ بي ذلك» ((6)).

• «... إنّ هذا الحرم يُستحلّ برجل، ولَئن أُقتَل في أرض كذا وكذا أحبُّ إليّ من أن أكون أنا هو» ((7)).

* * * * *

ص: 212


1- المناقب لمحمّد بن سلمان الكوفي: 2 / 260 الرقم 725.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 219، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603، ذخائر العقبى للطبري: 150.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
4- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196.
6- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.
7- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

لقد أتينا فيما سبق على تفصيل الكلام في قول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هذا، فلا نعيد، غير أنّنا سنذكر هنا باقتضابٍ سريعٍ بعض الإشارات:

الإشارة الأُولى: مفاد كلام الإمام (علیه السلام)

بغضّ النظر عن جانب الإخبار الغَيبيّ في كلام الإمام (علیه السلام) ، فإنّ المتابع للأحداث يفهم بوضوحٍ من كلام الإمام (علیه السلام) أنّ الإمام (علیه السلام) يقول: إنّني إنْ بقيتُ في مكّة فأنا مقتولٌ لا محالة.

فهو (علیه السلام) يُخبر عن الخطر المتنجّز المحدِق بجزمٍ وحزمٍ دون أيّ شكٍّ وترديدٍ به وهو في مكّة.

الإشارة الثانية: تخطئة ابن عبّاس وغيره

لمّا كان بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يعني قتله جزماً، كما هو واضحٌ من إخباره (علیه السلام) ، يلزم أن تكون دعوات ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما، والتأكيد على البقاء في مكّة، وأنّه سيبقى ممنوعاً في الحجاز، وأنّ الناس لا يعدلون به أحداً، وغيرها من مزاعمهم كلّها خطأ، وجميعها تقديرات بائسة تشي بضعف مدركات مدّعيها على أحسن ما يمكن حملها من محامل الخير!

الإشارة الثالثة: هتك الحُرمات

أفاد كلام الإمام (علیه السلام) أنّ العدوّ لا يتحرّج عن ارتكاب أيّ جريمة، ولا يرعى الحرمات الّتي توافق الناس على احترامها وتقديسها في الجاهليّة

ص: 213

والإسلام، وأنّ العدوّ لا يرى للحرم أيّة حرمة، والحال أنّ الإمام (علیه السلام) هو حرمات الله، ولا يرعى حرمات الله أحدٌ من العالمين مثله.

الإشارة الرابعة: التعريض بابن الزبير

الإمام (علیه السلام) لا يحبّ أن تُهتَك به حرمة الحرم، والعدوّ جاهزٌ لانتهاكها، فهو الّذي يباشر بمنع العدوّ من ارتكاب هذه الرذيلة، فيما بقي ابنُ الزبير متحصّناً بالحرم، وهو يعلم أنّهم جمعوا له الجموع، وعزموا على محاربته وقتله وهتك حرمة الحرم، وكان عليه أن يخرج منه لئلّا يوفّر الذرائع للعدوّ.

الإشارة الخامسة: مكان كذا!

لا ندري إن كان الإمام (علیه السلام) قد عبّر عن الموضع البديل بلفظ: «كذا وكذا»، أو أنّه (علیه السلام) قد صرّح بالموضع وأضمره ابن عبّاس، أو الراوي.. ففي بعض الأخبار التاريخيّة ذكر الإمام (علیه السلام) بعض الأسماء، سواءً أكانت صفاتاً للموضع أو اسماً لها، كما سيأتي إن شاء الله (تعالى).

المهمّ! إنّ المتحصّل من كلام الإمام (علیه السلام) أن يخرج إلى أيّ موضع مهما كان سوى مكّة والحرم، لأنّه ملاحَقٌ محاصَر، لا يتركه العدوّ بحالٍ حتّى يقتله ويحقّق فيه مأربه، فلْيخرج إذن حفاظاً على حرمة البيت، لئلّا يُهتَك بمن هو شرفٌ له ولكلّ المخلوقات، ولئلّا يُسفَك فيه الدم الزاكي الّذي سكن الخلد.

ص: 214

التنويه الخامس: سلى بنفسه عن الإمام (علیه السلام)
اشارة

قال ابن عبّاسٍ بعد أن سمع كلام الإمام (علیه السلام) :

فذلك الّذي سلى بنفسي عنه ((1)).

وفي (كنز العمّال) للهنديّ:

وكان الّذي سخا بنفسه عنه ... ((2)).

يبدو من تعبير الهنديّ في (الكنز) أنّه ينقل معنى قول ابن عبّاس دون النصّ كما فعل الآخرون، والمؤدّى واحد.

ويمكن أن نستكشف مؤدّى كلام ابن عبّاس من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: معنى (سلا)

سَلا عنه: نَسِيَه. وقال أبو زيد: معنى سَلَوْت، إذا نَسِي ذِكْره وذَهِلَ عنه.

وقال ابن شميل: سَلِيتُ فلاناً، أي: أبغَضْتُه وتَركْتُه.

ص: 215


1- أُنظر: المناقب لمحمّد بن سلمان الكوفي: 2 / 260 الرقم 725، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 158 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196، ذخائر العقبى للطبري: 150، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

الجوهريّ: وسَلَّاني مِن همِّي تَسْلِيَةً وأسْلاني، أي: كشَفَه عنّي ((1)).سَلَوْتُ عنه سَلْواً، من باب قعد: صبرتُ عنه، والسَّلْوَةُ اسمٌ منه.

وفي (القاموس): سَلاهُ، كدعاه ورضيه: نسِيَه.

وفي الحديث: «إنّ اللَّهَ (تعالى) ألقى على عِبادِه السَّلْوةَ بعد المصيبة، ولولا ذلك لَانقَطَعَ النسل».

وسَلانِي من همّي: كشَفَه عنّي.

وهو في سَلْوَةٍ من العَيش: أي في نعمةٍ ورفاهيةٍ ورغد ((2)).

النقطة الثانية: مؤدّى الكلام

أيمكن للإنسان أيّاً كان أن يرفل بالسلوة عن حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) وحبيب قلوب المؤمنين؟ إلّا أن تكون له حجّةٌ بالغةٌ قاطعة، فربّما حصلت السلوة عن الإمام المجتبى (علیه السلام) بوجود سيّد الشهداء (علیه السلام) مثلاً، أمّا أن تحصل السلوة عن الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) دون مقابل، فهذا ما لا يمكن تصوّره، فما الّذي دعا ابن عبّاس أن ينال السلوة؟

فإمّا أن يكون قد سلا وسخت نفسه بالإمام الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّه فهم من كلام الإمام (علیه السلام) أنّه مقتولٌ لا محالة، فاستسلم للقدَر وسلت نفسه.

ص: 216


1- انظر لسان العرب لابن منظور مادة ((سلو)).
2- انظر مجمع البحرين مادة ((سلو)).

غير أنّ هذا الفرض قد يتزلزل ويضعف، إذ أنّه _ حسب الفرض _ قد سمع ذلك من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومن أمير المؤمنين (علیه السلام) في غير موضع، وقد قامت عليه الدلائل وشهدت له مسيرة الأحداث يومئذ، وأكّده له الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه في لقاءاته معه قبل هذا الوقت.

إلّا أن يقال: إنّه كان يحاول ويكرّر المحاولة مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما حصل له اليأس، فاستسلم وسخت نفسه في المحاولة الأخيرة.

وإمّا أن يكون قد سلا وسخت نفسه لما ذكره له الإمام (علیه السلام) من أنّه يأبى أن يكون الّذي تُستحلّ به حرمة البيت الحرام، فخيّر نفسه بين خيارين:

إمّا أن يُقتَل الإمام (علیه السلام) وتُهتَك به حرمة البيت.

وإمّا أن يُقتَل خارج الحرم، فتُحفَظ حرمة الكعبة.

فاختار الثاني، وسلَت نفسُه عن الإمام (علیه السلام) بحفظ حرمة البيت.

ويشهد للخيار الثاني تعليق طاووس، كما سنسمعه في التنويه الآتي، حيث أكّد طاووس وأقسم أنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً للحرم من ابن عبّاس.

التنويه السادس: تعليق طاووس

• قال: ثمّ يقول طاووس: ما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للحرم من ابن عبّاس، ولو أشاء أن أبكي لَبكيت.

ص: 217

ثمّ قال: ثمّ يحلف طاووس أنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((1)).

• قال: يقول طاووس: وما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((2)).

* * * * *

خلاصة ما ورد في هذه الكتب أنّ طاووس يؤكّد على شدّة تعظيم ابن عبّاسٍ للحرم أو للمحارم، وأنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً لها من ابن عبّاس، ثمّ يقول أنّه لو شاء أن يبكي لَبكى.

هل كان طاووس يسوّغ ويبرّر موقف ابن عبّاس، ويكبر فيه أنّ نفسه سخت بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وسلى عنه خشيةً على هتك حرمة الحرم؟

فإن كان هذا هو سبب الإشادة بكلام ابن عبّاس وموقفه، فالّذي أعظم حرمةَ البيت إنّما هو سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وليس ابن عبّاس؛ إذ كان ابن عبّاس يلحّ على الإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة، فيما أبى الإمام (علیه السلام) ذلك رعايةً لحرمة البيت.

أو إنّ طاووس يقصد أنّ ابن عبّاس وقع بين رعاية حرمتين: حرمة دم

ص: 218


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215.
2- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603.

الإمام (علیه السلام) المقدّس الزاكي، وحرمة البيت، فاختار الثاني، ممّا دعا طاووس إلى البكاء لشدّة رعاية ابن عبّاس لحرمة البيت.

أو أنّه بكى لرعاية ابن عبّاس كِلا الحرمتين، وهو احتمالٌ لا يساعد عليه السياق، والسياق يشهد للأوّل.

وكيف كان، فإنّا فكّرنا في كلام طاووس، فلم نجد له مسوّغاً ولا مؤدّى!

فلماذا يحلف أنّه لو شاء أن يبكي لَبكى؟ لِمَ لَمْ يشأ؟ لمَ لمْ يبكِ؟ لمَ يحلف على ذلك؟!

بل ما هو الدافع للبكاء، وابن عبّاس شديد الرعاية للحرمات، سواءً كانت الحرمة هو دم سيّد الشهداء (علیه السلام) _ على بُعدٍ _ أو حرمة البيت؟

وما هو الباعث والمولّد لهذا الاندفاع العاطفيّ والرقّة المرهفة في المشاعر والأحاسيس؟

وما هو الداعي للتأثّر الشديد _ إلى حدّ تمنّي البكاء _ بموقف ابن عبّاس دون مظلومية الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والتركيز على ابن عبّاس دون الإمام (علیه السلام) ؟!

ص: 219

ص: 220

اللقاء الرابع: لقاءٌ في بيت الله الحرام

اشارة

روى الشجريّ مسنداً عن أبي الحارثة، عن ابن عبّاس قال:

بينا أنا أطوف بالبيت إذ لقيتُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) كفّه بكفّه بين الركن والمقام، فعانقتُه، ثمّ ضممته إليّ وقلت: يا أبا عبد الله، ما تريد؟

قال: «أُريد أن أسير».

قال: قلت: نشدتك الله، تسير إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك أهل العراق، وأنت بقيّتنا وجماعتنا!

فقال: «خلِّ عنّي يا ابن عبّاس، فإنّي أستحيي من ربّي (عزوجل) أن ألقاه ولم آمُر في أُمّتنا بمعروفٍ ولم أنهَ عن منكر» ((1)).

الشيخ ابن شهرآشوب، والعلّامة المجلسيّ:

كتاب التخريج، عن العامريّ بالإسناد، عن هبيرة بن بريم، عن

ص: 221


1- الأمالي للشجري: 1 / 186.

ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ الحسين (علیه السلام) قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله (عزوجل) .

وعُنّف ابن عبّاسٍ على تركه الحسين (علیه السلام) ، فقال: إنّ أصحاب الحسين (علیه السلام) لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم ((1)).

* * * * *

يمكن متابعة نصوص هذا اللقاء من خلال اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: الرواية عن ابن عبّاس

يُلاحَظ أنّ متون هذا اللقاء هي كمتون اللقاء السابق مرويّةٌ عن عبد الله بن عبّاس نفسه، وفي ذلك ما يجعلها مميّزة عمّا إذا كانت حدَثاً يرويه غيره، سيّما أنّ ابن عبّاسٍ من ذوي الخبرة في التحديث والرواية!

اللفتة الثانية: اللقاء في بيت الله

أفادت النصوص أنّ هذين الخبرين _ رغم أنّهما قد يختلفان في

ص: 222


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 101، مدينة المعاجز للبحراني:245، بحار الأنوار: 44 / 185، العوالم للبحراني: 17 / 41، نفَس المهموم للقمّي: 163.

المحتوى _ يتّفقان أنّ اللقاء إنّما تمّ في المسجد الحرام، ففي خبر الشجريّ يقول ابن عبّاس أنّه التقى الإمام (علیه السلام) بينما هو يطوف بالبيت، وفي خبر الشيخ ابن شهرآشوب يقول أنّه رأى الإمام (علیه السلام) على باب الكعبة.

ويبدو من كلا المتنَين أنّ اللقاء لم يكن مُعدّاً له، ولم يكن ابن عبّاس قد قصد الإمام (علیه السلام) ، وإنّما اتّفق دخوله المسجد الحرام تنوّر المسجد بنور سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فحصل اللقاء من دون إعدادٍ سابق.

اللفتة الثالثة: زمن اللقاء

صرّح ابن شهرآشوب أنّ اللقاء كان قبل أن يتوجّه الإمام (علیه السلام) إلى العراق، من دون تحديد الوقت بالضبط، غير أنّه في زمنٍ كان يدعو فيه جبرائيل الناس إلى البيعة.

فيما أفاد نصّ الشجريّ أنّه كان في نفس تلك الأيّام، وإن لم يصرّح بذلك، فهو يسأل الإمام (علیه السلام) : ما تريد؟ فيردّ عليه الإمام (علیه السلام) أنّه يريد أن يسير، فيحذّره من المسير، وهذا يفيد بوضوحٍ أنّ اللقاء قد تمّ في وقتٍ كان الإمام (علیه السلام) عازماً على المسير، فهو في الأيّام الأخيرة من أيام تشرّف مكّة بوجود الإمام (علیه السلام) ، أي: قبل أن يتوجّه إلى العراق، فيكون زمان اللقاء أيضاً واحداً.

ص: 223

اللفتة الرابعة: تعدّد اللقاء

بالرغم من اتّحاد المكان، وهو المسجد الحرام، وتقارب الزمان أو انحصاره في نفس الأيّام الّتي سبقَت خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، بَيد أنّ محتويات اللقاء ومجرياته تفيد أنّه ليس لقاءً واحداً، إلّا إذا فسّرنا قوله في خبر الشجريّ: كفّه بكفّه، بمعنى كفّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بكفّ جبرائيل، وليس هو كذلك، بنفس تصوير الشيخ المازندرانيّ: وكفّ جبرئيل في كفّه، فيمكن أن يكون ثمّة حدَثٌ مشتركٌ بينهما.

وقد يُجاب على ذلك: أنّه لا يبعد أن تتكرّر مشاهدة ابن عبّاسٍ لنفس المشهد، سيّما أنّ الشجريّ لم يذكر دعوته إلى البيعة.

اللفتة الخامسة: كفّه بكفّه في خبر الشجريّ!

روى الشجريّ عن ابن عبّاسٍ قوله:

بينا أنا أطوف بالبيت إذ التقيتُ الحسين بن عليّ كفّه بكفّه بين الركن والمقام ... ((1)).

قال ابن منظور: قولهم: لقيتُه كَفَّةَ كَفَّةَ _ بفتح الكاف _، أي: كفاحاً، وذلك إذا استقبلته مواجهة، وهما اسمان جُعِلا واحداً وبُنيا على الفتح، مثل خمسة عشر.

ص: 224


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 186.

وفي حديث الزبير: فتلقّاه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كَفَّةَ كَفَّةَ، أي: مواجهة، كأنّ كلّ واحدٍ منهما قد كَفَّ صاحبه عن مجاوزته إلى غيره، أي منَعَه.

ولَقِيتُه كَفَّةَ كفَّةَ، وكفَّةَ كفَّةٍ _ على الإضافة _، أي: فُجاءةً مواجهة ((1)).

وقد استُعملت بتركيب «كفّه بكفّه» في مواضع بنفس المعنى ((2)).

فيكون معنى قول ابن عبّاس في خبر الشجريّ: «بينا أنا أطوف بالبيت إذ لقيتُ الحسين بن عليّ (علیه السلام) كفّه بكفّه بين الركن والمقام»، أي: التقيتُه فجأةً وجهاً لوجه، ويشهد لذلك السياق أيضاً: «بينا ... إذ».

فلا يمكن حمل كفّه بكفّه على ما ذكره العلّامة ابن شهرآشوب، إذ لم يكن في كتاب الشجريّ ممّا يسبق خبره هذا أو يلحقه ما يصلح أن يكون مرجعاً للضمير في (بكفّه)، فإذا كانت الهاء في كفّه الأُولى ترجع إلى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لأنّه أقرب عائد، فلا يبين عائد الهاء الثانية.

فإن كان العائد متّحداً، يكون معنى الجملة: كفّ الحسين بكفّ الحسين، أي أنّ الإمام (علیه السلام) قد شبك كفّاً بكفّ، وهو بعيد.

وأمّا إذا افترضنا عائد أحد الهائين إلى جبرائيل اعتماداً على الارتكاز وعلى متن ابن شهرآشوب، فهو غايةٌ في التكلّف والبُعد.

ص: 225


1- أُنظر: لسان العرب: كَفَفَ.
2- أُنظر: فتح الباري لابن حجر: 13 / 48، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 16 / 252.
اللفتة السادسة: كفّه بكفّ جبرائيل
اشارة

روى ابن شهرآشوب عن كتاب (التخريج) بالإسناد عن ابن عبّاس قال:

رأيتُ الحسين قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه ((1)).

ويمكن تناول هذا المتن من خلال التدقيقات التالية:

التدقيق الأوّل: انفراد ابن شهرآشوب

لم نجد هذا الخبر _ حسب الفحص _ عند مَن سبق ابن شهرآشوب سوى ما يرويه ابن شهرآشوب نفسه _ وهو الثقة الثبت _ عن كتاب (التخريج)، وكتاب (التخريج) لم نقف عليه.

التدقيق الثاني: هل رأى جبرائيل وحده؟

يقول ابن عبّاس _ كما في هذا الخبر _ أنّه رأى جبرائيل، ولا ندري هل رآه بجارحة عينه وكان قد تمثّل له بشراً سويّاً؟ أو تمثّل له بصورةٍ أُخرى؟ أو

ص: 226


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 101، مدينة المعاجز للبحراني: 245، بحار الأنوار: 44 / 185، العوالم للبحراني: 17 / 41، نفَس المهموم للقمّي: 163.

أنّه رآه بغير جارحة عينه؟ إذ يقال أنّه كان أعمى كفيف البصر يومها!

وهل رآه وحده، ولم يره أحدٌ غيرُه من المتواجدين ساعتئذٍ في المسجد الحرام، بما فيهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

وهل سمع صوت جبرائيل بجارحة أُذنه، أو بغيرها؟ وهل سمعه وحده دون العالمين بما فيهم سيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

فإن كان قد رآه وسمعه غيره، وقد حدث مثل هذا الحدث العظيم، وقد شهده الناس أجمعين، فلمَ لم يروِه غيرُه؟

وهل هبط جبرائيل من أجله وحده ليراه ويسمعه؟!

التدقيق الثالث: كيف شخّص جبرائيل؟

رؤية الملائكة _ سواءً أكان بالعين الظاهرة أو بما يناسب عالمهم كملائكة _ لا يتسنّى لكلّ أحد، فكيف رآه ابن عبّاس؟

فلو فرضنا أنّه كان بمستوىً من الإيمان بحيث كان يسهل عليه أن يرى الملائكة، وليس الأمر كذلك، فكيف استطاع أن يشخّص جبرائيل ويحدّده بالذات، ويعلم أنّه هو وليس عزرائيل أو ميكائيل أو إسرافيل أو أيّ واحدٍ آخَر من الملائكة المقرّبين أو سائر الملائكة الآخَرين؟

وما ورد في (الكافي) الشريف عن الإمام أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) من

ص: 227

تبدّي الملَك لابن عبّاس كما سنسمعه، فإنّ الإمام الصادق (علیه السلام) أكّد أنّه لم تره عينه، وقال العلّامة المجلسيّ: «لعلّه بإعجاز أمير المؤمنين (علیه السلام) » ((1))، حيث كان في مقام المحاججة معه، فكانت الرؤية حصلَت بأمر الإمام (علیه السلام) لا لقدرة ابن عبّاس على ذلك، ويشهد لذلك إنكار الإمام الباقر (علیه السلام) عليه أنّه هل رأى الملائكة تخبره بولايتها له في الدنيا والآخرة؟

روى الشيخ الكلينيّ في (الكافي)، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«بينا أبي جالسٌ وعنده نفر، إذا استضحك حتّى اغرورقَت عيناه دموعاً، ثمّ قال: هل تدرون ما أضحكني؟

قال: فقالوا: لا.

قال: زعم ابنُ عبّاسٍ أنّه من ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ((2)).

فقلتُ له: هل رأيتَ الملائكة _ يا ابن عبّاسٍ _ تُخبرك بولايتها لك في الدنيا والآخرة مع الأمن من الخوف والحزن؟

قال: فقال: إنّ الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ ((3))، وقد دخل في هذا جميع الأُمّة.

ص: 228


1- أُنظر: بحار الأنوار: 25 / 91.
2- سورة فُصّلَت: 30.
3- سورة الحُجُرات: 10.

فاستضحكت، ثمّ قلت: صدقتَ ((1)) يا ابن عبّاس، أُنشدك الله هل في حكم الله (جلّ ذِكره) اختلاف؟

قال: فقال: لا.

فقلت: ما ترى في رجلٍ ضرب رجلاً أصابعه بالسيف حتّى سقطَت، ثمّ ذهب وأتى رجلٌ آخَر فأطار كفّه، فأُتيَ به إليك وأنت قاض، كيف أنت صانع؟

قال: أقول لهذا القاطع: أعطِه دية كفّه، وأقول لهذا المقطوع: صالحه على ما شئت، وأبعثُ به إلى ذوي عدل.

قلت: جاء الاختلاف في حكم الله (عزّ ذِكره) ونقضتَ القول الأوّل، أبى الله (عزّ ذكره) أن يُحدِث في خلقه شيئاً من الحدود وليس تفسيره في الأرض. اقطعْ قاطع الكفّ أصلاً، ثمّ أعطِه دية الأصابع، هكذا حكم الله ليلة ينزل فيها أمره، إنْ جحدتَها بعدما سمعتَ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأدخلك الله النار، كما أعمى بصرك يوم جحَدْتَها عليَّ بن أبي طالب!

قال: فلذلك عمي بصري! قال: وما علمك بذلك، فوَاللهِ إنّ عمي

ص: 229


1- في (البحار): قوله (علیه السلام) : «صدقت»، أي: في قولك: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾، لكن لا ينفعك؛ إذ الأُخوّة لا يستلزم الاشتراك في جميع الكمالات، أو قال ذلك على سبيل المماشاة والتسليم، أو على التهكّم، وإنّما ضحك (علیه السلام) لوهن كلامه وعدم استقامته.

بصري إلّا مِن صفقة جناح الملِك.

قال: فاستضحكت، ثمّ تركتُه يومه ذلك لسخافة عقله، ثمّ لقيتُه فقلت: يا ابن عبّاس، ما تكلّمتَ بصدقٍ مثل أمس، قال لك عليّ ابن أبي طالب (علیه السلام) : إنّ ليلة القدر في كلّ سنة، وإنّه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، وإنّ لذلك الأمر ولاةً بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقلت: مَن هم؟ فقال: أنا وأحد عشر من صلبي، أئمّةٌ محدّثون. فقلت: لا أراها كانت إلّا مع رسول الله. فتبدّى لك الملَك الّذي يحدّثه، فقال: كذبتَ يا عبد الله، رأت عيناي الّذي حدّثك به عليّ _ ولم تره عيناه، ولكن وعى قلبه ووُقر في سمعه _. ثمّ صفقك بجناحه فعميت.

قال: فقال ابن عبّاس: ما اختلفنا في شيءٍ فحكمه إلى الله.

فقلت له: فهل حكم الله في حكم مَن حكمه بأمرين؟

قال: لا.

فقلت: هاهنا هلكتَ وأهلكت ((1)).

لا يُقال: إنّه وعى قلبه ووُقر سمعه؛ إذ أنّ ما رواه الشيخ الكليني (رحمة الله) _ وهو أسبق من الشيخ ابن شهرآشوب _ فيه كلمة: «تبدّى»، وقد فسّرها الإمام (علیه السلام) ، أمّا ما ورد في خبر المناقب عن ابن عبّاس قوله: «رأيت» و«ينادي»، والفرق بينهما واضح، وابن عبّاسٍ لم يفسّر معنى الرؤية

ص: 230


1- الكافي للكليني: 1 / 247 ح 2.

بالوعي، ولا النداء بما فسّره الإمام، وهو محمولٌ على الظاهر ومفهومٌ بالمتبادر منه.

التدقيق الرابع: لماذا لم يبايع ابن عبّاس؟!

سمع ابنُ عبّاس جبرائيل ينادي: «هلمّوا إلى بيعة الله»، كان ينادي، لا يتكلّم كلاماً عاديّاً، وإنّما ينادي، وقد أقرّ أنّه سمع، فلماذا لم يمتثل أمر جبرائيل؟ لِمَ ترك المبادرة إلى بيعة الله؟!

والبيعة أعمّ من القتال، أعمّ من الخروج مع الإمام (علیه السلام) .. البيعة لله، البيعة للإمام (علیه السلام) ؛ لاعتقاد فرض طاعته والدخول في رعيّته، والانضمام إلى رعيّته تحت راية إمامته، ثمّ يعتذر بفقدانه بصره إن استدعى خروجه معه إلى القتال، على أنّ العمى لا يمنع من الخروج لأغراضٍ غير غرض القتال، بل ربّما يقاتل الكفيف، كما فعل ابنُ عفيف (رضوان الله علیه) .

لم يذكر ابن عبّاسٍ سبب تخلّفه عن بيعة الله، وتركِه بيعة الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ! فيما سارع إلى بيعة يزيد، كما ذكرنا ذلك في غير موضعٍ من الدراسات السابقة ((1)).

ص: 231


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، تاريخ الطبري: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لابن الجوزي: 135، نهاية الإرب للنويري: 20 / 382، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
التدقيق الخامس: تعنيف ابن عبّاس

لا نريد الدخول في تفاصيل ما رواه الشيخ ابن شهرآشوب في هذا المقام، ونكتفي هنا بالإشارة إلى نكتةٍ واحدة، هي:

إنّ ابن عبّاس كان يعتذر عن تخلّفه عن ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد أن عُنّف: بأنّ أصحاب الحسين (علیه السلام) مكتوبون بأسمائهم من قبل شهودهم، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً.

فهو إذن قد توجّه إليه اللّوم، وفق رواية الشيخ ابن شهرآشوب.

وعلى فرض أنّه لم يُوجَّه له لوم، فقد بادر هو للاعتذار بذلك بعد أن افترض أنّ ثَمّة لومٌ قد يُتوجَّه إليه، بغضّ النظر عن مناقشة ذلك، وهل يصحّ أن يكون ذلك عذراً أو لا يصحّ، وهل هو يروي ذلك أو أنّه يحاول أن يردّ الأمر إلى قضيّة القضاء والقدَر والجبر، فإنّ مناقشة ذلك له محلّه الخاصّ، وإنّما ذكرنا ذلك لبيان أنّ اللّوم قد توجّه إليه، أو أنّه أحسّ باللّوم، فقدّم له العذر حتّى رُوي إلينا.

ويُلاحَظ أنّه لم يعتذر بكفّ البصر والعجز عن القتال، وغيرها من الأعذار الّتي تُنحَت له!

اللفتة السابعة: المناشدة للإعراض عن المسير إلى العراق

قال: قلت: نشدتك الله، تسير إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك، أهلِ العراق، وأنت بقيّتنا وجماعتنا.

ص: 232

لقد مرّ الحديث مفصّلاً عن هذه المناشدة فيما مضى من هذه الدراسة وغيرها، والجديد في هذا النصّ هو قوله: «وأنت بقيّتنا وجماعتنا».

لا نريد إطالة المكث عند هذه العبارة، سيّما أنّ طريقة تعامل ابن عبّاس الفوقيّة، ولغته الآمرة، وسلوكيّاته مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في هذه الفترة حسب النصوص التاريخيّة الّتي قرأناها على الأقلّ، قد لا تفيد مفاد هذه العبارة، إذ أنّه يتعامل كأنّه هو كبير آل البيت وجماعتهم وبقيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) .

وكيف كان، فإنّ تعابير المجاملة وأدبيّات المكالمة والحوار تفرض نمطاً خاصّاً من الحديث، والإقرار بأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو البقيّة، وبه تكون جماعتهم إقراراً بالواقع الحاكم يومذاك، وليس فيه شيء، أو إقراراً خاصّاً لأمرٍ خاصٍّ في ظرفٍ خاصٍّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يفيد من قريبٍ ولا من بعيدٍ إقراراً بإمامة الإمام (علیه السلام) وفرض طاعته ومبايعته، وإنّما هي لغة الحديث المتداوَل على مستوى البيوتات والقبائل.

اللفتة الثامنة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
اشارة

روى الشجريّ فقال:

فقال: «خَلِّ عنّي يا ابن عبّاس، فإنّي أستحيي من ربّي (عزوجل) أنْ ألقاه

ص: 233

ولم آمُر في أُمّتنا بمعروفٍ ولم أنهَ عن منكر» ((1)).

يمكن أن نختصر الكلام في هذا المقطع من الخبر ضمن تنويهات:

التنويه الأوّل: رواية الشجريّ

إنّ ما ذكره الشجريّ لم نسمع به في المتون الكثيرة الّتي مرّت في اللقاءات السابقة، فهو أوّل مَن روى هذا المعنى، وهو من أبناء القرن الخامس (412 _ 499 ه-)، وهو زيديّ المذهب، وربّما كان لهذا التوجّه تأثيرٌ في صياغة الأخبار!

التنويه الثاني: خَلِّ عنّي

يُشعِر قوله (علیه السلام) : «خَلِّ عنّي» أنّ ثمّة إصرارٌ وإلحاحٌ سَمِج، وكأنّ الإمام (علیه السلام) مُقدِمٌ على قضيّةٍ أخلاقيّةٍ بحيث يستحي من أن يلقى الله وهو لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر.

ويشعر القارئ للنصّ أنّ اللقاء قد انفضّ بخاتمةٍ غير محمودةٍ بالنسبة لابن عبّاس، كذا يفيد الجرس والإيقاع المنبعث من: «خلِّ عنّي ...».

ثمّ إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء، والخروج لمحاربة السلطان بغرض إسقاط الحكم وتقويضه وإقامة حكمٍ آخَر مكانه وغيره ممّا قد يُدّعى في المقام شيءٌ آخَر، وقد أتينا على مناقشة ذلك مفصّلاً، فلا نعيد.

ص: 234


1- الأمالي للشجري: 1 / 186.

اللقاء الخامس: رواية أهل البيت (علیهم السلام)

اشارة

روى ابن زهرة في (الأربعين)، قال:

أخبرَني الشريف أبو الحارث والفقيه شاذان بالإسنادَين المذكورَين، عن الفقيه أبي الفتح الكراجكيّ قال: أخبرَني الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (رضی الله عنه) ، قال: أخبرنا أبو القاسم جعفر ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبيه محمّد بن عيسى الأشعريّ، عن عبد الله بن سليمان النوفليّ قال: [عن جعفر بن محمّد ...] فقد حدّثني [أبي] محمّد بن عليّ بن الحسين (علیهم السلام) ، قال:

لمّا تجهّز الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، أتاه ابنُ عبّاسٍ فناشده الله والرحم أن يكون المقتول بالطفّ.

فقال: أنا أعرف بمصرعي منك، وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها، ألا أُخبرك _ يا ابن عبّاس _ بحديث أمير المؤمنين (علیه السلام) والدنيا؟

فقال: بلى، لَعمري أنّي لَأُحبّ أن تحدّثني بأمرها.

فقال أبي: قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) : سمعتُ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) يقول: حدّثَني أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، قال:

ص: 235

إنّي كنتُ بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة (علیه السلام) ، قال: فإذا أنا بامرأةٍ قد هجمَت علَيّ وفي يدي مسحاةٌ وأنا أعمل بها، فلمّا نظرتُ إليها طار قلبي ممّا تداخلَني من جمالها، فشبّهتُها ببُثينة بنت عامر الجمحيّ، وكانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يا ابن أبي طالب، هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، فيكون لك المُلك ما بقيتَ ولعَقِبك من بعدك؟ فقال لها (علیه السلام) : مَن أنتِ حتّى أخطبك من أهلك؟ قالت: أنا الدنيا. قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، فلستِ من شأني. وأقبلتُ على مسحاتي ((1)).

* * * * *

يمكن الوقوف مع هذا النصّ ضمن عدّة وقفات:

الوقفة الأُولى: انتهاء النصّ إلى المعصوم

يمتاز هذا النصّ عن النصوص السابقة أنّه ينتهي إلى الإمام الصادق والإمام الباقر (علیهما السلام) ، بغضّ النظر عن الإسناد، ولهذه الميزة أثرها في التعامل مع النصّ في مواضع كثيرةٍ منها فيما لو تعارض مع النصّ التاريخيّ البحت، على تفصيلٍ أتينا على ذِكره في المدخل من (المجموعة الكاملة _ المولى

ص: 236


1- الأربعون لابن زهرة: 46 و50.

الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة).

الوقفة الثانية: المقدار المطلوب من النصّ

المقدار المطلوب من هذا النصّ في بحثنا هو ما ذكره الإمام (علیه السلام) من إتيان ابن عبّاسٍ إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا تجهّز إلى الكوفة ومناشدته وجواب الإمام الحسين (علیه السلام) :

لمّا تجهّز الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، أتاه ابنُ عبّاسٍ فناشده الله والرحم أن يكون المقتول بالطف.

فقال: أنا أعرف بمصرعي منك، وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها ...

أمّا الباقي فهو حديثٌ حدّثه سيّد الشهداء (علیه السلام) عن أبيه للتدليل على ما ذكره لابن عبّاس.

الوقفة الثالثة: مناشدة ابن عبّاس

من مميّزات هذا النصّ عن غيره من النصوص الّتي مرّت بنا أنّ لغة ابن عبّاسٍ تختلف هنا تمام الاختلاف، فلا تهديد ولا وعيد ولا لغةً آمِرةً ولا نشب يدٍ في الشعر ولا أخذاً بمجامع الثياب، ولا غيرها ممّا سمعناه في النصوص التاريخيّة، بل هي لغةٌ هادئةٌ ومناشدةٌ بالله والرحم.

ويمتاز أيضاً: أنّ ابن عبّاسٍ ناشد الإمام (علیه السلام) (أن يكون المقتول بالطفّ)، فهو إذن قد سمع أنّ ثَمّة مَن سيكون مقتولاً بالطفّ، وخشيَ أن

ص: 237

يكون المصداق هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بل يفيد أنّه يعلم أنّ المقتول بالطفّ إنّما هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ، غير أنّه يريد أن يذكّر الإمام (علیه السلام) بما سمع ووعى، ويتمنّى أن يتجنّب الإمام (علیه السلام) هذا السفر، لعلّه أن لا يكون هو، وهذا الأُسلوب مستعمل، تماماً كما كان الأئمّة (علیهم السلام) يقولون لسيّدنا زيد بن عليّ (علیهما السلام) : «أُعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكناسة».

وربّما يُستبعَد نسبة هذا النوع من الاستعمال إلى ابن عبّاس؛ لِما سنسمعه في ردّ الإمام (علیه السلام) .

وربّما كان الإمام (علیه السلام) اختصر ما جرى بين ابن عبّاسٍ وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وصاغه صياغةً تناسب التعامل مع خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، لئلّا يكون الإمام (علیه السلام) قد نقل شيئاً من العبارات الحادّة الّتي استعملها ابن عبّاس.

الوقفة الرابعة: ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

يمكن تقسيم ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على مناشدة ابن عبّاس إلى ثلاث مقاطع:

المقطع الأوّل: أنا أعرَفُ

ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على ابن عبّاس ردّاً صارماً حازماً، يُشعِر بخطأ ابن عبّاس، وعدمِ معرفته بمآلات الأُمور وتقديرات المستقبل

ص: 238

ومؤدّيات الإخبارات النبويّة الصادقة، وطريقة التعامل معها وفهمها وإدراكها وتأويلها وتحقيقها.

ويُشعر بوضوحٍ أنْ ليس لمثل ابن عبّاسٍ أن يتقدّم بمثل هذه المناشدة، أو الطلب من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) أعرف بمصرعه من غيره، بما فيهم ابن عبّاس.

وربّما كان هذا يشير إلى ما ذكرناه قبل قليلٍ من أنّ الإمام الصادق أو الباقر (علیهما السلام) قد اختصر كلام ابن عبّاسٍ ومناشدته بما يناسب الحديث مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويشهد لذلك جواب الإمام الحسين (علیه السلام) القويّ لابن عبّاس.

فلا حاجة لابن عبّاسٍ كي يعرّف الإمام (علیه السلام) بما يعمل ويقرّر، ولا أن يحذّره من أن يكون قتيل الطفّ، ويحاول أن يُقنِع الإمام (علیه السلام) أنْ لو أعرض عن التوجّه نحو العراق فإنّه قد ينجو من القتل ولا يكون هو قتيل الطفّ!

ويكفي لاستشعار الكثير من كلمات الإمام (علیه السلام) رحمةِ الله الواسعة التأمّلُ في تأكيد الإمام (علیه السلام) أنّه هو أعرف بمصرعه من ابن عبّاس، فلا مجال لاتّباع ما يقوله مَن لا يعرف، ولا مجال لمن لا يعرف أن يتكلّم ويفرض وهو في محضر مَن يعرف!

«أنا أعرفُ بمصرعي منك!»..

ص: 239

المقطع الثاني: ما كدّي من الدنيا

يبدو بشهادة ما حدّث به الإمام (علیه السلام) عن أبيه، وما دار بينه وبين الدنيا الّتي تمثّلَت له، وما قاله: «وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها»، أنّ الإمام (علیه السلام) يردّ على ما كان في حسبان ابن عبّاس، إذ أنّه كان يرى أنّ خروج الإمام (علیه السلام) كان محاربةً مع يزيد طلباً للسلطان والحكم الّذي يتصوّره ويرسمه ابن عبّاس.. السلطة والسلطان، وتوابعها الدنيويّة..

لذا قال له الإمام (علیه السلام) : «وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها»، لا كما تتصوّر، وقد عرضَت علينا الدنيا نفسَها فأَبيناها وطردناها، ويشهد لذلك كلمة: «كدّي».

ولو أردنا أن نفهم الردّ دون هذا التأويل، فقد يُقال: إنّ آخِر أمري في هذه الدنيا فراقها، لأنّي مطلوبٌ للقتل، فلابدّ أن أبرز إلى مضجعي الّذي اختاره الله لي، ولا أسمح للعدوّ أن يتّخذ من وجودي في مكّة ذريعةً لينتهك حرمة البيت.

أو يكون ردّ الإمام (علیه السلام) بمعنى: «أبالموت تخوّفني؟!».

وعلى أيّ تقديرٍ وبأيّ معنىً كان ردّ الإمام (علیه السلام) ، فهو يتضمّن تخطئة ابن عبّاس.

المقطع الثالث: الدنيا وأمير المؤمنين (علیه السلام)

فقال أبي: قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) : سمعتُ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام)

ص: 240

يقول: حدّثَني أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، قال:

إنّي كنتُ بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة (علیه السلام) ، قال: فإذا أنا بامرأةٍ قد هجمَت علَيّ وفي يدي مسحاةٌ وأنا أعمل بها، فلمّا نظرتُ إليها طار قلبي ممّا تداخلَني من جمالها، فشبّهتُها ببُثينة بنت عامر الجمحيّ، وكانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يا ابن أبي طالب، هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، فيكون لك المُلك ما بقيتَ ولعَقِبك من بعدك؟ فقال لها (علیه السلام) : مَن أنتِ حتّى أخطبك من أهلك؟ قالت: أنا الدنيا. قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، فلستِ من شأني. وأقبلتُ على مسحاتي ((1)).

* * * * *

جرى ما جرى لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع الدنيا قبل أن تُغصَب فدك، إذ كان يعمل فيها، وهي لسيّدة النساء فاطمة (علیها السلام) .

ونحن لا نريد الدخول في تفاصيل ما جرى، ونكتفي بما يمكن أن يُعتبر العبرة والغرض من ذِكر ذلك.

فالدنيا تمثّلَت لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، ووعَدَته إنْ هو رضيَ بها وتزوّجها أن تغنيه عن المسحاة، وتدلّه على خزائن الأرض، فيكون له المُلك ما بقي،

ص: 241


1- الأربعون لابن زهرة: 46 و50.

ولعقبه من بعده..

يبدو أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما ساق حديث أمير المؤمنين (علیه السلام) هذا لابن عبّاسٍ ليُفهِمَه أنّ الدنيا تتعرّض لهم وتتمنّاهم، وهم عنها معرضون!

الدنيا بالمعنى الّذي يفهما الإنسان العادي، الإنسان الّذي يعيش الدنيا ويقصدها ويريدها ويتطلّع إليها.. الدنيا الّتي يشير ابن عبّاسٍ للبقاء من أجلها، أو البقاء في مكّة للبقاء فيها..

لقد ضمنت الدنيا لأمير المؤمنين (علیه السلام) الملك له ولعقبه من بعده، بَيد أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أبى _ وهو مالك الدنيا ومليكها بأمر الله وتمكينه، وبيده خزائنها ونواصي سكّانها بتسليط الله له على ذلك _ كما أبى عقبُه مِن بعده!

يشعر من يتابع كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يردّ على مستوىً من الدنيا، ونمطٍ خاصٍّ منها، ربّما هو الملك الّذي تعاقب عليه أولاد عبد الله بن عبّاس فيما بعد، ولو لم يكن هذا المستوى في مكنون ابن عبّاسٍ أو فلتات لسانه لَما كان ثمّة مسوّغٌ لذِكره، وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) معدن الفصاحة والبلاغة وأمير الكلام، وهو أعرف الخلق بالخلق وكوامنهم بأمر الله (عزوجل) .

ص: 242

تتمّات

التتمّة الأوّلى: متونٌ عامّة

وردت عدّة متونٍ في المصادر تحكي اللقاء بين ابن عبّاسٍ وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو ما جرى فيه من المحادثات، بَيد أنّها تذكره بلفظٍ مختصر، أو تمرّ عليه مروراً عابراً، أو تأتي به ضمن تسلسل مجريات بعض الأحداث، من قبيل:

روى ابن سعد، وابن عساكر، وابن العديم، والمزّيّ، والذهبيّ، وابن كثير:

وكان عبد الله بن عبّاس ينهاه عن ذلك ويقول: لا تفعل ((1)).

ص: 243


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 416، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

وروى ابن طاووس قائلاً:

قال الحسين (علیه السلام) لعبد الله بن عبّاس في كلامٍ دار بينهما: «إنّي مقتولٌ بالعراق، ولَئن أُقتَل هناك أحبّ إليّ من أن يُستحلّ دمي في حرم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) » ((1)).

وقال السيوطيّ، والصبان:

• وكان ابن عبّاسٍ يقول له: لا تفعل ((2)).

• فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان.

فلم يقبل منه، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: أقررتَ عينَ ابن الزبير ((3)).

إبن حجر:

فنهاه ابن عبّاس، وبيّن له غدرهم وقتْلَهم لأبيه وخذلانهم لأخيه، فأبى، فنهاه أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: وا حبيباه! ((4))

البحرانيّ، والمازندرانيّ:

ص: 244


1- الملاحم والفتن لابن طاووس: 192.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206.
3- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، إسعاف الراغبين للصبان: 205.
4- الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.

قال: فالتفت الحسين (علیه السلام) إلى ابن عبّاسٍ وقال له: «ما تقول في قومٍ أخرجوا ابنَ بنت نبيّهم عن وطنه وداره وقراره وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرارٍ ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمائه، ولم يُشرِك بالله شيئاً ولم يرتكب منكراً ولا إثماً؟».

فقال له ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا حسين، إنْ كنت لابدّ سائراً إلى الكوفة، فلا تسير بأهلك ونسائك.

فقال له: «يا ابن العمّ، إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وقد أمر بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وأنّه أمرني بأخذهم معي».

وفي نقلٍ آخَر أنّه قال: «يا ابن العمّ، إنّهن ودائع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا آمَنُ عليهنّ أحداً، وهُنّ أيضاً لا يفارقنني».

فسمع ابن عبّاسٍ بكاءً من ورائه، وقائلةً تقول: يا ابن عبّاس! تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

فبكى ابن عبّاس بكاءً شديداً، وجعل يقول: يعزّ علَيّ والله فراقك يا ابن عمّاه.

ثمّ أقبل على الحسين (علیه السلام) ، وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أُميّة، فقال الحسين (علیه السلام) : «هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لا يتركوني، وإنّهم يطلبوني أين كنت، حتّى أُبايعهم كُرهاً، ويقتلوني، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض

ص: 245

لَاستخرجوني منه وقتلوني، واللهِ إنّهم لَيعتدونّ علَيّ كما اعتدى اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر جدّي رسول الله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).

فقال: يا ابن العمّ، بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، فأقِمْ بمكّة ((2)).

* * * * *

جميع ما مرّ من المتون مرّت علينا فيما سبق من اللقاءات، سوى المتن الّذي قرأناه في (مدينة المعاجز)، وهو على ما يبدو تلفيقٌ وإدخالٌ لجملةٍ من النصوص التاريخيّة بعضها في بعض، بل يبدو أنّه تلفيقٌ وتداخلٌ في اللقاءات أيضاً، فربّما أدخل ما جرى بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عمر فيما جرى بينه وبينه، وبين ابن عبّاس، ويبدو ذلك واضحاً لمن تتبّع النصوص التي مرّت في هذه الدراسة.

وقد أتينا على تفصيل الكلام في أكثر مقاطع هذا المتن، فلا نعيد.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ ما تضمّنه هذا المتن هو صريحٌ فيما نريد الكلام عنه والوصول إليه، وخلاصته:

ص: 246


1- مدينة المعاجز للبحراني:243، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزدي: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157 و158.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 246.

إنّ القوم قد عزموا على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وليست المطالبة بالمناولة والبيعة إلّا ذريعةٌ باهتةٌ تذرّعوا بها أمام الملأ، وهم قاتلوه فيما بعد، فالبيعة وتركها لا تغيّر في موقفهم وعزمهم ومضائهم فيما يريدون، سواءً أبايع أو لم يبايع!

التتمّة الثانية: إشفاق الناس وتحذيرهم

قال ابن كثير في (البداية والنهاية):

ولمّا استشعر الناس خروجه، أشفقوا عليه من ذلك وحذّروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبّة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكّة، وذكّروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم ((1)).

ذكر ابن كثيرٍ هذا النصّ قبل أن يدخل في نقل الروايات والأخبار ذات الصلة بالموضوع، فكأنّه لخّص ما يريد روايته، وما فهمه أو أراد تقديمه كسابقةٍ ذهنيّةٍ لمن يقرأ كتابه، والصياغة تفيد أنّها عبارات ابن كثير نفسه، وليست هي نصٌّ تاريخيّ، والفرق بينهما واضح.

فربّما قصد باستشعار الناس وإشفاقهم هم الّذين ذُكروا في بعض النصوص كابن عبّاسٍ وابن عمر وغيرهما، أو مَن عبّر عنهم ابن الصبّاغ وقال:

ص: 247


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

ثمّ جاءه بعد ذلك عبد الله بن عبّاس، ومعه جماعةٌ من ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور ((1)).

أمّا أن يقصد بالناس جماعتهم وغالبيّتهم، فإنّ ذلك ما يخالفه النصّ التاريخيّ المعهود المشهور المذكور في جميع المصادر المتوفّرة لدينا، فعموم الناس كانوا أبعد ما يكونون عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما يقاسيه ويعانيه من أولاد البغايا، وقد غاصوا في دنياهم وما خالوه التزاماً بالجماعة ومناسك الحجّ، ورضخوا وأذعنوا للبيعة البائسة الّتي بايعوا بها القرود، فهم لم يستشعروا وجود الإمام (علیه السلام) إلّا بمقدار ما يخدم دنياهم أو لا يهدّدها، وتعاملوا معه كأيّ حاجٍّ أو معتمرٍ أو مجاورٍ دخل مكّة في فترةٍ من فترات الزمن، وكأيّ شخصٍ آخَر من الأشخاص المبرّزين ذلك اليوم كابن عبّاس وغيره، بل ربّما كانت حفاوتهم بغيره أكثر وأشدّ من حفاوتهم به، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أمّا باقي ما ذكره من أمرهم إيّاه بالمقام في مكّة، وتحذيرهم له من التوجّه نحو العراق، وتذكيرهم له بما جرى لأبيه وأخيه، فقد أتينا على تفصيل الردّ عليه، فلا نعيد.

ص: 248


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

التتمّة الثالثة: التفأل بالقرآن

في كتاب (مهج الأحزان) لليزديّ، و(ناسخ التواريخ) لسپهر:

إنّ ابن عبّاسٍ ألحّ على الحسين (علیه السلام) في منعه من المسير إلى الكوفة، فتفأّل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله (تعالى): ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ ((1))، فقال (علیه السلام) : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) »، ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، فلا تلحّ علَيّ بعد هذا، فإنّه لا مردّ لقضاء الله (عزوجل) » ((2)).

ربّما يقال: إنّ النصّ واردٌ في كتابٍ متأخِّرٍ جدّاً، غير أنّ ما ورد فيه ليس بعيداً عن المضامين المذكورة في المصادر المتقدّمة من إلحاح ابن عبّاس وردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) .

والجديد الذي فيه هو التفأل بالقرآن الكريم، وخروج الآية المباركة، وهي أيضاً تلخّص ما ورد على لسان سيّد الشهداء (علیه السلام) وجدّه وأبيه في أكثر من موطن وموقف.

ص: 249


1- سورة آل عمران: 185.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 246، مهيّج الأحزان للشيخ حسن الحائري: 84 _ بترجمة: السيّد علي أشرف، ناسخ التواريخ لسپهر: 2 / 310 _ بترجمة: السيّد علي أشرف.

التتمّة الرابعة: نهاية اللقاءات

مرّ معنا في ذيل الحديث عن كلّ لقاءٍ ذكرناه نهايته، وكيف انفضّ الاجتماع، فكانت بعضها تنفضّ ويخرج ابن عبّاس ينعى الإمام الحسين (علیه السلام) ، وصرّح بعضهم أنّه خرج مغضباً، وأفاد بعضهم أنّ آخِر اللقاء كان فيه ابن عبّاس متشنّجاً يتمنّى أن يأخذ بمجامع ثوب خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، أو ينشب يده في شعره، أو يمنعه بأيّ وسيلة، وهكذا..

وكيف كان، فإنّ اللقاء قد انفضّ انفضاضاً غير محمود العواقب بالنسبة لابن عبّاس، لأنّ فحوى الإلحاح والإصرار، وخروجه على غير قناعةٍ بما يفعله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يفيد أنّه لم يكن مسلِّماً ولا معتقِداً بصحّة ما يفعله الإمام (علیه السلام) _ والعياذ بالله _.

ويكفي أن يخرج من الإمام (علیه السلام) مغضباً وغير راض، وهو في حالةٍ من الغضب والتشنّج، لأنّه لم يقدر على ثني الإمام (علیه السلام) عن عزمه في الخروج، بأيّ تصوّرٍ وتسويغٍ وتبريرٍ أردنا أن نبرّر غضبه وتشنّجه وعدم رضاه، سواءً أكان حرصاً وشفقة، أو اعتقاداً بصحّة ما ذهب إليه، أو لأيّ سببٍ كان.

التتمّة الخامسة: الاختيار بين تصويب ابن عبّاس وتخطأته

المتحصّل من جميع اللقاءات أنّ ابن عبّاسٍ عجز عن إقناع سيّد

ص: 250

الشهداء (علیه السلام) بما يراه هو ويعتقده من وجوب إطاعته والنزول على رأيه، وبالتالي فنحن بين خيارين:

إمّا أن يُصار إلى الكذبة المقذعة الّتي ذكرها بعض المؤرّخين وصرّحوا بها من تصويب ابن عبّاس وما ذهب إليه، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد علم ذلك في كربلاء، فصار يتحسّر ويتلهّف ويندم _ نعوذ بالله، ونستغفره، ونعتذر لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الإمام المفروض طاعته خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) _.

قال أبو الفرج الأُمويّ:

فذكر مَن حضره يوم قُتل، وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاسٍ فيما أشار علَيّ به ((1)).

وقال سبط ابن الجوزيّ:

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس؛ فإنّه ينظر مِن سترٍ رقيق ((2)).

وقد أتينا على تفصيل الكلام في ذلك قبل قليل، فلا نعيد.

وإمّا أن نعتقد بعصمة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وفرض طاعته،

ص: 251


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

وتخطئة جميع أهل الأرض إذا خالفوه، لأنّه لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل إلّا ما شاء الله وأراد، وهو كذلك _ وهذا ما ندين الله به ونتوسّل إليه بمحمّدٍ وآل محمّد أن يحشرنا ووالدينا وذريّاتنا إلى يوم القيامة عليه _، فلا مناص من التسليم للإمام (علیه السلام) ، واعتقاد خطأ ابن عبّاس وغيره.

والنتيجة: إنّ ابن عبّاس _ وغيره _ كان مخطأً في إلحاحه وإصراره!

التتمّة السادسة: اختلاف الخطابَين

تبيّن لنا ممّا مرّ أنّ ثمّة خطابين:

أحدهما: خطاب ابن عبّاس وأمثاله، وهو يركّز على أنّ الإمام (علیه السلام) ينوي في خروجه إلى قصد السلطة والسلطان، والانقضاض على النظام الحاكم ومحاربة يزيد وملكه وانتزاع السلطة منه.

والخطاب الآخَر: وهو خطاب سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، الّذي كان يركّز فيه على أنّه يريد الخروج من مكّة، لأنّ بقاءه فيها يعني قتله فيها بالقطع واليقين، وهو لا يحبّ أن تُهتَك حرمة البيت بدمه الزاكي الّذي سكن الخلد.

التتمّة السابعة: تغافل ابن عبّاس!

لقد سمعنا كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) وردوده وأجوبته لابن عبّاس وغيره ممّن خالفه وعارضه وألحّ عليه ليبقى في مكّة المكرّمة، وكان الإمام (علیه السلام) يؤكّد

ص: 252

بشتّى صنوف العبارات والتأكيدات أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله، ورأينا مجريات الأحداث تسير وفق ما يقوله أصدق الخلق الإمام الحسين (علیه السلام) ، وعرفنا سلوك عدوّه، وأصحر القرد المخمور المسعور بما عزم عليه، وشهد له سوابق شجرته الملعونة في التعامل مع النبيّ وآله الطاهرين وأمير المؤمنين وفاطمة سيّدة نساء العالمين (علیهم السلام) ، وكذا شهد فيما بعد سلوك أعدائهم من العبّاسيّين، وشهدت الإخبارات الغيبيّة عن سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) الّتي روى بعضها ابن عبّاس نفسه بذلك.

فلماذا كلّ هذا الإصرار والإلحاح؟! والأهمّ من ذلك، لماذا كلّ هذا التغافل والتجاهل لمجريات الأحداث وبياناتِ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكأن لم يكن أيّ تهديدٍ يتهدّد حياة سيّد الخلق وأهله؟!

يُلاحَظ في كلام ابن عبّاس كأنّه لا يرى أو لا يريد أن يرى ما يجري حوله، وكأنّه لا يسمع الإمام (علیه السلام) ولا يفهم كلامه!

التتمّة الثامنة: الفرق بين كلام ابن عبّاسٍ وغيره من الهاشميّين

قد يُقال: إنّ موقف ابن عبّاسٍ وكلامه مع الإمام (علیه السلام) ومناشدته لا تختلف عن موقف مثل أُمّ المؤمنين الطيّبة أُمّ سلَمة، والمولى المكرّم ابن الحنفيّة، والطيّب ابن الطيّب عبد الله بن جعفر.. فلماذا نتعامل مع ابن

ص: 253

عبّاسٍ مِن منطلق سوء الظنّ! ونغضي عن أُولئك؟

والجواب بكلمة، وقد أجبنا على ذلك إجمالاً فيما مضى:

إنّ أُمّ سلَمة جاءت وهي مسلِّمةٌ لأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) وإمام زمانها، مطيعةٌ لهم، وقد عرضَت على سيّد الشهداء (علیه السلام) التربة الّتي دفعها إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأخبرته بما أخبرها، ثمّ قالت له: يا بُنيّ، لا تفجعني بخروجك إلى العراق! فهي مسلّمةٌ بما حدّثها به النبيّ (صلی الله علیه و آله) مؤمنةٌ بذلك، غير أنّها أُمٌّ مفجوعة، يتحرّق قلبها ويتفتّت كبدها، وتتلهّف وتلتاع لما سيجري على إمامها وابنها وذي رحمها، وهي تعلم أنّ الإمام (علیه السلام) قادرٌ _ بإذن الله _ أن يفعل ما يشاء، فلعلّها تجد ما يُنجي إمامها وحبيبها من القتل المحتوم الّذي تعتقده وتؤمن به، فلمّا أخبرها الإمام (علیه السلام) أنّه لابدّ أن يخرج، سلّمت له، وذرفت قلبَها من آماقها دموعاً.

وكذا المولى ابن الحنفيّة، تقدّم بين يدَي أخيه، فقال ما قال كأخٍ يتوسّل إلى أخيه، فلمّا وجد الإمام (علیه السلام) عازماً سلّم له.

وكذا ابن جعفر، سعى فيما وجده سبيلاً قد يكون مؤدّياً للحفاظ على حياة إمامه (علیه السلام) ، فلمّا سمع مقال الإمام (علیه السلام) وعلم عزمه، دفع ولدَيه وفلذتَي كبده وزوجه ليفدوا إمامهم سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فالفرق بين موقف ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وأمثالهم، ودعوة يزيد لهؤلاء ليتوسّطوا ويمنعوا سيّد الشهداء (علیه السلام) عن الخروج من مكّة، وبين

ص: 254

موقف أُمّ سلَمة وأولادها، فرقٌ كبيرٌ وواضح!

التتمّة التاسعة: إساءة أدب ابن عبّاس

بغضّ النظر عن دوافع ابن عبّاس والأسباب الّتي كانت تحفّزه على الإصرار على سيّد الشهداء (علیه السلام) والتشبّث برأيه، فلو افترضناها كانت نابعةً من شفقته وحرصه على إبعاد الإمام (علیه السلام) عن حافّة الموت المحدقة به، وأنّه كان يحاذر على حياة الإمام (علیه السلام) ، ويريد أن لا يترك وسيلةً للنجاة إلّا استعملها ولا سبيلاً إلّا سلكه، غير أنّ هذا لا يعفيه من رعاية الأدب، وهو في محضر بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع، وبين يدَي سيّد الخلائق وإمامها الّذي أمر الله بحبّه والإخبات عنده والخضوع له والتسليم له، وسلوكِ سبيل الاحتياط والحذر من الزلل والخطل في الحديث معه.

ولا داعي لذكر الأدلّة على وجوب الإخبات والتأدّب في الحديث والكلام بمحضر النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .فمهما كانت العلاقة بين ابن عبّاسٍ وسيّد شباب أهل الجنّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فإنّها لا تسمح له أن يتمدّد، وينفي الكلفة في الخطاب، ويتحدّث معه بلهجة الآمر الناهي، ويدعوه للطاعة ويحذّره من مغبّة المعصية، فضلاً عن باقي تعابيره الّتي ذكرها المؤرّخون، كنشب يده في شَعر خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) والإمام المفترض الطاعة، والأخذِ بمجامع ثوبه، وغيرها..

ص: 255

والغريب أنّ جملة هذه التعابير وردت في مصادر قديمة، فإن كان أحد المؤرّخين قد نقل بعضها فإنّ المؤرّخ الآخَر نقل الأُخرى، فلو ناقشنا في نصٍّ فإنّنا سنواجه النصّ الآخر، فهي مُجمِعةٌ _ ولو على نحو الإجماع المركّب _ على رواية الجفاء والغلظة والقسوة في مخاطبة رحمة الله الواسعة، وتعدّي ابن عبّاس طوره، وتجاوزِ حدّه، وهو بين يدَي مَن أمر اللهُ ورسولُه (صلی الله علیه و آله) بحبّه وطاعته والتأدّب بحضرته.

التتمّة العاشرة: سوء الظنّ!

قد يقال: إنّ التعامل مع مواقف ابن عبّاسٍ وتصريحاته هنا مبتنيةٌ على سوء الظنّ به وبمواقفه، وكأنّه لم يكن من أعمدة البيت الهاشميّ وموالياً لسيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) .

لا حاجة للدخول في تفاصيل حياة عبد الله بن عبّاس والبحث في ولائه ومواقفه مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وإثبات ولائه أو عدم ولائه، واعتقاده بفرض طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) كإمامٍ منصوب من الله (عزوجل) ، لأنّه خارجٌ عن محلّ بحثنا.

غير أنّنا نقتصر هنا بالإشارة إلى أمرٍ باختصارٍ شديد:

فلْيكن ابن عبّاسٍ كما يُقال فيه، ولْيكن له سوابق لامعة مشرقة نيّرة، ولْيكن كما يوصف: ترجمان القرآن وحَبر الأُمّة، وقل فيه ما شئت.. بَيد أنّنا لم نجد _ حسب فحصنا إلى حين تسويد هذه الأوراق _ ما يشهد لابن

ص: 256

عبّاس بوضوح أنّه يعتقد بفرض طاعة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنّه يعتقد به كوصيٍّ للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّه قد نصبه الله ورسوله وأمير المؤمنين والإمام الحسن (علیهم السلام) على الخلائق أجمعين، وعليهم جميعاً أن يطيعوه، وأنّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، وأنّه معصوم، وغيرها من العقائد الّتي يعتقدها المؤمن الموالي المقرّ ببيعة الغدير في الوصيّ والإمام والخليفة للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

بل ربّما أفادت الشواهد الّتي وقفنا عليها أنّه يرى نفسه ندّاً للإمام الحسين (علیه السلام) في أحسن التقادير، إذا حملناه على أرقى وأحسن المحامل!

وبغضّ النظر عمّا ذكرناه:

إنّنا تعاملنا هنا مع عبد الله بن عبّاس من خلال ما رواه لنا المؤرّخ، وحدّثَنا به راويه، بغضّ النظر عن سوابقه ولواحقه، فإذا بقينا نحن والنصّ التاريخيّ الّذي نعالجه ونتعامل معه، فإنّنا سمعنا ما قال وما فعل، وعرفنا كيف تعامل مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكيف خاطبه وطريقة مواجهته والألفاظ والأساليب الّتي استعملها، وهو بين يدَي سيّد الكائنات، والأُمور بخواتيمها، ونحن نتعامل معه بما نراه اليوم وهو يخاطب سيّد الشهداء (علیه السلام) ويتعامل معه، فلتكن سوابقه ما كانت!

التتمّة الحادية عشر: اتّضاح الصورة لكلّ ذي عينَين

يُلاحَظ رسم مشهد الكوفة من قبل ابن عبّاس، وغيره، ومحاولة تذكير

ص: 257

الإمام (علیه السلام) _ وهو سيّد الذاكرين _، وهي جزماً لا تخفى على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلابدّ إذن من وجود دافع عند سيّد الشهداء (علیه السلام) غير ما يصوّره المعارضون.

وقد صرّح به الإمام (علیه السلام) في غير موضع، وذكره بشتّى العبارات، وصوّره بشتّى الصور، وسيأتي فيما بعد إن شاء الله (تعالى) تفصيل الحديث فيه، ولكن نذكر هنا على نحو الإشارة ما صرّح به الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وعبّر عنه بقوله: «لَئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ من أن أُقتَل في مكّة».

وقد ذكرنا مراراً أنّ التاريخ ومجريات الأحداث شهدَت بأنّ أهل مكّة والمدينة قد خذلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكذا باقي الأمصار.

أمّا الكوفة، فقد كانت فيها دعوات، وإن كانت كاذبة، بَيد أنّها دعَتْه، ووعَدَته النصرة والدفاع عنه، والذبّ عن عيالات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وللإمام (علیه السلام) أن يعتمدها في الظاهر المنظور، وإن كان يعلم حقيقتها، وله أن يحتجّ عليهم بما كتبوه وأرسلوه له، فهذه الدعوات الغدّارة الّتي لا تخفى على الإمام (علیه السلام) _ كما لم تخف على مثل ابن عبّاس وابن عمر _ وهذه النصرة المحتملة، أفضل من الخذلان المطلق المتنجّز.

والأهمّ من ذلك، فإنّه قد قصد الكوفة لوجود (القليل الديّانين) الّذين سيدفعون عنه بالقطع واليقين، وينصرونه ويفدونه بالأرواح والأنفس، ويلبسون القلوب على الدروع في الذبّ عنه وعن أهل بيته، وهم

ص: 258

موجودون في الكوفة لا غير.

والحديث في ذلك طويل، يأتي في محلّه إن شاء الله.

التتمّة الثانية عشر: خلاصة القول في موقف ابن عبّاس!

لا يبدو موقف ابن عبّاس _ هنا بالخصوص _ مشرّفاً، حسب المتون التاريخيّة الّتي وقفنا عليها.

وأمّا ما ذكره ابن أعثم: «كأنّك تدعوني إلى نفسك ...»، فهو ممّا تفرّد به ابن أعثم، بالإضافة إلى أنّ ابن عبّاسٍ لم يرتّب أثراً على ما زعمه من الاستعداد للنصرة، وقد تخلّف عن سيّد الشهداء (علیه السلام) هو وأولاده وبنو العبّاس جميعاً.

ثمّ إذا كان ابن عبّاس أعمى، فكيف يدعوه الإمام (علیه السلام) إلى نفسه؟ وكيف يعلن هو نصرته؟

وإن كان بإمكان ابن عبّاسٍ الخروج مع سيّد الشهداء (علیه السلام) والاصطفاف معه، لا ليقاتل، وهو حسب الفرض أعمى، بل يكتفي بأن ينصر الإمام (علیه السلام) في جميع المواطن من المدينة إلى كربلاء، ويدفع عنه باللسان.

ولو كان ابن عبّاس، صاحب اللسان المعروف وقوّة المناظرة، وهو ابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والصحابيّ المقرّب، والمقبول عند الجميع، والمكرّم عند رجال السقيفة وأتباعهم، لَكان له أثره البليغ الّذي لا يُنكَر في كربلاء، وربّما

ص: 259

استطاع أن يقلب كفّة الحرب في كربلاء، ويؤثّر في الكثيرين، كلّ ذلك حسب الحسابات الظاهريّة.

على أنّ الأعمى أيضاً إذا كان عازماً على الموت موالياً فادياً مستميتاً، يمكنه أن يخدم بما يقدر عليه، بل يُقدِم إلى القتال، تماماً كما فعل عبد الله ابن عفيف الأزديّ حين قاتل القوم واستعان بابنته، وسيأتي الكلام في ذلك في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ص: 260

إبن عبّاس يلتقي ابن الزبير

اشارة

ورد لقاء العبدَين ابن عبّاسٍ وابن الزبير في المصادر في مشهدَين: أحدهما مختصرٌ بالقياس إلى الثاني الّذي نرى فيه شيئاً من التفصيل والكلام والمجادلة، لذا اقتضى تقسيم المتون إلى قسمين:

القسم الأوّل: المختصر

اشارة

يمكن تقسيم نصوص هذا القسم إلى شعبتين: أحدهما يتضمّن الكلام الذي دار بينهما، والآخَر يتضمّن الأبيات الّتي تمثّل بها ابنُ عبّاس.

الشعبة الأُولى: الكلام
اشارة

قال ابن سعدٍ وابن عساكر وجماعة:

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس مِن عنده [من عند الحسين (علیه السلام) ] وهو مغضَب، وابن الزبير على الباب، فلمّا رآه قال: يا ابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك، هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك

ص: 261

والحجاز ((1)).. (الأبيات)

قال البلاذريّ:

ثمّ خرج ابن عبّاسٍ من عنده، فمرّ بابن الزبير، فقال له: قرّت عينُك يا ابن الزبير بشخوص الحسين عنك وتخليته إيّاك والحجاز. ثمّ قال: ... ((2)) (الأبيات)

قال الدينوريّ:

فمرّ بابن الزبير وهو جالس، فقال له: قرّت عينُك يا ابن الزبير بخروج الحسين. ثمّ تمثّل ... ((3)).

قال الطبريّ:

فمرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. ثمّ قال: ... (الأبيات)، هذا حسينٌ يخرج إلى العراق، وعليك بالحجاز ((4)).

ص: 262


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14/ 211، تهذيب ابن بدران: 4/ 331، مختصر ابن منظور: 7/ 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6/ 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6/ 421، تاريخ الإسلام للذهبي: 2/ 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 200، البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 165.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3/ 374.
3- الأخبار الطِّوال للدينوري: 244.
4- تاريخ الطبري: 5/ 384.

قال ابن أعثم، والخوارزميّ:

ثم مرّ ابنُ عبّاسٍ بابن الزبير (في طريقه) ((1))، وجعل يقول: ... (الأبيات)

قال: ثمّ أقبل ابن عبّاسٍ إلى عبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عيناك يا ابن الزبير، هذا الحسين بن عليّ يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((2)).

قال المسعوديّ:

فمرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. وأنشد: (الأبيات).. هذا حسينٌ يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((3)).

قال أبو الفرج:

ومضى الحسين لوجهه، ولقى ابنُ عبّاسٍ بعد خروجه عبدَ الله بن الزبير، فقال له: ... (الأبيات)

فقال: قد خرج الحسين، وخلَت لك الحجاز ((4)).

ص: 263


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217. باقي العبارة مثل (الفتوح) بأدنى تفاوت.
2- الفتوح لابن أعثم: 5/ 114.
3- مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، معالي السبطين للمازندراني: 1/ 224.
4- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 73.

قال مسكويه:

ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. ثمّ قال: ... (الأبيات)

قال: وما ذاك؟

قال: هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((1)).

قال ابن منظور:

لمّا خرج الحسين بن عليّ إلى الكوفة، اجتمع ابن عبّاسٍ وعبد الله ابن الزبير بمكّة، فضرب ابنُ عبّاسٍ جنب ابن الزبير وتمثّل: ... (الأبيات)، خلا لكَ واللهِ يا ابن الزبير الحجاز ((2)).

قال ابن شهرآشوب:

ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قد قلت لما أن رزيت معشري ... ((3)) (الأبيات)

قال ابن الجوزيّ:

فلقيَ ابنَ الزبير، فقال: قرّت عينك ((4))، هذا حسينٌ يخرج إلى

ص: 264


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56.
2- مختصر ابن منظور: 12/ 325.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

العراق، ويخلّيك والحجاز. ثمّ أنشد مرتجزاً متمثّلاً: ... ((1)).

قال ابن الأثير، والنويريّ:

فمرّ بابن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. ثمّ أنشد قائلاً: ... (الأبيات)، هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((2)).

قال ابن الصبّاغ، والشبلنجيّ:

وعند خروج ابن عبّاس من عند الحسين صدفه ابن الزبير، فقال: ما وراك يا عمّ؟ قال: ما يقرّ عينك، هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز. ثمّ ولّى عنه وهو ينشد: ... ((3)).

قال السيوطيّ:

ولمّا رأى ابن عبّاس عبد الله بن الزبير قال له: قد أتى ما أحببت، هذا الحسين يخرج ويتركك والحجاز. ثمّ تمثّل: ... ((4)).

قال الصبّان:

فلمّا رجع قال لابن الزبير: قد جاء ما أحببت، خرج الحسين وتركك

ص: 265


1- المنتظَم لابن الجوزي: 5/ 328.
2- الكامل لابن الأثير: 3/ 276، نهاية الإرب للنويري: 20/ 408، أعيان الشيعة للأمين: 1/ 593، لواعج الأشجان للأمين: 71.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206.

والحجاز ((1)).

* * * * *

يمكن تقطيع المتن الوارد في هذه المصادر إلى عدّة قطع:

القطعة الأُولى: كلام ابن عبّاس
اشارة

وردت في نصوص هذه القطعة عدّة معلومات:

المعلومة الأُولى: لا كلام لابن الزبير

يُلاحَظ في مجموع هذه المتون أنّها تروي كلام ابن عبّاسٍ فقط، ولا تذكر لابن الزبير كلاماً، لا ابتداءً ولا ردّاً على ابن عبّاس، ولا أيّ تعليقٍ آخَر، سوى ما رواه مسكويه حين قال ابنُ عبّاس مبتدئاً: قرّت عينُك يا ابن الزبير، وأنشده الأبيات، فقال ابن الزبير: «وما ذاك؟»، مستفهماً عن السبب، كأنّه لا يدري ما يقصد ابن عبّاس، أو أنّه سأل مستنكِراً عليه، وربّما شهد للأوّل جواب ابن عباس: هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((2)).

وذكر ابن الصبّاغ والشبلنجيّ أنّ ابن الزبير هو الّذي بادر وسأل ابن عبّاس بعد خروجه من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال له: ما وراك يا عمّ؟ ((3))

ص: 266


1- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.

فكان الّذي كان من ابن عبّاس جواباً على سؤاله.

ربّما كان السبب في خلوّ الخبر من جواب ابن الزبير باعتبار أنّ ابن عبّاس كان مارّاً به مروراً، فألقى إليه ما أراد أن يُلقي وانصرف دون انتظار الجواب منه، ويشهد لذلك ما ورد في المتون أنّه مرّ به، أو أنّه قال له ذلك حين التقاه صدفةً وهو في طريقه، أو أنّه كلّمه ثمّ ولّى عنه، وكان مغضباً..

وربّما لم يردّ عليه ابن الزبير، لأنّه كان فرحاً مسروراً بالخبر، فلا يرى ضرورةً للمراوغة هنا، ولا تدعوه الحاجة للإنكار.

المعلومة الثانية: اللقاء بعد الخروج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام)

صرّحت أكثر النصوص أنّ ابن عبّاس التقى ابن الزبير بعد خروجه من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) في لقائه الأخير، وقد خرج مغضباً يائساً من إقناع سيّد الشهداء (علیه السلام) بما يريد.

غير أنّ في إحدى روايات الذهبيّ وفي (مختصر) ابن منظور عبارةً تفيد أنّ الاجتماع حصل بعد أن سار سيّد الشهداء (علیه السلام) وخرج إلى الكوفة ((1)).

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار انتهاء لقاء ابن عبّاس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) قُبيل خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، عرفنا أنّ رواية الذهبيّ لا تبعد كثيراً عن سواها من أخبار الآخَرين.

ص: 267


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 354، مختصر ابن منظور: 12/ 325.
المعلومة الثالثة: مكان اللقاء

أفاد ابن منظور أنّ اللقاء كان في مكّة ((1))، وقال الخوارزميّ: أنّه التقى ابن الزبير في طريقه ((2))، وأفاد كثيرون أنّه التقاه بعد خروجه من سيّد الشهداء (علیه السلام) فمرّ به، فيما صرّح ابن سعدٍ ومَن تلاه أنّ ابن عبّاس خرج من عند الإمام (علیه السلام) وابن الزبير على الباب، وكأنّ ابن الزبير كان واقفاً ليدخل على الإمام الحسين (علیه السلام) ، أو أنّ ذلك كان صدفةً كما صرّح ابن الصبّاغ والشبلنجيّ ((3)).

المعلومة الرابعة: الفرق بين هذا اللقاء وما مرّ ذكره

لقد مرّ معنا فيما مضى ما قاله ابن عبّاسٍ من أنّ خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) سيقرّ عين ابن الزبير، والفرق بين ما ذكرناه آنفاً وما ورد هنا في كون الحديث السابق كان بين ابن عبّاس وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ ابن عبّاس قد حذّر الإمام (علیه السلام) من إقرار عين ابن الزبير بخروجه.

فيما الحديث هنا يدور بين العبدَين، لذا اقتضى التفريق بينهما، وإفراد ما نحن فيه تحت عنوانٍ مستقلّ.

غير أنّ بعض المحتويات والمضامين ستكون مشتركة، من قبيل:

ص: 268


1- أُنظر: مختصر ابن منظور: 12/ 325.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.

مقايسة الإمام (علیه السلام) بابن الزبير، ولوازم هذه المقايسة، وأنّ الإمام (علیه السلام) يعمل بتكليفه، ولا يهمّه بعد ذلك أن تقرّ عين أحدٍ أو تسخن ما دام في رضى الله (عزوجل) وطاعته، واختلاف ظروف الإمام (علیه السلام) ودوافع خروجه من مكّة، وظروف ابن الزبير ودوافع إقامته فيها، وغيرها ممّا أتينا على ذِكره في لقاء ابن عبّاس بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسنتناول الموادّ هنا بما لا يلزم التكرار، إن شاء الله (تعالى).

المعلومة الخامسة: خلاصة كلام ابن عبّاس

يمكن تلخيص كلام ابن عبّاس الوارد في المصادر فيما يلي:

خرج عبد الله بن عبّاس من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو مغضب، فلقيَ ابنَ الزبير، فقال له: قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك بشخوص الحسين (علیه السلام) عنك وتخليته إيّاك والحجاز، هذا أبو عبد الله يخرج إلى العراق ويتركك، عليك بالحجاز ((1)).

ص: 269


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3/ 374، الأخبار الطِّوال للدينوري: 244، تاريخ الطبري: 5/ 384، الفتوح لابن أعثم: 5/ 114، مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 73، تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217، مختصر ابن منظور: 12/ 325، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المنتظم لابن الجوزي: 5/ 328، الكامل لابن الأثير: 3/ 276، نهاية الإرب للنويري: 20/ 408، أعيان الشيعة للأمين: 1/ 593، لواعج الأشجان للأمين: 71، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، إسعاف الراغبين للصبّان: 205، معالي السبطين للمازندراني: 1/ 224.
المعلومة السادسة: الإخبار عن كوامن ابن الزبير

قد أتى ما أحببت.. قرّت عينك.. كأنّ ابن عبّاسٍ قد قرأ كوامن ابن الزبير، وجاءه مبشّراً _ متهكّماً _ بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة..

وما جاء في كلام ابن عبّاس إنّما هو قراءةٌ لمجريات الأحداث وسلوكيّات ابن الزبير، حيث كانت تشير إلى منويّاته وما يخطّط له من التطلّع إلى السلطة والحكم والاستئثار بغنائم الدنيا وشهواتها وزخارفها الّتي يطمع فيها ابن الزبير، إذ أنّ ابن الزبير لم يصرّح على رؤوس الأشهاد بفرحه واستبشاره بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، وما ذكره ابنُ عبّاسٍ وغيرُه من المؤرّخين إنّما هو تحليلٌ لمواقف ابن الزبير وأفكاره وخططه ومنويّاته.

ومثل ابن عبّاس يُدرِك تماماً ما يريده ابن الزبير، ويخشاه ويتوجّس منه، وما يُفرِحه ويطرب له ويتمنّاه.. فكلاهما ينطلقان من منطلقٍ واحد، ويستشرفان مستقبلاً بنفس الطعم والنكهة، ويتمنّيان نفس الأماني!

أجل، سيأتي أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أخبر بذلك عن ابن الزبير، فإنْ

ص: 270

كان ابن عبّاسٍ قد استفاده من كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) فهو مقبولٌ منه، بَيد أنّه يبقى في دائرة تصوّرات ابن عبّاس.

المعلومة السابعة: غياب التخوّف من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)

يُلاحَظ في جميع النصوص المذكورة في المقام غياب تخوّف ابن عبّاس وتوجّسه من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومن المخاطرة بالذهاب إلى العراق بالنفس والأهل، وقد انحصر حديث ابن عبّاس على حدَث خروج الإمام (علیه السلام) وتخلية مكّة لابن الزبير فحسب.

بمعنى أنّ الذي أثار ابنَ عبّاسٍ هو أن يخرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ويخلّيها لابن الزبير، فكأنّها الفرصة الّتي كان ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يوظّفها ويستفيد منها، وقد تخلّى عنها لصالح خصمه وعدوّه، فسنحَت الفرصةُ لابن الزبير كما لم يحلم بها.

أمّا ما كان يذكره ابن عبّاسٍ عند الإمام الحسين (علیه السلام) وتحذيره إيّاه من التوجّه إلى العراق لما يستلزم من قتله، قد غاب في هذا المشهد تماماً، فلا يهمّه النتيجة الّتي ستترتّب على توجّه الإمام (علیه السلام) نحو العراق، وإنّما يهمّه أن يخسر الساحة المكّيّة لصالح ابن الزبير.

المعلومة الثامنة: صراع السلطة

إنتهى اللقاء مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فخرج ابن عبّاس مغضباً، إذ أنّه كان يتكلّم في أجواء الصراع على السلطة، وكان سيّد الشهداء (علیه السلام) يردّ

ص: 271

عليه بشتّى العبارات وألوان الأجوبة الّتي تفيد أنّه في موقف الدفاع وليس في موقف الهجوم، وأنّه يريد أن لا يبايع ويبقى بعيداً عن عادية الذئاب المتوحّشة الّتي تريد أن تملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً.

فكان المفروض أن يفهم ابن عبّاسٍ ويدرك موقفه، وينثني عن أوهامه وخيالاته، بَيد أنّه بعد جميع البيانات الحسينيّة الواضحة البيّنة يغضب، ويلتقي بابن الزبير ليعود إلى معزوفته الممجوجة وأُنشودته الممقوتة الّتي كان يتغنّى بها حتّى بلغت أولاده، فلعبوا بالمُلك وتناولوه تناول الصبيان للكرة.

وسيأتي مزيد بيانٍ لذلك فيما بعد، إن شاء الله (تعالى)، سيّما عند الحديث في الأخبار المفصّلة لهذا اللقاء.

المعلومة التاسعة: التخلّي عن مكّة

تأكيد ابن عبّاس على ابن الزبير ليفرح بمغادرة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة وتخليتها لصالح ابن الزبير، كأنّه يُشعِر بالحرمان من خسارة ساحةٍ كانت هادئةً يمكن أن يجمع فيها الإمام (علیه السلام) الأنصار والأتباع والأشياع محتمياً بالبيت الحرام، فربحها ابن الزبير، فيما اختار الإمام (علیه السلام) في المقابل ساحةً مكدَّرةً مشوَّشةً متقلّبة، فيها خليطٌ من الغدر والسوابق السيّئة، وهي غير مضمونة العواقب، بل يكشف سابقها عن عواقب وخيمة غير محمودة، وبذلك يرى أنّ الإمام (علیه السلام) قد وفّر فرصةً لا تُعوَّض لابن الزبير بالاختيار الّذي يراه ابن عباس خاطئاً رغم كلّ ما حدّثه به

ص: 272

الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .

المعلومة العاشرة: المحصَّلة

كيف كان، فإنّ كلام ابن عبّاسٍ يكشف عن مدى انزعاجه شخصيّاً وتألّمه، ومدى الكبت والغليان العميق الّذي يُقلقل أحشاءه، والغمِّ المتراكم الّذي يغشى قلبه وعواطفه وأحاسيسه وجيّاشات الخيال بين أضلاعه.

كما يكشف عن مدى الأسى الّذي يعيشه من انفراد ابن الزبير بمكّة، وتمكّنه ممّا كان يتمنّاه، وكأنّه يستشعر الشماتة المفترضة في ابن الزبير بابن عبّاس.

فهو في الحقيقة كان يتحدّث عمّا يجيش في خاطره وكوامنه من ظفر ابن الزبير بمقدار ما كان يشي بانزعاجه من خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وبكلمةٍ أُخرى: إنّ ابن عبّاسٍ كان يستشيط غضباً من موقف الإمام الحسين (علیه السلام) ؛ لأمرين:

أحدهما: خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وهذا يعني أنّه (علیه السلام) _ والعياذ بالله _ يفرّط بساحةٍ مهمّةٍ يمكنه من خلالها أن يحترس بالبيت، فيجمع الأنصار ويعدّ العدّة ويوظّف عامل المكان والكثافة البشريّة المتجمّعة في الحجّ لتحقيق مآربه.

هذا كلّه، وفق ما يتوهّمه ابن عبّاسٍ ويخاله من سبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وهو منحصرٌ عند ابن عبّاس بالاستيلاء على السلطة

ص: 273

والحكم والملك.

والآخَر: هو أنّ الذي استفاد من خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) هو ابن الزبير بالذات، وهذا ما يُزعج ابنَ عبّاسٍ أيضاً.

القطعة الثانية: التمثّل

إتّفقَت المصادر على رواية الأشطر الثلاثة الأُولى:

يا لكِ من قبّرةٍ بمعمَرِ

خلا لكِ الجوُّ، فبيضي

واصفري

ونقِّري ما شئتِ أن تنقّري ((1))

وزاد آخَرون فيها بعض الأشطر..

ص: 274


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ دمشق لابن عساكر: 14/ 211، تهذيب ابن بدران: 4/ 331، مختصر ابن منظور: 7/ 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6/ 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6/ 421، تاريخ الإسلام للذهبي: 2/ 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 200، البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 165، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3/ 374، الأخبار الطِّوال للدينوري: 244، تاريخ الطبري: 5/ 384، مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56، مختصر ابن منظور: 12/ 325، المنتظم لابن الجوزي: 5/ 328، الكامل لابن الأثير: 3/ 276، نهاية الإرب للنويري: 20/ 408، أعيان الشيعة للأمين: 1/ 593، لواعج الأشجان للأمين: 71، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206.

ففي (الفتوح):

قد رُفع الفخّ، فماذا تحذري؟

لابدّ من أخذِكِ يوماً، فاصبري ((1))

وعند الخوارزميّ نفس المعنى بلفظٍ آخَر وإضافة:

إنْ ذهَبَ الصائدُ عنكِ فابشري

قد رُفع الفخُّ، فما

مِن حَذَرِ

هذا الحسين سائرٌ، فانتشري ((2))

وفي (المقاتل) لأبي الفرج، وابن الصبّاغ، والشبلنجيّ، أضافوا الشطر الأخير فقط بأدنى اختلاف:

هذا الحسين خارجاً، فاستبشري ((3))

وأضاف ابن شهرآشوب شطراً في البداية:

قد قلتُ لمّا أن رزيت معشري ((4))

والباقي رواه تماماً كالفتوح.

فستكون مجموع الأبيات _ بغضّ النظر عن التفاوت البسيط جدّاً أحياناً _ :

ص: 275


1- الفتوح لابن أعثم: 5/ 114.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217.
3- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 73، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
4- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

قد قلتُ لمّا أن رزيت معشري:

يا لكِ من قُبّرةٍ

بمعمَرِ

خلا لكِ الجوّ، فبيضي واصفري

ونقِّري ما شئتِ أن

تنقّري

إنْ ذهب الصائدُ عنكِ فابشري

قد رُفع الفخّ، فماذا

تحذري؟

لابدّ من أخذِكِ يوماً، فاصبري

هذا الحسين سائرٌ،

فانتشري

[هذا الحسين خارجاً فاستبشري]

* * * * *

هذه الأبيات تحكي ما يجيش في صدر ابن عبّاس، وهي تعبيرٌ آخَر عمّا تكلّم به ممّا ذكرناه قبل قليلٍ في القطعة الأُولى، فلا حاجة لتناول الأبيات في حديثٍ خاصّ؛ تجنّباً للإعادة والتكرار، ونكتفي هنا بإشارةٍ مقتضبة:

ربّما كان في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) فرجاً لابن الزبير الّذي كان يُضمِر ما يُضمِر من التكالب على الدنيا وبهارج السلطان، فله أن ينتابه الفرح، ويُصبح ويُمسي جذلان مسروراً، ويبيّض ويصفّر وينقّر..

بَيد أنّ ما يقابل فرحه بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو انزعاج ابن عبّاس وانقباضه وتكدّره، وليس للإمام (علیه السلام) في هذه الحكاية أيّ انفعالٍ أو تأثّر، إذ لم يكن أيّ نوعٍ من أنواع التنافس والتقابل بين موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وعزمه على الخروج وبين وجود ابن الزبير في مكّة.

فقصّة ابن الزبير كلّها تمتدّ بآثارها وتظلّل على ابن عبّاس شخصيّاً، وليس لها على سيّد الشهداء (علیه السلام) أيّ تأثير، ولم يلتفت أبو الشهداء (علیه السلام) إلى ابن الزبير، إذ لا يوجد أيّ ترابطٍ بين وجود ابن الزبير وخروج سيّد

ص: 276

الشهداء (علیه السلام) !

أجل، إنّما يُزعج الإمامَ (علیه السلام) وجود ابن الزبير في مكّة، لأنّه يخشى أن تُهتَك به حرمة البيت، لأنّ ابن الزبير ويزيد آل حرب لا يقيمون وزناً لحرمة البيت، وقد هتكوه!

القسم الثاني: المفصّل

اشارة

روى الشجريّ، والبيهقيّ، والجاحظ:

(وبه) قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن عليّ بن الحسين التوزيّ، قال: حدّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريّا بن يحيى بن حميد الطبريّ قراءةً عليه، قال: حدّثنا ابن دريد، قال: حدّثنا العكليّ، عن أبيه قال: ذكر ابن داب، قال: ذكر عوانة، عن الشعبيّ:

إنّ عبد الله بن عبّاس دخل المسجد وقد سار الحسين بن عليّ (علیه السلام) إلى العراق، فإذا هو بعبد الله بن الزبير في جماعةٍ من قريش، وقد استعلاهم بالكلام.

فجاء ابنُ عبّاسٍ حتّى ضرب بيده على عضد ابن الزبير، فقال: أصبحتَ والله كما قال الأوّل:

يا لكِ من قنبرةٍ بمعمَرِ

خلا لكِ الجوُّ، فبيضي

واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

خلَتْ واللهِ يا ابن الزبير الحجازُ من الحسين بن عليّ، فأقبلتَ تهدر

ص: 277

في جوانبها.

فغضب ابنُ الزبير، وقال: واللهِ يا ابن عبّاس إنّك لَترى أنّك أحقّ بهذا الأمر منّي.

فقال ابن عبّاس: يا ابن الزبير، إنّما يرى مَن كان في شكّ، وأنا مِن ذلك على يقين.

قال ابن الزبير: بأيّ شيءٍ استحقّ عندك أنّكم أحقُّ بهذا الشأن منّي؟

فقال ابن عبّاس: لأنّا أحقّ بحقّ مَن تدلّى بحقّه، وبأيّ شيءٍ استحقّ عندك أنّك أحقّ بهذا من سائر العرب؟ [وقد سقط شي ءٌ من الأصل، كذا] إلّا بنا.

قال ابن الزبير: استحقّ عندي أنّي أحقّ بها منهم لشرفي عليهم قديماً وحديثاً، لا ينكرون ذلك.

قال ابن عبّاس: فأنت أشرف أو مَن شُرّفتَ به؟!

فقال ابن الزبير: مَن شُرّفتُ به زادني شرفاً إلى شرفٍ قد كان لي قديماً.

قال ابن عبّاس: يا ابن الزبير! فالزيادة أشرف أم المزيد عليه؟ فالزيادة منّي أو منك؟

فأطرق، ثمّ قال: منك، ولم أبعد.

قال: صدقتَ يا ابن الزبير.

قال ابن الزبير: دَعْني من لسانك يا ابن عبّاس، هذا الّذي تقلّبه

ص: 278

كيف شئت، واللهِ لا تحبّونا يا بني هاشم أبداً.

فقال ابن عبّاس: صدقت، نحن أهلُ بيتٍ مع الله، لا نحبّ مَن أبغضه الله أبداً.

وكان مع ابن الزبير ابنُ أخيه، فنازع ابنَ عبّاس، فأخذ ابن الزبير نعله فعلا بها رأس ابن أخيه، وقال: ما أنت والكلام؟ لا أُمّ لك! ألابن عبّاسٍ تنازع؟!

فقال ابن عبّاس: لم يستحقّ الضرب من صدق، وإنّما يستحقّه مَن مَرَق ومَزَق.

فقال ابن الزبير: يا ابن عبّاس، أما ينبغي أن تصفح عن كلمة، كأنّك قد أعددتَ لها جواباً؟

فقال ابن عبّاس: إنّما الصفح عمّن أقرّ، وأمّا عمّن هَرّ فلا.

فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟

فقال ابن عبّاس: عندنا أهل البيت، لا نصرفه عن أهله ولا نضعه في غيرهم.

فقال ابن الزبير: أوَلستَ من أهله؟

قال: بلى، إن نبذتَ الحسد ولزمت الجدد.

ثمّ تفرّقا ((1)).

ص: 279


1- الأمالي للشجري: 1/ 189، وانظر: المحاسن والمساوي للبيهقي: 71، المحاسن والأضداد للجاحظ: 142.

وروى ابن منظور قائلاً:

لمّا خرج الحسين بن عليّ إلى الكوفة، اجتمع ابن عبّاسٍ وعبد الله ابن الزبير بمكّة، فضرب ابن عبّاسٍ جنب ابن الزبير وتمثّل:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خلا لكِ الجوُّ، فبيضي

واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

خلا لكَ واللهِ يا ابن الزبير الحجاز، وسار الحسين إلى العراق.

فقال ابن الزبير لابن عبّاس: واللهِ ما ترون إلّا أنّكم أحقّ بهذا الأمر من سائر الناس.

فقال له ابن عبّاس: إنّما يرى مَن كان في شكّ، فأمّا نحن من ذلك فعلى يقين، ولكن أخبِرْني عن نفسك، لمَ زعمتَ أنّك أحقُّ بهذا الأمر من سائر العرب؟

قال ابن الزبير: لِشرفي عليهم قديماً لا تنكرونه.

قال: فأيّما أشرف، أنت أَم مَن شُرّفتَ به؟

قال: إنّ الّذي شُرّفتُ به زادني شرفاً.

قال: وعلت أصواتهما، فقال ابنُ أخٍ لعبد الله بن الزبير: يا ابن عبّاس، دَعْنا من قولك، فو اللهِ لا تحبّونا يا بني هاشم أبداً.

قال: فخفقه عبد الله بن الزبير بالنعل، وقال: أتتكلّم وأنا حاضر؟!

فقال له ابن عبّاس: لمَ ضربت الغلام وما استحقّ الضرب؟ وإنّما يستحقّ الضرب مَن مرَقَ ومذَق.

قال: يا ابن عبّاس، أما تريد أن تعفو عن كلمةٍ واحدة؟

ص: 280

قال: إنّما نعفو عمّن أقرّ، فأمّا مَن هرّ فلا.

قال: فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟

قال ابن عبّاس: عندنا أهل البيت، لا نضعه في غير موضعه فنُذَمّ، ولا نزويه عن أهله فنَظلِم.

قال: أوَلستَ منهم؟

قال: بلى، إن نبذتَ الحسد ولزمت الجدد.

قال: واعترض بينهما رجالٌ من قريش، فأسكتوهما ((1)).

وروى ابن أبي الحديد فقال:

لمّا خرج الحسين (علیه السلام) من مكّة إلى العراق، ضرب عبدُ الله بن عبّاس بيده على منكب ابن الزبير وقال:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خلا

لكِ الجوُّ، فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تُنقّري

هذا الحسين سائرٌ،

فأبشري

خلا الجوُّ واللهِ لك يا ابن الزبير، وسار الحسين إلى العراق.

فقال ابن الزبير: يا ابن عبّاس، والله ما ترَون هذا الأمر إلّا لكم، ولا ترون إلّا أنّكم أحقّ به من جميع الناس.

فقال ابن عبّاس: إنّما يرى مَن كان في شكّ، ونحن من ذلك على يقين، ولكن أخبِرْني عن نفسك، بماذا تروم هذا الأمر؟

ص: 281


1- مختصر ابن منظور: 12/ 325.

قال: بشرفي.

قال: وبماذا شُرّفت؟ إن كان لك شرفٌ فإنّما هو بنا، فنحن أشرف منك؛ لأنّ شرفك منّا.

وعلَت أصواتهما، فقال غلامٌ من آل الزبير: دَعْنا منك يا ابن عبّاس، فو اللهِ لا تحبّوننا يا بني هاشم ولا نحبّكم أبداً.

فلَطَمه عبد الله بن الزبير، وقال: أتتكلّم وأنا حاضر؟!

فقال ابن عبّاس: لمَ ضربتَ الغلام؟ واللهِ أحقُّ بالضرب منه مَن مزَقَ ومرَق.

قال: ومن هو؟

قال: أنت.

واعترض بينهما رجالٌ من قريش فأسكتوهما ((1)).

قال الذهبيّ:

روى العتبيّ، عن أبيه قال:

لمّا سار الحسين إلى الكوفة، اجتمع ابن عبّاسٍ وابن الزبير بمكّة، فضرب ابن عبّاس على جيب ابن الزبير وتمثّل:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خلا

لكِ الجوُّ، فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

ص: 282


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 134.

خلا لكَ واللهِ يا ابن الزبير الحجاز، وذهب الحسين.

فقال ابن الزبير: واللهِ ما ترَون إلّا أنّكم أحقُّ بهذا الأمر من سائر الناس.

فقال: إنّما يرى مَن كان في شكّ، و[أمّا] نحن فعلى يقين، لكنْ أخبِرْني عن نفسك، لمَ زعمتَ أنّك أحقُّ بهذا الأمر من سائر العرب؟

فقال ابن الزبير: لِشرفي عليهم.

قال: أيّما أشرف، أنت أَم مَن شُرّفتَ به؟

قال: الّذي شُرّفتُ به زادني شرفاً.

قال: وعلَت أصواتُهما، حتّى اعترض بينهما رجالٌ من قريش فسكّتوهما ((1)).

* * * * *

يمكن أن نتابع مضامين هذه النصوص من خلال عدّة شروح، ولا نريد الدخول في تفاصيل ما جرى بينهما، وتناولَ جميع ما ورد في النصوص بالتفصيل؛ إذ لا شأن لنا بما يجري بين العبدَين ونحن نريد متابعة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فلا غَرو إن اكتفينا بإشاراتٍ سريعةٍ لها علاقةٌ مباشرةٌ ببحثنا:

ص: 283


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 237.
الشرح الأوّل: اختلاف اللقاء

ربّما كانت هذه المجموعة من النصوص الّتي تروي لقاءً بين ابن عبّاس وابن الزبير تختلف عن المجموعة الأُولى الّتي ذكرناها قبل قليلٍ في القسم الأوّل، ولا يبعد أنّها تتحدّث عن لقاءٍ آخَر، سيّما أنّنا نقرأ عند الشجريّ أنّ اللقاء تمّ بعد أن سار الإمام الحسين (علیه السلام) داخل المسجد، فيما كانت أخبار اللقاء الأوّل تفيد أنّه التقاه بعد أن خرج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما أنّ نصوص المجموعة الأُولى اقتصرَت على ذِكر الأبيات وبضعة عبارات، فيما نجد في نصوص هذا اللقاء حواراً ومناقشاتٍ وهجوماً متبادلاً.

الشرح الثاني: أجواء اللقاء

يبدو واضحاً لمن يقرأ مُجرَيات اللقاء وما دار فيه من كلامٍ أنّ الأجواء المظلّلة عليه لا تعدو المفاخرة على موازينهم، والمنافرة والتحاسد والصراع المتهالِك على السلطان ولوازمه الدنيويّة، والتنازع على الحطام الزائل، وتسخير رقاب الناس وركوبها، واستحلاب الشهوات الّتي ترشح من صديد مقاعد عروش السلطنة، والنزوع إلى الإمارة والحكم بأيّ ثمنٍ ومهما كلّف الأمر.

ص: 284

الشرح الثالث: التنازع في حقٍّ غير ثابت

سنقرأ بعد قليلٍ الحوارَ بين العبدَين، ابنِ الزبير وابن عبّاس، لنجدهما يتنازعان حقّاً لم يثبت لأحدٍ منهما قطّ، وكلٌّ منهما يدّعي الشرف والزعامة بقربه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، وكلاهما يتعاميان عن رجال الحقّ الّذين فرض الله طاعتهم وجعلهم أوصياء وخلفاء وأوجب إمامتهم على العالمين.

يدّعي ابن عبّاسٍ استحقاقه للمُلك والخلافة بشرفه وقربه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ويدّعي ابن الزبير شرفاً ذاتيّاً وزيادة شرفٍ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ويجعل ذلك ذريعةً كافيةً لاستحقاق الملك وما يسمّونه الخلافة.

والحال أنّ الله (عزوجل) لم يجعلها لأحدٍ منهما قطّ، وقد جعلها لغيرهما!

أمّا ابن الزبير فلا كلام معه، وهو المتهالك على الدنيا المتردّي في مهاوي الحضيض والحسد والتوثّب للسلطة والحكم، وما تستتبعه من شهواتٍ ولذّاتٍ وزخارف وبهارج وسلطنةٍ واقتدار، وهو عدوٌّ يُجاهِر بعداوته لآل البيت (علیهم السلام) ، فلا عجب إن ادّعى لنفسه شيئاً بإزائهم.

ولكن قد يتوجّه السؤال لابن عبّاس، فيقال: هل نسيَ حديثَ الغدير؟! وهل نسي حديث النصّ على الأئمّة الاثني عشر؟! وهل نسي النصّ على الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام) ؟!!

أو أنّه لا يريد أن يذكر شيئاً، فهو يسعى لينالها هو أو أحد إخوته، لتدوم فيما بعد في أولاده وذراريه، وقد تلاقفوها بعد حينٍ بخداع الناس وتوظيف

ص: 285

عنوان الرضى من آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، حيث يرون أنفسهم هم الآل لا سواهم، وهم الأحقّ بها لا غيرهم.

ولا يقال: إنّ ابن عبّاسٍ إنّما كان ينافح ويدافع عن حقّ آل أبي طالب (علیهم السلام) في الخلافة في مشهده هذا مع ابن الزبير.

فإنّ في متن هذا الحوار _ كما سنسمع _ ما يشهد لخلاف ذلك، بل إنّ متابعة ابن عبّاسٍ شخصيّاً وأولاده وإخوته وأهل بيته ومزاعمهم وتصوّراتهم وتصويراتهم وادّعائهم القرب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي لا ينازعهم فيه أحدٌ من العالمين، ويرقب عن كثبٍ مساعيه ومساعي أولاده، يُدرِك جيّداً أنّ الرجل كان يراها لنفسه، ويرى نفسه الأحقّ والأجدر والأكفأ بها ولها.

ويُلاحَظ في سياق الكلام بين العبدَين أنّ الصراع والتنازع والتخاصم بينهم بالذات، وليس لسيّد الشهداء (علیه السلام) ذِكرٌ في البَين أبداً، رغم أنّ ابن عبّاس لم يكن يومها منتصباً للأمر رسميّاً، فإذا تأمّلنا النصّ نجده موحشاً لا ذِكر فيه لسيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) ، لا من قريبٍ ولا من بعيد.

الشرح الرابع: نَفَسُ ابن عبّاسٍ في الخطاب

يتعامل ابن عبّاس مع ابن الزبير بنَفَس الحسرة والتلهّف على إخلاء مكّة له، وتسلّطه عليها، وكأنّ ابن عبّاس يتمنّى أن لو كان له فيها مغرز إبرة، وكأنّ نوازع الحسد والحرص والشحّ يدفعه كي لا يرى لابن الزبير

ص: 286

شخصاً ولا شخصيّةً ولا أثراً في مكّة، وربّما أفاد التأمّل في موقفه وكلامه مع ابن الزبير ومع سيّد الشهداء (علیه السلام) من قبل أنّه يحاول إبقاء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة مهما كلّف الأمر ومهما استتبع ما دام وجود الإمام (علیه السلام) سيكبح وجود ابن الزبير ويحجّمه ويدفعه إلى الظلّ ويمنعه من التغوّل.

وفي ذلك اعترافٌ ضمنيٌّ من طرفَي النزاع هنا _ يعني ابن عبّاس وابن الزبير _ بتفوّق الإمام سيّد الشهداء (علیهما السلام) عليهما، غاية ما في الأمر أنّ ابن عبّاس كان يريد توظيف وجود الإمام (علیه السلام) في مكّة لصالحه، سواءً كان على مستوى النكاية بابن الزبير، أو التطلّع إلى المستقبل القريب الّذي قد يوظّفه من خلال ركوب الأمواج المتلاطمة الهائجة بين يزيد وابن الزبير والإمام الحسين (علیه السلام) ، لينزو على المنبر كما نزا أولاده فيما بعد.

وربّما شهد لذلك روح التحاسد وموازين الجاهليّة والتفاخر الأرعن الحاكم على هذه المساجلة بين العبدين _ ابن عبّاس وابن الزبير _، بالإضافة إلى الكثير ممّا تشي به المواقف والتعبيرات.

الشرح الخامس: غياب التفجّع على الإمام الحسين (علیه السلام)

دخل ابن عبّاس المسجد بعد مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى العراق، فرأى ابنَ الزبير في جماعةٍ من قريش وقد استعلاهم بالكلام، فجاء ابن عبّاس حتّى ضرب بيده على عضد ابن الزبير، وقال له: «أصبحتَ واللهِ كما قال الأوّل..»، وتمثّل له بالأبيات: «يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ..»، ثمّ قال:

ص: 287

«خلَت واللهِ يا ابن الزبير الحجازُ من الحسين بن عليّ، فأقبلتَ تهدر في جوانبها»! ((1))

هذا هو المقدار الّذي أحزن ابنَ عبّاسٍ من مسير الإمام (علیه السلام) نحو العراق في كلامه مع ابن الزبير، فانزعاجه لا يعدو أكثر من تخلية الحجاز لابن الزبير حتّى أقبل يهدر في جوانبها!

وكأنّ المقابلة بين خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وبين تخلية الساحة لابن الزبير، لا أكثر.

وكأنّ التنافس ينحصر في التمكّن من فُرص الوثوب على هذه الولاية أو تلك البلدة، والقدرة على توظيف عوامل الاستيلاء على السلطة، وتسخير الناس من أجل الهدف المنشود لابن الزبير وابن عبّاس.

وكأنّ دوافع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) نحو العراق هي نفسها دوافع بقاء ابن الزبير في مكّة.

وكأنّ ابن عبّاس لم يخرج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل ذلك وهو ينشد: انعي حسين لمن سمع، فلا تسمع في إيقاع كلمات ابن عبّاس مع ابن الزبير أيّ لحنٍ حزينٍ متفجّعٍ ينعى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا آهة ألمٍ تكشف عن التصدّع لقتل سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته الّذي قطع به ابن عبّاس وجزم عند حديثه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ص: 288


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189.
الشرح السادس: بواعث الحسد والنزاع على السلطة

غضب ابنُ الزبير من كلام ابن عبّاس، وهما يعرف بعضهما البعض، ويُدرك بعضهما البعض، وينظر بعضهما إلى البعض من خلال منظارٍ مشترك، وقد فهم ابن الزبير ما يعني ابن عبّاس في حديثه، فغضب وقال: «واللهِ يا ابن عبّاس إنّك لَترى أنّك أحقُّ بهذا الأمر منّي» ((1)).

هكذا بلفظ المفرد، «إنّك لَترى أنّك أحقُّ بهذا الأمر منّي» في (الأمالي) للشجريّ..

أمّا عند ابن منظور وابن أبي الحديد والذهبيّ، فإنّهم نقلوا بلفظ الجمع: «والله ما ترون إلّا أنّكم أحقُّ بهذا الأمر من سائر الناس».

والجمع في اللفظ الثاني ينمّ عن حسد ابن الزبير لبني هاشم جميعاً، غير أنّ سياق الحديث يفيد بوضوحٍ أنّ المقصود هو شخص ابن عبّاس بالذات.

إنّك لَترى أنّك أحقّ بهذا الأمر منّي.. كلماتٌ يفوح منها زنخ الحسد وعفن الصراع على حطام الدنيا الممتهن، وأسن مستنقع السلطنة والاقتدار، ونتن الشهوات واللذّات الآجِنة.هذا الأمر.. يعني به ابن الزبير: الحكم، والسلطان، والمُلك..

ص: 289


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189.

يرى نفسه أحقّ بالملك.. الملك بالمعنى الدنيويّ الّذي تتنازع عليه الوحوش الكاسرة والذوات القذرة..

الكلام لا يمتّ إلى الدِّين والإسلام والتوحيد وخلافة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وإقامة العدل وترويج القرآن وسُنّة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) من قريبٍ ولا من بعيد..

هذا الأمر.. يعني به الأمر الّذي استولى عليه يزيد، واستولى عليه قبله معاوية، وهكذا استولى عليه قبله عثمان، هذا هو الأمر الّذي يُنازع فيه ابن الزبير ويجادل فيه ابن عبّاس..

الأمر.. الّذي غدا كرةً يتلاقفها صبيان بني أُميّة وبني العبّاس!

الشرح السابع: جواب ابن عبّاس

جواب ابن عبّاسٍ كان على نفس النسق، وعلى نفس الوتيرة، يحمل نفس البصمة، ويضرب على نفس الأوتار.. بَيد أنّ إيقاعاته أقوى وأعلى، وهو أكثر رسوخاً في موقعه وأثبت قدماً في مواضعه..

يتكلّم كلام الواثق المطمئنّ إلى ما يرتكن إليه من مؤهّلاتٍ ذاتيّة وأُسريّةٍ وعشائريّة، وغيرها من الموازين الّتي يمكن أن توظَّف في المشهد من خلال التوليف بين قيَم الجاهليّة والإسلام، والمزج بين موازين السابق واللاحق.

أجاب ابن عبّاس: «يا ابن الزبير، إنّما يرى مَن كان في شكّ، وأنا مِن ذلك على يقين!».

ص: 290

يؤكّد الخطاب المباشر إلى ابن الزبير والتصريح باسمه: «يا ابن الزبير»، أنّ الجدال بين هذين الشخصين، والكلام مُوجَّهٌ لابن الزبير، كما كان موجَّهاً في لفظ ابن الزبير لابن عبّاس بالذات، وقد صرّح باسمه أيضاً.

يبدو هنا ابن عبّاس بنفس المستوى الشخصيّ والاعتماد الذاتيّ العالي الّذي لا يتردّد فيما يرى، إذ أنّه يتكلّم كلام الواثق من صحّة ما هو عليه، تماماً كما كان في كلامه مع سيّد الكائنات سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فكما كان متيقّناً من موقفه في تخطئة الإمام المعصوم (علیه السلام) في خروجه إلى العراق، فكذلك هنا هو متيقّنٌ من حقّه..

يُلاحَظ في جوابه هجمة ارتداديّة كاسحة مفاجئة يستخدم فيها ابن عبّاس لفظ ابن الزبير ويترقّى.. «إنّما يرى مَن كان في شكّ، وأنا من ذلك على يقين!».

لا يجد ابن عبّاس في نفسه أيّ تردّدٍ أو شكٍّ في استحقاقه الأمر.. هو على يقين.. واثقٌ تمام الثقة باستحقاقه الأمر..

إنّه متيقّنٌ من حقّه في الأمر.. الأمر الّذي يتحدّث عنه ابن الزبير.. الأمر بالمعنى الّذي أشرنا إليه قبل قليل.. يبدو أنّ هذه النزعة سرت في أولاده وذراريه حتّى نالوها، فسكنَت روعتُهم، وهدأ العفريت القابع في أعماقهم.. وقام مكانه عفريت الطغيان والتجبّر والتكبّر والعتوّ على الله وعلى أوليائه..

ص: 291

الشرح الثامن: الشروع في الاستدلال

شرع الطرفان في المحاججة للتنازع في إثبات أحقّيّة كلّ واحدٍ منهما، فبدأ _ في نصّ الشجريّ _ ابنُ الزبير، وفي نصّ ابن منظور وابن أبي الحديد والذهبيّ ابتدأ ابنُ عبّاسٍ يطالب بالوجه الّذي استحقّ به المقابل الأمر.

فقال ابن الزبير _ في رواية الشجريّ _ : «بأيّ شيءٍ استحقّ عندك أنّكم أحقّ بهذا الشأن منّي؟».

وفي رواية الآخرين بعد أن أعرب ابن عبّاسٍ عن يقينه بأنّه أحقّ بالأمر، فاستدرك ليسأل ابن الزبير عن دليله، فهو على يقين، وكأنّ الأصل معه، وعلى مَن خالف الأصل أن يأتي بما يُثبِت دعواه، فقال: «ولكن أخبِرْني عن نفسك، لمَ زعمتَ أنّك أحقّ بهذا الأمر من سائر العرب؟».

يُلاحَظ في سؤال كلا الطرفين أنّ أهل البيت (علیهم السلام) والأئمّة الّذين نصبهم الله وأمر بطاعتهم، ودعا إلى بيعتهم يوم الغدير، ونصّ عليهم النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) واحداً بعد واحدٍ وصالحاً بعد صالح، خارج نطاق المحاورة والحديث، والجدال يدور في معركةٍ مغلَقةٍ على ابن الزبير وابن عبّاس، والتفاضل يقوم في دائرة العرب، كما في قول ابن عبّاس، ولم يسأل أحدُهم عن دليل التفضيل والتقدّم على الإمام الحسين (علیه السلام) !

فكلا الطرفين يعتقد أنّه أحقّ بهذا الأمر، لذا جعل يطالب الطرف الآخر بدليلٍ مقنعٍ يمكنه أن ينتزع الحقّ لنفسه مقابل المدّعي!

ص: 292

الشرح التاسع: ذريعة ابن الزبير!

قال ابن الزبير: «استحقّ عندي أنّي أحقُّ بها منهم لشرفي عليهم ((1)) قديماً وحديثاً، لا يُنكِرون ذلك» ((2)).

وفي لفظ ابن أبي الحديد: «بشرفي» ((3)).

لمّا كان سؤال ابن عبّاس عن دليل استحقاقه هذا الأمر دون سائر العرب، يكون مرجع ضمير الجمع (هم) في كلام ابن الزبير: «أنّي أحقّ بها منهم لشرفي عليهم»، يعود إلى العرب طُرّاً، بما فيهم أهل البيت (علیهم السلام) ، وبما فيهم الإمام الحسين (علیه السلام) وابن عبّاسٍ نفسه.

وقد أكّد ابن الزبير أنّ شرفه هذا قد ثبت بحيث لا يُنكره العرب، وجعل تسليمهم له بديهيّاً مسلَّماً لا يشكّ فيه أحد، ولا يتردّد عربيٌّ في الإقرار له بذلك فوراً!

كما أكّد أنّ هذا الشرف قد ثبت له قديماً وحديثاً، والظاهر من سياق كلامه أنّه يقصد ثبوت الشرف له في الجاهليّة والإسلام!

ولا ندري إنْ كان هذا الشرف قد ثبت له من جهة أبيه الخائن الملعون

ص: 293


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 237.
2- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189، المختصر لابن منظور: 12/ 325.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 134.

المتآمر على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والساعي في قتله مع جماعته ((1))، وكان ممّن شارك في الصحيفة الّتي كتبوها وقالوا: إذا هلك محمّدٌ رجعنا إلى المدينة ونرى رأينا في

ص: 294


1- في (بحار الأنوار: 82/ 267، منهاج البراعة للخوئي: 14 / 404): وقوله: «وعقَبَةٍ ارتقوها»: إشارةٌ إلى أصحاب العقَبَة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وأبو سفيان، ومعاوية ابنه، وعُتبة بن أبي سفيان، وأبو الأعور السلَمي، والمُغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو قتادة، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعريّ، اجتمعوا في غزوة تبوك على كؤودٍ لا يمكن أن يجتاز عليها إلّا فرد رجلٍ أو فرد جمل، وكان تحتها هوةٌ مقدار ألف رمح، مَن تعدّى عن المجرى هلك من وقوعه فيها، وتلك الغزوة كانت في أيّام الصيف، والعسكر تقطع المسافة ليلاً فراراً من الحرّ، فلمّا وصلوا إلى تلك العقَبَة أخذوا دِباباً كانوا هيّؤوها من جلد حمار، ووضعوا فيها حصىً وطرحوها بين يدَي ناقة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؛ لينفّروها به فتلقيه في تلك الهوة فيهلك (صلی الله علیه و آله) . فنزل جبرئيل (علیه السلام) على النبيّ (صلی الله علیه و آله) بهذه الآية: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ _ الآية، وأخبره بمكيدة القوم، فأظهر الله (تعالى) برقاً مستطيلاً دائماً، حتّى نظر النبيُّ (صلی الله علیه و آله) إلى القوم وعرفهم، وإلى هذه الدِّباب الّتي ذكرناها أشار (علیه السلام) بقوله: «ودِبابٍ دَحْرجُوها». وسبب فعلهم هذا مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) كثرةُ نصّه على عليٍّ (علیه السلام) بالولاية والإمامة والخلافة، وكانوا من قبل نصّه أيضاً يسوؤونه، لأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) سلّطه على كلّ مَن عصاه من طوائف العرب، فقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم، فما من بيتٍ إلّا وفي قلبه ذِحْل، فانتهزوا في هذه الغزوة هذه الفرصة، وقالوا: إذا هلك محمّدٌ رجعنا إلى المدينة ونرى رأينا في هذا الأمر من بعده. وكتبوا بينهم كتاباً، فعصم الله نبيَّه منهم، وكان من فضيحتهم ما ذكرناه.

هذا الأمر من بعده، وهو صاحب المواقف المخزية في تجييش الجيوش لقتال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد غدرته المعروفة ونكثه البيعة وطمعه في الملك..

يبدو من خلال الحديث أنّه يفتخر بالانتساب إلى قريش وإلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهو نفس السبب الّذي يفتخر به ابن عبّاس، ويبدو أنّ الأمر عاد كالسقيفة تماماً، حيث استولى المهاجرون على الأمر بذريعة أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) منهم وأنّهم أهله ورهطه، وغمطوا حقّ أهل بيته ورهطه ومَن كان النبيّ منهم وكانوا منه، وكان النبيُّ (صلی الله علیه و آله) سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم، وقد أوصى بهم ولهم، ونصّ عليهم وصرّح بتنصيبهم من الله (تبارك وتعالى).

هنا أيضاً رجع الأمر كما كان، فابن الزبير وابن عبّاس يتنازعان الأمر لقربهما وشرفهما برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبالانتساب إلى قريش وبني هاشم، وغمطوا حقّ مَن كان من هاشم في الذروة، ومن قريش في السنام الأَعلى، ومن النبيّ (صلی الله علیه و آله) دمه ولحمه وولده وريحانته، وقد شرف النسب صعوداً ونزولاً به سوى مَن استثناهم الله، وكأنّ الحسين (علیه السلام) حبيب النبيّ (صلی الله علیه و آله) ووصيّه ووارث علمه لم يكن!

الشرح العاشر: احتجاج ابن عبّاس

قال ابن عبّاس: فأنت أشرف أو مَن شُرّفتَ به؟

فقال ابن الزبير: مَن شُرّفتُ به زادني شرفاً إلى شرفٍ قد كان لي

ص: 295

قديماً.

قال ابن عبّاس: يا ابن الزبير، فالزيادة أشرف أم المزيد عليه؟ فالزيادة منّي أو منك؟

فأطرق، ثمّ قال: منك، ولم أبعد.

قال: صدقتَ يا ابن الزبير ((1)).

وفي رواية ابن أبي الحديد:

قال ابن عبّاس: وبماذا شُرّفت؟ إن كان لك شرفٌ فإنّما هو بنا، فنحن أشرف منك، لأنّ شرفك منّا ((2)).

حينما يسأل ابن عبّاسٍ مَن هو الأشرف، ابن الزبير أو مَن تشرّف به ابن الزبير؟ يدّعي ابن الزبير شرفاً لنفسه مستقلّاً، ثمّ يقول: إنّه إنّما ازداد شرفاً بمن شُرّف به، قال: «مَن شُرّفتُ به زادني شرفاً إلى شرفٍ قد كان لي قديماً»!

فهو يزعم لنفسه شرفاً مستقلّاً قديماً قد تحقّق من قبل، ولا ندري ما هو شرفه المستقلّ الذاتيّ الّذي لزمه من قبل! وأقصى ما يمكن أن يثبت له إنّما هو شرف النسب على غرار تفاخر الجاهليّة.

ص: 296


1- الأمالي للشجري: 1/ 189، وانظر أيضاً: مختصر ابن منظور: 12/ 325، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 237.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 134.

ولا ندري إن كان مراد طرفَي المجادلة والنزاع من الشرف والتشرّف هو الانتساب إلى قريش مطلقاً، بغضّ النظر عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والتفاخر على مقاييس الجاهلية، فهو حينئذٍ من أجلى صور الرجوع القهقرائيّ والانقلاب والانتكاس، وإن كان الانتساب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشجرته المقدّسة، فكلاهما غريبٌ عنه بالقياس إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بل بالقياس إلى آل أبي طالب جميعاً.

ولا معنى لقول ابن عبّاس: «فالزيادة منّي لا منك»، فهو وإن كان أقرب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) من ابن الزبير، حسب مقرّرات الأحكام النسَبيّة، غير أنّه لا يُقاس بأمير المؤمنين (علیه السلام) وولدَيه الحسن والحسين، الّذين هم من النبيّ (صلی الله علیه و آله) والنبيُّ منهم على كلّ المقاييس، فإنْ ثبت له حقٌّ بهذه النسبة فسيّد الشهداء (علیه السلام) أحقُّ بها منه.

والعجيب أنّ ابن الزبير يُقرّ له بهذا القرب وهذا الشرف، غير أنّه يؤكّد أنّه هو أيضاً لم يبعد من هذا الشرف!!

والأعجب أنّ بني أُميّة ومعاوية ويزيد كلّهم كانوا يتذرّعون بانتسابهم إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّهم أهله ورهطه وقرابته، وكذا كان أولاد عبد الله بن عبّاس يتذرّعون بهذه الذريعة، بل يعتبرون أنفسهم أحقّ برسول الله (صلی الله علیه و آله) مِن بني أُميّة، لأنّهم أولاد عمّه، فقتلوا ذرّيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) تحت هذه المظلّة المخرّقة التعيسة البائسة!

ص: 297

الشرح الحادي عشر: التباغض

قال ابن الزبير: دَعْني من لسانك يا ابن عبّاس، هذا الّذي تقلّبه كيف شئت، واللهِ لا تحبّونا يا بني هاشم أبداً.

فقال ابن عبّاس: صدقت، نحن أهل بيتٍ مع الله، لا نحبّ مَن أبغضه الله أبداً ((1)).

لسان ابن عبّاسٍ معروف، وقوّته في المناظرة مشهورةٌ عنه، وربّما كان ذلك من سِمات الهاشميّين، وقد اتّفق الناس أنّ آل أبي طالب _ سوى الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) الّذين لا يُقاس بهم أحد _ أقوى الناس حُجّةً وأعظمهم منازلةً في ميادين المحاججات وأكثرهم تسلّطاً في المناظرة، كعقيل بن أبي طالب.

وكيف كان، فإنّ ابن الزبير أقلّ وأصغر وأحقر وأضعف من أن يُنازِل ابنَ عبّاسٍ في المناظرة، فهو لا يقوى على منازلته، فضلاً عن ارتباك حجّته وعدم استقامة مقالته، وافتخاره بما هو مفخرٌ لغيره، فمن الطبيعيّ أن يعترف لابن عبّاس، ويطرق برأسه، ويبتلع لسانه، ويطلب منه أن يكفّ عنه.

إنّه يدعوه أن يكفّ عنه لسانه، ويقول: «دَعْني من لسانك الّذي تقلّبه كيف شئت»، إذ أنّه يعتقد أنّ ابن عبّاسٍ يغالبه باللسان فقط،

ص: 298


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189، المحاسن والمساوي للبيهقي: 71، المحاسن والأضداد للجاحظ: 142.

ويجادله بالمغالطة واللعب بالألفاظ والكلمات، ويقلّب لسانه دون أن ينطق بالفكرة والدليل والحجّة.

ثمّ عاد ليؤكّد أنّ بني هاشم لا يحبّون ابن الزبير، والسبب واضح، وإن لم يصرّح به ابن الزبير، فهو الحسد..

هكذا هي أوهام هؤلاء القاذورات، إنّما ينطلقون من مستنقعاتهم العَفِنة، ولا يمكنهم أن ينظروا بعينٍ صافيةٍ خاليةٍ من أكدار الجاهليّة ورواسبها، وكوامنِ النفس البشريّة المتوحّشة المنغمسة في أعماق أوحال الرذيلة..

لا تحبّوننا، لأنّكم تحسدوننا.. وكأنّ ابن الزبير قد حاز من الشرف والرفعة ما لا يناله أحدٌ من بني هاشم ولا من آل أبي طالب الّذين فضّلهم الله على العالمين، وجعلهم القادة والسادة وذُرى السؤدد، فلا تجد مكارم الأخلاق ومحامدها إلّا وهي نبعٌ من ينابيعهم وفيضٌ من نداهم، يجمعون نجوم التبّانة وهم قاعدون لينثروها في ملاعب صبيانهم، ناهيك عن مغادق جودهم الّتي عمّت الخلائق أجمعين.

فإنْ فاخر ابنُ عبّاسٍ وابنُ الزبير، فهما إنّما يفاخران بشآبيب نوال آل أبي طالب _ بما فيهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) _، ورشح ما يندّ من بين أظفارهم وأناملهم الكريمة..

فمَن يحسد مَن؟!

ص: 299

أيحسد الكاملُ الناقصَ على نقصه، ويحسد القويُّ الضعيفَ على ضعفه، ويحسد الكريمُ اللئيمَ على لؤمه؟! نستجير بك اللّهمّ سبحانك مِن هذا الغرور المتكلّس الأجوف.

وابن عبّاسٍ إنْ فاخر، فهو في ظاهر الأنساب أقرب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأوصياء من ابن الزبير، فله أن يفاخر بهم، أمّا ابن الزبير فبمَن يفاخر؟ وعلى أيّ رعونةٍ من سلوكيّاته الممقوتة وتصرّفاته الحمقى يمكن أن يحسده ذو حظّ عاثرٍ وقلبٍ معكوسٍ داثرٍ وفكرٍ كليلٍ عليلٍ خاثر؟!

الشرح الثاني عشر: هل يُنال الأمر بالشرف وحده؟

لقد تباريا وتجادلا وتفاخرا وتصادّا وتجابها في حَلَبة الكلام، وغاية جهدهما الحديث في إثبات مَن هو الأحقّ بالأمر، وتسلّقا جدران الحاضر والماضي على سلالم الشرف المزعوم، من دون الارتكان إلى أيّ أساسٍ آخَر سوى ذلك!

لم يستندا إلى آيةٍ أو روايةٍ أو حديثٍ عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وكلاهما يزعم القُربى منه، وابن عبّاسٍ يزعم أنّه حَبر الأُمّة وترجمان القرآن والمحدّث الأقوى والأكثر حفظاً، هكذا يزعم أو يزعم الآخَرون فيه، غير أنّه وخصمه لم يستندوا إلى شيءٍ من أحكام الله ولا آياته ولا كلام رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولو قرأتَ السجال بينهما وأعدتَ القراءة ما بدا لك لا تشمّ منه رائحة الدِّين ولا التوحيد ولا شريعة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) .. فهل كان الأمر يُؤخَذ بالشرف

ص: 300

المزعوم فقط؟!

إنّما ارتكنا واستندا بالكامل إلى التفاضل بالشرف النسبيّ لاستحقاق الأمر، وهذا بنفسه شاهدٌ أنّ الطرفين كانا يتنازعان على موازين غير موازين الدين والإسلام، ويتوثّبان على (الأمر) بالمعنى الّذي يقصدانه.

الشرح الثالث عشر: من هم أهل البيت في حديث ابن عبّاس؟

لقد تكرّر في حديث ابن عبّاس قوله: «نحن أهل بيت»، أو: «عندنا أهل البيت»، وقد تكلّم بصيغة الجمع في أحيان كثيرة (نحن).. فمَن هم أهل البيت الّذين عناهم ابن عبّاس؟ ومن هم الّذين يشير إليهم بضمير الجمع؟ على فرض أنّه لا يستعمل ضمير الجمع لتعظيم نفسه!

إنْ كان المقصود من (أهل البيت) أو (أهل بيت) يعني أنّه من أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقد أخطأ وكذب، وتجرّأ على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى ما يحمله من حديثٍ ويرويه من كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فإنّه وأباه وأولاده ليسوا من أهل البيت جزماً، وقد حدّد الله (عزوجل) ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومون (علیهم السلام) مَن هم أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وربّما أخذ ابن عبّاس ومَن سبقه وفق موازين السقيفة بالميل والاغتراف والتضليل والتسلّل من خلال هذه المزاعم والادّعاءات لتوسيع معنى أهل البيت الّذي حصره النبيّ (صلی الله علیه و آله) بأمر الله بالنجوم الزواهر، وجعلوا يسرّبون كالنمل والديدان بعض أرحامه وأقاربه، كعمّه وابن عمّه وغيرهم،

ص: 301

وتطاولوا حتّى جعلوا عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) أقرب إليه وأَولى به من أمير المؤمنين (علیه السلام) ..

وإن كان يقصد من (أهل البيت) بني هاشم، أو (أهل بيت) يقصد نفسه وأهله، فيرجع الكلام إلى ما ذكرناه آنفاً، إذ أنّ التفاخر والكلام يدور مدار البيوتات والأُسر والعشائر والقبائل، من دون لحاظ الشجرة النبويّة المباركة، وهما يرجعان عاقبةً إلى نفس الشجرة الّتي ينتميان إليها، ولا مجال للتفاخر.

كيف كان، فإنّ ابن عباس ليس من أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالمعنى الأخصّ الذي حدّده النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، كما يروي ابن عبّاسٍ نفسه، وقد تواترت الأحاديث وتكاثرت الحوادث الّتي ميّز فيها الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) المراد من مصطلح (أهل البيت).

وإن كان المقصود من أهل البيت هم أرحام النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأقرباؤه بالمعنى اللغويّ العامّ والعرفيّ العامّ، فجميع قريش شجرته، ولا فرق بين ابن الزبير وابن عبّاس!

وإن أراد (أهل البيت) بني العبّاس، فلا فضل لهم على آل أبي طالب وغيره من أعمام النبيّ (صلی الله علیه و آله) على جميع الأصعدة والمستويات، بل في أعمام النبيّ (صلی الله علیه و آله) مَن هم أفضل وأقرب وأَوفى للنبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) ، على أنّ اقتطاعهم عن شرف النبيّ (صلی الله علیه و آله) سيقطع عنهم كلّ ما يشرّفون به.

ص: 302

الشرح الرابع عشر: ارتفاع أصواتهما

يبدو أنّ النقاش بينهما كان حادّاً، وقد تحوّل من نقاشٍ إلى نزاعٍ ومشاجرة، حتّى دخل بينهما رجالٌ من قريش فأسكتاهما، وكان ابن الزبير مغضباً حتّى ضرب رأس ابن أخيه بالنعال، كما كان ابن عبّاس مغضباً حتّى ارتفعت أصواتهما، ممّا أدّى إلى تدخّل رجالٍ من قريش بينهما لفضّ النزاع والتشاجر.

ولا ندري إن كان مثل هذا النزاع والاشتباك الكلاميّ مع صرصور الحرم ابن الزبير يزري بابن عبّاس، فكان ينبغي له أن يتجنّبه أو لا؟!

ص: 303

ص: 304

محتويات الكتاب

لقاء ابن عمر...............................................5

المتن الأوّل: رواية الشيخ ابن نما (رحمة الله) ...............................................5

المتن الثاني: رواية السيّد ابن طاووس (رحمة الله) ............................................... 6

المتن الثالث: رواية الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) ...............................................6

التعقّب الأوّل: هل كان لقاءً مستقلّاً؟............................................... 8

التعقّب الثاني: وقت اللقاء...............................................9

التعقّب الثالث: تخاذل ابن عمر على علم!............................................... 9

التعقّب الرابع: إضافاتٌ في المتن............................................... 10

لقاء ابن عبّاس وابن الزبير...............................................13

لقاء ابن عبّاس قُبَيل الخروج...............................................15

اللقاء الأوّل...............................................17

الحصّة الأولى: رجوع ابن عبّاس إلى مكّة...............................................35

الحصّة الثانية: زمان اللقاء...............................................37

الحصّة الثالثة: موضع اللقاء...............................................39

الحصّة الرابعة: كلام ابن عبّاس...............................................41

ص: 305

الإبراز الأوّل: إنّ الناس قد أرجفوا...............................................41

الإيضاح الأوّل: إرجاف الناس وشيوع الخبر............................................... 41

الإيضاح الثاني: استجلاء موقف الإمام (علیه السلام) ............................................... 44

الإيضاح الثالث: قدوم جماعةٍ مع ابن عبّاس............................................... 46

الإيضاح الرابع: جواب الإمام (علیه السلام) ............................................... 46

الإبراز الثاني: أقِمْ حتّى ينقضي الموسم...............................................50

الشطر الأوّل: كلّمه طويلاً ثمّ قال............................................... 50

الشطر الثاني: المناشدة والتحذير والنهي............................................... 51

الشطر الثالث: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً............................................... 53

الاستشفاف الأوّل: انتظار انقضاء الموسم...............................................54

الاستشفاف الثاني: لقاء الناس...............................................55

الاستشفاف الثالث: تعلم ما يصدرون!...............................................57

الاستشفاف الرابع: ثمّ ترى رأيك...............................................58

الاستشفاف الخامس: الغرض من تأخير الإمام...............................................60

الغرض الأوّل: تجميع الأنصار للدفاع عن الإمام (علیه السلام) في مكّة وغيرها...............................................60

الغرض الثاني: تجميع الأنصار للخروج مع الإمام (علیه السلام) والإطاحة بيزيد...............................................62

الغرض الثالث: توظيف الوقت لإقناع أحد الأطراف...............................................65

الشطر الرابع: التوقيت...............................................66

الشطر الخامس: أبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق............................................... 66

الإبراز الثالث: نهي ابن عبّاس وتحذيره من أهل الكوفة............................................... 67

الوقفة الأُولى: أُعيذك بالله من ذلك............................................... 75

المورد الأوّل: التعويذ من القتل...............................................77

المورد الثاني: التعويذ من ارتكاب الجهل والعناد...............................................78

الوقفة الثانية: فرضيّات ابن عبّاس............................................... 79

ص: 306

المطلب الأوّل: فرضيّة تمهيد القوم...............................................79

المطلب الثاني: فرضيّة دعوة الإمام (علیه السلام) قبل التمهيد...............................................83

أوّلاً: إنّ هذا يعني أنّهم إنّما يدعونه ليباشر الحرب والقتال بنفسه...............................................83

ثانياً: إنّه لا يأمن أن يغرّوه ويكذبوه ويخذلوه كما خذلوا أباه وأخاه...............................................85

ثالثاً: علم الإمام (علیه السلام) بالظروف...............................................86

رابعاً: على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم...............................................88

الوقفة الثالثة: جواب الإمام (علیه السلام) ............................................... 89

الجواب الأوّل: النظر والاستخارة...............................................90

الجواب الثاني: كتبهم وكتاب مسلم (علیه السلام) ...............................................94

الملاحظة الأُولى: تفرّد أبي الفرج...............................................95

الملاحظة الثانية: زيادات سبط ابن الجوزيّ...............................................96

الملاحظة الثالثة: إخبار ابن عبّاس بمقتل المولى الغريب (علیه السلام) !...............................................96

الملاحظة الرابعة: كتب القوم وكتاب المولى الغريب (علیه السلام) ...............................................96

الملاحظة الخامسة: زيادة سبط ابن الجوزيّ...............................................98

الملاحظة السادسة: بكاء ابن عبّاس وندبته...............................................99

الوقفة الرابعة: اقتراح اليمن............................................... 100

التنويه الأوّل: قبل اقتراح اليمن...............................................102

التنويه الثاني: التوجّه إلى اليمن...............................................102

التنويه الثالث: إفادة الخطر المُحدِق بالإمام (علیه السلام) في مكّة...............................................103

التنويه الرابع: المقارنة بين رواية المسعوديّ ونقل سبط ابن الجوزيّ...............................................104

التنويه الخامس: رواية الخوارزميّ...............................................104

التنويه السادس: جواب الإمام (علیه السلام) ...............................................106

الوقفة الخامسة: حكاية ابن شهرآشوب............................................... 107

الوقفة السادسة: رواية الطبريّ (الشيعيّ)............................................... 108

جواب الإمام (علیه السلام) ...............................................110

ص: 307

التلويح الأوّل: أما علمتَ؟!...............................................111

التلويح الثاني: علم الإمام (علیه السلام) ...............................................111

التلويح الثالث: أعلمُ ما لم تعلم...............................................112

التلويح الرابع: أنصار الإمام في العراق...............................................113

التلويح الخامس: محاربة عسكر السقيفة في الكوفة!...............................................114

الإبراز الرابع: النهي عن أخذ النساء والأطفال، والانتقام لعثمان............................................... 115

المحطّة الأُولى: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً!............................................... 117

المحطّة الثانية: إنْ عصيتَني............................................... 118

المحطّة الثالثة: النهي عن حمل العائلة............................................... 120

المحطّة الرابعة: أسباب التحذير عن حمل العائلة............................................... 122

المحطّة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) ............................................... 125

الجواب الأوّل: «إنّك شيخٌ قد كبُرتَ»...............................................125

الإشارة الأُولى: إنّك شيخ!...............................................125

الإشارة الثانية: أدب سيّد الشهداء (علیه السلام) ...............................................126

الجواب الثاني: «لئن أُقتَل خارج مكّة أحبّ»...............................................130

الجواب الثالث: فأبى ذلك ولم يقبله...............................................133

المحطّة السادسة: تذكّر الإمام (علیه السلام) إشارة ابن عبّاس يوم عاشوراء...............................................135

النكزة الأُولى: مؤدّى الكلام...............................................135

النكزة الثانية: بين أمير المؤمنين (علیه السلام) والعبّاس...............................................137

النكزة الثالثة: متى وأين قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عبّاس؟...............................................141

التنويه الأوّل: نقل قول الإمام (علیه السلام) فقط...............................................143

التنويه الثاني: مؤدّى الخبر...............................................144

التنويه الثالث: «لو كُشف ليَ الغطاء ...............................................»...............................................145

التنويه الرابع: ما عجز عنه الخوارج ناله ابنُ عبّاس...............................................146

التنويه الخامس: لا غضاضة على الإمام (علیه السلام) إذا أقرّ لابن عمّه!!...............................................147

ص: 308

التنويه السادس: الغرض من ذكر قصّة العبّاس وابنه...............................................149

النكزة الرابعة: سبقوا أبا الفرَج!...............................................150

النكزة الخامسة: لو دار الأمر بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!...............................................152

المحطّة السابعة: موقف العقيلة الحوراء في رواية البحرانيّ............................................... 153

الإبراز الخامس: الردع بالاشتباك...............................................154

الحصة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام) ...............................................155

اللقاء الثاني: معاودة اللقاء...............................................159

البلاذريّ...............................................159

الدينوريّ...............................................160

الطبريّ...............................................161

إبن أعثم...............................................162

مِسكوَيه...............................................163

الخوارزميّ...............................................164

إبن الجوزيّ...............................................164

إبن الأثير، النويريّ...............................................165

إبن كثير...............................................166

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ...............................................167

الإضاءة الأُولى: زمن اللقاء...............................................169

الإضاءة الثانية: تداخل اللقاءات...............................................170

الإضاءة الثالثة: معاودة اللقاء وتكرار الكلام...............................................171

الإضاءة الرابعة: رسم صورةٍ لحركة الإمام (علیه السلام) في كلام ابن عبّاس............................................... 174

المشكلة الأُولى: تصوير ابن عبّاس............................................... 176

المشكلة الثانية: متابعة ابن عبّاس............................................... 176

ص: 309

الإضاءة الخامسة: إقرار عين ابن الزبير...............................................178

المتابعة الأُولى: بداية الخبر............................................... 178

المتابعة الثانية: اهتمام ابن عبّاس وإعراض الإمام (علیه السلام) ............................................... 179

المتابعة الثالثة: رعاية حرمة الكعبة............................................... 180

المتابعة الرابعة: مقايسة الإمام (علیه السلام) بابن الزبير............................................... 181

المتابعة الخامسة: اختلاف الأتباع............................................... 182

المتابعة السادسة: كفاية مدّة الإقامة............................................... 182

المتابعة السابعة: تكثّر الجبهات............................................... 183

المتابعة الثامنة: المواجهة بين الإمام (علیه السلام) ويزيد............................................... 184

المتابعة التاسعة: الإمام (علیه السلام) يعمل بتكليفه............................................... 185

المتابعة العاشرة: جواب الإمام (علیه السلام) في نصّ ابن أعثم............................................... 185

الإضاءة الخامسة: ابنُ عبّاسٍ ينعى الإمامَ (علیه السلام) ............................................... 186

الضوء الأوّل: ختامٌ غاضِب............................................... 187

الضوء الثاني: دلالات النعي!............................................... 189

اللقاء الثالث: «لولا أن يُزرى بي أو بك لَشبكتُ بيدي في رأسك»!...............................................191

المشهد الأوّل: تتمّة اللقاء...............................................191

الشعلة الأُولى: معاني بعض الكلمات............................................... 193

الناصية............................................... 193

زري............................................... 195

نشب............................................... 195

الشعلة الثانية: إساءة الأدب............................................... 196

الشعلة الثالثة: حُسن النوايا!............................................... 198

الشعلة الرابعة: يُزرى بي أو بك............................................... 199

الشعلة الرابعة: افتراض سلوكٍ للإمام (علیه السلام) !............................................... 200

ص: 310

الشعلة الخامسة: يجتمع علَيّ وعليك الناس!............................................... 201

الشعلة السادسة: أطعتَني!...............................................201

الشعلة السابعة: الغاية من هذا التصرّف المشين............................................... 202

الشعلة الثامنة: المانع من القيام بهذه الفعلة............................................... 203

الشعلة التاسعة: النهاية...............................................204

المشهد الثاني: بعد الاستشارة...............................................204

التنويه الأوّل: اتّحاد الراوي في المصادر............................................... 209

التنويه الثاني: استشارني، استأذنني!............................................... 209

التنويه الثالث: جاءني حسين!............................................... 210

التنويه الرابع: ردّ الإمام (علیه السلام) ............................................... 211

الإشارة الأُولى: مفاد كلام الإمام (علیه السلام) ...............................................213

الإشارة الثانية: تخطئة ابن عبّاس وغيره...............................................213

الإشارة الثالثة: هتك الحُرمات...............................................213

الإشارة الرابعة: التعريض بابن الزبير...............................................214

الإشارة الخامسة: مكان كذا!...............................................214

التنويه الخامس: سلى بنفسه عن الإمام (علیه السلام) ............................................... 215

النقطة الأُولى: معنى (سلا)...............................................215

النقطة الثانية: مؤدّى الكلام...............................................216

التنويه السادس: تعليق طاووس............................................... 217

اللقاء الرابع: لقاءٌ في بيت الله الحرام...............................................221

اللفتة الأُولى: الرواية عن ابن عبّاس...............................................222

اللفتة الثانية: اللقاء في بيت الله...............................................222

اللفتة الثالثة: زمن اللقاء...............................................223

اللفتة الرابعة: تعدّد اللقاء...............................................224

ص: 311

اللفتة الخامسة: كفّه بكفّه في خبر الشجريّ!...............................................224

اللفتة السادسة: كفّه بكفّ جبرائيل...............................................226

التدقيق الأوّل: انفراد ابن شهرآشوب............................................... 226

التدقيق الثاني: هل رأى جبرائيل وحده؟............................................... 226

التدقيق الثالث: كيف شخّص جبرائيل؟............................................... 227

التدقيق الرابع: لماذا لم يبايع ابن عبّاس؟!............................................... 231

التدقيق الخامس: تعنيف ابن عبّاس............................................... 232

اللفتة السابعة: المناشدة للإعراض عن المسير إلى العراق............................................... 232

اللفتة الثامنة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر............................................... 233

التنويه الأوّل: رواية الشجريّ............................................... 234

التنويه الثاني: خَلِّ عنّي...............................................234

اللقاء الخامس: رواية أهل البيت (علیهم السلام) ...............................................235

الوقفة الأُولى: انتهاء النصّ إلى المعصوم...............................................236

الوقفة الثانية: المقدار المطلوب من النصّ...............................................237

الوقفة الثالثة: مناشدة ابن عبّاس...............................................237

الوقفة الرابعة: ردّ الإمام (علیه السلام) ...............................................238

المقطع الأوّل: أنا أعرَفُ...............................................238

المقطع الثاني: ما كدّي من الدنيا............................................... 240

المقطع الثالث: الدنيا وأمير المؤمنين (علیه السلام) ............................................... 240

تتمّات...............................................243

التتمّة الأوّلى: متونٌ عامّة...............................................243

التتمّة الثانية: إشفاق الناس وتحذيرهم...............................................247

ص: 312

التتمّة الثالثة: التفأل بالقرآن...............................................249

التتمّة الرابعة: نهاية اللقاءات...............................................250

التتمّة الخامسة: الاختيار بين تصويب ابن عبّاس وتخطأته............................................... 250

التتمّة السادسة: اختلاف الخطابَين...............................................252

التتمّة السابعة: تغافل ابن عبّاس!...............................................252

التتمّة الثامنة: الفرق بين كلام ابن عبّاسٍ وغيره من الهاشميّين............................................... 253

التتمّة التاسعة: إساءة أدب ابن عبّاس...............................................255

التتمّة العاشرة: سوء الظنّ!...............................................256

التتمّة الحادية عشر: اتّضاح الصورة لكلّ ذي عينَين............................................... 257

التتمّة الثانية عشر: خلاصة القول في موقف ابن عبّاس!............................................... 259

إبن عبّاس يلتقي ابن الزبير...............................................261

القسم الأوّل: المختصر...............................................261

الشعبة الأُولى: الكلام...............................................261

القطعة الأُولى: كلام ابن عبّاس...............................................266

المعلومة الأُولى: لا كلام لابن الزبير...............................................266

المعلومة الثانية: اللقاء بعد الخروج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ...............................................267

المعلومة الثالثة: مكان اللقاء...............................................268

المعلومة الرابعة: الفرق بين هذا اللقاء وما مرّ ذكره...............................................268

المعلومة الخامسة: خلاصة كلام ابن عبّاس...............................................269

المعلومة السادسة: الإخبار عن كوامن ابن الزبير...............................................270

المعلومة السابعة: غياب التخوّف من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ...............................................271

المعلومة الثامنة: صراع السلطة...............................................271

المعلومة التاسعة: التخلّي عن مكّة...............................................272

ص: 313

المعلومة العاشرة: المحصَّلة...............................................273

القطعة الثانية: التمثّل...............................................274

القسم الثاني: المفصّل...............................................277

الشرح الأوّل: اختلاف اللقاء............................................... 284

الشرح الثاني: أجواء اللقاء............................................... 284

الشرح الثالث: التنازع في حقٍّ غير ثابت............................................... 285

الشرح الرابع: نَفَسُ ابن عبّاسٍ في الخطاب............................................... 286

الشرح الخامس: غياب التفجّع على الإمام الحسين (علیه السلام) ............................................... 287

الشرح السادس: بواعث الحسد والنزاع على السلطة............................................... 289

الشرح السابع: جواب ابن عبّاس............................................... 290

الشرح الثامن: الشروع في الاستدلال............................................... 292

الشرح التاسع: ذريعة ابن الزبير!............................................... 293

الشرح العاشر: احتجاج ابن عبّاس............................................... 295

الشرح الحادي عشر: التباغض............................................... 298

الشرح الثاني عشر: هل يُنال الأمر بالشرف وحده؟............................................... 300

الشرح الثالث عشر: من هم أهل البيت في حديث ابن عبّاس؟............................................... 301

الشرح الرابع عشر: ارتفاع أصواتهما............................................... 303

ص: 314

المجلد 3

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

القسم الثالث

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

بين يزيد وعبد الله بن عبّاس بعد شهادة الإمام (علیه السلام)

مرّ معنا الحديثُ عن لقاءات ابن عبّاس بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاولاته الحثيثة لإقناع سيّد الشهداء (علیه السلام) وثنيه عن التوجّه نحو العراق بشتّى الوسائل والطرق، حتّى تمنّى لو أنّه يشبك يده في شَعر سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ليمنعه، لولا أنّه يخشى أن يُزرى به أوّلاً أو بالإمام (علیه السلام) .

وكيف ما أراد المتابع أن يسوّغ فعل ابن عبّاس ويبرّر له مواقفه، ويدافع عن ممانعته وحرصه على إبقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة، فإنّ القدَر المتيقّن الّذي لا يمكن أن يعدوه أحد، هو أن يُقال:

إنّ ابن عبّاس كان قد فهم وتصوّر أو حاول أن يصوّر حركة الإمام (علیه السلام) وخروجه من مكّة خروجاً على النظام الحاكم، وعملاً تحريضيّاً يقصد به مواجهة يزيد والأُمويّين ومحاربتهم، والاستيلاء على ما في أيديهم، والمطالبة بحقّه في الخلافة والسلطة.. وهذا ما صوّره يزيد أيضاً، سواءً في كتابه لابن عبّاس ولأهل المدينة وأهل الموسم، أو في غيره من مواقفه وتصريحاته هو

ص: 5

وعمّاله وأذنابه، وهو القائل لمولانا المكرّم محمّد ابن الحنفيّة: ولم يكن يجب على أخيك أن ينازعنا حقَّنا وما قد خصّنا الله به دون غيرنا ((1)).

فهو على كلّ حالٍ يرى الإمامَ (علیه السلام) خارجاً على النظام، يريد الإطاحة به أو يريد مقاتلته ومواجهته للغرض المذكور آنفاً، أو لأيّ غرضٍ كان.

بَيد أنّه اختلف مع الإمام (علیه السلام) في التوقيت وفي تحديد الوجهة، فلا يرى ابنُ عبّاس وقت الخروج في تلك الأيّام، ولا يرى صحّة التوجّه إلى الكوفة، لأسبابٍ ذكرها في أكثر من موقف مع الإمام (علیه السلام) .

هذا غاية ما يمكن تصويره وتصويبه في موقف ابن عبّاس، وهو ممّا لا خلاف فيه، لأنّه صريح مُجمَل المشهَد الّذي تحرّك فيه.

فيكون حينئذٍ قد اختلف مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وخالف الإمام المفترض الطاعة، واعتقد صحّة موقفه هو، وأنّ الحقّ معه _ وفق تقديراته _، ويلزم من ذلك أنّه يرى الإمام (علیه السلام) على خطأ، وأنّه أخطأ الحقَّ وسار على غير الجادّة _ والعياذ بالله _.

* * * * *هذا بغضّ النظر عن انقلاب الصورة عند ابن عبّاس وخطئه في أصل تقديراته، وفهمه القاصر عن إدراك ظروف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو إبائه عن

ص: 6


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 256، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 79، بحار الأنوار: 45 / 325، العوالم للبحرانيّ: 17 / 643.

إدراك ذلك، رغم بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) الصريحة الواضحة، ورغم مجريات الأحداث ووضوح خطوات الأعداء ومتابعاتهم وملاحقاتهم وإقداماتهم لكلّ ذي عينين، بل حتّى لأعمى البصر إن كانت له مسكةٌ من بصيرة.

وربّما كان فيما كتبه ابن عبّاس إلى يزيد _ ردّاً على كتابٍ كتبه الأخير _ شواهد ترقى إلى مستوى الدليل بجدارةٍ تشهد على ما ذكرناه، لذا اقتضى البحث أن نتناول الكتاب والردّ، ونمكث معه على عجلٍ من دون إطالة، وإنّما نقتصر على الإشارة السريعة الخاطفة إلى المواضع الّتي تشهد لما نقرّره وتشهد على انقلاب الصورة عند ابن عبّاس، واختلاف تقييمه للأحداث قبل وبعد شهادة ريحانة النبيّ وآله وصحبه الكرام.

ص: 7

ص: 8

كتاب يزيد إلى ابن عبّاس وجواب ابن عبّاس

اشارة

البلاذريّ:

وكان امتناعُ ابن عبّاس عن البيعة لابن الزبير قد بلغ يزيد، فظنّ أنّ ذلك لتمسّكه ببيعته، فكتب يزيد إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابنَ الزبير دعاك إلى نفسه وعرضَ عليك الدخول في طاعته، لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت من طاعته واعتصمتَ عليه في بيعته، وفاءً منك لنا وطاعةً لله بتثبيت ما عرّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ كأفضل جزاء الواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم، فما أنسَ من الأشياء لا أنسَ بِرّك وحُسن مكافاتك وتعجيل صلتك، فانظر مَن قِبلك ومَن يطرأُ إليك من الآفاق ممّن يسحره الملحد وزخرف قوله، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك في طاعتي وتمسُّكَك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ الحارب الملحد المارق، والسلام.

فأجابه عبدُ الله بن عبّاس بجوابٍ طويل، يقول فيه:

ص: 9

سألتَني أن أحثَّ الناس عليك، وأُثبّطهم عن نصرة ابن الزبير وأُخذّلهم عنه، فلا ولا كرامة ولا مسرّة، تسألني نصرك وتحذوني على ودّك وقد قتلت حسيناً! بفيك الكثكث، وإنّك إذ تُمنّيك نفسُك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المثبور، أتحسبني _ لا أباً لك _ نسيتُ قتلَك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدجى، الّذين غادرهم جنودُك مصرّعين في صعيدٍ واحد، مرمّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، غير مكفّنين ولا موسَّدين، تسفي عليهم الرياح، وتعروهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوك في دمائهم، فكفّنوهم وأجنّوهم، ومهما أنسَ من الأشياء فلن أنسى تسليطك عليهم ابنَ مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة البعيد منهم رحماً، اللئيم أُمّاً وأباً، الّذي اكتسب أبوك في ادّعائه إيّاه لنفسه العار والخزي والمذلّة في الدنيا والآخرة! فلا شيء أعجب من طلبك ودّي ونصري وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري!

وذكر كلاماً بعد ذلك.

وكتب يزيد إليه كتاباً يأمره بالخروج إلى الوليد بن عُتبة ومبايعته له، وينسبه إلى قتل عثمان والممالأة عليه، فكتب ابن عبّاس إليه أيضاً كتاباً يقول فيه:إنّي كنتُ بمعزلٍ عن عثمان، ولكنّ أباك تربّص به وأبطأ عنه بنصره، وحبس من قِبله عنه حين استصرخه واستغاث به، ثمّ بعث الرجال

ص: 10

إليه معذراً حين علم أنّهم لا يدركونه حتّى يهلك ((1)).

اليعقوبيّ:

فبلغ يزيد بن معاوية أنّ عبد الله بن عبّاس قد امتنع على ابن الزبير، فسرّه ذلك، وكتب إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخولَ في طاعته، لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعةً لله فيما عرّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإنّي ما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ بِرّك وحُسنَ جزائك وتعجيل صلتك بالّذي أنت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة برسول الله، فانظر _ رحمك الله _ فيمن قِبلك مِن قومك ومَن يطرأ عليك من الآفاق ممّن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك في طاعتي والتمسّك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ الملحد، والسلام.فكتب إليه عبدُ الله بن عبّاس:

مِن عبد الله بن عبّاس إلى يزيد بن معاوية، أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بذِكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه، وامتناعي عليه في الّذي دعاني إليه من بيعته، فإن يكُ ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردتُ

ص: 11


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 321.

ولا ودّك، ولكنّ الله بالّذي أنوي عليم.

وزعمتَ أنّك لست بناسٍ وُدّي، فلَعمري ما تؤتينا ممّا في يدَيك من حقّنا إلّا القليل، وإنّك لَتحبس عنّا منه العريض الطويل.

وسألتني أن أحثّ الناس عليك وأُخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ، بفيك الكثكث، ولك الأثلب، إنّك إن تُمنّيك نفسُك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهور، لا تحسبني _ لا أباً لك _ نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام، غادرهم جنودُك مصرّعين في الصعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي واللهِ وبهم عززت وجلست مجلسك الّذي جلستَ يا يزيد.

وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر ابنالعاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأُمّاً، الّذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأُولى، وفي الممات والمحيا. إنّ نبيّ الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، فألحِقْه بأبيه كما يُلحَق بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد، وقد أمات أبوك السنّة جهلاً، وأحيى البدَع والأحداث المضلّة عمداً.

وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ إطرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من

ص: 12

حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فأكبَرَ من ذلك ما لم تُكبِر، حيث دسستَ إليه الرجال فيها ليقاتَل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام، وعرّضه للعائر وأقبل أر العالم، وأنت لَأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لا أشكّ فيه أنّك للمحرق العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهي، فلمّا رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً.

ثمّ إنّك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرتَهبمعاجلته وترك مطاولته، والإلحاح عليه حتّى يقتله ومَن معه من بني عبد المطّلب، أهلِ البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنحن أُولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير، ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلتموهم كأنّما قتلتم أهل بيتٍ من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري، وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثاري، فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيّين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك إن ظفرتَ بنا

ص: 13

اليوم، فو اللهِ لنظفرنّ بك يوماً.

فأمّا ما ذكرتَ من وفائي وما زعمتَ من حقّي، فإن يكُ ذلك كذلك، فقد واللهِ بايعتُ أباك وإنّي لَأعلم أنّ بني عمّي وجميع بني أبي أحقُّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنّكم معاشر قريش كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على مَن اجترأ على ظُلمنا، واستغوى السفهاءَ علينا، وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعُدَت ثمود وقومُ لوطٍ وأصحابُ مَدْيَن ومُكذّبو المرسلين.

ألا ومِن أعجب الأعاجيب _ وما عشتَ أراك الدهر العجيب _حمْلَك بنات عبد المطّلب وغلمة صغاراً مِن وُلده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمّرت علينا، ولَعمري لئن كنتَ تُصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لَأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستغربك الجذل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلّا قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيُخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعِشْ _ لا أباً لك _، فقد واللهِ أرداك عند الله ما اقترفت.

والسلامُ على مَن أطاع الله ((1)).

الطبرانيّ، الهيثميّ:

حدّثَنا أحمد بن حمدان بن موسى الخلال التستريّ، ثنا عليّ بن حرب

ص: 14


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة.

الجنديسابوريّ، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن داحة، ثنا أبو خداش عبد الرحمان بن طلحة بن يزيد بن عمرو بن الأهتم التميميّ، ثنا أبان بن الوليد، قال:

كتب عبد الله بن الزبير إلى ابن عبّاسٍ في البيعة، فأبى أن يبايعه، فظنّ يزيد بن معاوية أنّه إنّما امتنع عليه لمكانه، فكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عبّاس:أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته ليُدخلك في طاعته، فتكون على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، فامتنعتَ عليه وانقبضت، لما عرّفك الله من نفسك في حقّنا أهل البيت، فجزاك الله أفضل ما يجزي الواصلين من أرحامهم الموفين بعهودهم، فمهما أنسى من الأشياء فلستُ أنسى برّك وصلتك وحُسن جائزتك بالّذي أنت أهله منّا في الطاعة والشرف والقرابة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فانظر من قِبلك من قومك ومَن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله، فخذّلهم عنه، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للملحد الخارب المارق، والسلام.

فكتب ابن عبّاسٍ إليه:

أمّا بعد، فقد جاءني كتابك تذكر دعاء ابن الزبير إيّاي للذي دعاني إليه، وإنّي امتنعتُ معرفةً لحقّك، فإن يكن ذلك كذلك فلستُ برّك أغزو بذلك، ولكنّ الله بما أنوي به عليم.

وكتبتَ إليّ أن أحثّ الناس عليك وأُخذّلهم عن ابن الزبير، فلا سروراً

ص: 15

ولا حبوراً، بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنّك لَعازبٌ إن منّتك نفسك، وإنّك لأنت المنفود المثبور.

وكتبتَ إليّ تذكر تعجيل برّي وصلتي، فاحبِسْ أيّها الإنسان عنّيبرّك وصلتك، فإنّي حابسٌ عنك ودّي ونصرتي، ولَعمري ما تعطينا ممّا في يديك لنا إلّا القليل، وتحبس منه العريض الطويل، لا أبا لك، أتراني أنسى قتلَك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام؟ غادرتهم جنودُك بأمرك، فأصبحوا مصرّعين في صعيدٍ واحد، مرمَّلين في الدماء، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين ولا موسَّدين، تسفيهم الرياح، وتغزوهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوا في دمائهم، فكفّنوهم وأجنّوهم، وبهم واللهِ وبي منّ الله عليك، فجلستَ في مجلسك الّذي أنت فيه.

ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسليطك عليهم الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأُمّاً، الّذي اكتسب أبوك في ادّعائه لنفسه العار والمأثم والمذلّة والخزي في الدنيا والآخرة، لأنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، وإنّ أباك زعم أنّ الولد لغير الفراش، ولا يضرّ العاهر، ويلحق به ولده كما يلحق ولد البغيّ المرشد، ولقد أمات أبوك السنّة جهلاً، وأحيى الأحداث المضلّة عمداً.

ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسييرك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك إليهم الرجال، وإدساسك إليهم إن هو

ص: 16

نذر بكم، فعاجلوه، فما زلتَ بذلك حتّى أشخصتَه من مكّة إلى أرض الكوفة، تزأر إليه خيلك وجنودك زئير الأسد، عداوة مثلك لله ولرسوله ولأهل بيته، ثمّ كتبت إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف، ثمّ كتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته، حتّى قتله ومَن معه من فتيان بني عبد المطّلب، أهلِ البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، نحن أُولئك، لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير، ولقد علمتَ أنّه كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّه بها حديثاً لو ثوى بالحرمين مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكنّه كره أن يكون هو الّذي يُستحلّ به حرم الله وحرم رسوله (صلی الله علیه و آله) وحرمة البيت الحرام، فطلب إليكم الحسين الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة نصّاره واستئصال أهل بيته، كأنّكم تقتلون أهل بيتٍ من الترك أو كابل.

فكيف تجدوني على ودّك، وتطلب نصرتي؟ وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذٌ ثأري؟ فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي، ولا تسبقني بثأري، وإن تسبقنا به فقبلنا ما قبلت النبيّون وآل النبيّين، فطلّت دماؤهم في الدنيا، وكان الموعد الله، فكفى بالله للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً.

والعجب كلّ العجب _ وما عشتَ يربك الدهر العجب _ حملك بنات عبد المطّلب، وحملك أبناءَهم أغيلمةً صغاراً إليك بالشام، تُري الناس أنّك قد قهرتنا، وأنّك تذلّنا، وبهم واللهِ وبي مَنّ الله عليك وعلى أبيك وأُمّك من النساء، وأيمُ الله إنّك لَتُمسيوتُصبح آمناً لجراح يدي،

ص: 17

ولَيعظمنّ جرحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستفزّنّك الجدل، فلن يُمهلك الله بعد قتلك عترة رسوله إلّا قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، ويُخرجك من الدنيا آثماً مذموماً، فعِشْ _ لا أباً لك _ ما شئت، فقد أرداك عند الله ما اقترفت.

فلمّا قرأ يزيد الرسالة قال: لقد كان ابن عبّاسٍ مضياً على الشرّ ((1)).

الخوارزميّ، المجلسيّ:

أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصميّ، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقيّ، أخبرنا والدي شيخ السنّة أحمد بن الحسين البيهقيّ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، أخبرنا عبدالله بن جعفر، حدّثنا يعقوب بن سفيان، حدّثنا عبد الوهّاب بن الضحّاك، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن شقيق بن سلَمة:

[...] وظنّ يزيد بن معاوية أنّ امتناع ابن عبّاسٍ كان تمسّكاً منه ببيعته، فكتب إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته والدخولِفي طاعته، لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، وإنّك اعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعةً لله لما عرّفك من حقّنا،

ص: 18


1- المعجم الكبير للطبراني: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

فجزاك الله من ذي رحمٍ خير ما يجزي الواصلين بأرحامهم، الموفين بعهودهم.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ برّك وتعجيل صلتك بالّذي أنت له أهلٌ من القرابة من الرسول، فانظر مَن طلع عليك من الآفاق ممّن سحرهم ابنُ الزبير بلسانه وزخرف قوله، فأعلِمْهم برأيك، فإنّهم منك أسمع ولك أطوع من المحلّ للحرم المارق.

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد جاءني كتابك، تذكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى بيعته والدخول في طاعته، فإن يكن ذلك كذلك، فإنّي واللهِ ما أرجو بذلك برَّك ولا حمدك، ولكنّ الله بالّذي أنوي به عليم.

وزعمتَ أنّك غير ناسٍ برّي وتعجيل صلتي، فاحبسْ أيّها الإنسان برّك وتعجيل صلتك، فإنّي حابسٌ عنك وُدّي، فلَعمري ما تؤتينا ممّا لنا قِبلك من حقّنا إلّا اليسير، وإنّك لَتحبس منه عنّا العريض الطويل.

وسألتَني أن أحثّ الناس إليك وأن أُخذّلهم من ابن الزبير، فلا ولاء ولا سروراً ولا حباء، إنّك تسألني نصرتك وتحثّني على ودّك، وقد قتلتَ حسيناً وفتيان عبد المطّلب، مصابيحَ الدجى ونجومَ الهدىوأعلامَ التُّقى، غادرتهم خيولُك بأمرك في صعيدٍ واحد، مزمّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين ولا موسَّدين، تسفي عليهم الرياح، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم بقومٍ لم يشركوا في دمائهم، كفّنوهم وأجنّوهم، وبي وبهم واللهِ غروب، وجلستَ مجلسك الّذي

ص: 19

جلست.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطرادك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك إليه الرجال لتقتله في حرم الله، فما زلتَ بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصتَه من مكّة إلى العراق، فخرج خائفاً يترقّب، فزلزلت به خيلك، عداوةً منك لله ولرسوله، ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، أُولئك لا كآبائك الجفاة الأجلاف أكباد الحمير، فطلب إليكم الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته، فتعاونتم عليه، كأنّكم قتلتم أهل بيتٍ من الترك.

فلا شيء أعجب عندي من طلبك ودّي، وقد قتلتَ وُلد أبي، وسيفُك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، فإن شاء الله لا يبطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، فإن سبقتَني في الدنيا فقبل ذلك ما قُتل النبيّون وآل النبيّين، فطلب الله بدمائهم، وكفى بالله للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبك إنْ ظفرتَ بنا اليوم،فلَنظفرنّ بك يوماً.

وذكرتَ وفائي وما عرفتني من حقّك، فإن يكن ذلك كذلك فقد بايعتُك وأباك من قبلك، وإنّك لَتعلم أنّي ووُلد أبي أحقُّ بهذا الأمر منك ومن أبيك، ولكنّكم معشر قريش كابرتمونا حتّى دفعتمونا عن حقّنا، ووليتم الأمر دوننا، فبُعداً لمن تحرّى ظُلمنا، واستغوى السفهاء علينا، كما بعُدَت ثمود وقومُ لوطٍ وأصحابُ مَدْيَن.

ومن أعجب الأعاجيب _ وما عسى أن أعجب _ حملُك بنات

ص: 20

عبد المطّلب وأطفالاً صغاراً من وُلده إليك بالشام كالسبي المجلوبين، تُري الناسَ أنّك قهرتنا، وأنت تمنّ علينا، وبنا مَنّ الله عليك، ولَعمر الله لئن كنت تُصبح آمناً من جراحة يدي، فإنّي لَأرجو أن يعظم الله جرحك من لساني ونقضي وإبرامي، والله ما أنا بآيسٍ من بعد قتلك ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يأخذك الله أخذاً أليماً، ويخرجك من الدنيا مذموماً مدحوراً، فعِشْ _ لا أباً لك _ ما استطعت، فقد واللهِ ازددتَ عند الله أضعافاً، واقترفت مآثماً.

والسلامُ على مَن اتّبع الهدى ((1)).إبن الأثير:

وقال شقيق بن سلَمة:

[...] وظنّ يزيد أنّ امتناعه تمسّكٌ منه ببيعته، فكتب إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وأنّك اعتصمتَ ببيعتنا وفاءً منك لنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ خير ما يجزي المواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ برّك وتعجيل صلتك بالّذي أنت له أهل، فانظر مَن طلع عليك من الآفاق ممّن سحرهم ابن الزبير بلسانه، فأعلِمْهم بحاله، فإنّهم منك أسمع الناس ولك أطوع منهم للمُحلّ.

ص: 21


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد جاءني كتابك.

فأمّا تركي بيعة ابن الزبير، فوَاللهِ ما أرجو بذلك برَّك ولا حمدك، ولكنّ الله بالّذي أنوي عليم.

وزعمتَ أنّك لست بناسٍ برّي، فاحبسْ أيّها الإنسان برّك عنّي، فإنّي حابسٌ عنك برّي.

وسألتَ أن أُحبّب الناس إليك وأُبغّضهم وأُخذّلهم لابن الزبير، فلاولا سرور ولا كرامة، كيف وقد قتلتَ حسيناً وفتيان عبد المطّلب، مصابيحَ الهدى ونجوم الأعلام؟ غادرتهم خيولك بأمرك في صعيدٍ واحد، مرمَّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، مقتولين بالظماء، لا مكفّنين ولا موسَّدين، تسفي عليهم الرياح، وينشي بهم عرج البطاح، حتّى أتاح الله بقومٍ لم يشركوا في دمائهم، كفّنوهم وأجنّوهم، وبي وبهم لو عززت وجلست مجلسك الّذي جلست.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطرادك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك الخيول إليه، فما زلتَ بذلك حتّى أشخصتَه إلى العراق، فخرج خائفاً يترقّب، فنزلَت به خيلُك عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فطلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته، وتعاونتم عليه، كأنّكم قتلتم أهل بيتٍ من الترك والكفر، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودّي، وقد قتلتَ وُلد أبي،

ص: 22

وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، ولا يعجبك إن ظفرتَ بنا اليوم، فلَنظفرنّ بك يوماً، والسلام ((1)).

سبط ابن الجوزيّ، الشيخ القمّيّ:ذكر الواقديّ وهشام وابن إسحاق وغيرهم، قالوا:

[...] فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فكتب إلى ابن عبّاس:

سلامٌ عليك.

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد في حرم الله دعاك لتبايعه، فأبيتَ عليه، وفاءً منك لنا، فانظر مَن بحضرتك من أهل البيت ومَن يرد عليك من البلاد، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك فينا وفي ابن الزبير، وإنّ ابن الزبير إنّما دعاك لطاعته والدخول في بيعته، لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، وقد اعتصمتَ في بيعتنا طاعةً منك لنا ولما تعرف من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ خير ما جازى به الواصلين أرحامهم الموفين بعهودهم.

فما أنس من الأشياء، ما أنا بناسٍ برّك وتعجيل صلتك بالّذي أنت أهله، فانظر مَن يطلع عليك من الآفاق، فحذّرهم زخارف ابن الزبير، وجنّبهم لقلقة لسانه، فإنّهم منك أسمع ولك أطوع، والسلام.

فكتب إليه ابن عبّاس:

بلغني كتابك، تذكر أنّي تركتُ بيعة ابن الزبير وفاءً منّي لك، ولَعمري ما

ص: 23


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 318.

أردتُ حمدك ولا وُدّك، تراني كنتُ ناسياً قتلك حسيناً وفتيان بني المطّلب، مضرّجين بالدماء، مسلوبين بالعراء، تسفي عليهم الرياح، وتنتابهم الضباع، حتّى أتاح الله لهم قوماً واروهم؟ فما أنسَطردك حسيناً من حرم الله وحرم رسوله، وكتابك إلى ابن مرجانة تأمره بقتله، وإنّي لَأرجو من الله أن يأخذك عاجلاً، حيث قتلت عترة نبيّه محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) ورضيت بذلك.

وأمّا قولك أنّك غير ناسٍ برّي، فاحبسْ أيّها الإنسان برّك عنّي وصلتك، فإنّي حابسٌ عنك ودّي، ولَعمري أنّك ما تؤتينا ممّا لنا من في قبلك إلّا اليسير، وإنّك لَتحبس عنّا منه العرض الطويل.

ثمّ إنّك سألتني أن أحثّ الناس على طاعتك، وأن أخذّلهم عن ابن الزبير، فلا مرحباً ولا كرامة، تسألني نصرتك ومودّتك، وقد قتلتَ ابن عمّي وأهل رسول الله، مصابيحَ الهدى ونجومَ الدجى، غادرتهم جنودك بأمرك صرعى في صعيدٍ واحد قتلى، أنسيتَ إنفاد أعوانك إلى حرم الله لتقتل الحسين، فما زلت وراءه تخيفه، حتّى أشخصتَه إلى العراق، عداوةً منك لله ورسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟ فنحن أُولئك، لا آباؤك الجفاة الطغاة الكفرة الفجرة، أكباد الإبل والحمير الأجلاف، أعداء الله وأعداء رسوله، الّذين قاتلوا رسول الله في كلّ موطن، وجدّك وأبوك هم الّذين ظاهروا على الله ورسوله، ولكن إن سبقتني قبل أن آخذ منك ثاري في الدنيا، فقد قُتل النبيّون قبلي، وكفى بالله ناصراً، ولَتعلمنّ نبأه بعد حين.

ص: 24

ثمّ أنّك تطلب مودّتي، وقد علمتُ لما بايعتك، ما فعلتُ ذلك إلّاوأنا أعلم أنّ وُلد أبي وعمّي أَولى بهذا الأمر منك ومن أبيك، ولكنّكم معتدين مدّعين، أخذتُم ما ليس لكم بحقّ، وتعدّيتم إلى مَن له الحقّ، وإنّي على يقينٍ من الله أن يعذّبكم كما عذّب قوم عادٍ وثمود وقوم لوطٍ وأصحاب مَدْيَن.

يا يزيد! وإنّ من أعظم الشماتة حملك بنات رسول الله وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين مسلوبين، تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتنا واستوليت على آل رسول الله، وفي ظنّك أنّك أخذتَ بثأر أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر، وأظهرت الانتقام الّذي كنت تخفيه، والأضغانَ الّذي تكمن في قلبك كمَون النار في الزناد، وجعلت أنت وأبوك دم عثمان وسيلةً إلى إظهارها، فالويل لك من ديّان يوم الدين، وواللهِ لئن أصبحتَ آمناً من جراحة يدي، فما أنت بآمنٍ من جراحة لساني بفيك الكثكث، وأنت المفند المثبور، ولك الأثلب، وأنت المذموم، ولا يغرّنّك إن ظفرتَ بنا اليوم، فوَاللهِ لئن لم نظفر بك اليوم لَنظفرنّ غداً بين يدَي الحاكم العدل، الّذي لا يجور في حكمه، وسوف يأخذك سريعاً أليماً، ويخرجك من الدنيا مذموماً مدحوراً أثيماً، فعِشْ _ لا أباً لك _ ما استطعت، فقد ازداد عند الله ما اقترفت.

والسلام على مَن اتّبع الهدى.

قال الواقديّ: فلمّا قرأ يزيد كتابه، أخذته العزّة بالإثم، وهمّ بقتل ابن عبّاس، فشغله عنه أمر ابن الزبير، ثمّ أخذه الله بعد ذلك بيسيرٍ أخذاً

ص: 25

عزيزاً.

الكثكث _ بكسر الكاف _ : فُتات الحجارة والتراب، وبفتح الكاف أيضاً. والفنَد: ضعف الرأي. والأثلب: التراب أيضاً. والثبور: الهلاك. كلّ هذا في معنى الدعاء على الإنسان وذمّه ((1)).

* * * * *

هذه هي جملة المتون الّتي وقفنا عليها في المصادر الّتي تروي خبر هذا الكتاب وردّه.

وكما قلنا، فإنّ المكاتبة بين ابن عبّاسٍ ويزيد لا تهمّنا كثيراً، وإنّما استرسلنا في ذِكرها لنأخذ ما يهمّنا ممّا يتعلّق بسيّد الشهداء وحركته، فليس بالضرورة أن نتابع جميع ما ورد فيها من فقرات.

ويمكن تقسم المتون إلى قسمَين أساسيَّين:

ص: 26


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

القسم الأوّل: كتاب يزيد

اشارة

كشف الكتاب الّذي كتبه يزيد عن عدّة أُمور، نحاول استجلاءها، ونمرّ عليها مروراً عابراً من دون إطالة المكث عندها.

الكشف الأوّل: متابعة العيون

إنّ مَن يتابع التاريخ يجد عيون الجواسيس تبصبص وتبرق من بين صفحات الكتب، وتنتشر كأنّها عيون الضباع والثعالب بين سطرٍ وسطر، وقد تسلّلوا إلى بيوت الناس والأشخاص والشخصيّات حتّى اخترقوا المخادع، ولا نحسب أنّ ذلك يحتاج إلى مزيد بيانٍ وذكر النماذج والأمثلة، لكثرتها وازدحام البيوت والمجالس والنوادي والمحافل والخلوات بهم، ولو شاء المتابع الباحث أن يجمع لذلك عيّناتٍ ونماذج لَملأ كتاباً وسِفْراً ضخماً.

وقد غرزوا العيون والجواسيس في مهبط الوحي وبيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وما فتئوا يترصّدون ويتربّصون بأولياء الله وبالوجوه والشخصيّات، بل حتّى عامّة الناس، في مساجدهم ونواديهم ومضايفهم وبيوتهم.

وهم بذلك يلاحقون الشارد والوارد، يعدّون أنفاس الناس وما تلفظه

ص: 27

ألسنتُهم أو تشي به أفعالهم.. وبالغوا في ذلك، فجعلوا يأخذون على الظنّة والتهمة، ويعاقبون البريء بالسقيم، فعمّ الذعرُ والرعب والخوف والتوجُّس والحيطة والحذر، وصار الرجل يخاف من خادمه وعبده وابنه وأهله وجليسه.

وربّما لوّحوا بين الفينة والأُخرى إلى بعض الوجوه أو الشخصيّات بمواقف وكلماتٍ صدرت عنهم، ليُعلِموهم أنّهم لا زالوا تحت ملاحقة العيون.

ونحن لسنا بصدد إثبات ذلك والتدليل عليه، لذا نكتفي بهذا القدر للإشارة إلى أنّ يزيد الخمور ربّما كتب كتابه لابن عبّاس ليبلغه أنّ ما يفعله ليس بعيداً عن عيونه، وأنّ أخباره وأخبار أمثاله لا تخفى عليه، وهي تصله يوماً بيوم.

الكشف الثاني: بيعة ابن عبّاس!
اشارة

ثمّة شواهد ترقى إلى مستوى الدليل، بل إنّ جملةً منها دليلٌ قائمٌ بذاته، وإن سقناها على مستوى الشاهد، فإنّها تتعاضد لتُنتج دليلاً ناهضاً يستعصي على الردّ والنقاش، وهي تفيد جميعاً أنّ ابن عبّاسٍ قد بايع يزيد والتزم بيعته، وعمل بمقتضى الالتزام.

وسنعبّر عمّا سنذكره بالشاهد رغم أنّنا نحسب أنّها أدلّة، ولا نريد استقصاء ذلك، فلا نكترث بذلك كثيراً بعد أن عرفنا مواقف ابن عبّاس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ونعود لنؤكّد _ كما ذكرنا سابقاً _ أنّنا نتعامل هنا مع ابن عبّاسٍ وفق ما

ص: 28

قرأناه وسمعناه وشاهدناه خلال فترة حركة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء إلى حين قُتل _ فداه العالمين _، والأُمور بخواتيمها، فلْيكُن ابنُ عبّاسٍ ما كان قبل ذلك.

الشاهد الأوّل: مقدّمة المؤرّخ قبل نقل الكتاب

يبدو من مقدّمة الكتاب الّتي قدّمَها المؤرّخون أنّ يزيد الخمور إنّما كتب لابن عبّاس لما بلغه أنّ الأخير امتنع عن بيعة ابن الزبير، فظنّ _ كما عبّروا _ أنّ هذا الامتناع إنّما كان تمسّكاً منه ببيعته ليزيد.

وفي هذا التعبير إشعارٌ واضحٌ أنّ أصل البيعة قد وقعَت، وأنّ يزيد إنّما ظنّ أنّ سبب الامتناع هو التمسّك بالبيعة، وليس لأمرٍ آخَر!

فهذه المقدّمة الّتي وردَت قبل نقل الكتاب على لسان المؤرّخين والرواة، تفيد بوضوحٍ أنّ ابن عبّاس كان قد بايع يزيد، لذا ظنّ الأخير أنّه إنّما امتنع ابن عبّاس رعاية لحرمة بيعته وتمسّكاً بها.

الشاهد الثاني: النصّ التاريخيّ

روى ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة)، قال:

وذكروا أنّ عُتبة بن مسعود قال: مرّ بنا نعي معاوية بن أبي سفيان، ونحن بالمسجد الحرام.

قال: فقمنا فأتينا ابن عبّاس، فوجدناه جالساً قد وُضع له الخوان،وعنده نفر.

ص: 29

فقلنا: أما علمتَ بهذا الخبر يا ابن عبّاس؟

قال: وما هو؟

قلنا: هلك معاوية.

فقال: ارفع الخوان يا غلام. وسكت ساعة، ثمّ قال: جبلٌ تزعزع ثمّ مال بكلكلة، أما واللهِ ما كان كمَن كان قبله، ولمّا يكن بعده مثله! اللّهمّ أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني عمّنا هؤلاء لذي لُبٍّ معتبر، اشتجرنا بيننا، فقتل صاحبهم غيرنا!! وقتل صاحبنا غيرهم، وما أغراهم بنا إلّا أنّهم لا يجدون مثلنا، وما أغرانا بهم إلّا أنّا لا نجد مثلهم! كما قال القائل: ما لك تظلمني؟ قال: لا أجد من أظلم غيرك. وواللهِ إنّ ابنه لخير أهله! أعد طعامك يا غلام.

قال: فما رُفع الخوان حتّى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عبّاس أن انطلقْ فبايعْ.

فقال للرسول: أقرئ الأمير السلام، وقل له: واللهِ ما بقيَ فيّ ما تخافون، فاقضِ من أمرك ما أنت قاض، فإذا سهل الممشى وذهبَت حطمة الناس جئتك ففعلتُ ما أحببت.

قال: ثمّ أقبل علينا، فقال: مهلاً معشر قريش أن تقولوا عند موت معاوية: ذهب جدُّ بني معاوية وانقطع ملكُهم، ذهب لَعمر الله جدّهم، وبقي ملكُهم، وشرّها بقيّةٌ هي أطول ممّا مضى، الزموا مجالسكم،واعطوا بيعتكم.

قال: فما برحنا حتّى جاء رسول خالد، فقال: يقول لك الأمير: لابدّ لك أن

ص: 30

تأتينا.

قال: فإنْ كان لابدّ فلابدّ ممّا لابدّ منه، يا نوار هلمّي ثيابي. ثم قال: وما ينفعكم إتيان رجلٍ إن جلس لم يضرّكم؟

قال: فقلت له: أتبايع ليزيد، وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش؟!

قال: مَهْ! فأين ما قلتُ لكم؟ وكم بعده مِن آتٍ ممّن يشرب الخمر، أو هو شرٌّ من شاربها، أنتم إلى بيعته سراع؟ أما واللهِ إنّي لَأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون ما أنتم فاعلون، حتّى يُصلَب مصلوب قريش بمكّة. يعني عبد الله بن الزبير ((1)).

وروى الطبريّ، قال:

وأمّا ابن عمر، فقدم فأقام أيّاماً، فانتظر حتّى جاءت البيعة من البلدان، فتقدّم الى الوليد بن عُتبة فبايعه، وبايعه ابن عبّاس ((2)).

وقال ابن الأثير، والنويريّ:وقدم هو (يعني ابن عمر) وابنُ عبّاس المدينة، فلمّا بايع الناس بايعا ((3)).

وقال ابن كثير:

ص: 31


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 343.
3- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 3852.

فلمّا مات معاوية سنة ستّين، وبُويع ليزيد، بايع ابنُ عمر وابن عبّاس ((1)).

هذه المتون الواردة في المصادر القديمة المعتمَدة تصرّح أنّ ابن عبّاسٍ قد بايع يزيدَ بعد هلاك معاوية!

وفي نصّ ابن قُتيبة _ وهو أقدمهم _ إفاداتٌ مهمّةٌ جديرةٌ بالتأمّل والاهتمام!

وفيه: أنّه قد أمر ببيعة يزيد، مع علمه أنّه يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش، مع ذلك فهو يراه خير أهل معاوية، ولا يمتنع عن بيعته، ولا يتردّد ولا يتأخّر ولا يتقبّض ولا يتحرّج.

والحال أنّه تقبّض عن بيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وتحرّج لدخوله فيما دخل فيه الناس، وهذا يعني أنّه يحفظ الذمام فيما يدخل فيه من بيعة، فهو حين بايع يزيد لابدّ له أن يعمل بمقتضى بيعته على كلّ صعيد، ومنها أن لا يبايع غيره، تماماً كما فعل مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، إذ أنّه اعتذر إليه بدخوله في بيعة الرجل،فلم يبايع الإمام (علیه السلام) ولو على نحو إعلان الاستعداد لذلك، كأن يقول له: إن بايعتُه ظاهراً فإنّي أُبايعك الآن.

رُوي في (تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ (رضی الله عنه)) مسنَداً عن الإمام أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«قال أميرُ المؤمنين (علیه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسجد والناس

ص: 32


1- البداية والنهاية لابن كثير: 5 / 151.

مجتمعون بصوتٍ عال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ ((1)).

فقال له ابن عبّاس: يا أبا الحسن، لمَ قلتَ ما قلت؟!

قال: قرأتُ شيئاً من القرآن.

قال: لقد قلتَه لأمر.

قال: نعم، إنّ الله يقول في كتابه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ ((2))، أفتشهد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه استخلف فلاناً؟

قال: ما سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصى إلّا إليك!

قال: فهلّا بايعتَني؟قال: اجتمع الناس عليه ((3))، فكنتُ منهم.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : كما اجتمع أهلُ العِجل على العِجل، هاهنا فُتنتم، ومَثَلُكم ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ ((4))» ((5)).

ص: 33


1- سورة محمّد (صلی الله علیه و آله) : 1.
2- سورة الحشر: 7.
3- في (بحار الأنوار: 29 / 19 _ عن: تفسير القمّيّ): «على أبي بكر».
4- سورة البقرة: 17 و18.
5- تفسير القمّيّ: 2 / 301 _ تفسير سورة محمّد (صلی الله علیه و آله) .

التدقيق في هذا الحديث الشريف الّذي يُروى عن الإمام أبي جعفرٍ الجواد (علیه السلام) ظاهراً بالنظر إلى الراوي المباشر، يفيد الكثير في تشخيص ابن عبّاس وما يمكن أن ينطبق عليه من الآيات الكريمات الّتي تلاها أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وروى الطبرسيّ في (الاحتجاج) في خبرٍ عن أبي هذيل قال مُخبِراً عن عمر لمّا طُعن، دخل عليه عبد الله بن عبّاس، قال:

فرأيتُه جزعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الجزع؟

قال: يا ابن عبّاس، ما جزعي لأَجَلي، ولكنّ جزعي لهذا الأمر مَن يليه بعدي؟

قال: قلت: ولها طلحة بن عُبيد الله.قال: رجلٌ له حدّة، كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) يعرفه، فلا أُولّي أمر المسلمين حديداً.

قال: قلت: ولها زُبير بن العوّام.

قال: رجلٌ بخيل، رأيتُه يماكس امرأته في كبّةٍ من غزل، فلا أُولّي أُمور المسلمين بخيلاً.

قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقّاص.

قال: رجلٌ صاحب فرس وقَوس، وليس من أحلاس الخلافة.

قال: قلت: ولها عبد الرحمان بن عَوف.

قال: رجلٌ ليس يُحسِن أن يكفي عياله.

قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر.

فاستوى جالساً، ثمّ قال: يا ابن عبّاس! ما اللهَ أردتَ بهذا، أُولّي رجلاً لم

ص: 34

يُحسِن أن يطلّق امرأته؟!

قال: قلت: ولها عثمان بن عفّان.

قال: واللهِ لئن ولّيتُه لَيحملنّ بني أبي معيط على رقاب المسلمين، ويُوشَك أن يقتلوه. قالها ثلاثاً.

قال: ثمّ سكتُّ؛ لِما أعرفُ من مغائرته لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

فقال: يا ابن عبّاس، اذكُر صاحبَك!قال: قلت: فولّها عليّاً.

قال: فواللهِ ما جزعي إلّا لِما أخذنا الحقّ من أربابه، واللهِ لئن ولّيتُه لَيحملنّهم على المحجّة العظمى، وإن يطيعوه يُدخلهم الجنّة ((1)).

فهو لم يدَعْ ذي مخلبٍ ونابٍ إلّا ذكره بين يدَي عمر، وأشاح عن ذكر أسد الله وأسد رسوله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، فقد سكت عنه لما يعرف من مغايرته له، فلا يريد أن يُزعج السلطان في ساعاته الأخيرة، ويذكر عنده مَن لا يحبّ، أو أنّه لا يجرؤ على ذلك حتّى أذن له، أو أمره بذلك فذكره.

وروى الطبرسيّ أيضاً في (الاحتجاج) في خبرٍ طويلٍ عن الإمام العسكريّ، عن أبيه (علیهما السلام) :

«فقال (علیه السلام) : سبحان الله! أليس عبّاس بايع أبا بكرٍ وهو تَيميّ، والعبّاس هاشميّ؟ أوَليس عبد الله بن عبّاس كان يخدم عمر بن

ص: 35


1- الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 153.

الخطّاب وهو هاشميّ أبو الخلفاء، وعمر عدَويّ؟! وما بال عمر أدخل البُعداء من قريش في الشورى ولم يُدخِل العبّاس؟ فإنْ كان رفعنا لمن ليس بهاشميّ على هاشميّ منكراً فأنكروا على عبّاس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عبّاس خدمته لعمر بعد بيعته ...» ((1)).يمكن أن تُحمَل الخدمة هنا على الخدمة بالمعنى الاجتماعيّ، ويمكن أن تُحمَل بالمعنى الأدقّ من ذلك، إذ أنّ ابن عبّاسٍ قد خدم رجال السقيفة خدمةً لا تدانيها خدمة، حيث وفّر لهم الغطاء الشرعيّ بزعمهم، فكان أمير المؤمنين يومها ابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وابنُ عبّاسٍ ابنَ عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وزعموا فيه إنّه ترجمان القرآن وحَبر الأُمّة، وغيرها من الألقاب الّتي طوّقته بهالةٍ من الجلالة والفخامة، وظلّلَته بغمامة العلم المطلوب عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فكان البديل الّذي يمكن أن يمتّ رجال السقيفة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) بصلةٍ قريبةٍ من خلال ابن عبّاس.

وقد مرّ معنا سابقاً أنّه لم يبايع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو يزعم أنّه رأى وسمع جبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله.

ولا ننسى أنّ يزيد لم يكتب إلى واليه على المدينة ولا على مكّة بأخذ البيعة من ابن عبّاس، كما طالبه بأخذها من سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن الزبير!

* * * * *

نكتفي هنا بهذا القدر، ولو أردنا الاسترسال لَطال بنا المقام، ونحن لا نريد

ص: 36


1- الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 260.

الخروج عن المتن التاريخيّ الّذي بأيدينا، وإنّما ذكرنا هذه النصوص استطراداً وتزوّدنا بها كقبسة العجلان، ولم نستقصِ بدقّة المصادر وننظر في كلّ كتاب.

مع ذلك، فإنّ هذا الشاهد الّذي جاء في هذا القدر من النصوص التاريخيّة، قد يرقى بجدارةٍ إلى مستوى الدليل على بيعة ابن عبّاس ليزيد، مع علمه أنّهشارب خمرٍ يلهو بالقيان مستهتر..

الشاهد الثالث: الاعتصام ببيعة يزيد

ورد في كتاب يزيد شكره على رفض بيعة ابن الزبير واعتصامه ببيعة يزيد وفاءً منه ليزيد وطاعةً لله بتثبيت ما عرّفه الله من حقّه..

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخول في طاعته، لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعةً لله فيما عرّفك من حقّنا ((1)).

فهو يشكره أو يُثني عليه أو يقدّر له هذا الموقف باعتباره قد بايع، ثمّ عُرضَت عليه بيعةٌ أُخرى مِن قبل ابن الزبير فأبى عليه، والتزم البيعة الأُولى

ص: 37


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 446.

التزاماً عبّر عنه ابن ميسون بالاعتصام ووفاءً بالعهد!

وزاد أن طلب منه إخبار الناس بتمسّكه ببيعته.. «فأعلمهم حُسنَ رأيك في طاعتي وتمسّكك ببيعتي».ويشهد لحصول البيعة منه أنّ مَن يقرأ ردّ ابن عبّاس على هذا الكتاب لا يجد فيه أيّ إشارةٍ أو تلويحٍ من قريبٍ أو من بعيدٍ تفيد أنّ ابن عبّاس استنكر على يزيد، أو تكذيبه، أو التعريض به، أو نفي ما ورد فيه من ذكر الاعتصام بالبيعة.

بل، لم يجد فيه ما يفيد تلويحاً أو تصريحاً انسلاخه من البيعة أو التنصّل منها، أو الخروج عن عقدها، وعلى العكس ربّما يُفهَم من تأكيده على أن لا يصيبه من جراحة يده شيء، ويقتصر على جراحة لسانه ما يفيد التزامه بالبيعة.

أجل، قد يكون ناقشه في قضيّة الوفاء له والعمل بأوامره في تثبيط الناس عن ابن الزبير وما شاكل، والوفاء لشخص يزيد شيء والوفاء ببيعته شيء آخَر، وسنأتي على بيان ذلك بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

فهو يقرّ ويعترف _ عاقبةً _ بما قاله يزيد بخصوص البيعة.

الشاهد الرابع: تصريح ابن عبّاسٍ بالبيعة ليزيد!

ورد في نصّ كتاب ابن عبّاس _ وفق ألفاظ جملةٍ من المصادر _ أنّه يصرّح ليزيد أنّه قد بايعه..

فقال في لفظ: «واللهِ بايعتُ أباك، وبايعتُك من بعد أبيك» ((1)).

ص: 38


1- أخبار الدولة العبّاسيّة: 88.

وفي لفظٍ آخَر: «فقد بايعتُك وأباك من قبلك» ((1)).وفي لفظٍ ثالث: «وقد علمت لمّا بايعتك» ((2)).

وهذا تصريحٌ واضحٌ لا غبار عليه، ولا يحتاج إلى تفسيرٍ ولا تعليق!

* * * * *

نحسب أنّ هذا القدر كافٍ لإثبات دخول ابن عبّاس في بيعة يزيد، أو على الأقلّ الامتناع عن نفي بيعته، والتحرّز عن إطلاق النفي كقولٍ وحيدٍ لا مقابل له.

ويبدو من النصوص أنّه قد بايع منذ الأيّام الأُولى الّتي نزا فيها القرد المخمور على منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وقبل خروجه من مكّة، وإذا اعتمدنا نصّ ابن قُتيبة فإنّه قد سارع إلى بيعته في مكّة وأمر بها.

الكشف الثالث: اعتراف يزيد بتأثير ابن عبّاسٍ في الناس

يبدو واضحاً من قول ابن ميسون:

فانظر مَن قِبلك ومَن يطرأُ إليك مِن أهل الآفاق ممّن يسحره الملحد وزخرفُ قوله، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك في طاعتي وتمسّكك [خ ل:

ص: 39


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 446.

التمسّك] ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ الحارب الملحد المارق ((1)).

إنّ يزيد يؤكّد لابن عبّاس أنّ الناس أطوع له وأسمع منه لابن الزبير، ويدعوه ليستغلّ ذلك ويوظّفه، ليُعلمهم حُسن رأيه في طاعة يزيد والتمسّك ببيعته، ليتفرّقوا عن ابن الزبير ويخذلوه.

والمراجعة السريعة لردّ ابن عبّاس _ كما سيأتي بعد قليل _ تفيد بوضوحٍ أنّ ابن عبّاسٍ لا يُنكر ذلك على يزيد ولا يتنكّر، ولا يرفض قوّة تأثيره في الناس وأنّهم أسمع له وأطوع.

وهو كذلك، تماماً كما أخبر يزيد وأقرّ به ابن عبّاس، وكيف لا يكون كذلك وقد «كان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويدنيه ويشاوره»؟ ((2)) فهو من أعمدة القوم ورجالهم، كان ولا زال، وله من الوجاهة والمكانة في المجتمع ما يجعله مسموع الكلمة.

ص: 40


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 321، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 446، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال: 1 / 272، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 / 191.

بَيد أنّنا نسأل هنا بعد الإقرار بمدى تأثيره البليغ في الناس قديماً وحديثاً، فنقول:

لماذا لم يوظّف ابنُ عبّاسٍ هذه الطاقة الفائقة والقدرة الهائلة والسلطة الروحيّة والكلاميّة والاجتماعيّة والدينيّة وغيرها من الإمكانات الضخمة في ردع يزيد عن قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) أو تأليب الناس عليه وتخذيلهم عنه؟

وإن كان سيّد الشهداء _ كما يزعم ابن عبّاس ويفهم _ خارجاً! على يزيد ومُقدِماً على حربه ومقاتلته، فلماذا لا نسمع لابن عبّاسٍ همساً ولا ركزاً ولا دعوةً ولا خطبةً ولا تحريضاً ولا صرخةً ولا أيّ نشاطٍ يُذكر، يقوم به لجمع الرجال وحشد القوّات لنصرة سيّد الشهداء؟!!

نكتفي بهذا القدر!

الكشف الرابع: يزيد مِن أهل البيت!!!

ورد في لفظ الطبرانيّ والهيثميّ من كتاب يزيد قوله:

فامتنعتَ عليه وانقبضت، لما عرّفك الله من نفسك في حقّنا أهل البيت ((1)).يبدو من السياق أنّ أملوج الشجرة الملعونة في القرآن حشر نفسه وباقي بني أُميّة تحت عنوان (أهل البيت)، ليمتّ إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وإلى ابن عبّاس

ص: 41


1- المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

بنسَبٍ وصِلة، وقد أكّد على واشجة القرابة والرحم بينه وبين ابن عبّاس.

هكذا لعبوا بالدين، وقلبوا معاني القرآن الكريم، ونكّسوا القيَم والموازين، وعمّموا ما خصّه الله وخصّه رسوله (صلی الله علیه و آله) نصّاً صريحاً، وكرّر بيانه قولاً وفعلاً، وحصره حصراً تحت كساءٍ واحدٍ في أكثر من موطن وموقف ومشهد على رؤوس الأشهاد.

هذه الحقيقة المرّة الأجاج الحنظل الحراق الزعاق، والسمّ الذعاف القتّال المدمّر الّذي سرى في كيان الأُمّة، فأتى على بنيانها من القواعد، وخدع العقول المنخورة والقلوب الخاوية والنفوس الضعيفة، حتّى أدخلوا كلَّ ما هبّ ودبّ وصدق عليه لفظ القرابة النسبيّة أو السببيّة القريبة والبعيدة، وذهبوا بها عريضة، فأدخلوا الأُمّة كلَّها في (أهل البيت)، كما هو واضحٌ لمن راجع كتب التفسير والرواية عند العامّة.

وهو كلامٌ يُسيل الدمع من محجر الحجَر، ويبقى السامع ذاهلاً ساهماً، لا يدري أينفجر ضحكاً أو يحترق حزناً ويفجّر العالم كلّه بالدموع بكاءً ويفيض الحزن بحاراً؟!بنو أُميّة.. يزيد الخمور والفجور والقرود والحقد والبغضاء، المتقلّب في أحضان القيان وقهوات الدنان، مُعاقر الرذيلة وعشّ الخطيئة، جنحة ميسون.. يحشر أنفه السكران ليدخل تحت عنوان (أهل البيت)!!!

حاشا لبيتٍ رفعه الله وطهّره تطهيراً، وأحاطه بسور قداسته، وحصّنه بسياج قدسه، وأعزّه بعزّه، أن يقتحمه مثل هذا القرد الغاوي المترنّح.

ص: 42

* * * * *

نتوقّف هنا عن الاسترسال مع كتاب القرد المخمور يزيد، ونمضي إلى كتاب ابن عبّاس، وفي مفاصله ذكرٌ لباقي فقرات كتاب يزيد.

ص: 43

ص: 44

القسم الثاني: ردّ ابن عبّاس

اشارة

ورد جواب ابن عبّاس على كتاب يزيد في المصادر بألفاظ شتّى، غير أنّها اجتمعَت على نقل بعض المضامين، واختلفَت في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان قليلاً.

وسنأتي على ذِكر ما يهمّنا من تلك المضامين:

المضمون الأوّل: تعليق بعض الأجوبة

يُلاحَظ في جواب ابن عبّاسٍ على الموارد الّتي ذكرها يزيد في كتابه وأخبر أنّها قد بلغَته أنّه يعلّق الردّ على ما إذا كان ما أُخبر به هو كما بلغه، فيقول:

بلغني كتابك بذِكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الّذي دعاني إليه من بيعته، فإن يكُ ذلك كما بلغك ... ((1)).

ص: 45


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.

ممّا يُشعِر أنّه يردّ عليه على فرض صحّة ما أُبلغ به، وكأنّه يتنزّل معه من باب التسليم في المجادلة والردّ على كلّ تقدير.

وهذا بنفسه يورث في نفس المتلقّي شعوراً بالشكّ أو التشكيك، فيحتمل أن لا يكون هو قد دُعي إلى البيعة، أو أنّه دُعي وقبلها، أو أيّ احتمالٍ آخَر، بَيد أنّه يقول له على فرض صحّة ما بلغك، فالجواب كذا.

المضمون الثاني: سبب الامتناع عن بيعة ابن الزبير

زعم يزيد أنّ ابن عبّاسٍ إنّما امتنع على ابن الزبير ولم يبايعه التزاماً منه ببيعة يزيد واعتصاماً بها، ووفاءً لشخص يزيد وحبّاً له، ورعايةً للرحم والوداد.

فردّ عليه ابن عبّاس: إنّه إن امتنع على ابن الزبير، لا حبّاً في يزيد ولا وفاءً لشخصة ولا رعايةً للودّ.

هنا يتحدّث ابن عبّاسٍ عن موقفه من شخص يزيد (هذا القرد المخمور المتمثّل في ابن ميسون)، من دون الإشارة إلى البيعة له ونكثها والتحلّل منها، فهو لم يُنكِر أصلها ولا ينفي الاستمرار عليها والالتزام بها.

أجل، إنّه يشعر بالنفرة والقرف من شخص يزيد، وشعوره الشخصيّ شيءٌ،والتزاماته الشرعيّة أو التزاماته الّتي يفرضها عليه التقيّد بالعقد الاجتماعيّ شيءٌ آخَر.

فهو مهما كان نفوراً كارهاً متميّزاً غضباً وغيضاً عليه، معتقداً فيه الضلالة والفسق والفجور وارتكاب الكبائر وإقدامه على الجناية العظمى في تاريخ

ص: 46

البشريّة، غير أنّ هذا كلّه قد لا يسمح له بالتحلّل عن بيعةٍ أعطاها ومناولةٍ أقدم عليها فيما سبق.

وقد نفى ابنُ عبّاسٍ أن يكون ودّه ووفاءَه له شخصيّاً ومخاطبة حمده، بيد أنّه لم يُعرِب له عن سببٍ آخَر، وإنّما وكّل الأمر إلى علم الله، ليبقى السبب بينه وبين الله.

ولا يخفى أنّ البلاذريّ قد بتر هذه الفقرة، واكتفى بقوله: «فأجابه بجوابٍ طويل»، ثمّ شرع في ذِكر سؤال يزيد ابن عبّاسٍ أن يحثّ الناس عليه ويثبّطهم عن ابن الزبير..

* * * * *

وأسباب الامتناع يمكن أن تكون كثيرةً جدّاً، من قبيل استنكاف ابن عبّاس عن البيعة لمثل ابن الزبير، الّذي لا يراه شيئاً مذكوراً، ولا يراه ذا بالٍ ولا قدرةٍ ولا قوّةٍ ولا سلطانٍ ولا حسَبٍ ولا نسَب، وغيرها من أسباب الاحتقار والدونيّة الّتي يراها ابن عبّاس في ابن الزبير، كما سمعنا في النزاع الّذي حصل بينهما في الحرم أو بعد اللقاء بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد مرّ معنا في هذه الدراسة فيما سبق،ليس بعيداً.

وربّما امتنع ابن عبّاسٍ عن بيعة ابن الزبير اجتناباً للفتنة، وخوفاً من الدخول في صراعٍ يؤدّي إلى سيلان دماء الأُمّة أنهاراً، وليس لابن عبّاس فيها ناقةٌ ولا جمل.

وربّما امتنع من البيعة ليبقى بعيداً عن بؤرة النزاع، ويتجنّب الدخول

ص: 47

لصالح أحد الطرفين، وهما عدوّان، فلْتستعر أوارُ الحرب بينهما، وليقتتلا بينهما، وينشغل العدوّ بالعدوّ، وإذا هلك أحدهما أو هلكا معاً فهو الرابح من بينهما على كلّ تقدير.

وقد يكون اعتقاده بوجوب الوفاء بالبيعة مهما كلّف الأمر، ومهما كان وليّ الأمر ظالماً جائراً.

* * * * *

وقد تقبّض ابن عبّاسٍ عن بيعة ابن الزبير حتّى بعد هلاك يزيد، ووعده أن يبايعه إن بايعه الناس واستوسقت له الأُمور ويتمكّن من البلاد، فقد روى ابن سعدٍ في (الطبقات) قال:

فلمّا جاء نعي يزيد بن معاوية، وبايع ابنُ الزبير لنفسه ودعا الناس إليه، دعا ابنَ عبّاسٍ ومحمّد ابن الحنفيّة إلى البيعة له، فأبَيا يبايعان له، وقالا: حتّى يجتمع لك البلاد ويتّسق لك الناس. فأقاما علىذلك ما أقاما ((1)).

وهكذا يمكن أن يكون للامتناع أسبابٌ كثيرة، بَيد أنّ ابن عبّاسٍ أجملها وأوكلها إلى عِلم الله، كيلا يتورّط في بيانها ليزيد، مع إقراره أنّ ثمّة نيّة منعَته من البيعة.

ص: 48


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 75.
المضمون الثالث: وعد البرّ والصلة
اشارة

يبدو من جواب ابن عبّاسٍ أنّ القرد المسعور كان يتزلّف لابن عبّاس ليضرب عدّة أهدافٍ بسهم واحد، إذ نجد في الجواب _ وفق بعض ألفاظ الخبر _ أنّ ابن عبّاسٍ يُقدّم سبب امتناعه عن بيعة ابن الزبير، وأنّه لأمرٍ يعلمه الله، وليس المقصود ودّه ولا الوفاء لشخص يزيد، ثمّ يؤكّد له أنّ حقّهم الّذي عند يزيد أكبر من أن يعوّضه بصلته، ثمّ يعلّل من جديد أنّه لا ينسى قتله سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

الهدف الأوّل: التشجيع على الامتناع عن بيعة ابن الزبير

مَن يقرأ كتاب ابن عبّاس، يجد واضحاً في سياق الردّ على صلة يزيد ووعده بالبرّ أنّه يقصد تقديم الشكر لابن عبّاس تثميناً لموقفه في الامتناع عنبيعة ابن الزبير، لذا أكّد له ابن عبّاس أنّ امتناعه لم يكن من أجل شخص يزيد، وإنّما هو لأمرٍ نواه وقد علمه الله، فهو لا ينتظر على ذلك من يزيد صلةً ولا برّاً، ولا يريد أن يقايضه على بيعة عدوّه أو الامتناع عنها.

الهدف الثاني: الحثّ على دخول معركة يزيد وابن الزبير

يفيد كتاب يزيد أنّه كان يحثّ ابن عبّاس على دخول معترك الصراع بين يزيد وابن الزبير لصالح الأوّل، ويشهد لذلك قوله:

وكتبتَ إليّ تذكر تعجيل برّي وصلتي، فاحبسْ أيّها الإنسان عنّي برَّك وصلتك، فإنّي حابسٌ عنك ودّي ونصرتي.

ص: 49

وكذا غيرها من الألفاظ المنقولة في المصادر الأُخرى، تفيد بوضوحٍ أنّه لا يريد أن يدخل هذا المعترك، ولا يريد من يزيد برّاً ولا صلةً مقابل ذلك، فهو ليس في مقام المقايضة وبيع المواقف، لالتباس المشاهد وتداخلها، ولأنّه موتور، كما سيأتي بيانه بعد قليل.

الهدف الثالث: تطييب خاطر ابن عبّاس!

يبدو من السياق ومتابعة النصّ بوضوحٍ أنّ القرد المسعور أراد ترويض ابن عبّاس وتطييب خاطره بتعويضه بالبرّ والصلة _ فيما يزعم _ عن قتل أبناء عمومته وأنصارهم بتلك القتلة الفجيعة الّتي يصفها ابن عبّاس في بقيّة كتابه، ويشتري منه رضاه بقتل ابن عمّه وسيّد شباب أهل الجنّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته وصحبه النجوم الزواهر (علیهم السلام) .

لذا نجد في جواب ابن عبّاسٍ تأكيداً حثيثاً على هذه القصّة بالذات، ورفضاً تامّاً لهذه المقايضة البائسة، وهو يقول له فيما يقول:

ولَعمري ما تعطينا ممّا في يديك لنا إلّا القليل، وتحبس منه العريض الطويل، لا أباً لك، أتراني أنسى قتلَك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب ... ((1)).

وقد فعلها ابن ميسون مع أهل البيت (علیهم السلام) كما في بعض الكتب، فقد أمر بالأنطاع من الأبريسم وصبّ عليها الأموال، وقال:

ص: 50


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

يا أُمّ كلثوم! خذوا هذا المال عوض ما أصابكم.

فقالت أُمّ كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك! أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً؟! واللهِ لا كان ذلك أبداً ((1)).

* * * * *

كأنّ ابن عبّاسٍ لوّح ليزيد أنّ ما تصلني به وتبرّني إنّما هو من فيض نداي، وأنّ يزيد أخذ كلّ حقوقه، ثمّ صار يصله من ماله.إذ يؤكّد ابن عبّاس ويقسم له بحياته هو أنّ ما يعطيهم يزيد ممّا في يديه من حقّهم إنْ هو إلّا القليل، وأنّه يحبس عنهم منه العريض الطويل.

فربّما قصد من حقّهم الّذي بيدَي يزيد: الخلافة والمُلك، وأنّه مهما أعطاهم فهو مقصّرٌ وحابسٌ عنهم، إذ أنّ على يزيد أن يعطيهم زمام السلطنة، ويتنحّى لهم عن عرش الحكم، ويدفع إليهم تخت الملك.

المضمون الرابع: رفض دعوات يزيد وأسبابها

ربّما كان ما في المضمون الثالث مشتركاً مع مؤدّى هذا المضمون، بَيد أنّنا أفردناه للأهمّيّة من جهة، ولبيان نكتةٍ إضافيّةٍ لم تُذكَر هناك.

عندما دعا يزيدُ ابنَ عبّاسٍ لتخذيل الناس عن ابن الزبير وحثّهم على

ص: 51


1- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 2 / 497، بحار الأنوار: 45 / 196، العوالم للبحرانيّ: 17 / 422، نفَس المهموم للقمّيّ: 465، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 400، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 145.

يزيد، ووعده البرّ والصلة، رفض ابن عبّاس، وقال:

تسألني نصرك وتحذوني على ودّك، وقد قتلتَ حسيناً ... أتحسبني نسيتُ قتلَك حسيناً؟ ... ((1)).

فهو إنّما يعجب حين يرى صلف يزيد ووقاحته وصلابة وجهه ونزقه ورعونته، ويرفض رفضاً باتّاً لأنّه تقدّم بهذه الدعوة بعد أن قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته (علیهم السلام) ، وهم أبناء عمومة ابن عبّاس، ورحمه الواشجة القريبة، فكيف يتوقّع من ابن عبّاسٍ النصرةَ وقد أتى على رهطه وأقربائه واستأصلهم من جديد الأرض، والجرح لمّا يندمل، والدماء لمّا تجفّ، وحروق السبي لا زالت تستعر؟!!

لكن ربّما ظنّ يزيد أنّ الأوائل استخدموا ابن عبّاسٍ ووظّفوه، وتجاوب الأخير معه يوم وظّفه لمهمّةٍ صعبةٍ وخطيرةٍ مع أبي الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة، أنّ ابن عبّاسٍ سيستمرّ معه وينخرط في جهازه، حتّى بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) بلا فاصلٍ زمنيّ بعيد، فردّه ابن عبّاس، وأفهمه أنّ للأمر حدود، وللنخوة بقايا في وجود الهاشميّين مهما بعدوا، فكفى ما قدّمه ليزيد حين كان يمكن حمله على السعي فيما سمّاه ابن عبّاس: «إطفاء النائرة وإخماد الفتنة»، أمّا بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فما ابن الزبير وما يزيد؟!

ص: 52


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، وانظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثمي: 7 / 250.

وكيف كان، فهو تمرّد على شخص يزيد الخمور، وأراد إعلامه عن عدم الرضى بما فعله مع أقربائه وأبناء عمومته، ولو كان المعيار النسب والانتساب العشائريّ والنخوة القبليّة، لما صحّ لابن عبّاس أن يستجيب له، فالإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته أقرب رحماً لابن عبّاسٍ من يزيد وبني أُميّة.

من هنا أظهر ابنُ عبّاسٍ عجبه وقال:

فلا شيء أعجب من طلبك ودّي ونصري، وقد قتلتَ بني أبي،وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري ((1)).

وهو لم يذكر أحداً من أنصار سيّد الشهداء (علیهم السلام) ، ولم يطالب بثأر أحدٍ سوى بني عبد المطّلب، ولم يذكر تأسّفاً وتحسّراً على سواهم، ولم ينوّه بهم لا من قريبٍ ولا من بعيد، وكلّ ما ذكرهم إنّما قال: قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، أو بني عبد المطّلب.

فربّما كان من باب ذكر الأهمّ والتغافل عن المهمّ، وأنّ أنصار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) إنّما قُتلوا في الذبّ عنه، فليس لهم موضوعيّةٌ مستقلّةٌ عن بني عبد المطّلب، بَيد أنّ هذا النمط من التعامل ليس من أخلاق بني هاشم ووفائهم وعرفانهم.

ولو كان المعيار المُلك والاستئثار به، فبنو أُميّة هم المتسلّطون، وليس في آل أبي طالبٍ من الأحفاد مَن نازع أو ينازع فيه.

ص: 53


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
المضمون الخامس: ذكر بعض المصائب
اشارة

ذكر ابن عبّاسٍ جملةً من المصائب الّتي جرت على آل البيت، يمكن استعراضها هنا باقتضابٍ مفهرسة، نرجو من الله أن يوفّقنا للإشارة إلى بعضها فيثنايا البحث:

· إطراد الحسين بن عليّ من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله.

· دسّ الرجال إلى الإمام الحسين (علیه السلام) لتغتاله.

· إشخاص سيّد الشهداء (علیه السلام) من حرم الله إلى الكوفة، وخروجه منها خائفاً يترقّب.

· محاصرة الإمام الحسين (علیه السلام) في موضعٍ لا يستحلّ فيه القتال، ولو أراد أن يقاتله فيه لكان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين، ولكنّ الإمام (علیه السلام) كره أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، في حين كان يزيد لا يرى للبيت حرمة.

· قاتل يزيدُ الإمام (علیه السلام) ودسّ إليه الرجال لتغتاله في الحرم، والإمام (علیه السلام) (لم يبتغه ضراباً).

· أمر ابنَ مرجانة باستقبال الحسين (علیه السلام) بالرجال، وتعجيل معالجته وترك مطاولته، والإلحاح عليه حتّى يقتله ومَن معه من أهل البيت من بني عبد المطّلب.

· رفض طلب الإمام الحسين بن عليّ (علیهما السلام) الموادعة.

· حبس الإمام (علیه السلام) ومنعه من الرجوع، إذ سألهم الرجعة.

ص: 54

· إغتنام الفرصة لقلّة الأنصار لاستئصاله وأهل بيته.

· قتل الإمام الحسين (علیه السلام) بأمر يزيد.

· قتل الحسين (علیه السلام) وفتيان بني عبد المطّلب مصابيح الدجى ونجوم الأعلام.

· قتلهم بالظماء.

· قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته كأنّهم من الترك والكفر أو كابل.

· مغادرتهم مصرّعين في صعيدٍ واحد، مرمّلين بالدماء، مرمّلين بالتراب.

· سلبهم، وتركهم مسلوبين بالعراء.

· مغادرتهم من غير تكفين.

· مغادرتهم من غير دفن.

· تركهم في العراء، تسفي عليهم الرياح.

· تعريض الأجساد المقدّسة للخطر، تعروهم الذئاب وتنتابهم عرج الضباع.

· تسليط ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة، اللئيم أُمّاً وأباً.

· حمل بنات عبد المطّلب وغلمةٍ صغارٍ من وُلده إلى يزيد سبايا.

· سبيهم بالشام مسلوبين كالسبي المجلوب.

· تبجّح يزيد بسبي أهل البيت أنّه قهرهم وتأمّر عليهم.

ص: 55

· الشماتة بحمل بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين.

· حمل بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام مسلوبين (تفرّد بذكر هذا اللفظ سبط ابن الجوزيّ).

· أخذ يزيد بثأر أهله الكفَرة الفجرة يوم بدر.

· إظهار يزيد الانتقام الّذي كان يخفيه والأضغانَ الّتي تكمن في قلبه كمَون النار في الزناد.

· جعل دم عثمان وسيلةً لإظهار الأحقاد والأضغان والانتقام.

* * * * *

هذه جملةٌ من المصائب الّتي وقعَت على أهل البيت (علیهم السلام) ، الّتي ذكرها ابن عبّاسٍ ونصّ عليها.

وهي بالرغم من أنّها عناوين ومجملات، بَيد أنّ فتح مغاليقها وتتبّع تفاصيلها يجمع مصائب سيّد الشهداء (علیه السلام) منذ خروجه من المدينة إلى المصرع وما جرى بعده من الوقائع ومصائب السبي.

ونحن لا نريد تفصيلها هنا، وستأتي الإشارة إلى بعضها خلال البحث، ولكن نودّ أن نذكر هنا نكتةً قد تكون منهجيّةً مهمّة:

نكتة مهمّة

إنّ ما يتفلّت من هنا ومن هناك على لسان الأشخاص أو المؤرّخين قديكون موضعاً موفّقاً لاصطياد المعلومة التاريخيّة.

ص: 56

فهذا كلام ابن عبّاسٍ يفيد أنّ يزيد قد دسّ الرجال لاغتيال سيّد الشهداء (علیه السلام) في الحرم الإلهيّ الآمن، وأنّهم قتلوا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته ظماء، وأنّهم حملوا أهل بيت الرسالة مسلوبين، وغيرها من الإشارات الواردة في كتاب ابن عبّاس، ممّا يُعدّ شهادةً تاريخيّةً من معاصر، وإن لم يحضر الواقعة بنفسه، بَيد أنّ الأخبار بلغَته أو شاعت حتّى لم يعد يزيد نفسه ينكرها أو يتنكّر لها.

فلا يفوتنا أن نتلقّف المعلومة ونصطادها، ولو في غير محلّها، فكتاب ابن عبّاسٍ ربّما أشار إلى مصائب تجاهلها المؤرّخ، أو تعامى عنها وحاول أن يعفّي ويعمّي عليها، وربّما لا يعدّه البعض من مضانّ أخبار المقتل والمصائب الّتي جرت على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) .

وتفصيل الحديث في هذه النكتة ليس هذا محلّه.

المضمون السادس: حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق ما شرحه ابن عبّاس!
اشارة

قد قرأنا فيما مضى من هذه الدراسة موقف ابن عبّاسٍ وطريقة تعامله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاولاته الحثيثة والقاسية أحياناً، والجريئة الّتي تتجاوز حدود الأدب أحياناً أُخرى، وسماجته في الإلحاح لمنع إمام الثقلين وسيّدالكونين (علیه السلام) من الخروج عن مكّة، رغم كلّ بيانات الإمام (علیه السلام) وشرحه الموقف وتأكيده بما لا يقبل الشكّ والتردّد أنّه في معرض الاغتيال القطعيّ وأنّ حياته

ص: 57

مهدّدة، ومكثه في مكّة _ ولو لأيامٍ قلائل قد لا تُعدّ في حساب الزمن _ يؤدّي بالقطع واليقين إلى هتك حرمته وسفك دمه الزاكي، وهتك حرمة الحرم الإلهيّ الآمن.

بَيد أنّنا نجد تصويراً آخر في كلام ابن عبّاسٍ يختلف عن مواقفه السابقة في مكّة، وما رسمه من مشاهد تُزعج من يتابعها هناك، إذ أنّه بدا هنا كأنّه قد أدرك الحقيقة الّتي كان الإمام (علیه السلام) يكشفها له وهو لا يكاد يعيها، فرجع يرسم نفس المشاهد الّتي رسمها له الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، ويعرض نفس الوقائع الّتي تحقَّقت على الأرض، ويكشف الستار عن واقع تحرك الإمام (علیه السلام) ومكثه وانطلاقه في المدينة ومكّة وغيرها من المواطن، ودوافع العدوّ وعزمه والمزعجات التي جعجعت بالإمام (علیه السلام) وأهل بيته واضطرته للخروج من مسقط رأسه وحرم جدّه، ثمّ من حرم الله، ثمّ اضطرته لييمّم وجهه نحو العراق رغم ما فيه.

ويمكن أن نتابع ما رسمه ابن عبّاسٍ في كتابه هذا من مشهدٍ مُشجٍ وأحداثٍ قارعةٍ تقرع القلوب وتصدّعها وتنتزع الأرواح وتلوّعها من خلال المشاهد التالية:

المشهد الأوّل: المطاردة من حرم الرسول إلى حرم الله

لقد عبّر ابنُ عبّاسٍ في كتابه هذا تعبيراً مختصراً اختزل فيه جميع ما مرّ على سيّد الشهداء (علیه السلام) في مدينة جدّه، وكشف عن مظلوميّته، وأفاد بوضوحٍ أنّ خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) كان مطارداً في مدينة جدّه.. «اطرادك

ص: 58

حسيناً» ((1))، وأنّه لم يخرج منها إلّا مكرهاً، من دون أن يُقدِم هو على أيّ خطوةٍ تُعطي العدوّ ذريعةً للملاحقة، وإنّما كانت المطاردة والإقدام على تنفيذ القتل وهتك حرمة حرم النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحرمة الدم الزاكي بين ظهراني مجتمع الصحابة من المهاجرين والأنصار والتابعين، وهم يعلمون أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا يريد أن تُستحلّ به حرمة مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ، فلابدّ له أن يخرج، وبذلك يسيّرونه إلى حيث يريدون له أن يتوجّه، ليحقّقوا غرضهم في القضاء عليه وقتله.

لذا ورد في لفظ الطبرانيّ والهيثميّ أنّ يزيد سيّر الإمام (علیه السلام) من حرم جدّه (صلی الله علیه و آله) : «تسييرك حسيناً من حرم رسول الله إلى حرم الله» ((2))، فكان التسييربالمطاردة.

وهذا ما قاله سيّد الشهداء (علیه السلام) بشتّى صنوف الكلام، والتعبير لابن عبّاس وغيره في المدينة قبيل الخروج وفي مكّة.

* * * * *

«لقد حوصر الإمام (علیه السلام) ليُجبَر على البيعة، إذ ورد الأمر من القرد الأُمويّ المجدور أن يأخذه أخذاً ضيّقاً ليست فيه رخصةٌ ولا هوادة، ولا يرخّص له في

ص: 59


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، الكامل لابن الأثير: 3 / 218، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323.
2- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

التأخير عن ذلك ((1))، فإن تأبّى ضُربَت عنقُه وبُعِثَ برأسه إليه ((2)).

وقد استعجل مروان قتلَ سيّد الشهداء (علیه السلام) إن أبى البيعة، وحرّض واليالمدينة على ذلك ((3)).

ص: 60


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 313، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 228، تاريخ الطبريّ: 5 / 338، المنتظم لابن الجوزيّ: 5 / 322، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتّال: 146، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 324، العوالم للبحرانيّ: 17 / 173، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 34، الكامل لابن الأثير: 3 / 263.
2- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 141، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 215، الفتوح لابن أعثم: 5 / 10، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 179، مثير الأحزان لابن نما: 9، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، اللهوف لابن طاووس: 21، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 324، العوالم للبحرانيّ: 17 / 174، نهاية الأرَب للنويريّ: 20 / 376، تاريخ ابن خلدون: 3 / 19، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 181.
3- أُنظر: ترجمة الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 317، الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 198، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، الأخبار الطوال للدينوريّ: 230، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 215، تاريخ الطبريّ: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزيّ: 5 / 323، الفتوح لابن أعثم: 5 / 18، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 324، العوالم للبحرانيّ: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّيّ: 68، روضة الواعظين للفتّال: 146، الأمالي للشجريّ: 1 / 170، إعلام الورى للطبرسيّ: 222، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 183، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 142، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، مثير الأحزان لابن نما: 10، الجوهرة للبريّ: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 135، اللهوف لابن طاووس: 23، نهاية الأرَب للنويريّ: 20 / 288، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 182، المنتخب للطريحيّ: 2 / 419، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف المشهور: 12.

ثمّ عاد القرد الأُمويّ ليطالب برأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شاب أهل الجنّة (علیه السلام) ، حينما كتب إليه الوليد يُخبره أنّ الحسين (علیه السلام) ليس يرى لهم عليهطاعةً ولا بيعة، فلمّا ورد الكتاب على ابن هند الفاجرة غضب لذلك غضباً شديداً، وكان إذا غضب انقلبت عيناه فعاد أحول، فكتب إلى الوليد بن عُتبة يأمره أن يأخذ البيعة ثانياً من أهل المدينة، ولْيكُن مع جوابه رأس الحسين بن عليّ ((1))..

ثمّ عاد الوليد ليُرسل الرسل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ويُحضره ويضيّق عليه، ويلحّ عليه بالبيعة ((2))..

ص: 61


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، الأمالي للصدوق: 152، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 185، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحرانيّ: 17 / 161.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 341، الإرشاد للمفيد: 2 / 31، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 326، العوالم للبحرانيّ: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّيّ: 71، إعلام الورى للطبرسيّ: 222، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 420.

فتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى قبر جدّه في المدينة.. أجل، في المدينة.. يشكو إليه ويستشهده على الأُمّة، ويقول: فاشهد عليهم _ يا نبيّ الله _ أنّهم خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك ((1))..

ثمّ عاد الوليد ليبعث ثالثاً خلفه، فلم يجده في منزله، فيحمد الله أنّه لم يبتلِ بدمه ولم يطالبه الله به.. يعني أنّه كان عازماً على تنفيذ أوامر القرد الأُمويّ لولاأنّ سيّد الشهداء قد خرج! ((2))» ((3)).

فها هم عمّال ابن ميسون بالمدينة، يعجّلون على الإمام (علیه السلام) ويسيؤون إليه، ويعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، كما أخبر الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ابنَ عبّاس ((4)).

وها هو يزيد يطارد الإمام (علیه السلام) ، ويأمر مروان بقتله، ويُقدِم على ذلك في حرم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومدينته ((5)).

ص: 62


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 186.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 27، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 186، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 328، العوالم للبحرانيّ: 17 / 177، نفَس المهموم للقمّيّ: 72.
3- إقتباسٌ من كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة).
4- أُنظر: الأمالي للشجريّ: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.
5- مَن أحبّ التفصيل فلْيُراجع كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة).

* * * * *

لم يرضخ ابنُ عبّاسٍ من قبل حين كان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبره بذلك، وإنّما كان يلحّ بسماجةٍ على خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ويتعامل معه باعتباره خارجاً من المدينة طالباً للأمر وقاصداً مواجهة يزيد مبتدئاً في الخروج بالمعنى الاصطلاحيّ!

فيما نجده هنا يصرّح أنّ يزيد هو الّذي اطّرد الإمام (علیه السلام) وسيّره من مدينةجدّه (صلی الله علیه و آله) !

المشهد الثاني: مقاتلة الإمام في مكة ومحاولة اغتياله

لقد سمعنا ابن عبّاسٍ ورأينا موقفه في مكّة المكرمة، وأشرنا إلى بعض مفاصله قبل قليل، فلنرى موقفه الآن في تقرير وقائع تلك الفترة، ويمكن جمعها في نقاطٍ بشكل عناوين:

· اطّراد يزيد الحسين بن عليّ (علیهما السلام) من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله.

· دسّه الرجال تغتاله.

· إستغلال يزيد تعظيم الإمام (علیه السلام) للحرم وكراهيته أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمة البيت ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ويزيد لم يُكبر ما أكبر الإمام (علیه السلام) ، فاغتنم ذلك فرصةً لقتله (علیه السلام) .

· خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة لمّا رأى سوء رأي يزيد من دون أن

ص: 63

يبتغيه ضراباً، «فلمّا رأى سوء رأيك، شخص إلى العراق ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً».

· خرج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة تماماً كما خرج من المدينة، حيث خرج منها بصريح قول ابن عبّاس: «خائفاً يترقّب».

تسيير الرجال إلى الإمام (علیه السلام) ومَن معه وإدساسه إليهم، ليعاجلوه· فيقتله يزيد في حرم الله.

· ما زال يزيد يعاجل الإمام (علیه السلام) ليقتله، حتّى أشخصه من مكّة إلى أرض الكوفة، تزأر إليه خيله وجنوده زئير الأسد، فخرج منها خائفاً يترقّب.

· تسيير الخيول إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ليُقتَل في الحرم، وما زال يزيد بذلك حتّى أشخصه إلى العراق، فخرج منها خائفاً يترقّب.

· إنفاذ أعوان يزيد إلى حرم الله لتقتل الحسين (علیه السلام) ، فما زال وراءه يخيفه حتّى أشخصه إلى العراق.

· كلّ ما فعله يزيد كان عداوةً منه لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته (علیهم السلام) .

* * * * *

هذا مجمل ما ذكره ابن عبّاسٍ في شرحه لوقائع مكّة المكرمة أيّام تشرّفها وإشراقها بنور وجه الإمام الحسين (علیه السلام) .

ونحن لا نريد أن نقف عند كلّ واحدةٍ من هذه المفردات؛ إذ أنّنا أتينا عليها فيما سبق من الدراسة تفصيلاً من خلال أجوبة الإمام (علیه السلام) وردوده على

ص: 64

المعترضين، من قبيل ابن عبّاسٍ نفسه.

غير أنّ فيما ذكره ابن عبّاس زيادة معلومات ربّما يصعب الحصول عليها في موضع آخر، وهذا ما يجعل المتلقّي يهتمّ بهذه الفقرات الّتي ذكرها،ويتريّث عندها ليتأمّلها بعمقٍ ويكتشف منها أجواءً تهزّها الأعاصير، وتملأ أرجاءها قعقعات السلاح وصهيل الخيل وتكاثف الزحوف والعساكر رائحةً غادية، وتُنذِر بوجود عيون وجواسيس ورماةٍ وكمائن مزروعين في كلّ منعطف، ورجالٍ مختبئةٍ في كلّ شارعٍ وزقاق، وأنظار متطلّعة متلصّصة وراء كلّ أسطوانةٍ من أسطوانات المسجد الحرام وضواحي مكّة وجبالها ووديانها..

فقد تحدّث ابن عبّاسٍ عن تسيير الخيول، وتحدّث عن إنفاذ الأعوان، ودسِّ الرجال للاغتيال، حتّى لم يعُدْ حرم الله آمناً لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وحصل كلّ ذلك باعترافٍ صريح من ابن عبّاس من دون أن ينذرهم الإمام (علیه السلام) بشيء، ولم يبتغِ الإمام (علیه السلام) ضراباً ولا صداماً ولا مواجهة.

فاستغلّ يزيد تعظيم الإمام (علیه السلام) لحرمة البيت الحرام، فارتكب كلّ وسيلةٍ يمكنها أن تحقّق له غرضه في قتل الإمام (علیه السلام) .

فرأى الإمام (علیه السلام) سوء رأي يزيد اللاهي بالقيان والمعازف والدنان، فاضطرّ للخروج، وهو ما عبّر عنه ابن عبّاس: «أشخصته»، أي أنّ يزيد أقدم على تنفيذ ما يريد من هتك الدم الزاكي في الحرم الزاكي، فكان هو السبب في إخراج الإمام (علیه السلام) من مكّة وإشخاصه إلى العراق.

ويُلاحَظ أنّ ابن عبّاس في أكثر من موضع يتحدّث عن خروج الإمام (علیه السلام)

ص: 65

من مكّة كخروج اضطراريّ غير طوعيّ، بعد أن حاصره الزنيم فسدّ عليه الآفاق إلّا أُفق العراق، وهو الإشخاص والتسيير الّذي عبّر عنه ابن عبّاس.وكلّ ذلك إنّما كان عداوةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته (علیهم السلام) ، واستجابةً للأحقاد البدريّة والحنينيّة والخيبريّة وغيرها، وليس ذلك احتياطاً ممّا يقدم عليه الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّه لم يُقدِم على شيءٍ يهدّد السلطة والسلطان، ولم يقُلْ أو يفعل ما يمكن تأويله وتحميله وعرضه في إطار مواجهة الأُمويّين وقرودهم النازية، ولا نزاعاً وقتالاً على الملك العقيم، إذ لم ينازعه الإمام (علیه السلام) على ذلك.

* * * * *

هذا ما أفصح عنه ابن عبّاس هنا، وهو نفسه ما كرّره عليه الإمام الحسين (علیه السلام) أيّام تواجده في مكّة، وكم من مرّةٍ شرح له الإمام (علیه السلام) نفس هذه الظروف، وكشف له عن نفس هذه المخاطر، وصرّح له بتعرّضه للاغتيال وللقتل والقتال في مكّة، بَيد أنّ ابن عبّاسٍ لم يكن يتصرّف مع الإمام (علیه السلام) _ يومها _ تصرّف مَن يُدرك ذلك، كما مرّ معنا.

فهل قال ما قاله اليوم لأنّه أذعن! وعرف أنّ ما ذكره له يزيد في كتابه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) واتّهامه إيّاه أنّه ينازعه الملك، وأنّه يجمع الرجال ويعدّ العدّة لذلك، كان كذباً وافتراءً من يزيد؟!

* * * * *

نحسب أنّ ما جاء في هذا المضمون كافٍ وافٍ لبيان مجريات أحداث مكّة ومظلوميّة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإقناع المتلقّي بما يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن هو

ص: 66

البادئ أبداً، ولم يبيّت أمراً، ولم يخطّط للخروج ب-- (المعنى المصطلح)، وإنّما كان الأعداء هم الّذين يريدون قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) كيفما اتّفق، وأين ما اتّفق، وبأيّ ثمن، وأيّ زمان، ويستعجلون في ذلك استعجالاً!

المشهد الثالث: إشخاص الإمام (علیه السلام) من حرم الله إلى الكوفة
اشارة

يمكن أن يرسم لهذا المشهد صورتين:

الصورة الأُولى: الصورة المعروفة

مرّ معنا في المشهد الثاني مجمل الوقائع الّتي حصلَت في مكّة، وكانت كلّ نقطةٍ ذكرناها هناك جديرةً بالاهتمام والحديث تفصيلاً عنها، ولكنّا تركنا التعرّض لها بإسهاب؛ خوفاً من الإطالة والتكرار، لأنّها مضت بنحوٍ ما فيما سبق من البحث.

بَيد أنّ ثمّة مشهدٌ مروّعٌ رسمه ابن عبّاس لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، يمكن تحديد معالمه من خلال التعبير ب «الإشخاص»، و«التسيير»، و«الخروج منها خائفاً يترقّب»..

إنّها ترسم نفس مشهد الخروج من المدينة.. خروجٌ يظلّله الخوف والترقّب..

خروجٌ لا يمكن أن يُوصَف به من يريد الخروج ب-- (المعنى المصطلح)..

خروجٌ لا يناسب من يخطّط للهجوم، ويحسب لجمع العدّة والعديد..

خروجٌ لا ينسجم مع خروج مَن يتوثّب للمواجهة والمجابهة والتصدّي..

ص: 67

خروجٌ لا يلتئم مع من يبيّت للحرب والقتال والإطاحة بالحكم..

خروجٌ لا يلتقي مع أهداف من لا يريد (المتاركة) إن تركوه!

خروجٌ ينسجم مع وحشيّة العدوّ وجرأته على انتهاك الحرمات، وعزمه على قتل حبيب الله والتخطيط لذلك..

خروجُ مَن هجموا عليه، فحاد عنهم واختار أن لا يسمح لهم أن يقتلوه، فيهتكوا حرمة البيت وحرمته في آن..

خروجُ مَن علم عِلم اليقين أنّ القوم يلاحقوه ولا يتركوه، رغم أنّه تاركهم..

خروجٌ مروّعٌ يقضّ على المؤمن الغيور مضجعه، ويفتّت كبده، ويقطّع أنياط قلبه..

أيُشرَّد ابنُ بنت خاتم النبيّين (صلی الله علیه و آله) ، ويبيت يزيد في لذاته متنعماً؟!!

الصورة الثانية: الصورة الجديدة

قيل _ ولسنا بصدد مناقشة القول نفياً أو إثباتاً _:

إنّ تسيير الإمام (علیه السلام) وإخراجه من المدينة إلى مكّة، ثمّ إلى العراق، كان بتخطيطٍ من الأُمويّين، لأغراض كثيرةٍ ذكروا جملةً منها:

فمنها:

التخطيط ليُقتل الإمام (علیه السلام) في الكوفة بالذات، باعتبار أنّها كانت موطناً للشيعة، لتلقى تبعات قتل الإمام (علیه السلام) عليهم، ويُنسَب قتل الإمام (علیه السلام) إلى شيعته،وهو ما كان ولا زال الأعداء ينفخون في صوره المبحوح المنخور.

ومنها:

ص: 68

أن يُشخِصوا الإمام (علیه السلام) إلى العراق، وهم يعرفون قوّته وشجاعته وقدراته، ومَن معه من رجالٍ وفتيان، باعتبار أنّ الكوفة كانت يومذاك ثكنةً عسكريّةً ومقرّاً يجمع صناديدهم ومقاتليهم الأشدّاء، فلا يضطرّ العدوّ إلى تحريك قطعاته ونقل عساكره من الكوفة إلى أيّ صقع آخر، إذ أنّ هذا التحريك سيجرّ عليهم الكثير من الخسائر الماديّة والمعنويّة والزمانيّة وغيرها..

وهكذا ذكروا لذلك مسوّغاتٍ وأسباباً وعللاً كثيرة، واستشهدوا لذلك بما ورد في كتاب ابن عبّاسٍ وغيرها من النصوص التاريخيّة الّتي تفيد أنّ الأُمويّين كانوا يعملون على محاصرة الإمام (علیه السلام) من جميع الجهات ويحيطون به، ليسيّروه إلى الكوفة.

واستشهدوا كذلك:

بقول الإمام (علیه السلام) :

«إنّما (القوم) يطلبونني، وقد وجدوني، وما كانت كُتب مَن كَتب إليّ _ فيما أظن! _ إلّا مكيدةً لي وتقرّباً إلى ابن معاوية بي» ((1)).

واستشهدوا كذلك:إنّ أكثر مَن كاتب الإمام (علیه السلام) وراسله كان من أتباع العجل والسامريّ، وهم الأكثريّة الكاثرة يومذاك في الكوفة، وكان فيهم من رؤوس الضلال وأركان عسكر يزيد، من قبيل: شبث بن ربعيّ، وعزرة بن قيس، وحجّار بن أبجر.

ص: 69


1- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 185.

واستشهدوا أيضاً:

بجملةٍ من النصوص المقدّسة، من قبيل: ما رواه الراونديّ وغيره بسندٍ عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال _ في حديث _:

«قال الحسين بن عليّ (علیهما السلام) لأصحابه قبل أن يُقتَل: إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى: عمورا، وإنّك تُستشهَد بها، ويُستشهَد معك جماعةٌ من أصحابك ...» ((1)).

واستفادوا من قوله (صلی الله علیه و آله) : «ستُساق»، بتقريب أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) لم يقل: ستخرج، أو ستذهب، أو ستهاجر، أو أيّ لفظٍ آخَر يفيد خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق طواعية، وإنّما استعمل: «ستُساق»، وهو يفيد الدفع، وما يفيده لفظ: (السوق).فيكون خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق ضمن مجريات الحوادث الخارجيّة والظروف المحسوسة المرئيّة والحركات الحاصلة في صفحة الأيام الملحوظة للخاصّ والعامّ _ بغض النظر عن البُعد الغيبيّ _ إنّما هو بسوق الأعداء، وتسييرهم، وتخطيطهم، كي يُشخصوا الإمام (علیه السلام) ومَن معه إلى العراق!

ص: 70


1- الخرائج للراونديّ: 2 / 848 ح 63، مختصر البصائر للحلّي: 139 ح 107 _ بتحقيق: مشتاق المظفّر، نوادر الأخبار للفيض الكاشانيّ: 286 ح 5، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 1 / 341 ح 281، الإيقاظ من الهجعة للحرّ العامليّ: 352، بحار الأنوار: 45 / 80 ح 6، العوالم للبحرانيّ: 17 / 344.
المشهد الرابع: تسليط ابن مرجانة وأمره بقتل الإمام

ميّز ابن عبّاس المفاصل المهمّة الّتي أثّرت فيه، وخلّفت جرحاً عميقاً لا يندمل، بتقديم ما يفيد أنّه لا ينساها أبداً.

وجعل من بين تلك المصائب الّتي لا ينساها أبداً _ مهما كان _ تسليط ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة، البعيد رحماً، اللئيم أُمّاً وأباً، الّذي ادّعاه معاوية، واكتسب به العار والخزي والمذلّة في الدنيا والآخرة ((1))، وفي الممات والمحيا ((2)).

والمصيبة هنا مصيبتان:

إحداهما: التسليط.والتسليط لا يكون إلّا بعد أن يكون المسلَّط عليه قد أُحيط به، وأُسر أسراً شديداً يمكّن المتسلِّط من تنفيذ ما يريد.

والأُخرى: أن يكون المسلَّط دعيّاً ابن دعيّ، منسوباً للعاهرة الفاجرة.

وثمّة مصيبةٌ ثالثة، وهي: أن يكون المسلِّط الآمرُ دعيّاً ابن دعيّ، منسوباً للعواهر الفواجر.

فقد رُوي أنّه:

ص: 71


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
2- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234.

لمّا قَتل أميرُ المؤمنين عمرو بن ودّ، ونُعي إلى أُخته، قالت: مَن ذا الّذي اجترأ عليه؟ فقالوا: عليّ بن أبي طالب. فقالت: لم يعد موته إلّا على يد كفوٍ كريم، لا رقأت دمعتي إن أهرقتُها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيّته على يدٍ كريم.

ثمّ أنشأَت تقول:

لو كان قاتلُ عمروٍ غيرَ قاتله

لكنتُ أبكي عليه

دائمَ الأبدِ

لكنّ قاتله مَن لا نظير له

وكان يُدعى قديماً: بيضة البلدِ ((1))

وهذه من مصائب الدهر الّتي لا ترقأ الدموعُ لها أبد الآبدين، أن يكون قتلَةُ خير الخلق وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) أولادَ بغايا عاهراتٍ رخيصاتٍ نتنات،يعرض عنهنّ المتسكّع في دور الدعارة وحارات البغاء.

المشهد الخامس: استقبال الإمام الحسين (علیه السلام) بالرجال ومعاجلته

أضاف ابن عبّاسٍ _ على تسليط ابن الأَمة الفاجرة على سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته _ معلومةً لم يُنكرها ولم يتنكّر لها ابن ميسون، إذ ورد في كتابه أنّ يزيد هو الّذي أشخص الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى أرض الكوفة، فزلزلت به خيلُه، وخرج منها خائفاً يترقّب، وكتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف، وأمره بمعاجلته وترك مطاولته والإلحاح عليه

ص: 72


1- أُنظر: إرشاد القلوب للديلميّ: 2 / 245، الفصول المختارة للمفيد: 292، كشف الغمّة للإربليّ: 1 / 206، بحار الأنوار للمجلسيّ: 41 / 98.

حتّى يقتله ومَن معه من بني عبد المطّلب، عداوةً لله ولرسوله ولأهل بيته ((1)).

لا يبدو من كلام ابن عبّاسٍ في تقرير هذه المعلومات أيّ إقدامٍ خاصٍّ أقدم عليه أبو الشهداء (علیه السلام) وسيّدهم، بل على العكس تماماً، تتزاحم أوامر ابن ميسون وتتكاثر وتتدافع الواحدة تلو الأُخرى، وتبدأ من إشخاص الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى الكوفة، وتنتهي بقتله ومَن معه.

هو الّذي أشخص الإمام (علیه السلام) ..هو الّذي أمر أن يستقبله ابنُ مرجانة بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف..

هو الّذي أمر بمعاجلته وترك مطاولته والإلحاح عليه حتّى يقتله..

هو لا يريد أيّ حديثٍ ولا كلامٍ ولا مفاوضاتٍ ولا حلول وسطٍ ولا فتح أيّ فُرجةٍ يمكن أن تنتهي بدفع القتل عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

إنّه يستعجل قتل الإمام (علیه السلام) ، ويأمر بالمعاجلة من دون أيّ مطاولةٍ وإلحاح.

لا يريد شيئاً سوى أن يقتله ابن مرجانة ومَن معه من بني عبد المطّلب.

كلّ ذلك عداوةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته.

المطلوب هو رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعزيز النبيّ (صلی الله علیه و آله) والزهراء (علیها السلام) ، ورؤوس فتيان بني عبد المطّلب!

ص: 73


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

ويرجع الكلام من جديد:

لا يجد المتلقّي في كلام ابن عبّاسٍ أيّ بادرةٍ تشير إلى إقدام سيّد الشهداء (علیه السلام) على شيء _ أيّاً كان _، وإنّما يفيد بوضوحٍ وجلاءٍ مبادرات العدوّ الوحشيّ.

العدوّ هو الّذي أعدّ واستعدّ وأمر وفتح خزائنه وجمع العدّة والعدد، وسلّط ابن مرجانة ليحقّق ما يريد.

المشهد السادس: رفض الموادعة!

لحديث طلب الموادعة وسؤال الرجعة شجونٌ وشجون، وهو كلامٌ يطول ويطول، وسنأتي عليه في محلّه، إن شاء الله (تعالى)..وما يهمّنا الآن هذا المقطع من كلام ابن عبّاس مع يزيد العهر والفجور، ولا نريد الاسترسال للتدليل وذكر الشواهد والنصوص والمواقف وعدد المرّات الّتي طلب فيها الإمام (علیه السلام) الموادعة من المدينة إلى كربلاء إلى حين الشهادة.

فطلب إليكم الحسين الموادعة، وسألكم الرجعة ((1)).

إنّ المشهد الّذي يرسمه ابن عبّاسٍ في كتابه يصرع المتلقّي، ويرميه في دوّامةٍ مذهلة، إذ أنّه يؤكّد بعباراتٍ شتّى إنّ يزيد هو الّذي أشخص الإمام (علیه السلام)

ص: 74


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641.

من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق، من غير أن يصدر من الإمام (علیه السلام) ما يُنذرهم ويهدّدهم..

ثمّ يرسم مشهد استعجال يزيد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأمره ابن الأَمة الفاجرة بالمعاجلة، وأن لا يتريّث في قتله ومَن معه، وأن لا يدَع له فرصة المطاولة..

ثمّ يصوّر لنا هنا مشهداً مروّعاً، حيث يطلب الإمام (علیه السلام) الموادعة، الموادعة، الموادعة! ويسأل الرجعة، الرجعة، الرجعة!

فيأبون عليه، وينتهزون الفرصة ليقتلوه في قلّةٍ من الأنصار والأعوان!لا يمكن أن نتصوّر أنّ الإمام (علیه السلام) قد أخطأ في تقديره للظروف في العراق، وأنّ الكتب والرسائل ووعود المكاتبين قد انطلت عليه وخدعته _ نستغفر الله ونستجير به من هذه الفروض، ونعتذر إلى سيّدنا ومليكنا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) _.

فهو إنّما أقدم على العراق مضطرّاً في تقديرات الواقع وتحقّق الوقائع المنظورة، وقد أسره القوم في (شِراف) بجحفلٍ يربو على الألف فارس، وهو يدعوهم للموادعة، ويذكّرهم بالله ويعظهم فلا يتّعظون.

الموادعة..

هل تنسجم الموادعة مع التجهيز للقتل والقتال ومهاجمة أكداس الحديد والرجال؟

هل تلتئم الموادعة مع الإصرار المسبق على (عدم المتاركة)، وأنْ لو تركه

ص: 75

القوم ما تركهم الإمام الحسين؟! ((1)) وحقيقة المُوادعة: المُتاركة! ((2))

هل يقبل مَن عزم على الخروج ب-- (المعنى المصطلَح) أن يوادع ويدعو إلى الموادعة؟!

هل يدعو إلى الموادعة ويسأل الرجعة مَن أقدم على عمليّةٍ انتحاريّةٍ تهدفإلى هزّ الوجدان الشعبيّ وإنقاذ الأُمّة من الشلل النفسيّ والازدواجيّة وحفظ القيَم الإسلاميّة؟! ((3))

هل قدّر الإمام (علیه السلام) وحسب وفق موازين الظاهر المنظور، ثمّ انكشف له انقلاب الناس عليه، فطلب الموادعة والرجعة؟!!

نستغفرك اللّهمّ، إنْ هذا إلّا بهتانٌ عظيم!

ثمّ إنّ التقديرات لا تصيب ولا تستقيم، بعد أن بلغه خبر شهادة مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وانقلاب الكوفة على حظّها ودنياها وآخرتها، وكان الإمام (علیه السلام) حينها بعد لم يُؤسَر من قِبل الجيش الأُمويّ في شراف.

نحسب أنّ التأمّل والتعمّق وإمعان النظر في طلب الموادعة وسؤال الرجعة، مع إغفال السوابق الذهنيّة والموروث الّذي تكوّن منه البناء العقليّ المعاصر، من الضروريّات الّتي لا ينبغي للباحث في شأن سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يتوانى بها، وهي تدعو المتلقّي بجدٍّ لإعادة النظر في تصوير الإمام (علیه السلام) في صورة المهاجم

ص: 76


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 270.
2- أُنظر: لسان العرب، والنهاية لابن الأثير: وَدَعَ.
3- أُنظر: أنصار الحسين (علیه السلام) للشيخ شمس الدين: 12 مقدّمة الطبعة الثانية.

لأيّ غرضٍ كان، وتصوير العدوّ في صورة الدفاع عن النفس وعرش السلطنة!

* * * * *

نكتفي بهذا القدر من الإشارة العابرة، اعتماداً على نباهة المتلقّي ودقّتهوذكائه وشدّة حبّه وتقديسه لإمامه (علیه السلام) .

المشهد السابع: الشماتة بقتل الإمام (علیه السلام)

يرسم ابن عبّاسٍ في كتابه مشهداً لقساوة يزيد وجنوده وجلفيّتهم وشماتته بقتل سلالة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ، لا يطيق مَن ألقى السمع وله قلبٌ أن يستمع إليها ويتصوّرها..

قتلوهم كما لو قتلوا قوماً من الكفّار والترك والديلم، وغادروهم مصرَّعين في صعيدٍ واحد، مرمَّلين بالدم والتراب، مسلوبين بالعراء، غير مكفّنين ولا موسّدين، تسفي عليهم الرياح، وتعروهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع.

ثمّ جعل يزيد يهتزّ طرباً وفرحاً مسروراً جذلان، يُبدي الشماتة ألواناً فألواناً..

لقد منعوهم الماء فقتلوهم ظماءً عطشانين، وقتلوا الأطفال والرضّع، وقطّعوهم آراباً بخناجر الحقد والضغينة.

إنّ طريقة القتل والحرب والقتال في كربلاء لم تكن هي الطريقة المعهودة في الحروب العادية، وإنّما كانوا يُمعِنون في التقطيع والتعذيب وقطع الرؤوس، على مرأىً ومسمع من الأُمّهات والأخوات والبنات والأطفال، وإذا تكاثروا على أحد

ص: 77

أبطال الطفّ وأُسود آل أبي طالب، لم يكتفوا بالقتل وحزّ الرأس، وإنّما كانوا لا يوفّرون سهماً ولا رمحاً ولا سيفاً إلّا غرزوه ومزّقوه تمزيقاً، وهميصرّون على أسنانهم ويصكّون الضربة صكّاً ويستمدّون من جميع قوى البدن، لتكون زخماً مضاعفاً للطعنة، وهو ما ينمّ عن مدى الحقد والضغينة والعداوة والبغضاء والكراهية والحنق والإحن والشنآن ونتن الانتقام.

وتركهم على الصعيد من غير غسلٍ ولا كفنٍ ولا توسيد، تماماً كما يفعلون مع الكفّار _ والعياذ بالله _.

لقد شمت القرد السافل حليف القيان والقرود والقمار والدنان بكلّ أنواع الشماتة قولاً وفعلاً!

المشهد السابع: قتلهم كقتل الكفّار!

لقد دأب القوم منذ أن غمضَت عينُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورحل إلى الرفيق الأعلى على وصف أهل بيته (أصحاب الكساء (علیهم السلام)) بالخوارج، واتّهموهم بشقّ العصا وتفريق الجمع ومخالفة السنّة، وغيرها ممّا ارتكبوه هم، كي يتسنّى لهم تحكيم مواطئ أقدامهم وتربّعهم على دست السلطنة، وهم لا يمكنهم أن يحقّقوا ما يريدون إلّا إذا ضلّلوا وخدعوا وقلبوا الموازين ونكّسوا القيَم وحرّفوا كتاب الله وبدّلوا سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعرضوا الباطل المزيّف المموّه في صورة الحقّ والحقَّ الصراح في هيئة الباطل.

وهذا ما فعلوه تماماً مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ ألّبوا عليه أتباعهم وكلابهم، فكان كلٌّ منهم يتقرّب بدمه إلى الله (تعالى)، وتديّنوا بقتل سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله)

ص: 78

وريحانته وهتك حرماته.وكما قال ابن عبّاس:

عدوتُم عليهم فقتلتموهم، كأنّما قتلتم أهلَ بيتٍ من الترك ((1)) والكفر ((2)) وكابل ((3)) ... كالسبي المجلوب ((4)).

وقد مارسوا هذه العقيدة البائسة النتنة عمليّاً حين تركوهم مجزّرين كالأضاحي على الصعيد، مرمّلين بالدماء والتراب من دون تجهيزٍ ولا صلاةٍ ولا دفن، وهذا ما يُفعل بالكفّار!!!

هذه هي الطامّة الكبرى والمصيبة الّتي جلّت وعظمت في السماوات والأرضين وفي الدنيا والدين، إذ أنّهم قتلوا الدين باسم الدين، وقتلوا الصلاة والصيام والتكبير والتهليل، وهم يكبّرون ويهلّلون!

* * * * *

رُبّ مراجعةٍ سريعةٍ لمتون الزيارات المقدّسة الواردة عن أهل البيت، تفيد المتلقّي بسرعةٍ أنّ ما ورد فيها من شهاداتٍ يتقدّم بها المؤمن الزائر بين يدَي إمامه سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، إنّما هي بإزاء ما زعمه أعداء الله وأعداء

ص: 79


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236، الكامل لابن الأثير: 3 / 318.
3- المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
4- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

رسوله (صلی الله علیه و آله) في الإمام الصادق اليقين (علیه السلام) ، فهو يشهد على الدوام للإمام (علیه السلام) أنّه: قد أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وعبد الله حتّى أتاه اليقين، وأنّه لم يمل من حقٍّ إلى باطل، ولم تأخذه في الله لومةُ لائم، وأنّه عمل بشرع الله وسُنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهكذا..

فربّما كان هذا وجهٌ من الوجوه القريبة جدّاً لتفسير هذه الشهادات الّتي يشهد بها الزائر، ليقول للإمام (علیه السلام) : إنّي اعتقد فيك خلاف ما فعله أعداؤك الكفرة الفجرة، الّذين شهدوا عليك بالكفر وقتلوك لأولاد البغايا.

يا لها من مصيبةٍ مهولةٍ مروعة، يهتزّ لها الكون والزمان والمكان والعرش والكرسيّ، أن يقتُل أولادُ الطلقاء أولادَ الأنبياء، ويُذبَح الإمام المفترض الطاعة من الله بخنجر مَن اتّخذوه إماماً عتوّاً وطغياناً على الله!

* * * * *

إنّ هذه الإشارة الواردة في كتاب ابن عبّاس من تصوير طريقة تعامل يزيد الخمور وجنده وشياطينه مع خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) في القتل والاعتداء، تُعدّ مِن أهمّ المفاصل الّتي ينبغي التوجّه إليها ودراستها بدقّة في ظروف شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وقد وردت الإشارات والتصريحات والبيانات الكثيرة عن أهل البيت (علیهم السلام) في هذا المضمار، فلابدّ مِن إفرادها بالبحث والتفصيل، لذا سنؤخّره إلى محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ص: 80

المشهد الثامن: الشماتة بسبي الحرم
اشارة

حصيلة ما قاله ابن عبّاسٍ في هذه المصيبة:

• ألا ومن أعجب العجب _ وما عشتَ أراك الدهر العجيب _ حملُك بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً من وُلده إليك بالشام كالسبي المجلوبين، تُري الناس أنّك قد قهرتنا، وأنّك تأمّرت علينا، وأنّك تمنّ علينا، وأنّك تذلّنا ((1)).

• وإنّ من أعظم الشماتة حملُك بنات رسول الله وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين مسلوبين، تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتنا واستوليت على آل رسول الله ((2)).

إي والله، إنّه لمن أعجب العجب، وليس بعده عجب، ولو عشتَ الدهر كلَّه لما أراك عجباً مثله.

حريٌّ بمؤرّخ السلطان أن يتجنّب مأساة السبي، ليغطّي على جريمةٍ لا يأتي الدهر بمثلها، (وهذه الرزية الّتي لا مثلها رزية)، وحريٌّ بالمؤمن أن يسمل عينيه بمسامير الحروف ويسوطها سوطاً، لئلّا يقرأ ما جرى على مخدّرات الرسالة وأهل بيت الوحي.

ص: 81


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 236، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 5 / 189.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

الغيرة الهاشميّة لا تسمح لأحدهم أن يفوه بما جرى على عرضه ومخدّراته، لذا تجدك تسمع أخبار السبي مقتضبةً مشفّرة، يلقونها ملفوفةً بالرموز ومغلّفةً بالغيرة والحياء، يفقهها المفهَّم، ويُدركها مَن يعرف معاريض الكلام ويفكّ رموز الحديث، وهو جرحٌ (لا، ولم، ولن) يندمل إلى يوم القيامة، فقد قال الإمام زين العابدين عن قتل أبيه وأهل بيته:

«وَجْده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري» ((1)).

لأنّ الإمام يعرف الإمام، وقد رأى ما جرى على أبيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ومصيبة أعظم المصائب في تاريخ البشريّة.

غير أنّنا لا نعرف الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه حقّ المعرفة _ كالإمام زين العابدين (علیه السلام) _، ولكنّنا بحدود مداركنا ومشاعرنا نحسّ بلذع سياط الغيرة ومغارز أنيابها، لأنّنا قد نقيس ونقارن ونستشعر ونتلمّس ونتحسّس ذلك حين نتنزّل بالمصيبة العظمى لنقارنها بما إذا كنّا نعيشه نحن.

ولا نشكّ أنّ المؤمن الغيور يتمنّى _ ويقسم صادقاً _ أن لو كان الّذي جرى على بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومخدّرات أمير المؤمنين (علیه السلام) زينب وأخواتها (علیهم السلام) ومَن

ص: 82


1- اللهوف لابن طاووس: 159، مثير الأحزان لابن نما: 89، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 113.

كان معها كان يُفتدى بأهله وعرضه، ويدفع بذلك عن بنات الرسول (صلی الله علیه و آله) ، لَفعل!

وكم تمنّيتُ قبل الدخول في تصوير هذا المشهد.. مشهد العذاب والنكال.. الّذي يذوي له المؤمن الغيور، ويتناثر له قلب العلويّ هباءً، وتملصّتُ من الكتابة فيه، والتويتُ وتلوّعت، ومكثتُ لا أُطيق الكتابة، وقد تركتُها يومين كاملين أخلو بدمعتي واعتصار قلبي، وأتضوّر.. لا أهجع.. وأنا أُردّد في نفسي: ليت الموت أعدمني الحياة! بَيد أنّ ضرورة البحث اضطرّتنا، فحاولتُ المرور على عجلٍ من دون تدبّرٍ ولا تعمّقٍ في التصوّر والتصوير، ولابدّ من الصبر.

فماذا نفعل إن لم نصبر؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!

اللّهمّ لك الحمدُ حمدَ الشاكرين لك على مصابهم، نحمدك اللّهمّ «على عظائم الأُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة».. ((1)).

* * * * *

ويمكن أن نستعجل بعض الإشارة إلى بعض ما ورد في كلامه من لوعات:

اللوعة الأُولى: عجبٌ ما قبله ولا بعده عجب!

يُلاحَظ أنّ ابن عبّاسٍ راح يؤكّد العجب، وقال: «وما عشتَ أراك الدهرُ

ص: 83


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 219، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 462، بحار الأنوار: 45 / 148 _ من خطبةٍ للإمام السجّاد (علیه السلام) على مشارف المدينة.

عجباً»، حينما صار يُخبر عن السبي.

وهو من أعجب العجب حقّاً، بَيد أنّ ابن عبّاسٍ الهاشميّ المنطيق صاحب اللسان وقوّة المناظرة، ربّما لم يوفَّق هنا حين تمّم كلامه بقوله: «وما عشتَ أراك الدهر عجباً»؛ فإنّ العجب الّذي شهدته الدنيا منذ أن هبط آدم أبو البشر إلى يوم يقوم الناس لربّ العالمين بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبي نسائه لم ترَ مثله ولن ترى مثله أبداً، فلو عاش عمر الدنيا، وعمّر مدى دوران الأفلاك، لم يشهد مثل هذا المشهد الّذي طأطأَت له الرؤوس، وخُلعَت له عمائم العزّ، ولَسوف تبقى الرؤوس حاسرةً سافرةً إلى يوم الساهرة.

أجل، قد يُقال: إنّ مقصوده أنّه عاش حتّى أراه الدهر هذا العجب، ولا يعني أنّه يمكن أن يرى عجباً غيره!

اللوعة الثانية: نسب السبايا إلى عبد المطّلب

نسب السبايا إلى عبد المطّلب في المصادر جميعاً، سوى ما رواه سبط ابن الجوزيّ الّذي نسبهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وربّما كان نسبتهم إلى عبد المطّلب باعتبار أنّه الرأس الّذي يجتمع فيه السبايا مع ابن عبّاسٍ من حيث النسب، فعبد المطّلب جدُّهم جميعاً، وأراد بذلك أن ينبّه على واشج القرابة الموجودة بين السبايا وبينه، وسيأتي بعد قليلٍما يشهد لذلك.

وربّما ذكر هذه النسبة ليقرّع يزيد ويُشعِر المتلقّي أن ثارات السبي عند يزيد منذ زمنٍ بعيد، إذ أنّ سليل العهر يزيد يريد بفعله هذا الانتقام لأيامٍ خلَت،

ص: 84

وكأنّ الانتقام والثأر عنده له جذورٌ ممتدّة، وهو يريد أن ينتقم من عبد المطّلب وأولاده جميعاً أبي النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأعمامه.

وربّما أراد أن يوبّخ يزيد العهر والفجور باعتباراتٍ عشائريّةٍ وقبَلَيّة، وبروحٍ كانت سائدةً قديماً وحديثاً عند العرب، بغضّ النظر عن البُعد الدينيّ والإسلاميّ والانتساب إلى سيّد الرسل وخاتم النبيّين وأشرف الخلق أجمعين.

اللوعة الثالثة: حمل بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً

حمل يزيد المجون ابن ميسون بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً وبنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأطفاله وحرمه، إلى الشام..

وهو إنّما حمل النساء والأطفال؛ لأنّ الكبار كهولاً وشبّاناً وفتياناً كلَّهم قُتلوا وتُركوا مصرّعين على رمضاء كربلاء، لم يغادروا منهم أحداً، قتلوهم جميعاً حتّى لم يبقَ للنساء ولاةٌ ولا حُماة، فحملوهنّ سبايا أسيرات..

وإنّما بقي الإمام زين العابدين (علیه السلام) بأمر الله لا بهوى يزيد وذئابه، إذ أبى اللهُ إلّا أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون والمشركون.

وهؤلاء السبايا والمستشهدون، وإن كانوا يُنسَبون إلى عبد المطّلب لأنّه جدّهم الّذي يشاركهم به ابن عبّاس، بَيد أنّ لعبد المطّلب أولاد عشرة، والّذينقُتلوا في كربلاء ليسوا من جميع أولاده، وإنّما هم من أبي طالب خاصّةً دون غيره من أولاده!

لقد أتت كربلاء على ذرّيّة أبي طالب فقُتّلوا تقتيلاً، وحساب يزيد الخمور والأُمويّين مع أبي طالب على وجه الخصوص، كافل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأبي

ص: 85

الوصيّ (علیه السلام) ، ولهم معه ثاراتٌ وثارات!

اللوعة الرابعة: السبي إلى يزيد

أكّد ابن عبّاسٍ في كتابه أنّ السبي حُمل إلى الشام إلى ابن ميسون خاصّة: «حملك.. إليك بالشام»، وفي هذا التصوير نكايةٌ لا تُحتمَل، إذ تُحمَل بنات الوحي وعقائل الرسالة ومخدّرات حامي الجار والمدافع عن حريم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ودِينه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أشجع الخلائق، وغيرة الله، ومعادن الحشمة والخدر والطهارة والعفاف، إلى سليل البغاء ومعدن العهر والبغي والتهتّك والخلاعة والمجون والدعارة والزنى والفجور والفحش والفسق والبذاءة والرذيلة..

نفس هذا الحمل لهذه الوجهة هو عارٌ وشنار، لن يُرحِض وَصَمَ عصر ابن عبّاس ومَن عاش فيه، ومَن رضي به، وأتى على قلوب المؤمنين إلى يوم الدين.

العادة الغالبة أن يُحمل السبي إلى مَن هو أشرف وأقوى وأشدّ وأعزّ منه، أمّا أن يُحمَل إلى من لا يساوي شيئاً، ولا يمكن أن يُقارَن بنفاية فضلة حشرةٍ في بلدٍ تسرح فيه دابّة أحد أتباع عبيد المحمول ومماليكه، بل لا يقارن بنفايةٍ فيمكبّ فرام الزواني في حارة البغايا، فهذه هي الطامّة الكبرى.

اللوعة الخامسة: السبي المجلوب!!!

سمعنا في وصف سبي حرمات الله وحرمات رسوله (صلی الله علیه و آله) أنّهم قالوا: ك «سبي

ص: 86

الكفّار»، أو «سبي الترك» و«كابل» و«الروم»، وغيرها ممّا يفيد أنّه سبيٌ كسبي الكفار.

بَيد أنّ في توصيف ابن عبّاس ما تندكّ له الجبال الرواسي، وتتناثر له النجوم والكواكب، ويتضعضع له العرش والكرسيّ، وينهدّ له الصبر، ويتقوّض له الجزع، وتقطّع الأرضون، وتميد السماوات وتمور مَوراً، وتنتزع له الأرواح بسفود حديد الغيرة، ويعجز الإنسان عن التعبير عنه..

إنّه اختزل مصيبةً من أعظم المصائب في كلمة!

كلمة واحدة.. ليته لم يقلها.. بَيد أنّها شهادةٌ مِن مِثل ابن عبّاسٍ على وقوعها..

كلمة واحدة.. تشرح ما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) .. سبي الكفّار.. سبي الترك وكابل..

كلمة واحدة.. لو انخرم لها نظام الكون لَما كان عجباً..

كلمة واحدة.. يخال المرءُ حين يقرأها أنّ السماوات تمور وتدور حوله في دوّامةٍ سكرى دورةً جنونيّةً غير منتظمةٍ يميناً.. شمالاً.. صعوداً.. نزولاً..كلمة واحدة.. يقرأها المتلقّي تزلزل به الأرض، فتهدّ كيانه وكيان العالمين..

كلمة واحدة.. تملأ الدنيا ضجيجاً وعجيجاً.. صراخاً.. هلَعاً.. رعباً.. ذعراً.. روعاً.. رهبةً.. فزعاً.. هيعةً.. ووجلاً..

آهٍ من ضرورات البحث الّتي تضطرّنا لكتابة ما لا يُطاق أن يُكتَب..

كالسبي المجلوب..

ص: 87

مجلوبين مسلوبين ((1))..

كالأسرى المجلوبين ((2))..

سمعنا قبل قليلٍ أنّ يزيد الغاوي وجنده تعاملوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء وأصحابه في القتل والقتال تعاملهم مع الكفّار..

ولم يكتفوا بذلك حتّى أمعنوا في الشرك، وأوغلوا في الغواية والجناية، فاستمرّوا على نفس المنوال، حتّى حملوا العيال حمل السبايا.. فالسبي لا يكون للمسلم!

أمّا تعبير ابن عبّاس، فهو يصفهم:

مسلوبين!مجلوبين!

كالأسرى المجلوبين!

والمجلوب: هو ما يُعبَّر عنه في هذا الزمان ب-- (المستورَد).

السبي المجلوب.. هو السبي الّذي يُجلَب من بلاد الكفر بقصد البيع!!!

السبايا والأسرى الّذين يُحمَلون إلى بلاد الإسلام للبيع! يا لله! للبيع!

السبي الّذي يتداوله النخّاسون ليتاجروا به.. كما هو واضحٌ لمن تتبّع كتب

ص: 88


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 236، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.
2- أُنظر: مختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزبانيّ: 37.

اللغة وكتب الفقه عند الفرَق الإسلاميّة.

السبي المجلوب يُعلَن عنه قبل وصوله إلى البلد، فيخرج الناس للتفرّج عليه، ويُعرَض السبي في استعراضٍ خاصّ..

السبي المجلوب لا يُعرف له نسبٌ ولا أُمٌّ ولا أبٌ في البلد المجلوب إليه..

وهناك صفاتٌ يتّصف بها السبي المجلوب، يمكن أن يتصيّده المُراجِع لكتب الفقه من ثنايا المسائل المطروحة في الباب، ونحن لا نجرؤ على ذِكرها هنا، ونتمنّى أن تكون الأنامل رميماً وتُطحَن الجناجن وتُهشَّم قبل أن تكتب هذا القدر.

يا لله! وا محمّداه، وا عليّاه، وا حمزتاه، وا جعفراه، يا غيرة الله..

اللوعة السادسة: الاستعراض بالسبايا

حمل ابن ميسون وابن آكلة الأكباد آلَ الله إلى الشام كالأُسارى المجلوبين..قال ابن عبّاس:

تُري الأوباش ومَن خرج عن ملّة جدّهم ((1))..

تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتَنا، وأنّك تأمّرتَ علينا، وأنّك تمنّ علينا، وأنّك تذلّنا واستوليت على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((2))..

ص: 89


1- أُنظر: مختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزبانيّ: 37.
2- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 236، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 5 / 189، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

· قدرتك علينا..

· قد قهرتنا..

· تأمّرتَ علينا..

· تمنّ علينا..

· أنّك تذلّنا.

· استوليتَ على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وهذه الأخيرة مُهلِكة.. مُدمِّرة.. فتّاكة.. ضروس.. شرسة.. طاحنة.. متلفة.. مخرّبة.. هدّامة.. لا تُطاق.. ولا نقول سوى: إن لم نصبر فماذا نفعل؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.وجميع هذا استعراضٌ بائسٌ مشؤوم، قام به مَن لو جُمعَت كلُّ شتيمةٍ وكلمة عارٍ ولفظة شنارٍ وفُحشٍ في جميع اللغات لَما عبّرَت عنه.. (يزيد)! يستعرض بآل الله على كومةٍ متراكمةٍ من الجيَف المتراكمة من سيح قيء المجتمعات الشرّيرة المنحطّة الخارجة عن ملّة الإسلام! ليُري هؤلاء الوحوش الفاقدة للإحساس بالإنسانيّة والبشريّة..

إنّه لم يقتصر في هذا الاستعراض على الشام فحسب، وإنّما كان قد أمر أن يُطاف بهم في البلدان، يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والشريف والدنيّ

ص: 90

والشاهد والغائب..

اللوعة السابعة: الشماتة!

أجل، الشماتة.. بل مِن أعظم الشماتة ((1)) كما قال ابن عبّاس..

الشماتة: إظهار الفرح بما يُصاب به العدوّ.

لقد أظهر العاهر ابن الزانية الفرح والشماتة بآل الله، فشمخ بأنفه، ونظر في عطفه جذلان مسروراً، حين ساق بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبايا، قد هتك ستورهنّ، وأبدى وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا من حُماتهنّ حميّ..ما أصعب الشماتة.. والشماتة بالمصيبة علامة الحاسد ((2))، وفيها تشديدٌ وزيادةٌ للمُصاب على مصيبته وإيذائه ((3))، وإمعاناً في النكاية والإيلام والتشفّي.

لقد شمت اللعين بسادات الخلق ونجوم أهل الأرض، وجميعِ الأنبياء والأوصياء من آدم إلى الوليّ الخاتم..

شمت بآدم ونوح وإبراهيم خليل الرحمان وموسى وعيسى، ومَن بينهم من

ص: 91


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.
2- أُنظر: تحف العقول: 22.
3- أُنظر: شرح الكافي للمازندرانيّ: 1 / 10.

النبيّين والأولياء والصالحين، ومحمّدٍ المصطفى وعليّ المرتضى، لأنّهم الآباء النجباء، وشمت بالأئمّة الأتقياء، وشمت بكلّ مَن يعرف الغَيرة والحميّة والحفاظ والنبل والكرامة والعزّة على طول خطّ التاريخ وحركة الإنسان، فجزع لشماتته كلُّ غيور، ولكن ما عسانا نفعل اليوم، فليس لنا إلّا الصبر، فإن لم نصبر فماذا نفعل؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، حتّى يحكم الله ويطوي عنّا هذه السنين الحرم، ويبعث فينا قائماً يفرّج عنّا الهمّ والكربات.

المشهد التاسع: المجاهرة بدوافع قتل الإمام (علیه السلام)
اشارة

ربّما أشرنا فيما سبق إلى هذا العنوان في ثنايا الحديث، إذ روى المؤرّخون تأكيد ابن عبّاسٍ على إعلان دوافع محاربة ابن ميسون سيّدَ الشهداء (علیه السلام) وآل أبي طالب، فكرّر أنّه إنّما فعل ذلك عداوةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته،وأضاف سبط ابن الجوزيّ في (التذكرة) قوله:

وفي ظنّك أنّك أخذتَ بثأر أهلك الكفَرة الفجَرة يوم بدر، وأظهرتَ الانتقام الّذي كنتَ تخفيه، والأضغانَ الّتي تكمن في قلبك كمَون النار في الزناد، وجعلتَ أنت وأبوك دمَ عثمان وسيلةً إلى إظهارها ((1)).

خبر الانتقام له حديثٌ مفصَّلٌ سنأتي عليه في محلّه، إن شاء الله وقدّر لنا بقيةً في العمر، ونكتفي هنا بذكر ما قاله ابن عبّاس بشكل نقاط، إذ أنّه ذكر ثلاث دوافع:

ص: 92


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.
الدافع الأوّل: العداوة لله ولرسوله ولأهل بيته

هذه عناوين ثلاثة إذا أردنا تفصيل الكلام فيها، فعداوة يزيد وآبائه وأجداده لله كانت قبل وبعد بعثة النبيّ محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله) ، منذ أن استعر صراع التوحيد والشرك.

وعداوتهم للرسول (صلی الله علیه و آله) لها دوافع دينيّة ضمن صراع التوحيد والشرك، بالإضافة إلى الأسباب الأُخرى، من قبيل الأسباب التاريخيّة والعشائريّة والأخلاقيّة، من قبيل الحسد والإحساس بالنقص والحقارة أمام أطواد العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق.والعداوة لأهل البيت (علیهم السلام) تجمع السبب الأوّل والثاني، يُضاف إليها سببُ الانتقام والثأر لفطائسهم وجيَفهم المقتولين بسيف أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والنزاع على تراث النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

الدافع الثاني: أخذ الثأر لأهله الكفَرة الفجَرة

أشرنا في أكثر من موضع من هذه الدراسة إلى الدوافع الحقيقة الّتي كانت تحرّك يزيد القرود ومَن سبقه ولحقه من الأُمويّين، وهي تتركّز في قصّة الثأر للكفَرة الفجَرة يوم بدر، وغيره من الوقائع والمعارك الّتي سحقت رؤوسهم، وداست كبرياءهم، وحوّلتهم إلى فطائس تتكدّس في القليب، يقتتل الدودُ في قحف جماجمهم.

الانتقام الّذي يكمن فيهم كمون النار في الزناد.. انتقامٌ لا ينفكّ عنهم، وإنّما هو يسري في كلّ جزئيّةٍ وخليّةٍ من خلايا كيانهم الملوّث الوسخ.. النار

ص: 93

تكمن في ذات الزناد.. في ذرّات وجوده وذات كيانه.. كذلك هو الانتقام في ذات يزيد والأُمويّين..

وقد صرّح سليلهم المجدور وأعلنها صريحةً وقحةً قبيحةً بشعةً شنيعةً حين ترنّم بقوله: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا..»!

لا محيص ولا مجال للإنكار والمراوغة والتستّر والبحث عن الدوافع، بعد أن صرّح بها مرتكب الجناية نفسه وأصحر بها وتحمّل مسؤوليّتها.

إنّه يطلب ثأر أشياخه بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقد خطّط لذلك وأعدّواستعدّ، وأقدم ونفّذ ما أراده منه الأشياخ!

إنّه هو الّذي أقدم يبتغي تحقيق مآربه وأغراضه، فهاجم الإمام (علیه السلام) في المدينة، ثمّ هاجمه في مكّة الحرم الآمن، ثمّ لاحقه واستقبله بالخيل والرجال والعُدّة والعدد، وعاجله ولم يطاوله، ورفض الموادعة معه، ومنعه من الرجعة، وأحاطت به عساكره، ولم يقبل منها إلّا أن تقتله ومَن معه!

إنّه هو الّذي ابتدأ وهجم، وليس الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء!

الدافع الثالث: الانتقام لدم عثمان!

إتّخذ معاوية والأُمويّون دم عثمان ذريعةً قاتلوا بها الحقّ وأهله، فأشعلوا نيران الحروب، وجحفلوا جيوش الانتقام وعساكر الظلام وحشّدوهم تحت قميصه لمحاربة أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) .

وكان من ذرائعهم الّتي صرّحوا بها في أكثر من موضع وموقف أيّام هجومهم وتربّصهم بسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، كما فعل ابن زيادٍ حين أمر عمر بن

ص: 94

سعد أن يمنع الإمام (علیه السلام) ومَن معه الماء ليقتل الإمام الحسين (علیه السلام) عطشاً ونساؤه وبناته ينظرون إليه، وقال: كما قُتل عثمان!

وقد أشرنا فيما سبق إلى هذا الدافع، ونكتفي هنا بإضافة شاهدٍ جديدٍ يعضد الشواهد السابقة، حيث شهد ابن عبّاسٍ على ذلك، وأعلن أنّ معاوية ويزيد اتّخذا من دم عثمان وسيلةً وذريعةً لينتقما لدماء الشرك العفنة في بدر وغيرهامن المواقع.

ويُلاحَظ في تعبير ابن عبّاسٍ ذكاءً ونباهةً ظريفة، إذ أنّه عبّر عن الانتقام لدماء الجاهليّة والثأر لأهله الكفرة الفجرة يوم بدر ب-- (أخذ الثأر)، فيما عبّر عن دم عثمان بالوسيلة والذريعة: «وجعلت.. دم عثمان وسيلةً إلى إظهارها».

يُشعِر هذا التفريق بالتعبير أنّ دماء الجاهليّة أُريقت على يد الله وقدرته المبسوطة في الأرض أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) ، وقد حصد رؤوسهم حصداً وجعل جثثهم أكداساً في قليبٍ واحد، فلِمثل يزيد العهر أن يستشيط غضباً ويتميّز غيضاً ليثأر لدمٍ قد أُريق بالفعل بيد الحقّ ورجاله.

أمّا دم عثمان، فليس لأمير المؤمنين وأولاده (علیهم السلام) يدٌ فيه، لا من قريبٍ ولا من بعيد، فهو إنّما يتّخذ ذلك ذريعةً ووسيلةً لإظهار الانتقام لتلك الدماء الجاهليّة.

وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ ابن ميسون يزيد العهر والمجون يريد أن ينتقم لدماء أشياخه الكفرة الفجرة، بَيد أنّه يتذرّع للوصول إلى هذا الثأر من خلال توظيف دم عثمان

ص: 95

الّذي أُهرق في الإسلام!

ولكن لا ننسى أنّ يزيد أصحر وأعلن وتجاهر بكلّ وقاحةٍ وجرأةٍ وتنمُّرٍ وتمرُّدٍ وغلاظةٍ وفظاظةٍ وجموحٍ وشراسةٍ وعتوٍّ عن الانتقام لأشياخ الكفر والشرك: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا..».

المضمون السابع: ابن عبّاس صاحب الدم والثأر!

عدّ ابنُ عبّاسٍ نفسه صاحب الثأر ووليّ الدم، فقال:

وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، فإن يشأ اللهُ لا يطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري ((1)) ... فلا يعجبنّك إن ظفرت بنا اليوم، فوَاللهِ لَنظفرن بك يوماً ((2)).

ربّما كان هذا شاهدٌ لما ذكرناه قبل قليلٍ من تعليل نسبة شهداء الطفّ من آل أبي طالب إلى عبد المطّلب، باعتباره الرأس الّذي يجتمع فيه ابن عبّاسٍ معهم، لتكون له رحمٌ وسببٌ يتّصل بهم.

فعاد هنا ليقول: «قتلتَ بني أبي»، ولا شكّ أنّ أحداً من بني العبّاس _ الأب المباشر لابن عبّاس _ لم يكن في عداد الشهداء، إذ لم يحضر منهم أحدٌ أبداً! فلابدّ أن يقصد بالأب هنا الجدَّ الأعلى، وهو عبد المطّلب!

ص: 96


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
2- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، الكامل لابن الأثير: 3 / 218، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

ولمّا كانت الدماء دماء أبناء أبيه، فهي بالتالي دماؤه الّتي تقطر من سيف يزيد، وله أن يطالب بها ويجعل يزيد من ثاراته.

ويُلاحَظ أنّ ابن عبّاسٍ يتكلّم هنا بضمير المفرد، ليكون هو بالذات صاحبالدم المطلول والثأر المطلوب، غير أنّه ينتقل بالضمير من المفرد إلى الجمع حين يتحدّث عن الظفر، فيقول: «إن ظفرتَ بنا اليوم.. لَنظفرنّ بك يوماً».

ومن الواضح أنّ ابن عبّاسٍ هو أحد أحفاد عبد المطّلب وأحد بني عمومة المستشهَدين في كربلاء، فليس هو الطالب الوحيد بالدماء الزاكية، وليس هو وليّ الدم جزماً في حكم الشرع والعرف والدين والقوانين الاجتماعيّة السائدة، وقد ردّ هو وأمثاله على معاوية يوم تذرّع بالثأر لدم عثمان: إنّ لعثمان أولاداً، وهم أَولى بدمه من أبناء العمومة.

فمن خوّل ابنَ عبّاسٍ ليكون وليَّ الدماء الزاكية في كربلاء مع وجود بقيّة عقيل بن أبي طالب البطل المقدام أبي الشهداء الّذين استأصلهم يزيد وجنوده في كربلاء؟!

ومع وجود عبد الله بن جعفر أبي الشهداء وزوج السيّدة الصدّيقة الكبرى زينب الحوراء شريكة الحسين والطالبيّة المسبيّة؟!

ومع وجود عمومة المستشهَدين وإخوة سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، كمولانا المكرّم المعظّم محمّد ابن الحنفيّة؟!

والأهمّ من ذلك، مع وجود الوليّ الشرعيّ والعرفيّ بحكم الكتاب والسنّة

ص: 97

وأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) وجميع الأعراف السائدة، وهو الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) ؟!!

أجل، ربما كان من الجميل أن يُعِدّ ابنُ عبّاسٍ نفسه موتوراً، وله أن يثأرلتلك الدماء الزاكية كواحدٍ من الأرحام والأقرباء، أو واحدٍ من أُمّة جدّهم خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) ، غير أنّ عباراته ونَفَسه والروح المتصاعد من عباراته يأبى الحمل على هذا التوجيه والاحتمال.

وسنسمع بعد قليلٍ تأكيده على أنّ حربه مع يزيد لا تعدو الحرب الكلاميّة!

* * * * *

ربّما يُقال: إنّ ابن عبّاسٍ قد وفّر بهذه الدعوى وانتحال الدماء ومسؤوليّة الثأر لها الغطاء الشرعيّ لأولاده، ولقّنهم ما ينبغي لهم أن يفعلوه، ويحسن بهم أن يوظّفوه، ليرفعوا فيما بعد راية الانتقام والثأر لدم الإمام الحسين (علیه السلام) وأولاد عبد المطّلب، ليظفروا بما يحلموا به ويبنوا دولتهم على أشلاء شهداء الطفّ، ويرفعوا صروح ملكهم على ظليمة آل أبي طالب، مستمدّين عناصر القوّة والظفر من وهج دم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإن ظفر يزيد بهم اليوم، لَيظفرنّ به بنو عبد الله بن العبّاس يوماً.. «ظفرتَ بنا.. لَنظفرنّ بك».

المضمون الثامن: نوع المواجهة بين ابن عبّاسٍ ويزيد

• (وأيمُ الله، إنّك) ولَعمري لئن كنتَ تُصبح وتُمسي آمِناً لجرح يدي، إنّي

ص: 98

لَأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي ((1)).

• لَعمر الله، لئن كنتَ تُصبح آمناً من جراحة يدي، فإنّي لَأرجو أن يُعظِم اللهُ جرحَك من لساني ونقضي وإبرامي ((2)).

أقسم ابن عبّاسٍ بالله في لفظ: «أيم الله»، «لَعمر الله»، وبحياته في لفظ: «لَعمري»، أنّ يزيد الّذي يُصبح ويُمسي آمناً من جراحة يد ابن عبّاس، يرجو أن يعظم جراحه من لسانه ونقضه وإبرامه.

فهو كأنّه يقدّم ضماناً ضمنيّاً ليزيد أنّه سيبقى آمناً من أيّ إقدامٍ عمليّ يمكن أن يقوم به ابن عبّاس ضدّه، وأنّ عمليّات الهجوم العبّاسيّ ستقتصر على الدائرة الإعلاميّة الشخصيّة، بتوظيف لسانه ونقضه وإبرامه الشخصيّ، لا يتعدّى ذلك، فالحرب الّتي أعلنها ابن عبّاسٍ في خضمّ هذه الغضبة العارمة لا تعدو أن تكون حرباً كلاميّةً يعمل فيها اللسان دون اليد والسيف والسنان، وربّما كان ذلك لالتزامه البيعة والعمل بمقتضاها الّذي يمنع عليه الخروج على السلطان!

وقد سمعناه قبل قليلٍ يهدّد بالظفَر بيزيد يوماً ما، فربّما كان يهدّده بما خطّط لمستقبل السنين والأيّام حين تقوى شوكة أولاده وذراريه، ليظفروا بحكم الأُمويّين!

ص: 99


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.
المضمون التاسع: ابن عبّاس يرى نفسه أهلاً للمُلك وأحقّ به

أكّد ابن عبّاسٍ في كتابه على حقّه وحقّ بني أبيه وبني عمّه في هذا الأمر، فهو بايع معاوية وبايع يزيد وهو على علمٍ ويقينٍ بحقّه.

قال في لفظ اليعقوبيّ:

وإنّي لَأعلم أنّ بني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك ((1)).

وفي لفظ (أخبار الدولة العبّاسيّة):

وإنّي لَأعلم أنّي وجميع ولد أبي أحقّ بهذا الأمر منكم ((2)).

وفي لفظ الخوارزميّ وغيره:

وإنّك لتعلم أنّي ووُلد أبي أحقّ بهذا الأمر منك ومن أبيك ((3)).

وفي لفظ سبط ابن الجوزيّ:

إلّا وأنا أعلم أنّ وُلد أبي وعمّي أَولى بهذا الأمر منك ((4)).يُلاحَظ القدر المتيقّن الوارد في جميع هذه الألفاظ أنّ ابن عبّاسٍ يرى نفسه أحقّ بهذا الأمر، وكذا يرى هذا الحقّ لإخوته وأبناء أبيه، ويُضاف إليها

ص: 100


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة.
2- أخبار الدولة العبّاسيّة: 88.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 189، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 247.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

وفق بعض النصوص حقّ بني عمّه.

كيف كان، فإنّ ابن عبّاسٍ يرى نفسه أهلاً لهذا الأمر، ويريدها لنفسه ولبني أبيه، وهذا يعني أنّه لا يراه في بني عمّه خاصّة، ولا يراها خالصةً لمن نصّ عليهم ربُّ الأرباب وأعلنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) صريحةً في كلّ موضع ووقتٍ ومكانٍ في الغدير وغيره، وكأنّ ابن عبّاس لم يروِ أحاديث النصّ على الأئمّة الاثني عشر، أو أنّ حَبر الأُمّة وترجمان القرآن يفسّرها تفسيراً خاصّاً، ويحصر النصّ عليهم في شؤون خاصّةٍ دون شأن الأمر الّذي تكالبت عليه الرجال!

وهو يراها فيهم (بني العبّاس) منذ أن أُزيحت عن مستقرّها بعد شهادة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورحيله، إذ أنّه يرجع ذلك إلى تكاثر معاشر قريش الّذين استأثروا بسلطانهم! حتّى دفعوهم عن حقّهم، وتولّوا الأمر دونهم، وأخذوا ما ليس لهم بحقّ، وتعدّوا إلى مَن له الحقّ.

إنّه سلطانهم المغتصَب، ينسب السلطنة إليهم، ولا يمكن حمل مراده على الدفاع عن حقّ أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) بعد أنّ صرّح باعتقاده بحقّه الشخصيّ وحقّ بني أبيه، لأنّهم _ على ما يبدو _ أبناء عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) مباشرةً دون واسطة، والإمام الحسن والحسين (علیهما السلام) أحفاد عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فهم أولاد عمٍّ بالواسطة، فابن عبّاس وإخوته أقرب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) من أبناء أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، وإن كانت المقارنة بينه وبين أمير المؤمنين (علیه السلام) فهما سواءٌ بالقرب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) بزعمه!

فهو على أقصى تقديرٍ إن ذكر أبناء عمّه (أبي طالب) باعتبار قربهم من

ص: 101

النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستحقاقهم الأمر بهذا المعيار، فإنّه وأبناء أبيه يستحقّونها بنفس المعيار.

وكيف كان، فإنّه لم يزحزحها عن نفسه، ويعتقد بحقّه فيها، وإن لوّح وفق بعض النصوص بأبناء عمّه من دون تحديد المراد من أبناء العمّ وأيّ عمٍّ من أعمامه، إذ أنّ جميع النصوص ذكرت ادّعاءها لنفسه ونسبتها إليه والتنويه بحقّه فيها، وهدّد بالله وبعذابه لمن ظلمهم وزحزحها عنهم!

* * * * *

روى ابن أبي الحديد في (شرح النهج) والعلّامة في (البحار)، قال _ واللفظ للأوّل _ :

وقد رُوي أنّه قال لمّا ولّى عليٌّ (علیه السلام) بني العبّاس على الحجاز واليمن والعراق: فلماذا قتلنا الشيخ بالأمس؟

وإنّ عليّاً (علیه السلام) لمّا بلَغَته هذه الكلمة أحضره ولاطفه واعتذر إليه، وقال له: فهل ولّيتُ حسناً أو حسيناً أو أحداً من وُلد جعفر أخي أو عقيلاً أو واحداً من ولده؟ وإنّما ولّيتُ ولد عمّي العبّاس، لأنّي سمعت العبّاس يطلب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) الإمارة مراراً، فقال له رسولالله (صلی الله علیه و آله) : يا عمّ، إنّ الإمارة إنْ طلبتها وكلت إليها، وإن طلبتك أعنت عليها. ورأيت بنيه في أيّام عمر وعثمان يجدون في أنفسهم إذ ولّى غيرهم من أبناء الطلقاء ولم يولِّ أحداً منهم، فأحببتُ أن أصل رحمهم وأُزيل ما كان في أنفسهم، وبعد فإن علمت أحداً من أبناء الطلقاء هو خيرٌ منهم فأتِني

ص: 102

به.

فخرج الأشتر وقد زال ما في نفسه ((1)).

طلب الرئاسة والزعامة وحبّ السلطنة طبعٌ قديمٌ في بعض الرجال، وما أكثر الشواهد والمشاهد والمقالات لمن أراد أن يُثبتها من أقوالهم وأفعالهم وسلوكيّاتهم وأخلاقيّاتهم، ويجدها ساريةً معرّقةً في أبنائهم وذراريهم، حتّى نالوها متسربلين بالدماء الزاكية، وقتلوا عليها الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) على علمٍ منهم، غير أنّ هذه الدراسة مخصّصةٌ للبحث عن ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلا ضرورة لتتبّع أحوال فلانٍ وعلّانٍ إلّا بالمقدار الّذي يتعلّق بمسير البحث خاصّة ((2)).ومهما يكن، فإنّ هذا المضمون المنصوص عليه في الكتاب من المضامين المهمّة غاية الأهميّة وجديرة بالتعمّق والإمعان.

ص: 103


1- شرح النهج لابن أبي الحديد: 15 / 99، بحار الأنوار للمجلسيّ: 42 / 176.
2- لا نحبّ تضييع بقيّة العمر الّذي نأمل أن يكون خيراً ممّا مضى في أُمورٍ تضيع فيه فرص التوبة والاستغفار والتعويض عمّا فات، فخدمة آل الله وآل محمّدٍ والأئمّة الأطهار وسيّد شباب أهل الجنة (علیهم السلام) كفّارةٌ للذنوب ومغفرةٌ ومجلبةٌ لرضى الربّ والرسول (صلی الله علیه و آله) وفاطمة وأولادها النجباء (علیهم السلام) ، أمّا خدمة غيرهم فمتوقّفٌ على رضاهم بها! اللّهمّ ارزقنا حُسن العاقبة، واختم لنا بخير، وأمتنا على ما مات عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأولاده المعصومون (علیهم السلام) ، واكتبها لنا ولذريّاتنا إلى يوم الدين، واستعملنا فيما تسألنا غداً عنه.
المضمون العاشر: بي وبهم عززتَ وجلستَ مجلسك

بعد أن ذكر ابن عبّاسٍ ما جرى على أهل بيت النبوّة في كربلاء وتركهم صرعى على الرمضاء من غير تجهيزٍ ولا كفنٍ ولا دفن، قال:

وبي _ واللهِ _ وبهم لو عززتَ وجلستَ مجلسك الّذي جلست يا يزيد ((1)).

وفي لفظ الطبرانيّ وعنه الهيثميّ خاصّة:

وبهم _ واللهِ _ وبي مَنّ الله عليك، فجلستَ في مجلسك الّذيأنت فيه ((2)).

يُلاحَظ تقديم ابن عبّاسٍ نفسه على المستشهَدين من أبناء عبد المطّلب! بما فيهم سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وفق رواية اليعقوبيّ وابن الأثير والخوارزميّ وغيرهم.

وفي رواية الطبرانيّ وعنه الهيثميّ، يقدّمهم على نفسه في الذكر.

وتقديم نفسه له دلالاته الّتي يتلقّفها اللبيب الحصيف، ولكن بغضّ النظر عن التقديم والتأخير، فإنّه على كلّ حالٍ حشر نفسه مع أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ،

ص: 104


1- أٌنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.
2- المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

وأنّ مَن ملك من القوم إنّما مَلَك بحقّه، وبما جعله الله له من شرفٍ ومنزلة، فهو بذاته محورٌ وقطبٌ مقابل أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) والمستشهدين في كربلاء، بما فيهم سيّد الكائنات في عصره الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) .

ص: 105

ص: 106

تعليقاتٌ سريعة

التعليقة الأُولى: كتاب ابن عبّاسٍ ردٌّ وليس ابتداء!

شهدَت جميعُ المتون التاريخيّة الّتي روت كتابَ ابن عبّاسٍ أنّه كان ردّاً على ما كتبه إليه ابن ميسون، فهو ليس مبادرة من ابن عبّاس، وكأنّ ابن عبّاسٍ كان إلى حين وصله كتاب يزيد ساكتاً صامتاً ساكناً، لم تبدر منه بادرةٌ مباشرةٌ مع يزيد، فلمّا كتب إليه يزيد يخطب ودّه ويدعوه لنصرته ويغريه بالصلة، تملّكه الغضب وهزّه الغيظ لجرأة هذا القرد المتميّع الخليع الماجن ووقاحته وصلابة وجهه وصلافته، لذا تجده يكرّر في كتابه تعجّبه منه أن يُقدِم على ما أقدم عليه من خطابٍ في كتابه بعد أن فعل ما فعل.

فكتاب ابن عبّاسٍ ليس فعلاً، وإنّما هو ردّ فعل، وليس فاعلاً، وإنّما هو منفعل! فلا يمكن أن يُسجَّل كموقفٍ مستقلٍّ أقدم عليه ابن عبّاسٍ يقرّع به يزيد ويوبّخه ويهدّده ويتهجّم عليه بلسانه دون يده وسنانه.

والفرق كبيرٌ جدّاً بين أن يكون ابن عبّاس مبتدئاً بالكتابة، وبين كونه كتب ردّاً، وصدّ موقفاً، وانزعج من تحرّشٍ وقح!

ص: 107

التعليقة الثانية: لماذا لم يكتب ابن عبّاسٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

كان _ ولا زال _ لابن عبّاسٍ وجاهةٌ خاصّة، وكان يرى في نفسه ما يؤهّله للمُلك والخلافة ويسمح له باعتراض الإمام الحسين (علیه السلام) _ سيّد الكائنات في عصره _ والحديث معه بقوّةٍ بلغة الندّ في أبهت التصويرات، ويرى لنفسه مكانةً ومنزلةً ومقاماً عند الأُمّة والحكّام تميّزه عن الآخرين، وهو كذلك.

وقد أقرّ في كتابه هذا وشهد أنّ يزيد المسعور هو الّذي كان يُلاحِق سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويريد قتله، مهما كلّفه الأمر وبأيّ ثمنٍ تحقّق ذلك، فهو يعترف أنّ يزيد هو المعتدي، وهو المهاجِم، وهو الّذي عدا على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ليقتله من دون أن يكون الإمام (علیه السلام) قد حرّك ساكناً أو قصد قصداً يهدّده.

فلماذا لم نسمع من ابن عبّاسٍ كلمة توبيخٍ أو تهديدٍ أو كتاباً (ناريّاً) _ كما وصفوه _ مثل هذا الكتاب الّذي كتبه بعد شهادة الإمام (علیه السلام) حين تحرّش به يزيد؟

لماذا لم يوظّف قدراته ونفوذه وإمكاناته لصدّ يزيد ومنعه من ارتكاب الجناية العظمى؟!

لماذا لم يتحرّك في كلّ اتجاه، ولم يتدخّل ولو عند والي مكّة الطاغية العنيد، أو يكتب إلى طاغية الشام يزيد ويكلّمه بلغة التهديد والوعيد والتخويفويخذّله عن مواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) وملاحقته؟

لماذا لم نسمع له خطاباً في الموسم في مكّة أو المدينة أو كتاباً لوجهاء

ص: 108

الكوفة أو غيرها من البلدان، أو أيّ خطوةٍ أو حركةٍ يمكن أن تصنَّف لصالح الإمام (علیه السلام) والدعوة إلى نصرته، أو ضدّ يزيد والتخذيل عنه؟!

سؤالٌ يمكن أن يتقدّم به متابع بين يدي ابن عبّاس، ولمن أراد الجواب عنه أن يتمعّن أوّلاً في حركة ابن عبّاس وفعاليّاته وأقواله وحواراته وكلماته أيّام تواجد الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة وإشراقها بنور محيّاه.

التعليقة الثالثة: التزام ما التزمه سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!

مرّ معنا: أنّ ابن عبّاسٍ كان يحاول بشتّى الوسائل إقناع الإمام (علیه السلام) في مكّة ليثنيه عن عزمه عن التوجّه إلى الكوفة، وكان يحاول جاهداً ليُثبت له أنّه على خطأ _ والعياذ بالله _ وأنّ على الإمام (علیه السلام) العمل بمشورته، غير أنّه تبيّن له فيما بعد أن رأيه كان خطأً وخطلاً وزللاً، وأنّ ما كان يقوله سيّد الشهداء (علیه السلام) ويخبره به عن الوقائع المحيطة به هو الصحيح تماماً.

هذا على أفضل الفروض وأرقّها في حسن الظنّ.

بَيد أنّ ابن عبّاسٍ يبدو من خلال كتابه هذا أنّه أدرك، أو قبل، أو رضخ للوقائع، وجعل يُعلِن عن ذلك، لأيّ دافع ولأيّ سبب.فكان الأحرى بمثل أبي الفرج وسبط ابن الجوزيّ وغيرهما ممّن تقوّل على الإمام (علیه السلام) وافترى على لسانه أنّه ذكر قول ابن عبّاسٍ وإشاراته، فقال: لله درّ

ص: 109

ابن عبّاسٍ فيما أشار علَيّ به ((1))، وأنّ هذا هو معنى قول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر من سترٍ رقيق ((2))..

كان الأحرى بأمثال هؤلاء الّذين كشف لهم ابن عبّاسٍ نفسه في هذا الكتاب أنّه كان على خطأٍ ذريعٍ فظيعٍ شنيع، أن يقولوا على لسان ابن عبّاس:

لله درّك يا سيّد الشهداء يا حسين، لقد أحطتَ بما أحاط بك علماً، وكنتَ تنظر إلى الغَيب دون حجابٍ ولا سترٍ رقيق!

وكان الأحرى بغير هذين وأمثالهما من جميع العالمين أن يدقّقوا في أقوال سيّد الشهداء (علیه السلام) واعترافات ابن عبّاس، الّتي قرّرها في هذا الكتاب وشهد بها لجميع ما قاله وأخبره به سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيلتزموا ما ينبغي التزامه!

التعليقة الرابعة: توظيف كتاب ابن عبّاس

أشرنا فيما مضى إلى جملةٍ من الأحداث والمصائب الّتي ذكرها ابن عبّاس، والتأمّل في الكتاب يفيد أنّه قد واكب حركة الركب الحسينيّ الحزين منالمدينة إلى الشام، بعباراتٍ مقتضبة، لكنّها ملأى مكتظّةً بالوقائع مزدحمةً بالحوادث، فيمكن أن يعالج كتاب ابن عبّاسٍ وتُوظَّف كلُّ فقرةٍ منه ضمن الفترة الّتي وقعَت فيها أحداثها وأخبارها، فتأتي مقاطع الكتاب على التوالي، فما

ص: 110


1- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
2- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137.

يخصّ الخروج من المدينة في أحداث المدينة، وما يخصّ مكّة في أحداث مكّة، وما يخصّ كربلاء في كربلاء، وما يخصّ الشام في الشام، وهكذا..

إذ أنّ ابن عبّاسٍ المعاصر بما يحتويه من رمزيّةٍ يُعدُّ راوياً لمقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وناقلاً لجمل من أخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) في كتابه هذا.

التعليقة الخامسة: باقي بني العبّاس!

أولاد العبّاس بن عبد المطّلب:

· الفضل.

· عبد الله.

· عُبيد الله.

· عبد الرحمان.

· قثم.

· معبد.

· عَون.· الحرث.

· كثير.

· تمام.

ص: 111

· وفي رواية أبي طالب الأنباريّ زيادة: مليك ((1)).

فهم _ على أقلّ تقدير، وفق ما ذكره السيّد بحر العلوم (رحمة الله) وغيره _ عشرة، بغضّ النظر عن التحقيق والنفي والإثبات، وهؤلاء العشرة لم نجد لهم ولا لأحدٍ من أولادهم أو أحفادهم _ بما فيهم أولاد عبد الله بن عبّاس نفسه _ خبراً في كربلاء، ولا قبل كربلاء فيما يخصّ ما جرى على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم نقف لهم على موقفٍ خاصٍّ مميّزٍ سوى هذا الكتاب المرويّ عن عبد الله.

فأين كانوا؟!

وماذا فعلوا قبل وبعد كربلاء؟!

وهل شملهم كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) _ الّذي رواه صاحب (البصائر) والطبريّ الشيعيّ في (الدلائل) وغيرهما كثير عن الإمام الصادق (علیه السلام) _ الّذي دعا فيه بني هاشم وقال: «مَن لحق بي منكم استُشهد، ومَن لم يلحق لم يبلغ الفتح»؟!!

ص: 112


1- أُنظر: الفوائد الرجاليّة للسيّد بحر العلوم: 1 / 244.

إبن الزبير والإمام (علیه السلام)

اشارة

إبن سعدٍ ومَن تلاه:

ولزم ابن الزبير الحجَر، ولبس المعافريّ، وجعل يحرّض الناس على بني أُميّة.

وكان يغدو ويروح إلى الحسين ويشير عليه أن يَقدِم العراق! ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك ((1)).

مصعب الزبيريّ، وابن عساكر مسنداً:

قال المصعب: وأخبرت عن هشام بن يوسف الصنعانيّ، عن معمّر قال: سمعتُ رجلاً يحدّث، قال: سمعتُ الحسين بن عليّ يقول لعبد الله ابن الزبير: «أتتني بيعة أربعين ألف رجلٍ (يحلفون لي بالطلاق

ص: 113


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

والعتاق) ((1)) من أهل الكوفة»، أو قال: «من أهل العراق».

فقال له عبد الله بن الزبير: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟

قال هشام بن يوسف: فسألتُ معمّراً عن الرجل، فقال: هو ثقة.

(قال عمّي): وزعم بعض الناس أنّ ابن عبّاس هو الّذي قال هذا ((2)).

البلاذريّ:

• قالوا: وعرض ابن الزبير على الحسين أن يُقيم بمكّة، فيبايعه، ويبايعه الناس، وإنّما أراد بذلك أن لا يتّهمه وأن يعذر في القول.

فقال الحسين: «لئن أُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيها، ولئن أُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل خارجاً منها بشبر» ((3)).

• فأتاه [ابن الزبير] يوماً فحادثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وأولي الأمر منهم،فخبرني بما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «واللهِ لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، فإنّ شيعتي بها،

ص: 114


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.
2- أُنظر: نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 239، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 375.

وأشراف أهلها قد كتبوا إليّ في القدوم عليهم، وأستخير الله».

فقال ابن الزبير: لو كان لي بها مثل شيعتكم ما عدلتُ بها.

ثمّ خشي أن يتّهمه، فقال: إنّك لو أقمتَ بالحجاز ثمّ أردت الأمر هاهنا، ما خولف عليك إن شاء الله. ثمّ خرج من عنده.

فقال الحسين: «ما شيءٌ من أمر الدنيا يُؤتاه أحبّ إليه من خروجي عن الحجاز؛ لأنّه قد علم أنّه ليس له معي من الأمر شيء» ((1)).

محمّد بن سليمان الكوفي:

[حدّثَنا أبو أحمد، قال: أخبرنا عليّ بن الحسن البراز]، قال شبابة [بن سوار]: وحدّثنا قيس بن الربيع، عن عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال:

لقي عبدُ الله بن الزبير الحسينَ بن عليّ يتوجّه إلى العراق، فقال: أين تريد؟ قال: «العراق». قال: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، ولا أراهم إلّا قاتليك. قال: «وأنا أرى ذلك» ((2)).

الدينوريّ:وبلغ عبد الله بن الزبير ما يهمّ به الحسين، فأقبل حتّى دخل عليه، فقال له: لو أقمتَ بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيت عمّال يزيد

ص: 115


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315.
2- المناقب لمحمّد بن سليمان: 2 / 262 الرقم 727.

عن هذا البلد، وعلَيّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملت بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله ((1)).

الطبريّ:

• وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! خبّرْني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «واللهِ لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشرافُ أهلها، وأستخير الله».

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلتُ بها.

قال: ثمّ إنّه خشي أن يتّهمه، فقال: أما إنّك لو أقمتَ بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، ما خُولف عليك إن شاء الله. ثم قام فخرج مِن عنده.فقال الحسين: «ها إنّ هذا ليس شيءٌ يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لم يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجتُ منها لتخلو له» ((2)).

• قال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي حيّة، عن عَديّ بن حرملة الأسديّ، عن عبد الله بن سليم والمذريّ بن المشمعل الأسديَّين قالا:

ص: 116


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 243.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 383.

خرجنا حاجّين من الكوفة حتّى قدمنا مكّة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمَين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجْر والباب.

قالا: فتقرّبنا منهما، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئتَ أن تقيم أقمت، فوليت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك.

فقال له الحسين: «إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

فقال له ابن الزبير: فأقِمْ إن شئت، وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تعصى.فقال: «وما أُريد هذا أيضاً».

قالا: ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتّى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجّهين إلى منى عند الظهر.

قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ من شعره، وحلّ من عمرته، ثمّ توجّه نحو الكوفة، وتوجّهنا نحو الناس إلى منى ((1)).

• قال أبو مخنف: عن أبي سعيد عقيصا، عن بعض أصحابه، قال:

سمعتُ الحسين بن عليّ، وهو بمكة، وهو واقفٌ مع عبد الله بن الزبير، فقال له ابن الزبير: إليّ يا ابن فاطمة! فأصغى إليه، فسارّه.

ص: 117


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

قال: ثمّ التفت إلينا الحسين، فقال: «أتدرون ما يقول ابن الزبير؟»، فقلنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: «قال: أقِمْ في هذا المسجد، أجمعُ لك الناس».

ثمّ قال الحسين: «واللهِ لَئن أُقتَل خارجاً منها بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت اليهودُ في السبت» ((1)).المسعوديّ:

وبلغ ابن الزبير أنّه يريد الخروج إلى الكوفة، وهو أثقل الناس عليه، قد غمّه مكانه بمكّة؛ لأنّ الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيءٌ يُؤتاه أحبّ إليه من شخوص الحسين عن مكّة.

فأتاه فقال: أبا عبد الله، ما عندك؟ فواللهِ لقد خفتُ الله في ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم، واستذلالهم الصالحين من عباد الله.

فقال حسين: «قد عزمتُ على إتيان الكوفة».

فقال: وفّقك الله! أما لو أنّ لي بها مثل أنصارك ما عدلتُ عنها.

ثمّ خاف أن يتّهمه، فقال: ولو أقمتَ بمكانك، فدعوتنا وأهل الحجاز إلى بيعتك أجبناك، وكنّا إليك سراعاً، وكنتَ أحقّ بذلك من يزيد وأبي يزيد ((2)).

ص: 118


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 385.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167.

أبو الفرج:

فأزمع الشخوص إلى الكوفة، ولقيه عبدُ الله بن الزبير في تلك الأيام، ولم يكن شيءٌ أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق؛ طمعاً في الوثوب بالحجاز، وعلماً بأنّ ذلك لا يتمّ له إلّا بعد خروج الحسين (علیه السلام) .

فقال له: على أيّ شيءٍ عزمتَ يا أبا عبد الله؟ فأخبره برأيه في إتيانالكوفة، وأعلمه بما كتب به مسلم بن عقيل إليه، فقال له ابن الزبير: فما يحبسك؟ فواللهِ لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلوّمت في شيء. وقوّى عزمه، ثمّ انصرف ((1)).

القاضي النعمان:

فلمّا همّ بالخروج من مكّة، لقيه ابنُ الزبير فقال: يا أبا عبد الله، إنّك مطلوب، فلو مكثتَ بمكّة، فكنت كأحد حمام هذا البيت، واستجرت بحرم الله، لَكان ذلك أحسن لك.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يمنعني من ذلك قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : سيستحلّ هذا الحرمَ من أجلي رجلٌ من قريش. واللهِ لا أكون ذلك الرجل، صنع الله بي ما هو صانع.

(فكان الّذي استحلّ الحرم من أجله: ابن الزبير).

عمرو بن ثابت، عن أبي سعيدٍ قال:

ص: 119


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

كنّا جلوساً مع الحسين بن عليّ (علیه السلام) عند جمرة العقبة، فلقيه عبد الله ابن الزبير، فخلا به، ثمّ مضى.

فقال لنا الحسين (علیه السلام) : «أتدرون ما يقول هذا؟ يقول: كُن حمامةً من حمام هذا المسجد. واللهِ لئن أُقتَل خارجاً منه بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيه، ولئن أُقتَل خارجاً منه بشبرين أحبّ إليّ مِن أن أُقتَلخارجاً منه بشبر، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ لَأخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، واللهِ لَيعتدوا فيّ كما اعتدت اليهود في السبت» ((1)).

إبن قولويه (رحمة الله) :

حدّثني أبي (رحمة الله) وعليّ بن الحسين جميعاً، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد ابن أبي الصهبان، عن عبد الرحمان بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن فضيل الرسّان، عن أبي سعيد عقيصا قال:

سمعتُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) وخلا به عبدُ الله بن الزبير وناجاه طويلاً، قال: ثمّ أقبل الحسين (علیه السلام) بوجهه إليهم وقال: «إنّ هذا يقول لي: كُن حماماً من حمام الحرم. ولَئن أُقتَل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبُّ إليّ من أن أُقتَل وبيني وبينه شبر، ولَئن أُقتَل بالطف أحبُّ إليّ من أن أُقتَل بالحرم».

وعنهما، عن سعد، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن داوود بن فرقد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

ص: 120


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

«قال عبد الله بن الزبير للحسين (علیه السلام) : ولو جئتَ إلى مكّة، فكنتَ بالحرم.

فقال الحسين: لا نستحلّها، ولا تستحلّ بنا، ولَئن أُقتَل على تلٍّ أعفرأحبُّ إليّ من أن أُقتَل بها».

حدّثني أبي (رحمة الله) ومحمّد بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن أبيه، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«إنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبد الله بن الزبير، فقال: يا أبا عبد الله، لقد حضر الحجّ وتدعه وتأتي العراق؟! فقال: يا ابن الزبير، لَئن أُدفَن بشاطئ الفرات أحبُّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة» ((1)).

الشجريّ:

(وبه) قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمان بن محمّد بن أحمد الذكوانيّ بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن جعفر بن حيّان، قال: حدّثنا أبو حامد محمّد بن أحمد بن الفرج، قال: حدّثنا محمّد بن المنذر البغداديّ سنة اثنتان وثلاثين ومئتين، قال: حدّثنا سفيان، عن عبد

ص: 121


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.

الله بن شريك العامريّ، عن بشر بن غالب الأسديّ قال:

إنّ ابن الزبير لحق الحسين بن علي (علیهما السلام) ، قال: أين تريد؟ قال:«العراق».

قال: هم الّذين قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وأنا أرى أنّهم قاتلوك. قال: «وأنا أرى ذلك».

قال: فأخبِرْني عن المولود، متّى يجب عطاؤه؟ قال: «إذا استهلّ صارخاً وجب عطاؤه، وورث وورث».

قال: فأخبِرْني عن الرجل يقاتل عن أهل الذمّة فيؤسر. قال: «فكاكه في جزيتهم».

قال: فأخبِرْني عن الشرب قائماً. قال: حلب الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ناقته تحته، فشرب قائماً.

قال: فأخبِرْني عن الصلاة في جلود الميتة. قال: «فأومأ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) إلى كلّابٍ له عليه فروة، فقال: هذا من جلود الميتة دبغناها، فإذا حضرت الصلاة صلّيتُ فيها» ((1)).

الخوارزميّ:

ثمّ أقبل عبد الله بن الزبير فسلّم عليه، وجلس ساعة، ثمّ قال: أما والله _ يا ابن رسول الله _ لو كان لي بالعراق مثل شيعتك، لما أقمت بمكّة يوماً واحداً، ولو أنّك أقمت بالحجاز ما خالفك أحد، فعلى ماذا نعطي هؤلاء

ص: 122


1- الأمالي للشجريّ: 1 / 174.

الدنيّة ونُطمعهم في حقّنا، ونحن أبناء المهاجرين وهم أبناء المنافقين؟!

قال: وكان هذا الكلام مكراً من ابن الزبير، لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحدٌ يناويه، فسكت عنه الحسين وعلم ما يريد ((1)).

الخوارزميّ، ابن كثير:

قال: (وبهذا الإسناد)، عن والدي، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدّثنا يعقوب بن سفيان، حدّثنا أبو بكر الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال:

قال عبد الله بن الزبير للحسين بن عليّ (علیه السلام) : أين تذهب؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

فقال له الحسين: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ مِن أن تُستحَلّ بي» (يعني مكّة) ((2)).

إبن عساكر، ابن بدران:

أخبرنا أبو القاسم ابن السمرقنديّ، أنبأنا أبو بكر ابن الطبريّ، أنبأنا أبو الحسين ابن الفضل، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب، أنبأنا أبو بكر الحميديّ، أنبأنا سفيان، أنبأنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب أنّه سمعه يقول:

ص: 123


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 219، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.

قال عبد الله بن الزبير لحسين بن عليّ: أين تذهب؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

فقال له حسين: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليّ من أن تُستحلّ بي»، يعني مكّة ((1)).

إبن عساكر، ابن خيّاط:

وخرج الحسين من ليلته، فالتقيا بمكّة، فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوَاللهِ لو أنّ لي مثلهم ما وجّهتُ إلّا إليهم ((2)) (لَذهبتُ إليهم) ((3)).

إبن شهرآشوب (رحمة الله) :

كتاب الإبانة: قال بشر بن عاصم:

سمعتُ أنّ ابن الزبير يقول: قلتُ للحسين بن عليّ: إنّك تذهب إلى قومٍ قتلوا أباك وخذلوا أخاك! فقال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا،أحبّ إلي مِن أن يُستحلّ بي مكّة». عرّض به (علیه السلام) ((4)).

ص: 124


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، مختصر ابن منظور: 12 / 190، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 4 / 170.
3- تاريخ ابن خيّاط: 178.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 245، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 185، العوالم للبحرانيّ: 17 / 54.

إبن الأثير:

وأتاه ابن الزبير فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! خبّرني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «لقد حدّثتُ نفسي بإتياني الكوفة، ولقد كتبَت إليّ شيعتي بها وأشراف الناس، وأستخير الله».

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلتُ عنها.

ثمّ خشي أن يتّهمه، فقال له: أما إنّك لو أقمتَ بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، لما خالفنا عليك، وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك.

فقال له الحسين: «إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

قال: فأقِمْ إن شئت، وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تُعصى.

قال: «ولا أُريد هذا أيضاً».

ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى مَن هناك، وقال:«أتدرون ما يقول؟»، قالوا: لا ندري، جعلنا الله فداءك. قال: «إنّه يقول: أقِمْ في هذا المسجد، أجمعُ لك الناس».

ثمّ قال له الحسين: «والله لَئن أُقتَل خارجاً منها بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقتَل فيها، ولئن أُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتَل خارجاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم، واللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت

ص: 125

اليهودُ في السبت».

فقام ابن الزبير وخرج من عنده، فقال الحسين: «إنّ هذا ليس شيءٌ من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي، فودّ أنّي خرجتُ حتّى يخلو له» ((1)).

سبط ابن الجوزيّ:

ولمّا بلغ ابن الزبير عزمه، دخل عليه وقال له: لو أقمتَ هاهنا بايعناك، فأنت أحقُّ مِن يزيد وأبيه. وكان ابن الزبير أسرَّ الناس بخروجه من مكّة، وإنّما قال له هذا لئلّا ينسبه إلى شيءٍ آخر ((2)).

الطبريّ صاحب (الذخائر):وعن بشر بن غالب، قال عبد الله بن الزبير يقول للحسين بن عليّ: تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

فقال الحسين: «لئن أُقتَل بموضع كذا وكذا، أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي»، يعني الحرم ((3)).

الذهبيّ:

إبن المبارك، عن بشر بن غالب: أنّ ابن الزبير قال للحسين: إلى أين تذهب؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

ص: 126


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 407.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137.
3- ذخائر العقبى للطبريّ: 151.

فقال: «لئن أُقتَل أحبّ إليّ مِن أن تُستحلّ»، يعني مكّة ((1)).

إبن كثير:

ودخل ابن الزبير، فقال له: ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! أخبرني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «والله لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشرافُها بالقدوم عليهم، وأستخير الله».

فقال ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلتُ عنها.

فلمّا خرج من عنده، قال الحسين: «قد علم ابن الزبير أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لم يعدلوا بي غيري، فودّ أنّي خرجتُلتخلو له» ((2)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

فبعد أن خرجوا [ابن عبّاس وجماعة] عنه جاء ابن الزبير، فجلس عنده ساعةً يتحدّث، ثمّ قال: أخبِرْني ما تريد أن تصنع؟ بلغني أنّك سائرٌ إلى العراق.

فقال الحسين: «نعم، نفسي تحدّثني بإتيان الكوفة، وذلك أنّ جماعةً من شيعتنا وأشراف الناس كتبوا إليّ كتباً يحثّونني على المسير إليهم، ويعِدونني النصرة والقيام معي بأنفسهم وأموالهم، ووعدتُهم بالوصول

ص: 127


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 197.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.

إليهم، وأنا أستخير الله (تعالى)».

فقال له ابن الزبير: أما إنّه لو كان لي بها شيعةٌ مثل شيعتك، ما عدلتُ عنهم.

ثمّ إنّه خشي أن يتّهمه، فقال: وإنْ رأيتَ أنّك تقيم هنا بالحجاز، وتريد هذا الأمر، قمنا معك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون ذلك الكبش، والله لَئن قُتلتُ خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقتَل بداخلها، ولئن أُقتَل خارجهابشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتَل بداخلها بشبرٍ واحد».

فقام ابن الزبير وخرج من عنده، فقال الحسين لجماعةٍ كانوا عنده من خواصّه: «إنّ هذا الرجل _ يعني ابن الزبير _ ليس في الدنيا شيءٌ أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلون بي ما دمتُ فيه، فيودّ أنّي خرجتُ منه لتخلو له» ((1)).

السيوطيّ:

فأمّا ابن الزبير، فلم يبايع ولا دعا إلى نفسه، فأشار عليه ابن الزبير بالخروج ((2)).

إبن حجر:

ص: 128


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 206.

ونهاه ابن الزبير أيضاً، فقال له: «حدّثَني أبي أنّ لمكّة كبشاً به يُستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

ومرّ قول أخيه الحسن له: إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك، فيُخرجوك ويسلموك. فتندّم ولات حين مناص، وقد تذكّر ذلك ليلة قتله، فترحّم على أخيه الحسن ((1)).

الدربنديّ (رحمة الله) :ولمّا بلغ عبدُ الله بن الزبير عزْمَ الحسين، دخل عليه وقال: يا ابن رسول الله، إنّك لو أقمتَ هاهنا، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى، بايعناك، فإّنك أحقُّ من يزيد المعلِن بالفسق والفجور، وإنّي أتخوّف عليك إن خرجتَ لا يرعى فيك إلّاً ولا ذمّةً ولا قرابة ((2)).

* * * * *

تضمّنَت هذه النصوص لقاءً حصل بين عبد الله بن الزبير والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي ربّما اتفقَت في بعض المضامين واختلفَت في مضامين أُخرى، يمكن متابعتها من خلال العروض التالية:

العرض الأوّل: تعدّد اللقاء

يبدو أنّ ابن الزبير التقى الإمام (علیه السلام) عدّة مرّات، إذ أنّه كان في جملة مَن

ص: 129


1- الصواعق المُحرقة لابن حجر: 117.
2- أسرار الشهادة للدربنديّ: 245.

يدخلون على الإمام (علیه السلام) .. «وكان يغدو ويروح إلى الحسين» ((1)).ويمكن استفادة تكرّر اللقاء من متابعة النصوص الّتي مرّت بنا، حيث أنّها تختلف في الظروف والمضامين _ أحياناً _ اختلافاً تامّاً.

وسيتّضح بعد قليلٍ من خلال الحديث عن وقت اللقاء ومكانه وغير ذلك أنّ النصوص تتحدّث عن عدّة لقاءاتٍ أو عدّة حوارات.

العرض الثاني: وقت اللقاء

ربّما أفاد ابن سعدٍ وغيره ممّن عدّ ابن الزبير في الداخلين على الإمام (علیه السلام) أنّ أحياناً كثيرةً وأوقاتاً متعدّدةً جمعَت ابن الزبير بالإمام (علیه السلام) ، من دون تحديد وقتٍ على وجه التحديد، غير أنّ نصوص هذا اللقاء الّذي نحن بصدد دراسته أشارت من خلال بعض العبارات إلى بعض الأوقات، وإن كانت عائمةً غائمةً غير محدّدةٍ بالضبط.

وربّما كانت جميعها تفيد _ بنحوٍ ما _ أنّ اللقاء كان بعد أن عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، أو قُبيل خروجه، ويبيّن ذلك من سؤال ابن الزبير عن

ص: 130


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

الخروج إلى العراق: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك؟ وقول الدينوريّ: وبلغ عبد الله ابن الزبير ما يهمّ به الحسين ((1))، وقول الخوارزميّ: وبلغ ابن الزبيرأنّه (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة ((2))، وقول أبي الفرج: فأزمعَ الشخوص إلى الكوفة، ولقيه عبد الله بن الزبير في تلك الأيّام ((3))، وقول القاضي النعمان: فلمّا همّ بالخروج من مكّة لقيه ابن الزبير ((4))، وما شابه ذلك من عبارات المؤرّخين.

فيما قال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ أنّ اللقاء حصل بعد أن خرج ابن عبّاسٍ وجماعةٌ من عند الإمام (علیه السلام) ، فجاءه ابن الزبير وجلس عنده ((5)).

وقد حدّدَت رواية الطبريّ وابن كثير عن الأسديَّين الوقتَ بيوم التروية عند ارتفاع الضحى ((6))، وهو نفس يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، كما صرّح به الخبر نفسه.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبد الله بن الزبير ((7)) وكلّمه.

ص: 131


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 243.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
3- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
4- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
5- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
6- تاريخ الطبريّ: 5 / 384، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
7- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.

وهذه الأوقات المذكورة جميعاً متقاربة، ولا مانع من تكثّرها لتكرّر اللقاء.

العرض الثالث: مكان اللقاء

اشارة

يمكن استكشاف عدّة أماكن من جملة النصوص الواردة في المقام:

المكان الأوّل: عند الإمام الحسين (علیه السلام)

ربّما أفاد قول جملةٍ من المؤرّخين: «وأتاه ابن الزبير» ((1))، وقول آخرين: «ودخل عليه ابن الزبير» ((2))، وقال الدينوريّ: «فأقبل حتّى دخل عليه»، سيّما أنّه يعقب بعد نقل الكلام بقوله: «فقام ابن الزبير وخرج من عنده» ((3))، ويقول ابن كثير: «فلمّا خرج من عنده» ((4)).

وفي قول ابن الصبّاغ والشبلنجيّ، تمّ اللقاء بعد أن خرج ابن عبّاس وجماعة من عند الإمام (علیه السلام) جاء ابن الزبير ((5)).

ص: 132


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويري: 20 / 407.
2- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245.
3- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويري: 20 / 407.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.
5- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

تفيد هذه النصوص جميعاً أنّ ثمة لقاءٌ تمّ عند الإمام (علیه السلام) وفي دارته ومحلّ إقامته.

المكان الثاني: لحقه (علیه السلام) ابن الزبير

في (أمالي الشجريّ): إنّ ابن الزبير لحق الحسين بن عليّ (علیه السلام) ((1))، وفي حديث الإمام الباقر (علیه السلام) : «إنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبد الله بن الزبير، فقال: ...» ((2)).

يبدو أنّ اللقاء حسب الحديث الشريف ومتن الشجريّ تمّ أثناء خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، وهو في الطريق، فالتشييع إنّما يحصل عند المتابعة والمسايرة في طريق الخروج، وهو يفاد من «لحق» في النصّ الأوّل.

المكان الثالث: بين الحِجر والباب

الأسديّان: فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمَين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجر والباب ((3)).

حدّد الأسديّان موضع اللقاء تحديداً دقيقاً، فهو قد حصل في المسجد

ص: 133


1- الأمالي للشجريّ: 1 / 174.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 384.

الحرام فيما بين الحِجر والباب، وكانا قائمَين.

المكان الرابع: عند جمرة العَقبة

نجد في رواية أبي سعيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان جالساً مع جماعةٍ عند جمرة العقبة، فلقيه ابن الزبير ((1))، فيكون اللقاء قد حصل خارج المسجد الحرام، بل في منى خارج مدينة مكّة.

العرض الرابع: هل كان اللقاء بين جماعة، أو كان في خلوة؟

أفادت بعض النصوص أنّ اللقاء جرى على مرأىً ومسمع من جماعة، كالّتي تقول أنّهما تحادثا ثمّ أخفيا كلامهما، ثمّ التفت الإمام (علیه السلام) إلى مَن هناك وعلّق على كلام ابن الزبير ((2)).

وقد صرّح ابن الصبّاغ والشبلنجيّ بوجود جماعةٍ عنده من خواصّه ((3)).

وأفاد الأسديّان كأنّ الإمام (علیه السلام) وابن الزبير كانا يتحدّثان فيما بينهما في المسجد الحرام، فاقتربا منهما حتّى سمعا الكلام، ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما

ص: 134


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
2- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 407، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

وتناجيا دونهما ((1)).

فيما أفاد القاضي النعمان في خبر أبي سعيد أنّهما التقيا في جمرة العقبة، وكان الإمام (علیه السلام) جالساً مع جماعة، بَيد أنّ ابن الزبير خلا به ((2)).

وكذا هي رواية ابن قولويه عن أبي سعيد، باختلاف أنّ الإمام (علیه السلام) أقبل بوجهه إلى مَن معه وأخبرهم بما قاله ابن الزبير ((3)).

العرض الخامس: تحريض ابن الزبير على بني أُميّة

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

ولزم ابن الزبير الحجر، ولبس المعافريّ، وجعل يحرّض الناس على بني أُميّة ((4)).

لقد نصّ المؤرّخ على فعاليّات ابن الزبير ونشاطاته في مكّة، وصرّح بها

ص: 135


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 384، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
3- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
4- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

بوضوح، وأخبر عن تحريضه الناس على بني أُميّة، وربّما دخل في هذا التحريض ما عرضه على سيّد الشهداء (علیه السلام) وتكلّم به بين يديه، إذ أنّه لا يبعد عن تحريض الإمام (علیه السلام) على بني أُميّة ويزيد، وهو يريد أن يصل إلى ما يروم بأيّ ثمنٍ كان وبأيّ وسيلةٍ توفّرت، فهو ثعلبٌ مراوغٌ وماكرٌ خبيث، لا يتورّع ولا يتحرّج، وإن تطلّب منه الأمر توظيف الدم الزاكي للوصول إلى مآربه الهابطة.

قال الشيخ ابن نما:

وكان عبد الله بن الزبير قبل موت يزيد يدعو الناس إلى طلب ثأر الحسين (علیه السلام) وأصحابه، ويغريهم بيزيد ويوثّبهم عليه، فلمّا مات يزيد (لعنه الله) أعرض عن ذلك القول، وبان بأنّه يطلب المُلك لنفسه لا للثأر ((1)).

* * * * *

ولسنا نسمع من المؤرّخين القدماء منهم والمتأخّرين مثل هذا التصريح وهذا البيان والنصّ الواضح يفيد أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد مارس التحريض على بني أُميّة في مكّة، أو التحريض على شخص يزيد الخمور والفجور.ولا مجال لاستغفال المؤرّخ عن هذه النقطة بالخصوص، إذ أنّه لم يغفل عن ابن الزبير وهو النكرة المبهم الّذي لا قدر له ولا قيمة، وهو يعلم أنّ الناس لا

ص: 136


1- ذوب النضّار لابن نما: 78، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 356.

يأبهون به ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة، كما يعلم المؤرّخ وجميع مَن شهد أو روى أحداث تلك الأيّام.

فكيف يتنبّه الراوي والمؤرّخ إلى نشاط ابن الزبير، ثمّ يغفل عن نشاط سيّد الشهداء (علیه السلام) ويُغمِض النظر عن فعّاليات خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وكلماته وبياناته وتصريحاته، وكان المؤرّخ يومها يتابع الإمام (علیه السلام) ويلاحقه في جميع حركاته وسكناته.

فلو كان الإمام (علیه السلام) قد حرّض أو جيّش العواطف والعقائد والمشاعر، أو حشّد الجماهير والناس ليزجّ بهم في مواجهةٍ كاسحةٍ ضدّ يزيد وبني أُميّة، لَرصدها المؤرّخ وأشار إليها، ولو إشارةً من بعيدٍ يمكن أن تلوح للمتأمّل والمتابع بدقّة.

العرض السادس: إصرار ابن الزبير على خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة

كان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الحسين (علیه السلام) ، ويشير عليه أن يَقدِم العراق، وقد فسّر المؤرّخ إصراره على ذلك لحبّه أن تخلو له ساحة مكّة المكرمة،وصرّحت جملةٌ من المتون التاريخيّة بما قاله الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مؤكّداً على ذلك، فهو مفضوحٌ على كلّ صعيد، فتراه يُصحِر بما فيه في فلتات لسانه، فيحثّ الإمام (علیه السلام) على التوجّه نحو العراق، ثمّ يستدرك ويستبقيه في مكّة في نفس الحديث، ممّا يدعو المؤرّخ إلى تفسير ذلك باطمئنانٍ برغبته الأكيدة في تخلية الحجاز منه (علیه السلام) ، ولو لم يكن ذلك ظاهراً بجلاءٍ في كلامه وسلوكه وأسارير

ص: 137

وجهه، لاكتفينا بما قاله عنه الإمام (علیه السلام) حين قال:

• «ليس في الدنيا أحبّ إليه مِن أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء» ((1)).

• «وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي ما دمتُ فيه، فيودّ أنّي خرجتُ منه لتخلو له» ((2)).

ومن كلام الإمام (علیه السلام) تنكشف نوايا ابن الزبير حتّى لو كانت كامنة، أو كان هو يتكلّف في إخفائها، وعلى فرض أنّها كانت مضمرةً وغير معلنة، فإنّ في ما فضحه به الإمام (علیه السلام) كفاية كافية وعليها الاعتماد.

وقد انجلى سبب إصراره من خلال ما بيّنه الإمام (علیه السلام) ، فهو يريد أن يستفردبالحجاز ومكّة، لعلمه أنّه لا يمكن أن يرفّ له شاربٌ أو يُرفع له طرفٌ مع وجود شمس الكونين مُشرقةً على الكعبة والبيت الحرام ووديان مكّة وجبالها.

وبالرغم من كلّ ما تكلّفه من التظاهر بالزهد والعبادة، حتّى حاول هو ومَن ينسج على منواله أن يخلعوا عليه لقب (حمام الحرم)، ورغم تبنّيه شعاراتٍ مغريةً للإطاحة بحكم الظلَمة من بني أُميّة، ورغم ادّعائه الشرف الّذي يعلو به _ حسب مزاعمه _ على كلّ العرب، فإنّه لا يمكن أن يكون بحضور الإمام الحسين (علیه السلام) _ سيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل

ص: 138


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.
2- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 407.

الجنّة _ حتّى صرصوراً في بالوعات الكنيف المحيطة بالبيت الحرام.

ومن هوان الدنيا على الله أن يَرى مثلُ ابن الزبير نفسَه بإزاء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويرى في ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) منافِساً له.

وسيتّضح لنا بعد قليلٍ أن لا مجال لفرض المنافسة بين هذا العلج المتمرّد المتوثّب للظلم وارتكاب المآثم ونيل حطام الدنيا الهزيل، وبين حبيب الله الملاحَق الّذي يطلب لنفسه وأهله ورهطه مأوىً يُبعِده عن مخالب القرود العادية المسعورة.

كما سيتّضح الفرق بين ما يصبو إليه ابن الزبير من توظيف البيت الحرام للوصول إلى الغاية الهابطة الرذيلة، وما يريده الإمام (علیه السلام) من حفظ الحرمات.. وغيرها من المطالب المتعلّقة بالمقام.

العرض السابع: خبر الزبيريّ

اشارة

قال مصعب: وأُخبرتُ عن هشام بن يوسف الصنعانيّ، عن معمّر قال: سمعتُ رجلاً يُحدّث، قال:

سمعتُ الحسين بن عليّ يقول لعبد الله ابن الزبير: «أتتني بيعةُ أربعين ألف رجل (يحلفون لي بالطلاق والعتاق) ((1)) من أهل الكوفة»، أو قال: «من أهل العراق».

ص: 139


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.

فقال له عبد الله بن الزبير: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟

قال هشام بن يوسف: فسألتُ معمّراً عن الرجل، فقال: هو ثقة.

(قال عمّي): وزعم بعض الناس أنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي قال هذا ((1)).

ميّزنا خبر مصعب الزبيريّ عن غيره من الأخبار الّتي سنأتي عليها إن شاء الله؛ لما فيه من اختلافٍ معها في الصياغة والمضمون، ولما فيه من غرابة:

الغريبة الأُولى: الإسناد والتردّد

رغم أنّنا لا نرتكن إلى الإسناد في الروايات التاريخيّة، وقد بيّنّا قدره ومقدار الاستفادة منه وتوظيفه في بحث المدخل المطبوع في مقدّمة (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام))، ومقدّمة كتاب (بنت الحسين رقية (علیهما السلام))، غير أنّ الزبيريّ نفسه قد أشار إليه، فاضطرّنا إلى الوقوف عنده على عجل.

ولو أغمضنا النظر عن الزبيريّ نفسه، وهو زبيريّ النسب والهوى، خبيثٌ شديد العداوة لأهل البيت (علیهم السلام) ، مراوغٌ خدّاعٌ مضلّلٌ في ما يرويه عن أهل البيت (علیهم السلام) ، كما يبدو واضحاً من مراجعة كتابه، وفي ذلك حاجزٌ منيعٌ دون الاستناد إليه.

فإنّ مَن يروي عنه الزبيريّ مجهولٌ لا يعرفه أحدٌ سوى مَن روى عنه،

ص: 140


1- أُنظر: نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 239، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.

وزعم أنّه ثقة، على حدّ زعم هشام بن يوسف!

أضِفْ إلى ذلك، فإنّ الزبيريّ يروي أنّه زعم بعضُ الناس أنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي قال هذا، فهو يتردّد في إثبات ذلك لابن الزبير، فلا ندري إن كان الحديث مع ابن الزبير أو مع ابن عبّاس!

هذا، بغضّ النظر عن تردّده في قوله: «من أهل الكوفة»، أو «من أهل العراق».

فلا يمكن الاعتماد عليه والحال هذه.

الغريبة الثانية: ابتداء الإمام (علیه السلام)

إبتدأ الراوي بقوله: (سمعتُ الحسين بن عليّ يقول لعبد الله بن الزبير)، ثمّ نقل كلام ابن الزبير تعقيباً على ما قاله الإمام (علیه السلام) ، ممّا يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان هو المبتدئ بالكلام، فهو لم يروِ لنا إن كان ثمّة حوارٌ سابقٌ أو ملابسات سبقَت كلام الإمام (علیه السلام) ، ولم يرو لنا الظروف المحيطة بمجريات الحدث.

وصياغة الخبر على هذا النحو يختلف تماماً ويخالف النصوص المذكورة في الباب جميعاً، إذ ليس فيها ما يفيد ابتداء الإمام (علیه السلام) بالحديث مع هذا الجرذ المتنافخ.

الغريبة الثالثة: القسَم بالطلاق والعتاق

ليس في متن الزبيريّ في كتابه المطبوع عبارة: (يحلفون لي بالطلاق والعتاق)، وإنّما جاءت في تاريخ ابن عساكر وابن العديم وابن كثير وغيرهم،

ص: 141

بَيد أنّ هؤلاء جميعاً إنّما يروون عن الزبيريّ.

وهذا القَسَم باطلٌ لا قيمة له، وليس هو قَسَماً يعتدّ به الإمام (علیه السلام) أو يرتضيه، وليس من أدبيّاته.

وإن كان هو حكايةٌ لما أقسموا به، فإنّه يكشف أنّ عدد الأربعين ألفاً المزعوم هنا كلّهم من أتباع العِجل والسامريّ، وليس فيهم شيعةٌ لأمير المؤمنين ولأبي عبد الله الحسين (علیهما السلام) ، بالمعنى المصطلح للشيعيّ لا بالمعنى اللغويّ.

الغريبة الرابعة: بيعة أربعين ألفاً!

ذكر الخبر عدداً هائلاً لم نسمع به في أخبار مكّة عند غيره، فربّما جاء شاذّاً عند البعض في عدد المبايعين في الكوفة أيّام تشرّفها بوجود المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، والوارد في أخبار مكّة وصول الكتب والرسل، وقد صرّح بعضهم بعددها، أمّا النصّ على هذا العدد فهو غريبٌ عن سائر الأخبار الواردة في المقام.

ولو فرضنا بلوغ عدد المبايعين الّذين كتبوا إلى الإمام (علیه السلام) وهو في مكّة إلى هذا العدد، فإنّ الإمام (علیه السلام) لم يعتمد عليها، ولم يكن عزمه على التوجّه إلى الكوفة مستنِداً إليها، كيف وقد أرسل أخاه وابن عمّه وثقته ليستجلي له الموقف ويحكي له مدى توافق ما جاءت به الكتب والرسل مع مواقف ذوي الحِجا والرأي منهم.

ص: 142

الغريبة الخامسة: جواب ابن الزبير

سنأتي بعد قليلٍ على دراسة جواب ابن الزبير ضمن العروض المقبلة إن شاء الله (تعالى)، وإنّما نذكره هنا مفرداً لوقوعه ردّاً وجواباً على ما استند إليه الإمام (علیه السلام) من بيعة الأربعين ألف الّذين حلفوا له بالطلاق والعتاق، فيكون حينئذٍ كلام ابن الزبير له مغزى ومفادٌ يتعلّق بظرف الكلام.

يبدو من خلال ملاحظة السياق أنّ ابن الزبير سأل الإمام (علیه السلام) مستنكراً حينقال: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟ فهو يستنكر على الإمام (علیه السلام) ويتعجّب من فعله وعزمه على الخروج إلى قومٍ ثبتت له خيانتهم وغدرهم.

وكأنّ النصّ يريد أن يُشعِر القارئ أنّ هذا الأمر البديهيّ الّذي أدركه ابن الزبير واستنكره على الإمام (علیه السلام) خفيَ على الإمام (علیه السلام) وهو العالم بالله، وفي ذلك ما يكفي للنفرة والقرف والتحسّس من تسريبات الزبيريّ!

* * * * *

كيف كان، فإنّنا لا نريد إطالة المكث عند هذا الخبر المهلهل البائس، سيّما بعد أن تبيّن لنا أنّه مخدوشٌ عدّة خدوشٍ جارحةٍ تمنعه من النهوض.

العرض الثامن: عروض ابن الزبير

اشارة

تطالعنا النصوص باقتراحَين أساسيَّين متناقضَين تقدّم بهما ابن الزبير بين يدَي الإمام الحسين (علیه السلام) ، كلٌّ منهما يرسم موقفاً وصورةً تختلف عن الأُخرى تماماً.

ص: 143

الاقتراح الأوّل: البقاء في مكّة
اشارة

عرض ابن الزبير على الإمام الحسين (علیه السلام) أن يُقيم بمكّة، وزعم أنّه مستعدٌّ لمبايعته أو الانتصاب للأمر بنفسه على أن يبقى في طاعة الإمام (علیه السلام) ، وغيرها من المزاعم الّتي سنأتي على ذِكرها، إن شاء الله (تعالى).

بَيد أنّ جميع النصوص الّتي ذكرت هذا الاقتراح أشارت في ذيلها إلى أنّابن الزبير لم يكن جادّاً في ذلك، وإنّما تقدّم به ليدفع عن نفسه تهمة، وذكر البلاذريّ إضافةً تفرّد بها لتبرير فعلة ابن الزبير، فقال: إنّما أراد بذلك أن لا يتّهمه وأن يُعذَر في القول ((1)).

فلا ضرورة _ حينئذٍ _ لمناقشة تفاصيل اقتراحه للبقاء في مكّة ما دامه غير جادٍّ في كلامه، وإنّما أطلقه رياءً وسمعةً ومراوغةً ومكراً، غير أنّنا سنتناولها باختصار، من خلال الإيماءات التالية:

الإيماء الأوّل: الاقتراح غير جدّي

يبدو من خلال النصوص وفهوم المؤرّخين، والأهمّ من ذلك تصريح سيّد الشهداء وإمام الخلق أجمعين الإمام الحسين (علیه السلام) ، أنّ ابن الزبير قد اقترح على الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة، سواءً كان على مستوى الاستجارة والاحتماء بالحرم، أو من أجل تجميع الأنصار والأعوان والرجال وإعداد متطلّبات القيام، أو لأيّ غرضٍ أو دافعٍ كان، فهي جميعاً ذرائع يتذرّع بها ليُخرج نفسَه من دائرة الاتهام،

ص: 144


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375.

ويُبعِد عن نفسه من خلال المراوغة والمكر والكذب والاحتيال ما هو معلومٌ منه بالبداهة، وهو تمنّيه خروج الإمام (علیه السلام) اليوم قبل الغد من مكّة، لتخلو له الساحة.

وهذا الأمر ممّا لا شكّ فيه بعد أن ظهر على فلتات لسانه، وبان من سلوكهالملتوي، وفضحه موقفُه ولحن القول، حتّى عرفه المؤرّخ والراوي، ولا مراء ولا تردّد بعد أن أبدى كوامنه وأذاع خفيّاته وأظهر ما أضمره أعلمُ الخلق بالخلق بإذن الله (تعالى).

الإيماء الثالث: الصورة الأُولى للاقتراح: اقتراحٌ كسائر الاقتراحات
اشارة

روى الدينوريّ صورةً لاقتراح ابن الزبير لا يبعد كثيراً عن سائر الاقتراحات الّتي تقدّم بها بعض الرجال يومها بين يدَي الإمام (علیه السلام) ، من قبيل المولى المكرّم ابن الحنفيّة وابن عبّاس، غير أنّه اقتراحٌ فيه شيءٌ من التحوير والاختلاف مع اقتراحات غيره.

فقد أقبل ابنُ الزبير حتّى دخل على الإمام (علیه السلام) وقال له:

لو أقمتَ بهذا الحرم، وبثثتَ رسلك في البلدان وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يَقدِموا عليك، فإذا قوي أمرُك نفيت عمّال يزيد عن هذا البلد، وعلَيّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملتَ بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله ((1)).

ص: 145


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 243.

وبهذا رسم للإمام (علیه السلام) خطّةً متكاملةً بزعمه للاستيلاء على مكّة وطلب الأمر، وتتلخّص الخطّة في النقاط التالية:1 _ أن يُقيم الإمام (علیه السلام) في الحرم المكّي.

2 _ أن يبثّ رسله في البلدان.

3 _ يكتب إلى شيعته بالعراق ليقدموا عليه.

4 _ بعد أن يقوى أمرُه في مكّة نتيجة اجتماع الناس من البلدان وشيعته من العراق، ينفي عمّالَ يزيد عنها.

5 _ يتعهّد ابن الزبير بالمكانفة والمؤازرة للإمام (علیه السلام) .

6 _ أن يعمل الإمام (علیه السلام) بمشورته، ويطلب هذا الأمر بالحرم، لأنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار.

7 _ حينئذٍ لا يُعدَم إدراك ما يريد بإذن الله، ويرجو ابن الزبير أن ينال الإمام (علیه السلام) الأمر.

تبدو هذه النقاط السبعة كأنّها خطّةٌ متكاملةٌ تقدّم بها ابن الزبير، والظاهر أنّه عمل بها هو نفسه بالفعل.

وهي تتركّز على اتّخاذ مكّة الحرم الآمِن وكراً يجمّع من خلاله الرجال والسلاح، فيستولي عليها وينطلق منها إلى غيرها من البلدان.

ويمكن التوقّف عند هذه الخطّة البائسة من خلال مناقشاتٍ عجلى:

المناقشة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يحمي حُرمة الحرم

سنسمع بعد قليلٍ في ردود الإمام (علیه السلام) عليه ما يفضح خطّته ويكشف

ص: 146

زيف ما ذهب إليه، فليس مكّة البلد الحرام موضعاً يُتّخذ وسيلةً لطلب الدنيا الّتي يلهث عليها ابن الزبير، إذ أنّ معنى مكثه فيها انتهاك حرمتها وإراقة الدماء فيها، فلا ابن الزبير ولا يزيد يقيمون لمكّة والحرمات وزناً، ولا يهمّهم سوى تحقيق مآربهم الهابطة الخسيسة بأيّ ثمن.

والحال أنّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) يرعى حرمة الحرم، ويتجنّب أيّ عملٍ يمكن أن يؤدّي إلى انتهاك الحرمات.

المناقشة الثانية: دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة للاستئمان لا للتحشيد

ثمّة أمرٌ أقفل على ابن الزبير وأشباهه، وهو غرض الإمام (علیه السلام) من دخول مكّة، فإنّ ابن الزبير الّذي أعمى حبّ الدنيا بصرَه وبصيرته قد لا يمكنه أن يستشعر موقف الإمام (علیه السلام) ولا يُدرك الخطر المُحدِق به، فالإمام (علیه السلام) إنّما دخل مكّة مستأمناً، ولم يتحرّك فيها حركاتٍ تحريضيّةً واضحة، ولم يُجيّش فيها ولم يفعل أيّ فعلٍ فيه دلالاتٌ واضحةٌ على وجود نيّةٍ عنده تشي بها التصريحات والمواقف والتحرّكات، بحيث تفيد أنّه يريد أن يحارب الحكم القائم ويجابهه بالقتال من أجل الاستيلاء على بلدٍ من البلدان أو سائر البلدان، أو تقويض الحكم القائم وإقامة حكمٍ آخَر مكانه، أو أنّه يريد أن يحشّد الرجال ويجمع السلاح والأموال وغيرها من المقاصد الّتي يدعوه إليها ابن الزبير ويخطّط لها وينسج على منوالها.

ص: 147

المناقشة الثالثة: توظيف عنوان الإمام (علیه السلام)

ربّما كان عرض هذه الخطّة أو عرض البيعة _ كما سيأتي بعد قليل _ يتوخّى من بعده ركوب الموجة وتوظيف اسم الإمام الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، تماماً كما فعل بعد شهادته حين نادى بشعار الثأر لدمه.

أو أنّه يبايع ويؤازر ويكانف من أجل الحصول على شيءٍ في ظلّ حكم الإمام (علیه السلام) ، تماماً كما فعل أبوه وطلحة مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإن لم يصل إلى ما يصبو إليه انقلب عليه كما انقلب أبوه!

المناقشة الرابعة: الفرق بين اقتراحه واقتراح غيره

يُلاحَظ في اقتراحات غير ابن الزبير الّتي كانت تدعو الإمام (علیه السلام) إلى البقاء في مكّة، أنّها لم تدعُه بصراحةٍ إلى توظيف مكّة لتجميع الرجال والاستيلاء عليها، وإنّما كانت تفيد أنّ مكّة حرم الله الآمن، ويمكن أن يحمي وجود الإمام (علیه السلام) من تعدّي الأعداء وقتله، وتمنحه الفرصة للتواصل مع مَن يمكن أن يكونوا له أنصاراً.

فهي باختصارٍ كانت تركّز على حفظ شخص الإمام (علیه السلام) وحمايته واتّخاذ مكّة مأمناً، فيما نرى ابن الزبير يتّخذها جُنّةً وينوي الاستيلاء عليها وطرد واليها والانطلاق منها، فهو لا يكترث بحياة الإمام (علیه السلام) ولا بحرمة مكّة، ولا يهمّه سوى السلطان والقدرة والحكم، وإن أدّى ذلك إلى هتك حرمة البيت وسفك الدم الحرام فيه!

ص: 148

المناقشة الخامسة: سذاجة الخطّة

يبدو من بعض بنود الخطّة سذاجةً تحكي عقلاً مرتجّاً صرعَته مطامع الشهوات، فهو يريد أن يجمع شيعة الإمام (علیه السلام) _ حسب زعمه _ من الكوفة في مكّة، وهم عشرات الآلاف، ويكتب إلى البلدان، ويجمع مَن في مكّة ممّن اجتمع فيها من أهل الآفاق، وكأنّ هذه الآلاف المؤلَّفة الّتي ستقدم مكّة بالسلاح والعدّة ستصل خلال أيّامٍ قلائل وتتسرّب إلى مكّة كالنمل على حين غفلةٍ من السلطة والوُلاة، وأنّ مكّة ستستوعب كلّ هذه الأعداد الهائلة، ويتمّ الأمر بسلاسةٍ وسهولةٍ ويُسرٍ من دون أيّ اعتراضٍ أو تعرّضٍ مِن قِبل عساكر المُلك وولاة السلطان!!

وكأنّ السلطان يعاني من الحاجة والعوز وقلّة العديد والعدّة والعيون والجواسيس.

وكأنّ ابن زيادٍ لم ينظم الصحراء جنداً وحرّاساً وخيلاً ورجالاً، بحيث لم يتركوا داخلاً أو خارجاً إلى الكوفة إلّا فتّشوه، وملأوا الفيافي والقفار ضجيجاً وعجيجاً، وازدحمَت بهم المشاتي والمصايف..

وهكذا يجتمع _ بالبساطة الّتي يصوّرها ابن الزبير _ شيعةُ الإمام (علیه السلام) في العراق، ويجتمع الناس من المشارق والمغارب، وكأن ليس في مكّة مخالفاً لهم، وكأنّها مُغلَقةٌ بأهلها لهم على السلطان، ثمّ يطردون الوالي من مكّة..

إنّها أقرب إلى السخافة وقصص الخرافة من السذاجة.

وقد تبيّن فيما بعد ما فعلوا بمكّة جراء وجود ابن الزبير فيها!

ص: 149

الإيماء الرابع: الصورة الثانية للاقتراح: إنّك مطلوب
اشارة

لمّا همّ الإمام الحسين (علیه السلام) بالخروج من مكّة، لقيه ابن الزبير فقال:

يا أبا عبد الله، إنّك مطلوب، فلو مكثت بمكّة فكنت كأحد حمام هذا البيت واستجرتَ بحرم الله، لكان ذلك أحسن لك ((1)).

وقد ورد هذا المعنى في حديثٍ عن الإمام الصادق (علیه السلام) : «ولو جئتَ إلى مكّة فكنت بالحرم» ((2))، وكذا ورد عن أبي سعيد عقيصا أنّ ابن الزبير دعا الإمام (علیه السلام) إلى أن يكون حمامةً من حمام الحرم والمسجد، وقد خلا به وناجاه دون مَن كان حاضراً، فأقبل الإمام (علیه السلام) بوجهه إليهم وقال: «إنّ هذا يقول لي: كُن حماماً من حمام الحرم» ((3))..

* * * * *

يمكن التدقيق في مضامين النصّ من خلال بعض الالتفاتات:

الالتفاتة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يكشف ما يقوله ابن الزبير سرّاً

سمعنا في أكثر من نصٍّ أنّ ابن الزبير يختلي بالإمام (علیه السلام) ، رغم وجود غيرهما

ص: 150


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
3- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

في المكان، أو أنّه يكلّمه على مرأىً منهم ومسمع، ثمّ يُخفي كلامه ويناجيه، وكأنّه يحاور الإمام (علیه السلام) في موضوع سرّيّ لا ينبغي للآخرين أن يسمعوه، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) سرعان ما يلتفت ويخبر الحاضرين بما جرى بينهما من كلام.

فربّما كان من مكر ابن الزبير وخديعته أنّه يحاول أن يسارّ الإمام (علیه السلام) بين الملأ، ويريد بذلك أن يُوحي للناس أنّه على اتّفاقٍ مع الإمام (علیه السلام) ، ولو في بعض الأُمور، وأنّ ثمّة اتفاقاتٌ وأسرارٌ بينهما.

وربّما تقوّل على الإمام (علیه السلام) فيما بعد بحجّة أنّه قد اختلى به وكلّمه سرّاً على مرأىً من الناس، فيفتري على الإمام (علیه السلام) ما يشاء من أجل خديعة الناس وتوظيف مقام الإمام (علیه السلام) ومنزلته عندهم.

فلمّا التفت الإمام (علیه السلام) وتكلّم بصوتٍ مرتفعٍ وأسمع مَن حوله ما يقوله ابن الزبير، فضحه وأبطل خطّته.

وربّما أراد الإمام (علیه السلام) أن يُفصِح للحاضرين عن محتوى المحادثة، كي يكشف لهم عن موقفه ونيّته والخطر المحدق به، فهو يدعوه للبقاء في مكّة، ومكّة لم تعُد حرماً آمناً له بعد أن بيّت له العدوُّ الغدر والاغتيال، وثبت ذلكوأخبر عنه الإمام (علیه السلام) نفسه.

الالتفاتة الثانية: الإمام (علیه السلام) مطلوب!

رغم أنّنا عرفنا أنّ دعوة ابن الزبير الإمام (علیه السلام) للمكث في مكّة دعوةٌ كاذبة، وهو يتمنّى خروج الإمام (علیه السلام) منها فوراً، غير أنّ هذا النصّ يفيد بوضوح أنّ ابن الزبير أيضاً يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب، لذا يدعوه للمكث في مكّة ليكون

ص: 151

كأحد حمام الحرم الآمن المستجير بحرم الله، ليأمن على حياته ويُبعد نفسه عن مخالب القرود العادية وجِرائها.

فهنا يظهر ابن الزبير مصيباً في تقدير ظرف الإمام (علیه السلام) والخطر المحدق به، غير أنّه لمّا كان ماكراً خدّاعاً مراوغاً كاذباً خبيثاً، يمكن أن نفهم موقفه من خلال منظار سوء الظنّ به وبسريرته العفنة الموبوءة.

فربّما كان يدعو الإمام (علیه السلام) للمكث في مكّة كي يتسنّى للعدوّ المتربّص الّذي أعدّ العدّة وأتقن الخطّة وأحكم الأمر لتنفيذ اغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة، وهذا ما صرّح به العدوّ وكشف عنه الإمام (علیه السلام) نفسه، وحينئذٍ يحقّق ابن الزبير ما يريد، وتخلو له مكّة كما يحبّ، ويتخلّص من الإمام (علیه السلام) كمنافسٍ _ حسب ما يزعم _ لا يعدله أحدٌ به.

وربّما كان يريد أن يوظّف حقيقةً كانت مخيّمة على الأجواء، وواقعاً مفروضاً لا يتردّد في قبوله أحد، وهو أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ للسلطان الّذي سوف يسعى في قتل الإمام (علیه السلام) مهما كان، وأينما كان، وهذا ما يعرفهالإمام (علیه السلام) ويعرفه ابن الزبير وغيره من المراقبين، فجعل هذه الحقيقة الثابتة والواقع النافذ ذريعةً ينفي عن نفسه من خلالها اتّهامه بالرغبة في خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

وربّما كان يريد للإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة ويمكث، ليكون له غطاءً شرعيّاً واجتماعيّاً ضافياً يمكنه توظيفه للوصول إلى مآربه.

كيف كان، فإنّه غير جادٍّ في اقتراحه على الإمام (علیه السلام) المكث في مكّة، فلا

ص: 152

داعي للمكث معه من أجل تفسير موقفه ودوافعه ونوازعه.

والّذي يهمّنا هنا اعترافه أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب..

الإمام (علیه السلام) مطلوب.. يتربّص به العدوّ ليقتله..

هذا اعترافٌ في غاية الأهميّة!

أجل، ما اقترحه وزعم أنّه ينجو بالإمام (علیه السلام) من خلال التزامه الحرم لم يكن صائباً؛ لما سنسمعه في ردّ الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) يعرف العدوّ وجرأته وإقدامه الوقح على انتهاك الحرمات، والإمام (علیه السلام) لا يريد أن تُنتهَك حرمة البيت بدمه المقدّس الزاكي.

الإيماء الخامس: الصورة الثالثة للاقتراح: عرض البيعة
اشارة

بعد أن حاول ابن الزبير حثّ الإمام (علیه السلام) على التوجّه إلى العراق، ثمّ خشي أن يتّهمه، عرض عليه أن يُقيم بمكّة، فيبايعه ويبايعه الناس إن أراد الأمر ثمّة، وإن فعل الإمام (علیه السلام) ذلك ما خالفه أحد.ثمّ ذكر حجّته في ذلك، وحشر نفسه مع الإمام (علیه السلام) وتكلّم بضمير الجمع، فقال:

فعلى ماذا نعطي هؤلاء الدنيّة ونطمعهم في حقّنا، ونحن أبناء المهاجرين، وهم أبناء المنافقين، والإمام الحسين (علیه السلام) أحقّ من يزيد وأبي يزيد؟ فليدعهم ويدعو أهل الحجاز إلى بيعته، فيجيبوه ويكونوا إليه سراعاً، ويتولّى هذا الأمر، فيؤازروه ويساعدوه وينصحوا له ويجمعوا له الناس، وأنّه يتخوّف على الإمام (علیه السلام) إن خرج أن لا يرعى فيه إلّاً ولا

ص: 153

ذمّةً ولا قرابة ((1)).

* * * * *

هذا مجمل ما تضمّنته نصوص اقتراح عرض البيعة، ويمكن أن نشير إلى مؤدّى هذا الاقتراح من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: مكر ابن الزبير

لقد تقدّم ابن الزبير بهذا الاقتراح والإمام (علیه السلام) أثقل الناس عليه، وقد غمّه مكانه بمكّة، لأنّ الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيءٌ يُؤتاه أحبَّ إليه من شخوص الحسين عن مكّة ((2))، وكان هذا الكلام مكراً من ابن الزبير، لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحدٌ يناويه ((3)).

فلابدّ إذن أن يكون اقتراحه موبوءً سقيماً، ربّما كان ظاهره أنيق، بَيد أنّ باطنه بشعٌ شنيعٌ قبيحٌ كريه، ينسجم مع خبث ابن الزبير ومراوغته ودناءته.

ص: 154


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245.
2- أُنظر: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
الإشارة الثانية: اشتراط البقاء في مكّة

لقد أكّد ابن الزبير في أكثر من نصٍّ من النصوص هذا الاقتراح على الإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة ويطلب الأمر فيها، ويدعو ابن الزبير وأهل الحجاز للبيعة، ولا يخرج منها، وتفيد بعض السياقات أنّه شرطٌ لازمٌ للنجاح وتحقّق البيعة.

الإشارة الثالثة: دوافع البيعة

ذكر ابن الزبير جملةً من الدوافع والحجج الّتي تؤهّل الإمام (علیه السلام) _ بزعمه _ لطلب الأمر من مكّة والدعوة إلى البيعة، بيد أنّه عرضها بخبثٍ ومكرٍمفضوحَين، إذ أنّه حشر نفسه مع الإمام (علیه السلام) في تلك الحجّة، فجعل نفسه كالإمام (علیه السلام) في كونه من أبناء المهاجرين، وأنّ أُولئك هم أبناء المنافقين، وأنّ الأمر حقّهم، ولا ينبغي أن يسكتوا عنه فيطمع الآخرون بهذا الحقّ، ولا معنى لأن يُعطوا الدنيّة.. ثم عرّج على الإمام (علیه السلام) وقال: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) أحقّ من يزيد وأبي يزيد، وبما أنّ عوامل تأهيل الإمام (علیه السلام) مشتركةٌ بينه وبين ابن الزبير، فابن الزبير أحقّ من يزيد وأبي يزيد أيضاً، هكذا في حساب ابن الزبير!

ونسي هذا الغبيّ المتهالك على الدنيا أنّ الميزان الّذي قدّم فيه نفسه _ كما في هذا المتن بالفحوى وفي غيره بالنصّ _ مبنيٌّ على تقديم المهاجرين وأبنائهم على غيرهم، وهو نفسه ميزان السقيفة الّذي اغتصبوا بذريعته الخلافة من أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والردّ عليه هو نفسه الردّ على أُولئك، وإذا كانت الهجرة والقرابة ملاك، فالإمام الحسين (علیه السلام) أحقّ بها وأَولى، ولا مجال لمثل ابن الزبير أن يدسّ

ص: 155

أنفه فيه.

الإشارة الرابعة: وعود ابن الزبير

قدّم ابن الزبير حزمةً من الوعود، إن قَبِل الإمام (علیه السلام) رأيه ومكث في مكّة وأعلن منها طلبه الأمر، وهي:

1 _ لا يخالفه أحدٌ في مكّة.

2 _ يُسرعوا إليه ويجيبوه ويبايعوه.3 _ يجمع له الناس.

4 _ يؤازره وينصحه ويساعده.

ونحن لا نريد هنا المكث مع هذا الأحمق، ففي ردّ الإمام (علیه السلام) _ الّذي سيأتي بعد قليلٍ _ كفاية، غير أنّنا ننكزه هنا نكزةً خفيفةً من خلال تذكيره بما يجري في مكّة، وهو يعيش فيها ويصبح ويمسي مع الإمام (علیه السلام) ، ويرى خذلان الناس وانشغالهم عن سيّد الخلق، ويرى هدوء الإمام (علیه السلام) واجتنابه التحريض والدعوة إلى البيعة والمطالبة بالملك..

فربّما أقدم على ما أقدم عليه ليتّخذ من اسم الإمام (علیه السلام) وعنوانه سُلّماً يصعد به على أكتاف الناس.

الإشارة الخامسة: خوفه على الإمام (علیه السلام) إن خرج

ذكر العلّامة الدربنديّ (رحمة الله) أنّ ابن الزبير أعرب عن تخوّفه على الإمام (علیه السلام) إن خرج أن لا يرعى فيه إلّاً ولا ذمّةً ولا قرابة.

ص: 156

ربّما لا يبعد هذا الكلام كثيراً عمّا ذكرناه في الإيماء الرابع حين حذّر الإمامَ (علیه السلام) من الإقدام على قومٍ قتلوا أباه وغدروا أخاه، فهو يحذّر هنا من جرأة العدوّ وبطشه، وأنّه لا يرعى في الإمام (علیه السلام) إلّاً ولا ذمّة، إن خرج!

والسياق يشهد أنّ المقصود بالخروج هنا هو الخروج إلى العراق، وبهذا يكون كلامه هنا يشبه كلام المعترضين الآخرين من جهة.

ويمكن أن يُردّ عليه بما سيأتي من كلام الإمام (علیه السلام) ، ويقال له:إن كان العدوّ لا يرعى في الإمام (علیه السلام) إلّاً ولا ذمّةً ولا قرابة، والإمام (علیه السلام) مطلوباً له على كلّ حال، فإنّه سيقدم على قتله وسفك دمه المقدّس الزاكي، وينتهك بذلك الحرمات، وهذا ما يأباه الإمام (علیه السلام) ، فالخروج حينئذٍ أصلح وأوفق، وكلام ابن الزبير هراءٌ أجوف، وخطأٌ فاضح، وخطلٌ وخبلٌ وطيشٌ وزلل.

الإيماء السادس: دعوة الإمام (علیه السلام) للبيعة مع ابن الزبير

بعد أن اقترح ابن الزبير على الإمام (علیه السلام) الإقامة في مكّة على أن يُبايع له ويجمع له الرجال، فردّ عليه الإمام (علیه السلام) وأخبره أنّه مقتولٌ لا محالة، وهو يريد الخروج من مكّة لئلّا يُقتَل بها، ولو أنّه قُتل خارجها بشبرٍ أحبّ إليه، عاد ابن الزبير ليقترح على الإمام (علیه السلام) من جديدٍ أن يبقى في مكّة ويولّيه الأمر، غير أنّه يبقى في طاعة الإمام (علیه السلام) !

ص: 157

فقال له ابن الزبير: فأقِمْ إن شئت، وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تُعصى.

فقال: «وما أُريد هذا أيضاً» ((1)).

هذا العرض ينمّ عن مدى جرأة هذا الجرذ الواطي والثعلب المتوحّشالماكر، فهو يعرض على إمام الخلق أن يولّيه الأمر، إذ أنّه يرى نفسه الأفضل والأشرف، حسب زعمه البائس في حديثٍ مع ابن عبّاس وغيره من المواطن.

وهذا النمط من العروض الخاطئة الآثمة لا ترقى إلى مستوى الهراء والسخافة والحماقة والخلل والخطل والخرق، وهي دون حدّ الركاكة التافهة والخساسة، فلا يُؤبَه بها، ولا يُلتفَت إليها، ولا تستحقّ النقاش والمكث عندها!

بَيد أنّنا نشير هنا إلى أمرٍ قد يلوح من ردّ الإمام (علیه السلام) بقوله: «وما أُريد هذا أيضاً»، إذ يردّ الإمام (علیه السلام) على العرضَين في آنٍ واحد، بالإضافة إلى ردّ العرض الأوّل حين اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يبايعه هو ويجمع له الرجال، فالإمام (علیه السلام) يردّ كِلا العرضَين معاً.

فلا يقبل منه البيعة، ولا يقبل أن يولّيه الأمر، ولو كان الإمام (علیه السلام) يريد الخروج بالمعنى المصطلح لكان في بيعة ابن الزبير له مغنم، وفي وعده بجمع الرجال فرصة، وفي بقائه في مكّة واتّخاذها منطلقاً وجهٌ تسوّغه متطلّبات العمل

ص: 158


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 407.

والإعداد للخروج على الحاكم.

والحال أنّ الإمام (علیه السلام) رفض أيّ نوعٍ من أنواع النشاط في مكّة المكرمة، ولو على مستوى الدعوة إلى البيعة، أو توظيف الآخرين للانتصاب وتسخير الفرصة وجمع الرجال وحشد الطاقات واغتنام الفرص.

ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

لقد ردّ الإمام (علیه السلام) على ابن الزبير عدّة ردودٍ وردت في النصوص على مجمل اقتراحاته، يمكن متابعتها من خلال الأجوبة التالية:

الجواب الأوّل: القتل خارج مكّة أحبّ إليه (علیه السلام)
اشارة

لقد ردّ الإمام (علیه السلام) على اقتراح ابن الزبير:

إنّ أباه (علیه السلام) قد حدّثه أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، وأنّه لا يحبّ أن يكون ذلك الكبش ((1)).

ولئن يُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليه مِن أن يُقتَل فيها أو داخلاً فيها بشبر، ولئن يُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليه من أن يُقتَل خارجاً منها بشبر ((2)).

ص: 159


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

وأخبره:

إنّه (علیه السلام) لا يستحلّها ولا تستحلّ به، ولئن يُقتَل بالطفّ أو على تلٍّ أعفر أحبّ إليه من أن يُقتَل في الحرم ((1)).وأقسم له بالله وقال:

وأيمُ الله، لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ [خ ل: لَيعتدوا فيّ] كما اعتدت اليهود في السبت ((2)).

* * * * *

هذا الجواب الأوّل هو الجواب الأساس الوارد في أكثر المتون ردّاً على ابن الزبير، وهو ردٌّ على جميع الاقتراحات بكلّ أبعادها ومغازيها.

كما أنّه يُعدّ ردّاً يكشف عن موقف الإمام (علیه السلام) وظروفه والحوادث المحيطة به في مكّة المكرمة.

وسنتبيّن ذلك من خلال التلميحات التالية:

التلميح الأوّل: أهميّة الردّ

لقد جاءت اقتراحات ابن الزبير _ كما رأيناها قبل قليل في الإيماءات السابقة _ على كلّ صعيد، فهو قد اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة

ص: 160


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

مستأمناً، ويكون من حمام الحرم يأكل من رزق الله ويعبد الله ولا يهيجه هائجٌ ولا يهيج هو أحداً.واقترح عليه أن يدعو الإمام (علیه السلام) أهلَ الحجاز للبيعة، ويدعو شيعته من العراق، ويكتب إلى البلدان، ويطلب الأمر ويستولي على مكّة، وينطلق منها إلى باقي الأصقاع، فيزيل حكم الطاغوت الأُمويّ ويقطع الشجرة الملعونة، ويقذف القرود المتدلّية على أعوادها إلى جهنّم والنيران، ويتربّع على تخت السلطنة ويحكم الناس.

واقترح عليه بكلّ جرأةٍ وجسارةٍ ونذالةٍ وحقارةٍ أن يدعو لولاية ابن الزبير، على أن يكون ابن الزبير سامعاً له ومطيعاً.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ ابن الزبير وفّر من خلال اقتراحاته كلّ ما يمكن أن يفكّر به المتأمّل في حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومدّة إقامته في مكّة، بل جميع مراحل حركته من المدينة إلى كربلاء، على فرض أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد نوى الخروج ب-- (المعنى المصطلح)، أو القيام بحركةٍ هجوميّةٍ بهدف التغيير في أيّ مجالٍ من مجالات التغيير، أو عزم على أيّ قصدٍ سوى قصد الدفاع عن نفسه وحماية أهله وشخصه المقدّس، والابتعاد عن مجال الخطر القطعيّ الجزميّ.

فقد عرض على الإمام (علیه السلام) البيعة، وقدّم له خطّة العمل، وأعلن نصرته له واستعداده لتجميع الرجال، وما إلى ذلك ممّا مرّ معنا قبل قليل.

فجاء جواب الإمام (علیه السلام) واضحاً لائحاً بيّناً جليّاً صريحاً، يفهمه مَن يقرأه من دون تحميل كلام الإمام (علیه السلام) ما لا يحتمل، والتكلّف والتعسّف في التأويل،

ص: 161

والالتفاف على الصورة الواضحة وَلَيِّ عنق النصّ من أجل حشره فيالسوابق الذهنيّة المفترضة والمفروضة على حركة الإمام (علیه السلام) بعيداً عن تصريحاته وبياناته.

ربّما كان هذا الجواب من أجلى الأجوبة الّتي يمكن من خلالها أن يفهم المتلقّي حركة الإمام (علیه السلام) ومغزى تنقّلاته من المدينة إلى مكّة إلى كربلاء، ومقاصده وأهدافه من جميع تلك الرحلات الّتي أبكت السماوات والأرضين، ومَن فيهنّ، ومَن بينهنّ..

ويكشف عن مدى مظلوميّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجليل رزئه وعظيم مصيبته وغربته، فهو غريبٌ يوم كان في مكّة، عانى خذلان الناس وانصرافهم عنه والتخلّي عنه، ليكون طعام سيوف الحاقدين والمارقين والمنافقين.

وغريب، إذ يقول ويأبى الناس أن يسمعوا ما يقول، ينصتوا إلى ما يقوله ويزعمه ابن الزبير ويروّج له، ليعرض الإمام (علیه السلام) كما يعرضه قرود الشجرة الملعونة في صورة (الخارجيّ) الّذي يريد المُلك والسلطان، وغيرها من الأهداف والمقاصد المفترضة له، سواءً أرضيَ وأصحر عنها الإمام (علیه السلام) ، أو صرّح بغيرها أو بضدّها!

فلو أصغينا بقلبٍ منفتحٍ لحظةً لما يقوله الإمام (علیه السلام) في مقام الردّ على اقتراحات ابن الزبير، وهو يعلم أنّه منافقٌ مراوغٌ دجّالٌ مكّار، غير أنّه أعذر له ولنا ولجميع من بلغه كلام الإمام (علیه السلام) ، ليقول كما سنسمع بعد قليل:

إنّه لا يريد شيئاً ممّا يدعوه إليه ابن الزبير، وإنّما هو محاصرٌ مطلوبٌ للقتل،

ص: 162

قد هجم عليه القوم وعلى عياله وأهله ورهطه، وهو يريد الدفاع عن نفسه، إنّه لا يريد سوى الدفاع عن نفسه مقابل هجوم العدوّ على بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزمه على إبادة آل الله واستئصال شأفتهم واجتثاث كلّ ما يتعلّق بالشجرة المباركة الثابتة الأصل المنتشرة الفروع في السماء.

ولو كان الإمام (علیه السلام) يريد شيئاً ممّا يدعوه إليه ابن الزبير، أو أنّه يبيّت أمراً يريد أن يجمع له الرجال، لكان في بيعة ابن الزبير مغنم!

التلميح الثاني: البقاء في مكّة يعني القتل قطعاً

تأكيد الإمام (علیه السلام) على ما حدّثه به أبوه (علیه السلام) ، وعزمه الأكيد، وتعبيره بشتّى العبارات وفنون البيان على أنّه إن يُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليه من أن يُقتل فيها أو يُقتل داخلاً فيها بشبرٍ أو باع، بل أن يُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليه من أن يُقتل خارجاً منها بشبر، وهكذا..

فإنّ هذا كلّه يؤكّد أنّ الإمام (علیه السلام) يُخبر عن ظروف إقامته في مكّة المكرمة، وأنّه إن بقي فيها فإنّه مقتولٌ لا محالة، وهذا الإخبار ليس إخباراً غيبيّاً محضاً، وإنّما هو قراءةٌ للأحداث والحوادث وسلوكيّات العدوّ وفعاليّاته، فهو بالتالي إخبارٌ عن عزم العدوّ _ الّذي لا يقبل المراجعة والرجوع _ على قتل الإمام (علیه السلام) ، وسعيه الحثيث وإعداده العدّة الكافية والخطط اللازمة لتنفيذ ذلك.

وهو _ عاقبةً _ بيانٌ لسبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة المكرمة، والدافع الأصليّ والأساس والأوّل لهجرته منها ورحيله عنها.

وبكلمة:

ص: 163

إنّ الإمام (علیه السلام) يُعلِن من خلال ما عبّر عنه بأنّ القتل خارج مكّة ولو بشبر أحبّ إليه من القتل فيها، أنّه ملاحَقٌ مطلوب الدم محاصَر، لا يتردّد العدوّ طرفة عينٍ في الإقدام على جريمته أينما كان، ولو في البيت الحرام!

فهو مهدَّدٌ قد أحدق به الخطر من كلّ جانبٍ ومكان، ولابدّ له أن يخرج عنها؛ ليحفظ حرمة الحرم، ولئلّا يقع القتل فيه..

فهو في موقف الدفاع عن نفسه وأهله، والدافع الأصليّ الّذي يدعوه لمغادرة حرم الله الآمن هو حماية الحرم وحماية دمه المقدّس من أن يُراق في الحرم.

التلميح الثالث: حماية حرمة الحرم

إنّ لله حرماتٍ ومشاعر أمر بتعظيمها وحفظها وحمايتها، والإمام (علیه السلام) هو الحامي والحافظ لحدود الله وحرماته، وفعله وقوله وتقريره سنّة يستنّ بها الخلق، فإذا بقي في الحرم حتّى يُقتَل، وهو يقدر على الخروج منه ولو بشبر، صار فعله حكماً يأخذه المتشرّعة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ ثانية، فإنّ الإمام (علیه السلام) هو الكمال المطلق في عالم المخلوقات، خلقه الله كاملاً لا يعتريه النقص بتاتاً، فهو العالم بالله الّذي يعرف حدود الله، ويعلم ما يعني الحرم وحرمة الحرم.

أمّا الأوباش والأوغاد والسفلة والنفعيّين أمثال ابن الزبير ويزيد وأشباههممن الطواغيت والمجرمين، فإنّهم لا يرعون لله حرمة، ولا يأبهون إلّا بما تمليه عليهم حقارتهم ودناءتهم وشهواتهم ولذّاتهم الهابطة، ولا يرون حريماً أبعد من

ص: 164

الوحل المنتن والقاع المظلم المعتم الّذي يتقلّبون فيه.

لقد قال الإمام (علیه السلام) قولاً وفعل فعلاً يعجز عن القيام به إلّا سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء ومَن استثناهم الله معه من المعصومين (علیهم السلام) ، فخرج من مكّة، وهي بلده ومنبت شجرته، والبلد الآمن الّذي يأمن فيه كلّ شيء، لئلّا تهتك حرمة البيت!

وأطلقها صريحةً واضحةً بجزمٍ وحزمٍ وثباتٍ وقوّة: «لا نستحلّها ولا تستحلّ بنا»، فهو لا يستحلّها، ولا يفتح المجال لغيره أن يستحلّها به.

ما أعظم حرمات الله، وما أعظم مَن تتشرّف به الحرمات، وهو حريمها وحاميها!

وما أحقر وأحطّ وأخسّ وأدنى وأذلّ وأردأ وأقبح وأبشع أعداءه، من أمثال ابن الزبير ويزيد، الّذين استباحوا أعظم الحرمات، وكلّ الحرمات..

التلميح الرابع: التعريض بابن الزبير

لقد حدّث الإمام عن أبيه (علیهما السلام) ، وهما أصدق الخلق: أنّ بمكة كبشاًيستحلّ حرمتها، وقال: إنّه لا يحبّ أن يكون ذلك الكبش ((1))، فأشار لابن الزبير بإشارةٍ لائحةٍ معرِّضاً به ((2))، ومحذّراً له من التورّط في استباحة الحرم، بَيد

ص: 165


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق السيّد علي أشرف، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 245، بحار الأنوار: 44 / 185، العوالم للبحرانيّ: 17 / 54.

أنّه لا يُبصِر، وقد أعماه هواه الّذي اتّخذه إلهاً من دون الله.

التلميح الخامس: ذكر البديل عن القتل في الحرم

ذكر الإمام (علیه السلام) بدائل بإزاء قتله في الحرم، وأنّها أحبّ إليه، فقال: لئن يُقتل بالطفّ، أو على تلٍّ أعفر، أحبّ إليه مِن أن يُقتل بالحرم، ولئن يُدفن بشاطئ الفرات، أحبّ إليه من أن يُدفن بفناء الكعبة ((1)).

والظاهر أنّ المواضع الثلاث المذكورة كلّها تشير إلى موضعٍ واحدٍ بعينه، فشاطئ الفرات هو نفسه الطفّ، وهما اللذان عبّر عنهما ب-- (تلٍّ أعفر).

والأعفر: الرمل الأحمر، والعفر من الظباء الّتي تعلو بياضها حمرة ((2)).

فيكون التلّ الّذي أشار إليه الإمام (علیه السلام) موصوفاً ب-- (أعفر)، أي: أنّ رملهأحمر، أو تعلوه الحمرة، وهي صفة تربة كربلاء إلى يوم الناس هذا.

فهي _ إذن _ إشارةٌ إلى كربلاء العراق.. الأرض الموعودة الّتي امتزجَت بها الدماء الزاكيات، وهو نفس ترجيحه وحبّه أن يُدفن بشاطئ الفرات على أن يُدفن بفناء الكعبة.

فكأنّ الإمام (علیه السلام) يقول لابن الزبير: أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ مِن أن أُقتل في مكّة، وأن أُدفن بكربلاء أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة.

ص: 166


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
2- أُنظر: لسان العرب: عَفَر.

وفي ذلك تعريضٌ بابن الزبير من جهة، وبيانٌ واضحٌ وتصريحٌ يُعلِن فيه الإمام (علیه السلام) أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله الحتميّ فيها.

بمعنى: أنّ القتل يلاحقه، وأنّه سيُقتَل لا محالة، والعدوّ لا يتراجع عن ذلك، تماماً كما فعل مع جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبيه أمير المؤمنين وأُمّه الصدّيقة الطاهرة وأخيه الحسن وأبنائه الأئمّة الهداة (علیهم السلام) ، بَيد أنّه إن بقي في مكّة فسوف تُهتَك به حرمتها، فأحبّ أن يخرج إلى العراق _ حيث الأرض الموعودة _ ثمّ فلْيكن القتل، فإنّه لا يخاف الموت.

وإن شئت فقل:

إنّ القوم قد اختاروا قتل الإمام (علیه السلام) ، وعزموا عليه عزماً أكيداً لا يقبل التردّد، واختار الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) المكان _ بغضّ النظر عن العامل الغيبيّ _ وفق ما أسفرت عنه مجريات الأحداث ومسيرة الحوادث، بعد أن خذله أهل الأمصار جميعاً بما فيها مكّة والمدينة، وبعد أن أعلنت له ثُلّةٌ منالديّانين القليل استعداد النصرة والذبّ عنه والدفاع عن آل الله، كما وعده سرابٌ متموّجٌ مهزومٌ مهزوزٌ كاذبٌ غدّارٌ تمثّل بمن كاتبه ووعده النصرة والدفاع، ثمّ نكص وانقلب على عقبيه، واختار أولاد البغايا على أبناء الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) .

التلميح السادس: لو كنتُ في جُحر هامّةٍ لَاستخرجوني!
اشارة

لقد قال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن الزبير كلاماً قاله لغيره أيضاً، فقد سمعنا في هذا المقطع من النصّ خطاب الإمام (علیه السلام) ، وهو يقسم بالله ويقول:

ص: 167

«وأيمُ الله، لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني، حتّى يقضوا فيّ حاجتهم» ((1)).

وكان قد قاله لأخيه محمّد ابن الحنفيّة أيضاً..

وقد رُوي بأسانيد: إنّه لمّا منعه (علیه السلام) محمّد ابن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة، قال: «واللهِ _ يا أخي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه، حتّى يقتلوني» ((2)).كما قاله لابن عمّه عبد الله بن جعفر في كتابٍ له:

«فواللهِ _ يا ابن عمّ! _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهود في يوم السبت، والسلام» ((3)).

ورُوي عنه أنّه قال (علیه السلام) :

«واللهِ لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» ((4)).

ص: 168


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 407، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 94.
2- بحار الأنوار: 45 / 98، المنتخب للطريحيّ: 2 / 735، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
4- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 50 الرقم 280، تاريخ الطبريّ: 5 / 393، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 216، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 169، الإرشاد للمفيد: 2 / 77، إعلام الورى للطبرسيّ: 231، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 375، العوالم للبحرانيّ: 17 / 225، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 247، أسرار الشهادة للدربنديّ: 251، وسائل المظفّري لليزديّ: 441، نفَس المهموم للقمّي: 185، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 188، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 62، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 269، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 595، لواعج الأشجان للأمين: 87، مثير الأحزان للجواهري: 40.

وقال لابن عبّاس:

«هيهات هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لم يتركوني، وإنّهم يطلبونني أين كنت، حتّى أُبايعهم كرهاً، ويقتلوني، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللهِ إنّهم ليعتدونعلَيّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت» ((1)).

وقد ورد خلال فترة حركته من مكّة حتّى اختاره الله وقبضه إليه باختياره الكثير من البيانات بنفس المعنى، وإن اختلفت المواقف والعبارات، غير أنّها جميعاً تؤدّي نفس المؤدّى، وسنأتي عليها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

لذا اقتضى المكث عندها _ ولو على عجلٍ _ لإلقاء عدّة نظراتٍ سريعةٍ عليها:

ص: 169


1- أسرار الشهادة للدربنديّ: 246، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 243، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزديّ: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157.
النظرة الأُولى: وضوح الكلمة

إنّها كلمةٌ _ وهو لا ينطق عن الهوى، وكلّ كلمةٍ منه شرعٌ ودِين _ قالها سيّد الشهداء (علیه السلام) في أكثر من موقف، ومع أكثر من شخص، وقد ورد مضمونها ومعناها ومؤدّاها في مواطن كثيرةٍ خلال رحلة الشهادة، فهي ليست كلمةً قد صدرت في ظرفٍ خاصٍّ وأجواء خاصّةٍ وموقف خاصٍّ يمكن أن تُأوّل ويُلوى عنقها، وتُحمَل على محامل صعبة، ويُفرض عليها فهمٌ خاصٌّ ينبثق من السوابق الذهنيّة للمتلقّي.

إنّها كلمةٌ تُعَدّ مفتاحاً كبيراً وباباً يلج منه المتابع لحركته _ فداه العالمين _،ويفهم من خلالها موقفه والمشهد الّذي تحرّك فيه..

هي كلمةٌ واضحةٌ جليّةٌ بيّنةٌ سافرةٌ باديةٌ ساطعةٌ صارخةٌ لامعةٌ مُشرقةٌ مضيئةٌ صريحةٌ نيّرة، لا خفاء فيها ولا غموض ولا إبهام ولا استتار ولا إضمار ولا غمغمة ولا عتمة..

كلامٌ صدر من مالك اللغة والمتصرّف بها وسيّد البلاغة وأمير الفصاحة، بألفاظٍ سهلةٍ جزلةٍ سلسةٍ ميسّرةٍ مأنوسةٍ مألوفةٍ غير عسيرةٍ ولا صعبةٍ ولا معقّدةٍ ولا مستغلقةٍ ولا مستعصية، وإنّما قريبة المنال قريبة من الفهم لمن يعرف مفردات اللغة وتركيباتها، ولو بأدنى مستوى!

ومهما قلنا وكتبنا عن هذه الكلمة وأهميّتها، فإنّنا نجزم أنّنا لا نبلغ، ولا يبلغ أحدٌ من العالمين إلّا مَن استثناهم الله.

سيّما أنّها وردت في المصادر التاريخيّة عند المتقدّمين والمتأخّرين،

ص: 170

وشهدت لها كلمات الإمام (علیه السلام) الأُخرى ومواقفه وسيَر الحوادث ومجريات الأحداث.

النظرة الثانية: القسَم

إنّ الإمام (علیه السلام) أصدق الخلق، وإذا قال فهو لا يقول إلّا الحقّ، ولا ينطق عن الهوى، فإذا أقسم فهو يُقسِم كما يُقسِم الله في كتابه الكريم، فليس قسمه لبيان صدقه كما قد يضطرّ الإنسان العادي إلى ذلك، وإنّما هو يقسم للتأكيد ولإقناع النفوس الّتي قد لا ترضخ لكلامه ولا تسكن إلى بيانه لما فيها مِن غشٍّ ودغلٍوخبّ، أو لبيان التحقّق للقلوب الواعية الّتي تسلّم بمقاله..

والقسم هنا بلفظ الجلالة، وليس ثمّة قسمٌ أعظم منه!

فلا مجال للشكّ والتردّد والوسوسة والتكهّن والالتباس والتوهّم والريبة والمراء في ما يريد أن يقول، ولا مجال للتأويل والتخمين والتكلّف فيما صرّح به.

فالكلام واضح، قد ورد في المصادر القديمة كما ورد في مصادر المتأخّرين من الفريقين، والمتكلّم معصوم، وقد أقسم على ما يقول.

ولولا أهميّة المقسَم عليه لما أقسم الإمام (علیه السلام) ، وهو لا يصدر منه الفضول، حاشاه! فلمّا أقسم (علیه السلام) علمنا أنّ الموضوع في غاية الأهميّة، وعرفنا ضرورة التأمّل فيه والأخذ به، وإمعان النظر في مؤدّاه، والسعي لإدراك مغزاه.

النظرة الثالثة: لو كنتُ في جُحر هامّة!

هوامّ الأرض هي حشراتها وما يدبّ عليها دبيباً، وهي تتّخذ حُفَراً في

ص: 171

الأرض ربّما كانت ضيّقةً وعميقة، ولها مسارب تحت الأرض، وهي مظلمةٌ ومستترة، وليس لها إلى وجه الأرض سوى ما يسمح لها بالمرور.

وهي تملأ الأرض شرقاً وغرباً، ولا تكاد بقعةٌ من بقاع الأرض ولا صقعٌ من الأصقاع ولا بلدٌ من البلدان تخلو منها، بل ربّما لا يخلو منها دارٌ ولا بيتٌ ولا غرفة، وهي تملأ الصحارى والفيافي والجبال والسهول والوديان والأنهار والبحار والمحيطات، وتنتشر على وجه البسيطة، وعلى ما فوقها من أشجارونباتات، وغيرها من المواضع الّتي يمكن أن تكون في الأرض..

والبحث عن شيءٍ في جحور الهوامّ يعني المستحيل، فضلاً عن العثور عليه.. الاحتمالات لا تُحصى، والمواضع لا تُدرَك، والظروف المحيطة لا تسمح..

هذه هي الصورة الّتي رسمها سلطان المظلومين (علیه السلام) لعدّوه الّذي يطارده ويطلبه!

إنّه سيفعل المستحيل..

إنّه سيُقدِم على ما يطلب من الدم الزاكي والرأس المقدّس مهما كان الثمن.. سوف لا ولن يتهاون ويتراجع ويسكن ويهدأ ما لم يحقّق ما يريد..

إنّه سيبحث عنه في غياهب الأرض وظلمات البحار وفي أطباق الثرى، ويركب الأهوال والأمواج، ويغوص في دياجير المحيطات، ليصطاد الصيد السماويّ المقدّس الدامي..

فإلى أين سيذهب سيّد الشهداء (علیه السلام) وقد خذله سكّان الأرض إلّا الديّان

ص: 172

القليل الموجود في العراق فقط؟!

يا غريب الغرباء، يا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقرّة عين الوصيّ (علیه السلام) وثمرة فؤاد الزهراء (علیها السلام) وصنو السبط الأكبر (علیه السلام) ، يا أبا الشهداء.. أتضيق الدنيا على ابن محمّدٍ حتّى لا سماء تُظِلّه ولا أرض تُقِلّه؟!!

ليست اليمن، ولا شعف الجبال، ولا التنقّل من بلدٍ إلى بلدٍ والترحال، ولاالتوغّل في أكناف الصحارى وأعماق القفار الّتي اقترحها عليه مَن اقترح، بل ضرب الإمام (علیه السلام) جُحر هوامّ الأرض مثلاً.. لا شيء منها تحميه ولا تأويه ولا تدفع عنه عادية القرود المسعورة والعسلان المترصّدة به، لتملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربة سُغباً..

فإنّه إن كان في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ.. هكذا بالتنكير: «جُحر، هامّة».. لتشمل أيّ جُحرٍ وأيّ هامّةٍ من هذه الهوامّ جميعها دون استثناء، على كثرة عددها الّذي لا يُحصيه إلّا الله في الإمام المبين.. فإنّهم سيلاحقونه ويستخرجونه!

يستخرجونه.. لا أنّه يخرج عليهم!!!

النظرة الرابعة: حتّى يقضوا فيّ حاجتهم!

حتّى يقضوا فيّ حاجتهم..

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّ لهم حاجةً فيه.. إنّها حاجة.. مطلب.. ضرورةٌ تعوزهم.. لا يستغنون عنها ولا يكلّون ولا يملّون في طلبها، ولا يرضون بالبديل عنها!

ص: 173

حاجتهم المتجذّرة في أعماقهم.. تماماً كالحاجة إلى الأكل حينما يسغب الحيوان المفترس..

حاجتهم فيّ!

وقد فسّرت باقي النصوص هذه الحاجة.. لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني، فقتله هي حاجتهم وضرورتهم الملحّة الّتي لا يمكنهم أن يتخلّوا عنها، ولا أن يتوانوا في ملاحقتها..غير أنّ هذا القتل ليس هو وحده الحاجة، وإنّما الانتقام والتشفّي، وإطفاء نيران الحقد والعداوة والبغضاء والشحناء والحسد، كما يشهد له نصّ ابن سعدٍ ومَن تلاه..

«واللهِ لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» ((1))..

ص: 174


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 50 الرقم 280، تاريخ الطبريّ: 5 / 393، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 216، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 169، الإرشاد للمفيد: 2 / 77، إعلام الورى للطبرسيّ: 231، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 375، العوالم للبحرانيّ: 17 / 225، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 247، أسرار الشهادة للدربنديّ: 251، وسائل المظفّري لليزديّ: 441، نفَس المهموم للقمّي: 185، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 188، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 62، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 269، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 595، لواعج الأشجان للأمين: 87، مثير الأحزان للجواهري: 40.

فهم لا يكتفون باستخراجه لقتله فحسب، وإنّما يُمعِنون في التشفّي وإظهار العداوة والأحقاد والضغائن باستخراج العلقة المقدّسة مسكن إرادة الله مِن جوفه!

مطلوبٌ قلبه _ قلب العالم ومركز العلم الإلهيّ والأسماء الحسنى، ومعدن التوحيد والدين والتشريع ونبع الحياة _، تماماً كما طلبت هند كبد عمّهالحمزة (علیه السلام) وقلبه!

التلميح السابع: تمثيل الاعتداء عليه باعتداء بني إسرائيل
اشارة

بعد أن أقسم الإمام (علیه السلام) على ما ذكره من ملاحقتهم له، وأنّهم يطلبونه على كلّ حالٍ وفي كلّ مجالٍ حتّى يقضوا فيه حاجتهم ويقتلونه، ويستخرجوا العلقة المقدّسة من جوفه، ضرب لهم مثلاً باعتداء بني إسرائيل واليهود في اعتدائهم في السبت أو على السبت، وأنّهم سيعتدون عليه تماماً مثل اعتداء أُولئك..

«وأيمُ الله، لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني، حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ [خ ل: لَيعتدوا فيّ] كما اعتدَت اليهودُ في السبت» ((1)).

ص: 175


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 407، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 94.

وسوف نحاول استجلاء ما في هذا التمثيل والتشبيه من دلالاتٍ ومعانٍ من خلال الجلوات التالية:

الجلوة الأُولى: حديث الإمام السجّاد (علیه السلام)

ورد في تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) :

«وقال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) :كان هؤلاء قوماً يسكنون على شاطئ بحر، نهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت.

فتوصّلوا إلى حيلةٍ ليُحلّوا بها لأنفسهم ما حرّم الله، فخدّوا أخاديد، وعملوا طرقاً تؤدّي إلى حياض، يتهيّأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق، ولا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرجوع منها إلى اللُّجج.

فجاءت الحيتان يوم السبت جاريةً على أمان الله لها، فدخلَت الأخاديد، وحصلت في الحياض والغدران.

فلمّا كانت عشيّة اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن صائدها، فرامت الرجوع فلم تقدِر، وأُبقيَت ليلتها في مكانٍ يتهيّأ أخذها يوم الأحد بلا اصطياد، لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها.

فكانوا يأخذونها يوم الأحد، ويقولون: ما اصطدنا يوم السبت، إنّما اصطدنا في الأحد. وكذب أعداء الله، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم الّتي عملوها يوم السبت، حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم، وتنعّموا بالنساء وغيرهنّ لاتّساع أيديهم به.

وكانوا في المدينة نيفاً وثمانين ألفاً، فعل هذا منهم سبعون ألفاً، وأنكر

ص: 176

عليهم الباقون، كما قصّ الله (تعالى): ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِيكَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ _ الآية ((1)).

وذلك أنّ طائفةً منهم وعظوهم وزجروهم، ومن عذاب الله خوّفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم، فأجابوهم عن وعظهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ بذنوبهم هلاك الاصطلام، ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾، فأجابوا القائلين لهم هذا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾، هذا القول منّا لهم، ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ إذ كُلّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربُّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم، قالوا: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ((2))، ونعظهم أيضاً لعلّهم تنجع فيهم المواعظ، فيتّقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها.

قال الله (عزوجل) : ﴿فَلَمَّا عَتَوْا﴾، حادوا وأعرضوا وتكبّروا عن قبولهم الزجر، ﴿عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ ((3))، مُبعَدين عن الخير مُقصَين.

قال: فلمّا نظر العشرة الآلاف والنيف أنّ السبعين ألفاً لا يقبلون مواعظهم، ولا يحفلون بتخويفهم إيّاهم وتحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى

ص: 177


1- سورة الأعراف: 163.
2- سورة الأعراف: 164.
3- سورة الأعراف: 166.

قريةٍ أُخرى قريبةٍ من قريتهم، وقالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم.

فأمسوا ليلة، فمسخهم الله (تعالى) كلّهم قردةً خاسئين، وبقي باب المدينة مغلَقاً لا يخرج منه أحدٌ ولا يدخله أحد.

وتسامع بذلك أهل القرى، فقصدوهم وتسنّموا حيطان البلد، فاطّلعوا عليهم، فإذا هم كلّهم رجالهم ونساؤهم قردةٌ يموج بعضهم في بعض، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم، يقول المطّلع لبعضهم: أنت فلان! أنتِ فلانة! فتدمع عينه، ويومئ برأسه بلا أو نعم.

فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام، ثم بعث الله (عزوجل) عليهم مطراً وريحاً فجرفهم إلى البحر، وما بقي مسخٌ بعد ثلاثة أيّام، وإنّما الّذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباهها، لا هي بأعيانها، ولا مِن نسلها.

ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) :

إنّ الله (تعالى) مسخ هؤلاء لاصطياد السمك، فكيف ترى عند الله (عزوجل) يكون حال مَن قتل أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتك حريمه! إنّ الله (تعالى) وإنْ لم يمسخهم في الدنيا، فإنّ المعدّ لهم من عذاب الله في الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ.

فقيل له: يا ابن رسول الله، فإنّا قد سمعنا منك هذا الحديث، فقال لنا بعض النصّاب: فإن كان قتل الحسين (علیه السلام) باطلاً فهو أعظم مِن صيدالسمك في السبت، أفما كان يغضب الله على قاتليه كما غضب على

ص: 178

صيّادي السمك؟!

قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) : قل لهؤلاء النصّاب:

فإن كان إبليس معاصيه أعظم من معاصي مَن كفر بإغوائه، فأهلك الله (تعالى) مَن شاء منهم كقوم نوحٍ وفرعون، ولم يُهلِك إبليس وهو أَولى بالهلاك، فما باله أهلك هؤلاء الّذين قصروا عن إبليس في عمل الموبقات، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المخزيات، ألا كان ربّنا (عزوجل) حكيماً بتدبيره وحكمه فيمن أهلك وفيمن استبقى؟

فكذلك هؤلاء الصائدون للسمك في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين (علیه السلام) ، يفعل في الفريقين ما يعلم أنّه أَولى بالصواب والحكمة، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ ((1)).

ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) :

أما إنّ هؤلاء الّذين اعتدوا في السبت لو كانوا حين همّوا بقبيح أفعالهم سألوا ربّهم بجاه محمّدٍ وآله الطيّبين أن يعصمهم من ذلك لَعصمهم، وكذلك الناهون لهم لو سألوا الله (عزوجل) أن يعصمهم بجاه محمّدٍ وآله الطيبين لَعصمهم، ولكنّ الله (تعالى) لم يُلهمهم ذلكولم يوفّقهم له، فجرت معلومات الله (تعالى) فيهم على ما كان سطره في اللوح المحفوظ.

وقال الباقر (علیه السلام) : فلمّا حدّث عليّ بن الحسين (علیهما السلام) بهذا الحديث، قال

ص: 179


1- سورة الأنبياء: 23.

له بعض مَن في مجلسه: يا ابن رسول الله، كيف يُعاقب الله ويوبّخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتى بها أسلافهم، وهو يقول (عزوجل) : ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ((1))؟!

فقال زين العابدين (علیه السلام) :

إنّ القرآن نزل بلغة العرب، فهو يُخاطِب فيه أهل هذا اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميميّ قد أغار قومه على بلدٍ وقتلوا مَن فيه: أغرتُم على بلد كذا وكذا، وقتلتم كذا، ويقول العربيّ أيضاً: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا، لا يريد أنّهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل، وأُولئك بالافتخار أنّ قومهم فعلوا كذا.

وقول الله (تعالى) في هذه الآيات إنّما هو توبيخٌ لأسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لأنّ ذلك هو اللغة الّتي بها أنزل القرآن، فلأنّ هؤلاء الأخلاف أيضاً راضون بما فعل أسلافهم،مصوّبون ذلك لهم، فجاز أن يُقال لهم: أنتم فعلتم، أي: إذ رضيتم بقبيح فعلهم» ((2)).

الجلوة الثانية: المطلوب من اليهود

نهى الله اليهود عن صيد الحيتان يوم السبت، فالمطلوب منهم هو اجتناب صيد السمك في هذا اليوم بالذات، فاحتالوا على الأمر الإلهيّ، فحبسوا الأسماك

ص: 180


1- سورة الأنعام: 164.
2- تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) : 266.

يوم السبت واصطادوها يوم الأحد، حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم وتنعّموا بالنساء وغيرهنّ.

فهم حلّلوا ما حرّم الله، وانتهكوا الحرمات من أجل هذه الشهوات، وأخرجوا السمك من الماء العذب الزلال، ليقعوا هم في مستنقعات الرذيلة والضلال، وينقلبوا قردةً وخنازير نتيجة طمعهم بالشهوات واللذائذ الهابطة.

وما كان عليهم أكثر مِن أن ينتظروا يوماً في الأُسبوع، غير أنّهم فعلوا!

يبدو أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما ضرب المثل بهم ليُعرِب لمن يلقي السمع وهو شهيدٌ أنّ هؤلاء سيفعلون ولا يتخلّفون، ويتحقّق منهم القتل الّذي يسعون إليه بكلّ ما أُوتوا ولو بارتكاب ما لا يمكن أن يُرتكَب.فكما أنّ اليهود قد تحقّق منهم الفعل بالخارج بأيّ وسيلة، كذلك سيتحقّق الفعل من هؤلاء الأوباش الأوغاد بأيّ وسيلةٍ كانت.

الجلوة الثالثة: براءة الحيتان

نهى الله اليهود عن اصطياد الحيتان يوم السبت، فجاءت الحيتان يوم السبت جاريةً على أمان الله لها، وكانوا قد عملوا حيلةً فهيّأوا لها طرقاً تؤدّي إلى حياض، إذا دخلت فيها الحيتان من تلك الطرق لا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرجوع منها إلى اللجج.

فالحيتان لم يكن لها أيّ دورٍ في تأليب اليهود واستفزازهم، وإنّما كانت تمشي في أمان الله وعلى بركة الله، وتسير سيرتها اليوميّة العاديّة الرتيبة، واليهود هم الّذين عملوا الحيلة وأحلّوا الحرام واعتدوا عليها، وحبسوها ومنعوها من أن

ص: 181

تعود إلى اللجج، وترجع من حيث جاءت، وكلّما حاولَت الرجوع وجدَت الطرق مسدودةً في وجهها.

وهذا ما حدث تماماً مع سيّد الشهداء وإمام السعداء الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، بل زادت هذه الأُمّة التعيسة على اليهود، فلاحقت الإمام (علیه السلام) من المدينة وحاصرته بذريعة التخيير بين البيعة ومناولة القرود وبين القتل (الذلّة والسلّة)، وطالما حذّرهم وخوّفهم هو ومَن معه وقال لهم: دعوني أذهب في أرض الله العريضة، فأبوا، وملؤوا الدنيا جيوشاً وعساكر غصّت بهم الصحراء المترامية، فمنعوه وأبوا إلّا أن يقتلوه، وقد اختصر ابن الأَمة الفاجرة فعلهم الّذيأشبه فعل اليهود في سدّ الأبواب والإطباق على الأرجاء والآفاق بقوله:

الآن وقد علقت مخالبنا به

يرجو النجاة، ولات حين مناصِ

وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

الجلوة الرابعة: قلب الموازين وتحليل الحرام

لقد نهاهم الله وأنبياؤه _ وليس نبيّاً واحداً _ عن اصطياد السمك في يوم السبت، فدعَتهم نوازعهم الآثمة، ورغباتهم الخسيسة، وشهواتهم الرذيلة، وأنفسهم الحقيرة، وطباعهم اللئيمة، وحقارتهم الساقطة، إلى الاحتيال على الأمر الإلهيّ، فعمدوا إلى ما فعلوا، وقلبوا الموازين في أنفسهم، وجعلوا الحرام حلالاً بزعمهم، فانتكسوا وارتكسوا وانغمسوا في الخطيئة، وعلقوا بأوحال النذالة والمثالب وسوءات الذنوب..

ص: 182

تماماً كما فعلَت هذه الأُمّة مع إمامها وقائدها وسيّدها وابن سيّدها، إذ قلبوا الموازين، وحلّلوا لأنفسهم ما حرّمه الله منه، ونادوا على رؤوس الأشهاد أنّهم يقتلون رجلاً خرج عن الدين وتمرّد على سلطان زمانه، وهو خليفة رسول الله! فأحلّوا قتله وأباحوا دمه، وسبوا حريمه.

بل زادت هذه الأُمّة في شقائها وبؤسها وتعاستها ونكدها على أُولئك الملعونين من اليهود، إذ أنّ اليهود اقتصروا على صيد الحيتان المحرّمة طلباً للدنيا، حيث كانت دنياهم وثراؤهم في صيدها، وعدَتْ هذه الأُمّة على ابن نبيّها فقتلته، وهو لا يريد من دنياهم شيئاً ولم يتعرّض لها بشيء!

الجلوة الخامسة: الاعتداء في الزمن الحرام

إنّما حرّم الله الصيد على اليهود يوم السبت، فجعل للسبت حرمةً دون سائر الأيّام، وقد اعتدت اليهود على السبت وفي السبت، فلم ترعَ للزمن حرمته، وارتكبت فيه المأثم.

وقد انتهكت هذه الأُمّة المتعوسة المنحوسة حُرمة الزمن الحرام والفعل الحرام، ولم ترعَ لله حرمةً في رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

قال الإمام الرضا (علیه السلام) :

«إنّ المحرم شهرٌ كان أهلُ الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتكَت فيه حرمتُنا، وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمَت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمةٌ في أمرنا.

ص: 183

إنّ يوم الحسين (علیه السلام) أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء، أورثَتنا الكربَ والبلاء إلى يوم الانقضاء ...» ((1)).

الجلوة السادسة: غضب الله لاصطياد السمك!

إنّ الله مسخ هؤلاء اليهود قردةً وخنازير، ثمّ بعث عليهم مطراً وريحاًفجرفهم إلى البحر لاصطيادهم السمك، فكيف ترى عند الله (عزوجل) يكون حال مَن قتل أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتك حريمه؟!

إنّ الله غضب لفصيل ناقة صالح، وقد قال أبو الشهداء (علیه السلام) عند قتل رضيعه: «اللّهمّ لا يكون عليك أهون من فصيل ناقة صالح».

إنّ الله يُمهِل، ولا يهمل! فهو إن لم يمسخهم في الدنيا، فإنّه قد أعدّ لهم من العذاب في الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ، فإنّ في النار لَمنزلةٌ لم يكن يستحقّها أحدٌ من الناس إلّا قاتل الحسين بن عليّ ((2))، وهو في تابوتٍ من نارٍ عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكّس في النار حتّى يقع في قعر جهنّم، وله ريحٌ يتعوّذ أهلُ النار إلى ربّهم من شدّة نتنه، وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم مع جميع مَن شايع على قتله، كلّما نضجت جلودهم بدّل الله (عزوجل) عليهم الجلود حتّى يذوقوا العذاب الأليم، لا يفتّر عنهم ساعة، ويسقون من حميم جهنّم، فالويل لهم من عذاب الله (تعالى)

ص: 184


1- الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 2، بحار الأنوار: 44 / 284 ح 18.
2- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 78 الباب 25.

في النار ((1)).

فكما أعدّ الله للمؤمن مفاجآتٍ يوم يرى من النعيم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعَت ولا خطر على قلب بشر، فإنّه أعدّ لقتلة الإمام الحسين (علیه السلام) من العذابوالنكال ما لا يعلمه إلّا الله ومن أطلعه الله، والدنيا لا تسع الانتقام لثار الله مهما بلغ، فقد ورد عن عيص بن القاسم قال:

ذُكر عند أبي عبد الله (علیه السلام) قاتلُ الحسين (علیه السلام) ، فقال بعض أصحابه: كنت أتمنّى أن ينتقم الله منه في الدنيا!

قال: «كأنّك تستقلّ له عذاب الله! وما عند الله أشدّ عذاباً وأشدّ نكالاً منه» ((2)).

الجلوة السابعة: التوسّل بمحمّدٍ وآل محمّد

لقد عصى اليهود وارتكبوا ما سخط الله به عليهم وعذّبهم بالمسخ والهلاك والاستئصال، بَيد أنّ ثمّة عروةٌ وثقى جعلها الله لهم، لو تمسّكوا بها وتوسّلوا إلى الله لَعصمهم فكان لهم سبيل نجاة! فلو كانوا حين همّوا بقبيح أفعالهم سألوا ربّهم بجاه محمّدٍ وآل محمّدٍ الطيّبين، لحجزهم الله عن ركوب المعصية وسدّدهم وهداهم.

وقد ورد في أحاديثنا أنّ الأنبياء كانوا يحدّثون الأُمم السابقة بمحمّدٍ وآله

ص: 185


1- أُنظر: عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : 2 / 47 الباب 31.
2- ثواب الأعمال للصدوق: 216.

ويعرّفونهم لهم، تماماً كما أخبر القرآن الكريم عن عيسى حين بشّر برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد..

فتعساً وترحاً وبؤساً وشقاءً ولعنةً تغدو ولا تروح لأُمّةٍ عدت على سبيلنجاتها ونجاة الأُمم فردمته، وتوثّبت على محمّدٍ وآل محمّدٍ حتّى قتلته وقتلتهم، وفصمت العروة الوثقى بينها وبين ربّها وباريها!

الجلوة الثامنة: سيبعث عليهم مَن ينتقم منهم

لقد عاقب الله ووبّخ الأخلاف على قبائح أتى بها أسلافهم؛ لرضاهم بفعلهم، وافتخارهم بما فعلوا، وتصويبهم لهم، فصحّ أن يُنسَب الفعل إليهم إذا رضوا بقبيح أفعالهم.

وسيبعث الله على قتلة غريب الغرباء (علیه السلام) وذراريهم الراضين بفعل أسلافهم سيفه البتّار، الّذي تتطاير من شفرتيه حمم النار، ويومض من اهتزازه انتقام الملِك المنتقم الجبّار، يوم يخرج وليّ الدم والثأر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، وهو قريبٌ بإذن الله، وإن رأوه بعيداً! أليس الصبح بقريب؟

الجلوة التاسعة: الإمام (علیه السلام) مُعتدىً عليه

ربّما كان في الجلوات السابقة ما يفيد هذا المعنى بوضوح، ولا ضرورة للتكرار، بَيد أنّ أهميّة الموضوع من جهة، وتصريح سيّد الشهداء (علیه السلام) من جهةٍ أُخرى، دعا لإفراد العنوان.

لقد استعمل الإمام لفظ (الاعتداء) مرّتين، أحدهما حين تكلّم عن فعل

ص: 186

اليهود، والأُخرى حين أخبر عمّا سيفعله جزماً حتماً هؤلاء الأشقياء المبعَدين، وبهذا أكّد على أنّ الإمام (علیه السلام) معتدىً عليه، من دون أن يقدم هو على شيءٍ يسوغ لهم هذا الاعتداء.والمعتدي هو مَن ظلم ظلماً جاوز فيه القَدْر ((1))، فقد ظلموا الإمام (علیه السلام) وتجاوزوا فيه القدر، وهو مظلومٌ معتدىً عليه!

صلّى الله عليك يا مظلوم، يا ابن أوّل مظلومٍ وأوّل مَن غُصب حقّه!

الجلوة العاشرة: خلاصة الجلوات

يمكن تلخيص مؤدّى الجلوات السابقة بالقول:

إنّ الإمام (علیه السلام) أخبر عن كونه مظلوماً، لم يقدِم على أيّ عملٍ ضدّ القوم ولا استفزاز لهم، وقد سلك طريقه في الحياة كما تجري الحيتان في المياه على أمان الله، فحاصروه، حتّى أخرجوه من مدينة جدّه وبيت ربّه، وسدّوا عليه الطرق، وضيّقوا عليه وأطبقوا عليه الآفاق، وكانوا يطلبونه ويلاحقونه، فلمّا علقت مخالبهم به واطمأنّوا أنّهم مانعوه من الرجوع إلى (اللُّجج) وإلى أرض الله الوسيعة، أجّلوه عشية اليوم التاسع، تماماً كما كان اليهود يتربّصون بالحيتان إلى يوم الأحد، فأحاطوا به وأسروه وتكاثروا واعتدوا عليه، وقتلوه من غير جُرم، وسينتقم الله منهم في الدنيا والآخرة!

ص: 187


1- أُنظر: لسان العرب: عَدَوَ.
التلميح الثامن: فحوى الردّ

ربّما يكون ثمّة تكراراً إن أردنا اختصار ما مرّ معنا في التلميحات السابقة،وربّما كان التكرار في مثل هذه المواضع نافعاً؛ إذ أنّ المادة فيها فروعٌ وتشعّباتٌ كثيرة، وربّما يعسر على الذهن متابعتها جميعاً بتسلسلٍ سلس، فيحتاج إلى وقفةٍ تجعله يلملم خيوط البحث ويستخلص النتيجة.

علاوةً على ذلك، فإنّ المقصود من البحث ربّما يكون غير مألوفٍ لذهنٍ مُثقَلٍ بالسوابق المفارقة لما يتوخّاه هذا البحث، والنتائج الّتي يريد الخروج بها، فربّما نازع التكرار السوابق وجاذبها، وسبّب لها اهتزازاً يسمح للفكرة الجديدة أن تفتح لنفسها مجالاً بين أكداس الخزين الفكريّ والذهنيّ.

مع ذلك، فإنّنا نحاول تجانب التكرار من خلال إضافة بعض الجديد، والإشارة إلى الفحوى الأخير الّذي نريد التنويه به.

إنّ كلّ ما سمعناه من سيّد الشهداء (علیه السلام) هنا في مقام الردّ على ابن الزبير _ بغضّ النظر عن غيره من كلامه الشريف _ لا يشي بوجود موقفٍ خاصٍّ عند الإمام (علیه السلام) سوى الإخبار عن عزم القوم على قتله، وسعي الإمام (علیه السلام) الجادّ في إنقاذ حرمة الحرم لئلّا تنتهك به، وأنّهم قاتلوه على كلّ حالٍ وفي كلّ تقدير.

وربّما شهد لذلك تأكيد الإمام (علیه السلام) على حبّه الابتعاد عن الحرم ولو بمقدار شبرٍ أو شبرين، ليتبيّن أنّ الدافع الأصليّ لخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة إنّما هو حماية حرمتها، أمّا الجهة الّتي سيتوجّه إليها، فهذا أمرٌ آخَر سنأتي على تفصيله في محلّه إن شاء الله.

* * * * *

ص: 188

لم نسمع من الإمام (علیه السلام) شعاراتٍ مرفوعة، ولا تحريضاً على أحدٍ من السلطان وأزلامه، ولا تجييشَ الرجال ودعوتهم للبيعة للانقضاض على غابة القرود واقتلاعها من أعواد المنابر، ولا أيّ هدفٍ آخَر مُعلَنٍ أو مُلوَّحٍ به من قريبٍ أو بعيد، سوى ما ذكرنا من حماية حرمة البيت والابتعاد عنه، لأنّ العدوّ يُلاحقه ويتوثّب لتقطيعه وسفك دمه الزاكي واستخراج العلقة المقدّسة من جوفه.

ولم نسمع منه _ إلى حين حديثه مع ابن الزبير _ كلمةً واحدةً أو موقفاً واحداً أو إشارةٍ أنّه ينوي الخروج ب-- (المعنى المصطلَح)، وتنمّ عن تبييت حركةٍ خاصّةٍ بأهدافٍ معيّنةٍ مسبقاً تقصد عفاريت السلطة وحياتهم وكيانهم وسلطانهم، وتسعى لجمع الرجال والسلاح والمال والتخطيط من أجل تحقيق ذلك.

الجواب الثاني: فضح ابن الزبير
اشارة

بعد أنّ حثّ ابنُ الزبير الإمامَ (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، وأكّد له أن لو كان له بها مثل شيعة الإمام (علیه السلام) ما عدل بها، ثمّ خشيَ أن يتّهمه فاقترح عليه الإقامة في مكّة، على التفصيل الّذي مضى قبل قليل..

قال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) :

«ها، إنّ هذا ليس شيءٌ يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه مِن أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ

ص: 189

الناس لم يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجتُ منها لتخلو له» ((1)).

ربّما لا يُعدّ هذا جواباً مباشراً لابن الزبير، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قال هذا الكلام لمن حوله، فربّما سمع ابن الزبير أو لم يسمع، وليس هذا يهمّنا كثيراً، وإنّما اعتبرناه جواباً بلحاظ أنّ الإمام (علیه السلام) أخبر عن كذب ابن الزبير فيما يدّعيه ويزعمه، كما سنلاحظ من خلال الدلالات التالية:

الدلالة الأُولى: تكذيب ابن الزبير في الدعوة للبقاء

لقد طرح ابن الزبير خيار البقاء في مكّة على الإمام (علیه السلام) ، وهو يُضمِر خلاف ما يُعلِن، فأخبر الإمام (علیه السلام) _ وهو أعلم الخلق بالخلق، وهو العالم بالله _ أنّ ابن الزبير يكذب في مقاله ودعوته الإمام (علیه السلام) للبقاء، بل هو يتمنّى عكس ذلك تماماً، وليس شيءٌ يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن يخرج من الحجاز.

بعد أن كشف الإمام (علیه السلام) ما انطوى عليه هذا الخادع المكّار، فلو أنّه أقسم بالله ألف ألف مرّةٍ وهو بين الركن والمقام لَما صدق في قسمه، وهو كاذبٌ في دعوته ومزاعمه.

الدلالة الثانية: تكذيبه في دعواه البيعة للإمام (علیه السلام) وإسناده

سمعنا ابن الزبير يَعِدُ الإمام (علیه السلام) إنْ هو مكث في مكّة أن يبايعه ويدعو له الرجال، وينصح له ويؤازره، وغيرها من الوعود التي مرّت معنا قبل قليل..

ص: 190


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

فلمّا أخبر الإمامُ (علیه السلام) أنّ ابن الزبير لا شيء أحبّ إليه من الدنيا من خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة لتخلو له، عرفنا أنّ ابن الزبير كاذبٌ لا يُعدّ صادقاً، ولا يفي بما يَعِد، وهو لا يريدها _ وفق تصوّراته وفهمه _ للإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وإنّما يخدع ويمكر ويكذب، وهو من الأفّاكين!

الدلالة الثالثة: الدافع الّذي يلهث له ابن الزبير

عرفنا من كلام الإمام (علیه السلام) وهو يُعلِن أنّ أحبّ شيءٍ عند ابن الزبير من الدنيا هو خروج الإمام (علیه السلام) لتخلو له مكّة، لأنّه يعلم أن لا يأبه به أحدٌ مع وجود الإمام (علیه السلام) ، فمعنى الأمر الّذي يطلبه ابن الزبير ويتحدّث به ويزعم أنّه أحقّ به من غيره لأنّه من أبناء المهاجرين وغيرها، إنّما هي الدنيا ليس إلّا!

إنّ ابن الزبير يلهث دالعاً لسانه يتمنّى أن يلحس بقايا مقاعد مَن سبقه من الأُمويّين حصراً، ولا يبتغي بعد أن ينال دنياه آخرةً ولا عدلاً، ليس له شعاراتٌ أو أهدافٌ دينيّة أو اجتماعيّة ينحو من خلالها إلى بسط العدل ورفع الحيف والجور والظلم من المجتمع، وإنّما يطمع في المُلك، ويخطّط للوصول له، لأنّه يرى الدنيا فيه.

الدلالة الرابعة: موقع ابن الزبير عند الناس

لقد شهد الإمام (علیه السلام) على ابن الزبير أنّه يعلم علم اليقين أنّ وجود الإمام (علیه السلام) يمحو وجوده عند الناس، وأنّ أحداً منهم لا يعدله بالإمام (علیه السلام) ولا ينظر إليه ولا يكترث به، فلا مجال للمقارنة والمقايسة بين نور الله وبين عتمة

ص: 191

ابن الزبير.

وبهذا ردّ الإمام (علیه السلام) على جميع مزاعم ابن الزبير حين يحشر نفسه مع الإمام (علیه السلام) ، فيقرنه في كلامه بنفسه، ويزعم أنّهما من أبناء المهاجرين، وأنّ حقّهما ثابتٌ لا يخالفهما عليه أحد.

كما ردّ الإمام (علیه السلام) على ابن الزبير حين تنافخ شرفاً وتفاخر بشرفه الذاتي، وشرفه بمن تشرّف به هو والخلق أجمعين، فلا شرف له ولا وجود له حتّى في ميزان الناس، بغضّ النظر عن موازين الدين والإسلام.

فالإمام (علیه السلام) لا يُقاس به أحد، فمَن هذا اللُّكَع الضئيل حتّى يقرن نفسه بالإمام (علیه السلام) ، ويقايس فعله بفعله؟!!

الدلالة الخامسة: لا أهداف مقابل أهداف ابن الزبير

لقد ذكر الإمام (علیه السلام) مقاصد ابن الزبير وما أحبّه، وتمنّيه خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من الحجاز لتخلو له، بَيد أنّه لم يعقّب على ذلك بما ينويه هو وما يقصده ويريده، ولم يذكر الفرق بين أهدافه وشعاراته _ مثلاً _ وأهداف ابن الزبير وشعاراته، ودعوة ابن الزبير ودعوته، وهكذا.. وإنّما خصّ بالذكر ابن الزبير وما ينتابه من مشاعر ويضمره من تمنّيات، والحال أنّ باطل ابن الزبير يحسن أن يواجه بالحقّ الّذي سيقابله وينتصب بإزائه.

يبدو واضحاً أنّ الإمام (علیه السلام) لم تكن لديه أيّ دعوةٍ أو شعاراتٍ أو أهدافٍ ينوي الإعلان عنها إلى تلك اللحظة، وكان ظرفهما وموقفهما ودوافعهماتختلف تمام الاختلاف، ولا تلتقي في أيّ موضع!

ص: 192

فابن الزبير يلهث وراء الدنيا وزخارفها وسفاسفها وبهارجها، فيخطّط لطرح نفسه كبديل، ويدعو للبيعة، ويتوثّب لنيل الأمر.. والإمام (علیه السلام) مُلاحَقٌ مطلوبٌ للقتل، يستعجل الخروج من مكّة لئلّا تُهتَك بدمه الزاكي حرمة البيت!

الدلالة السادسة: يطلب الأمر ولو بقتل الإمام الحسين (علیه السلام)

لقد حثّ ابن الزبير الإمام (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، وزعم أن لو وجد فيها شيعةً كما كانوا للإمام (علیه السلام) لما تردّد في الذهاب فوراً، وكان يودّ لو يخرج الإمام (علیه السلام) إلى العراق، كما أخبر عنه الإمام (علیه السلام) نفسه: «أحبّ إليه مِن أن أخرج من الحجاز إلى العراق»، وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ مقتولٌ لا محالة، وأنّ خروجه إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه وغدروا به _ حسب كلام ابن الزبير نفسه _ سيؤدّي إلى قتله جزماً، وهو مع ذلك يتمنّى خروج الإمام (علیه السلام) لتخلو له مكّة!

فابن الزبير لا يمتنع حتّى من أن يرى ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مقتولاً إذا ما تحقّق له ما يريد، بل سيكون قتل الإمام (علیه السلام) باعث فرحٍ وابتهاجٍ عنده، لأنّه لا يقلّ عداوةً وبغضاً وحقداً على الإمام (علیه السلام) من بني أُميّة، كيف وهو الآن يحسده ويراه حاجزاً دون تحقيق ما يروم!

الجواب الثالث: السكوت

ذكر الخوارزميّ، على نحو الحكاية والنقل بالمعنى لا على نحو الإخبارونقل الرواية:

ص: 193

إنّ ابن الزبير قال كلامه مكراً، لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحدٌ يناويه، فسكت عنه الإمام (علیه السلام) وعلم ما يريد ((1)).

يبدو أنّ ما ذكره يتّفق مع ما ذكره غيره من المؤرّخين، باختلاف أنّ الخوارزميّ هنا لم يذكر جواباً للإمام (علیه السلام) سوى السكوت، والسكوت جوابٌ في مثل هذه الموارد، لذا أفردناه عن غيره من المتون.

والسكوت هنا ليس بمعنى الإقرار، وإنّما بمعنى الامتهان والاحتقار والازدراء والاستخفاف والاستصغار والاستهانة والإهانة، ويشهد لذلك تعقيب الخوارزميّ نفسه بقوله: «وعلم ما يريد» من المكر والحيلة وتمنّي خروج الإمام (علیه السلام) كي لا يبقى في الحجاز مَن يناويه.

ولطالما سكت أمير الكلام وسيّد الفصاحة عن كثيرين، لأنّهم لا يستحقّون الجواب أحياناً لسخف عقولهم، أو لأنّهم يعاندون ويكابرون، أو لأيّ سببٍ يعرفه الإمام (علیه السلام) وهو معدن الحكمة.

بَيد أنّ السكوت في مثل هذه الموارد يكشف لنا عن مستوى ابن الزبير واستحقاقه، ودناءته وحقارته وخبله، وخطل دعوته، وزلل مقاله، وكذب مدّعاه، وتفاهته وحماقته وطيشه وغبائه ونزقه، وهو أهون من أن يكون جاهلاًفيردّ عليه الإمام (علیه السلام) بالسلام، فسكت عنه حتّى ما عاد يستحقّ الجواب من إمام الحِلم والخلُق السامي ومعدن الرحمة والمداراة وإمام الخلق أجمعين.

ص: 194


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
الاقتراح الثاني: التحذير من التوجّه إلى العراق
اشارة

قد تبدو مضامين النصوص الآتية تحذيراً وليس اقتراحاً، بَيد أنّنا أدرجناها تحت عنوان الاقتراحات؛ باعتبار أنّ المؤدّى والنتيجة تفيد النهي عن الخروج إلى العراق والمكث في مكّة المكرمة، كما ورد في متن ابن حجر.

وقد وردت نصوص العنوان كأنّها تحكي سببين للتحذير والنهي، سنأتي على الإشارة إليها فيما يلي:

السبب الأوّل: لقد حضر الحجّ وتدَعْه!

روى ابن قولويه ومَن تلاه، بسندٍ عن الإمام أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) قال:

«إنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبدُ الله بن الزبير، فقال: يا أبا عبد الله، لقد حضر الحجّ وتدَعْه وتأتي العراق؟» ((1)).

وهذا النصّ الشريف يمتاز عن غيره كونه مرويّاً عن الإمام المعصوم (علیه السلام) في كتاب (كامل الزيارات) الشريف لابن قولويه الطيّب الطاهر الثقة المعتمَد.

ومضمونه يشترك مع آخَرين تكلّموا في محضر الإمام (علیه السلام) بنفس الكلام، وقد أتينا على ذكر بعضها مفصَّلاً فيما مضى في كتاب لقاء الفرزدق، فلا حاجة للإعادة في تناول ما جاء هنا بالتفصيل، ونكتفي بالإشارة السريعة.

* * * * *

ص: 195


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.

حدّد الإمام (علیه السلام) يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وذكر أنّ ابن الزبير خرج يشيّع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقال له ما قال بعد أن رأى الإمام الحسين (علیه السلام) قد حسم الأمر وخرج، وتحقّق ما كان يتمنّاه، ويفرك يديه ويمطّ كتفيه ويلحس أنفه بلسانه ويملأ عطفيه جذلان مسروراً بخلوّ الحجاز له وخروج مَن لا يُنظَر إليه بوجوده منها.

ويبدو واضحاً من السياق أنّه يسأل مستنكِراً مستغرباً، كأنّه لا يصدّق أنّ الإمام (علیه السلام) يخرج بهذه السرعة والعجلة غير المتوقّعة، فهو وإن كان أحبّ شيءٍ إليه من الدنيا أن يرى الإمام (علیه السلام) خارجاً عنها، غير أنّ المفروض أن لا يتعجّل الإمام (علیه السلام) فيخرج قبل الموسم، والناس تتّجه إلى المشاعر لأداء النسُك، وما هي إلّا أيامٌ قلائل حتّى ينتهي الموسم، وينفضّ الحجيج ويفيض كلٌّ إلى بلده، وللإمام (علیه السلام) أن يخرج.

فهو إن كان لا يريد أن يدعو الناس ولا ينوي جمع الرجال ولا تحشيد مَن يمكن تحشيده ولا التحريض على الأُمويّين، فهو في أمان _ وفق المتعارف _،فلا هو له شغلٌ بالسلطان، ولا السلطان سيتعرّض له _ وفق القواعد والأُصول _، فليُتمَّ حَجَّه ويُؤدّي نُسُكَه، ثمّ يذهب حيث شاء.

غير أنّ الإمام (علیه السلام) قد أفصح في غير موضعٍ أنّه إن بقيَ تلك الأيّام القلائل فإنّهم يغتالونه، أو يأخذونه أخذاً، لذا اقتضى التعجيل والخروج من مكّة فوراً، وهو القائل: «لئن أُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيها».

فخروج الإمام (علیه السلام) متعجّلاً أيّام الموسم نفسه يستحثّ العاقل للتأمّل،

ص: 196

ليعلم علم اليقين أنّ سبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة إنّما هو اجتناب هتك حرمة البيت بدمه المقدّس الزاكي، بل ربّما كان الأمر واضحاً لكلّ مَن مرّ سريعاً على هذا المشهد، وسمع بهذا الموقف الّذي صرّح أبو عبد الله (علیه السلام) بسببه.

نكتفي هنا بهذا القدر، ونحيل على التفصيل المذكور في محلّه.

السبب الثاني: التحذير من الذهاب إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه
اشارة

ورد في المصادر:

أنّ ابن الزبير لحق الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، فلقيه حين توجّه إلى العراق، فقال: أين تريد؟ قال: العراق. قال إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك!

وسأله _ في بعض النصوص _ مستنكِراً فقال:

• أين تذهب؟! إنّك تذهب إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك!فنهاه ((1)).

• وأعرب عن رأيه فقال: وأنا أرى أنّهم قاتلوك.

وفي بعض النصوص تأكيدٌ في صيغة الجملة: ولا أراهم إلّا قاتليك ((2)).

فأجابه الإمام (علیه السلام) : «وأنا أرى ذلك» ((3)).

ص: 197


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.
2- المناقب لمحمّد بن سليمان: 2 / 262 الرقم 727.
3- المناقب لمحمّد بن سليمان: 2 / 262 الرقم 727، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 219، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 197، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 245، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 185، العوالم للبحرانيّ: 17 / 54، ذخائر العقبى للطبريّ: 151، الصواعق المحرقة لابن حجر: 117، الأمالي للشجريّ: 1 / 174.

هذا هو مجمل ما ورد في نصوص هذا الاقتراح، ويمكن تناوله من خلال اللمحات التالية:

اللمحة الأُولى: وقت اللقاء

يبدو واضحاً أنّ هذا اللقاء إنّما تمّ أثناء خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ومسيره إلى العراق، حيث لحق به ابن الزبير وسأله: أين تريد؟ فهو لقاءٌ بعدانطلاق الركب الحسينيّ وأثناء حركته.

يعني أنّه لقاءٌ في وقت بلوغ ابن الزبير الذروة في الفرح والسرور والاستبشار والابتهاج، وسكون جيّاشات الأماني في أعماقه.. إنّها الساعة المنتظرة الّتي هي أحبّ شيءٍ إليه من الدنيا، فربّما كان لسانه وقلبه المنخور ينطقان معاً، فيظهر على لسانه هذا السؤال، ويستحثّه في قلبه على استعجال الرحيل، لتخلو له الحجاز.

اللمحة الثانية: التحذير من أهل العراق!

كان سؤال ابن الزبير سؤالاً استنكاريّاً على الإمام (علیه السلام) ، وكأنّه يعجب من عزم الإمام (علیه السلام) على المسير إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه.

ص: 198

وهو بهذا القدر موقفٌ كسائر المواقف الأُخرى الّتي سجّلها لنا التاريخ عن المعترضين على الإمام (علیه السلام) ، حيث أكّد الجميع للإمام (علیه السلام) على أنّ أهل الكوفة أهل غدر، وأنّهم قتلوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وطعنوا الإمام المجتبى (علیه السلام) وغدروا به وخانوه، فهو لم يكشف سرّاً ولم يتوصّل بفكره وحساباته الخاصّة لتشخيص ميدان الكوفة وتقديراته، وإنّما هي حقيقةٌ واضحةٌ للعيان يشهدها كلّ ذي عينين.

وابن الزبير وغيره يعلمون علم اليقين أنّ هذه الحقيقة ليست غائبةً عن الإمام (علیه السلام) بتاتاً _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _؛ إذ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) عالجهم بنفسه، وعركهم ولفظهم بعد أن عجمهم، وقاسى منهم ما قاساهأبوه (علیه السلام) ، وعانى منهم ما عاناه أخوه (علیه السلام) ، لأنّه كان معهم تلك الأيّام، ورأى ما جرى عليهما (علیهما السلام) بعينه ولمسه بيده، فلا يكون ابن الزبير أعرف بهذه المعلومة من الإمام (علیه السلام) !

فلا يمكن حمل تنويه ابن الزبير على إعلام الإمام (علیه السلام) ، وإطلاعه على ما لا يعلم ولا يدري.

ولا يمكن حمل كلامه على محاولة ردع الإمام (علیه السلام) عن المسير إليهم، وهو الّذي يرجو خروج الإمام (علیه السلام) ساعةً قبل أُخرى، لتخلو له الحجاز.

إلّا أن يُقال: إنّه إنّما أصحر عن ذلك ليدفع التهمة عن نفسه، أو أنّه نافق وكذب، والنفاق والكذب من طباعه.

فلا يبعد حمل ما قاله على اللوم ومحاولة تخطئة الإمام (علیه السلام) ، ليزعم أنّه

ص: 199

أعرف بتقدير الوضع، وأنّه نهى الإمام (علیه السلام) فلم ينته، وأنّه على مستوىً من بُعد النظر واستشراف المستقبل وقراءة الأحداث ومعرفة الناس.

وفات هذا العلج الغبيّ أنّ الإمام (علیه السلام) يعرف ذلك كلّه، كما تجلّى في ردّه (علیه السلام) على ابن الزبير في هذا المقام.

والإمام (علیه السلام) لم يقصد عسكر السلطة المتمركز في الكوفة، ولا أصحاب الكتب والرسائل المتكاثرة الواردة إليه، ولم يشيّد على مزاعمهم موقفاً، ولم يحسب لهم حساباً يؤهّلهم للاعتماد عليه من قِبل الإمام (علیه السلام) .

وقد ذكرنا ذلك مراراً، ونعيد هنا باختصار:إنّ آفاق الأرض قد سُدّت، والأرجاء قد أرتُجّت، والأبواب قد أُوصدت، والبلدان قد أُغلقت في وجه وجه الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فليس له سوى التوجّه نحو العراق، وهو يعلم أنّهم قتلوا أباه (علیه السلام) ، وأنّهم طعنوا أخاه (علیه السلام) ، وأنّ هذه الكتب والرسائل الّتي وصلته من أكثرهم إنّما هي زيفٌ متموّج، وزبدٌ متكاثف، وسرابٌ كاذبٌ سرعان ما يذوب ويختفي، بل ينقلب عليه، غير أنّ ثمّة القليل الديّانون المتواجدون في العراق المنتظرون قدومه لينصروه ويدفعوا عنه وعن عياله، فقصدهم.

اللمحة الثالثة: أنا أرى أنّهم قاتلوك

يبدو من المقدّمة الّتي قدّمها ابن الزبير أنّ ما يراه جازماً هو نتيجةً لتلك المقدّمات، فهو يرتّب ما يراه على أنّهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه، فسيكون مآل أمره مآلهم، وعاقبته عاقبتهم، وأنّهم سيقتلوه تماماً كما قتلوا مَن كان قبله.

ص: 200

ونحن لا نريد مناقشة ما قاله ابن الزبير، وإثبات خطأ تقديراته ضمن الظروف وسيَر الأحداث في تلك الفترة، وما يعتقده ابن الزبير نفسه، إذ أنّه كان يتمنّى أن يكون له أنصارٌ مزعومون مندفعون كما كان للإمام (علیه السلام) ، لينطلق إليهم بجناحَين مسرعاً، ففي حساب من يريد الخروج والتوثّب على السلطان يكتفي بالكتب والرسائل والمظاهر الّتي يُعلنها الأنصار والأشياع.

غير أنّ مجريات الأحداث وسياقات حركة يزيد القرود وأذنابه وولاته وجميع المؤشّرات كانت تفيد بوضوح أنّ القوم لا يقبلون بأقلّ من استخراجالعلقة المقدّسة من صدره، خزانة علم الله وأسراره..

فهو لم يكشف سرّاً، وإنّما سوابق أهل الكوفة وتاريخهم، ووحشيّة العدوّ واستعجاله في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وتوفيره جميع ما يلزم لذلك، يدلّان على ما ذكره ابن الزبير، وهو ليس استنتاجاً فاض به غباؤه الّذي يخاله عبقريّة!

لكن يبقى المهمّ هنا، أنّ حتميّة القتل الّذي ينتظر سيّد الشهداء (علیه السلام) في العراق كان أمراً واضحاً لائحاً للجميع، حتّى لمثل ابن الزبير!

اللمحة الرابعة: تنويهٌ هامّ

لابدّ من التنويه هنا إلى ما ننوّه إليه دائماً:

إنّ دراستنا تعتمد تماماً على سياقات وضوابط البحث التاريخيّ، بغضّ النظر عن العامل الغَيبيّ، مع اعتقادنا التامّ بالعامل الغيبيّ، غير أنّنا نريد أن نصل إلى ما نصّت عليه الأحاديث الشريفة والروايات المنيفة بلغة الغَيب من خلال حوادث التاريخ والظروف الموضوعيّة الخارجيّة الّتي أدّت إلى تحقّق

ص: 201

العامل الغيبيّ.

فقول الإمام (علیه السلام) : «وأنا أرى ذلك»، فيه إخبارٌ غيبيّ، غير أنّنا يمكن أن نفسّره من خلال مجريات الأحداث، على وزان إخبار غير الإمام العالم بالله، فهو حينئذٍ يُخبِر عن واقعٍ متنجّزٍ ضمن الظروف القائمة والحسابات الجارية.

اللمحة الخامسة: «وأنا أرى ذلك»

ردّ الإمام (علیه السلام) هنا يفيد أنّ ما يُخبِر به ابن الزبير ليس غائباً عنه، وهو بقوّة ماقاله لغيره حين كان يقول: «لا يخفى علَيّ الأمر».

فلا يظنّن ابنُ الزبير أنّه يعلم شيئاً قد خفيَ على الإمام (علیه السلام) ، ولا يزعمنّ فيما بعد أنّه قد حذّر الإمام (علیه السلام) والإمام لم يقبل منه لأنّه لم يقتنع بكلام ابن الزبير، وبهذا قد سدّ على ابن الزبير وأمثاله باب التخطئة، وحجزهم عن التطاول بالكذب والافتراء عليه، وسلخ عنهم بزّة ما يتزيّنون به زوراً وزيفاً من أزياء العلم والمعرفة والحنكة والتدبير، حين يتظاهرون أنّهم كانوا يعلمون النتيجة وأنّها غابت عن الإمام (علیه السلام) .

إنّ الإمام (علیه السلام) يرى ذلك أيضاً، ويعلم ذلك أيضاً، حتّى بموازين العامّة الّتي يمكن لأيّ فردٍ تحكيمها والنظرة الدقيقة الفاحصة للأحداث وما تتعقّبها وتنتجها.

اللمحة السادسة: التأكيد على أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب

ليس من شأن مَن يبيّت للخروج بالمعنى المصطلح ويخطّط له، أن يُعلِن

ص: 202

عن قتله الأكيد قبل الانطلاق إلى بلدٍ يضمّ أنصاره المندفعين الّذين تغلي مراجلهم وتتأجّج عواطفهم بنيران الغضب العارم على النظام القائم، وتتوقّد جمرات التطلّع إلى مستقبلٍ ينشر فيه الربيع خضاره وثماره على الحياة الاجتماعيّة، وما إلى ذلك..

فهو حين يعلن عن ذلك جازماً قاطعاً، وأنّه يراه ويعتقده، إنّما يعلن عن محاصرته الّتي اكتملت كالحلقة، وملاحقته الّتي لا تفتر من قبل أزلام السلطةوأوغاد الولاة، وعساكر الحقد والضغينة والحسد المعتدية الغاشمة.

لك الله يا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ..

نبَتْ به المدينة.. ولم تعُد مكّة حرماً آمناً له، حتّى استعجل الخروج أيّام الموسم لئلّا يُغتال بها..

ثمّ هو يعلم أنّه أينما حلّ وارتحل فإنّهم سيقتلونه، ولو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض، ولو ذهب إلى العراق فإنّه يعلم أنّه يُقتَل هناك..

فالقضيّة قضيّة (القتل) الّذي عزم عليه العدوّ عزماً أكيداً، وليس للإمام (علیه السلام) سوى خيار الدفاع عن نفسه وعن أهل بيته!

أمّا كون الإمام (علیه السلام) قد خرج إلى القتل، وأقدم عليه هو مِن خلال إعلانه الهجوم على السلطان وطلبه للمحاربة، فهو كلامٌ لا ينهض مع مجموع كلمات الإمام (علیه السلام) وبياناته وتصريحاته طيلة فترة حركته من المدينة إلى يوم عاشوراء، لِما قد أتينا على بيانه مفصّلاً ومقتضباً فيما مضى من دراسات.

كما أنّ استنقاذ الأُمّة وإخراجها من سباتها ومعالجة شللها النفسيّ وازدواج

ص: 203

الشخصيّة لا يلزم منه سفك دم الإمام (علیه السلام) ، حاشا لإمام الخلق أن يقدم على عملٍ انتحاريّ، سيّما أنّ نوع القتل لا يستنقِذ، وإنّما جعل الحجّة ونصب الإمام (علیه السلام) مِن قِبل الله هو الّذي يستنقذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة، وقد أتينا على بيان ذلك بشيءٍ من التفصيل في جملة الدراسات السالفة، سيّما في كتابَي (ظروف الخروج من المدينة) و(لقاء الفرزدق).

تعليقات:
التعليقة الأُولى: رواية ابن حجر في (الصواعق)

قال ابن حجر:

وسبب مخرجه [يعني الإمام الحسين (علیه السلام) ] أنّ يزيد لمّا استخلف سنة ستّين، أرسل لعامله بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين، ففرّ لمكّة خوفاً على نفسه.

فسمع به أهلُ الكوفة، فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه، ويمحو عنهم ما هم فيه من الجَور، فنهاه ابن عبّاسٍ وبيّن له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه، فأبى، فنهاه أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: واحبيباه، واحسيناه!

وقال له ابن عمر نحو ذلك، فأبى، فبكى ابن عمر، وقبّل ما بين عينيه، وقال: أستودعك الله من قتيل.

ونهاه ابن الزبير أيضاً، فقال له: «حدّثَني أبي أنّ لمكّة كبشاً به يستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

ص: 204

ومرّ قول أخيه الحسن له: إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك، فيُخرجوك ويُسلموك، فتندم، ولات حين مناص. وقد تذكّر ذلكليلة قتله، فترحّم على أخيه الحسن ((1)).

* * * * *

المقدار الّذي يهمّنا من مقال ابن حجرٍ هنا هو ما يخصّ ابن الزبير، موضوع الدراسة، حيث اختصر كلام ابن الزبير بقوله: ونهاه ابن الزبير أيضاً.

و(أيضاً) هذه إشارةٌ إلى المعارضين الآخَرين الّذين نهوا الإمام (علیه السلام) عن الخروج من مكّة والتوجّه نحو العراق، كالعبدَين ابن عبّاس وابن عمر، وغيرهما.

وقد نقلنا عبارته بما هو أوسع من موقف ابن الزبير؛ لأنّ ما حكاه عن ابن الزبير لم يكن مفصولاً عمّا سبق ولحق، بقرينة وحدة السياق وتتابع النواهي، وذكر المعترضين وقوله (أيضاً).

فهو يريد أن يُوصِل فكرةً تفور وتغلي مثل عيون الكبريت العفنة في كوامنه، فحشّد لها حطباً من كذبه ليوقد نار الفتنة والكذب والخديعة والتضليل على نفسه في الدنيا والآخرة.

ونحن لا نريد إطالة المكث عند فقاعات هذه العين الكدرة الّتي تُزكم الأُنوف، وتمتشط الأرواح بأمشاطٍ كالسفود إذا انتزع من الصوف المبلول، إذ

ص: 205


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 196.

أنّنا أتينا على ذِكر بعضها ومناقشته عند ذِكر ما ذكره سبط ابن الجوزيّوغيره من ندم الإمام (علیه السلام) وتذكّره نهي ابن عبّاسٍ له، والاستشهاد بما نسبوه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) : كأنّه ينظر من وراء ستر رقيق، وفي غيرها من المواضع من مجمل دراستنا.

لذا سنكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى خُبثٍ ما في صياغة عبارته وترتيب الأحداث، فهو يحاول من خلال ترتيب أقوال وأفعال مَن نهى الإمام (علیه السلام) والاقتصار على قول (فأبى) في تقرير موقف الإمام الحسين (علیه السلام) ، وختمها بما يزعم أنّ الإمام الحسن (علیه السلام) قاله لأخيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إثبات ما يروم هو وأسياده من تخطئة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ جميع أهل الحلّ والعقد ومَن يسمّونهم الوجهاء والعقلاء قد نهوا الإمام (علیه السلام) ، ولم يكن لدى الإمام (علیه السلام) جوابٌ سوى أنّه أبى وخالفهم، ثمّ ندم على مخالفته لهم!!!

وقد ورد الحديث عن أهل البيت (علیهم السلام) في ما يخصّ كلمات الإمام الحسن (علیه السلام) وحديثه عن كربلاء أخيه الإمام الحسين (علیه السلام) ومصائبه وما يجري عليه وبكائه عليه، وقولته المشهورة المعروفة:

«لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ...».

وقد كذّب ابن حجر نفسه حين روى ردّ الإمام الحسين (علیه السلام) على ابن الزبير، وتأكيده أنّه لا يحبّ أن يكون الكبش الّذي تستحلّ به حرمة الحرم، حيث أبان الإمام الحسين (علیه السلام) اضطراره إلى الخروج من مكّة، وأنّه مطاردٌ مطلوبٌ مقتول، على التفصيل الّذي أتينا على بيانه في أكثر من موضع.

ص: 206

ويبدو من خلال تعليل ابن حجرٍ وغيره ممّن نقل هذه العبارة أو ما يقرب منها، أنّه يريد أن يفسّر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة بدعوة الكوفيّين له واعتماده على كتبهم ورسلهم ووعودهم، وأنّه يطلب الأمر على وزان مَن يطلبه في زمانه من قبيل الأُمويّين وابن الزبير، والعياذ بالله.

ويشهد لذلك ما نقله الشاميّ في (سبل الهدى والرشاد)، قال _ وهو يروي أحداث وصيّة الإمام الحسن (علیه السلام) وشهادته _ :

قال في آخرها: أبى الله (عزوجل) أن يجعل فينا أهلَ البيت مع النبوّة والخلافة المُلك والدنيا، فإيّاك وطاعتها، وإيّاك وأهل الكوفة أن يستخفّوك فيُخرجوك، فتندم حيث لا ينفع الندم.

ثمّ رفع طرفه إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّي احتسبتُ نفسي عندك، فإنّي لم أصب بمثلها، فارحم صرعتي وأُنسي في القبر وحدتي وارحم غربتي، يا أرحم الراحمين ((1)).

وغزل صاحب (السيرة الحلبيّة) بنفس المغزل البائس، فقال:

ثمّ لما قُتل الحسين، أي: لأنّ الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فأراد الذهاب إليهم، فنهاه ابن عبّاس، وبيّن له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه الحسن.

ونهاه ابن عمر وابن الزبير، فأبى إلّا أن يذهب، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: واحبيباه! وقال له ابن عمر: أستودعك الله من قتيل.

ص: 207


1- سبل الهدى والرشاد للصالحيّ الشاميّ: 11 / 70.

وكان أخوه الحسن قال له: إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك، فيُخرجوك ويُسلموك، فتندم، ولات حين مناص. وقد تذكّر ذلك ليلة قتله، فترحّم على أخيه الحسن ((1)).

وسنأتي على مناقشة ذلك مفصّلاً في موضعه..

ولكن، لا ندري كيف يسوّغ هؤلاء المؤرّخون قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويبرّرون لمن حاربه فعله بعد أن ندم الإمام (علیه السلام) ليلة قتله _ على فرض المحال وصحّة ما صدر عنهم من مقال _، فإن كان قد ندم قبل ليلةٍ من قتله، فلماذا أصرّوا على قتله، وهو ابن بنت النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانة الرسول وسيّد شباب أهل الجنّة؟!!

التعليقة الثانية: ابن الزبير يسأل مسائل شرعيّة!

ورد في رواية الشجريّ في (الأمالي) أنّ ابن الزبير عقّب كلامه مع الإمام (علیه السلام) بتقديم بعض الأسئلة الشرعية:

فسأله عن المولود، متى يجب عطاؤه؟

وسأله عن الرجل يُقاتل عن أهل الذمّة فيُؤسر، كيف يكون فكاكه؟

وسأله عن الشرب قائماً؟

وسأله عن الصلاة في جلود الميتة ((2)).

ص: 208


1- السيرة الحلبيّة: 1 / 270.
2- الأمالي للشجريّ: 1 / 174.

من العجيب أنّ مثل ابن الزبير الّذي يزعم في نفسه ما يزعم، ويريد أن يطلب الأمر ويحكم الناس باسم الدين وشريعة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، يكون جاهلاً في مثل هذه المسائل الّتي هي في صلب عمله، ومن ضرورات حياته اليوميّة.

ولا ندري كيف كان هؤلاء الجهلة الأغبياء ينتصبون، ويحاولون الإقلاع من قاعهم المظلم العفن، مع جهلهم وقلّة علمهم _ على أفضل الفروض _؟!

وكيف كانت أنفسهم تنازعهم للتوثّب على الأمر، وفي الأُمّة مَن هو أعلم منهم، وهم محتاجون إليه؟!

لكنّها سيرة الأوائل الّذين تركوا قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «عليٌّ أقضاكم، وعليٌّ أعلمكم، وأنّكم تحتاجون إليه ولا يحتاج إليكم»، بعد روايتهم ذلك وأكثر عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فجرى عليها مَن جاء بعدهم، وسوّغها لهم من نظّر وقدّر وفكّر، فحمد الله الّذي قدّم المفضول على الفاضل لمصحلةٍ اقتضاها!!! ((1))

الاقتراح الثالث: الخروج إلى العراق
اشارة

كان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويشير عليه أنيقدم العراق! ويقول: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وأُولي الأمر منهم.

ص: 209


1- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 3 مقدّمة المؤلف.

وسأل الإمام الحسين قائلاً: خبّرني بما تريد أن تصنع؟ فقال الإمام: واللهِ لقد حدّثتُ نفسي وعزمتُ على إتيان الكوفة، فإنّ شيعتي بها، وأشراف أهلها قد كتبوا إليّ في القدوم عليهم، وأستخير الله.

فقال ابن الزبير: وفّقك الله، أما لو أنّ لي بها مثل أنصارك، ولو كان لي بها مثل شيعتك، ما عدلتُ بها ولما أقمت بمكانك يوماً واحداً، فما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فواللهِ لو أنّ لي مثلهم ما وجّهت إلّا إليهم ولَذهبت إليهم. فقوّى عزمه.

وفي (الفصول المهمّة):

نعم، نفسي تحدّثني بإتيان الكوفة، وذلك أنّ جماعةً من شيعتنا وأشراف الناس كتبوا إليّ كتباً يحثّونني على المسير إليهم، ويعدونني النصرة والقيام معي بأنفسهم وأموالهم، ووعدتُهم بالوصول إليهم، وأنا أستخير الله (تعالى) ((1)).

فعاد ابن الزبير ليدفع التهمة عن نفسه، فاقترح على الإمام البقاء في مكّة، على التفصيل الّذي مرّ معنا قبل قليل، فقال الإمام:

«ما شيءٌ من أمر الدنيا يُؤتاه أحبّ إليه من خروجي عن الحجاز،لأنّه قد علم أنّه ليس له معي من الأمر شيء» ((2)).

ص: 210


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ ابن خيّاط: 178، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، مختصر ابن منظور: 12 / 190، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 4 / 170، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

* * * * *

هذه خلاصة الأقوال ومؤدّى الأخبار في الاقتراح الثالث، وكان بعض ما ورد حواراً دار بينهما، وكانت بعض ردود الإمام (علیه السلام) يمكن أن تكون ردّاً على هذا الاقتراح أيضاً، من قبيل تأكيد الإمام (علیه السلام) على أن يُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليه من أن يُقتَل فيها، بَيد أنّنا لم نذكرها هنا لأنّنا أتينا على ذكرها قبل قليل، فلا نعيد.

ويمكن اختصار ما ورد في نصوص هذا الاقتراح من خلال الإنارات التالية:

الإنارة الأُولى: مكر ابن الزبير!

لم يكن ابن الزبير صادقاً ولا مخلصاً ولا ناصحاً في ما تقدّم به من اقتراحٍ على الإمام (علیه السلام) ، سواءً أكان في اقتراحه المكث والبقاء في مكّة، أو المسير إلى العراق والتعجيل في الخروج من مكّة.

ص: 211

فهو على فرض اقتراحه البقاء، فقد صرّح سيّدُ الشهداء (علیه السلام) بكذبه، واتّفق المؤرّخون على ما شهد به سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه كان كاذباً في زعمه، وكان يتمنّى خروج الإمام (علیه السلام) سريعاً عاجلاً، لأنّه لا يطيق وجود الإمام (علیه السلام) وهو يعلم أن لا أحد يلتفت إليه مع إشراق مكّة بنور غرّة سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (علیه السلام) .

وهو في هذا الاقتراح ماكرٌ مخادعٌ مراوغٌ لا يُؤمن، ولا يصدر إلّا عن سريرةٍ خبيثةٍ تحيك الشرّ وتقذفه أين ما كان، فهو لا يريد للإمام (علیه السلام) خيراً ولا يناصحه فيما يقول، وإنّما يهيّئ لما تصبو إليه نفسه الأمّارة بالسوء والفحشاء، إذ لو خرج الإمام (علیه السلام) لارتاح وسكنت نفسه الشرّيرة وطار فرحاً حين تخلو له الحجاز، ويشهد له قول الإمام (علیه السلام) : «ما شيءٌ من أمر الدنيا أحبّ إليه من خروجي عن الحجاز، لأنّه قد علم أنّه ليس له معي من الأمر شيء».

فهو غير ناصحٍ ولا مخلص للإمام (علیه السلام) على كلّ حال.

الإنارة الثانية: قد يصدق ابن الزبير!

أجل، قد يصدق ابن الزبير في ما يزعمه من أنّه إن كان له أنصارٌ وشيعةٌ فيالعراق لَعجّل المسير إليهم، لأنّه يفتقر إلى مَن يقبله ويقيم له وزناً، فهو وفق تصوّراته ومتبنّياته يبحث عن أنصار يخرجون معه لتحقيق مآربه الدنيويّة، ومثل هؤلاء يطمعون بأيّ ناعق.

فهو بلحاظ حثّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ومحاولة تقوية عزمه _ فيما يزعم _، غير مخلصٍ ولا صادق، ولكن باعتبار أُمنياته الشخصيّة ومطامعه قد يصدق،

ص: 212

بحيث لو كان له أنصارٌ وشيعةٌ يستجيبون لدعوته ويقبلون مبايعته لَسارع إليهم مسارعة الغربان على الجيف، والضباع والثعالب على الفطائس.

الإنارة الثالثة: دواعي الحثّ

لقد كان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الإمام (علیه السلام) ، ويشير عليه أن يقدم العراق ((1))، فهو لم يكتفِ بمرّةٍ أو مرّتين، وإنّما كان يُكثِر التردّد على الإمام (علیه السلام) يحثّه على الخروج إلى العراق، رغم علمه _ حسب ما يزعم _ أنّه إن قدم العراق يُقتل.

بَيد أنّه كان يذكر في بعض حديثه الدوافع والمسوّغات الّتي تدعوه إلىالاقتناع بالعراق ومحاولاته لإقناع الإمام (علیه السلام) .

فمن جهة:

كان يرى نفسه ويرى في الإمام (علیه السلام) _ المقارنة منه، وليس للمقارنة معنىً هنا _ مِن أبناء المهاجرين وأُولي الأمر منهم، فهما _ كما يتوهّم ابن الزبير _ أحقّ بالأمر من يزيد، وهو صحيحٌ في الإمام (علیه السلام) ، وغلطٌ فادحٌ وزورٌ وقحٌ ودعوىً فجّةٌ ممجوجةٌ تافهةٌ في ابن الزبير.

ص: 213


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

ومن جهةٍ أُخرى:

فإنّه يرى أنّ للإمام (علیه السلام) أنصاراً وشيعةً يلحّون عليه للقدوم عليهم، وهذا ما يتمنّاه ابن الزبير، لذا كان يعجب من الإمام (علیه السلام) ويقول أنّه لو كان مكان الإمام (علیه السلام) لما تأخّر عنهم يوماً واحداً، وكان يعجب من الإمام (علیه السلام) ويستنكر عليه أنّه ما يمنعه من شيعته وشيعة أبيه!

وكان يزعم أنّه لو كان عنده ما للإمام (علیه السلام) في العراق لما توجّه إلّا إليهم، ولما تردّد في اختيار الوجهة الّتي سيتوجّه إليها.

وهذه الدوافع كلّها وفق موازين من يرنو للخروج بالمعنى المصطلح تُعَدّ موازيناً موفّقةً وحساباتٍ صحيحة، لأنّ مَن يريد مقارعة السلطان ومحاربة ولاته والاستيلاء على مقدّراته يحتاج إلى أشياع وأنصار، فلمّا لم يتهيأ له هذا الجمهور في مكّة، وتهيّأ في العراق والكوفة على وجه التحديد، فمن الأوفق والأصوب أن ينطلق نحوهم، قبل أن تخبو جذوة التمرّد وتخفت جمرة الناسالمتوقّدة، ويختنق أزيز غليان المراجل الفوّارة في أمواج هيجان الناس الثائرة على الواقع الرديء، وقبل أن يتحوّل ألق الآمال اللائحة في أُفق التغيير إلى رمادٍ يقضي على تلألؤ الشعارات المرفوعة من قبل الزبد المتراكم ضدّ الولاة والحاكم.

فهي فورة الناس وسورتهم، وهيجان العواطف الجيّاشة، وانتفاضة الجمهور الملتهبة الّتي قد تسكن وتخمد وتنطفئ وتختفي بعد الاضطرام والتأجّج والثوران والهيجان لمجرّد حملةٍ كابحةٍ قامعةٍ من عساكر السلطان، وللوقت دوره في مثل هذه الأحيان.

ص: 214

فما يحتاجه ابن الزبير من أجل الوصول إلى المنال المنشود هو الأنصار والأشياع، والبيئة الّتي يمكن أن تستجيب له، فيناغيها ويخدعها، وتناغيه فيغالبها، حتّى يركب أمواجها العارمة، ويصعد على مناكبها فيرتقي ما يريد.

فهو ينطلق من دوافعه ونوازعه وبواعثه ومحركاته وأهدافه وغاياته وتصوّراته ومآلاته الّتي يرسمها لنفسه..

أمّا سيّد الشهداء (علیه السلام) _ وحاشا سيّد الكائنات وأشرف الخلق بعد مَن استثناهم الله _ فليس في حسابه كلّ أوهام ابن الزبير، وليس في حركته ودوافعه شيءٌ ممّا يزوّقه ابن الزبير وينمّقه ويزخرفه لنفسه الدنيئة..

والفرق بين الحركتين بُعد المشرقين، بل لا مشترك بينهما يمكن أن يجعلهما موضعاً للدراسة في نفس المحور.فسيّد الشهداء (علیه السلام) مطاردٌ ملاحقٌ مطلوب، قد هدروا دمه الزاكي المقدّس الّذي سكن الخلد، في موقف الدفاع عن نفسه وأهله، لا يخطّط لشيءٍ ممّا يخطّط له مَن يريد الخروج على السلطان والانقضاض على الحكم والاستيلاء على زمام المُلك!

الإنارة الرابعة: الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام)

قال الإمام (علیه السلام) في مقام الردّ على سؤال ابن الزبير أنّ نفسه المقدّسة تحدّثه أن يأتي الكوفة، أو أنّه عزم على إتيان الكوفة، وقال:

«فإنّ شيعتي بها وأشراف أهل الكوفة كتبوا إليّ بالقدوم عليهم، وأستخير الله».

ص: 215

يبدو جليّاً لمن تأمّل النصّ أنّ الإمام (علیه السلام) قال: «شيعتي بها وأشراف أهل الكوفة كتبوا إليّ بالقدوم»، وفي نصّ ابن الصبّاغ: «جماعة من شيعتنا وأشراف الناس».

فميّز الإمام (علیه السلام) بين شيعته وبين الأشراف الّذين كتبوا إليه، وذكر الشيعة بياء النسبة، فنسبهم إليه، ولم يقل: إنّ لي فيها شيعة، أو أشياع، أو ما شاكل، وإنّما هم شيعةٌ خاصّون منسوبون إليه موجودون هناك!

فربّما كان الإمام (علیه السلام) يقصد من هذه النسبة، وعزلهم وفصلهم عن الأشراف الّذين كاتبوا، الإشارةَ إلى القليل الديّان الّذين وقفوا معه وذبّوا عنه وعن حرم وحريم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولم يقصد الزبد الطافح على السطح يومذاك ممّنبايع ثمّ نكث وانقلب على عقبيه.

وهؤلاء القلّة الديّانون هم الّذين قصدهم الإمام (علیه السلام) ، ويمّم نحوهم وتوجّه إليهم، وهم الّذين وعدوه النصرة والقيام معه وبذل أنفسهم وأموالهم، ووعدهم الإمام (علیه السلام) بالوصول إليهم.

وأمّا الأشراف الّذين كاتبوه، والمنضوون تحت أرديتهم، فإنّهم رغم ما يعلم منهم الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّهم أعلنوا النصرة والقيام معه وبذل أنفسهم وأموالهم في ظاهر دعواهم، فهم غير محسوبٍ عليهم، ولا معتدّ بهم بعد أن ضمن الإمام (علیه السلام) أُولئك الأطياب الأطهار من شيعته المخلصين الأبرار، وهو يعرفهم ويعلم مآلهم وعاقبتهم، بيد أنّهم في حساب مثل ابن الزبير معدودون، وفي الحسابات الظاهريّة المنظورة للجميع معدودون أيضاً، لذا كان الإمام (علیه السلام) يذكرهم لمن

ص: 216

سأله وكلّمه وحاوره، ومنهم ابن الزبير الّذي يتمنّى مثل هؤلاء المكاتبين.

الإنارة الخامسة: سبب التوجّه نحو العراق، لا سبب الخروج من مكّة

لا يخفى أنّ الإمام (علیه السلام) هنا ذكر سبب التوجّه نحو العراق دون غيره من البلدان، ولم يذكر سبب خروجه من مكّة، وفرقٌ كبيرٌ بين الأمرين!

فسبب خروجه من مكّة وتعجّل الخروج منها _ كما ذكرنا وسيأتي _ إنّما هو تجنّب أن يغتاله العدوّ في مكّة أو يأخذه أخذاً.

فهو يريد الخروج من مكّة على كلّ حال، ليبتعد عنها ولو شبراً واحداً، أمّااختياره العراق دون غيره من البلدان، فكان لما ذكره من شيعته ومكاتبة أشراف الكوفة له.

الإنارة السادسة: الاستخارة

بالرغم من الأسباب الّتي ذكرها سيّد الشهداء (علیه السلام) للتوجّه نحو العراق، بَيد أنّه أكّد له أنّه سيقدم بعد الاستخارة.

فكأنّ هذه الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ليست هي العامل الوحيد، وهو يستخير ربّه ليقضي له، وقد خار الله له أن يتوجّه نحو كربلاء، وقلبُ الإمام (علیه السلام) مسكنُ إرادة الله وخيرته، وقد أتينا على بحث الاستخارة في بحث ظروف الخروج من المدينة، فلا نعيد.

الإنارة السابعة: غباء ابن الزبير وجهله!

من غباء ابن الزبير _ وأمثاله _ وجهله وعدم معرفته بالرجال ولا برجال

ص: 217

الحقّ وأهل الولاية الواجبة المفروضة، أنّه يتوهّم ويخال أنّه يمكنه أن يؤثّر على الإمام (علیه السلام) العالم بالله والمسدَّد بروح القدُس، ويمكنه أن يقوّي من عزمه أو يزعزع إرادته ويفلّ من تصميمه، ويرجعه عمّا أزمع عليه، بحيث يكون كلامه مؤثّراً في الإمام (علیه السلام) ومؤثّراً في موقفه..

إنّ ابن الزبير لو تطاول ما تطاول، واختال وتباهى، وتبختر وتجبّر، وتعجرف وتكبّر، وشمخ وتغطرس وتنافخ، وبلغ بغروره الخيلاء والزهو والصلف، لا يستطيع أن ينظر إلى طرف أنفه، ولو نظر فإنّه لا ينظر إلّا بعينٍحولاء عوراء لا تميّز، والإمام (علیه السلام) هو الإمام العالم بما كان وما يكون وما هو كائنٌ بإذن الله وقدرته وفضله وفيضه ولطفه.

فليس لابن الزبير أن يكون له مطمعٌ بالإمام (علیه السلام) ، وهو إنّما يجرؤ ويتحامل على الإمام (علیه السلام) بصلافةٍ وصفاقةٍ وانعدام حياء، لأنّه جاهلٌ مغرورٌ بذيءٌ سفيهٌ سليطٌ فاحشٌ طويل اللسان، أعمَتْه أمانيه وشهواتُه ونزعاته وهواه في السلطة ونيل الحكم عن كلّ رشدٍ ورزانةٍ ورصانةٍ وسدادٍ وصحوةٍ وصواب، فكان هذا المغرور المعجَب بنفسه الشرّيرة يتوهّم أنّه يمكنه أن يقول الصحيح في حضرة الفرقان الّذي به يميّز الله الحقّ من الباطل والصحيح من الخطأ والسقيم، أو أنّه يمكن أن يشير عليه بالصواب، أو يؤثّر على عزمه فيقوّيه أو يضعفه، ويثبّته أو يزعزعه.

ص: 218

العرض التاسع: ابن الزبير يلحق الإمام!

رغم أنّنا ذكرنا فيما مضى من خلال ما ورد في المتون التاريخيّة أنّ ابن الزبير لحق الإمام (علیه السلام) والتقاه وكلّمه، بَيد أنّنا نريد الإشارة هنا إلى نكتةٍ مهمّة، وهي:

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يقصد ابن الزبير ولم يستشره ولم يكترث به، بل إنّ ابن الزبير هو الّذي لحق الإمام (علیه السلام) ، وهو الّذي بادر بالعروض والاقتراحات، حاله حال الآخرين ممّن التقى الإمام (علیه السلام) وقصده بقصد النصح، أو بقصد الاعتراض،أو بقصد الاستفسار والاستيضاح، أو بأيّ قصدٍ أو لأيّ غرضٍ آخَر.

فالإمام (علیه السلام) لم يحتجْ أحداً، ولم يستشر أحداً، ولم يطلب من أحدٍ شيئاً في هذا المجال، ولم ينتظر أحداً، أو يبني على قول أحد.

وهذه المعلومة بنفسها نافعةٌ ومؤثّرةٌ جدّاً في فهم تحركات الآخَرين وفضولهم، ومغزى اقتراحاتهم وعروضهم، وتحركات سيّد الشهداء (علیه السلام) ووضوح المشهد كاملاً بين يديه.

ويفيد أيضاً غربة الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء، ومقدار ابتعاد أُولئك عن مستوى إدراكهم لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما يجري عليه من ملاحقاتٍ ومضايقاتٍ وتهديدٍ حقيقيّ لحياته العزيزة الّتي هي أعزّ شيءٍ في الخلق.

ص: 219

ص: 220

بين عبد الله بن جعفر والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

ذكرت المصادر عدّة مواقف أو محاولاتٍ لعبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) حين أزمع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج من مكّة متوجّهاً نحو العراق، ربّما يجد المتابع فيها شيئاً من التداخل نتيجة عرض المؤرّخ وطريقة نقله وصياغته للأخبار، ويمكن أن نقسّم النصوص الواردة فيها إلى أقسام:

ص: 221

ص: 222

القسم الأوّل: كتاب عبد الله بن جعفر للإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

نجد في نصوص هذا القسم نوعين:

أحدهما: اقتصر على حكاية الخبر مقتضباً.

والآخر: ذكر شيئاً من التفصيل، كالموضع الّذي كتب منه الكتاب، ونصّ الكتاب وجواب سيّد الشهداء (علیه السلام) .

إبن سعدٍ ومَن تلاه:

وكتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ إليه كتاباً يحذّره أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم.

فكتب إليه الحسين: «إنّي رأيتُ رؤياً، ورأيت فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، ولست بمُخبرٍ بها أحداً حتّى أُلاقي عملي» ((1)).

ص: 223


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر:14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

الطبريّ، النويريّ، ابن كثير:

قال أبو مخنف: حدّثَني الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا خرجنا من مكّة، كتب عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنَيه عون ومحمّد:

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فإنّي في أثر الكتاب، والسلام ((1)).

إبن أعثم:

وانتقل الخبر بأهل المدينة أنّ الحسين بن عليّ يريد الخروج إلىالعراق، فكتب إليه عبد الله بن جعفر:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر، أمّا بعد، أُنشدك الله أن لا تخرج عن مكّة، فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنّك إن قُتلت أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير المؤمنين، فلا

ص: 224


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

تعجلْ بالمسير إلى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان مِن يزيد وجميع بني أُميّة على نفسك ومالك ووُلدك وأهل بيتك، والسلام.

قال: فكتب إليه الحسين بن عليّ:

«أمّا بعد، فإنّ كتابك ورد علَيّ، فقرأته وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّي رأيتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو علَيّ، واللهِ _ يا ابن عمّي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني ويقتلوني، واللهِ _ يا ابن عمّي _ ليعدينّ علَيّ كما عدَت اليهودُ على السبت، والسلام» ((1)).

الخوارزميّ:

واتّصل الخبر بالمدينة، وبلغهم أنّ الحسين عزم على الخروج إلى العراق، فكتب إليه عبد الله بن جعفر الطيّار:بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر، أمّا بعد، فإنّي أُنشدك الله أن تخرج من مكّة، فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، فإنّك إن قُتلتَ خفتُ أن يُطفأ نورُ الله، فأنت علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجلْ بالمسير إلى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد ومن جميع بني أُميّة لنفسك ولمالك وأولادك وأهلك، والسلام.

فكتب إليه الحسين:

ص: 225


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.

«أمّا بعد، فإنّ كتابك ورد علَيّ، فقرأته وفهمت ما فيه، اعلمْ إنّي قد رأيتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في منامي، فأخبرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، كان لي الأمر أو علَيّ، فو الله _ يا ابن عمّ _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، والسلام» ((1)).

الشيخ المفيد:

وألحقه عبدُ الله بن جعفر بابنيه عَون ومحمّد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه:

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّيمشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّهتَ له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، ولا تعجل بالمسير، فإنّي في أثر كتابي، والسلام ((2)).

إبن الأثير:

قال: وأدرك الحسينَ كتابُ عبد الله بن جعفر مع ابنيه عَون ومحمّد، وفيه:

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي

ص: 226


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

مشفقٌ عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، ولا تعجلْ بالسير، فإنّي في أثر كتابي، والسلام ((1)).

إبن شهرآشوب:

وكتب إليه عبد الله بن جعفر من المدينة في ذلك، فأجابه:

«إنّي قد رأيتُ جدّي رسول الله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أَم علَيّ، واللهِ _ يا ابن عمّ _ لَيعتدينّ علَيّ كما يعتدياليهود يوم السبت». وخرج ((2)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

ثمّ إنه وردَت على الحسين (علیه السلام) كتبٌ من أهل المدينة، من عند عبد الله ابن جعفر على يدَي ابنيه عَون ومحمّد، ومن سعيد بن العاص ومعه جماعةٌ من أعيان المدينة، وكلٌّ منهم يشير عليه أن لا يتوجّه نحو العراق ولا يأتيه ولا يقربه، فليس له فيه مصلحة، وأن يُقيم بمكّة.

هذا كلّه والقضاء غالبٌ على أمره، فلم يكترث بما قيل له، ولم يلتفت إلى ما كُتب إليه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ((3)).

ص: 227


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

إبن عبد ربّه، الباعونيّ:

وأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عَوناً ومحمّداً ليردّا حسيناً، فأبى حسين أن يرجع، وخرج ابنا عبد الله بن جعفر معه ((1)).

السماويّ:

ومرّ بوادي العقيق، ثمّ سار منه، فأرسل إليه عبدُ الله بن جعفر ابنيه،وكتب إليه بالرجوع، فلم يمتنع ((2)).

* * * * *

يمكن أن نتابع ما ورد في هذه النصوص من خلال التذكير بعدّة أُمور:

التذكير الأوّل: ميزة نصّ ابن الصبّاغ

لقد امتازت جملةٌ من النصوص بالاختصار والاقتصار على ذِكر أصل خبر الكتاب، وفي بعضها ذِكرٌ لجواب الإمام (علیه السلام) .

وامتاز من بين هذه النصوص المختصرة متنُ ابن الصبّاغ والشبلنجيّ، وهو ما سنقف عنده قليلاً، ونترك الباقي إلى حين الحديث عن باقي المتون لاشتراكها في المضامين.

يلفت الانتباه تعبير ابن الصبّاغ، إذ أنّه أفاد أنّ جماعةً هم الّذين كتبوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، منهم: سعيد بن العاص، وجماعة من أعيان المدينة، وعبد

ص: 228


1- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264.
2- إبصار العَين للسماويّ: 6.

الله بن جعفر (رضی الله عنهما) .

فمَن هم هؤلاء الأعيان الّذين أشار إليهم؟

وذكر مؤدّى رسائلهم وكتبهم، واختصرها باتّفاقهم على أمرٍ واحد، إذ كان كلٌّ منهم يشير عليه أن لا يتوجّه نحو العراق ولا يأتيه ولا يقربه، فليس له فيهمصلحة، وأشار عليه الجميع أن يقيم بمكّة!

رغم أنّنا لم نجد هذا الجوّ الّذي يصوّره ابن الصبّاغ عند غيره، حيث أنّ النصوص الأُخرى لا تفيد أنّ جماعةً من أعيان المدينة أيضاً كتبوا في تلك الفترة، فربّما أراد ابن الصبّاغ أن يجمع كلّ مجريات الأحداث والمكاتبات في تلك الفترة، فكان من بين مَن كاتب جماعة.

وعلى العموم، فإنّ هجوم مَن يسمّونهم الأعيان والوجهاء وأصحاب الرأي واجتماعهم على مكاتبة الإمام (علیه السلام) ، وتحذيره من التوجّه نحو العراق، يروم التوصّل إلى نتيجةٍ طبيعيّةٍ يخرج بها المتلقّي للخبر التاريخيّ، يوحي إليه عدم اكتراث الإمام (علیه السلام) بآراء العقلاء وأصحاب الرأي والأعيان، وإصراره على المضيّ في الطريق الّذي أجمع الناس على خطئه!!

ومن الغريب أنّ أحداً لم يُشِر إلى أنّ الإمام (علیه السلام) هو سيّد العقلاء وتاجهم _ بغضّ النظر عن الإمامة _، وهو أعرف بالمجتمع الكوفيّ والعراقيّ منهم جميعاً، وقد مارسهم وعالجهم.

والأغرب أنّ أحداً منهم لم يلتفت إلى الظروف المُحدِقة بالإمام (علیه السلام) والمخاطر الحقيقة المتنجّزة المحيطة به، ولم يصغُ أحدٌ منهم _ أو لم يرد ذلك _ إلى

ص: 229

ما يكرّره الإمام (علیه السلام) وتشهد به مجريات الأحداث من لزوم قتل الإمام (علیه السلام) قطعاً جزماً إن هو بقيَ في مكّة أو مكث فيها، ولو لأيّامٍ قلائل حتّى ينقضيالموسم.

وفوق ذلك كلّه، أن يصرخ هؤلاء جميعاً _ والكلام هنا لا يشمل عبد الله ابن جعفر (رضی الله عنهما) ! _ وينفخوا في نفس مزمار السلطة والسلطان، ويسعوا عن علمٍ أو عن غير علمٍ في ترويج ما يريد يزيد الخمور الترويج له، ويشاركوا في إقناع الإمام (علیه السلام) بما يحقّق غرض الأُمويّين وجرائهم المسعورة لتأخير الإمام (علیه السلام) في مكّة، ليتسنّى لهم اغتياله أو أخذه دون ضجيج، والقضاء عليه بسهمٍ غاربٍ في إحدى المشاعر، بل حتّى في المسجد الحرام.

إنّهم جميعاً ينظرون ويفهمون حركة الإمام (علیه السلام) وفق المنظار الأُمويّ، ويلوّنون حركته بالصبغة الّتي يريد القرد المسعور يزيد أن يصبغه بها، فيحسبون وفق حساباتهم وحسابات السلطة يومها، فيجدونه خارجيّاً متمرّداً _ والعياذ بالله، ونستغفر الله _ يقصد جماعةً خادعةً خاذلةً غدّارة، لها تاريخها في الانقلاب على الحقّ وأهله ومعاداة أهل البيت (علیهم السلام) ، فيحذّرونه منهم، ويدفعون احتمالات الفشل أمامه.

وهم وِفق هذا التصوّر لا يرون أنفسهم على خطأٍ ولا يشكّون في صوابهم وصدقهم في ما يقولون، إن كانوا غير مشغّلين مِن قِبل العدوّ المسعور الّذي يتوثّب لملء أكراشه الجوفاء، المتعطّش للولوغ في الدماء الزاكية تشفّياً وثأراً للدماء العفنة.

ولو أنّ هؤلاء الأعيان _ كما يسمّونهم _ قد أنصتوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 230

لحظة، وقبلوا منه كلامه وتفسيره للخروج من المدينة ومكّة، لاقتضى الواجب أن يكاتبوا يزيد ويصرفونه عن نيّته المشؤومة، ويحذّرونه العواقب الوخيمة الّتي تترتّب على تهوّره وتمرّده وعزمه الأكيد وعتوّه على الله ورسوله وأبناء رسوله (صلی الله علیه و آله) ..

فلو لم تكن مصلحة الإمام (علیه السلام) في إتيان الكوفة، فهل كانت في البقاء في مكّة؟!

إنّ في الكوفة قوماً يدفعون عنه، ويبذلون كلّ شيءٍ في الذبّ عنه وعن أهل بيته، ولو كانوا قليلاً، وليس هذا القليل متوفّرٌ يومها لا في مكّة ولا في أيّ موضعٍ من أصقاع الأرض، فضلاً عن هتك حرمة البيت الآتي على كلّ حال إن مكث الإمام (علیه السلام) فيه.

نكتفي هنا بهذا القدر، لنتابع مع باقي النصوص..

التذكير الثاني: انتشار خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة في المدينة!

أفاد ابن أعثم والخوارزميّ وغيرهما ممّن تأخّر عنهما أنّ خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) اتّصل بالمدينة وانتقل الخبر بينهم، وبلغهم أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) عزم على الخروج إلى العراق.

فكيف انتشر هذا الخبر؟

هل انتشر من خلال عيون السلطة وجواسيسهم الّذين كتبوا لوالي مكّة

ص: 231

والمدينة حينها (الأشدق)، فنشر الأخير الخبر لخدمة مصالحهم؟ أو أنّ الركبان هم الّذين نقلوا الخبر، ثمّ انتشر؟

وكم كان لهذا الخبر الّذي قد انتشر _ حسب هذه النصوص _ من أثرٍ في أهل المدينة عموماً؟ وماذا حرّك فيهم؟

وماذا فهم منه الناس يومئذ؟

هل فهموه وفق ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) من أسباب لخروجه، وأنّه مهدَّدٌ في المدينة ومكّة، ولابدّ له من التوجّه إلى أيّ بلدٍ آخر يمكن أن يُبعِده عن عادية الذئاب، ويخلّصه من براثن مخالب القرود المسعورة، كما أفاد أيضاً كلام محمّد ابن الحنفيّة وغيره ممّن اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يخرج إلى أيّ أرض، ويلتحق بالجبال والبراري والقفار والكهوف والمغارات وشواطئ البحار إن نبَتْ به مكّة والمدينة؟!

أم أنّهم فهموه وفق ما روّج له السلطان وولاته من أنّ الإمام (علیه السلام) يريد الانقضاض على الحكم والحكّام، ويبحث عن أنصار لتحقيق مآربه الدنيويّة _ والعياذ بالله _، فلم تتوفّر له في المدينة ومكّة، فتوجّه نحو الدعوات والزعقات البائسة القادمة إليه من العراق تحملها رياح الغدر والخيانة؟

يبدو من مواقف الناس وكتب مَن يسمّونهم الأعيان أنّهم صرعتهم الحملات الدعائيّة، وومضات بريق البيضاء والصفراء، وزيف بهارج الدنيا وصديد مائها الراشح من تحت عروش السلاطين، وخدعتهم المظاهر المزيّفة الخلّابة المرسومة على أسارير وجوه الغانيات والإماء والأزواج والأولاد ولذّات الدنيا..

ص: 232

لم نجد مَن استمع إلى كلام الإمام الحسين (علیه السلام) المظلوم، وأصغى إليه، وأدرك ما يعانيه ويقاسيه، واستشعر التهديد الّذي يلاحقه، والسيوفَ الّتي تترصّده، وعساكر الموت المنبعثة من أحقاد الأُمويّين الّتي تغشاه في كلّ لحظةٍ وفي كلّ مكان.. الأحقاد والضغائن ومشاعر الانتقام والثأر الّتي أقسموا بكلّ صنمٍ ووثنٍ نكّسه أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) وهشّمه جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلّا أن يأخذوها من الرسول وآله، مهما كلّف الأمر!

التذكير الثالث: زمان ومكان كتابة الكتاب

صرّح ابن شهرآشوب ((1))، وأفاد جماعةٌ منهم ابن الصبّاغ والشبلنجيّ وابن أعثم والخوارزميّ ((2)): أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) كتب كتابه من المدينة بعد أن بلغه عزم سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج من مكّة.

وهذا يعني أنّه كان في الفترة الأخيرة من أيّام تواجد الإمام (علیه السلام) في مكّة،بحيث وصل الكتاب عند خروج الإمام (علیه السلام) ، أو بُعيد خروجه، فقد روى الطبريّ عن الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) قال:

«لمّا خرجنا من مكّة، كتب عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب إلى

ص: 233


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

الحسين بن عليّ مع ابنيه عَون ومحمّد ...» ((1)).

ربّما كان ما رواه الطبريّ عن الإمام السجّاد (علیه السلام) في قوله: «لمّا خرجنا من مكّة كتب ...»، يعني الإخبار عن زمان وصول الكتاب.

وقال الشيخ السماويّ:

إنّ الكتاب وصل حين مرّ الإمام بوادي العقيق، ثمّ سار منه، فأرسل إليه عبد الله بن جعفر ابنيه، وكتب إليه بالرجوع ((2)).

وقد ذكر السيّد عليّ بن الحسين الهاشميّ (وادي العقيق) منزلاً بعد منزل بستان ابن عامر والتنعيم والصفاح ((3)).

ولا ندري من أين استقى العلّامة السماويّ _ رحمه الله، وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ هذه المعلومة، إذ أنّه لم يوثّقها، ويمكن لمن أراد الارتكاز إليها في بحثه أن يعتمد وثاقة الشيخ (رحمة الله) وتتبّعه وشهرته في التحقيق والتنقيب.وكيف كان، سواءً أكان كلام الإمام السجّاد (علیه السلام) يُخبر عن زمان وصول الكتاب أو كتابته، فإنّ جملة الأحداث والأخبار تفيد أنّ كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) وصل بيد الإمام (علیه السلام) بعد انطلاقه وخروجه من مكّة، وفي حساب القدَر المتيقّن فإنّه قد وصل حين الخروج متزامناً معه.

ص: 234


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.
2- إبصار العين للسماويّ: 6.
3- الحسين في طريقه إلى الشهادة للهاشميّ: 65.
التذكير الرابع: حامل الكتاب

إتّفقَت المصادر أنّ ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) أرسل كتابه بيد ولدَيه: عَون ومحمّد، وهذا يعني أنّهما (علیهما السلام) كانا في المدينة يومها، ولا ندري إن كانا قد خرجا مع الركب ثمّ رجعا إلى المدينة فحملا كتاب أبيهما، أو أنّهما كانا قد تأخّراً لأيّ سببٍ ثمّ خرجا بالكتاب.

ربّما كانا قد تأخّرا لسببٍ ما، ثمّ جعل أبوهما هذا الكتاب مسوّغاً يفسح المجال أمامهما للالتحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) من دون التعرّض لمضايقات الوالي وأذنابه، وقد يشهد لذلك أنّه أرسل الكتاب مع ولديه معاً، وكان بالإمكان أن يكتفي بأحدهما دون الآخر.

ويشهد له أيضاً تعبير الشيخ المفيد، إذ قال:

وألحقه عبد الله بن جعفر بابنيه عَون ومحمّد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً ...

فالغرض الأصليّ هو إلحاقهما، ثمّ إنّه كتب على أيديهما.ويشهد له أيضاً التحاقهما بالركب حتّى الشهادة.

وربّما كان ابن جعفر (رضی الله عنه) يريد أن يتوثّق من حامل الكتاب الّذي يمكن الاعتماد عليه والاطمئنان إليه، لينقل الكتاب من دون تحريفٍ ولا تأخيرٍ ولا أيّ خطرٍ يمكن أن يتهدّده.

ويمكن أن يُستشفّ من هذا الخبر أنّ ابنيه كانا شابَّين رشيدَين، يمكن الاعتماد عليهما في حمل الأمانة وإيصال الكتاب والانطلاق به بمفردهما

ص: 235

ولوحدهما، في الزمن الصعب والظرف الخطير وملاحقات الأعداء واستنفار قوى الشرّ.

بل توحي عبارة ابن عبد ربّه والباعونيّ أنّهما كانا على مستوىً رفيعٍ من الوجاهة والرشد والمكانة عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، قالا:

وأرسل عبدُ الله بن جعفر ابنَيه عَوناً ومحمّداً، ليردّا حسيناً ((1)).

فعبارتهما تفيد أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) كلّف ولديه أن يباشرا هما (ليردّا حسيناً).

وهذا القول ينسجم مع حملهما الكتاب، فلا يبعد أن يكون قد كتب كتابه، وكلّفهما بهذه المهمّة أيضاً.

إلّا أن يقال: إنّ ابن عبد ربّه عبّر عن حمل الكتاب تكليفهما بالمهمّة، وهوبعيدٌ عن مؤدّى النصّ.

التذكير الخامس: نصّ كتاب ابن جعفر
اشارة

إقتصر بعض المؤرّخين على اختزال ما ورد في كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وعبّروا عن مضامينه بعباراتهم، فاكتفى ابن سعدٍ ومَن تلاه بقوله:

كتب إليه كتاباً يحذّره أهل الكوفة ويناشده أن يشخص إليهم.

وقد أشرنا إلى التحذير والنهي عن الخروج إلى العراق قبل قليل، فلا نعيد.

واكتفى بعضهم بقولهم أنّه كتب إلى الإمام (علیه السلام) فقط ((2)).

ص: 236


1- أُنظر: العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264.
2- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 322.

وروى آخرون الكتاب مفصّلاً، وسنتابعه فيما يلي من خلال اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: أدب عبد الله بن جعفر

روى ابن أعثم والخوارزميّ بداية الكتاب وشروعه بالبسملة، ثمّ قال:

للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر ...

فهو قد قدّم اسم الإمام (علیه السلام) على اسمه، وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ على أدب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، ومعرفته الراقية بإمامه ومقامه، ومعرفته السامية بأدب الخطاب مع العظماء، والتواضع بين يدَي رجال الله الّذين افترض الله طاعتهم.

أضِفْ إلى ذلك: ما يلوح من ثنايا الكتاب، ويبدو من عباراته وكلماته، ومايتدفّق منه من مشاعر وتوجّس، وما يجيش من بين سطوره من صدقٍ ونصيحةٍ وإخلاص، ما ينمّ عن تخوّفٍ ومحاولةٍ للاستبقاء على الإمام (علیه السلام) ، ودفع القتل عنه بما يستطيع وما يراه ممكناً، رغم تسليمه للإمام (علیه السلام) ورضاه بما فعل ويفعل.

فهو يبدو في موقفه ومحاولاته وكتابه كأُمّ سلَمة الّتي قالت له ما مضمونه: لا تفجعني بخروجك يا بُنيّ، فقد أخبرني جدُّك أنّك مقتول، وأعطاني من التربة الّتي تُقتَل فيها.. وأمثالها من المسلّمين للإمام المؤمنين بما أخبر عنه النبيّ (صلی الله علیه و آله) واختاره سيّد الشهداء (علیه السلام) ، غير أنّهم يتوقّعون ممّن مكّنه الله وجعل قلبه مسكن إرادته ومدّه بالقدرة والقوّة والعلم والحكمة أن يفعل شيئاً بأيّ وسيلةٍ

ص: 237

من الوسائل الّتي جعله الله مسلّطاً عليها ليدفع القتل عنه، فإن كان، وإلّا فهُم سلمٌ لما يقول، وتسليمٌ لما يريد، ورضىً بما يفعل.

وسنعرف الكثير من مصاديق أدب هذا الرجل المهذّب المتأدّب بأدب آل أبي طالب من خلال ما ورد في كتابه هذا.

اللفتة الثانية: المناشدة

• إنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تنظر في كتابي ((1)).• أُنشدك الله أن لا تخرج عن مكّة ((2)).

سؤالٌ ومناشدةٌ بالله أن لا يخرج الإمام (علیه السلام) عن مكّة..

ليس في الكتاب لغة الآمِر الناهي، ولا لغة الندّ المخاطب، ولا لغة المناقِش، ولا محاولة إقناع المخاطَب بخطأ خياره، ولا الحديث عن أهداف الخروج والمحاسبة على اتّخاذ القرار، وغيرها ممّا كنّا نسمعه في كلمات ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما.

ص: 238


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

إن هي إلّا مناشدةٌ وسؤال.. توسّلٌ وابتهال.. استعطافٌ والتماسٌ بتضرّعٍ ورجاء..

سؤال العاجز الّذي لا يرى نفسه في ضراعته مؤهَّلاً ليقدم بنفسه، لذا توسّل بالله وناشد باسمه، وتقرّب به بين يدَي الإمام الناطق عن الله والصادر عن أمره.

وقد جعل لمناشدته أمداً محدوداً، لا يتعدّى الانتظار والمكث في مكّة حتّى يصل هو، لعلّه يفزع إلى وسيلةٍ تحقّق له غرضه بفعل ما يمكن فعله لدفععادية الوحوش الكاسرة..

فليس عند ابن جعفر (رضی الله عنه) ولا عند غيره موضعٌ على وجه هذه البسيطة يمكن أن يُحيط الإنسان بهالةٍ من الحرمة والحفاظ والأمن مثل بيت الله الحرام.. إنّه البلد الآمِن الّذي جعله الله أمناً لكلّ مخلوق!

فهل يجد ابن جعفر (رضی الله عنه) موضعاً يمكن أن يطمئنّ به على حياة الإمام (علیه السلام) مثل مكّة؟ لذا توسّل إليه أن لا يخرج منها حتّى يصل بنفسه إليها.

إستمهل الإمام (علیه السلام) مسافة الطريق، ومدّةً لا تزيد على أيّام المسير من المدينة إلى مكّة..

بيد أنّ البقاء في مكّة أصبح وأمسى متعسّراً، بل متعذّراً على الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّهم لم يرعوا للحرم حرمته، ولا للإمام (علیه السلام) حرمته، وأقدموا على قتل الإمام (علیه السلام) فيه وسفك دمه المقدّس، حتّى اضطرّ للخروج والتعجّل دون انتظار الموسم.

ص: 239

إنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) توسّل وناشد الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة لأسبابٍ واضحةٍ لم يخفها على أحد، وقد أصحر بها في كتابه، كما سنسمع في اللفتة التالية.

اللفتة الثالثة: دوافع المناشدة
اشارة

قال الطبريّ والشيخ المفيد وابن كثير وابن الأثير والنويريّ وجماعة:

فإنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّه له أن يكون فيه هلاككواستئصال أهل بيتك، إنْ هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين، فلا تعجلْ بالسير، فإنّي في أثر الكتاب، والسلام ((1)).

قال ابن أعثم:

فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنّك إن قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير المؤمنين ((2)).

قال الخوارزميّ:

فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه

ص: 240


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 256.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.

هلاكك واستئصال أهل بيتك، فإنّك إن قُتلتَ خفتُ أن يُطفأ نور الله، فأنت علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين ((1)).

* * * * *يمكن تناول ما ورد في هذا المقطع من الكتاب من خلال التوضيحات التالية:

التوضيح الأوّل: الشفقة

الشَّفَقُ والشَّفَقَةُ: الحنان والرحمة والخوف من حلول المكروه، والعطف، وإزالة المكروه عن الناس.. أن يكون الناصِحُ من بُلوغِ النُّصْح خائفاً على المَنْصوح.. وأَشْفَقْتُ عليه أن يناله مكروه.. والشَّفِيقُ: الناصح الحريص على صلاح المنصوح ((2)).

يبدو أنّ الخوف المصرّح به في متن ابن أعثم والخوارزميّ هو نفسه هذه الشفقة الّتي رواها الطبريّ والشيخ المفيد وغيرهما.

ويمكن لقارئ النصّ أن يستشعر الإيقاع الوديع في كلمة (الشفقة)، وما تعبّر عنه ممّا يجيش في خاطر ابن جعفر (رضی الله عنه) ، والتوجّس الّذي يعيشه، والذعر الّذي ينتابه، والفَرَق الّذي يقاسيه، والروع الذي يروّع أحاسيسه، والوجل الذي يتحسّسه على سلامة الإمام (علیه السلام) وحياته، والمخاطر الّتي تُحدِق به..

ص: 241


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.
2- أُنظر: المعجم الرائد، كتاب العين، لسان العرب: شَفَقَ.

يبدو لائحاً مدى الحبّ الوافر، والحنان الفيّاض، والودّ الغزير المتدفّق من كلمات ابن جعفر (رضی الله عنه) ، الّذي يُصحِر عن الألم الممضّ الّذي ينهمر من بينسطور كتابه..

إنّه لا يعترض، ولا يقف ليمدّ قامته إزاء قامة الإمام (علیه السلام) أبداً، وإنّما يتوسّل حبّاً وحناناً، يرتجي أن يفعل شيئاً _ إن أذن له الإمام (علیه السلام) بذلك _، لعلّه يدفع القتل والمكروه عنه بما استطاع.

التوضيح الثاني: المقصود من الأمر في كلام ابن أعثم والخوارزميّ!

ورد في نصّ ابن أعثم وتبعه الخوارزميّ قول ابن جعفر (رضی الله عنه) :

فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه ... ((1)).

فهو خائفٌ أن يكون في هذا الأمر هلاك العترة الطاهرة بما فيها الإمام (علیه السلام) ، ولابدّ من معرفة المقصود من (الأمر) الّذي أشار إليه النصّ، وإن كانت هي زيادة وردت عند ابن أعثم خاصّة، حسب ما توفّر لنا من النصوص في هذا المجال.

ويمكن معرفة المقصود من سياق الكتاب نفسه ومن جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) .

يبدو أنّ المقصود هو: الخروج من مكّة والقتل، ويشهد له أنّه يتخوّف عليه من الأمر الّذي أزمع عليه في سياق دعوته للتريّث وعدم استعجال الخروج من

ص: 242


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

مكّة، ويعده أنّه سيصل عمّا قريب، ويأخذ له الأمان من يزيد وبني أُميّةلنفسه وماله وأولاده وأهله.

وقد أجابه الإمام (علیه السلام) _ وفق نصّ ابن أعثم والخوارزميّ _ بالرؤيا، ثمّ أقسم له أن لو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوه حتّى يقتلوه، وسيعتدُون عليه كما اعتدَت اليهود، فلا فائدة من انتظاره والتريّث والمكث في مكّة؛ لأنّهم سيقتلونه فيها، وستُهتَك حرمة البيت بدمه الزاكي.

فالأمر المشار إليه هو الخروج من مكّة الّذي سيؤدّي إلى القتل جزماً، إذ أنّ المكث في مكّة قد يوفّر نوع حمايةٍ تنتج عن حرمة البيت.

وكيف كان، فليس المقصود _ إذن _ من قوله: (الأمر) ما كان يقصده ابن الزبير وابن عبّاس، كما سمعناهما في ما سبق حين وقع النزاع بينهما، وليس هو الخروج بالمعنى المصطلح، ولا غيره من المقاصد الأُخرى، وإنّما هو الخوف عليه من القتل إذا خرج من مكّة، بقرينة السياق وجواب الإمام (علیه السلام) .

وربّما لاح ذلك بوضوح من التعبير الّذي رواه غيرهما من المؤرّخين: «إنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّه له»، وهو ترك مكّة والتوجّه نحو العراق، ليس إلّا.

* * * * *

لا تجد في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) أيّة إشارةٍ تشي بدعوة الإمام (علیه السلام) إلى اتّخاذ مكّة منطلقاً لحركةٍ خاصّةٍ بلونٍ خاصّ، أو أنّه قد فهم من حركة الإمام (علیه السلام) أنّه يبيّت لشيءٍ سوى سلب الذرائع من بين مخالب القرود المتوحّشة والذئاب

ص: 243

الجائعة، فهو لا يدعوه إلى استثمار المواقف في الحجّ، ولا يدعوه إلى التريّث حتّى يرى ما يصدر به الناس، ولا يدعوه ليبثّ كتبه ورسله إلى الأصقاع ويدعو الرجال إلى نصرته، ولا يدعوه لشيءٍ ممّا دعاه إليه الآخرون!

التوضيح الثالث: دواعي الشفقة وأسبابها
اشارة

صرّح ابن جعفر (رضی الله عنه) في كتابه بالأسباب الّتي دعَتْه إلى هذه الشفقة، وأفزعته وغرزت المخاوف وأثارت التوجّس في أعماقه، وقد رتّبها على مستويين، ينتج المستوى الثاني عن المستوى الأوّل.

المستوى الأوّل: الخوف من استئصال العترة الطاهرة

باح ابن جعفر (رضی الله عنه) عمّا يدور في خَلَده، ويقلقل أحشاءه، ويرتعش له قلبه، ويرتجف له كيانه، وصرّح أنّه مشفقٌ من أن يكون التوجّه إلى العراق سيؤدّي إلى قتل الإمام (علیه السلام) ، واستئصال أهل بيته.. «أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك» ((1)).نجد هنا ميزةً في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) ترفع مقامه الرفيع، وتسمو بمنزلته

ص: 244


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

السامية، إذ أنّه لا يذكّر الإمام (علیه السلام) بغدر أهل الكوفة وتاريخهم، والخوف من الاغترار بوعودهم ومزاعمهم ومواقفهم المخزية مع أبيه وأخيه (علیهما السلام) ، كما فعل الآخرون، لأنّه يعلم أنّ ذلك لا يغيب عن الإمام (علیه السلام) ، ويعلم مع مَن يتكلّم، ويعلم أنّ الإمام (علیه السلام) لا يتحرّك بدافع الدعوات المتوجّهة إليه منهم؛ لاعتقاده بإمامته وافتراض طاعته، وأنّه لا يصدر إلّا عن الأمر الإلهيّ..

وهو من جهةٍ أُخرى:

لا يرى موضعاً يمكن أن يوفّر للإمام (علیه السلام) وأهل بيته الحماية ويراكم الحرمة ويشدّدها كما هي مكّة والبيت الحرام، فليس له وسيلةٌ أُخرى يتشبّث بها ليعرضها بين يدَي الإمام (علیه السلام) .

لذا لا نسمعه يقترح على الإمام (علیه السلام) في هذا الكتاب الخروج إلى اليمن، أو اللحاق بالجبال والسهول وشواطئ المحيطات والبحار، والترحال في الصحارى والقفار، والتكاتب مع الناس وجمع الأنصار عبر الكهوف والمغاور والمخابئ، كما اقترح الآخرون الّذين افترضوا أنّ الإمام (علیه السلام) يريد الخروج بالمعنى المصطلح، وأنّه يبيّت للإطاحة بيزيد وبني أُميّة أو ينوي مواجهتهم، وغيرها من الأغراض المزعومة.

إنّه يخاف أن يترك الإمام (علیه السلام) مأمنه في مكّة، ويتوجّه إلى بلدٍ يُقتَل فيه ويُستأصل أهلُ بيته، إذ أنّ البلد الآمن هو مكّة لا غير، بعد أن خذلَته المدينةوضيّعته وأسلمته.

وقد أخبره الإمام (علیه السلام) في جوابه أنّ مكّة الآمنة لجميع المخلوقات لم تعُدْ

ص: 245

آمنةً لآل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وأنّهم سيقتلونه على كلّ حال، فلا خيار سوى الخروج من مكّة لئلّا تُهتَك حرمتها.

* * * * *

إنّه يخشى من استئصال أهل بيت الإمام (علیه السلام) ..

وهنا أيضاً لا نجد في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) ما يفيد أنّه يريد أن يحصد لنفسه شيئاً، ولا يجرّ لقرصه ناراً، ولا يهمّه سوى حياة الإمام (علیه السلام) وأهل بيته، فهو لا ينسب نفسه إلى أهل البيت (علیهم السلام) ، ولا يدّعي شيئاً لنفسه رغم أنّ ثقله وأهله وأولاده مع الإمام (علیه السلام) وفي ركبه، وهو ابن أبي طالب (علیه السلام) !

وفي كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) إشارةٌ واضحةٌ إلى أنّ أهل بيت الإمام (علیه السلام) كانوا في دائرة التهديد أيضاً..

المستوى الثاني: نتائج قتل الإمام (علیه السلام) !
اشارة

• إن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين ((1)).• فإنّك إن قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير

ص: 246


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.

المؤمنين ((1)).

• فإنّك إن قُتلتَ خفتُ أن يُطفأ نور الله، فأنت علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين ((2)).

إنزعج جماعةٌ من خروج الإمام (علیه السلام) وهجرته عن مكّة، وبرّر كلٌّ منهم انزعاجه بما يراه مسوّغاً للانزعاج وعدم الرضى، ودافعاً مقبولاً _ في زعمه _ للمعارضة والصدّ والمنع والأمر بالتريّث، أو الرجوع عن المشروع المفترض في أذهانهم البليدة، فقالوا:

إن خرجتَ فقُتلتَ ذلّ العرب!

إن خرجتَ قرّت عينُ ابن الزبير!

إن خرجت لا يمكن أن تُحقّق غرضاً ملحوظاً منظوراً مع توافر العدّة والعدد عند العدوّ!

وغيرها من الحسابات الدنيويّة، والنظرات الضيّقة الّتي لا تتّسع لإدراكالواقع الّذي يحيط بالإمام (علیه السلام) ، ولا تنمّ عن اعتقاد المعترض بإمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفرض طاعته، ممّا سمعناه من أمثال ابن عبّاسٍ وابن عمر وابن مطيع وابن الأصمّ وغيرهم..

فيما نجد ابن جعفر (رضی الله عنه) ينطلق من منطلقاتٍ تختلف تمام الاختلاف عن

ص: 247


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

منطلقات أُولئك..

إنّه يخاف على حياة الإمام (علیه السلام) المهدَّدة من قِبَل العدوّ، وفي حياة الإمام (علیه السلام) حياة العالم وحياة المؤمن، كما سيتّضح فيما يلي عندما نسمع ما يشفق عليه ابن جعفر (رضی الله عنه) :

الإشفاق الأوّل: الإشفاق على نور الله

إنّه يخشى على أهل الأرض وعلى الإيمان والمؤمنين..

فالإمام عنده _ وهو الحقّ _ نورُ الله في الأرض، فإن انطفأ هذا النور وخبا فسوف يعمّ الأرض وأهلها الظلام الحالك.. الدامس.. البهيم.. فلا نور لله في الأرض ولا هداية، ولا يبقى سوى الضلال..

فنور الإمام (علیه السلام) الأبيض الأغرّ الأقمر البهيّ البرّاق الساطع اللامع المنير المتلألئ المشرق إذا خبا وخمد، فلا نور في الأرض، ولا هداية، ولا دلالة على الله..

يعني أنّ الأرض ستغرق في الظلام، ويعمّها الظلم والجور والعماية والدياجي والاضطهاد والضياع والتيه في الدياجير..إنّه يخشى على مستقبل الأرض وأهل الأرض..

فالأرض الّتي ليس فيها نورٌ لله، لا حاجة لله فيها.. وهذا تعبيرٌ آخَر عمّا ورد كثيراً في أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) أنّ الأرض لا تخلو من حُجّةٍ لله، ولو خلت من الإمام لحظةً لَساخت بأهلها، ولَانفرط عقد التكوين.. لأنّ الله قد خلق الخلق ليعبدون، وليبتليهم أيّهم أحسن عملاً، فإن قُتِل الأحسن عملاً،

ص: 248

فلا حاجة في الخلق المنكوس المتعوس بعده!

إنّه يخشى أن يُطفأ نور الله في الأرض..

يا لها من كلمةٍ بعيدة الغور.. عميقة المغزى.. عظيمة الدلالة.. جزيلةٍ ثمينةٍ نفيسة.. توفّرت على قصرها من المعاني والدلالات ما يملأ القراطيس، إن أراد المتلقّي شرحها واستيعاب ما أشارت إليه وأوحت به..

إنّه يعتقد أنّ الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) هو نور الله في الأرض، به يُخرج اللهُ الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، فهو السبب الّذي جعله الله لهداية عباده، فكان علَم المهتدين، به يستنقذ الله العباد من الضلالة وحيرة الجهالة..

الإشفاق الثاني: فقدان علم المهتدين

إنّه يخشى ويُشفق على الإمام (علیه السلام) ، إذ هو علم المهتدين..

فإذا قُتل (علیه السلام) فقَدَ المؤمنون المهتدون عَلَمهم ودليلهم ومرشدهم، وتفرّق جمعهم، وتشتت أمرهم.. فهو عَلَمهم وعِلْمهم.. هو إمامهم الّذي سيُدعَون به في الدنيا والآخرة، ويُحشَرون تحت علمه ولوائه ورايته في الدنيا والآخرة.إنّه يخشى على علم المهتدين وخامس الخمسة الميامين الّذين فخر بهم الروح الأمين، وباهل الله بهم المباهلين..

فابن جعفر (رضی الله عنه) يعتقد بانحصار الهداية في الإمام (علیه السلام) ، وأنّها لا تكون إلّا إذا كان المهتدي تحت لوائه مقتدياً به، ومستدلّاً به وسالكاً طريقه..

وعلم الهداية لا يخطأ، ولا يعتريه الشكّ والتردّد، كيف وقد طهّره الله

ص: 249

تطهيراً، وجعله هادياً وعلماً ونوراً ودليلاً لخلقه..

يعني إنّه يعتقد بعصمة الإمام (علیه السلام) ، وفرض طاعته، ووجوب اتّباعه..

إنّه لا يخشى أن تقرّ عينُ ابن الزبير إذا خلّى الإمام (علیه السلام) له مكّة، فاستغلّها فرصةً للوصول إلى مآربه الدنيويّة، ولا يهمّه أن تسخن عين ابن الزبير أو ترضى.

ولا يهمّه إن كان يزيد يريد للإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة، فيقتنص فرصة وجوده ليغتاله أو يأخذه أخذاً، ويوفّر عليه تبعات حربٍ لا يُعرف مداها..

ولا يهمّه أيّ شيءٍ آخَر سوى أن يحمي نور الله ليستضيء به أهل الأرض، ويُبقي علم الهداية خفّاقاً عالياً مرتفعاً يسترشد به الأقربون والأبعدون، ويجعلونه وسيلةً إلى الله فيرجوه ولا يخافون.

الإشفاق الثالث: فقدان رجاء المؤمنين

إنّه يخشى على المؤمنين أن يفقدوا رجاءَهم.. لأنّه رجاء المؤمنين.. أملهم والمؤمّن روعتهم..الرجاء يرادف الأمل والابتهال والاسترحام والاستعطاف والاستغاثة والتضرّع والتطلّع والتوسّل والرغبة..

رجاء المؤمنين.. هو أملهم في الدنيا والآخرة.. بهذا الأمل يحيون، وبهذا الأمل يموتون، وبهذا الأمل يحشرون بين يدَي الله، وبهذا الرجاء والأمل يتقدّمون للوقوف بين يدي الله إذا خافوا ممّا قدّمت أيديهم..

إنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) يُشفِق ويخشى على رجاء المؤمنين أن يتحوّل إلى

ص: 250

ابتئاسٍ وتَيهٍ وسأم وضجر وقنوط ويأس.. وليست هذه من صفات المؤمن، فلا يبقى مؤمنٌ حينئذٍ إذا فقد الأمل والرجاء..

الإشفاق الرابع: روح الهدى وأمير المؤمنين!

إتفق جميع المؤرّخين الّذين نقلوا الكتاب على رواية قوله: «رجاء المؤمنين»، عدا ابن أعثم قال: «أمير المؤمنين»!

فهو إمّا خطأ نسّاخ.

وإمّا يقصد أمير المؤمنين بمعنى أنّه رئيس المؤمنين وأميرهم يومها، لا بالمعنى المصطلح الّذي حصره النبيّ (صلی الله علیه و آله) بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) ، ونهى الأئمّةُ المعصومون (علیهم السلام) عن مخاطبتهم به؛ لاختصاصه بأبيهم الأعظم (علیه السلام) ، وهو احتمالٌ بعيد.

أو أنّ ابن أعثم استعمل هذا اللقب وفق متبنّياته وأدبيّاته وطريقته في التعبير، كما هو دأبه في كتابه، وقد قالها على لسان المولى الغريب مسلم (علیه السلام) فيمناظرته ومحاججته مع ابن زياد في القصر، وفي غيرها من المواضع، وقد أتينا على مناقشة ذلك في موسوعة المولى الغريب (علیه السلام) ، فلا نعيد.

وفي قوله: «روح الهدى» دلالةٌ عميقةٌ على مدى إيمان ابن جعفر (رضی الله عنه) ومعرفته بالإمام سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وإن كانت الكلمة تحمل نفس الروح الّتي تحملها كلمة: «علم المهتدين» مع ما فيها من إيحاءاتٍ إضافيّة.

ولو سُلب الهدى روحه لغدا جثّةً هامدةً لا حراك فيها ولا تأثير، ولمات

ص: 251

الهدى ومات أهلُه.

اللفتة الرابع: لا تعجلْ بالسير!

فلا تعجل بالسير، فإنّي في أثر الكتاب ((1)).

طلب ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) من الإمام (علیه السلام) أن يتمهّل ولا يستعجل في الخروج من مكّة، وربّما كان هذا الاستمهال بدافع التخطيط للبحث عن طريقٍ يمكن أن يسلكه ابن جعفر (رضی الله عنه) للاستئمان والتأثير على يزيد وبني أُميّة.ويشهد لذلك ما قد ذيّل به كتابه في رواية ابن أعثم والخوارزميّ، حيث صرّح بذلك، ووعد الإمام (علیه السلام) أن يأخذ له الأمان من يزيد ومن جميع بني أُميّة له ولماله ولوُلده وأهل بيته ((2)).

يُلاحَظ هنا أنّ استمهال ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) للإمام (علیه السلام) إنّما هو محاولةٌ لفعل شيءٍ ما للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، كما سنسمع تفاصيله في اللفتة القادمة، وليس فيه منعٌ مطلَقٌ ونهيٌ مؤكّدٌ عن أصل الخروج، ولا تخطئةٌ لما اختاره الإمام (علیه السلام) ، ولا دعوةٌ للبقاء والمكث والإقامة الدائمة في مكّة، ولا اقتراحات لتوظيف الإقامة

ص: 252


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.

في مكّة، ولا غيرها ممّا اعتاد الآخرون طرحه بين يدَي الإمام (علیه السلام) والاعتراض عليه ونصب أنفسهم أعلاماً مهلهلة أمام العلَم الّذي نصبه الله للعالمين.

اللفتة الخامسة: أسباب الدعوة إلى التريّث
اشارة

• فلا تعجل بالمسير إلى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد وجميع بني أُميّة على نفسك ومالك، ووُلدك وأهل بيتك، والسلام ((1)).

• فلا تعجل بالمسير إلى العراق، فإني آخذٌ لك الأمان من يزيدومن جميع بني أُميّة لنفسك ولمالك وأولادك وأهلك، والسلام ((2)).

نجد في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) هنا ميزات عدّة:

الميزة الأُولى: تشخيص المُعتدي!

هنا ميزةٌ أُخرى في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) :

لقد اعتدنا سماع نغمةٍ واحدةٍ كأنّها تُقرأ على لوح أنواطٍ نضّده لهم فريقٌ مشترك، وأمضاه لهم ملحّنٌ واحدٌ يجيد العزف على طبول الحرب وشرب الدماء الزاكية.

سمعنا من ابن عبّاسٍ وابن عمر وغيرهما ممّن اعترض على الإمام (علیه السلام) كلامهم، ومحاولاتهم البائسة الّتي كانت ترمي إلى كفّ الإمام (علیه السلام) عن الخروج على السلطة! وتثبيط عزمه، وتقديم البدائل الناجعة والمؤثّرة والمثمرة في رأيهم

ص: 253


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

لما اختاره الإمام (علیه السلام) .

فهم يرون في الإمام (علیه السلام) مهاجِماً يخطّط للانقضاض على الحكم والحكّام والسلطة والسلطان، ويبيّت لمحاربة عساكر الملك والإطاحة بمُلكه، والتعرّض لولاياته وولاته، فهو البادئ، وهو المهاجم، وهو المتمرّد، أو ما يسمّونهباصطلاحهم: الخارجيّ، والعياذ بالله من هذه الكلمات الجريئة غير المؤدّبة، غير أنّ ضرورة البحث تقتضي نقل ما يفوه به أُولئك ويفكّرون به ويبرزونه على ألسنتهم.

فيما نجد في طريقة عرض عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) إيقاعاً جديداً ونغمةً وادعةً تنمّ عن فهمٍ عميق، وإدراكٍ دقيق، واستيعابٍ ضافٍ واف، ومعرفةٍ وتقديرٍ صائبٍ للظروف والأوضاع.

إنّه لم يستمهل الإمام (علیه السلام) ولم يكلّمه ليكفّه عن الخروج على السلطة، وإنّما عزم على الكلام مع يزيد وبني أُميّة، لأنّه عرف أنّ المشكلة والعناد والإصرار على ارتكاب الجريمة والتوغّل في الجناية والتشفّي والثأر لدماء الجاهليّة العفنة والانسياق مع وساوس الانتقام والحقد من جهتهم، وهم الّذين يريدون قتل الإمام (علیه السلام) ، وليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي يهدّدهم، بخلاف ما ورد في كلام غيره!

إنّه أدرك ووعى وفهم وقرأ الواقع كما هو، فعلم أن لا حاجة تدعوه ليحاول مع الإمام (علیه السلام) ليكفّ عن أُولئك الأوغاد، فليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي قد قصدهم وهدّدهم، وإنّما الحاجة تدعوه للكلام مع الوحوش الّتي تريد أن تملأ أكراشها وأجربتها من أوصال سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فاستمهله ريثما

ص: 254

يتكلّم معهم ويحاورهم ويناقشهم، لعلّهم ينزلوا عن شجرة القرود المتوحّشة المسعورة، ويعرضوا عن الإمام (علیه السلام) ليلهوا بقيانهم ودنانهم.

لذا جاء جواب الإمام (علیه السلام) على غرار كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) ، فأكّد له أنّهسوف (لا، ولم، ولن) يتركوه بتاتاً، ولو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوه وقتلوه، ولَاعتدوا عليه كما عدَت اليهودُ في يوم السبت، كما روى ابن أعثم والخوارزميّ.

الميزة الثانية: بذل ما بوسعه للدفاع عن الإمام (علیه السلام)

يشهد لما قدّمنا أنّ ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) أرسل ثقله وأولاده مع الإمام (علیه السلام) ، لأنّه يعلم أنّهم وإمامهم مهدَّدون، وهو يعلم كذلك أنّ خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق سيؤدّي إلى قتله، سواءً من خلال ما سمعه من الإخبارات النبويّة والعلويّة وغيرها، أو من خلال قراءة الواقع والنظرة الثاقبة الّتي اكتشف بها نوايا العدوّ المفضوحة.

فالإمام (علیه السلام) مهدَّد، والطاغوت وأذنابه يلاحقونه على كلّ حال، وحيثما كان، فلابدّ له من الخروج من مكّة، ولابدّ لابن جعفر (رضی الله عنه) أن يدفع عن إمامه بما استطاع، إن كان بمحاولاته وتوظيف نفوذه عند الأُمويّين ووجاهته، أو بالذبّ عنه بأولاده وجعل أهله وزوجه معيناً ومساعداً..

وقد وظّف ابن جعفر (رضی الله عنه) كلَّ ما توفّر لديه من وسائل للذبّ عن الإمام (علیه السلام) ، فاستمهله ليكلّم الطواغيت، ويدخل هو بنفسه على خطّ تحذيرهم وتخويفهم وصدّهم ومنعهم من الإقدام على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) ،

ص: 255

كما دفع عنه بيديه من خلال أولاده، وواساه وأعانه وحضر بين يديه فيكلّ لحظةٍ من لحظات كربلاء من خلال زوجه ومفخرته عقيلة الطالبيّين بنت أمير المؤمنين شريكة الحسين زينب الكبرى (علیهم السلام) .

الميزة الثالثة: التهديد شاملٌ من جميع الأُمويّين

إنّه استمهل الإمام (علیه السلام) حتّى يأخذ له الأمان! لا من يزيد فقط باعتباره الحاكم يومئذ، وإنّما يأخذ له الأمان من بني أُمية أيضاً.. «فإنّي آخذ لك الأمان من يزيد وجميع بني أُميّة».

من جميع بني أُميّة! فالتهديد الّذي يُحدِق بالإمام (علیه السلام) ليس من يزيد وحده، وإنّما هو من يزيد وبني أُميّة.. تماماً كما سمعنا فيما رواه لنا التاريخ من موقف مروان وإصراره على قتل الإمام (علیه السلام) في المدينة، ومواقف غيره من ذئاب الأُمويّين..

فالأُمويّون جميعاً يلاحقون سيّد الشهداء (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وما يزيد إلّا عنوانٌ وحامل رايةٍ باعتباره صاحب الملك والسلطان والآمر الناهي الّذي تطيعه العساكر والجحافل، والمتحكّم بالخزائن وبيوت الأموال.

الميزة الرابعة: التهديد الشامل لأهل البيت (علیهم السلام)

ثمّ إنّ التهديد لم ينحصر في شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) _ حسب ما ورد في كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) _، وإنّما هو يشمل أموال الإمام (علیه السلام) ووُلده وأهل بيته، إذ أنّه وعد أن يأخذ الأمان لشخص الإمام (علیه السلام) ولأمواله ووُلده وأهل بيته.

ص: 256

يذكّرنا كلام ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) هذا بقول الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) لأبي هرّةالأزديّ حين قال له: «إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت» ((1)).

فالإمام (علیه السلام) مهدَّدٌ على كلّ صعيد، وأهله وعياله مهدَّدون أيضاً، وقد باشروا في تنفيذ تهديداتهم، فأخذوا ماله وشتموا عرضه، ولم يبقَ إلّا القتل ليهنؤوا، وتهتزّ أعطافهم جذلاً وسروراً، ويستنهضوا فطائسهم ليهلّوا فرحاً بقضاء ديونهم من النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وفي كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) هذا وتصريحه بأخذ الأمان لأهل الإمام (علیه السلام) ووُلده من جميع بني أُميّة إشارةٌ واضحةٌ تفيد في فهم سبب إخراج الإمام (علیه السلام) ثقله وأهله معه، وعدم تركهم في المدينة أو مكّة، وسنأتي على بيان ذلك في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

اللفتة السادسة: التحذير من أهل الكوفة

صرّح ابن سعدٍ وابن عساكر وابن بدران وابن منظور وابن العديم والمزّيّ والذهبيّ وابن كثير ومَن تلا ابن سعدٍ وروى عنه، أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما)

ص: 257


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 13، الأمالي للصدوق: 153 بسندٍ عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 573، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 314، العوالم للبحرانيّ: 17 / 163، نفَس المهموم للقمّي: 183.

كتب كتاباً يحذّر الإمام الحسين (علیه السلام) أهل الكوفة ((1)).

وقال الشيخ ابن شهرآشوب: كتب إليه عبدُ الله بن جعفر من المدينة في ذلك. أي: في تحذيره من التوجّه نحو الكوفة، كما يدلّ عليه السياق، لأنّه ذكر ذلك بعد أن ذكر اعتراض جملةٍ من المعترضين، ونهيهم الإمام (علیه السلام) وتحذيرهم له من التوجّه إلى الكوفة ((2)).

وقد أتينا على ذِكر التحذير من أهل الكوفة قبل قليل، فلا نعيد، سوى أنّنا ننوّه هنا على عجلٍ إلى إشارةٍ منهجيّةٍ تفيد في قراءة النصّ التاريخيّ:

نلاحظ عند قراءة متن الكتاب الّذي رواه المؤرّخون أنّ ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) لم يصرّح في كتابه بتحذير الإمام (علیه السلام) من أهل الكوفة، بل لم نجد للكوفة وأهلها ذكراً في الكتاب، وقد اكتفى بمناشدة الإمام (علیه السلام) وسؤاله أن لا يخرج من مكّة، وأنّه مشفقٌ عليه من الوجه الّذي أزمع التوجّه له، وأنّه يخاف على الإمام (علیه السلام) القتل واستئصال أهل بيته.

وهذا شيءٌ غير تحذير الإمام (علیه السلام) من أهل الكوفة، فالإشفاق عليه من

ص: 258


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر:14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322.

القتل الناتج عن سماع الأخبار النبويّة والعلويّة وغيرها، والتوسّل إليه _ كتوسّل أُمّ سلَمة _ ومحاولة استبقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة لأنّها الحرم الآمن ريثما يتكلّم مع المعتدين شيء، والتحذير من أهل الكوفة وغدرهم الّذي لا يخفى على الإمام (علیه السلام) شيءٌ آخر.

وزاد ابن الصبّاغ أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) وجماعة الأعيان في المدينة كلّاً منهم كان يشير على الإمام (علیه السلام) أن لا يتوجّه نحو العراق ولا يأتيه ولا يقربه، فليس فيه مصلحة ((1)).

فثَمّة فرقٌ كبيرٌ بين ما رواه هؤلاء كفهمٍ خاصٍّ بهم لكتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) من دون رواية نصّه، وبين نصّ الكتاب.

لذا قد تقتضي الضرورة أن لا يعتمد المتلقّي على فهوم المؤرّخين وانتزاعاتهم، فكلٌّ منهم يصيغ الخبر وفق مؤهّلاته ونوازعه ونزعاته وتصوّراته ومعتقداته ومتبنّياته، وغيرها من المؤثّرات الّتي تؤثّر على الكاتب والراوي.

التذكير السادس: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

يمكن متابعة جواب الإمام (علیه السلام) على كتاب صهره وابن عمّه من خلال الأجوبة التالية:

ص: 259


1- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
الجواب الأوّل: لم يذكر جواباً

لم يذكر الطبريّ والشيخ المفيد وابن الأثير وغيرهم ممّن تبع نصّ الطبريّ جواباً للإمام (علیه السلام) ، وإنّما استمرّوا في سرد الأحداث، ولا ندري ما هي العلّة الّتي منعَت من متابعة الحدَث عندهم؟

فهل أنّهم أخّروا الجواب إلى ما يلي من أحداث متعاقبة، وجعلوا ما حدث بعد وصول ابن جعفر (رضی الله عنه) إلى مكّة جواباً؟

أو أنّهم لم يقفوا على الجواب؟

أو أنّ الطبريّ استنبط من استمرار الإمام (علیه السلام) في حركته نحو العراق إباءً ورفضاً للكتاب، أو أنّه أراد أن يُوحي للمتلقّي عدم اكتراث الإمام (علیه السلام) بكتاب ابن عمّه؟!

وتبعه الآخَرون بنقل النصّ عنه.

ولعلّ هذا الأخير هو الّذي عبّر عنه ابن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ: «فلم يكترث بما قيل له، ولم يلتفت إلى ما كتب إليه» ((1)).

الجواب الثاني: «قرأتُ الكتاب وفهمت»..

إفتتح الإمام (علیه السلام) الكتاب بقوله:«أمّا بعد، فإن كتابك ورد علَيّ، فقرأتُه، وفهمتُ ما ذكرت،

ص: 260


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

وأُعلمك ...».

كما في نصّ ابن أعثم والخوارزميّ ((1)).

وهذا يشهد بخلاف ما قاله ابن الصبّاغ، ويفيد أنّ الكتاب قد وصل بيد الإمام (علیه السلام) ، وقد قرأه واهتمّ بما فيه، ثمّ أجابه جواباً يكشف عن مدى معرفة ابن جعفر (رضی الله عنه) وصواب رأيه ودقّة نظره، إذ أنّ توجّس ابن جعفر (رضی الله عنه) وإشفاقه كان على علمٍ وصوابٍ لمعرفته بخطط العدوّ وإقدامه على الحرمات، ولم يُنكِر على الإمام (علیه السلام) خروجه، وإنّما حاول استبطاء الانطلاقة ريثما يَقدِم هو، فربّما استطاع أن يمنع وقوع القتل في مكّة وفي غيرها.

لذا لم يردّ عليه الإمام (علیه السلام) بما ردّ به غيره حين قال: «لئن أُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيها»، بل أجابه بما سنسمعه بعد قليلٍ من التسليم لأمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وعزم العدوّ على تنجيز ما خطّط له، وأنّه سوف لا يفلت من مخالب القرود المسعورة والذئاب المتوحّشة، فلا مجال للاستمهال والتريّث.

الجواب الثالث: الرؤيا!

أخبر الإمام (علیه السلام) ابنَ جعفرٍ (رضی الله عنه) عن رؤيا رأى فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقدأمره بأمرٍ هو ماض، له كان أو عليه، وأنّه ليس بمُخبِرٍ بها أحداً حتّى يلاقي عمله ((2)).

ص: 261


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

هذا هو مجمل ما ورد في النصوص عن الرؤيا الّتي أخبر عنها أصدقُ الخلق الإمام الحسين (علیه السلام) .

وقد تكرّرت الرؤى طيلة فترة المسير من المدينة إلى كربلاء، فقد رأى جدّه في المدينة قبل الخروج منها، ورآه في مكّة قبل الخروج منها، ورآه في الطريق إلى كربلاء، ورآه في كربلاء.. فكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) مع فلذة كبده والجلدة بين عينيه زَين السماوات والأرضين دائماً أيّام غربته وتشرّده وملاحقة الأعداء له.

ولسنا ندري ما هي الرؤيا بعد أن قال الإمام (علیه السلام) أنّه لا يُخبِر بها أحداً حتّى يلاقي عمله، أي: لا يخبر بها أحداً إلى يوم القيامة.غير أنّ ثمّة أمراً يمكن استشعاره من كلمات الإمام (علیه السلام) الّتي تلت الإخبار عن الرؤيا، إذ أنّه أخبر عن (أمرٍ) هو ماضٍ فيه، وقد خرج من مكّة، فلابدّ أن يكون الخروج من مكّة هو تنفيذٌ وتعبيرٌ للرؤيا.

وربما كان في الإرجاع إلى الرؤيا إشعارٌ للمتلقّي أنّ ما يصدر عنه الإمام (علیه السلام) وما يفعله إنّما هو بأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فهو في طاعة ربّه ونبيّه (صلی الله علیه و آله) ، وليس

ص: 262

هو أشِراً ولا بطراً ولا إفساداً ولا ظلماً.. وهو تأكيدٌ وتركيزٌ على البُعد الربّانيّ الإلهيّ المعصوم، والبُعد الغيبيّ في كلّ حركةٍ وسكنةٍ صدرت عنه (علیه السلام) .

وكأنّ في الإرجاع إلى رؤيا النبيّ (صلی الله علیه و آله) تطييبٌ لخاطر ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وإقناعه وتسكين روعته، والتلويح باحترامه وتقديره والالتفات إلى مناشدته، فكأنّه يلوّح لابن جعفر (رضی الله عنه) أنّك سألتني وناشدتني، وقد سمعتُ لك، وتبيّن قصدُك، بَيد أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أمرني بأمر، ولابدّ أنّك تعتقد وتؤمن بتقديم أمر النبيّ (صلی الله علیه و آله) على سؤالك، فكأنّه اعتذر إليه عن عدم الاستجابة بمَن هو أَولى منهما معاً.

الجواب الثالث: «لو كنتُ في جُحر هامّة»!

لقد سمعنا قول الإمام (علیه السلام) :

«واللهِ _ يا ابن عمّ _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، وواللهِ ليعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهودفي يوم السبت» ((1)).

قاله لابن عمّه ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وقاله لابن عبّاس، وقاله لغيرهما، وقد أتينا على شرحه، فلا نعيد.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى ضرورة الإصغاء إلى هذا القول المتكرّر من

ص: 263


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف.

الإمام (علیه السلام) في مواضع ومواطن شتّى ولأفراد مختلفين، فإنّها كلماتٌ واضحةٌ جليّةٌ بيّنةٌ صريحةٌ مؤكّدةٌ لم تأتِ عابرة، وإنّما تشير إلى حقيقةٍ وواقع كان يمارسه الأعداء ويلهثون من أجل تحقيقه، فلا يمكن أن نغبّش مشهداً واضحاً، ونرجرج الصورة الواضحة اللائحة الّتي يرسمها الإمام (علیه السلام) ، ونشيح بالنظر عن تحرّكات العدوّ الّتي أخبر عنها الإمام (علیه السلام) أكثر من مرّة.

الجواب الرابع: أبى ولم يمتنع

هذا الجواب يرتكن إلى اختزال المؤرّخ للحدَث، وإخباره عمّا جرى من خلال اختصار الحوادث وكبسها في عبارةٍ من صياغته حسب فهمه، اقتصاراً على ذِكر النتيجة الّتي تمخّض عنها كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) وجواب الإمام (علیه السلام) ، إذ كانت النتيجة أنّ الإمام (علیه السلام) خرج ولم يتمهّل.فقال ابن الصبّاغ الّذي زعم أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) لم يكن وحده الّذي كتب إلى الإمام (علیه السلام) ، وإنّما كان معه الوالي وجماعة من أعيان المدينة: فلم يكترث بما قيل له، ولم يلتفت إلى ما كتب إليه ((1)).

وقال ابن عبد ربّه والباعونيّ: فأبى حسين أن يرجع ((2)).

وقال الشيخ السماويّ: وكتب إليه بالرجوع، فلم يمتنع ((3)).

ص: 264


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264.
3- إبصار العين للسماويّ: 6.

وربّما كان المشهد واضحاً أشدّ الوضوح لمن تابع الأحداث، وقرأ بيانات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وتصريحاته، فمن الطبيعيّ أن يأبى الإمام (علیه السلام) ولم يمتنع من الخروج، إذ أنّ أيّ تأخيرٍ كان يعني هتك حرمة الدم الزاكي وهتك حرمة البيت الحرام، ولم يحتمل الموقف التأخير يوماً أو يومين، حتّى ينتهي الموسم.

وقد أتينا على بيان ذلك في مواضع كثيرةٍ من هذه الدراسة، فلا نعيد.

ص: 265

ص: 266

القسم الثاني: محاولة ابن جعفر (رضی الله عنه) مع عمرو بن سعيد

اشارة

الطبريّ، النويريّ:

قال: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: اكتبْ إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع.

فقال عمرو بن سعيد: اكتبْ ما شئت، وأْتِني به حتّى أختمه.

فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثمّ أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمْه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسه إليه ويعلم أنّه الجِدّ منك. ففعل.

وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكّة ((1)).

ص: 267


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410.

قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: «إنّي رأيتُ رؤياً فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، علَيّ كان أو لي».

فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ أحداً بها، وما أنا محدّثٌ بها حتّى ألقى ربّي» ((1)).

الشيخ المفيد، المجلسيّ (رحمهما الله) :

وصار عبد الله إلى عمرو بن سعيد، فسأله أن يكتب للحسين أماناً ويمنّيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً يمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ((2)).

فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنَيه، ودفعا إليه الكتاب، وجهدا به في الرجوع، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له». فقال له: فما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ أحداً بها، ولا أنا محدّثٌ حتّى ألقى ربّي (عزوجل) ».

فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر، أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومهوالمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة ((3)).

ص: 268


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 238، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247.

الطبرسيّ (رحمة الله) :

ولحقه عبدُ الله بن جعفر بكتاب عمرو بن سعيد بن العاص والي مكّة مع أخيه يحيى بن سعيد يؤمنه على نفسه، فدفعا إليه الكتاب، وجهدا به الرجوع، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له». قالا له: فما تلك الرؤيا؟ فقال: «ما حدّثتُ بها أحداً، ولا أُحدّث حتّى ألقى ربّي (عزوجل) ».

فلمّا يئس عبد الله بن جعفر منه، أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع هو ويحيى بن سعيد إلى مكّة، وتوجه الحسين (علیه السلام) نحو العراق ((1)).

إبن الأثير:

وقيل: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد، فقال له: اكتبْ للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، واسألْه الرجوع.وكان عمرو عامل يزيد على مكّة، ففعل عمرو ذلك، وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد ومع عبد الله بن جعفر.

فلحقاه، وقرئا عليه الكتاب، وجهدا أن يرجع، فلم يفعل، وكان ممّا اعتذر به إليهما أن قال: «إنّي رأيتُ رؤيا، رأيتُ فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ،

ص: 269


1- إعلام الورى للطبرسيّ: 230.

وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، علَيّ كان أو لي». فقالا: ما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ بها أحداً، وما أنا محدّثٌ بها أحداً حتّى ألقى ربّي» ((1)).

إبن كثير:

ثمّ نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد _ نائب مكّة _ فقال له: اكتبْ إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه في البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع.

فقال له عمرو: اكتبْ عنّي ما شئت، وآتِني به حتّى أختمه.

فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد ما أراد عبد الله، ثمّ جاء بالكتاب إلى عمرو، فختمه بخاتمه، وقال عبد الله لعمرو بن سعيد: ابعثْ معي أمانك. فبعث معه أخاه يحيى.فانصرفا حتّى لحقا الحسين، فقرئا عليه الكتاب، فأبى أن يرجع، وقال: «إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وقد أمرني فيها بأمرٍ وأنا ماضٍ له». فقالا: وما تلك الرؤيا؟ فقال: «لا أُحدّث بها أحداً حتّى ألقى ربّي (عزوجل) » ((2)).

* * * * *

تتحدّث هذه المتون عن محاولةٍ قام بها عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) بهدف إقناع الوالي ليكتب أماناً لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما جرى في أثناء ذلك من

ص: 270


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 277.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

أحداثٍ سنكتشفها من خلال تسليط بعض الأضواء عليها:

الضوء الأوّل: قيام ابن جعفر (رضی الله عنه) إلى الوالي

أفاد الطبريّ، ثم لحقه بعض مَن جاء بعده:

إنّ عبد الله بن جعفر قام إلى عمرو بن سعيد والي المدينة ونهض وصار إليه فكلّمه ((1)).وقد أشرنا باقتضابٍ فيما سبق إلى هذا الموقف الشجاع والواعي الّذي يدلّ على عُمق فكرة ابن جعفر (رضی الله عنه) ونظره الصائب الثاقب، والدلالة البعيدة المدى الّتي كشفت عن نباهة ابن جعفر (رضی الله عنه) ودقّته في تقدير الأوضاع وتحليل الحوادث، والتعبير عنها بوعيٍ وذكاء، يُلقي في روع المتلقّي ما يدعوه للتأمّل بعمقٍ لتشخيص موقف العدوّ وموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ما رأيناه لحدّ الآن من مواقف المعترضين على سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام السعداء _ كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما _ أنّهم كانوا يلومون سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويحاولون إقناعه لينصرف عن التوجّه نحو العراق باعتباره قد خطّط وعزم على القيام بحركةٍ ذات لونٍ وطابعٍ خاصّ، كانوا يطلقون عليها في

ص: 271


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 277، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

تلك العصور ب-- (الخروج)، فكانوا يقترحون عليه أن يتربّص ويتريّث ويمكث في مكّة ريثما يتمكّن من جمع الرجال والعدّة والعدد، ويستكمل النظر في جوانب الأمر من كلّ حيث، ليوفّر جميع عوامل النصر والظفر حسب الحسابات المنظورة.

فهم قد فهموا موقف الإمام خامس أصحاب الكساء من خلال تصوّراتهم وانتزاعاتهم وخلفيّاتهم وسوابقهم الذهنيّة والعقليّة والنفسيّة، وغيرها من المؤثّرات في إدراك المواقف وتحليل المشاهد، فاعتبروا الإمام (علیه السلام) مهاجِماً قد بيّت لأمرٍ ما _ كما يحسبونه _ للانقضاض على السلطة والسلطان، أو القيام بعملٍ يمكن أن يثير الواقع الراكد والمجتمع الخامد السامد الهامد الميّت، أولأيّ هدفٍ أو غرضٍ آخر يفيد ابتداء سيّد الشهداء (علیه السلام) بالهجوم والتخطيط للتحرّك من أجل تفعيل النوايا المبيّتة وتنفيذها.

وقد امتاز موقف ابن جعفر (رضی الله عنه) عمّن مرّوا بنا لحدّ الآن، إذ أنّه لم يقرأ في حركة الإمام (علیه السلام) على جغرافيا المدن والبلدان من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق كما فهم المعترضون، وإنّما عرف وتحقّق أنّ المشكلة تكمن في نوايا العدوّ القذرة، وعزمه على إطفاء نور الله في الأرض والإطاحة بعلَم المهتدين، وتحويل رجاء المؤمنين إلى يأسٍ وقنوط، وهو يعلم أنّ الله يأبى إلّا أن يُتمّ نوره، بَيد أنّ ذلك لا يمنعه من القيام بواجبه في الدفاع عن إمام زمانه وكهف الورى ونور الله!

لذا توجّه إلى الإمام (علیه السلام) يتوسّل إليه أن يتريّث ولا يتعجّل الخروج من

ص: 272

مكّة، فهي الموطن الأفضل للأمن والأمان، رغم أنّ بني أُميّة لا تردعهم تلك الحرمات من تنفيذ مخطّطاتهم، وتفعيل أحقادهم وأضغانهم، ولكنّ هذا هو المستطاع الّذي يمكن أن يوظّفه المؤمن.

ويشهد لما ذكرناه من فهم ابن جعفر (رضی الله عنه) أنّه لم يكلّم الإمام (علیه السلام) في كتابه هذا، ولا في موقفه هذا، سواءً أكان مع الإمام (علیه السلام) أو مع الوالي، ولم يلوّح إلى شيءٍ ممّا صرّح به غيره كالعبدين ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما من التريّث حتّى يستحكم الأمر أو يتوثّق من أهل الكوفة الغدرة الّذين قتلوا أباه (علیه السلام) وطعنوا أخاه (علیه السلام) ، ولم يشر إلى جمع الرجال وبثّ الدعاة وإرسال الكتبوالرسل إلى الأطراف، ولم يحذّره من القوّة والعدّة والعدد الّتي سيواجهه به العدوّ، وما شاكل ذلك ممّا يفيد أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) قد انتزع من موقف الإمام (علیه السلام) صورةً تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) ينوي الهجوم!

بل على العكس تماماً، يتّضح من انطلاقه نحو الوالي وقيامه إليه أنّه قد عرف أنّ الخطر يكمن حصراً في قصور الخبال، والوحوش الّتي تختفي تحت تخوت السلطان والولاة والأذناب والذئاب المتعطّشة لشرب الدماء الزاكية.

فهو لم يخطّئ الإمام (علیه السلام) في خروجه، كما فعل ابن عبّاسٍ وابن عمر وغيرهما، إذ أنّه يعلم أنّ العدوّ يغدر بالإمام (علیه السلام) في مكّة وفي غير مكّة، ويقتله كيفما اتّفق وسنحت الفرصة، فالخطيئة تكمن في وجودات العفن الأُمويّ.

قام إلى الوالي فكلّمه.. ولم يكلّم الإمام (علیه السلام) في كتابه إلّا بالقدر الّذي يسابق به الزمن، لعلّه يبني جداراً وسوراً يحمي به آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) من

ص: 273

الوحوش المسعورة الّتي تتوثّب لتمزيق أوصالهم واستئصالهم.

فليس ابن جعفر (رضی الله عنه) معترضاً على الإمام (علیه السلام) ، ولا مخطّئاً، ولا لائماً، وإنّما كان مسلّماً راضياً، يسعى للقيام بواجبه في الدفاع والذبّ عن الإمام (علیه السلام) بما يراه منتجاً، ولو على نحو الاحتمال، فقام إلى الوالي..

ولم نسمع _ لحدّ الآن _ أنّ أحداً من المعترضين ابتدأ الوالي بذلك أو كاتب يزيد ابتداءً!

إنّه موقفٌ امتاز به ابن جعفر (رضی الله عنه) اقتضى أن نركّز عليه، ونعود له مرّةً بعدأُخرى.

الضوء الثاني: مطالب ابن جعفر (رضی الله عنه) من الوالي

ذهب ابن جعفر إلى والي مكّة.. إلى الجبّار العنيد، فكلّمه ((1))، وطلب منه أن يكتب للإمام (علیه السلام) كتاباً يضمّنه ما يلي:

أوّلاً: يجعل له الأمان ويؤمنه على نفسه.

ثانياً: يمنّيه البرّ والصلة.

ثالثاً: يوثّق له في كتابه.

رابعاً: يسأله الرجوع.

ص: 274


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410.

خامساً: أن يرسل الكتاب مع أخيه؛ ليكون أكثر توثيقاً ((1)).

المهمّ في هذه المطالب الخمسة هو المطلب الأوّل، والباقي كلّها عبارةٌ عن توثيقاتٍ وتأكيداتٍ له.المطلب الأوّل، هو أن يؤمنه على نفسه!

أي: أنّ سيّد الكائنات وأشرف الخلق لم يكن في أمان، وهو في مكّة الحرم الإلهيّ الآمِن!!

هذا هو الباعث الرئيس الّذي دعا الإمام الحسين (علیه السلام) لتعجيل المسير والخروج من مكّة، إذ أنّه صرّح في غير موقفٍ وفي أكثر من مناسبةٍ ولقاءٍ وموطنٍ أنّه لا يسعه المكث في مكّة مهما كانت المدّة قصيرة، بل لا يسعه أن يمكث حتّى ينقضي الموسم، لأنّه إن فعل اغتالوه أو أخذوه أخذاً!

لقد أهاج الأُمويّون كلّ شيءٍ في مكّة على الإمام (علیه السلام) ، وجعلوا القتل والاغتيال يكمن له في كلّ لحظةٍ وآن، وتحت كلّ حجرٍ ومدر، ووراء كلّ جدارٍ وشجر، وفي أرجاء المسجد الحرام وتحت ستار الكعبة وداخل الحجر..

يمكن أن يكون المنفّذ أيّ فردٍ من أفراد الحجّاج، وفي أيّ سكّةٍ أو زقاق، وبين الحِجر والمقام، وخلف أُسطوانات المسجد، وفي منى وعرفات والمزدلفة

ص: 275


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحراني: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 277.

والجواد والطرقات..

ليس في مكّة وضواحيها مترٌ آمِن، ولا لحظةٌ من الزمان آمنة، ولا فردٌ من أفراد الحجّاج آمن، فلا أرض تقلّه ولا سماء تظلّه..

فربّما حمل الهواء سهماً غارباً ينطلق من مجهول.. في مكانٍ مجهول.. ليصرع الإمام (علیه السلام) ..

أو يتكاثر عليه الهمج الرعاع والغوغاء، فيُؤخَذ أخذاً، ثمّ لا يتدخّل أحدٌ منالولاة، ولا يبعد أن يكون خروج الأشدق من مكّة في تلك الفترة ومكثه في المدينة _ رغم التهاب الأحداث في مكّة _ لهذا الغرض، ليقع ما يقع والوالي ليس في مكّة، فله أن يتنصّل عمّا حدث، ويعتذر بغَيبته عن موضع الأحداث!

* * * * *

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) دخل مكّة مستأمِناً مستجيراً بالله، لائذاً عائذاً به وببيته، وقد صرّح بذلك للأشدق نفسه ولغيره، كما مرّ معنا، وهذا يعني أنّه لم يكن قد بادر إلى أيّ نشاطٍ يمكن أن يهيج شيئاً في البيت الحرام، وهو أعرف الخلق بحُرمة البيت، ولم يبدر منه ما يمكن أن يكون ذريعةً للعدوّ ليهجم عليه، ولو كان قد بدر منه شيءٌ لَهاجمه العدوّ علانية، تماماً كما فعل مع ابن الزبير، وهو لا يرى للحرم حرمة.

مكّة هي الحرم الآمن، وقد دخلها الإمام (علیه السلام) مستأمناً مستجيراً لائذاً عائذاً، فأيّ حاجةٍ للأمان؟!

ص: 276

لو لم يكن الإمام (علیه السلام) في خطر، ولو لم يكن العدوّ قد بيّت له القتل والاغتيال في الحرم، لما احتاج ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) أن يستأمنه للإمام (علیه السلام) ، وقد أكّد الإمام (علیه السلام) ذلك في أكثر من موطن.

ويشهد لذلك ما جاء في كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، إذ يقول: لعلّه يطمئنّ لذلك!

* * * * *أجل، قد يكون استبطاء الإمام (علیه السلام) وتأخيره من صالح العدوّ الّذي كان يسابق الزمان أيضاً ليقضي على الإمام (علیه السلام) في مكّة بشكلٍ مبهمٍ وغامض، كما صرّح الإمام (علیه السلام) نفسه بذلك، وحينئذٍ سيستجيب لطلب ابن جعفر (رضی الله عنه) فوراً.

ولابن جعفر (رضی الله عنه) أن يستفيد من هذه الفرصة، ليهدّأ روعه، لأنّه أخذ موثقاً من القوم أن لا يتعرّضوا للإمام (علیه السلام) ما دام في مكّة، فيكون أمان الله وأمان البيت الحرام، وعهد القوم الغدرة الكفرة الفجرة.

بَيد أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) ربّما كان يرى في هذا التأخير نوع فرجٍ يمكن أن يتدخّل هو وغيره للكلام مع أولاد البغايا والقرود وجِرائها، لعلّهم يصرفونهم عن قتل الإمام (علیه السلام) بأيّ وسيلة، ولأيّ سببٍ قد يُقنعهم ويخمد نيران مراجل الضغينة والحقد والانتقام الّتي تغلي في أعماقهم، وتتزوّد وقودها من قبور فطائسهم وجيفهم الموقودة في القليب، ولو إلى حين! هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى:

فإنّه إن أخذ منهم الأمان مكتوباً، فقد أقام عليهم الحجّة وأتمّها، فإن

ص: 277

أقدموا على نكث العهد والأمان، فإنّه قد أعذر، لتستحكم عليهم الحجّة، وليثبت للعالم والتاريخ أنّهم هم الّذين أقدموا على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) من غير جرم، ويسلب الذرائع منهم أمام الله والناس والتاريخ.

الضوء الثالث: مَن كتب الكتاب؟!

روى المؤرّخون كتاب الأشدق للإمام (علیه السلام) ، غير أنّ العبارة المشهورة تفيد أنّ عمرو بن سعيد الأشدق نفسه كتب الكتاب، إلّا الطبريّ ومن تبعه، فإنّه أفاد أنّ الأشدق كلّف ابن جعفر (رضی الله عنه) أن يكتب ما يرضيه وما يراه صالحاً، ويأتيه بالكتاب ليختمه بختمه، فكتبه ابن جعفر (رضی الله عنه) وختمه الأشدق ((1)).

ومَن تابع نصّ الطبريّ بالخصوص يراه يسوق الحدَث بشكلٍ بحيث يوحي بوضوح للمتلقّي أنّ الكتاب الّذي حمله ابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى بن سعيد هو نفسه الّذي كتبه ابن جعفر (رضی الله عنه) على لسان الأشدق.

بَيد أنّ ما أفاده الطبريّ يخالف مشهور المؤرّخين ممّن سبقه كابن سعدٍ وغيره ((2))، ومن لحقه كالشيخ المفيد وغيره ((3))، إذ يفيد الجميع أنّ الأشدق هو

ص: 278


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

الّذي كتب الكتاب، أو أنّهم ينسبون الكتاب إليه مباشرةً من دون الإشارة إلى كتابة ابن جعفر (رضی الله عنه) .أضف إلى ذلك، فأنّنا سنأتي على ذكر نصّ الكتاب بعد قليل، وسنراه لا يناسب أدب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، ولا لغته، ولا ذوقه، ولا معرفته بإمامه وتواضعه بين يدَي سيّده المفترض الطاعة عليه، وإنّما يناسب غطرسة الجبّار العنيد، وينسجم مع لغة طواغيت بني أُميّة وتهوّرهم وأدبهم الهابط.

فربّما كان ثَمّة كتابان: أحدهما كتبه ابن جعفر (رضی الله عنه) على لسان الأشدق، والآخر كتبه الأشدق نفسه، أو أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) كتب، ثمّ أضاف وحذف الأشدق وفق مراده، فنسبوا الكتابة لابن جعفر (رضی الله عنه) .

هذا، إذا أردنا أن نلتزم عبارة الطبريّ وسياقه، وإذا اكتفينا برواية غيره ممّن سبقه ولحقه، فلا حاجة إلى هذا التكلّف.

الضوء الرابع: حامل الكتاب

أفاد الطبريّ ومَن تلاه _ دون غيرهم _ أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) طلب من الأشدق أن يبعث كتابه مع أخيه يحيى، وقد علّل ذلك في نصّ الطبريّ بقوله: فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسُه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك ((1)).

وفي تعبير ابن الأثير قال: ابعثْ معي أمانك. فبعث معه أخاه يحيى ((2)).

ص: 279


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

وفي عبارة الشيخ المفيد ما يفيد أنّ الأشدق بعث الكتاب مع أخيه يحيى، قال: وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ((1)).

وعلى كلّ حال، فإنّ العبارات كلّها تفيد ما صرّح به الشيخ المفيد، فيكون حامل الكتاب هو يحيى، والمولى عبد الله بن جعفر إنّما كان مصاحباً له، وليس حاملاً للكتاب.

أجل، قد يُقال _ وفق ما أفاده الطبريّ وابن الأثير _ أنّ المولى المعظّم عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) هو الّذي طلب من الوالي أن يكون يحيى حاملاً للكتاب؛ ليكون أبلغ في إيصال الرسالة، وليكون أحد أفراد السلطة والعاملين تحت إمرة الوالي مباشراً في تبليغ الرسالة، لتوكيد الرسالة وما فيها، وتثبيت موقفٍ معلَنٍ عليهم من خلال مباشرتهم في تقديم الأمان للإمام (علیه السلام) .

وفي نفس الوقت، لا يكون ابن جعفر (رضی الله عنه) حاملاً لكتاب الوالي العنيد، ولا عاملاً في بلاطه، ولا متحدّثاً باسمه، وإنّما يتكلّم ابن جعفر (رضی الله عنه) باسمه الشخصيّ، ويتكلّم يحيى باعتباره حاملاً للكتاب ورسولاً مخوّلاً من قبل السلطان!

الضوء الخامس: موقع اللقاء

ورد في النصوص أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى لحقا الإمام (علیه السلام) ، ثمّ بعد انتهاء اللقاء رجعا إلى مكّة، فيلزم أن يكون اللقاء خارج مكّة، بمعنى أنّهما إنّمالحقا

ص: 280


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

بالإمام (علیه السلام) بعد أن خرج من مكّة، لذا اقتضى أن يرجعا إليها بعد اللقاء.

الضوء السادس: لقاءٌ مختصر
اشارة

يمكن أن نجد عدّة إضاءاتٍ تنكشف من هذا الضوء:

الإضاءة الأُولى: أسباب اختصار اللقاء

يبدو من اللقاء أنّه كان لقاءً مختصراً مضغوطاً لم يدم طويلاً، إذ أنّه اقتصر على قراءة الكتاب، وأنّهما جهدا في وقتٍ قصيرٍ لصرف الإمام (علیه السلام) عن وجهته، ولا يبدو أنّ ثمة حواراً طويلاً ومناقشاتٍ وأخذاً وردّاً حصل في اللقاء، إذ لو كان لَبان.

ولا يبعد أن يكون من أسباب ذلك أنّ الكريم الجواد ابن جعفر (رضی الله عنهما) كان مسلِّماً لإمامه راضياً بفعله، وليس ما بدر منه وصدر عنه سوى محاولةٍ للإبقاء عليه ودفع القتل عنه، ليس إلّا، فهو يرضى من الإمام (علیه السلام) ولا يلاسنه ويتطاول عليه، ويحاول إقناعه وصرفه كيف ما اتّفق، كما كان يفعل غيره.

فهو قد أعلن نصرته للإمام (علیه السلام) بهذه الصورة على هذا الوجه، فإن قبل الإمام (علیه السلام) منه فهذا ما يتمنّاه، وإن قال له الإمام (علیه السلام) : لابدّ من الخروج، فهو لا يعترض ولا يحاول منع الإمام (علیه السلام) ولو بأن يشبك أصابعه في شعره المقدّس!!ويحيى جلواز الوالي ورسوله، لا يهمّه الأمر كثيراً إلّا بالمقدار الّذي يؤمّن مصالحه ومصالح مَن كلّفه، ومصالح سائسهم المجدور المخمور، وهو ليس

ص: 281

مكلَّفاً بأكثر من أن يكون حاملاً للرسالة، ومطمئِناً بوجوده وحمله للرسالة، لا أكثر، سيّما أنّنا لم نسمع من الوالي نصّاً خاصّاً كلّف به أخاه.

الإضاءة الثانية: مَن باشر الإقراء

صرّح الطبريّ أنّ الّذي باشر بإيصال كتاب الوالي وتسليمه وإقرائه هو يحيى نفسه، وإن كان ينسب القراءة والمحاولة في الإرجاع لكليهما، قال:

فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به ((1)).

وتعبير ابن الأثير وابن كثير الّذي ينسب الإقراء لكليهما لا يبدو متيناً، إذ أنّ الإقراء لابدّ أن يكون على يد واحد، وبلسان واحدٍ منهما، إلّا إذا أراد ابن الأثير وصنوه أن يُشركا الطاهر الطهر ابن جعفر (رضی الله عنهما) في شيءٍ من مساعي السلطان، ويجعلاه ممثّلاً عنه.

وربّما كان هذا شاهداً آخَر لما ذكرناه قبل قليلٍ من التفريق بين من يروي الحدَث، وبين من يحكي الحدث وفق فهمه وانتزاعاته ونوازعه، فالحدثيروي انفراد يحيى بحمل الرسالة وقراءتها، لكن لمّا كان مع ابن جعفر (رضی الله عنه) حاضراً فهم منه _ أو أراد أن يفهم هكذا _ ابن الأثير وابن كثير أنّهما اشتركا في الحمل والتبليغ.

ص: 282


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
الإضاءة الثالثة: مؤدّى اللقاء

يُلاحَظ هنا أيضاً أنّ غاية ما جهدا فيه ينحصر في إرجاع الإمام (علیه السلام) إلى مكّة لا غير، ولم يذكر الخبر لا تصريحاً ولا تلويحاً سوى ذلك.

إذ لم يتعرّض الخبر إلى أيّ كلامٍ آخَر دار بينهما سوى إقراء الكتاب، وأنّهما لم يفلحا في إقناع الإمام (علیه السلام) ليرجع إلى مكّة.

فلا تحذير من أهل الكوفة، ولا تذكير بعواقب الخروج على السلطان ذي العدّة والعدد، ولا اقتراح ليبقى في مكّة ليكاتب ويراسل ويجمع الرجال ويخاطب الأمصار، وغيرها من رؤى المعترضين.

الضوء السابع: أمر ابنيه بالجهاد دون الإمام (علیه السلام)

أفاد الشيخ المفيد والطبرسيّ:

إنّ عبد الله بن جعفر لمّا يئس من رجوع الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، أمرابنَيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسيرِ معه والجهاد دونه ((1)).

يشهد هذا الموقف للطيّب الكريم صاحب الندى والجود عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) أنّه لم يقدم على ما أقدم عليه معترضاً على الإمام (علیه السلام) ، ولا مخطّئاً،

ص: 283


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، إعلام الورى للطبرسيّ: 230، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 238، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247.

ولا معتقداً فيه أنّه يهاجم السلطان، وإنّما يرى الواقع كما هو، ويرى السيوف مُحدقةً بالإمام (علیه السلام) وأهله، والذئاب والوحوش متكاثرةً محيطةً بالإمام (علیه السلام) مطبقةً عليه الحلقة، وأنّ عليه أن يفعل شيئاً للدفاع عنه.

فأقدم على ما كان يراه نافعاً في تسكين هيجان القرود المسعورة..

فلمّا لم يجد ذلك ناجعاً، أقدم على الخطوة الثانية الّتي تجعله في دائرة المدافعين عن الإمام (علیه السلام) .. فأمر ابنيه بلزوم ركاب الإمام (علیه السلام) والمسير معه والجهاد دونه.

فهو يرى الإمام (علیه السلام) صائباً في اختياره الخروج، ولم نسمع منه ما يفيد _ ولو تلويحاً _ أنّه يرى البقاء في مكّة أصلح للإمام (علیه السلام) ، وتجهيز ولديه يشهد لخلاف ذلك، إذ أنّه يشهد له أنّه يعتقد صحّة ما اختاره الإمام (علیه السلام) حين أمرهماأن يلزماه ويسيرا معه.

كما يشهد له أنّه يرى شخص الإمام (علیه السلام) في خطر، حيث أمر ابنيه أن يجاهدا دون الإمام (علیه السلام) .

الجهاد دونه.. دون الإمام (علیه السلام) .. ليس في وصيّته لهما وحثّه سوى الجهاد دون الذات المقدّسة.. الجهاد دون الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ..

أمرهما أن يدفعا عن الإمام (علیه السلام) ، لأنّه يعلم أنّ المطلوب هو الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الإمام (علیه السلام) هو المقصود..

لأنّه يعلم أنّ القوم يلاحقون الإمام (علیه السلام) ، ويطلبون دمه، وقد بدؤوا الهجوم عليه.. فأمرهما أن يجاهدا دونه.

ص: 284

لأنّه لم يرَ في موقف الإمام (علیه السلام) ما يراه مهاجماً، لذا لم يأمرهما أن يسيرا معه ويجاهدا معه، وإنّما أمرهما أن يجاهدا دونه..

يجاهدا دون الإمام (علیه السلام) ..

لم يذكر شيئاً آخر يجاهدا دونه، ويدفعا عنه، لأنّه يعلم أنّ المطلوب أوّلاً وبالذات هو شخص ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقرّة عين الوصيّ (علیه السلام) ، وفلذة كبد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وصنو السبط الأكبر (علیه السلام) .

إنّه أمر ابنيه.. امتداده المادّيّ والمعنويّ..

أمر ابنيه.. وهما يداه الّتي يبطش بهما، ويدفع بهما ريب الزمان، وكلَّ عدوان.. ذُخره الّذي ادّخره، كأيّ أبٍ للأيّام الصعبة، والمواقف العسيرة،وتقلّبات الدهر الشاقّة، واللحظات الشرسة.. القوّة الّتي يرى فيهما وجوده وقدرته وسطوته وسوره ومنعته ودفاعه وسياج حمايته وصونه..

أمر ابنيه.. فدفع بكلّ سطوته وقوّته وقدرته، ليجاهدا ويدفعا عن الإمام (علیه السلام) ..

وكان من قبل قد أخرج أهله مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .. أخرج معه ابنته أُمّ كلثوم، وصهره ابن أخيه الّذي قُتل بين يدَي إمامه، وأدّى واجب الدفاع عنه أيضاً..

وبهذا شارك عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) بكلّ وجوده في الدفاع عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأدّى واجب الذبّ عن حرمات الله وحريم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقام هو بما يستطيعه شخصيّاً، ثمّ قاتل بين يدَي إمام زمانه من خلال أبنائه،

ص: 285

وواسى وساعد وشارك في كلّ موقفٍ وموطنٍ ومصيبةٍ من مصائب كربلاء من خلال أهله شريكة الحسين وعقيلة الطالبيّين زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (علیهم السلام) .

الضوء الثامن: هل رجعا إلى الوالي؟

روى المؤرّخون على نحو الحكاية أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) ويحيى لحقا بالإمام (علیه السلام) ودفعا إليه الكتاب وجهدا في إرجاعه، فاعتذر الإمام (علیه السلام) بالرؤيا التي رآها، إلّا أنّ الطبريّ قال:

فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيىالكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: ... ((1)).

فلمَن قالا هذا القول؟

لم يصرّح الطبري لمن «قالا»، وكأنّه يروي عنهما لا أكثر، ولم يروِ غيره أيضاً أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) قد رجع إلى الوالي ليخبره بما جرى، فهو لا يحتاج إلى مراجعة الوالي، ولا الكلام معه مرّةً أُخرى بعد أن عرف أنّه لا يتردّد في السعي لقتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الإمام (علیه السلام) قد خرج بالفعل من مكّة، وقد أدّى ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) ما عليه مع الوالي لما كان يعتقده لصالح الإمام (علیه السلام) .

ص: 286


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
الضوء التاسع: جواب الإمام (علیه السلام)

وفق عبارة الطبريّ وابن الأثير وغيرهما الّذين قالوا: «وكان ممّا اعتذر به» ((1))، أنّ الإمام (علیه السلام) قد ذكر لهما عدّة أسباب، وكان من بينها الرؤيا الّتي رآها.

وساق غيرهم العبارة في سياقٍ يفيد أنّ الرؤيا هي السبب الوحيد الّذيذكره الإمام (علیه السلام) لهما ((2)).

وكيف كان، فإنّ ما صرّح به الجميع هو الرؤيا فحسب، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيها قبل قليل، فلا نعيد.

الضوء العاشر: هل التقى ابن جعفر (رضی الله عنه) أهلَه؟!

صرّحت جميع المصادر أنّ السيّدة عقيلة الطالبيّين (علیها السلام) كانت قد خرجت مع أخيها وإمامها سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وقد سمعنا قبل قليلٍ أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) قد حمّل ابنيه كتاباً إلى الإمام (علیه السلام) ، ثمّ ذكر الشيخ المفيد

ص: 287


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، الكامل لابن الأثير: 3 / 277.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، إعلام الورى للطبرسيّ: 230، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 238، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247.

والطبرسيّ وغيرهما أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) أمر ابنيه بملازمة الإمام (علیه السلام) بعد لقائه به خارج مكّة، وهذا يعني أنّه قد التقاهما.

غير أنّ المصادر لم تذكر تصريحاً ولا تلويحاً إن كان ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) قد التقى أهله وزوجه بنت أمير المؤمنين (علیهما السلام) ثمّة، إلّا أنّ الوجدان والعادة ومعرفة أخلاق عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) السامية الراقية العظيمة تسمح للمتلقّي أن يفترض لقاءه بأهله بعد طول فراقٍ دام أكثر من أربعة أشهر، فسلّم عليهموتفقّد حالهم وتحنّن عليهم وشملهم بعطفه وحبّه وحنانه ورأفته كأبٍ وربّ بيت.

ومقتضى أنّه أمر ابنيه بالجهاد دون الإمام (علیه السلام) ، وعلم أنّ وجهتهم إلى القتل والفراق إلى يوم القيامة، أنّه ودّعهما وداع المفارق الّذي لا يعود، وتزوّد منهما وتزوّدا منه، وودّع ابنته وصهره بنفس نبرة الأسى والحزن والفراق، وودّع أهله وزوجه ذكراه من عمّه أمير المؤمنين ومعدن الحبّ والحنين، وأوصاهم بوصاياه واستمع إلى وصاياهم.

ومثل هذا الوداع الّذي تظلّله أجواء الفراق والشهادة.. الدماء والسبي.. أجواء السفر إلى الأرض الموعودة والمصرع المهول المروع المهيب.. والسير في ركبٍ يسير والمنايا تسير معه.. لابدّ أن تغمره الدموع وتكتنفه الأحزان وتخيّم عليه الكآبة والهموم والغموم..

والركب كلّه كان في الطريق.. خارجاً من مكّة.. مبتعداً عن الوطن ومرابع الأهل وتربة الأحبّة والأعزّاء.. ميمّماً نحو الموت الّذي سيختطف حبّات القلوب وفلذات الأكباد..

ص: 288

الركب يسير إلى عرصةٍ تترامى فيها الأشلاء مقطّعةً مبضّعةً مرمّلةً على الرمضاء..

ركب مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي يسير إلى السبي والشماتة، والوقوفِ في مجالسٍ ما بارحت اللهو والخمرا..فإذا انهمرت دموع السيّدة الكبرى في الركب، لابدّ أن تتجاوب لها باقي العيون بالبكاء والنياحة والعويل..

ص: 289

ص: 290

القسم الثالث: كتاب عمرو بن سعيد للإمام (علیه السلام)

اشارة

ابن سعدٍ ومن تلاه:

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص: إنّي أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنّك قد اعتزمتَ على الشخوص إلى العراق، فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإن كنتَ خائفاً فأقبِلْ إليّ، فلك عندي الأمان والبرّ والصِّلة.

فكتب إليه الحسين: «إنْ كنتَ أردتَ بكتابك إليّ برّي وصلتي، فجُزيتَ خيراً في الدنيا والآخرة، وإنّه لم يشاقق مَن ﴿دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ((1))، وخير الأمان أمانُ الله، ولم يؤمِن بالله مَن لم يخَفْه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجِبُ لنا أمان الآخرة عنده» ((2)).

ص: 291


1- سورة فُصّلت: 33.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

الطبريّ، النويريّ:

قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ، أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنّك قد توجّهتَ إلى العراق، وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثتُ إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحُسن الجوار لك، الله علَيّ بذلك شهيدٌ وكفيلٌ ومراع ووكيل، والسلام عليك.

قال: وكتب إليه الحسين: «أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله (عزوجل) وعمل صالحاً وقال: إنّني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة مَن لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا تُوجِب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنتَ نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجُزيتَخيراً في الدنيا والآخرة، والسلام» ((1)).

الخوارزميّ:

ص: 292


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة: أمّا بعد، فقد بلغني أنّك قد عزمت على الخروج إلى العراق، ولقد علمت ما نزل بابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته، وأنا أُعيذك بالله (تعالى) من الشقاق، فإنّي خائفٌ عليك منه، ولقد بعثت إليك بأخي يحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معه، فلك عندنا الأمان والصلة والبرّ والإحسان وحُسن الجوار، واللهُ بذلك علَيّ شهيدٌ ووكيلٌ وراع وكفيل، والسلام.

فكتب إليه الحسين: «أمّا بعد، فإنّه لم يشاق مَن ﴿دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وقد دعوتني إلى البرّ والإحسان، وخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخافه في الدنيا، ونحن نسأله لك ولنا في هذه الدنيا عملاً يرضي لنا يوم القيامة، فإن كنتَ بكتابك هذا إليّ أردت برّي وصلتي، فجُزيتَ بذلك خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام» ((1)).

* * * * *روى ابن سعد _ كأقدم مؤرّخٍ بالنسبة لمن روى من بعده _ نصّ كتاب الأشدق، ثمّ تلاه الطبريّ وغيره، وسنتابع النصّ ضمن المتابعات التالية:

ص: 293


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.
المتابعة الأُولى: زيادات الطبريّ والخوارزميّ

عند مقارنة النصّ الّذي رواه ابن سعدٍ ومَن نقل عنه بالنصّ الّذي رواه الطبريّ، نجد ثمّة اختلافاتٍ ربّما كانت طفيفة، وزياداتٍ قد لا تكون طويلة، بَيد أنّها مؤثّرةٌ في فهم الكتاب.

وكذلك فعل الخوارزميّ حيث وردت عنده زيادات مؤثّرة وإن كانت قليلة.

فنجد _ على سبيل المثال، بغضّ النظر عن الاختلافات _ في نصّ الطبريّ زيادةً لم تكن عند المؤرّخ الأقدم، جاء فيها:

وقد بعثتُ إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار لك، الله علَيّ بذلك شهيدٌ وكفيلٌ ومراع ووكيل، والسلام عليك ((1)).

وربّما كان ذلك لتأكيد أنّ الوالي كتب الكتاب تلبيةً لطلب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وليس هو تبرّعاً من قبله، ولجعل ابن جعفر (رضی الله عنه) رسولاً منقبله.

وجاء في نصّ الخوارزميّ:

ولقد علمت ما نزل بابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ((2)).

وهي زيادةٌ لم تكن عند ابن سعدٍ ولا عند الطبريّ، وهي مؤثّرةٌ أيّما تأثيرٍ في التعامل مع الكتاب!

ص: 294


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

وسنأتي على تفصيل الكلام في ذلك، كلٌّ في محلّه، وإنّما أفردناها هنا لننوّه على الزيادات، وما أكثر زيادات الطبريّ على مَن سبقه!

المتابعة الثانية: غطرسة الأشدق

ورد في نصّ الطبريّ بداية الكتاب قوله: «من عمرو بن سعيد إلى الحسين ابن عليّ»، بخلاف كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) الّذي بدأه باسم الإمام الحسين (علیه السلام) ثمّ ذكر اسمه.

ويدلّ هذا بوضوحٍ على وقاحة الأشدق وغطرسته وتجبّره، فهو وإن كان والياً بيده السلطة، غير أنّه لابدّ أن يعرف لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته حرمته، ومنزلته وجلاله ومقامه، فإن أبى إلّا أن يتنافخ ويستعلي ويتكبّر على الله، ويُقدّم نفسه كوالٍ حاكمٍ متسلّط، فلْيذكر الإمام (علیه السلام) باحترامٍ خاصٍّ من خلال لقبٍمتسالم متّفَقٍ عليه، أو كنيةٍ مِن كناه، لتكون محاولةً منه لبيان صدقه فيما يزعم من حرصه على الإمام (علیه السلام) وحبّه السلامة له، ويعبّر عن حُسن نيته، وليس في الأُمويّين نيّةٌ حسنة!

بل نجد فيما يلي من كتابه خلاف ذلك تماماً، كما سنقرأ في المتابعة التالية:

المتابعة الثالثة: التهديد الأوّل

شرع الكتاب بتهديدٍ واضحٍ وقحٍ صاغه الجرذ المتنافخ العنيد بصيغة الدعاء، فقال:

ص: 295

إنّي أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك ((1)).

وفي لفظ الطبريّ:

فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك ((2)).يبدأ كلامه ب-- (إنّي) أسأل الله.. فهو بما هو الأشدق يرى _ عميت عيناه _ أنّ الإمام (علیه السلام) يحتاج إلى دعائه ليلهمه الله رشده، أو يهديه لما يرشده، وأن يصرفه عمّا يرديه أو يوبقه!

وهذه العبارات البائسة وإن كانت بلحن الدعاء، غير أنّها تتضمّن تهديداً وتوبيخاً واضحاً جليّاً _ تبت يداه _، إذ أنّه يحذّر الإمام (علیه السلام) من اقتحام ما يُردي وما يوبق ويخالف الرشد، ولا نطيق الاسترسال مع وقاحات هذا الخبيث الرجس، ونحسب أنّ المتلقّي يفهم تماماً ما يرومه هذا الجبّار العنيد من خلال مقدّمته الّتي عرضها في قالب الدعاء.

المتابعة الرابعة: التهديد الثاني

فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق ... ((3)).

ص: 296


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
3- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

رجع الخبيث إلى استخدام ضمير المتكلّم للتدليل على ذاته، بصيغة (إنّي) في اللفظ المشهور، أو (أنا) في لفظ الخوارزميّ، وفي تكرار ما يدلّ على أناه_ المزدحم بديدان الحقد الناخرة في قلبه الأسود المتكلّس _ جرس تهديدٍ مسموع، غير أنّه لحقارته لا يقوى على إدراك المخاطب..

فهو يؤكّد بلفظ: (إنّي) أنّه هو الّذي يعيذ الإمام (علیه السلام) بالله من الشقاق..

أمّا الإعاذة بالله، فقد مرّ الحديث عنها مفصّلاً في غضون الكلام عن لقاء ابن عبّاس، فلا نعيد.

وأمّا الإعاذة من الشقاق، فهي بالرغم من إيقاع التهديد المجلجل فيها، إذ أنّه افترض أنّ في خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة خروجاً على الجماعة وانفلاتاً من طوق الطاعة..

لعن الله هذه المخلوقات الكدرة القذرة الّتي لا يطيق الإنسان مجاراتهم والاسترسال مع كلماتهم، لولا ضرورة البحث..

أيُقال مثل هذا الهراء والتجاسر والتجاوز والاعتداء للإمام (علیه السلام) الّذي جعله الله حبله المتين، وأمر بالاعتصام به، وللإمام (علیه السلام) الّذي افترض الله طاعته على العباد؟!

ص: 297

أيكون لأحدٍ من المخلوقين التمرّد على الإمام (علیه السلام) والخروج عن طاعته، حتّى يُقال له إذا خرج من مكّة ليحمي حماها ويحفظ حرمتها وحرمة دمه الزاكي أنّه في (شقاق)؟!

أيُقال هذا لمن أخرج الله به العباد من الذلّ، وفرّج عنهم غمرات الكروب، وأنقذهم به من شفا جُرف الهلكات ومن النار، ومن علّم الله بموالاته العالمين معالم دينهم، وأصلح ما كان فسد من دنياهم، وبموالاته تمّت الكلمة، وعظمتالنعمة، وائتلفت الفرقة، وبموالاته تُقبَل الطاعة المفترضة، وله المودّة الواجبة، والدرجات الرفيعة، والمقام المحمود، والمكان المعلوم عند الله (عزوجل) ، والجاه العظيم، والشأن الكبير، والشفاعة المقبولة؟!!

إنّها شنشنةٌ ممجوجةٌ وقحة، نثر جيفتها قرود الأُمويّين، على سنّة مَن سبقهم ممّن تمرّد على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعتى وطغى على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) .

وسيأتي الكلام بعد قليلٍ عن هذه الفرية النتنة عند ردّ الإمام (علیه السلام) عليها، إن شاء الله (تعالى).

المتابعة الخامسة: التهديد الثالث

رجع مرّةً أُخرى للتأكيد والتذكير بنفسه باعتباره الوالي بنفس الجرس والإيقاع التهديدي: (فإنّي)..

ص: 298

• فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك ((1)).

• فإنّي خائفٌ عليك منه ((2)).

خائفٌ على الإمام (علیه السلام) من الشقاق!! وخائفٌ على الإمام (علیه السلام) من أن يؤدّيبه الشقاق إلى الهلاك!!

(فيه).. في لفظ الطبري، و(منه) في لفظ الخوارزميّ.. يعود فيها الضمير إلى الشقاق، كما يدلّ عليه السياق بوضوح.

أجل، صرّح في لفظ الطبريّ ما يخافه على الإمام (علیه السلام) من الشقاق، إذ أنّه سيؤدّي إلى هلاكه..

إنّه افترض في الإمام (علیه السلام) الشقاق لمجرّد خروجه من مكّة، ومخالفته لرغبة الوالي وسائسه، وهدّد أنّ عدم قبول قول الوالي سيُعتبَر شقاقاً، وعاقبة الشاقّ الهلاك!

هكذا هي لغتهم..

قالها القرد المخمور المسعور..

قالها ابن الأَمة الفاجرة ابن زياد..

وقالها الجبّار العنيد الأشدق..

وقالها غيرهم..

ص: 299


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

إنّه الطغيان والتمرّد والعتوّ والاستعلاء والاستكبار على الله وعلى أوليائه..

بغضّ النظر عن ثبوت لزوم الجماعة بالكون مع الإمام المفترض الطاعة، وفق ما نصّت عليه النصوص المقدّسة.

فإنّ ما فعله الإمام (علیه السلام) ليس إلّا الابتعاد عن مكّة، لئلّا يُسفَك دمه فيها..

أيكون حفظ الحرمات وحماية النفس والأهل من أيّ مسلمٍ من المسلمينشقاقاً؟!

المتابعة السادسة: التهديد الرابع

في نصّ الخوارزميّ قبل أن يهدّد باجتناب الشقاق! قدّم مقدّمةً فقال:

ولقد علمتَ ما نزل بابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ((1)).

وبهذا يتّضح أنّه في مقام التهديد والتهويل على الإمام (علیه السلام) ، فهو يذكّره بما نزل بابن عمّه مسلم (علیه السلام) وشيعته، وأنّ مصيره سيكون ذات المصير ونفسه، إذ أنّهم حكموا على المولى الغريب (علیه السلام) بالشقاق، وعاملوه معاملة الشاقّ، وقتلوه قتلةً لم يُقتَل أحدٌ قبله في الإسلام.

بَيد أنّ هذه العبارة وإن كانت تفيد معنى التهديد بوضوح، إلّا أنّها تبدو مترجرجةً في المتن، تؤذن بشيءٍ من الزيادة غير المدروسة، وتدعو للتريّث في قبولها، إذ أنّ خبر شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لم يكن قد وصل

ص: 300


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) بعدُ في المشهور المعروف من النصوص التاريخيّة، وقد بلغ الخبر بعد خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة بفترةٍ طويلةٍ بعد أن توغّل الإمام (علیه السلام) في المسير على طريق الشهادة.ومن البعيد جدّاً أن يكون الوالي قد بلغه الخبر على بريدٍ خاصّ، فوظّفه هنا للتهديد، لأنّ خروج الإمام (علیه السلام) كان يوم شهادة المولى الغريب (علیه السلام) أو قبله بيوم، ووصل كتاب الأشدق إلى الإمام (علیه السلام) بُعيد خروجه من مكّة، فكان الإمام (علیه السلام) على مشارف مكّة، ومن العسير أن يبلغ الخبر خلال يومٍ أو يومين.

أضف إلى أنّ الخوارزميّ قد تفرّد هنا بذِكر هذه الزيادة، ولم نسمع أنّ هذا الخبر قد كان له وقعٌ عند الإمام (علیه السلام) وركبه، ولا عند السلطان وجلاوزته، ولا عند الناس، ولم يرد له أيُّ ذكرٍ أو إشارةٍ في ردّ الإمام (علیه السلام) وجوابه على الكتاب، أو جوابه لابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى.

المتابعة السابعة: فإنْ كنتَ خائفاً

فإن كنتَ خائفاً ... ((1)).

وردت هذه العبارة عند ابن سعدٍ ومَن تلاه، ولم تأتِ في نصّ الطبريّ

ص: 301


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

والخوارزميّ!

ساق الأشدق الجملة على نحو الشرطيّة، كأنّه يريد أن ينسب الخوفللإمام (علیه السلام) من دون أن يكون له سببٌ من قبلهم، ولا مسوّغ له..

بَيد أنّه على الرغم منه قد اعترف وأقرّ بأنّ ثمّة خوفاً يمكن أن يكون في المقام، وليس هذا الخوف إلّا لوجود تهديدٍ حقيقيّ جدّيّ يشهد به الواقع، وإلّا فليس لمثل الإمام الحسين (علیه السلام) بالّذي يخاف بالمعنى السلبيّ، أو أنّه يخاف لعملٍ أقدم عليه.

فإن كنتَ خائفاً.. وشى الخبيث بما كانوا يخطّطون له، وافتُضح بقوله هذا، إذ أنّه صرّح أنّ ثمّة ما يهدّد الإمام (علیه السلام) ويمنعه من البقاء في مكّة، لتجنّب المخاطر والاغتيال وأخذه.

بمعنى:

إنّ العدوّ أيضاً اعترف وأقرّ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن مهاجماً ولا خارجاً عليهم، إذ أنّه لم يفعل في مكّة شيئاً يدلّ على ذلك، ولم يخطب خطاباً ولم يسجّل عليه أيّ موقف، ولم يشهده أحدٌ في مشهدٍ يحرّض على السلطة والحكّام والوالي، ويدعو إلى البيعة لنفسه أو لنكث بيعة يزيد، أو يسعى للاستيلاء على مكّة أو المدينة، أو يجيّش الرجال ويعدّ العدّة لأمرٍ ما.

وكلّ ما فعله وقاله في اللقاءات الخاصّة الّتي حصلَت له مع المعترضين وغيرهم أنّه في خطرٍ حقيقيّ، وإن بقي في مكّة فإنّه سيُغتال أكيداً، وتُهتَك بدمه الزاكي حرمة البيت.

ص: 302

وقد صرّح بنفسه للأشدق حين سأله عن سبب قدومه إلى مكّة أنّه جاءمستجيراً مجاوراً لائذاً عائذاً بالله وببيته.

والأشدق هو عفريتٌ متجبّر، يراقب الأحداث عن كثب، ويلاحق الإمام (علیه السلام) بعيونه وجواسيسه، ولا يخفى عليه شيءٌ من تحركات الإمام (علیه السلام) في مكّة.

ومع ذلك فإنّه أقرّ له في كتابه، وذكر أنّه إن كان خائفاً فله الأمان..

لمَ يخاف الإمام؟ وهو لم يفعل ما يدعو للخوف!

أجل، إنّه يخاف من وقحة الأُمويّين وجرأتهم على الله وعلى حرمات الله، فيخاف أن يغتالوه في البيت الحرام..

فالأشدق قد أقرّ بوجود ثمّة مسوّغ ومبرّر للخوف..

لم يَعِده الأشدق بالصفح والتغافل والإعراض عمّا بدر منه أو صدر عنه، لأنّه لم يصدر منه شيءٌ يهدّد السلطان والوالي، أو يهدّد مكّة وحرمتها..

فهو يقول للإمام (علیه السلام) : إن كنتَ خائفاً منّا، وتتوقّع أن نغدر بك ونقتلك في مكّة، فأقبِلْ إلينا، فإنّك في أماننا.. وكأنّ هذا الأحمق المطاع نسي أنّ أحداً لا يقبل منه أماناً، وهم معدن الغدر والحيلة والمكر والخيانة، وجميع مساوي الأخلاق ومذمومها.

المتابعة الثامنة: وعود الآثم
اشارة

يمكن متابعة ما ورد في الكتاب من وعودٍ قدّمها الآثم اللعين للإمام (علیه السلام)

ص: 303

من خلال الوعود التالية:

الوعد الأوّل: إن كنتَ خائفاً.. فأقبِلْ إليّ..

كأنّ التقدير: إن كنتَ خائفاً منّي.. أي: منه كوالٍ وممّن سلّطه.. فأقبِلْ إليّ..

إن كنت خائفاً أن تُقتَل في بيت الله الحرام، فإنّني أُعطيك الأمان..

إن كان سبب الخروج من مكّة الخوف من القتل، فلك الأمان.. وإنّما يكون الأمان حينما يكون الإقبال على الوالي نفسه!

إنّه لم يجعل الأمان مقابل المكث في مكّة.. لم يجعل الأمان مقابل عدم الخروج من مكّة والبقاء فيها.. لم يجعل الأمان بإزاء ترك الخروج بالمعنى المصطلح ولا الخروج مطلقاً..

لم يجعل الأمان مقايضةً وثمناً للتخلّي عن الوثوب على السلطة وعساكرها، ولا عن ترك محاربة الحكم والحكّام، ولا الامتناع عن التحريض والتجييش والدعوة للبيعة وتجميع الرجال وتحشيد المتذمّرين والمعارضين والمتضرّرين من الحكم الأُمويّ..

وإنّما جعل الأمان بإزاء أن يُقبِل على الوالي.. فقط.

الإقبال على الوالي بما يحمل من معنىً ويدلّ عليه من مغزى..

قال: أقبِلْ إليّ.. ولم يقل: ارجع إلى مكّة..

إنّه يريد للإمام (علیه السلام) أن يُقبِل عليه، ويدخل في طاعته، ويكون في كنفه

ص: 304

وله ومعه..

فهو قد افترض أنّ الإمام (علیه السلام) يخاف على نفسه من قبلهم القتل في مكّة، فآمنه ووعده أن لا يقتله في مكّة.. إن كنت خائفاً فأقبِلْ علَيّ..

* * * * *

أقبِلْ إليّ.. ولم يقل: ارجعْ إليّ..

لأنّه لم يفترض في الإمام (علیه السلام) أنّه كان قد انفصل من عنده ليرجع إليه.. وهو كذلك.

وافترض في نفسه وجهاً يُقبِل إليه الخائف ليأمن ويرجو.. لأنّه يستقبل.. ومَن توجّه إليه فهو مقبلٌ غير مدبر! إنّها الغطرسة والعجرفة والاستعلاء.

مَن هو هذا الضئيل المتهافت الخسيس الدنيء السافل، حتّى يقول لوجه الله ونوره وجلاله: (أقبل إليّ)؟!!

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

الوعد الثاني: الأمان بإزاء الإقبال إليه

ثمّ إنّه جعل الأمان مقابل الإقبال إليه هو بالذات والتوجّه نحوه.. وفي تعبير: أقبلْ إليّ _ الوارد في جميع النصوص الّتي روت الكتاب ((1)) _ لحنٌ

ص: 305


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

مكشوفٌ ينمّ عن قصد الكاتب بوضوح، سيّما إذا التفتنا إلى تأكيد وجود الأمان عنده هو بالذات أيضاً (فلك عندي الأمان).

ويكون الإقبال إلى الوالي ومجاورته منتجاً الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار.

فهو يدعو الإمام (علیه السلام) إليه، لا إلى البقاء في مكّة، ويعده بالأمان والبرّ والصلة منه ذاتيّاً، كما يشهد لذلك سياق جواب الإمام (علیه السلام) كما سنسمعه بعد قليل.

فإذا كان الأشدق يدعوه كوالٍ ليزيد، ويزيد لا يقبل إلّا بأحد خيارين لا ثالث لهما _ كما عرفنا ذلك في غير موضعٍ من هذه الدراسة بالخصوص في بحث ظروف خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة _، وهما إمّا المناولة وإمّا القتل، أو كما ورد في كلام إمام الخلق والبلاغة سيّد الشهداء (علیه السلام) : «قد ركز بين اثنتين: إمّا السلّة وإمّا الذلّة»، فماذا يريد الأشدق بالإقبال؟!

إن كان يريد المناولة وقبول الوالي وسائسه، فهي الذلّة الّتي قال عنها إمام الإباء ومعدنه (علیه السلام) : «هيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

ص: 306

وإن كان الخداع والاستبطاء بالحيلة والمكر، كي تقع السلّة على الطريقة الّتي يريدونها هم عبر الغدر والغيلة، فهذا ما أبى الإمام (علیه السلام) أن يسمح به، وقال مراراً: «لئن أُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ».

وإن كان وعداً بالأمان دون مقابل، أي: ليرجع الإمام (علیه السلام) إلى مكّة ويمكث فيها ولا يبايع وله الأمان.. فهذا ما يكذّبه الواقع ومجريات الأحداث وشهادات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وغيره من الأشخاص بما فيهم الأشدق نفسه، فقد كذّب نفسه بنفس الكتاب وسياقه وكلماته وتهديداته واعترافاته وإقداماته.

أضف إلى أنّ الأشدق أقلّ وأحقر وأضأل من أن يفعل شيئاً لا يريده سائسه القرد الهائج المسعور، فهو قد كتب وكتب، وهدّد وهدّد، وأرعد وأزبد، وأكّد أنّه يريد رأس الحسين (علیه السلام) على عجل، فكيف يعطيه الأشدق الأمان؟ وعلى أيّ شيءٍ يستند ويرتكن في كلامه؟ وكيف وأنّى لمن يستمع إليه أن يصدّقه ويطمئن إليه، ويقبل قوله ويعتمد عليه؟!

وقد مرّ معنا أنّ الأشدق نفسه كابن زيادٍ من العسلان ذوات الأكراش الجوفاء والأجربة السغبى، الّتي تتوثّب لتقطيع الأوصال المقدّسة بأنيابها، وهو من الكوانين المتوقّدة حقداً وضغينةً وغيضاً على بضعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبه وريحانته.

الوعد الثالث: الإقبال مع الرسول!

ورد في نصّ الطبريّ أن يُقبِل الإمام (علیه السلام) مع ابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى:

ص: 307

وقد بعثتُ إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معهما ((1)).

وفي متن الخوارزميّ:

ولقد بعثتُ إليك بأخي يحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معه ((2)).

إنّه قال لسيّد الكائنات أن يُقبِل إليه ليأمن، فلماذا يريد منه الآن أن يُقبِل مع مَن بعثه إليه؟!

أيكون قد طلب ذلك ليعرب عن جِدّه ويوثّق كلامه؟ فهو وإن كان يتظاهر بذلك، ويبدو في زيّه المزيّف المهلهل هذا، غير أنّه سيحقّق ما يرنو إليه ويصبو.

أيكون قد طلب ذلك ليعود الإمام (علیه السلام) إليه مع أخيه يحيى، فيكون قد أرجعه الوالي مخفوراً، أو على يد أحد أعوانه وجلاوزته ورئيس شرطته؟

فيكون قد أخذ الإمام (علیه السلام) أخذاً! يبدو أنّه كان يسعى إلى هذا، وهو ما أشار إليه الإمام (علیه السلام) في بعض بياناته.

وقد راود الوالي ابن الزبير وخادعه، فاقترح عليه أن يحضر له سلسلةً منذهبٍ يضعها في يده ليأخذه أسيراً على هذه الحالة إلى يزيد!

فأراد أن يستحضر الإمام (علیه السلام) بظاهرٍ فيه شيءٌ من الاحترام والتقدير

ص: 308


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

والتوقير، فيكون أخذه على يد كبيرٍ من كبراء بني أُميّة، وكأنّه قد خرج معه بعد مفاوضات، بَيد أنّه أمام الناس والسلطان والتاريخ هو الأسر بعينه.

الوعد الرابع: البرّ والصلة والإحسان

وعد الذئب المتوحّش والثعلب المسعور الماكر بالبرّ والصلة والإحسان..

إنّه الواجب الّذي فرضه الله وفرضه رسوله (صلی الله علیه و آله) وأمر به الخلائق طرّاً أجمعين أن يبرّوا أهل بيته ويصلونهم ويحسنوا إليهم ويحسنوا جوارهم، فهو ليس وعداً يعده هذا الوغد، ولكن انظر إلى الدنيا وتعاستها ومدى انقلاب دوران الفلك، حتّى صار هذا العلج المتهوّر يَعِد خامسَ أصحاب الكساء والإمام المفترض الطاعة بالبرّ والصلة!

أيعدُ بالبرّ والصلة معدنَ البرّ والرحمة الإلهيّة الواسعة، ومَن كان فعله الخير، وعادته الإحسان، وسجيّته الكرم، وشأنه الحقّ والصدق والرفق، وقوله حكمٌ وحتم، ورأيه علمٌ وحِلمٌ وحزم، إن ذُكر الخيرُ كان أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه، وله المودّة الواجبة؟!

أيخال هذا الجرذ المتنافخ المتهوّر المغامر المتهالك أنّه إن قدر على استحضار الإمام (علیه السلام) على يد أخيه يحيى، فإنّه سيوظّف ذلك ليقول ويقولالناس: إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما كان طالب دنيا، فلمّا ضمنها له السلطان حطّ رحاله على أعتابه؟!

فيصدق قول يزيد القرود فيما كتبه لابن عبّاسٍ ولأهل المدينة وأهل مكّة

ص: 309

وأهل الموسم، ليسِمَ الإمامَ (علیه السلام) بسمةٍ يأباها ويأبى الله له ذلك، فيدفع بالأذهان إلى تصديق وتسويغ ما يفعله يزيد من الإقدام على قتل أبي الشهداء (علیه السلام) وملاحقته، من خلال إقحام النزاع في دائرة الصراع على السلطة، أو إقناع الآخرين أنّ الإمام (علیه السلام) هو المهاجِم المقدِم على محاربة الأُمويّين، والعياذ بالله.

خسأ وخسر خسراناً مبيناً!

إنّ الخلق يحتاجون الإمام (علیه السلام) ، والإمام لا يحتاج أحداً إلّا الله، وبرّه وصلته والإحسان إليه تكليفٌ شرعيٌّ على كلّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخِر، والإمام (علیه السلام) لم يطالبهم يومذاك إلّا أن يخلّوا عنه ولا يلاحقونه، ولم يكلّفهم بأكثر من أن يتركوه ولا يكرهونه على البيعة، فلا يناول القرد المخمور، فيتاركهم إن هم تاركوه، ويدعهم على ما هم عليه وإن هو أمرهم بالمعروف أو نهاهم عن المنكر، فإنّما له بسيرة جدّه وأبيه وأُمّه وأخيه سنّة حسنة، لا يهاجِم ولا يحارب ولا يقاتلهم على الدنيا الّتي بأيديهم، ويكتفي بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما سنسمع في جواب الإمام (علیه السلام) .

بَيد أنّهم استنّوا بسنّة الجاهليّة، واتّبعوا ضلالات كبرائهم، فأبوا إلّا أنيجهدوا في إطفاء نور الله، وإخماد جذوة الهدى والقضاء على آل الله.

الوعد الخامس: حُسن الجوار

وعد الوغدُ الشرسُ جنبَ الله وجواره بحسن الجوار إن هو أقبل إليه!

ص: 310

ولقد كذب كما كذب غيره، لعنهم الله وزاد في النيران عذابهم، وعذّبهم عذاباً يستغيث منه أهل النار.

متى أحسنوا الجوار؟!

أوَليس كان أحدهم يأخذ قوسه، وينثر كنانته، وينبري للعرب إذا حطّ الجراد في فنائه، ويزعم أنّه يدفع عن الجراد لأنّه نزل بجواره، فإذا ارتفعت الشمس وحميت الأرض وطار الجراد عن جواره، فدونهم وما يريدون؟

فماذا دهاهم؟! لم يحفظوا جوار أشرف الخلق وسيّد الرسل وخاتم النبيّين (صلی الله علیه و آله) !

لم يحسنوا جواره، وحاربوه، وضيّقوا عليه، وأغروا به صبيانهم يرمونه بالحجارة، وأفرغوا على رأس الفخار والنجار والشرف والقدس والجلالة السلى، حتّى اضطرّوه للخروج من جوارهم، ومفارقة مسقط رأسه وبيت الله الحرام، والهجرة تحت جنح الليل البهيم إلى المدينة المنوّرة، ولهم معه أحلافٌ والتزامات!

هل حفظوا جوار ابنته وحبيبته وروحه الّتي بين جنبيه وريحانته وبضعته،يوم هجموا عليها دارها، وهتكوا حريم الله وحريم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتعدَّوا على حريمها، وانتقموا لفطائسهم، فارتكبوا ما ارتكبوا، وكسروا قلب النبيّ (صلی الله علیه و آله) بطعن جنبها، وكسر ضلعها، ولطم خدّها، واسقاط جنينها، وهي تهتف فيهم: أولم يقلْ أبي: يُحفَظ المرء في ولده؟ وتستصرخهم ولا من صريخ؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) يوم جمعوا الحطب على بابه، فحرّقوا بيتاً ضمّ

ص: 311

أصحاب الكساء وسادات أهل الدنيا وسادات أهل الجِنان؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار أمير المؤمنين (علیه السلام) وقائد الغرّ المحجّلين وعبد الله وأخي رسوله (صلی الله علیه و آله) ، يوم تكاثروا عليه، وأشهروا سيوف الغوغاء حوله، ودفعوه يتراكضون بين يديه ملبّباً بحمائل سيفّه؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم غدروا به وتخلّوا عنه، وهو يستنهضهم ويستصرخهم، ويتمنّى فراقهم، ويتمنّى أن يبادلهم مع عدّوه، ويصرفهم صرف الدرهم بالدينار، حتّى عدوا عليه فقتلوه بين أظهرهم؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار سبطه الأكبر وريحانته الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، يوم كان يخرج إلى الصلاة لابساً لامة حربه، يتّقي بها الاغتيال والسهام الغاربة في بيت الله، ويوم غدروا به ووعدوا ابن آكلة الأكباد أن يدفعوه إليه مقيّداً، حتّى قتلوه بين أظهرهم، ولم يدفعوا عن جنازته حين منعت سيّدتهموكبيرتهم أن يُطاف بجنازته حول قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وهل دفعوا عن نعشه حين رشقوه بسهامهم بعد أن كانت سيّدتهم أوّل مَن رمى؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم طلب العدوّ رأسه في مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ، فضيّعوه وخذلوه وأسلموه، فخرج عنهم إلى مكّة بيت الله الحرام، فتغافلوا عنه، وخذلوه وضيّعوه وأسلموه، ويوم نزل بفنائهم فعدَوا عليه فقتلوه قتلةً لم تكن ولا تكون فظاعةً وبشاعةً وقسوةً وجفاءً وخشونةً وعنفاً وغلاظةً وشناعة؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) يوم أسلموا أهله وعياله للسبي، يُطاف بهم في

ص: 312

البلدان على رؤوس الأشهاد، يساقون سوق الإماء على أعين مَن يسمّونهم المسلمين؟!

لو أردنا الاسترسال في ذلك لما انتهى الكلام، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى، وإلى محمّدٍ المصطفى، وإلى عليٍّ المرتضى، وإلى أئمة الهدى، وإلى المنتقم الآخذ بثأرهم صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) !

فأيّ جوارٍ يتحدّث عنه هؤلاء الغدَرة الفسقة الفجرة؟!!

ألم يغدر أبو سفيان؟

ألم يغدر معاوية بعد أن أعطى العهود والمواثيق وختمها بختمه، ثمّ جعلها تحت قدمه، ولم يفتر لحظةً في محاربة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) ، حتّى قتل مَن قتل منهم ومن أتباعهم وشيعتهم بعد أن أعطاهم من المواثيقوالأيمان المغلّظة ما لو أُعطيت لطائرٍ على رأس جبلٍ لهبط إليه؟!

أيمكن أن يركن أحدٌ إلى كلام هؤلاء المسوخ، ويعتمد عليه ويطمئنّ إليه، وهم يسعون وقتئذٍ للقضاء على الإمام (علیه السلام) في مكّة، ويسابقون اللحظات لتنفيذ ما يريدون؟!

المتابعة التاسعة: شهادة الكتاب على الكاتب

إستعرضنا مؤدّيات هذا الكتاب ومضامينه على عجل، وقرأنا فيما سبق كتاب الكريم المبجّل عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) .

فكان كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) الّذي أرسله بيد فلذتَي كبده عون ومحمّد

ص: 313

يفيض أدباً ورقّةً وعذوبةً وليناً وتواضعاً وحبّاً وشفقةً وتسليماً ومعرفةً بالإمام (علیه السلام) ومقامه ومنزلته وفرض طاعته، وكان كتاب الأشدق الممسوخ يطفح بالكبر والاستعلاء والتهديد والجهل والضلال والعتوّ وسوء الأدب والتسافل.

فمن قرأ الكتابَين سيميّز دون الحاجة إلى كثير تأمّلٍ بين الخطابين، ويعرف أنّ الكتاب الثاني لا يصدر عن مشكاةٍ طيّبةٍ طاهرةٍ ناشئةٍ في بيوت الرسالة والإمامة، متأدّبةٍ بأدب الله ورسوله والأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) .

المتابعة العاشرة: توظيف الأمان!

في الحسابات المعهودة وفق الموازين السائدة، إذا كان الإمام (علیه السلام) يتحرّكفي مشهدٍ خاصٍّ على مدارج الحركة المقصودة الهادفة إلى المواجهة تحت أيّ شعارٍ ولأيّ غرضٍ كان، بنيّة الهجوم على الحكم والحكّام ومحاربتهم والإعداد للقتال، لَكان هذا الكتاب فرصةً لا تعوّض، إذ يدخل الإمام (علیه السلام) في الأمان غير المشروط الّذي قدّمه الوالي، ليبقى في الحدّ الأدنى من الحماية من خلال التحصّن ببيت الله الحرام وانشغال الوالي بموسم الحجّ، والاحتجاج بوثيقة الأمان المكتوبة الّتي حملها أخو الوالي.

ثم ينتشر الإمام (علیه السلام) ومَن معه للعمل على توظيف الفرص، وتسلّق جبل عرفات والقيام على الجمرات وغيرها من المشاعر، ومخاطبة الحجيج في البيت الحرام، والجدّ في حشد القدرات الخطابيّة والإعلاميّة من أجل التحريض على السلطان الحاكم الغاشم المستبدّ الظالم، وتوعية الناس، وتجميع الرجال

ص: 314

وحشدهم ورصّ صفوفهم، وتأليب مَن يشهد ومن يسمع من الحاضر والغائب لإعداد العدّة والعدد اللازم، والدعوة إلى البيعة على رؤوس الأشهاد، وترك التعجّل ومسابقة الزمن من أجل الابتعاد عن أسوار مكّة وحريمها.

بَيد إنّ الإمام (علیه السلام) لم يفعل ذلك..

لأنّه يعلم _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ كأيّ متابعٍ عايش مجريات الأحداث وهو عارفٌ بسلوكيّات الأعداء وأخلاقيّاتهم الهابطة، وقد أيقن أنّهم لا يريدون سوى رأسه المقدّس، ولا يرتوون إلّا بدمه الزاكي، ولا تهدأ فورات ضغائنهم، ولا تسكن مراجل حقدهم وكراهيتهم وغيظهم وحنقهم، ولا تبردبراكين نيران الانتقام الكامنة في كيانهم، إلّا بتمزيق أوصاله والنظر إليه صريعاً، لتنام أعينهم وتقرّ بتقويض عماد الدين وهدم قباب الموحّدين، وإرساء قباب آل حرب مكانها.

لم يوظّف الإمام (علیه السلام) ما يمكن أن يسمّى (فرصة) بحسابات الخارجين (بالمعنى المصطلح) القاصدين للقتال والمحاربة، والمخطّطين للحرب والمواجهة لأيّ غرضٍ كان.

تماماً كما لم يوظّف (فرصة) استمهال الوالي في المدينة قبل خروجه بعد أن أمهله الوالي حتّى يدعوه مع الناس ليبايع على رؤوس الأشهاد وعلى أعين سائر المسلمين! وإنّما عجّل الخروج تحت جنح الليل البهيم إلى مكّة، دون أن يخطب في الناس، أو يحرّضهم، أو يدعوهم لرفض بيعة يزيد الخمور، أو البيعة لنفسه، فداه العالمين.

ص: 315

المتابعة الحادية عشرة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

يمكن متابعة كتاب الإمام (علیه السلام) من خلال الردود الواردة فيه على كتاب الوالي:

الردّ الأوّل: «إن كنتَ أردت برّي وصلتي»

التأمّل في نصّ المتقدّمين من قبيل ابن سعد ومقارنته بنصّ الطبريّ يشعرباختلاف الإيقاع، واختلاف الصياغة توحي باختلاف جرس الخطاب وحدّته، وإن كانت المضامين واحدة، غير أنّ التقديم والتأخير وغيرها تفعل فعلها في الإيحاء أحياناً.

ففي متن ابن سعدٍ مثلاً يبدأ الكتاب بنغمةٍ هادئةٍ وإيقاع فيه مداراة في حزم، من دون صِدامٍ مباشرٍ ولا توبيخ مهاجم، بخلاف نصّ الطبريّ.

ويبقى من الملاحَظ في جميع المتون الواردة أنّ في كلام الإمام (علیه السلام) ليناً بلا ضعف، ومداراةً بحزم، وقوّةً بأدب، ورعايةً للظواهر والتظاهر والادّعاء والمزاعم، ولم تكن لغته لغة المهاجم الّذي يريد أن يناجز الوالي ومَن ولّاه ويقاتلهم ويهجم عليهم.

الردّ الثاني: «إن كنتَ.. فجُزيتَ خيراً»

في جميع المصادر الّتي ذكرت الكتاب، ورد فيها أنّ الإمام (علیه السلام) ساق جملةً شرطيّة، ورتّب دعاءً على توفّر الشرط.

ص: 316

إن كنتَ أردتَ أو نويتَ بكتابك هذا إليّ برّي وصلتي..

إذا توفّر هذا الشرط، وهو أن ينوي للإمام (علیه السلام) ويريد له البرّ والصلة، وتحقّق منه ذلك، فحينئذٍ يأتي جواب الإمام (علیه السلام) : «فجُزيتَ خيراً في الدنيا والآخرة».

فدعاء الإمام (علیه السلام) أو إخباره مشروط، ولم يرسل الإمام (علیه السلام) دعاءه أو إخبارهإرسالاً مطلقاً، فهو قد بدر منه الكتاب، وزعم فيه أنّه يضمن للإمام (علیه السلام) البرّ والصلة، أمّا ما دعاه إلى هذا الكتاب والضمان فمبيَّت، وهو في دائرة النوايا الّتي لا يعلمها إلّا الله ومَن سلّطه الله على قلوب العباد، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) منهم، وقد عامله الإمام (علیه السلام) على النيّة، ولم يكترث بالظاهر المزعوم، فجعل الجزاء بالخير متوقّفاً على نيّة الخير إن توفّرت.

ربّما يُقال:

إن كانت نيّته حسنةً ومحرّكه إرادة البرّ والصلة حقّاً، لَأرسل الإمام (علیه السلام) الجزاء من دون تقييد، لأنّه يعلم بحُسن نيّته، إمّا بحكم تسليط الله له على قلوب العباد، أو بحكم السيرة الكاشفة عن السريرة، بَيد أنّ سيرة هذا العفريت المسعور تفضح سريرته النتنة العفنة الّتي لا تنطوي على خيرٍ لأحد، فضلاً عمّن تكدّس الغيظ والحنق والحقد والعداوة في كيانه الآسن عليه.

وربّما أيضاً يُستشعَر من بناء «جُزيتَ» للمجهول، وعدم جعل الجزاء عند الله وعلى الله، أنّ المقابل لا يأبه بذلك ولا يهمّه سوى الجزاء، أو أنّ الإسناد إلى الفاعل المجهول في الحديث مع هذا الطاغوت المتفرعن أبلغ من الإسناد

ص: 317

إلى الله (عزوجل) ، لما في الإسناد إلى الله من تشريفٍ وتعظيمٍ للمخاطب وللأجر.

وعلى العموم، إنّ الإمام (علیه السلام) معدن الخُلق، مع علمه بنوايا هذا اللئيم المتعفرت والطاغي المتجبّر، الّذي تشهد سيرته وسلوكياته عليها، بنا على ظاهرهوتعامل معه وفق ما تظاهر به وزعمه _ على نحو الجملة الشرطيّة _، ثم داراه وعامله بلينٍ ورفق، ولم يخاطبه بلغة المهاجِم، ولم يستعمل معه الأدبيّات والمفردات القويّة الصادّة ذات الإيقاع الحربيّ، ولا الشحنة العدائيّة.

فهو (علیه السلام) لم يخاطبه خطاب العدوّ الّذي يريد أن يقاتله ويهاجمه ويحاربه، ويحارب أربابه وساسته وحكّامه الذين سلّطوه وولّوه، وإنّما خاطبه خطاب مَن يريد أن يتّقي شرّه، ويردّ عاديته، ويفهمه إن هو أراد خيراً للإمام (علیه السلام) ، فإنّ الإمام يعرف له ذلك ويجزّيه خيراً في الدارين.

الردّ الثالث: «لم يشاقِقْ مَن دعا إلى الله..»
اشارة

يمكن أن نتأمّل ردّ الإمام (علیه السلام) هنا من خلال الإيضاحات التالية:

الإيضاح الأوّل: الهدوء والحِلم

حذّر الوالي المولع بدماء آل أبي طالب والشماتة بهم الإمامَ (علیه السلام) من مغبّة الشقاق _ نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر لحبيب الله وحبيب رسوله وحبيب المؤمنين _، وهدّده من عواقب ارتكاب مثل هذا الفعل واتّخاذ مثل هذا الموقف، وإن كان سياق عبارته مصبوباً في قالب الدعاء، فجاءت هذه الفقرة من كتاب الإمام (علیه السلام) ردّاً على هذه الفرية القذرة المتهافتة التافهة.

ص: 318

بالرغم من صلافة التهمة، ووقاحة قاذفها، وبالرغم من كذب الفرية وقائلها، وبالرغم من خطورة ما يترتّب عليها من آثار جسيمة، إذ أنّ من يشاقق يُباح دمهويهتك حريمه في عُرف السلطات، فإنّ الإمام (علیه السلام) أجابه بلغةٍ هادئةٍ رزينةٍ رصينة، وحجّةٍ بالغةٍ متينة، لا تسبّب عند المتلقّي حالةً من الشدّ والتشنّج والشعور بالغضب والغليان والهدير والهياج والاضطراب والجيشان، وإنّما تنساب الحجّة إليه بأناةٍ وتؤدّةٍ وحلمٍ ودماثةٍ ورجاحة.

الإيضاح الثاني: عموم الردّ وضمير الغائب

لقد كرّر الجرذ المتنافخ ضمير المتكلّم (إنّي) في كتابه، وتكلّم الإمام (علیه السلام) في هذا الردّ بضمير الغائب، ولم ينفِ ما اتّهمه به الخؤون عن نفسه بضمير المتكلّم، فقال: «إنّه لم يشاقق من دعا ...».

فالإمام (علیه السلام) كأنّه لم يتعامل مع هراء الوالي ككلامٍ موجّهٍ له ليدافع عن نفسه، وإنّما ردّ عليه ردّاً عامّاً يشمل أيّ إنسان، فأيّ إنسانٍ دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنّني من المسلمين، هو خارجٌ عن دائرة اتّهام هذا الوغد.

الإيضاح الثالث: أجواء الآية!

الآية الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) في مقام الردّ على هذا العتلّ العاتي ترتبط في النظم بما يسبقها ويلحقها، بل في الجوّ العامّ الّذي يظلّل السورة الشريفة، بَيد أنّها تكاد لا تنفكّ ولا تنفصل عن الآيات اللاحقة، وكأنّها تحمل نفس السِّمة، وتنتظم في نفس السياق، وتكتسي نفس الحلّة والأدب، وتحكي نفس التعاليم

ص: 319

والنتائج، وتصف السلوك المفترض مع العتاة والطغاة والمعاندين.

قال (تعالى):﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّني مِنَ الْمُسْلِمينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلّا الَّذينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ﴾ ((1)).

الاسترسال مع الآيات الشريفة قد يقدح في القلب أنّ الإمام (علیه السلام) يدفع سيئة الأعداء بالحسنة، ويقابل هجومهم بالاحتراز والترفّع عنهم، ويريد لهم أن يفهموا أنّهم هم الّذين أبدَوا عداوتهم، وأصحروا بصفحتهم، وتعمّدوا أذاه والاعتداء عليه، وهو يعاملهم معاملة جدّه (صلی الله علیه و آله) مع آبائهم وأجدادهم مِن عُتاة العرب الّذين آذوه واعتدوا عليه وعزموا على قتله واغتياله بشتّى الوسائل وصنوف الطرائق والذرائع، فقابل عداوتهم بالأدب الربّانيّ، فكأنّ الّذي بينه وبينه عداوةٌ وليّ حميم، فصبر عليهم كما صبر جدّه وأبوه عليهم، وقد جعلهم الله أئمّةً يهدون بأمره لمّا صبروا، وهذه الخلق لا يُلقّاها إلّا الذين صبروا، وهم الصابرون.

* * * * *

نكتفي بهذه الإشارة والتذكير بتلاوة الآيات المباركات، وللمتلقّي أن يتابع

ص: 320


1- سورة فُصّلَت: 33 _ 35.

وينتزع، وإنّما اكتفينا بهذا القدر رغم أنّه منقوصٌ أبترٌ مقطوعٌ غير تامّ، لئلّايُقال أنّ الآيات اللاحقة لم ترد في كلام الإمام (علیه السلام) ، فلا مسوّغ للاسترسال معها، وللمتلقّي أن ينفتح عليها ويسترسل معها إذا اقتنع أنّ الناس كانوا يحفظون القرآن، أو أنّهم يأنسون به، فإذا ذكرت عندهم آيةً استحضروا ما سبقها وما لحقها.

بل إنّ مثل هذا الوغد المتلوّن المذر يعلم جيّداً أنّ الإمام (علیه السلام) إذا تحدّث فكلامه غير كلام غيره من الناس.

الإيضاح الرابع: مؤدّى الآية
اشارة

وردت في روايات أهل البيت (علیهم السلام) أحاديث في تفسير هذه الآية، وأنّها نزلت في أمير المؤمنين وأهل البيت (علیهم السلام) .

ووردت في كتب الفريق الآخر أخبارٌ زعمت أنّ هذه الآية نزلت في المؤذّنين ((1))، وجاء الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) في ردّ زعمهم ((2)).

وللآية دلالاتٌ تفسيريّة، يفهمها مَن يقرأها ممّن يجيد اللغة العربيّة.

وسنتابع دلالات الآية على عجَلٍ لا يؤخّرنا عن اللحاق بأصل البحث _ إن شاء الله (تعالى) _ ضمن ما ورد عند الفريق الآخر، وما يمكن الاستفادة منها

ص: 321


1- أُنظر: المصنّف لابن أبي شيبة: 1 / 255 الباب 36، الاستذكار لابن عبد البرّ: 1 / 376، التمهيد لابن عبد البرّ: 19 / 226، كنز العمّال للهنديّ: 3 / 338.
2- أُنظر: تفسير العيّاشيّ: 1 / 212 ح 179.

على أساس الفهم العام، أمّا ما ورد في أحاديثنا الشريفة فإنّه خاصٌّ بنا حرم الله منه الأعداء.

الدلالة الأُولى: دلالة أخبار القوم!

إذا كان الأشدق يفهم الآية ضمن إطار ما رُوي له عن طرقهم، فسيفهم من قوله (علیه السلام) : «من دعا إلى الله»، أي: أنّه في حكم المؤذّن الّذي يؤذّن للصلاة، فهو لا يدعو لأكثر من إقامة الصلاة والتوجّه إليه بالعبادة والخضوع والخشوع، وليس له دعوةٌ أُخرى يمكن أن تثير أحداً من المسلمين، لأنّه يدعو لتوحيد صفوفهم ورصّها للوقوف بين يدَي الله (جلّت قدرته)، وقد عمل صالحاً وأقرّ أمام الملأ أنّه من المسلمين.

فلماذا يُتّهم مثل هذا الشخص _ وفق موازين الأعداء وأخبارهم _ بالشقاق، ويُرمى بهذه الفرية، ويحكم عليه بالقتل، ويُلاحَق حتّى لا تكون مكة آمنة له؟!

الدلالة الثانية: الفهم العام

في الآية ثلاث فقرات:

الأُولى: دعا إلى الله.

الثانية: عمل صالحاً.

الثالثة: قال: إنّني من المسلمين.

وهذه الأفعال الثلاثة تصدر من فردٍ واحدٍ معاً، لأنّها معطوفةٌ على بعضها

ص: 322

بالواو، أي: دعا إلى الله، وهو يعمل صالحاً، ويقول أيضاً أنّه من المسلمين.

والدعوة إلى الله هي بقوّة قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «قولوا: لا إله إلّا الله، تفلحوا»، والدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، دون فضاضةٍ ولا قوّةٍ ولا إكراه..

الدعوة إلى الله بطيب الكلام وحُسن المعاملة والخلق الحسن..

الدعوة إلى الله بالدعوة للاعتصام بحبل الله جميعاً، وإطاعة الله والرسول (صلی الله علیه و آله) ، وعدم التفرّق، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم، وأن يصبروا ويصابروا.

فأين هذا من الشقاق؟!

وهل يستحقّ مَن دعا إلى الله أن يُقتَل ويُلاحَق حتّى لا تكون له مكّة الآمنة في الجاهليّة والإسلام أمناً؟!

إنّهم هجموا على جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه ويغتالوه كلّما سنحَت لهم الفرصة، حتّى اضطرّوه للهجرة إلى المدينة المنوّرة، ثمّ لم يتركوه هناك، فحاربوه وعادوه لمجرّد أنّه قال لهم: «قولوا: لا إله إلّا الله، تفلحوا»!

والعمل الصالح.. اسمه يُخبِر عنه..

إنّه العمل الصالح الّذي لا ينسجم بحالٍ مع الشقاق، ولا يستحقّ صاحبه هذه الفرية والملاحقة والتربّص به لقتله.

ربّما صدر العمل الصالح من أيّ إنسان، مؤمناً كان أو كافراً، غير أنّ الآية تؤكّد أنّ العمل الصالح صدر هنا ممّن يدعو إلى الله وهو من المسلمين.

ص: 323

ومن أقرّ بالإسلام وأعلن إقراره ذلك، وأثبت إسلامه وتسليمه لأمر الله بالدعوة إليه وبالعمل الصالح، فليس هو من الشقاق في شيء.

وهل يستحقّ المسلم أن يُقتَل ويُلاحَق ويُحارَب ويُعادى حتّى لا يُمسي ويُصبح آمناً في الزمن الحرام في بيت الله الحرام، ويُهدَر دمه ويُطلب رأسه؟!

الإيضاح الخامس: الآية مقابل التهمة

لقد تجبّر الأشدق وأساء الأدب وتجرّأ، فهدّد الإمام (علیه السلام) بإلصاق تهمة الشقاق به، وهي تهمةٌ ستُنتج الحكمَ عليه بالقتل أينما كان وحيثما كان، ولو كان في البيت الحرام وفي الزمن الحرام، صيانةً للجماعة وحمايةً لمجتمع المسلمين من الفرقة والهلكة، وانفراط النظام، وعموم الهرج والمرج، وفقدان الأمن والأمان، وانهدام أركان الاستقرار الاجتماعيّ، وعموم الفوضى، وغيرها من الذرائع الّتي تذرّع بها المبطلون المزيّفون، وجعلوها كلمة حقٍّ تُسخّر لقتل الحقّ وتحكيم الباطل.

فجاء ردّ الإمام (علیه السلام) بتقديم نفي الشقاق المزعوم، ثمّ ذكر الآية لبيان أنّ المسلم الّذي يقرّ بالتوحيد والدعوة إلى الله ويعمل صالحاً لا يمكن أن تُلصَق به تهمة الشقاق، إذ أنّ هذا هو السلوك الّذي ينبغي لكلّ مسلمٍ أن يكون عليه اعتقاداً وعملاً.

فكأنّ الإمام (علیه السلام) يريد أن يُفهِم هذا العتلَّ العاتي أنّ المسلم الملتزم بالإسلاموديع سمته اللازمة له: الدعوة إلى الله، وأن يعمل صالحاً، والإقرار بالإسلام، فإذا كانت هذه هي سمة كلّ مَن يُسمّى مسلماً، فلا يصحّ أن يكون مثل هذا

ص: 324

مشاقّاً، ولا يصحّ إلصاق هذه التهمة به.

فهو (علیه السلام) ليس في مقام بيان برنامج عملٍ وخطّةٍ مستقبليّة، وإنّما هو في مقام دحض الفرية المزعومة، في صياغةٍ عامّة تشمل المسلمين جميعاً، فكأنّه يلقي إلى الوالي أنّي كأيّ مسلمٍ لم أُقدِم على شيءٍ يقتضي ملاحقتي وقتلي وإهدار دمي في بيت الله الحرام.

الردّ الرابع: ردّ الأمان
اشارة

يمكن أن يفاد من هذا الردّ عدّة إفادات:

الإفادة الأُولى: الإمام (علیه السلام) هو الأمان!

أيُقبِل وجهُ الله على عدوّ الله البائس الضئيل الحقير السافل الغادر المخاتل الماكر المحتال، يبتغي عنده الأمان؟!

أيبتغي مَن جعله الله أماناً للكون والكائنات ولأهل الأرض وأهل السماوات الأمانَ عند المفسدين الّذين أبادوا العباد وأخربوا البلاد وأهلكوا الحرث والنسل؟!

واللهِ إنّه لمن هوان الدنيا على الله أن يتجرّأ هذا القزم العِضرط اللئيم الخسيس، فيعرض الأمان على الإمام الحسين (علیه السلام) ، بغضّ النظر عن إمامته وماجعله الله له..

الإمام الحسين (علیه السلام) سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابنه، وولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (علیهما السلام) ، سليل إبراهيم الخليل والأطائب الأبرار من الأنبياء

ص: 325

والمرسلين (علیهم السلام) ، والمتقلّب في أصلاب الساجدين، يتقدّم إليه ابن الزواني والفواحش الرخيصات، وسليل البغاء والمومسات، المقذوف نطفةً قذرةً مخمّرةً في دِنان الشرك في كنيف أرحام العاهرات، فيقول له: أقبل! ويعطيه الأمان إن هو أقبل بالشروط الّتي وضعها من ترك الشقاق وغيرها.

أيّ أمانٍ يعطيه مَن لا أمان له من الله؟!

قال سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل حملته الأخيرة في رجزه:

«ونحن أمان الله للخلق كلّهم

نسرّ بهذا في

الأنام ونجهرُ»

((1))

سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) هو الأمان في الدنيا والآخرة، فمن يعطيه الأمان؟!يبدو أنّ الاسترسال في التعليق على مخازي هذا العتلّ اللئيم الفظّ الغليظ لا تقوى عليه الغَيرة، ولا يطيقه الذوق والإباء والأنفة والترفّع والحميّة والعزّة والنخوة البشريّة السويّة، ولولا ضرورة البحث لما مكثنا معه هنيئة، ولكن إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 326


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 80 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسينيّ، الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 32، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 371، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 316، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 48، العوالم للبحرانيّ: 17 / 291.
الإفادة الثانية: الأمان في الحرم!

كانت مكّة حرماً آمناً في الجاهليّة والإسلام، وكانت الأشهر الحرُم حراماً في الجاهليّة والإسلام.

لقد ضيّقوا على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، حتّى لم تعد الأرض الحرام ولم يعد الزمن الحرام حامياً لحرمته! ثمّ يأتي عتُلٌّ زنيمٌ لئيمٌ خؤون، فيزعم أنّه يعطي الأمان لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فمن ذا يصدّق هذا الأمان؟

إذا كانت مكّة الآمنة لم تؤمّنه، وكانت الأشهر الحرم الّتي حرّموا فيها القتل والقتال لم تؤمّنه، أيكون كلام علجٍ أرعنٍ أهوجٍ طائشٍ مؤمّناً؟!

الإفادة الثالثة: أمان الخؤون!

لا نحسب أنّ ثمّة ضرورةٌ تدعو للتدليل والإثبات وذكر النماذج والعيّنات لإثبات غدر الأُمويّين وخيانتهم واحتيالهم ومكرهم وهتكهم للحرمات، وتحلّلهم من جميع القيَم، وتنصّلهم من الذمم، فليس لهم ذمّةٌ ولا ضميرٌ ولا حريجة، ولا يقيمون لسوى أوثانهم وشهواتهم وزناً..

ولنا في سيرة جدّهم أبي سفيان وابنه عجوزهم المتهرّئ ونغله يزيد الّتيطمّت التاريخ بزنخها وعفنها ونتنها حتّى لَيخجل الخائن الغدّار من النظر فيها، فضلاً عن الإنسان السويّ.

وقد رأينا هذا الأشدق الّذي ضربه الله بكوكب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وهو مع ذلك لا زال يسعى في القضاء على نسله وذريّته، ويتولّع بالدماء الزاكية، ويشمت بسيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وقد سمعنا بعض مفاسده وخياناته وحقده

ص: 327

وحنقه على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وكلّ ما يمتّ إليه بصلة..

أيكون لمثل هذا الخؤون الغادر المخادع الناكث أماناً يرتكن إليه؟!

الإفادة الرابعة: الأمان والاغتيال!

سمعنا الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) في مواطن عديدة وأمام أشخاصٍ مختلفين يؤكّد لهم بشكلٍ جازمٍ باتٍّ قطعيّ _ وهو أصدق القائلين والمخبرين _ أنّ القوم قد باشروا في تنفيذ خطّتهم لاغتياله في الحرم الآمن، ومَن يقدم على هذه الجريمة في الحرم يقدم عليها خارجه.

والآن يزعم الوالي الحقود أنّه يعطي الأمان للإمام (علیه السلام) ، وهو يعمل بكلّ ما أُوتي من قوّةٍ ويحشد كلّ ما يمكن حشده، ويسهر الليل ويجهد في النهار لينفذ أوامر سائسه القرد المخمور المسعور، مضافاً إلى ما يعتلج في كوامنه من السَورة والنطّ والتوثّب على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ليتشفّى ويشتفي من لهيب الأحقاد والضغائن على معدن الطهر والجلال والجمال الإلهيّ.

أنصدّق قوله الباهت البارد الخافت الواهن ورأيه المأفون ووعده الوارد فيكتابه، أم فعله وجهده وخططه الّتي أدخلها في حيّز التنفيذ؟

إنّنا نصدّق بما أخبر به أصدق الخلق الّذي لا ينطق عن الهوى، ثمّ لا نكترث بغيره ولا نقيم له وزناً.

الإفادة الخامسة: «خير الأمان أمان الله»
اشارة

خير الأمان أمان الله..

ص: 328

كذا في المصادر، لم يقل: أمان الله خير، لتقع المفاضلة بين أمانهم وأمان الله، وإنّما حصر الخيريّة في أمان الله، من دون الإشارة إلى أمان الوالي، إذ أنّ أمان الله خيرٌ من كلّ أمانٍ على الإطلاق.

أمان الله في الدنيا والآخرة.. والإمام (علیه السلام) هو أمان الله، وهو سفينة نوحٍ الّتي من ركبها أمن ونجا، وما عسى الوالي أن يعطيه من أمان! وقد تعرّضنا قبل قليلٍ لذلك، فلا نعيد.

غير أنّ هذه العبارة الّتي تحمل الكثير من المعاني والإيحاءات، تفيد بصراحةٍ ردّ الإمام (علیه السلام) للأمان المعروض عليه، ويمكن أن نقتصر هنا على بعض الوجوه في محاولة فهمها:

الوجه الأوّل: لا إيمان ولا أيمان لهم، فأمان الله خير!

لا يخفى أنّ سوابق القوم وسلوكيّاتهم ومجريات الأحداث وأخلاقيّات العدوّ تفيد بوضوح ما هو المقصود بالأمان المعروض هنا، أو الأمان الّذي عُرض فيما بعد على أبي الفضل العبّاس وإخوته والمولى الأمير عليّ الأكبروغيره من أنصار سيّد الشهداء (علیهم السلام) ، وقد ردّ الجميع ما عرض عليهم، وقالوا: أمان الله خير ((1))، وكذا ردّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) أمان ابن مرجانة الّذي قدّمه له ابن الأشعث، وقال: لا حاجة لي بأمان الفجَرة ((2)).

ص: 329


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 415، الفتوح لابن أعثم: 5 / 166، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 246، الكامل لابن الأثير: 3 / 284.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 208، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 93، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 354، العوالم للبحرانيّ: 17 / 203، نفَس المهموم للقمّي: 111.

رُدّ الأمان لأنّهم فجَرة، لأنّهم غدَرة، لأنّهم يمكرون، ولا يريدون الأمان إلّا وسيلةً للتوصّل إلى دسائسهم وتحكيماً لخطّة غدرهم، فإمّا أن يوثقوا آل الله الّذين لا تخفر ذممهم، وإمّا أن يتحيّنوا الفرصة للقضاء عليهم، أو ليدخلوا في سلطانهم ويخضعوا لولايتهم كما يخالون ويتوهّمون.

إنّهم لا يعطون الأمان، وإنّما يسعون في تنفيذ خططهم بذريعة الأمان، إذ أنّهم لا ذمّة لهم، ولا يرتكن إلى وعدهم، وقد أثبت الزمن ذلك، فلا حاجة للاستدلال والبرهنة عليه، وفيما فعله ابن آكلة الأكباد بقرّة عين فاطمة الزهراء السبط الأكبر الحسن المجتبى (علیه السلام) كفاية.

إنّهم لا إيمان ولا أيمان لهم، فأمان الله خير!

ومَن دخل في أمان الله لا يحتاج إلى أمان غيره من المخلوقات، فضلاً عنمثل هؤلاء القاذورات.

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يعلم _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ وفق ما جرت به الأحداث وكشفه سلوك الأعداء أنّهم قاتلوه أينما أمكنت منه الفرصة وعلى كلّ حال، سواءً قَبِلَ أمانهم أو لم يقبل، وهو لا يعطي بيده ولا يمكّن من نفسه.

ص: 330

الوجه الثاني: لم يحترموا أمان الله، فلا حرمة لأمانهم

ربّما كان معنى أمان الله خير:

إنّ الله قد أمّن مَن دخل بيته الحرام، ولم يأمّنه القوم فيه.

إنّ الله قد أمّن مَن دخل في الشهر الحرام، ولم يأمّنه القوم فيه.

إنّ الله قد أمّن مَن شهد الشهادتين وقال: إنّني من المسلمين، ولم يأمّنه القوم.

إنّ الله أمر العباد بالمودّة لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأوجب حبّهم، وفرض على الناس احترامهم، وجعلهم ودائع في خلقه، فلم يحفظوا الوديعة، بل عادوهم وحاربوهم وطاردوهم ومزّقوهم وشتّتوهم وقتلوهم.

فبالرغم من أنّ أمان الله خيرٌ من أمان أيّ أحد، بَيد أنّهم لم يحترموه ولم يلتزموا به، ولم يقدّروا الله وحدوده حقّ قدره، فكيف يُقبَل منهم أمانهم؟!

فلا حرمة لأمان مَن لا يحترم أمان الله.

الوجه الثالث: مَن كان في أمان الله لا يحتاج أمان غيره

ربّما كان المعنى: أنّ أمان الله خيرٌ وقد حزتُه ونلتُه وتوثّقتُ منه أنا، لأنّي أطعتُه ودعوت إلى الله وعبدته وعملت صالحاً وأعلنتُ على رؤوس الأشهاد أنّني من المسلمين، ودخلت بيته الحرام الآمن في الشهر الحرام الآمن، ومَن دخل في أمان الله المهيمن المقتدر الّذي لا تضيع ودائعه، فهو لا يحتاج أمان غيره.

أمّا أنت _ أيّها الوالي المتفرعن _ فلا أمان لك من الله، فكيف يقبل من

ص: 331

آمنه الله، بل جعله أماناً للعالمين الأمان ممّن لا أمان له من الله؟!

الإفادة السادسة: أمان الله لمن خافه في الدنيا
اشارة

يمكن أن نتابع هذا المقطع من خلال التقريرات التالية:

التقرير الأوّل: مَن لم يؤمن بالله لن يؤمن الله

بعد أن قرّر الإمام (علیه السلام) للوالي العسوف أنّ خير الأمان أمان الله، قال:

«ولم يؤمن بالله مَن لم يخفْه في الدنيا»، في لفظ ابن سعد.

و«لن يؤمن الله يوم القيامة مَن لم يخفه في الدنيا»، في لفظ الطبريّ والخوارزميّ.

مَن لم يؤمن بالله لا شكّ أنّ الله لن يؤمنه يوم القيامة، وقد ربط الله الخوف منه في الدنيا بأمانه يوم القيامة.

التقرير الثاني: التهديد

ربّما يبدو واضحاً لمن قرأ كتاب الإمام (علیه السلام) بدقّةٍ أنّ الإمام (علیه السلام) عرّض بالوالي المتعسّف الغشوم في كلّ ما كتبه له، وقد انجلى في هذا المقطع من الكتاب مقابلة الإمام (علیه السلام) تهديد الوالي بتهديدٍ له وقعٌ مدمّر وأزيز مزمجر ودويّ صاعق مذهل، فإن كان الوالي المستبدّ يتوعّد ويهدّد بعقاب المشاق، وهو تهديدٌ باردٌ سامدٌ هامدٌ مهلهلٌ تافه، لأنّه لا يتعدّى حدود الدنيا الزائلة وقدرة السلطان البائدة، فإنّ الإمام (علیه السلام) هدّد بجبّار السماوات والأرض وبيوم القيامة المهول ومخاوفه القارعة الدائمة الهائلة.

ص: 332

وإن كان الوالي المتفرعن الجاهل الغبيّ يهدّد بالاتّهام بالشقاق وغيره، فإنّ الإمام (علیه السلام) كشف له عن حقيقته الّتي يحاول أن يزيّفها ويخفيها تحت ستار النفاق الرثّ الخَلِق المهترّئ، فمن تجبّر وتفرعن وطغى وبغى على الله وحارب أولياءه وعدا على حبيب الله وريحانة رسوله (صلی الله علیه و آله) يلاحقه ليقتله ويشرّده ويشرّد أهل بيت نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فهو لم يؤمن بالله، لأنّه لم يخفه في الدنيا، وهو لن يؤمنه الله يوم القيامة، لأنّه لم يخف الله في الدنيا.

التقرير الثالث: خوف الله في الدنيا وأمانه في الآخرة

الدنيا قنطرة، ومنزلٌ سرعان ما يرتحل منه الإنسان إلى دار الحَيَوان، وهي دهليزٌ قصيرٌ من دار الغرور والبلاء إلى دار الجزاء والبقاء، فإن كان الوالي ومَن ولّاه أخافوا آل الله في الدنيا وأزعجوهم وأرعبوهم وزعزعوهم، فإنّ الله قهرعباده بالموت والفناء، فإنّه إن لم يخف الله ولم يرعَ حقّه وحدّه، وتبجّح وتفاخر وفخفخ واختال بصلفٍ وزهوٍ وغرورٍ أنّه يمنح الأمان لوليّ أولياء الله، فسرعان ما سيأتي اليوم الّذي لن يؤمنه الله، ويفعل به ما هو أهله من الجبروت والعظمة بما أعدّه لأعدائه وأعداء أوليائه.

وكأنّ السيّدة الصدّيقة زينب الكبرى (علیها السلام) قد أفرغت عن لسان أخيها سيّد الشهداء (علیه السلام) حين قالت ليزيد:

«صدق الله (سبحانه) كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا

ص: 333

السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون﴾ ((1)).

أظننتَ يا يزيد حين أخذتَ علينا أقطار الأرض، وضيّقتَ علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في إسار، نُساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من الله هواناً، وعليك منه كرامةً وامتناناً، وأنّ ذلك لِعِظَم خطرك وجلالة قدرك؟ فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عِطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة، والأُمورَ لديك متّسقة، وحين صفى لك مُلكنا، وخلُصَ لك سلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطِشْ جهلاً، أنسيتَ قول الله (عزوجل) : ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌلِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ((2))» ((3)).

فكِلا الكلامَين في معنىً واحد، ويؤدّي نفس المؤدّى، وكأنّ الصديقة (علیها السلام) تشرح كلام أخيها (علیه السلام) .

ولمّا كان الإمام (علیه السلام) قد خاف الله في الدنيا لا شكّ، وعدوّه لم يخف الله، فهو مسلوب الأمان في الآخرة، فليتّخذ لنفسه جُنّةً ليوم التغابن، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

ص: 334


1- سورة الروم: 10.
2- سورة آل عمران: 178.
3- أُنظر: الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 34، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 157، بلاغات النساء لابن طيفور: 31، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 63.
التقرير الرابع: الخوف لله في الدنيا

قد يكون الخوف المذكور في كلام الإمام (علیه السلام) المقصود به مَن يخاف لله في الدنيا (خوف الله)، أي (الخوف لله)، فكأنّه يقول للوالي: إنّ مَن لم يخف لله في الدنيا لا يأمن يوم القيامة، ومَن خاف من أجل الله في الدنيا، فهو آمنٌ يوم القيامة، فإن كنتم أخفتموني ولاحقتموني وطلبتموني للقتل فهو خوفٌ لله، يورث الأمن في القيامة، وهذا ما يفتقر إليه الأعداء في شقَّيه الدنيويّ والأُخرويّ.

هذا الكلام جميل، لو ساعد عليه النصّ وأفاده السياق وأعانت عليهالدلالات اللغويّة..

الإفادة السابعة: دعاء الإمام (علیه السلام)

أدب الإمام (علیه السلام) ورفيع أخلاقه ومداراته وصياغته الكتاب في ألفاظٍ وعباراتٍ هادئةٍ رزينةٍ تفيض موعظةً وأناةً وأمناً وأماناً وحِلماً، إذ أنّه يختم الكتاب بدعاءٍ يسوقه بصيغة الجمع:

«فنسأل الله ... توجب لنا ...» ((1)).

ص: 335


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.

وفي لفظ الخوارزميّ:

«ونحن نسأله لك ولنا ...» ((1)).

بل يُلاحَظ أنّه يقدّمه في نصّ الخوارزمي: «لك ولنا»..

عجبٌ والله حِلم أبي عبد الله (علیه السلام) وأخلاقه، وهو المتخلّق بأخلاق الله.

وربّما يُصاب المتلقّي بذهولٍ ودوّارٍ وحيرةٍ حين يرى مَن يحاول تصوير الإمام (علیه السلام) في موقف المهاجِم المعلِن بالخروج _ بالمعنى المصطلح _ علىالسلطان، والمعدّ للحرب والقتال والمواجهة، أوَ تكون لغة المهاجم المعدّ للحرب والانقضاض على السلطة والسلطان بمثل هذه اللغة؟!

الإفادة الثامنة: والسلام!

ختم الإمام (علیه السلام) كتابه إلى الوالي المتجبّر الطاغي بقوله: «والسلام».

قد يكون هو الأدب المعهود في كتابة الرسائل يومذاك.

وقد يكون ردّاً للسلام الوارد في ذيل كتاب الأشدق.

وقد يكون بمعنى الوداع، فيكون بنفسه جواباً وردّاً للأمان، وإيذاناً بالخروج من مكّة.

وقد يكون له سببٌ آخَر لا نعلمه نحن.

بَيد أنّه على كلّ تقديرٍ يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يتجنّب السلام في اختتام كلامه، وربّما أفاد ذلك جوّ الهدوء الّذي يغلّف الكتاب.

ص: 336


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

وربّما كان بمعنى التذكير والتحذير لقوله (تعالى): ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياة﴾ ((1))..

فعلى مَ يُلاحَق الإمام (علیه السلام) ويُطلَب رأسه بذريعةٍ أو بغير ذريعة؟!

لِمَ يُعطى الأمان للإمام (علیه السلام) وهو لم يفعل شيئاً يقتضي الأمان؟!

فالإمام لم يخطب خطاباً في مكّة يحرّض فيه على السلطة والسلطان، ولميذكر الوالي الأشدق، ولم يهاجم بكلمةٍ أو اجتماعٍ عامٍّ أو خطاب سائسه القرد المتسلّط على تخت العاصمة في دمشق، ولم يُعلِن على رؤوس الأشهاد في البيت الحرام أو في غيره من المواقف والمناسك والمشاعر عن عزمٍ لمواجهتهم أو الخروج عليهم _ بالمعنى المصطلح _، ولم يجيّش عليهم أحداً، ولم يسجَّل عليه أيُّ موقفٍ أو مشهدٍ في مكّة يفيد ما يهدّد كيانهم ويدعوهم للخوف على ما في أيديهم من الدنيا، أو يهدّد أمصارهم وبلدانهم بالاستيلاء عليها، وما شاكل!

وربّما أمكن اختصار ما ورد في كتاب الإمام (علیه السلام) بكلمة:

كأنّه (علیه السلام) يقول للوالي: اكفِني شرّك، وكُفَّ عنّي ذئابك ووحوشك، لا أتوقّع منك خيراً ولا أُريده.

ص: 337


1- سورة النساء: 94.

ص: 338

محتويات الكتاب

بين يزيد وعبد الله بن عبّاس بعد شهادة الإمام (علیه السلام) ................... 5

كتاب يزيد إلى ابن عبّاس وجواب ابن عبّاس........................... 9

القسم الأوّل: كتاب يزيد....................................................... 27

الكشف الأوّل: متابعة العيون............................................................... 27

الكشف الثاني: بيعة ابن عبّاس!............................................................ 28

الشاهد الأوّل: مقدّمة المؤرّخ قبل نقل الكتاب........................................................................ 29

الشاهد الثاني: النصّ التاريخيّ................................................................................................ 29

الشاهد الثالث: الاعتصام ببيعة يزيد........................................................................................ 37

الشاهد الرابع: تصريح ابن عبّاسٍ بالبيعة ليزيد!........................................................................ 38

الكشف الثالث: اعتراف يزيد بتأثير ابن عبّاسٍ في الناس.................... 39

الكشف الرابع: يزيد مِن أهل البيت!!!................................................ 41

القسم الثاني: ردّ ابن عبّاس.................................................... 45

المضمون الأوّل: تعليق بعض الأجوبة................................................. 45

المضمون الثاني: سبب الامتناع عن بيعة ابن الزبير............................ 46

المضمون الثالث: وعد البرّ والصلة..................................................... 49

الهدف الأوّل: التشجيع على الامتناع عن بيعة ابن الزبير........................................................... 49

ص: 339

الهدف الثاني: الحثّ على دخول معركة يزيد وابن الزبير........................................................ 49

الهدف الثالث: تطييب خاطر ابن عبّاس!................................................................................. 50

المضمون الرابع: رفض دعوات يزيد وأسبابها.................................... 51

المضمون الخامس: ذكر بعض المصائب............................................. 54

نكتة مهمّة............................................................................................................................. 56

المضمون السادس: حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق ما شرحه ابن عبّاس! 57

المشهد الأوّل: المطاردة من حرم الرسول إلى حرم الله............................................................ 58

المشهد الثاني: مقاتلة الإمام في مكة ومحاولة اغتياله............................................................... 63

المشهد الثالث: إشخاص الإمام (علیه السلام) من حرم الله إلى الكوفة.................................................... 67

الصورة الأُولى: الصورة المعروفة....................................................................................... 67

الصورة الثانية: الصورة الجديدة......................................................................................... 68

المشهد الرابع: تسليط ابن مرجانة وأمره بقتل الإمام................................................................. 71

المشهد الخامس: استقبال الإمام الحسين (علیه السلام) بالرجال ومعاجلته............................................... 72

المشهد السادس: رفض الموادعة!.......................................................................................... 74

المشهد السابع: الشماتة بقتل الإمام (علیه السلام) ................................................................................... 77

المشهد السابع: قتلهم كقتل الكفّار!........................................................................................ 78

المشهد الثامن: الشماتة بسبي الحرم........................................................................................ 81

اللوعة الأُولى: عجبٌ ما قبله ولا بعده عجب!..................................................................... 83

اللوعة الثانية: نسب السبايا إلى عبد المطّلب........................................................................ 84

اللوعة الثالثة: حمل بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً........................................................... 85

اللوعة الرابعة: السبي إلى يزيد........................................................................................... 86

اللوعة الخامسة: السبي المجلوب!!!.................................................................................... 86

اللوعة السادسة: الاستعراض بالسبايا................................................................................... 89

اللوعة السابعة: الشماتة!...................................................................................................... 91

المشهد الثامن: المجاهرة بدوافع قتل الإمام (علیه السلام) ...................................................................... 92

ص: 340

الدافع الأوّل: العداوة لله ولرسوله ولأهل بيته....................................................................... 93

الدافع الثاني: أخذ الثأر لأهله الكفَرة الفجَرة....................................................................... 93

الدافع الثالث: الانتقام لدم عثمان!....................................................................................... 94

المضمون السابع: ابن عبّاس صاحب الدم والثأر!............................... 96

المضمون الثامن: نوع المواجهة بين ابن عبّاسٍ ويزيد...................... 98

المضمون التاسع: ابن عبّاس يرى نفسه أهلاً للمُلك وأحقّ به.......... 100

المضمون العاشر: بي وبهم عززتَ وجلستَ مجلسك......................... 104

تعليقاتٌ سريعة.................................................................... 107

التعليقة الأُولى: كتاب ابن عبّاسٍ ردٌّ وليس ابتداء!........................... 107

التعليقة الثانية: لماذا لم يكتب ابن عبّاسٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!..... 108

التعليقة الثالثة: التزام ما التزمه سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!........... 109

التعليقة الرابعة: توظيف كتاب ابن عبّاس.......................................... 110

التعليقة الخامسة: باقي بني العبّاس!................................................... 111

إبن الزبير والإمام (علیه السلام) ......................................................... 113

العرض الأوّل: تعدّد اللقاء................................................................ 129

العرض الثاني: وقت اللقاء................................................................ 130

العرض الثالث: مكان اللقاء............................................................... 132

المكان الأوّل: عند الإمام الحسين (علیه السلام) .................................................................................. 132

المكان الثاني: لحقه (علیه السلام) ابن الزبير....................................................................................... 133

المكان الثالث: بين الحِجر والباب........................................................................................ 133

المكان الرابع: عند جمرة العَقبة............................................................................................ 134

العرض الرابع: هل كان اللقاء بين جماعة، أو كان في خلوة؟......... 134

ص: 341

العرض الخامس: تحريض ابن الزبير على بني أُميّة.......................... 135

العرض السادس: إصرار ابن الزبير على خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة... 137

العرض السابع: خبر الزبيريّ............................................................. 139

الغريبة الأُولى: الإسناد والتردّد............................................................................................. 140

الغريبة الثانية: ابتداء الإمام (علیه السلام) ............................................................................................. 141

الغريبة الثالثة: القسَم بالطلاق والعتاق.................................................................................... 141

الغريبة الرابعة: بيعة أربعين ألفاً!............................................................................................ 142

الغريبة الخامسة: جواب ابن الزبير........................................................................................ 143

العرض الثامن: عروض ابن الزبير..................................................... 143

الاقتراح الأوّل: البقاء في مكّة.............................................................................................. 144

الإيماء الأوّل: الاقتراح غير جدّي.................................................................................... 144

الإيماء الثالث: الصورة الأُولى للاقتراح: اقتراحٌ كسائر الاقتراحات.................................... 145

المناقشة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يحمي حُرمة الحرم.......................................................... 146

المناقشة الثانية: دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة للاستئمان لا للتحشيد................................ 147

المناقشة الثالثة: توظيف عنوان الإمام (علیه السلام) ................................................................... 148

المناقشة الرابعة: الفرق بين اقتراحه واقتراح غيره........................................................ 148

المناقشة الخامسة: سذاجة الخطّة............................................................................... 149

الإيماء الرابع: الصورة الثانية للاقتراح: إنّك مطلوب......................................................... 150

الالتفاتة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يكشف ما يقوله ابن الزبير سرّاً......................................... 150

الالتفاتة الثانية: الإمام (علیه السلام) مطلوب!............................................................................ 151

الإيماء الخامس: الصورة الثالثة للاقتراح: عرض البيعة...................................................... 153

الإشارة الأُولى: مكر ابن الزبير.................................................................................. 154

الإشارة الثانية: اشتراط البقاء في مكّة......................................................................... 155

الإشارة الثالثة: دوافع البيعة........................................................................................ 155

الإشارة الرابعة: وعود ابن الزبير................................................................................. 156

ص: 342

الإشارة الخامسة: خوفه على الإمام (علیه السلام) إن خرج........................................................ 156

الإيماء السادس: دعوة الإمام (علیه السلام) للبيعة مع ابن الزبير........................................................ 157

ردّ الإمام (علیه السلام) ...................................................................................................................... 159

الجواب الأوّل: القتل خارج مكّة أحبّ إليه (علیه السلام) ............................................................... 159

التلميح الأوّل: أهميّة الردّ.......................................................................................... 160

التلميح الثاني: البقاء في مكّة يعني القتل قطعاً............................................................ 163

التلميح الثالث: حماية حرمة الحرم............................................................................ 164

التلميح الرابع: التعريض بابن الزبير............................................................................ 165

التلميح الخامس: ذكر البديل عن القتل في الحرم...................................................... 166

التلميح السادس: لو كنتُ في جُحر هامّةٍ لَاستخرجوني!............................................. 167

النظرة الأُولى: وضوح الكلمة....................................................................................... 170

النظرة الثانية: القسَم................................................................................................... 171

النظرة الثالثة: لو كنتُ في جُحر هامّة!............................................................................. 171

النظرة الرابعة: حتّى يقضوا فيّ حاجتهم!.......................................................................... 173

التلميح السابع: تمثيل الاعتداء عليه باعتداء بني إسرائيل............................................. 175

الجلوة الأُولى: حديث الإمام السجّاد (علیه السلام) ........................................................................ 176

الجلوة الثانية: المطلوب من اليهود................................................................................. 180

الجلوة الثالثة: براءة الحيتان.......................................................................................... 181

الجلوة الرابعة: قلب الموازين وتحليل الحرام.................................................................... 182

الجلوة الخامسة: الاعتداء في الزمن الحرام....................................................................... 183

الجلوة السادسة: غضب الله لاصطياد السمك!................................................................... 184

الجلوة السابعة: التوسّل بمحمّدٍ وآل محمّد...................................................................... 185

الجلوة الثامنة: سيبعث عليهم مَن ينتقم منهم..................................................................... 186

الجلوة التاسعة: الإمام (علیه السلام) مُعتدىً عليه............................................................................ 186

الجلوة العاشرة: خلاصة الجلوات.................................................................................. 187

التلميح الثامن: فحوى الردّ........................................................................................ 188

الجواب الثاني: فضح ابن الزبير........................................................................................ 189

الدلالة الأُولى: تكذيب ابن الزبير في الدعوة للبقاء.................................................... 190

ص: 343

الدلالة الثانية: تكذيبه في دعواه البيعة للإمام (علیه السلام) وإسناده.......................................... 190

الدلالة الثالثة: الدافع الّذي يلهث له ابن الزبير............................................................. 191

الدلالة الرابعة: موقع ابن الزبير عند الناس................................................................... 191

الدلالة الخامسة: لا أهداف مقابل أهداف ابن الزبير................................................... 192

الدلالة السادسة: يطلب الأمر ولو بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) .......................................... 193

الجواب الثالث: السكوت................................................................................................ 193

الاقتراح الثاني: التحذير من التوجّه إلى العراق..................................................................... 195

السبب الأوّل: لقد حضر الحجّ وتدَعْه!............................................................................. 195

السبب الثاني: التحذير من الذهاب إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه..................................... 197

اللمحة الأُولى: وقت اللقاء........................................................................................ 198

اللمحة الثانية: التحذير من أهل العراق!...................................................................... 198

اللمحة الثالثة: أنا أرى أنّهم قاتلوك.......................................................................... 200

اللمحة الرابعة: تنويهٌ هامّ........................................................................................... 201

اللمحة الخامسة: «وأنا أرى ذلك»............................................................................. 202

اللمحة السادسة: التأكيد على أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب................................................... 202

تعليقات:............................................................................................................................. 204

التعليقة الأُولى: رواية ابن حجر في (الصواعق)................................................................. 204

التعليقة الثانية: ابن الزبير يسأل مسائل شرعيّة!................................................................... 208

الاقتراح الثالث: الخروج إلى العراق.................................................................................... 209

الإنارة الأُولى: مكر ابن الزبير!......................................................................................... 211

الإنارة الثانية: قد يصدق ابن الزبير!.................................................................................. 212

الإنارة الثالثة: دواعي الحثّ............................................................................................. 213

الإنارة الرابعة: الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ................................................................. 215

الإنارة الخامسة: سبب التوجّه نحو العراق، لا سبب الخروج من مكّة................................. 217

الإنارة السادسة: الاستخارة.............................................................................................. 217

ص: 344

الإنارة السابعة: غباء ابن الزبير وجهله!.............................................................................. 217

العرض التاسع: ابن الزبير يلحق الإمام!............................................ 219

بين عبد الله بن جعفر والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..................... 221

القسم الأوّل: كتاب عبد الله بن جعفر للإمام الحسين (علیه السلام) ....... 223

التذكير الأوّل: ميزة نصّ ابن الصبّاغ............................................... 228

التذكير الثاني: انتشار خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة في المدينة! 231

التذكير الثالث: زمان ومكان كتابة الكتاب....................................... 233

التذكير الرابع: حامل الكتاب........................................................... 235

التذكير الخامس: نصّ كتاب ابن جعفر............................................ 236

اللفتة الأُولى: أدب عبد الله بن جعفر.................................................................................... 237

اللفتة الثانية: المناشدة.......................................................................................................... 238

اللفتة الثالثة: دوافع المناشدة................................................................................................. 240

التوضيح الأوّل: الشفقة.................................................................................................... 241

التوضيح الثاني: المقصود من الأمر في كلام ابن أعثم والخوارزميّ!................................. 242

التوضيح الثالث: دواعي الشفقة وأسبابها.......................................................................... 244

المستوى الأوّل: الخوف من استئصال العترة الطاهرة.................................................. 244

المستوى الثاني: نتائج قتل الإمام (علیه السلام) !........................................................................ 246

الإشفاق الأوّل: الإشفاق على نور الله.............................................................................. 248

الإشفاق الثاني: فقدان علم المهتدين.............................................................................. 249

الإشفاق الثالث: فقدان رجاء المؤمنين............................................................................ 250

الإشفاق الرابع: روح الهدى وأمير المؤمنين!..................................................................... 251

اللفتة الرابع: لا تعجلْ بالسير!................................................................................................ 252

اللفتة الخامسة: أسباب الدعوة إلى التريّث............................................................................ 253

الميزة الأُولى: تشخيص المُعتدي!.................................................................................... 253

ص: 345

الميزة الثانية: بذل ما بوسعه للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ............................................................. 255

الميزة الثالثة: التهديد شاملٌ من جميع الأُمويّين................................................................ 256

الميزة الرابعة: التهديد الشامل لأهل البيت (علیهم السلام) ............................................................. 256

اللفتة السادسة: التحذير من أهل الكوفة................................................................................ 257

التذكير السادس: جواب الإمام (علیه السلام) .................................................. 259

الجواب الأوّل: لم يذكر جواباً............................................................................................. 260

الجواب الثاني: «قرأتُ الكتاب وفهمت».............................................................................. 260

الجواب الثالث: الرؤيا!........................................................................................................ 261

الجواب الثالث: «لو كنتُ في جُحر هامّة»!............................................................................ 263

الجواب الرابع: أبى ولم يمتنع.............................................................................................. 264

القسم الثاني: محاولة ابن جعفر (رضی الله عنه) مع عمرو بن سعيد........ 267

الضوء الأوّل: قيام ابن جعفر (رضی الله عنه) إلى الوالي................................ 271

الضوء الثاني: مطالب ابن جعفر (رضی الله عنه) من الوالي............................ 274

الضوء الثالث: مَن كتب الكتاب؟!..................................................... 278

الضوء الرابع: حامل الكتاب............................................................. 279

الضوء الخامس: موقع اللقاء............................................................. 280

الضوء السادس: لقاءٌ مختصر............................................................. 281

الإضاءة الأُولى: أسباب اختصار اللقاء.................................................................................. 281

الإضاءة الثانية: مَن باشر الإقراء............................................................................................ 282

الإضاءة الثالثة: مؤدّى اللقاء................................................................................................. 283

الضوء السابع: أمر ابنيه بالجهاد دون الإمام (علیه السلام) ................................ 283

الضوء الثامن: هل رجعا إلى الوالي؟................................................ 286

الضوء التاسع: جواب الإمام (علیه السلام) ....................................................... 287

ص: 346

الضوء العاشر: هل التقى ابن جعفر (رضی الله عنه) أهلَه؟!.............................. 287

القسم الثالث: كتاب عمرو بن سعيد للإمام (علیه السلام) ....................... 291

المتابعة الأُولى: زيادات الطبريّ والخوارزميّ.................................. 294

المتابعة الثانية: غطرسة الأشدق......................................................... 295

المتابعة الثالثة: التهديد الأوّل........................................................... 295

المتابعة الرابعة: التهديد الثاني.......................................................... 296

المتابعة الخامسة: التهديد الثالث...................................................... 298

المتابعة السادسة: التهديد الرابع....................................................... 300

المتابعة السابعة: فإنْ كنتَ خائفاً........................................................ 301

المتابعة الثامنة: وعود الآثم............................................................... 303

الوعد الأوّل: إن كنتَ خائفاً.. فأقبِلْ إليّ............................................................................... 304

الوعد الثاني: الأمان بإزاء الإقبال إليه.................................................................................... 305

الوعد الثالث: الإقبال مع الرسول!......................................................................................... 307

الوعد الرابع: البرّ والصلة والإحسان...................................................................................... 309

الوعد الخامس: حُسن الجوار.............................................................................................. 310

المتابعة التاسعة: شهادة الكتاب على الكاتب...................................... 313

المتابعة العاشرة: توظيف الأمان!....................................................... 314

المتابعة الحادية عشرة: جواب الإمام (علیه السلام) .......................................... 316

الردّ الأوّل: «إن كنتَ أردت برّي وصلتي»............................................................................ 316

الردّ الثاني: «إن كنتَ.. فجُزيتَ خيراً»................................................................................... 316

الردّ الثالث: «لم يشاقِقْ مَن دعا إلى الله..».............................................................................. 318

الإيضاح الأوّل: الهدوء والحِلم........................................................................................ 318

الإيضاح الثاني: عموم الردّ وضمير الغائب....................................................................... 319

ص: 347

الإيضاح الثالث: أجواء الآية!........................................................................................... 319

الإيضاح الرابع: مؤدّى الآية............................................................................................. 321

الدلالة الأُولى: دلالة أخبار القوم!.............................................................................. 322

الدلالة الثانية: الفهم العام........................................................................................... 322

الإيضاح الخامس: الآية مقابل التهمة............................................................................... 324

الردّ الرابع: ردّ الأمان........................................................................................................... 325

الإفادة الأُولى: الإمام (علیه السلام) هو الأمان!................................................................................ 325

الإفادة الثانية: الأمان في الحرم!........................................................................................ 327

الإفادة الثالثة: أمان الخؤون!............................................................................................. 327

الإفادة الرابعة: الأمان والاغتيال!....................................................................................... 328

الإفادة الخامسة: «خير الأمان أمان الله»............................................................................. 328

الوجه الأوّل: لا إيمان ولا أيمان لهم، فأمان الله خير!.................................................. 329

الوجه الثاني: لم يحترموا أمان الله، فلا حرمة لأمانهم.................................................. 331

الوجه الثالث: مَن كان في أمان الله لا يحتاج أمان غيره.............................................. 331

الإفادة السادسة: أمان الله لمن خافه في الدنيا.................................................................... 332

التقرير الأوّل: مَن لم يؤمن بالله لن يؤمن الله............................................................... 332

التقرير الثاني: التهديد............................................................................................... 332

التقرير الثالث: خوف الله في الدنيا وأمانه في الآخرة.................................................. 333

التقرير الرابع: الخوف لله في الدنيا............................................................................. 335

الإفادة السابعة: دعاء الإمام (علیه السلام) ........................................................................................ 335

الإفادة الثامنة: والسلام!.................................................................................................... 336

ص: 348

المجلد 4

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الرابع

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

كتاب يزيد بن الأصمّ إلى الإمام الحسين (علیه السلام)

المتون

روى أبو نعيم في (الحِلية)، قال:

حدّثَنا محمّد بن عليّ، ثنا محمّد بن سعيد الرقّي، ثنا أبو عمر هلال، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا بعض أصحابنا، عن سفيان بن عُيَينة قال:

كتب يزيد بن الأصمّ الى الحسين بن عليٍّ حين خرج:

أمّا بعد، فإنّ أهل الكوفة قد أبَوا إلّا أن ينفضوك، وقلّ شيءٌ نفض إلّا قلق، وإنّي أُعيذك بالله أنْ تكون كالمغترّ بالبرق أوكالمسبق

ص: 5

للسراب، و﴿اصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((1)) ((2)).

وروى ابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق) وابن منظور في (المختصر):

أخبرَنا أبو بكر محمّد بن الحسين، نا أبو الحسين بن المهتديّ، نا أبو أحمد الدهّان، أنا أبو عليّ الحرّانيّ الحافظ، نا أبو عمر هلال بن العلاء، نا عمرو بن عثمان، نا بعض أصحابنا، عن سفيان بن عُيَينة قال:

كتب يزيد بن الأصمّ إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) حين خرج:

أمّا بعد، فإنّ أهل الكوفة قد أبَوا إلّا أن يبغضوك، وقلّ مَن أبغض إلّا قلق، وإنّي أُعيذك بالله أن تكون كالمغترّ بالبرق وكالمهريق ماءً للسراب [في (المختصر): السراب]، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ أهل الكوفة ﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((3)).

* * * * *

هكذا روى أبو نعيم في (الحلية) وابن عساكر، ويمكن أن نستجلي ما في هذا الكتاب من خلال النفضات التالية:

ص: 6


1- سورة الروم: 60.
2- حِلية الأولياء لأبي نعيم: 4 / 98.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 65 / 127، مختصر ابن منظور: 27 / 325.

النفضة الأُولى: يزيد بن الأصمّ!

يزيد بن الأصمّ: هو أبو عَوف العامريّ البكّائيّ، الكوفيّ، نزيل الرَّقّة، تابعيّ.

حدّث عن: خالته ميمونة بنت الحارث، وعائشة، وابن خالته ابن عبّاس، وأبي هريرة، وغيرهم.

حدّث عنه: ابن أخيه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ، وميمون بن مهران، وراشد بن كيسان، وأجلح الكنديّ، وآخَرون.

عُدّ من الفقهاء أيّام عمر بن عبد العزيز.

تُوفّي سنة إحدى ومئة، وقيل: ثلاثٍ ومئة، قال الواقديّ: وهو ابن ثلاثٍ وسبعين سنة ((1)).

قال العلّامة الأمينيّ (رحمة الله) معلِّقاً على خبرٍ في كتابه (الغدير):

أوَ لا تعجب مِن أُكذوبةٍ تُعَدّ أُكرومة؟! متى تصحّ رواية يزيد بن الأصمّ عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولم يُدركه؟ فإنّ الرجل تُوفّي سنة 101 وهو ابن ثلاثٍ وسبعين سنة، فولادته بعد وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بدهر! ((2))هو من رجال القوم ورواتهم، ومن المتسكّعين في البلاطات، المختبئين

ص: 7


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 554، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 517، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 7 / 275، الوافي بالوفيات للصفَديّ: 28 / 8.
2- الغدير للأمينيّ: 7 / 270.

تحت عروش السلاطين، يتسقّطون بدراتهم ويلحسون سيَلانات لعابهم.

النفضة الثانية: مبادرة ابن الأصمّ

من هوان الدنيا على الله أن يكون مِثل هؤلاء الصعاليك يتطاولون وينفخون ويتنافخون، حتّى يروا في أنفسهم ما يُجرئهم على اقتحام ساحات القُدس الإلهيّ والتدخّل في شؤون سادات الخلق، والمبادرةِ للكتابة بلغة الناصح والدليل والمرشد لمن نصبه الله علَماً ومُرشِداً للخلائق أجمعين.

ويبدو واضحاً من النصّ أنّ الأصمّ هذا قد بادر مبادرةً وابتدأ ابتداءً، من دون أيّ سابقةٍ من الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فهل كان الأصمّ في مقام أن يطرح نفسه ليكون له دلوٌ بين الدلاء يوم اختلط الحابل بالنابل، ويكون له موقفٌ بين مواقف العظماء؟

أو أنّه أداةٌ وظّفها السلطان كالأدوات الأُخرى؛ لتجييش الناس وتكثير المعارضين ورفع صوت المخالفين وتكديس الآراء المتّهِمة لسيّد الشهداء (علیه السلام) المخطِّئة له ضمن الصورة الّتي يرسمها الطاغوت للإمام (علیه السلام) ، بأن يعرضه في صورة الخارجيّ الّذي تمرّد على السلطان والولاية وخرج عن الشرعيّة، فجاءه العقلاء ينصحون، وهو يأبى عليهم ولا يأبه بهم، والعياذ بالله!

فيحقّق الطاغوت ما يريد عبر هؤلاء المضلّلين، ويوجِد المسوّغاتالكافية عبر التاريخ لملاحقة الإمام (علیه السلام) وقتله.

ص: 8

النفضة الثالثة: مِن أين كتب؟

لا ندري أين كان الأصمّ يوم كتب الكتاب، فقد ورد في ترجمته أنّه ابن خالة ابن عبّاس، وأنّ ميمونة زوجةَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) خالتُه، وأنّه كوفيٌّ نزيل الرقّة، فهل كان تلك الأيّام الّتي عزم فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج إلى العراق في مكّة لمناسبة الحجّ، أو أنّه كان في الكوفة، أو في الرقّة؟

فإنْ كان في مكّة، فلماذا لم يحضر بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ويكلّمه مواجهةً، كما فعل المعترضون الآخَرون كابن عبّاس وابن عمر، وإن كان بعيداً عن مكّة، فكيف وصل إليه خبر خروج الإمام (علیه السلام) ؟ وما الّذي حرّكه للكتابة؟

النفضة الرابعة: وقت كتابة الكتاب

كتب الأصمّ الكتاب حين خرج الإمام الحسين (علیه السلام) ، والمقصود بالخروج إنّما هو الخروج من مكّة ميمّماً العراق، لأنّه يحذّر الإمام (علیه السلام) فيه من أهل الكوفة، بَيد أنّ الخبر لا يحدّد الوقت بالتحديد، فهل كان قد كتب الكتاب عند خروج الإمام (علیه السلام) وانطلاقه في المسير، أو قبل ذلك؟

الّذي يمكن استفادته من تعبير الخبر «حين خرج»، أنّه مزامنٌ لخروجالإمام (علیه السلام) ، فهو لابدّ أن يكون في أحد اليومين أو الثلاثة الأخيرة من وجود الإمام (علیه السلام) في مكّة المكرمة على أقصى التقادير.

ص: 9

* * * * *

يُلاحَظ أنّ ازدحام المعترضين ومَن يسمّونهم الناصحين إنّما كان في الأيّام القلائل الّتي سبقَت الخروج، أو عند الخروج، وبعضهم لحق الإمام (علیه السلام) في الطريق بعد الخروج..

وهذا يفيد أن ليس ثَمّة حركةٌ خاصّةٌ ملحوظةٌ بدرَت من الإمام (علیه السلام) قبل عزمه على الخروج من مكّة وشروعه في الإعداد لذلك، بل كان خروج الإمام (علیه السلام) على ما يبدو _ كما سيتبيّن لنا فيما بعد _ مفاجئاً، حتّى تفاجأ الجميع وتكأكؤوا على الإمام (علیه السلام) يناشدونه البقاء ويبدون عجبهم من هجرته من مكّة وقد حضر الموسم!

النفضة الخامسة: مضمون الكتاب

اشارة

يمكن تناول ما ورد في الكتاب من سفَهٍ وطَيشٍ من خلال ما يلي:

السفاهة الأُولى: طَيش الكاتب وسفَهُه

يبدو واضحاً من مضمون الكتاب أنّ كاتبه سفيهٌ طائش، لا يقدّر الأُموربمقدارها، وقديماً قيل: كتاب المرء عنوان عقله ((1))، وقال أمير

ص: 10


1- أُنظر: الغدير للأمينيّ: 4 / 72، يتيمة الدهر للثعالبيّ: 3 / 282.

المؤمنين (علیه السلام) : «كتاب المرء معيار فضله ومسبار نُبله» ((1)). فهو لم يعرف قدر نفسه، ولا عرف قدر مَن كتب إليه، وأنزل نفسه منزلةً ليس له أن يدّعيها.

فمن هو حتّى يكتب إلى سيّد الخلق بعد من استثناهم الله؟ وكيف سمح لنفسه بذلك؟ وكيف تجرّأ للحديث بهذه الوقاحة وتجاوز حدود الأدب إلى أبعد من الإساءة؟

وسيأتي بعد قليلٍ بيان ما في كتابه من عوارٍ وسوء أدبٍ ووقاحةٍ وصلافة، فبماذا تأهّل لمثل هذه الجرأة، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أكبر منه سِنّاً، ولا يُقاس به رتبةً ومنزلةً ومقاماً عند الله وعند الناس وعلى كلّ الموازين؟!

صارت الدنيا جزافاً، يدسّ كلُّ مَن كان له أنفٌ أنفَه في كلّ مغرز، فتجرّأ مَن هبّ ودبّ من الحشرات والهوامّ والديدان السابحة في قيعان الرذيلة، لتتطاول برأسها وترفع لها عقيرةً نكرةً، وتنفخ في الهواء، فصار القاصي والداني يضرب أصدريه، وينظر في عطفَيه، وينقض مِذرَوَيه، ويشمخ بأنفه، ليضع نفسه موضع الناصح والمرشد والدليل لسيّد الخلق الّذيلا يصدر إلّا عن الله في جميع الأُمور.

فلو كان الأصمّ عاقلاً رزيناً حكيماً، لَما اعترض ولا تعرّض للإمام (علیه السلام) ، ولو كان ناصحاً شفيقاً، لَكتب بما يناسب مقامه ولزم حدود الأدب مع

ص: 11


1- غُرر الحِكَم للآمديّ: ح 7261، عيون الحِكَم والمواعظ للواسطيّ: 379.

المخاطَب، ولَعرف لسيّد شباب أهل الجنّة وسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته مقامَه، إذ أنّه يزعم أنّه من المحدّثين والعلماء، فلا مناصّ من سماعه ما ورد عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولَكان عارفاً بمقام سيّد الشهداء (علیه السلام) بين الناس وفق موازينهم، بغضّ النظر عن الأوامر الإلهيّة والوصايا النبويّة، ولَاحترم حرمة الكبير والوجيه وذي الشرف الباذخ والنسب الناصع، ولَما أنزل نفسه منزلة ربّ العالمين في خطابه لنبيّه، كما سنسمع بعد قليل.

السفاهة الثانية: كتابٌ أبتر

وفق ما روى أبو نعيم وابن عساكر لمتن الكتاب، فإنّه كتابٌ أبترٌ وأهوج، لا يبدأ بالبسملة ولا الحمد والثناء والصلاة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما يبدأ بقوله: «أمّا بعد» مباشرةً، ثمّ يستمرّ في الحديث باستعلاءٍ وتكبّرٍ وتجبّرٍ وطغيانٍ يُقرف القارئ أيّاً كان، فيا ساعد الله قلب الإمام الحسين (علیه السلام) !

أيبلغ العُجب والتعجرف والتبختر والتعالي والتعاظم والغطرسة بالإنسان الوضيع إلى هذا الحدّ، فينسى ذِكر الله وهو يكتب إلى وجه الله وحبيب الله والناطق عن الله؟!

السفاهة الثالثة: ينفضوك، يبغضوك!

في نسخة أبي نعيم:

فإنّ أهل الكوفة أبَوا إلّا أن ينفضوك، وقلّ شيءٌ نفض إلّا قلق.

ص: 12

وفي نسخة ابن عساكر:

قد أبَوا إلّا أن يبغضوك، وقلّ مَن أبغض إلّا قلق.

والنَّفْضُ: هو مِن نَفَضْتُ الثوبَ والشجَرَ، أَنْفُضُهُ نَفْضاً: إذا حرّكته لينتفض، ونَفَضْتُ الورقَ من الشجر: أسقطته.

والنَّفَضَةُ _ محرّكةً _ : الجماعةُ يَنْفُضُون في الأرض لينظروا هل فيها عدوٌّ أَم لا ((1)).

وفي حديث قيلة: مُلاءَتان كانتا مصبوغَتَين وقد نَفَضتا، أي: نَصُلَ لون صبغهما ولم يبقَ إلّا الأثر، والأصل في النَّفْض: الحركة ((2)).

والقَلَقُ: الانزعاجُ والاضطراب، وأن لا يستقرّ في مكانٍ واحد ((3)).

فيكون معنى النسختين واحدٌ عاقبةً، فإنّهم إن ينفضوه لأنّهم يبغضوه.

السفاهة الرابعة: تقديره لموقف أهل الكوفة

لقد مرّ معنا في أكثر من موضعٍ من هذه الدراسة إشاراتٌ إلى أنّ الكوفة كانت يومذاك على دين السقيفة وشعارهم (وا سُنّة عُمراه)، وماكان الشيعة فيها إلّا أقلّيةً في الوسط الكوفيّ رغم أنّهم أكثريّةٌ إذا ما قُورنوا بالبلدان الأُخرى؛ لقلّة الشيعة سابقاً ولاحقاً، وأهل الحقّ قليلٌ على مرّ

ص: 13


1- أُنظر: لسان العرب، مجمع البحرين: نَفَضَ.
2- أُنظر: النهاية لابن الأثير: نَفَضَ.
3- أُنظر: لسان العرب، مجمع البحرين: قَلقَ.

العصور وكرّ الدهور، وقد أتينا على شيءٍ من التفصيل في هذا الموضوع في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام))، ونحن إذ نناقشه هنا وفق ما هو مشهورٌ ومتداولٌ في التاريخ.

فالأصمّ لم يتكلّم عن النصرة والأنصار والأشياع، وإنّما أخبر عن شيءٍ وتكلّم عن بغض أهل الكوفة ونفضهم الإمام (علیه السلام) ، وهذا ما يخالف جميع التقديرات المرويّة في التاريخ من المخالف والمؤالف، فعلى الأقلّ كان في الكوفة جماعةٌ من الزبد الطافح الّذي أعلن النصرة لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان عددهم زهاء ثمانية عشر ألفٍ أو يزيدون، فكيف حكم الأصمّ على أهل الكوفة جميعاً؟!

وربّما أفاد التأمّل أنّ الأصمّ أراد بذلك تثبيط سيّد الشهداء (علیه السلام) بزعمه وتهديده تهديداً مبطّناً، والإشارة إلى أنّ أهل الكوفة كلّهم جميعاً مع السلطان، وهم يبغضون الإمام (علیه السلام) .

ويحتوي كلامه على نذالةٍ متسافلة؛ إذ أنّه يُشعِر أنّ الإمام (علیه السلام) مبغوضٌ منفوضٌ في الكوفة، ويزيد محبوبٌ ومرغوبٌ به، فكأنّه يريد أن يعقد في ذهن القارئ لكتابه مقارنةً بين أولاد البغايا وسليل الأنبياء (علیهم السلام) ، ويرجّح أولاد البغايا بين الناس على الإمام (علیه السلام) ، ولا ندري كيف يبغضوه وينفضوهوقد قذف الله حُبّه في قلب الخلائق مِن مؤمنٍ وكافر ومنافق! ((1))

ص: 14


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسيّ: 43 / 281 الباب 12.
السفاهة الخامسة: قلق القوم

ربّما أفاد تعقيبه بقوله: «وقلّ شيءٌ نفض _ أو: بغض _ إلّا قلق»، أنّه يريد أن يرمي للمتلقّي أنّ هؤلاء القوم وإن كاتبوا ووعدوا، فإنّما هي فورةٌ وثورةٌ سرعان ما تخبو وتنطفئ، وأنّهم متقلّبون قلقون، لا يستقرّون ولا تثبت أقدامهم على صراط، فإنْ دعوه إنّما دعوه ليقتلوه ويغدروا به في نهاية المطاف.

غير أنّ مقدّمته وتقريره أنّ أهل الكوفة يبغضونه وينفضونه، لا تلتئم مع أنّهم يكاتبونه لإعلان النصرة، فإنّ الأكثريّة الساحقة في الكوفة لم تكاتب الإمام (علیه السلام) ، كما أثبتنا ذلك في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام))، والأقلّيّة الّتي كاتبَت _ رغم ضخامة عددها _ لم تكن يوم كاتبَت تُظهِر العداء والبغض والبغضاء للإمام (علیه السلام) ، فلا يمكن أن يقرّر أنّهم يبغضونه ويكاتبونه ويبايعونه، حتّى يقلقوا فيما بعد وينقلبوا.

أضف إلى ذلك: إنّ الأصمّ وغير الأصمّ ليس له أن يخبر عن قلوب الناس، فالحبّ والبغض مكانه القلوب، ولا يطّلع على القلوب إلّا الله ومَن سلّطه الله على القلوب، وإنّما يُعرَف ما في القلب لسائر الناس من خلال مايبدونه ويظهرونه في سلوكهم وأفعالهم وتعاملهم، وهؤلاء المبايعين وإن كانوا كاذبين خدّاعين غدّارين، بَيد أنّهم يوم كتبوا وأعلنوا البيعة لم يظهر منهم

ص: 15

البغض والعداء، وإنّما تبيّن ذلك بعد أن انحازوا مع أعداء الله، فكيف أخبر عنهم الأصمّ؟

أجل، كان بإمكانه أن يُخبِر عن الأكثريّة الّتي بقيت ملازمةً لغابة القرود في الكوفة، إلّا أنّ الأكثريّة لا يمكن أن يحكم عليها بالقلق، لأنّها كانت ثابتةً على ضلالتها لم تملْ إلى الحقّ أبداً.

السفاهة السادسة: تعويذ الإمام (علیه السلام) !

العَوذُ والتعوُّذُ: هو الالتجاء والاعتصام، وهو تركيبٌ يُستعمَل في موارد تحصين المخاطَب من خطرٍ أو سوءٍ أو جهلٍ يداهمه، سواءً كان خارجيّاً أو قلبيّاً.

والتعوُّذُ: الالتجاءُ والاعتصام، إمّا في الخارج إذا كان في الأُمور الخارجيّة، أو في القلب إذا كان معنويّاً ((1)).

قال (تبارك وتعالى):

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ﴾ ((2)).﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ﴾ ((3)).

ص: 16


1- أُنظر: التحقيق في كلمات القرآن: 8 / 260.
2- سورة الناس: 1 ... 4.
3- سورة الفلق: 1 _ 2.

﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ ((1)).

﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ((2)).

﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ ((3)).

﴿عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ ((4)).

﴿قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ ((5)).

﴿قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ ((6)).

﴿قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ﴾ ((7)).

فلابدّ من افتراض موردٍ عوّذ الأصمُّ من أجله الإمام الحسين (علیه السلام) بالله، وقد جاءت في كلامه واضحةً وقحةً بذيئةً جاهلةً سليطةً صفيقةً فاحشةً لا حياء فيها، كما سيأتي.

ص: 17


1- سورة المؤمنون: 97 _ 98.
2- سورة النحل: 98.
3- سورة الأعراف: 200.
4- سورة الدخان: 20.
5- سورة البقرة: 67.
6- سورة هود: 47.
7- سورة مريم: 18.
السفاهة السابعة: الاغترار والخداع بالسراب
اشارة

قبل الدخول في ذِكر تفاهات هذا الواطئ الدنيء الحقير القزم، لابدّمن التقدُّم بالاعتذار لسيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، والاستغفار من ذكر هذه الترّهات والسخافات والحماقات والوقاحات، غير أنّنا مضطرّون أن ننقل ما رواه التاريخ ونعالجه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أُعيذك بالله أن تكون.. يعني الخطابُ إمامَ الخلق الحسين (علیه السلام) ، وهو يعيذه من أمرين:

الأمر الأوّل: أن يكون كالمغترّ بالبرق!

يحذّر هذا العديم الأدب إمامَ زمانه أن يكون (كالمغترّ بالبرق)، فهو يمثّل الإمام (علیه السلام) وموقفه بهذا المثَل البائس..

فالمغترّ بالبرق إنّما يغترّ بوميضٍ سرعان ما يزول، وهو لا يدوم أكثر من خطف البصر، وهو كنايةٌ عن قصر النظر الّذي لا يتمهّل صاحبه أبداً، ويحكم من خلال ومضةٍ ويريد توظيفها على الدوام، وهو ما لا يكون، فهو اغترارٌ بالزيف والأوهام، وبناءٌ على الزائل والمحال.

ولا نريد التوغّل في بيان وقاحة هذا الرذيل؛ خوفاً من الانسياق معه في حضيضه العفن الوبيل.

ص: 18

الأمر الثاني: أن يكون كالمخدوع بالسراب

وحذّر هذا التعيس النحس الموبوء إمامَه (علیه السلام) أن يكون كالمسبقللسراب، أو كالمهريق ماءً للسراب، أو كالمهريق ماء السراب _ حسب النُّسَخ _.

وهي جميعاً تفيد معنىً واحداً، وهو أن يُخدَع بالسراب فيسارع إليه _ حسب نسخة أبي نعيم _، أو كمن يصبّ ماء السراب وينخدع به فيخاله ماءً يمكن أن ينزف منه أو يضيف عليه أو ينتفع به، وهو سرابٌ لا واقع له.

فهو يصوّر الحال يومذاك كأنّه سرابٌ بقيعةٍ لا واقع له ولا أساس، وأنّ مَن كتب إليه يمكن أن ينخدع فيخاله ماءً، فيأتيه ويتعامل معه بعد أن يصل إليه كماء!!!

عجَبٌ لحِلم الله (عزوجل) وحِلم الإمام (علیه السلام) المتخلّق بأخلاق الله! ألم يكن الإمام (علیه السلام) قد عاش في نفس الفترة الّتي عاش فيها هذا الوغد السافل التافه الخسيس؟ فكيف صار هو يرى السراب سراباً ولا يراه من عينه عين الله؟!

من الأفضل أن لا نعلّق على هذا الهراء، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلَبٍ ينقلبون.

السفاهة الثامنة: واصبر، إنّ وعد الله حقّ!

بعد أن رسم صورة أهل الكوفة وموقفَهم من الإمام (علیه السلام) _ بزعمه _،

ص: 19

وحذّر الإمام (علیه السلام) من أن يكون في دائرة المَثَلَين اللذَين ضربهما، انسلّ ليُصدِر أمْرَه بتوظيف آيةٍ من كلام الله.. ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾.جعل هذا الوغد الهابط نفْسَه في مقام الخطاب بمثابة ربّ العزّة والجبروت حين يخاطب نبيَّه.

ثمّ أمر الإمام (علیه السلام) أن يصبر، فإنّ وعد الله حقّ.. ولا ندري ماذا يعني بوعد الله! فهل المقصود من وعد الله في لغة هذا الحقير هو أنّ يزيد موعودٌ مِن قِبل الله بالحكم والسلطان، فهو الوعد الحقّ الّذي ينبغي للإمام (علیه السلام) أن ينتظره، فلا يستخفّه الّذين لا يوقنون بوعد الله ممّن دعاه وبايعه؟!

فهو يريد أن يقول للإمام (علیه السلام) أنّ وعد الله لم يكن لصالحه، فلْيصبر، إذ أنّه يرى السلطنة غنيمةً يستحوذ عليها الأقوياء، ولا يراها أمراً ربّانيّاً ولا خلافةً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) منصوصةً من ربّ الأرض والسماء.

إصبر، إنّ وعد الله حقّ!!!

السفاهة التاسعة: لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون

أنْ يحكم على أهل الكوفة أنّهم لا يوقنون، ربّما كان هو وهم، سيّما إذا كانوا من زمرة مَن يبغضون الإمام (علیه السلام) .. غير أنّه إنّما أطلق هذا الكلام على مَن بايع الإمام (علیه السلام) وزعم أنّه ينصره، فهو قد وصف مَن وعد النصرة بهذا الوصف، وأصحر بذلك عن خبثه وسوء سريرته وسوداويّة نظرته.

ولكن أن يخاطب الإمام (علیه السلام) بقول الله: ﴿لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾، فهذا ما لا

ص: 20

يُطاق، ولا يمكن التعامل معه بهدوءٍ دون أن يشتعل المؤمن بنيرانالغضب لحبيب ربّ الأرباب، ويغلي الدم في العروق بلهيب الغَيرة على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

فلْنكفّ اليد عن التعليق، ونترك المجال مفتوحاً، ونتوسّل إلى القارئ الكريم الغيور المؤمن الحسينيّ أن لا يترك مفردةً ولا جملةً في قواميس اللغة ممّا يعبّر عن نذالة هذا القزم المتهالك المتهرّئ الوقح الذميم الرذل الزنيم السافل إلّا وأطلقها عليه.

السفاهة العاشرة: اتّحاد خطاب الأوغاد

عمل الجميع _ يزيدُ القرود ومَن تبعه وتولّاه _ على عرض الإمام (علیه السلام) كخارجٍ على السلطان (ولو الخروج بالمعنى المصطلَح)؛ لتمويه جريمتهم في قصد حياة الإمام (علیه السلام) والعزم على قتله، لتُمحى آثار جنايتهم، فهم إن عجزوا عن اغتياله أو قتله بالسمّ خفية، فقد قاموا بعملٍ إعلاميٍّ ضخمٍ لقلب الصورة، وجعْلِ الإمام (علیه السلام) في موضع الهجوم والسلطانِ في موضع الدفاع.

وقد مرّ معنا ما قاله يزيد المسعور في كتابه إلى ابن عبّاس وأهل المدينة ومكّة والموسم، وقد سمعنا ما كان يقوله ابن عمر ويدعو الإمامَ (علیه السلام) إليه ويقول: إنّ الدنيا لا تجتمع مع النبوّة! وكذا سمعنا كلام ابن عبّاسٍ وابن الزبير وغيرهم.

ص: 21

وها هو هذا الصعلوك المتهاوي الضئيل يتّهم الإمام (علیه السلام) بأنّه يسعى إلىقومٍ يبغضونه ولا يرضون به، ويغترّ بهم ويحسب السراب ماءً، من أجل الهجوم على السلطة ومحاربة السلطان والخروج عليه، واستعمال الغوغاء من أجل النيل من الحكّام.

فانصرفَت الأذهان وانكمشت القلوب على هذا النوع من التعامل مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) باعتبار أنّها حركةٌ هجوميّةٌ ابتدائيّةٌ خطّط لها الإمام (علیه السلام) ، وإنْ لم يقصد الدنيا والحكم الظاهريّ والسلطنة، ولكنّه هو البادئ المبادِر والمعِدّ للهجوم، بحيث لو تركوه ما تركهم، وبقيَت هذه الخديعة فاعلةً إلى اليوم!

ولمّا كان المُلك عقيم، والدنيا محرَّصٌ عليها، والناس والأموال بيد السلطان، والناس عبيدُ الدنيا وزيفها وأسرى بريق الدينار والدرهم، فكان في قتل الإمام (علیه السلام) مسوّغٌ ليزيد وأسياده وأتباعه.

وبهذا نسي الجميع ابتداءَ العدوّ في الهجوم على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزمه الجادّ في قتله والقضاء عليه، تماماً كما فعل مع آبائه وأبنائه، وأنّه أراد ذلك في المدينة ثمّ في مكّة، ممّا اضطرّ الإمامَ (علیه السلام) للخروج منها!

السفاهة الحادية عشر: تخطئة الإمام (علیه السلام)

إنّ مضمون هذا الكتاب ينسج على نفس المنوال الّذي ينسج عليه المؤرّخ المأجور، حيث تجد في كلّ موضعٍ وموطنٍ يمكن أن يُنفِذ فيه سهامَه

ص: 22

المسمومة تراه يدسّها على أيّة حال، فمرّةً يجعل الإمام (علیه السلام) نادماً، يتذكّر ابنَ عبّاس ونصائحه، ومرّةً يتذكّر نصائح أخيه الإمام الحسن (علیه السلام) .

ويحاول المؤرّخ من خلال تكديس المعترضين واتّفاقهم على قولٍ واحدٍ أن يعرض الإمامَ (علیه السلام) طالبَ دنيا، ومهاجماً من دون عُدّةٍ ولا عدد، ومحارباً يُقدِم على الحرب من غير سلاحٍ ولا مدد، ليُقنِع المتلقّي بتخطئة الإمام (علیه السلام) في جميع مفاصل حركته، وفي جميع خياراته واختياراته، ولذا ركّز في الافتراء على المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وقد أتينا على بيان ذلك في المجموعة الخاصّة به.

ولمّا كان المؤمن بالإمام (علیه السلام) يعتقد عصمته ولا يرضى نسبة الخطأ له، حاول تصوير حركته الهجوميّة بصورةٍ تليق بمقامه وتنسجم مع عصمته، حسب تصوّرات المحلّلين.

ونعود لنقول: ثمّ نسي الجميع أنّ يزيد قد طلب رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) منذ أن كان في المدينة، ثمّ لاحقه في مكّة حتّى أزعجه واضطرّه للخروج، لئلّا تُهتَك بدمه المقدَّس الزاكي حرمة البيت الأمين، ونسي الجميع أنّ الإمام (علیه السلام) مدافعٌ عن نفسه، قد هجموا عليه ولم يهجم عليهم، وغبنا في خضمّ الأحداث والتصوّرات والتصوير.

النفضة السادسة: الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه

لم يسجّل أبو نعيم ولا ابن عساكر ردّاً للإمام (علیه السلام) على هذا الكتاب،

ص: 23

بل لم يُشر أحدهما إلى أنّ الإمام (علیه السلام) قد قرأ الكتاب، بَيد أنّ المعهود أنّهم إذا قالوا: وكتب فلانٌ إلى فلان، أنّ الكتاب قد بلغ المكتوبَ إليه، وإذا بلغه فالمفروض أنّه سيقرأه، فلماذا لم يروِ أحدُهم ردّاً للإمام (علیه السلام) ؟ وإن كان الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه، فربّما لأنّه كتاب مَن استحقّ عليه العذاب، فليس له جواب، إلّا أن يحرقه الله وكتابه بنيران جهنّم.

ومَن تطفّل وهو لئيم، وتكبّر وهو حقير، وكتب من دون أن يستشيره أحد، فالاحتقار والازدراء والسكوت عنه أحجى وأوفق بالحليم.

ولكن ساعد الله قلب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وهو يتجرّع الغصص من هؤلاء الأوغاد والزعانف وأذناب الشيطان الرجيم، الّذي مهّد لهم السبيل لاعتلاء رقاب الناس والتطاول على أئمّة المسلمين.

ص: 24

عُمر بن عبد الرحمان المخزوميّ ورأيه

المتون

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

وأتاه أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام، فقال: يا ابن عمّ! إنّ الرحم تضارّني عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: «يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغش ولا يُتّهَم، فقُل». فقال: قد رأيتَ ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم؟ وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن قد وعدك أنْ ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّ إليه ممّن ينصره، فأُذكّرك الله في نفسك. فقال: «جزاك الله يا ابن عمّ خيراً، فلقد اجتهدتَ رأيك، ومهما يقضي الله مِن أمرٍ يكن». فقال أبو بكر: إنّا لله، عند الله

ص: 25

نحتسب أبا عبد الله ((1)).

وقال البلاذريّ:

قالوا: ولمّا كتب أهلُ الكوفة إلى الحسين بما كتبوا به، فاستحفّوه للشخوص، جاءه عمر[و] بن عبد الرحمان بن حارث بن هشام المخزوميّ بمكّة، فقال له: بلغني أنّك تريد العراق، وأنا مشفِقٌ عليك من مسيرك، لأنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمَنُ عليك أنْ يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه. فقال له: «قد نصحتَ، ويقضي الله» ((2)).

وقال الطبريّ:

قال هِشام: عن أبي مِخنَف: حدّثَني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ قال:

لمّا قدمَت كتبُ أهل العراق إلى الحسين، وتهيّأ للمسير إلى العراق، أتيتُه فدخلتُ عليه وهو بمكّة، فحمدتُ الله وأثنيتُ عليه، ثمّ قلت: أمّا بعد، فإنّي أتيتُك يا ابن عمّ لحاجةٍ أُريد ذِكرها لك

ص: 26


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، ابن عساكر، الحسين (علیه السلام) ط المحموديّ: 202، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.

نصيحة، فإنْ كنتَ ترى أنّك تستنصحني، وإلّا كففتُ عمّا أُريد أن أقول. فقال: «قُل، فوَاللهِ ما أظنّك بسيّئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل».

قال: قلتُ له: إنّه قد بلغَني أنّك تريد المسير إلى العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك من مسيرك، إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيدٌ لهذا الدرهم والدينار، ولا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد واللهِ علمتُ أنّك مشيتَ بنصحٍ وتكلّمتَ بعقل، ومهما يقضِ من أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أو تركتُه، فأنت عندي أحمدُ مُشيرٍ وأنصحُ ناصح».

قال: فانصرفتُ من عنده، فدخلتُ على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام، فسألني: هل لقيتَ حسيناً؟ فقلت له: نعم. قال: فما قال لك؟ وما قلتَ له؟ قال: فقلتُ له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا. فقال: نصحتَه وربِّ المروة الشهباء، أما وربِّ البنية إنّ الرأي لما رأيتَه، قبله أو تركَه. ثمّ قال:

رُبَّ مستنصَحٍ يغشّ ويُردي

وظنينٍ

بالغيب يلفى نصيحا ((1))

ص: 27


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.

وقال ابن أعثم:

قال: وبلغ الحسين بن عليٍّ بأنّ مسلم بن عقيلٍ قد قُتل (رحمة الله) ، وذلك أنّه قَدِم عليه رجُلٌ من أهل الكوفة، فقال له الحسين: «مِن أين أقبلتَ؟»، فقال: من الكوفة، وما خرجتُ منها حتّى نظرتُ مسلم ابن عقيلٍ وهانئ بن عروة المذحجيّ (رحمهما الله) قتيلَين مصلوبَين منكَّسَين في سوق القصّابين، وقد وُجّه برأسيهما إلى يزيد بن معاوية. قال: فاستعبر الحسين باكياً، ثمّ قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».

ثمّ إنّه عزم على المسير إلى العراق، فدخل عليه عمر[و] بن عبد الرحمان [بن الحارث] بن هِشام المخزوميّ، فقال: يا ابن بنت رسول الله، إنّي أتيتُ إليك بحاجةٍ أُريد أن أذكرها لك، فأنا غير غاشٍّ لك فيها، فهل لك أن تسمعها؟ فقال الحسين: «هات، فواللهِ ما أنت عندي بسيّئ الرأي، فقُل ما أحببت». فقال: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك من ذلك، إنّك تردُ إلى قومٍ فيهم الأُمراء، ومعهم بيوت الأموال، ولا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن أنت أحبّ إليه من أبيه وأُمّه، ميلاً إلى الدينار والدرهم، فاتّقِ الله ولا تخرج من هذا الحرم. فقال له الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد علمتُ أنّك أمرتَ بنصح، ومهما يقضي الله من أمرٍ فهو كائن، أخذتُ برأيك أمتركتُه».

قال: فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:

ص: 28

رُبّ

مُستنصحٍ سيعصي ويؤذي

ونصيحٍ

بالغيب يلفى نصيحا ((1))

وقال المسعوديّ:

ودخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين، فقال: يا ابن عمّ، إنّ الرحم يُظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك. فقال: «يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغش ولا يُتّهم، فقُل».

فقال أبو بكر: كان أبوك أقدم سابقةً، وأحسن في الإسلام أثراً، وأشدّ بأساً، والناس له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار الى معاوية والناس مجتمعون عليه، إلّا أهل الشام، وهو أعزّ منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه؛ حرصاً على الدنيا وضنّاً بها، فجرَّعوه الغيظ وخالفوه، حتّى صار الى ما صار اليه من كرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدْتَ ذلك كلَّه ورأيتَه، ثمّ أنت تريد أن تسير الى الّذين عَدَوا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهلَ الشام وأهلَ العراق، ومَن هو أعدّ منك وأقوى، والناس منه أخوف وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغَوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّ إليه ممّنينصره، فاذكر الله في نفسك.

فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقضِ الله يكن». فقال: إنّا لله، وعند الله نحتسب يا أبا

ص: 29


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

عبد الله.

ثمّ دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هِشام المخزوميّ والي مكّة، وهو يقول:

كم نرى

ناصحاً يقول فيُعْصى

وظنين المغيب يُلْفى نصيحاً

فقال: وما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحتَ له وربِّ الكعبة ((1)).

وقال مسكوَيه:

لقيَه عمرُ بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ، فقال له _ وقد قدمَتْ عليه كتبُ العراق _ : يا ابن عمّ، إنّي أتيتُ لحاجةٍ أُريد ذِكرها لك نصيحة، فإنْ كنتَ ترى أنّك مستنصحي قلتُها وأدّيتُ ما علَيّ من الحقّ فيها، وإنْ ظننت أنّك لا تستنصحني كففتُ عمّا أُريد أن أقول. قال: فقال: «قُل، فواللهِ ما أستغشّك، وما أظنّك بشيءٍ من الهوى لقبيحٍ من القول والفعل».قال: قلتُ: بلغَني أنّك تريد السير إلى العراق، وإنّي أُشفق أن تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيدٌ لهذه الدراهم والدنانير، فلا آمَنُ أن يقاتلك مَن وعدك بنصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، مهما يقضِ يكن،

ص: 30


1- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56.

وأنت عندي أحمدُ مشيرٍ وأنصحُ ناصح» ((1)).

وقال الخوارزميّ:

فدخل عليه عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ، فقال: يا ابن رسول الله، أتيتُك لحاجةٍ أُريد أن أذكرها لك، وأنا غيرُ غاشٍّ لك فيها، فهل لك أن تسمعها؟ فقال: «قُل ما أحببت».

فقال: أُنشدك الله _ يا ابن عمّ! _ أنْ لا تخرج إلى العراق؛ فإنّهم مَن قد عرفتَ، وهم أصحاب أبيك، وولاتهم عندهم وهم يجبون البلاد، والناس عبيد المال، ولا آمَنُ أن يقاتلك مَن كتب إليك يستقدمك.

فقال الحسين: «سأنظر فيما قلت، وقد علمتُ أنّك أشرت بنصح، ومهما يقضِ الله من أمرٍ فهو كائنٌ البتّة، أخذتُبرأيك أم تركت».

فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:

رُبَّ

مستنصحٍ سيعصى ويؤذي

ونصيحٍ

بالعيب يلفى نصيحا ((2))

وقال ابن شهرآشوب:

فلمّا عزم الحسين على الخروج، نهاه عمرو بن عبد الرحمان بن هِشام المخزوميّ، فقال: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، مهما يقضِ

ص: 31


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.

يكن، وأنت عندي أحمدُ مشيرٍ وأنصحُ ناصح» ((1)).

وقال ابن الأثير والنويريّ:

قيل: لمّا أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه، أتاه عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام وهو بمكّة، فقال له: إنّي أتيتُك لحاجةٍ أُريد ذِكرها نصيحةً لك، فإنْ كنتَ ترى أنّك مستنصحي قلتُها وأدّيتُ ما علَيّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنّك لا مستنصحي كففتُ عمّا أريد. فقال له: «قُل، فواللهِ ما أستغشّك، وما أظنّك بشيءٍ من الهوى».

قال له: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك، إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناسعبيد الدينار والدرهم، فلا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال له الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد علمتُ أنّك مشيتَ بنصحٍ وتكلّمت بعقل، ومهما يقضِ مِن أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أو تركتُه، فأنت عندي أحمدُ مشيرٍ وأنصحُ ناصح» ((2)).

وقال ابن نما:

وجاء إليه (علیه السلام) أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحرث بن هِشام، فأشار

ص: 32


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

إليه بترك ما عزم عليه، وبالغ في نُصحه، وذكّره بما فُعل بأبيه وأخيه، فشكر له وقال: «قد اجتهدتَ رأيك، ومهما يقضِ الله يكن». فقال: إنّا عند الله نحتسبك.

ثمّ دخل أبو بكر على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزوميّ وهو يقول:

كم ترى ناصحاً يقول فيُعصى

وظنين المغيب

يلفى نصيحا

قال: فما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين (علیه السلام) ، قال: نصحتَ له وربِّ الكعبة ((1)).وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ:

وكان الحسين بن عليّ (علیهما السلام) بعد أن سيّر ابنَ عمّه مسلم بن عقيلٍ إلى الكوفة، لم يُقِمْ بعده إلّا قليلاً حتّى تجهّز للمسير في أثره بجميع أهله ووُلده وخاصّته وحاشيته.

فأتاه عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ، فقال: إنّي جئتك لحاجةٍ أُريد ذِكرها نصيحةً لك، فإن كنتَ ترى أنّك مستنصحي قلتُها لك وأدّيتُ ما يجب علَيّ من الحقّ فيها، وإنْ ظننتَ أنّي غيرُ ناصحٍ لك كففتُ عمّا أُريد أن أقوله لك. فقال: «فواللهِ ما أستغشّك، وما أظنّك بشيءٍ من الهوى».

فقال له: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك أن تأتي

ص: 33


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

بلداً فيها عمّال يزيد وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد الدراهم والدنانير، فلا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك، وذلك عند البذل وطمع الدنيا.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «جزاك الله خيراً من ناصح، لقد مشيتَ _ يا ابن عبد الرحمان _ بنصح، وتكلّمتَ بعقل، ولم تنطق عن هوى، ولكنْ مهما يقضى من أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أمتركت، مع أنّك عندي أحمدُ مشيرٍ وأعزُّ ناصح» ((1)).

وقال صفوت:

ودخل أبو بكر عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام على الحسين، فقال: يا ابن عمّ، إنّ الرحم يظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك. فقال: «يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغشّ».

فقال أبو بكر: كان أبوك أشدَّ بأساً، والناس له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه، إلّا أهل الشأم، وهو أعزّ منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه؛ حرصاً على الدنيا وضنّاً بها، فجرّعوه الغيظ وخالفوه، حتّى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد

ص: 34


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

شهدتَ ذلك كلَّه ورأيتَه، ثمّ أنت تريد أن تسير إلى الّذين عدَوا على أبيك وأخيك، تقاتل بهم أهلَ الشأم وأهلَ العراق، ومَن هو أعدّ منك وأقوى والناسُ منه أخوف وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لَاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّ إليه ممّن ينصره، فاذكر الله في نفسك.فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقضِ الله يكن». فقال: وعند الله نحتسب أبا عبد الله ((1)).

* * * * *

هذه جملة النصوص الّتي وردَت في اللقاء الّذي جرى بين عمر بن عبد الرحمان المخزوميّ وبين الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويمكن أن نتناول ما جاء فيها من خلال الأشواط التالية:

الشوط الأوّل: مَن هو عمر بن عبد الرحمان المخزوميّ؟

هو عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، أخو أبي بكر، وُلد يوم مات عمر.

ص: 35


1- جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

روى عن: أبي هريرة، وأبي بصرة الغِفاريّ، وعائشة، وجماعةٍ من الصحابة، وعن أخيه أبي بكر بن عبد الرحمان.

روى عنه: عبد الملك بن عمير، وعامر الشعبيّ، وحمزة بن عمر، والعائذيّ الضبيّ.

عاش إلى أن ولّاه ابن الزبير الكوفة، ثمّ صار مع الحَجّاج، ومات بعدالسبعين ((1)).

وخلاصة توليته الكوفة من قِبَل ابن الزبير:

إنّ المختار كان قد أخرج ابن مطيع واليَ ابن الزبير على الكوفة، ثم توقّع أن يُرسل إليه جيشاً لِما فعل بابن مطيع، فكتب إليه كتاباً، فلمّا قرأ ابنُ الزبير كتابه دعا عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام، فقال له: قد ولَّيتُك الكوفة، فسِرْ إليها. فقال: وكيف وبها المختار؟ قال: قد كتب لي أنّه سامعٌ مطيعٌ لي.

فسار عمر إليها، وبلغ المختار خبره، فوجّه زائدة بن قدامة الثقفيّ ومعه مسافر بن سعيد بن نمران الناعطيّ في خمسمئة دارعٍ ورامح، ومعه سبعون ألف درهم، وقال: إذا لقيتَه فقُل له عنّي: بلغني أنّك قد تكلَّفتَ لسفرك خمسةً وثلاثين ألف درهم، وهذه سبعون ألف درهم، فخُذها وانصرف، فإن أبى ذلك فأره أصحاب مسافر وحذّره

ص: 36


1- تقريب التهذيب لابن حجَر: 1 / 722، وانظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 7 / 416، التحفة اللطيفة للسخاويّ: 2 / 344.

إيّاهم.

فلمّا لقيه زائدة أدّى إليه رسالة المختار، فقال: ما أنا بقابلٍ مالاً، ولابدّ لي من النفوذ لأمر أمير المؤمنين! فدعا زائدة بالخيل، وقد كان أكمنها، فقال: إنّي محاربك بمَن ترى، ووراءهم مثلهم ومثلهم. فقال عمر: أمّا الآن فقد وجب العذر، وهذا أجمل بي.فأخذ السبعين الألف، فاستحيا من الرجوع إلى مكّة، فصار إلى البصرة فأقام بها، وذلك في إمارة القباع الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقبل قدوم مصعب بن الزبير البصرة ((1)).

هذه خلاصة ما حصلنا عليه في ترجمته، ويبدو من جوّ روايته أنّه من القوم، ومِن تقلُّبه بين ابن الزبير والحَجّاج ومقايضته الولاية بالمال ومجانبة القتال أنّه يحبّ العافية ويبحث عن الدعة، وقد عرفه المختار إذ هيّأ له ضعف المال الّذي زوّده ابن الزبير، وجهّز له كميناً ينكشف له إذا أراد أن يتريّث في المقايضة بالمال، فهو خاضعٌ للترغيب والترهيب، متقلّبٌ بين الصفراء والظلال والأفياء.

ص: 37


1- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 416، وانظُر أيضاً: المنتظم لابن الجَوزيّ: 6 / 59، الكامل لابن الأثير: 4 / 246، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 304، نهاية الأرب للنويريّ: 21 / 35.

الشوط الثاني: ينصح سيّد الكائنات!

ثَمّة ملاحظتان هنا ينبثقان معاً..

فمن جهة:

إنّ من هوان الدنيا على الله وعلى الإمام (علیه السلام) ، أن لا يبقى أحدٌ ممّن هَبّ ودبّ وانطلق لسانُه فتعلّم الكلام وصار يعرف الحروف الأبجديّة ومخارجها، حتّى تقدّم بين يدَي سيّد الكائنات وإمام الخلائق وخامسأصحاب الكساء وعَيبة عِلم الله المفترض الطاعة، ليقدّم له النصح ويُبدي له الرأي ويشير عليه.

فمَن هو هذا عمر المخزوميّ حتّى يأتي قاصداً من دون أن يُدخِله الإمام (علیه السلام) في مشورةٍ لينصح؟! بغضّ النظر عن نواياه ودوافعه الّتي سيأتي الحديث عنها بعد قليل.

لك الله يا غريب الغرباء!

ومن جهةٍ أُخرى:

نلحظ عظمة الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) في تواضعه وحِلمه، واستماعه وقبوله من جميع رعيّته، ومداراته لهم، وإجابتهم كلٌّ بسعة إنائه وقدر وعيه وإدراكه وحسب نيّته وكوامنه، وأحياناً حسب ظواهره.

ص: 38

الشوط الثالث: متى حصل اللقاء؟

اشارة

• لمّا كتب أهلُ الكوفة إلى الحسين بما كتبوا به فاستحفّوه للشخوص ((1)).

• لمّا قدمَت كتبُ أهل العراق إلى الحسين، وتهيّأ للمسير إلى العراق ((2)).

• [بعد أن بلغه خبر شهادة مسلم (علیه السلام) ] ثمّ إنّه عزم على المسيرإلى العراق ((3)).

• لقيه عمر، وقد قدمَت عليه كتبُ العراق ((4)).

• فلمّا عزم الحسين على الخروج، نهاه عمرو ((5)).

• لمّا أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه ((6)).

• وكان الحسين بن عليٍّ بعد أن سيّر ابنَ عمّه مسلم بن عقيلٍ إلى الكوفة، لم يقم بعده إلّا قليلاً حتّى تجهّز للمسير في أثره بجميع أهله ووُلده وخاصّته وحاشيته، فأتاه عمر ((7)).

ص: 39


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.
4- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321.
6- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.
7- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

في هذه النصوص توقيتاتٌ إجماليّةٌ متّفقةٌ أو متقاربةٌ جدّاً، يمكن تحديدها من خلال التحديدات التالية:

التحديد الأوّل: لمّا كتب أهل الكوفة

حدّد البلاذريّ ومسكويه وقتَ اللقاء بوقت كتابة أهل الكوفة ((1)) حين قدمَت عليه كتب العراق ((2))، واقتصرا على ذلك، ولم يشيرا إلى تزامن اللقاء مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والمفروض أن تكون ثَمّة فترةٌ بين كتابتهم وقدوم كتبهم وبين حركة الإمام (علیه السلام) .

إلّا أن يقال: إنّ مرادهما هو نفس ما أفاده غيرهما، وهو بعيدٌ عنالسياق.

التحديد الثاني: لمّا تهيّأ الإمام (علیه السلام) للمسير

أفاد جماعةٌ أنّ اللقاء تمّ بعد أن قدمَت كتب أهل العراق وتهيّأ الإمام للمسير ((3))، فلمّا عزم على الخروج نهاه عمرو ((4))..

فهو لم يلتقه بمجرد أن قدمَت كتب أهل الكوفة، وإنّما التقاه بعد أن

ص: 40


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321.

تهيّأ للمسير وعزم على الخروج، أي: قُبيل خروجه من مكّة.

ويبدو لمن تتبّع أحداث مكّة أنّ أكثر هذه اللقاءات والمحاورات والاعتراضات حصلَت في الأيّام القلائل أبان خروج الإمام (علیه السلام) أو متزامنةً مع خروجه.

أمّا قبل تلك الأيّام، فلا تجد ثَمّة حركةً ملحوظةً في مراجعة الإمام (علیه السلام) ، وكأنّ شيئاً لم يكن، إلّا بمقدار التغيُّرات العامّة والإرهاصات والتوجُّسات والتوقُّعات الناتجة عن تغيُّر الحاكم وتبديل القرود.

التحديد الثالث: بعد خبر شهادة مسلم (علیه السلام)

هذا التحديد وما يأتي بعده تابعٌ للتحديد الثاني، بَيد أنّنا أفرزناها لوجود خصوصيّةٍ في النصّ.فقد ذكر ابن أعثم أنّه التقاه بعد أن بلغه خبر شهادة المولى الغريب مسلم (علیه السلام) ، فعزم الإمام (علیه السلام) على المسير إلى العراق ((1))، وفي ترتيب الخروج على بلوغ خبر شهادة مسلم (علیه السلام) غرابةٌ أتينا على مناقشتها في الأقسام الماضية من دراستنا لظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، فلا نعيد.

ولكن ينبغي التنبيه هنا أنّ ابن أعثم جعل بلوغ خبر شهادة مسلم من خلال رجُلٍ من أهل الكوفة وصل إلى مكّة، فأخبر سيّدَ الشهداء

ص: 41


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

بمشاهداته، وأنّه لم يخرج من الكوفة حتّى نظر بعينه إلى مسلم وهاني قتيلَين مصلوبَين منكّسَين في سوق القصّابين، وقد وُجّه برأسيهما إلى يزيد، ثمّ عزم على المسير إلى العراق.

وهذا يعني أنّ قتلهما (علیهما السلام) قد مضى عليه فترةٌ طويلةٌ لا تقلّ عن عشرين يوماً، وهي أقلّ ما يمكن افتراضه للمسافر المُجِدّ من الكوفة إلى مكّة، ونحسب أنّ ما في الخبر يكفي عن مناقشته!

وأفاد ابن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ أنّ الإمام كان قد سيّر ابن عمّه مسلم بن عقيل (علیهما السلام) إلى الكوفة، ولم يُقم الإمامُ بعده إلّا قليلاً حتّى تجهّز للمسير في أثره، فحينئذٍ أتاه عمر ((1)).

فهو وإن أفاد أنّ اللقاء قد تمّ عند الخروج حين تجهّز الإمام للمسير،بَيد أنّ قوله أنّ الإمام (علیه السلام) لم يُقم بعد المولى الغريب مسلم (علیه السلام) إلّا قليلاً فيه مسحة استعجال، إذ أنّ المولى الغريب (علیه السلام) خرج من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة في الخامس عشر من شهر رمضان، وخرج الإمام في ذي الحجّة، أي: إنّه خرج بعده بما يربو على الشهرين ويقارب الثلاث شهور، وهي مدّةٌ ليست بالقليلة بالقياس إلى فترة حركة الإمام من المدينة إلى كربلاء، بل هي ليست قليلةً حتّى مع عدم القياس والمقارنة.

ص: 42


1- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
التحديد الرابع: لما أراد المسير إلى الكوفة؟

هذا التحديد هو نفس التحديد السابق، وليس الفرق في تحديد الوقت إلّا بالعبارة، إذ قال ابن الأثير والنويريّ: «لمّا أراد الحسين المسير إلى الكوفة»..

غير أنّنا أفردناه هنا، للتنويه إلى إشارةٍ يمكن التقاطها من قولهما: «بكتب أهل العراق إليه» ((1))، الّتي تفيد بوضوحٍ من خلال استخدام (الباء) العلّيّة والسببيّة، فكأنّ النصّ يريد أن يغذّي المتلقّي أنّ سبب مسير الإمام (علیه السلام) إلى العراق إنّما هو كتب أهل العراق على وجه الخصوص والحصر! وليس الأمر كذلك، وقد أشرنا إلى ذلك في أكثر من موردٍ مضى، وسيأتي البحث مفصَّلاً فيه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

الشوط الرابع: قصد الإمام (علیه السلام)

يُستفاد من كلمات المؤرّخين وتعبير المخزوميّ نفسه: «أتيتُك» أو «أتيتُ إليك» وما شاكل، أنّه قد قصد الإمام (علیه السلام) قصداً، ولم يكن لقاؤه عابراً، كأن يكون قد جمعه الطريق معه أو اجتمعا في البيت الحرام من دون موعدٍ مسبَق، وإنّما قد تجشّم المخزوميّ وخرج من رَحْله عازماً على لقاء الإمام (علیه السلام) وتقديم ما لديه بين يديه (علیه السلام) .

ص: 43


1- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

الشوط الخامس: أدب الخطاب!

إبتدأ المخزوميّ كلامه بالحمد والثناء، ثمّ خاطب الإمام ب-- (ابن العمّ)، وفي هذا الخطاب نغمة استعطاف الرحِم والتوسّل بها، وفي إثارة أواصر القرابة دفيءٌ ووداعةٌ وهدوءٌ يسكن إليه المخاطب، ويجلّل المشهد بظلال المحبّة والمودّة والزلفى.

وفي لفظ صفوت: «فقال: يا ابن عمّ، إنّ الرحم يظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك» ((1)).

وفي هذا تصريحٌ أنّ الدافع المحرّك الّذي دفع المخزوميّ للتقدّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) إنّما هو استشعار مساس الرحِم وواشج القرابة والتحمّسلها.

وفي بعض الألفاظ: «يا ابن بنت رسول الله»، وفي بعضها: «يا ابن رسول الله».

وهي جميعها تعبيراتٌ تكتنز معاني الاحترام والتقدير والتعظيم والتبجيل والتودّد والاستعطاف.

ويلفت الانتباه أنّ المخزوميّ جعل ما يريد البوح به وطرحه بين يدَي الإمام (علیه السلام) حاجة، وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) معدن الكرم والجود والعطاء،

ص: 44


1- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

فحين عرض نفسه على الإمام (علیه السلام) بهيئة المحتاج الّذي قصد مَن لا يخيب عنده سائلٌ ولا يُردّ في محضره محتاج، فكأنّه يستعطي الإمام (علیه السلام) ويتوسّل إليه.

وربّما يُفهم من قوله: «إنّي أتيتُك يا ابن عمّ لحاجة» أو «أتيتُ إليك بحاجة»، أنّها حاجةٌ له شخصيّاً، فكأنّه يستشعر ما يتعرّض له الإمام (علیه السلام) ويعدّه حاجةً له.

الشوط السادس: الاستئذان!

من مفردات أدبه في الخطاب أيضاً أنّه لم يقتحم على الإمام (علیه السلام) اقتحاماً وينطلق بالكلام بين يديه حتّى استأذنه، وسأله إن كان يقبله في مقام الاستنصاح أو لا، فإنْ قبِلَه تكلّم، وإلّا كفّ عمّا يريد أن يقول ((1)).

وأكّد للإمام (علیه السلام) عن سلامة ما ينطوي عليه، فهو غير غاشٍّ للإمام (علیه السلام) ((2))، ولا يقصد ممّا أقدم عليه سوى أن يكون قد أدّى ما عليه من الحقّ في النصيحة ((3)).

ص: 45


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
3- أُنظر: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

وبعد كلّ هذه التأكيدات، رجا الإمامَ (علیه السلام) أن يسمعها إنْ أحبّ ورأى فيه مُستمَع، فقال: فهل لك أن تسمعها؟ ((1))

الشوط السابع: جواب الإمام (علیه السلام) على الاستئذان

تضمّن جواب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عدّة أُمورٍ يمكن أن تسجّل شهاداتٍ للمخزوميّ، إذ أنّه أذن له وقال: «قل.. هات..»، وخاطبه (علیه السلام) في لفظ صفوت بكنيته، فقال: «يا أبا بكر» ((2))،ثمّ علّل (علیه السلام) استعداده للسماع منه بالأُمور التالية:

«فوالله ما أظنّك (ما أنت عندي) بسيّء الرأي» ((3)).

«فوالله ما أستغشّك» ((4))، «ما أنت ممّن يستغشّ» ((5)).

ص: 46


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
2- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.
4- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
5- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

«ما أظنّك بشيءٍ من الهوى ((1)) لقبيحٍ من القول والفعل» ((2)).

«ولا هو للقبيح من الأمر والفعل» ((3)).

ثمّ فرّع (علیه السلام) على ذلك بقوله: «فقل ما أحببت» ((4)).

وبهذا، فقد شهد الإمام (علیه السلام) للمخزوميّ، وقد أقسم على ما قال أنّه ليس سيّء الرأي، وليس هو ممّن يستغشّ مطلقاً، وليس ممّن يستغشّه الإمام (علیه السلام) ، وليس ما يقدم عليه بدافع الهوى، كما كان يفعل ابن الزبير وغيره مثلاً.

وربّما أشعر قول الإمام (علیه السلام) : «ما أظنّك بشيءٍ من الهوى ((5)) لقبيحٍ من القول والفعل» ((6))، أن ليس للمخزوميّ سابقةٌ سيّئةٌ في القول والفعل تجعل المخاطب يشكّك في موقفه.

وربّما كان المقصود من نفي القُبح من الأمر والفعل هو ما يُشعِر به لفظ

ص: 47


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
5- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
6- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.

الطبريّ: «ولا هو للقبيح من الأمر والفعل» ((1))، فهو قد يوحي أنّ ما تتقدّم به ليس هو لأمرٍ قبيحٍ ولا لفعلٍ قبيح، فيكون القبح قد انتفى عن فعل الإمام (علیه السلام) وأمره.

أو أنّ المخزوميّ قد تقدّم بنيّةٍ حسنة، لا يقلع فيها عن قبح القول والفعل والأمر.كيف كان، فإنّ هذه الباقة من الشهادات الواردة في رواية المؤرّخ! تمنح المخزوميّ شاراتٍ وأوسمةً من خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، تكشف عن سلامة نواياه في موقفه هذا على وجه الخصوص، والتعدّي من هذا الموقف إلى غيره يحتاج إلى مؤونةٍ وشواهد ومؤيّداتٍ تفيده.

إنّ الّذين تقدّموا بين يدَي الإمام (علیه السلام) ألوانٌ وأشكالٌ تختلف نواياهم ودوافعهم ومحركاتهم، فنوايا ابن الزبير تختلف تماماً عن نوايا الطيّب ابن الطيّب عبد الله بن جعفر، وهكذا..

وهذا الرجل قد نازعَته جذور الرحِم ووشائج القرابة، فانبرى بين يدَي إمامه ليقول رأيه بعد أن استأذن الإمام (علیه السلام) وأكّد له أنّه لا يتكلّم عنده إلّا إذا أحرز أنّه مأمونٌ مقبولٌ عنده، فأكّد له الإمام (علیه السلام) سلامة نيّته ونظافة دوافعه في ذلك الموقف.

* * * * *

ص: 48


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.

صلّى الله عليك يا إمام الرحمة، ويا معدن الحِلم وأُصول الكرم، حين فتحتَ صدرك المبارك المقدَّس عَيبةَ عِلم الله وخُزانة أسراره لرجلٍ مندفعٍ جاءك تحرّكه الرحِم وتدفعه القرابة، فأخبرتَ عن سلامة طويّته وصحّة نيّته، وشرّعتَ له أبواب الحديث وقلتَ له: قُل ما أحببت! ووقفتَ تستمع إليه، ليُفرغ ما في صدره ويقول ما في كوامنه.

ما أعظمك يا سيّدي وسيّد الكائنات، وما أعظم غربتك يا غريبالغرباء!

الشوط الثامن: كلام المخزوميّ

اشارة

تقدّم المخزوميّ بكلامٍ بين يدَي خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فابتدأ كأنّه يخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ أعرب عن هواجسه وإشفاقه على الإمام (علیه السلام) من مسيره إلى بلدٍ فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، ولبيوت الأموال دورها في التأثير على الناس، لأنّهم عبيد الدينار والدرهم، فإذا خطف بريقُ الدنيا أبصارهم وأعشى لمعان الصفراء والبيضاء بصائرهم، وارتكسوا في قيعان لذّاتهم وانغمسوا في مستنقعات شهواتهم، وخلدوا إلى الطين وأعرضوا عن الآخِرة والحقّ واليقين، وأثقلهم وسواس الترغيب والترهيب ودعاهم إلى الإصغاء لهتوف الشياطين، انقلبوا على أعقابهم ناكصين، فقاتلوا سيّدهم وإمامهم، وانفلتوا من التزاماتهم، وتملّصوا من عهودهم، فنكثوا العهود وأخلفوا الوعود بالنصرة، وأبدلوها قتلاً ذريعاً

ص: 49

وقتالاً شديداً مريعاً، وتحوّل غليانهم من الحقّ إلى الباطل، فتوحّشوا وجاؤوا بالفعل الشنيع الفظيع، وربّما كانوا مع ذلك قد جحدوا به واستيقنت أنفُسُهم أنّه (علیه السلام) لابدّ أن يكون أحبّ إليهم ممّن يقاتلونه معه ((1))..هكذا هي خلاصة ما تقدّم به المخزوميّ بين يدَي الإمام (علیه السلام) ..

وأضاف ابن أعثم: أنّ المخزوميّ فرّع على ما ذكره اقتراح لزوم الحرم وعدم الخروج منه ((2)).

وانفرد _ حسب الفحص _ صفوت _ وهو متأخّرٌ من أبناء القرن الرابع عشر الهجريّ _ بألفاظٍ فيها شيءٌ من التفصيل، وإنْ كانت في مجموعها تحكي ما ذكره غيره، فقال:

فقال أبو بكر: كان أبوك أشدَّ بأساً، والناسُ له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه، إلّا أهل الشأم، وهو أعزّ منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه، حرصاً على الدنيا وضنّاً بها، فجرّعوه الغيظ وخالفوه، حتّى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد

ص: 50


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373، تاريخ الطبريّ: 5 / 382، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

شهدتَ ذلك كلَّه ورأيتَه، ثمّ أنت تريد أن تسير إلى الّذين عدَوا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشأم وأهل العراق، ومَن هو أعدّ منك وأقوى، والناس منه أخوف وله أرجى! فلو بلغهم مسيرك إليهم لَاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّإليه ممّن ينصره، فاذكر الله في نفسك ((1)).

نحسب أنّ جميع ما ذكره المخزوميّ قد مرّ علينا فيما سبق من الدراسات على لسان المعترضين، على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم ومنطلقاتهم، فلا حاجة للإعادة والمناقشة، ونكتفي هنا بالإشارة العجلى إلى جملةٍ من الميّزات الّتي امتاز بها طرح المخزوميّ:

الميزة الأُولى: الإشفاق

يُلاحَظ أنّه استعمل لفظ (الإشفاق)، ولهذه المفردة دلالةٌ خاصّةٌ، وإيقاعٌ مميَّزٌ، وإشعارٌ فيه دفءٌ وحنانٌ وعطفٌ يضفي على الكلام جوّاً من الوداعة والأدب، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيه في غضون الكلام عن الجواد الكريم المولى عبد الله بن جعفر، فلا نعيد.

ص: 51


1- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.
الميزة الثانية: اقتراح البقاء في مكّة!

يُلاحَظ أيضاً أنّه لم يقترح على الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة من أجل تجميع الأنصار والإعداد والمكاتبة والدعوة إلى البيعة من أجل مواجهة الطاغوت لأيّ غرضٍ كان، وقد اكتفى بالتذكير بظروف الكوفة وأهلها..

وما ورد في نصّ ابن أعثم اقتصر على طلب المكث والبقاء في مكّة،لأنّها البلد الآمن الّذي يمكن أن يوفّر _ حسب القوانين الدينيّة والعرفيّة في الجاهلية والإسلام _ الأمنَ والاطمئنان لجميع خَلْق الله الصامت والناطق.

الميزة الثالثة: رسم الواقع وتصوير المشهد

يُلاحَظ أيضاً أنّه يخاطب الإمام (علیه السلام) وهو عالمٌ أنّ أمر أهل الكوفة لا يخفى عليه (علیه السلام) ، وأنّه عالمٌ بهم وبسلوكهم وغدرهم، وميلهم إلى الدينار والدرهم والدنيا، وطبيعة الطمع الّذي نشئوا عليه، وتقلّبهم وانصياعهم لمالك بيت المال أيّاً كان.

ويُلاحَظ أنّ جميع ما ذكره المخزوميّ في كلامه صحيح، يرسم الواقع الكوفيّ يومذاك بدقّة، ويصوّر المشهد كما هو، فالكوفة كانت بأيدي الولاة، وهم مسيطرون حاكمون متسلّطون، يملكون العدّة والعدد والمال والسلاح والعسكر والخيل والرجال، وأنّ الناس عبيد الدنيا، والطمع معرّقٌ فيهم، يميلون إلى الدينار والدرهم، وما الدين إلّا وسيلةً يحقّقون به أهواءهم وآمالهم، فإذا أضرّ بدنياهم قلّ الديّانون، تماماً كما وصفهم سيّد

ص: 52

الشهداء (علیه السلام) وإمامُ الفصحاء والبلغاء.

فليس في كلام المخزوميّ إلّا ما هو حقيقةٌ تمشي على الأرض، وتتمثّل في المجتمع يومذاك، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان.

يبقى أنّ على المخزوميّ الّذي عرف أهل الكوفة ودقّق في الموقف أنيتمّم الصورة، ويضع اللمسات الأخيرة على المشهد من خلال الإشارة إلى بطش الأعداء وجرأتهم على هتك الحرمات، وأنّهم لا يرعون لله ولا لرسوله (صلی الله علیه و آله) حرمة، وهم قد عزموا على قتل الإمام (علیه السلام) كيف اتّفق وأين ما اتفق، فإذا بقي الإمام (علیه السلام) في مكّة فإنّهم سينتهكون حرمة دمه الزاكي وحرمة البيت الحرام.

فماذا يفعل إذن؟!

أيبقى في مكّة مهما كلّف الأمر، ولو على حساب الحرمات؟ فهذا ما لا يحبّه الإمام (علیه السلام) ولا يريده، وهو بنفسه حرمة الحرمات وأعظمها وحاميها وحافظها.

* * * * *

وسنسمع بعد قليلٍ جواب الإمام (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء، ليكشف لنا عن سلامة موقف المخزوميّ على مستوى النوايا والتقديرات الأوّليّة.

ص: 53

الشوط التاسع: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

إقتصر البلاذريّ على ذِكر جوابٍ مقتضب، غير أنّه معبّر:

فقال له: «قد نصحتَ، ويقضي الله» ((1)).ثمّ جاء الطبريّ _ كالعادة _ بالتفصيل، وتتابع القومُ من بعده.

لذا سنتابع التفصيل من خلال المقاطع التالية:

المقطع الأوّل: شهاداتٌ على السلامة

قد خاطبه الإمام (علیه السلام) ب-- (ابن العمّ) ((2))، وفي ذلك إشعارٌ لطيفٌ ومقابلة خطاب المخزوميّ نفسه وتوسيط الرحِم والقرابة، وما يتضمّنه هذا التعبير من عطفٍ ووداد.

ثمّ جزّاه خيراً ((3))، وأقسم ((4)) أنّه علم أنّ المخزوميّ مشى وأمر وأشار

ص: 54


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، جمهرة خُطب العرب لصفوت: 2 / 45، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
3- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
4- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 382.

بنصح ((1))، وتكلّم بعقل ((2))، ولم ينطق عن هوى ((3)). وأنّه قد أجهده رأيه ((4)).

هذه كلّها شهاداتٌ من سيّد الشهداء (علیه السلام) والعالم بالخلق على سلامة هذا الموقف، وصحّة التقدير، ونظافة الطويّة، وقوّة التشخيص، ورشد الرأي، وسداد النظر، وخلوّ الدوافع من الدغش والغشّ والغلّ..

المقطع الثاني: الوعد بالنظر

وعده الإمام _ حسب نصّ الخوارزميّ _ أنّه سينظر فيما قال، لأنّ كلامه كان على مستوىً من الصواب قرّره عليه الإمام (علیه السلام) ، فاستحقّ أن ينظرفيه، وهذا من عظيم أخلاق الإمام (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء.

ثمّ أرجع الإمام (علیه السلام) الأمر إلى ما يقضي الله، وأنّه كائنٌ ألبتّة، أخذ برأيه

ص: 55


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
4- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56.

أو تركه، فقال:

«سأنظر فيما قلتَ ((1))، ولكنْ مهما يقضي الله من أمرٍ يكن، (أو: فهو كائنٌ ألبتّة)، أخذتُ برأيك أو تركتُه» ((2)).

هذه خلاصة الألفاظ الواردة في المصادر لهذا المقطع من الجواب، وفيه من المداراة ما يناسب عظيم أخلاق الإمام (علیه السلام) وحِلمه، فكأنّه يهدهد كوامن المخزوميّ كي تستريح، ويسكّن جيّاشات القلق الّتي تهزّ أعماقه، فالأمر لله من قبلُ ومن بعد، فلا يحزن إنْ ترك الإمامُ (علیه السلام) العمل برأيه، فليس ذلك لازدرائه أو تجاهله أو التغاضي عنه، وإنّما للضرورات أحكام، وقدَرُ الله جارٍ.

ونفس المعادلة الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) من خلال افتراض الأخذ برأيه وتركه، يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يوصل إليه أنّه سيترك الأخذ به، وربّما شهد لذلك تفريع المدح الأخير بالفاء في بعض الألفاظ وبالواو أحياناً، وبقوله _ في لفظ ابن الصبّاغ _ : «مع أنّك عندي أحمدُ مشير ...».

ص: 56


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

ويشهد له أيضاً ما رواه المسعوديّ وابن نما من تعليق المخزوميّ بعد أن أتمّ الإمام (علیه السلام) كلامه، فقال: إنّا لله، وعند الله نحتسبك يا أبا عبد الله ((1)).

ويشهد له أيضاً ما رواه ابن أعثم والخوارزميّ من قوله بعد أن انصرف عن الإمام (علیه السلام) :

رُبَّ مستنصحٍ سيعصى ويؤذى

ونصيحٍ بالغيب يلفى نصيحا ((2))

فهو قد فهم أنّ الإمام (علیه السلام) سيترك الأخذ برأيه وينطلق نحو العراق، لذا جعل ينعاه.

فكأنّ الإمام (علیه السلام) يقول له: إنْ تركتُ رأيك لا لأنّك مستغشٌّ أو غير مقبولٍ عندي!

المقطع الثالث: أحمَدُ مُشيرٍ وأعزُّ ناصح

ثمّ عاد الإمام ليؤكّد له بعد أن ذكر له الردّ الّذي لا يقبل المناقشة والمراجعة، فقال له: «فأنت عندي أحمَدُ مُشيرٍ وأنصَحُ ناصح» ((3)).

ص: 57


1- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56، مثير الأحزان لابن نما: 27، جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

وفي لفظ ابن الصبّاغ: «مع أنّك عندي أحمَدُ مُشيرٍ وأعزُّ ناصح» ((1)).

هكذا بصيغة (أفعل) التفضيل.. أحمد.. أنصح.. أعزّ..

وفي ذلك إشارةٌ واضحةٌ للمسح على قلب المخزوميّ بيد الرحمة والرأفة الحسينيّة، وملامسةٌ حنونةٌ لمشاعره، ومداراةٌ تهدّئ روعه وتضخّ فيهزخّةً من استشعار الاهتمام وحلاوة الالتفات.

ولا ندري إن كان استخدام صيغة (أفعل) فيها إشارةٌ إلى غيره، بحيث صار هو (الأحمد) و(الأنصح) بإزاء الآخَرين الّذين تقدّموا بين يدَي الإمام (علیه السلام) لتقديم المشورة.

إن كانت المقارنة والمقايسة ملحوظة، تنفتح _ حينئذٍ _ نوافذ واسعةٌ لمراجعة مواقف الآخَرين، وإن كان الاستعمال من دون لحاظ الآخَرين، فهو يكشف عن مدى سلامة هذا الرجل في موقفه هذا بالذات.

كيف كان، فإنّ في هذا التعبير ما يلوّح بغربة الإمام (علیه السلام) أيّما غربة، يمكن أن يستشعرها مَن تأمّل فيها.

صلّى الله عليك يا غريب الغرباء.

الشوط العاشر: بعد اللقاء

ذكر الطبريّ وابن أعثم وعنه الخوارزميّ والمسعوديّ وغيرهم تتمّةً للقاء

ص: 58


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

المخزوميّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وثَمّة اختلافٌ واضحٌ بين نقل الطبريّ ونقل المسعوديّ وابن أعثم كما سنرى..

فقد روى الطبريّ عن المخزوميّ _ وهو يتحدّث عن نفسه بعد أنانصرف من عند الإمام الحسين (علیه السلام) _ أنّه:

دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هِشام، فسأله هل لقي الحسين؟ فقال: نعم. قال: فما قال لك؟ وما قلتَ له؟ قال: فقلتُ له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا. فقال: نصحتَه وربِّ المروة الشهباء، أما وربِّ البنية إنّ الرأي لما رأيتَه، قَبِلَه أو تركه. ثمّ قال:

رُبَّ مستنصحٍ يغش ويردي

وظنينٍ بالغيب يلفى نصيحا ((1))

ولا يبدو الحارث قد جاء بأمرٍ جديدٍ أو اكتشف اكتشافاً عظيماً أو عرف أمراً غاب عن الإمام (علیه السلام) ، فقد شهد الإمام (علیه السلام) للمخزوميّ بما هو أعظم ممّا شهد له الحارث، وأكّد له صحّة ما صوّره وتقدّم به، قَبِلَه أو تركه!

والحارث هذا مخزوميٌّ أيضاً، وهو من أذناب الأُمويّين، شاعرٌ، ولّاه يزيد مكّة، فخرج ابن الزبير فاستتر الحارث، ثمّ ارتحل إلى دمشق، ثمّ عاد إلى مكّة لأنّه لم يجد في دمشق ما يحبّ ((2)).

ص: 59


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
2- أُنظر ترجمته في: الأغاني لأبي الفرَج: 3 / 217، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 11 / 415، وغيرهما.

فهو في دائرة الأعداء، يحمل شحناتهم، ملوّثٌ بدائهم، متسكّعٌ على أبوابهم، وقد أقام على باب عبد الملِك بن مروان سنةً كاملةً يتسقّط عطاءه ((1)).وجاءت رواية المسعوديّ قريبةً من رواية الطبريّ، والفرق أنّ الأوّل صرّح بدخول المخزوميّ على صاحبه الحارث، وكان والي مكّة، وكان المخزوميّ هو نفسه الّذي أنشد البيت وليس الحارث، قال:

ثمّ دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزوميّ والي مكة، وهو يقول:

كم نرى ناصحاً يقول فيُعْصى

وظنين المغيب يُلْفى نصيحاً

فقال: وما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحتَ له وربِّ الكعبة ((2)).

فيما جاءت رواية ابن أعثم والخوارزميّ مجرّدةً عن ذِكر الحارث والدخول عليه، حيث قال:

فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:

رُبَّ

مستنصحٍ سيُعصى ويؤذُى

ونصيحٍ

بالغيب يُلفى نصيحا ((3))

ص: 60


1- أُنظر: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 137 الرقم 449.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

الشوط الحادي عشر: خذلان المخزوميّ

أكّدنا في ثنايا الحديث عن حواره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّ الإمام (علیه السلام) كان يشهد له بموقفه ونواياه في ذلك الموقف بالذات، وهذا من سعة أخلاق الإمام (علیه السلام) وكرمه ولطفه وغاية دقّته _ وهو المعصوم _ في الجزاء والتعامل، وهو سيّد الوفاء ومعدن الكرم، وليس بالضرورة أن تبقى هذه الشهادات سارية المفعول في المستقبل، ولا أن تكون ذات أثرٍ رجعيّ، أو تحمل في طيّاتها ما يفيد العموم والشمول حتّى للفترة الّتي حصل اللقاء فيه، سوى ذاك الموقف الخاصّ في تلك اللحظة الّتي صدر الكلام فيها.

ويمكن الاستشهاد لما ذكرناه بعدم وجود إشاراتٍ تلويحيّةٍ أو كناياتٍ أو أدواتٍ لفظيّةٍ تفيد الشمول والعموم والإخبار عن حُسن العاقبة أو سلامة السلوك على نحو العموم والشمول.

بل إنّ سيرته شهدَت عليه، إذ أنّه عاش حتّى ولّاه ابن الزبير، ثمّ صار معالحَجّاج ((1))، كما أشرنا إليه في الشوط الأوّل.

وممّا يشهد أيضاً لذلك أنّ الإمام (علیه السلام) تعامل معه على مستوى موقفه في إبداء الرأي وما سمّاه نصحاً، وأنّ الإمام (علیه السلام) لم يُطِل المكث معه في شرح موقفه وظروفه وتفاصيلها، ولم يدعُه إلى نصرته والخروج معه، ولم يثبّطه عن

ص: 61


1- تقريب التهذيب لابن حجَر: 1 / 722، وانظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 7 / 416، التحفة اللطيفة للسخاويّ: 2 / 344.

بيعة يزيد، ولم يذكر عنده يزيد والأُمويّين بتاتاً، واكتفى منه بما قاله وأجابه على قدر إنائه وما طفح به.

وقد شهدَت سيرتُه أيّام سيّد الشهداء (علیه السلام) أيضاً، فهو قد رأى الإمام الحسين (علیه السلام) وعاصره وجاءه ناصحاً، وعاش المشهد المتأزّم، والمطاردةَ المبهرة للأنفاس، والتهديدَ الجدّيّ المحدِق بأبي الشهداء (علیه السلام) ، وعاصر الأحداث في مكّة وما جرى بعدها إلى يوم عاشوراء.. ثمّ خذل الإمام (علیه السلام) ، فلم نسمع له موقفاً مشرّفاً، ولم نرَ له سواداً في أيّ موضعٍ يمكن أن يُحسَب في صفّ الإمام (علیه السلام) .

أوَليس هو خاطب الإمام (علیه السلام) بابن العمّ! وقبل منه الإمام (علیه السلام) وبادله الخطاب؟!

أوَليس هو قد قال: إنّ الرحم تضائره، وشهد للإمام (علیه السلام) أنّه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعرف أباه وأخاه وعرّفه، فلماذا تقاعس عن نصرة ابن عمّه،وخذل ريحانة النبيّ وابن بنت رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وانكفأ وانخزل؟!

الشوط الثاني عشر: يبقى أمر!

لقد سمعنا جواب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد اقتصر على شكر موقف المخزوميّ، وإفهامه أنّ رسالته قد وصلَت وأنّ رأيه قد سُمع، ثمّ أكّد له أنّ كلامه مقبول، سواءً أعمل الإمام (علیه السلام) به أم لم يعمل، واختصرها ابن سعدٍ والبلاذريّ وكثيرٌ ممّن جاء بعدهما بقول الإمام (علیه السلام) : «قد نصحتَ،

ص: 62

ويقضي الله» ((1)).

هذا هو خلاصة الجواب، لا أكثر!

لم يتعرّض الإمام (علیه السلام) لطرح أيّ شيءٍ آخَر..

لم يتكلّم عن دوافعه في الخروج..

لم يطمع في الحديث مع المخزوميّ ليقنعه، فيجذبه ثمّ يستقطب مَن يكون وراءه..

لم يشرح له أهدافه من التوجُّه إلى العراق وما يسمّونه ب-- (مشروعه)..

لم يُطنِب في بيان شعاراته والدعوة إليها والحثّ على ترويجها في الحجيج وفي البلدان..لم يلوّح له بإعداده للخروج بالمعنى الاصطلاحيّ، ونيّته في الإقدام على عملٍ تغييريٍّ على أيّ صعيد..

لم يُصرّ الإمام (علیه السلام) على توضيح موقفه، ودعوة المخزوميّ لنصرته والخروج معه..

بل لم نسمعه يفتح للمخزوميّ سجلّات الأُمويّين وصحيفة يزيد

ص: 63


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373، ابن عساكر، الحسين (علیه السلام) ط المحموديّ: 202، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

السوداء، فيتهجّم عليه أو يذكره بما يناسبه..

لم يحرّض المخزوميَّ على الوضع القائم وعلى يزيد والأُمويّين.. لم يتعرّض لهم من قريبٍ ولا من بعيد..

لم يثبّط المخزوميَّ عن البيعة ليزيد، أو يدعوه للتحلّل منها والالتحاق به..

لم يكلّمه ويحاول إقناعه لتحييده وتحييد مَن وراءه..

وإنّما اكتفى في جوابه بما يداري الموقف مع المخزوميّ شخصيّاً، وانتهى!

أتكون لغة من يريد الخروج (بالمعنى المصطلح) بدوافع معيّنةٍ وأهدافٍ وأغراضٍ ذات معنىً خاصٍّ ولونٍ خاصٍّ وشحنةٍ خاصّة مثل هذه اللغة؟

هذه هي لهجة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، وقد سمعناه مع المعترضين وقرأنا خطابه مع الوالي المتجبّر العنيد، فلم نتحسّس في شيءٍ منها سوىاللغة الهادئة الرصينة المتّزنة الوقورة الّتي تنسجم وتلتئم تماماً مع حالة الدفاع المحض، والدفع بالأُمور إلى التهدئة، وإخراس الذئاب العاوية، وإخماد زقحات القرود المسعورة وخنخنتها..

هذه اللغة واللهجة لا تناسب _ بحالٍ _ ما يصاحب الخروج (بالمعنى المصطلَح) من دفعٍ وتدافعٍ وهيجانٍ وغليانٍ وتأليبٍ واستثارة الهمم وتجييش العواطف والأحاسيس وتحشيد الطاقات وتجميع الرجال وإشعال النفوس وشحنها ضدّ الحاكم، وغيرها من مستلزمات هذا النمط من الخروج!

ص: 64

الشوط الثالث عشر: لقاء أبي بكر بن عبد الرحمان المخزوميّ

روى ابن سعدٍ في (الطبقات) وتلاه آخَرون لقاءً لأبي بكر بن عبد الرحمان المخزوميّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وهو: أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام بن المغيرة القرشيّ المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمّد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكرٍ اسمُه، وكنيته: أبو عبد الرحمان، وقيل: اسمُه كنيتُه.

وهو أخو عمر وعثمان وعكرمة ومحمّد بني عبد الرحمان.

وكان قد ذهب بصره.وُلد في خلافة عمر بن الخطّاب.

خرج في جيش عائشة يوم الجَمَل، فاستُصغر ورُدّ هو وعروة بن الزبير.

روى عن: أبي مسعود الأنصاريّ، وعائشة، وأُمّ سلَمة، وأبي هريرة، ونوفل بن معاوية، وطائفة.

روى عنه: ابناه عبدُ اللَّه وعبدُ الملِك، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، والشعبيّ، والزُّهريّ، وعكرمة بن خالد، وآخَرون.

وكان أحد فقهاء المدينة السبعة الّذين كان أبو الزناد يذكرهم، قال أبو نعيم الأصفهانيّ: أكثر حديثه في الأقضية والأحكام.

ص: 65

مات سنة أربعٍ وتسعين، وقيل: سنة ثلاثٍ وتسعين ((1)).

* * * * *

فهو أخو عمر المذكور آنفاً، وهو صاحب الصيت الوارد اسمه في المعاجم وكتب التراجم، وقد عدّ كثيرون هذا اللقاء مع سابقه لقاءً واحداً، ويبدو من بعض المؤلّفين أنّه عدّهما شخصاً واحداً ودمج بين الترجمتين، والحال أنّ تعدّدهما كشخصَين وأخوَين يلوح للناظر في كتب التراجم بأدنى مراجعة.

أجل، قد يكون اللقاء قد حصل مع أحدهما، فخلط الراوي ونسبه مرّةًإلى عمر ومرّةً إلى أبي بكر؛ لالتباس اسميهما وكنيتيهما، وكونهما أخوين.

ونحن ذكرنا نصوص اللقاءين في موضعٍ واحد، لأنّ ما يهمّنا هو ما جرى من حوارٍ بينهما وبين سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا نحسب أنّ كثير فرقٍ بين الأخوين، فهما من أتباع السقيفة، إلّا ما امتاز به أبو بكرٍ من التميُّز عند القوم في العلم والقضاء، فيكون موقفه وكلامه يختلف عن كلام أخيه عمر الّذي قد يُحمَل على العفويّة وعدم التكلّف والاندفاع من دون سوابق وعدم الارتكاز إلى أُسسٍ فقهيّةٍ ودينيّةٍ خاصّة!

ص: 66


1- مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان: 107، تقريب التهذيب لابن حجَر: 2 / 365، الكُنى (جزءٌ من التاريخ الكبير للبخاريّ): 9، وانظر ترجمته ومصادرها في: موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 276.

لقاء أبي محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلَج

المتون

الطبريّ الشيعيّ:

قال أبو جعفر: وحدّثَنا أبو محمّد سفيان، عن وكيع، عن الأعمش قال: قال لي أبو محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلج:

لقينا الحسينَ قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبواب السماء، ونزل من الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله، وقال: «لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم علماً أنّ هناك مصرعي

ص: 67

ومصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ» ((1)).

إبن حاتم الشاميّ:

ورُوي عن الأعمش أنّه قال: قال لي أبو محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلج:

لقيتُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث، فأخبرناه ضعف الناس بالكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبواب السماء ونزلَت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله (عزوجل) ، فقال: «لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم علماً أنّ من هناك مصعدي وهناك مصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ» ((2)).

السيّد ابن طاووس:

وروى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ في كتاب (دلائل الإمامة)، قال: حدّثَنا أبو محمّد سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش قال: قال أبو محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلج:

لقينا الحسين بن عليّ (علیهما السلام) قبل أن يخرج إلى العراق، فأخبرناه

ص: 68


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.
2- الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530.

ضعف الناس بالكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبواب السماء ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله (عزوجل) ، فقال: «لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل ((1))، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) » ((2)).

* * * * *

روى رجلان لقاءً لهما مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة قُبيل خروجه منها بأيّام، وامتاز هذا اللقاء عن غيره من اللقاءات، وسنأتي على بيانه فيما يلي من خلال عدّة ومضات:

الومضة الأُولى: راوي الخبر!

يبدو _ حسب الفحص _ أنّ أوّل مَن روى الخبر هو الطبريّ الإماميّ، وهو من أعلام القرن الخامس، وقد صرّح السيّد ابن طاووس بالنقل عنه.

وراوي الخبر منحصرٌ بالواقديّ وزرارة يروي عنهما الأعمش، ولم نقف على طريقٍ إلى الخبر سواهما.

ص: 69


1- في (الأسرار) و(اللواعج) و(الناسخ): «حبوط الأجر»، وفي (المعالي): «هبوط الأجر».
2- اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

وهما كلاهما مجهولان، لم يرد لهما ذكرٌ في كتب التراجم والرجال ((1))، ولم نسمع لهما خبراً فيما توفّر لدينا من كتب التاريخ والرواية والأخبار، سوى هذا الخبر اليتيم فحسب.

وقد اختلفَت النُّسَخ في اسم والد زرارة، فمنهم مَن ضبطه ب-- (خلج)، أو (جلح)، أو (صالح)، بَيد أنّ الوارد في (الدلائل) و(الدرّ) وبعض نُسخ (اللهوف) هو: (خلج)، ولم نقِفْ على ذِكرٍ له بأيّ لفظٍ من الألفاظ سوى هذا الخبر.

ولا يهمّنا أمر الاسم كثيراً بعد أن تبيّن عدم ذِكره، فلا ضرورة لمتابعة النُّسَخ.

الومضة الثانية: متى حصل اللقاء؟

روى الطبريّ (رحمة الله) ومَن تبعه عنهما أنّهما التقيا سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال ((2))، ولم يحدّد السيّد ابن طاووس ((3))، غير أنّه لمّا كان يصرّح في بداية النقل أنّه يروي عن الطبريّ، نحسب أنّ ثَمّة

ص: 70


1- أُنظر: مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 3 / 425.
2- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.
3- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

سقطاً أو سهواً وقع في البين، والمعتمَد هو ما في كتاب الطبريّ.

* * * * *

ثَمّة ملاحظةٌ ينبغي الالتفات إليها، لِما لها مِن أهمّيّةٍ قصوى في فهموإدراك الحوادث المتلاحقة المتسارعة تلك الأيّام، سنكتفي هنا بالإشارة الخاطفة لها، ونترك التفصيل إلى محلّه إن شاء الله (تعالى).

يبدو واضحاً للمتابع أنّ اللقاءات والحوارات تكرّسَت في فترةٍ وجيزةٍ قُبيل خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) ، قد لا يتجاوز أكثرها الأُسبوع الأخير، وكان لقاءُ هذين الرجلين في الليالي الثلاث الأخيرة من إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

الومضة الثالثة: إخبارهم بضعف الناس!

أخبر الرجلان سيّد الشهداء (علیه السلام) بضعف الناس في الكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ((1)).

ربّما يدعو هذا الإخبار إلى التريّث قليلاً لاستجلاء الأمر فيه، إذ أنّنا لم

ص: 71


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.

نتبيّن ظروف هذا النقل والإخبار.

فهما إمّا أن يكونا قد خرجا من الكوفة ووصلا مكّة وأخبرا سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مشاهداتهما، وإمّا أن يكونا قد تلقّفا الأخبار وجعلا يُخبِران الإمام (علیه السلام) عمّا سمعا، وإمّا أنّهما قد فكّرا وقدّرا ونظرا في سوابق أهل الكوفة واستنتجا ونقلا استنتاجهما كخبر.

صيغة الخبر وسياق الكلام يأبى الاحتمال الثالث؛ إذ أنّهما يؤكّدانأنّهما أخبرا الإمام (علیه السلام) .

وأمّا الاحتمال الأوّل والثاني، فقد يشتركان في نفس العقدة، حيث أنّهما التقيا الإمام (علیه السلام) قبل ثلاث ليالٍ من خروجه من مكّة، فإذا كانا في الكوفة وكانا شاهِدا عيانٍ على الأحداث الّتي أخبرا الإمام (علیه السلام) بها، فهذا يعني أنّهما يخبران عن فترةٍ تقارب الشهر من يوم اللقاء، لأنّ الطريق من الكوفة إلى مكّة يستغرق للمُجِدّ المسرع عشرين يوماً أو أكثر، فإذا كان خروج الإمام (علیه السلام) يوم التروية، أي: في اليوم الثامن من ذي الحجّة، فهما يُخبران عن فترةٍ تربو على العشرين يوماً من شهادة المولى الغريب (علیه السلام) مسلم بن عقيل وانقلاب الكوفة على حظّها وآخِرتها.

ولا ننسى أنّ هذه الفترة المقدَّرة تتاخم الفترة الّتي كتب فيها المولى الغريب (علیه السلام) إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبره فيها بتجمهر الناس واجتماعهم، أي: أنّ المنكوسين كانوا بعدُ لم ينتكسوا ويرتكسوا، وحينئذٍ سيقع التقابل بين إخبارهما وإخبار المولى الغريب (علیه السلام) ، ولا شكّ أنّهما لا ينهضان لهذه

ص: 72

المقابلة، ولا يمكن أن نقبلهما ونقبل شهادتهما وإخبارهما ونصمّ الأسماع عن ثقة الإمام الحسين (علیه السلام) ومعتمده!

الومضة الرابعة: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك

قد أتينا على الحديث عن إخبارهما (عن قلوب الناس وسيوفهم)مفصَّلاً في كتاب لقاء الفرزدق، فلا نعيد.

ونودّ هنا إضافة شيء، بغضّ النظر عن مناقشة ما ذكراه من تقييمٍ للمجتمع الكوفيّ يومذاك، فإنّ تعبيرهما برسم صورة القلوب والسيوف، هذه الصورة المكرورة الّتي تدعو المتابع للتريّث والتأمّل والوقوف طويلاً، ليتعرّف إلى هذا التنسيق والانسجام والتناغم التامّ، بحيث تُستعمَل نفس الكلمات ونفس المفردات ونفس التركيب عند مجموعةٍ متفرّقةٍ مشتّتةٍ بجميع عوامل التفرّق والتشتُّت الزمانيّ والمكانيّ والذاتيّ، فالفرزدق وزرارة والواقديّ وغيرهم كلّهم يستعملون هذا التركيب الخاصّ من رسم صورة القلوب والسيوف، وبنفس الألفاظ والتركيب والصياغة!!

الومضة الخامسة: مؤدّى رسالتهما

إقتصر القائلان على ذِكر قصّة القلوب والسيوف، والإخبار عن ضعف

ص: 73

الكوفة، ولم يزيدا على ذلك شيئاً.

لم نسمع في تقريرهما تفاصيل أوضاع الكوفة وأحوال الناس فيها، ولم نسمع تحذيراتٍ واضحةً وصريحة، ولا دعوةً للبقاء في مكّة أو الانطلاق إلى موضعٍ آخَر، ولا اقتراحاتٍ ولا مشاريع.

بَيد أنّ هذا المقدار من التقرير يفيد أنّهما قد فهما أمراً وجعلا يثبّطان سيّد الشهداء (علیه السلام) من التوجّه إلى الكوفة، فهو إن كان قد قصد الكوفة طلباًللنصرة وتحشيداً للطاقات والهمم وتجييشاً للرجال وتوفيراً للعدّة والعديد، فإنّ الأجواء فيها قد انقلبَت، والرياحَ العاتيةَ العاصفةَ قد غيّرت مسرى الناس، ولم تعُد الكوفة معدن الرجال الّذين يمكن أن يحسب الإمام (علیه السلام) عليهم حساباً.

* * * * *

بغضّ النظر عن مناقشة مؤدّى الرسالة، فلو تماشينا مع النصّ كما هو، وأخذناه على ما هو عليه، فإنّ فيه إشارةً واضحةً جليّة.

إنّهما أخبرا الإمام (علیه السلام) بخذلان الكوفة وضعفها، وقرّرا له حال رجالها وأهلها، ورسما له صورة السيوف المشهورة عليه واجتماع القوم على حربه، ودَعْ عنك حديث القلوب البائسة الخاوية المنخورة بعد أن تعاضدَت الأيدي على حمل السيوف والأسنّة والرماح، فالسيف المشهور أصدق إنباءً عن المواقف من القلوب المكنونة في الصدور الّتي يُخبِر عنها الآخَرون!

الآن وقد أخبرا الإمام (علیه السلام) بهذا الخبر الفظيع، وأطلعاه على هذه المفاجأة

ص: 74

المروعة، والمواقف المهولة، والتوالي المنكشفة، والساحة المفتوحة على الخيانة والغدر بدون سياجٍ ولا حفاظ.. لماذا _ إذن _ لا زال الإمام (علیه السلام) مُصرّاً على التوجّه نحو العراق، وميمّماً نحو الكوفة بالذات؟!

إذا كان الإمام (علیه السلام) قد بيّت للخروج (بالمعنى المصطلَح)، فإنّ شهادةهذين الرجُلَين تُضاف إلى شهادات الآخَرين وتحذيرات أمثال ابن عبّاسٍ وغيره، لتتعاضد جميعاً على رسم الصورة الواقعيّة الّتي كانت تُرخي بظلالها على الكوفة يومذاك، وليس في حسابات الخروج (بالمعنى الاصطلاحيّ) ما يمكن أن ينسجم مع استمرار الإمام (علیه السلام) .

وتفسير الإصرار بالعزم على إحياء الأُمّة وضخّ روح الإرادة والتمرّد والانفكاك من ازدواجيّة الشخصيّة والقضاء على سوسة الشلل السارية في كيان الناس، وغيرها.. فإنّ هذا يعني القيام بعملٍ انتحاريٍّ من أجل تحقيق هذه الأغراض، وإنْ أُلبس أردية الشهادة المطرّزة بالدماء.

وقد مرّ معنا في أكثر من موضعٍ أن لا شيء من هذه الأُمور يوازن دم الإمام الزاكي، ولا يمكن أن تكون حياة الإمام (علیه السلام) ودمه ومَن معه ممّن لا شبيه له على الأرض ثمناً لأيّ غرضٍ من الأغراض المذكورة، منفردةً ولا مجتمعة، وأنّ تحقيق هذه الأغراض لا يتوقّف على بذل الدم والقتل بهذه الطريقة الفجيعة الشنيعة، وأنّ العمل الانتحاريّ لا يليق بالمؤمن فضلاً عن سيّد الكائنات وإمام المؤمنين خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

هذا، بالإضافة إلى الكثير ممّا ذكرناه في محلّه وسيأتي ذِكره فيما بعد، إن

ص: 75

شاء الله (تعالى).

وسنسمع جواب الإمام (علیه السلام) على كلامهما بعد قليل.

الومضة السادسة: نزول الملائكة

إمتاز جواب الإمام (علیه السلام) هنا _ حسب نقل هذين الراويَين _ عن الأجوبة الّتي عهدناها من الإمام (علیه السلام) للمعترضين، فقد تصرّف الإمام (علیه السلام) تصرّفاً إعجازيّاً، فكشف لهما بإيماءةٍ نحو السماء عن نزول الملائكة الّذين لا يُحصي عددهم إلّا الله! ((1))

لقد نزل الملائكة لنصرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وعرض الجنُّ والملائكة نصرتهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل هذا الموقف كما مرّ معنا.

والملائكة كلّهم والجنّ والإنس والمخلوقات جميعاً طوع إرادة الإمام (علیه السلام) وأمْرِه بتمكينٍ من الله وبإذنه (عزوجل) ، ولا مناقشة في ذلك.

بَيد أنّ هذا المشهد المكتظّ بالملائكة الّذين لا يُحصي عددهم إلّا الله، لم يفعله الإمام (علیه السلام) لحد الآن إلّا مع هذين الرجلين، فهل كانت لهما

ص: 76


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.

خصوصيّةٌ تميّزهم عن غيرهم من المعترضين والملتمسين، بل وجميع العالمين؟!

أين نزل هؤلاء الملائكة؟

هل نزلوا إلى السماء الدنيا؟

أو أنّهم نزلوا على الإمام (علیه السلام) ؟أو نزلوا إلى مكّة؟

لم نسمع منهما جواباً على هذا السؤال، ولا طريق لنا إلى الجواب غيرهما.

هل رأى هؤلاء الملائكة جميعُ مَن حضر؟

أو أنّ الإمام (علیه السلام) أراهما دون غيرهما؟

لم نسمع منهما جواباً على هذا السؤال أيضاً، ولا طريق لنا إلى الجواب غيرهما.

نرجوا أن لا تُحمَل هذه الاستفهامات على التشكيك في صدور المعجز من الإمام (علیه السلام) ، أو قدرته على كشف الغَيب لهما، فإنّ الله قد أعطى الإمام (علیه السلام) ما هو أعظم وأعظم من ذلك، ونحن لا نشكّ في بداهة صدور معاجز أعظم وأعظم، وإنّما سألنا لأنّنا لا نعرف الناقل وقد زعم شيئاً لنفسه!

ونستبعد أن يكون الناقل من الأولياء الأصفياء المؤهَّلين لكرامة إظهار المعجِز، فربّما يكون إظهار المعجز أحياناً لإتمام الحجّة، لأنّهما قد خذلا

ص: 77

الإمام (علیه السلام) ، كما سنسمع بعد قليل.

فلْنترك الناقل وشأنه، ونتمسّك بالإمام (علیه السلام) ، وقد كشف لهما عن أبواب السماء حين فُتحَت وأراهما الملائكة النازلين.

الومضة السابعة: لولا تقارب الأشياء

اشارة

نحاول هنا استجلاء ما أشار إليه الإمام (علیه السلام) واستكشاف ما قاله، من خلال الإنارات التالية:

الإنارة الأُولى: معنى التقارب

التَّقارُبُ: ضِدُّ التَّباعُد.

الإِقْرابُ: الدُّنُوُّ.

قارَبَ الشيءَ: داناه، وتَقارَبَ الشيئان: تَدانَيا، تَقارَبَ الزرعُ: إذا دَنا إدراكُه.

يُقالُ للشيءِ إذا وَلّى وأدبَر: تَقارَبَ، أو قد تقارب، والعربُ تقول: تَقارَبَتْ إبلُ فلانٍ، أي: قَلَّتْ وأَدْبَرَتْ.

قال جَندَل:

غَرَّكِ أن تَقارَبَتْ أَباعِري

وأنْ رأيتِ الدَّهْرَ ذا الدوائرِ

والتقارُبُ قد يكونُ بمعنى الاعتدال، تقارُبُ الزمانِ: أي اعتدالُ الليل والنهار.

ص: 78

والتقارُبُ قد يكون بمعنى الاستعجال، يقول الرجُلُ لصاحبه إذا اسْتَحَثّه: تَقَرَّبْ، أي: اعجَلْ.

والتقارُبُ قد يكون بمعنى يغزوه، يُقال: فلانٌ يَقْرُبُ أمْراً، أي: يَغْزُوه.تقول: قَرَبْتُ أَقْرُبُ قِرابةً _ مِثلُ كتبتُ أَكْتُبُ كتابةً _، إِذا سِرْتَ إِلى الماءِ وبينك وبينه ليلة.

قال الأصمعيّ: قلتُ لأعرابيٍّ: ما القَرَبُ؟ فقال: سَيْرُ الليل لِورْدِ الغَد.

والقَرَبُ: هو السَّيْر ((1)).

الإنارة الثانية: معنى الأشياء

فلمّا كان الشَّيءُ مخفَّفاً، وهو اسمُ الآدميّين وغيرهم من الخلْق ((2)).

وشَيَّأْتُ الرجُلَ على الأمْر: حَمَلْتُه عليه ((3)).

وأَشاءَه _ لغةٌ في أَجاءَه _، أي: أَلْجَأَه ((4)).

الشَّيْءُ قيل: هو الّذي يصحّ أن يُعلَم ويُخبَر عنه ... وأصله: مصدر شاء، وإذا وُصف به (تعالى) فمعناه: شَاءٍ، وإذا وُصف به غيرُه فمعناه:

ص: 79


1- أُنظر: لسان العرب: قَربَ.
2- أُنظر: العَين للفراهيديّ: شَيَأَ.
3- أُنظر: لسان العرب: شَيَأَ.
4- أُنظر: لسان العرب: شَيَأَ.

المَشِيءُ ((1)).

الإنارة الثالثة: بيان العلّامة المجلسيّ (رحمة الله)

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) غوّاص (بحار الأنوار):

قوله (علیه السلام) : «لولا تقارُبُ الأشياء»، أي: قُرب الآجال، أو إناطة الأشياء بالأسباب بحسب المصالح، أو أنّه يصير سبباً لتقاربالفرَج وغلبة أهل الحقّ ولمّا يأتِ أوانه.

وفي بعض النُّسَخ: «لولا تفاوُت الأشياء»، أي: في الفضل والثواب ((2)).

الإنارة الرابعة: المُراد
اشارة

بعد أن قرأنا ما ورد في بيان معنى مفردتَي: (التقارب) و(الأشياء)، وسمعنا تفسير العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) لها، نحاول الآن الاقتراب من المراد والمقصود في كلام الإمام (علیه السلام) من خلال ذِكر الاحتمالات الّتي يمكن حمل العبارة عليها، فربّما صدق واحدٌ منها أو أكثر.

الاحتمال الأوّل: التقارُب بمعنى التداني

التَّقارُبُ: ضِدُّ التَّباعد ... قارَبَ الشيءَ: داناه، وتَقَارَبَ الشيئانِ:

ص: 80


1- أُنظر: المفردات للراغب: شيء.
2- بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 74.

تَدانَيا.

يبدو هذا هو المعنى الأصليّ لمعنى التقارب، والشيء معروف.

فإذا كان الشيء اسم الآدميّين وغيرهم من المخلوقات، فسيكون المعنى تداني الآدميّين وغيرها من المخلوقات وتقاربها.

والتداني والتقارب إمّا أن يكون من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو تدانيها وتقاربها من بعضها البعض، وتدانيها بهذا المعنى لا يكون إلّا من أجلغرضٍ معيّن، إذ أنّها تتداخل وتتدانى وتصطفّ وتتماسك لتكون جبهةً واحدةً وجداراً محكماً للمواجهة، فلابدّ من تصوّر جهةٍ مقابلةٍ يتدانى الآدميّون منها وتصطفّ المخلوقات بإزائها.

فيكون المعنى _ على كلّ تقدير _ أنّ الآدميّين قد تدانى بعضهم من بعضٍ وتقاربوا ووقفوا للمواجهة.

فالإمام يُخبِر _ وفق هذا الاحتمال _ أنّ القوم قد أعدّوا واستعدّوا واصطفّوا وتدانوا وتقاربوا وتشكّلَت الجبهة وقامت على ساق، وانتهى الأمر، فلا مجال للمراجعة مع قومٍ لا يسمعون ولا يعون ولا يريدون إلّا قتله.

الاحتمال الثاني: التقارُب بمعنى دنوّ الإدراك

إذا كان التقارب بمعنى دنوّ الإدراك، يُقال: تقارب الزرع، إذا دنا إدراكه، يكون تقارب الأشياء بمعنى نضوج المواقف واستكمال المشاهد وبلوغ الذروة في الأحداث والإرادات، وأنّ الأمر قد حمّ ونزل.

ص: 81

فالعدوّ قد أتمّ الاستعداد، وجمع العدّة والعديد، وعقد العزم على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وبلغ الأمر ذروته، وتظافرت المشيئات، وانتهى الأمر، ولابدّ من المواجهة المقرّرة ضمن المقرّرات العاديّة السارية المفعولة في الخلائق، دون الالتجاء إلى قهر العدوّ بالمعجزات، لتجري سُنن الله في الخلْق.

وهذا الاحتمال يرجع بالمآل إلى الاحتمال الأوّل بنحوٍ ما.

الاحتمال الثالث: التقارُب بمعنى الإدبار

إذا كان معنى التقارب ما يُقال للشيء إذا ولّى وأدبَر: تَقارَبَ، كما يقولون: تقاربَتْ إبلُ فلان، أي: قلَّتْ وأدبَرَتْ، فإنّ المراد سيكون له شواهد في كلمات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من قبيل قوله (علیه السلام) :

«كأنّ الدنيا لم تكُن، وكأنّ الآخِرةَ لم تزلْ» ((1)).

«إنّ الدنيا قد تغيّرَت وتنكّرت وأدبر معروفُها واستمرتْ جدّاً، فلم يبقَ منها إلّا صبابةٌ كصبابة الإناء، وخسيسُ عيشٍ كالمرعى الوبيل» ((2)).

ص: 82


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 257.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 403، تحف العقول للحرّانيّ: 278، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 380، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 269، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 122 الرقم 2842، حِلية الأولياء لأبي نعيم: 2 / 39، ابن عساكر، الحسين (علیه السلام) ط المحموديّ: 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 333، مختصر ابن منظور: 7 / 146، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 192، إسعاف الراغبين للصبّان: 206، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 150 الرقم 1088، الأمالي للزيديّ: 91، نزهة الناظر للحلوانيّ: 42، الأمالي للشجريّ: 1 / 161، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 4، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 68، مثير الأحزان لابن نما: 22، اللهوف لابن طاووس: 79، كشف الغُمّة للأربلّيّ: 2 / 32، ذخائر العقبى للطبريّ: 149، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 345، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 209، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 437، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 62، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 192، العوالم للبحرانيّ: 17 / 67، نفَس المهموم للقمّيّ: 190، إبصار العَين للسماويّ: 7.

فالأشياء، كلّ الأشياء قد أدبرَت.. أدبرَت الدنيا.. أدبر الناس.. أدبر المعروف..

قد عزم العدوّ على القضاء على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو معدن المعروف..

عزم على أن يضع نهايةً للدنيا، ويقتل الإمام (علیه السلام) ..

فالدنيا بالنسبة إلى الإمام (علیه السلام) في حكم المنتهية، وكأنّها لم تكن، وهو يعيش الآن في حكم الآخِرة بفاصل المسافة بين مكّة وكربلاء، وبين الأيّام المعدودة من ذي الحجّة إلى يوم عاشوراء..

فالناس قد خذلوه.. العدوّ يلاحقه.. والأشياء متقاربةٌ متظافرةٌ متدانيةٌ متماسكة.. تضيّق الدنيا على ابن محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) ، ولا تدَعْ له منفذاً يتنسّم منهالهواء..

الأجل قد حمّ ونزل.. الدنيا تستمرّ جدّاء مبتورة الأرجُل، تزحف إلى

ص: 83

الطيّبين زحفاً حثيثاً لا تقوم لهم، ولا تنهض بالقدرة على الاستمرار معهم..

وربّما كان هذا هو المعنى الّذي قصده العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) بتقارب الآجال.

الاحتمال الرابع: التقارُب بمعنى الاعتدال!

ربّما يكون التقارب بمعنى (الاعتدال)، يُقال: تقارب الزمان، أي: اعتدال الليل والنهار.

فيكون المعنى أنّ الأشياء قد اعتدلَت وتوازنَت، وصار الموت يعادل الحياة، والدنيا تعادل الآخِرة، ولا شكّ أنّ القتل في الله والموت في الله أحلى وأرجح، والآخِرةَ أسعدُ وأنجح، وطلبَ الأجر أنفعُ وأفلَح، فلا حاجة لتوظيف المعجِز وتجييش الملائكة.

وربّما يكون الاعتدال بمعنى توازن القوى، فإنّ العدوّ بعديده وعدّته وارتكانه إلى خذلان الناس من خلال التطميع والترغيب والإرعاب والترهيب، قد ضمن جانب الغوغاء الّذين خلدوا إلى الطين وانغمسوا في حبّ الدنيا واستنقعوا في مستنقعات اللذائذ الزائفة، فهو قد انبرى لتنفيذ مقاصده المشؤومة في قتل الإمام (علیه السلام) والاستشفاء بشرب الدماء الزاكيات،وسخّر لذلك كلّ صعبٍ وذلول، فلا يفصله عن تحقيق ما يريد سوى الإجهاز على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبه.

ومن جهة الإمام (علیه السلام) ، فقد استقبل الموت استقبالاً، وجهّز للدفاع

ص: 84

المصطفين الأخيار من أهل بيته وأصحابه النجباء الأوفياء، وهم قليلو العدد قليلوا العدّة، بيد أنّهم قومٌ مستميتون في الذبّ عن حريم الله وحُرم رسوله، وقد رأوا في الموت دون ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) عيدهم الأكبر، واعتدّوا بالإيمان الراسخ والصلابة والثبات والبصائر النافذة والقلوب العامرة والشجاعة والفروسيّة، وقد عرف العدوّ سطوتهم وبطشهم وتسلّطهم في الميدان واقتدارهم وتمكّنهم في المصاولة واحترافهم اختطاف النفوس والأرواح الخسيسة الدنيئة، وقد ضبطوا أبواب الجنان وأبواب النيران، فهم الأعرف بطريقهما، والأقدر على سَوق الّذين كفروا إلى جهنّم زُمراً، وسَوق أرواحهم الكريمة المتّقية إلى الجنّة زُمراً.

الآن، وقد اعتدل أهل الدنيا الغدّارة بقدراتهم البائسة الزائفة، وأهلُ الآخِرة بقدراتهم الخارقة الّتي لا يقوم لها أهل الدنيا رغم قلّة الناصر والعدّة والعديد، فكان بالإمكان لمن خوّله الله ومكّنه من المقاليد أن يرجّح كفّة المؤمنين بزخّ الميدان بوابلٍ من الملائكة المقاتلين.. غير أنّ الأجر وطلب الآخرة أَحجى وأَولى، والقتال ضمن مسارات الظاهر المنظور هو المروءة الّتي لو تمثّلَت في شخصٍ لَكانت الإمام الحسين (علیه السلام) .

الاحتمال الخامس: التقارُب بمعنى الاستعجال

ربّما كان التقارب بمعنى الاستعجال، يقول الرجُلُ لصاحبه إذا استَحَثّه: تَقَرَّبْ، أي: اعْجَلْ.

ص: 85

فإذا كان تقارب الأشياء بمعنى استعجالها واستحثاثها، فهو من جهة القوم استعجالهم قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهذا ما قامت عليه الأدلّة التاريخيّة بمتانةٍ وعُمقٍ واستحكام، وكانوا يستعجلون الزمان ويسابقون الأيّام منذ أن تسلّق القرد المسعور أعواد المنابر، فلم يكن له همٌّ يقلقل أحشاءه المتعفّنة بالخمور المعتَّقة والمحرّمات أعظم من همّ الارتواء بدماء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فكان هو وجراؤه المتوحّشة عُسلانُ الفلوات تتضوّر أكراشُها وأجربتُها وتتوثّب لتقطيع الأوصال المقدّسة.

ومن جهة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقد أدبرت الدنيا، واشتاق إلى أسلافه اشتياقَ يعقوب إلى يوسف (علیهما السلام) ، وتولَّهَ إليهم تولُّهاً لا يقدر على التعبير عنه إلّا الإمام (علیه السلام) نفسه.. «ما أولهني»!

فهم يستعجلون قتْلَه؛ ليريحوا أنفسهم الكدرة وجيَفَ فطائسهم العفنة، وهو يستعجل المسير إلى ساعة اللقاء؛ لينعم بلقاء الله ولقاء الرسول (صلی الله علیه و آله) ولقاء الأسلاف الأطهار (علیهم السلام) .

الاحتمال السادس: التقارب بمعنى يغزوه

قد يكون من معاني التقارب بمعنى (يغزوه)، يُقال: فلانٌ يَقْرُبُ أمْراً،أي: يَغْزُوه.

فيكون المعنى: غزو الأشياء، وتتالي الغزوات والحملات والهجمات المتلاحقة والأُمور المتظافرة، وعدم سكون العدوّ حتّى صار الدفاع لازماً

ص: 86

والتواني غير محبوبٍ ولا مرغوبٍ ولا مقبولٍ ولا مطلوب، ولابدّ من المواجهة، لأنّ غزوات العدوّ لا تفتر ولا تهدأ ولا تنقطع، وكان بالإمكان مواجهتها بجيوش الملائكة وجُند السماء، بَيد أنّ الأجر والذخر يدعوان للصبر والصمود والثبات لكسب الآخِرة الأسمى والدرجة الّتي تُنال بالشهادة.

الاحتمال السابع: الرجعة

لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر.. وفي نسخةٍ: وهبوط الأجَل.. لَقاتلتُهم..

لولا: أداة امتناعٍ لوجود..

إنّما امتنع الإمام (علیه السلام) من المقاتلة بالملائكة؛ لتقارب الأشياء وحبوط الأجر أو هبوط الأجَل..

تُشعِر التركيبة المحبَكة في العبارة بوجود أشياء تتقارب.. تدنو بسرعة.. وكأنّ الأشياء تتزاحم وتلتصق بعضُها ببعض، ولا تكاد تعطي فُرجة، فهي قريبةٌ تتسارع في التتابُع ويلتو بعضها بعضاً، حتّى لَكأنّها تتحقّق عمّا قريبٍ لا يُحتسَب فيه الزمن، وتتنجّز كلمح بالبصر، وسرعان ما تراها ماثلةً قائمةً علىحصونٍ مشيّدةٍ منيفةٍ عامرةٍ مزدهرة، تشعّ رونقاً ورواءً، وقد أورقَت وأينعَت وأثمرَت واخضلّت..

والزمن لا يُعَدّ في حسابات الله وحسابات مَن سلّطه الله على الزمن، فعمود الزمان واحد، يُرى أوّله كما يُرى آخِره، فالأشياء عنده متقاربة، وكم

ص: 87

سمعنا البشائر منذ أن هبط آدم (علیه السلام) إلى يوم بعث النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) ، ومن يوم بعث النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى اليوم الّذي سيظهر به الوليّ الخاتم (علیه السلام) ، حتّى عُدّ ظهور الوليّ الخاتم سيّد الزمان ووليّ الرحمان قد تحقّق منذ أن وُلد وأشرقَت الأرض بنور ربّها وعمّ الكونَ ضياءُ وجهه المبارك..

إنّ يوم ظهور سيّد الزمان وصاحب العصور والدهور والأزمان قريب.. إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.. وسيأتي عمّا قريبٍ فرَجُ آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وتُشرِق الشمس من مغيبها، ويطلع صبح البشريّة الغارقة في وحل الجهل والعتوّ والطغيان والتَّيه والضلال.. أليس الصبح بقريب؟ وإنّما أمرُ الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كُنْ فيكون! وما أمرُه إلّا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر، وإنّه يُصلح وليَّه بليلة، وستنتهي هذه الليلة بصبحٍ أبلجٍ ساطعٍ لامعٍ متألّقٍ مشرقٍ ناصعٍ أنور..

ما أقرب ذلك اليوم؛ لتقارب الأشياء، وتقارب الزمان، وتقارب الأُمور، وتقارب حركة البشريّة..فسرعان ما تنقضي هذه الأشياء الحرم، والأيّام الحرم، والسنين الحرم، والزمان الحرام، والليالي والأيّام الحرام.. وللزمان الحرام أحكامه ومقتضياته وسلوكيّاته وحوادثه وشروطه وظروفه..

إنّه زمن الطاغوت، وحكومة الشيطان، ودولة الباطل.. وسيأتي الزمن الّذي يعمّ فيه نور الله الّذي لن يُطفَأ، وتكون فيه دولة الحقّ المطلَق..

ففي دولة الباطل.. دولة حكومة الظاهر، لا حاجة للقتال بالملائكة، إذ

ص: 88

سيأتي اليوم الّذي تنزل فيه الملائكة لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

تقارُبُ الأشياء.. تقارُبُ دولة الحقّ..

ربّما كان كلام الإمام (علیه السلام) يشير إلى الرجعة والكَرّة.. فإنّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) يوماً مشهوداً قادماً لا محالة، سيكون النصر المحقَّق يومها..

فإذا كانت الأشياء تتقارب، فلا حاجة لاستعجال الزمن القادم عمّا قريبٍ على كلّ حال!

روي في (الكافي) الشريف بعد حديث الوصيّة الطويل، عن حريز قال:

قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام) : جُعلتُ فداك، ما أقلَّ بقاءكم أهلَ البيت وأقربَ آجالكم بعضها من بعض، مع حاجة الناس إليكم!

فقال: «إنّ لكلّ واحدٍ منّا صحيفة، فيها ما يحتاجُ إليه أن يعمل به في مدّته، فإذا انقضى ما فيها ممّا أُمِر به عرف أنّ أجله قد حضر، فأتاه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ينعى إليه نفْسَه وأخبره بما له عند الله.وإنّ الحسين (علیه السلام) قرأ صحيفته الّتي أُعطيها وفُسّر له ما يأتي بنعي، وبقيَ فيها أشياء لم تُقضَ، فخرج للقتال، وكانت تلك الأُمور الّتي بقيَت أنّ الملائكة سألَتِ اللهَ في نصرته فأذن لها، ومكثَتْ تستعدّ للقتال وتتأهّبُ لذلك حتّى قُتِل، فنزلَت وقد انقطعَت مدّتُه وقُتل (علیه السلام) ، فقالت الملائكة: يا ربِّ، أذنتَ لنا في الانحدار وأذنتَ لنا في نصرته، فانحدرنا وقد قبضتَه! فأوحى الله

ص: 89

إليهم أن الزموا قبره، حتّى تروه وقد خرج فانصروه، وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته، فإنّكم قد خُصصتُم بنصرته وبالبكاء عليه. فبكت الملائكةُ تعزّياً وحزناً على ما فاتهم من نصرته، فإذا خرج يكونون أنصاره» ((1)).

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) :

«إنّ لكلّ واحدٍ منّا صحيفة»: ...

أنّ الله (تعالى) جعل لكلّ واحدٍ منهم شؤوناً وأعمالاً، قدّر الله لهم أن يأتوا بها، فإذا انقضى تلك الأُمور كان ذهابهم إلى عالم القدس أصلح لهم.

والنعي: خبر الموت، «ينعى» في النُّسَخ بصيغة المضارعالمجهول، وفي بعضها: «بنعي» بصيغة المصدر وباء المصاحبة.

«لم تُقضَ»: على بناء المجهول، أي: كُتب فيها أشياء لم تتحقّق بعدُ، منها أنّه يخرج في آخر الزمان في الرجعة وتنصره تلك الملائكة، وهو بعدُ متوقّعٌ لم يتحقّق ... وفي (كامل الزيارة): «لم ينقص».

قوله (علیه السلام) : «فنزلَت وقد انقطعَت مدّتُه»، أقول: يظهر من بعض الأخبار أنّ الملائكة عرضوا عليه نصرتهم، فلم يقبل، واختار لقاءَ الله (تعالى)، فيمكن أن يكون هذا في المرّة الثانية من نزولهم.

قال السيّد ابن طاووس (رضی الله عنه) في كتاب (اللهوف): ورُوي عن

ص: 90


1- الكافي للكلينيّ: 1 / 283 ح 4.

مولانا الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين (علیه السلام) وعمر بن سعد (لعنه الله) وقامت الحرب، أُنزِل النصر حتّى رفرف على رأس الحسين (علیه السلام) ، ثم خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله (تعالى)، فاختار لقاءَ الله».

ورُوي أيضاً عن أبي جعفرٍ الطبريّ، عن الواقديّ وزرارة بن صالح قالا: لقينا الحسينَ بن عليٍّ (علیه السلام) قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيّام، فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبوابُ السماء ونزلَت الملائكةُ عدداً لا يُحصيهم إلّا الله (تعالى)، فقال (علیه السلام) :«لولا تقارُبُ الأشياء وحُبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، ولا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ».

وروى الصدوق في (مجالسه)، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «أربعة آلاف ملَكٍ هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن عليّ (صلوات الله عليه)، فلم يُؤذَن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان، وهبطوا وقد قُتل الحسين (علیه السلام) ، فهم عند قبره شُعثٌ غُبرٌ يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملَكٌ يُقال له: منصور».

وأقول: الظاهر أنّ عدم الإذن منه (علیه السلام) ، ويُحتمَل أن يكون من الله، لكنّه بعيد.

قوله (علیه السلام) : «وقد خرج»، أي: في الرجعة قبل القيامة، بقرينة

ص: 91

النصرة.

واعلم أنّ الرجعة _ أي: رجوع جماعةٍ من المؤمنين إلى الدنيا قبل القيامة، في زمن القائم (علیه السلام) أو قبله أو بعده، ليروا دولة الحقّ ويفرحوا بذلك وينتقموا من أعدائهم، وجماعةٍ من الكافرين والمنافقين، ليُنتقَم منهم _ ممّا انفردَت به الإماميّة وأجمعوا عليه، وتواترت به الأخبار ودلّت عليه بعض الآيات، وقد وقعَت مناظراتٌ كثيرةٌ في ذلك بين علماء الفريقَين، وكتب علماؤنافي إثباتها كتباً مبسوطة، منهم: أحمد بن داوود الجرجانيّ، والحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائنيّ، والفضل بن شاذان النَّيسابوريّ، والصدوق محمّد بن بابوَيه، ومحمّد بن مسعود العيّاشيّ، والحسن ابن سليمان تلميذ الشهيد، وقد ذكرها متكلّمو علمائنا، كالمفيد وشيخ الطائفة وسيّد المرتضى والعلّامة والكراجكيّ (رضی الله عنهم) ، وغيرُهم من علماء الإماميّة، وجميع كتب الحديث المتداولة الآن مشحونةٌ بذِكرها، وقد أوردتُ في المجلّد الثالث عشر من كتاب (بحار الأنوار) أزيد من مئتَي حديثٍ نقلاً عن نيفٍ وأربعين أصلاً من الأُصول المعتبرة، وكلّها صريحةٌ في إثبات الرجعة ... ((1)).

فالمقصود هنا الإشارة إلى الرجعة، وأنّ للإمام الحسين (علیه السلام) يوماً سيأتي على هؤلاء الأوغاد والوحوش الكواسر، ويقضي عليهم وينتصر عليهم بجنودٍ

ص: 92


1- مرآة العقول للعلّامة المجلسيّ: 3 / 199.

من الملائكة، وليس اليوم الّذي هو فيه قبل ذلك الحين يوم الانتصار بالملائكة، وإنّما هو يوم طلب الأجر، والاجتيازِ من هذه الدنيا الفانية الزائلة، والصبرِ وكظم الغيظ، والعملِ بالوصيّة في دولة الباطل، وسيأتي اليوم الّذي تكون فيه الدولة للحقّ، وتنتهي جولة الباطل.

الومضة الثامنة: حبوط الأجر

حَبِطَ حَبْطاً وحُبوطاً: عَمِلَ عَمَلًا ثمّ أفسَدَه.. بَطُل ثوابُه وأحبطه اللّه ((1)).

المانع الأوّل الّذي ذكره الإمام (علیه السلام) لقتالهم بالملائكة المنزلين، هو تقارُبُ الأشياء..

المانع الثاني: هو حبوط الأجر..

ربّما كان (حبوط الأجر) المذكور مقابل نزول الملائكة يشير إلى مَن سيطلبون الأجر بالإمام (علیه السلام) من أهل البيت والأنصار (علیهم السلام) ، الّذين سيقومون مقام الملائكة المنزلين في القتال ومواجهة العدوّ والذبّ عن الإمام (علیه السلام) وحريمه وحرمه.

فالإمام (علیه السلام) يحبّ هؤلاء القوم حُبّاً خاصّاً.. يريد لهم كلّ الخير.. يريد أن يجمع لهم كلّ الأجر.. لا يدَعُ فرصةً لهم في الرقيّ والسموّ والسموق

ص: 93


1- أُنظر: لسان العرب: حَبَطَ.

والرفعة والتحليق في أعالي الجنان إلّا جمعها لهم..

إنّها الفرصة الّتي لا تُعوَّض، ولا يمكن أن يكون لها بديل..

إنّه المقام الرفيع الّذي لا يصله أحدٌ سوى أنصاره وأهل بيته (علیهم السلام) ، الّذين "وقفوا يدرؤون عنه سُمرَ العوالي، بالنحور البيض"..

إنّها منزلة «لا أعلم أصحاباً.. ولا أهل بيت»..عاشوراء.. كربلاء.. يومٌ حاز فيه أصحابُ الإمام (علیه السلام) وأهلُ بيته رُتَباً يغبطهم عليها الأوّلون والآخِرون، إلّا مَن استثناهم الله.. يومُ جمْع الأجر..

يومٌ قال فيه العابس لشوذب: إنّ هذا اليوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكلّ ما قدرنا عليه ((1))..

يومٌ أذن فيه الإمام لابن أخيه القاسم (علیهم السلام) _ وهو لم يبلغ الحُلُم _ بالقتال والرحيل إلى الجنان.. لأنّه اليوم الّذي لا يوم كمِثله، ولمثل القاسم ابن الحسن أن ينال درجته، ولا يُحرَم من هذا الأجر العظيم..

الكلام في ذلك يطول.. والخلاصة: أنّ يوم عاشوراء ومشهد كربلاء أجرٌ يُخشى عليه أن يُثلَم بالحبوط.. ولو قاتل الملائكةُ عن الأصحاب وأهل البيت (علیهم السلام) ، لَفاتهم هذا الأجر!

ص: 94


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 443، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 22، نفَس المهموم للقمّيّ: / 281، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 298، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 28، العوالم للبحرانيّ: 17 / 272، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 309، أسرار الشهادة للدربنديّ: 298، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 192.

نكتفي بتصوير مانع (حبوط الأجر) فيما يخصّ الأنصار وأهل البيت (علیهم السلام) .

الومضة التاسعة: هبوط الأجَل

في بعض نُسَخ (اللهوف): «هبوط الأجَل» ((1)).

وفق هذه النسخة يكون المانع المذكور هو نزول الأجَل، والمقدَّركائن، والأشياء متقاربة، لا محيص من يومٍ خُطَّ بالقلم.. ولمّا كان الأجل قد هبط واقترب، والإمام (علیه السلام) قلبه مسكن إرادة الله، وهو لا يريد إلّا ما أراد الله، ولا يصدر منه إلّا ما أراد الله، ولا يفعل إلّا في دائرة قضاء الله وقدَره، فلا يسخّر الملائكة وهم طوع إرادته ورهن إشارته.

الومضة العاشرة: عِلم الإمام (علیه السلام) بمكان مصرعه ومصرع أصحابه

«ولكن أعلم عِلماً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، لا ينجو

ص: 95


1- اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، وفي بعض نُسَخ (اللهوف) و(الأسرار) و(اللواعج) و(الناسخ): «حبوط الأجر»، وفي (المعالي): «هبوط الأجر».

منهم إلّا وَلدي عليّ» ((1)).

هذا الاستثناء والاستدراك الوارد في كلام الإمام (علیه السلام) ، ينفع كثيراً في تفسير متعلّقات (لولا)، فهو تتمّةٌ للكلام.

بعد ذِكر المانع من المقاتلة بالملائكة، استدرك الإمام (علیه السلام) وقال أنّه يعلم عِلماً يقيناً أنّ هناك مصرعه ومصارع أصحابه، فهو يسير إلى القدَر المحتوم الّذي قدّره الله له برضىً من سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وهذا التقرير فيه بُعدان لائحان متداخلان متشابكان متّصلان، وهو يشيرإلى حقائق طويلةٍ غير متعارضةٍ ولا متباينة، وإنّما هي تحكي واقعاً واحداً بكِلا بُعدَيه.

فالكلام في بُعدٍ من أبعاده يُعَدّ إخباراً غيبيّاً عمّا سيقع في مستقبل الأيّام القريبة المتسارعة المتلاحقة الّتي ستأتي على آل الرسول وعترته (علیهم السلام) ، وتتهاوى نجوم سماء الولاية على صعيد كربلاء، ولا ينجو منهم إلّا الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) ، وهذا ما سنكل الحديث عنه إلى محلّه، إذ أنّنا بنينا البحث هنا على متابعة الأحداث التاريخيّة وفق المشاهد الّتي يرسمها المؤرّخ ويتعامل معها.

ص: 96


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.

ومن جهةٍ أُخرى:

إنّ الإمام (علیه السلام) يرسم لنا من خلال هذه الكلمات المحكَمات الواضحات مشهداً مروّعاً تنهد له الصمّ الصلاب.

فها هو العدوّ قد أعدّ واستعدّ، واستعجل الزمن وسابق الأيّام، ليقتل الإمام (علیه السلام) كيف كان وأينما كان، مهما كلّفه الأمر، وهو مستعدٌّ تمام الاستعداد لهتك حرمة الدم الزاكي في البيت الحرام، والإمام (علیه السلام) يستعجل الأيّام ليخرج من الحرم، تفادياً لهذه الكارثة الّتي لا يرضاها الإمام (علیه السلام) .

والإمام (علیه السلام) يعلم _ بغضّ النظر عن علم الإمام والإخبارات الغيبيّة _ أنّ القوم قد صفّوا صفوفهم، وحشّدوا عساكرهم، وجحفلوا جنودهم في الكوفة ينتظرونه، وقد ضخّوا جميع طاقاتهم الإعلاميّة والمادّيّة من سلاحٍورجالٍ وعدّةٍ وعديد، وجوّعوا وحوشهم وكواسرهم وقدحوا أنيابها وأنيابهم ليقطّعوا أوصاله وأوصال مَن معه، ليملؤوا أكراشاً وأجربةً سُغباً جُوفاً..

لو تسنّى الأمر للعدوّ أن يقضي على الإمام (علیه السلام) في المدينة أو في مكّة لَفعل، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) منع ذلك!

فتوجّه الإمام (علیه السلام) نحو العراق، قاصداً الأرض الموعودة والأنصارَ القليل الديّان المنتظرين لفرجهم بقدوم إمامهم (علیه السلام) ليفدوه بالغالي والنفيس، والعدوّ يعلم أنّ الآفاق قد سُدّت في وجه وجه الله ووجه رسوله (صلی الله علیه و آله) ، لأنّه لم يترك وسيلةً تُحقّق له هذا الغرض إلّا ارتكبها، فاطمأنّ أن لا وجهة للإمام (علیه السلام) سوى الكوفة، فأعدّ هناك واستعدّ.

ص: 97

والإمام (علیه السلام) يعلم _ أيضاً بغضّ النظر عن علم الإمام والغيب، بل وفق مجريات الأحداث وتقييم الأشخاص، من أمثال يزيد وابن زياد _ أنّ العدوّ قد عزم على استئصال شأفة النبيّ (صلی الله علیه و آله) واجتثاث ذرّيّته من جديد الأرض، حتّى الطفل الرضيع، وقصد _ خائباً خاسراً _ أن يُطفئ نورَ الله، ولا يدع شيئاً ممّا يذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقيم سنّته، ويثأر لفطائس الجاهليّة أضعافاً مضاعفة، فلا يبقى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) عينٌ ولا أثر، وأبى إلّا أن يُدفَن ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعترته دفناً دفناً!

والإمام (علیه السلام) يعلم أيضاً أنّ أصحابه وأهل بيته (علیهم السلام) لا يتوانون فيالدفاع عنه ومنعِ العدوّ عنه، كبيرهم وصغيرهم، شيوخهم وشبّانهم، هرمهم وفتيانهم..

كلّهم يدٌ واحدة، وسيفٌ واحد، ورمحٌ شارعٌ في نحور الأعداء.. لا تتراخى قبضاتهم عن مقابض سيوفهم حتّى تتهاوى سيوفهم ورماحهم، فيهوون على صعيد كربلاء، ويرتقون منها ليصافحوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ويشكروا الله على نعمة الدفاع عن ذرّيّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، ويتقدّموا بين يدَي رسوله (صلی الله علیه و آله) ليقولوا: هل وفينا؟!

فالعدوّ سيقتل كلَّ مَن يمتّ لمحمّدٍ وآل محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) بصِلة.. والأنصار بما فيهم أهل البيت (علیهم السلام) سيدفعون عن إمامهم، ولا يدَعون شوكةً تشوكه وصبيته ونساءَه ما دام فيهم عِرقٌ ينبض وعينٌ تطرف!

والإمام (علیه السلام) يعلم يقيناً أنّ الأرض لا تخلو من حُجّة، ولو خلَتْ من

ص: 98

الإمام الحجّة طرفة عينٍ لَساخت بأهلها، وانخرم عِقد التكوين، وباد نظام الكون، وخرّت الكواكب والنجوم، وتدكدكت الجبال على السهول، وتناثرت المخلوقات طُرّاً، وبلغَت الدنيا آخِرَ مداها، ولَقامت القيامة.. وفي عِقد الإمامة شموس الأئمّة من بعد خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، فسوف لن يصل العدوّ إلى الإمام بعد الإمام، وليس له أن يقتله، فهذا خارجٌ عن حدّ الاختبارات والابتلاءات البشريّة؛ لأنّ بوجوده بعد أبيه وجود الكون واستمرار الدنيا، وبقاء التخطيط الربّانيّ لمسيرة البشريّة والتكوين.فالإمام الحسين (علیه السلام) يُخبِر هذين الرجلَين أنّ القوم لا يفتروا عن ملاحقته حتّى يقتلوه ويستخرجوا العلقة المقدّسة من صدره ويتشفّوا بقتله، ولو كان الأمر إليهم وتمكّنوا من فعلتهم الشنيعة لَفعلوها أينما كان، غير أنّ الإمام (علیه السلام) منعهم من ارتكابها في المدينة، وهو مانعُهُم من ارتكابها في مكّة، والأرض كلّها سيفٌ مشهورٌ وسنانٌ شارعٌ وشعلةٌ واحدة، ليس فيها ناصرٌ ولا معين، إلّا العدد المحدود المتوافر في الكوفة من أنصار الحقّ، والعدد الضخم المتراكم من أنصار القرود، وهو الفرجة الوحيدة والطريق الوحيد المفتوح من بين جدار الأعداء المرصوص المحيط بالإمام (علیه السلام) وأهل بيته وأنصاره، فلابدّ من التوجّه إلى العراق!

ويمكن التعبير عن كلام الإمام (علیه السلام) بعبارةٍ أُخرى:

إنّ الإمام (علیه السلام) يُخبِر عن قتل القوم له..

يُخبِر أنّ القوم سيقتلوه ومَن معه، لا يستثنون أحداً إلّا مَن سيحفظه

ص: 99

جبّار السماوات والأرض القويُّ المقتدر القهّار الّذي لا يُغلَب..

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يُخبر عمّا يريد أن يفعله هو، إذ أنّ موقفه واضح.. موقف الدفاع عن النفس والأهل والأحبّة.. وإنّما يُخبر عن فعل الأعداء..

هم الأعداء الّذين يريدون قتله.. فأخبر الإمام (علیه السلام) عن موضع قتله ومدفنه وحفرته..

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّ مصرعه هناك.. ليس في المدينة.. ليس في مكّة..وليس في مكانٍ آخَر..

هكذا هي حركة الحوادث ومجريات الأحداث المترتّبة على محاصرة العدوّ للإمام (علیه السلام) ، وسدّ الآفاق أَمامه إلّا أُفق العراق.. الأُفق الّذي اختاره الله لسيّد الشهداء (علیه السلام) برضاه..

ولو أراد الإمام (علیه السلام) أن يواجه هذا العتوّ والطغيان بالإعجاز، وأنْ يقاتلهم بالملائكة والجنّ لَقاتلهم، بَيد أنّه اختار ما اختاره الله وقدّره له، لينال الدرجة الخاصّة به، ويفي بعهده الّذي عاهد اللهَ به..

صلّى الله عليك يا غريب الغرباء، وعلى المستشهَدين بين يديك.

الومضة الحادية عشرة: لا ينجو!

اشارة

قال الإمام (علیه السلام) : «لا ينجو منهم، إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) ».

تُلاحَظ في هذه الفقرة من كلام الإمام (علیه السلام) عدّة ملاحظات:

ص: 100

الملاحظة الأُولى: دمج أهل البيت والأنصار

ذكر الإمام (علیه السلام) مصرعه أوّلاً، ثمّ ذكر مصارع أصحابه، واستثنى الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، فهو (علیه السلام) قد دمج أهل البيت والأنصار هنا تحت عنوانٍ واحدٍ ولم يميّز بينهم، ولم يقُلْ: لا ينجو من أصحابي وأهل بيتي إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) ؛ إذ أنّ القتل يحاصرهم جميعاً على حدٍّ سواء، فهم من هذا الحيثلا فرق بينهم.

الملاحظة الثانية: مرجع الضمير

إستعمل الإمام (علیه السلام) ضميراً يرجع إلى أصحابه: «لا ينجو منهم»..

ومرجع الضمير هو أصحابه جميعاً، فلم يُدخِل نفْسَه المقدّسة في مرجع الضمير، وكان من الممكن أن يقول: لا ينجو منّا أحدٌ إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) .

ربّما كان في ذلك إشارةٌ إ

ص: 101

«فإنّ القوم إنّما يطلبونني، فإذا رأوني لهوا عن طلبكم» ((1)).

«وقد وجدوني ((2))، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري» ((3)).

«فإنهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لَما طلبوكم»((4)).

«والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً» ((5)).

«ولو ظفروا بي لَذهلوا عن طلب غيري» ((6)).

فالإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) هو المطلوب أوّلاً وبالذات، ورأسُه المقدّس ودمه الزاكي، هكذا منذ أن كان في المدينة.. أمّا أصحابه وأهل بيته، إنّما يقصدهم العدوّ لأنّهم وقفوا دروعاً صلبةً دون إمامهم، فالعدوّ لا يصل إلى الإمام (علیه السلام) ما لم يأتِ عليهم.

ص: 102


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 70، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 202.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 393.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 419.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 169.
5- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 74.
6- الأمالي للصدوق: 156، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 315 _ 316، العوالم للبحرانيّ: 17 / 165، وانظُر أيضاً: تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) : 218 الرقم 101، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 152، تأويل الآيات الظاهرة للأسترآباديّ: 47 _ 48، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 90، العوالم للبحرانيّ: 17 / 346، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 270، أسرار الشهادة للدربنديّ: 268.

فإذا كان الإمام (علیه السلام) هو المطلوب، فلا مجال لافتراض أن يدَعَه القوم، فلابدّ أن يكون "دمه مباح، ورأسه فوق الرماح، وشِلوه بشَبا الصِّفاح موزَّعُ"!

أمّا أصحابه، فيمكن افتراض أن ينجو منهم أحد.. ربّما كان هذا ما أشار إليه الإمام (علیه السلام) باستثناء ابنه الإمام عليٍّ السجّاد (علیه السلام) فقط، ولم يُدخِل نفسه فيهم.

الملاحظة الثالثة: التعبير بالنجاة!

قال (علیه السلام) : «لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) » ((1)). هكذا ورد في جميع المصادر الّتي نقلَت هذا الحوار، دون اختلافٍ في الألفاظ.

النَّجاءُ: الخَلاصُ مِن الشيء ((2))، نَجا فلانٌ من الشرّ يَنجُونَجاةً ((3)).

قوله (تعالى): ﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ ((4))، يُقال: نَجّاه

ص: 103


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.
2- أُنظر: لسان العرب: نَجَوَ.
3- أُنظر: العين للفراهيديّ: نَجَوَ.
4- سورة الأعراف: 141.

وأنْجاه، إذا خلّصَه، ومنه: نَجا من الهلاك ينجو، إذا خَلُص منه ((1)).

يبدو أنّ (النجاة) لا تُستخدَم إلّا بمعنى الخلاص من الشرّ، والتخلّص ممّا لا يُحمَد ولا يُرغَب فيه، فالصدق منجاة، ولا يُقال: الكذب منجاة، ولا يقال للخروج والإخراج من الجنّة: نجاة، فيما يكون الخروج من النار نجاة.

وربّما أجمل المعنى بأروع صورةٍ قولُه (عزوجل) : ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ ((2)).

* * * * *

إذا اتّضح معنى (النجاة)..

ربّما أمكن استفادة المحاصرة والهجوم المعتدي على الإمام (علیه السلام) وأصحابه وأنصاره وفرض القتال وتحميله عليهم..

إنّما يمكن افتراض (النجاة) حينما يكون القتل والقتال مفروضاً عليهم من قِبل العدوّ، إذ لو كانوا هم قد أقدموا على القتل والقتال طواعيةً وابتداءً، لَما كان مَن لا يُقتل منهم قد نجا!

إنّهم اختاروا القتل بين يدي سيّد الشهداء (علیه السلام) دفاعاً عنه، لأنّهالمطلوب، وهم الجدار المانع من الوصول إليه، بيد أنّهم أضحوا هدفاً للعدوّ بعد أن عرف أنّه لا يصل إلى الإمام (علیه السلام) قبل أن يقضي عليهم.

ص: 104


1- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحيّ: نَجَوَ.
2- سورة غافر: 41.

ولو كان الإمام (علیه السلام) قد بدأ ودعا لقتالهم وخطّط للهجوم، أو أنّه وقف ليصبح مشتجراً للرماح ودريّةً للسهام ليقتله القوم، فهو قد قصد مقتله قصداً، ومكّن العدوّ من نفسه لأيّ غرضٍ كان، وأصحابه على علمٍ من ذلك، وقد أقدموا على ما أقدموا عليه، ولبسوا القلوب دروعاً على الصدور، وتقدّموا للموت ليقتلهم العدوّ من أجل تحقيق أغراض الإمام (علیه السلام) الّتي قد يرسمها مَن يرسمها ويصوّرها مَن يصوّرها كما يحلو له، فهم حينئذٍ في موقعٍ يُعدّ فيه القتل نجاتهم، ولا يطلق على مَن أنقذته يد القدرة الإلهيّة ب «ينجو».

بل كان بالإمكان التعبير ب : (لا يبقى منهم إلّا وَلدي عليّ)، أو: (لا يتخلّف منهم عن القتل إلّا وَلدي عليّ)، وغيرها من التعابير الّتي لا تستعصي على سيّد الكلام وإمام الفصاحة والبلاغة.

فكلام الإمام (علیه السلام) يعني أنّ الوحيد الّذي سينجو من القتل هو ولده عليّ (علیه السلام) ، فدائرة القتل الّتي خطّها الأعداء محدقةٌ محيطةٌ بهم جميعاً، تطلب خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أوّلاً، ثمّ الأصحاب بما فيهم أهل البيت، لأنّهم السدّ المنيع المنتصب دون وصول الأعداء إلى الإمام (علیه السلام) .

الومضة الثانية عشرة: خلاصة الكلام

يمكن تقرير خلاصة الكلام المستفاد من السياق:

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ذكر مانعين، ولولاهما لَفعل المعجِز بقتالهم

ص: 105

بالملائكة المنزلين الّذين أراهم للراويَين، ثمّ إنّه ذكر أنّه يعلم علماً يقيناً أنّ مصرعه ومصعده ومصرع أصحابه هناك، حيث الأرض الموعودة في العراق، كربلاء.. سواءً أكان إخباره على نحو تقرير سير الحوادث وتقرير الوقائع، أم على نحو الإخبار الغيبيّ..

ولمّا كان القضاء والقدَر قد نزل وحمّ، والإمام (علیه السلام) لا يريد إلّا ما أراده الله، فهو لا يقاتلهم بالملائكة، وإنّما سيقاتلهم بأصحابه، وهم مجموع أهل بيته وأنصاره، كي لا يفوتهم الأجر ولا يحبط، وسيأتي اليوم الّذي ينتقم فيه الإمام (علیه السلام) وأصحابه من أعدائهم وقتلتهم.. ما هي إلّا فترةٌ وجيزةٌ حتّى تبزغ شمس الحقّ، ويجلجل فجر البشريّة بصبحٍ أبلجٍ تشتفي به صدور المؤمنين.. يوم تتصرّم به السنين الحرم، وترتفع به راية الحقّ خفّاقةً عاليةً، ويتحقّق الغرض الإلهيّ من الخِلقة.. أليس الصبح بقريب؟!

كيف كان، لا نحسب أنّ في النصّ ما يشير _ من قريبٍ ولا من بعيد، تصريحاً ولا تلويحاً _ إلى أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد بيّت الخروج (بالمعنى الاصطلاحيّ)، أو خطّط ليُطعِم نفسه وأصحابه سيوف القوم، ويجعل شراب قناهم من دمائهم الزاكية، و«يُوقِف لحمه على المبضعِ.. ويُطعِم الموت خيرالبنين، من الأكهلين إلى الرضَّعِ.. وخير بني الأُمّ من هاشمٍ، وخير بني الأبِ من تُبّع.. وخير الصحاب!»، لأيّ غرض يمكن أن تصوّره العقول البشريّة الكليلة إزاء المعصوم رغماً عنه، راضياً كان بما يصوّرون أم غير راضٍ.

ص: 106

الومضة الثالثة عشرة: الراويان!

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الراويَين ليسا مؤهَّلَين ذاتيّاً للنظر إلى الملائكة وظهور المعجِز لهما..

فالمعجِز والنظر إلى الملائكة ومشاهدتهم وهم ينزلون ليس بالأمر المتيسّر لأيّ أحد، ولولا الإمام (علیه السلام) وقدرته الّتي خوّله الله بها وكشفِه عن أبصارهما، لَما رأيا الملائكة.

والمعجز قد يُظهِره الإمام (علیه السلام) لتقوية إيمان الآخَر وتثبيته وترسيخ علمه، مع ما في المورد المعايِن من مؤهّلاتٍ وسعة إناءٍ وتسليمٍ وقبولٍ للحقّ، كما كان يفعل الأئمّة (علیهم السلام) مع أصحابهم الميامين، وكما فعل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أصحابه الأبرار حين كشف لهم عن منازلهم في الجنّة ليلة عاشوراء.

وربّما أظهر الإمام (علیه السلام) المعجز لإتمام الحجّة واستدراج المجرم، ليرتكس في غيّه وينغمس في أوحال عناده وضلاله، فيكبّه الله على منخريه في النار، فيسدّ عليه طريق النجاة بعد أن يختم الله على قلبه ويطبع علىبصيرته وبصره بغشاوةٍ تؤدّي به إلى الخلود في جهنّم والنيران..

تماماً كما كان يفعل الأئمّة (علیهم السلام) مع أدعياء النار وأئمّة الضلال، وما فعله سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أعدائه يوم العاشر، حيث أراهم من آيات ربّه الكبرى وإجابة دعواته، وانقلاب الدراهم في يد حامل الرأس إلى خزفٍ مكتوبٍ

ص: 107

عليه قوله (تعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((1)) ((2))، والمعاجز الّتي ظهرَت من الرأس المقدّس، وغيرها.

هذان الراويان أخبرا أنّ الإمام (علیه السلام) قد كشف لهما حتّى رأيا الملائكة النازلين..

أليس من الأَوفق بهما _ وقد شاهدا بأُمّ عيونهما الملائكةَ تنزل بأمر الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، والتسديدَ الربّانيّ والاتّصالَ الإلهيّ _ أن لا يفارقاه ويلزما ركابه، ليفوزا بالدفاع عنه والذبّ عن آله آلِ الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ؟!

فلماذا تركاه طعام ظبا القوم، وخذلاه، وأعرضا عنه، وأشاحا عن وجهه؟!

إلى أيّ وجهٍ توجّها بعد أن أعرضا عن وجه الله؟بأيّ حبلٍ اعتصما به بعد حبل الله المتين؟

بأيّ عروةٍ تمسّكا بها بعد العروة الوثقى الّتي لا انفصام لها؟

إنّهما رويا بكلّ قحةٍ ما جرى لهما مع الإمام (علیه السلام) ، ثمّ انكفأ كلُّ واحدٍ

ص: 108


1- سورة الشعراء: 227.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 118 _ 121، المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 482 _ 483، أسرار الشهادة للدربنديّ: 486 و492، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 68 _ 70، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 375 _ 376.

منهما، ورجع إلى حياته الحيوانيّة يتقلّب في قيعان الدنيا، كأنّه دودةٌ تتلوّى في أطيان مستنقع سراب الأيّام المحدودة الزائلة بعد حين.

* * * * *

نسأل الله البصيرة النافذة، والإيمانَ الصلب، والرسوخ في أرض الولاية والبراءة، وإحكام القبضة على حَبل الله، وتمكين الإمساك بالعروة الوثقى الّتي لا انفصال لها، والتوجّه إلى وجه الله، وحُسن العاقبة.

ص: 109

ص: 110

قول أبي سلَمة بن عبد الرحمان في خروج الإمام (علیه السلام) !

اشارة

روى ابن سعدٍ وابن عساكر وآخَرون، قالوا:

وقال أبو سلَمة بن عبد الرحمان: قد كان ينبغي لحسينٍ أن يعرف أهلَ العراق ولا يخرج إليهم، ولكنْ شجّعه على ذلك ابن الزبير ((1)).

* * * * *

نكتفي في التعليق على هذا المتن البائس بوصمه بعدّة وصمات:

ص: 111


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلَب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

الوصمة الأُولى: المجاراة!

متى قال أبو سلَمة هذا القول؟

هل كان أيّام إشراق مكّة بنور وجه الإمام (علیه السلام) وتشرُّفها بأقدامه؟

هل كان أيّام خروجه (علیه السلام) من مكّة، أم إبّان الخروج؟

هل كان بعد أن خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة قبل وصوله إلى العراق؟

هل كان بعد أن وقعَت الواقعة وارتكبوا الجناية العظمى في تاريخ البشريّة؟

هل كان بعد مُضيّ زمانٍ طويلٍ على عاشوراء ومقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

لا ندري، ولم نجد مؤشراً في النصّ يمكن أن يلوّح بزمن صدور هذا الهراء المشؤوم من فم هذا الموجود المنكوب المنكوس المتعفّن المتكلّس.

وربّما أفاد السياق أنّه كان بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، كما سنسمع بعد قليل.

بَيد أنّ القوم ذكروه في خضمّ حوادث خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، كما فعل ابن سعدٍ وتبعه مَن تلاه، فجاريناهم على ذلك، سيّما أنّ النصّ يروي لنا رأيَ أبي سلَمة هذا عن خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة بالذات، سواءً أكان قد قاله أيّام خروج الإمام من مكّة أم قاله بعد ذلك بأيّ فترة، فموضوع هلوساته هو الخروج من مكّة، فناسب أن نذكره هنا.

ص: 112

ولا شكّ أنّ كلامه أتفه وأحقر من المكث عنده والوقوف عليه، بيد أنّ ضرورة البحث وأخبار التاريخ ومعرفة الأجواء تضطرّنا إلى ذلك.

الوصمة الثانية: إرسال الخبر!

ذكرنا أكثر من مرّةٍ ما أشرنا إليه تحت عنوان (المدخل) في المجموعة الكاملة عن وقائع سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وكتاب (بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))، وعرفنا هناك أنّ الإسناد لا يهمّنا كثيراً في البحث التاريخيّ، لأسبابٍ ذكرناها ثَمّة.

بَيد أنّ من يعتمد السند ويرتكن إلى قوّته وضعفه ويبني عليه، لا يجد لخبر أبي سلَمة سنداً، وإنّما هو خبرٌ أرسله ابن سعدٍ إرسالاً من دون ذِكر حتّى الراوي المباشر، ونقل عنه مَن جاء بعده.

الوصمة الثالثة: مَن هو أبو سلَمة؟

أبو سلَمة بن عبد الرحمان بن عبد عوف بن الحارث بن زهره بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، الزهريّ القرشيّ.

وأُمّه: تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حُصين بن ضمضم بن عَديّ بن كلب ((1)).

ص: 113


1- الثقات لابن حبّان: 5 / 1 الترجمة 55.

قيل: اسمه كنيته، وقيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل.

حدّث عن: أبيه، ويُقال: إنّه مرسل، وعن أُسامة بن زيد، وعبد اللَّه بن سلام، وحسّان بن ثابت، ورافع بن خديج، وأُمّ سلَمة، وابنتِها زينب، وعروة، وعطاء بن يسار، وخلقٍ كثيرٍ من الصحابة والتابعين.

حدّث عنه: ابنه عمر بن أبي سلَمة، وابن أخيه سعد بن إبراهيم، وابن أخيه زُرارة بن مصعب، والشعبيّ، والزهريّ، وسعيد المقبريّ، وخلقٌ كثير.

تولَّى القضاء بالمدينة حين وليها سعيد بن العاص في سنة ثمانٍ وأربعين، فلم يزل قاضياً حتى عُزل سعيد سنة أربعٍ وخمسين.

وكان فقيهاً، كثير الحديث.

ويظهر من أخباره أنّه كان معجَباً بنفسه، فعن عائشة أنّها قالت له: إنّما مَثَلك مَثَل الفرّوج، يسمع الدِّيَكة تصيحُ فيصيح.

وعن عمرو بن دينار قال: قال أبو سلَمة: أنا أفقه مَن بالَ. فقال ابن عبّاس: في المَبارِك.

وعن الشعبيّ قال: قَدِم أبو سلَمة الكوفة، فكان يمشي بيني وبين رجُل، فسُئل عن أعلم مَن بقي، فتمنّع ساعةً، ثمّ قال: رجُلٌ بينكما ...تُوفّي بالمدينة في سنة أربعٍ وتسعين، وقيل: أربعٍ ومئة ((1)).

* * * * *

ص: 114


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 279.

هذا هو الرجُل باختصار..

يُعدّ فقيهاً من فقهاء القوم، راويةً من رواتهم، مُكثِراً في الرواية..

قاضياً من قضاتهم، كان على قضاء مكّة.. جاء به الوالي.. انزاح حين أزاحوا الوالي.. فهو أداةٌ من أدواته..

مغرور.. متعجرف.. حقير.. خسيس.. ذليل.. راضخٌ للباطل.. مطأطئٌ للطاغوت.. بطر.. تيّاه.. عتيّ.. متغطرس.. مزهوّ.. صلف.. عاتٍ.. متفاخر..

سنعرف _ بعد قليلٍ _ صدق جميع هذه الخصال الذميمة وزيادةً في هذا الوجود المتنافخ المتضخّم حين نسمع كلامه مع سيّد الكائنات وأشرف المخلوقات بعد مَن استثناهم الله وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله ورسوله وقلوب المؤمنين.

الوصمة الرابعة: ينبغي لحُسين!

إستخدم الواطي المتسافل أدوات التأكيد: (قد)، (كان)، (ينبغي)، لبيان ما يريد التفوُّه به..حينما تنقلب المقاييس وتنتكس القيَم.. حينما يُسلَّط اللئيم ويُستغرب الكريم.. حينما يتسلّط الهجين الوغد بلؤم الغلبة على الحسيب الأثيل الشريف الجواد.. حينما يكون المعبود صنماً خسيساً، ويكون

ص: 115

كتاب الله مهجوراً، ورسول الله منبوذاً.. عندها ينطق الخبيث الدنيء الجلف الجافي الحقود، ويتكلّم هؤلاء الأوغاد الأنذال..

وإذا ارتجّ الوحل المُنتن، وتحرّك المستنقع الآسِن، فلا يمكن أن ينشر في الأجواء أريجاً وطيباً فائحاً، ولا أن يتضوّع منه شذى العطور.. بل إنّه سيفشي ما في أعماقه من زنخٍ نتنٍ أكثر عفناً من مذر البيض..

مَن هو هذا الضئيل الجافي حتّى يتكلّم بلغة (ينبغي) مع الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة على الخلق مِن قِبل الله (تبارك وتعالى)، ويؤكّد ذلك بقوله: «قد كان»؟!!

ويبدو واضحاً لمن استمع لما يسيح من بين أسنان هذا الوقح، ويتساقط من بين شفتيه المشقّقة بالجفاف والجفاء، مبلغُ الغرور والزهو والقحة وقلّة الأدب الناشئة من غلظة الأكباد والسفاهة والبداوة المتوحّشة..

قد كان ينبغي لحسين!!! هكذا بالاسم المجرّد.. وكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) سيّدُ الخلق وأشرفُ الرسل يخاطبه بالاسم المحلّى بالألف واللام منذ ولادته.. (الحسين)!

الوصمة الخامسة: أن يعرف أهلَ العراق!

حدّد أبو سلَمة متعالياً متكبّراً لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ما قد كان ينبغي له أن يعرفه.. «أن يعرف أهلَ العراق»..

ص: 116

تكلّم العبقريّ بعبقريّته الصارخة.. الجهبذ بجهبذته المتفتّقة.. وكأنّه يعرف ما خفي على الآخَرين إلّا هو.. ينبغي أن يعرف أهلَ العراق.. وهل بقيَت قرعاء عمياء شوهاء فقماء كليلة في أرجاء الأرض لا تعرف أهل العراق يومذاك؟!

أعرفهم أبو سلَمة، ولم يعرف الإمامُ (علیه السلام) أعلَمُ الخلق بالخلق؟!

الإمام الّذي عاشهم ومارسهم، ولاين مشاكساتهم، وتلمّس غدرهم، وعالجهم، وتحسّس كوامنهم وظواهرهم وسرّهم وعلانيتهم.. بغضّ النظر عن علم الإمامة.

نعق الغراب.. زقح القرد.. عوى الذئب.. نبح الكلب.. فنطق بعد طول تفكيرٍ ليقول: كان ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يعرف أهلَ العراق!!

أتبلغ القحة بأمثال هذه المخلوقات الّتي تتلّوى في أسن الوقاحة، حتّى تتكلّم بهذه اللهجة المتسافلة مع سيّد الخلق وأعلمهم؟!

لله غربتك يا غريب الغرباء!

* * * * *ربّما كان الآخَرون الّذين حضروا بين يدَي الإمام (علیه السلام) أو أسمعوه كلامهم بنحوٍ ما، وهم يذكّرونه _ حسب زعمهم _ غدر أهل الكوفة يومذاك وتقلّبهم وقتْلَهم أباه وطعنهم أخاه، لا يبعد كثيراً في المحصّلة والنتيجة عن كلام أبي سلَمة، والفرق في لغة الخطاب وتوظيف الكلمات وطرق التعبير، ليس إلّا.

أجل، قد تكون للدوافع والنوايا ومقدار المعرفة دورٌ مؤثّرٌ في طُرق

ص: 117

التعبير وإيصال المراد.

الوصمة السادسة: لا يخرج إليهم!

ربّما أفاد السياق ولحن الشماتة الّذي يرشح من بين الكلمات، أنّ كلام هذا الجرذ المتنافخ كان بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، بل بعد استشهاده، كما يفيد النسق في قوله: «قد كان ينبغي.. ولا يخرج إليهم.. ولكن شجّعه..».

كأنّ هذا المخلوق أراد أن يدلّل في كلامه استدلالاً مبطّناً على خطأ الإمام المعصوم (علیه السلام) ، فاستدلّ بأنّ الإمام (علیه السلام) لم يعمل بما كان ينبغي له أن يعمل به من معرفة أهل العراق قبل الخروج إليهم، وأنّه أقدم على ما أقدم عليه تحت تأثير ابن الزبير وتشجيعه..

ولا ندري هل نسي ما رواه هو نفسه بألفاظٍ شتّى عن أُمّه وسيّدتهعائشة؟

فقد روى الشيخ الطوسيّ مسنَداً عن أبي سلَمة، عن عائشة:

أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجلس حُسيناً على فخذه فجعل يقبّله، فقال جبرئيل: أتحبّ ابنك هذا؟ قال: «نعم». قال: فإنّ أُمّتك ستقتله بعدك! فدمعَت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال له: إنْ شئتَ أريتُك من تربته الّتي يُقتَل عليها. قال: «نعم». فأراه جبرئيل (علیه السلام) تراباً من

ص: 118

تراب الأرض الّتي يُقتَل عليها، وقال: تُدعى الطفّ ((1)).

وفي لفظٍ آخَر، عنه، عن عائشة:

إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجلس حُسيناً على فخذه، فجاء جبريل إليه فقال: هذا ابنُك؟ قال: «نعم». قال: أما إنّ أُمّتك ستقتله بعدك! فدمعَت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال جبريل: إنْ شئتَ أريتُك الأرضَ الّتي يُقتَل فيها. قال: «نعم». فأراه جبريل تراباً من تراب الطفّ ((2)).

وفي لفظٍ ثالث، بالإسناد عن أبي سلَمة، عن عائشة قالت:

كانت له مشربةٌ، فكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذا أراد لِقى جبريل لقيه فيها، فلقيه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) مرّةً من ذلك فيها، وأمر عائشةَ أن لا يصعد إليه أحَدٌ، فدخل حسين بن عليّ، ولم تعلم حتّى غشيها، فقال جبريل: مَن هذا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «ابني». فأخذهالنبيّ (صلی الله علیه و آله) فجعله على فخذه، فقال: أما أنّه سيُقتَل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «ومَن يقتله؟»، قال: أُمّتك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «أُمّتي تقتله؟»، قال: نعم، فإنْ شئتَ أخبرتُك الأرضَ الّتي يُقتَل بها.

ص: 119


1- الأمالي للطوسيّ: 316 ح 642، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 230، العوالم للبحرانيّ: 17 / 126، المعجَم الأوسط للطبرانيّ: 6 / 249.
2- أُنظر: سيرتنا وسنّتنا للعلّامة الأمينيّ: 86 _ عن: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 159، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 187، الصواعق لابن حجَر: 115، الخصائص للسيوطيّ: 2 / 125، كنز العمّال للهنديّ: 6 / 223.

فأشار له جبريل إلى الطفّ بالعراق، وأخذ تربةً حمراء فأراه إيّاها، فقال: هذه من تربة مصرعه ((1)).

أما كان قد ينبغي له أن يذكر ما رواه هو، ليعيد النظر في كلامه؟ أيكذّب اللهَ وجبرائيل ويكذّب رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) ؟ وهو لا زال فقيهاً من فقهائهم، وراويةً من رواتهم، ووجهاً في قضاتهم؟

الوصمة السابعة: تشجيع ابن الزبير!

بعد أن تشدّق هذا المخلوق بما قد كان ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يعرفه من أهل العراق وترك الخروج إليهم، قال: ولكن شجّعه على ذلك ابن الزبير! ((2))

كأنّه يريد أن يسرّب إلى ذهن المتلقّي أنّ الإمام (علیه السلام) كان سيخرج إلى أهل العراق وإن كان يعرفهم ويعرف غدرهم، وذلك أنّه (علیه السلام) وقع تحت تأثير تشجيع ابن الزبير!

ص: 120


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 45 الرقم 270، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 194.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

نستغفر الله، ونعتذر من مليكنا وحبيب قلوبنا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) من هذا الكلام، ولكنّها قحة القوم وصلافتهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

* * * * *

ينمّ هذا الكلام عن مدى جهل القائل، وتباعدِه عن الأحداث وعيشه خارج الوقائع، وانعزاله وتقوقعه على ذاته وانطلاقه منها..

لقد أجمع المؤرّخون والرواة، واتّفق القريب والبعيد والشاهد والغائب أنّ الإمام (علیه السلام) كشف لابن الزبير زيفه وكذبه وتمنّيه خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وأنّ الإمام (علیه السلام) لم يقبل من ابن الزبير..

مَن هو ابن الزبير حتّى يؤثّر على الإمام (علیه السلام) ، ويغيّر مساره وعزمه وخياراته؟!

لقد أتينا على بيان ذلك مفصّلاً فيما مضى من الدراسة، فلا حاجة للإعادة.

تفاهة قول أبي سلَمة وسخافة عقله وحماقته وطيشه في الكلام ونزقه في التقدير وخطله في التفكير وزلله في التعبير، يمنع العاقل من الاسترسال معه ومناقشته في مِثل هذه الفرية المقذعة الخرقاء البليدة الركيكة الّتي لا تصدر إلّا من أهبلٍ أرعنٍ أنوك.

ص: 121

الوصمة الثامنة: محاولات تخطئة الإمام (علیه السلام) !

يُلاحَظ فيما يرويه لنا المؤرّخ ويقرّره السلطان في رواية أخبار الملاحقين للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) والمعترضين عليه، أنّهم جميعاً يحاولون بشتّى الوسائل وعلى مختلف الألسنة والمواقف، من الأقرباء مثل ابن عبّاس، والبعداء كابن عمر وغيره، والفقهاء من قبيل أبي سلَمة وغيره، والشعراء مثل الفرزدق، والنساء والرجال، والحكّام والمحكومين، وغيرهم..

الجميع يتّفقون على محاولة تخطئة الإمام المعصوم سيّد الشهداء (علیه السلام) في أمرَين:

أحدهما: الخروج على الحاكم.

والآخَر: اختيار العراق واستعجال الخروج من مكّة.

هكذا هم يصوّرون المشهد من خلال اتّفاقٍ وتوجيهٍ من قِبل السلطان، وربّما كان بعضهم وقع تحت تأثير الجوّ الإعلاميّ السائد يومذاك، أو قرأ المشهد من خلال ما ضخّوه من انفعالات..

بدأ برسم المشهد المضلّل أوّلُ ظالمٍ أزاح الحقّ عن محلّه وأبعد أمير المؤمنين عن موقعه الّذي اختاره الله له، ثمّ تتابع القوم حتّى وصلَت النوبة إلى نغل معاوية، فألقى بذرة النفاق والتضليل لتشويه الصورة وتلويث الأجواء، ثمّ تتابع القوم على ذلك.إذ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح ولم يُعثَر له على موقفٍ _ في المدينة ومكّة

ص: 122

على الأقلّ، حيث نحن الآن نتابع الأحداث _ ما يفيد الخروج على الحاكم!

أجل، صرّح عدوّه بذلك، وتبعه مَن أطاعه، أو قرأ المواقف من خلال الجوّ العامّ الّذي أوجده الإعلام المعادي.

واستعجاله (علیه السلام) الخروج من مكّة، فهمه القومُ استعجالَ الخروج على الحاكم، واستعجالَ الوصول إلى الكوفة والأنصار المزعومين.. هكذا صوّروه وأذاعوه، وعلى هذا الأساس تعاملوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وعارضوه.

والإمام (علیه السلام) يصرخ فيهم مرّةً بعد أُخرى وساعةً بعد أُخرى، في جميع المواقف والمواطن والمشاهد، إنّه إنّما يستعجل الخروج من مكّة ويسابق الزمن ويحسب للأيّام والساعات ويترك البيت الحرام والمشاعر المقدّسة أيّام الحجّ والمناسك لأنّه إنْ بقي فيها يُقتَل.. يُقتَل.. يغتاله العدوّ.. أو يأخذه أخذاً..

هذه حقيقةٌ جازمةٌ قاطعةٌ، لا شكّ فيها ولا تغبيش، ولا تعمية ولا تشويش..

لماذا يسمع الناسُ كلَّ مَن هبّ ودبّ، ولا يصغي أحدٌ للإمام (علیه السلام) لحظة؟!واختياره العراق دون غيره؛ لأنّ الآفاق قد سدّها العدوّ، فلم يجعل له سوى أُفُق العراق، وقد خذله أهلُ الأرض، وتقاعس عنه أهل الأمصار، وتقاعد أهل البلدان، وتثاقلَت العشائر والقبائل، وصمّت أسماعها وفقأت أعينها..

ص: 123

ليس له إلّا العراق الّذي يتسامع الناس منه زعقاتٍ تشبه صرخات النصرة، وفيه الكنز المخفيّ الّذي كان ينتظر إعلان ساعة الانطلاق إلى السعادة الأبديّة بالوقوف ردءاً وسوراً منيعاً دون بني فاطمة الشريفة، وهم أقلّيّة.. أقلّيّةٌ قليلةٌ جدّاً بحساب العدد.. بَيد أنّهم أنصارٌ حقيقيّون، يحسب عليهم الإمام (علیه السلام) ، ويتحسّب منهم العدوّ... فقصد العراق!

الوصمة التاسعة: خطورة رأي القائل

روى أبو سلَمة عن خلقٍ كثير، وروى عنه خلقٌ كثير.. يمكنك أن تجد اسمه متداولاً في أُمّهات كتب القوم ممّا يسمونها: (الصحاح)، وتسرّب لأغراض الاحتجاج والإلزام وغيرها إلى كتبنا.. ووجوده في كتبنا لا يعني أنّه من تراثنا، فتراث الشيعة _ أعزّهم الله وكثّرهم _ إنّما هو ما يرويه شيعيٌّ عن شيعيٍّ عن الإمام المعصوم (علیه السلام) !

راويةٌ مكثِرٌ كأبي سلَمة.. يعدّه القوم من كبراء فقهائهم، وله فتوىً وآراءٌ كثيرةٌ منتشرةٌ في كتبهم، وقد أكثر الفتوى حتّى نقل عنه الشيخالطوسيّ _ أعلى الله مقامه _ أربع فتاوى ((1)) في كتبه الشريفة.

راويةٌ مكثِر، وفقيهٌ عند القوم.. نزا على كرسيّ القضاء في مكّة بأمر

ص: 124


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 279.

الوالي ((1)).

فهو: راوٍ، فقيهٌ، قاضٍ.. عند القوم.

يعني أنّه مؤهَّلٌ عندهم تمام التأهيل ليطلق حكمه على مَن يشاء مِن خلق الله، ويُفتي في الدماء والأعراض.

وإطلاقه رأياً كمِثل هذا الرأي البائس في سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يُعدّ بمثابة إصدار فتوىً بقتله، وتحمُّل مسؤوليّة دم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي سكن الخلد ودماءِ أهل بيته وأنصاره الزاكية، وتجويز ما وقع من القوم من ظلمٍ وجَورٍ واعتداءٍ على عرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته ونسائه وأطفاله (علیهم السلام) ..

هنا تكمن خطورة إطلاق هذا الرأي من مِثل هذا المخلوق!

ويبدو أنّ العدوّ قد وظّف سابقاً ولاحقاً أقوال وآراء المعارضين من ذوي الوجاهة عند القوم، وقد سمعنا مواقف بعضهم فيما مضى، في التحشيد والتجييش ضدّ الإمام (علیه السلام) ، والتسويغ والتبرير والتسويق للظالم وتجويز ما وقع منه.

الوصمة العاشرة: كلامه ليس مع الإمام (علیه السلام)

لا يخفى على المتلقّي أنّ كلام أبي سلَمة هذا هو نفخٌ في الهواء، تكلّم وحده وأبدى رأيه لنفسه، ولم يكن موقفاً مع الإمام (علیه السلام) ولا حديثاً معه،

ص: 125


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 279.

وإنّما حصل في غياب الإمام (علیه السلام) ومَن معه.

لا ندري ما هي العلّة الّتي قعدَت به والسبب الّذي عوّقه عن الحضور بين يدَي الإمام (علیه السلام) والحديث معه مباشرةً، مع ما يدّعيه هو في نفسه؟!

لذا لا يمكن حمل كلامه إلّا على سوء الظنّ به، وفهمه ضمن إطار الكلمات المعادية والمواقف الشامتة والتحرّكات الضارّة المؤذية.

ولمّا كان كلامه لا قيمة له، فكلامه هنا أَولى بالسقوط والتهافت والإعراض عن مناقشته وردّه، وإنّما ذكرناه دفاعاً عن سيّدنا ومولانا ومليكنا وإمامنا وشفيعنا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) حبيب الله وحبيب قلوب المؤمنين.

ويكفي لمعرفة جواب الإمام (علیه السلام) عليه لو كان حاضراً، ما سمعناه في ردوده الرصينة الحكيمة المتينة الصائبة القويّة الّتي أجاب بها غيرَه من المعترضين وأمثاله من المعتدين الشامتين.

ص: 126

كتاب المسوّر بن مخرمة إلى الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

وكتب إليه المسوّر بن مخرمة: إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق! ويقول لك ابن الزبير: الحقْ بهم؛ فإنّهم ناصروك. إيّاك أن تبرح الحرم، فإنّهم إنْ كانت لهم بك حاجةٌ فسيضربون إليك آباطَ الإبل حتّى يوافوك، فتخرج في قوّةٍ وعدّة.

فجزّاه خيراً، وقال: «أستخير الله في ذلك» ((1)).

ص: 127


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

* * * * *

المسوّر وكتابه لا قيمة لهما ولا وزن يؤهّلهما لاستحقاق التوقّف الطويل عندهما ومحاولة اكتشاف مغازيهما، بَيد أنّ ورود الخبر في المصادر اقتضى المكث ولو قليلاً، وربّما أفاد هذا المكث استكشاف فضاضة المسوّر وقحته وسخفه، لذا سنتناول كتابه من خلال الضربات التالية:

الضربة الأُولى: مَن هو المسوّر؟

اشارة

المسوّر بن مخرمة بن نوفل بن أُهيب بن عبد مَناف بن زهرة بن كلاب ابن مُرّة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب، الزهريّ القرشيّ، مكّيّ.

ابن أُخت عبد الرحمان بن عوف..

ابن عمّ سعد بن أبي وقّاص..

كنيته: أبو عبد الرحمان..

اتّفقوا على مولده فقالوا: كان مولده بمكّة لسنتين بعد الهجرة ((1))..

اتّفقوا أيضاً أنّه قُدم به المدينة سنة ثمانٍ عام الفتح، وهو ابن ستّ سنين، وقالوا: كان صغيراً في عهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((2)).

ص: 128


1- أُنظر: الثقات لابن حبّان: 3 / 394، مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان: 43، الجرح والتعديل لسليمان المالكيّ: 2 / 823.
2- أُنظر: الجرح والتعديل للرازيّ: 8 / 297 الرقم 1366، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 162، التاريخ الكبير للبخاريّ: 7 / 410.

كان من كبراء القوم ورواتهم عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) رغم صغر سنّه، فهو قد عاش في المدينة أيّام صباه، إذ دخلها وهو ابن ستّ سنين عام الفتح، وبعد سنتين انتقل النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى، فيكون عمره يوم استشهاد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ثمان سنين، لا أكثر، بالاتّفاق.

كان من الّذين يتفقّهون بالمدينة بعد الصحابة ((1)).

ويمكن استعراض بعض المفاصل المهمّة في حياة المسوّر كإشاراتٍ سريعة، لأنّه ليس من صلب موضوع بحثنا، وإنّما نضطرّ أحياناً للوقوف عند أمثال هؤلاء لنعرفهم ولو معرفةً إجماليّةً تساعدنا على استجلاء موقفهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وتقييم أقوالهم وكتبهم، لا أكثر.

المفصل الأوّل: روايته عن النبيّ (صلی الله علیه و آله)

سمعنا قبل قليلٍ أنّ القوم اتّفقوا على سنة ولادته وسنة الانتقال به إلى المدينة المنوّرة، ومدّة إقامته في مدينة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهي لا تتجاوز السنوات الستّة الأخيرة من حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقد رحل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعمر المسوّر لا يتجاوز الثمان سنين.

فهو كان طفلاً صغيراً يوم دخول المدينة، وكان صبيّاً صغيراً يوم رحيل

ص: 129


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 166.

النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ولا ندري كيف كان قد تحمّل الرواية عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وهو في هذا السنّ الصغير، من دون أن يُسدَّد بدعوةٍ أو يُعرَف بشيءٍ استثنائيٍّ من ذكاءٍ وفطنةٍ وقوّة حافظة؟!!

المفصل الثاني: مع عمر

كان المسوّر يقول: كنّا نلزم عمر بن الخطّاب نتعلّم منه الورع ((1)). فكان ممّن يلزم عمر ويحفظ عنه ((2)).

وروى عن عمر وعن أبي بكر وعثمان وعبد الرحمان بن عَوف وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان ((3)).

وكان يرى أنّ علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان قد انتهى إلى ستّة، أوّلهم عمر، ثمّ عثمان، وعليّ، ومعاذ بن جبل، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت ((4)).

لزم عمر يتعلّم منه العلم والورع، ويروي عنه، ويرى أنّ علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد انتهى إليه، ولم يلتزم العروة الوثقى الّتي لا انفصام لها، ولم يتمسّك بشجرة طوبى، ولم يقف على باب علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ومَن عِلمُه

ص: 130


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 288.
2- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 161، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 391.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 158.
4- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 39 / 181.

علمُه، ودمُه دمُه، ولحمُه لحمُه، وقولُه قولُه.. وأعرض عن أصحاب الكساء الأربعة (علیهم السلام) الّذين جعل النبيّ (صلی الله علیه و آله) سِلمَهم سلمَه وحربَهم حربَه.

وهذا القدر من الكلام زيادةٌ لمن عرف معاريض الكلام وألقى السمع وهو شهيد، وسمع بحديث الثقلين والغدير المتواترَين.

المفصل الثالث: حضوره في الغزوات

لم يكن المسوّر رجلَ روايةٍ وعلمٍ وانتهى، كما يزعمون فيه، وإنّما كان رجلاً قد مارس القتال _ حسب زعمهم _ وحضر بعض الغزوات، فقد قَدِم مصر سنة سبعٍ وعشرين لغزو المغرب ((1)).

وكان له حضورٌ يوم القادسيّة، فقد روَتْ عنه ابنته أُمّ بكرٍ أنّه وجد يوم القادسيّة إبريقَ ذهبٍ عليه الياقوت والزبرجد، فلم يدرِ ما هو! فلقيه فارسيٌّ فقال: آخذه بعشرة آلاف. فعرف أنّه شيء.

فذهب به إلى سعد بن أبي وقّاص وأخبره خبره، فنفله إيّاه، وقال: لا تبِعْه بعشرة آلاف! فباعه له بمئة ألف، فدفعها إلى المسوّر، ولم يخمّسها! ((2))

وسنسمع بعد قليلٍ جلاده ومشاركته القتال مع ابن الزبير.

ص: 131


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 163.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 170.
المفصل الرابع: مع خاله عبد الرحمان بن عَوف

كان هائماً في حبّ خاله عبد الرحمان بن عَوف، حتّى بلغ به الأمر أنّه أُغمي عليه حينما حضرته الوفاة، ثمّ أفاق، فقال: أشهدُ أن لا إله الّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، عبدُ الرحمان بن عَوفٍ في الرفيق الأَعلى ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ ((1)) ((2)).

وكان يروي عن عثمان أنّه ناداه وقال: يا مسوّر! فقلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! فقال: مَن زعم أنّه خيرٌ من خالك في الهجرة الأُولى وفي الهجرة الثانية، فقد كذب! ((3))

أقول: وأنا أشهدُ أنّ عثمان قد كذب، وأنّ المسوّر قد كذب!

ولم يزل مع خاله عبد الرحمان مُقبِلاً ومُدبِراً في أَمر الشورى ((4)).

المفصل الخامس: رسول عثمان إلى معاوية

كان المسوّر قد قَدِم دمشق بريداً من عثمان، يستصرخ بمعاوية

ص: 132


1- سورة النساء: 69.
2- أُنظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 185.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 35 / 253.
4- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 160، أُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 365.

ويستدعيه إليه لأجل الّذين حصروه ((1)).

فهو ليس ممّن قعد في فتنةٍ عمياء صمّاء جرّت على المسلمين الويلات، وكان له فيها يدٌ ورجْل.

المفصل السادس: تعظيمه لمعاوية

كان المسوّر ممّن يعظّم معاوية ويدخل عليه، ويُكنّ له من التقديس والاحترام والتعظيم ما يجعله في صفّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده، أو أنّه يحاول أن يُضفي عليه صبغة من القداسة أَمام المسلمين، فكان إذا ذكر معاويةصلّى عليه، فقد قال عروة: فلم أسمع المسوّر ذكر معاوية إلّا صلّى عليه ((2)).

وروى الخطيب في تاريخ بغداد ذيل قصّة دخول المسوّر على معاوية، أنّه لم يسمع المسوّر بعد ذلك يذكر معاوية إلّا استغفر له ((3)).

المفصل السابع: مرجعيّة الخوارج

إمتاز الخوارج بحدّيّتهم وتعصّبهم وجمودهم ووحشيّتهم، وقد نثروا التكفير نثراً حتّى ما نجا منهم أحدٌ من عباد الله سابقاً ولاحقاً، وكانوا

ص: 133


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 391، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 158.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 168، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 151، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 246.
3- تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ: 1 / 223.

يكفّرون الناس لأتفه الأسباب، بل لَطالما كفّروا المسلمين لا لسبب، فهم لا يرتضون أحداً من غير ملّتهم، ولا يقبلون بأحدٍ قبل أن يقول بمقالتهم اعتقاداً وعملاً..

فإذا ارتضوا أحداً وعظّموه وانتابوه وأكثروا غشيانه وانتحلوا رأيه والأخذ عنه ومنه، فهو لابدّ أن يكون من المتوغّلين في ضلالهم، والممعِنِين في عدائه لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) .

وكان المسوّر مرجعاً للخوارج، ينتابونه ويعظّمونه وينتحلون رأيه ويغشونه ((1)).

المفصل الثامن: بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)
اشارة

لا يهمّنا كثيراً موقف المسوّر بعد شهادة الإمام سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بعد أن عرفنا موقفه قبل شهادته، بَيد أنّ في بعض النماذج الّتي نسمعها تتميماً للصورة المعتمة والمشهد البائس الّذي رسمه المسوّر من خلال خذلانه وانجحاره وقعوده عن نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) .

ويكفي في تكوين الصورة الإشارة إلى بعض المواقف:

ص: 134


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 160، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 391.
الموقف الأوّل: مع الإمام السجّاد (علیه السلام)

روى البخاريّ في (التاريخ الصغير) قائلاً:

قال الزبيديّ: أخبرَني محمّد بن مسلم أنّ عليّ بن الحسين أخبره أنّهم لمّا رجعوا من الطفّ، وكان أتى به يزيد بن معاوية في رهطٍ هو رابعهم، قال عليّ: «فلمّا قدمنا المدينة، جاءني مسوّر بن مخرمة الزهريّ، قال: ادفعوا إليّ سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمنعه لكم» ((1)).

ورُوي:

أنّ المسوّر بن مخرمة لقي الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، فقال له: هل لك إليّ مِن حاجةٍ تأمرني بها؟ فقال له: «لا». فقال له: فهل أنتمُعطِيَّ سيف رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ؟ فإنّي أخافُ أن يغلبك القوم عليه، وأيمُ اللّه لَئن أعطيتنيه لا يُخلص إليهم أبداً حتّى تبلغ نفسي.

ثمّ روى له على الفور قصّة خطبة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ابنة أبي جهل على سيّدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) في فاطمة (علیها السلام) ((2)).

أعرضنا عن ذكر الخبر مفصّلاً، واختصرناه عن عمدٍ وقصد، ففي تتمّته من الهراء والإفك والباطل والحماقة والخطَل والخرق والركاكة والسخافة، ما يقفّ له الشعر ويقزّز النفس، وفيه من الكذب ما يبعث على الغثيان

ص: 135


1- التاريخ الصغير للبخاريّ: 1 / 247.
2- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 393، أُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 366.

والتهوّع.

ولا ندري ما علاقة كلامه ونسجه كذبته المفترعة المقذعة الهابطة ونقله قصّته المنحطّة وخبره المأفوك الّذي حاكه في خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) لابنة عدوّ الله برجوع الإمام زين العابدين (علیه السلام) المفجوع بأبيه وأهل بيته وأصحابه، الّذي وصل توّاً من رحلة السبي المضنية إلى المدينة، فاستقبله المسوّر بهذه الحكاية المهلهلة التافهة!!

نحن لسنا بصدد إثبات كذب حكايته المتهرّئة، فقد انبرى لإثبات ذلك بكلّ الوسائل العلماءُ وذوو الخبرة، والّذي يهمّنا هنا بيان طيش هذاالأرعن.

فهو قد واجه الإمام (علیه السلام) العائد من رحلة القتل والسبي.. بقيّة السيف.. بوجهٍ كالحٍ جهمٍ شتيمٍ عبوسٍ عصيبٍ قاطبٍ متجهّمٍ مكفهر.. لم نسمع منه كلمة تعزيةٍ ولا سلوة..

لم نسمع منه استرجاعاً ولا حوقلة..

لم نسمع منه تكبيتاً وتوبيخاً للعدوّ.. وكيف يوبّخ ابنَ مَن كان لا يذكره إلّا أن يصلّي عليه ويستغفر له!

لم تندَ منه دمعةٌ ولا موقفٌ شفيفٌ ينمّ عن تأثُّرٍ بالفاجعة العظمى الّتي حلّت بالإسلام والمسلمين، وأتت على آل بيت رسول ربّ العالمين..

جاء إلى الإمام (علیه السلام) قرينِ الدمعة الساكبة وشاهدِ المصيبة الراتبة، وباشر باستعلاءٍ ليقول: هل لك إليّ حاجة! وهو في الحقيقة يريد أن يدلف

ص: 136

إلى حاجته هو من خلال هذا السؤال..

جاء ليتمّم السلب والنهب.. فإن ترك العدوّ الغاشم سيفَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يسلبه، فهو يطمع فيه!

يبدو أنّه كان يعلم أنّ الأعداء لن يصلوا إلى سيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. يعلم أنّ سيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) لابدّ أن يبقى بيد أولاده..

جاء يطلب سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليحميه؟! لئلّا يصل إليه القوم؟!!

عجبٌ _ واللهِ _ لا ينقضي من هؤلاء الأوغاد.. يريد أن يحمي سيفرسول الله (صلی الله علیه و آله) حتّى لا يصل إليه أحد.. وهو قد ترك لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقفاً لشفار القوم وسيوفهم ودريّةً لسهامهم ورماحهم..

يبحث عن الفخر في موضعٍ حرّمه الله عليه وعلى سائر العالمين، وخصّ به محمّداً (صلی الله علیه و آله) وآلَه الطاهرين..

أيريد أن يخدع الإمام زين العابدين (علیه السلام) ؟! أجنونٌ هذا أَم قحة؟ صلافةٌ أَم اجتراءٌ على الله ورسوله وأماناته؟!

أكان ينتظر أن يُقتَل الإمام (علیه السلام) ريحانةُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ليتطاول على ميراثه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيبتزّه، فيأخذ من الإمام زين العابدين (علیه السلام) بالحيلة ما عجز عن أخذه قتَلَةُ أبيه عنوة؟!

لا ندري كيف يمكن للعاقل أن يقف عند هذا الموقف اللئيم.. الموقف الخسيس.. الموقف الوقح.. وماذا يمكن أن يعلّق عليه.. ففي نباهة القارئ ما يُغني عن ذلك.. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ص: 137

أجل، عرفنا أنّه يريد أن يحوز سيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويحميه، فما علاقة هذا بقصّته المشؤومة؟! أكان يريد أن يغيض الإمام (علیه السلام) الّذي منعه ما يريد، فعرّج على سفالاته وأكاذيبه، فحكاها بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليحرق قلبه حين يتعرّض لجدّه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أم كان يريد الكشف عن هويّته وهواه في بغض أمير المؤمنين (علیه السلام) ؟!ألا لعنة الله على الظالمين.

الموقف الثاني: تركيزه على تأثير ابن الزبير على الإمام الحسين (علیه السلام)

روى ابن جريجٍ قائلاً:

وكان المسوّر بن مخرمة بمكّة حين جاء نعيُ الحسين بن عليّ، فلقي ابنَ الزبير، فقال: قد جاء ما كنتَ تمنّى، موتُ حسين بن عليّ. فقال ابن الزبير: يا أبا عبد الرحمان، تقول لي هذا؟ فوَاللهِ ليتَه بقي ما بقي بالحمى حجَر، واللهِ ما تمنّيتُ ذلك له.

قال المسوّر: أنت أشرتَ إليه بالخروج إلى غير وجه! قال: نعم، أشرتُ عليه، ولم أدرِ أنّه يُقتَل، ولم يكن بيدي أَجَلُه، ولقد جئتُ ابنَ عبّاسٍ فعزّيتُه، فعرفتُ أنّ ذلك يثقل عليه منّي، ولو أنّي تركتُ تعزيته قال: مثلي يُترَك؟ لا تعزّيني بحسين؟ فما أصنع؟! أخوالي وغِرةُ الصدور علَيّ، وما أدري على أيّ شيءٍ ذلك.

فقال له المسوّر: ما حاجتُك إلى ذِكر ما مضى وبثّه، دَعِ الأُمور تمضي،

ص: 138

وبرّ أخوالك، فأبوك أحمَدُ عندهم منك ((1)).

هكذا هو المسوّر، قد اقتنع بابن الزبير حتّى ظنّ أنّه الرجل القويّالفاعل الّذي يمكنه أن يؤثّر على الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) فيبني له موقفه، ويمكنه أن يتشيطن على الإمام (علیه السلام) سيّد الكائنات حتّى يخدعه _ والعياذ بالله! _ فيوجّهه حيث يشاء، ليزيحه عن طريقه ويتفرّد بالمشهد، فيحصد ما يريد ويحقّق آماله، فينزو على المنبر.

وهو قد أخطأ في التقديرَين، فلا ابن الزبير بالمستوى الّذي تصوّره له، ولا الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يمكن أن يتصوّر فيه عاقلٌ ما تصوّره المسوّر.

بيد أنّ هذه القناعة الّتي عبّر عنها المسوّر لابن الزبير كأنّها قرارٌ ثابتٌ عند المسوّر، فقد أعرب عنها يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، فقد روى المزّيّ قائلاً:

وخرج الحسين وعبد الله بن الزبير من ليلتهما إلى مكّة، وأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطُلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا.

فقال المسوّر بن مخرمة: عجّل أبو عبد الله، وابنُ الزبير الآن يلفته ويزجيه إلى العراق؛ ليخلوا بمكّة ((2)).

ص: 139


1- تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 441.
2- تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 415.

ثمّ عاد ليكرّرها في كتابه الّذي كتبه لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما سنسمع بعد قليل.

الموقف الثالث: بكاؤه على الإمام الحسين (علیه السلام) !

رُوي في (الدعائم)، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:

«نيح على الحسين بن عليٍّ سنةً كاملةً كلّ يومٍ وليلة، وثلاث سنين من اليوم الّذي أُصيب فيه».

وكان المسوّر بن مخرمة وأبو هريرة وتلك الشيخة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأتون مستترين متقنّعين، فيسمعون ويبكون ((1)).

رواه الميرزا النوريّ في (المستدرك) إلى قوله: «أُصيب فيه» ((2)).

وفي (شرح الإحقاق) للسيّد المرعشيّ:

وعن جعفر بن محمّد، عن أبيه (علیهما السلام) قال: «نيح على الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) ثلاث سنين _ يعني الجنّ _، وفي اليوم الّذي قُتِل فيه».

وعن واثلة بن الأسقع والمسوّر بن مخرمة والمشيخة من أصحاب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وبارك وسلّم _، يجيئون مقتنعين، فيستمعون النوحَ ويبكون ((3)).

ص: 140


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان: 1 / 227.
2- مستدرك الوسائل للنوريّ الطبرسيّ: 2 / 387.
3- شرح إحقاق الحقّ للسيّد المرعشيّ: 33 / 761.

فربّما كان كلام الإمام الصادق (علیه السلام) الّذي رواه صاحب (الدعائم) ينتهي إلى قوله: «أُصيب فيه»، تماماً كما روى صاحب (المستدرك).

وربّما شهد لذلك السياق في بحث صاحب (الدعائم)، إذ أنّه ساقحديث الإمام الصادق (علیه السلام) ضمن الحديث عن جواز النياحة، واستمرّ في ذكر الشواهد، فقال:

وعن جعفر بن محمّدٍ (علیه السلام) أنّه قال: «نيح على الحسين بن عليٍّ سنةً كاملةً كلّ يومٍ وليلة، وثلاث سنين من اليوم الّذي أُصيب فيه».

وكان المسوّر بن مخرمة وأبو هريرة وتلك الشيخة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأتون مستترين ومقنَّعين، فيسمعون ويبكون.

وقد شاهدنا بعض الأئمّة (علیهم السلام) نيح عليهم، وبعضَهم لم يُنَح عليهم، فمن نيح عليه منهم فلِعظم رُزئه، لأنّ الله (عزوجل) لم يسو بأحدٍ منهم أحداً من خلقه، وهم أحقّ بالبكاء والنياحة عليهم، على خلاف سائر الناس الّذين لا ينبغي ذلك لهم ...

إلى أن قال:

وقد ذكرنا مِن ذلك طُرفاً في هذا الباب ((1)).

فلا يبعد أن تكون زيادة بكاء المسوّر وأبي هريرة من كلام صاحب (الدعائم)، وليست من كلام الإمام (علیه السلام) ، وحينئذٍ فلا ضرورة لتتبُّعه

ص: 141


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان: 1 / 227.

والبحث في دلالاته.

ولكن على فرض أنّه من كلام الإمام (علیه السلام) ، رغم بُعده قوياً، فإنّ إتيان المسوّر متقنّعاً متستّراً متخفّياً ليسمع نياحة أهل البيت ويبكي، ليس بالأمرالّذي يكشف عن موقفٍ إيجابيٍّ بعد أن عرفنا مواقفه من أمير المؤمنين وسيّد الشهداء الحسين (علیهما السلام) ، وقد فعلها مروان _ كما روى أبو الفرَج الأصفهانيّ _ حين كان يأتي البقيع فيستمع نُدبة أُمّ البنين (علیها السلام) ويبكي ((1)).

فنياحة آل البيت سنةً كاملةً ليلاً ونهاراً تهدّ الجبال الرواسي وتصدّع القلوب، وهؤلاء الأوغاد ربّما حُملت أفعالهم على محامل لا تفيد التأثّر والانفعال، بل ربّما يمكن حملها حتّى على الشماتة والتشفّي وبكاء الفرح ((2))، سيّما إذا شكّكنا في سبب التخفّي والتستُّر والتقنُّع.

ونياحة الثاكل الفاقدة لا تُحتمَل، كيف بنياحة الفاقدات الثواكل اللواتي فقدن شموس الأرض والسماء وأقمارها والنجوم الزواهر؟!

فإنْ كان المسوّر يأتي ليستمع الندبة ويبكي على الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 142


1- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 56.
2- رُوي في (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) : 369)، عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) _ في حديثٍ شريفٍ _ قوله: «... وإنّ الملائكة لَيتلقّون دموعَ الفَرِحين الضاحكِين لقتل الحسين (علیه السلام) ، ويلقونها في الهاوية، ويمزجونها بحميمها وصديدها وغسّاقها وغسلينها، فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضِعفها، يُشدَّدُ بها على المنقولين إليها من أعداء آل محمّدٍ عذابهم».

حزناً، لا تأثّراً بنياحة الثاكل الفاقدة، فقد جزاه الإمام الحسين (علیه السلام) خيراً، ولْيكن هذا جزاؤه، والبكاء على الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء نافعٌ على كلّ حال، إنْ في الدنيا أو في الآخِرة.

هذا كلّه على فرض أنّ الكلام صادرٌ من الإمام الصادق (علیه السلام) ، بحيث تُعدّ شهادةً له من الإمام (علیه السلام) على بكائه، ولا يبدو الأمر كذلك!

المفصل التاسع: هلاكه مع ابن الزبير

كان المسوّر قد لحق بابن الزبير ولزمه وظاهره وقاتل معه، وكان ابن الزبير لا يكبره إلّا بأربعة أشهر، وقد هلك المسوّر وهو برسم القيام بواجبه بين يدَي ابن الزبير، كما سنسمع بعد قليل..

وكان ابن الزبير لا يقطع أمراً دون المسوّر بن مخرمة، لا يستبدّ بشيءٍ منه دونه ((1)).

وكانت الحرب تكون يوماً على ابن الزبير، ويوماً على المسوّر بن مخرمة، ويوماً على مصعب بن عبد الرحمان بن عَوف ((2)).

فلمّا دنا الحُصَين بن نُمير من مكّة، أخرج المسوّر بن مخرمة سلاحاً قد حمله من المدينة ودروعاً، ففرّقها في مواليه كهول فرس جلد.

ص: 143


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 171 و28 / 208، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 373.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 171.

فدعاني، ثمّ قال لي: يا مولى عبد الرحمان بن مسوّر! قلت: لبّيك! قال: اختر درعاً من هذه الدروع. قال: فاخترتُ درعاً وما يصلحها، وأنا يومئذٍ شابٌّ غلامٌ حدِث. قال: فرأيت أُولئك الفرس قد غضبوا وقالوا: تخيّر هذا الصبيّ علينا! والله لو جاء الجدّ لَتركك. قال المسوّر: لَتجدنّ عنده حزماً.

فلمّا كانت الوقعة، لبس المسوّر سلاحه درعاً وما يصلحها،فأحدق به مواليه، ثمّ انكشفوا عنه، واختلط الناس، فالمسوّر يضرب بسيفه، وابن الزبير في الرعيل الأول يرتجز قدماً، ومصعب ابن عبد الرحمان معه يفعلان الأفاعيل، إلى أن أحدقَت جماعةٌ منهم بالمسوّر، فقام دونه مواليه فذبّوا عنه كلّ الذبّ، وجعل يصيح بهم ويكنّيهم بكناهم، فما خلص إليه، ولقد قتلوا من أهل الشام يومئذٍ نفراً ((1)).

قال محمّد بن عمر: فذكرتُ ذلك لشرحبيل بن أبي عون، فقال: أخبرَني أبي، قال: قال لي المسوّر بن مخرمة: يا مولى عبد الرحمان، صُبّ لي وضوءً. فقلت: أين تذهب؟ قال: إلى المسجد. فصببتُ له وضوءً، فأسبغ الوضوء، وخرج وعليه درعٌ له خفيفةٌ يلبسها إذا لم يكن له قتال، فلمّا بلغ الحِجر قال: خُذ درعي. قال: فأخذتُها ولبستُها، وجلستُ قريباً منه، والحجارة يُرمى بها البيت، وهو

ص: 144


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 172.

يصلّي في الحِجر، فجئتُ فقمتُ إلى جنبه، فقلت: أيْ مولاي، إنّي أرى الحجارة اليوم كثيرة، فلو لبستَ درعك ومغفرك، أو تحوّلت عن هذا الموضع، أو رجعت إلى منزلك، فإنّي لا آمَنُ عليك، فواللهِ ما يُغني شيئاً، إنّهم لَعالون علينا، وإنّما نحن لهم أغراض. فقال: ويحك، وهل بُدٌّ من الموت على أيّ حال؟ واللهِلَئن يموت الرجُل وهو على بصيرته ناكباً لعدوّه أو مبّلياً عذراً حتّى يموت، أحسن وآجَر له من أن يدخل مدخلاً فيُدخَل عليه فيُساق إلى الموت، فتُضرب عنقه على المذلّة والصغار. ثمّ قال: هات درعي. فأخذها فلبسها، وأبى أن يلبس المغفر.

قال: وتقبل ثلاثة أحجارٍ من المنجنيق، فيضرب الأول الركن الّذي يلي الحِجر، فخرق الكعبة حتّى تغيّب، ثمّ اتّبعه الثاني في موضعه، ثم اتّبعه الثالث في موضعه، وقد سدّ الحجَرُ الحِجرَ، ثمّ رمى فينا الحجر وتكسّر منه كسرة، فتضرّب خدّ المسوّر وصدغه الأيسر فهشّمه هشماً.

قال: فغُشي عليه، واحتملتُه أنا ومولىً له يُقال له: سليم، وجاء الخبر ابنَ الزبير، فأقبل يعدو إلينا، فكان فيمن يحمله، وأدركنا مصعب بن عبد الرحمان وعُبيد بن عمير.

فمكث يومه ذلك لا يتكلّم، حتّى كان من الليل فأفاق، وعهد ببعض ما يريد، وجعل عبيد بن عمير يقول: يا أبا عبد الرحمان، كيف ترى في قتال مَن ترى؟! فقال: على ذلك قتلنا. فقال عبيد

ص: 145

ابن عمير: أبسط يدك. فضرب عليها عبيد بن عمير، فكان ابن الزبير لا يفارقه بمرضه حتّى مات ((1)).فحضرنا غُسل المسوّر وبنوه حضور، قال: فولي ابنُ الزبير غُسله، فغسله الغسلة الأُولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، ووضّأه بعد أن فرغ من غسله ومضمضه وأنشقه، ثمّ كفّنه في ثلاثة أثوابٍ أحدهما حبرة.

قال: فرأيت ابن الزبير حمله بين العمودين، فما فارقه حتّى صلّى عليه بالحجون، وإنّا لَنطأُ به القتلى ...

ثمّ انتهينا إلى قبره، فنزل بنوه في قبره، وابن الزبير يسلّه مِن قِبل رجلَي القبر ((2)).

عن شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه قال: رأيتُ ابن الزبير يحمل بين عمودَي سرير المسوّر بن مخرمة ((3)).

من هنا نعرف مدى العلاقة الوثيقة بين المسوّر وابن الزبير!

المفصل العاشر: خلاصة المفاصل

سمعنا على عجلٍ بعض المفاصل المهمّة في حياة المسوّر، وتبيّن لنا:

ص: 146


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 173.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 175.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 176.

* إنّ الرجل كان من أتباع العِجْل وعُبّاده، والآخِذِين عنه والمتعلّمين منه.

إنّه كان من الهائمين في حُبّ خاله عبد الرحمان بن عَوف، ولم يرجع عن ذلك إلى حين وفاته، فدلّس على الناس بشهادته لخاله بالجنّة، وهو الخارج بالسيف على إمام زمانه بإجماع المسلمين أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وقد أخرج عائشة من بيتها الّذي أمرها الله أن تقرّ فيه وهتك حجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقاد معركةً طحنت المسلمين طحناً وتركت دماءَهم تسيل أنهاراً.

* إنّه لم يكن ممّن اقتصر على الرواية والتحديث وأخذ جانباً في المسجد النبويّ، وإنّما كان ممّن يبادر في الفتن بيدٍ ورجلٍ ويطير فيها بجناحَين، حيث حمل استصراخ عثمان إلى معاوية، وشارك في الغزوات.

* إنّه كان يعظّم معاوية تعظيماً حتّى لا يذكره إلّا أن يصلّي عليه ويستغفر له، وهو يعلم مدى عداوة هذا الوثن لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأمير المؤمنين وللإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) وتطويقه بالدماء الزاكية.

* إنّه كان مرجعاً وموئلاً للخوارج الوحوش الّذين يقولون بكفر مولى الموحّدين وأمير المؤمنين (علیه السلام) .

ص: 147

إنّه قاتل تحت لواء ابن الزبير _ عدوّ الله وعدوّ رسوله وأهل بيته _ حتّى قُتل، وكان مع ابن الزبير مشاركاً داخلاً في فتنته، حتّى أنّ الأخير لم يقطع أمراً دونه.

ويبدو من كلامه مع مولاه أنّه يرجّح الموت بأحجار المنجنيق الشاميّ وهتك المسجد الحرام بدمه على أن يُؤخَذ وتُضرَب عنقه بذلّ وصغار!

فماذا قعد به عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء؟! وقد انتفض يوماً حين سمع أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) ينوي أن ينادي بحِلف الفضول، فقد رُوي:

أنّه كان بين الحسين بن عليٍّ وبين الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان كلامٌ _ والوليد يومئذٍ أمير المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان في _ مالٍ كان بينهما بذي المروة، فقال الحسين بن عليّ: «استطلّ علَيّ الوليدُ بن عتبة في حقّي بسلطانه، فقلت: أُقسم بالله لَتنصفني من حقّي أو لَآخُذَن سيفي، ثمّ لَأقومنّ في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثمّ لَأدعونّ بحلف الفضول».

فقال عبد الله بن الزبير عند الوليد حين قال الحسين ما قال: وأنا أحلف بالله لَئن دعا به، لَآخذن سيفي، ثمّ لَأقول معه، يُنصَف من حقّه أو نموت جميعاً.

فبلغَت المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهريّ، فقال مِثلَ ذلك، فبلغَت عبد الرحمان بن عثمان بن عُبيد الله التَّيميّ، فقال مِثلَ ذلك،

ص: 148

فلمّا بلغ ذلك الوليد بن عُتبة، أنصف الحسين من حقّه حتّى رضي ((1)).

لم يكن الأمر يتعدّى خلافاً في مالٍ يومذاك، وقد رأى ما جرى على سيّد الشهداء (علیه السلام) وسمع بمحاصرته وأمْرِ القرد المسعور المخمور بملاحقته ومطالبته برأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والإمام يكرّر مرّةً بعد مرّةٍ أنّه في خطر، وأنّهم أقدموا على اغتياله في الحرم.

فإنّه كان لا ينتصر لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وربّما يفرح بقتله؛ لِما يكنّه في أعماقه من حقدٍ وغلٍّ وكراهيةٍ لأمير المؤمنين عليٍّ وآل علي (علیهم السلام) ، كما تشهد به سيرته وعلاقاته، غير أنّه لا يحبّ يزيد أيضاً ويكرهه ويريد قتاله، وقد فعل حين قاتل عسكر يزيد مع ابن الزبير، فموته بين يدَي الإمام الحسين (علیه السلام) في قتال يزيد أحجى وأنفع له في الدين والدنيا.

إنّه مارس التشويه والكذب والافتراء على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى أمير المؤمنين (علیه السلام) حين نسج حكاية خطبة ابنة أبي جهل..

فماذا يُرتجى من أمثال هؤلاء؟!

وهل يمكن عدّه في الناصحين لسيّد شباب أهل الجنّة وإمام الثقلين غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) ؟

العجب! مِن شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) الّذين يطلقون صفة (الناصح)

ص: 149


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 63 / 210.

على مِثل هذا العدوّ الحاقد، والحال أنّ سيرته وأخلاقيّاته وسلوكه لا تبعده عن دائرة الشكّ؛ لتورّطه في خدمة السلطان والعمل على تنفيذ مخطّطاته.

الضربة الثانية: سوء الأدب والاستكبار!

إختلف الّذين اعترضوا الإمام (علیه السلام) وخالفوه ووقفوا في وجهه _ وهو وجه الله _ في طريقة التعامل..

فمنهم مَن تكلّم بلغة المشفِق..

ومنهم مَن تكلّم بلغة الناصح..

ومنهم مَن تكلّم بلغة الآمِر الناهي..

ومنهم مَن تكلّم بلغة المتوسّل الراجي..

ومنهم مَن تكلّم بلغة المهدِّد المتهكّم..

وهكذا كلٌّ حسب دوافعه وتربيته ونظرته واعتقاده في الإمام (علیه السلام) ..

ومَن قرأ كتاب المسوّر، يستروح منه عطن التكبّر، ونتن التجبّر، وعفن الذات الآسنة..

لغته في الكتاب لغة المحذّر الآمر الناهي المستعلي، الّذي يأمر ليطاع، ويجزم بصحّة ما يقول، ويتنافخ على الإمام (علیه السلام) ..

«إيّاك أن تغترّ.. يقول لك ابن الزبير.. إيّاك أن تبرح الحرم»..إنّه تخبُّطٌ مروّعٌ في مستنقع الرذيلة.. سقوطٌ مدوٍّ في أوحال الذات وسوء الأدب.. تهاوٍ منكوسٍ في مهاوي الخطيئة والخزي والعار..

ص: 150

دَعْ عنك أنّ مخاطبه هو الإمام المفترض الطاعة من الله وسيّد شباب أهل الجنّة.. أوَليس هو سبط سيّد البشر وأشرف الأنبياء والمرسلين؟ أوَليس هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) ، سادة العرب والعجم؟ أوَليس هو ابن فاطمة سيّدة نساء العالمين؟ أوَليس هو الحسين؟!

ألا كان ينبغي لهذا الأعرابيّ الفضّ الغليظ أن يقدّر المقام ويعرف المخاطَب ويتدرّب على أدب الخطاب مع العظماء قبل أن يكتب الكتاب؟!

لك الله يا غريب الغرباء!

الضربة الثالثة: موادّ الكتاب

اشارة

تضمّن الكتاب عدّة أوامر جاهلةٍ تنمّ عن طغيان كاتبها، ونتائج مترتّبةٍ على تلك الأوامر:

الطغيان الأوّل: إياك أن تغترّ بكتب أهل العراق

يبدو من كلام المسوّر أنّ كتابه جاء بعد أن وصلَت كتب أهل الكوفة إلى الإمام (علیه السلام) ، أو وصل جملةٌ منها على الأقلّ، إذ أنّ تحذيره من الاغترار بكتب أهل الكوفة لابدّ أن يكون بعد وصولها.وهذا يعني أنّه كتب الكتاب في فترةٍ متأخّرةٍ من أيّام إشراق مكّة بنور وجه الحسين (علیه السلام) ، لأنّ كتبهم لم تصل الإمام (علیه السلام) في بدايات نزوله مكّة..

ص: 151

أي: في نفس الفترة الأخيرة الّتي ازدحمَت بها الأحداث وتكأكأ المعترضون على الإمام (علیه السلام) ، وصار كلّ مَن هبّ ودبّ يثور في وجه الإمام (علیه السلام) ويحاول إثبات موقفٍ له عند السلطان أو عند الإمام (علیه السلام) ، وربّما ليُذكَر في التاريخ كصاحب مقولةٍ في تلك الأحداث الحامية.

ولا ندري مَن الذي حرّك المسوّر _ الحاقد على أمير المؤمنين وآل عليّ (علیهم السلام) _ ليبدي هنا رأيه ويتقدّم بهذا الكتاب؟

وهل كان على اطّلاعٍ على مضامين كتب أهل الكوفة ودعواتهم؟

وما هو مقدار وعيه وإدراكه وقوّة تحليله للمواقف ومقدار معرفته بالمجتمع الكوفيّ وممارساته؟ وهو مكّيٌّ عاش في المدينة، ثمّ رجع إلى مكّة، ولم يعهد فيه أنّه عاش في الكوفة..

إلّا أن يقال: إنّه عاشهم ومارسهم من خلال اتّخاذه مرجعاً للخوارج منهم، وهم أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) وآله..

ولا يمكن الوثوق بدوافع هذا العقرب المسموم الّذي كان معتمَداً عند أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء أمير المؤمنين وأولاده (علیهم السلام) ؛ فسيرته ومواقعه تشهد له برضاه بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فربّما كان يحاول من خلال تثبيطه عن الخروج وتأكيده على البقاء في مكّة أن يسعى لتوفير الفرصةاللازمة للإجهاز عليه وتحقيق مراد القرد المسعور.

ولا شكّ أنّه يعلم _ كما يعلم جميع العالم _ أنّ سيّد الشهداء وإمام السعداء (علیه السلام) كان عارفاً بأهل الكوفة ومآلاتهم وغدرهم وسلوكيّاتهم

ص: 152

_ بغضّ النظر عن علم الإمامة _، فما هو المبرّر لمثل هذا الفضول، ليدسّ أنفه في هذا الموضع ويتحدّث بهذه اللغة البائسة: «إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق»؟

أيريد هذا القزم الضئيل تعليم سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وتحذيره من (الاغترار)؟!

الطغيان الثاني: الاغترار بكلام ابن الزبير

يبدو من السياق أنّ التحذير من الاغترار (إيّاك أن تغترّ) يستمرّ مفعوله إلى الاغترار بقول ابن الزبير، فكأنّه يقول: إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق، وأن تغترّ بما يقوله لك ابن الزبير.

تماماً هو كما قاله في المدينة يوم سمع بخروج الإمام (علیه السلام) وابن الزبير إلى مكّة، وقد سمعناه قبل قليل.

* * * * *

تجد في كلام المسوّر جهلاً فاضحاً يدلّ على بلاهته وتفاهته وحمقه وخرقه ورعونته وسخافة عقله وطيشه وعمشه، تماماً كما هم الخوارج؛ فهولا يمكنه تمييز ابن الزبير عن الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بل ربّما اعتقد بمؤهّلات ابن الزبير المزيّفة وجهل مقامَ الإمام الحسين (علیه السلام) وشخصيّته القدسيّة كاملاً، فتوهّم أنّ ابن الزبير سيؤثّر على الإمام (علیه السلام) ويُقنعه ويغيّر قناعاته، لذا راح يحذّر الإمام (علیه السلام) من التأثّر به والانسياق معه.

ونعود _ كما هو دأب هؤلاء السفلة وعادتنا _ للاستغفار والاعتذار من

ص: 153

مِثل هذه التعابير، ولكنّها ضرورات البحث، وجرأة القوم الظالمين الفجَرة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الطغيان الثالث: التحذير من ترك الحرم

إذا أخذنا بنظر الاعتبار قناعته بابن الزبير، وأنّه قاتل معه في مكّة وهتك حرمة الحرم، ربّما اكتشفنا بوضوحٍ أنّه كان قد اقتنع بخطّة ابن الزبير، وأراد تجميع القوى في الحرم واتّخاذه وكراً والارتكان إلى الركن والمقام لمواجهة يزيد، وإنْ كان في ذلك هتكاً للحرم، واتّخاذ مكّة منطلقاً للحروب والاستيلاء على البلدان والأمصار وتجميع الأنصار والأتباع والأشياع..

فهو إنّما يحذّر الإمام (علیه السلام) ويأمره بالبقاء في مكّة حتّى يأتيه الأنصار والأشياع، عملاً بخطّة ابن الزبير، وإنْ أدّى ذلك إلى قتل الإمام (علیه السلام) وهتك حرمة الحرم!

الطغيان الرابع: قدوم أهل الكوفة والخروج في قوّة
اشارة

رتّب هذا الرأي المعتوه على التحذيرات السابقة استنتاجاً ذي شقَّين:

الشقّ الأوّل: قدوم أهل العراق

إفترض المسوّر أنّ المخاطَب سيتغافل عن كتب أهل العراق، ولا يتأثّر بخداع ابن الزبير، وسيبقى في الحرم ولا يبرحه.. وعندئذٍ إنْ كان لأهل

ص: 154

العراق بالمخاطَب حاجةً، فإنّهم سيضربون إليه آباط الإبل حتّى يوافوه! ((1))

هكذا بكلّ سطحيّةٍ وسذاجةٍ تتجاوز حدّ الهبل والخطل والخبل، إذ أنّ المفروض أن يكون هذا المسوّر على علمٍ بعدد المكاتبين وأعداد العراقيّين الضخمة الّتي انتفضت وهاجت في تلك الفترة..

وهو يتوهّم بخياله الكليل أن تنتقل كلّ هذه الجحافل المتراكمة إلى مكّة البيت الحرام بكامل عدّتها وعديدها وخيلها ورجلها وأسلحتها لتجتمع هناك!

وكأنّ الكوفة لم تكن يومها قد نُظمت خيلاً ورجالاً، وقد ملأ العدوّ بهم الصحراء ونشرهم على طولها وعرضها، وأحكم مخراجها وموالجها، وزرعها عيوناً ومخبرين لا تفوتهم الشاردة والواردة، فلا يلج والجٌ ولايخرج خارجٌ إلّا وقد خضع للتفتيش الدقيق والسؤال الحثيث..

كيف ستخرج هذه الأعداد من بين كلّ تلك المعابر المزدحمة بالخيل والرجال والجواسيس والعيون؟!

كيف ستخترق الصحارى والقفار والمنازل والبلدان، حتّى تصل إلى

ص: 155


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

مكّة؟!

كيف ستدخل مكّة وتستقرّ في الحرم؟!

وهل ستطيقهم مكّة وتتحمّل وجود كلّ تلك الأعداد الضخمة وتؤمّن لهم الميرة والمدد؟!

هذه كلّها أسئلةٌ تُقدَّم لمثل هذا الرأي البائس..

ناهيك عن حديث هتك حرمة الحرم الّتي كان الإمام (علیه السلام) يتجنّبها، ويستعجل الخروج من الحرم لتفادي وقوع الهتك فيه.

الشقّ الثاني: الخروج في قوّةٍ وعدّة

هذه هي المأساة الّتي سرت منذ تلك الأيّام من فهوم الأعداء وإيحاءاتهم وتشويشهم، من خلال طشّ لونٍ خاصٍّ على موقف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وصبغه بأصباغهم الملوّثة..

هكذا سرّبوا الفكرة، فتسلّلت إلى الأذهان والقلوب في خضمّ الأحداث المكتظّة المزدحمة، حين علا ضجيجُهم، وارتفعَت زعقاتهم، ونفخت أبواقهم، وقرعت طبولهم المخرّقة.. «فتخرج»!لا يبدو المسوّر قد اخترق الحجب، وسافر في غياهب التحليل والتفسير والتقويم والتفكير والتقدير، فاكتشف أنّ من يريد (الخروج) لابدّ أن يخرج في قوّةٍ وعدد..

أو كانت هذه الفكرة واضحةً عند المسوّر وغائبةً عن مولى الثقلين

ص: 156

وأعلم الخلق، وكانت واضحةً عند غيره من المعترضين وغامضةً عند الإمام المعصوم (علیه السلام) ؟!

أكان المسوّر قد عرف أهل الكوفة وغدرهم، وعرف ابنَ الزبير وخداعه ومراوغته، وعرف أنّ مَن يريد الخروج لابدّ أن يخرج في قوّةٍ وعدد.. ثمّ لم يعرف ذلك العالم بالدنيا والآخِرة والدين؟! سبحانك ربّي، إنّه إفكٌ وبهتانٌ عظيم!

هذا من جهة..

ومن جهةٍ أُخرى:

فإنّ تحميل هذه الفكرة وفرضها على موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، هي البداية المنكوبة الّتي بدأها الأعداء..

إنّهم نظروا إلى موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً كما ينظرون إلى موقف ابن الزبير.. فكلاهما يريد الخروج! هكذا تصوّروه وصوّروه لنا.. فاستمعنا لهم.. ثمّ لم نستمع بعد ذلك لما قاله الإمام (علیه السلام) المظلوم غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) !!!أما كان الأَحرى بالمسوّر _ وهو يزعم التفقُّه _ أن يجيل نظره في الظروف الّتي أحاطت بالإمام (علیه السلام) ، ويرصد الأحداث الجارية في الميدان، ويستمع إلى ما صرّح به الإمام (علیه السلام) نفسُه في مواطن كثيرةٍ وأوقاتٍ عديدة؟!

فقد قالها لأكثر من واحد: إنّه إنْ بقي في مكّة، فإنّهم سيغتالونه أو يأخذونه أخذاً!

ص: 157

إنّهم شرعوا في تنفيذ خطّتهم لقتل الإمام (علیه السلام) في الحرم، وهو يأبى أن تُهتَك به حرمة الحرم..

إنّهم حاصروه وحرّجوا عليه، حتّى لم يعد الوضع يحتمل أن يمكث الإمام (علیه السلام) في مكّة ولو لأيّامٍ قليلةٍ حتّى ينقضي موسم الحج..

لقد قالها إمام الحقّ: أن يُقتَل خارج الحرم بشبرٍ أحبّ إليه..

الإمام (علیه السلام) يسابق القوم؛ ليدفع عن نفسه القتل في مكّة.. والقوم ينفخون رماداً لا جمر فيه، ليذروه في عيون المراقبين، فيظنّونه (خروجاً) وحركةً لا تقوم إلّا بتجميع القوّة والعدد!

من هنا أُوتينا.. من تصوير المسوّر.. ابن عبّاس.. ابن عمر.. وقَبلهم سلطانهم وطاغوتهم الجاثم على صدر الأُمّة، يزيد.. حين كتب إلى أهل المدينة وأهل الموسم وابن عبّاس كتاباً جاء في نسخةٍ واحدةٍ، صوّر لهم فيها خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة في صورة المهاجم المتربّص، ليخلع على فعلته الشنيعة وجريمته العظمى وجنايته البالغة في التاريخ لباس الدفاع عنالنفس والدفاع عن المُلك والتخت والسلطنة..

والإمام المظلوم _ فداه العالمين _ يشرح لهم ويفسّر، ويبيّن لهم ويصرّح، أنّ القوم أزعجوه، وأرعبوا مَن معه، وحاصروه، وأغلظوا له، وشتموا عرضه، وأخذوا ماله، وهجموا عليه، وقصدوه بالاغتيال والقتل، وطلبوا رأسه المقدّس، وأخرجوه من مسقط رأسه ومهاجر جدّه وبلده وبيت الله الحرام كُرهاً.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 158

إنّ ما كتبه المسوّر نكدٌ وأسى.. تعاسةٌ وشقاءٌ وشجى.. إذ أنّه لصق بالإمام (علیه السلام) ما ردّه الإمام في أكثر من موضع، ورماه بما كان ينبغي أن يرمي به الأعداء، وافترى على الإمام (علیه السلام) فريةً سيحاسبه الله عليها حساباً عسيراً.

لقد أخطأ المسوّر خطأً لا يُغتفر، ووقع في وهدة الزلل والخطل والهبل والخبل.. فهو لم يقدّر الأحداث حقّ قدرها، ولم يعرف الأوضاع، ولم يقدّر موقف الإمام (علیه السلام) والظروف الحاكمة تلك الأيّام..

وأخطأ في معرفة شخص الإمام (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن الإمامة _.. أخطأ في معرفته كشخصٍ هو أعظم الخلائق في عصره، فلم يعرف مَن هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) .. بلغ به الجهل والضلال أن يقيسه بابن الزبير، بل يرجّح كفّة ابن الزبير عليه، حتّى توهّم أنّ ابن الزبير سيؤثّر على الإمام (علیه السلام) ويدفعه للخروج!

وأخطأ.. وأخطأ.. وأخطأ..هذا كلّه إن أردنا أن نتغافل ونغضّ الطرف، ونحمل كتاب المسوّر وموقفه على أحسن المحامل _ وهو فعلٌ غير محمود _.

أمّا إذا قرأنا كتاب المسوّر من خلال سيرته وعقائده وأفكاره، وارتصافه في الصفّ الأوّل عند اصطفاف عساكر أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) ورموزهم منذ البداية إلى زعامته الروحيّة ومرجعيّته للخوارج، فإنّ الأمر سيختلف.. فلا يمكن أن نرى في كتابه إلّا كلّ شرٍّ يُراد بسيّد شباب أهل الجنّة وثاني

ص: 159

الأسباط ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) !

الطغيان الخامس: موافاتهم الإمام (علیه السلام) !

نحسب أنّ فيما مرّ من حديثٍ كفايةً لما ورد في كتاب المسوّر في هذه الفقرة.. إذ أكّد للإمام (علیه السلام) أنّ القوم إنْ كان لهم بالإمام (علیه السلام) حاجة، فسيضربون إليه آباط الإبل حتّى يوافوه في مكّة ((1)).

فهو ينطلق من منطلقاته ومنطلقات أمثال ابن الزبير، وهم لا يقيمون للحرم وحرمته وزناً بقدر ما يكون وسيلةً لتحقيق المآرب والوصول إلى الأهداف الخسيسة.

والمسوّر يعرف _ حسب زعمه _ غدرَ أهل الكوفة وبطش الأعداء،فكيف سيوافيه القوم؟!

أجل، يفوه الإنسان إذا طغى أن رآه استغنى بما فاه به المسوّر.. إنْ كانت لهم بك حاجة! هل يخاطب إمام الخلق بهذا الخطاب؟! وهل يخيّر الإنسان المسلم بحاجته للإمام الّذي نصبه الله له وافترض عليه طاعته؟!

ص: 160


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

كلّا! ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾! ((1))

الضربة الرابعة: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

مرّ معنا في مواضع عديدةٍ الإشارةُ إلى نكتةٍ مهمّة، خلاصتها:

التفريق بين: رواية الموقف، ونقلِ الحدَث بالذات.. ففرقٌ بين أن يروي لنا المؤرّخ حدَثاً، وبين أن يختصره بعبارته وينقل لنا فهمه ويصيغه بعبارته!

هنا نجد المؤرّخ يجمع بين الصورتين في لفظٍ واحدٍ وجملةٍ واحدة، فهو يقول:

فجزّاه خيراً، وقال: «أستخير الله في ذلك» ((2)).

ويمكن تقسيم جواب الإمام (علیه السلام) إلى مقطعين:

المقطع الأوّل: جزّاه خيراً

قوله: «جزّاه خيراً»، ليس روايةً لكلام الإمام (علیه السلام) بالنصّ، وإنّما شيءٌ

ص: 161


1- سورة القصص: 68.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

صاغه هو، فما هو الّذي قاله الإمام (علیه السلام) للمسوّر ففهم منه المؤرّخ أنّه قد جزّاه خيراً؟

إنّه نقل فهمه، ولو كان قد نقل لنا الحدَث بحذافيره ربّما فهمنا منه النكاية والتهكّم والتسخيف، فلعلّه كان على وِزان قول الله (عزوجل) : ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾! ((1)) فلو كان قد نقل لنا كلام الإمام (علیه السلام) ضمن ظروف الكلام، فربّما فهمنا منه التقدير أو التوبيخ.

إنّه اكتفى بنقل ما فهم منه هو من أنّ الإمام (علیه السلام) قد جزّاه خيراً، بَيد أنّه لم ينقل لنا نصّ ما قاله الإمام (علیه السلام) كما فعل فيما بعد حين روى قول الإمام (علیه السلام) في الإحالة على الاستخارة.

فهل جزّاه الإمام (علیه السلام) على نحو المبنيّ للمجهول (جُزيت خيراً)؟

هل جزّاه الإمام بشرط، كأن يقول له: (جُزيت خيراً في الدنيا)، أو (جُزيت خيراً إذا كنت ناصحاً مخلِصاً في كتابك)، وهكذا؟

وكيف كان، فإنّ أدب أهل البيت (علیهم السلام) وأخلاقهم عموماً يقوم على تقديرهم للمواقف على ما يبديه المقابل، ويغضّون الطرف عن النوايا، مع علمهم الجازم بها.. ونحن لا نعرف النوايا، وإذا حكمنا على الفرد إنّما نحكم عليه من تصريحاته أو فلتات لسانه ومواقفه وسيرته وسوابقه ولواحقه.

وليس بالضرورة أن يكون قد جزّاه خيراً بمعنى الدعاء له ووعده

ص: 162


1- سورة الدخان: 49.

بالخير، إنْ في الدنيا أو في الآخرة، فربّما أطلقها الإمام (علیه السلام) على نحو الاستعمال العرفيّ واستخدام المصطلحات المتداولة في مقام الردّ والجواب.. والمسوّر على كلّ حالٍ من كبراء القوم، وله منزلةٌ عند مَن يُقيم له وزناً.

ولو كان قد دعا له وأجابه ولو على مستوى الاستعمالات العرفيّة، فلا شكّ سيكون لما قاله الإمام (علیه السلام) مدلوله وأثره، والله العالم والإمام.

المقطع الثاني: «أستخير الله»

مرّ معنا في أكثر من موضعٍ ردُّ الإمام (علیه السلام) على الآخَرين وإيكاله الأمر إلى استخارة الربّ (تبارك وتعالى)، وقد تحدّثنا في ذلك، ونضيف هنا:

إنّ الإمام (علیه السلام) يوكل الأمر في جواب المسوّر إلى استخارة الله ((1))، أي: أنّه يطلب الخيرة من الله (عزوجل) ، فما اختاره الله له عمل به، ونحن نعلم أنّ إرادة الربّ في مقادير أُموره تهبط إليهم وتصدر من بيوتهم! ((2))

وقد رُوي عن الإمام أبي الحسن [الثالث] (علیه السلام) أنّه قال: «إنّ الله جعل

ص: 163


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 4 / 577، كامل الزيارات لابن قولويه: 200، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 55، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 153.

قلوبَ الأئمّة مورداً لإرادته، فإذا شاء الله شيئاً شاؤوه، وهو قوله: ﴿وَمَاتَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾» ((1)) ((2)).

فإذا كانت خيرة الإمام (علیه السلام) هي خيرة الله، وخيرة الله هي خيرة الإمام (علیه السلام) ، وما فعله الإمام (علیه السلام) إنّما هو إرادة الربّ هبطَت إليه من ربّه وصدرت عنه (علیه السلام) ، فلا مجال سوى الرضى والقبول والتسليم، ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ ((3)).

وبهذا المعنى سيكون في جواب الإمام (علیه السلام) ردّاً قويّاً قاصفاً، يُلزِم المسلمَ والمؤمن أن يُخبِت ويُذعِن ويستسلم ويمتثل بخضوعٍ وانقيادٍ لما اختاره الإمام (علیه السلام) وأقدم عليه، من دون أيّ اعتراضٍ ولا حرجٍ يستشعره في نفسه ممّا قضى، ولا تردُّدٍ في الجزم بصحّة ما مضى عليه وإليه.

الضربة الخامسة: الجواب بغير كتاب!

صرّح المؤرّخ أنّ المسوّر كتب إلى الإمام (علیه السلام) كتاباً، غير أنّه لم يروِ لنا أنّ الإمام (علیه السلام) قد ردّ عليه بكتاب، وإنّما اكتفى بالقول!

ص: 164


1- سورة التكوير: 29.
2- بصائر الدرجات للصفّار القمّيّ: 1 / 517، تفسير القمّيّ: 2 / 409، بحار الأنوار للمجلسيّ: 24 / 205.
3- سورة النساء: 65.

فجزّاه خيراً، وقال: «أستخير الله في ذلك» ((1)).

لمَن قال الإمام (علیه السلام) ؟ومَن كان المخاطَب بكلامه الشريف؟!

لقد أطلق سيّد الشهداء (علیه السلام) قولَه، وكأنّه لم يوجّهه للمسوّر فحسب، بل قال: «أستخير الله»، والظاهر من السياق أنّه يخاطب الواقف بإزائه أو حامل الكتاب الّذي جاءه به، من دون أن يقول _ مثلاً _ : قُلْ له، أو أخبره، أو بلّغه أنّي أستخير الله، وكأنّ المسوّر لم يُؤخَذ بالحسبان، ولم يُوجَّه له الكلام شخصيّاً.. وكأنّ الإمام (علیه السلام) لم يردّ على شخص المسوّر، بل تغافل عنه كشخص!

ص: 165


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

ص: 166

كتاب عَمْرة بنت عبد الرحمان إلى الإمام (علیه السلام)

اشارة

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

وكتبت إليه عُمرةُ بنت عبد الرحمان تُعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتُخبره أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه، وتقول: أشهدُ لَحدّثَتني عائشةُ أنّها سمعَتْ رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل حسينٌ بأرض بابل».

فلمّا قرأ كتابها قال: «فلابدّ لي إذاً من مصرعي!»، ومضى ((1)).

ص: 167


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

* * * * *

يمكن متابعة ما ورد في الكتاب من خلال النكزات التالية:

النكزة الأُولى: مَن هي عَمْرة؟

عَمْرة بنت عبد الرحمان بن سعد بن زُرارة بن عدس، الأنصاريّة النجّاريّة، المدنيّة.

قيل: لأبيها صحبة، وجدّها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة.

حدّث عنها: ولدها أبو الرجال محمّد بن عبد الرحمان، وابناه حارثة ومالك، وابن أُختها القاضي أبو بكر بن حزم، وابناه عبد الله ومحمّد، والزهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وآخَرون.

تُوفّيت سنة ثمانٍ وتسعين، وقيل: توفّيت في سنة ستٍّ ومئة، وقال ابن أبي عاصم: ماتت سنة ثلاثٍ ومئة.

صحبت عائشة وأخذت الحديث عنها.. تريبة عائشة وتلميذتها، كانت في حِجْر عائشة..

ص: 168

رُوي مسنداً عن القاسم بن محمّد أنّه قال لي: يا غلام، أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلّك على وعائه؟ قلت: بلى. قال: عليك بعَمرة؛ فإنّها كانت في حِجر عائشة ...وحديثها كثيرٌ في دواوين الإسلام ((1)).

قال أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدميّ:

سمعتُ ابن المدينيّ ذكر عَمرة بنت عبد الرحمان، ففخّم أمرها، قال: عَمرة أحدُ الثقات العلماء، بعائشة الإثبات فيها، وذكرها ابن حبّان في (الثقات).

وقال نوح بن حبيب القومسيّ:

مَن قال: عَمرة بنت عبد الرحمان ابن سعد بن زرارة، فقد أخطأ؛ إنّما هو ولد سعد بن زرارة، وهو أخو أسعد، فأمّا أسعد فلم يكن له عقب، وإنّما الولد لسعد، وإنّما غلط الناس، لأنّ المشهور هو أسعد، سمعتُ ذلك من عليّ بن المدينيّ ومن الّذين يعرفون نسب الأنصار.

قلت: وقال ابن حبّان كانت من أعلم الناس بحديث عائشة.

وقال ابن المدينيّ عن سفيان:

ص: 169


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 100، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 161، شذرات الذهب لابن العماد الحنبليّ: 1 / 114، عُمدة القاري للعينيّ: 3 / 210، موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 475 الترجمة 224، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 508، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 443.

أثبت حديث عائشة حديث عَمرة والقاسم وعروة.

وقال شعبة عن محمّد بن عبد الرحمان:

قال لي عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحدٌ أعلم بحديث عائشة من عَمرة.قال شعبة:

وكان عبد الرحمان بن القاسم يسألها عن حديث عائشة.

وقال ابن سعد:

كانت عالمةً، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن حزمٍ أن يكتب له أحاديث عَمرة ((1)).

* * * * *

هذه باختصار ترجمة عَمرة..

وقد تبيّن من اتّفاق القوم على أنّها كانت قد تربّت في حجر عائشة، وكانت من خصائصها وراويتها الخاصّة، والعالمة بها والقريبة منها والحظيّة عندها..

فهي خرّيجة حِجر عائشة وربيبتها، والآخِذة عنها والراوية عنها والمخصوصة بها، فهي بالتالي نسخةٌ عنها..

ويكفي اللبيب النابه أن يعرفها حينئذٍ، ويعرفَ توجّهاتها وعواطفها

ص: 170


1- تهذيب التهذيب لابن حجَر: 12 / 389.

وأفكارها ومنطلقاتها ونوازعها ونزعاتها وأحاسيسها ومواقفها وكوامنها تجاه ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبطه، فهي لا تختلف عن سيّدتها الّتي نشأت في حِجرها وأخذَت عنها.

فإذا عرفناها وعرفنا أدبيّاتها وأخلاقيّاتها ودينها ومنابعها ومصادرها الّتيتشرب منها وتصدر عنها، أعان المتلقّي كثيراً في فهم الكتاب ولغته وأجوائه!

النكزة الثانية: تطفّلها ودخولها في الأمر!

كان في زمن إشراق البيت الحرام بنور وجه الحسين (علیه السلام) الكثير ممّن يسمّونهم الوجوه والشخصيّات والجماجم والرؤوس وأصحاب الرأي وذوي الحِجا.. وكان الكثير من النساء من ذوات القدر والمنزلة وربّات الخدر وحملة الرواية والعلم..

بَيد أنّ كلّ مَن كان يُوصَف بشيءٍ ممّا ذكرنا لم يتدخّل في شأن الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، ولم يُبدِ رأياً أو يواجه الإمام (علیه السلام) بكلام، سوى بعضهم ممّن تطفّل، أو كانت تربطه بالإمام (علیه السلام) آصرةً تؤهّله لذلك، أو أنّه كان مطيّةً للسلطان، ينطق السلطان على لسانه ويأمره ويحرّكه كدميةٍ كما يشاء، ليوقعه حَجَراً مزعجاً في طريق الإمام (علیه السلام) .

من الغريب تدخّل هذه المرأة في الأمر ومبادرتها إلى كتابة الكتاب، ودسّها أنفها الطويل في مِثل هذا الموضع الخطير، مع وجود نساء أكبر منها

ص: 171

حجماً وأعظم منها منزلةً وأعلم منها وأكثر منها معرفة..

فمَن هذه الزعروة الزعراء حتّى تكتب لسيّد الخلق، وتكلّمه بهذه اللغة البائسة المشؤومة الّتي يسيح منها عفن الجاهليّة والجهل وسوء الأدب،ويتقاطر منها نتن الاستعلاء والاستكبار والعتوّ والطغيان من موضعٍ لا يليق به التلبّس بهذه الصفات؟ فما شأنها والاستعلاء والاستكبار، وهي لا زالت فراشاً رثّاً؟!

النكزة الثالثة: لغة الكتاب

ممّا يُؤسَف له أنّ المؤرّخ لم يروِ لنا نصّ الكتاب وعبارات عَمرة نفسها، وإنّما حكى لنا ذلك حكاية، وقد أشرنا إلى الفرق بين الحالَين في أكثر من موضع..

فنحن لم نقرأ ما قالته هي في كتابها، بَيد أنّ فيما رواه المؤرّخ من حكاية كلامها ما يشي بقبح تعبيرها وصلافة كلامها وصلابة وجهها الكالح.

إنّها تكلّم الإمام (علیه السلام) بلغة الآمِر الناهي.. لغةِ التحذير والتهديد.. لغةِ التهويل والتخويف.. لغةِ التلويح بالعقاب والقتل..

تعظّم عليه ما يريد أن يصنع!

تأمره بالطاعة ولزوم الجماعة!

تخبره إنّما يُساق إلى مصرعه!

ص: 172

الأمر بالطاعة ولزوم الجماعة.. هو التهديد الأعظم منذ يوم السقيفة، إذ أنّ الخروج عن الجماعة وترك الطاعة للحاكم المتسلّط يعني إباحة الدم والعرض والمال، والحكم عليه بالقتل والخروج عن الملّة..هذا النمط من التهويل والتعظيم للأمر.. الأمر بالطاعة ولزوم الجماعة.. التهديد بمواجهة القتل والسوق إلى المصارع.. ليس من لغة النساء الخفرات، ولا من دأب الناس العاديّين.. إنّها لغة الحكّام والمتسلّطين، وأدبيات الأُمويّين!

يبدو أنّها كانت تُفرغ عن لسان يزيد ومعاوية ومَن أمّراه على رقاب المسلمين.. سواءً أكان بتكليفٍ منهم، أم باندفاعٍ منها ونزوعٍ عن كوامنها، وهي الّتي تربّت في حِجر أُمّهم، ونشأت في أحضانها، وارتضعَت دِينها ودَيدنها منها.

النكزة الرابعة: اتّحاد الخطاب!

تُعظّم عليه ما يريد أن يصنع..

فما هو الّذي يريد أن يصنعه الإمام (علیه السلام) ؟!

إنّها نطقت بهتوف الشيطان الّذي نفث في أنف يزيد، فكتب لابن عبّاس ولأهل المدينة ولأهل الموسم كتاباً بنسخةٍ واحدة، فاتّهم الإمامَ (علیه السلام) أنّه ينازعه سلطانه، وأنّه يريد الخروج عليه _ كما يزعم _، ثمّ تفل الشيطان أو قرينُه يزيد في فم عَمرة، فخرج منها ما خرج من يزيد تماماً، وقالت ما

ص: 173

قاله، ونثت ذات الافتراءات والتُّهَم على الساحة المقدّسة..

هكذا هم أعداء الله وعبدة الطاغوت دائماً وأبداً، يكذبون ويكذبون،ثمّ يُمعِنون في الكذب، ولا يهمّهم أن يصدّق الآخَرون.

يبدو واضحاً لمن قرأ ما حُكي من فقرات الكتاب أنّ ربيبة عائشة لوّحَت للإمام (علیه السلام) بذات الاتّهامات الّتي سحّت من قلم يزيد وطفحت على لسانه في أكثر من موضع..

ترك الطاعة، والخروج عن الجماعة!

وأنّ الإمام (علیه السلام) هو الّذي يريد أن يصنع أمراً عظيماً مهولاً بترك الطاعة والخروج عن الجماعة..

مِن أين استفادت عَمرة عزمَ الإمام (علیه السلام) على هذا الإقدام؟!

هل كان فيما قاله الإمام (علیه السلام) إلى يوم كتابة كتابها ما يشي بذلك ويُنبئ به؟!

هل قال الإمام (علیه السلام) شيئاً يمكن أن يُستفاد منه ما تزعمه عَمرة؟

فلْتقدِّمْه لنا، إنْ هي أو مَن يزعم صحّة مقالها من الأوّلين والآخِرين!

إنّ القوم هم الّذين عزموا على الإقدام على صنع أمرٍ عظيمٍ مهول، ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً﴾ ((1))..

إنّهم أقدموا وباشروا وبادروا إلى قتل الإمام (علیه السلام) أينما كان وحيثما كان،

ص: 174


1- سورة مريم: 90.

هو ومَن معه.. وليس هو الإمام (علیه السلام) مَن أقدم على شيءٍ لولا أنّهمهدّدوه في حرم جدّه ثمّ لاحقوه في حرم الله، وزرعوا خناجرهم في كلّ مكانٍ ليحزّوا وريدَيه ويستخرجوا العلقة المقدّسة مِن جوفه الّذي ملأه الله عِلماً.

أتعظّم عَمرةُ على الإمام (علیه السلام) أن يدافع عن نفسه وأهله وحرمه وحرمته وحُرمة حرم جدّه (صلی الله علیه و آله) وحرم ربّه؟!!

ولِمَ لا تعظّم على يزيد ووالي مكّة والمدينة ما أرادوا أن يصنعوا بحبيب الله وريحانة رسوله (صلی الله علیه و آله) ؟!!

النكزة الخامسة: مَن يطيع مَن؟

عَمرة ربيبة أُمّها، وكانت راويتها المشهورة، وهي _ كما قالوا _ الأعلمُ بأُمّها من جميع النساء، وقد روت أُمُّها الكثيرَ من الأحاديث عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ريحانته وسبطه الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنّه من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وأنّه أحد الخلفاء الاثني عشر الّذين نصّ عليهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ونصّبهم عن الله (تبارك وتعالى)..

وسنذكر لذلك بعض العيّنات السريعة، وهي ما أكثرها في كتب حديثهم وروايتهم، ولمن أحبّ المزيد أن يرجع إلى أُمّهات مصادر القوم.

فقد روى الخزّاز في (كفاية الأثر) في باب (النصوص على الأئمّة الاثني عشر (علیهم السلام))، قال:

حدّثَنا أبو المفضّل محمّد بن عبد الله بن المطّلب (رضی الله عنه) ، [قال: حدّثَنا

ص: 175

أبو عبد الله جعفر بن محمّد بن جعفر ]، قال: حدّثَنا عبد الله بن عمر بن خطّاب الزيّات في سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، عن الحارث بن محمّد التميميّ قال: حدّثَني محمّد بن سعد الوافديّ، قال: أخبرَنا محمّد بن عمر، قال: أخبرَنا موسى بن محمّد بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلَمة، عن عائشة قالت:

كان لنا مشربة، وكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذا أراد لقاء جبرئيل (علیه السلام) لقيَه فيها، فلقيَه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) مرّةً فيها، وأمرني أن لا يصعد إليه أحد، فدخل عليه الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فقال جبرئيل: مَن هذا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «ابني». فأخذه النبيّ فأجلسه على فخذه.

فقال له جبرئيل: أما إنّه سيُقتَل. فقال رسول الله: «ومَن يقتله؟»، قال: أُمّتك تقتله. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «تقتله؟!»، قال: نعم، وإنْ شئتَ أخبرتُك بالأرض الّتي يُقتَل فيها. وأشار إلى الطفّ بالعراق، وأخذ منه تربةً حمراء فأراه إيّاها، وقال: هذه من مصرعه.

فبكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال له جبرئيل: يا رسول الله، لا تبكِ؛ فسوف ينتقم الله منهم بقائمكم أهل البيت. فقال رسول الله: «حبيبي جبرئيل، ومَن قائمنا أهل البيت؟»، قال: هو التاسع من وُلد الحسين، كذا أخبرني ربّي (جل جلاله) أنّه سيخلق من صُلبالحسين ولداً، وسمّاه عنده عليّاً، خاضعاً لله خاشعاً، ثمّ يُخرج من صلب عليٍّ ابنَه، وسمّاه عنده موسى، واثقٌ بالله محبٌّ في الله، ويُخرج اللهُ من

ص: 176

صلبه ابنه، وسمّاه عنده عليّاً، الراضي بالله والداعي إلى الله (عزوجل) ، ويُخرج من صلبه ابنه، وسمّاه عنده محمّداً، المرغّب في الله والذابّ عن حرم الله، ويُخرج من صلبه ابنه، وسمّاه عنده عليّاً، المكتفي بالله والوليّ لله، ثمّ يُخرج من صلبه ابنه، وسمّاه الحسن، مؤمنٌ بالله مرشدٌ إلى الله، ويُخرج من صلبه كلمةَ الحقّ ولسان الصدق ومُظهِر الحقّ، حُجّة الله على بريّته، له غيبةٌ طويلةٌ، يُظهِر الله (تعالى) به الإسلام وأهله، ويخسف به الكفر وأهله ((1)).

وقد روت أُمّها حديث الكساء بألفاظٍ شتّى، كما ورد في أُمّهات مصادرهم..

ففي (كتاب مسلم):

حدّثَنا أبو بكر بن أبي شَيبة ومحمّد بن عبد الله بن نمير _ واللفظ لأبي بكر _، قالا: حدّثَنا محمّد بن بشر، عن زكريّا، عن مصعب بن شيبة، عن صفيّة بنت شبية قالت: قالت عائشة:

خرج النبيّ (صلی الله علیه و آله) غداةً وعليه مرطٌ مرحَّلٌ من شعرٍ أسود،فجاء الحسنُ بن عليٍّ فادخلَه، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلَها، ثمّ جاء عليٌّ فادخلَه، ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

ص: 177


1- كفاية الأثر للخزّاز القمّيّ: 187.

تَطْهِيراً﴾ ((1)) ((2)).

دلالات حديث الكساء لا تخفى على مَن يسمعه، ومن أبرز ما فيه ممّا لا يحتاج إلى تأمُّلٍ وتمعُّنٍ خاصٍّ هو التعبير عن العصمة بوضوح.

بيد أنّ عَمرة _ كما عرّفها من ترجم لها _ كانت من أخصّ النساء بأُمّها، وأكثرَ مَن أخذ منها وروى عنها، فهي تدور في فلكها وتطحن نفس بيدرها، وقد دأبت أُمّها على كتمان الحقّ ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً..

قال أبو المفضّل: قال موسى بن محمّد بن إبراهيم: حدّثَني أبي أنّه قال: قال لي أبو سلَمة:

إنّي دخلتُ على عائشة وهي حزينة، فقلتُ لها: ما يُحزنك يا أُمَّ المؤمنين؟ قالت: فُقِد النبيّ وتظاهر الحسكات.

ثمّ قالت: يا سمرة، ايتني بالكتاب. فحملَت الجارية إليها كتاباً، ففتحَت ونظرت فيه طويلاً، ثمّ قالت: صدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقلتُ: ما يا أُمَّ المؤمنين؟ فقالت: أخبارٌ وقصصٌ عن رسولالله (صلی الله علیه و آله) . قلت: فهلّا تحدّثيني بشيءٍ سمعتِه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قالت: نعم، حدّثَني حبيبي رسول الله، قال: «مَن أحسن فيما بقي مِن عُمُره، غفر الله لما مضى وما بقي، ومَن أساء فيما بقي من عُمُره، أُخِذ فيما مضى وفيما بقي».

ص: 178


1- سورة الأحزاب: 33.
2- كتاب مسلم: 7 / 130.

ثمّ قلت: يا أُمّ المؤمنين، هل عهد إليكم نبيُّكم كم يكون مِن بعده مِن الخلفاء؟ قال: فأطبقَت الكتاب، ثمّ قالت: نعم. وفتحَت الكتاب وقالت: يا أبا سلَمة، كانت لنا مشربة. وذكرت الحديث، فأخرجتُ البياض وكتبتُ هذا الخبر، فأملَتْ علَيّ حفظاً ولفظاً.

ثمّ قالت: اكتمْه علَيّ يا أبا سلَمة ما دُمتُ حيّة! فكتمتُ عليها، فلمّا كان بعد مُضيّها دعاني عليٌّ (علیه السلام) وقال: «أرني الخبرَ الّذي أملَتْ عليك عائشة». قلت: وما الخبر يا أمير المؤمنين؟ قال: «الّذي فيه أسماء الأوصياء بعدي». فأخرجتُه إليه.

وللخبر أسانيد كثيرة، أُتي على ذِكرها في المصدر ((1)).

فلعلّها سلكت مسلك سيّدتها حين أمرت بكتمان الخبر، وأبتْ أن تُعلن عن أسماء الخلفاء بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كما روى النباطيّ البياضيّ في (الصراط المستقيم)، قال:

وأسند الدوريستي أنّ المثنّى سأل عائشة: كم خليفة بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) ؟ فقالت: أخبرَني باثني عشر، أسماؤهم عنديمكتوبةٌ بإملائه. فقلت: اعرضيها علَيّ. فأبَتْ ((2)).

فمن كانت بمنزلة عَمرة من سيّدتها وغزارة ما ترويه عنها، حتّى أنّهم نحلوها صفة الأعلم بها وبحديثها، وأنّ ما عندها إنْ ضاع ضاع العلم الساحّ

ص: 179


1- كفاية الأثر للخزّاز القمّيّ: 187.
2- الصراط المستقيم للنباطيّ البياضيّ: 2 / 122.

عنها، فكيف تروي ولا تعي ما تروي؟!

أو أنّها تتظاهر بعدم الوعي، وتتنكّر للحقّ وأهله؟!

أو أنّ الأحقاد الّتي ارتضعتها في الأحضان الّتي نشأت فيها، رشحت على كلّ وجودها، فأعمتها وأصمّتها وطمست بصيرتها؟! ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ((1)).

أتدعو مَن أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً _ بصريح كلام الله في القرآن، ونصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وإجماع المسلمين بكلّ ألوانهم وطوائفهم واتّجاهاتهم _ لطاعة أبناء البغايا الرخيصات النتنات البائرات من ذوات الأعلام المخرّقة؟!

أيلزم الإمام خامس أصحاب الكساء وابن البتول الطاهرة سيّدة النساء وابن سيّد الرسل وسيّد الأوصياء وأحد السبطين طاعة ابن ميسون وابن هند وسليل البغاء المغسول بدنان الخمر، اللاحس لعاب القردة، الثمل بصديد المومسات؟!

أيكون على حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) الّذي فرض الله طاعته علىالعباد أن يطيع غيره، أيّاً كان؟!

أيمكن أن تكون الجماعة مع غيره؟!

إنْ هذا إلّا بهتانٌ عظيم.. غير أنّه دأب القوم منذ يوم فارق النبيّ

ص: 180


1- سورة الطور: 11.

الأمين (صلی الله علیه و آله) هذه الأُمّة والتحق بالرفيق الأعلى.. لقد دأبوا على قلب الموازين، واتّخذوا أوثانهم أرباباً من دون الله ودون أوليائه المخلصين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..

إنّ هذه اللغة الفجّة الغليظة الجلفة تشي بوضوحٍ أنّ عَمرة لم تكن تتكلّم من ذات نفسها فقط، وإنّما هي تسيح على الكتاب من تراكمات الأحقاد المتكلّسة في أجواف الّذين أخذَت عنهم وخدمَتهم.

النكزة السادسة: تخبره بمصيره ومصرعه!

جعلت عَمرة تُخبر الإمام (علیه السلام) العالم بالله ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه..

وقد استشهدت لذلك بما سمعَتْه من أُمّها.. فهل سمعت أُمّها ما لم يسمعه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟

وهل خفي إخبار رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) على أحدٍ من المسلمين يومئذ؟

إنّ الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أخبرا أنّ السبط الحبيب ستقتله بنو أُميّة، وحددّاالمتولّي للقتل منهم بالاسم والصفة بما لا يقبل الشكّ والترديد..

وقد دلّت الحوادث وسير الأحداث المتلاحقة يومها أنّ الإمام (علیه السلام) مصروعٌ مقتولٌ هو ومَن معه، فليس فيما قالته عَمرة جديدٌ ولا سرٌّ مكنونٌ اختصّت به دون غيرها، ثمّ أفاضت به وقت الحاجة إليه.

ص: 181

أجل، يمكن أن يُفهَم ما صرّحَت به بنحوٍ يناسب موقعها وأدبيّاتها ونفسيّاتها وسوابقها وانتمائها..

إنّها تنطق عن لسان العدوّ الغاشم، وتعزف على نفس إيقاعاته الهائجة الصاخبة، فهي تطلق كلماتها بقوّةٍ وجلفيّة، وتكتب أنواطها على لوحات التهديد والتحذير والوعيد..

وربّما كان واضحاً لمن يقرأ النصّ بإمعانٍ أنّه يحمل في طيّاته وصياغته روح التهديد والتهويل والتوعّد والتخويف، ويسرّب أصوات أجراس الإرعاب وأبواق الحرب.. فهي تُلقي في روع من يقرأ النصّ أنّها تريد أن تقول للإمام خامس أصحاب الكساء: لا تخرج على القوم (الخروج بالمعنى الذي يسوّقه القتَلَة)، فإنْ خرجتَ ولم تسمع قولي فإنّا قاتلوك!

النكزة السابعة: روايتها خبر المصرع فقط!

سمعنا قبل قليلٍ أنّ أُمّها كانت تروي الكثير من مناقب سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحاب الكساء (علیهم السلام) رغم أنفها، وقد كتمَتْ ما كتمَتْ،وخرج منها _ سالماً ومحرّفاً _ ما ملأ كتبهم ومصادرهم..

وهنا نسمع عَمرة تروي عن أُمّها خبر مصرع سيّد الشهداء (علیه السلام) في إيقاعٍ تهديديٍّ مزمجر، وفي جوٍّ صاخبٍ ملوّث، من دون الإشارة إلى كلمةٍ واحدةٍ ممّا قاله النبيّ (صلی الله علیه و آله) في سبطه وحبيبه، كيما تكون شهادةً منها على موقع الإمام الحسين (علیه السلام) من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وتخويفاً وتحذيراً لأعدائه

ص: 182

الّذين يواجهونه، كما شهدَت بسماع خبر مصرعه عن أُمّها عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

النكزة الثامنة: لم تنصر الإمامَ (علیه السلام) بكلمة

إنّها حذّرت سيّد الشهداء (علیه السلام) بكلّ وقاحةٍ وصلافة، بَيد أنّها لم تتفوّه بكلمةٍ واحدةٍ يمكن أن تغيض بها أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) وأعداء الإمام (علیه السلام) ..

لم تسجّلْ أيَّ موقفٍ أو كلمةٍ يمكن أن تصدر عنها، لتكون عِبرةً لمن يسمعها من أعداء الإمام (علیه السلام) ..

لم تُذكّر الأعداء الّذين قصدوا حياة الإمام (علیه السلام) والقضاء عليه، ولو بخبرٍ أو حديثٍ واحدٍ سمعَته من أُمّها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتحذيراته المتكثّرة من قتل ريحانته ودعوة الأُمّه لنصره وتخويفهم من مغبّة خذلانه..

لم تحذّر القوم من جناية الاعتداء على الإمام الحسين (علیه السلام) باعتباره أحدالمسلمين _ على الأقلّ _، وأنّ ﴿مَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ ((1))، وأنّ قاتل الحسين (علیه السلام) يُعذَّب عذاباً يستغيث منه أهل النار ويتعوّذون من نتنه..

لم توظّف منزلتها عند أُمّها وأُمّهم ومقامَها عندهم ووجاهتها وجاهها ونفوذها، لتذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولو بكلمةٍ واحدة، وتنذرهم أنّهم إنْ

ص: 183


1- سورة النساء: 93.

قتلوا حسين النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فيسحتهم الله بعذابٍ أليمٍ في الدنيا والآخرة!

فهي في عداد مَن خذل الإمام (علیه السلام) وترك نصرته، بل هي في عداد من ألّب عليه وحرّض، وأعطى للعدوّ ذريعةً ودلّه على ما يمكن أن يتذرّع به عند أتباعه وذيوله.

النكزة التاسعة: تشويه معنى إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله)

يُشعِر سياقُ كلام عَمرة، سيّما قولها: «أنّه يُساق إلى مصرعه» _ وربّما أفاد ذلك أيضاً ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عليها _، أنّها شوّهَت معنى إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمقتل وَلده وريحانته، فحاولت ضخّ معنى الجبر في كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهي العقيدة الّتي روّج لها حكّام الجَور ليبرّروا ظلمهم وجَورهم، ويُلقون باللائمة على ساحة الربوبيّة المنزّه، فسبحان الله عمّايصفون.

من المعلوم أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذ أخبر عن مقتل ريحانته وسبطه، وذكر اسم قاتله والمشاركين له في الجناية العظمى من السابقين واللاحقين، إنّما أراد _ فيما أراد _ أن يكشف عن مدى إصرار القوم على فعلتهم، ويبرّئ ساحة الإمام المعصوم المنزّهة، ويكشف عن نوايا المجرمين.

النكزة العاشرة: أرض بابل!

اشارة

إشتهر على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) أسماء الأرض الّتي يُقتَل فيها حبيب الله

ص: 184

وحبيب رسوله الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه، من قبيل: أرض الطف، كربلاء، الغاضريّة، العراق، الشطّ، الفرات.. وغيرها من الأسماء المعروفة.

أمّا (أرض بابل)، فليس من الأسماء المسموعة في ألفاظ النبيّ (صلی الله علیه و آله) كاسمٍ من أسماء الأرض الّتي يُقتَل فيها سبطه وريحانته، وإنّما جاء هذا الاسم في هذا الخبر الّذي ترويه عَمرة عن سيّدتها..

ولا ندري إنْ كان جاء في غير هذا الخبر، إذ أنّنا لم نجده في خبرٍ آخَر حسب فحصنا وتتبعنا، والله العالم.

ويمكن أن نتصوّر ورود هذا الاسم بالذات في خبر عَمرة عن مربّيتها بأحد تصوّرين:

التصوّر الأوّل: اسمٌ يشمل أرض كربلاء

ربّما أُطلق اسم بلدٍ معيّنٍ على جملةٍ من البلدان المتقاربة جغرافيّاً، مع اختصاص كلّ بلدٍ من البلدان باسمٍ خاصٍّ به.

فاسم كربلاء واسم الغاضريّة ونينوى والنواويس والطفّ وغيرها، كلُّ واحدةٍ من هذه الأسماء هي أسماءٌ لقرىً معيّنةٍ لها موقعٌ جغرافيٌّ معيَّن، بَيد أنّها لمّا كانت متقاربةً متداخلةً أحياناً أطلقوا اسم أحدها على جميعها.

وربّما كانت بعض الأسماء تُطلَق عليها أيضاً ويُراد بها أحدها أو جميعها أو بعضها، من قبيل: شطّ الفرات، أو أرض الطفّ، ومن قبيل: أرض العراق ويُراد به الكوفة فقط أو الكوفة والبصرة، وهكذا..

ص: 185

قال الحمَويّ:

نحو قوله: بابل، والعراق، والسواد، وبغداد، والنهروان، والكوفة، كلّ هذا من السواد، وكلّ هذا من أرض بابل، وكلّ هذا من العراق وبغداد والنهروان والكوفة، فمضمومةٌ إلى ذلك ... ((1)).

وأرض بابل اسمٌ يُطلَق على مجموعةٍ كبيرةٍ من البلدان والكور والقرى، فيكون هنا استخدام أرض بابل وإطلاقه على موضع شهادة السبط المنحور من قبيل إطلاق اسمٍ عامٍّ على موضعٍ خاصٍّ من توابعه.

التصوّر الثاني: خبث التوظيف

روى الصفّار وغيره كثيرون:

حدّثَنا أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن بحر، عن عبد الله مسكان، عن أبي بصير، عن أبي المقدام، عن جويريّة ابن مسهر قال:

أقبلْنا مع أمير المؤمنين (علیه السلام) مِن قتلِ الخوارج، حتّى إذا قطعنا في أرض بابل حضرَت صلاة العصر.

قال: فنزل أمير المؤمنين ونزل الناس، فقال أمير المؤمنين: «يا أيّها الناس! إنّ هذه الأرض ملعونة، وقد عُذّبَت من الدهر ثلاث مرّات، وهي إحدى المؤتفكات، وهي أوّل أرضٍ عُبد فيها وثن،

ص: 186


1- معجم البلدان للحمَويّ: 1 / 34.

إنّه لا يحلّ لنبيٍّ ولوصيّ نبيٍّ أن يصلّي فيها». فأمر الناس فمالوا عن جنبَي الطريق يصلّون، وركب بغلة رسول الله فمضى عليها.

قال جويريّة: فقلت: واللهِ لَاتّبعنّ أمير المؤمنين، ولَأقلّدنّه صلاة اليوم. قال: فمضيت خلفه، فواللهِ ما صرنا جسر سورا حتّى غابت الشمس. قال: فسببتُه، أو: هممتُ أن أسبّه. قال: فقال: «يا جويريّة، أذِّنْ». قال: فقلت: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: فنزل ناحيةً فتوضّأ، ثمّ قام، فنطق بكلامٍ لا أحسبه إلّا بالعبرانيّة، ثمّ نادى بالصلاة، فنظرت _ واللهِ _ إلى الشمس قدخرجَت من بين جبلَين لها صرير، فصلّى العصر، وصلّيتُ معه.

قال: فلمّا فرغنا من صلاته عاد الليل كما كان، فالتفت إليّ فقال: «يا جويريّة بن مسهر، إنّ الله يقول: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ ((1))، فإنّي سألتُ اللهَ باسمه العظيم فردّ علَيّ الشمس».

وروى العامّة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّها أرضٌ ملعونة، من قبيل ما وراه أبي داوود في (سُننه) _ وغيره كثير _، قال:

حدّثَنا سليمان بن داوود، أخبرَنا ابن وهب، قال: حدّثَني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمّار بن سعد المراديّ، عن أبي صالح

ص: 187


1- سورة الواقعة: 74.

الغفاريّ:

أنّ عليّاً مرّ ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذّن يؤذّن بصلاة العصر، فلمّا برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلمّا فرغ قال: «إنّ حبيبي (صلی الله علیه و آله) نهاني أن أُصلّى في المقبرة، ونهاني أن أُصلّى في أرض بابل؛ فإنّها ملعونة» ((1)).

فهي أرضٌ ملعونةٌ على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) برواية أمير المؤمنين (علیه السلام) نفسه..وهي قد عُذّبَت من الدهر ثلاث مرّات..

وهي إحدى المؤتفكات..

ص: 188


1- أُنظر: بصائر الدرجات للصفّار: 237 الباب 2 ح 1، الخلاف للشيخ الطوسيّ: 1 / 497، منتهى المطلب للحلّيّ: 4 / 317، الوافي للكاشانيّ: 26 / 386، مواهب الجليل للخطاب الرعينيّ: 1 / 69، نيل الأوطار للشوكانيّ: 2 / 143، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 204، الخرائج للراونديّ: 1 / 224، بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 439، سنن أبي داوود: 1 / 118، السنن الكبرى للبيهقيّ: 2 / 451، فتح الباري لابن حَجر: 1 / 442، عُمدة القاري للعينيّ: 4 / 189، تحفة الأحوذيّ للمباركفوريّ: 2 / 274، معرفة السنن والآثار للبيهقيّ: 2 / 256، الاستذكار لابن عبد البرّ: 1 / 93، التمهيد لابن عبد البرّ: 5 / 212، تغليق التعليق لابن حجَر: 2 / 231، كنز العمّال للهنديّ: 8 / 193، تفسير الجامع للقرطبيّ: 10 / 50، تفسير القرآن لابن كثير: 1 / 147، الدرّ المنثور للسيوطيّ: 1 / 96.

وهي أوّل أرضٍ عُبد فيها وثن..

وهي أرضٌ لا يحلّ لنبيٍّ ولوصيّ نبيٍّ أن يصلّى فيها..

ولا نريد التوسّع في ربط هذه الخصال الّتي ذكرها أمير المؤمنين (علیه السلام) لهذه الأرض بما نحن فيه، بَيد أنّ اللبيب سيعرف مدى دناءة الربط وحقارة المرأة وحاضنتها الّتي روت عنها، حين يكون استبدال اسم الأرض من الأسماء المعروفة إلى هذا الاسم بالذات!

ويفيد أدنى تأمُّلٍ في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) وما روته المرأة أنّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) قصد عمداً أرضاً ملعونةً بتقرير سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ..

قصد أرضاً عذّبها الله ثلاث مرّات.. فلا غرو أن يعذّب فيها مَن يقصدها!

قصد أرضاً هي أحدى المؤتفكات.. فلا عجب إن اتفكأت مَن قصدها عامداً!

قصد أرضاً عُبد فيها أوّل وثن.. وسيكون له فيها قبرٌ يُزار!

قصد أرضاً لا يحلّ لنبيٍّ ولا وصيٍّ أن يصلّي فيها.. أوَليس الإمام الحسين (علیه السلام) وصيّاً؟!هل قصدَتْ هذه الأفّاكة المائنة هذه المعاني من توظيف هذا الاسم بالذات؟! إنْ كانت قد غيّرت وبدّلَت وقصدَت، فعليها لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الخلائق أجمعين حتّى يرضى الإمام (علیه السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 189

وأهل بيته (علیهم السلام) وبعد الرضى.

جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

يُلاحَظ في جواب الإمام (علیه السلام) :

أولاً: الردّ بالقول لا بكتاب

مَن حمل الكتاب إلى الإمام (علیه السلام) ؟

هل انتظر الكاتب وحامِلُ الكتاب ردّاً مكتوباً من الإمام (علیه السلام) ؟

هذا ما لم يُشر إليه المؤرّخ، بَيد أنّ جواب الإمام (علیه السلام) لم يكن أكثر من أن ردّ عليها بكلمةٍ ألزمها بها بما ألزمَت به نفسها، ثمّ مضى.

لم يكترث بها الإمام (علیه السلام) ولا بكتابها..

لم يدعُ لها ولم يذكرها في جوابها تصريحاً ولا تلويحاً..

لم يقم لها وزناً ولم يلتفت إليها..

فالإمام (علیه السلام) لم يوجّه خطابه إليها، أو إلى حامل الكتاب، وإنّما قال قولاً عامّاً.فلمّا قرأ كتابها قال: «فلابدّ لي إذاً من مصرعي»، ومضى ((1)).

ص: 190


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

لا يُشعِر قولُ الإمام (علیه السلام) أنّه قد وجّهه إلى حامل الكتاب لينقله للكاتب، كأن يقول (علیه السلام) : قُلْ لها، أو: أبلِغْها.. أو غيرها من التعابير الّتي تفيد توجيه الخطاب لأحدٍ بعينه.

ثانياً: إلزامها بما روَتْ

ساقَتْ عَمرةُ كلامها مساقاً يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) يُساق إلى مصرعه، وأنّه إنْ خرج إلى (أرض بابل) فهو مقتولٌ لا محالة.

فكان جواب الإمام (علیه السلام) إلزاماً لها بما روَتْ عن مربّيتها؛ إذ كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أخبر عن مصرع ريحانته ثَمّة، فلابدّ أنّ الإمام (علیه السلام) سيقصد مصرعه كما أخبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وهو أصدق القائلين!

فلا معنى لتحذيرها ومنعها وصدّها وسعيها في تكذيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتطفّلها في مقامٍ تعلم أنّ سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) أعرف وأعلم منها ومن العالمين جميعاً بأقوال جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وبالأفضل الّذي ينبغي أن يختاره.

فلمّا قرأ كتابها قال: «فلابدّ لي إذن مِن مصرعي»، ومضى (علیه السلام) ((1)).

ص: 191


1- الإمام الحسين (علیه السلام) سماته وسيرته للجلاليّ: 131.
ثالثاً: مؤدّى جواب الإمام (علیه السلام)

طالما قلنا أنّ إخبارات النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمقتل وَلده، يفيد فيما يفيد تقريرَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وإخباره عن عزم العدوّ على قتل ريحانته وإقدامه على ذلك، والجزم بما يخطّط له أعداؤه ويسعون في تنفيذه.

فرسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أخبر أنّ العدوّ سيقتل ولده لا محالة، وها هو العدوّ قد أقدم وباشر في تنفيذ ما يريد، وقد جرت الحوادث الخارجيّة وسارت الأحداث سيراً حثيثاً متسارعاً بفعل العدوّ نحو تحقيق غرضه في خامس أصحاب الكساء..

فهم لا يتركونه حتّى يستخرجوا العلقة المقدّسة من صدره خزانة علم الله (تبارك وتعالى).

قد أذن العدوّ بالحرب ودقّ طبولها، وكاد يقيمها على ساق، وتوثّبَت العُسلان المجوَّعة والأكراش والأجربة السغبى الجوفاء لافتراس الأبدان المقدَّسة، وتحاملت الذئاب والضباع لتمزيق الأوصال الشريفة، فتقاربت الساعة وحقّت..

وقد أزفت الساعة الّتي أخبر عنها النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأذنت الدنيا بإعلانٍصدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما أخبر عن نوايا العدوّ الّتي راحت تتكشّف، وغدت رياح الغدر تعصف في الأجواء، ولاحت بوادر الفاجعة العظمى في الأرجاء، ولاحت بوادر مبادرات الأعداء تبدو واضحةً لكلّ ذي عينين..

هكذا كان إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) عن الله (عزوجل) ..

ص: 192

وهكذا أخبرت عَمرةُ عن سيّدتها..

وهكذا ألزمها ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بما روت..

وهكذا اختصرت محنة الإمام المكروب المهموم المغموم المظلوم المنحور المهتوك الخباء المقطّع الأعضاء المسبيّ النساء..

وهكذا أجاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، واقتصر في الجواب على تصديق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، دون الإعلان عن وجود نوايا خاصّةٍ عنده _ فداه العالمين _ يقصد فيها السلطة والحكّام بأيّ وسيلةٍ ولأيّ غرض!

ص: 193

ص: 194

لقاء الأوزاعيّ

اشارة

روى الطبريّ في (الدلائل):

قال أبو جعفر: وحدّثَنا يزيد بن مسروق، قال: حدّثَني عبد الله بن مكحول، عن الأوزاعيّ قال:

بلغَني خروج الحسين إلى العراق، فقصدتُ مكّة، فصادفتُه بها، فلمّا رآني رحّب بي وقال: «مرحباً بك يا أوزاعيّ! جئتَ تنهاني عن المسير، ويأبى الله إلّا ذلك، إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي».

فجهدتُ في عدد الأيام، فكان كما قال ((1)).

وروى الحرّ العامليّ قال:

وروى صاحب كتاب (مناقب فاطمة وولدها): ...

ص: 195


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 75، نوادر المعجزات: 108، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238.

وبإسناده عن الأوزاعيّ أنّه رأى الحسين (علیه السلام) بمكّة، فلمّا رآه قال: «مرحباً بك يا أوزاعيّ! جئتَ تنهاني عن المسير؟ وأبى الله (عزوجل) إلّا ذلك، إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين مبعثي». فكان كما قال ((1)).

* * * * *

يمكن التوقّف عند هذا المتن واستطلاعه من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: مَن هو الأوزاعيّ؟

لا نعرف الأوزاعيّ هذا حسب الفحص الّذي قمنا به، فالأوزاعيّ أكثر من واحد، غير أنّنا حاولنا استعراض أخباره الّتي يلوح منها أنّه هو المعاصر لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، من قبيل ما رواه الشيخ ابن شهرآشوب في (مناقبه) عن كتاب الأحمر أنّه قال الأوزاعيّ:

لمّا أُتيَ بعليّ بن الحسين ورأسِ أبيه إلى يزيد بالشام، قال لخطيبٍ بليغ: خُذْ بيد هذا الغلام فائتِ به إلى المنبر، وأخبر الناس بسوء رأي أبيه وجدّه وفراقهم الحقّ وبغيهم علينا ...

ثمّ نقل خطبة الإمام السجّاد (علیه السلام) في مجلس يزيد (لعنه الله) ((2)).

ص: 196


1- إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 589 الرقم 72.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 168، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 174.

فظاهر هذا الخبر أنّ الأوزاعيّ يحدّث هنا مباشرةً من دون وسائط عن حدثٍ كأنّه عاصره، بيد أنّ المتلقّي لا يمكنه أن يبتّ بذلك، لاحتمال أنّه ينقل الخبر عن غيره مع حذف الوسائط، كما هو الحال في الأخبار الأُخرى المماثلة.

لذا سنتعامل مع الخبر المرويّ هنا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) من دون تقييمٍ لشخص الأوزاعيّ ومعرفة سوابقه وخلفيّاته وعقائده وسلوكياته.

النقطة الثانية: خبر الطبريّ وخبر العامليّ

يبدو أنّ الأصل في الخبر هو كتاب (الدلائل) للطبريّ، وما يرويه الحرّ العامليّ في (الإثبات) قريبٌ جدّاً من لفظ الطبريّ، إلّا بعض الألفاظ الّتي لا تؤثّر كثيراً في فهم الخبر، ربّما أشرنا إليها في مواضعها.

النقطة الثالثة: قَصَدَ الإمام (علیه السلام)

الظاهر من النصّ أنّ الرجل قد قَصَد الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، ولا ندري من أين قصده، فربّما كان هو من أهل دمشق، كما يفيد الخبر الّذي يرويه (الأوزاعيّ) عن لقائه الإمام الباقر (علیه السلام) ، وأنّ الإمام سأله عن بلده، فقال: رجُلٌ من أهل الشام. فقال (علیه السلام) : «من أيّ أهل الشام؟»، فقال: رجُلٌ من

ص: 197

أهل دمشق ... ((1)).

ونحن لا ندري إن كان هذا الأوزاعيّ هو صاحب هذا الخبر أو غيره؟

المهم أنّه قصد الإمام (علیه السلام) حين بلغه خروجه إلى العراق، ولم يذكر لنا كيف بلغه الخبر، والأمر لم يكن قد اشتهر في الأوساط العامّة، وعلى أقصى التقادير فإنّ الخبر إن كان قد اشتهر فإنّه إنّما اشتهر في الأيام الأخيرة قبل خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

ولا ندري ما دخل هذا الرجل في قضيّة خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة وهو لا يريد نصره؟!

النقطة الرابعة: ابتداء الإمام (علیه السلام) وجوابه

قصد مكّة والتقى الإمام (علیه السلام) ، فلمّا رآه الإمام رحّب به.. يلزم أن يكون الإمام (علیه السلام) _ في الحسابات الظاهريّة _ يعرفه.

وابتدأه الإمام (علیه السلام) بعد الترحيب بإخباره بما جاء له: «جئتَ تنهاني عن المسير!»، وهذا هو الإعجاز الّذي دعا الطبريّ لإيراد الخبر كمعجزٍ من معاجز الإمام (علیه السلام) .

وهذا النوع من اللقاء مفردةٌ جديدةٌ في قاموس المعترضين على الإمام (علیه السلام) عند خروجه من مكّة، إذ أنّه يبتدئ المعترض قبل أن يتكلّم.

ص: 198


1- حلية الأولياء لأبي نعيم: 6 / 146.

إنّها سعة صدر الإمام (علیه السلام) ومداراته للخَلق، وهو أعرف بهم من أنفسهم، حيث استقبل الرجل استقبالاً ورحّب به، وهو قد قصد الإمام (علیه السلام) ليعترضه وينهاه عن المسير، والإمام (علیه السلام) عازم!

ثمّ ردّ الإمام (علیه السلام) عليه فوراً قبل أن يتكلّم الأوزاعيّ، وأرجع الأمر إلى إرادة الله، «ويأبى الله إلّا ذلك»، أي: إلّا المسير، ثمّ قال الإمام (علیه السلام) : «إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي»..

يبدو أنّ المقصود بيوم الإثنين هو يوم عاشوراء، وسيأتي الكلام في تعيين اليوم في محلّه إن شاء الله (تعالى)، لذا فسوف نتغاضى عن هذا التحديد على ما فيه، وإن كان يُعدّ ثغرةً يمكن التعلّق بها في مقام مناقشة الخبر.

المهمّ أنّ الإمام (علیه السلام) قد حدّد له منيّته بيومٍ من أيّام الأُسبوع، وأنّ مسيره سينتهي بمنيّته، وهذا الكلام صدر في مكّة قبل خروج الإمام (علیه السلام) منها حسب مفروض الخبر..

فالإمام (علیه السلام) عالمٌ على ماذا يقدم، وبماذا ينتهي مسيره وسفره، وهذا ما لا نقاش فيه!

ولكنّ هذا الإخبار الغيبيّ المعجز يستبطن خبراً مهمّاً..

إنّ الله يأبى له إلّا المسير.. سواءً حملنا على الأمر الغيبيّ، أو علىالإخبار عن التكليف المتعيّن، إذ أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة كان يعني _ بالقطع واليقين من دون أيّ تردُّدٍ أو مناقشةٍ _ قتْلَه فيها وهتكَ حُرمة البيت الحرام

ص: 199

وهتكَ الحرمة الأعظم، وهي حرمة دمه المقدّس، ويأبى الله ذلك.. فلابدّ من المسير وحماية الحرمات!

ثمّ إنّ الخبر يستبطن إخباراً آخَر أيضاً، فهو إن خرج من مكّة لا يعني ذلك السلامة من القتل، إذ أنّ العدوّ الّذي لاحقه في المدينة وجعل يلاحقه في مكّة هو نفسه الّذي سيلاحقه في جُحر أيّ هامّةٍ من هوامّ الأرض دخل، وسوف (لا) و(لن) يتركه حتّى يستخرج العلقة المقدّسة من صدره ويقتله.. فهو مطلوب الدم على كلّ حال، وفي كلّ مكان، وسوف لا يتوانى العدوّ في عزمه حتّى يقتله، ولا يقتله حتّى يُقتَل مَن معه، ولا يكتفي بذلك حتّى يسبي عياله!

النقطة الخامسة: جهد الأوزاعيّ!

في الخبر مفاجأةٌ مقرفةٌ شنيعة، إذ يشرع الخبر بحركةٍ منفعلةٍ ونشاطٍ وانطلاقةٍ حادّةٍ حارّةٍ تغلي.. بلغه خروج الإمام الحسين (علیه السلام) إلى العراق، فقصده في مكّة.. وهنا يظنّ المتلقّي أنّه سيرقى إلى مستوى إدراك المسؤوليّة، وإدراك الموقف، والمسارعة إلى الخير والرضوان، والمبادرةإلى التمسّك بالعروة الوثقى، واللجوء إلى جنب الله والاصطفاف في صفّ عباد الرحمان..

أراه الإمام (علیه السلام) معجزةً تكفي ليذعن إليها ويسلّم للإمام (علیه السلام) بعد أن أخبره بما أضمره وجاء من أجله..

لى أنّ الإمام (علیه السلام) هو المطلوب الأوّل والهدف الرئيس والغاية الّتي يلهث من أجلها العدوّ، فالعدوّ لا يترك الإمام (علیه السلام) بحال، ولا يمكن أن يحتمل في جانبه _ وهو جَنْبُ الله _ أن يفرّج عنه العدوّ مهما كلّفه الأمر.

أجل، إذا ظفروا بالإمام (علیه السلام) فإنّهم سيلهون عن غيره، كما قال سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه في بعض كلماته القدسيّة مع أصحابه حين أذن لهم بالانصراف ليلة العاشر، إذ أكّد لهم أنّ القوم قد أسرّوا في أنفسهم قتله، وقال:

ص: 200

فيما نرى الأوزاعيّ هنا ينتكس، ويحوّل جهده وجهاده في عدّ الأيّام ينتظر خبر شهادة الإمام (علیه السلام) ، ليعلم فيما بعد أنّ الإمام (علیه السلام) قد صدق فيما أخبر!!!

نستجير بالله من سوء العاقبة.. لو كان قد لزم بيته ولزق بالأرض وأثقل نفسه بالحديد، لَكان خيراً له.. لو لم يكن يقصد الإمام (علیه السلام) ، لَما كانت الحجّة قد تمّت عليه..

قصد، وسمع من الإمام (علیه السلام) ما سمع.. ثمّ خذله، وأخلد إلى الأرض.. فما حدى به إلى دسّ أنفه في الأمر؟! ومَن هو حتّى يقصد الإمام (علیه السلام) لينهاه عن المسير؟!

ص: 201

ص: 202

لقاء جابر بن عبد الله الأنصاريّ

اشارة

ورد في لقاء جابر بن عبد الله خبران:

الخبر الأوّل: كذبٌ مفترع

روى ابن سعدٍ ومَن تلاه، قال:

• وقال جابر بن عبد الله: كلّمتُ حسيناً فقلتُ: اتّقِ الله! ولا تضرب الناسَ بعضهم ببعض! فوَاللهِ ما حمدتم ما صنعتم. فعصاني ((1)).

ص: 203


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

• [عن ابن سعد]: وكلّمه في ذلك جابر بن عبد الله وأبو واقدالليثيّ وغيرهما ((1)).

• [عن ابن سعد]: وكلّمه جابر وأبو واقد الليثيّ ((2)).

* * * * *

يمكن خدش هذا الخبر البائس عدّة خدوش، إذ أنّه خبرٌ مفضوحٌ لا يستحقّ المناقشة ولا المكث عنده.

يبدو من خلال متابعة المصادر أنّ الجميع ينقل عن ابن سعد، وقد صرّحوا بنقلهم عنه، فهو المصدر الأوّل لهذا الخبر، غاية ما في الأمر أنّ بعضهم نقله بالحرف وبعضهم اختصر.

ثمّ إنّ جابراً معروفٌ لدى القاصي والداني، وهو في جلالته ورفيع قدره ومنزلته من أهل البيت (علیهم السلام) بالمكان السامي والرتبة الراقية، وهو ربيب أصحاب الكساء (علیهم السلام) وملازمهم والمتأدّب بأدبهم.. فلا يمكن تصوّر صدور مثل هذه الجسارة، وهذا النمط من الكلام الوقح البذيء منه!

بيد أنّه خبث المؤرّخ والقاصّ والسلطان الظالم الّذي يوظّفهم ويملي عليهم ما يريد لأغراضٍ واضحةٍ مفضوحةٍ مكشوفة، لا تخفى إلّا على الأغبياء ممّن نخرت الدنيا قلوبهم، ونمت سوسة السلطان والخضوع

ص: 204


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199.

والخنوع له في رؤوسهم، وتكاثرت ديدان الذلّة في صدورهم.إنّهم أرادوا إقحام هذا الطيّب الطاهر في دوامة المعترضين على الإمام الحسين (علیه السلام) على هذا النحو البائس، لأغراضٍ سنأتي على ذِكرها بعد قليلٍ إن شاء الله (تعالى).

نكتفي هنا بهذا القدر، لأنّنا نحسب أنّ الدخول في تكذيب الخبر ومناقشته يُعَدّان إهانةً وتعدّياً وتلويثاً لساحة جابر بن عبد الله.

الخبر الثاني: رواية ابن حمزة

اشارة

روى ابن حمزة عن جابر بن عبد الله (رضی الله عنه) قال:

لمّا عزم الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) على الخروج إلى العراق، أتيتُه فقلتُ له: أنت وَلدُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحدُ سبطَيه، لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنّه كان موفّقاً راشداً.

فقال لي: «يا جابر! قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإنّي أيضاً أفعل بأمر الله وأمر رسوله، أتريد أن أستشهد لك رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) وعليّاً وأخي الحسن بذلك الآن؟».

ثمّ نظرت، فإذا السماءُ قد انفتح بابها، وإذا رسول الله وعليٌّ والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبتُ فزعاً مذعوراً.

فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «يا جابر! ألم أقل لك في أمر الحسن قبل

ص: 205

الحسين: لا تكون مؤمناً حتّى تكون لأئمّتك مسلّماً ولا تكن معترضاً؟ أتريد أن ترى مقعد معاوية ومقعد الحسين ابني ومقعد يزيد قاتله (لعنه الله)؟»، قلت: بلى يا رسول الله.

فضرب برجله الأرض فانشقّت، وظهر بحرٌ فانفلق، ثمّ ضرب فانشقّت هكذا حتّى انشقَّت سبع أرضين وانفلقَت سبعة أبحر، فرأيتُ مِن تحت ذلك كلّه النار، فيها سلسلةٌ قُرن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردةُ الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً.

ثمّ قال (صلی الله علیه و آله) : «ارفعْ رأسك»، فرفعت، فإذا أبواب السماء متفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها، ثمّ صعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومَن معه إلى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين: «يا بُنيّ الحقني»، فلحقه الحسين (علیه السلام) وصعدوا، حتّى رأيتُهم دخلوا الجنّة من أعلاها، ثمّ نظر إليّ من هناك رسول الله، وقبض على يد الحسين وقال: «يا جابر، هذا ولدي معي هاهنا، فسلِّمْ له أمره ولا تشكّ، لتكون مؤمناً».

قال جابر: فعميَت عيناي إنْ لم أكن رأيتُ ما قلتُ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((1)).

* * * * *

ص: 206


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة: 322 الرقم 266، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 243.

يمكن الوقوف عند هذا الخبر عن جابر قليلاً والاكتفاء ببعض الإشارات:

الإشارة الأُولى: قصَدَ الإمام (علیه السلام)

ذكر جابر أنّه أتى الإمام الحسين (علیه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق، والظاهر من هذه العبارة أنّه أتاه في مكّة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد عزم على المسير إلى العراق في مكّة.

ولا ندري مِن أين جاء جابر؟ هل جاءه من المدينة، أو من الكوفة، أو أنّه كان في مكّة يومذاك ثمّ أتى الإمام الحسين (علیه السلام) وقصده في نفس البلد؟

الإشارة الثانية: التقدُّم بين يدَي الإمام (علیه السلام)

قدّم جابر مقدّمةً مهمّةً قبل أن يُبدي رأيه بين يدَي إمام زمانه، إذ قرّر وأقرّ للإمام (علیه السلام) أنّه وَلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأنّه أحد سبطيه..

وجابر رجُلٌ عالمٌ فقيه، يعرف ما يقول، وفي كلّ واحدةٍ من الألقاب الّتي خاطب بها الإمام (علیه السلام) دلالاتٌ عميقةٌ بعيدةٌ لا تخفى على مِثل جابر الّذي سمع النبيَّ (صلی الله علیه و آله) وسمع الإمامَ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعرف مواضع استعمال هذه الألقاب في كلمات الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .وبهذا أعرب جابر عن اعتقاده بمقام الإمام (علیه السلام) ومنزلته وما يجب للإمام (علیه السلام) عليه، غاية الأمر أنّه يرى نفسه بمكانٍ من الأئمّة، ويرى قربه

ص: 207

منهم، و«صُحبةُ عشرين سنةٍ قرابة» ((1))، وقد صحبهم جابر أكثر من ذلك بكثير، وصحب سبعةً من المعصومين بما فيهم الخمسة أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وعلم أنّهم يقدّرون هذه الصحبة ويفون لها ويحتملونه، ويعلمون نواياه وكامن مقاصده.

* * * * *

قدّم جابر أوّلاً ما للإمام (علیه السلام) في قلبه واعتقاده بأنّه ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحد سبطيه، ثمّ ذكر رأيه ونسبه لنفسه، وبهذا قدّم قول الإمام (علیه السلام) على قوله قبل أن يشرع بالكلام..

ولم يجعل كلامه خياراً اختاره هو للإمام (علیه السلام) ، كأن يقول: لا أرى لك.. وإنّما حصر الأمر في رأيه الشخصيّ الّذي توصّل إليه هو بالقدر الّذي آتاه الله، فكلامه لا يصرّح بتحديد تكليفٍ للإمام (علیه السلام) ، ولا بتحديد موقفٍ له، وكأنّه جاء عند الإمام (علیه السلام) ليكشف عمّا يعتمل في داخله ويختلج في صدره، ويعلن عمّا يفكّر به هو ويراه شخصيّاً، فيعرضه على الإمام (علیه السلام) ، وللإمام (علیه السلام) أن يقبل أو يخطّئه، إذ أنّه إنسانٌ عاديٌّ عاش في ظلال أهلالبيت (علیهم السلام) ، والإمام الحسين ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحد سبطيه وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

ص: 208


1- قرب الإسناد للحِميَريّ: 51 ح 164، الكافي للكلينيّ: 6 / 199 ح 5 عن الإمام الصادق (علیه السلام) .
الإشارة الثالثة: علم جابر!

لا شكّ أنّ جابراً كان قد سمع من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وغيرهما ما سيجري على سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، فهو راويةٌ ملازمٌ لهم فترةً طويلة..

ولا شكّ في ولائه وحبّه لسيّد الشهداء (علیه السلام) ..

لذا لا يَحسُن حمل ما عرضه على الإمام (علیه السلام) _ كرأيٍ شخصيٍّ له _ على الاعتراض والتخطئة، وإنّما حاله حال أُمّ سلَمة وابن الحنفيّة الّذين كانوا قد سلّموا لما سمعوا من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهم يتحرّقون ألماً ويتضوّرون وجعاً، يلسعهم لهيب الوجد والخوف على الإمام (علیه السلام) ، وهم يعلمون أنّ الإمام (علیه السلام) مجاب الدعوة، تتوافق إرادته وإرادة الربّ، فكانوا يتمنّون أن لو يفعل الإمام (علیه السلام) فعلاً ينجو به من القتل.

فهم لا يعترضون، ولكنّهم يتلهّفون، ويتحرّقون، تشبّ في أعماقهم نيران الخوف على الإمام (علیه السلام) ، والخوف من المستقبل المفجع الّذي يترقّبونه..

الإشارة الرابعة: إبداء الرأي

بعد المقدّمة المؤدّبة الّتي تقدّم بها جابر، بادر إلى عرض رأيه الّذي انقدح في قلبه الولهان على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، الخائفِ عليه من هذا السفر، فقال:

ص: 209

لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنّه كان موفّقاً راشداً.

يرى جابر أنّ الإمام الحسن (علیه السلام) كان موفّقاً راشداً حينما صالح، وهو كذلك لا شكّ، ولكن ما يراه جابر أيضاً أن يفعل الإمام الحسين (علیه السلام) ما فعله أخوه (علیه السلام) .. إنّه سلّم لما فعله الإمام الحسن (علیه السلام) ، ثمّ طرح بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) فعلَ أخيه المعصوم، ولم يقترح من عند نفسه!

وهنا نكتةٌ مهمّةٌ عميقةٌ جدّاً ينبغي التنويه إليها:

إنّ الفرق الأساس بين موقف الإمام الحسن (علیه السلام) وبين موقف الإمام الحسين (علیه السلام) كان في نقطة أساسيّة..

دار الأمر أيّام الإمام الحسن (علیه السلام) بين الصلح والحرب، فاختار الإمام (علیه السلام) الصلح وأبعد خيار الحرب.

فيما يدور الأمر في أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) بين البيعة الذليلة والقتل، والخيار الأوّل محال، فلابدّ من الخيار الثاني، والاستسلام للقتل على رؤوس الأشهاد من دون الدفاع عن النفس محالٌ أيضاً، فلابدّ من الدفاع عنالنفس، فلا مجال للصلح حينئذٍ، والقتال مفروضٌ على الإمام (علیه السلام) على كلّ حال!

هذا هو خلاصة أقوال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الّتي تجمعها كلمتين:

قوله: «لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض، لَما تركوني حتّى يستخرجوني منه فيقتلوني.. لا يتركوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة.. وإنّهم سيقتلوني، بايعتُ

ص: 210

أم لم أُبايع»..

وقوله: «إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة»..

كيف كان، فإنّ الغرض الأصليّ الّذي يتعقّبه جابر من خلال كلامه هذا وإبداء رأيه، هو الحفاظ على حياة الإمام (علیه السلام) ، والبحث عن السبيل الّذي ينجو به من مخالب عُسلان الفلوات، وكبح جماح العدوّ الّذي يأبى إلّا أن يقتل الإمام (علیه السلام) .

الإشارة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)

خاطبه الإمام باسمه: «يا جابر»، وهو يُشعِر بشدّة القرب وارتفاع الكلفة، والتعاملِ من خلال اللمسة الرفيقة الحنونة.

ثمّ أجاب الإمامُ (علیه السلام) جواباً يدركه جابر ويرضى به، إذ أنّه أرجعالموقف إلى أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وجابر يرضى بهذا الأمر ويرضى بما يُخبِر به سيّدُ الشهداء (علیه السلام) .

كان أمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أن يصالح الإمامُ الحسن (علیه السلام) ، فيمنع الحربَ ويحقن دمه ودماء الثلّة القليلة الطيّبة من الديّانين.. وها هو ذا أمر الله ورسولِه (صلی الله علیه و آله) يأبى للإمام الحسين (علیه السلام) أن يبايع ويصالح، لأنّ العدوّ سيقتله على كلّ حال..

كانت العساكر مصطفّةً في عهد الإمام الحسن (علیه السلام) ، فحدث ما حدث

ص: 211

في الظاهر المنظور، فكان الأمر يستدعي الصلح، فصالح.. وفي عهد الإمام الحسين (علیه السلام) لم تكن العساكر مصطفّة، بيد أنّ السيف كان مشهوراً على الإمام (علیه السلام) يبغي رأسه المقدّس..

كيف كان، فإنّ الأمر الإلهيّ يستدعي تحقّق جملة الشروط والظروف الخارجيّة ليتحقّق، وقد تظافرت الظروف والحوادث على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) أينما كان، وكيفما كان، وكان الأمر الإلهيّ صريحٌ برفض البيعة ليزيد وعدم الصلح معه، وإن اختار العدوّ القتال فسيخرج الإمام الحسين (علیه السلام) إلى القتال.

ثم إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) شاء أن يتفضّل على جابر، ويشدّ يقينه ويُطمئن قلبه المروّع، فقال (علیه السلام) :

«أتريد أن أستشهد لك رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) وعليّاً وأخيالحسن (علیهما السلام) بذلك الآن؟».

ولم ينتظر منه الجواب حتّى أراه ما يقنعه بالقطع واليقين.

ولا نريد الدخول في تفاصيل المعجز الّذي أظهره الإمام الحسين (علیه السلام) له وكشف الغطاء عن عينه، فإنّ العوالم طوع إرادتهم بإذن الله (عزوجل) ، وهم يتنقّلون وينقلون من يشاؤون متى يشاؤون بقدرة الله العزيز الحكيم.

الإشارة السادسة: جواب رسول الله (صلی الله علیه و آله)
اشارة

ركّز جواب رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أمرين أساسيَّين:

ص: 212

الأمر الأوّل: التسليم

التأكيد على التسليم لإمام زمانه، وعدم الاعتراض، وترك الشكّ إلى اليقين بما يفعله الإمام (علیه السلام) ؛ ليكون مؤمناً.

إنّ مجرّد إبداء الرأي في محضر الإمام (علیه السلام) _ في قضيّةٍ قد بتّ فيها الإمام (علیه السلام) وعزم _ يُعدّ اعتراضاً في أدب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهذا ما قد أوصى به النبيّ (صلی الله علیه و آله) جابر من قبل، وعاد ليؤكّد عليه هنا، ليحتفظ بوجوده داخل حدود الإيمان ودائرته.

والتسليم للإمام المعصوم هو مخّ التشيّع وروح الدين الإلهيّ، وهو أمرٌ غايةٌ في الدقّة والخطورة، وعلى المؤمن أن يحذر عن مخالفة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وولاة أمره (علیهم السلام) ، ولو على مستوى ما تقدّم به جابر.فما حال مَن فرض رأيه فرضاً على الإمام (علیه السلام) ، وخاطبه بلغة الآمر الناهي، وتمنّى أن لو استطاع الأخذ بناصية الإمام (علیه السلام) وشَعره ليمنعه من الخروج، وأمثاله ممّن تعامل مع الإمام (علیه السلام) بفضاضةٍ وغلظةٍ وسوء أدب؟!

الأمر الثاني: عاقبة القاتل والمظلوم

كشف النبيّ (صلی الله علیه و آله) عن موضع معاوية ويزيد في مهاوي جهنّم والنيران، وأراه مقام سيّد الشهداء (علیه السلام) ومنزلته، وأعلمه أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) معه في الرفيق الأَعلى، وقاتلَه في دركات الجحيم..

فعلم جابر من خلال ما رآه بعينه، فجزم به وتيقّن أنّ الإمام

ص: 213

الحسين (علیه السلام) على الحقّ، وأنّ قاتله على الباطل، من خلال عاقبتهما ومآل أمرهما.

فلو كان الإمام الحسين (علیه السلام) خارجاً ليقتل، ومقدّماً بنفسه على القتل قاصداً الشهادة ملقياً بنفسه في لهوات المنيّة، وكان يزيد لا يريد ذلك ولا يعزم عليه ولا يقصده ولا يبذل كلّ ما بوسعه من جهدٍ لينفّذ ما عزم عليه، ربّما كان لعاذرٍ أن يعذره في حسابات الدنيا، وربّما لم يكن مستحقّاً لهذا العقاب.

إنّه إنّما استحقّ هذا العذاب الّذي اختصّه الله به لمّا طلب رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزم على قتله، وأقدم على ذلك ونفّذه، وسعى إلى تحقيقه في أيّ موضعٍ وزمان.. وفي مِثل هذا الحال لا يكون ثمّة خيارٌ أَمام سيّدالشهداء (علیه السلام) سوى الدفاع عن نفسه وعن عياله!

ولو كان يزيد يقبل منه الصلح _ كما ارتأى جابر _، لما انتهت الحوادث بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولَجعله يزيد خياراً يفلت به من التورّط بالجناية العظمى.

إنّ يزيد لم يجعل الصلح خياراً منذ اللحظة الأُولى، إذ طلب رأس حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما خيّره بين السلّة والذلّة.. بين أن يقتله، وهو لا يُقتَل حتّى يدفع عن نفسه، وبين البيعة الذليلة الّتي سمّاها الإمام (الذلّ)، وعبّر عنها مروان ب-- (البيعة صاغراً)..

فقُتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) مظلوماً.

ص: 214

بعد أن رأى جابر بأُمّ عينه الحقيقةَ كما هي، عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليؤكّد عليه أن لا نجاة له إلّا بالتسليم لإمامه، وأن لا يشكّ ليكون مؤمناً، ويعلم أنّ ما تصوّره رأياً صائباً لا سبيل إليه، وأنّ الإمام (علیه السلام) إنّما عمل بأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقام بالأمر ليدفع عن نفسه ويقاتل ليحمي عيالات أبيه.

الإشارة السابعة: كفّ بصره!

لا نريد الدخول في بحث كفّ بصر جابر، ومتى كان، ونكتفي هنا بالإشارة لمن أراد أن يتابع هذا الموضوع بالذات، إذ أنّ هذا الخبر يختم المشهد بقول جابر نفسه:قال جابر: فعميَت عيناي إنْ لم أكن رأيتُ ما قلتُ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فربّما حمل المتلقّي قوله: «إن لم أكن رأيت»، على الرؤية القلبيّة والرؤية بالبصيرة دون البصر، لأنّ المشاهدة كانت في عالمٍ هو غير العالم المادّيّ الدنيويّ المعهود.. وهذا الحمل ممكنٌ ومعقولٌ ومقبول.

غير أنّ محلّ الشاهد ليس في هذا المقطع من كلامه، وإنّما هو في الدعاء على نفسه بقوله: «فعميَت عيناي».. فلو كانت عينه كفيفةً لَما صحّ هذا الدعاء منه!

فيلزم أن يكون بصيراً يرى بعينيه، بحيث دعا على عينيه بالعمى إن هو لم يكن قد رأى ما ذكره عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 215

الإشارة الثامنة: عذر جابر!

ثمّة قائمةٌ تطول في الرجال الّذين لم يحضروا مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في كربلاء، وكثيرٌ منهم شخصيّاتٌ موثوقةٌ وثابتة، لا يُشكّ في ولائها وانتمائها وحبّها ومعرفتها بمحمّدٍ وآل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، من أمثال: الأصبغ ابن نباتة _ وكان على شرطة الخميس _، وسُليم بن قيس، وكميل بن زياد، وقنبر خادم الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وغيرهم.. ومنهم أيضاً جابر بن عبد الله.وهؤلاء لا يمكن عدّهم في الخاذلين ابتداءً؛ لما لهم من سوابق مضيئةٍ نيّرة، وقدمٍ راسخٍ في الولاء والتسليم والطاعة والفداء، وعلينا أن نبحث لهم عن الأعذار الشرعيّة المرضيّة، إلّا أن يثبت خلاف ذلك، ولا يثبت عادة.

والميزان الأهمّ هو رضى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ورضى الإمام مِن بعده، فإذا أعلن الإمام بعد الإمام رضاه عن أحد، فإنّنا سنعرف أنّه كان معذوراً بعذرٍ شرعيٍّ يُخرجه من دائرة الخاذلين، وإن لم نعرف ذلك العذر بعينه، فليس بالضرورة أن ندرك ذلك ونطّلع عليه، ولا يهمّنا كثيراً بعد أن عرفنا النتيجة المرضية الّتي انتهى إليها والعاقبة الحسنة الّتي فاز بها برضى الإمام (علیه السلام) عنه.

فإذا بحثنا ودقّقنا وتأمّلنا وحلّلنا النصوص، وأدركنا أمراً يمكن أن نصنّفه في الأعذار المقبولة، فربّما نخطئ وربّما نصيب، ولكن ترقّب رضى المعصوم فيه لا يخطئ أبداً بعد ثبوته بوضوح، فإذا انكشفَت النتيجة فليس

ص: 216

بالضرورة أن ندرك السبب.

ففي جابر _ مثلاً _ قد يُقال: إنّه لم يكن كفيفاً يومها.. ولكنّ الأئمّة من بعد الإمام الحسين (علیهم السلام) كانوا قد أعلنوا رضاهم عنه، وتعاملوا معه معاملة الوليّ الناصح، من دون تسجيل توبةٍ له وقبولهم للتوبة مثلاً، فهو إذن ليس في دائرة الخاذلين الملعونين على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) !فربّما كان حمله لرسالة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسلامه إلى الإمام الباقر (علیه السلام) سبباً مهمّاً انتهى به إلى أن ينهاه الإمام الحسين (علیه السلام) نهي عزيمةٍ عن اللحاق به، ليبقى ويصدّق النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ما قال، ويبلّغ الرسالة الّتي حملها، ويؤدّي الدور الّذي أراده الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) له في عصر إمامة الإمام الباقر (علیه السلام) ، لتثبت جميع المسوّغات والآثار الجليلة الّتي يشرحها العلماء في بيان حكمة تحميل النبيّ (صلی الله علیه و آله) جابر السلام للإمام الباقر (علیه السلام) ، ورواية الإمام عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) بواسطة جابر، وغيرها..

أقول: ربّما كان هذا هو السبب، أو أنّ سبباً آخَر كان علمه الإمام (علیه السلام) وجهلناه، وليس لنا إلّا التسليم بما قال الإمام (علیه السلام) وفعل.

هذا، وقد أخذنا احتمال أن يكون سليماً غير كفيف، ومع ثبوت العذر له في حال السلامة، فثبوته في الحالة الأُخرى أَولى.

ص: 217

ص: 218

لقاء أبي سعيد الخُدريّ

اشارة

روى ابن سعدٍ ومَن تلاه مقطعين يتعلّقان بأبي سعيد الخدريّ وموقفه مع الإمام الحسين (علیه السلام) :

المقطع الأوّل: كلام أبي سعيد قبل الخروج

اشارة

فأقام حسينٌ على ما هو عليه من الهموم، مرّةً يريد أن يسير إليهم، ومرّةً يجمع الإقامة.

فجاءه أبو سعيدٍ الخُدريّ فقال: يا أبا عبد الله، إنّي لكم ناصح، وإنّي عليكم مشفق، وقد بلغَني أنّه كاتبك قومٌ من شيعتكم بالكوفة يدْعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج؛ فإنّي سمعتُ أباك (رحمة الله) يقول بالكوفة: «واللهِ لقد مللتُهم وأبغضتُهم، وملّوني وأبغضوني،

ص: 219

وما بلوتُ منهم وفاءً، ومَن فاز بهم فاز بالسهم الأخيَب، واللهِ ما لهم ثباتٌ ولا عزم أمرٍ ولا صبرٌ على السيف» ((1)).

يمكن تقديم بعض اللمحات المتعلّقة بهذا النصّ:

اللمحة الأُولى: أبو سعيد الخُدريّ

قال السيّد الخوئيّ (رحمة الله) :

مِن أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، رجال الشيخ، وعدّه في أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: سعد بن مالك الخزرجيّ، يُكنّى: أبا سعيد، الخُدريّ الأنصاريّ العربيّ المدنيّ ((2)).

وعدّه البرقيّ في أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قائلاً: وأبو سعيدٍ الخُدريّ الأنصاري: عربيٌّ مدنيّ، واسمه: سعد بن مالك، خزرجيّ ((3)).

وفي الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، قائلاً: أبو سعيد

ص: 220


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 54، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 205، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، مختصر ابن منظور: 7 / 137، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2606، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 413، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 197، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 340، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 200، رجال الطوسيّ: 65.
3- أُنظر: الرجال للبرقيّ: 2.

الخُدريّ، عربيٌّ أنصاريّ ((1)).

وقال الكشّيّ في ترجمة أبي أيّوب الأنصاريّ: قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) .وتقدّم في ترجمة جُندب بن جنادة الغفاريّ، في رواية (العيون) عن الرضا (علیه السلام) ، عدّه من الّذين مضوا على منهاج نبيّهم (علیه السلام) ولم يغيّروا ولم يبدّلوا.

وقال الكشّيّ في ترجمته ((2)) أبو سعيد الخُدريّ: بالإسناد عن ذريح، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: ذكر أبو سعد (سعيد) الخُدريّ، فقال: «كان من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكان مستقيماً»، فقال: «فنزع ثلاثة أيّام، فغسّله أهلُه، ثمّ حملوه إلى مصلّاه فمات فيه».

وبالإسناد عن ليث المراديّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إنّ أبا سعيد الخُدريّ كان قد رُزق هذا الأمر، وإنّه اشتدّ نزعه، فأمر أهلَه أن يحملوه إلى مصلّاه الّذي كان يُصلّي فيه، ففعلوا، فما لبث أن هلك».

وبالإسناد عن ذريح قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كان عليّ ابن الحسين (علیهما السلام) يقول: إنّي لَأكره للرجُل أن يعافى في الدنيا ولا يصيبه شيءٌ من المصائب. ثمّ ذكر أنّ أبا سعيدٍ الخُدريّ كان

ص: 221


1- أُنظر: الرجال للبرقيّ: 3.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 201.

مستقيماً، نزع ثلاثة أيّام، فغسّله أهلُه، ثمّ حُمل إلى مصلّاهفمات فيه» ((1)).

وقال الشيخ النمازيّ (رحمة الله) :

سعد، أبو سعيدٍ الخُدريّ، ابن مالك بن سنان: من مشاهير أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونجباء الأنصار وعلمائهم.

شهد مع رسول الله اثنتي عشرة غزوة، أوّلها الخندق، وقيل: إنّه استُصغر يوم أُحُدٍ فرُدّ.

وهو من السابقين الّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وإنّ الإمام الصادق (علیه السلام) في رواية الأعمش في حديث شرايع الدين، والرضا (علیه السلام) في مكاتبته للمأمون في ذلك، عدّاه من الّذين تجب ولايتهم، ولم يتغيّروا ولم يبدّلوا ((2)).

وفي (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام))، في بيان معجزات النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ذيل قوله (تعالى): ﴿وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ _ الآية ((3)): «إنّ أبا سعيدٍ الخُدريّ شرب دم النبيّ، فقال النبيّ (صلی الله علیه و آله) : إنّ الله قد حرّم على النار لحمَك ودمَك؛ لما اختلط بلحمي ودمي» ((4)).

ص: 222


1- معجم رجال الحديث للسيّد الخوئيّ: 9 / 49.
2- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 10 / 227 و358، و68 / 263.
3- سورة البقرة: 92.
4- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 16 / 409، و17 / 270.

وفي ثلاثة رواياتٍ رواها الكشّيّ عن الصادق (علیه السلام) ، إنّه رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً، وذكر هذه الروايات في كتاب الطهارة((1)).

وعن البرقيّ عدّه في أصفياء أصحاب أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) .

ومع ذلك كلّه لا يُعتنى إلى قول ابن أبي الحديد في عدّه من الّذين لم يبايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد قتل عثمان، كما في (البحار) ((2)).

وقد سُئل عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فقال: أما إنّكم سألتموني عن رجُلٍ أمرّ من الدفلى، وأحلى من العسل، وأخفّ من الريشة، وأثقل من الجبل، أما والله ما حلا إلّا على ألسنة المتّقين، ولا خفّ إلّا على قلوب المؤمنين، واللهِ ما مرّ على لسان أحدٍ قطّ إلّا على لسان كافر، ولا ثقل على قلب أحدٍ إلّا على قلب منافق، ولا زوى عنه أحدٌ ولا صدق ولا التوى ولا كذب ولا أحول ولا أزوار عنه ولا فسق ولا عجب ولا تعجّب _ وهي سبعة عشر حرفاً _ إلّا حشره الله منافقاً من المنافقين، ولا عليّ إلّا أُريد، ولا أُريد إلّا عليّ ((3))، ﴿وَسَيَعْلَمُ

ص: 223


1- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 81 / 237.
2- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 32 / 8.
3- قال العلّامة المجلسيّ (رضی الله عنه) في (البحار: 39 / 292): قوله: «ولا عليّ إلّا أُريد»، أي: كأنّه (علیه السلام) ليس إلّا ليتعرض الناس له بالكلام وسوء القول فيه، ولا يريد الناس إلّا إيّاه، ولعلّ فيه تصحيفاً. أقول: وربّما أمكن قراءتها بلفظٍ آخَر: «ولا عليّ ألّا أُريد، ولا أُريد إلّا عليّ»، أي: لا ضَير علَيّ إنْ قصدتُ عليّاً وأردتُه دون غيره، و«أُريد» الثانية تُقرأ مبنيّاً على المجهول، بمعنى أن لا يقصد ولا يُراد إلّا عليّ (علیه السلام) . وربّما كان المقصود أنّ عليّاً (علیه السلام) يُراد للمؤمن والكافر المنافق، كلٌّ بحسبه، كما شرحه بنفسه، أو بمعنى أنّ عليّاً (علیه السلام) يُراد على كلّ حال، فمن كان عليّاً يُراد ولا يُراد غيره، والله العالم.

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((1)) ((2)).

ثمّ ساق الشيخ النمازيّ شواهد على ما يقول، ثم عقّب على ذلك بقوله:فممّا ذكرنا كلّه يُستفاد وثاقته وجلالته، وفاقاً للعلّامة المامقانيّ وغيره.

وهو من الّذين اعتمد عليهم الصدوق في كتابه (الفقيه)، وحكم بصحّة أحاديثهم واستخرج أحاديث كتابه من كتبهم.

وساق شواهد أُخرى ممّا رواه في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والنصّ على الأئمّة الاثني عشر، والنصّ على الإمام صاحب الأمر (علیه السلام) ، ثمّ قال:

وكان أبوه مالك صحابيّاً استُشهد يوم أُحُد، وقيل: مات أبو سعيد سنة بعد ستّين، وقيل غير ذلك.

ولا نعلم علّة عدم حضوره لنصرة الحسين (علیه السلام) ، فلا يضرّ ذلك في

ص: 224


1- سورة الشعراء: 227.
2- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 39 / 291، تفسير فرات الكوفيّ: 305.

حُسنه واستقامته، كما بيّنه المامقانيّ.

وابناه: حمزة وإبراهيم وسعد بن إبراهيم تقدّموا، والقاسم يأتي ((1)).

فهو إذن مؤمنٌ معتقدٌ مستقيم العقيدة ثابتٌ على الولاية، بشهادة ما رُوي عن الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) عنه وعن موقفه.

يبقى علينا البحث عن سبب عدم حضوره لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، إذ أنّ ما ورد من استقامته في العقيدة إنّما ورد في أحاديث أولادالحسين المعصومين (علیهم السلام) .

اللمحة الثانية: التقديم للخبر

قدّم ابن سعدٍ مشهداً يسيح الكذب من دواته وقلمه.. وهذه هي المشكلة الكبرى الّتي يعاني منها القارئ للتاريخ، إذ يواجه وقاحات أمثال هؤلاء المؤرّخين الفجّة القبيحة، لأنّهم يتعاملون مع الإمام المعصوم الخامس من أصحاب الكساء (علیهم السلام) من خلال هواجس نفوسهم الشرّيرة، ومطاوي صدورهم الوغرة الموبوءة.

يرسم ابن سعد _ من خلال العبارة الأُولى الّتي يدلف منها إلى خبر أبي سعيد الخُدريّ _ مشهد التردُّد الّذي لا يجوز نسبتها إلى الشريف العالم الواثق بما يقدم عليه إن كان شخصاً عاديّاً، فكيف يمكن نسبتها _ والعياذ

ص: 225


1- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 4 / 20.

بالله _ إلى الإمام المعصوم المسدَّد الّذي لا يخطأ ولا يسهو، ولا يقدم على شيءٍ إلّا عن علمٍ قطعيٍّ عن الله العليم الخبير؟!

لم يتردّد الإمام الحسين (علیه السلام) المعصوم لحظةً واحدة.. إنّه يعمل بالعلم الإلهيّ، وهو عارفٌ بالقوم، وعارفٌ بمآلهم، وعارفٌ بما هو مقدمٌ عليه.

والعجب الّذي لا ينقضي من هذا التصوير البائس، أنّه يصوّر المشهد من خلال أحاسيسه وهواجسه وكوامنه وطريقة تعامله الشخصيّة، وإلّا فمن أين عرف الحالة الّتي رسمها في الإمام (علیه السلام) ؟إنّه تكلّم من عند نفسه، ولم يروِ لنا عن الإمام (علیه السلام) نفسه.. فمن أين عرف التردّد عند الإمام (علیه السلام) بين الإقدام والإحجام، ولم نجد لما قاله بياناً صريحاً أو غير صريحٍ يكشف به الإمامُ (علیه السلام) عمّا في نفسه القدسيّة؟!

يبدو أنّه يريد أن يجعل لكلام المعترضين موقعاً صحيحاً، وبُعداً عقلائيّاً، ويصحّح لهم دوافعهم في الاعتراض، إذ أنّهم جاؤوا ليقدّموا النصيحة _ فيما يزعمون _، ويعينوا الإمام (علیه السلام) على اتّخاذ القرار الصحيح الّذي لم يتوصّل إليه بنفسه ولوحده.. قاتلهم الله بجهلهم بمقام الإمام (علیه السلام) .

اللمحة الثالثة: موقع اللقاء! وزمانه

يبدو أنّ اللقاء كان في مكّة المكرّمة؛ بشهادة تفريع ابن سعدٍ مجيء أبي سعيدٍ على ما كان عليه الإمام (علیه السلام) من حالةٍ في مكّة، وبشهادة إخبار أبي سعيدٍ أنّه قد بلغه مكاتبة قومٍ من الشيعة بالكوفة يدعونه إلى الخروج

ص: 226

إليهم.

ويلزم من ذلك أن يكون اللقاء بعد العاشر من شهر رمضان، وهو زمان وصول كتبهم إلى الإمام (علیه السلام) ، كما بيّنّا ذلك في الجزء المتعلّق بدراسة (كتب أهل الكوفة).

اللمحة الرابعة: ناصحٌ مشفق

قصَدَ أبو سعيدٍ الإمامَ الحسين (علیه السلام) قَصْداً، فجاءه، وخاطبه بالكنية، وقدّمله دوافعه في الكلام بين يديه.. فهو يعتقد في نفسه أنّه مخلصٌ ناصحٌ لآل البيت (علیهم السلام) ، إذ يقول: «إنّي ناصحٌ لكم»، ويخاطبه بضمير الجمع..

فبدافع الإخلاص والنصيحة والشفقة أبدى الخُدريّ ما أبداه.

اللمحة الخامسة: الخروج إلى الكوفة!

أخبر أبو سعيدٍ أنّه بلغه أنّ قوماً من شيعتهم بالكوفة يدعونه إلى الخروج إليهم.. فهو من جهةٍ لم يبالغ ويعمّم كلامه ليشمل أهل الكوفة جميعاً، بل ولا الشيعة جميعاً _ بأيّ معنىً حملنا لفظ الشيعة _، وإنّما أكّد أنّ قوماً كتبوا، وليس كلّ القوم.

ثمّ إنّه لم يحدّد دوافع الدعوة.. مجرّد أنّه ذكر دعوتهم للخروج إليهم، ولكن لماذا دعوه؟ هل دعوه _ كما يزعمون _ للخروج بهم ومواجهة

ص: 227

السلطان، أم أنّهم دعوه للذبّ عنه والدفاع عن بقيّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ هذا ما لم يبيّنه أبو سعيدٍ في كلامه وتركه غائماً.

أجل، هم لا يمكن الحساب عليهم والارتكان إليهم على كلّ حالٍ وضمن أيّ تقدير، كما سنسمع في اللمحة التالية.

اللمحة السادسة: سبب النهي

قال أبو سعيد: «فلا تخرج».. ثمّ علّل ما قاله بما سمعه من أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لقد ملّهم وأبغضهم وملّوه وأبغضوه، وما بلى منهم الوفاء،ومَن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، واللهِ ما لهم ثباتٌ ولا عزم أمرٍ ولا صبرٌ على سيف..

ذكر أبو سعيد ما سمعه من أمير المؤمنين (علیه السلام) في تقييم أهل الكوفة يومذاك، ومَن كانت هذه خصاله وطباعه وسيرته فلا يمكن الاعتماد عليه والخروج إليه.

وهذا كلامٌ صحيحٌ في نفسه، بَيد أنّه لا يخفى على الإمام الحسين (علیه السلام) ، فليس من المقبول بتاتاً أن يكون قد سمع أبو سعيدٍ هذا من الإمام (علیه السلام) ، ولم يكن قد سمعه ابنُه الإمام المعصوم (علیه السلام) ، بل قد عرفهم سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه وعالجهم وعانى منهم ما عاناه أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) !

إلى هنا لا يبدو في كلام أبي سعيدٍ جديدٌ يختلف عن كلام غيره، سوى استدلاله بكلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وتقييمه لأهل الكوفة.

ص: 228

ولا يبدو في كلامه روح الاستعلاء والتجاسر والوقاحة في التعامل مع إمام زمانه.. ربّما سمح لنفسه بالحديث مع الإمام (علیه السلام) لما يعتلج في أعماقه من الخوف والشفقة على الإمام (علیه السلام) ، ولما يلمسه في قلبه من النصيحة الإخلاص.

اللمحة السابعة: ردّ الإمام (علیه السلام)

لم يذكر لنا التاريخ جواباً ردّ به الإمام (علیه السلام) على أبي سعيد، ولا ندريإن كان الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه أصلاً، أم أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد ردّ غير أنّ ابن سعدٍ غيّب الردّ.

فعلى الأوّل: يمكن أن يكون الإمام (علیه السلام) قد سكت عنه احتراماً له وتقديراً لصحبته وكبر سنّه، وما أبداه من الشفقة والنصح، وقدّر له هذا.

أو أنّه (علیه السلام) سكت تعجُّباً منه، لعدم تعمّقه في إدراك الأُمور وتشخيص الواقع، مع سوابقه ومعرفته بالأعداء وبأهل البيت (علیهم السلام) .

وعلى الثاني: فقد دأب المؤرّخ على تخطئة الإمام (علیه السلام) ، وإفراغ قناعاته المشؤومة في سطوره، فهو حين عرض كلام أبي سعيدٍ واستناده إلى كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ترك جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) ؛ ليوحي إلى المتلقّي قوّة حُجّة أبي سعيد، وإباءَ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وعدم التفاته إلى نصح الناصحين!! نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

ص: 229

المقطع الثاني: كلام أبي سعيد بعد الخروج

اشارة

روى ابن سعدٍ في (ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام)) وتلاه آخَرون، قال:

وقال أبو سعيد الخُدريّ: غلبَني الحسينُ على الخروج، وقد قلتُله: اتّقِ الله في نفسك والزم بيتك! فلا تخرج على إمامك!!! ((1))

وقال الذهبيّ:

إلى أن قال: وقال له أبو سعيد: اتّقِ الله والزم بيتك ((2)) [عن ابن سعد].

* * * * *

هكذا نقل ابن سعدٍ قولَ أبي سعيد، وهو يحشّد أقوال المعترضين والمخالفين ومواقفهم، وسنأتي على هذه الفرية ضمن اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: تصرّف الذهبيّ!

نقل الذهبيّ في (سيَر أعلام النبلاء) عن ابن سعدٍ حشد المعترضين، واقتطع المتن، إذ نقل شيئاً من كلام ابن عبّاس، ثمّ قال: «إلى أن قال:

ص: 230


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199.

وقال له أبو سعيد: اتّقِ اللهَ والزمْ بيتك»، فنقل العبارة الأخيرة فقط، ممّا يُوحي أنّ كلامه هذا كان قبل خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، والحال أنّه في كلام ابن سعدٍ تتمّةً لكلامٍ ساقه كتصريحٍ لأبي سعيدٍ بعد خروج الإمام (علیه السلام) .. ولا يخفى ما وراء هذا التقطيع من خبث!

اللفتة الثانية: إمكان صدور الكلام منه

طرحنا كلام الذهبيّ، لأنّه ينقل عن ابن سعدٍ صراحةً، بَيد أنّه يختصر ويروي ما يخدم غرضه، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل.

أمّا ما نقله ابن سعد، فقد أخطأ مَن وضع هذا الكلام البائس، وأوغل في الكذب والافتراء والمين، وذهب بها عريضة، لأنّه لا يعرف أتباعَ أهل البيت (علیهم السلام) وأدبهم وخضوعهم وإخباتهم بين يدَي أئمّتهم.

أبو سعيد الخُدريّ.. الرجل الراوية عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، الملتزم ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده الطاهرين (علیهم السلام) ، لا يتكلّم بهذه اللغة الهابطة مع إمامه، حاشاه! إنّه من تطريزٍ خسيسٍ لا يعرف الآداب، ولا يأنس بلغة التعامل مع المقدّسات.. ولا يدري أنّ الشيعيّ الموالي لا يرى على الإمام إماماً!

ونحسب أنّ مناقشة هذه الفرية ومحاولة الدفاع عن أبي سعيدٍ هو بنفسه تجاوزٌ عليه، ويكفيها ما فيها عن مناقشتها.

وستأتي الإشارة إلى دوافع هذا الوضع بعد قليل.

ص: 231

اللفتة الثالثة: احتجاج الإمام (علیه السلام) يوم العاشر برواية أبي سعيد

إحتجّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على أعدائه يوم عاشوراء برواية أربعةٍ من الرواة المقبولين عند جميع فرق المسلمين، وهم:جابر بن عبد الله.

أبو سعيد الخُدريّ.

أنس بن مالك.

زيد بن أرقم.

وللأوّلَين خصوصيّةٌ يمتازان بها عن الأخيرَين، إذ أنّهما معدودان في الأولياء، فيما يُعدّ الأخيران في أعداء الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) .

* * * * *

روى المؤرّخون خطبةً للإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، نأخذ منها موضع الحاجة، ونرجوا من الله بحقّ الإمام المكروب حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يمدّ في أعمارنا في خيرٍ وعافيةٍ في رضاه ورضى محمّدٍ وآل محمّد (علیهم السلام) ، لنستوفي الكلام في الخطبة في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

قالوا:

ثمّ قال الحسين (علیه السلام) لعُمر وأصحابه:

«لا تعجلوا حتّى أُخبركم خبري، واللهِ ما أتيتُكم حتّى أتتني كتبُ أماثلكم ...

ص: 232

فإذ كرهتُم ذلك فأنا راجعٌ عنكم، وارجعوا إلى أنفسكمفانظروا هل يصلح لكم قتلي أو يحلّ لكم دمي؟!

ألستُ ابنَ بنتِ نبيّكم، وابنَ ابنِ عمّه، وابنَ أوّلِ المؤمنين إيماناً؟ أوَ ليس حمزة والعبّاس وجعفر عمومتي؟ أوَ لم يبلغكم قولَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيّ وفي أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟

فإنْ صدّقتموني، وإلّا فاسألوا جابرَ بن عبد الله وأبا سعيد الخُدريّ وأنس بن مالك وزيد بن أرقم».

فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري ما تقول ((1)).

اللفتة الرابعة: اعتقاده إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) !

مرّ معنا قبل قليلٍ شهادةُ الإمام المعصوم لأبي سعيدٍ أنّه كان مستقيم العقيدة، وأنّه ممّن عاد سريعاً إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فهو يعتقد إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) سيّد الشهداء، وما أكثر ما روى عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الإمام الحسين (علیه السلام) وأنّه سيّد شباب أهل الجنّة.

ص: 233


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) لابن سعد: 72، تاريخ الطبريّ: 5 / 424، نفَس المهموم للقمّيّ: 240، الإرشاد للمفيد: 2 / 100، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 6، إعلام الورى للطبرسيّ: 240، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 439، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 143.

فمن يقبل شهادة الإمام المعصوم فيه، ويسمع احتجاج الإمام الحسين (علیه السلام) بروايته يوم عاشوراء، فإنّ هذا المركّب (الشهادة والاحتجاج)يفيد أنّه لا يمكن أن يعتقد بإمامة يزيد الخمور والخلاعة على الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولا يمكن أن يقول لسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) المرسَل وابن فاطمة البتول (علیها السلام) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد شباب أهل الجنّة: «لا تخرج على إمامك!»، أو يخاطبه بقوله: «اتّقِ الله والزم بيتك»، وهو مستقيم العقيدة!

اللفتة الخامسة: هدف الأعداء!

سيأتي الكلام عن أهداف الأعداء المترتّبة على تحشيد المعترضين، لذا نكتفي هنا بالإشارة العجلى إلى قضيّةٍ مهمّة:

يبدو من طريقة تعبير المؤرّخ أنّه يريد أن يُلقي إلى القارئ أنّ أبا سعيد يعتقد إمامة يزيد، ويعتقد أنّه إمامٌ على الإمام الحسين (علیه السلام) _ والعياذ بالله _، وبالتالي يريد أن يلقي السمّ الذعاف الّذي دافه في عسله المرّ الفاسد بقصد تمرير قصّة خروج الإمام الحسين (علیه السلام) على إمام زمانه، ومن الطبيعيّ جدّاً أن يحكم عليه بالقتل، فهو حكم الخارج على الإمام المجمع عليه!

فيكون الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) هو البادئ، وهو الّذي ترك بيته وخرج على السلطان، بل خرج على إمامه، ويكون يزيد في موقف الدفاع عن سلطانه، بل الدفاع عن وحدة المسلمين وحفظ حمى الإسلام،

ص: 234

وحقّ له قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وفق أحكام الدين وشريعة سيّد المرسلين، بشهادةٍ من أبي سعيدٍ الخُدريّ الصحابيّ الجليل الكبير المقبولحتّى عند الإمام الحسين (علیه السلام) ..

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر اعتذارَ مَن لا يستغني عن قبول عذره من إمامنا وإمام الكائنات وخامس أصحاب الكساء الإمام الحسين غريب الغرباء (علیه السلام) .

هكذا هي نتيجة ما يُسرّبه المؤرّخ الخؤون، فيضطرّنا شغبه إلى ركوب مثل هذه الأهوال وتسويد مثل هذه السطور، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 235

ص: 236

معترضون بالجملة

المتون

قال ابن سعدٍ أيضاً:

وقال أبو واقد الليثي: بلغَني خروجُ حسين، فأدركتُه بملل، فناشدتُه الله أن لا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنّما يقتل نفسه. فقال: «لا أرجع» ((1)).

وقال سعيد بن المسيّب: لو أنّ حسيناً لم يخرج، لَكان خيراً له! ((2))

ص: 237


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن الكثير: 8 / 163.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن الكثير: 8 / 163.

وقال أبو سلَمة بن عبد الرحمان: قد كان ينبغي لحسينٍ أنيعرف أهلَ العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجّعه على ذلك ابنُ الزبير ((1)).

وقال ابن الأثير:

فتجهّز للمسير، فنهاه جماعة، منهم: أخوه محمّد ابن الحنفية، وابن عمر، وابن عبّاس، وغيرهم، فقال: «رأيتُ رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وأمرَني بأمر، فأنا فاعلٌ ما أمر» ((2)).

وقال ابن طلحة والأربليّ:

فاجتمع به ذو النصح له والتجربة للأُمور أهلُ الديانة والمعرفة، كعبد الله بن عبّاس وعمر بن عبد الرحمان بن الحارث المخزوميّ وغيرهما، ووردَت عليه كتبُ أهل المدينة من عبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص وجماعةٍ كثيرة، كلّهم يشيرون عليه أن لا

ص: 238


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.

يتوجّه إلى العراق وأن يُقيم بمكّة، هذا كلّه والقضاء غالبٌ على أمره والقدَر آخِذٌ بزمامه، فلم يكترث بما قيل له ولا بما كُتب إليه ((1)).

وقال السيوطيّ:

وكلّمه في ذلك أيضاً: جابرُ بن عبد الله، وأبو سعيد، وأبو واقدالليثيّ، وغيرُهم، فلم يُطِعْ أحداً منهم، وصمّم على المسير إلى العراق ((2)).

وقال الصبّان:

فأشار عليه ابنُ الزبير بالخروج، وابنُ عبّاسٍ وابنُ عمر بعدمه ((3)).

* * * * *

يمكن هنا تسجيل بعض الملاحظات العامّة، والاقتصار على ذلك من دون تناول كلّ مفردةٍ من المفردات المذكورة في النصوص، إذ أنّ الكثير منهم قد مرّ علينا الحديث عنه، فلا حاجة للإعادة:

الملاحظة الأُولى: حشد المعترضين

يُلاحَظ أنّ ابن سعدٍ ((4)) وغيره من المؤرّخين قد جمع أقوال المعترضين

ص: 239


1- مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 43.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 206، إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
3- إسعاف الراغبين للصبّان: 204.
4- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

ومواقفهم في موضعٍ واحد، وذكرهم الواحدَ تلو الآخَر في قالبٍ تحشيديٍّ استعراضيّ، يُلقي في روع المتلقّي تظافر العقلاء والصحابة والوجهاء والرؤوس المعروفة على مخالفة الإمام (علیه السلام) .

فربّما ذكر المؤرّخ بعض المعترضين في موضعه عندما يمرّ به، ثمّ يعود ليجمع أقوالهم وآراءهم في موضعٍ واحد، فيبدو للناظر كثرتهم وتوافقهمعلى الموقف وحصول الإجماع منهم على المشهد.

الملاحظة الثانية: تضخيم المعترضين وأعدادهم

يزرّق المؤرّخ في ذهن المتلقّي ما يعظّم أشخاصهم وأعيانهم، ويضفي عليهم هالةً من القداسة المزيّفة والعناوين الرنّانة، وينفخ فيهم ويضخّمهم، لعلّه يبلغ بحجمهم ما يمكن أن يقابل خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) تكلُّفاً واعتسافاً..

فيقول مثلاً:

فاجتمع به ذو النصح له والتجربة للأُمور أهلُ الديانة

ص: 240

والمعرفة ((1)).

فهم مِن ذوي النصح له!!

وهم من ذوي التجربة للأُمور!!

وهم من أهل الديانة!!

وهم من أهل المعرفة!!

وهم من أهل القرابة، كابن عبّاس!!

وهم من الصحابة، كابن عمر والمسوّر، وغيرهما ممّن ذكروهم!!وهم من كبار الشيعة والأتباع والمحبّين والموالين، من قبيل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخُدريّ!!

وهم من التابعين، كسعيد بن المسيّب وغيره!!

وهم من الرجال ومن النساء، كعمرة بنت عبد الرحمان!!

وهم من الرجال المعروفين والرجال المغمورين!!

وهم من الشيوخ والشباب!!

وهم من المدينة ومكّة وباقي الأصقاع!!

وهم المحدّث والراوية والفقيه والمفتي والشاعر!!

وهكذا دواليك.. تجده يُغدق على مَن يريد رصفه في صفّ المعارضين للإمام (علیه السلام) من الألقاب والمقامات والرتب، ما يُقنع المتلقّي بصلاحه

ص: 241


1- أُنظر: مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 43.

ومعرفته..

أيّ ديانة؟

أيّ معرفة؟

أيّ تجربة؟

وهم يخالون أنفسهم أنّهم يعرفون ما لا يعرفه مَن زوّده الله بعلمه ولم يمنعه إلّا الحرف الواحد الّذي استأثر به لنفسه!

ومَن منهم أعظم تجربةً من الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأشدّ معاناةً منه لهذهالأُمّة ومَن فيها؟!

إنّ من هوان الدنيا على الله أن يُعرض ابنُ عمر وابن عبّاس وابن مخرمة وابن مطيع وأمثال هؤلاء بإزاء سيّد الخلق، ويوصفوا بما وصفهم به المؤرّخ، ثمّ يعرض الإمام (علیه السلام) مخالفاً لهؤلاء، وهم أهل الديانة والمعرفة والتجربة والصحبة، وأمثالها من العناوين.

الملاحظة الثالثة: قلّة المعترضين!

رغم ما تجشّمه المغرضون في محاولاتٍ مهلهلةٍ مستهلكةٍ بائسةٍ في تضخيم أعداد المعترضين، ونثر العناوين الطنّانة عليهم، فإنّ قليلاً من الإمعان والتريّث في قراءة التاريخ تفيد بجلاءٍ أنّهم ليسوا بالكثير، ولا بالعدد المهول الّذي حاولوا تضخيمه وعرضه بشكلٍ متراكم، من خلال تفريق الحديث عنهم مرّةً وجمعِهم في موضعٍ مرّةً أُخرى.

ص: 242

فلو أنّنا تتبّعنا المعترضين، لم نجدهم الأفضل في الأُمّة يومذاك، ولا يُقاس عددهم بعدد الصحابة والتابعين وعامّة المسلمين، حتّى لو احتسبنا مَن لا يُعدّ في المعترضين، كأُمّ المؤمنين أُمّ سلَمة، والمولى المكرّم ابن الحنفيّة، والمولى المعظّم ابن جعفر.. فإنّ عددهم محدودٌ محصور، سيّما إذا احتسبنا المدّة الطويلة الّتي قضاها الإمام (علیه السلام) في مكّة مستجيراً بحرم الله، وأنّ المعترضين ازدحموا على الإمام (علیه السلام) في الأيّام الأخيرة قبل خروجه منمكّة.

وإذا نظرنا إلى مستوياتهم ومقامتهم ورتبهم الاجتماعيّة والعلميّة وأوزانهم في الدين والمجتمع، فإنّهم لا يرقون إلى حافر ذي الجناح، إلّا المستثنى منهم.

الملاحظة الرابعة: الاضطرار إلى الوضع

كانت مواقف بعض المعترضين مشهودةً معروفة، رواها المؤرّخون في أكثر من موضع، وذكروا لها تفاصيل ومتابعات، كابن عبّاس وابن عمر وأمثالهما..

فلمّا أرادوا دعم هذه المواقف وإلقاء سموم أفاعيهم، اضطرّوا إلى الكذب والافتراء على بعض الأعيان بأقلّ مؤونةٍ وأوجز عبارة، فنسبوا إلى جابر وأبي سعيدٍ وأمثالهما أقوالاً لم يتقنوا الوضع فيها، لجهلهم بالإمام (علیه السلام) وبأتباعه، فجاءت الكذبة مفترعةً مفضوحةً ممجوجةً باهتةً باردة، والسمُّ

ص: 243

فيها ناقعاً فاقعاً لونه، يتناثر بشكلٍ لا يخفى على مَن عرف الإمام (علیه السلام) وعرف أتباعه أدنى معرفة، وإنْ كانت لَتنطلي قبل التأمّل على المغفّل والمغرور بقداسة التاريخ وقداسة الأشخاص المزيّفة.

الملاحظة الخامسة: قداسةٌ مقابل قداسة

حاولوا من خلال التضخيم والتعظيم الّذي أشرنا إليه إيجادَ هالةٍ من القداسة على المعترضين على الإمام (علیه السلام) ..

فعرضوا ابن عبّاس باعتباره ابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) مباشرة، وهو _ على حدّ زعمهم _ من الصحابة، وقد أضفوا عليه من العناوين الراقية، وألبسوه جلابيب الوقار والعلم والمتانة، وأدخلوه _ كما فعل هو نفْسُه أيضاً _ في كثيرٍ من مواقفه وكلماته في الآل، وجعلوه من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأغدقوا عليه الألقاب المسروقة من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده الطاهرين (علیهم السلام) ، من قبيل: (حبر الأُمّة) و(ترجمان القرآن) وأمثالهما، ليكون الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ابن عمّ الرسول (صلی الله علیه و آله) بإزاء ابن عبّاس ابن عمّ الرسول، وهكذا تستمرّ المقارنة بما لا نجرؤ على كتابته.

وعرضوا ابن عمر باعتباره صحابيّاً، وابن الملك الثاني! وصاحب الرأي، والزاهد في الدنيا! وما إلى ذلك، وكلّها كذبٌ وزورٌ بما فيها الثاني! ولمن أراد التفصيل مراجعة كتاب (الغدير) للعلّامة الأمينيّ، سيّما الجزء العاشر منه.

ص: 244

وكذا الأشخاص والشخصيّات الأُخرى، حتّى الّتي نسبوا إليها ما لم يقله، من قبيل جابر وأبي سعيد..ولعلّ الغرض من ذلك مواجهة قداسة الإمام (علیه السلام) وقربه القريب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقداسةٍ أُخرى زائفة، وتوفير المادّة للتشكيك في عصمة الإمام (علیه السلام) بإزاء عصمة الصحابة.

وفاتهم أنّ القداسة الذاتيّة الّتي يمنحها الله ويُلبسها عباده وأولياءه لا تُقارن بالقداسة المموَّهة الّتي ينسجها الناقص المنطفئ المظلم!

وأنّى لهم المقارنة بين الثرى والثريّا، وقد غشيَت أبصارهم وبصائرهم وعميَت، إذ كيف لمن ينظر إلى الشمس ويحدّق فيها أن يُبصِر نور ذبالة الشمعة المتذبذب الخافت؟!

وربّما كان الغرض من ذلك ما سنسمعه بعد قليل.

الملاحظة السادسة: تركيز فكرة الخروج!

جهد الأعداء منذ اللحظة الأُولى الّتي عزموا فيها على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والإجهاز على البقيّة الباقية من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُبدعوا ذريعةً يسوّغوا فيها فعلتهم وجنايتهم، ويطعمونها القلوب الخاوية والأرواح المعطّلة الّتي تستسيغ العلقم ما دام فيه مصالحهم ودنياهم..

فبماذا يعتذر العدوّ للناس والتاريخ إن أراد قتل الإمام ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابنه وسيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ؟!

ص: 245

لابدّ من صياغة ذريعةٍ تُقنِع الأتباع، وتوقع المخالفين له في التردّدوالشكّ، وتورّط المعتقِد بالإمام (علیه السلام) للبحث عن مسوّغٍ لِما فعله الإمام (علیه السلام) .

فكلّ مَن قُتل مِن قَبل الإمام الحسين (علیه السلام) من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، كان الأعداء قد أعدّوا له ذريعته، وكلُّ مَن قُتل مِن أولاد الحسين المعصومين (علیهم السلام) ، كان العدوّ قد أعدّ له ذريعته، حتّى وإن قُتل غيلةً بالسمّ.

كانت الذريعة المعدَّة المعلَنة دائماً: المنازعة في السلطان، وشقّ عصا المسلمين.. من أجل ذلك.. هذا باختصار!

وكان يزيد قد كتب من اليوم الأوّل بعد أن كتب إلى واليه على المدينة يطلب رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مع جواب الكتاب، كتب أيضاً كتاباً إلى أهل المدينة وأهل مكّة وأهل الموسم وابن عبّاس نسخةً واحدة، صرّح فيها بهذه الذريعة البائسة، وأكّد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) ينازعه سلطانه، وهو يدفع عن نفسه وسلطانه، ويريد للأُمّة أن تبقى نسيجاً واحداً.

وعاد ليؤكّد ذلك هو وأتباعُه وأشياعُه وأبواقُه في كلّ موضعٍ وموطن، واستمرّ الأمر في أشياعه وأذنابه من المؤرّخين.

من هنا حاول ترويج هذه الفكرة البائسة التافهة الّتي لا تنطلي على المعتقِد بعصمة الإمام (علیه السلام) ، فحشّد هؤلاء المعترضين؛ ليركّزوا هذه الفكرة، ويؤكّدوا أنّ الإمام (علیه السلام) يسعى إلى القيام ب-- (المعنى المصطلَح)، أو ما يسمّيه العدو ب-- (الخروج على السلطان)!

ص: 246

فجاءت على لسان كلّ واحدٍ منهم بصورةٍ وصيغة، كما سمعنا منخلال الدراسة الّتي مرّت علينا، وكان آخِرها ما نُسب إلى أبي سعيدٍ الخُدريّ افتراءً أنّه قال له: اتّقِ اللهَ والزمْ بيتَك، ولا تخرج على إمامك!!!

نعم، هذا هو المقصود.. إنّهم عزموا على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعزموا على استئصال آل الرسول (صلی الله علیه و آله) من جديد الأرض، وكلّ شيءٍ يُذكّر به (صلی الله علیه و آله) ، ويعمل بسنّته..

ولكي يفعلوا فعلتهم، فلابدّ لهم من ضخٍّ إعلاميّ، وزخمٍ هادرٍ لإعلان الإمام (علیه السلام) كشخصٍ (خارجيّ) أقدم على الخروج على إمامه!! وضرب الناس بعضهم ببعض _ كما ورد على لسان بعضهم _، وسعى في شقّ العصا وتشتيت الأُمّة، وخرج إلى منازعة السلطان، وليس أمام العدوّ إلّا أن يُقدِم على قتله، وبهذا ولّد في أذهان أتباعه التقرّب إلى الله بدمه.. نستغفر الله ونتوب إليه.

فليس هو يزيد وحده الّذي رمى الإمام (علیه السلام) بهذه الفرية، وإنّما هو إجماع ذوي (النصح له والتجربة للأُمور أهل الديانة والمعرفة)، وكبار الصحابة والتابعين، ومَن ذكرناهم قبل قليلٍ من الأصناف.

الملاحظة السابعة: تخطئة الإمام (علیه السلام) !

يسعى العدوّ ويوظّف جميع أدواته وأذنابه لرشّ ما يريد ذرّه في ذهن المتلقّي، ويستعمل كلّ الوسائل ويوظّف كلّ ما يخدم غرضه.

ص: 247

وقد دأب منذ اليوم الأوّل على تخطئة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وعرضه في صورة الخارجيّ من دون تقدير الظروف، ولا ملاحظة قوّة العدوّ، ولا حساب مَن معه ومَن عليه، وهو يقدم على مواجهة السلطة باستعجال، ومن دون أيّ تخطيطٍ مسبقٍ في خطواتٍ متعثّرةٍ يسيطر عليها التردّد.

تماماً كما فعل مع المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، حين يصوّره متفاجئاً في كلّ مرّة، وسرعان ما يتّخذ الموقف من غير دراسةٍ ولا تقييمٍ للوضع ولا تخطيطٍ للمستقبل وحسابٍ للعواقب والنتائج.

وتماماً كما فعل ابن سعدٍ حين جهد على تصوير الإمام (علیه السلام) متردّداً في قبول دعوة أهل الكوفة، وكلّما نصحه الناصحون _ كما يسمّونهم _ ويخبره المجرّبون ويلتمسه أهل الديانة والمعرفة، فإنّه (علیه السلام) يأبى ولا يريد إلّا المضيّ في مسيره، دون التفاتٍ إلى أحدٍ أو تحسُّبٍ للتوالي واللوازم.

فهؤلاء هم الّذين حشّدهم المؤّرخ في طابور _ بما فيهم من خصائص وخصال، وبما أضافه لهم من تضخيمٍ ونفخٍ في أحجامهم وعناوينهم _، يخالفونه ولا يرون ما يفعله صواباً، إلّا أنّه لا يلتفت!

وهذه الخطّة السخيفة تجدها في جميع مراحل حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى حين الشهادة، بل حتّى بعد الشهادة إلى يوم الناس هذا.

فمن الطبيعي أن يتأثّر الأعداء وأتباعهم والجهلة والضلّال والمغرّر بهم، ممّن هم لا يرون للإمام الحسين (علیه السلام) من القداسة والعظمة والعصمة ما يرونه لأمثال ابن عبّاسٍ وأبي سعيدٍ الخُدريّ وابن عمر وغيرهم.

ص: 248

وإن كان من أولياء الإمام الحسين (علیه السلام) والمعتقدين بعصمته، يدخل في دوّاماتٍ مروّعةٍ للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، وتفسير موقفه وشرح صحّة ما فعله، فتأخذه الدوّامة مرّةً ويأخذها مرّة..

ويغفل الجميع عن مظلوميّة الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، ولا يتأمّل أحدٌ في حقيقة ما فعله أعداء الإمام (علیه السلام) ، ولا يحدّق في ما جيّش له آلُ أُميّة وآل زيادٍ وآل مروان وأتباعهم من الهجوم على الإمام (علیه السلام) ومحاصرته ومضايقته، وإطباقِ أطراف الأرض وآفاق السماء عليه من أجل القضاء عليه وعلى مَن معه من آل الله..

وينسى الجميع أنّ عليهم الالتفات إلى ما يقوله الإمام (علیه السلام) نفسه وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ، ويغضّوا الطرف عمّا يرويه المؤرّخ من حدَثٍ فاجعٍ في ذلك الصخب المتصاعد..

يغرق الجميع في خضمّ هذه الزخارف والترّهات الّتي تعرض الإمام الحسين (علیه السلام) خارجيّاً يستحقّ القتل في عُرف الأعداء، وخارجاً (بالمعنى المصطلَح) في عُرف الأحباب، فيصمّ الصخب والضجيج الآذان، ويغشي وميض السهام والسيوف والرماح وبريق السلاح وقعقته عن الاستماع إلى الخبر، بعيداً عن كلّ هذا الصراخ والجلجلة والجلَبة، ليبدأ المتابع من اللحظة الأُولى الّتي خرج فيها الإمام (علیه السلام) من المدينة «خائفاً يترقّب»، كما عبّر هو بنفسه _ فداه العالمين _..

كيف كان، فإنّ الأعداء كان همّهم الأكبر إقناع المتلقّي أنّ جميعالعقلاء

ص: 249

وأهل الديانة والشخصيّات المقبولة عند الشيعة والعامّة كانوا يخالفون الإمام (علیه السلام) ويخطّؤونه، وأنّ الظالم كان على حقٍّ فيما فعل مع المخطئ بالاتّفاق!! فحينما يتعيّن المخطئ في أحد طرفَي النزاع، يتعيّن أن يكون الآخَر على صواب.

نستغفر الله ونتوب إليه من الانحدار في مِثل هذه الوديان الموبوءة الّتي يُزكم الأُنوف عفَنُها، ويُقسي القلوب قساوتها وسوء أدبها، بَيد أنّها ضرورة البحث، وأملنا في مليكنا، وهو رحمة الله الواسعة ومعدن الحلم والجود والكرم.

الملاحظة الثامنة: هل يخفى على الإمام (علیه السلام) ما عرفه غيره، فيخرج؟!

إذا كانت الأُمّة كلُّها معرضةً عن الإمام (علیه السلام) ، وكبارُ الشخصيّات معترضين على الإمام (علیه السلام) ، وكلّ ذلك لا يخفى على الإمام (علیه السلام) ، فكيف يمكن تفسير قيامه ب-- (الخروج بالمعنى المصطلَح)؟ إذ لا الأُمّة معه ولا نخبها، فهل يخفى على الإمام (علیه السلام) ما عرفه غيره من أفراد الأُمّة وجماعتها، بما فيهم الأغبياء والحمقى؟! نعوذ بالله!فلا يمكن حمله على الخروج بمعنى منازعة السلطان؛ لوضوح أنّ هذه هي فكرة العدوّ، ولم يقُلْ بها أحدٌ ممّن يعرف الإمام الحسين (علیه السلام) ويعتقد

ص: 250

إمامته!

ولا يمكن حملها على التفسير المشهور، وأنّ الإمام (علیه السلام) مع علمه بذلك إلّا أنّه استمر في مسيره، أو ما يعبّرون عنه _ خطأً _ ب-- (مشروعه)، وهو عالمٌ جازمٌ قاطعٌ متيقّنٌ أنّهم سيقتلونه ومَن معه، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) قد أقدم على عملٍ انتحاريّ، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنىً، وهو محالٌ في غير المعصوم، فكيف بالمعصوم وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) !

وإن قيل: إنّ الإمام (علیه السلام) امتثل أمر الله بذلك، فيخرج الأمرُ مِن عهدة الإمام (علیه السلام) .. بيد أنّه سيكون أمراً من الله بالانتحار، ولا نحسب أنّ مؤمناً بالله يقول بذلك.

فيما يكون قيامه بالأمر بالدفاع عن نفسه _ بعد هجوم العدوّ عليه وطلب رأسه وعزمه جازماً على سفك دمه _ مقبولاً، يشهد له أقوال الإمام (علیه السلام) وأفعاله، وأقوالُ العدوّ وأفعاله، على تفصيلٍ يأتي في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

الملاحظة التاسعة: قصدوا الإمام (علیه السلام) ، ولم يقصدهم!

يُلاحَظ في جميع الموارد الّتي رواها المؤرّخ كتسجيلٍ لمواقفالمعترضين، أنّهم جميعاً قصدوا سيّد الشهداء (علیه السلام) وتطفّلوا، فتقدّموا بين يدَي الإمام (علیه السلام)

ص: 251

كلٌّ حسب مقداره وطريقته وأُسلوبه ودوافعه ونوازعه ومقاصده..

أمّا إمام السعداء وسيّد الشهداء (علیه السلام) فإنّه لم يقصد أحداً قطّ، ولم يسأل أحداً قطّ، ولم يحتجْ إلى رأي أحدٍ قطّ، ولم يستشر أحداً قطّ، إلّا ما زعمه ابن عبّاس كما في بعض النصوص أنّ «الحسين استشارني»!! وقد أتينا على مناقشة ذلك مفصَّلاً فيما مضى من الدراسة من وقائع مكّة المكرّمة.

والغريب أنّهم جميعاً كانوا يتكلّمون في نفس الوادي، ويكرّرون نفس المضامين، وينسجون على نفس المنوال المتهالك، والإمام يردّ عليهم ويوسعهم بحلمه، وهم لا يعقلون، وفي فلك التَّيه والتردُّد يدورون، وعن دائرة خطّة السلطان ومنويّاته لا يخرجون.

وهم _ على كلّ حالٍ _ قليلٌ لا يُؤبَه بهم كمعترضين على إمامهم، ولم يقدّموا جديداً خافياً على الإمام (علیه السلام) ، بل لم يقدّموا ما يخفى على كلّ مَن يعيش تلك الأيّام حتّى من عوامّ الناس.

الملاحظة العاشرة: مَن كان مع الإمام (علیه السلام)

مَن يقرأ الأحداث إلى مكّة _ حيث نحن الآن _ ويستمع إلى المعترضين، يجد أنّ المحور الأوّل والأخير هو شخص الإمام (علیه السلام) ، سواءًأكان حين يقصده المعترضون، أو حين يردّ عليهم الإمام (علیه السلام) ، بل في أيّ موضعٍ آخَر في خضمّ الأحداث، وهذا ما سنأتي عليه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 252

والحال أنّنا نعلم بشهادة التاريخ وسير الأحداث أنّ ثَمّة رجالاً في ركب الإمام الحسين (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن الإمام (علیه السلام) نفسه _ كلّاً منهم يمكن أن يكون محوراً بنفسه، سواءً في استقبال المعترضين أو في الردّ عليهم، كأبي الفضل العبّاس (علیه السلام) ، والمولى الأمير عليّ الأكبر ابن الحسين (علیه السلام) ، والمولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وغيرهم من أهل البيت والموالي الكرام..

فلا سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّف أحداً منهم الردّ، ولا انبرى أحدٌ منهم لذلك مع وجود إمامه (علیه السلام) وكبيره.

إنّه الأدب الرفيع الّذي تربّى عليه الّذين نشؤوا في بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه.. إنّه التسليم المطلق، ووقوف العبد الذليل بين يدَي السيّد الجليل، والخضوع والإخبات المطلق، والتعظيم الكامل لحرمات الله الّذي امتاز به أنصار الحسين وأهل بيته (علیهم السلام) .

ص: 253

ص: 254

الإمام (علیه السلام) وأمّ سلَمة

اشارة

مرّ معنا الكلام عن لقاء أُمّ سلَمة بسيّد الشهداء (علیه السلام) عند الحديث عن خروجه (علیه السلام) من المدينة، ونعود هنا للحديث مرّةً أُخرى؛ لِما في الأخبار والأحاديث الواردة في المقام مِن إفادة اللقاء أو الكتابة عند خروجه (علیه السلام) من مكّة المكرّمة.

ولا نريد هنا الاستقصاء ودراسة النصوص بشكلٍ دقيقٍ ومتابعةَ كلّ ما ورد فيها على التفصيل، وإنّما سنقتصر على ما ينفع الدراسة إن شاء الله (تعالى).

وقد وردَت نوعان من المتون:

النوع الأوّل: رواية المعصوم (علیه السلام)

اشارة

روى الخصيبيّ في (الهداية الكبرى)، قال:

ص: 255

قال الحسين بن حمدان الخصيبيّ: حدّثَني أبو الحسين محمّد بن عليّ الفارسي، عن أبي بصير، عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) قال:

«لمّا أراد الحسينُ بن عليٍّ (علیه السلام) الخروجَ إلى العراق، بعثَتْ إليه أُمُّ سلَمة، وهي الّتي كانت ربّته، وكان هو أحبّ إليها من كلّ أحد، وكانت أرأفَ الناس عليه، وكانت تربة الحسين عندها في قارورةٍ مختومةٍ دفعها إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقال لها: إذا خرج ابني إلى العراق، فاجعلي هذه القارورة نصب عينيك، فإذا استحالَتِ التربةُ في القارورة دماً عبيطاً فاعلمي أنّ ابني الحسين قد قُتِل.

فقالت له: أُذكّرك رسولَ الله أن تخرج إلى العراق. قال: ولِمَ يا أُمَّ سلَمة؟ قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: يُقتَل ابني الحسين بالعراق، وعندي يا بُنيّ تربتُك في قارورةٍ مختومةٍ دفعَها إليّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) . فقال: يا أُمَّ سلَمة، إنّي مقتولٌ لا محالة، فأين أفرُّ مِن القدَر والقضاء المحتوم والأمرِ الواجب من الله (سبحانه وتعالى)؟

قالت: وا عجباه، فأين تذهب وأنت مقتول؟ قال: يا أُمّ! إنّي إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب غداً ذهبتُ بعد غد، وما من الموت مفرّ، واللهِ يا أُمّ إنّي لَأعرف اليوم الّذي أُقتَلفيه، والساعةَ الّتي أُحمَل فيها، والحفرةَ الّتي أُدفَن فيها، وأعرف قاتلي ومحاربي والمجلب علَيّ والسائق والقائد والمحرّض ومَن هو قاتلي ومَن يحرّضه، ومَن يُقتَل معي من أهلي وشيعتي رجُلاً رجُلاً،

ص: 256

وأُحصيهم عدداً، وأعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم كما أعرفكِ، وإنْ أحببتِ أريتُكِ مصرعي ومكاني. فقالت: فقد شئت.

فما زاد على أن تكلّم باسم الله، فخضعَت له الأرضُ حتّى أراها مضجعَه ومكانه ومكان أصحابه، وأعطاها من تلك التربة الّتي كانت عندها.

ثمّ خرج الحسين (علیه السلام) ، وقال لها: يا أُمّ، إنّي لَمقتولٌ يوم عاشوراء يوم السبت. فكانت أُمُّ سلَمة تعدّ الأيام وتسأل عن يوم عاشوراء» ((1)).

وروى ابن حمزة في (الثاقب)، قال:

عن الباقر (علیه السلام) قال:

«لمّا أراد الحسينُ (علیه السلام) الخروجَ إلى العراق، بعثَتْ إليه أُمُّ سلَمة (رضی الله عنها) ، وهي الّتي كانت ربّته، وكان أحبَّ الناس إليها،وكانت أرقَّ الناس عليه، وكانت تربة الحسين عندها في قارورة، دفعها إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فقالت: يا بُنيّ، أتريد أن تخرج؟ فقال لها: يا أُمّاه، أُريد أن أخرج إلى العراق. فقالت: إنّي أُذكّرك الله (تعالى) أن تخرج إلى العراق. قال: ولِمَ ذلك يا أُمّاه؟ قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: يُقتَل ابني

ص: 257


1- الهداية الكبرى للخصيبيّ: 202.

الحسين بالعراق. وعندي يا بُنيّ تربتُك في قارورةٍ مختومةٍ دفعها إليّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقال: يا أُمّاه، واللهِ إنّي لَمقتول، وإنّي لا أفرّ من القدَر والمقدور والقضاءِ المحتوم والأمر الواجب من الله (تعالى).

فقالت: وا عجباه، فأين تذهب وأنت مقتول؟! فقال: يا أُمّاه، إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب غداً لذهبتُ بعد غد، وما من الموت _ واللهِ يا أُمّاه _ بُدّ، وإنّي لَأعرفُ اليوم والموضع الّذي أُقتَل فيه، والساعةَ الّتي أُقتل فيها، والحفرةَ الّتي أُدفَن فيها، كما أعرفك، وأنظر إليها كما أنظر إليك. قالت: قد رأيتَها؟ قال: إنْ أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومكاني ومكان أصحابي فعلت. فقالت: قد شئتُها.

فما زاد أن تكلّم باسم الله، فخفضَت له الأرضُ حتّى أراها مضجعه ومكانه ومكان أصحابه، وأعطاها من تلك التربة،فخلطَتها مع التربة الّتي كانت عندها.

ثمّ خرج الحسين (صلوات الله عليه)، وقد قال لها: إنّي مقتولٌ يوم عاشوراء ((1)).

* * * * *

يمكن الإفادة من النصّين المذكورين من خلال المتابعات التالية:

ص: 258


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة: 330 الرقم 272، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 243.
المتابعة الأُولى: تقارب النصَّين

يبدو أنّ النصَّين متقاربان إلى حدّ الاتّحاد بالمضمون، وإن وُجدَت الاختلافات فهي في بعض الإضافات أو الألفاظ الّتي لا تؤثّر على أصل المضمون الّذي يحتويه الحديثان.

وقد روى ابن حمزة _ كما روى الخصيبيّ _ الحديثَ عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، ومن حيث التقدُّم الزمانيّ فإنّ الخصيبيّ أقدم، وهو يروي الحديث بواسطةٍ عن أبي بصير!

قال الحسين بن حمدان الخصيبيّ: حدّثَني أبو الحسين محمّد بن عليّ الفارسي، عن أبي بصير ...

ويرويه ابن حمزة مرسَلاً، فلا ندري إن كان ابن حمزة يخرّجه من كتاب الخصيبيّ، أو أنّ له طريقاً آخَر!

المتابعة الثانية: الجانب الإعجازيّ في الحديث

يبدو الجانب الإعجازيّ مظلّلاً على أجواء الحديث، حيث يروي جملةً من الإخبارات الغيبيّة عن مستقبل أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) ، وحمل أُمّ سلَمة أمانة التربة الحسينيّة من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وحملها الأمانة الجديدة من الإمام الحسين (علیه السلام) ، وضمّها إلى التربة السابقة، وكشف الإمام الحسين (علیه السلام) لها عن موضع شهادته، وتحديد اليوم، وما شاكلها من المعاجز الّتي أخبر عنها الإمام الباقر (علیه السلام) ..

ص: 259

وهذا الجوّ الإعجازيّ يفرض على المتلقّي لوناً خاصّاً من الفهم، ويدعوه إلى التعامل معه تعاملاً خاصّاً.

المتابعة الثانية: موضع اللقاء

لمّا كان جوّ الحديث جوّاً إعجازيّاً، فمن الصعوبة بمكانٍ استكشاف موضع اللقاء، فليس بالضرورة أن يكون خروج الحسين (علیه السلام) إلى العراق المُشار إليه في الحديث خروجاً من مكّة، فربّما كان المقصود هو الخروج من المدينة، إذ أنّ أُمّ سلَمة كانت تعلم أنّ خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة سينتهي في العراق بشهادة الإمام (علیه السلام) وفق ما سمعَته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكذلك كان الإمام الحسين (علیه السلام) عالماً بذلك، فجرى الحديث بينهما عن العراق والشهادة في المدينة، وإن كان الإمام (علیه السلام) لم يُخبِر أحداًبتوجّهه إلى العراق في المدينة، وإنّما ذكروا العراق هنا لمكان الحديث عن الإخبارات الغيبيّة.

وحينئذٍ لا يمكن البتّ بمكان اللقاء، ولا حاجة للبحث عن الشواهد في الحديث الّتي قد تفيد حصول اللقاء في مكّة، سيّما إذا عرفنا أنّ أُمّ سلَمة كانت في المدينة، ولم نجد لها موقفاً واضحاً في مكّة تلك الأيّام.

إلّا أن يقال: إنّ الإمام (علیه السلام) خرج إلى العراق عن طريق المدينة، بمعنى أنّه مرّ بالمدينة في طريقه من مكّة إلى العراق، وهذا ما يحتاج إلى دراسةٍ وتوثيق، وليس هذا محلّه.

ص: 260

المتابعة الثالثة: أُمّ سلَمة

مرّ معنا الكلام عن أُمّ سلمة ومقامها ومنزلتها عند النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآل البيت (علیهم السلام) ، فلا نعيد، بَيد أنّ في هذا الحديث بعض الخصائص المميّزة لها، سنشير إليها إشارةً عابرة.

لقد شهد الإمام الباقر (علیه السلام) لأُمّ سلمة شهادةً تكفيها في الدارين، إذ أنّه شهد لها أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبه كان أحبَّ إليها من كلّ أحد، وكانت أرأف وأرقّ الناس عليه.. ما أعظمها من شهادة!

وامتازت أيضاً هذه الطيّبة الطاهرة بتحميلها أمانة تربة الحسين (علیه السلام) الّتي جاء بها جبرئيل إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فدفعها النبيّ (صلی الله علیه و آله) لها في قارورةٍ مختومة،وأخبرها بخبر شهادة ابنه، وأعطاها لذلك علامةً لا تتخلّف، وأمرها أن تجعل القارورة نصب عينيها وتتابعها، فإذا انقلبَت دماً عبيطاً علمَت أنّ حبيبها الحسين (علیه السلام) قد قُتل..

وقد حمّلها الإمام الحسين (علیه السلام) أيضاً هذه الأمانة، وكشف لها عن موضع شهادته وشهادة أصحابه..

وحمّلها بعض أمانات الإمامة، كما ذكرنا سابقاً..

فهي أمينةٌ على أسرار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآل بيته الطيّبين الطاهرين (علیهم السلام) ، وإنّها لَمنزلةٌ لا يرقى إليها إلّا مَن كان مثلها، ولا يختصّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته أحداً بمثل هذه الخصائص، إلّا لعظيم كرامته وجليل منزلته وسموّ مرتبته!

ص: 261

المتابعة الرابعة: تقدمة أُمّ سلَمة

تقدّمت أُمّ سلمة بين يدَي الإمام (علیه السلام) بشفاعة ما عندها من إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعلامة التربة المختومة، فهي مؤمنةٌ عالمةٌ بمآل الأُمور، واثقةٌ بما سيكون، غير أنّ قلب الأُمّ الّتي لا يحبّ ابنَها أحدٌ مثلها، ولا في الناس أرقّ وارأف منها عليه، وهي تعتقد أنّه الإمام المقرّب إلى الله الّذي إذا دعا أُجيب، فتوسّلَت إليه، لترى إن كان من سبيلٍ للنجاة من القتل.. من دون اعتراضٍ على الإمام (علیه السلام) ، ولا اعتراضٍ على إرادة الله، ولا سخطٍ لقضائهوقدره..

أو أنّها كانت تعتقد أنّ لابنها الحسين (علیه السلام) عدّة رحلات إلى العراق، وفي الأخيرة منها شهادته، أي: أنّها تعلم أنّ مقتل الإمام (علیه السلام) في العراق، غير أنّها لا تدري إنْ كان تحقّق ذلك سيكون في هذه الرحلة أَم في غيرها، فلمّا كلّمَته علمت أنّها هي الرحلة الموعودة، فعجبَت منه كيف يريد الذهاب إلى العراق وهو يعلم أنّها رحلة الشهادة، فقالت: «وا عجباه! فأين تذهب وأنت مقتول؟!»، وهو تعبيرٌ عن التفجُّع وتعظيم المصيبة، على وزان ما رواه الشيخ الطريحيّ في وداع الإمام الحسين (علیه السلام) مع القاسم بن الحسن (علیهما السلام) ، قال:

فلمّا رأى الحسين (علیه السلام) أنّ القاسم (علیه السلام) يريد البراز، قال له: «يا

ص: 262

ولدي، أتمشي برجلك إلى الموت؟» ((1))

فليس في ما قاله الإمام (علیه السلام) اعتراض _ والعياذ بالله _، وإنّما هو تعبيرٌ عن التفجّع بالمصيبة والرزء الجليل!

المتابعة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)

القضيّة ليست قضيّة اليوم وغد، وحصول القتل في هذه السفرة أو السفرة الأُخرى.. إذ يقول الإمام (علیه السلام) لأُمّ سلَمة: «إنّي مقتولٌ لا محالة».. إنّهالقدَر والقضاء اللازم الّذي لا يفرّ منه الإمام (علیه السلام) ، لأنّ إرادته إرادة الله (تبارك وتعالى)، ولا يفرّ منه غير الإمام، لأنّ الله لا يفوته هارب.

قال (علیه السلام) : «يا أُمّ، إنّي إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب غداً ذهبتُ بعد غد، وما من الموت مفرّ»..

ثمّ جعل الإمام (علیه السلام) يُخبرها بعلمه بتفاصيل ما سيجري عليه والمباشرين لقلته وأنصاره والمكان والزمان، إلى آخر ما قال (علیه السلام) ..

وهذا الإخبار عن القتل القطعيّ الحاصل ليس هو إخبارٌ غَيبيٌّ محضٌ عن القتل ومكانه وزمانه فقط، كما ذكرنا في أكثر من موضع، وإنّما هو إخبارٌ عن عزم العدوّ وطريقة ممارسته للجناية أيضاً، إذ أنّ الإخبار الغيبيّ يحتاج

ص: 263


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 372، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 315، أسرار الشهادة للدربنديّ: 305، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 224، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 457.

إلى ظروفٍ وأحداثٍ خارجيّةٍ تتحقّق ليتحقّق الإخبار الغيبيّ ويصدق قول الصادق المصدّق.

ولاتّحاد إرادة المعصوم مع إرادة الربّ وعدم اختلافها ولا تخلّفها، فإنّ الإمام (علیه السلام) يقبل برضىً ما كتب الله له ويسلّم له، وهذا لا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) يسعى إلى حتفه ويسلّط القاتل من نفسه بمعنى مشاركته في الجناية، والعياذ بالله.

فالإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعلم أنّ في صبيحة هذا اليوم يجري القضاء والقدَر، وكان يخرج فيرقب السماء ويقول: «إنّها الليلة الّتي وُعدتُبها» ((1))، وخرج بالفعل صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان إلى المسجد، رغم علمه بما سيجري.

وكذا باقي الأئمّة (علیهم السلام) ، فإنّهم كانوا يُخبِرون ويصرّحون باسم القاتل واليوم الّذي سيقع فيه ذلك.

فكشفُ الإمام (علیه السلام) عن العلم الّذي سلّطه الله عليه لمصلحةٍ يعرفها الإمام (علیه السلام) ، لا يعني أن يكون الإمام (علیه السلام) قد سعى بنفسه إلى القتل _ والعياذ بالله! _، وإنّما هو يُخبِر بما سيقوم به العدوّ الغاشم الظلوم، ويبقى تحقّق الأمر رهن مجريات الأحداث الّتي تجري في الخارج، فيتحقّق الظرف لتحقّق الإخبار في الخارج..

ص: 264


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 16، بحار الأنوار: 42 / 238 و277.

فمثلاً:

لقد وردَت الإخبارات الغَيبيّة تؤكّد بصراحةٍ ووضوحٍ أنّ موضع قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه وموضع دفنهم كربلاء، وكان الإمام (علیه السلام) قد خرج من مكّة متوجّهاً _ في ظاهر الأمر _ إلى الكوفة، ولم يكن لكربلاء موضوعيّةٌ في حركة الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ تحقّق ما ورد في الإخبارات حصل من خلال الحوادث الخارجيّة الّتي جرت، فكان أن اعترض جيش الحرّ مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وجرى ما جرى بحيث صار الإمام (علیه السلام) وركبه إلىكربلاء..

فتحقّق الإخبار الغيبيّ من خلال ما جرى في الخارج من اعتراض جيش الحرّ وما صاحبه من أحداث، ممّا اضطرّ الإمامَ (علیه السلام) للنزول في كربلاء بعد أن أسره عسكر ابن زيادٍ المتمثّل يومها بجيش الحرّ، فنزول الإمام (علیه السلام) على غير ماءٍ ولا كلاءٍ في تلك الصحراء كان قرار العدوّ الّذي كان يكيد للإمام (علیه السلام) ويريد محاصرته وقتله.

فلماذا يختصّ الإمام الحسين (علیه السلام) بهذا التفسير الغيبيّ الخاصّ، وأنّه مأمورٌ بتسليم نفسه إلى القتل على نحوٍ خاصٍّ ولغرضٍ خاصّ، ولا يفسَّر إخبار باقي الأئمّة (علیهم السلام) بذلك؟!!

أو يُقال عكس ذلك، بمعنى:

إنّ ما يذكره العلماء الأبرار من شيعة أهل البيت (علیهم السلام) في مقام تفسير إخبار باقي الأئمّة والمعصومين (علیهم السلام) بتحديد القاتل وزمان القتل وما إلى

ص: 265

ذلك، فلْيكن نفسه تفسيراً لإخبارات الإمام الحسين (علیه السلام) وإخبارات النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة في قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وتفاصيله!

وخلاصة الكلام:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) أخبر هنا أنّ القوم سيقتلونه لا محالة.. وهذا يفيد عزم العدوّ على قتله وعدم توانيه في تنفيذ ذلك في الخارج، ولا يفيد من قريبٍ ولا من بعيدٍ أنّ الإمام (علیه السلام) نفسه قد سعى إلى مقتله لغرضٍ أراده منهذا السعي، بحيث كان الإمام (علیه السلام) هو العازم على أن يدفع نفسه ومن معه طعمةً لسيوف القوم!

المتابعة السادسة: عودٌ إلى بدء

بعد أن ذكر الإمام (علیه السلام) لأُمّ سلَمة عدداً كبيراً من الإخبارات الغيبيّة بالتفصيل، عاد مرّةً أُخرى ليختم الكلام معها بالوعد الصادق:

«يا أُمّ! إنّي لَمقتولٌ يوم عاشوراء»..

قد يُقال: إنّ هذا التوقيت هو إخبارٌ غَيبيٌّ محضٌ يتعلّق بزمان تحقُّق القتل، بَيد أنّ الإخبار عن القتل ذكره الإمام (علیه السلام) بصيغة المفعول، أي: أنّه سيقع عليه القتل.. «مقتول»! فهو إخبارٌ عمّا سيقع عليه، وليس عمّا سيفعله هو، فيكون إخباراً عن عمل العدوّ وعزمه، وتحقُّق ذلك في الخارج جراء ما سيفعله العدوّ من الإعداد والإقدامات الإجراميّة.. وسيأتي بعد قليلٍ ما يفسّر هذا بوضوح، إن شاء الله (تعالى).

ص: 266

ولمّا كانت أُمّ سلَمة مؤمنةً تمام الإيمان بقول الصادق الأمين، ومعتقدةً بصدق ما يُخبر به ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، جعلَت تعدّ الأيّام وتنتظر العلامة!

المتابعة السابعة: الإخبار عن القاتل!

بعد أن أخبر الإمام (علیه السلام) أنّ قضاء الله وقدَره لا يفلت منه هارب، وأنّ يومه الموعود آتٍ على كلّ حال، وأنّ الموت الّذي كتبه الله على المخلوقلا مفرّ منه، ولابدّ أن يلاقيه الإنسان يوماً أيّاً كان، عاد ليبيّن أنّ موته سيكون قتلاً، وأنّ ثمّة مَن سيقتله، وهو يعرف القاتل بعينه، ويعرف مَن سيحاربه والمجلب عليه والسائق والقائد والمحرّض ومَن يحرض القاتل..

فالإمام (علیه السلام) أثبت في كلامه وجود المحارب والمجلب والمحرّض على القتل، فهو يُخبر عن إجراءات العدوّ واستعداداته وعزمه وإقدامه على قتله.

نحسب أنّ كلام الإمام (علیه السلام) في غاية الوضوح، والإمام (علیه السلام) أمير الكلام ومعدن البلاغة والفصاحة، قد أوضح بما لا يحتاج إلى تفسيرٍ أنّ القضيّة قضيّة عدوان العدوّ عليه وسعيه في قتله وتحريضه وجمعه الجموع لذلك، فهو نوع تفسيرٍ لما قضاه الله وقدّره على الإمام (علیه السلام) ..

وفيه بيانٌ واضحٌ لبداية العدوّ وهجومه على الإمام (علیه السلام) ، من دون أن يكون الإمام (علیه السلام) قد أقدم على شيءٍ ممّا يذكره العدوّ من طلب السلطان، أو ما يذكره الآخَرون في تحليلاتهم من إقدام الإمام (علیه السلام) على الموت طلباً للشهادة لغرضٍ من الأغراض.. وكيف يكون ذلك من الإمام وهو الانتحار

ص: 267

بعينه؟! وكيف يأمر الله ويريد لحبيبه وخيرته من خلقه الموت انتحاراً؟! وأيّ غرضٍ أعلى وأهمّ وأعظم في عالم الدنيا من حفظ حياة المؤمن، فضلاً عن سيّد الخلق وأشرف الكائنات؟!

المتابعة الثامنة: أعرفهم كما أعرفكِ!

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّه يعرف قاتله ومحاربه والمجلب عليه والسائق والقائد والمحرّض، ثمّ أخبر عمّن يُقتَل معه..

أخبر عن كوكبتين يُقتَلون معه:

كوكبة من أهل بيته..

وكوكبة من شيعته..

وأنّه يعرفهم رجُلاً رجُلاً، ويُحصيهم عدداً، ويعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم..

يعرفهم معرفةً تفصيليّةً، بأعيانهم وأشخاصهم وذواتهم وصورهم، تماماً كما يعرف أُمَّ سلَمة الواقفة بين يديه وجهاً لوجه، الّتي عاش معها عمره..

يعرفهم الإمام (علیه السلام) .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون كلُّ واحدٍ منهم يعرف ما يعرفه الإمام (علیه السلام) عنه، فربّما كان في أنصار الحسين (علیه السلام) مَن لا يعرف ذلك من نفسه، كما حدث للحرّ بن يزيد الرياحيّ وغيره ممّن التحق في الساعات الأخيرة بركب السعداء، بل حتّى غيرهم من أنصار الإمام (علیه السلام) .

ص: 268

وسيأتي الكلام في أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) مفصَّلاً في محلّه، إن بقي في العمر بقيّة، إن شاء الله (تعالى).

والّذي يهمّنا هنا هو: أنّ هؤلاء الأنصار من أهل البيت والشيعة، كلّهم مقتولون، يعدو عليهم العدوّ فيقتلهم مع الإمام (علیه السلام) ، فهم مقصودون بالقتلأيضاً، غاية ما يمكن أن يقال: إنّهم إن لم يكونوا مقصودين بالذات، فهم مقصودون بالتبع، إذ أنّهم لا يسلمون الإمام (علیه السلام) ، ولا يدَعُون شوكةً تشوكه ومَن معه من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتّى يدفعوا عنه وعنهم بأرواحهم وأنفسهم ويفدونهم بمهجهم..

فهم أيضاً لم يبيّتوا ما يسمّونه (مشروعاً)، سوى أنّهم يُقتَلون مع الإمام (علیه السلام) الّذي أقدم العدوّ على قتله.

ما أروع هذه النعمة وأعظمها وأحلاها حينما يعلن الإمام الحسين (علیه السلام) رحمةُ الله الواسعة أنّه يعرف أصحابه بهذا المستوى من المعرفة، تماماً كما هو يعرف زوّاره والباكين عليه، كما ورد في الأحاديث الشريفة في (كامل الزيارات) وغيره ((1)).

المتابعة التاسعة: الزمان والمكان

لقد أخبر الإمام الحسين (علیه السلام) عن المكان الّذي سيقتله العدوُّ فيه، وعن

ص: 269


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 206 الباب 32 ح 292.

زمان وقوع المصيبة العظمى بالضبط (يوم عاشوراء).. إنّه أخبر بذلك عن الله العلّام الخبير.

أمّا كيف سيقع ذلك، فقد تركه إلى سير الأحداث، إذ كانت الوجهة الّتي قصدها الإمام (علیه السلام) في ظاهر حركته الجغرافيّة هي الكوفة، فاعترضهجيش ابن زياد في (شراف) وأسروه هناك، ومنعوه من استمراره في المسير إلى وجهته المعلنة (الكوفة)، وذادوه عن الرجوع إلى المدينة أو السير في أرض الله الوسيعة، واضطرّوه إلى اتّخاذ طريقٍ لا يُدخله الكوفة ولا يُرجعه إلى المدينة، فتياسر الركب، حتّى اضطرّوه للنزول في صحراء كربلاء على غير ماءٍ ولا كلاء.

فكان العدوّ هو الّذي أنزل الإمام (علیه السلام) _ في ظاهر الأحداث _ في كربلاء، ليقتل الإمامَ (علیه السلام) ومَن معه في تلك الصحراء المقفرة المهولة..

ثمّ إنّ العدوّ استعجل في قتل الإمام (علیه السلام) ، ولم يدَعْ فرصةً إلّا انتهزها، ليطمئنّ أنْ لا مدد يمكن أن يصل إلى الإمام (علیه السلام) ، ولئلّا تفوته فرصة الاستفراد بالإمام (علیه السلام) ومَن معه في تلك البيداء، فوقعَت الواقعة العظمى بعد ثمانية أيّامٍ من نزول الإمام (علیه السلام) أرضَه الموعودة، فكان يوم عاشوراء!

المتابعة العاشرة: ساعد الله قلب أُمّ سلَمة

أُمٌّ حنونٌ رؤوم.. خدمَت الحسين (علیه السلام) ابنَها منذ أن كان صغيراً.. مؤمنةٌ تقيّة، عاشت في بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونالت رضاه وحبّه.. تربطها

ص: 270

بالحسين (علیه السلام) واشجة الرحم..

حبّها للحسين (علیه السلام) لا يُوصَف.. ليس أحدٌ تحبّه كحبّها لولدها الحسين (علیه السلام) ..تسمع رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) يُخبرها بقتله! ثمّ يدفع إليها تربة، ويأمرها أن تحتفظ بها إلى حين تتغيّر وتتحوّل إلى دمٍ عبيط.. ثمّ يدفع لها وَلدُها الحسين (علیه السلام) قطعةً أُخرى من التراب، ويصف لها وصف جدّه..

يحدّد لها موعد وقوع المصيبة العظمى بالضبط، ومكانها..

يا ساعد الله قلبها.. كم عانت من الترقّب والتوجّس، كيف أطاقت الصبر وهي تحسب الأيّام وتعدّها عدّاً؟!

مصيبةٌ مادت لها السماء.. تزلزلت لها الأرض.. بكى لها كلُّ ما في الوجود..

وهي ترقب هذه المصيبة.. وعلامتها أن تفيض القارورةُ دماً، ويتحوّل ما فيها من ترابٍ إلى دم.. إنّه منظرٌ مروّعٌ مهولٌ مخيفٌ مرعب، تندكّ له الجبال الرواسي وتتصدّع منه القلوب..

ما أصعب الانتظار.. الترقّب.. توقّع المصيبة والرزء العظيم.. وقوع أعظم مصيبةٍ في تاريخ البشريّة منذ أن هبط آدم (علیه السلام) إلى الأرض إلى يوم القيامة..

سيُقتَل حبيبها قتلاً مروّعاً.. يُنحَر نحراً.. يُقطَّع آراباً..

يُقتَل غريباً.. ظمآناً.. يستغيث فلا يُغاث.. يستصرخ فلا يجد

ص: 271

صريخاً..

يُقتَل على عين نسائه وبناته وأطفاله..

يُقتَل ومَن معه..يُقتَل قتلاً يقلب التراب في القارورة إلى دمٍ عبيط..

كانت أُمّ سلَمة تعدّ الأيّام، وتسأل عن يوم عاشوراء.. يا له من انتظارٍ لا يُطاق.. يا ساعد الله قلبها..

إنتظرت المصيبة العظمى، حتّى فاضت القارورة دماً عبيطاً..

ثمّ انتظرت عودة بقيّة السيف إلى المدينة.. انتظرت عودة ركب آل الله وبنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونساء الحسين (علیه السلام) ..

إنتظرت عودة إمام زمانها زين العابدين (علیه السلام) من السبي والأسر..

فرجع إليها وحيداً، بعد أن دفن الأحبّة في كربلاء، ودفن مَن دفن مِن أزهار ركب السبايا الّتي تناثرت في الطريق..

عاد لها، وقد أذواه المصاب، وبراه الرزء، وأكلَت الجامعةُ لحمَه، وأسالت كربلاء عَبرته، واشتعلت فيه الغيرة على عمّاته وأخواته في السبي..

عاد إلى بيوتٍ انطفأَت مصابيحها الزاهرة، وملأَت الآهات والحسرات أطرافها، وتجاوبت رنّات الحنين والأنين في جنباتها..

كيف استقبلَت أُمّ سلَمة الركبَ الّذي رجع إلى المدينة، لا رجال ولا بنينا؟!

ص: 272

إنّه انتظارٌ لا يوصَف، ولا يقدر أحَدٌ على تصوّره ولا تصويره، إلّا المعصوم!

النوع الثاني: الأخبار

اشارة

قال المسعوديّ:

ولمّا عزم الحسينُ (علیه السلام) على الخروج إلى العراق بعد أن كاتبه أهلُ الكوفة، ووجّه مسلمَ بن عقيل إليهم على مقدّمته، فكان من أمره ما كان وأراد الخروج، بعثَتْ إليه أُمُّ سلَمة: إنّي أُذكّرك الله يا سيّدي أنْ لا تخرج. قال: «ولِمَ؟»، قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل الحسينُ ابني بالعراق»، وأعطاني من التربة قارورةً أمرني بحفظها ومراعاة ما فيها. فبعث إليها: «واللهِ يا أُمّاه إنّي لَمقتولٌ لا محالة، فأين المفرّ من قدَر الله المقدور؟ ما مِن الموت بُدٌّ، وإنّي لَأعرفُ اليوم والساعة والمكان الّذي أُقتَل فيه، وأعرف مكان مصرعي، والبقعةَ الّتي أُدفَن فيها، وأعرفها كما أعرفكِ، فإنْ أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومضجعَ مَن يُستشهَد معي فعلت». قالت: قد شئت.

وحضرَتْه، فتكلّم باسم الله (عزوجل) الأعظم، فانخفضَت الأرضُ حتّى أراها مضجعَه ومضجعهم، وأعطاها من التربة حتّى خلطَتها بما كان معها، ثمّ قال لها: «إنّي أُقتَل في يوم عاشوراء، وهو يوم

ص: 273

عاشوراء بعد صلاة الزوال، فعليكِ السلام، رضيَ اللهُ عنكِ يا أُمّاه برضانا عنك».وكانت أُمّ سلَمة تسأل عن خبره وتراعي قرب عاشوراء ((1)).

وقال الراونديّ:

ومنها: أنّه (علیه السلام) لمّا أراد العراق، قالت له أُمّ سلَمة: لا تخرج إلى العراق؛ فقد سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل ابني الحسين ب[أرض] العراق»، وعندي تربةٌ دفعَها إليّ في قارورة. فقال: «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإنْ أحببتِ أنْ أُريكِ مضجعي ومصرع أصحابي».

ثمّ مسح بيده على وجهها، ففسح الله في بصرها حتّى أراها ذلك كلّه، وأخذ تربةً فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورةٍ أُخرى، وقال (علیه السلام) : «فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلتُ» ((2)).

وقال البياضيّ:

قالت أُمّ سلَمة: لا تخرج إلى العراق؛ فإنّي سمعتُ جدَّك يقول أنّك مقتولٌ به، وعندي تربةٌ دفعَها إليّ في قارورة. فقال (علیه السلام) : «وإنْ لم أخرج قُتلتُ».

ص: 274


1- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126، نفَس المهموم للقمّيّ: 165.
2- الخرائج والجرائح للراونديّ: 1 / 253 الرقم 7، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 89، العوالم للبحرانيّ: 17 / 157.

ثمّ مسح بيده على وجهها، فرأت مصرعه ومصرع أصحابه، وأعطاها تربةً أُخرى في قارورة، وقال: «إذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلت»، ففاضتا دماً بعد الظهر في يوم عاشوراء ((1)).وقال القندوزيّ:

ونُقل أنّ أُمّ سلَمة (رضی الله عنها) قالت: يا بُنيّ، لا تحزنّي بخروجك إلى العراق؛ فأنا سمعتُ جدّك (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل ولدي الحسين بالعراق، بأرضٍ يُقال لها: كربلاء». فقال: «يا أُمّاه، واللهِ أعلم ذلك، وإنّي مقتولٌ لا محالة، وأعرف اليوم الّذي أُقتَل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة الّتي أُدفَن فيها، وأعرف مَن يُقتَل من أهل بيتي وشيعتي، وإنْ أردتِ يا أُمّاه أريتُكِ حفرتي ومضجعي».

ثمّ أشار بيده الشريفة إلى جهة كربلاء، فانخفضَت الأرض، حتّى أراها مضجعه ومدفنه ومشهده، فبكت بكاءً شديداً ((2)). [عن أبي مخنف]

* * * * *

يبدو أنّ النوع الثاني من الأخبار لا يختلف كثيراً في التفاصيل عمّا ورد في حديث الإمام الباقر (علیه السلام) إلّا قليلاً..

ص: 275


1- الصراط المستقيم للبياضيّ: 2 / 179 الرقم 6.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 60.

ويبدو أنّ في أوّل لفظ المسعوديّ في (الإثبات) شيءٌ من دمج الأحداث، لذا سنقتصر على الإشارة السريعة على ما ورد في هذه الأخبار من تفسيرٍ وشرحٍ لقوله (علیه السلام) : «إنّي مقتولٌ لا محالة»..

«إنْ لم أخرج يقتلوني»

سمعنا في حديث الإمام الباقر (علیه السلام) قبل قليلٍ ما رواه عن جدّه سيّد الشهداء (علیه السلام) : «إنّي مقتولٌ لا محالة».. وجاء فيما رواه الراونديّ والبياضيّ ما يفسّر ذلك بجلاء، حيث قال:

• «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً» ((1)).

• فقال (علیه السلام) : «وإنْ لم أخرج قُتلتُ» ((2)).

هذا هو معنى أنّي مقتولٌ لا محالة.. إنْ أخرج إلى العراق يقتلني العدوّ، وإن لم أخرج يقتلني العدوّ.. فالعدوّ عازمٌ على قتلي، وسوف لن يتراجع عن عزمه ما لم يحقّق ما يريد.. تماماً كما عزم على قتل جدّه وأبيه وأُمّه وأخيه (علیهم السلام) ، وكما عزم بعد ذلك على قتل أبنائه المعصومين (علیهم السلام) ، صالح بعد صالح..

ص: 276


1- الخرائج والجرائح للراونديّ: 1 / 253 الرقم 7، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 89، العوالم للبحرانيّ: 17 / 157.
2- الصراط المستقيم للبياضيّ: 2 / 179 الرقم 6.

فهو إن بقي في المدينة، يقتله العدوّ..

وإن بقي في مكّة، يقتله العدوّ..

وإن لحق باليمن، يقتله العدوّ..

وإن لحق بشعف الجبال، يقتله العدوّ..

وإن لحق بشواطئ البحار، يقتله العدوّ..وإن اختفى في غياهب الكهوف والمغارات، يقتله العدوّ..

وجمعها الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه: إن كان في أيّ جُحر هامّةٍ، لَاستخرجوه حتّى يقتلونه..

وقال مخاطباً ابن عبّاس:

«يا ابن عبّاس! فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره، وموضع قراره، ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره ومسجده، وموضع مهاجرته، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي إلى وطن، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرِك بالله شيئاً، ولا اتّخذ دون الله وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه مِن بعده؟» ((1)).

وقال (علیه السلام) لابن عمر:

«هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإنْ لم

ص: 277


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 19...

يصيبوني فإنّهم يطلبوني أبداً حتّى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني» ((1)).

وغيرها من الكلمات النيّرات الواضحات الكثيرة جدّاً الّتي مرّت علينا وسيأتي منها الكثير.هذه هي خلاصة المصيبة الّتي جلّت وعظمت في السماوات والأرضين، والرزء الّذي أبكى كلَّ ما خلق الله (جلّ وعلا).. أن يكون ابنُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته وإمام الخلق مطلوباً على كلّ حالٍ وفي أيّ مكان، لا تُقلّه أرضٌ ولا تظلّه سماء.. إنّهم يريدون قتله!

وكما أنّهم يريدون قتله، فإنّهم يريدون سبي عياله، وهتك حُرمات الله وحرمات رسوله (صلی الله علیه و آله) ..

أمّا أن يقصد العراق ويصل إلى كربلاء الأرض الموعودة، فهذا ما سارت به الحوادث والمجريات وفق الوقائع الظاهريّة الخارجيّة، كما أشرنا إلى ذلك مراراً، فلا نعيد.

ص: 278


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 19.

محتويات الكتاب

كتاب يزيد بن الأصمّ إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ........................ 5

المتون............................................................................................ 5

النفضة الأُولى: يزيد بن الأصمّ!....................................................... 7

النفضة الثانية: مبادرة ابن الأصمّ...................................................... 8

النفضة الثالثة: مِن أين كتب؟.......................................................... 9

النفضة الرابعة: وقت كتابة الكتاب................................................... 9

النفضة الخامسة: مضمون الكتاب................................................... 10

السفاهة الأُولى: طَيش الكاتب وسفَهُه............................................................................. 10

السفاهة الثانية: كتابٌ أبتر............................................................................................... 12

السفاهة الثالثة: ينفضوك، يبغضوك!............................................................................. 12

السفاهة الرابعة: تقديره لموقف أهل الكوفة.................................................................... 13

السفاهة الخامسة: قلق القوم............................................................................................ 15

السفاهة السادسة: تعويذ الإمام (علیه السلام) !................................................................................ 16

السفاهة السابعة: الاغترار والخداع بالسراب..................................................................... 18

ص: 279

الأمر الأوّل: أن يكون كالمغترّ بالبرق!........................................................ 18

الأمر الثاني: أن يكون كالمخدوع بالسراب.............................................................. 19

السفاهة الثامنة: واصبر، إنّ وعد الله حقّ!......................................................................... 19

السفاهة التاسعة: لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون............................................................... 20

السفاهة العاشرة: اتّحاد خطاب الأوغاد........................................................................... 21

السفاهة الحادية عشر: تخطئة الإمام (علیه السلام) .......................................................................... 22

النفضة السادسة: الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه......................................... 23

عُمر بن عبد الرحمان المخزوميّ ورأيه.............................. 25

المتون.......................................................................................... 25

الشوط الأوّل: مَن هو عمر بن عبد الرحمان المخزوميّ؟............. 35

الشوط الثاني: ينصح سيّد الكائنات!............................................... 38

الشوط الثالث: متى حصل اللقاء؟................................................. 39

التحديد الأوّل: لمّا كتب أهل الكوفة............................................................................. 40

التحديد الثاني: لمّا تهيّأ الإمام (علیه السلام) للمسير....................................................................... 40

التحديد الثالث: بعد خبر شهادة مسلم (علیه السلام) ...................................................................... 41

التحديد الرابع: لما أراد المسير إلى الكوفة؟.................................................................... 43

الشوط الرابع: قصد الإمام (علیه السلام) ...................................................... 43

الشوط الخامس: أدب الخطاب!.................................................... 44

الشوط السادس: الاستئذان!.......................................................... 45

الشوط السابع: جواب الإمام (علیه السلام) على الاستئذان........................... 46

الشوط الثامن: كلام المخزوميّ.................................................... 49

الميزة الأُولى: الإشفاق................................................................................................... 51

الميزة الثانية: اقتراح البقاء في مكّة!................................................................................. 52

ص: 280

الميزة الثالثة: رسم الواقع وتصوير المشهد....................................................................... 52

الشوط التاسع: جواب الإمام (علیه السلام) ................................................... 54

المقطع الأوّل: شهاداتٌ على السلامة.............................................................................. 54

المقطع الثاني: الوعد بالنظر............................................................................................. 55

المقطع الثالث: أحمَدُ مُشيرٍ وأعزُّ ناصح.......................................................................... 57

الشوط العاشر: بعد اللقاء................................................................ 58

الشوط الحادي عشر: خذلان المخزوميّ...................................... 61

الشوط الثاني عشر: يبقى أمر!........................................................ 62

الشوط الثالث عشر: لقاء أبي بكر بن عبد الرحمان المخزوميّ...... 65

لقاء أبي محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلَج........................... 67

المتون.......................................................................................... 67

الومضة الأُولى: راوي الخبر!......................................................... 69

الومضة الثانية: متى حصل اللقاء؟.................................................. 70

الومضة الثالثة: إخبارهم بضعف الناس!......................................... 71

الومضة الرابعة: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك....................... 73

الومضة الخامسة: مؤدّى رسالتهما.................................................. 73

الومضة السادسة: نزول الملائكة.................................................... 76

الومضة السابعة: لولا تقارب الأشياء................................................ 78

الإنارة الأُولى: معنى التقارب.......................................................................................... 78

الإنارة الثانية: معنى الأشياء............................................................................................. 79

الإنارة الثالثة: بيان العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) ........................................................................ 80

الإنارة الرابعة: المُراد...................................................................................................... 80

الاحتمال الأوّل: التقارُب بمعنى التداني.................................................................... 80

ص: 281

الاحتمال الثاني: التقارُب بمعنى دنوّ الإدراك........................................................... 81

الاحتمال الثالث: التقارُب بمعنى الإدبار.................................................................... 82

الاحتمال الرابع: التقارُب بمعنى الاعتدال!................................................................. 84

الاحتمال الخامس: التقارُب بمعنى الاستعجال.......................................................... 85

الاحتمال السادس: التقارب بمعنى يغزوه.................................................................. 86

الاحتمال السابع: الرجعة................................................................. 87

الومضة الثامنة: حبوط الأجر......................................................... 93

الومضة التاسعة: هبوط الأجَل....................................................... 95

الومضة العاشرة: عِلم الإمام (علیه السلام) بمكان مصرعه ومصرع أصحابه..... 95

الومضة الحادية عشرة: لا ينجو!.................................................. 100

الملاحظة الأُولى: دمج أهل البيت والأنصار............................................. 101

الملاحظة الثانية: مرجع الضمير.................................................... 101

الملاحظة الثالثة: التعبير بالنجاة!.................................................................................... 103

الومضة الثانية عشرة: خلاصة الكلام............................................. 105

الومضة الثالثة عشرة: الراويان!.................................................... 107

قول أبي سلَمة بن عبد الرحمان في خروج الإمام (علیه السلام) !...... 111

الوصمة الأُولى: المجاراة!........................................................... 112

الوصمة الثانية: إرسال الخبر!...................................................... 113

الوصمة الثالثة: مَن هو أبو سلَمة؟................................................ 113

الوصمة الرابعة: ينبغي لحُسين!.................................................... 115

الوصمة الخامسة: أن يعرف أهلَ العراق!..................................... 116

الوصمة السادسة: لا يخرج إليهم!................................................ 118

ص: 282

الوصمة السابعة: تشجيع ابن الزبير!.............................................. 120

الوصمة الثامنة: محاولات تخطئة الإمام (علیه السلام) !............................... 122

الوصمة التاسعة: خطورة رأي القائل........................................... 124

الوصمة العاشرة: كلامه ليس مع الإمام (علیه السلام) ................................. 125

كتاب المسوّر بن مخرمة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ................ 127

الضربة الأُولى: مَن هو المسوّر؟................................................... 128

المفصل الأوّل: روايته عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ...................................................... 129

المفصل الثاني: مع عمر............................................................................... 130

المفصل الثالث: حضوره في الغزوات....................................................... 131

المفصل الرابع: مع خاله عبد الرحمان بن عَوف...................................... 132

المفصل الخامس: رسول عثمان إلى معاوية...................................................... 132

المفصل السادس: تعظيمه لمعاوية.............................................................. 133

المفصل السابع: مرجعيّة الخوارج............................................................. 133

المفصل الثامن: بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ............................................. 134

الموقف الأوّل: مع الإمام السجّاد (علیه السلام) ..................................................................... 135

الموقف الثاني: تركيزه على تأثير ابن الزبير على الإمام الحسين (علیه السلام) ........................ 138

الموقف الثالث: بكاؤه على الإمام الحسين (علیه السلام) !...................................................... 140

المفصل التاسع: هلاكه مع ابن الزبير............................................................. 143

المفصل العاشر: خلاصة المفاصل................................................................. 146

الضربة الثانية: سوء الأدب والاستكبار!......................................... 150

الضربة الثالثة: موادّ الكتاب......................................................... 151

الطغيان الأوّل: إياك أن تغترّ بكتب أهل العراق.................................... 151

الطغيان الثاني: الاغترار بكلام ابن الزبير.................................................... 153

الطغيان الثالث: التحذير من ترك الحرم............................................................ 154

ص: 283

الطغيان الرابع: قدوم أهل الكوفة والخروج في قوّة.......................................... 154

الشقّ الأوّل: قدوم أهل العراق..................................................................... 154

الشقّ الثاني: الخروج في قوّةٍ وعدّة........................................................................ 156

الطغيان الخامس: موافاتهم الإمام (علیه السلام) !.............................................................. 160

الضربة الرابعة: جواب الإمام (علیه السلام) ................................................. 161

المقطع الأوّل: جزّاه خيراً............................................................................................. 161

المقطع الثاني: «أستخير الله».......................................................................................... 163

الضربة الخامسة: الجواب بغير كتاب!.......................................... 164

كتاب عَمْرة بنت عبد الرحمان إلى الإمام (علیه السلام) ................... 167

النكزة الأُولى: مَن هي عَمْرة؟.................................................... 168

النكزة الثانية: تطفّلها ودخولها في الأمر!..................................... 171

النكزة الثالثة: لغة الكتاب............................................................. 172

النكزة الرابعة: اتّحاد الخطاب!.................................................... 173

النكزة الخامسة: مَن يطيع مَن؟................................................... 175

النكزة السادسة: تخبره بمصيره ومصرعه!.................................... 181

النكزة السابعة: روايتها خبر المصرع فقط!................................... 182

النكزة الثامنة: لم تنصر الإمامَ (علیه السلام) بكلمة...................................... 183

النكزة التاسعة: تشويه معنى إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) .............................. 184

النكزة العاشرة: أرض بابل!.......................................................... 184

التصوّر الأوّل: اسمٌ يشمل أرض كربلاء.................................................. 185

التصوّر الثاني: خبث التوظيف...................................................................................... 186

جواب الإمام (علیه السلام) ........................................................................ 190

ص: 284

أولاً: الردّ بالقول لا بكتاب........................................................................................... 190

ثانياً: إلزامها بما روَتْ.................................................................................................. 191

ثالثاً: مؤدّى جواب الإمام (علیه السلام) ............................................................................. 192

لقاء الأوزاعيّ................................................................ 195

النقطة الأُولى: مَن هو الأوزاعيّ؟............................................... 196

النقطة الثانية: خبر الطبريّ وخبر العامليّ.................................... 197

النقطة الثالثة: قَصَدَ الإمام (علیه السلام) ..................................................... 197

النقطة الرابعة: ابتداء الإمام (علیه السلام) وجوابه...................................... 198

النقطة الخامسة: جهد الأوزاعيّ!................................................. 200

لقاء جابر بن عبد الله الأنصاريّ....................................... 203

الخبر الأوّل: كذبٌ مفترع.......................................................... 203

الخبر الثاني: رواية ابن حمزة.................................................... 205

الإشارة الأُولى: قصَدَ الإمام (علیه السلام) .......................................................................... 207

الإشارة الثانية: التقدُّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) ..................................................... 207

الإشارة الثالثة: علم جابر!............................................................................................. 209

الإشارة الرابعة: إبداء الرأي.......................................................................................... 209

الإشارة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) ..................................................................... 211

الإشارة السادسة: جواب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ........................................................ 212

الأمر الأوّل: التسليم..................................................................................... 213

الأمر الثاني: عاقبة القاتل والمظلوم............................................................... 213

الإشارة السابعة: كفّ بصره!......................................................................................... 215

الإشارة الثامنة: عذر جابر!............................................................................................ 216

لقاء أبي سعيد الخُدريّ.................................................. 219

ص: 285

المقطع الأوّل: كلام أبي سعيد قبل الخروج.............................. 219

اللمحة الأُولى: أبو سعيد الخُدريّ...................................................................... 220

اللمحة الثانية: التقديم للخبر......................................................................................... 225

اللمحة الثالثة: موقع اللقاء! وزمانه................................................................... 226

اللمحة الرابعة: ناصحٌ مشفق......................................................................................... 227

اللمحة الخامسة: الخروج إلى الكوفة!............................................... 227

اللمحة السادسة: سبب النهي........................................................................................ 228

اللمحة السابعة: ردّ الإمام (علیه السلام) ....................................................................................... 229

المقطع الثاني: كلام أبي سعيد بعد الخروج............................... 230

اللفتة الأُولى: تصرّف الذهبيّ!...................................................................................... 230

اللفتة الثانية: إمكان صدور الكلام نه.................................................................. 231

اللفتة الثالثة: احتجاج الإمام (علیه السلام) يوم العاشر برواية أبي سعيد................................ 232

اللفتة الرابعة: اعتقاده إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) !............................................... 233

اللفتة الخامسة: هدف الأعداء!............................................................... 234

معترضون بالجملة.......................................................... 237

المتون....................................................................................... 237

الملاحظة الأُولى: حشد المعترضين............................................ 239

الملاحظة الثانية: تضخيم المعترضين وأعدادهم......................... 240

الملاحظة الثالثة: قلّة المعترضين!................................................ 242

الملاحظة الرابعة: الاضطرار إلى الوضع...................................... 243

الملاحظة الخامسة: قداسةٌ مقابل قداسة...................................... 244

الملاحظة السادسة: تركيز فكرة الخروج!.................................... 245

الملاحظة السابعة: تخطئة الإمام (علیه السلام) !........................................... 247

ص: 286

الملاحظة الثامنة: هل يخفى على الإمام (علیه السلام) ما عرفه غيره، فيخرج؟! 250

الملاحظة التاسعة: قصدوا الإمام (علیه السلام) ، ولم يقصدهم!................... 251

الملاحظة العاشرة: مَن كان مع الإمام (علیه السلام) .................................. 252

الإمام (علیه السلام) وأمّ سلَمة....................................................... 255

النوع الأوّل: رواية المعصوم (علیه السلام) ................................................ 255

المتابعة الأُولى: تقارب النصَّين..................................................................................... 259

المتابعة الثانية: الجانب الإعجازيّ في الحديث............................................ 259

المتابعة الثانية: موضع اللقاء.......................................................................................... 260

المتابعة الثالثة: أُمّ سلَمة................................................................................................ 261

المتابعة الرابعة: تقدمة أُمّ سلَمة..................................................................................... 262

المتابعة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) .................................................................. 263

المتابعة السادسة: عودٌ إلى بدء..................................................................................... 266

المتابعة السابعة: الإخبار عن القاتل!................................................................... 267

المتابعة الثامنة: أعرفهم كما أعرفكِ!................................................................ 268

المتابعة التاسعة: الزمان والمكان................................................................................... 269

المتابعة العاشرة: ساعد الله قلب أُمّ سلَمة............................................................. 270

النوع الثاني: الأخبار.................................................................. 273

«إنْ لم أخرج قتلوني»................................................................................... 276

ص: 287

المجلد 5

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الخامس

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

إبن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. الموقف الأخير عند الرحيل

المتون

البلاذريّ:

وبلغ ابنَ الحنفيّة (رضی الله عنه) شخوصُ الحسين، وهو يتوضّأ، فبكى حتّى سُمع وقعُ دموعه في الطست ((1)).

الطبريّ:

قال أبو مِخنف: عن هشام بن الوليد، عمّن شهد ذلك قال: أقبل الحسينُ بن عليٍّ بأهله من مكّة، ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالمدينة، قال: فبلغه خبره، وهو يتوضّأ في طست، قال: فبكى

ص: 5


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377.

حتّى سُمعَت وكفُ دموعه ((1)) في الطست ((2)).

إبن شهرآشوب:

وكان محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبدُ الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتل فيها أبوك وخُذل فيها أخوك، فالزمِ الحرم، فإنّك سيّدُ العرب، لا يعدل بك أهلُ الحجاز، وتتداعى إليك الناسُ من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): وإنْ نَبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعب الجبال، وتنقّلتَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً ولا تستدبرها استدباراً ((3)).

سبط ابن الجوزيّ:

ولمّا بلغ محمّدَ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مسيرُه، وكان يتوضّأ، وبين يديه طشت، فبكى حتّى ملأه من دموعه ((4)).

المسعوديّ:

وخرج محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يشيّعه، فقال له عند الوداع: يا

ص: 6


1- وكَفَ الدمعُ والماءُ وكْفاً ووَكيفاً ووُكوفاً ووَكَفاناً: سال، ووكَفَت العينُ الدمعَ وكْفاً ووَكيفاً: أسالَته (لسان العرب: وَكَفَ).
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 394.
3- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.

أبا عبد الله، اَللهَ اللهَ في حرم رسول الله! فقال له: «أبى اللهُ إلّا أن يكنّ سبايا». وكان من مصيره إلى النهرين ((1)).

إبن حجَر:

ولمّا بلغ مسيرُه أخاه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، كان بين يديه طشتٌ يتوضّأ فيه، فبكى حتّى ملأه من دموعه، ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حَزِن لمسيره ((2)).

إبن طاووس:

ورويتُ من كتاب أصل الأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل: إنّه كان لمحمّد بن داوود القمّيّ، بالإسناد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«سار محمّدُ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى الحسين (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالُك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه!

فقال: يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيدُ بن معاوية في الحرم،

ص: 7


1- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.
2- الصواعق المُحرقة لابن حجَر: 117، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): فإن خفتَ ذلك، فصِرْ إلى اليمن أو بعضِ نواحي البَرّ، فإنّك أمنعُ الناس به ولا يقدر عليك.

فقال: أنظرُ فيما قلت.

فلمّا كان في السحَر ارتحل الحسين (علیه السلام)، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأتاه، فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظرَ فيما سألتك؟

قال: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟!

فقال: أتاني رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين (علیه السلام)، اخرجْ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): إنّا لله وإنّا إليه راجعون! فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مِثل هذه الحال؟

قال: فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا.

وسلّم عليه، ومضى» ((1)).

الطُّريحيّ:

وعن بعض الناقلين: إنّ محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لمّا بلغ الخبر أنّ

ص: 8


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

أخاه الحسين خارجٌ من مكّة يريد العراق، كان بين يديه طشتٌ فيه ماءٌ وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً، حتّى سُمع وكفُ دموعه في الطشت مثل المطر، ثمّ إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين، فلمّا صار إليه قال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك، وإنّي أخشى عليك أن يكون حالُك كحال مَن مضى من قبلك، فإن أطعتَ رأيي قُم بمكّة وكُن أعزَّ من في الحرم المشرف.

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني أجنادُ بني أُميّة في حرم مكّة، فأكون كالّذي يُستباح دمُه في حرم الله».

فقال: يا أخي، فصِرْ إلى اليمن، فإنّك أمنعُ الناس به.

فقال الحسين: واللهِ _ يا أخي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني»، ثمّ قال: «يا أخي، سأنظر فيما قلت».

قال: فلمّا كان وقت السحر، عزم الحسين على الرحيل إلى العراق، فجاءه أخوه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وأخذ بزمام ناقته الّتي هو راكبها، وقال: يا أخي، ألم تعِدْني النظرَ فيما أشرتُ به عليك؟ فقال: «بلى».

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: «يا أخي، إنّ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاني بعد ما فارقتُك وأنا نائم،فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال: يا حسين، قرّةَ عيني، اخرجْ إلى

ص: 9

العراق، فإنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراك قتيلاً مخضَّباً بدمائك».

فبكى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، وقال له: يا أخي، إذا كان الحال هكذا، فما معنى حملك هذه النسوة، وأنت ماضٍ إلى القتل؟ فقال: «يا أخي، قد قال لي جدّي أيضاً: إنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتَّكاتٍ يُسَقن في أسر الذلّ. وهُنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً».

فبكى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، وجعل يقول: أودعتُك الله يا حسين، في وداعة الله يا حسين! ((1))

القندوزيّ:

ثمّ إنّ محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) سمع أنّ أخاه الحسين يريد العراق، فبكى [بكاءً] شديداً، ثمّ قال له: إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، فإن قبلتَ قولي أقِمْ بمكّة.

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني جنودُ بني أُميّة في مكّة، فأكون أنا الّذي يُستباح [به] حرمُ الله».

ثمّ قال: يا أخي، فسِرْ إلى اليمن، فإنّك أمنع الناس به.فقال الحسين: «يا أخي، لو كنتُ في بطن صخرةٍ لَاستخرجوني منها فيقتلوني»، ثمّ قال له الحسين: «يا أخي، سأنظر فيما

ص: 10


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

قلت».

فلمّا كان وقت السحَر عزم على المسير إلى العراق، فأخذ محمّدُ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) زمام ناقته وقال: يا أخي، ما سبب أنّك عجلت؟

فقال: «إنّ جدّي (صلی الله علیه و آله و سلم) أتاني بعد ما فارقتُك وأنا نائم، فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال لي: يا حسين، يا قرّة عيني، اخرجْ إلى العراق، فالله (عزوجل) قد شاء أن يراك قتيلاً مخضَّباً بدمائك».

فبكى محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، فقال: يا أخي، إذا كان الحال هكذا فلا معنى لحملك لهؤلاء النسوة!

فقال: «قال لي جدّي (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: إنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتَّكات، يُساقون في أسر الذلّ. وهُنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً».

فبكى محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، ثمّ قال: أودعتُك الله يا حسين، في دعة الله يا أخي ((1)).* * * * *

إختلفَت الأخبار في شرح موقف المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) الأخير عند خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة،

ص: 11


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

ويمكن تناولها من خلال عدّة لحاظات:

اللحاظ الأوّل: موقع اللقاء

اشارة

إختلفت الأخبار في بيان موقع اللقاء وموقع تواجد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حينذاك، ويمكن تقسيمها إلى مواقع:

الموقع الأوّل: المدينة
اشارة

يشهد لهذا الموقع جملةٌ من الأخبار، يمكن تقسيمها إلى طوائف:

الطائفة الأُولى: خبر الطبريّ عن أبي مِخنَف

قال أبو مخنف: عن هشام بن الوليد، عمّن شهد ذلك قال: أقبل الحسين بن عليّ بأهله من مكّة، ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالمدينة، قال: فبلغه خبره، وهو يتوضّأ في طست، قال: فبكى حتّى سُمعَت وكفُ دموعه في الطست.

قال أبو مخنف: حدّثَني يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، قال: ولمّا بلغ عُبيد الله إقبال الحسين من مكّة إلى الكوفة، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حتّى نزل القادسيّة، ونظم الخيلَ ما بين القادسيّة إلى خفان، وما بين القادسيّة إلىالقطقطانة وإلى لعلع، وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق ((1)).

ص: 12


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 394.

أفاد لفظ الطبريّ المرويّ عن أبي مخنف أنّ الإمام (علیه السلام) قد أقبل بأهله من مكّة ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالمدينة.

والظاهر _ بشهادة السياق _ أنّ قوله: «أقبل من مكّة»، يقصد نحو العراق، إذ يقول في الخبر الّذي يذكره بعده مباشرة: «ولمّا بلغ عُبيد الله إقبال الحسين من مكّة إلى الكوفة»، ثمّ يختم الخبر بقوله: «وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق».

فليس المقصود من إقبال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هنا الإقبال نحو المدينة، بحيث حصل ثمّة لقاءٌ بين الإمام (علیه السلام) وأخيه في المدينة، ويكون الإمام (علیه السلام) قد رحل إلى العراق عن طريق العودة من مكّة إلى المدينة ومنها إلى العراق..

وإنّما يكون الإمام (علیه السلام) قد رحل من مكّة نحو العراق، وكان حينئذٍ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة.

الطائفة الثانية: رواية أهل البيت (علیهم السلام)

رُوي عن الإمام الباقر (علیه السلام) والإمام الصادق (علیه السلام) حديث كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وبنيهاشم حين فصل متوجّهاً نحو العراق _ وسيأتي الكلام فيه بعد قليل _، وسياق الحديث يشهد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كتب له من مكّة وأخوه في

ص: 13

المدينة ((1))، إذ أنّ المعهود أن يكتب الكتاب لمن لا يكون حاضراً في البلد!

وهذا ما يمكن أن يُفهَم من السياق والمؤشّرات الخارجيّة، أمّا نصّ الحديث فليس فيه تصريحٌ بتواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة، حتّى إذا أخذنا بنظر الاعتبار رواية أبي طالب الزيديّ الّذي صرّح أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أرسل الكتاب إلى أخيه محمّد لمّا نزل بستان بني عامر ((2))، فإنّه لم يصرّح بمكان وجود ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .

الطائفة الثالثة: الأخبار الّتي أفادت إقامة ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة

وردَت جملةٌ من الأخبار تفيد أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أقام في المدينة عند خروج زين السماوات والأرض منها، من قبيل ما رواه الدينوريّ،

ص: 14


1- أُنظُر: كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317، بصائر الدرجات للصفّار: 501، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 577، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 84، العوالم للبحرانيّ: 17 / 318، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 239، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 235، دلائل الإمامة للطبريّ: 77، نوادر المعجزات للطبريّ: 109، الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91، الخرائج والجرائح للراونديّ: 2 / 771، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 76، مثير الأحزان لابن نما: 19، اللهوف لابن طاووس: 65، مختصر بصائر الدرجات لابن سليمان: 6.
2- أُنظر: الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91.

قال:

فلمّا أمسَوا وأظلم الليل، مضى الحسين (علیه السلام) أيضاً نحو مكّة،ومعه أُختاه: أُمّ كلثوم، وزينب، ووُلد أخيه، وإخوته: أبو بكر، وجعفر، والعبّاس، وعامّة مَن كان بالمدينة من أهل بيته، إلّا أخاه محمّد ابن الحنفيّة، فإنّه أقام ((1)).

وغيره كثيرون ((2))، قد أتينا على استقصائها في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة.

بَيد أنّ هذه الطائفة لا تنهض للشهادة على المطلوب؛ إذ أنّها تتحدّث عن يوم خروج الإمام (علیه السلام) عن المدينة، وقد أقام في مكّة زهاء أربع شهور، فلا يمنع أن يكون المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد لحق بالإمام (علیه السلام) في مكّة بعد حين.

إلّا إذا اعتمد أحدٌ ما رواه الطبريّ والذهبيّ، قالا:

لمّا جاء نعي معاوية، خرج الحسين وابن الزبير إلى مكّة، وأقام ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، حتّى سمع بدنوّ جيش مُسرف أيّام الحَرّة، فرحل إلى مكّة ((3)).

ص: 15


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 228.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 303، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 147، تاريخ ابن خلدون: 3 / 25.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 74، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 184.

فربّما يُقال: إنّ قوله: «أقام.. حتّى سمع بدنوّ جيش مُسرف.. فرحل إلى مكّة»، أنّه لم يخرج من المدينة أبداً مدّة تلك الأيّام والسنين.

غير أنّ النصّ ربّما أفاد أنّ المقصود من الرحيل إلى مكّة بمعنى الانتقال من المدينة إلى مكّة والإقامة في الحرم، وربّما شهد لذلك مارواه ابن سعدٍ في (الطبقات)، إذ قال:

إرتحل عبدُ الله بن عبّاس ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بأولادهما ونسائهما حتّى نزلوا مكّة، فبعث عبدُ الله بن الزبير إليهما: تُبايعان، فأبيا ((1)).

فلا يمنع ذلك من السفر إلى مكّة لفترةٍ محدودةٍ للقاء الإمام (علیه السلام)، أو لغرضٍ آخَر.

الخلاصة:

تبيّن لنا من خلال الطوائف الثلاث من الأخبار أنّ الطائفة الأُولى فقط فيها تصريحٌ بوجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة وفق خبر أبي مخنف، وحديث كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ليس فيه تصريحٌ أيضاً، والطائفة الثالثة غير ناهضةٍ لإثبات ذلك.

الموقع الثاني: مكّة المكرّمة
اشارة

أفادت جملةٌ من النصوص التاريخيّة أنّ المولى المكرّم محمّد ابن

ص: 16


1- الطبقات لابن سعد: 5 _ 1 / 187.

الحنفيّة (رضی الله عنه) كان في مكّة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، ويمكن تقسيمها إلى عدّة طوائف:

الطائفة الأُولى: إخبار المسعوديّ وابن حجَر

قال المسعوديّ:

... وكانت أُمّ سلَمة تسأل عن خبره وتراعي قرب عاشوراء.

وخرج محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يشيّعه، فقال له عند الوداع: يا أبا عبد الله، اَللهَ اللهَ في حرم رسول الله. فقال له: «أبى اللهُ إلّا أن يكنّ سبايا».

وكان من مصيره إلى النهرين ((1)).

قال ابن حجَر:

ولمّا بلغ مسيرُه أخاه محمّدَ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، كان بين يديه طشتٌ يتوضّأ فيه، فبكى حتّى ملأه من دموعه، ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره ((2)).

قال سبط ابن الجوزيّ:

ولمّا بلغ محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مسيره، وكان يتوضّأ وبين يديه طشت، فبكى حتّى ملأه من دموعه، ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن

ص: 17


1- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.
2- الصواعق المُحرقة لابن حجَر: 117، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

لمسيره ((1)).

* * * * *إذا لاحظنا سياق نصّ المسعوديّ وابن حجَر في المصدر، نجد أنّهما في معرض ذكر مختصر ما جرى على سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) منذ خروجه إلى شهادته، فهما يسردان الأحداث من دون مراعاة المواقع.

ففي نصّ ابن حجر أحداثٌ سابقة، ثمّ ذكر موقف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ثمّ ذكر موقف مَن كان بمكّة، فلا علاقة بين قوله: «لم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن» وبين ذكر موقف محمّد، وكذا تماماً الكلام في نصّ المسعوديّ.

فلا يمكن _ والحال هذه _ توظيفها في استفادة تواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة.

أمّا نصّ سبط ابن الجوزيّ، فقد ذكره وهو يستعرض المعترضين على الإمام (علیه السلام) في مكّة، وقد عقّب بقوله: «ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره»، فربّما أفاد بخلاف ما ذكرناه قبل قليلٍ في كلام ابن حجَر، إذ أنّه هنا يتماشى مع السياق..

فإن كان السياق وحشر المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بين المعترضين في مكّة وتذييل ذلك بذكر حزن مَن كان في مكّة فيه من المتانة والقوّة الكافية، فيتوفر حينئذٍ ما يجعل النصّ شاهداً على ذلك.

ص: 18


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.
الطائفة الثانية: حديث الإمام الصادق (علیه السلام)
اشارة

يمكن الإفادة من أخبار هذه الطائفة من خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: المتون

قال السيّد ابن طاووس:

ورويت من كتاب أصل الأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل: إنّه كان لمحمّد بن داوود القمّيّ، بالإسناد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«سار محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى الحسين (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالُك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزُّ مَن في الحرم وأمنعه.

فقال: يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): فإنْ خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البَرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك.

فقال: أنظرُ فيما قلت.

فلمّا كان في السحَر ارتحل الحسين (علیه السلام)، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأتاه، فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعِدْني النظرَ فيما سألتك؟ قال: بلى.

ص: 19

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: أتاني رسولالله (صلی الله علیه و آله) بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين اخرجْ، فإنّ اللهَ قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إنّ اللهَ قد شاء أن يراهنّ سبايا.

وسلّم عليه ومضى ((1)).

وقال الطريحيّ:

وعن بعض الناقلين: إنّ محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لمّا بلغ الخبر أنّ أخاه الحسين خارجٌ من مكّة يريد العراق، كان بين يديه طشتٌ فيه ماءٌ وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً، حتّى سُمع وكف دموعه في الطشت مثل المطر، ثمّ إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين، فلمّا صار إليه قال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك ... ((2)).

ص: 20


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 251.

وساق الحديث بما يشبه حديث السيّد المذكور آنفاً.

وفي (ينابيع المودّة) للقندوزيّ، عن (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبيمخنف، ما يشبه خبر الطريحيّ بأدنى تفاوت ((1)).

من هنا سيكون المتن المعتمَد في هذه الطائفة حديث السيّد ابن طاووس؛ لتقدّمه من جهة، ولتصريحه بالرواية عن الإمام جعفر بن محمّدٍ الصادق (علیه السلام) .

المتابعة الثانية: تصريح الحديث

يذكر الحديث مسار الأحداث بشكلٍ لا يقبل التأويل والتمحُّل والالتفاف عليه، إذ أنّه يصرّح أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد سار إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، وتكلّم مع الإمام (علیه السلام) طالباً منه التريّث والإقامة في مكّة بالذات، فشرح له الإمام (علیه السلام) أسباب خروجه وخوفَه من أن يغتاله يزيد في الحرم فيكون الّذي يُستباح به حرمة البيت الحرام..

ثمّ يذكر الحديث مبادرة المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين بلغه خبر ارتحال الإمام (علیه السلام) وقت السحَر، فأتاه وأخذ زمام ناقته الّتي ركبها، وكلّمه وسأله عن سبب حمل النساء معه، فأجابه الإمام (علیه السلام)، وسلّم عليه

ص: 21


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

ومضى ((1)).

فالحديث يفيد بوضوحٍ وصراحةٍ أنّ الأحداث كلّها جرت في ليلةخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وأنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان يباشر مراجعاته للإمام (علیه السلام) هناك، وأنّه قد التقاه قُبيل خروجه وعند خروجه، بحيث سلّم عليه الإمام (علیه السلام) ومضى.

فيكون الحديث قد صرّح حينئذٍ بوجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة وقتذاك!

الخلاصة:

إن قصرت أخبار الطائفة الأُولى عن النهوض لإثبات وجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة، فإنّ أخبار الطائفة الثانية ناهضةٌ بجدارةٍ ووضوح!

الموقع الثالث: لم يذكر المكان
اشارة

ثمّة متونٌ لم تصرّح بالمكان، فهي إن بقيَت على إغفال المكان فستكون قابلةً للانسجام مع أيّ موقع من المواقع السابقة، وإن تكشّف فيها الانحياز إلى موقعٍ ما فتدخل في أخبار ذلك الموقع، وإن تباعدَت

ص: 22


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

عن الحدث بشكلٍ كلّيٍّ فستخرج عن محلّ البحث.

ويمكن قراءة خبرين مثلاً على المتون الّتي لم تذكر الموقع صراحة:

الخبر الأوّل: البلاذري

وبلغ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) شخوصُ الحسين، وهو يتوضّأ، فبكى حتّى سُمع وقعُ دموعه في الطست ((1)).

يبدو هذا النصّ كأنّه لا يتعرّض إلى المكان الّذي سمع ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) فيه الخبر فبكى، بَيد أنّ البلاذريّ قد أتى على ذِكره في خضمّ حديثه عن أحداث ذات عرق، إذ أنّه روى أخبار الفرزدق ولقاءه هناك، ثمّ ذكر لحوق عون بن عبد الله بن جعدة بن هبيرة بذات عرق، ثمّ قال مباشرةً وفي نفس الفقرة: «وبلغ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) شخوص الحسين (علیه السلام)، وهو يتوضأ..»، وبهذا يكون قد بلغ خبر شخوص الإمام (علیه السلام) لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وكان الإمام (علیه السلام) قد خرج من مكّة.

فربّما يُقال: إن كان ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة لما ابتعد عن أحداث خروج الإمام (علیه السلام) حتّى يبلغ ذات عرق، فيسمع، وقد سمع القاصي والداني في مكّة حسب فرضهم.

فإن تمّ هذا البيان، يكون خبر البلاذريّ عاضداً لأخبار وجوده في المدينة، أو على الأقلّ يُقال بعدم وجوده في مكّة، أو بوجوده وابتعاده

ص: 23


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377.

عن الحدَث، وهو بعيدٌ جدّاً.

الخبر الثاني: ابن شهرآشوب

وكان محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبد الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتل فيها أبوك وخُذل فيها أخوك، فالزمِ الحرم، فإنّك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز، وتتداعى إليك الناس من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): وإن نبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعب الجبال، وتنقّلتَ مِن بلدٍ إلى بلد، حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً ولا تستدبرها استدباراً ((1)).

ذكر الشيخ العلّامة ابن شهرآشوب هذا الكلام وهو في معرض الحديث عن المعترضين مطلقاً، فذكر كلامهم واعتراضاتهم حتّى وصل إلى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ثمّ ذكر جواباً واحداً للجميع، بغضّ النظر عن المكان والزمان.

فلا يمكن _ والحال هذه _ الاستفادة منه وتوظيفه في تحديد مكان تواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ساعة خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة.

ص: 24


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 88.
النتيجة:
اشارة

تبيّن لنا من خلال استعراض النصوص الواردة في المقام أنّ جملةً من الأخبار لا تدخل في حيّز التعارض وتحديد المكان بدقّةٍ وصراحة، فهي لا تعنينا كثيراً هنا.

يبقى عندنا صنفان من النصوص يمكن أن يُلاحَظ فيهما شيءٌ من التعارض للوهلة الأُولى:

التعارض الأوّل: خبر الطبريّ وحديث الإمام الصادق (علیه السلام)

يبدو أنّ خبر الطبريّ الوارد في الطائفة الأُولى من أخبار الموقع الأوّل يصرّح بوجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة، فيما يصرّح الحديث الّذي يرويه السيّد ابن طاووس عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه كان في مكّة.

وقد ذكرنا في (المدخل) أن لو وقع التعارض بين حديثٍ مرويٍّ عن أهل البيت (علیهم السلام) وخبرٍ تاريخيّ، فإنّ المقدَّم حديثهم (علیهم السلام)، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّنا نتعامل مع الحديث هنا كمتنٍ تاريخيٍّ يحمل خصوصيّاتٍ وقداسةً خاصّة، على تفصيلٍ ذكرناه في محلّه.

التعارض الثاني: حديث كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وحديث الإمام الصادق (علیه السلام)

ربّما يبدو للوهلة الأُولى أنّ ثَمّة تعارضٌ بين الأحاديث المرويّة في

ص: 25

الطائفة الثانية من أخبار الموقع الأوّل الّتي تضمّنَت كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أخيه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وبني هاشم، وبين حديث الإمام الصادق (علیه السلام) الّذي يرويه السيّد ابن طاووس.

غير أنّ شيئاً من التأمّل يدفع ما يبدو للوهلة الأُولى، إذ أنّ حديث الكتاب لا يحدّد مكان تواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ولا يُشير إليه مِن قريبٍ ولا من بعيد، وإنّما استفاد مَن استفاد ذلك باعتبار أنّ المعهود أنّ الكتاب إنّما يُكتَب ويُبعَث إلى البعيد الغائب، فيما صرّح حديث السيّد ابن طاووس بوجوده في مكّة.

ويمكن أن يُناقَش في المقدّمة الّتي ابتنى عليها المستظهر من لفظ «الكتاب»، إذ أنّ أغراض كتابة الكتاب أعمّ من الإيصال إلى الغائب، فربّما كُتب الكتاب لحاضرٍ ليوثّق الحدَث، ويكون أشدَّ في الحفظ والبقاء، سيّما أنّ الكتاب لم يكن موجَّهاً لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وحده، وإنّما كان يخاطِب الآخَرين من بني هاشم، فيكون الخطاب على صورة كتابٍ مكتوبٍ بخطّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أبلغَ في التوثيق وإقامة الحجّة إذا نظر فيه الناظر وعرف الخطّ، وأدعم لحجّة حامل الكتاب حين يُظهره ويبرزه أمام مَن يعنيه الأمر.

وقد تجد في التاريخ نماذج لتبادل الكتب والرسائل بين حاضرَين في بلدٍ واحد، ولا يعزّ المثال لذلك.

فإذا كان حديث الكتاب لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) غير مصرِّحٍ ولا مشيرٍ إلى

ص: 26

مكان تواجده، فلا يبقى لحديث الإمام الصادق (علیه السلام) الّذي يرويه السيّد ابن طاووس معارض، وهو صريحٌ في بيان مكان وجوده وقتئذ.

يُضاف إلى ذلك أنّ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى العراق الّذي كان يعني شهادته وفق ما أخبر به الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمّة الطاهرون (علیهم السلام)، وهو ليس بالأمر الهيّن على مثل مولانا المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ولا شكّ أنّه سيبادر إلى مكّة وقد انتقل كلُّ ثقل أبيه وإخوته وآله إلى هناك، وهو يعيش أيّام الإمام (علیه السلام) الأخيرة معه، ويحاول أن يثني الإمام (علیه السلام) عن التوجّه إلى العراق..

كانت الأحداث ساخنةً ملتهبة، تعصف بها رياح الخطر وتُنذِر بوقوع المصيبة العظمى، وتختطف الأبصار والألباب المتوجّسة على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. فلا يقرّ لمنفعلٍ بها قرار، ولا تقعد به همّة، والخطر المحدِق بالأهل والإخوة تضيق حلقتُه ساعةً بعد ساعة، لتمضي بهم إلى الاستئصال والإبادة، والأعراض تُهدَّد بالسلب والنهب والسبي، فهل يمكن لمثل شبل أمير المؤمنين (علیه السلام) محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أن يقعد ويتباعد عن الأحداث؟!

اللحاظ الثاني: مبادراته

اشارة

سجّلَت لنا النصوص بعض المبادرات وردود الفعل الصادرة عنالمولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين بلغه خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 27

من مكّة المكرمة، سنتناولها هنا، بغضّ النظر عن المكان الّذي كان فيه، إن كان في مكة أو في غيرها، وذلك من خلال المبادرات التالية:

المبادرة الأُولى: بكاؤه

ذكرت جملةٌ من المصادر أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لمّا بلغه مسير أخيه وعياله وارتحالَه بثقله من مكّة، كان يتوضّأ، وكان بين يديه طشت، فبكى بكاءً شديداً حتّى ملأ الطشت من دموعه، وكانت دموعه تنهمر انهماراً متسارعاً، وتتدفّق تدفّقاً عنيفاً، بحيث سُمع وكفُ دموعه ووقعها في الطشت ((1)) مثل المطر، ويبدو أنّه كان وضوؤه للمغرب، إذ أنّه صلّى المغرب وتوجّه إلى أخيه، كما ذكر الطُّريحيّ وغيره ((2)).

حقّ له أن يبكي كلّ هذا البكاء وأشدّ، وهو يعلم أنّ سفر أخيه هذا لا عودة فيه، ولا شكّ أنّه سمع ما سيجري عليه وعلى إخوته وأهل بيته من القتل والسلب والنهب والسبي، من خلال ما بلغه من أخبار

ص: 28


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377، تاريخ الطبريّ: 5 / 394، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169، الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.
2- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والأئمّة الميامين (علیهم السلام) ..

حقّ له أن يبكي بكاءً حارّاً حتّى يُسمَع صوت قرقعة دموعه، وهي تندفع بقوّةٍ وتُحدِث وقعاً مُفجِعاً في الطشت..

إنّه سيفارق إمامه.. سيفقد خامس أصحاب الكساء المذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله) .. وستُسبى المظلَّلة بأفياء الكساء عقيلةُ الطالبيّين (علیها السلام) ..

ربّما كتب الله له هذا البكاء نوعاً من أنواع النصرة، لما أصابه من حرقة لسع نيران المصاب قبل وقوعه.. إنّه الابن الّذي أوصى به أمير المؤمنين والإمام الحسن الأمين (علیهما السلام)، وأمر الإمام الصادق (علیه السلام) بعدم الغوص في البحث عن الأسباب والعلل.. فهو أعرف بما فعل، والإمام (علیه السلام) أعرف بأخيه وبنواياه الّتي لا نشكّ في طهارتها ونظافتها.. فهو ابن سيّد الوصيّين ومولى الموحّدين وأمير المؤمنين (علیه السلام)، وابنُ الطيّبة الطاهرة خولة الحنفيّة (رضی الله عنهما) .. إلى هنا ثمّ ليس لنا سوى التسليم والترضّي على عمّنا المكرَّم..

فدموعه ليست كدموع غيره ممّن بكى أو تباكى، فسحّت دموعه الباردة المترشّحة بصمتٍ ميّت، وبرودٍ سامد، وقلبٍ خاوٍ منخوبٍ منخورٍ جامد، واكتفى بذلك، ثمّ خذل ريحانةَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو لامه وجهد في تخطئته.

ص: 29

المبادرة الثانية: خروج ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى أخيه (علیه السلام)
اشارة

يمكن متابعة هذه المبادرة من خلال اللمحات التالية:

اللمحة الأُولى: نصّ ابن شهرآشوب

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ نصّ العلّامة ابن شهرآشوب جاء في سياق بيان مقالات المعترضين عموماً، من دون توقيتٍ ولا ملاحظة الجهات الأُخرى في الحدَث، ولا يبدو عليه أنّه كان في مكّة بالذات، وقد جمع مقالة المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ومقالة ابن مطيع في لفظٍ واحد، وكأنّه نقل مضمون كِلا المقالتين، ثمّ نقل مقالة ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) خاصّة.

قال الشيخ (رحمة الله علیه):

وكان محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبد الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتل فيها أبوك وخُذل فيها أخوك، فالزمِ الحرم، فإنّك سيّدُ العرب لا يعدل بك أهلُ الحجاز، وتتداعى إليك الناس من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): وإن نبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعب الجبال، وتنقّلتَ مِن بلدٍ إلى بلد، حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً ولا تستدبرها استدباراً ((1)).

كيف كان، فإنّ ما أفاده هنا قد أتينا على تفصيل الكلام به في

ص: 30


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 88.

الكتاب الأوّل من هذه الدراسة، فلا نعيد.

اللمحة الثانية: خروجه إلى الإمام (علیه السلام)

أفادت النصوص الواردة في الباب أنّ المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد بادر حين بلغه الخبر وسار إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السلام)، وقصده ليُعرب عن كوامنه وهواجسه ومخاوفه على الإمام (علیه السلام) ومَن معه.

وسياق حديث الإمام الصادق (علیه السلام) يفيد أنّه كان قريباً من الإمام (علیه السلام) وليس في بلدٍ آخَر، فالمسير ليس من بلدٍ إلى بلد، وإنّما هو مسيرٌ داخل البلد الواحد.

قال الإمام (علیه السلام):

«سار محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى الحسين (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: ...» ((1)).

وكذا أفاد متن الشيخ الطريحيّ:

ثم إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين، فلمّا صار إليه قال له: ... ((2)).

ص: 31


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

وكِلا النصَّين يفيدان حصول اللقاء بعد المسير مباشرة، ممّا يمنع تصوّر وقوع فترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ تزيد على الحركة داخل البلد الواحد.

اللمحة الثالثة: وقت اللقاء

لم يرد في نصّ القندوزيّ عن أبي مخنف (المشهور) ما يفيد وقتاً معيّناً، سوى أنّه أفاد أنّه توجّه إلى أخيه حين سمع أنّه يريد العراق ((1)).

فيما حدّد الوقت حديثُ الإمام الصادق (علیه السلام) بالليلة الّتي أراد سيّد الشهداء (علیه السلام) الخروج في صبيحتها ((2))، وهو يعني أنّ اللقاء وقع في الليل.

ويمكن تحديد الوقت أكثر وحصره في أوّل الليل وفق تصريح الطريحيّ الّذي قال: أنّه صلّى المغرب ثمّ سار إلى أخيه ((3))، ويشهد لهذا التوقيت ما ورد في تتمّة حديث الإمام الصادق (علیه السلام) وغيره من المتون الّتي ذكرت أنّه عاود اللقاء وقت السحر عند انطلاق الركب نحو العراق.

المبادرة الثالثة: عروض ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وأجوبة الإمام (علیه السلام)
اشارة

يمكن ملاحظة ما حمله المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وتقدَّمَ به بين يدَي

ص: 32


1- أُنظر: ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
3- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

إمامه (علیه السلام) في عرضين:

العرض الأوّل: الإقامة في الحرم
اشارة

ربّما يظنّ المتابع أنّ في البحث تكراراً وإعادةً قد تبلغ حدّ الملل، والواقع أنّ البحث ليس فيه تكرار، وإنّما تتكرّر المواقف ويدور دولاب الأحداث على نفس المنوال، وتجمّع الخيوط وتنسج في كلّ مرّةٍ نفس القماش، وتعرض على سيّد الشهداء (علیه السلام)، فيا له مِن إمامٍ وسع العالمين صدراً.

لقد عرض المولى المكرّم ابن أمير المؤمنين (علیه السلام) محمّدٌ هذه العروض على الإمام (علیه السلام) وهو في المدينة قبل أن يخرج _ حسب النصوص _، وسمع ثمّة جواب الإمام (علیه السلام) وبيّن له الناطق عن الله تبياناً..

وعرض الآخرون نفس هذا العرض، سواءً كانوا معترضين أو مخطّئين أو متفجّعين، وسمعوا جميعاً أجوبةً شافيةً وردوداً كافيةً وافية..

لقد سار المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قاصداً سيّد الشهداء (علیه السلام) ليقول له _ كما روى الإمام الصادق (علیه السلام)، وهو الصادق الأمين _ :

يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالُك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزَّ مَن في الحرم وأمنعه ((1)).

ص: 33


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

وفي خبر الطُّريحيّ:يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك، وإنّي أخشى عليك أن يكون حالُك كحال مَن مضى مِن قبلك، فإن أطعتَ رأيي قمْ بمكّة، وكُن أعزَّ مَن في الحرم المشرّف ((1)).

وفي خبر القندوزيّ عن أبي مخنف (المشهور):

إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، فإن قبلتَ قولي أقمْ بمكّة ((2)).

ويمكن تناول مفاد ما قاله المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ضمن اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: الاختلاف بين لفظ المعصوم ولفظ غيره

يبدو لمن قرأ متن الشيخ الطريحيّ أنّه قد استفاد من متن حديث الإمام الصادق (علیه السلام) ؛ لتقارب الأحداث بل الألفاظ، بَيد أنّ أدنى تأمُّلٍ

ص: 34


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

في المتنَين وكذا في متن القندوزيّ عن أبي مخنف يجد القارئ ثمّة اختلافاً واضحاً في التعبير وطريقة خطاب المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مع الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .

والفرق كبيرٌ بين اللفظين، نذكر لذلك مثالاً:ففي لفظ الإمام الصادق (علیه السلام): «فإن رأيتَ أن تُقيم، فإنّك أعزَّ مَن في الحرم وأمنعه»، فيما نسمع لفظ الطريحيّ: «فإن أطعتَ رأيي قمْ بمكّة، وكُن أعزَّ مَن في الحرم المشرّف».

فاللفظ الأوّل يُرجع الأمرَ بكلّ لطفٍ وأدبٍ إلى شخص الإمام (علیه السلام): «فإن رأيت»، واللفظ الثاني يطرح رأيه الخاصّ ويدعو الإمام (علیه السلام) إلى طاعته: «فإن أطعتَ رأيي»!

وفي اللفظ الأوّل يقرّر أنّ الإمام (علیه السلام) هو أعزّ مَن في الحرم وأمنعه، وفي اللفظ الثاني يأمر أن يكون كذلك: «وكُن أعزّ»، أي: إن أطعت رأيي ستكون أعزّ مَن في الحرم المشرّف.

ولو لم يكن لفظ الإمام الصادق (علیه السلام) لَظنّ القارئ بالمولى المكرم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ظنّاً غير حسنٍ _ والعياذ بالله _؛ لغلظة الخطاب والتطاول على مقام الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة، والحديث بلفظ الآمِر الناهي، وكأنّه يعلّم مَن هو دونه في العلم والمعرفة!

ص: 35

اللفتة الثانية: خلوّ النصّ من التعرّض لبواعث الخروج

سمعنا بعض المعترضين على الإمام (علیه السلام) _ من قبيل ابن عبّاسٍ وغيره _ وهم يحدّثون الإمام (علیه السلام) ويمنعونه من الخروج عن مكّة، ويصوّرون الإمام (علیه السلام) كأنّه قاصداً مواجهةً وحرباً مع الطاغوت وطالباً للسلطان، وباحثاً عن أنصارٍ يمكن كردستهم وضخّهم في حربٍ ضروسٍتطحن الرؤوس والأيدي، لغرض الإطاحة بيزيد وحكومته، والانقضاض على مُلك بني أُميّة، فيدعونه إلى التمهّل ريثما يتوفّر العدد وتجهز العدّة، إذ أنّ حرباً كهذه تحتاج إلى ذلك البتّة.

فيما نجد كلام المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) هنا بالخصوص _ أي: في مكّة _ يخلو من الإشارة إلى ذلك من قريبٍ أو بعيد، وعلى فرض أنّ شيئاً من ذلك كان في المدينة (نقول: على فرض!)، فإنّ الصورة اتّضحَت والمشهد قد انجلى، وتبيّن أنّ الإمام (علیه السلام) مطارَدٌ مطلوب، قد هدر الأعداءُ دمه المقدّس الزاكي الّذي سكن الخلد.

فهو يقتصر على التذكير بمواقف أهل الكوفة الّذين «عرف الإمام (علیه السلام) غدرهم بأبيه وأخيه»، ثمّ جعل يُبدي مخاوفه أن يكون حال الإمام (علیه السلام) معهم حال مَن مضى.

اللفتة الثالثة: التماس الإقامة في الحرم

كان الناس في الجاهليّة والإسلام يعظّمون البيت وحرمته، وقد

ص: 36

شدّد الله في القرآن وعلى لسان نبيّه الصادق الأمين محمّد (صلی الله علیه و آله) هذه الحرمة، وجعل بيته مثابةً للناس وأمناً، فمَن دخله كان آمِناً، كائناً مَن كان! إلّا في حالاتٍ نادرةٍ حدّدَتها الشريعة، بل جعل الله حرمه آمِناً لجميع المخلوقات، حتّى الحيوان والشجر..

فمن البديهيّ أن يستجير به المؤمن، وأن يأمن فيه الخائف، وأنيتبادر إلى كلّ قلبٍ متوجّسٍ على أحدٍ أن يعرض عليه الدخول إلى الحرم الإلهيّ أو الاستجارة به والإقامة فيه، ليكون في حرزٍ أمينٍ وحصنٍ حصين.

من هنا تقدّم المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليدعوه هذه الدعوة الخيّرة، ويطلب منه الإقامة في الحرم، لأنّه الأعزّ فيه.

بَيد أنّ العدوّ ليس له إلّاً ولا ذمّة، وسنسمع ذلك من الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه بعد قليل.

وفي الحسابات الظاهريّة والتوقّعات العاديّة السارية عند الناس أنّ البيت الحرام لابدّ أن يحمي مَن فيه، التزاماً بالأمر الإلهيّ، أو تقيّداً بالأعراف الجاهليّة..

وحينئذٍ سيدور الأمر بين الإقامة في الحرم المكّيّ الآمن _ حسب الفرض المعتاد _، وبين التوجّه إلى قومٍ وعد عددٌ منهم النصرةَ والدفاع والذبّ عن حُرم الله وحُرم رسوله (صلی الله علیه و آله) .. وفيهم الكثير ممّن عُرف تاريخه

ص: 37

وتميّز سلوكه وطفحت سيرته بالغدر والخيانة والانقلاب والتقلّب مع رياح الدنيا، والتمرّس على ركوب أمواج النزعات والأهواء والمطامع الدنيويّة أينما كانت ومع أيٍّ كانت..فستكون حينئذٍ _ في الظاهر المنظور _ الإقامةُ في الحرم المكّيّ أحجى وفق مقاسات العقل البشريّ العادي..

أمّا حينما يكون الحرم مكمناً للشياطين، وبؤرةً للعفاريت، وأرضاً مسبعةً تعجّ بالسباع الضارية والذئاب الساغبة المكشّرة، حتّى يجزم الإنسان أنّ القوم لا يحرّمون حرمات الله ولا يقيمون للحرم وزناً، بل على العكس تماماً، يوظّفون هذه المقدّسات الدينيّة والاجتماعيّة في تحقيق أغراضهم، ويحوّلون كلّ صقعٍ من أصقاعها ومترٍ وفترٍ من أرضها، وكلَّ وادٍ وجبلٍ وشارعٍ وزقاق، حتّى مكامن الكعبة نفسها وأستارها إلى موقعٍ لقتل حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، فلم يعُدْ _ والحال هذه _ الحرمُ أمناً، وإنّما يكون تهديداً قطعيّاً جازماً، والإقامة فيه تعني القتل الأكيد الّذي لا محيص عنه أبداً..

ويكون بإزاء هذا الخيار أنّ ثمّة جماعةٌ من القليل الديّان الّذين وعدوا النصرة، وسيثبتون ويفون بقلوبٍ مطمئنّةٍ وأقدامٍ راسخةٍ لا تتزلزل وإن زالت الجبال الرواسي عن مستقرّها.. فسيكون التوجّه إلى الموقع الّذي يمكنه توفير الأنصار والمدافعين أحجى، وهذا ما ذكرناه وشرحناه وأشرنا إليه في كلّ موضعٍ دعَت الحاجة إلى بيانه.

ص: 38

ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

جاء جواب الإمام (علیه السلام) على هذا العرض الّذي تقدّم به المولى ابنُالحنفيّة (رضی الله عنه) في الكتب الّتي ذكرته متقاربَ اللفظ تقارباً شديداً جدّاً، متّحد المعنى والمضمون.

ففي رواية السيّد ابن طاووس:

فقال: «يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت» ((1)).

وقال الطُّريحيّ:

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني أجنادُ بني أُميّة في حرم مكّة، فأكون كالّذي يُستباح دمُه في حرم الله» ((2)).

وفي خبر القندوزيّ عن أبي مخنف:

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني جنودُ بني أُميّة في مكّة، فأكون أنا الّذي يُستباح [به] حرم الله» ((3)).

ص: 39


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.
خلاصة الجواب:

صرّح هنا الإمام (علیه السلام) _ كما صرّح في غيره من المواضع ومع أشخاصٍ آخرين _ أنّ ما يمنعه من الإقامة في الحرم هو الخوف من الاغتيال، فلابدّ والحال هذه من الخروج؛ لئلّا يُسفَك الدم المقدّس الزاكي في الأرض المقدّسة.وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ مكّة البيت الحرام الّتي جعلها الله للعالمين أمناً لم تعد لسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله كذلك، فهم يريدون للإمام (علیه السلام) أن يبقى فيها ليطمئنّ على نفسه وأهله وحرمه، ويكون أعزَّ مَن في الحرم.. والقوم قد اتّخذوه وكراً، وحشّدوا فيه كلّ الأجناد ليقتنصوا الفرصة ويصرعوا هيكل التوحيد ويسفكوا الدم الّذي أضحى ثار الله.. أرادوا أن يكمنوا تحت أستار الكعبة.. يوظّفوا الأمن الإلهيّ في القضاء على كلمة الله، ويهريقوا دم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولحمه..

ويُلاحَظ في جواب الإمام (علیه السلام) إلحاحُه على الخروج من مكّة حمايةً لحرمة البيت الحرام.. فهو الّذي يعرف حرمة البيت ويعظّمها ويحميها.. أمّا العدوّ الغادر، فإنّه لا يرى للبيت حرمة، ولا لأعظم حرمات الله _ دم الإمام (علیه السلام) _ حرمة.

إلى هنا لم نسمع في كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) دافعاً ومحرّكاً صريحاً سوى ما ذكره في غير موضعٍ وأكّد عليه هنا، وهو في كلمة:

ص: 40

إنّما يخرج من مكّة ليحمي حماها وحرمتها، ويحمي دمه وحرمته.. لا شيء آخر، ولا دافع أساسيّ يمكنه أن يكون أشدّ وأعظم وأقوى من هذا الدافع.. فلا رسائل الكوفيّين، ولا البحث عن أرضٍ نبتت فيها الرماح، وشُرّعت فيها السيوف، ودُقَّت فيها طبول الحرب لمواجهةالسلطة والسلطويّين، ولا الأجواء الّتي يمكن أن تتوفّر فيها سواعد المتذمّرين، ولا قبضات المبايعين، ولا المستعدّين للفداء من أجل الخلاص من نير الحكّام الأُمويّين والتحرّر من الحكّام الظالمين!

لم يذكر لخروجه من مكّة سبباً سوى ما ذكر، ولو كان لَذكره الإمام (علیه السلام) لأخيه المقرّب إليه.

العرض الثاني: المسير إلى اليمن
اشارة

بعد أن عرف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أن لا محيص ولابدّ من الخروج عن مكّة، تقدّم من جديدٍ بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليُعرب له عمّا يراه فيه حمايةً لحياة الإمام (علیه السلام) وإبعاداً له عن مخالب العدوّ المتربّص به الّذي عزم على قتله ولو في البيت الحرام..

• فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): فإن خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البَرّ، فإنّك أمنعُ الناس به ولا يقدر عليك ((1)).

ص: 41


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

• فقال: يا أخي، فصِرْ [فسِرْ] ((1)) إلى اليمن، فإنّك أمنعُ الناس به ((2)).

يمكن أن نرصد في كلام المولى المكرّم محمّد بن أميرالمؤمنين (علیه السلام) عدّة نقاط:

النقطة الأُولى: قبول قول الإمام (علیه السلام)

واضحٌ من كلام المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أنّه قد أدرك تماماً الخطر المحدِق بأخيه الإمام (علیه السلام) وأهل بيته، وفهمَ كلام الإمام (علیه السلام) واقتنع به، وعلم أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يعني قتله وسفك دمه الزاكي، ولذا قال له: «فإن خفتَ ذلك» ((3)) في لفظ السيّد، والتفريع بالفاء «فصِرْ» في لفظ الطريحيّ.

والإشارة في قوله: «ذلك»، إنّما يعني بها الاغتيال، والتفريع ب-- (الفاء) أيضاً تفريعٌ على قول الإمام (علیه السلام) وإخباره، يعني: إن كنت معرَّضاً للاغتيال والقتل الجازم، فسِرْ أو صِرْ إلى اليمن.

ص: 42


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
النقطة الثانية: رأيٌ بقصد الحماية

حينما قَبِل المولى ابنُ الحنفيّة (رضی الله عنه) من الإمام (علیه السلام)، وعرف أنّه إن أقام في مكّة سيغتاله يزيد المسعور، تقدّم بالدعوة الجديدة لتُحرِز الغرضَ المنشود من الخروج عن مكّة، فالإمام (علیه السلام) إنّما يريد الخروج من مكّة لئلّا يُقتَل فيها، وابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يبحث عن موضعٍ ومكانٍ يمكن أن يكون حرزاً وحصناً منيعاً يحول دون قتل الإمام (علیه السلام)، فاقترح عليهاليمن، وبيّن السبب في هذا الاختيار، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) سيكون أمنع الناس به ولا يقدر عليه أحد، بل فلْيسِر الإمام (علیه السلام) إلى أيّ ناحيةٍ من نواحي البرّ ((1)) الّتي توفّر له هذه الغاية وتبعده عن القتل!

ويشهد لذلك أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يؤكّد للإمام (علیه السلام) أن يختار أيّ ناحيةٍ من نواحي البرّ أو اليمن لغرضٍ مهمّ، وهو أن يكون أعزَّ الناس منعةً بحيث لا يقدر عليه، ويبدو ذلك واضحاً في قوله: «فإنّك أمنع الناس به، ولا يُقدَر عليك» ((2)).

ص: 43


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

قوله: «ولا يقدر عليك»، يفيد أنّ الإمام مطلوب، والمطلوب هو مكانٌ لا يقدر العدوّ فيه أن يصل إليه!

إلى هنا لا يبدو أيضاً أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد فهم _ في مكّة في هذا الموقف، وهو في الليلة الأخيرة من خروج الإمام (علیه السلام) _ أنّ خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة لا يعني شيئاً سوى مقابلة غدر العدوّ وعزمه الأكيد على قتل الإمام (علیه السلام) في مكّة، بحيث لو بقي يوماً واحداً أكثر لَاغتاله، وليس ثمّة دافعٌ إضافيٌّ في البَين!

ولا يخفى أنّ المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد اقترح اليمن من قبل على الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم أراد الخروج من المدينة، وقد أتيناعلى تفصيل ذلك في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة، وتبيّن لنا هناك أنّ خيار اليمن لم يكن خياراً صائباً، رغم المسوّغات والمؤهّلات والأسباب والعوامل البشريّة والجغرافيّة والزمانيّة والمكانيّة المذكورة في كلام مَن اقترحه ((1))، فلا نعيد.

ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

سعة صدر الإمام (علیه السلام) وحِلمه، لا يُقاس ولا يُقدَّر..

إستمع لأخيه، ثمّ أجابه على كلّ كلامه بتؤدّةٍ وصبرٍ وتكريمٍ واحترام.

ص: 44


1- أُنظر: ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة: 206 وما بعدها.
الجواب الأوّل: «لَاستخرجوني حتّى يقتلوني»

أقسم الإمام (علیه السلام) _ حسب نصّ الطُّريحي _ وخاطبه ب- «يا أخي»، ثمّ أكّد له أن لو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوه منه حتّى يقتلوه، وفي لفظ القندوزي: «في بطن صخرة».

وقد أتينا على شرح هذه الكلمة الّتي تتصدّع لها القلوب وتزول عن مستقرّها، وتذهل لها الكائنات، وتتزلزل الأرض، وتميد السماء..

• فقال الحسين: «واللهِ يا أخي لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني» ((1)).• فقال الحسين: «يا أخي، لو كنتُ في بطن صخرةٍ لَاستخرجوني منها فيقتلوني» ((2)).

لا يُقال: إنّها وردَت عند المتأخّرين من قبيل الشيخ الطريحيّ، أو نسخة أبي مخنف الواصلة إلى القندوزيّ، وغيرهما، فإنّها وردت في المصادر القديمة جدّاً، سواءً أكان مع المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أم غيره في مواقف أُخرى، فهي كلمات الإمام المظلوم سيّد الشهداء (علیه السلام)، وقد رسم فيها الإمام (علیه السلام) الأحداث أدقّ رسم، وأبانها في أجلى صورةٍ وأوضح

ص: 45


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

مشهد..

إنّهم لا يريدون إلّا قتله! وإنّه لا يريد منهم إلّا أن يكفّهم عن نفسه وأهله!

إنّهم لا يتركونه بحال.. لابدّ أن يستخرجوه حتّى يقتلوه.. بايع أم لم يبايع، بقي في مكّة أم خرج منها، ذهب إلى اليمن أم بقي في المدينة، ذهب إلى الكوفة أم بقي مشرّداً في الصحارى والفيافي والقفار وكهوف الجبال وشواطئ البحار ومخابئ البيداء وجذوع الأشجار.. إنّهم يريدون قتله!

يا لله.. فداك العالمين يا حبيب المؤمنين! وا محمّداه! وا حمزتاه!وا جعفراه! وا عليّاه! وا حسناه!

الجواب الثاني: «أنظرُ فيما قلت»

• فقال: «أنظرُ فيما قلت» ((1)).

• ثمّ قال: «يا أخي، سأنظر فيما قلت» ((2)).

ص: 46


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

إنّه الأدب الحسينيّ الفريد.. إنّه الخُلُق الّذي لا يُقاس بأخلاق أحدٍ من العالمين، إلّا مَن اختصّهم الله بالتخلّق بأخلاقه..

لقد أبان الإمام (علیه السلام) كلَّ شيءٍ بوضوحٍ لأخيه، ولا شكّ أنّ أخاه قد تفهّم الموقف وانجلى له المشهد، غير أنّه قد جدّ واجتهد بما آتاه الله، فكانت النتيجة أنّه وجد هذا المخرج للإفلات بأخيه من مخالب المنايا الّتي ضخّها الأعداء في سهام الغدر والاغتيال، والنجاة به من ملاحقتهم، والخروج به من الحلقة المطبقة الّتي أحاطوا بها سيّد الكائنات يومذاك.

هذا ما استطاعه المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. وقد ارتضى منه الإمام (علیه السلام) ذلك وماشاه، ووعده أن ينظر فيما قال، ولم يعده بالقبول والتنفيذ.

بَيد أنّ في جواب الإمام (علیه السلام) هذا ما يفيد أمراً مضمراً قد لا يكون بمستوىً من الصراحة!إنّ الإمام (علیه السلام) وعده أن ينظر فيما قال، ولم يذكر له مسوّغات توجّهه إلى العراق، أو ضرورة التوجّه إلى هناك، وأنّ اليمن لا يمكن أن يكون خياراً مقابل خيار العراق، لأنّه يقصد ثَمّة أمراً ويبيّت له وقد أعدّ له عدّته..

الكلام في أنّ الإمام (علیه السلام) في خطر، والمولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يبحث للإمام (علیه السلام) عن مكانٍ يمكن أن يُبعِد هذا الخطر عنه، والإمام (علیه السلام)

ص: 47

كذلك.. فهو يعده أن ينظر فيما قال إن كان يحقّق المطلوب أم لا!

المبادرة الرابعة: المراجعة في أمر حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله)
اشارة

بعد أن انفضّ اللقاء في أوّل الليل بين الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأخيه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وقد وعده الإمام (علیه السلام) أن ينظر فيما قال لا أكثر، رجع المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى منزله على أمل ما سيؤول إليه نظر الإمام (علیه السلام) في قوله.

فلمّا كان في السحر ارتحل الإمام الحسين (علیه السلام)، فبلغ ذلك ابنَ الحنفيّة (رضی الله عنه)، فخرج حتّى أتى الإمام الحسين (علیه السلام)، وأخذ بزمام ناقته ودار بينهما حوارٌ سنأتي عليه إن شاء الله باختصارٍ من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: وقت اللقاء

صرّحَت رواية السيّد ابن طاووس عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّ اللقاء كان عند السحَر، وكذا صرّح الطريحيّ والقندوزيّ، ويبدو أنّ الطريحيّ يروي نفس حديث الإمام الصادق (علیه السلام) بلفظٍ فيه شيءٌ من التفصيل أحياناً.

والمستفاد من الجميع _ بما في ذلك نصّ المسعوديّ في (إثبات

ص: 48

الوصيّة) _ أنّ اللقاء كان في اللحظة الأخيرة ((1)).

لقد حصل اللقاء في وقتٍ كان ركبُ الإمام قد اكتمل وأزمع على الحركة، بل ربّما كان قد تحرّك، إذ يفيد لفظ الرواية أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد أخذ بزمام ناقة الإمام (علیه السلام)، وهو يفيد بصراحةٍ أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد ركب راحلته.. «فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها»، كما أفاد المسعوديّ أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كلّم الإمام (علیه السلام) عند الوداع حين خرج يشيّعه.

هو اللقاء الأخير في مكّة.. اللقاء الّذي لا لقاء بعده في الدنيا..

إنّه الفراق.. فراق الوجه المذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فراق خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام)، فراق الأخ الأكبر من ذرّيّة عليٍّ وفاطمة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ..فراق كبير آل عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام)، فراق حبيب الله وحبيب رسوله وحبيب أمير المؤمنين وحبيب الحسن وحبيب قلوب المؤمنين، فراق إمام الزمان، فراق الحسين (علیه السلام) !

إنّه الوداع الأخير مع جميع الأهل والإخوة، إنّه فراق باقي الإخوان..

فراق أبي الفضل العبّاس (علیه السلام) وإخوته من أُمّه وإخوته من أبيه..

فراق أولاد الإخوة، الجيلِ الثاني من نسل عليٍّ وفاطمة (علیهما السلام) .. وكلّهم كانوا شباباً وفتيان في مقتبَل العمر وريعان الشباب.. فراق القاسم

ص: 49


1- أُنظر: إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.

وأحمد من وُلد الإمام الحسن المجتبى (علیهم السلام) ..

فراق أولاد الأعمام من أولاد عقيلٍ وجعفر (علیهم السلام) ..

فراق آل أبي طالب، الّذين سيستأصلهم العدوّ في كربلاء، فلا يعود منهم أحد..

إنّه الفراق، واللقاء في الآخرة!

فراق الأخوات وبنات الإخوة، وغيرهنّ مِن عيال أمير المؤمنين والإمام الحسن والحسين (علیهم السلام) .. ستقضي منهنّ مَن تقضي في كربلاء.. عطشاً.. خوفاً ورعباً.. سحقاً تحت حوافر الخيل.. وربّما حرقاً بلهيب نيران الأطناب، أو اختناقاً بالدخان والغبار.. وتقضي مَن تقضي منهنّ في طريق السبي، ويعود مَن يعود منهنّ بعد رحلة السبي المضنية الّتي أذلّت العزيز، وطأطأَت رأس الشريف، وقد غيّرَت الشمس تلك الوجوه النيّرات،وأشحبها السفر والجوع والخوف ومرافقة الأعداء والشامتين..

الإشارة الثانية: اللحاق بالإمام (علیه السلام) قبل الخروج

خرج المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وقت السحَر ليلحق بالإمام (علیه السلام) ويأخذ زمام ناقته ويراجعه في الخروج وفي حمل النساء معه..

يبدو من مسير الأحداث والسياق العامّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مع مَن معه من إخوته وعياله في الركب مجتمعين في مكانٍ واحد، أو

ص: 50

مكانٍ متقارب، وكان المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في موضعٍ آخَر حتّى بلغه الخبر فخرج وأتاه.

فلماذا كان المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مقيماً في غير الموضع الّذي كان يقيم فيه الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه، وهم أهله وإخوته وأخواته ومحارمه؟!

الإشارة الثالثة: ألم تعدني النظر؟!

أخذ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) زمام ناقة الإمام (علیه السلام)، وهذا هو غاية ما يستطيع أن يفعله وهو يريد منع الإمام (علیه السلام) من الخروج.. كأنّه توسّل إلى الإمام (علیه السلام) بهذا الفعل!

ثمّ سأله ما وعده، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتُك؟

هكذا خاطبه بلفظ الأُخوّة بكلّ ما تكتنز هذه الكلمة من مشاعر وأحاسيس وعواطف وإشعاراتٍ مؤثّرةٍ يعلم المولى ابنُ الحنفيّة (رضی الله عنه) مدى تأثيرها وقوّة عملها في معدن الرحمة والحبّ الحسيني.. يا أخي!

وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) إذا وعد وفى، وأنّه لا يُخلِف الميعاد..

فسأله وعْدَه، فلم يُنكِر عليه الإمام (علیه السلام)، بل أقرّه على ما قال، وأنّه قد وعده النظر.. وفرقٌ كبيرٌ بين أن يعِدَه العمل بما قال، وبين أن يعِدَه النظر، فربّما عمل وربّما لم يعمل!

ص: 51

الإشارة الرابعة: الخروج عاجلاً

يبدو أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان يعتقد أنّ هذه الفترة الوجيزة من أوّل الليل إلى وقت السحَر لم يكن وقتاً كافياً للنظر في قوله في أمرٍ عظيمٍ كأمر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بالأهل والعيال من مكّة، لذا جعل يراجعه، فقال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟!

ربّما كان المقصود من «عاجلاً» ليس بالمقارنة إلى وقت آخر مكالمةٍ تمّت بينهما في أوّل الليل، وإنّما هو التعجيل في الخروج من مكّة على الإطلاق، تماماً كما قالها غيره ممّن استغرب خروج الإمام (علیه السلام) في أيّام الحجّ.

كيف كان، فإنّ الجميع يتّفق أنّ الإمام (علیه السلام) قد تعجّل في خروجه من مكّة، وكأنّه يسابق الزمن، ويتعجّل الأحداث ليخرج ساعةً قبل ساعة!

نفس هذا التعجّل في الخروج وعدم التريّث ولو ليومٍ واحدٍ بل لنهارٍ أو ليلةٍ واحدةٍ يدعو للتأمّل بعمق، فليس في العراق ما يدعو للتعجّل،وليس في الظروف والاستعدادات ما يدعو للتعجّل، وليس مِن شأن مَن يريد أن ينقضّ على الحكم وعفاريته أن يتعجّل.. والتأخير نافعٌ لاختبار نيّات الرجال الّذين أعلنوا النصرة هناك، واكتشافِ مواقفهم ومدى ثباتهم.. فليس في تعجّل الخروج ما ينسجم بحالٍ مع مواقف مَن يريد جمع الرجال والعدّة والعدد لتحقيق غرضٍ ما..

ص: 52

وليس لمن قصد الشهادة قصداً ما يدعو للتعجّل!

يبدو من الواضح أنّ بواعث التعجّل كامنةٌ في مكّة بالذات، ودواعي الخروج تلبد في مكّة، وليس ثمّة ما يستحثّ الخروج ممّا يُستقبل..

إنّ في مكّة ما يدعو للخروج ويدفع عنها، ولا يبدو في الأُفق ما يجذب ويدعو للتعجّل للوصول إليه..

ثَمّة خطرٌ يستحثّ الركب على الخروج.. إنّه القتل والاغتيال الكامن في أروقة البيت الحرام وحناياه وزواياه وأستاره!

لا نجد لحدّ الآن داعياً واضحاً لتعجيل الخروج من مكّة سوى ما ذكره الإمام (علیه السلام) .. الاغتيال.. القتل.. هتك حرمة البيت الحرام بالدم المقدّس الزاكي الحرام..

تماماً كما هو التعجّل في الخروج من المدينة!

الإشارة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام)

سأل المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عمّا حدا بالإمام (علیه السلام) للخروجعاجلاً، فجاء جواب الإمام (علیه السلام) متوافقاً مع ما أجاب به غيرَه ممّن سأل نفس هذا السؤال، ولكن بعبارةٍ أُخرى:

فقال: «أتاني رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين

ص: 53

اخرجْ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً» ((1)).

لم يذكر حديث الإمام الصادق (علیه السلام) كيف أتى النبيّ (صلی الله علیه و آله) سبطه الإمام الحسين (علیه السلام) بعدما فارق أخيه ابنَ الحنفيّة (رضی الله عنه) في أوّل الليل، ويكتفي بالقول: «أتاني رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) بعد ما فارقتُك»، بَيد أنّ الشيخ الطُّريحيّ يصرّح أنّه أتاه في النوم ((2)).

وقول النبيّ (صلی الله علیه و آله): «اخرجْ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»، بقوّة قول الإمام الحسين (علیه السلام): «لئن أُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ ...» ((3)).

أي: إنّ القتل يلاحقك.. إنّ القوم لن يفتروا ولن يتخلّوا عن قتلك، كيفما كان وحيثما كان.. فاخرجْ من مكّة لئلّا تُقتَل فيها..

أجل، يُفهَم من كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمرِه بالخروج أنّ الله قد شاء أن يرى حبيبه قتيلاً معنى التكليف الخاصّ، وأنّ ثمّة مشيئةٌ ربّانيّةٌ متعلّقةٌ بسيّد الشهداء (علیه السلام)، إن كان ذلك لابدّ، فهو لا يمنع من فهم الكلام وفق سياقات الأحداث، ولْيكن لكلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) أكثر من معنى، جميع المعاني

ص: 54


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، أنساب الأشراف: 3 / 164.

متوافقةً منسجمة، تمتدّ إلى جنب بعضها البعض من دون تباينٍ ولا تعارضٍ امتداداً طوليّاً.

الإشارة السادسة: الجواب الإقناعيّ والدعوة إلى التسليم

حينما أرجع الإمام (علیه السلام) الأمر إلى ما أمره به رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلا مجال للمراجعة والنظر، ولا يسع أحدٌ من العالمين أن يقرّر اتّخاذ الموقف بعد أن تحدّد التكليف، وعلى المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) المؤمن بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وبإمام زمانه (علیه السلام) أن يسلّم ويرضى ويقبل ويقتنع، وهذا ما فعله ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالفعل.

وفي إرجاع الإمام (علیه السلام) الأمر إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وأنّه هو الّذي أمره، سيدور الأمر بين ما قاله ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وبين ما قاله الرسول (صلی الله علیه و آله)، ولا شكّ ستكون إطاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) والعمل بما يقول أَولى وأصحّ ممّا يقوله غيره على الإطلاق.

وبهذا احترم الإمام (علیه السلام) أخاه، وعرّفه أنّه قد أخذ كلامه بنظر الاعتبار، بَيد أنّ هناك قول مَن هو أعلى منهما جميعاً، وهو النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وعليهما أن يُصغيا إليه ويطيعاه.

وحينئذٍ قد جعل الإمام (علیه السلام) كلام ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بإزاء كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله)، ولم يجعل كلامه مقابل كلامه هو نفسه.

لذا نسمع ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد أرجع الأمر إلى الله وسلّم له تسليماً،

ص: 55

فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وكأنّ هذا الجواب الّذي ردّ به الإمام (علیه السلام) على أخيه كان جواباً إسكاتيّاً إقناعيّاً، ودعوةً إلى التسليم والرضى بقضاء الله وقدَره، ليكون هو الجواب الأخير الّذي لا محيص عنه لأخيه المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ومَن بلغ.

الإشارة السابعة: المراجعة في حمل النساء!
اشارة

لمّا أخبر الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أخاه أنّ القوم ملاحقوه، وأنّهم لا يتركونه إلّا أن يقتلوه، فهو مقتولٌ على كلّ حال، راجعه المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ليتفهّم الموقف، فقال:

فما معنى حملِك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مِثل هذه الحال؟!

قال: فقال له: «قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» ((1)).

فالمولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا يُقتل حتّى يُقتَل دونه جميعُ إخوته وأهل بيته وأنصاره، وهذا يعني

ص: 56


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

بالتالي أن تبقى نساؤه دون حميٍّ ولا وليٍّ بين الأعداء.والأعداء شيمتهم الثأر والانتقام لأسلافهم، وقد صرّحوا بذلك، وأنّهم يقتلون ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) انتقاماً لفطائسهم الّتي أرداها أمير المؤمنين (علیه السلام) في جهنّم يوم بدرٍ وحُنين وغيرهما من المشاهد، وأنّهم يمنعون الماء عن خامس أصحاب الكساء وأهله ويقتلوه ظامياً عطشاناً كما قُتل شيخهم _ بزعمهم _..

فلا جَرمَ أنّهم سيسبون عياله كما سُبي الكفار والمشركون، وسيُخرِجون المخدّرات من خدرهنّ، لأنّهم أولاد بغايا كُنّ يرقصن بين الصفوف ويرتجزن ويحرّكن في فحولهنّ كوامن القتال بدافع الشهوة المبتذلة الرخيصة.. «إنْ تُقبِلوا نعانق، أو تُدبِروا نفارق»..

والسافل الساقط المتبذّل الماجن المولود بين دِنان خمور حارات البغاء وكُنفها يعادي بالطبع والنشأة العفافَ والستر والخدر والطهر..

لقد اقتصر المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) على سؤاله عن أهله وعياله وأخواته ونساء أبيه ونساء إخوته..

سأل بعد أن تيقّن _ من خلال إخبار الإمام الصادق الأمين (علیه السلام) _ أنّ القوم قاتِلو الإمام (علیه السلام) حتماً جزماً، والحوادث وسلوك الأعداء كان مفضوحاً يتجاهرون به، وقد بان لكلّ ذي عينين، ولكلّ متابعٍ يسمع أو يرى ما يدور في الأجواء.

فإذا كان الإمام (علیه السلام) مقتولاً على كلّ حالٍ حيثما تمكّنوا من إطباق

ص: 57

الحلقة عليه، وجمعوا حوله الجموع، واستطاعوا تنفيذ أحقادهم والإصحار عن كوامنهم.. فلماذا يحمل الإمام (علیه السلام) نساءَه معه وهو يعلم أنّه مقتول؟!

ردّ الإمام على أخيه وأجابه من خلال الردود التالية:

الردّ الأوّل: أمرُ النبي (صلی الله علیه و آله)

ورد هذا الجواب في حديث الإمام الصادق (علیه السلام)، كما ورد في باقي الكتب الّتي ذكرت اللقاء.

لقد أقنع الجواب الأوّل المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين أخبره الإمام (علیه السلام) أنّ النبي (صلی الله علیه و آله) أمره بالخروج، فعاد سيّد الشهداء (علیه السلام) هنا ليردّ عليه بنفس الردّ الأوّل، وأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أخبره بذلك وقال له: «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» ((1)).

وفي رواية المسعوديّ:

فقال له: «أبى الله إلّا أن يكنّ سبايا» ((2)).

وقد مرّ معنا قبل قليلٍ أنّ إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) هذا هو في الحقيقة إخبارٌ عمّا عزم القوم عليه، وأنّهم لا يفترون لحظة، ولا يوفّرون صغيرةً ولا كبيرةً

ص: 58


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.

حتّى يقضوا حاجتهم في ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيقتلونه، فيكون معنى قول الإمام (علیه السلام) هنا بشأن النساء بنفس المعنى _ والسياق واحد _، بمعنى: إنّ القوم سيسبون النساء، سواءً حملَهنّ الإمام الحسين (علیه السلام) معه أم لم يحملهنّ، وأنّهنّ كنّ معرَّضاتٍ لهجوم الأعداء وإن كُنّ في المدينة أو مكّة أو أيّ مكانٍ كان في هذه الأرض!

يفيد هذا الجواب بوضوحٍ أنّ التهديد الّذي كان يُلاحق الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو نفسه الّذي كان يهدّد ثقل النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورحلَه وأهله وعياله، نساءً ورجالاً وأطفالاً..

فكما كان سيّد الشهداء (علیه السلام) هدفاً مقصوداً للعدوّ، وكان العدوّ لا يفتر لحظةً في إعداد كلّ ما يلزم لقتله، فكذاك كان أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله ونساؤه هدفاً مقصوداً له أينما كانوا وحيثما كانوا..

وثَمّة مخاطر وفوارق كثيرة بين أن يحملهم الإمام (علیه السلام) معه، وبين أن يتركهم في المدينة أو في مكّة..

يمكن الإشارة إلى فرقٍ واحدٍ هنا، وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه:

مؤدّى كلام الإمام (علیه السلام) الّذي أخبر به عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه إن تركهم فإنّ القوم سيأسرونهم ويسبونهم بمجرّد أن يغيب عنهم حاميهم ووليّهم قبل أن يُقتَل أو تحيط به الأعداء.. فهل يسوغ حينئذٍ تركهم وتعريضهم للأسر والسبي والتنكيل وتحويلهم إلى رهائن؟!

ص: 59

الردّ الثاني: هُنّ لا يفارقنني

وردَت إضافةٌ في متن الشيخ الطُّريحيّ في جواب الإمام (علیه السلام)، قال:

فبكى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، وقال له: يا أخي، إذا كان الحال هكذا، فما معنى حملِك هذه النسوة وأنت ماضٍ إلى القتل؟!

فقال: «يا أخي، قد قال لي جدّي أيضاً: إنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتَّكاتٍ يُسَقْن في أسر الذلّ، وهُنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً» ((1)).

بالإضافة إلى أمر النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي أفاد التهديد المباشر الّذي يطال العائلة والنساء أجمعين كباراً وصغاراً، فإنّ ثمّة سبباً آخَر يشهد به الوجدان وتشهد له الوشائج والرحِم..

إنّ النساء اللواتي كُنّ مع أبي عبد الله (علیه السلام) كلّهن قد تعلّقن بأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ وخامس أصحاب الكساء.. ولا يستطعن مفارقته..

ففي الركب: أزواج الإمام (علیه السلام) وبناته..وفي الركب: أخوات الإمام (علیه السلام) ..

ص: 60


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

وفي الركب: بعض أزواج أبيه (علیه السلام) ..

وفي الركب: نساء إخوة الإمام (علیه السلام) وأولادهم..

وفي الركب: نساء أولاد عمومته، وهُنّ في الغالب أخواته (علیه السلام) ..

وفي الركب: زينب وأُمّ كلثوم (علیهما السلام) ..

والإمام هو كبير آل أبي طالب، وهو الحميُّ والوليّ..

فأيُّ أُختٍ تطيق أن تفارق أخاها، وتتركه طعمةً للسيوف، ونهباً للرماح، ودريّةً للسهام؟!

وأيُّ بنتٍ تطيق أن تفارق أباها، وهي تعلم أنّه يمشي إلى القتل إلى حيث لا يعود؟!

وأيُّ زوجةٍ تصبر أن تبقى في أرض، وتترك زوجها يرحل إلى المصرع؟!

وأيُّ طفلٍ يهدأ، وهو يرى أباه يبتعد عنه ويسافر ثمّ لا يعود؟!

كان الجميع يعلم أنّهم يسيرون، والمنايا تسير معهم..

إنّ الحسين (علیه السلام) اليوم هو إمامهم وسيّدهم وكبيرهم وأخوهم وحبيبهم وحاميهم ووليهم..

إنّها كلمةٌ تتهاوى عند سماعها الجبال الرواسي، وتميد الأرض ومَن عليها، وتتفتّت الصمُّ الصياخيد، وتذوب القلوب، وتنهمر المحاجر ولاترقأ إلى يوم القيامة!

فلْيعلم المؤمن مدى تعلّق عيال الإمام الحسين (علیه السلام) به؛ ليعلم ما

ص: 61

جرى عليهم في كربلاء وهم يرون رأي العين ما جرى عليه من المصائب..

الأُخت والبنت والزوجة لا تطيق فراقه _ ومَن يطيق فراق الحسين (علیه السلام) حبيب القلوب! _ وقد وقفن يرينه، وقد أحاط به القوم من كلّ جانبٍ ومكان، وشيبته الكريمة تقطر منها الدماء، وهو مقطّع الأعضاء، ملقىً على الرمضاء مرمّلاً، يطلب جرعةً من الماء، وقد افترق القوم عليه فرقاً، ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالسهام والحجارة.. حتّى قتلوه قتلةً ما قُتل بها أحدٌ من العالَمين، ثمّ رفعوا رأسه على الرماح، وأوطأوا الخيل ظهره وصدره على مرأىً من مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي..

فماذا كانوا يصنعون لو أنّ الإمام (علیه السلام) تركهم في المدينة أو مكّة؟!

إذا كان حضور هذا الموقف الرهيب العصيب المرعب الّذي يخلع القلوب ويستلّ الأرواح ولا يقوم له بشرٌ إلّا بتسديد الله خاصّة..

إذا كان النظر إلى الأولاد والإخوة والأحبّة يُقطَّعون بسيوف الحقد والضغينة آراباً، ويعانون العطش والظمأ حتّى الموت، فتنكمش جلودهم، وتذبل شفاههم وتتشقّق، ويعيشون كلَّ ما جرى في كربلاءوما بعدها من السلب والنهب والسبي وإحراق الأطناب عليهم والفساطيط، ويتراكضون على الرمضاء الحارقة وجمر الخيام المتناثرة، والتشهير في البلدان، وحضور مجالس الأنذال الّتي ما فارقت اللهو

ص: 62

والخمرا.. أهون من تركهم في مكّة والمدينة! فماذا كان سيكون لو تركهم معدن الغيرة والإباء؟!!

وبكلمة:

إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج بهنّ إلى كربلاء، لأنّ في إخراجهنّ معه أقلّ الخسائر المتوقّعة في الموقف، وهو ما يمكن أن يرعاهنّ ويحميهنّ، تماماً كما فعل النبيّ (صلی الله علیه و آله) حينما أودع نساءَه يوم هاجر إلى المدينة بيد أمير المؤمنين (علیه السلام)، لوثوقه أنّ في بقائهنّ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) أقلّ الخسائر المتوقّعة.

فخروجهنّ معه، وإن لزم منه السلب والنهب والترويع والسبي، بَيد أنّ هذا هو الطريق الأسلم والأقلّ خطراً وخسائرَ يومذاك، ولو بقين في مكّة أو المدينة أو أيّ مكانٍ آخَر لَكانت الخسائر أكبر وأكبر، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

المبادرة الخامسة: وداع الإمام

يبدو أنّ هذا هو اللقاء الأخير المباشر وجهاً لوجه كان بين الأخوَين؛ إذ أنّ الإمام (علیه السلام) «سلّم عليه ومضى».لقد بذل المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كلّ مجهوده فيما كان يعتقده سبيلاً لإنقاذ أخيه (علیه السلام) وأهله من بين مخالب الذئاب والابتعاد بهم عن مواطن الخطر ودفع عادية الوحوش الكواسر ودفع القتل عنهم..

ص: 63

وقد حانت لحظة الوداع، وأزفَت ساعة الفراق.. ستغيب تلك الشموس، ستأفل تلك الأقمار عن سماء الديار المقدّسة، سيعمّ الظلام في مكّة والمدينة، وستأنس بهم أرض الطفوف، وهي الّتي تنتظرهم منذ أن خلقها الله..

ها هو وجه الله، وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجه الخير.. يرحل إلى حيث لا يعود إلى تلك الرحاب.. الرحاب الّتي أضحت قفراً بلقعاً جفافاً، تنعب فيها الغربان وتذوي فيها الحياة وتنطفئ..

لم تعد مكّة أمناً لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وتنكّر له أهلها.. فهل ستفي له؟ وهل سيأمن غيره؟! لقد انزاحت كلّ القيم، ولن تعود حتّى يعود حاميها وحاملها إليها، يوم يكشف الله الغمم عن هذا الكون برفع راية الحسين (علیه السلام) خفّاقةً عاليةً من جديدٍ بيد ولده..

وقف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) موقفاً لا يمكن لأحدٍ تصويره، ولا يقوى بشرٌ عاديٌّ على رسمه..

لقد انطلق الركب الّذي حوى جميعَ أهله وإخوته وذويه وأقربائه..

لقد بقي في مكّة وحيداً غريباً، مقطوعاً عن إخوته.. أخواته.. أولادعمومته..

لقد انجلى آل رسول الله، وآلُ أبي طالب، وآل عليّ، وآل الحسن، وآل عقيل، وآل جعفر، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً..

لم يبقَ في مكّة لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أحدٌ إلّا أقلّ القليل.. وهؤلاء

ص: 64

جميعاً في كفّة، وكبير آل أبي طالبٍ في جهة.. لقد رحل الحسين (علیه السلام) .. الحسين الأخ.. الحسين الإمام.. الحسين الخامس من أصحاب الكساء.. الحسين المذكّر بوجه رسول الله.. الذكرى الباقية من أمير المؤمنين (علیه السلام) .. الذكرى الباقية من فاطمة (علیها السلام) .. الذكرى الباقية من الإمام الحسن (علیه السلام) .. الحسين الحبيب.. الرحمة الإلهيّة الواسعة..

رحلوا جميعاً، وسوف لا يعودون.. إلّا رؤوساً مرفوعةً على الرماح.. إلّا نساءً قد قشّر وجوههنّ السفرُ والرحيل والتنقّل بين البلدان، وأدمت معاصمهنّ وأعناقهنّ عضّات القيود، بعد أن «سُبي أهله كالعبيد، وصُفِّدوا في الحديد، فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولةٌ إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق» ((1))..

وجوهاً شدَخَتها الشماتة، وتركت أثرها أشدّ من وخز الشوك،وجرحَتها العيون بأشدّ من الخناجر والسكاكين، وأعيَتْ أيديها من كثر ما بقيَت مرفوعةً تستر نور المحاسن وتصدّ سهام النظرات..

أفسيعرف حينها المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أُختَه زينب وأُمَّ كلثوم إذا التقاهما؟!!

سيعود الركب عن قريب، متجاوباً بالنياحة والعويل والرنين،

ص: 65


1- أُنظر: المزار لابن المشهديّ: 505 _ زيارة الناحية المقدّسة.

والغربان تنعب فوق كلّ محملٍ من محاملها.. يعود ليلقاه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لفيفاً من الأرامل والأيتام الّذين أذوى السبيُ عودَهم، وأتت المصائب الكاظّة الفادحة القارحة الفاجعة عليهم..

سيعود الركب يحمل الحزن الّذي لن ينجلي إلى أبد الآبدين.. يعود، ولا يعود معه رجلٌ من رجاله.. يعود إلى بيوتٍ أذن الله أن ترفع وجهد العدوُّ ليُطفئ نورها، فأبى الله إلّا أن يُتمّه!

إنّها الساعة الأخيرة.. النظرة الأخيرة إلى كلّ الوجوه.. كلّ الوجوه.. فهي إمّا أنّها ستسكن كربلاء، أو أنّها تعود، ولكنّها ليست تعود كما خرجَت من مكّة..

إنّها وجوه العلويّات اللواتي خرجنَ في حِمى سيّد الكون، وعُدن بغير تلك الوجوه.. رجعن بوجوهٍ قد تصفّحها القريب والبعيد، واستشرفها أهلُ المناقل والمناهل، وشمتت بها الأعداء الأنذال..

إنّها الوجوه الّتي خرجَت تحت سرادق العزّ الإلهيّ، وستر النبوّةوالإمامة، وخدر التاريخ.. إلى مجالس العُتاة والشامتين والطواغيت وأولاد البغايا..

فلْينكسر القلم، ولتُفرَم الأنامل، وتنطبق السماء على الأرض، وتُقطِّع أشفار الغيرة والحزن والكآبة القلوب والأكباد.. ألا ألف مرحاً بالموت وملَك الموت، فلا البكاء يفي ولا اللوعة تسكن.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.. «اللّهم لك الحمدُ حمدَ الشاكرين على مصابهم».. وعند

ص: 66

الله نحتسب.. ويا ليتنا كنّا معهم!

وحقّ لمولانا المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أن يبكي بكاءً شديداً _ كما روى الشيخ الطُّريحيّ _، وهو يسمع السلام الأخير، ويحضر الوداع الأخير، فيقول: أودعتك الله يا حسين! في وداعة الله يا حسين! ((1))

ويختمها _ كما في رواية المسعوديّ _ بقوله: يا أبا عبد الله، اَلله الله.. في حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((2)).

وهكذا ختم اللقاء بالسلام الأخير من اسم السلام.. ثم مضى.. «وسلّم عليه، ومضى» ((3)).

اللحاظ الثالث: موقف الناس!

قال ابن حجر وسبط ابن الجوزيّ:ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره ((4)).

ص: 67


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
2- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.
3- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
4- الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

هكذا عمّموا بالنفي والاستثناء، بحيث يفهم المتلقّي أنّ جميع مَن كان في مكّة يومها بدون استثناءٍ قد حزن لمسيره!

ولا يبدو هذا الكلام مستقيماً؛ فثَمّة الكثير ممّن فرح بخروجه، وسُرّ أشدّ السرور، كابن الزبير وغيره..

أمّا الناس، سواءً أهل مكّة أو المجاور أو الحاجّ والمعتمر، فإنّهم لم يكترثوا، ولم نسمع لهم همساً ولا صوتاً، ولم نشهد لهم موقفاً.. والّذين حاموا حول حمى الإمام (علیه السلام) وراجعوه أو اعترضوا عليه كانوا عيّناتٍ محصورةً يمكن عدّها دون عناء.. وهم أيضاً كانوا فيمن تخلّف عنه!

إنّهم همَجٌ رعاع، وخلقٌ سائمٌ يطوف حول الكعبة صُمّاً بُكماً عُمياً، ويتنقّلون بين المشاعر دون أيّ شعورٍ أو مشاعر..

لقد رحل روح هيكل التوحيد، وروح الشريعة، وأساس الدين، والعروة الوثقى، والركن الركين، وأبحرت السفينة الّتي «مَن ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق وهوى».. وهم يغطّون في نومٍ قاتلٍ عميق..

أيريد أن يقول:

إنّ الإمام (علیه السلام) خرج من مكّة فلم يبقَ أحدٌ إلّا حزن، بمعنى: لم يكن أحدٌ في مكّة إلّا كان يخالف الإمام (علیه السلام)، ويتمنّى أن لا يخرج.. فلم يكنفي المسلمين في مكّة يومها مَن كان يصحّح خروج الإمام (علیه السلام) ؟!

لقد كان الإمام (علیه السلام) غريباً في مكّة غربةً لا مثيل لها في التاريخ.. إنّه غريب الغرباء حقّاً!

ص: 68

ولا نرى في النصوص التاريخيّة ومجريات الأحداث وسير الوقائع ما يفيد اكتراث القوم بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام)، ولو وُجدَت لا نكاد نتعقّلها ونصدّقها ونتصوّرها من مجتمعٍ أصحر بكوامنه من خلال الخذلان على أقلّ التقادير.

ص: 69

ص: 70

كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) إلى محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) وبني هاشم

اشارة

كتابٌ كتبه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عند خروجه من مكّة متوجّهاً إلى العراق، سنقتصر في دراسته بالقدَر الّذي يتمّم البحث المتعلّق بالمولى المكرّم محمد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وفاءً بالوعد الّذي قطعناه في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة.

وقد وردَت عدّة ألفاظٍ للكتاب، يمكن تقسيمها إلى قسمين، ثمّ نتابع البحث حسب مقتضياته فيما بعد:

ص: 71

اللفظ الأوّل: لفظ الصفّار في (البصائر)

الصفّار القمّيّ (رحمة الله):

حدّثَنا أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال:

ذكرنا خروجَ الحسين وتخلّف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عنه، قال: قال أبو عبد الله: «يا حمزة، إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث، ولا تسألْ عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجِّهاً دعا بقرطاس، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

الطبريّ (رحمة الله):

وروى أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن أبي إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال:

ذكرتُ خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية (رضی الله عنه) عنه، فقال: «يا أبا حمزة، إنّي سأُحدّثك من هذا الحديث بما لا تشكّ فيه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً إلى العراق دعا بقرطاس، وكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح» ((2)).إبن سليمان (رحمة الله):

أيّوب بن نوح، عن محمّد بن إسماعيل،

ص: 72


1- بصائر الدرجات للصفّار: 501، إثبات الهداة للحُرّ العامليّ: 2 / 577، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 84، العوالم للبحرانيّ: 17 / 318، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 239، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 235، اللهوف لابن طاووس: 65، قال: وذكر محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب (الرسائل)، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: ...
2- دلائل الإمامة للطبريّ: 77، نوادر المعجزات للطبريّ: 109.

عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال:

ذكرتُ خروج الحسين بن عليّ (علیه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عنه، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا حمزة، إنّي سأُحّدثك في هذا الحديث، لا تسألْ عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين بن عليّ (علیه السلام) لمّا مثل متوجّهاً دعا بقرطاس، فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

ص: 73


1- مختصر بصائر الدرجات لابن سليمان: 6.

إبن شهرآشوب (رحمة الله):

أبو حمزة بن عمران قال: ذكرتُ خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية (رضی الله عنه) عنه، فقال الصادق (علیه السلام):

«يا أبا حمزة، أقول لك ما يغنيك سؤاله، إنّ الحسين لمّا انصرف من مكّة دعا بكاغذ، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَنلحق بي منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

إبن نما (رحمة الله):

وتحدّث الناس عند الباقر (علیه السلام) تخلُّفَ محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) عنه، فقال:

«يا أبا حمزة الثُّماليّ، إنّ الحسين (علیه السلام) لمّا توجّه إلى العراق دعا بقرطاس، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((2)).

اللفظ الثاني: لفظ ابن قولويه في (الكامل)

اشارة

إبن قولويه (رحمة الله):

ص: 74


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 76.
2- مثير الأحزان لابن نما: 19.

وحدّثَني أبي (رحمة الله) وجماعة مشايخي، عن سعد بن عبد الله، عن عليّ بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«كتب الحسينُ بن عليٍّ من مكّة إلى محمّد بن عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّومَن قِبله مِن بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

أبو طالب الزيديّ:

فلمّا نزل بستان بني عامر، كتب إلى محمّدٍ أخيه وأهل بيته: «من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ وأهل بيته، أمّا بعد، فإنّكم إن لحقتم بي استُشهدتم، وإن تخلّفتم عنّي لم تلحقوا النصر، والسلام» ((2)).

الراونديّ (رحمة الله):

وأنّ الحسين لمّا توجّه إلى الكوفة دعا بقرطاس، فكتب فيه: «مِن الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي

ص: 75


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.
2- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91.

استُشهد، ومَن تأخّر عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

* * * * *

هذه هي جملة الألفاظ الواردة في هذا الحديث، سنحاول استكشافها من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: النصوص المعتمَدة

أقدَمُ النصوص في اللفظ الأوّل هو متن الصفّار (ت 290 ه-) في (البصائر)، وأقدم النصوص في اللفظ الثاني هو متن ابن قولويه (ت 368 ه-) في (الكامل).

والاختلاف في الألفاظ بين الصفّار ومَن جاء بعده، وابن قولويه ومَن جاء بعده، تكاد تكون طفيفة، لذا فإنّنا سنعتمد رواية الصفّار وابن قولويه، ثمّ إن كان ثَمّة زيادة أو إشارة في ألفاظ غيرهما سنتناولها ونشير إليها.

الإضاءة الثانية: روايتان

ربّما يلاحظ المتابع أنّ ثمّة فوارقاً بين لفظَي رواية الصفّار ورواية ابن

ص: 76


1- الخرائج والجرائح للراونديّ: 2 / 771.

قولويه، وهما _ على ما يبدو _ روايتان مستقلّتان؛ لاختلاف السند والراوي المباشر والإمام المعصوم المرويّ عنه، وليستا روايةً واحدة.

فرواية (البصائر) يقول فيها الصفّار:

حدّثنا أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن مروان بنإسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ...

فيما قال ابن قولويه:

وحدّثني أبي (رحمة الله) وجماعة مشايخي، عن سعد بن عبد الله، عن عليّ بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ...

الإضاءة الثالثة: أجواء الروايتين

ثمّة فرقٌ يلوح للمتلقّي في أجواء الحديثين الشريفين..

فرواية الصفّار تذكر كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) في جوٍّ خاصّ، حيث ذكروا خروج الحسين (علیه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عند الإمام الصادق (علیه السلام)، فذكر لهم الإمام (علیه السلام) كتاب جدّه في مقام بيان تكليفهم في التعامل مع ابن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) محمّد.

فيما نجد الحديث الثاني يبادر فيه الإمام الباقر (علیه السلام) زرارة، ويذكر له الكتاب ابتداءً.

ص: 77

الإضاءة الرابعة: المخاطَب بالكتاب

نقرأ في حديث الإمام الصادق (علیه السلام): «من الحسين بن عليّ إلى بنيهاشم ...».

وفي حديث الإمام الباقر (علیه السلام): «كتب الحسين بن عليٍّ من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبله من بني هاشم ...».

وليس ثمّة فرقاً بين اللفظين، إذ أنّ بني هاشم مخاطَبِين في كِلا اللفظَين، والمولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مشمولٌ على كلّ تقدير، فهو مِن ذُرى بني هاشم يومها، وقد ورد الخطاب مباشراً له بالاسم في لفظ الإمام الباقر (علیه السلام)، وطبّقه عليه بما لا شكّ فيه ولا ترديد الإمامُ الصادق (علیه السلام)، فهو أيضاً مقصود؛ لمكان تحديده كمصداقٍ في حديث الصادق (علیه السلام)، سواءً أكان مأخوذاً كعنوانٍ أم مقصوداً بنفسه.

وبهذا يتبيّن أنّ المخاطَب هم: بنو هاشم، والمولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .

ولا ندري حينئذٍ كيف يتعدّى الأمر إلى غيرهم من العالمين؟!

وكيف يمكن تعميم الخطاب في قوله: «مَن لحق بي»، «مَن لم يلحق بي»، إلى الناس أجمعين؟!

وقد ورد في الحديثَين ما يفيد الحصر وتحديد المخاطَب بالذات..

ففي لفظ حمران عن الإمام الصادق (علیه السلام): «من الحسين بن عليٍّ إلى بني

ص: 78

هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي».

وفي لفظ الإمام الباقر (علیه السلام): «كتب الحسين بن عليٍّ مِن مكّة إلى محمّد ابن عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبله من بني هاشم».

وفيهما تحديدٌ واضحٌ من خلال التصريح بالمخاطَب، وهم بنو هاشم، ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) على نحو الخصوص، وتمّ التأكيد على المخاطَب بقوله: «مَن لحق بي منكم»، أي: من بني هاشم المذكورين.

فالكتاب موجَّهٌ من سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى بني هاشم بالذات، والتحديد ب-- «مِن» و «إلى» يأبى التعميم لغيرهم، والتأكيد ب-- «منكم» يجعل التعميم عصيّاً ((1)).

ربّما يُقال:

إذا كان الخطاب موجَّهاً لجماعةٍ خاصّةٍ لا يتعدّاهم إلى غيرهم، يلزم أن يُقرأ الكتاب كلُّه على هذا الإساس مِن أوّله إلى آخره، فيكون إخباره بالتخلّف وعدم اللحاق ب-- «الفتح» أيضاً خاصّاً.

وسيأتي الكلام عن ذلك بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

ص: 79


1- أُنظر: ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة: 157.
الإضاءة الخامسة: الخطاب لم يلحظ المكان!

يبدو من إطلاق الخطاب مع بني هاشم أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يأخذ بنظر الاعتبار مكان تواجدهم، سواءً كان المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة أو في المدينة أو في أيّ موضعٍ آخَر من أصقاع الأرض..

فالكتاب يخاطب الأشخاص من ذرّيّة هاشم، فلا معنى لما ذهب إليه بعض الأعلام من إخراج مثل عبد الله بن عبّاس، لتواجده يومها في مكّة، بحجّة أنّ الكتاب كان موجَّهاً لابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وكان ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يومها في المدينة؛ إذ تبيّن لنا أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان في مكّة ولم يكن في المدينة من جهة، وإطلاق اللفظ في الكتاب الشريف يأبى إخراج أحدٍ منهم من جهةٍ ثانية، وعدم التعرّض في الكتاب إلى مكان تواجدهم يفيد _ بوضوحٍ جليٍّ _ الشمولَ لهم أينما كانوا وحيثما كانوا.

فليس في بني هاشم أحدٌ يمكن استثناؤه، إلّا مَن خرج بالدليل لعذرٍ مقبولٍ عند الإمام (علیه السلام) يُخرجه من لزوم التنفيذ رغم شمول الخطاب له.

ص: 80

الإضاءة السادسة: بنو هاشم!

ليس لدينا إحصائيّةٌ دقيقةٌ وتعدادٌ شاملٌ لذرّيّة هاشم (صلوات الله عليه) الّذين كانوا على قيد الحياة أيّام خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ومكّة وكربلاء، ولا إحصاء دقيق لأعمارهم، ومَن كان فيهم ممّن بلغ مبلغ الشباب بحيث يدخل في عِداد مَن يقوى على حمل السلاح..

غير أنّنا نستطيع أن نتّخذ نموذجاً كعيّنةٍ تمكّن المتلقّي أن يُخمّن أو يحتمل ما يبدو له، وسوف لا نتّخذ آل أبي طالب (علیهم السلام) عيّنةً توضيحيّةً هنا، إذ أنّهم كانوا ممّن سارعوا ولبسوا القلوب على الدروع، وتقدّموا يتهادَون إلى القتل بين يدَي سيّدهم وإمامهم، حتّى لم يبقَ منهم في ديارهم ديّاراً، ومن تخلّف منهم معدودٌ محصورٌ ونزرٌ قليلٌ لا نحتاج إلى التماس الأعذار لهم بعد أن عذرهم كبير آل أبي طالب وأئمّةُ الخلق (علیهم السلام) .

وسنأخذ القدر المتيقّن، ونترك المختلف فيه، رغم ورود أسمائهم في مصادر مهمّة وثبوت ذرّيّةٍ لهم مثلاً، كما سنترك ذكر النساء لينحصر الأمر في الذكور من بني هاشم.

فقد ذكروا لهاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة:

- عبد المطّلب بن هاشم.

- وأسد بن هاشم.

ص: 81

- وأبو صيفيّ بن هاشم.

- ونضلة بن هاشم.

هذا مِن وُلد هاشم.

ونأخذ عيّنةً أُخرى من أولاده الأربعة، وهم أولاد عبد المطّلب، فقد ولد عبدُ المطّلب بن هاشم عشرة نفرٍ وستّ نسوة:

- العبّاس.

- وحمزة.

- وعبد الله.

- وأبا طالب (واسمه عبد مناف).

- والزُّبير.

- والحارث.

- وحجلاً.

- والمقوّم.

- وضراراً.

- وأبا لهب.

ونأخذ عيّنةً من بين أولاد عبد المطّلب، وهم أولاد العبّاس، فقد ولد العبّاس:- الفضل.

- وعبد الله.

ص: 82

- وعُبيد الله.

- وتمام.

- وكثير.

- والحارث.

- وصبح.

- ومسهر.

- ومعبد.

- وقثم.

- وعبد الرحمان.

فولد عبدُ الله بن العبّاس:

- العبّاس.

- وعليّاً.

- وعُبيد الله.- والفضل.

- ومحمّداً ((1)).

وهؤلاء جميعاً أولدوا ونسلوا، ومنهم مَن انقرض بعد ذيل، ومن لم

ص: 83


1- أُنظر: السيرة النبويّة لابن هشام: 1 / 107، النسب لقاسم بن سلام (ت 244 ه-): 196 وما بعدها، الاشتقاق لابن دريد: 67، وغيرها من المصادر..

يدرج أو يمت من وُلد العبّاس يلزم أن يكون حيّاً حاضراً أيّام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو وأولاده، وكان في أحفاد العبّاس مَن بلغ مبلغ الرجال يومها..

والخطاب الوارد في كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) يشمل ذرّيّة هاشم أجمعين ممّن يصحّ مخاطبته، ولا يستثني منهم أحداً، فلا ينحصر الأمر حينئذٍ بقومٍ دون قومٍ منهم، ولا بفردٍ دون فرد.

الإضاءة السابعة: «مَن لحق بي استُشهد»
اشارة

مرّ معنا قبل قليلٍ أنّ الكتاب الشريف خاطب بني هاشم خاصّةً دون غيرهم، بشهادة «من» و «إلى»، فهو من الإمام الحسين (علیه السلام) إلى بني هاشم، وبشهادة «منكم» في لفظ رواية الإمام الصادق (علیه السلام) .

فهو يخاطب ثلّةً معيّنةً محدّدةً خاصّة، ويوجّه الكلام إليها ويقول:

• «فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلّف لميبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

ص: 84


1- بصائر الدرجات للصفّار: 501، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 577، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 84، العوالم للبحرانيّ: 17 / 318، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 239، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 235، اللهوف لابن طاووس: 65.

• «فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

ويمكن أن نتعرّف على ما ورد في هذا المقطع من الكتاب من خلال التنويرات التالية:

التنوير الأوّل: معنى «لحق»

قالوا:

اللَّحْقُ واللُّحُوق والإِلْحاقُ: الإِدراك.

لَحِقَ الشي ءَ وأَلْحَقَهُ، وكذلك لَحِقَ به وأَلْحَقَ لَحاقاً _ بالفتح _، أي: أدركه.

وتَلاحَقَ القوم: أَدرك بعضُهُم بعضاً، وتلاحَقَت الرِّكاب والمَطايا، أي: لَحِقَ بعضُها بعضاً.

واللَّحَقُ أَيضاً من الناس كذلك: قومٌ يَلْحَقُون بقومٍ بعْدَ مُضيِّهم.

لَحِقْتُهُ ولَحِقْتُ به أَلْحَقُ _ من باب تعب _ لَحَاقاً: أدركتُه، وألحقتُه مثله، وأَلْحَقْتُ زيداً بعمرو: أتبعتُه إيّاه.والأصل الواحد في المادّة: هو الوصول الى شيءٍ بعد أن كان

ص: 85


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.

منفصلاً ((1)).

التنوير الثاني: معنى «استُشهد»

اسْتَشْهَدَه: سأَله الشهادة.

الشَّهادَة: خَبرٌ قاطع، تقولُ منه: شَهِدَ الرجلُ على كذا، وشَهِدَ فلانٌ على فلانٍ بحقّ، فهو شاهدٌ وشهيد، واسْتُشْهِدَ فلان، فهو شَهِيدٌ.

والمُشاهَدَةُ: المعاينة، وشَهِدَه شُهوداً، أي: حَضَره، فهو شاهدٌ، وقَوْمٌ شُهُود، أي: حُضور، وشَهِدَ له بكذا شَهادةً، أي: أَدّى ما عنده من الشَّهادة، فهو شاهِد، وأَشْهَدْتُه على كذا فَشَهِدَ عليه، أي: صار شاهداً عليه، وأَشْهَدْتُ الرجل على إِقرار الغريم واسْتَشْهَدتُه بمعنىً، ومنه قوله (تعالى): ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ﴾ ((2))، أي: أَشْهِدُوا شاهِدَيْن، يقال للشاهد: شَهيد، ويُجمَع: شُهَداءَ، واسْتَشْهَدْتُ فلاناً على فلان: إِذا سأَلتُه إِقامة شهادةٍ احتملَها.

وأَصل الشهادة: الإِخْبار بما شاهَدَه.

والشاهِدُ والشَّهيد: الحاضر، والجمع شُهَداء.

والشَّهِيدُ: المقْتول في سبيل الله، والجمع شُهَداء.

ص: 86


1- أُنظر: لسان العرب وغيره من كتب اللّغة: لَحقَ.
2- سورة البقرة: 282.

والاسم: الشهادة، واسْتُشْهِدَ: قُتِلَ شهِيداً، وتَشَهَّدَ: طلب الشهادة ((1)).

وَفِي حَدِيثِ ذِكْرِ الشَّهِيدِ: «وَهُوَ مَنْ مَاتَ بَيْنَ يَدَيِ نَبِيٍّ أَوْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ، أَوْ قُتِلَ فِي جِهَادٍ سَائِغٍ».

قيل: سُمّي بذلك لأنّ ملائكة الرحمة تشهده، فهو شَهِيدٌ بمعنى مشهود. وقيل: لأن الله وملائكته شهودٌ له في الجنّة. وقيل: لأنّه ممّن استُشهد يوم القيامة مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) على الأُمم الخالية. وقيل: لأنّه لم يمت، كأنّه شَاهِدٌ، أي: حاضر، أو لقيامه بشهادة الحقّ في الله حتّى قُتل، أو لأنّه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة وغيرُه لا يشهدها إلى يوم القيامة، فهو فعيلٌ بمعنى فاعل ((2)).

التنوير الثالث: المحصَّل

المحصّل من مجموع ما قاله اللغويّون باختصار:

إنّ مَن تبع الإمام (علیه السلام) بعد خروجه من مكّة ولحقه واتّصل به بعد الانفصال عنه، سيُستشهَد معه.

والاستشهاد معه _ حسب ما ورد في كتب اللّغة _ : إمّا أنيكون

ص: 87


1- لسان العرب: شَهِدَ.
2- مجمع البحرين: شَهِدَ.

بمعنى أن يكون شاهداً معه على الأُمّة وعلى ما جرى عليه وعليهم، وأن يرتقي إلى مقام الشهادة بين يدَي الله، أو أن يكون بمعنى أن يُقتَل معه وبين يديه.

ويبدو أنّ الأخير هو الأظهر المتبادَر من السياق، فيؤخَذ به، وتُترك المعاني الأُخرى المحتمَلة بالبين، رغم ما لها من العلاقة الوثيقة أحياناً، والقريبة جدّاً من مقصودٍ محتملٍ بجدّ.

فهو يقول: مَن التحق به، فإنّه سيُقتَل معه..

الإضاءة الثامنة: «مَن تخلّف، لم يلحق بي»
اشارة

المقطع الثاني من الكتاب يتحدّث على فرض أن يتخلّف الهاشميّون أو لم يلحقوا به..

وربّما كان يتصوّر المتلقّي أنّ ثَمّة فرقاً بين التعبيرين الواردين في الحديثين.

فالتخلّف هو عدم لحاقٍ مطلقاً، والتثاقل والبقاء من دون أيّ حركةٍ أو تباعث، فيما يكون عدم اللحاق شاملاً لمن يتحرّك ويتباعث، وربّما ينطلق بَيد أنّه لا يُدرِك المطلوب، فهو يشمل مَن تأخّر حتّى فاته الوقت وإن لحق فيما بعد.لكن هو على كِلا التقديرين يلزم أن لا يبلغ، وأن لا يُدرِك، سواءً

ص: 88

أكان قد انبعث فيما بعد ولم يصل، أم أنّه لم ينبعث أبداً.

وسنحاول استكشاف الشقّ الثاني من الكتاب وما يحتويه من نفي الفتح عمّن تخلّف ولم يلحق، من خلال الإنارات التالية:

الإنارة الأُولى: معنى (الفتح) لغةً

قبل الدخول في ذكر الاحتمالات المتصوّرة في تفسير الشقّ الثاني وبيان مدلولاته، ينبغي التعرّف على معنى (الفتح) لغةً.

الفَتْح: نقيض الإغلاق.

والفَتْح: افْتِتاح دار الحرب.

والفَتْح: أن تَفْتَحَ على من يستقرئُك.

والفَتْح: أن تحكم بين قومٍ يختصمون إليك، كما قال (سبحانه) مُخبِراً عن شعيب: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ﴾ ((1))، أي: اقْضِ بيننا. ويقال للقاضي: الفَتَّاحُ؛ لأنّه يَفْتَحُ مواضع الحقّ.

والفَتْح: النصرة. قال (تعالى): ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ ((2)). واسْتَفْتَحْتُ اللهَ على فلانٍ، أي: سألتُه النصرَ عليه، ونحو

ص: 89


1- سورة الأعراف: 89.
2- سورة الأنفال: 19.

ذلك. وفَتَحَ السلطانُ البلاد: غلَبَ عليها وملَكَها قَهْراً. وفَتَحَ اللهُ على نبيِّه: نصَرَه.

والفُتْحة: تَفَتُّحُ الإنسان بما عنده من أموالٍ أو أدَبٍ يتطاولُ به، يُقال: ما هذه الفُتْحة الّتي أظهرتَها، وتَفَتَّحْتَ بها علينا.

وبابٌ فُتُحٌ، أي: واسع ((1))، وقارورةٌ فُتُحٌ: واسعة الرأْس بلا صِمامٍ ولا غِلاف، لأَنها تكون حينئذٍ مفتوحة.

وقوله (تعالى): ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ ((2))، قال الزجّاج: جاء في التفسير: قضينا لك قضاءً مبيناً، أي: حكمنا لك بإظهار دِين الإسلام وبالنصر على عدوِّك. قال الأَزهريّ: قال قُتادة: أي: قضينا لك قضاءً فيما اختار اللَّه لك من مُهادَنةِ أَهل مكّة وموادعتهم عام الحديبيّة.

والفَتَاحَةُ: النُّصْرَة.

وفاتَحَ الرجلَ: ساوَمَه ولم يُعطِه شيئاً.

والفُتْحَةُ: الفُرْجةُ في الشيء ((3)).

قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً﴾، قيل: هو فَتْحُ مكّة، وعده الله ذلك عند إرجاعه من الحديبيّة. وقيل: هو فَتْحُ خيبر. وقيل: فَتْحُ فارس

ص: 90


1- كتاب العين للفراهيدي: فَتَحَ.
2- سورة الفتح: 1.
3- لسان العرب: فَتَحَ.

والروم، وسائرُ فُتُوحِ الإسلام على العموم.

قوله: ﴿وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ ((1))، يعني: فَتْحَ خَيبر ((2)).

قال صاحب (التحقيق في كلمات القرآن) بعد استعراض معاني (فَتَحَ):

إنّ الأصل الواحد في المادّة: هو ما يُقابِل الإغلاق، أي: رفع الإغلاق والسدّ والحجب، وهذا المعنى يختلف باختلاف الموارد والموضوعات، مادّيّاً أو معنويّاً.

وسبق أنّ الغلق هو آخِرُ مرتبةٍ من الردم والسدّ والحجر والمنع.

فالفتح المطلق: كما في: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً * ويَنْصُرَكَ اللَّهُ﴾ ((3))، يُراد الفتح المطلق في مسير الرسالة وإجراء وظائف النبوّة وإبلاغ الأحكام الالهيّة، برفع الموانع المادّيّة والمعنويّة وكشف المغلقات وإزالة الأسداد، ثمّ التقوية والنصر.

فالمغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر من لوازم الفتح وآثاره.

وقد يكون النصر من مقدّمات الفتح في مرتبة الإيجاد لا الإبقاء، كما

ص: 91


1- سورة الفتح: 18.
2- مجمع البحرين: فَتَحَ.
3- سورة الفتح: 1 _ 3.

في:﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ﴾ ((1)).. ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ ((2)).

والفتح في المادّيّات: كما في: ﴿فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ ((3))، ﴿وآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ ((4)).

وفي المعنويّات: كما في: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ﴾ ((5))، فالمراد مطلق ما يقابل المشهود والحاضر.

والفتح في البلاء والعذاب: كما في: ﴿حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ ((6))، ﴿حَتَّى إِذا جاؤُوها فُتِحَتْ أَبْوابُها وقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾ ((7)).

والفتح في العالم الآخرة: كما في: ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وفُتِحَتْ أَبْوابُها﴾ ((8))، ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ

ص: 92


1- سورة النصر: 1.
2- سورة الصفّ: 13.
3- سورة القمر: 11.
4- سورة القصص: 76.
5- سورة الأنعام: 59.
6- سورة المؤمنون: 77.
7- سورة الزُّمَر: 71.
8- سورة الزُّمَر: 73.

الْأَبْوابُ﴾ ((1))، يُراد الفتح المناسب بعالم الآخرة، وليس بمادّيّ، ولا بروحانيٍّ صرف.

فظهر أنّ مفهوم الفتح في كلّ موردٍ بحسبه وعلى مقتضاه ...

وأمّا الْفَتَّاحُ: فهو من الأسماء الحسنى للَّه (عزوجل)، وهو الفتّاح المطلَق، وبيده أسباب الفتح قاطبة، وهو القادر العالم، يفتح أيّ مغلقةٍ في أيّ موضوعٍ وفي أيّ مرحلةٍ وفي أيّ عالم، مادّيّ، جسمانيّ، روحانيّ،ظاهريّ، باطنيّ، محسوس، معقول.

﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ ((2)).

ومن مصاديق الفتح: القضاء الحقّ في موردٍ جهل ولبس، وكشف الحقّ إذا خفي واشتبه، وإفاضة علمٍ ومعرفةٍ في مورد احتجاب، ورفع الانغلاق بأيّ صورةٍ وكشفه ((3)).

والفتح: ايجاد الفصل بين شيئين لفائدةٍ تترتّب عليه، كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه، والفتح بين الشيئين ليتميّز كلٌّ منهما عن الآخر بذاته وصفاته وأفعاله ((4)).

ص: 93


1- سورة ص: 50.
2- سورة سبأ: 26.
3- التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 9 / 17.
4- تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 375.

* * * * *

هذه هي موارد استعمال لفظ (الفتح) في اللغة، وإن كانت ثمّة موارد أُخرى أعرضنا عن ذِكرها؛ لأنّها بعيدةٌ عن المعنى المقصود في السياق، وهي بالتالي ترجع عاقبةً إلى المعنى الأصليّ للفتح، وهو ما ناقض الإغلاق.

وقد رأينا (الفتح) مستعمَلاً بمعنى القضاء في النصوص الشرعيّة، كما ورد في دعاء أمير المؤمنين يوم صفّين، إذ قال نصر قيس بن الربيع، عن عبد الواحد بن حسّان العجليّ، عمّن حدّثه، عن عليٍّ (علیه السلام) أنّه سمعهيقول يوم صفّين: «اللّهمّ إليك رُفعَت الأبصار، وبُسطَت الأيدي، ونُقلَت الأقدام، ودعت الألسن، وأفضت القلوب، وتُحوكم إليك في الأعمال، فاحكمْ بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خيرُ الفاتحين. اللّهمّ إنّا نشكو إليك غيبةَ نبيّنا، وقلّة عددنا، وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، وشدّة الزمان، وظهور الفتن، أعِنّا عليهم بفتحٍ تعجّلُه، ونصرٍ تعزُّ به سلطانَ الحقّ وتُظهِرُه» ((1)).

فقوله (علیه السلام): «وتُحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خيرُ الفاتحين»، يفيد: فاحكم بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خيرُ الحاكمين.

واستُعمل في نفس النصّ بمعنى الظفَر والغلَبة في الحرب، في قوله:

ص: 94


1- وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 231.

«بفتحٍ تعجّلُه، ونصرٍ تعزُّ به سلطانَ الحقّ وتظهرُه».

وكذا ورد في كلام الأشتر يومها، إذ قال: فإنّما أنتم على إحدى الحسنَيَين، إمّا الفتح وإمّا الشهادة ((1)).

وكذا في حديث الإمام الصادق (علیه السلام) وهو يُخبِر عن وقعة أهل وادي اليابس والغلبة الّتي كتبها الله لأمير المؤمنين (علیه السلام) على أعدائه، فقال _ في حديثٍ طويل _ : «ونزل جبرئيل (علیه السلام) فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما فتح الله بعليّ (علیه السلام) وجماعة المسلمين، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر، فحمد اللهوأثنى عليه، وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين، وأعلمهم أنّه لم يُصِبْ منهم إلّا رجلين، ونزل» ((2)).

ووردَت بمعنى الظفَر والغلبة والنصر أيضاً في (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام))، قال: «يستفتحون: يسألون الله الفتح والظفَر على الّذين كفروا من أعدائهم والمناوين لهم، فكان الله يفتح لهم وينصرهم» ((3)).

ورُوي عن بسطام، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال له رجل: جُعلتُ فداك، أيلتزم الرجل أخاه؟ فقال: «نعم، إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم افتتح خيبر أتاه الخبر أنّ جعفراً قد قدم، فقال: واللهِ ما أدري بأيّهما أنا أشدُّ

ص: 95


1- وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 239.
2- تفسير القمّيّ: 2 / 437.
3- تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام): 393.

سروراً، أبقدوم جعفر، أو بفتح خيبر؟» ((1)).

ووردَت بمعنى الفتح الأعظم والنصر الأكبر الّذي ادّخره الله للقائم من آل محمّد (صلی الله علیه و آله)، فقد جاء في تفسير قوله (تعالى): ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ ((2))، يعني في الدنيا بفتح القائم ((3)).

ورُوي مُسنداً عن أبي بصيرٍ قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنّ سنن الأنبياء (علیهم السلام) بما وقع بهم من الغَيبات حادثةٌ في القائم منّا أهلَ البيت، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة». قال أبو بصير: فقلت: يا ابن رسول الله، ومَن القائم منكم أهل البيت؟ فقال: «يا أبا بصير، هو الخامس مِن وُلد ابنيموسى، ذلك ابنُ سيّدة الإماء، يغيب غَيبةً يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يُظهره الله (عزوجل)، فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روحُ الله عيسى ابنُ مريم (علیه السلام) فيصلّي خلفه، وتُشرق الأرضُ بنور ربّها، ولا تبقى في الأرض بقعةٌ عُبد فيها غيرُ الله (عزوجل) إلّا عُبد الله فيها، ويكون الدين كلّه لله ولو كره المشركون» ((4)).

ورُوي مسنداً عن ابن درّاج قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول في

ص: 96


1- تهذيب الأحكام للطوسيّ: 3 / 186.
2- سورة الصفّ: 13.
3- تفسير القمّيّ: 2 / 366.
4- كمال الدين للصدوق: 2 / 345.

قول الله (عزوجل): ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ ((1))، قال: «يوم الفتح: يوم تُفتَح الدنيا على القائم، لا ينفع أحداً تقرّب بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الّذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله قدرُه وشأنه، وتُزخرف له يوم البعث جنانُه، وتُحجَب عنه فيه نيرانُه، وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين ولذرّيّته الطيّبين (صلوات الله عليهم أجمعين)» ((2)).

وورد في حديثٍ: «فيفتح اللهُ له شرقَ الأرض وغربها» ((3)).

وفي (إلزام الناصب):

الفتح: عن تفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾، أنّ المراد بالفتح هو فتح قائم آلمحمّد (صلی الله علیه و آله) .

وعن كتاب (تنزيل وتحريف) لأحمد بن محمّد السيّاريّ، في آية ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْح﴾، أنّ المراد بالفتح فتحُ قائم آل محمّد ((4)).

والظاهر من جميع هذه الاستعمالات الّتي ذكرها اللغويّون، والّتي

ص: 97


1- سورة السجدة: 29.
2- تأويل الآيات الظاهرة للأستراباديّ: 438.
3- بحار الأنوار: 52 / 390.
4- إلزام الناصب: 1 / 430.

وردَت في جملة النصوص الشرعيّة، أنّ للفتح معنىً محدَّداً واضحاً لا غبار عليه، ولا يقبل التلاعب به، ويمنع من إضافة خصوصيّاتٍ ومداليل وحشرها تحت اللفظ، سواءً ساعدَت عليه اللغة أَم أبت ذلك.

فإذا أردنا التوسّع في الاستعمال، فلا مناص من التقيّد بالأصل اللُّغويّ للمفردة، فلا يمكن أن يُستعمَل اللفظ في ما هو أخصّ من الوضع أو أعمّ منه، إلّا إذا نُصبَت قرينةٌ صارفةٌ تفيد ذلك، أمّا الإطلاق فلا يعدو الأصل اللغويّ بحال، ولا يصحّ مثل ذلك الاستعمال الاختراعيّ التبرّعيّ.

فلو قيل مثلاً: إنّ الفتح هو الظفَر بالشيء، أو الظفر والغلبة على بلدٍ ما أو في معركةٍ ما، فهو صحيحٌ تساعد عليه اللغة، وإذا أردنا التوسّع فجعلنا الفتح هو ما يفتح الله به من الرزق والفوز بالمكرمات والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فهو ممكنٌ أيضاً، لأنّ موارد استعمال هذه المفردةتحوم حول هذه المعاني في الجملة إذا لحظنا جميع الموارد المذكورة في كتب اللغة.

أمّا أن يقال مثلاً: إنّ الفتح أخصّ من الغلبة والنصر والظفر، وهو لا يعني إلّا الموقف الّذي يؤدّي إلى آثار ونتائج محمودةٍ مطلوبةٍ في تحقيق الهدف الأسمى، بحيث لا يكون النصر والغلبة في الميدان فتحاً ما لم يحقّق تلك الأهداف ويثمر تلك النتائج، إذ أنّ هذه الغلبة لا تكون فتحاً، ولا يكون المشارك في تحقيق تلك الغلبة فاتحاً، فهو خروجٌ عن معاجم اللغة

ص: 98

وموارد الاستعمال، وتحميلٌ واضحٌ فاضحٌ تأباه اللغة، ويستعصي على القائل حشد الشواهد على مراده من موارد الاستعمال!

أجل، يمكن أن يوسّع المعنى بما يناسب الأصل اللغويّ، كأن يُطلِق على الفوز بالموقف النبيل والمشهد الجليل فتحاً، أو يختار المؤمن ما يرتقي به إلى حُسن العاقبة والظفر بالجنّة ويُساق إليها فتُفتَّح له أبوابها، وهكذا.. فإنّها تدخل بنحوٍ ما تحت عنوان الفتح والظفر والرزق، وما ساوقها من المعاني بما فيها الشهادة في سبيل الله وفي رضى الإمام الحقّ، فإنّها ظفرٌ وفتحٌ لأبواب الخير في الدنيا والآخرة له ولأهله وقومه وأُمّته ودِينه، من دون تحجيمٍ للمعنى في حصّةٍ خاصّةٍ من حصص الشهادة والقتل في سبيل الله.

الإنارة الثانية: مَن هو الشهيد الفاتح؟!
اشارة

يمكن أن يُفهم (الشهيد الفاتح) و(الشهادة الفاتحة) بمعنيَين:

المعنى الأوّل: المعنى الملائم للُّغة

إذا فهمنا الفتح بمعنى فتحٍ مقابل إغلاق، وبمعنى الظفر والغلبة والاستيلاء، سواءً أكان مادّيّاً، كالظفر والغلبة والاستيلاء على بلدٍ ما، أو دفع العدوّ عنه ومنعه من الاستيلاء عليها والغلبة عليها بالقهر والقوّة، أو دفع العدوّ ومنعه من الوصول إلى الرمز وقتله، كدفاع أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أُحُد، أم معنويّاً، من قبيل الظفر بالعاقبة

ص: 99

الحسنة والجنّة، ومحو الذنوب والمغفرة، ورضى الله ورضى الإمام المعصوم (علیه السلام)، وغيرها، والفوز بذلك جميعاً..

فحينئذٍ سيكون كلّ شهيدٍ في طريق الحقّ وعلى الصراط المستقيم هو فاتح، وتكون شهادته فتحاً، إن فتحاً خاصّاً أو فتحاً عامّاً.

فشهداء بدر _ مثلاً _ شهداء فاتحون على المستويَين الفرديّ والعامّ، إذ أنّهم منعوا العدوّ من اقتناص فرصة قتل النبيّ (صلی الله علیه و آله) في تلك المعركة، ودافعوا عن المدينة المنوّرة وأهلها، ومنعوا العدوّ من الاستيلاء عليها والغلبة عليها بالقهر والقوّة.

وكذا الحكم في جميع المعارك الّتي جرت أيّام رسول الله (صلی الله علیه و آله)،فإنّها جميعاً كانت دفاعيّةً صدّت العدوّ عن قتل الحقّ ورجاله، وأبعدَتهم عن ديار الحقّ وأهله، وهي جميعاً أهدافٌ حاسمةٌ ومؤثّرةٌ في حاضر الدعوة ومستقبلها، وقد تحقّق فيها الفتح بهذا المعنى، ولم تكن معِدّةً ومهيِّئةً على نحو المقدّمة لفتحٍ آخَر، كما سيأتي بيانٌ أوضح لذلك بعد قليل..

كما أنّهم _ أي شهداء بدر، وغيرهم _ قد حقّقوا الأهداف الشخصيّة المقدّسة من الفوز بالكرامة والجنّة والرضوان والسعادة بالفداء من أجل بقاء مَن هو أهمّ وأشرف وأعظم منهم، وسعدوا بالدفاع عن الأهل والعيال والنساء والأعراض والأموال، وغيرها من المقاصد على اختلاف رتبها من دنيويّةٍ مشروعةٍ إلى أُخرويّةٍ تتسامى، حتّى تبلغ الظفر برضى الإمام المعصوم (علیه السلام) ورضوان الله (تعالى)، والاستيلاء على مقاعد

ص: 100

الصدق عند المليك المقتدر وفتح الجنان والمنازل الّتي أعدّها الله الغفور المنّان.

فكلّ شهيدٍ قُتل في سبيل الله مخلصاً شهادته فتح، وهو فاتح، والفرق في سعة الفتح وضيقه وعمومه وخصوصه.

أوَليس الفوز العظيم فتح؟! وقد قال الله (تعالى): ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ والْإِنْجيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَاللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ * التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنين﴾ ((1)).

إلى أن يقول (عزوجل): ﴿ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدينَةِ ومَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سَبيلِ اللَّهِ ولا يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغيظُ الْكُفَّارَ ولا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنينَ﴾ ((2)).

ص: 101


1- سورة التوبة: 111 و112.
2- سورة التوبة: 120.

وقد نصّت الآية الأخيرة أنّ الدفاع عن شخص النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومنع التخلّف عنه أمرٌ إلهيٌّ منصوص، ولا شكّ أنّ تحقيقه فتحٌ عظيم.

أوَلا يدخل في معنى الفتح ومصاديقه قوله (تعالى): ﴿أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَديرٌ * الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ولَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ ((1)).

وكذا قوله (تعالى): ﴿وَالَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَعَلى مُحَمَّدٍ وهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وأَصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وأَنَّ الَّذينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ * فَإِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ والَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْديهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ * والَّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ

ص: 102


1- سورة الحجّ: 39 و40.

فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ﴾ ((1)).

وقوله (تعالى): ﴿يُريدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ * وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَريبٌ وبَشِّرِالْمُؤْمِنينَ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصاري إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَني إِسْرائيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرين﴾ ((2)).

والآيات في هذا المعنى كثيرة..

أوَليس الظفر بأيّ وعدٍ من وعود الله _ الّذي لا يُخلِف الميعاد _ الوارد في هذه الآيات المباركة يُعدّ فتحاً، فرديّاً كان أم عامّاً؟

المعنى الثاني: إرادة معنىً خاصّ
اشارة

يمكن توضيح المراد من هذا المعنى الخاصّ المزعوم في المقام من

ص: 103


1- سورة محمّد (صلی الله علیه و آله): 2 _ 9.
2- سورة الصفّ: 8 _ 14.

خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: المراد بالمعنى الخاصّ!

قد يُزعَم أنّ المراد بالفتح معنىً أخصّ ممّا ذُكر في كتب اللغة وموارد الاستعمال المأثورة المعروفة، بأن يُعنى بالفتح:

نوعاً من الغلبة يُثمِر تغييراً حاسماً ومنعطَفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح ... فكلّ فاتحٍ غالب، وليس كلُّ غالبٍ فاتحاً ((1)).فإنّ هذا المعنى الأخصّ لا شاهد عليه ولا دليل من اللغة، ولا من الاستعمالات الشرعيّة، ومتى ما استُعمل لفظ (الفتح) أُخذ بنظر الاعتبار النصر والغلبة والقضاء والفصل، وغيرها من المعاني المذكورة للفتح في كتب اللغة، حتّى في مِثل صلح الحديبيّة إنّما سمّاه البعض _ كقولٍ بين الأقوال الأُخرى _ فتحاً؛ لأنّه كان غلبةً ونصراً على العدوّ من دون قتالٍ أدّى إلى فتح مكّة، وهكذا كان يُفهَم من معنى الفتح إذا أُطلِق _ وفق قولٍ من الأقوال _.

فاستُعمل الفتح في صلح الحديبيّة بمعنى الغلبة والنصر أيضاً، إذ أنّ النصر والغلبة قد تتحقّق بالقتال، وقد تتحقّق بالمفاوضات والصلح بعد إرعاب العدوّ وإخافته، وقد ورد هذا المعنى في الأخبار كثيراً، منها ما

ص: 104


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

أخرجه العلّامة الطباطبائيّ في كتابه (الميزان)، قال:

وفي (الدرّ المنثور): أخرج البيهقيّ، عن عروة قال:

أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من الحديبيّة راجعاً، فقال رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): واللهِ ما هذا بفتح، لقد صُددنا عن البيت وصُدّ هديُنا، وعكف رسول الله بالحديبيّة وردّ رجلين من المسلمين خرجا.

فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قول رجالٍ من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بئس الكلام! هذا أعظم الفتح؛ لقد رضيَ المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم،ويسألوكم القضيّة، ويرغبون إليكم في الإياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردّكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح. أنسيتم يوم أُحُد إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أُخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغَت القلوبُ الحناجر، وتظنّون بالله الظنونا؟».

قال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم الفتوح، واللهِ يا نبيَّ الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه، ولَأنت أعلم بالله وبالأُمور منّا.

فأنزل الله سورة الفتح ((1)).

ص: 105


1- تفسير الميزان للطباطبائيّ: 18 / 270.

ويبدو واضحاً من فهم هؤلاء لمعنى الفتح، والجواب الّذي أجابهم النبيّ (صلی الله علیه و آله)، إذ أبان لهم أنّه حقّق لهم نصراً وأظفرهم الله على عدوّهم دون قتال.

لكن بغضّ النظر عن فقدان الدليل والشاهد على تخصيص معنى الفتح بمعنىً خاصٍّ مرادٍ دون غيره، وإن كان ذلك، فهو معنىً بين المعاني ومصداقٌ بين المصاديق يحتاج إلى قرائن داخليّةٍ أو خارجيّةٍصارفةٍ للدلالة عليه وإرادته في موردٍ دون غيره.

أمّا أن ينحصر معنى الفتح بمعنىً دون غيره، فهذا تحميلٌ مُجحفٌ تأباه اللغة، وتتمنّع عليه موارد الاستعمال، وترفضه الشواهد رفضاً باتّاً.

سيّما أنّ مَن ذكر هذا المعنى الخاصّ قد ذكره على نحو الاحتمال، فقال:

غير أنّ (الفتح) أخصُّ من الغلَبة، إذ كم مِن غلبةٍ لم تُثمِر فتحاً، هذا إذا عنينا بالفتح نوعاً من الغلبة يُثمِر تغييراً حاسماً ومنعطَفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح ((1)).

وهو وضعٌ جديدٌ خارجٌ عن دائرة اللغة، وإنّما هو معنىً قد نكون عنيناه!

فكيف يمكن والحال هذه أن يُبنى عليه تفسير أعظم حدَثٍ كونيّ

ص: 106


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

على الإطلاق، تكشّف عن وقوع أعظم جنايةٍ في تاريخ البشريّة، ووقوع أعظم مصيبةٍ على الإطلاق في مسيرة الإنسان منذ أن هبط إلى الأرض إلى قيام يوم الدين؟!

المتابعة الثانية: التغيير بغضّ النظر عن القتل

إن كان المراد من الفتح «هو نوعاً من الغلَبة يُثمِر تغييراً حاسماًومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح»، سواءً لزم القتل والقتال أم لا، فحينئذٍ ستكون جميع مواقف الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) الّتي صاحبَت إظهار المُعجِز فتحاً، إذ ينحسر الأعداء أمام المعجِز ويندحرون وينكسرون، ويُثمِر المعجز غلبةً تُثمِر تغييراً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح، وخُذ على ذلك مثلاً ما ذكره القرآن من معاجز موسى وعيسى (علیهما السلام)، فضلاً عن معاجز خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) ومعاجز سيّد الأوصياء (علیه السلام) وأبنائه المعصومين النجباء (علیهم السلام) .

بل متى أفلجَت حُجّةٌ على حجّةٍ فإنّها نوعٌ من أنواع الفتح والغلبة، سيّما إذا كان الفلج في موقفٍ خاصّ، كما ذكر القرآن في محاججات إبراهيم (علیه السلام) قومه في واقعة تحطيم الأصنام، وقوله: «سلوهم إن كانوا ينطقون»، ومحاججته الّذي كفر إذ قال: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

ص: 107

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر﴾ ((1))، وهكذا في غيرها من الموارد..

المتابعة الثالثة: أن يكون قتلاً يترتّب عليه نوعٌ من الغلَبة

لنفترض فرضاً آخر، وهو أن يكون قتلاً «يترتّب عليه نوعٌ من الغلَبة ويُثمِر تغييراً وتحوّلاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح»، فإنّالقتل مطلَق القتل، أو القتل في ميدان المعركة قد يكون قتلاً لعدوّ الله، وتترتّب عليه هذه الغلبة والثمرة، كما حصل في قتل داوود جالوت في القصص القرآنيّ: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ

ص: 108


1- سورة البقرة: 258.

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍلَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ((1)).

وكما حصل في قتل عمرو بن ودّ الّذي كان يمثّل الشرك كلّه، والّذي أدّى قتله إلى اندحار الكفّار والأحزاب، إذ كان الإيمانُ كلُّه والشركُ كلُّه متقابلَين، وبعد أن قُتل الشركُ كلُّه أثمر هذا القتل _ بغضّ النظر عن القاتل _ فتحاً من أعظم الفتوح في تاريخ الإسلام.

المتابعة الرابعة: أن تكون شهادةً في الحقّ والمقتول مظلوماً
اشارة

إذا كان المقصود الشهادة، وأن يكون المقتول مظلوماً، فإنّنا إن بحثنا عن موارد وأمثلةٍ وعيّناتٍ ونماذج لمثل هذا القتل الّذي يكون فيه الفتح، نجده كثيراً في التاريخ منذ أن هبط آدم (علیه السلام) إلى الأرض إلى قيام الوليّ الخاتم والفاتح الأعظم صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

ص: 109


1- سورة البقرة: 247 _ 252.
النموذج الأوّل: هابيل

هذا هابيل (علیه السلام) كان قتله فتحاً عظيماً كما حدّث القرآن الكريم، فقال الله (تعالى): ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ * إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ((1)).

فلولا هذا القتل العدوانيّ وشهادة هابيل، لَكان الكثير ممّا ذكرته

ص: 110


1- سورة المائدة: 27 _ 34.

الآيات كنتائج وآثار له بقيَت في طيّ الكتمان، ولحُرم منها بنو آدم والبشريّة جمعاء، من قبيل تعليم الإنسان دفن الإنسان، وسنّ قانون القصاص، وبيان الحسد وآثاره، وطريقة التقرّب إلى الله، وغيرها منالآثار الحاسمة المهمّة المترتّبة على هذا القتل.

وربّما يُقال: إنّ هذه الآثار الحاسمة لم تكن مقصودةً لهابيل، فلا يصدق عليها أنّها أثارٌ حاسمةٌ للفاتِح.

أجل، بَيد أنّه كان قد اختار الشهادة اختياراً: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، وكان يقصد من هذا الاختيار هدفاً خاصّاً قد تحقّق بالفعل: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾.

النموذج الثاني: شهادة يحيى (علیه السلام)

وفي شهادة يحيى (علیه السلام) مثَلٌ آخَر أقرب، إذ أنّه كان دعوة أبيه لتكون له أُسوةٌ بالحسين (علیه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف..

قتل يحيى الّذي طالما تمثّل به سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَثّل به شهادته، ولو لم يكن فيه من الفتح إلّا أنّ يكون قتله مثلاً لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وبراءته وهجوم العدوّ عليه، وغيرها من المقاصد الّتي أتينا على ذِكرها مفصّلاً بذكر المصادر فيما سبق، لَكان كافياً ليكون نموذجاً ومثالاً

ص: 111

صارخاً لكون شهادته عين (الفتح)!

وليس بالضرورة أن يكون الفتح سريعاً عاجلاً، فإنّه فتح الفتوح وإن تأخّر، إذ صار شاخصاً مائزاً عظيماً على بيان مظلوميّة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)، ومعلَماً لكلّ مَن أراد أن يفهم ما جرى علىالإمام الحسين (علیه السلام) .

ولا نريد إطالة المقام بذكر الشواهد والأمثلة لذلك، ونكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة من تاريخ الإسلام، على نحو المثال لا الاستقصاء.

النموذج الثالث: مبيت أمير المؤمنين (علیه السلام)

فإنّ مبيت أمير المؤمنين (علیه السلام) في فراش النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وإلقاء نفسه القدسيّة في لهوات الموت، وطرحها لقمةً سائغةً لسيوف القوم في تلك الليلة العصيبة، يُعدّ مِن أعظم مصاديق الفتح بهذا المعنى، إذ أنّ قتله كان وارداً على نحوٍ لا يقبل الترديد، وأنّه (علیه السلام) شرى نفسه تلك الليلة لله ابتغاء مرضاته، وقد عامله الله (عزوجل) معاملة مَن باع نفسه له، وقَبِل هو (سبحانه) البيع، وتمّت الصفقة، فهو في عِداد المقتولين.

وقد رضيَ الإمام (علیه السلام) بالقتل لِيسلم النبيّ (صلی الله علیه و آله)، لولا أن شاء الله له السلامة والنجاة من سيوف الكفّار، فهو قتلٌ كاد أن يتحقّق، وكان في هذا القتل نفسه نموذجٌ لشهادةٍ هي عين (الفتح)!

ص: 112

النموذج الرابع: شهداء بدر

شهداء بدر (رضی الله عنهم)، فإنّهم شهداء فاتحون، قد حقّقوا الفتح بشهادتهم، إذ أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) دعا ذلك اليوم وخاطب ربّه قائلاً بعد رفعيده إلى السماء: «يا ربّ، إن تُهلِك هذه العصابة لم تُعبَد، وإن شئتَ أن لا تُعبَد لا تُعبَد» ((1)).

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب:

وقال النبيّ (صلی الله علیه و آله) في العريش: «اللّهمّ إنّك إنْ تُهلِك هذه العصابة اليوم لا تُعبَد بعد اليوم» ((2)).

وكان نجاة العصابة وعدم هلاكها يتوقّف على قتل جماعةٍ منهم في الدفاع عن الجميع، فلو لم يقف أُولئك الأبطال ذلك الموقف المشرّف حتّى نيل درجات الشهادة الرفيعة، لَهلكَت تلك العصابة، ولم يكن الله ليُعبَد في الأرض.

هذا بالإضافة إلى الآثار العظيمة الّتي لا تكاد تُحصى، الّتي ترتّبَت على شهادة أُولئك الروّاد الأوائل الّذين أضحوا مقياساً لكلّ شهيدٍ قُتل في سبيل الله، فيُقال: مضى على ما مضى عليه البدريّون..

ص: 113


1- تفسير القمّيّ: 1 / 266. ولا يكاد مصدرٌ من مصادر المسلمين القديمة يخلو من ذكر هذا الدعاء.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 1 / 163.

فقد تركّزت قوّة المسلمين في أذهان الكفّار، وعرف الأعداء ما بين جوانح المؤمنين من ثباتٍ وعزيمةٍ ورسوخٍ واعتقادٍ متمكّنٍ في الأعماق بالله والمعاد والمسارعة إلى الجنان، فكلّ شهيدٍ من شهداء بدر أثبت بشهادته ما لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ودِينه في قلوب أتباعه، وأنّهم أصبحوا قوّةًيمكنها أن تكتسح العدوّ في أيّ لحظة، وأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) صاحب الدعوة الّتي حاربوا أتباعها كمستضعفين قد أصبح في عدّةٍ وعدد، وغيرها من عشرات الفوائد العظيمة والثمرات الحاسمة الفاصلة الّتي ميّزَت بين فترتين من فترات التاريخ الإسلاميّ، وقد كُتب في ذلك الكتب والمؤلّفات، واستعرضها المفسّرون والمؤرّخون بما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

وكذا ورد هذا الدعاء في حرب الخندق، إذ قال النبيّ (صلی الله علیه و آله): «اللّهمّ إنْ تُهلِك هذه العصابة لم تُعبَد بعدها في الأرض» ((1)).

وكذا أصحاب أُحُدٍ وخَيبر، الّذين دعا فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) كما دعا لأصحاب بدر.

النموذج الخامس: شابٌّ في معركة الجَمَل

في الشابّ الّذي خرج بين الصفَّين في معركة الجمَل نموذجٌ آخَر..

فقد ورد في كتب الرواية والتاريخ:

ص: 114


1- الخرائج والجرائح للراونديّ: 1 / 156.

إنّ أمير المؤمنين عليّاً (علیه السلام) دعا مَن يأخذ المصحف، فيدعو أتباعَ الجمَل على أن يضمن له على الله الجنّة، فقام إليه شابٌّ عليه قباءٌ أبيض حدَث السنّ، يُقال له: مسلم، فأعرض عنهالإمام (علیه السلام) إشفاقاً مرّتين، وهو يقول: أنا أعرضه _ يا أمير المؤمنين _ عليهم، وقد احتسبتُ نفسي عند الله. والإمام (علیه السلام) يؤكّد له مرّةً بعد مرّةٍ أنّه مقتول، وهو يقبل، ثمّ خوّفه بقطع يمينه وشماله وقتله، فقال: لا عليك يا أمير المؤمنين، فهذا قليلٌ في ذات الله.

فدفع المصحف إليه وقال: «امضِ إليهم، واعرضْه عليهم، وادعُهُم إلى ما فيه».

فأخذه، فأقبل الغلام حتّى وقف بإزاء الصفوف، ونشر المصحف ودعاهم إلى الله، وقال: هذا كتاب الله، وأميرُ المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه. فقُطعَت يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فقُطعَت، فأخذه بأسنانه.

فقالت عائشة: اشجروه بالرماح، فقبّحه الله. فتبادروا إليه بالرماح، فطعنوه من كلّ جانب، وتقدّم إليه رجلٌ فضربه على عاتقه بالسيف فقتله.

وكانت أُمُّه حاضرة، فصاحت وطرحَت نفسها عليه، وجرّته من موضعه، ولحقها جماعةٌ من عسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) أعانوها على حمله، حتّى طرحَته بين يدَي أمير المؤمنين (علیه السلام)،

ص: 115

وهي تبكي وتقول:يا ربِّ، إنّ مسلماً دعاهم

يتلو كتابَ الله،

لا يخشاهم

فخضّبوا مِن دمه قناهم

وأُمُّهم قائمةٌ

تراهم

تأمرهم بالقتل لا تنهاهم

فزمّلوه،

زُمِّلَت لحاهم ((1))

إنّ هذا الفتى الشجاع المتفاني في أمير المؤمنين (علیه السلام)، المؤمن حقّاً بوعده، قد استقبل الموت استقبالاً، واختار الشهادة اختياراً، وهو يعلم علم اليقين أنّه مقتول، وبهذه الصورة المفجِعة، وأُمّه قائمة تنظر إليه، غير أنّه علم أنّ في نفس قتله وشهادته ظفراً وفتحاً، وليفترضه المفترض كما يشاء، مِن قبيل إتمام الحجّة، وفضح العدوّ وجرأته على الله وعلى كتابه وعلى الدماء المحرّمة، أو أيّ ثمرةٍ وهدفٍ يمكن أن يُفترض في مثل هذا الموقف..

إنّه علم أنّه مقتولٌ شهيدٌ لا محالة، وعلم أيضاً أنّ في نفس قتله وشهادته مصلحةً وثمرةً وفائدةً وحسماً وأثراً بالغاً، فكانت شهادته هي عين (الفتح)!

ص: 116


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 240، تاريخ الطبريّ: 3 / 522، مروج الذهب للمسعوديّ: 2 / 361، الجَمَل للشيخ المفيد: 181، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2 / 341، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 261، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9 / 112.
النموذج السادس: شهادة عمّار (رضی الله عنه) في صفّين

مثالٌ آخَر واضحٌ جدّاً، يكاد يكون أبرز مثالٍ على (الشهادة الّتي هي عين الفتح)، وإذا كانت الأمثلة المذكورة آنفاً كلّها قابلةً للنقاش، فإنّهذا المثال لا تقاربه مناقشة، ولا يعتريه تشكيك..

وهي: شهادة عمّار بن ياسر!

لقد تظافر الجميع على رواية قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) في عمّار، وأنّه لا يفارق الحقّ، وأنّ النار لا تأكله، وأنّه جلدة بين عينيه (صلی الله علیه و آله)، وأنّ آخر شرابه من الدنيا ضياحٌ من لبن، وأنّه تقتله الفئة الباغية ((1))..

وكان عمّار يوم صفّين قد جاوز التسعين من عمره..

وكان بعض مَن خرج إلى صفّين يقف على الحياد، وبعضهم يمتّنع عن الصلاة خلف إمام، متزلزلاً ينتظر أن يتبيّن له الحقّ..

وكان عمّار يدعو ويقول عند توجّهه إلى صفّين:

اللّهمّ لو أعلم أنّه أرضى لك أن أرمي بنفسي من فوق هذا الجبل لَرميتُ بها، ولو أعلم أنّه أرضى لك أن أُوقد لنفسي ناراً فأُوقع فيها لَفعلت، وإنّي لا أُقاتل أهلَ الشام إلّا وأنا أُريد بذلك

ص: 117


1- أُنظر: مناقب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمحمّد بن سليمان الكوفيّ: 2 / 351، المسترشد للطبريّ الإماميّ: 658، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 1 / 410، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسيّ: 105، كنز العمّال للهنديّ: 13 / 160.

وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيّبني، وأنا أُريد وجهك الكريم ((1)).

وقال يوم قُتل في صفّين: ائتوني بشربة لبن. فأُتي فشرب، ثمّ قال:إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إنّ آخر شربةٍ تشربها من الدنيا شربة لبن».

ثمّ تقدّم، فقُتِل، فلمّا قُتل أخذ خزيمة بن ثابت بسيفه فقاتل، وقال: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يقتل عماراً الفئة الباغية، وقاتله في النار» ((2)).

ورُوي في حديثٍ عن الباقر (علیه السلام)، قال:

قلت: وما علمُه أنّه يُقتَل في ذلك اليوم؟

قال: «إنّه لمّا رأى الحرب لا يزداد إلّا شدّة، والقتلَ لا يزداد إلّا كثرة، ترك الصفّ وجاء إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، هو هو؟ قال: ارجعْ إلى صفّك. فقال له ذلك ثلاث مرّات، كلّ ذلك يقول له: ارجعْ إلى صفّك، فلمّا أن كان في الثالثة قال له: نعم، فرجع إلى صفّه، وهو يقول:

اَليومَ ألقى الأحبّة

محمّداً وحزبَه» ((3))

ص: 118


1- بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 9.
2- بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 10.
3- بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 11 ح 371 _ عن: رجال الكشّيّ.

فهو في كلّ ذلك كان يذكّر الناس بما قاله النبيّ (صلی الله علیه و آله) رغم اشتهاره بينهم، ويهيّأ الظروف والأجواء ليفتح بشهادته فتحاً عظيماً نادراً..فما عسى أن يُقتَل عجوزٌ في التسعين من الأعداء، ويبيد من تلك الجيوش الجرّارة الّتي زحف بها معاوية إلى صفّين؟!

إنّه كان يعلم علم اليقين أنّه إن قُتل فتح على القوم في كِلا الطرفَين، وصدّق بشهادته قولَ الصادق الأمين (صلی الله علیه و آله)، وشهد للحقّ ولأمير الحقّ (علیه السلام) بشهادته: أنّ الفئة الباغية إنّما هي فئة معاوية..

وبالفعل، فقد أحدثت شهادتُه هزّة، وفتحَت فتحاً، فقد ورد في حديثٍ طويلٍ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«لمّا قُتِل عمّار بن ياسر (رحمة الله) فارتعدَت فرائص خلقٍ كثير، وقالوا: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عمّار تقتله الفئة الباغية.

فدخل عمرو على معاوية [لعنه الله] وقال: يا أمير المؤمنين! قد هاج الناس واضطربوا. قال: لماذا؟ قال: قُتِل عمار.

فقال معاوية [لعنه الله]: قُتِل عمار، فماذا؟ قال: أليس قد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عمّار تقتله الفئة الباغية!» ((1)).

ورُوي مُسنَداً عن أبي عبد الرحمان السلَميّ، قال:

شهد عمّار صفّين، وأن لا يأخذ وادياً إلّا وأصحاب محمّد

ص: 119


1- معاني الأخبار للصدوق: 35 _ باب معنى الصراط، الاحتجاج للطبرسيّ: 1 / 268.

(صلوات الله عليه وآله) يتبعونه، كأنّه لهم علم، وذلك لِما سمعوا من رسول الله (صلوات الله عليه وآله) أنّه تقتله الفئةالباغية.

وكان معاوية وأصحابه يأثرون ذلك، ويقولون: معنا يُقتَل عمّار، وسوف يسير إلينا.

فلمّا قتلوه مع عليّ (صلوات الله عليه) أُسقِط في أيديهم ... ((1)).

أوَليس هذه الشهادة هي (عين الفتح) كما يشرحون؟! إذ كانت المصلحة في نفس قتل عمّار وشهادته الّتي اختارها اختياراً، سواءً أكان غالباً أم مغلوباً، وأنّ عماراً كان يعلم أنّ ثمّة مصلحةً مترتّبةً على نفس شهادته.

هذا كلّه على فرض قبول حصر معنى (الفتح) بمعنىً خاصّ، بغضّ النظر عن المناقشات الماضية، وعلى فرض مساعدة اللغة والاستعمالات عليه.

والأمثلة في ذلك كثيرة، ويكفينا في المقام صدق مثالٍ واحدٍ فقط وقبوله؛ ليتبيّن أنّ ثمّة مَن يمكن إطلاق اسم (الشهيد الفاتح) عليه قبل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)، وإن كان لنا في كلّ ذلك كلامٌ لا نريد الدخول فيه ومعالجة جميع الأمثلة الّتي ذكرناها؛ تجنّباً للإطالة، ولما

ص: 120


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 1 / 408.

سيأتي إن شاء من خلال البحث.

المتابعة الخامسة: أقسام المُقاتِل في القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم قسّم المقاتلين إلى قسمين، فقال:

﴿فَلْيُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً﴾ ((1)).

فالمقاتِل إمّا أن يكون مقتولاً أو غالباً، والمقتول هو (الشهيد)، والغالب هو (المنتصر) في المعركة الّذي يدحر العدوّ، ولا نعلم قسماً ثالثاً ذكره القرآن أو ذكرته أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) .

والشهيد يجني من قتاله: الشهادة وما يترتّب عليها من أجرٍ عظيمٍ في الدارين، بما في ذلك النتائج المترتّبة على شهادته من حفظ الكيان، سواءً أكان الكيان الاجتماعيّ أو الدينيّ أو الجغرافيّ وغيرها، فهو إن لم يعش ذلك بنفسه، إذ أنّه ينتقل إلى الآخرة، فإنّه يستشعر ذلك قبل أن يُقتَل حين يرى الخطر مهدّداً لهذا الكيان، وأنّه سيحفظه بشهادته.

أمّا الغالب، فإنّه سيُؤتى أجراً عظيماً، ويرى الغلَبة الّتي تحقّقَت بسبب القتال والدفاع.

فالشهادة والغلبة كلاهما ثمرة القتال في سبيل الله.

ص: 121


1- سورة النساء: 74.

والمقاتِل إمّا أن يكون شهيداً أو غالباً، والفتح بالمعنى اللغويّوالاستعماليّ المتوفّر يحصل بعامل القتال، وينتج عن فعل المقاتل بكلا قسمَيه، والتسبيب يعني بالتالي العلّيّة، فإن لم يكن المقاتل الّذي قتل لا يكون الفتح بحال، ولا تكون الغلبة، فهما بالتالي شريكان في تحقيق الغلَبة، وإن كان الغالب هو مَن بقي ولم يمت حتّى تنتهي المعركة، «وإنّما قال: أو يغلب، لأنّ الوعد على القتال حتّى ينتهي إلى تلك الحال» ((1)).

المتابعة السادسة: الفتح أثر

الشهيد مقتولٌ في سبيل الله.. والفتح _ في اللغة _ : هو الغلبة وقهر العدوّ.. فإذا تجاوزنا اللغة ووضعنا معنىً خاصّاً للفتح، وأوجدنا للفتح معنىً استعماليّاً جديداً بغضّ النظر عن اللغة وامتداداتها، وجعلنا ما يترتّب على الشهادة من آثار ونتائج فتحاً، فلا يمكن أن نسمّي هذه الشهادة «مصرع هو عين الانتصار والغلبة» ((2))؛ إذ أنّ المتبادر من الانتصار والغلبة هو الحسم في المعركة، والمقتول لا يمكن أن ينسب إليه الحسم في المعركة، لأنّه حسب الفرض مقتول، و«الشهيد غير الغالب، وإن مهّد الشهداء للنصر بدمائهم الزاكية» ((3)).

ص: 122


1- التبيان للطوسيّ: 3 / 257.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 143.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

فكيف يكون _ والحال هذه _ مقتولاً شهيداً، وهو في نفس الوقتمنتصراً غالباً؟!

إلّا أن يقال: إنّ المراد بالغلبة هنا ليس الحسم العسكريّ في الميدان، وإنّما ما يلزم من الشهادة من آثار ونتائج وملزومات تترتّب على الشهادة، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ كلّ شهيدٍ في سبيل الله فاتحٌ بنحوٍ ما، إذ أنّ شهداء بدر _ مثلاً _ لو تقاعسوا ولم يشروا الله أنفسهم لَما قام للدين من قائمة، وهذا أثرٌ عظيمٌ وفتحٌ جسيم، ولا يمكن أن ندَعَ أيّ دمٍ زاكٍ مقدّسٍ يُراق في سبيل الله دون أثرٍ أو نتيجة.

المتابعة السابعة: المعنى النهائيّ للشهادة الفاتحة!

إذا قلنا:

إنّ الشهيد الفاتح الّذي يريد أن يفتح بشهادته، هو مَن يسعى للفتح من خلال اكتساب الآثار الجِسام، وأخذها بنظر الاعتبار، بحيث يكون الشهيد قاصداً أن يُقتَل، مُقبِلاً على الموت، مُلقِياً نفسه في لهوات المنايا ليقول للسيوف: خُذيني، لأنّه يخطّط لما بعد موته، ويقصد الآثار المترتّبة على هذا القتل، ويريدها وهو يمشي إلى الموت برجله ويُقدِم عليه بملء إرادته، من أجل تحقيق هدفٍ ما..

فإنّ الشهداء جميعاً يُقدِمون إلى ساحة الوغى ويقاتلون من أجل هدف، بَيد أنّهم لا يقصدون الموت، ولا يستهدفون القتل لأنفسهم،

ص: 123

تماماً كما فعل حمزة سيّد الشهداء (علیه السلام) في أُحُد، فإنّه ألقى بنفسه فيلهوات المنيّة للدفاع عن خير البريّة (صلی الله علیه و آله)، غير أنّه لم يقصد أن يُقتَل من أجل أن يُقتَل ليحقّق هذا الهدف، وإنّما قصد الميدان للدفاع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وإن لزم ذلك أن يُقتَل!

هكذا هو المقاتل، إمّا أن يُقتَل أو يغلب.. يُقتل في الميدان.. يقتله العدوّ.. لا أن يقصد العدوّ ليقتله العدوّ، بمعنى أنّه يريد القتل ويعنيه من حيث هو قتلٌ مطلوبٌ له لعلمه أنّ في قتله مصلحة.. إنْ هذا الّا انتحار! ولكنّه منمَّقٌ بعباراتٍ جميلة، وإنشاءٍ مسبوكٍ محبوك، وهو على حدّ تعبير الشيخ شمس الدين _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ صريحٌ في كونه عمليّةً انتحاريّةً من أجل الأهداف السامية! قال (رحمة الله):

ممّا اقتضى من الإمام الحسين (علیه السلام)، وقد أدرك هذه الحقيقة المرعية، أن يقوم بثورته! العظيمة والانتحاريّة!!! من أجل أن يفجّر في الأُمّة الإسلاميّة روح الشهادة من جديد ... ((1)).

فالشهيد الفاتح _ في العُمق _ إنّما هو الانتحاريّ! هذا هو المعنى الدقيق، وإن اختلف التعبير، وأُلبس ألوان التزيين.

ولا ندري _ حينئذٍ _ كيف يمكن تصوّر ذلك في سيّد الكائنات

ص: 124


1- أنصار الحسين (علیه السلام) لشمس الدين: 12 _ مقدّمة الطبعة الثانية.

وخامس أصحاب الكساء والإمام المعصوم (علیه السلام) ؟!

ولا ندري ما هو الأعزّ والأهمّ منه (علیه السلام) في عمر الدنيا وكلّ الدهروالتكوين لينتحر (الحسين!! الحسين!! الحسين!!) من أجله!

وينتحر معه أهلُ بيته من آل أبي طالب _ وبقيّة العترة الطاهرة الّذين ليس لهم على وجه الأرض شبيهٌ ونظيرٌ _ من أجله!

وينتحر أنصاره وأصحابه _ الّذين ليس في الوجود أوفى وأبرّ وخير منهم _ من أجله!

ثمّ نضطرّ لتسويغ هذه الصورة المأساويّة، فنسمّيه: «الشهيد الفاتح»!

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى مليكنا سيّد شباب أهل الجنّة من استعمال هذا المصطلح البائس، بَيد أنّ هذه هي الحقيقة، وهذا هو التعبير الصريح المؤدّي إليه ما يُقال عن قيامه _ فداه العالمين _..

نحسب أنّ مناقشة ذلك ودفعه عن شخص خامس أصحاب الكساء فيه من الجسارة ما لا يسمح لنا أن نخوض فيه.

أيقال عن الإمام الحسين (علیه السلام) أنّه يقوم بعمل انتحاريّ؟!

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

المتابعة الثامنة: امتناع صدق الشهيد الفاتح إلّا على واحد!
اشارة

قد يُقال:

ص: 125

إنّ عنوان الشهادة الّتي هي عين الفتح تحقّقَت لسيّد الشهداء (علیه السلام)، «ثمّ امتنعَت عن سواه إلى قيام الساعة»، وأنّها:

لا تكون لأحدٍ بعد الحسين (علیه السلام) .. لأنّ عاشوراء قد كشفَتعن وحدةٍ وجوديّةٍ لا انفكاك لها بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام)، فصارت الدعوة إلى هذا الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام)، وبالعكس، وصارت مواجهة هذا الإسلام ومعاداته هي عين مواجهة الحسين (علیه السلام) ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء هذا الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام)، حتّى لقد قيل _ وما أصدقه من قول _ : الإسلام محمّديُّ الوجود حسينيّ البقاء ((1)).

فربّما يُجاب على ذلك:

الجواب الأوّل: وفق إطلاق التعريف

إذا عنينا بالفتح نوعاً من الغلَبة يُثمِر تغييراً وتحوّلاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح ((2)).

من دون ملاحظة أيّ خصوصيّةٍ في الفاتح والأهداف، وإنّما حملناها على مطلق الفاتح ومطلق الأهداف، سواءً أكانت داخل دائرة

ص: 126


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 145.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

الرضى والسخط الإلهيّ أم لم تكن، وسواءً أكانت داخل دائرة الدِّين وأحكامه أم لا.. كما هو ظاهر إطلاق التعريف المذكور.

فإنّ هذا التعريف سينطبق على الكثيرين، وله نماذج وعيّناتٍ تنتشر على عرض الجغرافيا وطول التاريخ، وقد رأينا في عصرنا الحاضر رجلاًيقوم بعمليّةٍ انتحاريّة، فيُحرِق نفسه في ساحةٍ من ساحات البلد، يُعلِن بذلك اعتراضه على الوضع القائم وقوانين الدولة، ممّا أثار الناس أجمعين، فتابعوا الحدَث بأحداث، وتجرّؤوا وتشجّعوا على الوقوف بوجه الطاغية الحاكم، واستمرّوا حتّى أسقطوه وأخرجوه من البلد، وتغيّر النظام الحاكم تغييراً كلّيّاً، وانتشرت جذوات النار الّتي أشعلها في بدنه حتّى شملت الدول المجاورة وغير المجاورة، وألهبَت حماساً أدّى إلى تغيير حكومات، وتبدُّلِ الأوضاع في مناطق شاسعةٍ واسعةٍ وبلدان كثيرة..

وبهذا قد حقّق هذا المنتحِر القاتل نفسه بالنار تغييراً وتحوّلاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهدافه!

فهو _ إذن _ فاتحٌ وفق هذا التعريف، فهل هو فاتحٌ حقّاً؟!

الجواب الثاني: النفي رجماً بالغيب!
اشارة

نفي وقوع شيءٍ من أوّل التاريخ ويوم هبوط آدم (علیه السلام) إلى قيام الساعة، يتعلّق بالغيب تماماً، لأنّ الماضي والمستقبل غيبٌ جزماً!

فربّما استطاع الفرد العادي أن ينفي شيئاً في الماضي معتمِداً على

ص: 127

النصوص التاريخيّة، فيتصفّح كتب التاريخ المتوفّرة ثمّ ينفي وقوع شيءٍ بناءً على عدم وجوده فيها..

أمّا نفي وقوع الشيء بالمستقبل وإلى قيام الساعة! فالغيب لا يعلمه إلّا الله ومن ارتضى من خلقه بتخويلٍ منه (تبارك وتعالى)، وهم الأنبياءوالأوصياء المعصومون (علیهم السلام) من بني آدم حصراً، ومَن أطلَعَه الله بواسطة النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو الإمام (علیه السلام) ..

فليس للإنسان العادي أن ينفي وقوع شيءٍ في المستقبل مطلقاً!

أجل، قد يعتمد جملةً من الأدلّة والشواهد وأقوال المعصومين (علیهم السلام)، فيستنتج منها النفي، ربّما يكون نفي القاطع الجازم.

والدليل المذكور هنا دليلٌ مخدوشٌ غير ناهض، بل ربّما يستعصي على مَن أراد إطلاق اسم الدليل والشاهد عليه، ويستعصي الردّ عليه ومناقشته عندئذٍ، ولكن ربّما أمكن إجمال النقاش فيه من خلال الخدوش التالية:

الخدش الأوّل: امتناع نوعٍ خاصٍّ من الفتح

إنّنا قد نفترض _ مسبقاً _ للفتح معنىً واحداً منحصراً لا يمكن أن يكون غيره، لا نرى غيره فتحاً، ولا نقبل غيره بحال، وحينئذٍ ننفي أيّ فرضٍ آخَر سوى الفرض الّذي افترضناه!

بمعنى: أنّنا نفترض في شهادةٍ ما، أن تنتج هذه النتيجة الخاصّة الّتي نحن نحدّدها ونريدها، بشرط أن تُحدِث هذا المنعطَف والتحوّل الّذي

ص: 128

نحن نفترضه، وأن تكون ناتجةً عن «الاتّحاد الوجوديّ بين الإسلامالمحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام) » ((1)) خاصّةً دون غيره، حتّى من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، فإن كانت كذلك فهي شهادةٌ فاتحة، وإن أحدثَت تحوُّلاً ومنعطَفاً مهما كان عظيماً وجليلاً ومؤثّراً، فهي ليست شهادةً فاتحة، لأنّها خارجةٌ عن معنى الفتح الّذي أردناه، وغير منتِجة للتحوّل والمنعطف الّذي نحن رسمناه!

ولو غمضنا النظر عن البشريّة جمعاء، وغمضنا النظر عن جميع الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، وكلّهم قد بذل مهجته في مرضاة الله، أفليس لنا في شهادة فاطمة الزهراء (علیها السلام) مثالاً للشهادة الفاتحة، وقد جعل الله رضاها رضاه وسخطه سخطها؟!

أوَليس قد فضحَت شهادة سيّدة النساء (علیها السلام) القوم وعرّتهم، وألزمتهم العار والشنار إلى يوم القيامة، بحيث لا يجد لهم مَن تأمّل في شهادتها وظليمتها عذراً؟!

ولو أغمضنا النظر عن شهادة سيّدة النساء (علیها السلام)، ألا نجد في شهادة الإمام الحسن العسكريّ (علیه السلام) التحوّلَ الأعظم في حركة المجتمع الإسلاميّ والدعوة المحمّديّة، والمنعطف الأكبر في مسيرة البشريّة،

ص: 129


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 145.

حيث دخلَت مسيرة التوحيد والكيان البشريّ في زمان الغَيبة، وقربالفرج الأعظم، والتحوّل الفريد، والمنعطف الّذي لا يشبهه منعطفٌ في جميع فترات حركة الإنسان؟!

إنّ أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) تعدّ ولادة الإمام صاحب الأمر (علیه السلام) إذناً بقيام دولة الحقّ والعدل، وشهادة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) تعدّ الباب الأوسع للولوج في العالم الجديد الّذي أراده الله للبشريّة!

كيف كان، فإنّ افتراض الفتح هو ما تحقّق من خلال شهادة واحدٍ من الأئمّة (علیهم السلام) في ظرفٍ خاصّ، وزمنٍ خاصّ، وجغرافيا خاصّة، وأنّ أيّ فتحٍ غيره لا يُعدّ فتحاً، فرضٌ غير ناهض، وحصرٌ لمعنى الفتح الّذي يمكن أن يكون له مستويات وآفاق ومراتب تختلف سعةً وضيقاً من فردٍ إلى فردٍ آخَر.

الخدش الثاني: الوحدة الوجوديّة بين الإسلام وبين الحسين (علیه السلام) !

لا ندري ما علاقة الوحدة الوجوديّة بين الإسلام وبين الإمام الحسين (علیه السلام) في نفي ثبوت (الفتح بالشهادة) لغيره؟!

هذا، عدا ما في هذا من التسطيح، وهو أشبه بالتعبيرات الأدبيّة الإنشائيّة منه بالتعبير العلميّ التعليليّ المعبّر عن فلسفةٍ وبيانٍ لحقيقة الشيء.

فالوحدة الوجوديّة بين الإسلام المحمّديّ الخالص لا تقتصر على الإمام الحسين (علیه السلام)، بل ساريةٌ في جميع الأئمّة، و «المميّزات الفريدة

ص: 130

للدور الحسينيّ» لا تمنح «الإمام أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) من خلال عاشوراء عنوان بقاء الإسلام والحفاظ عليه نقيّاً كما هو».

وقد قام الدليل بما لا يقبل النقاش أنّ الإسلام والدين والإيمان قائمٌ بالأئمّة المعصومين (علیهم السلام) في كلّ زمانٍ ومكان، ونوع قتل الإمام (علیه السلام) وما يجري عليه لا علاقة له من قريبٍ ولا من بعيدٍ ببقاء الدين أو محوه، وقد أتينا على بيان ذلك في أكثر من موضع، فلا نعيد.

فما هو دور باقي الأئمّة (علیهم السلام) مِن وُلد الحسين (علیه السلام) في إبقاء الإسلام والحفاظ عليه نقيّاً كما هو؟!

أيجوز أن يقال: إنّ الأئمّة (علیهم السلام) مِن وُلد الحسين (علیه السلام) لم يكن لأحدهم أيّ دورٍ في بقاء الإسلام نقيّاً؟!

ثمّ إنّ هذه الوحدة الوجوديّة بين الإسلام المحمّديّ الخالص والإمام الحسين (علیه السلام) كانت قبل عاشوراء متوفّرةً في الإمام الحسين (علیه السلام)، وكانت في عاشوراء، وبقيَت بعد عاشوراء، وهذا ما لا يشكّ فيه أحد، سيّما بعد أن قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «حسين منّي وأنا من حسين».. فهل نخصّص هذا القول بما بعد عاشوراء فقط؟!

الخدش الثالث: الإسلام حسينيّ البقاء!

كلامٌ أدبيٌّ جميل، يمكن أن يُقال في ظرفٍ خاصٍّ للتعبير عن شيءٍ أو مراد، وهو قولةٌ لأحد كبار العلماء، وليس حديثاً شريفاً صادراً عن المعصومين (علیهم السلام)، فلا يمكن التسليم له تسليماً مطلقاً بحيث يُعدّ الأصل

ص: 131

والأساس لتفسير قيام سيّد الشهداء (علیه السلام)، وإغماض النظر عن أيّ تفسيرٍ آخَر وإن ورد على لسان الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه أو أولاده المعصومين (علیهم السلام) !

لم يكن الإسلام حسينيّ البقاء حصراً، ولا دليل من الكتاب وأقوال المعصومين (علیهم السلام) على ذلك.. بل إنّ أقوالهم وشواهد التاريخ تشهد بخلاف ذلك تماماً..

ولنضرب على ذلك مثلاً واحداً:

لقد اجتمع المشركون ليمحوا الدين ويقضوا على سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) وأتباعه، وشهد التاريخ يوماً برز فيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لقتل عمرو ابن عبد وُدّ في يوم الأحزاب (الخندق)، فقال النبيّ (صلی الله علیه و آله): «برز الإيمانُ كلُّه إلى الشركِ كلِّه» ((1))، «إلهي، إن شئتَ أن لا تُعبَد فلا تُعبَد» ((2)).

أي: إنّ قتل الإمام عليّ (علیه السلام) سيؤول إلى قتل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقتل المسلمين جميعاً، فلا يبقي بعده إسلامٌ ولا إيمان.

وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ضربة عليٍّ يوم الخندق أفضلُ من عبادة الثقلين» ((3)).

فصحّ أن نقول: إنّ الاسلام محمّديّ الوجود علويّ البقاء، وأنّ

ص: 132


1- كنز الفوائد للكراجكيّ: 137، بحار الأنوار للمجلسيّ: 20 / 215، إرشاد القلوب للديلميّ: 2 / 244، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13 / 261.
2- مواقف الشيعة للميانجيّ: 3 / 123.
3- أُنظر: شرح إحقاق الحقّ للمرعشيّ: 6 / 4 _ الباب 27.

الفضل لله ولعليٍّ (علیه السلام) في بقاء الإسلام ((1)).

وقد قام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) يريد إظهار الإصلاح في البلاد، وقال: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكنِ الّذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دِينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك» ((2)).

ولا يشكّ أحدٌ بما قاله الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في أكثر من موقفٍ وموطنٍ من أنّه صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى، يرى تراثه نهباً، غير أنّه رأى الصبر أحجى، ليحفظ الإسلام، ولئلّا يُمحى الدين ويرتدّ الناس عن دِينهم، وتُطمَس معالم الدين كملاً ((3)).

وقد صرّح القرآن الكريم أنّ بقاء الدين وكماله وتمام النعمة، ويأس الكافرين من الدين، إنّما كان بإعلان ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) اللازمة لولاية أولاده المعصومين (علیهم السلام):

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ((4)).

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ

ص: 133


1- أُنظر: مواقف الشيعة للميانجيّ: 3 / 123.
2- بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 111.
3- أُنظر: نهج البلاغة: الخطبة الشقشقيّة.
4- سورة المائدة: 67.

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَدِينًا﴾ ((1)).

ولو لم يجلس الإمامان الباقر والصادق (علیهما السلام)، ويحدّثان الناس، ويفسّران لهم كتاب الله، ويبيّنان السنّة النبويّة الصحيحة، ويقيمان معالم الدين، أكان يبقى للإسلام المحمّديّ الخالص بقيّة؟!

إنّ الناس قد ضلّوا وارتدّوا بعد قتل الإمام الحسين (علیه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف.

فعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: «ارتدّ الناس بعد قتل الحسين (علیه السلام) إلّا ثلاثة: أبو خالد الكابليّ، ويحيى بن أُمّ الطويل، وجُبير بن مطعم» ((2)).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) وقد ذُكرت هذه الأهواء عنده فقال: «لا والله، ما هم على شيءٍ ممّا جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلّا استقبال الكعبة فقط» ((3)).

وقال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن عليّ بن الحسين (علیهما السلام) في أوّل أمره إلّا خمسة أنفس ((4)).

ص: 134


1- سورة المائدة: 3.
2- إختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 338.
3- المحاسن للبرقيّ 1: 156 ح 89.
4- شرح أُصول الكافي للمازندرانيّ: 10 / 50.

وذكروا:

إنّ الناس والهاشميّين في زمن السجّاد (علیه السلام) إلى أن مضت سبع سنين من إمامة الباقر (علیه السلام) كانوا لا يعرفون كيف يصلّونولا كيف يحجّون ((1)).

وعلى أقلّ التقادير، فإنّ المسلمين جميعاً وبجميع طوائفهم دون استثناءٍ قد أخذوا تفاصيل أعمال الحجّ ومناسكه عن الإمام الباقر (علیه السلام) .

وروى مالك بن أنس _ إمام المالكيّة _، عن عمّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنّه قال:

ما أعرف شيئاً ممّا أدركت الناس عليه إلّا النداء بالصلاة ((2)).

وأخرج الشافعيّ من طريق وهب بن كيسان قال:

كلّ سنن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غُيّرت، حتّى الصلاة ((3)).

وقال الحسن البصريّ:

لو خرج عليكم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما عرفوا منكم إلّا قبلتكم.

بل حتّى القبلة قد غُيّرَت وجعلوها إلى بيت المقدس، حيث

ص: 135


1- الصحيح من سيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) للعامليّ: 1 / 164 _ عن: كشف القناع عن حُجّيّة الإجماع: 67.
2- الموطّأ لمالك: 1 / 72.
3- كتاب الأُمّ للشافعيّ: 1 / 269.

الصخرة قبلة اليهود ((1)).

وقال أبو الدرداء:

واللهِ لا أعرف فيهم من أمر محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) شيئاً إلّا أنّهم يصلّون جميعاً ((2)).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه قال:لو أنّ رجلين من أوائل هذه الأُمّة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية، لَأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً ممّا كانا عليه ((3)).

بل لم يبقَ من الإسلام إلّا اسمه ومن الدين إلّا رسمه منذ يوم السقيفة، وهذا ما لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ واستدلالٍ لمن قرأ التاريخ، سيّما مَن اعتقد إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) وعرف الحقّ المبين.

لذا نعود لنقول: إنّ بقاء الإسلام رهين وجود الإمام الحقّ فقط، وهو شأنٌ إلهيٌّ وعده النبيّ (صلی الله علیه و آله) ليُظهِر دِينه على الدين كلّه، ولا علاقة لنوع قتل أحدٍ ببقاء الدين، فلو أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُقتَل هذه القتلة، وقُتل كما قُتل أبناؤه، أو أنّه لم يُقتَل أبداً، أفكان الإسلام المحمّديّ الخالص يفقد وحدته الوجوديّة بالإمام الحسين (علیه السلام)، ثمّ كان الدين

ص: 136


1- أُنظر: مختصرٌ مفيد للعامليّ: 1 / 52.
2- مسند أحمد: 5 / 195، البخاريّ: 1 / 159.
3- الزهد والرقائق: 61.

يزول وتزول معالمه؟! ثمّ كان الأئمّة (علیهم السلام) من بعده لا يتوفّرون على هذه الوحدة الوجوديّة بينهم وبين الإسلام الخالص؟!

إنّ الإمام (علیه السلام) هو إمامٌ منصوبٌ من الله (عزوجل)، وقد جعل الله دينه قائماً به، سواءً قُتل بالسيف، أم قُتل بالسمّ، أو مات حتف أنفه، وهو لا يموت إلّا مقتولاً أو مسموماً..

وحصر بقاء الدين بيوم عاشوراء وطريقة قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) دونغيره من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) دعوى لا دليل عليها من الدين، ولا من الواقع..

هذا، بغضّ النظر عن الواقع الملحوظ طول التاريخ الّذي ذكرنا طرفاً منه في كتاب (لقاء الفرزدق)، وستأتي الإشارة إليه في ثنايا هذه الدراسة.

وهو في نفس الوقت إجحافٌ في حقّ المعصومين الآخَرين من النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى الوليّ الخاتم (علیهم السلام)، ومصادرةٌ لأدوارهم ولكلّ ما قاموا به وقدّموه لله، وكأنّ أحداً منهم لم يبذل مهجته في الله، ولم يعذر بالدعاء، ولم تقم بهم الصلاة ولا الزكاة ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولا بيان دين الله، ولا أيّ عطاء آخر!

فلماذا لا يُقال هنا كما يُقال في شهداء بدر:

... إنّ التحوّلات الحاسمة لصالح الإسلام بعد بدرٍ لم تكن لشهادة شهداء بدر الأبرار، بل لوجود النبيّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) ولسيف

ص: 137

عليّ (علیه السلام)، والسيوف الصادقة الأُخرى الّتي كانت مع هذا السيف الفريد في أهمّ مواقع الإسلام المصيريّة.

فيقال: إنّ التحوّلات الحاسمة وحفظ الدين إنّما كان ببقاء عليّ بن الحسين زين العابدين (علیه السلام)، الإمامِ بعد الإمام، أبي الأئمّة بعد سيّد الشهداء (علیه السلام)، إذ لولاه لَاقتضى بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) أن ينخرم نظامالتكوين، ويُفني اللهُ الأرض ومَن عليها ويسيخها بأهلها، غير أنّ وجود الإمام السجّاد (علیه السلام) هو الّذي جعل الدنيا تستمرّ، والإسلام يبقى ويستمرّ، وتدوم الإمامة الّتي بها قوام الأرض، وإن كان لم يكن في مكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّ أهل البيت (علیهم السلام) ويتّبعهم، كما رُوي عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) نفسه ((1)).

فيُنسَب التحوّل والبقاء والاستمرار والديمومة للدين المحمّديّ الخالص لبقاء الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام)، تماماً كما كان التحوّل الحاسم حاصلاً ببقاء النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) مِن قبل.

أجل، يمكن أن يُقال: بجعل الإمامة في ذرّيّة الإمام الحسين (علیه السلام) وعقبه كعِوَضٍ عن قتله، كما ورد في الحديث ((2))، وهذا المعنى شيءٌ يختلف عمّا يُقال، كما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 138


1- أُنظر: الغارات لإبراهيم الكوفيّ: 2 / 573، بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 297.
2- أُنظر: أمالي الطوسيّ: 317 _ عنه: بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 221.
الخدش الرابع: حصر مواجهة الإسلام بمواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)

لا شكّ أنّ مواجهة الإسلام المحمّديّ الخالص هي مواجهةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام)، ومواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) هي مواجهة الإسلام الخالص، فكلّ مواجهةٍ للإمام الحسين (علیه السلام) هي مواجهةٌ للإسلام الخالص..أمّا أن تكون كلّ مواجهةٍ للإسلام لا تكون إلّا مواجهة للحسين (علیه السلام) دون غيره، فهذه مصادرةٌ للنبيّ (صلی الله علیه و آله) وللأئمّة المعصومين أجمعين، من أمير المؤمنين إلى صاحب الأمر والزمان (علیهم السلام) .

إذ أنّ الإسلام الخالص قائمٌ في النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة (علیهم السلام) جميعاً في كلّ فردٍ فردٍ منهم، فمن أين جاء هذا الحصر؟ وكيف نُفي غير الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

أيعني هذا أنّ مواجهة طواغيت عصر الأئمّة (علیهم السلام) كلّ واحدٍ منهم إنّما كان يواجه الإمام (علیه السلام) لا لأنّه الإسلام الخالص؟! بل لماذا واجهوهم وقتلوهم وهم ليسوا الحسين (علیه السلام) ؟

لماذا قتل المنصور الإمام الصادق (علیه السلام) ؟ وقتل هارون الإمام موسى ابن جعفر (علیه السلام) ؟ وهكذا باقي الأئمّة (علیهم السلام) .. أوَليس كلّ واحدٍ من هؤلاء الأئمّة (علیهم السلام) هو الإسلام المحمّديّ الخالص الّذي كان يخشاه الطاغوت؟!

أتكون مواجهة الظالمين للأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ليست لهم

ص: 139

بالذات، وإنّما هي مواجهةٌ للحسين (علیه السلام)، ولأنّهم أبناء الحسين (علیه السلام) فقط، من دون أن يكون لهم _ كأشخاصٍ _ أيّ دور أو أثر؟!

الخدش الخامس: مصادرة شهادة الصدّيقة (علیها السلام) والرضيع (علیه السلام)

إذا كانت المواجهة مع الظالم حتّى الشهادة تلزم هذا الملزم، فلْتكن مواجهة سيّدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) مع الغاصبين والوقوف بوجههم حتّى الشهادة هي الشهادة الفاتحة «المهيمنة على كلّ مساحة الزمان والمكان»، ولْتكن دماؤها المقدّسة الزاكية الّتي جرت على أعتاب دارها هي الدماء الّتي تلهب الحماس في دماء العالمين، إذ كانت أوّل صرخة حقٍّ في وجه الانحراف الّذي لم يتوقّف إلى اليوم، وسيبقى إلى أن يقوم صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

وإذا كان ثمّة (شهيدٌ فاتح)، فلْيكن عبد الله الرضيع، إذ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) رجلٌ قام هو وأصحابه _ حسب الفرض المعهود _ ليحارب الظلم والظالمين، ويعيد النصاب إلى الدين، فقُتِلوا في مواجهةٍ مشرّفة، ونالوا الشهادة وفازوا بها..

والّذي فضح القوم ومزّق النقاب عن وجوههم الكالحة في الوقت الحاسم والموقف الحاسم هو قتل (طفلٍ رضيع)، كان أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقد قضى عطشاً، ورُمي بسهمٍ ذبحه من الوريد إلى الوريد.

ص: 140

الخدش السادس: الخلاصة
اشارة

لقد تضمّنَت الدعوى جملةً من الدعوات:

الدعوى الأُولى: الكشف عن الوحدة الوجوديّة

عاشوراء كشفَت عن وحدةٍ وجوديّةٍ لا انفكاك لها بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام) ..

وهذه الوحدة الوجوديّة لا ينكرها مؤمن، لأنّ الدين قائمٌ به وفيه ومعه..

أمّا أن تكون عاشوراء هي الّتي كشفَت هذه الوحدة الوجوديّة، فهذا ما لا يمكن المصير إليه.. ولقد كانت هذه الوحدة الوجوديّة في الأئمّة (علیهم السلام) قبل الإمام الحسين (علیه السلام) وبعده..

إلّا أن يشترط في هذه الوحدة الوجودية (عاشوراء)، فمن توفّر عليها فهو كذلك، وإلّا فلا، ولا قائل بذلك.

إنّ هذه الوحدة الوجوديّة بين الإسلام الخالص والإمام لها أسبابٌ كثيرةٌ منذ الخلق الأوّل إلى يوم الغدير يوم الإعلان عنها رسميّاً وإلى يوم القيامة، وهي بالجعل والتعيين والتحديد والاجتباء والاصطفاء والانتخاب الخاصّ من الله (تبارك وتعالى)..

وهذا من البديهيّات الّتي لا تحتاج إلى استدلالٍ ومزيد بيان، فلماذا هذا الحصر والاختصاص بالإمام الحسين (علیه السلام) دون غيره من المعصومين (علیهم السلام) ؟!

ص: 141

الدعوى الثانية: الدعوة إلى الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام)

صارت الدعوة إلى هذا الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام)، وبالعكس..

أن تكون الدعوة إلى الإسلام الخالص هي عين الدعوة إلى الإمام الحسين (علیه السلام)، لا ينكره مؤمن..

أمّا أن يكون منحصراً به، فهذا ما لا دليل عليه!

أوَليس الدعوة إلى الإسلام الخالص هي عين الدعوة إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وإلى فردٍ فردٍ من أفراد الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، سيّما الأئمّة من الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا إلى الصاحب (علیهم السلام) ؛ إذ أنّ الانحرافات والانشقاقات والفرق كانت مستمرّة، والأُمّة كانت تتشظّى وتترامى في أحضان الباطل إلى عصر إمامة الرضا (علیه السلام)، وانتهت بالواقفة، وما جاء بعد الواقفة لا يكاد يبين، فمن ثبت على ولايته وولاية أولاده إلى الصاحب (علیهم السلام) إنّما ثبت على الدين المحمّديّ الخالص، وكانت إمامته هي الفتح الأعظم.

كيف كان، فإنّ الدعوة إلى الإسلام الخالص هي دعوةٌ لكلّ واحدٍ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، وبالعكس..

فلماذا هذا الحصر والاختصاص بالإمام الحسين (علیه السلام) دون غيره من المعصومين (علیهم السلام) ؟!

ص: 142

الدعوة الثالثة: مواجهة الإسلام عين مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)

صارت مواجهة هذا الإسلام ومعاداته هي عين مواجهة الحسين (علیه السلام) ومعاداته، وبالعكس..

أن تكون مواجهة الإسلام الخالص ومعاداته هي عين مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) ومعاداته، فهذا ما لا ينكره مؤمن..

بَيد أنّ مواجهة أيّ واحدٍ من المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) أيضاً هو عين مواجهة الإسلام الخالص، ومعاداتهم معاداته، وقد جمع النبيّ (صلی الله علیه و آله) في حديث الكساء المتواتر، وغيره من المواضع في جمع الخمسة أصحاب الكساء (علیهم السلام)، وتأكيده أنّ سلمهم سلمه، وحربهم حربه، ومعاداتهم معاداته، وأنّهم لحمه ودمه..

فلماذا هذا الحصر والاختصاص بالإمام الحسين (علیه السلام) دون غيره من المعصومين (علیهم السلام) ؟!

ومن أين يُؤتى بهذا التفكيك، بحيث يُحصَر الأمر بالإمام الحسين (علیه السلام) وحده؟!

الدعوة الرابعة: بقاء الإسلام ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام)

صار بقاء هذا الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام) ..

قلنا أكثر من مرّة: إنّ بقاء الدين ببقاء الإمام (علیه السلام) والإمامة، وأمّا نوع القتل فلا ندري مدى تأثيره في إبقاء الدين..

أجل، ما وقع من مصيبةٍ عظمى ليس لها مثيلٌ في تاريخ البشريّة،

ص: 143

وما ورد من التأكيد الشديد في الدين على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) على البكاء والإبكاء، جعل هذه المصيبة العظمى لا تُنسى، وقد ضمن الله _ كما في بعض الأحاديث _ أن يأتي في كلّ جيلٍ مَن يبكي مصيبة الحسين (علیه السلام) .. وخلود المصيبة العظمى وبقائها إلى يوم القيامة شيء، وأن تكون هي السبب الوحيد لبقاء الدين الخالص شيءٌ آخَر!

فلو فرضنا جدلاً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُقتَل، ألم يكن الدين باقياً ببقائه وبقاء الأئمّة مِن وُلده (علیهم السلام) ؟!

كيف كان، إنّ الدعوى المذكورة _ على نحو الحصر والنفي _ لا تكاد تكون علميّةً ولا مُدعَمةً بالأدلّة الشرعيّة، ولا الوقائع التاريخيّة الثابتة، فلا يمكن مناقشتها بدقّة.

المتابعة التاسعة: الشهيد الفاتح والشهادة الفاتحة!

الشهيد الفاتح، إمّا أن يكون قاصداً الفتح بشهادته، وإمّا أن تكون شهادته فتحاً وإن لم يقصده.

فإذا كان الشهيد الفاتح لا يقصد ذلك، ولا يعلم أنّ ثمّة آثارٌ جسيمةٌ وتحوّلاتٌ حاسمةٌ ستترتّب على شهادته، وإنّما بعد أن استُشهد حصل ما لم يكن في حسبانه من الآثار العظيمة والتحوّلات الحاسمة الجسيمة، فحينئذٍ لا يمكن إطلاق الشهيد الفاتح عليه، وإنّما ستكون

ص: 144

شهادته فاتحة!

وهذا ما لا يمكن افتراضه في مثل سيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام)، والعياذ بالله.

وإذا أُخذ قصد المُقدِم على الشهادة _ وهو المفروض _ ليكون شهيداً فاتحاً، فلا يمكن الوصول إلى قصده إلّا من خلال ما يُصحِر هو نفسُه عمّا يقصده، فلابدّ والحال هذه أن يصرّح هو بنفسه بمقاصده وما يريده من أهدافٍ تصنع له الفتح.

فالإمام الحسين (علیه السلام) معصومٌ مفترَض الطاعة، وسيّد الكائنات وخير البشر بعد مَن استثناهم الله، إذا كان قد أقدم على شهادةٍ من هذا القبيل وبهذا اللون من أجل تحقيق هذا النوع الخاصّ من الفتح، فإنّه سيُعلِن عن ذلك في فترةٍ دامت من بعد نزو يزيد على الأعواد إلى يوم وقوع الجناية العظمى باستشهاده، ولَكانت بياناته وتصريحاته تملأ الكتب وتموج في صفحات التاريخ..

ولا يحتاج حينها مَن يريد القول بذلك إلى رصف النصوص ومقابلتها ومعالجتها والتكلّف في استنتاج ما يريد منها، على فرض إمكان استنتاج ذلك منها بسلاسةٍ من دون ليّ أعناق النصوص ورشّها بلونٍ خاصٍّ وسوابق معيّنة قبل استعراضها.

فحين نسمع الإمام (علیه السلام) في مواضع كثيرةٍ يقول ما هو صريحٌ لا يقبل التكلّف والالتواء أنّ القوم يطلبون دمه، ويريدون قتله، وهو يحيد عنهم،

ص: 145

وهم يأبون عليه إلّا أن يخيّروه بين السلّة والذلّة، وهيهات منه الذلّة، فننفي مقاصد الإمام (علیه السلام) ومراداته الّتي صرّح بها بوضوحٍ وجلاء، ونتقاقز عليها لنُثبِت له مقاصد، وإن لم يقصدها.

وقد مرّ معنا الكثير من هذه الأمثلة خلال دراستنا لبيانات الإمام (علیه السلام) وتصريحاته في المدينة ومكّة، وأنّه إنّما يعجل لئلّا يُؤخَذ أو يغتاله القوم، ونحسب أنّها من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى مزيد بيان، ونكتفي هنا بذكر مثالٍ آخَر للتنويه، وسنترك البحث فيه بالتفصيل إلى محلّه إن شاء الله..

مثل هذه المحاورة الواردة بين الإمام وبين أبي هرّة الأزديّ في الطريق إلى العراق، تقول الرواية:

فلمّا أصبح الحسين (علیه السلام)، وإذا برجُلٍ من الكوفة يُكنّى أبا هرّة الأزديّ أتاه فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول الله، ما الّذي أخرجَك عن حرم الله وحرم جدّك محمّد (صلی الله علیه و آله) ؟!

فقال الحسين: «يا أبا هرّة، إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله يا أبا هرّة لَتقتلني الفئة الباغية، ولَيُلبسنّهم الله ذلّاً قاطعاً، ولَيُسلّطنّ الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ

ص: 146

إذ ملكتهم امرأةٌ منهم فحكمَت في أموالهم ودمائهم» ((1)).

إنّ هذا النصّ فيه من الوضوح والصراحة والجلاء ما لا يقبل التأويل، ويشهد له تصريحاتٌ أُخرى ومواقف كثيرة، بَيد أنّ التصوّر المسبق والمفروض على سيّد الشهداء (علیه السلام) والمواقف المرسومة له، سواءً أقصدها أم صرّح بخلافها، يضطر المحلّل أن يقول:

إنّ ظاهر مثل هذه النصوص يوحي بأنّ الإمام (علیه السلام) كان همّه الأكبر النجاة بنفسه! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه، وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه! هذه حدود مظلوميّته لا أكثر؟! وكأنّه ليس هناك رفض بيعةٍ ولا طلب إصلاحٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر، ولا قيام!!

لقد انطلى هذا الاستنتاج الخاطئ على بعض الناس، فتوهّموا أنّ أساس حركة الإمام (علیه السلام) هو طلب النجاة والفرار من الاغتيال والقتل! ((2))

ص: 147


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 150، الفتوح لابن أعثم: 5 / 71، وانظر: الأمالي للصدوق: 153، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 573، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 314 و 367، العوالم للبحرانيّ: 17 / 163 و 217، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70.
2- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 151.

لا نريد مناقشة هذا الكلام مناقشةً مفصّلة، وهو لا يصمد أمام النقد، ونقول كلمة واحدة:«هذه حدود مظلوميّته لا أكثر؟!»..

أجل، إنّها لَمظلوميّة.. إنّها الحدود القصوى.. إنّه الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وخامس أصحاب الكساء، وسيّد شباب أهل الجنّة، يُؤخَذ مالُه ويُشتَم عرضُه ويُطلَب دمُه!

أتُستصغر هذه المظلوميّة؟!!

ومَن قال أنّ الإمام (علیه السلام) إن كان قد أقدم على (الفتح بالشهادة)، أو على حدّ تعبير مَن قال: «عمليّة انتحاريّة»، تكون مظلوميّته أعظم؟!!

ثمّ إنّ مَن قال: إنّ حركة الإمام (علیه السلام) كانت عبارةً عن هجوم القوم عليه وملاحقته من أجل قتله، تماماً كما قتلوا جدّه وأُمّه وأباه وأخاه وأولاده المعصومين، وكان هو لا يحبّ أن يُقتَل في المدينة ومكّة، وأنّه وجد أنصاراً للدفاع عنه في العراق، على التفصيل الّذي ذكرناه مراراً وتكراراً..

إنّ مَن ذهب إلى هذا القول لم يكن قد استنتج، ليقال: «ولقد انطلى هذا الاستنتاج الخاطئ».. إنّه ليس استنتاجاً، وإنّما هو صريح كلام الإمام (علیه السلام)، إنْ في هذا الموقف أو في غيره من المواقف الكثيرة جدّاً الّتي سبقَت هذا الحوار ولحقَته..

إنّه ليس وهماً ليقال: «فتوهّموا»! إنّهم رسموا ما قاله الإمام (علیه السلام)

ص: 148

نفسه، من دون أن يُفرَض عليه موقفٌ خاصٌّ من قِبَل ما تصوّرناهمسبقاً.

ماذا يفهم الإنسان من كلام الإمام (علیه السلام) لأبي هرّة الأزديّ؟! أيُفهَم منه أنّه قد صرّح بما يذهب إليه مَن يريد أن يُثبِت للإمام (علیه السلام) ما لم يُثبته الإمام (علیه السلام) لنفسه؟!

إنّ من يجمع النصوص ويحاول معالجتها والتخلّص ممّا يكون تبايناً وتناقضاً وتعارضاً صريحاً بينها ليخلص إلى ما يريد، يُعدّ مستنتجاً، أمّا مَن يعتمد صريح الكلام والنصّ الجليّ الّذي ليس له ظهورٌ في غير المعنى المفهوم منه، لا يُعدّ مستنتجاً.

نقتصر هنا على ذكر هذا المثال، وسيأتي التفصيل فيه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

وقد أتينا على مناقشة (طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مفصّلاً في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة وفي مواضع أُخرى، فلا نعيد.

* * * * *

كيف كان، إن كان الإمام الحسين (علیه السلام) قد قصد «الفتح بالشهادة»، فعلينا أن نعرف قصده منه، ولَكان هو بنفسه (علیه السلام) عبّر عنه بأجلى تعبير، وهو مالك اللغة والمفردات والبلاغة وسيّدها..

وفي حدَثٍ بهذه الضخامة الّذي وسع التاريخ لا يُكتفى عادةً

ص: 149

بتصريحٍ أو تصريحين، ولَبان على لسان جدّه وأبيه وأخيه ولسانه _ الظامي _ ولسان أولاده المعصومين (علیهم السلام) بوضوحٍ وجلاءٍ لا يحوجنا إلى الاستنتاج والاستنباط!

هذا هو الطريق الأوّل لمعرفة مقاصد الإمام (علیه السلام) .. أن نسمع الإمام نفسه (علیه السلام) .

أمّا الطريق الثاني: فهو على فرض أنّ الإمام (علیه السلام) لم يبيّن ذلك ولم يصرّح _ وحاشاه _، فحينئذٍ لمن أراد أن يُثبِت ذلك للإمام (علیه السلام) أن يتابع (الفتح) ومصاديقه وآثاره، ويستخرجها بنفسه ويثبتها بالقطع واليقين، لا بالتظنّي والتخمين والشعارات والكلام الإنشائيّ الّذي لا دليل عليه، أو بالتصوّرات المسبقة الّتي تحمّل على المواقف..

فلا يُطلَق على موقف عبد الله بن عفيف الأزديّ: «الانتفاضة»، وأنّ مواجهته السافرة لابن مرجانة كان لها «أثرٌ بالغٌ في كسر حاجز الخوف في قلوب الناس، وتشجيعهم على التمرّد» ((1)).

إذ أنّ هذا الرجل الكفيف كان قد فقد عينيه بين يدَي الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في الجمل وصفّين، وكان موالياً ثابتاً، ملازماً للمسجد يتعبّد وينتظر أجله بعد أن قضى ما عليه، وفوجئ بابن زيادٍ يشتم أمير المؤمنين والإمام الحسين (علیهما السلام)، ويفتري عليهما ويكذّبهما، ويتفاخر بقتل

ص: 150


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 178.

ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، فقام فردّ عليه..

إنّه موقفٌ شخصيٌّ محدودٌ لا يتعدّاه، ولا يُقاس عليه كظاهرةٍ اجتماعيّة..

موقفٌ اتّخذه أحد موالي أمير المؤمنين (علیه السلام) وشيعة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، دفاعاً عن ساداته وولاته وأئمّته، وهو يعيش في الكوفة، ويسمع أخبار الإمام الحسين (علیه السلام)، غير أنّ كفّ بصره قد قعد به، وقد قتله ابن مرجانة شرّ قتلة، وألّب عليه، وجمع له الجموع وأرسل إليه _ رغم كفّ بصره _ سيوفاً، وأطاعه القوم فيما أراد، فقمعه وقتله رغم ما به، فأيّ أثرٍ كان لموقفه على قلوب الناس وكسر حاجز الخوف في قلوبهم وتشجيعهم على التمرّد؟! إنّها دعوى لا دليل عليها!

بل إنّ قتله _ وهو كفيف البصر بتلك الصورة _ ربّما كان زيادةً في إخافة الناس وإرعابهم وقمعهم وكبحهم!

كيف كان، فإنّنا لا نريد هنا متابعة الموارد المذكورة في الباب ومناقشتها كلّ واحدةٍ على حدة، ولا مناقشة ما يرتّبونه كعلاماتٍ وآثار للفتح، فقد أتينا على مناقشة جملةٍ منها في كتاب (لقاء الفرزدق والإمام الحسين (علیه السلام))، وسيأتي مناقشة الباقي في محلّه إن شاء الله.

فهل كان (الفتح) هو ما يُصوَّر من آثار يمكن المناقشة فيها؟

هذا كلّه، بعد أن نثبت أنّ الإمام (علیه السلام) بنفسه قد قصد ذلك، وقاله وصرّح به، وإلّا فتكون «الشهادة فاتحة»، وليس «الشهيد فاتحاً».. وهو

ص: 151

ما لا يمكن نسبته للإمام المعصوم (علیه السلام)، وحاشاه.

الإنارة الثالثة: تعلّق الفتح بالاتباع لا بالإمام (علیه السلام)

قد يقال: لابدّ من فهم الكلام جملةً واحدةً ضمن السياق الواحد، فلمّا قال سيّد الشهداء (علیه السلام): «مَن لحق بي منكم استُشهد معي»، فالمفروض أن يُفهَم المقطع الثاني من كلامه المعطوف عليه: «ومَن لم يلحق ...» في نفس السياق دفعةً واحدة، فلا يُفرَّق بينهما، فيُجعَل الفتح في المقطع الثاني كأنّه يتحدّث ويُخبِر عن شيءٍ خارج العبارة الواحدة.

والكلام كان مع بني هاشم خاصّة لا مع غيرهم، فلابدّ أن يكون الفتح خاصّاً بهم أيضاً ولهم، وليس فتحاً عامّاً من جهة، ولا فتحاً للإمام (علیه السلام) شخصيّاً من جهةٍ أُخرى.. فالفتح متعلّقٌ بمن لحق به من بني هاشم، ومَن فاته الفتح فهو مَن تخلّف ولم يلحق من بني هاشم خاصّة، فلا يمكن والحال هذه تعميم الفتح ولا نسبته إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإنارة الرابعة: (الفاتح) ليس من ألقاب سيّد الشهداء (علیه السلام)

الفاتح من أسماء الله الحسنى.

وقد ورد هذا اللفظ كاسمٍ ولقبٍ وصفةٍ للنبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله)، فرُوي في

ص: 152

حديثٍ طويل:

فقال إبراهيم (علیه السلام): «إلهي وسيّدي، مَن هذا الخلق الشريف؟». فأوحى الله (عزوجل): «هذا عبدي وصفوتي، الفاتح الخاتم، وهذا وصيّه الوارث». قال: «ربِّ، ما الفاتح الخاتم؟»، قال: «هذا محمّد خيرتي ...» ((1)).

وفي كلام أمير المؤمنين (علیه السلام):

«اجعلْ شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمّدٍ عبدك ورسولك، الخاتمِ لما سبق والفاتحِ لما انغلق، والمُعلِن الحقَّ بالحقّ، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدمٍ ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتّى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديتَ به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازنُ علمك المخزون، وشهيدُك يوم الدين، وبعيثُك بالحقّ، ورسولُك إلى الخلق» ((2)).

ص: 153


1- الإقبال لابن طاووس: 1 / 508.
2- نهج البلاغة: 101 خ 72 _ بشرح: صبحي الصالح.

وقال (علیه السلام):

«اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ عبدك ورسولك ونبيّك، نبيِّ الرحمة، البرِّ بالأُمّة، والواعظِ بالحكمة، والدليل على كلّ خير، وحسنة إمام الهدى، وخاتم الأنبياء، وفاتح مذخور الشفاعة، الآمرِ بالمعروف والناهي عن المنكر، ومُحلّ الطيّبات ومحرّم الخبائث، وواضع الآصار وفكّاك الأغلال الّتي كانت على أهل التوراة والإنجيل ...» ((1)).

وفي حديثٍ مسنَدٍ عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«إنّ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) عشرة أسماء، خمسة منها في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأمّا الّتي في القرآن ف-- : محمّد، وأحمد، وعبد الله، ويس، ون، وأمّا الّتي ليست في القرآن ف-- : الفاتح، والخاتم، والكاف، والمقفي، والحاشر» ((2)).

وفي زيارة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في حديث الإمام الصادق (علیه السلام):

«السلام عليك يا فاتح الخير» ((3)).وفي زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام):

ص: 154


1- مصباح المتهجّد للطوسيّ: 2 / 446 من دعاء يوم الأحد.
2- بحار الأنوار: 16 / 96 الباب 6 ح 31.
3- إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 604 زيارة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

«والسلام على محمّدٍ أمين الله، وعلى رسالته وعزائم أمره، ومعدن الوحي والتنزيل، الخاتم لِما سبق والفاتح لِما استقبل ...» ((1)).

وفي زيارة الإمام الحسين (علیه السلام):

«فإذا استقبلتَ قبر الحسين (علیه السلام) فقُل: السلام على رسول الله، السلام على أمين الله على رسله وعزائم أمره، والخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كلّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» ((2)).

وورد لفظ الفاتح كوصفٍ لهم جميعاً، فقد رُوي مسنداً عن معروف ابن خرّبوذ قال:

قلتُ لأبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام): أخبِرْني عنكم. قال: «نحن بمنزلة النجوم، إذا خفيَ نجمٌ بدا نجمٌ منّا، أمنٌ وأمان، وسِلمٌ وإسلام، وفاتحٌ ومفتاح، حتّى إذا استوى بنو عبد المطّلب فلم يُدرَ أيٌّ مِن أيٍّ أظهر الله (عزوجل) لكم صاحبكم، فاحمدوا الله (عزوجل)، وهو يُخيَّر الصعب والذلول». فقلت: جُعلتُ فداك، فأيّهما يختار؟

ص: 155


1- فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عقدة: 141 باب زيارته (علیه السلام)، وانظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 42، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 25 الباب 8.
2- الكافي للكلينيّ: 4 / 572، وانظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 201.

قال: «يختار الصعبَ على الذلول» ((1)).

وجاء في زيارة الإمام الحسين عن الإمام الصادق (علیه السلام):

«أشهدُ أنّك كلمةُ التقوى، وبابُ الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على مَن يبقى ومَن تحت الثرى، أشهدُ أنّ ذلك سابقٌ فيما مضى، وذلك لكم فاتحٌ فيما بقي، أشهد أنّ أرواحكم وطينتكم طيّبة، طابت وطهُرَت، هي بعضُها من بعض» ((2)).

يُلاحَظ أنّ اسم الإشارة «ذلك» يرجع إلى ما ذُكر قبله في الشهادة: «كلمة التقوى، وباب الهدى، و...»، وهذا ليس عامٌّ لهم (علیهم السلام) جميعاً، لذلك تغيّر الضمير من الخطاب للمفرد: «أشهدُ أنّك» إلى الجمع: «وذلك لكم فاتح»، إذا قلنا أنّ هنا جاء لفظ الفاتح كصفةٍ لهم.

كيف كان، فإنّنا فحصنا فلم نجد في حديثٍ ولا زيارةٍ ولا نصٍّ شريفٍ من نصوص أهل البيت (علیهم السلام) ورد توصيف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ب-- (الفاتح) بأيّ معنىً من معانيه المستعملة في الحديث أو في اللغة، والحال أنّ الزيارات والنصوص الشريفة حاويةٌ على عددٍ ضخمٍ جدّاً من الألقاب المنيفة والصفات السامية، الّتي لو جُمعَت

ص: 156


1- كمال الدين للصدوق: 1 / 329 ح 13، دلائل الإمامة للطبريّ: 534.
2- الكافي للكلينيّ: 4 / 573، وانظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 202.

وشُرحَت شرحاً مقتضباً لَكانت كتاباً كبيراً.

فهل فاتهم (علیهم السلام) هذا الوصف، رغم أنّه الأوّل والآخر في قيام سيّد الشهداء (علیه السلام)، وهو العامل المحرّك الوحيد، والداعي الوحيد، أو الأكبر بلا منازع لما أقدم عليه الإمام الحسين (علیه السلام) فيما يُرسَم له، وهو العلّة الغائيّة، بل العلّة الفاعلة في ما يُصوَّر، والمراد والمعنى الرئيس من الإقدام على الشهادة؟!

الإنارة الخامسة: كان الحسين (علیه السلام) يعتقد أنّه فاتحٌ منصور ...
اشارة

قيل:

كان الحسين (علیه السلام) يعتقد في نهضته أنّه فاتحٌ منصور، لِما في شهادته مِن إحياء دِين رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأُمّة أنّهم (علیهم السلام) أحقُّ بالخلافة مِن غيرهم، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم: «مَن لحق بنا منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح»، فإنّه لم يُرِد بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته، من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الأُمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدين (علیه السلام) لإبراهيم بن طلحة ابن عُبيد الله لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: مَنالغالب؟

ص: 157

فقال السجّاد (علیه السلام): «إذا دخل وقت الصلاة فأذَّنَ المؤذّن وأقِمْ، تعرف الغالب» ((1)).

* * * * *

يمكن الوقوف مع هذا المتن وقفةً سريعةً عجلى، مع الاعتذار الشديد لقائله، وإنّما نتجرّأ هنا لمثل هذه الوقفات بين يدَي الأعلام والمقدّسين، بَيد أنّه البحث العلميّ الّذي يسمح للتلميذ أن يقف بين يدَي أُستاذه، فنقول بكلّ خضوعٍ وخشوعٍ لجميع مَن نناقش أقوالهم في هذه الدراسة من علماء الحقّ ورجال الولاء:

الوقفة الأُولى: اعتقاد الحسين (علیه السلام)

لقد سادت في فترةٍ من الفترات جملةٌ من المصطلحات، غير أنّها قد تُعَدّ في فترةٍ أُخرى غير لائقة، أو غير موفّقة، إذ أنّنا اليوم لا نرى في التعبير عن الإمام (علیه السلام) الّذي لا ينطق عن الهوى، ولا يتكلّم إلّا بما قاله أبوه عن جدّه عن جبرئيل عن الله بالقول: «يعتقد»، وليس هذا محلّ بحث هذه القضيّة.

غير أنّ هذا الاعتقاد الّذي نقول: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان يعتقده، يحتاج إلى دليلٍ لإثباته، فمن قال أنّ الإمام (علیه السلام) كان يعتقد هذا الاعتقادبالذات؟!

ص: 158


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 171 _ عن: مقتل الحسين (علیه السلام) للسيّد المقرّم: 66.

مَن قال أنّ الإمام (علیه السلام) كان يعتقد أنّه فاتحٌ منصورٌ لما في شهادته من هذه الآثار الخاصّة دون غيرها، مِن قبيل إحياء دين الرسول (صلی الله علیه و آله)، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأُمّة أنّهم (علیهم السلام) أحقّ بالخلافة من غيرهم؟!

بحيث أعيت السبل، وانقطعت الوسائل بسيّد الشهداء (علیه السلام) لإثبات ذلك إلّا بهذا القتل!

والأهمّ من ذلك كلّه، أنّنا نزعم أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) يعتقد هذا الاعتقاد، فالمفروض أن ندلّل على ما يعتقده الإمام (علیه السلام) بأقوال الإمام (علیه السلام) الكافية الشافية الكثيرة في المقام!

الوقفة الثانية: النهضة!

هذا هو أوّل الكلام، وهو ما نبحث عنه إن لم نكن قد حدّدنا من قبل موقفاً خاصّاً للإمام (علیه السلام)، أما وقد حدّدنا موقفاً خاصّاً للإمام (علیه السلام) (وأنّه قد قام بنهضةٍ أو خرج بالمعنى المصطلح)، فلابدّ من البحث عن مسوّغاته ومبرّراته، لئلّا نُسأل فيما بعد: إذن فماذا أراد الإمام (علیه السلام) بنهضته، وقد قتله الأعداء وقتلوا مَن معه؟!

فمن قال أنّه (علیه السلام) كان قد نهض وخرج بالمعنى المصطلح، ولم يكن قد هجم عليه العدوّ، فقام بالدفاع عن نفسه في المدينة، ثمّ في مكّة، ثمّفي العراق، حتّى حاصروه وقطعوا عنه المدد، فكان بينهم «كالأسير

ص: 159

المرتهَن»، و«المستضعف الغريب»، و«المقتول ظلماً وعدواناً»، و«المذبوح كما يُذبَح الكبش».. الكبش الّذي لا يُراد منه إلّا أن يُقتَل، وهو لا يهجم ولا يهدّد أحداً ولا يؤذي أحداً.. وغيرها من الأوصاف والنعوت الواردة في الأحاديث الشريفة والزيارات المقدّسة، وسنأتي على بيانها في محلّها إن شاء الله.

الوقفة الثالثة: توقّف الأمر!

يبدو من الكلام أنّ جميع الآثار المترتّبة على الشهادة متوقّفةٌ على هذا القتل، وبهذه الصورة الفظيعة الفجيعة..

بحيث لا يمكن للإمام الحسين (علیه السلام) أن يُثبِت ما أُريد له أن يُثبته بشهادته إلّا بهذه الوسيلة الوحيدة لا غير، ولا يمكن لغيره أيضاً أن يُثبِت ذلك، أيّاً كان وبأيّ وسيلةٍ كانت!

ألم يثبت كلّ ما أُريد له من قبله رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والسيّدة الصدّيقة فاطمة الزهراء والإمام الحسن المجتبى (علیهم السلام)، ثمّ من بعده أولاده المعصومين؟!

ألم يثبت أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً _ من النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى الوليّ الخاتم (علیه السلام) _ حقّهم في الخلافة، ويحيوا دين رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويميتوا البدعة، ويفظّعوا أعمال المناوئين، ويفهموا الأُمّة بأحقّيّتهم فيالخلافة؟!

ص: 160

لقد غصّت الزيارات والأحاديث بإثبات جميع ذلك لجميع المعصومين (علیهم السلام)، ولنا في الزيارة الجامعة وحدها ما يغني عن غيرها من النصوص الشريفة.

فهذه الآثار وغيرها ممّا يُصوَّر في المقام لا تتوقّف على شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) فقط دون غيره من المعصومين (علیهم السلام)، ولا على نوع قتله، والقول بالتوقّف عليه يخالف البديهيّ الاعتقاديّ، ويغمط الباقين حقّهم، ويستصغر ما فعلوه، والعياذ بالله.

الوقفة الرابعة: حصر مراد الإمام (علیه السلام) بمعنىً واحد

حصر المتنُ مرادَ الإمام الحسين (علیه السلام) من الفتح بمفروضٍ أُرسل إرسال المفروغ عنه، فهو يقول: إنّ الإمام (علیه السلام) لم يُرِدْ بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته من:

- نقض دعائم الضلال.

- كسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة.

- إقامة أركان العدل والتوحيد.

وأنّ الواجب على الأُمّة القيام في وجه المنكر.

لو افترضنا أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد نهض، فمن ذا يحصر أهداف نهضته، وأنّه إنّما ضحّى بنفسه القدسيّة، وسمح بمهجته ودمه الزاكيالّذي سكن الخلد، وجعل لحمه وقفاً على المشرط، وأطعم الموت خير

ص: 161

البنين وخير الرجال، وبذل للسبي مخدّرات سرادق العزّ الإلهيّ، ليكون فيما بعد فاتحاً لهذه الأهداف خاصّة؟!

ألم يكن ثمّة وسيلةٌ أُخرى _ وهو المسدَّد بالتسديد الإلهيّ المباشر والمسدَّد بالملائكة والروح _ إلّا هذه الوسيلة؟!

ألم يكن مَن سبقه من المعصومين (علیهم السلام)، ومَن لحقه منهم من أبنائه إلى الوليّ الخاتم (علیهم السلام)، قد سعى وبذل مهجته في نقض دعائم الضلال، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وبيان أنّ الواجب على الأُمّة القيام في وجه المنكر؟!

نشهد لهم جميعاً بجميع ذلك من دون أيّ شكٍّ ولا شبهةٍ ولا ترديدٍ ولا تمييزٍ لأحدهم عن الآخَر، وقد قامت عقيدتنا على ذلك، وأثبتتها النصوص المتظافرة المتكاثرة في بابها.

الوقفة الخامسة: هل صرّح الإمام (علیه السلام) نفسه بذلك؟

ربّما سأل سائلٌ نفس السؤال المطروح قبل قليل:

إنّ هذه الأُمور الّتي عُدّت هي الفتح المقصود للإمام (علیه السلام) مِن إقدامه على الموت وقيامه بنهضته و(خروجه بالمعنى المصطلح)، فلابدّ من إثباتها من كلامه وتصريحاته وبياناته، فهل تُجمِع كلماتُه على ذلك بحيث ينجلي بوضوحٍ لمن قرأها هذا المعنى من الفتح، وأنّه قصد به هذهالموارد بالخصوص أو ما يشابهها؟!

ص: 162

ولا يصحّ اعتماد نصٍّ واحدٍ مرسَلٍ يرويه مجهول، ويتفرّد بروايته، ويُعرِض عنه العلماء والمؤرّخون، وهو غير تامّ الدلالة، بل تفيد دلالاته إذا قُرأت كاملاً ومن دون تقطيعٍ على خلاف المراد، وقد أتينا على شرح ذلك مفصَّلاً عند مناقشة وصيّة الإمام لأخيه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة، فلا نعيد.

الوقفة السادسة: إثبات المدّعى

لقد وقفنا أكثر من مرّةٍ عند ما يُرسَم لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) من آثار يُطلق عليها اسم (الفتح)، وأشرنا إلى ذلك في كتاب (لقاء الفرزدق)، وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً في محلّه إن شاء الله.

ونكتفي هنا بالإشارة السريعة:

هل تحقّق إحياء دين رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

هل أُميتت البدعة بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

ألم يكن في غصب الخلافة، وما قاموا به كملاً، وقتل سيّدة النساء فاطمة (علیها السلام) بتلك الصورة الفجيعة، وهتك حرمة بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومهبط الوحي، وقتل سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) (المحسن) الشهيد (علیه السلام) جهاراً نهاراً، وقتل أمير المؤمنين، وقتل الإمام الحسن المجتبى (علیهما السلام)، ثمّ مِن بعد الإمام الحسين ما جرى على أولاده المعصومين (علیهم السلام)، وتجاهرالقوم بالرذيلة وترويجها، كلّه لم يكن كافياً لتفظيع أعمال المناوئين؟

ص: 163

هل فهمت الأُمّة أحقّيّة أهل البيت (علیهم السلام) بالخلافة ورتّبَت على ذلك أثراً؟

هل انتقضت دعائم الضلال؟

هل كسحت أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة؟

هل أُقيمت أركان العدل والتوحيد بين الأُمّة؟

هل علمَت الأُمّة وجوب قيامها في وجه المنكر ورتّبت عليها أثراً؟

إنّ كلّ ما كان قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) بقيَ في الأُمّة في جميع الموارد المذكورة، بل ازداد وتشدّد، كما تفيد الأحاديث والزيارات والواقع التاريخيّ المرويّ في كتب التاريخ!

أمّا أن تكون جميع هذه محفوظةً في الإمام (علیه السلام) والثلّة القليلة من الديّانين طول التاريخ، فهو لا علاقة له بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وذبحه عطشاناً ظامياً، وقتل أنصاره وأهل بيته، وانتهاك خبائه وسبي نسائه ونهبهنّ..

أوَليست الأكثريّة كانت ولا زالت كما كانت، إن في المجتمع الّذي يُطلَق عليه أُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله)، أو في المجتمعات الأُخرى من الكفّار والمشركين وأهل الكتاب؟!

الوقفة السابعة: مَن الغالب؟!

أمّا الاستدلال بسؤال إبراهيم بن طلحة وجواب الإمام السجاد (علیه السلام)،

ص: 164

فإنّه لا ينهض لإثبات جميع ما ذكره، إن تمّت الدلالة، وليس الأمر كذلك.

وأصل الحديث كما يبدو في (أمالي) الشيخ الطوسيّ مسنداً _ بغضّ النظر عن السند _ عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«لمّا قَدِم عليُّ بن الحسين، وقد قُتل الحسين بن عليّ (صلوات الله عليهما)، استقبله إبراهيم بن طلحة بن عُبيد الله، وقال: يا عليّ بن الحسين، مَن غلب؟ وهو مغطّى رأسه، وهو في المحمل.

قال: فقال له عليّ بن الحسين (علیهما السلام): إذا أردتَ أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذِّنْ ثمّ أقِمْ» ((1)).

وسيأتي تفصيل الكلام عنه في محلّه إن شاء الله (تعالى)، بَيد أنّنا نشير هنا إلى أنّ السياق يشهد أنّ إبراهيم هذا كان يشمت بالإمام (علیه السلام)، ويقصد الغلبة العسكريّة والحسم في الميدان، وأنّ بني أُميّة قد جَزّروا جزر الأضاحي أهلَ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، واستأصلوا _ في ظنّهم _ شأفتهم، وأتوا على آل أبي طالب، وقتلوا عترة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وبهذا سوف لا يبقى ذكرٌ لرسول الله وآله، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّنا باقون، وأنّ بني أُميّة أنفسهممضطرّون لذِكر النبيّ وآله، شاؤوا أَم أبوا، وأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وذرّيّته باقيةٌ ولم

ص: 165


1- الأمالي للطوسيّ: 677 الرقم 1432، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 177، العوالم للبحرانيّ: 17 / 414، نفَس المهموم للقمّيّ: 434.

يقضوا عليها، وفي عليّ بن الحسين (علیه السلام) الّذي يردّ على مثل هذا الرجل كفايةٌ من ذرّيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

الإنارة السادسة: الفتح انتصار المبادئ والقيم

وقيل:

لقد أخبر (علیه السلام) الأُسرة النبويّة بأنّ مَن لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومَن لم يلحق به فإنّه لا ينال الفتح، فأيّ فتحٍ هذا الّذي عناه الإمام؟

إنّه الفتح الّذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التاريخ، فقد انتصرت مبادؤه، وانتصرت قيَمُه، وتألّقَت الدنيا بتضحيته، وأصبح اسمه رمزاً للحقّ والعدل، وأصبحت شخصيّته العظيمة ليست ملكاً لأُمّةٍ دون أُمّةٍ ولا لطائفةٍ دون أُخرى، وإنّما هي مُلكٌ للإنسانيّة الفذّة في كلّ زمانٍ ومكان، فأيّ فتحٍ أعظم من هذا الفتح، وأيّ نصرٍ أسمى من هذا النصر؟ ((1)).تتلخّص موادّ الفتح المقصود الّذي عناه الإمام الحسين (علیه السلام) في الموادّ التالية:

ص: 166


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 172 _ عن: حياة الإمام الحسين بن عليّ (علیه السلام) للشيخ القرشيّ: 3 / 45.

_ إنّه فتحٌ فريدٌ لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التاريخ.

_ انتصرت مبادؤه.

_ انتصرت قيَمُه.

_ تألّقَت الدنيا بتضحيته.

_ أصبح اسمه رمزاً للحقّ والعدل.

_ أصبحت شخصيّته ليست ملكاً لأمّةٍ دون أُمّةٍ ولا لطائفةٍ دون أُخرى.

هذه هي موادّ الفتح.. وهي الّتي قصدها سيّد الشهداء (علیه السلام) وعناها وضحّى بدمه الّذي هو أغلى ما في الكون وكلّ ما سوى الله إلّا مَن استثناهم الله..

هل يعني هذا أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) توخّى مِن بذل مهجته، والتضحية بأهل بيته الّذين ليس لهم على الأرض شبيه، وأنصارِه الّذين هم خير الصحاب، وجاد بعرضه وأهله ونسائه وأطفاله لشفار السلب والنهب والسبي والشماتة والعَرض والتعريض في مجالس الأدعياء والبلدان، من أجل أن تتألّق الدنيا بتضحيته؟!!

هو الإمام (علیه السلام) بنفسه عنى ذلك؟!ولكي يكون بطلاً ورمزاً للحقّ والعدل، ويجعل شخصيّته مشاعةً بين البشر؟!

إنّ الإمام (علیه السلام) نور الله في الأرض، ومَن لا يراه فهو محجوب، وليس

ص: 167

ذنب الشمس أن يُحجَب الأعمى عن نورها، فهو إمامٌ وحُجّةٌ على جميع الكائنات والمخلوقات والبشر أجمعين، هكذا نصبه الله وجعله وفرض طاعته عليهم، وليس هو ملكاً لأحدٍ سوى الله، والأُمم والطوائف بأجمعها ملكٌ له..

هل كان قد عجز الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وباقي الأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) من إحراز مثل هذا الفتح؟

إنّ مفردات الفتح المذكورة وموادّه لا تبدو عسيرةً ولا متفلّتةً ولا عصيّةً على مثل النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ الأوّل (علیه السلام) .

ألم تكن مبادئ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وقيمه منتصرةً إلى اليوم، ولا زالت الأُمم كلّها تتحدّث بها، وتتّخذها أُنموذج الكمال في السلوك البشريّ، واتّخذوا من كلماته وكتبه وخطبه مناراً ينشر النور والهدى والعدل والجمال في كلّ الدنيا على المستوى العالمي؟

وقبل ذلك مبادئ القرآن الكريم، الّذي حماه الله وحفظه من التغيير والتبديل، فأنزله وحفظه، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟!

وكذا الكلام في باقي الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..أحقّاً كان هذا هو المعنى الّذي عناه الإمام الحسين (علیه السلام) من الفتح لا غير؟!

أتصلح هذه الموادّ لتكون ثمناً لدم سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه؟

ص: 168

ألم يكن الإمام الحسين (علیه السلام) قادراً على تحقيق جميع ذلك دون أن يُقدِم بملء إرادته على «الحركة الانتحاريّة» كما سمّاها بعض الأفاضل الأعلام؟!

وطالما قلنا: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) إنّما عنى من الفتح هذا، فلابدّ أن ندلّل على ذلك من كلامه وبيانه، فأين قال ذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء؟!!

أجل، قد يقول القائل: إنّ القوم أقدموا بجرأةٍ على الله، وعزموا على قتل حبيبه، وحاصروه وقتلوه ومَن معه، ثمّ إنّ شهادته أثمرت هذه الثمار وأنتجَت هذه النتائج.. فهذا الكلام قد يكون فيه مجالٌ للقبول أو الردّ والإثبات، لأنّها تبقى نتائج العقول والتحليل.

أمّا أن يكون الإمام (علیه السلام) قد عناها وقصدها وجعلها (علّةً فاعلةً) لِما أقدم عليه، فهذا ما يحتاج إلى دليلٍ محكمٍ قويٍّ ثابتٍ لا يعتوره شكٌّ ولا ترديد، ولا ترقى إليه التساؤلات.

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) سمحَت نفسُه بمهجته، وبذل دمه في الله، لا في شيءٍ آخَر! وهو واللهِ أغلى من الدنيا وما فيها _ إلّا من استثناهمالله _، وأعزّ على الله من ذلك.

الإنارة السابعة: الفتح الاستبشار!

ربّما قيل:

ص: 169

إنّ الفتح جاء بمعنى يوم الفتح يوم القيامة.

قال العلّامة الطباطبائيّ:

وقد تقدّم في الآيات السابقة ممّا يصدق عليه الفتح بمعنى الفصل أمران:

أحدهما: فصل بينهم يوم القيامة، والآخَر: إذاقة العذاب الأدنى أو الانتقام منهم في الدنيا.

ولذا فسّر الفتح بعضهم بيوم القيامة، فيكون معنى قولهم: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((1))، هو معنى قولهم المحكى كراراً في كلامه (تعالى): ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((2)) ((3)).

وقال في قوله (تعالى): ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾:

سؤالٌ عن وقت الجمع والفتح، وهو البعث ((4)).

وقال في موضعٍ آخَر:

ص: 170


1- سورة السجدة: 28.
2- سورة الأنبياء: 38، سورة النمل: 71، سورة سبأ: 29، سورة يس: 48، سورة المُلك: 25.
3- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 267.
4- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 377.

وما قيل: إنّ المراد به يوم الموت، غير سديد؛ فإنّهم لم يسألوا الّا عمّا تقدّم وعده، وهو يوم الجمع والفتح، والجمع ثمّ الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت ((1)).

فربّما كان الإمام الحسين (علیه السلام) يقول: إنّ من تخلّف عنّي من بني هاشم ولم يلحق بي، فلا يعتمدنّ على ما ورد في قوله (تعالى): ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ((2)).

روى عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «يستبشرون واللهِ في الجنّة بمَن لم يلحقوا بهم مِن خلفهم من المؤمنين في الدنيا» ((3)).

وفي (الكافي) مسنَداً عن بريد العجليّ قال: سألتُ أبا جعفرٍ (علیه السلام) عن قول الله (عزوجل): ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، قال: «هم واللهِ شيعتنا، حين صارت أرواحهم في الجنّة واستقبلوا الكرامة من الله (عزوجل)، علموا واستيقنوا أنّهم كانوا على الحقّ

ص: 171


1- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 378.
2- سورة آل عمران: 169 و170.
3- تفسير القمّيّ: 1 / 20.

وعلى دِين الله (عزوجل)، واستبشروا بمن لم يلحق بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ((1)).

فمن تخلّف عن الإمام (علیه السلام) ولم يلحق به، فليس الإمام (علیه السلام) ومن معه فرطاً له، ولا يستبشرون بمن لم يلحق بهم، وليس هم ممّن سيُدرك هذا الفتح يوم الفتح بحيث يكون الإمام (علیه السلام) فرطاً له يستبشر به، وإنّما هو في خسرانٍ مبين!

الإنارة الثامنة: الفتح هو انتقام الصاحب لدم جدّه (علیهما السلام)

إستُعمل لفظ (الفتح) في اللغة بمعنى النصر كثيراً، وقد ورد في الأحاديث الشريفة تصريحاً وتلويحاً أنّ نصر الإمام الحسين (علیه السلام) لم يحن بعد، وأنّه سيُنصَر ويحقّق الغلبة على الأعداء في المستقبل القريب جدّاً.. «إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً»، ﴿ألَيسَ الصُّبْحُ بِقَريب﴾ ((2)).

فقد رُوي مسنداً عن صالح بن سهلٍ عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله (عزوجل): ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾، قال: «قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) وطعن الحسن بن عليّ (علیه السلام)، ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾: قتل الحسين بن عليّ (علیه السلام)، ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا﴾»، قال: «إذا جاء

ص: 172


1- الكافي للكلينيّ: 8 / 156 ح 146.
2- سورة هود: 81.

نصر الحسين (علیه السلام)، ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ﴾، قوماً يبعثهم الله قبل قيام القائم (علیه السلام)، لا يدَعون وِتراً لآل محمّدٍ إلّا أحرقوه، ﴿وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾ ((1))» ((2)).

وبالإسناد عن أبي بصيرٍ عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: تلا هذه الآية: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ ((3))، قال: «الحسين بن عليٍّ منهم، ولم يُنصَر بعد!»، ثمّ قال: «واللهِ لقد قُتل قَتلَة الحسين (علیه السلام)، ولم يُطلَب بدمه بعد» ((4)).

وأيضاً عن أبي خالدٍ الكابليّ عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سمعتُه يقول في قول الله (عزوجل): ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ ((5))، قال: «عليٌّ والحسن والحسين (علیهم السلام) » ((6)).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألتُه عن قول الله (عزوجل): ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ ((7))، قال: «نزلَت في الحسين (علیه السلام)، لو قُتل أهلُ الأرض به ما كان سرفاً» ((8)).

وورد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) منصورٌ لا محالة، فعن جابرٍ عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «نزلَت هذه الآية في الحسين (علیه السلام): ﴿وَمَن قُتِلَ

ص: 173


1- سورة الإسراء: 4 و5.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 1.
3- سورة غافر: 51.
4- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 2.
5- سورة الحجّ: 39.
6- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 4.
7- سورة الإسراء: 33.
8- تفسير البرهان: 3 / 527 _ عن: الكافي للكلينيّ: 8 / 255.

مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾، قاتل الحسين،﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾»، قال: «الحسين (علیه السلام) » ((1)).

وأنّ مَن سيحقّق هذا النصر إنّما هو ولده القائم (علیه السلام)، فقد رُوي عن سلام بن المستنير عن أبي جعفرٍ (علیه السلام) في قوله: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾، قال: «هو الحسين بن عليّ (علیه السلام)، قُتل مظلوماً، ونحن أولياؤه، والقائم منّا إذا قام منّا طلب بثار الحسين، فيقتل حتّى يُقال: قد أسرف في القتل»، وقال: «المقتول الحسين (علیه السلام)، ووليّه القائم، والإسراف في القتل أن يقتل غير قاتله، ﴿إِنَّه كَانَ مَنْصُوراً﴾، فإنه لا يذهب من الدنيا حتّى ينتصر برجلٍ من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً» ((2)).

ص: 174


1- تفسير العيّاشيّ: 2 / 290 ح 65.
2- تفسير العيّاشيّ: 2 / 290 ح 67.

ورُوي أنّه سُئل أبو عبد الله (علیه السلام) في قوله (تعالى): ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾، قال: «ذلك قائم آل محمّد، يخرج فيقتل بدم الحسين (علیه السلام)، فلو قتل أهلَ الأرض لم يكن مسرفاً، وقوله: ﴿فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ﴾، لم يكن ليصنع شيئاً يكون سرفاً». ثمّ قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يقتل واللهِ ذراري قتَلَة الحسين (علیه السلام) بفعال آبائها» ((1)).

وعن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في حديثٍ رُوي عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «إذا خرج القائم (علیه السلام) قتل ذراري قتلة الحسين (علیه السلام) بفعال آبائهم»؟ فقال (علیه السلام): «هو كذلك». فقلت: وقول الله (عزوجل): ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ((2))، ما معناه؟ قال: «صدق اللهُ في جميع أقواله، ولكنّ ذراري قتَلَة الحسين (علیه السلام) يرضون بأفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومَن رضيَ شيئاً كان كمَن أتاه، ولو أنّ رجلاً قُتِل بالمشرق فرضيَ بقتله رجلٌ في المغرب لَكان الراضي عند الله (عزوجل) شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائم (علیه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ...» ((3)).

ص: 175


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 5.
2- سورة الأنعام: 164.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق: 1 / 273 الباب 28 ح 5.

فربّما قيل: إنّ الفتح الحسينيّ لم يحن لحدّ الآن، إذ أنّ النصر سيتحقّق له حين يقوم ولده المنتقم لدمه من أعدائه، فإذا حان هذا الفتح والنصر، فليس لأحدٍ من بني هاشم ممّن تخلّف عنه يومه الأوّل أن يلحق به يومه الثاني مع ولده في كرّته.

الإنارة التاسعة: الفتح الرجعة!

ورود إطلاق (الفتح) على الرجعة:

قال عليّ بن إبراهيم في قوله:

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرضِ الْجُرُزِ﴾ ((1))، قال: الأرض الخراب، وهو مَثَلٌ ضربه الله في الرجعة والقائم (علیه السلام)،فلمّا أخبرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخبر الرجعة قالوا: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((2))، وهذه معطوفةٌ على قوله: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ ((3))، فقالوا: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، فقال الله: «قل لهم: ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ

ص: 176


1- سورة السجدة: 27.
2- سورة السجدة: 28.
3- سورة السجدة: 21.

عَنْهُمْ﴾ يا محمّد ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ ((1))» ((2)).

والرجعة هي الفتح الأعظم _ وهذا ما لا يشكّ به مؤمنٌ بها _.

رُوي مسنداً عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام): يا ابن رسول الله، أخبِرْني عن إسماعيل الّذي ذكره الله في كتابه حيث يقول: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ ((3))، أكان إسماعيل بن إبراهيم (علیه السلام) ؟ فإنّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم! فقال (علیه السلام): «إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنّ إبراهيم كان حجّةً لله كلّها [قائماً] صاحب شريعة، فإلى مَن أُرسل إسماعيل إذن؟». فقلت: جُعلتُ فداك، فمن كان؟ قال (علیه السلام): «ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ (علیه السلام)، بعثه الله إلى قومه، فكذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضبالله له عليهم، فوجّه إليه أسطاطائيل ملَك العذاب، فقال له: يا إسماعيل، أنا أسطاطائيل ملَكُ العذاب، وجّهَني إليك ربّ العزّة، لِأُعذّب قومك بأنواع العذاب إنْ شئت. فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك. فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ، إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّدٍ بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أُمّته

ص: 177


1- سورة السجدة: 29 و30.
2- تفسير القمّيّ: 2 / 171.
3- سورة مريم: 54.

بالحسين بن عليّ (علیه السلام) من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين (علیه السلام) أن تكرّه إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربِّ أن تكرّني إلى الدنيا حتّى أنتقم ممّن فعل ذلك بي كما تكرّ الحسين (علیه السلام) . فوعد الله إسماعيل ابن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين (علیه السلام) » ((1)).

فالكرّة مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أملٌ يرجوه الأنبياء (علیهم السلام)، للانتقام ممّن قتل الإمام الحسين (علیه السلام) .

فسيكون المعنى: إنّ مَن لم يلحق بالإمام (علیه السلام)، فإنّه سوف لا يُدرِك الفتح، ولا يبلغ الانتقام بنفسه من قتلة سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم الفتح حين يكرّ هو وأصحابه _ كما في الأحاديث _.

الإنارة العاشرة: الفتح بمعنى الفصل

إنّ الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كلٍّ منهما عن صاحبه، حتّى لا يماسّ هذا ذاك ولا ذاك هذا ((2))، تماماً كما يُفعَل بمصراعَي الباب حين يُبعَد أحدهما عن الآخر حتّى لا يتلاقيان.

فربّما كان المعنى: إنّ مَن لم يستشهد مع الإمام (علیه السلام) من بني هاشم، فإنّه لا يدرك فصل نفسه وإبعادها، بحيث يبقى في مأمنٍ من الأعداء.

ص: 178


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 138 الباب 19 ح 163.
2- تفسير الميزان للطباطبائيّ: 8 / 192.
الإنارة الحادية عشر: الفتح بمعنى الظفَر والغلَبة

لقد مرّ معنا أنّ من معاني الفتح المستعملة كثيراً، وربّما كان هو المعنى الأظهر فيه في مثل المقام، هو معنى الظفر والغلبة..

فربّما قيل: إنّ الإمام (علیه السلام) يخاطب المتخلّف من بني هاشم كأولاد العبّاس وغيرهم _ إلّا من يخرج بالدليل _ ويعرّض بهم ويقول: إنّكم إن تخلّفتم معي ولم تستشهدوا، فإنّكم لا تدركون الفتح والغلبة والظفر بالحكم، وهذا لا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) ردّ وصول بني العبّاس إلى مآربهم في السلطة والحكم، إذ أنّ المخاطب هو مَن كان على قيد الحياة زمن الإمام (علیه السلام) وهو يطمع بها، ومن وصل إلى مآربه هم أحفاد الأحفاد.

الإنارة الثانية عشر: الفتح بمعنى القضاء

القضاء، والتمييز في القضيّة، ومعرفة الحقّ، وإماطة الإغلاق والإشكال في الأمر، من معاني الفتح كما مرّ معنا..

وقال الراغب:

الفتح: إزالة الاغلاق والإشكال ...

إلى أن قال:

وفتحَ القضيّةَ فتحاً: فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها. قال:

ص: 179

﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ ((1)) ((2)).

فربّما كان المعنى: إنّ الإمام (علیه السلام) يقول لهم: إنّكم إن تخلّفتم ولم تلحقوا بالشهادة، فسوف لا تميّزون بعدها، وتعجزون عن إزالة الإغلاق والإشكال في الأمر والدين، وتضطرّون إلى الخبط والخلط والنفاق وغيرها.

الإنارة الثالثة عشر: الفتح طلب الثأر

ربّما يُقال:

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يخاطب الهاشميّين بالخصوص دونغيرهم، فقال لهم: مَن لحق بي استُشهد معي، ولكن مَن لم يلحق بي لا يظنّنّ أنّه سيُدرك الثأر لي والانتقام لي من أعدائي!

وهذا ما حصل بالفعل للهاشميّين، وأنّهم لم يُدركوا ثار الإمام (علیه السلام) وأهل بيته.

وهو في نفس الوقت سيكون تنبيهاً وتنويهاً وتخذيلاً عن بني العبّاس وغيرهم ممّن أراد أن يرفع دماء سيّد الشهداء (علیه السلام) ليتذرّع بها

ص: 180


1- سورة الأعراف: 89.
2- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 267.

وبالثأر لها، ليصل إلى مآربه الدنيويّة.. إذ أنّ هذا البلاغ نفى عنهم إمكان ذلك، ومنعهم عن ادّعائه، وكذّبهم فلا يغترّنّ بهم أحد.

الإنارة الرابعة عشر: الفتح هو الاستشهاد معه!

قد يُقال:

ذكرنا فيما مضى أنّ كلام الإمام الحسين (علیه السلام) في كتابه هذا قطعةٌ واحدة، فما بعد العطف يتحدّث عمّا قبله وبالعكس، فحينئذٍ يكون الفتح المذكور في المقطع الثاني مشيراً إلى ما ذُكر في المقطع الأوّل الّذي تحدّث عن نتيجة اللحاق به (علیه السلام) .

فإذا كانت نتيجة اللحاق به هي الشهادة معه، فما سيفوت على مَن تخلّف عنه ولم يلحق به هو (الشهادة بين يديه)، وهذا الاستشهاد هو الّذي عناه الإمام (علیه السلام) ب-- (الفتح)!فكأنّه يقول: مَن لحق بي منكم فقد أدرك الفتح والظفر والفوز بالشهادة، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك هذا الظفر والفوز بالشهادة الّذي سمّاه الفتح..

فالفتح بالنسبة لمن لحق ولمن لم يلحق هو الفوز بالشهادة أو الحرمان منها.. فيكون المراد بالفتح هنا هو الشهادة نفسها، تماماً كما قد قيل سابقاً، والفرق أنّه تحدّث عنها لا عمّا سيترتّب عليها.. فالشهادة دفاعاً عن سيّد الكائنات وإمام الزمان هي عين الفتح بكلّ ما للفتح

ص: 181

من معانٍ مذكورةٍ في اللغة ممّا يناسب المقام على المستوى الفرديّ والعام.

فسيكون المعنى: من لحق بي منكم استُشهد معي، ومن لم يلحق بي منكم فإنّه لن يبلغ هذا الفتح _ الّذي هو الشهادة بين يديه _ بعد اليوم.. لأنّ الشهادة بين يديه والدفاع عنه وعن آل الرسول (صلی الله علیه و آله) هي أعظم فرصةٍ يمكن أن يظفر بها الإنسان في هذه الدنيا، ليظفر بأعلى الرتب السامية في الدارين الّتي لا يمكن أن يظفر بها في أيّ ظرفٍ آخَر لا من قبل ولا من بعد..

فربّما يكون هذا هو معنى الكثير من تصريحات أنصار الحسين وأهل بيته (علیهم السلام) يوم عاشوراء من أنّ الله مَنّ عليهم بهذا الموقف، واختصّهم بهذه الخصوصيّة، وأنّه يومٌ مميَّزٌ لهم لينالوا به الرتب العاليةوالمقامات السامية، ممّا جعلهم يتهادون إلى القتل بين يدَي الحسين (علیه السلام) وعياله، ويتسابقون إلى الجنان، ويتطاول لهذا الفتح العظيم حتّى مَن لم يبلغ الحلُم منهم، لأنّ أيّاً منهم لو عمّر عمر الدنيا وزيادةً لَما فتح الله عليه بمثل هذا الفتح، ولم يظفر بمثل هذه الفرصة..

فالفتح هنا هو نفس الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وما أعظمه من فتحٍ بلغ ببعض مَن ناله أن يغبطه عليه سائر الشهداء (علیهم السلام)، وأن يبلغ بالجميع رتبة «لا أعلم أصحاباً.. ولا أهل بيت..».

والفاتح هو مَن نال هذه الشهادة، وليس هو الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 182

نفسه، وإنّما هو السبب في تحقّق هذا الفتح لمن استشهد معه.

فإن كان الإمام الحسين (علیه السلام) فاتحاً، فبمعنى أنّه فتح لهؤلاء الأبرار الأطهار باب الكمال والسموّ والرفعة والرتب السامقة، وفتح لهم أبواب الجنان العالية الخاصّة الّتي لا تُفتَح إلّا لأمثالهم.

الإنارة الخامسة عشر: الفتح بمعنى نصرته

ورد الفتح بمعنى النصر والنصرة، وقد صرّح بذلك نصّ الكتاب برواية أبي طالبٍ الزيديّ، إذ جاء فيه:

«أمّا بعد، فإنّكم إن لحقتم بي استُشهدتم، وإن تخلّفتُم عنّيلم تلحقوا النصر، والسلام» ((1)).

فيكون معنى الفتح هو نصر ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والشهادة بين يديه، فمن لحق من بني هاشم به فقد فاز بنصره، ومن تخلّف عنه فإنّه قد خسر هذه الفرصة ولم ينصره.

الإضاءة التاسعة: محصَّل الكلام

بعد هذا الاستعراض الّذي ربّما أطلنا فيه الحديث، لأنّه ربّما كان من التصريحات المهمّة، والبيانات الّتي جُعلَت من الأُسس الرئيسة في

ص: 183


1- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91.

فهم قيام الإمام الحسين (علیه السلام) ..

رغم هذه الإطالة، فإنّنا نحسب أنّ في المقام مجالاً أوسع للكلام، بيد أنّنا اكتفينا بهذا القدر، لأنّ ما سيأتي من دراساتٍ سيتناول الموضوع من جهاتٍ وحيثيّاتٍ أُخرى، والبحث يتمّم بعضه بعضاً.

وخلاصة القول هنا:

إنّ جملة الوجوه المذكورة قبل قليلٍ تحاول استكشاف مراد الإمام (علیه السلام) وقصده في الكتاب، فربّما اقتنع المتلقّي بوجهٍ دون آخَر، أو بعدّة وجوهٍ منها، وله الخيار في الاختيار إذا تخلّى عن السوابق الذهنيّة، وحاول الجلوس بين يدَي الإمام (علیه السلام) وخطابِه ليستلهم ما يقول..وقد مرّ معنا معنى المفردات الواردة في اللغة والاستعمال، فما كان من الوجوه موافقاً لها فهو الأقرب والأكثر مقبوليّةً وإقناعاً، سيّما إذا كانت الأدلّة والأحاديث وبيانات الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه ومواقفه تدلّ عليه وتشهد له.

وما كان من الوجوه ارتجاليّاً وتخرّصاً وتخميناً وما شاكل ممّا يجده المتلقّي قريباً من الحماسة والانفعال والاندفاع والشعارات والتصوّرات والتصويرات، بعيداً عن واقع الحوادث التاريخيّة وسير الأحداث، ونافراً عن السياق غير منسجمٍ معه، ولا دليل عليه من قول الإمام (علیه السلام) أو فعله، فهو يتهاوى ولا يستقيم!

والمفروض أن يُذكَر الدليل القاطع والبرهان الساطع على مراد

ص: 184

الإمام (علیه السلام) إن زعمنا أنّه هو المراد الوحيد، أمّا أن يُساق الكلام هكذا في جوٍّ حماسيٍّ مزدحمٍ بالصور الأدبيّة الخطابيّة من دون استدلال، فهو تحميلٌ على كلام الإمام (علیه السلام) .

ويمكن للمتلقّي أن يرى في بعض الوجوه المذكورة تجانساً وانسجاماً، فهي تتلاقى وتتماشى بشكلٍ طوليٍّ لا تعارض بينها، فتكون جميعها داخلةً في دائرة القبول، وإن كان بعضها أقرب من بعض، وبعضها أقوى من بعض.

وربّما كان الوجه قبل الأخير المذكور في الإنارة الرابعة عشرة وجهاًقريباً من الألفاظ والمفردات والتراكيب واتّحاد السياق، ممّا يجعله أقرب إلى التصوّر، وهو وجهٌ يتماهى ويلتئم مع بعض الوجوه الأُخرى، سيّما الوجه الأخير.

الإضاءة العاشرة: هل في الكتاب تعريض؟!
اشارة

ربّما قيل:

إنّ أسلوب جواب الإمام الصادق (علیه السلام)، وقوله: «إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث، ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا»، وهم كانوا في جوّ مناقشة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)، وتخلّف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. وكذا في حديث الإمام الباقر (علیه السلام) الّذي يروي الكتاب.. ما يفيد التعريض بالمولى المكرّم

ص: 185

ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وأنّه قد تخلّف عن أخيه بعد إقامة الحجّة عليه.

ويمكن استكشاف مدى صحّة هذا القول أو سقمه من خلال التلويحات التالية:

التلويح الأوّل: لماذا يُحصَر الكلام في ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ؟!

مرّت الإشارة إلى أنّ الكتاب ليس خاصّاً بالمولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وإنّما هو خطابٌ لبني هاشم المعاصرين جميعاً، وابنالحنفيّة (رضی الله عنه) أحدهم، وهو من آل أبي طالب الّذين لازموا جميعاً ركاب سيّد الشهداء (علیه السلام)، إلّا القليل القليل منهم الّذين لم يلحقوا لأسباب.

فلماذا لا نسمع من يلوم بني هاشم المتخلّفين من غير آل أبي طالب، وكأنّ الكتاب لا يخاطبهم، بل قد نجد من يدفع عن كبارهم من قبيل ابن عبّاس، ويحاول جاهداً إيجاد الذرائع والتوسّل بأيّ قشّةٍ يمكنها أن تفلت به من تحت طائلة الخطاب؟!

فلْيعتذر مَن أراد الاعتذار لمثل ابن عبّاس بكونه كان كفيف البصر أو غيرها من الأعذار بعد أن يشمله الخطاب، أمّا أن يُقال: إنّه كان في مكّة، والخطاب موجَّهٌ لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يوم كان في المدينة، لإخراجه من شمول الكتاب، فهو تذرّعٌ أكثر من بارد.

ولو كان الأمر كذلك، لَما خرج باقي أولاد العبّاس ولا أولادهم بما فيهم أولاد عبد الله بن عبّاس، وسيبقون تحت طائلة المسؤوليّة!

ص: 186

وقد اتّضح من خلال البيان الّذي مرّ معنا سابقاً أنّ المولى محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان في مكّة حين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)، وحين كتابة سيّد الشهداء (علیه السلام) كتابه لأخيه وبني هاشم، فلا معنى لما اعتذروا به لابن عبّاس، حيث قيل:

إنّ عنوان الكتاب كان «إلى محمّد بن عليّ ومَن قبله من بنيهاشم، وهو يومئذٍ كان بالمدينة، وابن عبّاس حين كتابة الأوّل (مَن لحق بي منكم استُشهد..) كان مع الحسين بمكّة، وهو غير مشمولٍ بالدعوة» ((1)).

فلا يمكن إثبات كون ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين كتابة الكتاب كان في المدينة، بل الإثبات خلافه تماماً.

ثمّ إنّ الكتاب لم يحدّد المخاطَب حسب المكان، وإنّما خاطبه حسب الانتماء والنسب: «مَن لحق بي منكم»، أي: من بني هاشم، سواءً أكانوا في المدينة أو مكّة، أو في أيّ صقعٍ من أصقاع الأرض يومها.

قال السيّد الخرسان (حفظه الله):

أمّا جواب السؤال الثاني: لماذا لم يُرسِل _ أي: عبد الله بن عبّاس _ بعض أولاده مع الحسين (علیه السلام) ؟

فهو يشارك الأوّل في صعوبة تجنّبه، وتستعصي الإجابة عنه

ص: 187


1- موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد الخرسان: 5 / 245.

بالتعذير؛ فإنّ الكتاب الّذي ذكرنا أنّ الحسين (علیه السلام) أرسله من مكّة إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبله من بني هاشم الّذين كانوا بالمدينة، لا شكّ في أنّه دعوةٌ ترغيبيّةٌ للالتحاق بركبه الحسينيّ، والتخلّف عنه بغير عذرٍ شرعيّ غير فائز بعظيم الأجر، لأنّه لم يبلغ مبلغ الفتح.وعلى هذا، فإنّ بني هاشم الّذين كانوا بالمدينة ولم يلحقوا بالحسين (علیه السلام) هم أَولى بالتقصير منهم بالتعذير، وأولاد ابن عبّاس الّذين كانوا بالمدينة من جملة أُولئك غير المعذّرين.

ويبقى اللّوم _ إن صحّ التعبير _ متوجّهاً إلى أبيهم، فهو إن كان معذوراً لأنّه مكفوف البصر، أما كان الأجدر به أن يصنع مثل صنع ابن جعفرٍ حين أرسل ابنَين من وُلده مع الحسين (علیه السلام) لنصرته؟

وأمّا اعتذار بعض الباحثين ممّن أُجلّه معذّراً بأنّهم ربّما كانوا صغاراً، قولٌ تعوزه الدقّة في المعرفة التاريخيّة، فإنّ في أبناء ابن عبّاسٍ مَن ناهز العشرين سنة، بل جاوزها، كابنه العبّاس الأعنق، وبه كان يُكنّى، وهو أكبرهم، أمّا أصغرهم فابنه عليّ _ والد العباسيّين _، فإنّه وُلد قبل شهادة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وبارك الإمام (علیه السلام) لأبيه ولادته، وهو الّذي سمّاه عليّاً، وله بينهما محمّد والفضل وعُبيد الله، وزاد المسعوديّ عبد الرحمان، فهم كلّهم له قابليّة حمل السلاح ويتوجّه عليه

ص: 188

التكليف، وقد شملَتهم دعوة الحسين (علیه السلام) في كتابه الآنف الذكر.

هذا كلّه إذا احتملنا أنّهم كانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكّةمع أبيهم، خصوصاً وإنّ أباهم كان إليه أمر السقاية، وهم في موسم الحجّ، وهو بحاجةٍ إلى بعض وُلده ممّن يساعده في الإشراف على إدارة شؤون السقاية وتدبير أمرها، خصوصاً بعدما كُفّ بصره.

ولو تنزّلنا عن هذا أيضاً وعدنا إليهم في المدينة، أما كان عليه أن يُرسِل عليهم فيُحضرهم ليذهبوا مع الحسين (علیه السلام) فينالوا شرف المفاداة؟

وهكذا يبقى السؤال ناقص الإجابة، عصيّ التعذير، وحيّ التقصير، والله العالم بحقائق الأمور ((1)).

هذا، ولا يخفى أنّ النصرة يومذاك لم تكن تقتصر على حمل السلاح، فإنّ لمثل ابن عبّاس أن ينصر ابن عمّه بجاهه ومقامه _ الّذي كان يعتقده هو نفسه _ عند القوم، إذ كان ولا زال من أعلامهم، فكان له أن ينصر ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بردّ عادية الكواسر عنه، ولو بخطاب، أو بلقاءاتٍ مع الناس في المدينة ومكّة، وشرح الموقف لهم، وتنبيههم إلى الخطر المحدق بآل الرسول (صلی الله علیه و آله)، ودعوتهم للدفاع عنهم..

ص: 189


1- موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد الخرسان: 5 / 245.

ولو كان قد حضر كربلاء _ ولو كان كفيف البصر كما يُقال _ لَكان لوقوفه في معسكر ابن عمّه الأثر البليغ على عسكر العدوّ؛ فهو ابنعبّاس _ كما يزعم ويزعمون فيه _ الرجل صاحب المقام الرفيع عند رجال السقيفة وعند العوامّ، والصحابيّ _ كما يزعم ويزعمون _ الّذي لا يختلف فيه اثنان من القوم..

هذا في ابن عبّاس، والكلام يجري في غيره من ذرّيّة هاشم، فلماذا يُحصَر الكلام في ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فلْيتوجّه اللّوم أوّلاً إلى غيره، ثمّ نتصوّر ما قد نردّ به عليهم دفاعاً عن المولى المكرّم (رضی الله عنه) بكلمةٍ واحدة، فنقول لهم مثلاً:

إنّ آل أبي طالب كلّهم سارعوا إلى النجدة، وقدّموا أرواحهم وأنفسهم وما يملكون بين يدَي أخيه الحسين (علیه السلام)، وهم كلّهم أهله ورهطه وإخوته، فهو قد قدّم ما قدّم، وتأخّر لسببٍ يعرفه هو ويعرفه أخوه، فماذا أنتم قائلون؟ وبأيّ عذرٍ تعتذرون؟ وماذا كنتم فاعلون، وأنتم لم تحركوا يداً ولا رجلاً، ولم تنصروا بلسان، وبخلتم عليه بالزاد والنفقة فضلاً عن الأنفس والأولاد؟!

التلويح الثاني: احتمال التقيّة

من أساليب الخطاب المستعملة كثيراً في القرآن وفي كلام أهل البيت (علیهم السلام) أنّهم يتّخذون من فردٍ عنواناً يخاطبونه، ويقصدون به من

ص: 190

وراءه، كما هو الحال في كثيرٍ من الخطابات القرآنيّة للنبيّالأكرم (صلی الله علیه و آله)، وكما في بعض خطابات النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين (علیه السلام) في وصاياه، وخطابات أمير المؤمنين (علیه السلام) لأولاده في وصاياه، وهكذا..

فذِكرُ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كعنوانٍ للخطاب في الكتاب لا يضرّ به، سيّما إذا عرفنا أنّه مرضيٌّ عند الإمام (علیه السلام)، وأنّ الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) أكّد أنّه لا يخاف عليه الحسد، وأنّه روى عن أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) فيه أنّه سمعه يقول: «مَن أحبّ أن يبرّني في الدنيا و الآخرة فليبرّ محمّداً ولدي ...».

وعرفنا أنّ محمّداً كان يعتقد إمامة الإمام الحسن (علیه السلام)، إذ يقول له:

أنت إمام، وأنت وسيلتي إلى محمّد (صلی الله علیه و آله) .

وأنّه يعتقد إمامة الإمام الحسين (علیه السلام)، إذ يقول:

الحسين أعلمنا علماً، وأثقلنا حِلماً، وأقربنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) رحماً، كان فقيهاً قبل أن يُخلَق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم الله في أحدٍ خيراً ما اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) .

فلمّا اختار الله محمّداً، واختار محمّدٌ عليّاً، واختارك عليٌّ إماماً، واخترتَ الحسين، سلّمنا ورضينا، من هو بغيره يرضى، ومن غيره كنّا نسلم به من مشكلات أمرنا ((1)).

ص: 191


1- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 1 / 300 ح 2.

كما أنّنا لم نسمع من الأئمّة (علیهم السلام) ممّن تلى سيّد الشهداء (علیه السلام) مَن يخدش فيه وفي ولائه، ولم نرَ منهم إلّا الاحترام والتقدير والتعظيم والتكريم لعمّهم المبجّل.

عرفنا من هذا ومن غيره، أنّه كان معذوراً عذراً مرضيّاً عند الله وعند رسوله (صلی الله علیه و آله) وعند الائمّة (علیهم السلام)، وإنْ أبى مَن أبى ذلك.

فهو على الأقلّ مقدَّسٌ محترمٌ محصَّنٌ عندهم، قد منعوا الناس من الدنوّ والاقتراب من حريمه والتعرّض له، وأمروا الخلق أن يسكتوا عمّا لا يعرفون، وأن لا يتدخّلوا في شأنه، ولا يسألوا عن موقفه لأيّ غرضٍ كان.

وبعد ذلك، فإنّ من عادة خطابات أهل البيت (علیهم السلام) إذا أرادوا أن يذكروا المقصّر، فإنّهم لا يصرّحون به، وهذا من أساليبهم، ومن سموّ أخلاقهم، وكم من مرّةٍ سمعنا النبيّ (صلی الله علیه و آله) يهدّد أحداً أو يلومه على نحو الإيهام والتعمية، فيقول: ما بال أقوام يقولون كذا، أو يفعلون كذا، وهو يعني أحدهم بالذات..

وربّما سمعنا المعصوم يلوم عقيلاً والعبّاس، فيخرج عقيلٌ فيما بعد حين يُعرف عذره في المسألة، فيبقى اللوم متوجّهاً إلى الثاني لعدم المعذوريّة..

وكذا يوجد لمثل هذه الأساليب نماذج وأمثلة كثيرة في كلمات أهل البيت (علیهم السلام)، وهو من أساليب التقيّة!

ص: 192

فربّما كان في هذا الكتاب نموذجاً لمثل هذه الاستعمالات، فإنّ بني العبّاس كمثالٍ لبني هاشم قد وقفوا موقفاً غير مشرّفٍ مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) على كلّ المستويات وجميع الأصعدة، وتوجيه اللّوم إليهم مباشرةً يشكّل مشكلةً وإحراجاً شديدَين، فأُدخل كبير آل أبي طالب بعد شهداء الطفّ في الخطاب ودُمج معهم، ليكون عنواناً مشيراً لأُولئك المقصودين بالذات، ليُدفَع عنهم ما قد يضرّ بهم وبشيعتهم، كما سنسمع بعد قليل.

فإذا وجدنا العذر للمولى المكرّم، فيتعيّن اللّوم على غيره!

وما دمنا نعتقد _ كما تؤكّد النصوص والشواهد التاريخيّة _ اعتقاد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام)، وأنّه مفترض الطاعة عليه، ونعتقد جلالته وعلوّ منزلته في العلم، بحيث يقول له إمام زمانه: «فإنّه ليس مثلك يغيب عن سماع كلامٍ يحيا به الأموات، ويموت به الأحياء، كونوا أوعية العلم ومصابيح الهدى، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوأ من بعض»..

وفي هذه المقارنة يشهد الإمام (علیه السلام) له بأنّه من أضواء النهار، بيد أنّ ثمّة مَن هو أضوأ منه، وهو الإمام (علیه السلام) ..

كما يشهد له أنّه لم يجعل الله للشيطان عليه سلطاناً، فيقول: «ولم

ص: 193

يجعل الله (عزوجل) للشيطان عليك سلطاناً» ((1))..

ويشهد له أيضاً ما رواه الإمام الرضا (علیه السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه كان يقول: «إنّ المحامدة تأبى أن يُعصى الله (عزوجل) »، وعدّ منهم ابنه محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) ((2))..

عرفنا أنّه لم يتخلّف، ولم يصدر في ما يفعل بما أُوتي من علمٍ ومتانةٍ وخروجٍ عن سلطان الشيطان إلّا عن أمر الإمام (علیه السلام) وإذنه!

وليس لنا بعد ذلك السؤال عن السبب، ما لم يكشف عن طريقه، وقد أمرونا بعدم التكلّف والبحث فيما لا يعنينا من شأن أولاد الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) المباشرين، فكيف بابن سيّد الأوصياء وقائد الغرّ المحجّلين (علیه السلام) ؟!

ولكن قد يقال: ربّما..

نقول: قد يُقال.. وربّما.. وارصفْ ما شئت من مفردات الاحتمال والتردّد..

قد تكون حكمةٌ من بين الحِكَم، وتصوّرٌ من بين التصوّرات الّتي قد تصيب وقد تخطئ:

إنّ العدوّ كان قاصداً لآل أبي طالب، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً،

ص: 194


1- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 1 / 300 ح 2.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّيّ): 70 ح 125.

وكان يريد أن لا يُبقي لهم على الأرض باقية.. هكذا كان بنو أُميّة، وهكذا كان مَن قبلهم، وهكذا كان بنو العبّاس مِن بعدهم.. وهذا ما لا يحتاج إلى الكثير من الاستدلال وسرد الشواهد وذكر المثال..

وكان مَن فلَت من سيوف الأعداء ورماحهم ونبالهم من آل أبي طالب في كربلاء سيّما من الذكور قليلاً معدوداً..

وكان الإمام السجّاد (علیه السلام) يومها شابّاً بحساب السنين.. والشيعيّ المعتقد بالحقّ وبالإمامة والتنصيب من الله يرى التسديد الإلهيّ الخاصّ للمعصوم، فلا يهمّه العمر وحساب السنين، أمّا العوامّ والأعداء، فإنّهم لا يرون ذلك، وهم عنه محجوبون بفعالهم وضلالهم..

فكان من الطبيعيّ، بل ربّما من الضروريّ بالحسابات الاجتماعيّة والعرفيّة السائدة يومذاك وإلى يوم الناس هذا، أن تبقى بقيّةٌ من آل أبي طالب فتياناً وشيوخاً، حتّى يكبر الصغير منهم من بقيّة السيف..

وفي ذات الوقت يكون ثمّة سنداً اجتماعيّاً من الشيوخ، ولو كانوا معدودين لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة للإمام سيّد الساجدين وزين العابدين (علیه السلام)، من قبيل المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبد الله بن جعفر..

فهم وبعض فتيانهم حاجةٌ في فترةٍ زمانيّة، حتّى يتكاثر آل أبي طالبٍ من جديد بعد كربلاء..

وربّما شهد لذلك أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يقطع بعد ذلك اتّصاله

ص: 195

بأخيه، وكتب إليه بعد ذلك الكتاب.

التلويح الثالث: الأمر بالسكوت لمنع اتّساع البحث

ربّما يُفهم من أمر الإمام الصادق (علیه السلام) بالسكوت وعدم تتبّع البحث أنّ الحديث عن المولى المكرم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) سيجرّ إلى الحديث عن غيره من بني هاشم، فإذا أُدين المولى المكرّم _ والعياذ بالله _ بتخلّفه عن سيّد الشهداء (علیه السلام)، وقد استأصل العدوّ شأفته وأباد أهله، فإنّ إدانة بني العبّاس قاطبةً وغيرهم من بني هاشم أَولى وأقوى وأشدّ..

وبالتالي سيؤدّي بالشيعة _ على مدى الأعصار والدهور _ إلى الوقيعة بهم واتّخاذ الموقف منهم ومعاملتهم معاملة مَن أعان على سيّد الشهداء وريحانة النبيّ وقرّة عين أمير المؤمنين والزهراء (علیهم السلام) وجميع آل أبي طالب، وتكشف عن سوأةٍ لبني العبّاس لا يمكن أن يغطّيها تبريرٌ ولا تعذيرٌ ولا ذريعة..

سيّما إذا عرفنا أنّ ملوك بني العبّاس وطواغيتهم كانوا يعيشون في عصر الإمام الصادق (علیه السلام) ومَن بعده من أولاده المعصومين (علیهم السلام) وشيعته الميامين، وقد كشفت الأيام مدى الحسد الكامن فيهم ممّا أدّى بهم إلى قتل الأئمّة (علیهم السلام) وملاحقة آل أبي طالب تحت كلّ حجرٍ ومدر، وبناء أُسطوانات قصورهم على أبدانهم الطاهرة وهم أحياء، والأخبار في ذلك تملأ صفحات التاريخ.

ص: 196

وربّما شهد لذلك نصّ الحديث المرويّ عن الصادق (علیه السلام)، إذ أنّه لم يصرّح باسم المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، واكتفى بقوله: «من الحسين ابن عليّ إلى بني هاشم».

التلويح الرابع: حصانة أولاد الأئمّة (علیهم السلام) !

أيّاً كانت دلالة خطاب الكتاب إلى بني هاشم، حتّى لو قيل: إنّ فيه تلويحاً وتعريضاً بموقف المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فإنّ مفاد كلام الإمام الصادق (علیه السلام):

إنّ حريم أولاد الأئمّة (علیهم السلام) حريمٌ مقدَّس، لا يُسمَح لغيرهم الخوض فيه والدخول بينهم، ويُكتفى بهذا القدر من أنّ الحجّة قائمةٌ عليهم أجمعين، لكن مَن هو المعذور ومَن هو الملام، فهذا ما يبقى لأهله خاصّة.

وطالما سمعنا ذلك وعرفناه في أوامر أهل البيت (علیهم السلام) وتعاملهم مع أولادهم المباشرين، كما فعل الإمام صاحب الأمر والزمان (علیه السلام) مع عمّه جعفر حين أمر بإيكال أمره إليه دون غيره، وأنّ سبيله معه سبيل إخوة يوسف (علیه السلام) ((1))، أي أنّه سيقول له بعد أن تنجلي الكربة ويتقشّعالغيم المتلبّد في الأجواء: لا تثريب عليك اليوم، يغفر الله لك..

وقد ذكرنا في أكثر من موضع من هذه الدراسة هذه الحصانة، وأشرنا

ص: 197


1- أُنظر: كمال الدين للصدوق: 484 ح 4.

إليها، وذكرنا الأدلّة والشواهد عليها، فلا نعيد.

فيبقى الأدب في التحرّز والتوقّي الشديد من الدنوّ والاقتراب من حريم الإمام (علیه السلام)، ولا شكّ أنّ الأولاد المباشرين يحيط بهم سور الحريم، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يُحفَظ المرء في ولده»، كما روت عنه ابنته سيّدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) ((1)).

ويُقال لمن أراد أن يدخل في مثل هذا المضمار:

نقِّبْ أوّلاً عن الأفراد الآخرين ممّن شملهم الكتاب، من قبيل عبد الله بن عبّاس وغيره من الهاشميّين _ وما أكثرهم يومذاك _، فإن فرغتَ عنهم جميعاً، واستعرضتهم فرداً فرداً، وبقي في العمر متّسَع، فحينئذٍ فلْيتناول بقية آل أبي طالب إن أمهله الله.

التلويح الخامس: اختصاص الأمر ببني هاشم!

نعود مرّةً بعد مرّةٍ إلى التنويه إلى اختصاص هذا الكتاب ببني هاشم، وقد أشرنا وصرّحنا في مواضع كثيرةٍ بذلك، ولكن في كلّ مرّةٍ كانتالإشارة إلى بُعدٍ ربّما يختلف عن البُعد الآخر من هذا الاختصاص..

أضف إلى أنّ التكرار في مثل هذا الحال قد يُعدّ ضروريّاً أحياناً؛ لأنّ

ص: 198


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 120.

استفادة العموم والشمول من الكتاب قد دأب عليه مَن تناول الكتاب بالبحث والتعليق والتحليل.

فما في الكتاب من دعوةٍ إلى اللحاق بركب الشهادة، وأنّ مَن تخلّف عنه ولم يلحق لم يُدرك الفتح.. هي دعوةٌ إلى بني هاشم، وهو فتحٌ لم يُدركه بنو هاشم ولم يبلغوه..

تعميم الخطاب، وتعميم الدعوة، وتعميم الفتح، يحتاج إلى دليلٍ وقرينةٍ واضحةٍ لا تقبل النقاش.. ولم نجد قرينةً صارفة، والله العالم.

الإضاءة الحادية عشرة: مَن لحق من بني عبد المطّلب
اشارة

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

وبعث حسينٌ إلى المدينة، فقدم عليه مَن خفّ معه من بني عبد المطّلب، وهم تسعة عشر رجلاً ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه وبناته ونسائهم، وتبعهم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأدرك حسيناً بمكّة، وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأيٍ يومههذا، فأبى الحسين أن يقبل ((1)).

ص: 199


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 421، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 9.

ورد في هذا النصّ على ما فيه، سيّما في آخره الّذي نقلناه فيما سبق وناقشناه، حيث يذكر منع المولى المكرّم (رضی الله عنه) أبناءه من اللحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام)، وأنّ الإمام (علیه السلام) وجد عليه _ حاشاه _، أنّ ثمّة مَن بعث إليه الإمام (علیه السلام) من أقربائه والتحاق بعضهم به، فلْنتابعه من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: متى بعث الإمام (علیه السلام) إليهم؟!

يفيد السياق أنّ الإمام (علیه السلام) بعث إلى المدينة قبل أن يخرج من مكّة، وقبل أن يكتب كتابه إلى بني هاشم: «مَن لحق بي ...»؛ لأنّ ذيل الخبر يصرّح بخروج المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) من المدينة بعدهم، وإنّما لحق المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بأخيه وكلّمه ليلة خروجه من مكّة، كما سمعنا في حديث الإمام الصادق (علیه السلام) آنفاً.

أجل، قد يقال: إنّ كلام ابن سعدٍ لا يعدو أن يكون سرداً للأحداث التاريخيّة، من دون رعاية التقدّم والتأخّر والترتّب الزماني.. فحينئذٍ ربّما يدخل في سياق الكتاب المذكور، غير أنّ السياق عصيٌّ على هذا الفرض، حيث يقول: «وتبعهم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأدرك حسيناًبمكّة».

ص: 200

الإشارة الثانية: مَن المبعوث؟

إذا اعتمدنا السياق وقلنا: إنّ هذا البعث هو غير الكتاب المذكور..

فمن كان المبعوث؟

هل كانت رسالةً شفويّةً أَم كتاباً؟

هذا ما لا يذكره ابن سعدٍ ولا من تلاه ممّن نقل الخبر، مع ما في الخبر من أهميّة!

الإشارة الثالثة: المخاطَب!

يبدو من النصّ أنّ الخطاب كان موجَّهاً إلى أقرباء الإمام (علیه السلام) خاصّة، ويمكن استفادة ذلك ممّن ذكرهم المؤرّخ في مقام التلبية واللّحاق به، فمن أجابه هم جماعةٌ من آل عبد المطّلب..

ولم يسجّل لنا التاريخ أيّ موقفٍ للإمام (علیه السلام) دعا فيه أحداً غير آله ورهطه وبني هاشم إلى ذلك اليوم.

ولا يخفى أنّ آل أبي طالبٍ من بني عبد المطّلب، والنصّ يصرّح أنّ من لحق بالإمام (علیه السلام) هم «تسعة عشر رجلاً، ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه وبناته ونسائهم»، فهم عددٌ محصورٌ من الرجال والنساء والصبيان من إخوانه ونسائهم، فهو قد حصرهم بالإخوة وعوائلهم، فليس فيهم والحالهذه أحدٌ من بني عبد المطّلب إلّا آل أبي طالب فقط!

فيما نقرأ فيما مرّ معنا مفصّلاً في أخبار خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة

ص: 201

أنّه خرج بعامّة أهله وإخوته وعوائلهم، ولم يبقَ في المدينة منهم أحدٌ سوى المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ((1)).

فهل كان فيهم مَن تأخّر لضرورةٍ ثمّ لحق، وقد أمهلهم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)، لأنّه كان مقيماً في مكّة، فلمّا أزف الرحيل بعث إليهم يخبرهم ليعجّلوا ويلحقوا؟!

كيف كان، فإنّ الخبر لم يذكر لنا أسماءهم، ولا عددهم بالتحديد، إذ أنّ السياق يفيد أنّ ال- «تسعة عشر» هو عدد الرجال، معهم نساءٌ وصبيان، فكم كان عدد النساء والصبيان معهم؟

إلّا أن يقال: إنّ ال- «التسعة عشر» هو العدد الإجماليّ، فيكون العدد محصوراً، هذا إن ساعد السياق على ذلك.

الإشارة الثالثة: موقف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في هذا الخبر

وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأيٍ يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل..

لا نريد الوقوف عند ما يرويه هذا الخبر من موقفٍ للمولى ابنالحنفيّة (رضی الله عنه)، فإنّ الحديث عن ذلك مرّ مفصّلاً، فلا حاجة للإعادة، غير أنّ التنويه إلى ما في الخبر من عوارٍ في الصياغة يوشك أن يكون

ص: 202


1- أُنظر: ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة: 86 وما بعدها.

ضروريّاً.

يُلاحَظ أنّ الخبر هو عبارةٌ عن انتزاع المخبر عمّا قرأه في موقف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وليس هو خبرٌ وروايةٌ لحدَثٍ تاريخيّ، وقد مرّ معنا رواية الحدَث وعرفنا كيف تكلّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مع أخيه وسمعنا كلامه، فيما تُصوِّر هذه الصياغة اعتراضاً ورفضاً من طرفي الكلام، وجفافاً وشدّةً وتشنّجاً في الموقف..

ولقد نوّهنا في مواضع كثيرةٍ أنّ تصوير المؤرّخ وانتزاعاته وفهمه لا قيمة لها مجرّدة، وطالما تبيّن ضرورة التوقّي والحذر في قبولها والانسياق معها، لِما فيها من تزريقٍ خطيرٍ لما يريده المؤرّخ من بناء السابقة الذهنيّة لدى المتلقّي!

ص: 203

ص: 204

ملحقات

الملحق الأوّل: التعامل في العمق والتعاطي مع الظواهر!

كثيراً ما يُستعمَل تعبير «في العمق» _ عند البعض _ أو «ما يفيده التأمّل» حين يُراد تحليل مشهدٍ أو موقفٍ أو عبارةٍ صدرت عن سيّد الشهداء (علیه السلام)، ولا نريد استعراضها جميعاً، وإنّما نقف على عجلٍ عند ما يخصّ البحث الّذي نحن فيه، ونودّ التنويه إلى أنّ الغوص واستخراج العمق واستبطان اللفظ أو الموقف له شروطه وقواعده، فلا يمكن أن يتحدّث الإنسان عن عمقٍ لا علاقة له بالظاهر، ولا أن يُحمّل بنات أفكاره وهواجسه ومراداته وسوابقه الذهنيّة ومتبنّياته على مادّة البحث، فتمرّ باعتبارها «العمق».. و«العمق» ليس ميسَّراً لكلّ أحد، وإنّما هو اكتشافٌ خاصٌّ بمن تزوّد بآلات الغوص ومنحه الله مواهب إدراك

ص: 205

«العمق»!

ولابدّ أن يكون لهذا العمق امتدادٌ يتّصل بالظاهر، وإلّا لَكان شيئاً آخر مخترعاً، فإن كانت العلاقة ظاهرة، وإلّا فلابدّ من إقامة الشواهد والأدلّة الّتي تُقنِع أو تقرّب العمق إلى الفهم العادي..

أمّا أن يزعم أحدٌ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قال كذا، وهو صريحٌ في المعنى المُدرَك منه، غير أنّه يعني في العمق كذا من دون قرينةٍ ولا شاهدٍ سوى السوابق الذهنيّة الشخصيّة، فهذا يُعدّ في بعض صوره تقوّلاً على الإمام (علیه السلام)، وكشفاً لمراداتٍ لم يُفصِح عنها، وسنسمع بعد قليلٍ بعضاً من هذا «العمق».

الملحق الثاني: قُتِل الإمام (علیه السلام) باسم الإسلام

مرّ معنا فيما سبق من فصول هذه الدراسة، كما ذكرنا في (موسوعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام))، أنّ القوم قد أسّسوا لما أرادوا منذ اليوم الأوّل الّذي دخلوا في الإسلام ظاهراً، وبدؤوا بمباشرة قلب الحقائق رسميّاً منذ يوم السقيفة، حين حوّلوا أنفسهم إلى الشرعيّة المطلقة، ولبسوا مسوح التمثيل الشرعيّ للرسول (صلی الله علیه و آله) وخلافة الرسول، واصطبغوا بالقداسة حتّى صارت أقوالهم حججاً وديناً يُتَّبع، وإن خالف الحكم الإلهيّ وباينه، فجعلوا يصرخون بكلّ وقاحةٍ وجرأةٍ أنّ ما أحلّه الله

ص: 206

ورسوله (صلی الله علیه و آله) فهم يحرّمونه، وما حرّمه فهم يحلّونه، وأقنعوا الناس بالترهيب والترغيب والكذب والخداع والتضليل أنّ هذا هو الدين الّذي يجب عليهم أن يتّبعوه، وأنّهم يمثّلون الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) لا غيرهم.

ولم يعرف الحقَّ وأهلَه من الناس منذ يوم السقيفة إلّا أقلّ القليل من الديّانين، وكان أكثر الناس منذ القديم للحقّ كارهون، والدين لعِقٌ على ألسنتهم _ لغوٌ على ألسنتهم _ يحوطونه ما درّت معايشهم.. وهذه الحقيقة القرآنيّة الحسينيّة ثابتةٌ وحاكمةٌ قبل شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وبعد شهادته إلى يوم الناس هذا.. وقليلٌ من عباد الله الشكور!

ولا نريد الدخول في تفصيل ما فعله القوم والنتائج الّتي توصّلوا إليها منذ اليوم الأوّل الّذي غصبوا فيه الخلافة إلى اليوم، وقد تكفّلَت كلمات أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وباقي أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) بذلك، وكتب العلماءُ الأبرار فيها كتباً كثيرةً لا تكاد تحصى.

وقد أطلقوا على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) _ وهو العروة الوثقى وحبل الله المتين _ تهماً ينبو القلم عن كتابتها، ويأبى القلب أن تخطر عليه، ولولا ضرورة البحث لما تجاسرنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..

من قبيل: شقّ عصا المسلمين، ومخالفة سيرة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله)، والمنافسة في سلطان الدنيا وغيرها، وسلبوه جميع ما منحه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) من ألقاب ومراتب ومناصب، وتحوّل هو وأتباعه إلى خوارج استباحوا دماءهم، لولا أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) صبر وفي الحلقشجا وفي

ص: 207

العين قذى، يرى تراثه نهباً..

وقد عمدوا إلى هذا الأُسلوب فاتّخذوه سيرةً وسنّة، نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، إن قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، أو بعده مع أولاده الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

فكان الناس قد اعتقدوا تماماً ما يقوله ابن زياد وهو «يخطب في الناس في خطبته الّتي خذّلهم فيها عن مسلم بن عقيل، فيقول فيها:

اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم» ((1)).

بحيث صار «مسلم بن عمرو الباهليّ يخاطب مسلم بن عقيل مفتخراً بضلاله قائلاً:

أنا ابنُ مَن عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وسمع وأطاع إذ عصيتَه وخالفت» ((2)).

بهذا المنطق كان الناس يعتقدون وينساقون ويتحرّكون، فهذا «عمرو بن الحجّاج الزبيديّ _ مِن قادة الجيش الأُمويّ في كربلاء _ صاح يحرّض أهل الكوفة على الإمام الحسين وأنصاره قائلاً:

يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام» ((3)).

ص: 208


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 173 _ عن: تاريخ الطبريّ: 4 / 275.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 173 _ عن: تاريخ الطبريّ: 4 / 281.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 174 _ عن: تاريخ الطبريّ: 4 / 331.

فهم قد ضلّلوا الناس فضلّوا، ورضوا بما في أيديهم وانصاعوا طائعين، وتديّنوا بأنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه قد مرقوا من الدين..

وقد قتلوا الإمام (علیه السلام) على علمٍ منهم أنّه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، غير أنّهم قالوا: إنّه خرج على إمامه، فاستحق بذلك القتل!

ونحن لا نريد الإطالة في المقام لإثبات ذلك، وقد أتينا في ما مضى على ذلك مفصّلاً، وسيأتي الكلام زيادةً في أنّ من شارك في كربلاء كان عالماً عارفاً مَن يُقاتل، ومَن يسلب، ومَن ينهب، ومَن يسبي!

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ مراجعةً سريعةً في زيارات الأئمّة (علیهم السلام) وزيارة سيّد الشهداء (علیه السلام) خاصّةً كافيةٌ لإقناع المتلقّي أنّ التأكيد على ما يشهد به الزائر للإمام (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته من أنّهم على الإسلام، وأنّهم مضوا على ما مضى عليه البدريّون، وأنّهم أقاموا الصلاة والزكاة وقرأوا القرآن وعملوا بالحلال والحرام، وغيرها كثير.. فهي بالإضافة إلى جميع مداليلها، توحي بوضوحٍ إلى ردّ معتقدات القتَلَة وأقوال الطواغيت وذرائعهم، وما أغنى الإمام (علیه السلام) وأصحابه من شهادات الزائر..

كما يشهد لذلك رجز سيّد الشهداء (علیه السلام) قُبيل شهادته:«أنا

الحسينُ بنُ علي

آليتُ ألّا أنثني

ص: 209

أمضي على دين النبي

أحمي عيالات أبي» ((1))

فهم كانوا يقاتلون ويقتلون شخص الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه طاعةً لأئمّة الإسلام الّذين كانوا يعتقدون إمامتهم ويتديّنون بدينهم، ولا يرون الإسلام في الإمام الحسين (علیه السلام) ولا في من معه، بل كانوا يرونهم _ والعياذ بالله _ قد خرجوا ومرقوا من الدين.

وقد عرّفهم الإمام (علیه السلام) نفسه واستشهدهم على ذلك، فشهدوا له، ولكنّهم أبوا إلّا أن ينزل على حكم ابن زياد.

إنّ القوم قد عملوا منذ التأسيس على إقناع الناس أنّ الإسلام هم، وخلافة النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيهم، وأنّ مَن خالفهم وقعد عنهم قد قعد عن الإسلام..

وبقي الناس على هذا الاعتقاد _ إلّا الثلّة الطيّبة من خاصّة الأئمّة (علیهم السلام) وشيعتهم الّذين أبان الله لهم الحقّ فاتبعوه _، ولم يتغيّروا وثبتوا عليها قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى يوم الناس هذا.

ولقد عميَ الجيش الأُمويّ في حماقته الكبرى في كربلاء يوم عاشوراء عن أنّه يقاتل شخص رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيشخص

ص: 210


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 316، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 48.

الحسين (علیه السلام) ((1)).

بل إنّهم قد اعتقدوا أنّهم يفرقون بين الإمام الحسين (علیه السلام) وبين النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وأنّهم يقدّمون شيئاً لدين النبيّ (صلی الله علیه و آله) وللإسلام، إذ أنّهم يدافعون عن خليفته ومَن يسمّونه أمير المؤمنين، وأنّهم يطيعون إمامهم في سبيل الله ورضاه.. يتديّنون بذلك كما قال الإمام زين العابدين (علیه السلام):

«ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنّهم مِن هذه الأُمّة، كلٌّ يتقرّب إلى الله (عزوجل) بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً» ((2)).

وفي عاشوراء كربلاء لم يرضَ الجيش الأُمويّ من الإمام الحسين (علیه السلام) إلّا بالقتل، قتلِه وقتلِ أنصاره من أهل بيته وأصحابه الكرام في وضح نهار ذلك اليوم، بعد منعهم عن الماء، حتّى مضوا عطاشا، وفيهم حتّى الطفل الرضيع، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل، وسبي بنات النبوّة على الوجه المعروف، حاسراتٍ بلا غطاء ولا وطاء، ونقل رؤوس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفةوإلى الشام ... ((3)).

ص: 211


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 175.
2- الأمالي للصدوق: 462 المجلس 70.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 175.

فعلوا ذلك كلّه طاعةً لإمامهم.. إنّهم كانوا يعتقدون إمامته، وأنّ طاعته طاعة الله، وأنّهم قتلوا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأولاد البغايا يتقرّبون إلى الله، وأنّهم يزعمون أنّهم من هذه الأُمّة..

هكذا ينتسبون.. أنّهم من أُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله) .. كما ثبت ذلك في أحاديث متظافرةٍ عن جبرئيل عن الله وعن رسوله (صلی الله علیه و آله) وعن الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، أنّهم يزعمون أنّهم من أُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله)، وأنّهم يتطاولون إلى شفاعته، لذا كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) ينفي أن تنالهم شفاعته دائماً فيقول: «لا أنالهم الله شفاعتي ...» ((1)).

ولا يخفى أنّ جميع فعّاليّات العدوّ أيّام الحسين (علیه السلام) كانت تفيد تصريحاً وتلويحاً أنّهم يتعاملون مع الإمام (علیه السلام) ومَن معه تعامل الكفّار والخارجين عن الدين_ والعياذ بالله _، ولك في ترك الجثث الطواهر الزواكي من دون تجهيزٍ ولا دفنٍ وسبي آل الله مثلاً، فإنّ المسلم يجب دفنه، ولا يجوز سبي عياله، ولا يُسبى إلّا الكافر!

فكيف يمكن أن يقال:

إنّ قتل الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه يوم عاشوراء بتلك الصورة الفجيعة وسبي أهله «أظهر لكلّ مشاهدٍ من ذلكالملأ

ص: 212


1- أُنظر: بصائر الدرجات للصفّار القمّي: 68 و69، الكافي للكلينيّ: 1 / 209، كامل الزيارات لابن قولويه: 146، أمالي الصدوق: 89.

الكبير الحاضر على أرض الواقعة حقيقة نفاق الأُمويّين، ثمّ انتشرت بعد ذلك أنباء فجائع وقائع يوم عاشوراء في كلّ الأُمّة، ليتحقّق بذلك هذا الأُفق الكبير من آفاق الفتح الحسينيّ في فصل الأُمويّة عن الإسلام» ((1)).

إنّها دعوىً عاريةً عن الصواب، ويعوزها الشاهد والدليل!

إنّ المشاهد من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض الواقعة قد استحقّ الجحيم، وأكبّه الله على منخريه في النار بحكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والإمام الحسين (علیه السلام) الّذي كان يقول في أكثر من موضعٍ أنّ من سمع واعيتهم أكبّه الله على منخريه في النار! ((2))

ومَن أكبّه الله على منخريه في النار، فإنّه آثمٌ قلبه، مطبوعٌ عليه، مختومٌ عليه، لا يعي ولا يُبصِر بعد ذلك أبداً حتّى تصليه سقر، ويُسقى من صديدها، ويُطعَم من زقّومها.

أضف إلى أنّ هذا الملأ الكبير هو الّذي رجع محتفلاً بالنصر، يسوق آل الله سبايا، ويحمل الرؤوس ليتقرّب بها إلى ابن مرجانة..

فمن منهم _ قادةً وجنوداً _ قد اكتشف هذه الحقيقة الّتي اكتشفها فيهم مَن اكتشفها بعد عشرات القرون وهم لا يعلمون، ولا بذلك

ص: 213


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 176.
2- أُنظر: أمالي الصدوق: 219، مثير الأحزان لابن نما: 35.

يشهدون قولاً وفعلاً؟!!

الملحق الثالث: الإسلام المحمّديّ الخالص!

اشارة

في مقام الفتح الحسينيّ في عصر عاشوراء، وأنّ مَن قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وكان مشاهداً حاضراً على أرض الواقعة قد عرف حقيقة نفاق الأُمويين، قيل:

ولو لم تكن واقعة كربلاء، لَكان الأُمويّون قد واصلوا حكم الناس باسم الدين، حتّى يترشّح في أذهان الناس بمرور الأيام والسنين أنّه ليس هناك إسلامٌ غير الإسلام الّذي يتحدّث به الأُمويّون، ويُؤخَذ عنهم، وعلى الإسلام السلام.

لو لم تكن واقعة عاشوراء، لما كان بالإمكان فصل الإسلام والأُمويّة عن بعضهما البعض، ممّا يعني أنّ زوال الأُمويّة يوماً ما كان سيعني زوال الإسلام أيضاً، ولَكانت جميع الانتفاضات والثورات الّتي قامت على الظلم الأُمويّ تقوم حين تقوم على الإسلام نفسه!

لكنّ الفتح الحسينيّ في عاشوراء هو الّذي جعل كلّ هذه الانتفاضات والثورات الّتي قامت بعد عاشوراء إنّما تقوم باسم الإسلام على الأُمويّة.

وعند هذه النقطة _ فصل الأُمويّة عن الإسلام _تكون

ص: 214

عاشوراء قد أعادت مساعي حركة النفاق _ منذ وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) حتّى سنة ستّين للهجرة _ إلى نقطة الصفر، فلو لم تكن عاشوراء لَتمكّنت حركة النفاق المتمثّلة بالحزب الأُمويّ آنئذٍ من القضاء على الإسلام المحمّديّ الخالص تماماً، ولَما بقي منه إلّا عنوانه.

فأيّ أُفقٍ في الفتح أوضح وأكبر من أُفق الحفاظ على الإسلام المحمّديّ الخالص، من خلال فصل الأُمويّة بكلّ عوالقها عن هذا الإسلام ((1)).

لا نريد الوقوف عند هذا المتن كثيراً، بيد أنّه ربّما عبّر عن قناعات الكثيرين، رغم ما يعوزه من الأدلّة والسند الّذي يمكن أن يرتكن إليه ليتماسك وينهض في مقام البحث، لذا سنختصر الكلام فيه ما وسعنا ذلك من خلال النكزات التالية:

النكزة الأُولى: استمرار الأُمويّين!

لقد واصل الأُمويّون حكم الناس إلى سنين طويلة، حتّى وُلد في عهدهم مَن وُلد وشبّ وهرم، وكانوا يواصلون الحكم باسم الإسلام، ويطلقون على ملوكهم ما استلبوه من سيّد الأوصياء (علیه السلام)، فكان كلٌّ منهميخلع عليه الناس لقب أمير المؤمنين، ولا يخاطبونهم إلّا بذلك وبما

ص: 215


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 176 – 177.

يشبهه من الألقاب والصفات الإسلاميّة..

بل إنّ يزيد الخمور الّذي قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) استمرّ في حكمه بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) ثلاث سنين، حقّق فيها أمانيّه التعيسة..

إنّه كان يريد أن يهدم المقدّسات _ كما كان يريد أسلافه من الحكّام _، فكان يسعى لقتل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة ليهتك الحرمتين معاً، فلمّا فوّت عليه الإمام (علیه السلام) الفرصة ورحل عنها غزاها بعد الإمام (علیه السلام)، فهتك حرمتها شرّ هتك، وأخبارها لا تخفى على أحد، وهذه كتب التاريخ تعجّ وتضجّ بما فعله عسكره بالصحابة وبناتهم، وبمسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحجرته الشريفة ومدفنه..

ثمّ إنّه كان يسعى إلى قتل الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة ليهتك الحرمتين معاً، فلمّا فوّت عليه الإمام (علیه السلام) الفرصة ورحل عنها متعجّلاً غزاها بعد الإمام (علیه السلام)، فهتك حرمتها شرّ هتك، حتّى أحرقوا الكعبة ورموها بالمنجنيق وفعلوا فعلتهم، وأخبارها لا تخفى على أحد، وهذه كتب التاريخ تعجّ وتضجّ بما فعله عسكره..

بعد أن هلك يزيد، وأُطبق عليه تابوته الخاصّ المجهّز له في الجحيم، نزا الأُمويّون على الأعواد من شرّ فخذٍ من أفخاذهم، وأنتن عودٍ من أعواد الشجرة الملعونة، طريد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوزغ ابن الوزغمروان..

مروان عدوّ الله وعدوّ رسوله (صلی الله علیه و آله)، الّذي لم يكن ليطمح بها يوماً ما

ص: 216

صار (أمير المؤمنين)! وتسلّق أعواد المنبر ليحكم باسم الإسلام..

ثمّ تلاه أولاده وأحفاده، وبقيَت تتقلّب فيهم، وتلاقفوها تلقّف الصبيان للكرة، ينزو القرد منهم بعد القرد عقوداً من الزمن، تماماً كما أرى الله رسوله (صلی الله علیه و آله) في الرؤيا، وكما أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فهم قد واصلوا حكم الناس باسم الدين، حتّى ترسّخ في أذهان الناس ما كان راسخاً منذ يوم السقيفة..

فإذا أثّرت عوامل الضعف في أيّ حكومةٍ قامت على الباطل بمرور الزمن، من ضعف الملوك، وتآكل الإدارة، وتفاقم الأزمات الاجتماعيّة، وغيرها من الأسباب والعوامل، ثمّ تضمحلّ الدول حتّى تقوم محلّها حكوماتٌ ودول أُخرى، فهذه هي السنّة الحاكمة في الأيام والدهور!

النكزة الثانية: الفصل بين الأُمويّة والسقيفة!

الفصل بين الأُمويّة والإسلام..

أيّ إسلامٍ هذا الّذي انفصل عن الأُمويّة؟!

هل هو الإسلام المحمّديّ الخالص المتمثّل بأمير المؤمنين عليٍّ وأولاده المعصومين (علیهم السلام)، أو الإسلام مطلقاً، حتّى لو كان الإسلامالّذي نشأ في السقيفة، والّذي كان يُعبَّر عن أتباعه بأُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله) ؟!!

إذا كان المراد به الإسلام المتمثّل بأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام)، فهو لم يتّحد يوماً بالأُمويّة، ولم يُلوَّث بها، ولم يلتقِ

ص: 217

معها في حدٍّ من الحدود..

وقد انفصل السبيلان علنيّاً منذ يوم الغدير، وانفصل رسميّاً منذ يوم السقيفة، وليس في الأئمّة (علیهم السلام)، ولا في أتباعهم الشيعة الأبرار مَن خُدع، أو ضلّلته أفعال الأُمويّة أو أقوالها ومواقفها..

فهما منفصلان تماماً.. معزولان.. قد حدّد كلٌّ منهما معالمه وحدوده وأبعاده.. وإن صبر الأئمّة (علیهم السلام) وأتباعهم واتّقوهم وعاملوهم معاملةً خاصّة، لئلّا يُقتَل الحقّ ورجاله.. فحفظوا الإسلام المحمّديّ المتمثّل في أشخاص الأئمّة (علیهم السلام)، وأتباعهم المخلصين بالحفاظ على حياتهم لا بالقتل!! وهذا ما صرّح به أمير المؤمنين (علیه السلام) في أكثر من موقف، وصرّح به الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) بعد واقعة الصلح.

وإذا كان المراد بالإسلام المحمّديّ الخالص ما يقابل الإسلام الأُمويّ، كما هو ظاهر التصوير، أو ما عبّر عنه الدكتور علي شريعتي ب-- «التسنّن الأُمويّ» مقابل «التسنّن النبويّ»..

ولا يمكن أن يكون المراد سوى ذلك _ كما هو الظاهر _ وفق ما قدّمناه قبل قليل، فسيكون أُفق الفتح الحسينيّ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قدحفظ دين السقيفة، وميّز بينه وبين دين الأُمويّين!!!

أي: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد سمحَت نفسُه ببذل مهجته، والتضحية بمن معه من آل الله، وبعرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسائه، ليبقى الاسم العامّ لأُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله)، ويحمي إسلام السقيفة من الامتزاج بدين

ص: 218

الأُمويّين..

ضحّى الإمام (علیه السلام) ليبقى الإسلام، وإن كان إسلام مَن سبقه مِن الخلفاء!

وعلى الإسلام السلام.. إذا استمر الأُمويّون _ بما هم أُمويّون _، بغضّ النظر عن الإسلام الّذي كانوا يتّبعونه ويروّجون له في الحكم..

أمّا إذا بقي عنوان الإسلام الّذي كان حاكماً قبل يزيد، فقد ظفر الإمام (علیه السلام) بما يريد، إذ أنّه حفظ هذا الإسلام من الاتّحاد بالأُمويّة، وعرف الناس _ إن عرفوا _ أنّ الإسلام هو غير الأُمويّة، سواءً أكان إسلام السقيفة، أو إسلام الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ..

ولا معنى لافتراض أن يكون الإمام الحسين (علیه السلام) قد فصل بدمه بين الأُمويّة والدين الحقّ المتمثّل بأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام)، لأنّهما لم يتّحدا ويمتزجا يوماً كي يفصل بينهما، والقول باتّحادهما لا يفوه به عاقلٌ فضلاً عن المؤمن.

فسيكون الإسلام المحمّديّ الخالص الّذي ميّزه الإمام الحسين (علیه السلام) بشهادته (الفاتحة) عن الأُمويّة هو إسلام السقيفة المنتشر يومها ولا زال..

إنّه لَفتحٌ عظيم! أن تخضرّ أشجار السقيفة حين ترويها دماء سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته وأنصاره، وتستبدل سعفات السقيفة اليابسة المنخورة الّتي كانت تظلّلها بملاحف العلويّات ومخدّرات الرسالة وعقائل

ص: 219

الوحي..

والحال أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى، ليحمي نفسه من القتل، ويحمي العنوان العامّ لأُمّة محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) بسلامته وسلامة أصحابه المخلصين.

النكزة الثالثة: التمييز بين الأُمويّة ودين السقيفة!

يفيد سياق الكلام واسترساله أنّ ثمّة تمييزٌ بين دين الأُمويّين ودين رجال السقيفة، وكما عبّر عنه الدكتور شريعتي: «التسنّن الأُمويّ» و«التسنّن النبويّ»، ويفيد أيضاً قولهم:

ومع طول مدّة حكمه _ معاوية _، انخدع جُلّ هذه الأُمّة بالتضليل الدينيّ الأُمويّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكمٌ شرعيّ، وأنّه امتدادٌ للخلافة الإسلاميّة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وأنّ معاوية إمام هذه الأُمّة، وأنّ مَن ينوب عنه في مكانه إمامٌ لهذه الأُمّة، وامتدادٌ لأئمّتها الشرعيّين!!!ومن المؤسف حقّاً أنّ جُلّ هذه الأُمّة خضع خضوعاً أعمى لهذا التضليل وانقاد له، فلم يعُدْ يُبصِر غيره، بل لم يعُدْ يصدّق أنّ الحقيقة شيءٌ آخَر غير هذا ((1)).

ص: 220


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 173.

والحال أنّ هذا الكلام فيه من المغالطة ما يُغني عن مناقشته!

إنّ معاوية كان امتداداً طبيعيّاً لمن سبقه من الغاصبين، وهو رابع الثلاثة، ويُعدّ ضمن المؤسّسين الأوائل، فلا يصحّ التفريق بينهم، وجعل معاوية ودينه شيئاً غير دين مَن سبقه، وفي الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (علیهم السلام) وحقائق التاريخ ما يُغني عن الاستدلال؛ لبداهة الأمر ووضوحه.

وما تراجعَت الأُمّة منذ اليوم الأوّل الّذي خضعَت فيه للسقيفة إلى يوم قتل سيد الشهداء (علیه السلام)، وبعد قتله إلى يوم الناس هذا، عن دين قتلة الإمام الحسين (علیه السلام) ودين قتلة فاطمة الزهراء (علیها السلام) .. دينٌ واحد، وأتباعهم هم أنفسهم، لم يتغيّر فيهم ومنهم شيء.

«اللّهمّ العَنْ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخِرَ تابعٍ له على ذلك ...»!

النكزة الرابعة: قيام الإسلام المحمّديّ بالإمام (علیه السلام)

الإسلام هو مجموع منظومة العقائد والتشريعات الإلزاميّة والترخيصيّة والتعاليم الأخلاقيّة، وغيرها ممّا ينضوي تحت التشريع والاعتقاد..

وقد جمعها الله في موضعَين، وضمن سلامتها وحفظها من التحريف والتبديل والتغيير في هذين الموضعين، وهما:

ص: 221

كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعترة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وهم الأئمّة المعصومون (علیهم السلام)، وضمن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) للأُمّة الثبات وعدم الضلال والضياع إن تمسّكوا بهما:

«إنّي مخلِّفٌ فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ...».

وليس لمنظومة العقائد والتشريع وجودٌ خارجيٌّ خاصٌّ بها، إلّا أن يكون وجوداً ذهنيّاً قلبيّاً، أو في كتابٍ وما شاكل، فهي إنّما تقوم بالقرآن أو بالمعصوم..

والمعصوم هو المخلوق الأكمل الّذي بوجوده يتحقّق وجود العابد الحقّ الكامل لله، وبعبادته يتحقّق الغرض من الخلقة، والهدف من إيجادالتكوين، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ((1))، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ ((2)).

ولولا وجود هذا العابد الكامل الحقّ الّذي يحقّق الغرض الأساس من الخلقة، لَساخت الأرض بأهلها، وهو الإمام المعصوم، وحُجّة الله على الخلق، كما ورد في الأحاديث الشريفة.

ونفس وجود هذا العابد الحقّ الكامل _ المستعدّ لهذه العبادة الّذي

ص: 222


1- سورة الذاريات: 56.
2- سورة هود: 7.

يصدق عليه العابد، ويحقق العبوديّة الكاملة لله _ كافٍ لتحقّق الغرض..

وليس بالضرورة أن يمارس هذا العابد الكامل جميع التكاليف طرّاً ليصدق عليه هذا العنوان، وإنّما وجوده الكامل هو الّذي يحقّق ذلك.

فمثلاً ورد في حديثٍ عن البزنطيّ عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: قال له إبراهيم بن أبي البلاد: وجبَت عليك زكاة؟ فقال: «لا، ولكن نفضل ونعطي هكذا ...» ((1)).

وهذا من الطبيعيّ جدّاً، وينسجم تماماً مع سلوك الإمام المعصوم (علیه السلام)، واعتقاد الشيعيّ فيه، إذ أنّ دفع الزكاة الواجبة يقتضي حصول النصاب فيه، ويشترط مرور عامٍ كاملٍ على النصاب في بعضمفرداته من دون تغييرٍ ولا تبديلٍ ولا تصرّفٍ فيه، من قبيل نصاب الفضّة المسكوكة والذهب المسكوك (الدينار والدرهم)، فلابدّ من مرور عامٍ كاملٍ مثلاً على مئتَي درهمٍ تبقى عنده لا يتصرّف بها ولا تتغيّر بأعيانها حتّى تجب الزكاة فيها، وكذا في الدينار.

ثمّ إنّ الكثير من موارد الزكاة الأُخرى نعلم أنّها لم تتوفّر عند الإمام (علیه السلام)، فأيّ إمامٍ مثلاً توفّر على ثلاثين بقرةٍ ليدفع عنها زكاتها؟ وهكذا..

ص: 223


1- تهذيب الأحكام للطوسيّ: 4 / 126 الباب 36 ح 4.

مع ذلك، فإنّنا نشهد لهم جميعاً ونقول: «وآتيتم الزكاة».. ونزور كلّ واحدٍ منهم ونقول له: «وآتيتَ الزكاة»..

وهذا معناه أنّ الفرد الوحيد الّذي يمكن أن يعبد الله ويطيعه، ويأتي بالعبادة والطاعة الكاملة في الزكاة هو الإمام، ومنه وبه تتحقّق العبادة المطلوبة للمعبود الحقّ لا من غيره، سواءً أمارسها الإمام أم لم يمارسها، أو أنّه جاء بها في فترة _ ولو لمرّةٍ واحدة _ أو لم يأتِ بها طيلة فترة عمره المبارك..

فإن كان أحدٌ في الخلق يمكن أن يصلّي لله الصلاة المطلوبة للربّ (تبارك وتعالى) فهو المعصوم، ولذا يُخاطَب فيقال: «أقمتَ الصلاة»؛ لأن الصلاة المطلوبة من الله لتكون عبادةً وشكراً هي صلاة الإمام المعصوم، فهي الصلاة التامّة المقامة المقبولة، وغيرها مردَّدٌ بين القبول والردّ!فحينئذٍ يُقال:

إنّ الإسلام كعقيدةٍ وتشريع، كما حُفظ في القرآن، قام وحُفظ في شخص المعصوم، فالإسلام قائمٌ به، موجودٌ في شخصه، محفوظٌ فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تماماً كما هو القرآن الكريم..

وليس لهذه القيمومة والوجود والاتّحاد بين الإسلام والإمام شرطٌ سوى كونه الإمام المنصوب من الله، المسدَّد بروح القدس، المعصوم مطلقاً، والإسلام يقوم به بعد أن اختاره الله واجتباه واصطفاه واتّخذه وجعله إماماً، سواءً كان كبيراً أو صغيراً بحساب السنين، أو كان طفلاً أو

ص: 224

شيخاً، تماماً كما جعل عيسى (علیه السلام) في المهد نبيّاً، وأوصاه وهو في المهد بالصلاة والزكاة، وسواءً قاتل الإمام أو لم يقاتل، وسواءً صالح أو لم يصالح، وسواءً قُتِل قتلاً بالسيف في محرابه أو قُتل في ميدان الوغى أو قُتل بالسمّ، أو مات حتف أنفه على فراشه على فرض المحال في الأخير..

والإمام (علیه السلام) على حدّ اعتقادنا _ ونحن لا نخاطب سوى العقل الشيعيّ _ إمامٌ من قبل أن يخلق الله الخلق، وأمامٌ وهو في بطن أُمّه، يُكتَب في الشهر الرابع على عضده: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ...﴾ ((1))، ويُولَد مختوناً مسروراً، ساجداً على الأرض، رافعاً سبّابتهإلى السماء يشهد الشهادتين ويشهد لآبائه ونفسه بالإمامة، وغيرها..

فهو الإمام، وهو العابد الحقّ في كلّ آنٍ وفي كلّ زمان، بغضّ النظر عمّا سيتّخذه من مواقف حين ترتقي الإمامة إليه، فيمكن أن يكون أكثر من عابدٍ يحقّق العبادة الحقّة لله في آنٍ واحد، كما حصل زمان أصحاب الكساء الخمسة (علیهم السلام)، وفي زمان كلّ إمامٍ عاش في ظلّ أبيه.

فالإسلام المحمّديّ الخالص حقيقةً هو الإسلام القائم في شخص الإمام، وهو محفوظٌ على كلّ حال، كما هو محفوظٌ في القرآن الكريم على

ص: 225


1- سورة الأنعام: 115.

كلّ حال.

وربّما كان هذا هو معنى: «قتلوا بقتلك الإسلام، وعطّلوا الصلاة والصيام، وأصبح كتاب الله مهجوراً ...».

فإنّ صلاة الأُمّة لم تُعطَّل يوماً، وكان العسكر الّذي خرج لحرب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يصلّي ويزعم التزامه بشرائع الدين، وكانوا يجتمعون للجمعة والجماعة في جميع البلدان الّتي ترفع الأذان السقيفيّ.

أجل، قد يرشح من هذا الإسلام المحمّديّ الخالص حقّاً القائم بالإمام على أتباعهم بالحقّ وشيعتهم الأبرار، فيتشرّب كلٌّ منهم ويستوعب منه على قدر إنائه على اختلاف مستوياتهم، وهؤلاء أيضاً هم الأقلّيّة التابعة للحقّ على طول خطّ التاريخ، وطريقهم قليل السلّاك، وهمالقلّة الديّانون، الموجودون بوجود إمامهم قبل وبعد شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

النكزة الخامسة: الكلام عمّن حضر!

من أعجب العجب أن يقال:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد أظهر لكلّ مشاهدٍ من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض الواقعة حقيقة نفاق الأُمويّين، ثمّ انتشرَت بعد ذلك أنباء فجائع وقائع يوم عاشوراء في كلّ الأُمّة، ليتحقّق بذلك الأُفق الكبير من آفاق الفتح الحسينيّ في فصل

ص: 226

الأُمويّة عن الإسلام..

كأنّ هؤلاء الّذين حضروا قد أدركوا هذا الفتح، واستوعبوا هذا الفصل، وعرفوا حقيقة النفاق الأُمويّ! وهم الّذين سلبوا ونهبوا وأحرقوا الخيام، ورضّوا الهياكل المقدّسة بحوافر الخيول، وحملوا الرؤوس يتبجّحون بها إلى ابن الأَمة الفاجرة، وسبوا آل رسول الله «كالعبيد، وصُفّدوا في الحديد فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يُطاف بهم فيالأسواق» ((1)).

وقد أصرّوا على عنادهم ولجاجهم وكفرهم حين تركوا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ومَن استُشهد بين يديه، فلم يجهّزوهم ولم يدفنوهم، واكتفوا بدفن فطائسهم وجيفهم.

وقد حكمت جميع الأحاديث والقواعد والتصريحات والبيانات الشرعيّة بما فيها أقوال سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه على مَن حضر وشاهد وسمع واعيته أنّه من أهل النار، وبئس القرار، وليس في هؤلاء من يمكن أن يكتشف حقيقة الحقّ، أو يعرف معالم طريق النجاة ويسلكها مهما بعدت.

فإن أراد أحدٌ أن يتحدّث، فلْيخرج من كربلاء يوم عاشوراء ثمّ ليقُل، فربّما أخطأ وربّما أصاب!

ص: 227


1- المزار لابن المشهديّ: 505 زيارة الناحية المقدّسة.
النكزة السادسة: الاجتهاد مقابل النصّ!!

يمكن لمن أراد التحليل والتوقّع والاستنباط والاستنتاج، وقل ما يحلو لك أن يفعل ما يشاء في حدوده وبمستواه ومقدار إنائه وقدراته وقوّة مخيّلته وعقله..

ولكن إذا جاء قول الشرع ووردت النصوص عن المعصومين (علیهم السلام) تؤكّد حقيقةً لا يصلح أن تغيب عمّن يريد الخوض في التحليل والاستنتاج وتقدير النتائج والآثار، حتّى لو تعامل معها كنصوصٍ تاريخيّة، ولم يتعامل معها كنصوصٍ واردةٍ عن المعصومين (علیهم السلام)، أمّا المؤمن المسلّم، فإنّه سيتعامل معها كنصوصٍ مقدّسة، ولا يقول ما يخالفها أو يعارضها ويباينها..

وهذه النصوص الّتي سنذكر طرفاً منها، ونقتصر على ذلك، ليست بالعزيزة في المصادر، سيّما إذا تابعنا ما يصرّح منها وما يلوّح..

فمنها: ما رُوي مسنداً عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:

«لمّا ضُرب الحسين بن عليّ (علیه السلام) بالسيف فسقط رأسه، ثمّ ابتُدر ليُقطَع رأسه، نادى منادٍ من بطنان العرش: ألا أيّتها الأُمّة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى و لا لفطر».

قال: ثمّ قال أبو عبد الله (علیه السلام): «فلا جرمَ والله، ما وُفّقوا ولا

ص: 228

يوفَّقون، حتّى يثأر ثائر الحسين (علیه السلام) » ((1)).

هذا في يوم عاشوراء نفسه بعد قتل الإمام الحسين (علیه السلام)، وقد حكم المنادي على هذه الأُمّة، بما فيها «كلّ مشاهدٍ من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض الواقعة»، بل هم المصداق الأبرز في تلك الساعة.

فإذا كانوا متحيّرين ضلّالاً، كيف تكون قد انكشفت أمامهم حقيقةالنفاق الأُمويّ، وأنّهم أدركوا شيئاً من ذلك؟!

والحكم عامٌّ شاملٌ للأُمّة الّتي قتلَت حبيب الله، إذ حكم على الأُمّة بالحيرة والضلال بعد نبيّها، وأنّ هذا الحكم يسري فيها، لا يرفعون حيرتهم، ولا يجانبون ضلالهم حتّى يثأر ثائر الحسين (علیه السلام) .

ومنها: ما رُوي مسنداً في حديثٍ عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال:

«ارتدّ الناس بعد الحسين (علیه السلام) إلّا ثلاثة ...» ((2)).

بغضّ النظر عن معنى الارتداد المقصود في هذا الحديث الشريف، بَيد أنّه على كلّ حالٍ يفيد حالةً غير الحالة المزعومة في آفاق الفتح المذكور.

وفي حديثٍ مسندٍ طويلٍ يخاطب فيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 229


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 170 ح 3.
2- الاختصاص للمفيد: 64، اختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 338 ح 194.

حذيفة بن اليمان:

«يا حُذيفة، لا تحدِّث الناس بما لا يعرفون فيطغوا ويكفروا، إنّ مِن العلم صعباً شديداً محمله، لو حملته الجبال عجزت عن حمله، إنّ علمنا أهل البيت سيُنكَر ويُبطل، وتُقتَل رواته، ويُساء إلى مَن يتلوه؛ بغياً وحسداً لما فضّل الله به عترة الوصيّ، وصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

يا ابن اليمان، إنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) تفل في فمي وأمرّ يده علىصدري، وقال: اللّهمّ أعطِ خليفتي ووصيّي وقاضي دَيني ومنجز وعدي وأمانتي ووليّي وناصري على عدوّك وعدوّي ومفرّج الكرب عن وجهي ما أعطيت ...».

إلى أن قال:

«اللّهمّ إنّك خليفتي عليه وعلى عترته وذرّيّته الطيّبة المطهّرة، الّتي أذهبتَ عنها الرجس والنجس، وصرفتَ عنها ملامسة الشياطين، اللّهمّ إن بغَتْ قريش عليه وقدّمَت غيره عليه، فاجعلْه بمنزلة هارون من موسى إذ غاب عنه موسى.

ثمّ قال لي: يا عليّ، كم في وُلدك مِن ولدٍ فاضلٍ يُقتَل والناس قيامٌ ينظرون لا يغيّرون! فقُبّحَت أُمّةٌ ترى أولاد نبيّها يُقتَلون ظلماً وهم لا يغيّرون، إنّ القاتل والآمر والشاهد الّذي لا يغيّر

ص: 230

كلّهم في الإثم واللعان سواءٌ مشتركون.

يا ابن اليمان، إنّ قريشاً لا تنشرح صدورها ولا ترضى قلوبها ولا تجري ألسنتها ببيعة عليٍّ وموالاته، إلّا على الكره والعمى والصغار.

يا ابن اليمان، ستبايع قريشٌ عليّاً، ثمّ تنكث عليه وتحاربه وتناضله وترميه بالعظائم، وبعد عليٍّ يلي الحسن، وسيُنكَثعليه، ثمّ يلي الحسين، فتقتله أُمّة جدّه، فلُعنَت أُمّةٌ تقتل ابن بنت نبيّها ولا تعزّ من أُمّة، ولعن القائد لها والمرتّب لفاسقها.

فوَالّذي نفس عليٍّ بيده، لا تزال هذه الأُمّة بعد قتل الحسين ابني في ضلالٍ وظلمةٍ وعسفٍ وجور، واختلافٍ في الدين وتغييرٍ وتبديلٍ لما أنزل الله في كتابه، وإظهار البدع وإبطال السنن، واختلالٍ وقياس مشتبهاتٍ وترك محكمات، حتّى تنسلخ من الإسلام وتدخل في العمى والتلدّد والتسكّع.

ما لَكِ يا بني أُميّة؟ لا هُديتِ يا بني أُميّة! وما لَكِ يا بني العبّاس؟ لك الأتعاس! فما في بني أُميّة إلّا ظالم، ولا في بني العبّاس إلّا معتدٍ متمرّدٍ على الله بالمعاصي، قتّالٌ لوُلدي، هتّاكٌ لستري وحرمتي.

فلا تزال هذه الأُمّة جبّارين يتكالبون على حرام الدنيا،

ص: 231

منغمسين في بحار الهلكات وفي أودية الدماء، حتّى إذا غاب المتغيّب من وُلدي عن عيون الناس، وماج الناس بفقده أو بقتله أو بموته، اطلعت الفتنة، ونزلت البليّة، والتحمت العصبيّة، وغلا الناس في دينهم، وأجمعوا علىأنّ الحجّة ذاهبةٌ والإمامة باطلة ...» ((1)).

هذا هو حال الأُمّة بعد مقتل الإمام الحسين (علیه السلام):

في ضلالٍ وظلمة، وعسفٍ وجَور، واختلافٍ في الدين، وتغييرٍ وتبديلٍ لما أنزل الله في كتابه، وإظهار البدع، وإبطال السنن، واختلالٍ وقياس مشتبهات، وترك محكمات، حتّى تنسلخ من الإسلام وتدخل في العمى والتلدّد والتسكّع!

وفي حديث أبان قال: ثمّ قال لي أبو جعفرٍ الباقر (علیه السلام):

«ما لقينا أهلَ البيت من ظلم قريشٍ وتظاهرهم علينا وقتلهم إيّانا، وما لقيَت شيعتُنا ومحبّونا من الناس!

إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قُبض وقد قام بحقّنا وأمر بطاعتنا وفرض ولايتنا ومودّتنا، وأخبرهم بأنّا أَولى الناس بهم من أنفسهم، وأمرَهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب.

فتظاهروا على عليٍّ (علیه السلام)، فاحتجّ عليهم بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 232


1- الغيبة للنعمانيّ: 144 ح 3.

فيه وما سمعَته العامّة، فقالوا: صدقت، قد قال ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولكن قد نسخه فقال: إنّا أهلُ بيتٍ أكرمَنا الله (عزوجل) واصطفانا، ولم يرضَ لنا بالدنيا، وإنّ الله لا يجمعلنا النبوّة والخلافة. فشهد بذلك أربعة نفر: عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة، فشبّهوا على العامّة، وصدّقوهم، وردّوهم على أدبارهم، وأخرجوها من معدنها من حيث جعلها الله.

واحتجّوا على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، فعقدوها لأبي بكر، ثم ردّها أبو بكرٍ إلى عمر يكافيه بها.

ثمّ جعلها عمر شورى بين ستّة، فقلّدوها عبد الرحمان، ثمّ جعلها ابن عوفٍ لعثمان على أن يردّها عليه، فغدر به عثمان، وأظهر ابن عوفٍ كفره وجهله وطعن عليه في حياته، وزعم ولده أنّ عثمان سمّه فمات.

ثمّ قام طلحة والزبير فبايعا عليّاً (علیه السلام) طائعَين غير مكرهَين، ثمّ نكثا وغدرا، ثمّ ذهبا بعائشة معهما إلى البصرة مطالبةً بدم عثمان.

ثمّ دعا معاوية طغاة أهل الشام إلى الطلب بدم عثمان، ونصب لنا الحرب.

ثمّ خالفه أهل حروراء على أن يحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه،

ص: 233

فلو كانا حكما بما اشترط عليهما لحكما أنّ عليّاً (علیه السلام) أمير المؤمنين في كتاب الله وعلى لسان نبيّه وفي سُنّته، فخالفهأهل النهروان وقاتلوه.

ثمّ بايعوا الحسن بن عليّ (علیه السلام) بعد أبيه وعاهدوه، ثمّ غدروا به وأسلموه، ووثبوا عليه حتّى طعنوه بخنجرٍ في فخذه، وانتهبوا عسكره، وعالجوا خلاخيل أُمّهات أولاده.

فصالح معاوية، وحقن دمه ودم أهل بيته وشيعته، وهم قليلٌ حقّ قليل، حين لا يجد أعواناً.

ثمّ بايع الحسينَ (علیه السلام) من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، ثمّ غدروا به، ثمّ خرجوا إليه فقاتلوه حتّى قُتِل.

ثمّ لم نزل أهلَ البيت منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) نُذَلّ ونُقصى ونُحرم ونُقتَل ونُطرد، ونخاف على دمائنا وكلِّ من يحبّنا.

ووجد الكاذبون لكذبهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاتهم وعمّالهم في كلّ بلدة، يحدّثون عدوّنا عن ولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة، ويروون عنّا ما لم نقل، تهجيناً منهم لنا، وكذباً منهم علينا، وتقرّباً إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب.

وكان عظم ذلك وكثرته في زمن معاوية بعد موت الحسن (علیه السلام)، فقُتلَت الشيعة في كلّ بلدة، قُطّعَت أيديهم

ص: 234

وأرجلهم، وصَلبوا على التهمة والظنّة مَن ذكر حبّناوالانقطاع إلينا.

ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان ابن زيادٍ بعد قتل الحسين (علیه السلام) .

ثمّ جاء الحجّاج، فقتلهم بكلّ قتلةٍ وبكلّ ظنّةٍ وبكلّ تهمة، حتّى أنّ الرجل ليُقال له: زنديق، أو مجوسيّ، كان ذلك أحبّ إليه من أن يُشار إليه أنّه من شيعة الحسين (صلوات الله عليه)» ((1)).

لم يختلف الأمر قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، بل في صريح كلام الإمام (علیه السلام) أنّ البلاء اشتدّ وازداد بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)، واستمرّ كلَبُ الزمان أيّام العبّاسيّين بما لا يخفى على أحد، حتّى أنّهم بنوا اسطوانات قصورهم على أبدان ذرّيّة عليٍّ وفاطمة (علیهما السلام)، وهم أحياء، كباراً وصغاراً، وتعقّبوهم تحت كلّ حجرٍ ومدر، وتفنّنوا في تعذيبهم، ومارسوا معهم أبشع ألوان التنكيل والقتل والتجويع والملاحقة والإبادة، وكذا فعلوا مع أتباع الحقّ من شيعة الحسين (علیه السلام) .

وفي زيارة الناحية الشريفة:

«فالويل للعصاة الفسّاق، لقد قتلوا بقتلك الإسلام، وعطّلوا

ص: 235


1- كتاب سُليم بن قيس: 186 ح 3.

الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام، وهدموا قواعدالإيمان، وحرّفوا آيات القرآن، وهملجوا في البغي والعدوان.

لقد أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) موتوراً، وعاد كتاب الله (عزوجل) مهجوراً، وغودر الحقّ إذ قُهرتَ مقهوراً، وفُقِد بفقدك التكبيرُ والتهليل، والتحريمُ والتحليل، والتنزيلُ والتأويل، وظهر بعدك التغييرُ والتبديل، والإلحادُ والتعطيل، والأهواءُ والأضاليل، والفتنُ والأباطيل ...» ((1)).

فأيّ تمييزٍ حصل عند الأُمّة بعد مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ؟ وأيّ فصلٍ حصل؟! والنصوص تصرّح بظهور التغيير والتبديل والإلحاد والتعطيل والأهواء والأضاليل والفتن والأباطيل، وغيرها ممّا سمعناه في باقي هذه الأمثلة وفي غيرها.

النكزة السابعة: شهادة التاريخ

روى ابن أبي الحديد قال:

فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليّ (علیه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبقَ أحدٌ من هذا القبيل الّا وهو خائفٌ على دمه أو طريدٌ في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (علیه السلام)، ووليَ عبدُ الملك بن مروان،

ص: 236


1- المزار لابن المشهديّ: 505، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 241.

فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاجَ بن يوسف، فتقّرب إليه أهل النسُك والصلاح والدين ببغض عليٍّ وموالاة أعدائه وموالاة مَن يُدعى من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من عليٍّ (علیه السلام) وعَيبه والطعن فيه والشنآن له.

حتّى أنّ انساناً وقف للحجّاج _ ويُقال: إنّه جدّ الأصمعيّ عبد الملك بن قريب _ فصاح به: أيّها الأمير، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإنّي فقيرٌ بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج وقال: لِلُطف ما توسّلتَ به قد ولّيتك موضع كذا ((1)).

لا نريد إطالة المكث هنا لذكر الشواهد والحوادث والأدلّة، ولنا فيما رويناه قبل قليلٍ كفايةٌ وزيادة، وهذا التاريخ يشهد في كلّ صفحةٍ من صفحاته الّتي يذكر فيها الطواغيت والملوك قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى يوم الناس هذا، ولا نحسب أنّ مكابراً يناقش أو يشكّك في ذلك، فضلاً عن الإنسان العادي والمنصف والقارئ للتاريخ.

ولم يقتصر الأمر على الظلم والظلمات الّتي طبّقت الآفاق، بل يتعدّى إلى اختلاف الأهواء والآراء والمذاهب والاتجاهات الّتيتكاثرت وانتشرت سرطانات مسرية فعّالة في جميع شرائح المجتمع والأُمّة في كلّ

ص: 237


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11 / 46، بحار الأنوار: 33 / 193.

صعيد، حتّى في صفوف الحقّ والشيعة، منها ما اندثر، ومنها ما لا زال ممتدّاً، حتّى يورث الله الأرض صاحبها ووليّها الثائر لدم الحسين (علیه السلام) .

النكزة الثامنة: إسلامٌ مزيَّف إزاء مثله

قيام ثورةٍ على الأُمويّين باسم الإسلام وباسم المطالبة بثأر الحسين (علیه السلام) تؤدّي إلى سقوط حكم الطواغيت الأُمويّين وقيام حكومة طواغيت على أنقاض تلك الحكومة الفاسدة، لا يعني صدق (الثوّار) الجدد في دعوى الإسلام واستحقاقهم لقب (أمير المؤمنين) و(خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله))، وقد حكموا باسم الإسلام وباسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) باعتبارهم أبناء عمّ الرسول، ونظّروا لحكمهم وحكم من سبقهم، وأسّسوا له القواعد والنظريّات والذرائع الّتي مرّروها على الناس باعتبارها حججاً.

فهل يصدق على ثورتهم الّتي حقّقت أغراضها:

أنّها من الانتفاضات والثورات الّتي قامت على الظلم الأُمويّ كنتيجةٍ للفتح الحسينيّ في عاشوراء، الّذي جعل هذه الانتفاضات والثورات الّتي قامت بعد عاشوراء إنّما تقومباسم الإسلام على الأُمويّة ((1))؟!

ص: 238


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 176.

الملحق الرابع: عاشوراء بداية نهاية الحكم الأُمويّ!

اشارة

قيل:

لقد أثارت واقعة عاشوراء رجّةً رهيبةً من الإنكار والرفض والقلق النفسيّ والشعور بالإثم، وقد سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، ودفعتهم إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ.

ومنذ عاشوراء إلى سقوط الحكم الأُمويّ حفل تاريخ الأُمّة الإسلاميّة بانتفاضاتٍ وثورات، فرديّةٍ وجماعيّة، قامت ضدّ الحكم الأُمويّ، وكان لثورة الإمام الحسين (علیه السلام) أثرٌ مباشرٌ أو غير مباشرٍ في كلٍّ منها.

وبذلك تكون عاشوراء قد رسمَت بداية نهاية الحكم الأُمويّ ((1)).

يمكن النظر في هذا الكلام عدّة نظرات:

النظرة الأُولى: الرجّة الرهيبة ومؤدّياتها!

لقد أحدثت عاشوراء موجةً عظيمةً من الحزن في الكائنات جميعاً، وهذا ما وردَت به الرواية عن أهل البيت (علیهم السلام)، وبكت الخلائق أجمعين

ص: 239


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 177.

إلّا ثلاث..

أمّا أنّها أثارت رجّةً رهيبةً من الإنكار والرفض والقلق النفسيّ والشعور بالإثم، فهذا ما يحتاج إلى إثبات، وليس في التاريخ ما يفيد ذلك، والكلام عن الأُمّة جمعاء، بمعنى أنّ الرجّة حدثت _ كما يفيد النصّ _ في جميع أرجاء العالم الإسلاميّ يومها، بحيث «سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات»!

وعلى فرض حصول ذلك في ألفٍ أو ألفين أو عشرة آلاف، بل حتّى مئة ألفٍ من المسلمين، فإنّها تبقى ظاهرةً محصورةً لا تحكي واقع الأُمّة والمجتمع الإسلاميّ كلّه في جميع البلدان المترامية الأطراف والمجتمعات المتكثّرة الأطياف والآراء والاتجاهات..

سيّما أنّ الأكثريّة الكاثرة كانت من أتباع السقيفة وخول الأُمويّين، فالشام مغلقةٌ على الأُمويّين، وهم لا يعرفون وارثاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) سواهم، وقد تعيّدوا وأظهروا الشماتة والفرح بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبي آله.والبصرة كذلك، فإنّها كانت مزيجاً من بقايا عبَدَة الجمَل وأتباعه وأضرابهم.

وآل عثمان، وهم عياله وأولاده وعشيرته ورهطه.. الأُمويّون أنفسهم..

وهؤلاء شهدت الرواية أنّهم لم يحزنوا على الإمام (علیه السلام)، بل قد فرحوا

ص: 240

بقتله واحتفلوا، بما فيهم آل زيادٍ وآل مروان وبني أُميّة قاطبة..

وعلى العموم، فالحزن والتحزّن على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقتله ظلماً وعدواناً جائعاً عطشاناً والتمثيل به هو وأنصاره وأهل بيته وسبي عياله، ممّا يحزن له كلّ قلب..

أمّا أن يدفع جميع المسلمين أفراداً وجماعاتٍ إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ، فهذا إخبارٌ عن حدَثٍ عظيمٍ ليس له نظيرٌ في جميع العصور والأزمنة والدهور، منذ شهادة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى أن سقط الحكم الأُمويّ وتلاشى واندثر كوجودٍ حاكم..

والمفروض بمثل هذا الحدث العظيم الفريد من نوعه أن تبحّ حناجر الرواة، وتغصّ بنقل أحداثه كتب التاريخ، ويصبح أثراً مشهوداً لا يحتاج القائل به إلى ذِكر الشواهد والأدلّة من التاريخ لشهرته، لأنّه حسب الفرض قد عمّ المسلمين أفراداً وجماعات..فأين الشاهد والدليل عليه؟!

أين مظاهر العمل السياسيّ والتكتّلات الاجتماعيّة الّتي شملَت المسلمين أفراداً وجماعات؟!

النظرة الثانية: بداية النهاية!

حكم الأُمويّون أكثر من سبعين سنةً بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ..

ص: 241

وبعد تلك الفترة تآكلت الدولة، وازدادت المظالم، وضعف الملوك، وانغمسوا في الشهوات الهابطة والخمور واللذّات الساقطة والتبذّل والخلاعة و المجون، حتّى شُغلوا عن إدارة الحكم بأنفسهم، فسلّطوا المخانيث على أجهزة الدولة ومرافق السلطة..

بعد ما يزيد على السبعين سنةً تهاوت أركان السلطان الأُمويّ، فاسحةً المجال أمام السلطان العبّاسيّ الغاشم الظالم المدمّر المهلِك، الّذي قتل ستّةً من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، وكانوا السبب الظاهر في تغييب الإمام صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

بعد ما يزيد على السبعين سنةً من شهادة الإمام (علیه السلام)، سقط الحكم الأُمويّ بعامل العساكر العبّاسيّة..

ما أبعد هذه البداية عن تلك النهاية!

وبعد شهادة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، ما الفرق بين أن يسقط الحكمالأُمويّ بعد سبعين سنة، أو بعد خمسمئة سنة؟ المهمّ أنّهم استمرّوا في الحكم كلّ تلك الفترة الّتي تُعدّ عمراً في حساب أعمار الأفراد، بل حتّى الأُمم والشعوب..

سبعين سنةً أو أكثر قضى فيها مَن كان شيخاً ومات، وهرم فيها مَن كان طفلاً، وربّما مات الكثير منهم، وهرم مَن وُلد في بداية تلك الفترة.. فمَن وُلد سنة شهادة الإمام الحسين _ إن قدّر الله له الحياة _ فقد بلغ الشيخوخة، وبلغ سبعين سنة..

ص: 242

فهل لنا أن نقول بعد سبعين سنة:

بل لنا القول: إنّ عاشوراء هي الّتي قضَت على الحكم الأُمويّ، حيث نجحَت نجاحاً تامّاً في فصل الأُمويّة عن الإسلام ((1)

النظرة الثالثة: ما علاقة البداية بالنهاية؟

ليست الفترة بين شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وسقوط الدولة الأُمويّة بالفترة الوجيزة الّتي يمكن أن يوعز سقوطها مباشرةً إلى تأثير (الفتح الحسينيّ)..

فهي فترةٌ طويلةٌ من السنين، ربّما تبدّل فيها نسيج عشيرةٍ من العشائرأو بلدٍ من البلدان تبدّلاً كبيراً جدّاً، فوُلد مَن لم يعاصر الحدَث، ومات مَن عاشه، وشبّ الطفل، وشاخ الشابّ، وهرم أو مات الشيخ..

فليس بالضرورة أن تكون الرجّة المشار إليها قد رجّت الكثيرين أيّام زوال حكم الأُمويّين..

ولمن يزعم أنّ ثمّة علاقاتٌ وشيجةٌ وأسبابٌ وعوامل ودوافع رئيسةٍ نشأت في كربلاء عاشوراء أثّرت بشكلٍ مباشرٍ على اقتلاع القرود الأُمويّة مِن على الأعواد، وأدّت إلى زوال حكمهم وسلطانهم، أن يُثبِت ذلك بالأدلّة والشواهد التاريخيّة الكافية، أو المتون والنصوص الحديثيّة

ص: 243


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 181.

المقدّسة..

أمّا أن نقول ويكفي أن نقول، ونتصوّر ونُصوِّر ونكتفي بهذا القدر، فهو كلامٌ لا يثبت أمام النقد والنقض والإبرام!

النظرة الرابعة: اختلاف دوافع المعترضين!

إذا راجع المتابع كتب التاريخ لدراسة بعض ما يمكن أن يُطلَق عليه اسم التمرّد أو الانتفاضة أو القيام ضدّ السلطة، فإنّه سيجد دوافعاً مختلفةً وراء كلّ تحرّك..

فالسطلة الأُمويّة ظالمةٌ غاشمةٌ بطّاشة، تبني عروشها على الجماجم، ويتغذّى ولاتها على الدماء، وتمدّ شهواتهم ومجونهم وخلاعتهم منالأموال المأخوذة قسراً من المزارعين والحرفيّين والمتموّلين، بل حتّى من الفقراء والمساكين..

وقد عاش الناس أيّام ملكهم أبشع صور الابتزاز والظلم والعجرفة والتكبّر والتسلّط، وكانوا طواغيتاً بكلّ ما للكلمة من معنى..

والظلم يولّد الانتفاض أحياناً..

هذا، إذا أمكن إطلاق لفظ (الانتفاضة) و(الثورة) عليها! لأنّ الانتفاضة والثورة مصطلحان لهما معناهما، ولا ينطبقان على أيّ حركةٍ إلّا إذا توفّرت تلك الحركة على مقوّمات الثورة أو الانتفاضة.

وربّما كانت نوازع ودوافع أُخرى عند بعض مَن انتفض ضدّهم، أو

ص: 244

ثار، فمثلاً لو أنّ جماعةً من الخوارج خرجوا على الأُمويّين، فإنّهم لا يتحرّكون بأيّ دافعٍ حسينيّ، فسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام)، وسليل البغاء يزيد أو مروان عندهم سيّان في وجوب محاربته.

وعلى العموم، لابدّ من إيجاد علاقةٍ مباشرةٍ وتأثيرٍ مباشرٍ أو غير مباشر، وكشف الوشائج والروابط الفاعلة المؤثّرة الّتي ترتبط بنحوٍ ما بقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وشهادته.

أمّا أن يُقال: إنّ شهادة سيّد الشهداء ألهبت الحماس، وكسرت حاجز الخوف، وشجّعت الناس على الانتفاض على الأُمويّين.. فهذا زعمٌ يحتاج إلى إثبات، ولا شاهد عليه ولا دليل!إنّهم حين تعدّوا بالظلم والعدوان والجور على أقدس مقدَّسٍ في زمانه، وهو سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة، ورفعوا رأسه ورؤوس مَن كان معه على أطراف الرماح، وجالوا بها في البلدان، وتحتها نساء آل الرسول (صلی الله علیه و آله) سبايا، فإنّهم أفهموا القاصي والداني أن لا مقدّس يُرعى، ولا حرمة لدمٍ بعد دم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الجاري في أوداج سبطه..

ولكي تكتمل الصورة عند الجميع، هتكوا المقدّسات الأُخرى الباقية، فلا حرمة رُعيَت في المدينة، ولا في بيت الله الحرام، ولا الكعبة المقدّسة في الجاهليّة والإسلام..

وكيف كان، فإنّ دعوى أنّ شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كسرت حاجز الخوف عند الناس، وصعقت شللهم النفسيّ فأفاقوا، تحتاج إلى دليلٍ

ص: 245

واضح، ولا يُقبَل فيها التصويرات والخطابات الحماسيّة..

ولا يُكتفى فيها بالقول من دون حجّةٍ ولا دليل:

وكان لثورة الإمام الحسين (علیه السلام) أثرٌ مباشرٌ أو غير مباشرٍ في كلٍّ منها.

وبذلك تكون عاشوراء قد رسمَت بداية نهاية الحكم الأُمويّ..بل لنا القول: إنّ عاشوراء هي الّتي قضت على الحكم الأُمويّ، حيث نجحَت نجاحاً تامّاً في فصل الأُمويّة عن الإسلام ((1)).

ولا يكفي لإثبات ذلك اقتناص غضبة رجلٍ هنا، وانتفاض أفرادٍ معدودين هناك، وادّعاء أنّ هذه من تلك!

النظرة الخامسة: انحصار ردود الفعل!
اشارة

ذكروا بعض «الانتفاضات والثورات الّتي كان لثورة الإمام الحسين (علیه السلام) أثرها المباشر في اندلاعها» ((2))، من قبيل: موقف عبد الله ابن عفيف الأزديّ، والتوّابين، وحركة المختار، وقيام زيد..

وسيأتي الحديث عن كلّ واحدةٍ من هذه الموارد في موضعه إن شاء الله (تعالى)، ونقتصر هنا على بعض التنويهات الإجماليّة العامّة:

ص: 246


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 181.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 177.
التنويه الأوّل: بلدٌ دون البلدان

يُلاحَظ في جميع ما ذُكر من أمثلةٍ ونماذج أنّها كانت في محيطٍ خاصٍّ وبلدٍ من البلدان دون غيره، فإنّ مسرح جميع الأحداث هي الكوفة غالباً، ولا تكون في غيرها إلّا استثناءً.والكوفة لم تكن يومها عاصمة الحكم، فالعاصمة في الشام، أجل، كانت ثكنةً عسكريّةً تضمّ بين جنباتها أحد أهمّ الحواضر العسكريّة يومذاك، لكنّها لم تكن هي الوحيدة، فالخزين الأصليّ لعسكر النظام الحاكم كان في الشام..

مع ذلك، إنّنا لو لاحظنا اتّساع رقعة البلدان الإسلاميّة يومذاك، فإنّنا سنجد جغرافيا واسعةً جدّاً تمتدّ في جميع الاتجاهات الأربعة، وإنّنا لم نسمع التاريخ يحدّثنا عن اضطرابٍ في بلدٍ من البلدان قبل حركة العبّاسيّين، فالناس في بلدانهم يرزحون تحت وطأة الحكم الأُمويّ الجاثم على الصدور والعقول والرؤوس والأذناب، وقد ارتضوهم حكّاماً وولاةً وملوكاً وسلاطين..

فإذا قام رجلٌ في مسجد الكوفة رادّاً على ابن الأَمة الفاجرة، فإنّ هذا التصرّف الفرديّ لا يمكن استنتاج موقفٍ منه يشمل الأُمّة، ويؤثّر في الأُمّة جميعها على كثرة عددها وسعة جغرافيّتها، سيّما إذا لاحظنا أنّ هناك مواقف مثله كانت قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، كموقف حِجر ابن عَديّ من زياد ابن أبيه..

ص: 247

بل حتّى مثل حركة التوّابين والمختار وقيام حليف القرآن زيد بن عليّ (علیهما السلام)، فإنّها كانت محصورةً في أرضٍ محدَّدة، وبلدٍ محدَّد، وانضمّ إليها قومٌ معدودون لا يعدو كونهم أقلّيّةً إذا قيسوا إلى المجموعالكلّيّ المنتشر في بلاد المسلمين الوسيعة.

التنويه الثاني: حصول حركاتٍ مشابهةٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام)

يُلاحَظ أنّ بعض الحركات الّتي حصلَت بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كانت لها أمثلة قبل شهادته، فإن كان موقف عبد الله بن عفيف الأزديّ، فإنّه كان موقف بعض الصحابة المعروفين بالولاء في وجه الأوّل والثاني بعد السقيفة، وكان موقف فاطمة الزهراء (علیها السلام) وصرختها في وجه الظالمين الغاصبين، وكان موقف بعض الصحابة النجباء كأبي ذرّ في وجه عثمان، وكان موقف حِجر بن عَديّ في وجه ابن أبيه ومعاوية، وكان حصب زياد بالحصى في مسجد الكوفة، والأمثلة في ذلك كثيرةٌ لا تعزّ في التاريخ..

وكانت حرب الجمَل وحرب صفّين الّتي أبان أمير المؤمنين (علیه السلام) فيها الحقّ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.. وكان قتل عمّار بن ياسر (رضی الله عنه) ..

والقول بأنّ الجمل وصفّين لم تكونا معركتَين حاسمتَين لصالح الحقّ وأهله، قولٌ بلا دليل، ومصادرةٌ لحجج أمير المؤمنين (علیه السلام) وأصحابه

ص: 248

الميامين.

فلماذا لا يكون لمواقف المعصومين (علیهم السلام) والصحابة الميامين الثابتين أيّ أثرٍ ولا تُؤخَذ بنظر الاعتبار، إلّا بعد شهادة الإمامالحسين (علیه السلام) ؟!

التنويه الثالث: دوافع بعض الحركات

بعض الحركات الّتي تُذكَر كشواهد لم تكن ذات طابعٍ سياسيّ، وليس لها أيّ برنامجٍ سوى شعارٍ واحد، هو الانتصار لشخص سيّد الشهداء (علیه السلام) والثأر له مثلاً.

فموقف عبد الله بن عفيف الأزديّ واضحٌ محدّد..

فهو رجلٌ مؤمن، قاتل بين يدَي أمير المؤمنين، «وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبَت عينُه اليسرى يوم الجمل، والأُخرى يوم صفّين، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّي فيه إلى الليل، ثمّ ينصرف إلى منزله» ((1)).

ولمّا قام طارق بن المبارك (لعنه الله) بتقوير الرأس المقدّس امتثالاً لأمر ابن زياد، أمر الطاغية بالرأس الشريف فنُصب على باب داره.

ثم إنّ ابن زيادٍ نادى في الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثمّ خرج ودخل المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،

ص: 249


1- مع الركب الحسينيّ: 5 / 154.

فكان من بعض كلامه أن قال:الحمدُ لله الّذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب!!

فما زاد على هذا شيئاً حتّى وثب إليه عبدُ الله بن عفيف الأزديّ..

فلمّا سمع مقالة ابن زيادٍ وثب إليه وقال: يا ابن مرجانة، إنّ الكذّاب وابن الكذّاب أنت وأبوك، ومَن استعملك وأبوه، يا عدوّ الله ورسوله، أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟!

ثمّ دار الكلام بينهم، وانتهى بالإلقاء القبض على عبد الله بن عفيف بعد سجالٍ وقتالٍ حتّى أخذوه.

فقال ابن عفيف: الحمد لله ربّ العالمين، كنتُ أسأل الله أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك أُمّك مرجانة، وسألتُه أن يجعل الشهادة على يدَي ألعن خلقه وأشرّهم وأبغضهم إليه، ولمّا ذهب بصري آيستُ من الشهادة، أمّا الآن فالحمد لله الّذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الاستجابة منه لي في قديم دعائي.

فقال ابن زياد: اضربوا عنقه. فضُربَت عنقه وصُلِب ((1)).

ص: 250


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 5 / 153 _ 159 _ عن: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 59، وغيره من المصادر المذكورة في هامش كتاب (مع الركب الحسينيّ).

يبدو واضحاً دوافع هذا الطيّب الطاهر من موقفه، ويبدو واضحاً أنّها غضبةٌ لله، وردٌّ على افتراءات ابن الأَمة الفاجرة، ويبدو أنّه قد كبر سنّه وأكلَته السنين، لأنّه كان يسأل الله الشهادة قبل أن تلد ابن زيادٍ أُمُّه.

ثمّ إنّ ابن زيادٍ تعامل معه بقسوةٍ حتّى قتله وصلبه، فازداد الرعب والخوف والتنكيل.

ثمّ إنّ هؤلاء الأزديّين الّذين ثاروا لإنقاذ صاحبهم، ما أتعسهم وأنكاهم، تثاوروا من أجل صاحبهم، وهم قبل قليلٍ قد ثاروا على ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته، وتنازعوا على الرؤوس المقدّسة ليتبجّحوا بحملها ويتقرّبوا بها إلى ابن زياد، وهم لا زالوا في طوع ابن زيادٍ وحماته على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) السبايا والرؤوس المشالات!

لقد كانت الكوفة وجميع بلدان المسلمين يومها في طوق الأُمويّين لا يخرجون عنه، وقد وضعت الأُمّة نير المذلّة لهم، وقبلَت سلطانهم، واستسلمَت له، حتّى لم يعد يومذاك يتوفّر عشرةٌ يمكن أن يخرجوا على ابن زياد، بحيث يُروى:

أنّ رجلاً من بكر بن وائل يُقال له: جابر، كان حاضراً في مجلس ابن زياد، وحينما عرف أنّ الرأس الّذي بين يدَي ابن زيادٍ هو

ص: 251

رأس ابن بنت رسول الله، انتفض وهو يقول مخاطباً ابن زياد:للهِ علَيّ أن لا أُصيب عشرةً من المسلمين خرجوا عليك إلّا خرجتُ معهم ((1)).

بغضّ النظر عن مدى صحّة الخبر ومصداقيّته، فإنّ هذا الرجل قد اعترف أن ليس ثمّة عشرة رجالٍ مرصودين يومها للخروج على ابن زياد.

ويبقى موقف هذا الرجل، وموقف الطيّب الطاهر ابن عفيف الأزديّ موقفاً للثأر لشخص الإمام الحسين (علیه السلام)، ومتأثّراً بما جرى على ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وليس انتفاضاً على السلطة الغاشمة، ولا تعبيراً عن رفض للحكم بالمعنى الاصطلاحيّ.

وموقف الرجل جابر من بكر بن وائل تماماً كموقف أنس بن مالك وموقف عُبيد الله بن الحرّ الجُعفيّ.. ليس موقفاً ضدّ الحكم والنظام الحاكم، وإنّما اعتراض لطريقة التعامل مع سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشخص الإمام الحسين (علیه السلام) .

وكذا هو موقف التوّابين..

فإنّها «انحصرَت في ظلّ إطار التكفير عن الذنب، واتّخذَت من

ص: 252


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 178 _ عن: حياة الإمام الحسين بن عليّ (علیه السلام): 3 / 343 _ عن: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 98.

الثأر للحسين شعاراً رئيسيّاً لها، وانعكس عليها سلوكزعمائها المثاليّ وشخصيّاتهم المرتفعة الّتي زهدَت بالمناصب ورفضت المساومات، ونبذت كلّ موقفٍ لا يتلاءم مع المبدأ العامّ للحركة، الّذي لخّصه سليمان بالعبارة الآتية ((1)): إنّه لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلّا قتل مَن قتله أو القتل فيه» ((2)).

ومثل هذه الحركة لا يمكن أن يُطلَق عليها: (ثورة) بالمعنى المصطلح، فللثورة مقوّماتٌ وأهدافٌ وأسبابٌ ونتائج، وقد انحصرت حركة التوّابين في التكفير عن الذنب، والتعبير عن الندم، والثأر من قتَلَة الإمام الحسين (علیه السلام) خاصّة، لا غير.. كما صرّح التوّابون أنفسهم في خطاباتهم ومحاوراتهم وعند وقوفهم على قبر أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، فقالوا فيما قالوا:

اللّهمّ إنّا خذلنا ابنَ بنت نبيّنا، فاغفرْ لنا ما مضى وتُبْ علينا ((3)).

وكذا كانت حركة المختار، لا تتعدّى قتْلَ قتَلَةِ سيّد الشهداء (علیه السلام)، وليس لها شعارٌ آخَر.. ولم تُنجِز على صفحة الواقع شيئاً سوى ذلك.

ص: 253


1- سليمان بن صُرد الخزاعيّ قائد ثورة التوّابين لإبراهيم بيضون: 8.
2- عن: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 37.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 179 _ عن: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 178.

وكذا كان قيام حليف القرآن وحفيد السبط الشهيد زيد بن عليّ (علیهما السلام)، فإنّه قد صرّح في قيامه أنّه يرى قتَلَة جدّه الحسين (علیه السلام) يمشون أمامه على الأرض، فأراد أن ينتقم منهم بعد أن أصرّ اللعين هشام على هتك حرمته شخصيّاً والتنكيل به في مواضع عدّة ((1)).

وسيأتي تفصيل الكلام في كلّ مفردةٍ من هذه المفردات في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

بَيد أنّ الملخَّص من ذلك كلّه:

إنّها كانت حركاتٍ فرديّة أو جماعيّة محدودة، محصورةً في الزمان والمكان والأفراد، لغرض محدودٍ محصورٍ لا يتعدّى الثأر للدماء الّتي سُفكَت في كربلاء..

فلا العالم الإسلاميّ كلّه من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه _ على سعته وكثرة تعداده _ قد ارتجّ وتزحزح وتحرّك..

ولا الشعارات المرفوعة كانت تتعدّى إلى أكثر من الثأر لسيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ولا الحركات كانت تقصد إسقاط النظام الحاكم، أو تغيير الواقع المعاش يومذاك.. ولا غير ذلك..

ص: 254


1- أُنظر للتفصيل: كتاب زيد الشهيد للسيّد عبد الرزّاق المقرّم (رحمة الله) .
التنويه الرابع: العيّنات غير حاكيةٍ عن المجتمع

إنّ مثل هذه الحركات المحدودة المحصورة عدداً وأفراداً، المتناثرةعلى مسافةٍ زمانيّةٍ تمتدّ إلى سبعين سنةً بعد مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام)، لا يمكن أن يُؤسَّس عليها كظاهرةٍ اجتماعيّةٍ تحكي واقعاً يعيشه المجتمع..

فموقف الطيّب الطاهر ابن عفيف الأزديّ لا يمكن اتّخاذه عيّنةً لتحكي ظاهرةً اجتماعيّةً كان يعيشها المجتمع الكوفيّ يومذاك..

وكذا هو الحال في التوّابين، بل حتّى المختار!

فلو أنّ بلداً يسكنه مئة مليون نسمة، ويتحرّك فيه مئة ألف شخصٍ ضدّ النظام الحاكم، فإنّ هؤلاء المتحرّكين لا يكوّنون مشهداً معبِّراً عن المئة مليون _ إلّا هؤلاء المعترضون _ بعد أن يكون الباقي راضياً موافقاً متماشياً مع الواقع المحكوم به.

ولا يمكن التعميم والاستنتاج منها على أنّ واقعة عاشوراء أثارت «رجّةً رهيبةً من الإنكار والرفض والقلق النفسيّ والشعور بالإثم، وقد سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، ودفعَتهم إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ»..

فإنّ الرجّة الرهيبة لو كانت رجّت سوى العدد المحصور الخارج مع سليمان بن صُرد، لَشملت جميع أصقاع البلاد واستوعبت كلّ العباد..

على أنّهم لم يندفعوا إلى العمل السياسيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ،

ص: 255

وإنّما اندفعوا بدافع الثأر والانتقام من القتَلَة، ولاحقوهم وتعقّبوهم وظفروا بالأكثر وقتلوهم.وحصول هذا العدد المحدود من المواقف في سبع عقودٍ من عُمر الأُمّة لا يمكن التعبير عنه بالقول: «ومنذ عاشوراء إلى سقوط الحكم الأُمويّ، حفل تاريخ الأُمّة الإسلاميّة بانتفاضاتٍ وثورات، فرديّةٍ وجماعيّة، قامت ضدّ الحكم الأُمويّ»..

التنويه الخامس: الشعور بالإثم

حتّى الشعور بالإثم لم يكن قد سيطر على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، بحيث يحرّكهم ويدفعهم إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ.

أجل، ربّما كان شعوراً بالإثم ينتاب بعض مَن شارك في قتال سيّد الشهداء (علیه السلام)، أو بعض مَن خذله وتخلّف عنه ممّن كان حاضراً في الكوفة وأطرافها..

أمّا أنّ هذا الشعور لا يمكن تعميمه على جميع البلاد الإسلاميّة، ولا يمكن تعميمه على أهل مكّة، ولا أهل الشام الشامتين، ولا أهل البصرة أتباع الجمَل يومها، ولا على أهل المدينة أجمعين، ولا على أهل اليمن والبحرين ومصر، وهكذا قِسْ على باقي البلدان، بل حتّى على أهل الكوفة أنفسهم، إذ أنّها لم تكن ظاهرةً اجتماعيّةً اجتاحت القلوب

ص: 256

وسرت في الصدور، وإنّما كانت إذ كانت محدودةً بشريحةٍ معيّنةٍ محدودة العدد والعُدّة.ولكي نعمّم الحكم، فلابدّ من ذكر شواهده وعيّناته في جميع الشرائح وأطراف البلاد.

الملحق الخامس: سرّ التأكيد على عزاء الإمام وزيارته!

اشارة

في مقام بيان ما يتجلّى من (آفاق الفتح الحسينيّ المبين) في مقطع ما بعد عاشوراء إلى عصر الظهور، ذكروا مقولة: «الإسلام حسينيّ البقاء»، وأنّ عاشوراء قد كشفَت عن وحدةٍ وجوديّةٍ لا انفكاك لها بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام) واتّحاد الدعوة لهما..

وذلك لأنّ نهضة الإمام الحسين (علیه السلام) في هدفها وشعارها ورسائلها وبياناتها وأخلاقيّاتها هي عين نهضة الإسلام المحمّديّ الخالص، للتحرّر من كلّ رواسب الجاهليّة التي علقت به نتيجة "السقيفة" الّتي مكّنت حركة النفاق من التحكّم في رقاب المسلمين ... ((1)).

ص: 257


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 183.

وفي إطار هذه الوحدة الوجوديّة بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام)، يتجلّى لنا سرٌّ كبيرٌ من أسرار تركيز أئمة أهل البيت (علیهم السلام) على عاشوراء وعلى تثبيتدعائمها ونشر آفاقها ما وسعَتهم الفرصة وتراخى عن منعهم الظرف الخانق، وذلك بتوجيه الأُمّة توجيهاً مركّزاً وشدِّها شدّاً محكماً إلى سيّد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، من خلال تأكيداتهم المتواصلة على "عزاء الحسين (علیه السلام) " وعلى "زيارة الحسين (علیه السلام) ".

سرّ تأكيد الأئمّة (علیهم السلام) على عزاء الحسين (علیه السلام) وزيارته:

إنّ العناية الفائقة الّتي خصّ أئمّتُنا (علیهم السلام) بها عزاء الحسين (علیه السلام)، وتأكيداتهم المتلاحقة على زيارة قبره المقدّس، لا يصحّ!!! تفسيرها بلحاظ المثوبات العظيمة الموعودة عليها كعملٍ تعبُّديٍّ فقط _ وإن كان لسان جُلّ الروايات المتعلّقة بهذه المسألة يقتصر على ذكر المثوبة فقط _، بل لابدّ من تفسيرها من النظر أيضاً إلى الآثار الأُخرى المترتّبة على عزائه وعلى زيارته.

[ في الهامش تعليقٌ هنا يقول:

قد يتصوّر البعض أنّ قولنا هذا تحميلٌ على الروايات بما ليس فيها، فنقول:

إنّ هذا العزاء وهذه الزيارة لهما آثارٌ _ غير المثوبة _ تنشأ عنهما، سواءً في حياة الفرد أو في حياة المجتمع، هي من نوع الأمر الطبيعيّ للفعل، وهذا أمرٌ يدركه الإنسان العاقل العادي، ولا

ص: 258

يرتاب فيه، فما بالك بالإمام المعصوم؟!

إذن، فحديثهم (علیهم السلام) فقط عن المثوبات المترتّبة على العزاء والزيارة والشعائر الحسينيّة الأُخرى دون ذِكر الآثار الأُخرى، يعني أنّهم (علیهم السلام) قد أغمضوا عن ذِكر تلك الآثار الأُخرى عمداً، بسبب ما كانت تفرضه الظروف الخانقة الّتي عاصروها آنذاك ... ].

... ومن تلك الآثار: الأثر السياسيّ والاجتماعيّ، والتغيّر الفكريّ والروحيّ في الأُمّة الناشئ عن العزاء والزيارة خاصّةً وعن الشعائر الحسينيّة الأُخرى عامّة، خصوصاً في فترة ما بين مقتله (علیه السلام) إلى أيّام الغَيبة الصغرى، حيث كان العزاء والزيارة مثلاً يعنيان في بعض مقاطع تلك الفترة رفض الناس للسلطات الحاكمة آنذاك، وإعلان البراءة منها، والخروج عليها، والتصدّي لأنواع نكالها وبطشها، إذ صار ".. أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام)، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير" ((1)).

ثمّ صاروا يُصرّون على زيارته (علیه السلام) ويقولون: ".. لو قُتِلنا عن آخِرنا لَما أمسك مَن بقيَ منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما

ص: 259


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 184 _ عن: أمالي الطوسيّ: 329 المجلس 11 ح 103.

حمَلَهم على ما صنعوا.. حتّى كثر جمعهم وصار لهم سوقٌ كبير ..." ((1)).

هكذا رُسم الفتح الحسينيّ وفُسّر قوله (علیه السلام): «لم يبلغ الفتح» أو «لم يُدرِك الفتح»، فكان ما كان وحدث ما حدث كأُفقٍ من الآفاق.. ممّا اضطرّنا للاستطراد هنا، وإلّا فالبحث ليس هذا محلّه، وسيأتي _ إن شاء الله _ الكلام في ذلك مفصَّلاً في موضعٍ، إن بقيَ في العمر بقيّة.

لذا سنقتصر هنا على إشاراتٍ عابرةٍ سريعة، ونؤجّل الحديث إلى محلّه، ونكتفي ببعض الإشارات:

الإشارة الأُولى: التحرّر من رواسب الجاهليّة

تكرار الموضوع يضطرّنا إلى تكرار الحديث عنه، والبناء على غير أساسٍ يجرّنا إلى التنويه على خطر البناء كلّما أُشيد به.

لقد أبَت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقتها تباعاً السيّدة الصدّيقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حتّى مضت إلى ربّها شهيدةً صابرةً محتسبة..

وأبَت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها أمير المؤمنين (علیه السلام) في جميع مواقفه ومشاهده وخطبه وكلماته ودفاعاته

ص: 260


1- مع الركب الحسيني: 1 / 182 وما بعدها.

بالكلمة والموقف والسلاح..

أبَت الأُمّة أن تنصاع لأمير المؤمنين (علیه السلام) قبل الجمَل وبعد صفّين والنهروان، رغم كلّ البيانات والحجج، ورغم شهادة عمّار، ورغم كلّ المعاجز الّتي شاهدَتها..

أبت الأُمّة أن ترعى قرابة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وصحبة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعظيم الشخصيّة وجليل المواقف ونصاعة التاريخ..

أبت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) من خلال مواقفه وكلماته وخطبه..

أبت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها الإمام الحسين الشهيد (علیه السلام) من خلال مواقفه وكلماته وخطبه ومشاهده واحتجاجاته عليهم، ولم يرضوا إلّا بقتله وقتل من معه، تماماً كما فعلوا مع جدّه وأُمّه وأبيه وأخيه (علیهم السلام)، وزادوا نهب رحله وسبي عياله..

أبت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها أولاده المعصومون (علیهم السلام) من بعده..

وبقيَت الأُمّة منذ (السقيفة) إلى يوم الناس هذا على ما هم عليه، إلّا القليل ممّن عرف الحقّ، وقليلٌ ما هم على طول خطّ التاريخ، منذ هبوط آدم (علیه السلام) حتّى يقوم صاحب الأمر (علیه السلام) ..

الأقلّيّة التابعة للحقّ هم الشيعة أتباع الإمام (علیه السلام)، الّذين يعتقدون بالإمام منصوباً من الله، وهم أقلّيّةٌ كانوا ولا زالوا!

ص: 261

أمّا الأُمّة.. الّتي تُسمّى: أُمّة الإسلام، فهم الأكثريّة، والأكثريّة هم للحقّ كارهون..

فأيّ تحرّرٍ حصل لهذه الأكثريّة «من كلّ رواسب الجاهليّة الّتي علقت بالإسلام نتيجة "السقيفة" الّتي مكّنت حركة النفاق من التحكّم في رقاب المسلمين»؟!!

وهل استبدلت الأُمّة رجالَ حركة النفاق بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) برجال الله وأئمّة الحقّ؟!!

أوَليس كانت راضخةً منصاعةً _ طوعاً أو كرهاً _ للحكم الأُمويّ، ثمّ عمدَت إلى العبّاسيّين فحملَتهم على رقاب المسلمين، وهم الجناح الثاني للسقيفة؟!

أوَليس بقيَت مخانيث حركة النفاق حاكمةً في رقاب المسلمين إلى مئات السنين بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ؟!

لا نطيل في هذا الكلام ونكثر من هذه الأسئلة، فإنّنا قد أتينا عليها بألفاظٍ شتّى ومواضع كثيرة، وسنأتي عليها كلّما اضطرنا البحث.

الإشارة الثانية: لا يصحّ تفسيرها!!!
اشارة

قلنا: إنّنا لا نريد خوض هذا البحث حتّى يأتي وقته، غير أنّ نكتةًمنهجيّةً فيها مجازفة خطيرة تدعو للوقوف عندها، ولو على عجلٍ من خلال الوكزات التالية:

ص: 262

الوكزة الأُولى: كثرة الأحاديث

ربّما لا يغالي الإنسان إذا قال: إنّ مِن أكثر المواضيع والعبادات الّتي وردَت فيها نصوصٌ وأحاديث عن أهل البيت (علیهم السلام)، هو موضوع الوسائل الحسينيّة، من قبيل: البكاء، والإبكاء، والزيارة، وإنشاد الشعر، وما شابهها.. ووردَت فيها عموماتٌ كثيرةٌ جدّاً تشمل الموارد المذكورة وغيرها، ممّا يمكن أن ينطبق عليها عنوان العزاء والرثاء والجزع على اختلاف العصور والأُمم..

وربّما يعجب المرء حين يرى التدقيق في كلّ التفاصيل المتعلّقة بالموضوع، وملاحظة جميع الظروف والأحيان، والأذواق والمستويات..

لذا تجد متابعةً دقيقةً وتفصيليّةً مثيرةً للعجب لمراحل البكاء الّتي قد يمرّ بها الإنسان، أو أنواعه الّتي قد يمتاز بها فردٌ دون آخَر، وبيان الثواب والآثار المتعلّقة بكلّ فردٍ من الأفراد..

فمن حرقة القلب.. إلى احمرار العين.. إلى جولان الدمع في الحدَقة.. إلى خروج مثل جناح البعوضة من الدمع.. إلى سيلان دمعةٍ واحدة.. إلى أن تصل الدموع إلى الخدّ، وتسيح على المحاسن واللحية، حتّى تصل إلى الصدر، وهكذا..وكذا في الزيارة، فإنّ فيها ما يكون في ظرف التقيّة، ويكتفى بالمرور من عند القبر والإشارة إليه بطرف العين، وهو يقول ثلاثاً: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله.. إلى الزيارات في المواسم.. والزيارة من البيت..

ص: 263

والزيارة عن بُعد..

وكذا اختلاف نصوص الزيارات، ففيها المختصر.. وفيها المطوَّل.. وفيها المفجع.. وفيها الثرّ بالعقائد.. وفيها، وفيها..

وكذا إنشاد الشعر وغيره من الوسائل الحسينيّة، فإنّها قد وردَت فيها نصوصٌ متظافرةٌ متكاثرةٌ لا تكاد تُفلِت حالة، أو ظرفاً، أو وضعاً..

ويكفي لمعرفة ذلك مراجعةٌ سريعةٌ في كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه (رحمة الله)، والجزء الرابع والأربعين والثامن والتسعين من كتاب (بحار الأنوار)..

ولسان الأحاديث كلّها دون استثناءٍ هو: الأمر بالتفجّع، والتحزّن، والجزع، والبكاء، والإبكاء، واستشعار المصيبة بكلّ تفاصيلها، واحتساب الأجر والثواب على ذلك، وإبراز كوامن الحبّ والولاء الخاصّ بسيّد الشهداء (علیه السلام) والأبرار من المستشهَدين معه والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

الوكزة الثانية: صراحة الأحاديث

تمتاز الأحاديث الشريفة الواردة عن المعصومين (علیهم السلام) من قَبلخاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) إلى خاتم الأولياء (علیهم السلام) بصراحتها، وذكرها المواضيع والمطالب بالنصّ الّذي لا يقبل التأويل والتحوير والحمل على وجوه..

وقد صرّحَت بالنصّ الواضح الجليّ بالآثار المترتّبة على كلّ وسيلةٍ من الوسائل الحسينيّة، من البكاء والإبكاء والزيارة والإنشاد وغيرها..

ص: 264

وهي لكثرتها وتشعّبها وتفصيلها وتعقّبها لكلّ دقيقةٍ من الدقائق وكلّ حالةٍ من الحالات والآثار المترتّبة عليها، يمكن أن تجتمع في كتابٍ ضخمٍ كما فعل بعض الأفاضل..

فتجد في بعض الأحاديث قد تناولت حتّى الحالات الروحيّة والنفسيّة والنوايا للزائر أو الباكي، وجعلَت لكلّ حالةٍ أثراً وأجراً؛ فمن زاره متشوّقاً متلهّفاً له أثرٌ وأجر.. ومن زاره متفجّعاً له أثرٌ وأجر.. ومن زاره على خوف.. ومن زاره.. ومن زاره.. وهكذا..

بل تناولت بعض الأحاديث التصريح بنيّة الزائر وقصده من الزيارة، كما ورد عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في حديث:

«أُولئك طوائف من أُمّتي، يزورونكم فيلتمسون بذلك البركة، وحقيقٌ علَيّ أن آتيهم يوم القيامة حتّى أخلّصهممن أهوال الساعة من ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنّة» ((1)).

وفي حديثٍ آخَر عنه (صلی الله علیه و آله):

«طوائف من أُمّتي، يريدون بذلك برّي وصلتي، أتعاهدهم في الموقف، وآخذ بأعضادهم فأُنجيهم من أهواله وشدائده» ((2)).

وهكذا العشرات من الأحاديث الصريحة الواضحة الجليّة الّتي

ص: 265


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 126 ح 140.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 127 ح 141.

تنصّ نصّاً صريحاً بيّناً جليّاً، يتعالى عن العمل بالظواهر والتأويل في كلّ شأنٍ من شؤون الوسائل الحسينيّة.

الوكزة الثالثة: اتّفاق الجميع على مؤدّى الأحاديث

لا تجد أحداً ممّن قرأ متون الأحاديث الشريفة الواردة في الوسائل الحسينيّة يتنكّر أو يتباعد عن القول بأنّ لسان الروايات المتعلّقة بهذه المسألة يقتصر على ذكر المثوبات والأجر والآثار الدنيويّة والأُخروية، وقد أحصتها الأحاديث إحصاءً دقيقاً، وتابعتها متابعةً حثيثةً لا يفلت منها شيء..

فكيف يمكن والحال هذه أن يُقال:

لا يصحّ تفسيرها بلحاظ المثوبات العظيمةالموعودة عليها كعملٍ تعبُّديٍّ فقط، بل لابدّ من تفسيرها من النظر أيضاً إلى الآثار الأُخرى المترتّبة على عزائه وعلى زيارته.

هل تركت الأحاديث مجالاً لمتحدّث، وغفل أهل البيت (علیهم السلام) عن شيءٍ خوّلونا به لنتمّمه؟!

مع ملاحظة ما ذكرناه قبل قليلٍ من أنّ الأحاديث قد أحصت ما لم يأتِ بالحسبان، ولا يتخيّله إنسان، وجردَت الآثار صغيرها وكبيرها، دنيويّها وأُخرويّها!

ص: 266

الوكزة الرابعة: الآثار الطبيعيّة
اشارة

ربّما يُستدلّ لما يُذكَر من الآثار ممّا لم يرد في الحديث الشريف باللوازم الطبيعيّة الّتي تلزم من الإتيان بالوسائل الحسينيّة، ويقال: إنّ الإنسان العادي يدركها، فكيف بالمعصوم؟!

وهو كلامٌ لا يصمد أمام النقد، ولا يقام له في الميزان العمليّ في مجال الحديث وزناً، وذلك:

أوّلاً:

لأنّنا ذكرنا أنّ التفصيل الوارد في الأحاديث عن الوسائل الحسينيّة يكاد يكون عزيز النظير في عالم الحديث والرواية، وفي مثل هذا الحال يصعب بل لا يكاد يصدّق المتابع أنّ ثمّة أثراً تركه أهل البيت (علیهم السلام) لغيرهم.

وثانياً:

بعد أن عرفنا تفصيل أهل البيت (علیهم السلام) لجميع الجزئيّات المتصوّرة وغير المتصوّرة لدى الإنسان في المسألة، فلماذا لا نقول:

إنّ هذه الآثار الطبيعيّة الّتي نُدرِكها ونحاول ترسيمها ليست منظورةً عند الشارع الأقدس، ولا هي ذات بالٍ عند الأنبياء والأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، لذا تركوا الإشادة بها وذِكرها، وعمدوا إلى ما يهمّهم ويهمّ شيعتهم فذكروه بتفصيلٍ يثير الإعجاب والدهشة!

ص: 267

الوكزة الخامسة: الظروف الخانقة!

مراجعةٌ سريعةٌ في أحاديث الوسائل الحسينيّة تكشف بوضوحٍ أنّ أهل البيت (علیهم السلام) قد لحظوا ظروف التقيّة لهم ولشيعتهم، وقد أبانوا الحقَّ كلَّه، وحاشاهم عن التقصير في أداء الرسالة، وتبليغ الدين بتفاصيله..

وهذه الآثار الطبيعيّة المرسومة في المقام ليست هي في شيءٍ من التقيّة سوى الأثر السياسيّ، وإلّا فما ُيذكَر من الآثار التربويّة والتواصل والتثقيف وما شاكل، ليس فيها جانبٌ يحتاج إلى تقيّة..

ولا يخفى على مَن جاس خلال ديار أحاديث أهل البيت (علیهم السلام)،ولو في نظرةٍ عجلى، يجد أنّهم أوصلوا لنا أدقّ وأخطر التعاليم والعقائد في البراءة رغم كلّ ظروف التقيّة، وفي زيارة عاشوراء نفسها بنسختيها المشهورة والثانية الّتي يُزار بها عن بُعدٍ مثالٌ واضحٌ لذلك.

فهل تعسّر عليهم (صلوات الله عليهم) بعد كلّ ما ذكروه من تفاصيل رغم أجواء التقيّة الخانقة أن يزيحوا الستار عن بعض الجوانب الأُخرى الّتي أدركَتها عقول البشر العادي، بحيث يُقال:

إنّهم «قد أغمضوا عن ذِكر تلك الآثار الأُخرى عمداً، بسبب ما كانت تفرضه الظروف الخانقة الّتي عاصروها آنذاك ...».

الوكزة السادسة: استنتاجٌ من دون نسبة!

يمكن للإنسان أن يتأمّل ويستنتج ويفكّر ويتأمّل، ويقول ما يشاء

ص: 268

ما دام في رضى الله ورضى رسوله (صلی الله علیه و آله)، ولكن ليس له أن ينسب نتائج أفكاره إلى الله (عزوجل) ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) .

فما ذكره المعصوم صريحاً معتمَد، وما استنتجه الإنسان يبقى في دائرة القبول والردّ..

فلو كانت الآثار الّتي نزعمها ملحوظةً للمعصوم لَأشار إليها، ولو على نحو العموم والإشارة البعيدة، ولمّا لم يذكرها، فربّما يُقال: إنّها ليست مقصودةً للشرع بالأصالة بحالٍ وفق ما ورد في أحاديثهم..

فاجتماع الناس عند قبر الإمام الحسين (علیه السلام) _ مثلاً _ يلزم أن يقومهناك سوقٌ وعمرانٌ وفنادق ومؤسساتٌ خدميّةٌ وازدهارٌ اقتصاديّ، وربّما تصاعد عدد حوادث الدهس، وربّما يلقى أحد الزوّار واحداً من أرحامه وأقربائه أو أصدقائه الّذين افتقدهم منذ سنين، فتكون الزيارة سبباً للمّ الشمل، وربّما تعلّم المقيم في كربلاء عدّة لغات، لأنّ الناس يأتون من جميع أصقاع الأرض بلغاتٍ وألسنةٍ شتّى، ومنهم يتعلّمون اللغات، ويتعلّمون وسائل التعبير عن الحزن والجزع وإقامة العزاء، ويأخذون الأزياء ووصفات الطعام والأكلات، وغيرها من اللوازم الّتي يمكن أن تُعَدّ وتُحتسب بلا حساب..

ويلزم من التقاء الناس أُموراً وآثاراً كثيرة، تماماً كما هو في الحجّ، بَيد أنّ مثل هذه الآثار في الحجّ نصّ عليها القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت (علیهم السلام)، وأغمضوا النظر عنها في زيارة سيّد الشهداء (علیه السلام)، وذكروا

ص: 269

أُموراً تفصيليّةً أُخرى!

فإن شاء الإنسان أن يذكر مثل هذه الآثار، فله أن يفعل كما يشاء من دون نسبتها إلى الشرع، ولا تبرير عدم ذِكر الشارع لها بأنّه تعمّد غضّ النظر عنها للظروف الخانقة!

الوكزة السابعة: من معاني العزاء والزيارة!
اشارة

قيل: إنّ من تلك الآثار الّتي لم يذكرها أهل البيت (علیهم السلام) في أحاديثهم على كثرتها وتظافرها، التحدّي للسلطان.خصوصاً في فترة ما بين مقتله (علیه السلام) إلى أيّام الغَيبة الصغرى، حيث كان العزاء والزيارة مثلاً يعنيان في بعض مقاطع تلك الفترة رفض الناس للسلطات الحاكمة آنذاك، وإعلان البراءة منها، والخروج عليها، والتصدّي لأنواع نكالها وبطشها، إذ صار ".. أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام)، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير" ((1)).

ثمّ صاروا يصرّون على زيارته (علیه السلام) ويقولون: ".. لو قُتِلنا عن آخِرنا لَما أمسك مَن بقيَ منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا.. حتّى كثر جمعهم وصار لهم سوقٌ

ص: 270


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 184 _ عن: أمالي الطوسيّ: 329 المجلس 11 ح 103.

كبير ..." ((1)).

ويمكن الوقوف عند هذه المقولة من خلال النكات التالية:

النكتة الأُولى: ما هو الدليل؟!

أن تعني الزيارة في فترةٍ ما رفض الناس للسلطات الحاكمة، وإعلان البراءة منها، والتصدّي لأنواع نكالها وبطشها، حدَثٌ عامٌّ هامٌّ له دلالاته وأبعاده، ومشهدٌ معقَّدٌ يحتاج إلى التنسيق، وترتيب الفعاليّات، وحبك المواقف، وتوحيد الإرادات والمقاصد، ومِثل هذا الحدَث لا يمكن أنيبقى بدون توثيقٍ ويُكتفى بذكره هكذا، والحال أنّه على مستوىً رفيعٍ من الأهميّة الّتي تفرض على المؤرّخ أن يرصده..

فما هي الشواهد والدلالات على ذلك من التاريخ والحديث؟

النكتة الثانية: الدليل

إستدلّوا على ما يُقال مِن رفض الزوّار للسلطات وإعلان البراءة منها بما رواه الشيخ الطوسيّ في (الأمالي) في خبرٍ تاريخيٍّ لا ينتهي إلى معصوم، يفيد أنّ أهل السواد يجتمعون بنينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام):

إذ صار ".. أهلُ السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام)، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير ..." ((2)).

ص: 271


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 182 وما بعدها.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 184 _ عن: أمالي الطوسي: 329 المجلس 11 ح 103.

ولا ندري ما هي العلاقة بين اجتماع الزوّار على قبر أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) برفض السلطات وإعلان البراءة منها؟

إلّا أن تكون ثمّة سابقةً ذهنيّةً من لونٍ خاصٍّ تفهم كلّ تجمّعٍ (مظاهرة)، أو يمكن افتراضها (مظاهرة) بالمعنى المصطلح!

النكتة الثالثة: الدوافع

ثمّ قالوا في معرض الاستدلال:

ثمّ صاروا يصرّون على زيارته (علیه السلام) ويقولون: ".. لو قُتِلنا عنآخِرنا لَما أمسك مَن بقيَ منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا.. حتّى كثر جمعهم وصار لهم سوقٌ كبير ..." ((1)).

وهو نفس الخبر السابق، وقد اقتُطع منه هذا المقطعان بالخصوص.

وفي الخبر تصريحٌ لنوايا الزوّار وسبب اجتماعهم، فهم لا يعارضون، ولا يتصدّون، ولا يرفضون السلطات، ولا غيرها، وإنّما هم يصرّون على الزيارة لما رأوا من الدلائل ما حملهم على الإصرار..

إنّهم رأوا المعاجز والكرامات والبركة والنماء، وغيرها من الآثار الدنيويّة والأُخروية في الزيارة، فأصرّوا عليها لما رأوا.. هكذا يقول الخبر

ص: 272


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 182 وما بعدها.

بصراحة، ويكشف عن الأسباب والعلل الّتي تدعوهم للإصرار على الزيارة.

ويعود العجب مرّةً بعد مرّةٍ لطريقة استنطاق النصوص وفهمها وتحميلها ما لا تحتمل، وتأويلها رغم صراحتها ونصّها على ما تريد الإخبار عنه.

ثمّ إنّ دوافع الزوّار على طول خطّ التاريخ، منها ما صرّحَت به الأحاديث من قبيل ما أشرنا إليه قبل قليل، ومنها ما ذُكر في غيرها من الأحاديث، ومنها ما يكون شخصيّاً، كمُذنبٍ يلتمس المغفرة، وصاحبحاجةٍ يرتجي قضاءها، وقد جعل الله إجابة الدعاء تحت قبّته، ومريضٍ يستشفي هناك بتربة كربلاء أو بالتمسّح بالضريح المقدّس، ومحبٍّ يشتاق إلى حبيبه فيزوره، وواصلٍ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، ومُسعِدٍ لفاطمة سيّد نساء العالمين (علیها السلام)، وهكذا لا تنتهي النوايا ولا تنحصر، منها ما هو منصوصٌ عليه، ومنها ما هو تابعٌ للأشخاص والحالات والظروف..

فلماذا يُغَضّ الطرف عن جميع هذه المقاصد والدوافع، ويُختزَل الأمر في دافعٍ واحد، بحيث لا يُفهَم من اجتماع الناس عند القبر الشريف إلّا أن يكون رفضاً للسلطات، وإعلاناً للبراءة منها؟!!

ص: 273

ص: 274

كلمةٌ في الختام

ما كنّا نقصد إطالة الكلام في دراسة كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لبني هاشم، بيد أنّ ما رتّبوا عليه من لوازم ومعانٍ وأبعادٍ اضطرّتنا للمكث عنده قليلاً، وللحديث صلةٌ وتتمّةٌ تأتي في محلّها.

وخلاصة القول:

إنّ الكثير ممّا ذكروه في مقام بيان المقصود من الفتح وآفاقه وآثاره، لا ينسجم مع روح الكتاب وسياقه والحصر الوارد فيه.

ثم إنّه في كثيرٍ من شُعبه وآفاقه وما ذكروه قائمٌ على افتراضٍ مسبَقٍ حدّد ما قام به الإمام الحسين (علیه السلام)، وهو افتراض قيامه بالمعنى المصطلح، فلمّا لم يكن ما فعله واضح النتائج، معقولاً حسب الموازين العاديّة والظاهريّة، جليَّ العواقب، اضطرّ القائل إلى بحث الأمر وفق معتقده الراسخ القائم على القول بعصمة الإمام الحسين (علیه السلام)، فلابدّ من إيجاد المسوّغات والآثار والنتائج والعواقب والفتوح لقيامه، ليكون

ص: 275

منسجماً مع القول بعصمته، ومتوافقاً مع المسار العقليّ المطبوع..

فيما نجد أنّ الفتوح والآثار والقيَم المذكورة في مقام التسويغ والتوجيه والتعقّل لما وقع في الغالب _ إن لم نقل جميعها _ قائمةٌ على التأمّل والتعمّق من خلال المدركات العقليّة للبشر العاديّ القابل للردّ والقبول..

ونجدها في الغالب _ إن لم نقل جميعها _ تخالف مخالفةً واضحةً صريحةً لما ورد عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيت العصمة (علیهم السلام) من الآثار الّتي حصلَت بعد شهادة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فيما نجد في التصوّر الجديد الّذي يتماشى مع النصوص الشرعيّة والأحاديث المقدّسة، وينسجم مع سير الحوادث والأخبار التاريخيّة، ويفاد من كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ومواقفه ومشاهده، ويتّضح من سلوكيّات العدوّ وخطاباته وتصريحاته..

فإنّنا إن قلنا: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان مطلوباً للقتل، وقد أمر الخبيث يزيد بحمل رأسه المقدّس إليه مع جواب الكتاب من المدينة، ولاحقه في مكّة ليقتله بأيّ صورةٍ كانت، كما صرّح بذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، وعلّل خروجه من مكّة بذلك، ثمّ توجّه إلى العراق لما ذكرناه في أكثر من موضع، حيث كانت ثمّة وعوداً مخادعةً بالنصر، وكانت ثمّة القلّة الديّانين الّذين وعدوا وثبتوا، فتوجّه إلى هناك، وكان في الظاهر متوجّهاً إلى الكوفة، ثم جرّت المقادير والأحداث أن سارواإلى

ص: 276

كربلاء بعد أن أسرهم جيش الحرّ..

ثمّ بعد ذلك، فلْيحلّل مَن يحلّل، وليرتّب الآثار مَن يريد أن يرتّب، من دون أن تُنسَب إلى شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ونيّاته وقصده!

إنّ دم سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي اقشعرّت له أظلّة العرش وسكن في الخلد، أعزّ وأغلى وأثمن من تفسيره بالظنون والتخمين والتحليل والتصوّرات، رغم ما ورد من النصوص المقدّسة في بيان ذلك.

ص: 277

ص: 278

محتويات الكتاب

إبن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. الموقف الأخير عند الرحيل.............. 5

المتون....................................................................................... 5

اللحاظ الأوّل: موقع اللقاء........................................................................................ 12

الموقع الأوّل: المدينة........................................................................................ 12

الطائفة الأُولى: خبر الطبريّ عن أبي مِخنَف.......................................................... 12

الطائفة الثانية: رواية أهل البيت (علیهم السلام) .................................................................. 13

الطائفة الثالثة: الأخبار الّتي أفادت إقامة ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة...................... 14

الخلاصة:......................................................................................................... 16

الموقع الثاني: مكّة المكرّمة............................................................................... 16

الطائفة الأُولى: إخبار المسعوديّ وابن حجَر.......................................................... 17

الطائفة الثانية: حديث الإمام الصادق (علیه السلام) .............................................................. 19

المتابعة الأُولى: المتون....................................................................................... 19

المتابعة الثانية: تصريح الحديث............................................................................ 21

الخلاصة:........................................................................................................ 22

الموقع الثالث: لم يذكر المكان......................................................................... 22

الخبر الأوّل: البلاذري........................................................................................ 23

الخبر الثاني: ابن شهرآشوب............................................................................... 24

ص: 279

النتيجة:............................................................................................................ 25

التعارض الأوّل: خبر الطبريّ وحديث الإمام الصادق (علیه السلام) ............................................. 25

التعارض الثاني: حديث كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وحديث الإمام الصادق (علیه السلام) 25

اللحاظ الثاني: مبادراته............................................................................................. 27

المبادرة الأُولى: بكاؤه....................................................................................... 28

المبادرة الثانية: خروج ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى أخيه (علیه السلام) ..................................... 30

اللمحة الأُولى: نصّ ابن شهرآشوب..................................................................... 30

اللمحة الثانية: خروجه إلى الإمام (علیه السلام) ................................................................... 31

اللمحة الثالثة: وقت اللقاء................................................................................... 32

المبادرة الثالثة: عروض ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وأجوبة الإمام (علیه السلام) ............................. 32

العرض الأوّل: الإقامة في الحرم.......................................................................... 33

اللفتة الأُولى: الاختلاف بين لفظ المعصوم ولفظ غيره................................................ 34

اللفتة الثانية: خلوّ النصّ من التعرّض لبواعث الخروج.................................................. 36

اللفتة الثالثة: التماس الإقامة في الحرم..................................................................... 36

ردّ الإمام (علیه السلام) ................................................................................................... 39

خلاصة الجواب:.............................................................................................. 40

العرض الثاني: المسير إلى اليمن.......................................................................... 41

النقطة الأُولى: قبول قول الإمام (علیه السلام) ........................................................................ 42

النقطة الثانية: رأيٌ بقصد الحماية........................................................................... 43

ردّ الإمام (علیه السلام) ................................................................................................... 44

الجواب الأوّل: «لَاستخرجوني حتّى يقتلوني»............................................................ 45

الجواب الثاني: «أنظرُ فيما قلت»............................................................................ 46

المبادرة الرابعة: المراجعة في أمر حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ....................................... 48

الإشارة الأُولى: وقت اللقاء................................................................................. 48

الإشارة الثانية: اللحاق بالإمام (علیه السلام) قبل الخروج....................................................... 50

الإشارة الثالثة: ألم تعدني النظر؟!......................................................................... 51

الإشارة الرابعة: الخروج عاجلاً............................................................................ 52

ص: 280

الإشارة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام) ........................................................................... 53

الإشارة السادسة: الجواب الإقناعيّ والدعوة إلى التسليم.......................................... 55

الإشارة السابعة: المراجعة في حمل النساء!............................................................ 56

الردّ الأوّل: أمرُ النبي (صلی الله علیه و آله) .................................................................................. 58

الردّ الثاني: هُنّ لا يفارقنني.................................................................................. 60

المبادرة الخامسة: وداع الإمام............................................................................ 63

اللحاظ الثالث: موقف الناس!................................................................................... 67

كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) إلى محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) وبني هاشم 71

اللفظ الأوّل: لفظ الصفّار في (البصائر)..................................... 72

اللفظ الثاني: لفظ ابن قولويه في (الكامل).............................. 74

الإضاءة الأُولى: النصوص المعتمَدة.......................................... 76

الإضاءة الثانية: روايتان............................................................ 76

الإضاءة الثالثة: أجواء الروايتين............................................... 77

الإضاءة الرابعة: المخاطَب بالكتاب........................................... 78

الإضاءة الخامسة: الخطاب لم يلحظ المكان!............................ 80

الإضاءة السادسة: بنو هاشم!...................................................... 81

الإضاءة السابعة: «مَن لحق بي استُشهد»................................... 84

التنوير الأوّل: معنى «لحق»....................................................................................... 85

التنوير الثاني: معنى «استُشهد»................................................................................... 86

التنوير الثالث: المحصَّل........................................................................................... 87

الإضاءة الثامنة: «مَن تخلّف، لم يلحق بي».............................. 88

الإنارة الأُولى: معنى (الفتح) لغةً............................................................................... 89

الإنارة الثانية: مَن هو الشهيد الفاتح؟!........................................................................ 99

المعنى الأوّل: المعنى الملائم للُّغة...................................................................... 99

ص: 281

المعنى الثاني: إرادة معنىً خاصّ...................................................................... 103

المتابعة الأُولى: المراد بالمعنى الخاصّ!.............................................................. 104

المتابعة الثانية: التغيير بغضّ النظر عن القتل.......................................................... 107

المتابعة الثالثة: أن يكون قتلاً يترتّب عليه نوعٌ من الغلَبة......................................... 108

المتابعة الرابعة: أن تكون شهادةً في الحقّ والمقتول مظلوماً.................................... 109

النموذج الأوّل: هابيل....................................................................................... 110

النموذج الثاني: شهادة يحيى (علیه السلام) ......................................................................... 111

النموذج الثالث: مبيت أمير المؤمنين (علیه السلام) ............................................................... 112

النموذج الرابع: شهداء بدر................................................................................. 113

النموذج الخامس: شابٌّ في معركة الجَمَل............................................................. 114

النموذج السادس: شهادة عمّار (رضی الله عنه) في صفّين..................................................... 117

المتابعة الخامسة: أقسام المُقاتِل في القرآن الكريم............................................... 121

المتابعة السادسة: الفتح أثر................................................................................ 122

المتابعة السابعة: المعنى النهائيّ للشهادة الفاتحة!................................................... 123

المتابعة الثامنة: امتناع صدق الشهيد الفاتح إلّا على واحد!...................................... 125

الجواب الأوّل: وفق إطلاق التعريف..................................................................... 126

الجواب الثاني: النفي رجماً بالغيب!...................................................................... 127

الخدش الأوّل: امتناع نوعٍ خاصٍّ من الفتح............................................................................................... 128

الخدش الثاني: الوحدة الوجوديّة بين الإسلام وبين الحسين (علیه السلام) !........................................................... 130

الخدش الثالث: الإسلام حسينيّ البقاء!...................................................................................................... 131

الخدش الرابع: حصر مواجهة الإسلام بمواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) ........................................................ 139

الخدش الخامس: مصادرة شهادة الصدّيقة (علیها السلام) والرضيع (علیه السلام) .............................................................. 140

الخدش السادس: الخلاصة......................................................................................................................... 141

الدعوى الأُولى: الكشف عن الوحدة الوجوديّة............................................................................................ 141

الدعوى الثانية: الدعوة إلى الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام) ............................................................ 142

الدعوة الثالثة: مواجهة الإسلام عين مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) ..................................................................... 143

الدعوة الرابعة: بقاء الإسلام ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام) ................................................................................. 143

المتابعة التاسعة: الشهيد الفاتح والشهادة الفاتحة!.................................................. 144

الإنارة الثالثة: تعلّق الفتح بالاتباع لا بالإمام (علیه السلام) ....................................................... 152

الإنارة الرابعة: (الفاتح) ليس من ألقاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ........................................ 152

ص: 282

الإنارة الخامسة: كان الحسين (علیه السلام) يعتقد أنّه فاتحٌ منصور ....................................... 157

الوقفة الأُولى: اعتقاد الحسين (علیه السلام) .................................................................... 158

الوقفة الثانية: النهضة!...................................................................................... 159

الوقفة الثالثة: توقّف الأمر!............................................................................... 160

الوقفة الرابعة: حصر مراد الإمام (علیه السلام) بمعنىً واحد............................................. 161

الوقفة الخامسة: هل صرّح الإمام (علیه السلام) نفسه بذلك؟.......................................... 162

الوقفة السادسة: إثبات المدّعى........................................................................ 163

الوقفة السابعة: مَن الغالب؟!............................................................................. 164

الإنارة السادسة: الفتح انتصار المبادئ والقيم.......................................................... 166

الإنارة السابعة: الفتح الاستبشار!............................................................................. 169

الإنارة الثامنة: الفتح هو انتقام الصاحب لدم جدّه (علیهما السلام) ......................................... 172

الإنارة التاسعة: الفتح الرجعة!................................................................................. 176

الإنارة العاشرة: الفتح بمعنى الفصل........................................................................ 178

الإنارة الحادية عشر: الفتح بمعنى الظفَر والغلَبة....................................................... 179

الإنارة الثانية عشر: الفتح بمعنى القضاء................................................................... 179

الإنارة الثالثة عشر: الفتح طلب الثأر........................................................................ 180

الإنارة الرابعة عشر: الفتح هو الاستشهاد معه!.......................................................... 181

الإنارة الخامسة عشر: الفتح بمعنى نصرته............................................................... 183

الإضاءة التاسعة: محصَّل الكلام............................................... 183

الإضاءة العاشرة: هل في الكتاب تعريض؟!............................. 185

التلويح الأوّل: لماذا يُحصَر الكلام في ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ؟!.................................... 186

التلويح الثاني: احتمال التقيّة.................................................................................. 190

التلويح الثالث: الأمر بالسكوت لمنع اتّساع البحث.................................................. 196

التلويح الرابع: حصانة أولاد الأئمّة (علیهم السلام) !............................................................. 197

التلويح الخامس: اختصاص الأمر ببني هاشم!......................................................... 198

ص: 283

الإضاءة الحادية عشرة: مَن لحق من بني عبد المطّلب 199

الإشارة الأُولى: متى بعث الإمام (علیه السلام) إليهم؟!.......................................................... 200

الإشارة الثانية: مَن المبعوث؟................................................................................. 201

الإشارة الثالثة: المخاطَب!...................................................................................... 201

الإشارة الثالثة: موقف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في هذا الخبر.......................................... 202

ملحقات.................................................................... 205

الملحق الأوّل: التعامل في العمق والتعاطي مع الظواهر!..... 205

الملحق الثاني: قُتِل الإمام (علیه السلام) باسم الإسلام.......................... 206

الملحق الثالث: الإسلام المحمّديّ الخالص!......................... 214

النكزة الأُولى: استمرار الأُمويّين!........................................................................... 215

النكزة الثانية: الفصل بين الأُمويّة والسقيفة!............................................................. 217

النكزة الثالثة: التمييز بين الأُمويّة ودين السقيفة!...................................................... 220

النكزة الرابعة: قيام الإسلام المحمّديّ بالإمام (علیه السلام) ................................................... 221

النكزة الخامسة: الكلام عمّن حضر!....................................................................... 226

النكزة السادسة: الاجتهاد مقابل النصّ!!.................................................................. 228

النكزة السابعة: شهادة التاريخ................................................................................. 236

النكزة الثامنة: إسلامٌ مزيَّف إزاء مثله..................................................................... 238

الملحق الرابع: عاشوراء بداية نهاية الحكم الأُمويّ!.............. 239

النظرة الأُولى: الرجّة الرهيبة ومؤدّياتها!.................................................................. 239

النظرة الثانية: بداية النهاية!..................................................................................... 241

النظرة الثالثة: ما علاقة البداية بالنهاية؟.................................................................... 243

النظرة الرابعة: اختلاف دوافع المعترضين!.............................................................. 244

النظرة الخامسة: انحصار ردود الفعل!..................................................................... 246

التنويه الأوّل: بلدٌ دون البلدان.......................................................................... 247

ص: 284

التنويه الثاني: حصول حركاتٍ مشابهةٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام) ............................ 248

التنويه الثالث: دوافع بعض الحركات............................................................... 249

التنويه الرابع: العيّنات غير حاكيةٍ عن المجتمع................................................. 255

التنويه الخامس: الشعور بالإثم......................................................................... 256

الملحق الخامس: سرّ التأكيد على عزاء الإمام وزيارته! 257

الإشارة الأُولى: التحرّر من رواسب الجاهليّة........................................................... 260

الإشارة الثانية: لا يصحّ تفسيرها!!!.......................................................................... 262

الوكزة الأُولى: كثرة الأحاديث....................................................................... 263

الوكزة الثانية: صراحة الأحاديث..................................................................... 264

الوكزة الثالثة: اتّفاق الجميع على مؤدّى الأحاديث........................................... 266

الوكزة الرابعة: الآثار الطبيعيّة........................................................................... 267

أوّلاً:............................................................................................................. 267

وثانياً:............................................................................................................ 267

الوكزة الخامسة: الظروف الخانقة!................................................................... 268

الوكزة السادسة: استنتاجٌ من دون نسبة!........................................................... 268

الوكزة السابعة: من معاني العزاء والزيارة!......................................................... 270

النكتة الأُولى: ما هو الدليل؟!............................................................................ 271

النكتة الثانية: الدليل......................................................................................... 271

النكتة الثالثة: الدوافع....................................................................................... 272

كلمةٌ في الختام......................................................... 275

ص: 285

المجلد 6

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم السادس( وقائع البصرة 1 )

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

جرت بعضُ الأحداث في البصرة خلال أيّام تشرّف مكّة والبيت الحرام بوجود الإمام خامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة، السبط الثاني وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

مِن تلك الأحداث ما يرتبط ببعض أهل البصرة، من قبيل ما يُروى من اجتماع القوم في بيت مارية العبديّة وما أسفر عنه، كخروج الشهيد السعيد يزيد بن ثبيط وابنَيه، والتحاق آخَرين بركب السعداء، وحال أهل البصرة أيّام الحسين (علیه السلام) ، وحالهم بعد شهادة الإمام (علیه السلام) ..

ومن تلك الأحداث ما يرتبط بالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حسب ما يرويه المؤرّخ من كتابٍ يقول: إنّ الإمام (علیه السلام) بعث به إلى أهل البصرة..

ومن تلك الأحداث ما يرتبط بالسلطان الغاشم والطاغوت المسعور المتعطّش لسفك الدماء الزاكية، من قبيل ضمّ الكوفة إلى ولاية ابن الأَمة الفاجرة ابن زياد، وخروج الأخير إلى الكوفة، وما تبعها من أحداث..

سنحاول استعراضها وتناولها بالدراسة، إن شاء الله (تعالى).

ص: 5

ص: 6

إجتماع شيعة البصرة

المتون

الطبريّ:

قال أبو مِخنَف: وذكر أبو المخارق الراسبيّ، قال:

اجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية ابنة سعد _ أو مُنقِذ _ أيّاماً، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه.

وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق.

قال: فأجمع يزيدُ بن نبيط الخروج _ وهو من عبد القيس _ إلى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله وعُبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج. فقالوا له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد! فقال: إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد لَهان علَيّ طلب مَن طلبني.

ص: 7

قال: ثمّ خرج، فقوى في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ، فدخل في رحله بالأبطح.

وبلغ الحسينَ مجيؤه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رحل الحسين، فقيل له: قد خرج إلى منزلك. فأقبل في أثره، ولمّا لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، وجاء البصريّ فوجده في رحله جالساً، فقال: ﴿بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ ((1)).

قال: فسلّم عليه وجلس إليه، فخبّره الّذي جاء له، فدعا له بخير.

ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه فقُتِل معه هو وابناه.

ثمّ دعا مسلم بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداويّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ ((2)).

إبن الأثير:

واجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية بنت سعد، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه.فعزم يزيد بن نبيط على الخروج إلى الحسين، وهو من عبد القيس،

ص: 8


1- سورة يونس: 58.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فخرج معه ابنان له: عبد الله وعُبيد الله، فساروا، فقدموا عليه بمكّة، ثمّ ساروا معه فقُتلوا معه.

ثمّ دعا الحسينُ مسلم بن عقيل، فسيّره نحو الكوفة ... ((1)).

السماويّ:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَتِ الشيعة في دار مارية بنت مُنقِذ العَبديّ، وكانت من الشيعة، فتذاكروا أمر الإمامة وما آلَ إليه الأمر، فأجمع رأي بعضٍ على الخروج، فخرج، وكتب بعضٌ بطلب القدوم ... ((2)).

المقرّم:

وكانت مارية ابنة سعدٍ _ أو مُنقذ _ أيّماً، وهي من الشيعة المخلصين، ودارها مألفٌ لهم يتحدّثون فيه فضل أهل البيت ((3)).

النَّمازيّ:

مارية بنت مُنقِذ _ أو سعيد _ العَبديّة: إماميّةٌ تقيّة، لِما رُوي عن

ص: 9


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267.
2- إبصار العين للسماويّ: 25.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 162.

أبي جعفرٍ [الطبريّ] مِن أنّها تتشيّع، وكانت دارها مألَفاً للشيعة يتحدّثون فيها ((1)).

* * * * *

هذه جملة النصوص الواردة في خبر اجتماع الشيعة من أهل البصرة في بيت المرأة الصالحة، لمدارسة الأوضاع يومذاك واتّخاذ الموقف من نصرة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .

ويمكن استحصال مؤدّيات هذا الخبر من خلال الأضواء التالية:

الضوء الأوّل: رواة الخبر

يبدو _ حسب الفحص _ أنّ الطبريّ تفرّد بنقل هذا الخبر عن أبي مِخنَف، وتبعه على ذلك ابن الأثير في (الكامل)، لا غير.

فإذا صحّ هذا التفرّد، وصحّ إعراض المؤرّخين طرّاً عن روايته _ سُنّةً كانوا أو شيعة _، فإنّ هذا يُعَدّ ثغرةً تدعو إلى التأمّل والتريّث في التعامل معه.

ولا نريد هنا التشكيك في الخبر أو ردّه لمجرّد ابتلائه بالتفرّد وإعراضالقوم كلّهم جميعاً عن تداوله ولو إشارة، بَيد أنّ هذين الداءَين _ التفرُّد والإعراض _ يمكنهما أن ينخرا الخبر نخراً عنيفاً إذا كان يحتوي على مادّةٍ

ص: 10


1- مستدركات علم رجال الحديث للنَّمازيّ: 8 / 598.

متهالِكةٍ أو منخوبةٍ بثغراتٍ أُخرى.

ولمن يعتمد السند ويرجو تكثّر الرواة من حَمَلة الرواية والمؤرّخين أن يصرع الخبر ويكتفي بهذين المعضلَين.

لذا سنحاول استجلاء المتن، لنرى مدى قوّته في النهوض بالخبر ومقاومته للتفرّد والإعراض.

الضوء الثاني: تعريض الخبر بشيعة البصرة

بغضّ النظر عن عدد الشيعة القاطنين يومها في البصرة، إذ يكفي أن نقتصر على متن الخبر من دون الخروج عنه إلى غيره لبيان المقصود من هذا الضوء..

فالخبر يفيد أنّ ثَمّة جماعةً من الشيعة كانوا قد اجتمعوا في دار مارية، وتداولوا الأمر وتحدّثوا فيما بينهم عن مجريات الأحداث، وفكّروا في نصرة سيّد الشهداء وعزيز الزهراء (علیهما السلام) .

ثمّ إنّ أكثر المتواجدين هناك _ وهم جميعاً من الشيعة حسب مفروض الخبر _ قد امتنعوا وتخاذلوا عن نصرة إمامهم، إلّا يزيد بن نبيط _ أو ثبيط _ وابناه، بل إنّ بقيّة أبناء يزيد الثمانية قد تخاذلوا أيضاً، ولميُجِب دعوة أبيهم منهم إلّا اثنان فقط.

ولم يكتفِ المتواجدون ثَمّة من الشيعة بالتخاذل والنكوص، وإنّما بادروا إلى تثبيط يزيد وحاولوا منعه عن الخروج واللحاق بالإمام (علیه السلام) ،

ص: 11

و «قالوا له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد».

وكيف كان، فإنّ العدد الخارج من البصرة يومذاك لنصرة الإمام الحسين (علیه السلام) ضئيلٌ جدّاً بحسب العدد، وإنْ كان عظيماً لا يُقاس بحسب أعيانهم المقدّسة، ولا شكّ ولا ريب أنّ عدد الشيعة كمجموعٍ كان أكثر منهم.

وهذا يعني أنّ الخبر يحمل نفس اللون القاتم الّذي حاول الأعداء رسمه للشيعة، ويعزف على نفس الوتر المتهرّئ الّذي عزف عليه المناوئون حينما راحوا يزقحون مع أسيادهم الأُمويّين أنّ الشيعة هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) وخذلوه وأسلموه، ثمّ عدَوا عليه فقتلوه.. لتتكرّر القصّة مع الشيعة في البصرة كما حاولوا إحباك نسج خيوطها الواهية عن الشيعة في الكوفة، ليوحي راويهم إلى مسامع التاريخ أنّ ما وقع في البصرة يؤكّد ما يزعمون وقوعه في الكوفة، وأنّ الأمر حالةٌ مستشريةٌ عندهم في الأصقاع!

فهم اجتمعوا في بيت سليمان بن صُرد في الكوفة وكتبوا.. ثمّ خذلوا.. ثم خرجوا لقتال الإمام (علیه السلام) .. ويؤكّدوا ذلك بما وقع في البصرة من الاجتماع والخذلان، ولو كانوا في الكوفة لَفعلوا ما فعل أمثالهم فيها!!ولكي تُخمَّر العقول وتُذهَل الأذهان إذا اعترضها الريب والشكّ وأرادت أن تنتفض على الخبر المزعوم في الكوفة، فيُستشهَد لها بخبر الشيعة في البصرة!!

ص: 12

ولو كان الأنصار الملتحِقون من أهل البصرة قد فعلوا ذلك فرادى ومن دون اجتماعٍ ومشورة، لَقيل: إنّهم سمعوا ما لم يسمعه الشيعة الآخَرون، وانطلقوا خفيةً لئلّا يُمنَعون، أما وقد اجتمعوا وتداولوا الأمر وتشاوروا، فإنّ تخلّفهم يُعَدّ موقفاً، وتخاذلهم مدروساً مخطَّطاً بنيّةٍ وعزمٍ وسبق إصرارٍ وتقدير!!

ربما كان هذا المؤدّى وهذه النتيجة خلاصة ما يريد الخبر إيصاله إلى ذهن المتلقّي بدهاء، إذ أنّ التأمّل فيه ربما أفاد كشف هذا الطلاء والدهان الّذي يخطف الأبصارَ بريقُه، وتأسر قلبَ المُحبّ ألوانُه الزاهية الّتي تتموّج على صفحات كتاب الطبريّ، فيخالها القارئ لأوّل وهلةٍ أنّها منقبةٌ لشيعة البصرة الّذين اجتمعوا، وانطلق منهم نيفٌ من الرجال.. فيذهل عن متابعة أمر الآخَرين الّذين تفوق أعدادهم _ وهم شيعةٌ أيضاً _ عددَ الملتحقين، ويغفل عن الحكم عليهم بالتخاذل والخلود إلى الدنيا والتحسّب والتوجّس من أتباع ابن زيادٍ إن عثروا عليهم وهم ينسلّون لنصرة حبيب الله وحبيب رسوله وإمام زمانهم المفروض عليهم طاعته، وكأنّه لم يكن الحسين (علیه السلام) ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي قال جدُّه: «إنّه لا يؤمن عبدٌ حتّى أكون أحبَّ إليه مننفسه، وتكونَ عترتي أحبَّ إليه من عترته، ويكونَ أهلي أحبَّ إليه

ص: 13

من أهله، وتكونَ ذاتي أحبَّ إليه من ذاته» ((1)).

والخاذل يدخل في دائرة اللعنة، كما صرّحَت بذلك النصوص الشرعيّة المقدّسة الوادرة عن النبيّ وآله، سواءً في الأحاديث أو متون الزيارات ((2))، إلّا أن يأتي بعذرٍ يُرضي الله ورسوله وإمام زمانه، فيخرج من تلك الدائرة البائسة الملعونة.

الضوء الثالث: ماريّة العبديّة!

اشارة

كلّ ما يمكن تحصيله لمعرفة هذه المرأة هو ما ورد في لفظ الطبريّ نفسه، فقد وصفها الخبر بأنّها:

امرأة من عبد القيس، يُقال لها: مارية ابنة سعد _ أو منقذ _ أيّاماً، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألَفاً يتحدّثون فيه ((3)).

ونقل ابن الأثير عن الطبريّ نفس الكلام، غير أنّه حذف التردّد في اسم أبيها واكتفى بنسبتها إلى (سعد) ((4)).

ص: 14


1- أُنظر: ينابيع المودّة للقندوزيّ: 2 / 456 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الصواعق المُحرقة لابن حجر: 172 الباب 11، شُعَب الإيمان للبيهقيّ: 2 / 189، نظم دُرر السمطَين للزرنديّ: 233، سُبل الهدى والرشاد للصالحيّ الشاميّ: 8.
2- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 407 الباب 79، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 62، المزار لابن المشهديّ: 382، الإقبال لابن طاووس: 3 / 104.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
4- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267.

ويمكن استخلاص ما توفّر لدينا عنها في المعلومات التالية:

المعلومة الأُولى: اسمها ونسبتها

اسمها: (مارية) بالاتّفاق.

واختلفوا في اسم أبيها، فرواه الطبريّ على نحو الترديد: «سعد» أو «مُنقذ»، وذكره ابن الأثير باتّاً باسم «سعد»، وذكره السماويّ باتّاً باسم «منقذ»، وتردّد النَّمازيّ بين «منقذ» و«سعيد»، ولا يبعد أن يكون «سعيد» تصحيفاً أو من سهو قلمه الشريف.

وهذا التردّد عند الطبريّ يُورِث في النفس التردّد.

وقد اتّفقوا على نسبتها (العبديّ).

ولا يخفى أنّ المصدر الوحيد _ حسب الفحص إلى حين تحرير هذه الكلمات _ إنّما هو الطبريّ، وابن الأثير جاء مِن بعده، وليس لدينا مصدرٌ آخَر يمكن مراجعته للتثبّت.

ومن الغريب جدّاً أن تبقى امرأةٌ بهذا الثقل العظيم والمنزلة الرفيعة عند الشيعة _ بحيث اتّخذوا من منزلها مقرّاً للاجتماع وتداول الأُمور الصعبة _ في غياهب التنكُّر، ولا يصل إلينا شيءٌ عنها حتّى اسم أبيها على نحو التحقيق!

المعلومة الثانية: مَن هو أبوها؟
اشارة

لا ندري ما هو اسم أبيها على وجه التحديد، حيث ذكره الطبريّ على نحو الترديد بين اسمين:

ص: 15

الاسم الأوّل: مُنقِذ العَبديّ
اشارة

وجدنا ثلاثةً في كربلاء في معسكر الشرك والضلالة، كلٌّ منهم يُنسَب إلى مُنقِذ العَبديّ:

الأوّل: رضيّ بن مُنقِذ العَبديّ

وهو الّذي قاتل بُريرَ بن خُضير الهمْدانيّ، فاعتنق بُريراً، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بُريراً قعد على صدره، فقال رضيّ: أين أهل المصاع والدفاع؟ فحمل كعب بن جابر بن عمرو الأزديّ بالرمح فطعنه في ظهره، فلمّا وجد بُريرٌ مسّ الرمح عضّ أنف رضيٍّ فقطع طرفه، وشدّ عليه كعبٌ فضربه بسيفه حتّى قتله ((1)).

الثاني: مُرّة بن مُنقِذ العَبديّ

وهو الّذي نظر إلى المولى الأمير عليّ الأكبر (علیه السلام) يكرّ على الطُّغام ويفري لحومهم ويحصد رؤوسهم، فقال:

علَيّ آثامُ العرب إنْ هو فعل مِثلَ ما أراه يفعلُ ومرّ بي أن أُثكله أُمَّه. فمرّ يشدّ على الناس، ويقول كما كان يقول، فاعترضه مُرّة، وطعنه

ص: 16


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 421، تاريخ الطبريّ: 5 / 431، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 289، نفَس المهموم للقمّيّ: 260، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 396.

بالرمح فصرعه، واعتوره الناس فقطّعوه بأسيافهم ((1)).

الثالث: رجاء بن مُنقِذ العَبديّ

وهو أحد العشرة أولاد البغايا الّذين رضّوا الهيكل المقدَّس بعد الشهادة، إذ انتدب عشرة، وهم:

إسحاق بن يحيى الحضرميّ، وهانئ بن ثُبيت الحضرميّ، وأدلم بن ناعم، وأسد بن مالك، والحكيم بن طُفيل الطائيّ، والأخنس بن مرثد، وعمرو بن صبيح المِذحجيّ، ورجاء بن مُنقذ العبديّ، وصالح بن وهب اليزنيّ، وسالم بن خيثمة الجُعفيّ، فوطؤوه بخيلهم ((2)).

هؤلاء الثلاثة (رضي، مُرّة، رجاء) كلُّ واحدٍ منهم يُنسَب إلى مُنقذ العبديّ، كما تُنسَب مارية _ على أحد القولين _ إلى منقذ العبديّ أيضاً،

ص: 17


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 254، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 76، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 45، العوالم للبحرانيّ: 17 / 287، الإرشاد للمفيد: 2 / 109، أسرار الشهادة للدربنديّ: 370، نفَس المهموم للقمّيّ: 307، إعلام الورى للطبرسيّ: 246.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 111، مثير الأحزان لابن نما: 41، اللهوف لابن طاووس: 134، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 59، العوالم للبحرانيّ: 17 / 303، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 376، أسرار الشهادة للدربنديّ: 439، نفَس المهموم للقمّيّ: 381.

ولا دليل ولا شاهد يلوح في الكتب والمصادر على توثيق كونهم إخوة، أو أنّهم لآباء متكثّرون يتّحدون في الاسم فقط.

فإن كان الثلاثة إخوة، فبئس الأُسرة الملعونة هم!

الاسم الثاني: سعد العَبديّ

روى سبط ابن الجوزيّ والزرنديّ أنّ قاتل المولى الأمير عليّالأكبر (علیه السلام) يُدعى: مُرّة بن سعد العَبديّ، قالا:

وقُتل عليُّ بن الحسين بن عليّ، وهو عليٌّ الأكبر، وأُمّه ليلى بنت مُرّة الثَّقَفيّة، قتله مُرّةُ بن سعد العَبديّ ((1)).

مُرّة بن سعد العَبديّ هذا هو نفسه المذكور آنِفاً باسم مُرّة بن مُنقِذ العَبديّ قاتل المولى الأمير عليّ الأكبر (علیه السلام) ، فهل يمكن تسرية هذا التعدّد والتردّد بين الاسمين إلى التردّد في اسم أبي مارية؟!

كيف كان، فإنّ هذه المعلومات المتناثرة لا تُثبِت على نحوٍ جازم، وربّما لا تنهض لتوليد الظنّ بأن يكون لهؤلاء المذكورين علاقةٌ نسبيّةٌ بمارية صاحبة المنزل.

ويبقى أبوها غير متشخَّص الاسم، ولا متعيَّنٍ ولا معروف، بل تبقى هي رغم أهمّيّتها في دائرة الغموض.

ص: 18


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 144، دُرر السمطين للزرنديّ: 218.

لا يُقال: إنّ الغموض الّذي أحاط بهذه المرأة إنّما ينشأ من ظروف التقيّة، ومحاولة التعتيم المتعمَّد لإبقائها بعيدةً عن عين السلطة والجواسيس؛ إذ أنّها كانت صاحبة دارٍ صارت مألَفاً للشيعة في أحلك الظروف، وكانوا يجتمعون عندها، وقد عُرفَت بنحوٍ ما وتحدّدَت للشيعة، بل لراوي الطبريّ أيضاً، وخرجَت من دائرة التعتيم إلى دائرة الوضوح، فلا معنى للتخفّي علىأمرٍ مكشوف.

* * * * *

أجل، قد يُقال: إنّ المنزل إنّما كان يُنسَب إلى هذه المرأة، لا لكونها ذات موقفٍ في تلك الأيّام، وإنّما كان المنزل قد أُطلِق عليه اسمها وإن لم تكن نازلةً فيه في تلك الفترة ولم يعُد لها أبداً، كما هو المعتاد في تلك الأيّام، إذ تُنسَب الدار أو يُنسَب المنزل لأحدٍ لمجرّد أنّه مرّ به يوماً أو سرحَت فيه إبله أو امتلكه فترة، كما يُقال: منزل قصر بني مقاتل مثلاً، بالخصوص إذا لاحظنا تعبير المؤرّخ، حيث عبّر عنه ب- «منزل مارية»، ولم يُعبّر عنه ب- «الدار» أو بتعبيرٍ آخَر يفيد الاستقرار والثبات.

إلّا أن يُقال: إنّ قول الطبريّ: «بيت تلك المرأة»، يفيد أنّه كان بيتاً، وليس منزلاً تسمّى باسمها.

وليس بالضرورة أن تكون هي حاضرةً تلك الأيّام أو مشارِكةً لهم، بل يكفي أنّها كانت قد جعلَت منزلها نادياً لاجتماع القوم فيه كمنتدىً لهم.

ص: 19

المعلومة الثالثة: تشيُّعها!

وصفها الطبريّ قائلاً: وكانت تتشيّع.

وقال الشيخ السماويّ: وكانت من الشيعة ((1)).وزاد في وصفها السيّد المقرّم فقال: وهي من الشيعة المخلصين ((2))، ويبدو أنّ السيّد (رحمة الله) وصفها بالإخلاص مستفيداً ذلك من جعل منزلها مألَفاً للشيعة.

وكذا وصفها الشيخ النمازيّ في (المستدركات)، فقال: إماميّةٌ تقيّة ((3))، ولا ندري مِن أين استقى الشيخ (رحمة الله) وصفها بالإماميّة، إذ أنّ هذا الوصف يفيد أنّها كانت من الشيعة المتمحّضين الخُلّص الّذين يعتقدون بالأئمّة الاثني عشر، وهو الدين الحقّ الكامل، فتكون في ذلك الزمن معتقِدةً بالأئمّة كمُلاً، وهذا الاعتقاد الكامل يحتاج إلى دليلٍ لإثبات تحقُّقه في شخصٍ ما في تلك الأيّام، إلّا أن يكون مقصود الشيخ (رحمة الله) من ال-- «إماميّة» أي: أنّها كانت من الشيعة ذلك اليوم الموالين لأهل البيت وأصحاب الكساء، بغضّ النظر عن الاعتقاد الكامل بالأئمّة الاثني عشر، وقد وصفها الشيخ (رحمة الله) بهذا الوصف معتمِداً على ما ذكره الطبريّ كما صرّح بذلك،

ص: 20


1- إبصار العين للسماوي: 25.
2- مقتل الحسين للمقرم: 162.
3- مستدركات الشيخ النمازي: 8 / 598.

فقال: لِما رُوي عن أبي جعفرٍ [الطبريّ] مِن أنّها تتشيّع.

وأمّا وصفه لها ب-- «التقيّة»، فيكفي أنّها كانت من الشيعة لتتّصف بذلك.

المعلومة الرابعة: وضعها الاجتماعيّ

لم يَرِد في (تاريخ الطبريّ) ولا في (كامل ابن الأثير) ما يُشير إلىوضعها الاجتماعيّ من كونها متزوّجةً أو عزباء، غير أنّ السيّد المقرّم قال: «إنّها كانت أيّماً»، ونحن لا ندري مِن أين أخذ السيّد (رحمة الله) هذه المعلومة، إلّا أنّنا نثق به (رحمة الله) .

أجل، قد يُقال: ربّما فهم السيّد ذلك من قول الطبريّ: «اجتمع ... يُقال لها: مارية ابنة سعد _ أو مُنقِذ _ أيّاماً»، فربّما كانت نسخته خطّيّةً أو مطبوعةً رديئة، فقرأ «أيّاماً»: (أيِّماً)، لتقارب الصورة، بل ربّما كانت النسخة مكتوبةً برسم الألف بعد الياء صغيرةً، كالعلامة الّتي تُوضَع على الأف المقصورة، إذ كان رسم الخطّ سابقاً يعتمد هذا النوع من الألف، حيث يكتبون (الثلاث): (ثلث)، ويعلّمون اللام بألفٍ صغيرةٍ جدّاً.

والأيّم _ في اللغة _ : تصدق على المرأة الخليّة من الزواج، عزباء كانت أو مطلَّقةً أو أرملة..

وربّما يُقال: يُفهَم من (الأيّم) أنّها كانت أرملة.

ص: 21

المعلومة الخامسة: وجاهتها

ذكر الطبريّ أنّ منزل مارية كان لهم مألَفاً يتحدّثون فيه ((1))، وحدّد السيّد المقرّم نوع الحديث الّذي يجمعهم في دارها، فقال: يتحدّثون فيه فضلَ أهل البيت ((2)).وهذا الوصف لمنزلها وكونُه مألفاً للشيعة، يفيد أنّ صاحبة الدار كانت ذات مكانةٍ مرموقةٍ ووجاهةٍ عريضةٍ عند الشيعة، ويفيد أنّ دارها كانت منتدىً علميّاً ومدرسةً راقيةً يرتادها الشيعة ويألفون الحضور فيها.

وهذا بنفسه ينمّ عن كونها امرأةً عالمة، تتحلّى بمستوياتٍ ساميةٍ من العلم والمعرفة، مُلِمَّةٍ بالحديث والآداب الاجتماعيّة، ويفيد أيضاً أنّها كانت ذات سعةٍ ووفرة، تسمح لها أن تستضيف مجاميع الشيعة، وسيكون لها بحكم الوضع الاجتماعيّ وجاهةٌ ومنزلةٌ ومكانةٌ بين الشيعة.

غير أنّ هذا كلّه يركّز السؤال عنها ويثير التعجّب عند المتلقّي، إذ أنّ امرأةً كهذه كيف تبقى مجهولة، لا يذكرها ذاكرٌ من الرواة والمؤرّخين إلّا ما رواه الطبريّ فحسب؟!!

ص: 22


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرَّم: 162.

الضوء الرابع: الاجتماع

اشارة

قال الطبريّ:

إجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية .. وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ((1)).

ثمّ ذكر خبر خروج يزيد وابنَيه (رضوان الله عليهم).وقال ابن الأثير:

واجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية .. فعزم يزيدُ بن نبيط على الخروج إلى الحسين ((2)).

وقال السماويّ:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعة في دار مارية ((3)).

تفيد هذه النصوص عدّة تلميحات:

التلميح الأوّل: عدد المجتمِعين

يُفيد قولُ الطبريّ وابنِ الأثير أنّ مجموعةً معتَدّاً بها اجتمعَت، إذ عبّرا:

ص: 23


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267.
3- إبصار العين للسماويّ: 25.

«اجتمع ناسٌ»، ويفيد التبعيض الوارد _ بعد قولهما: «اجتمع ناسٌ» _ : «من الشيعة»، أنّ المجتمعين ليسوا هم جميع الشيعة، وإنّما بعضهم، وربّما أشعر التنكير: «ناسٌ» الإشارة إلى قلّة هؤلاء الناس بالنسبة إلى الأصل، غير أنّهم عددٌ يصلح أن يُطلَق عليه: (ناس)!

التلميح الثاني: هويّة المجتمِعين

حصر النصّ المجتمعين بلونٍ واحد، وهم: الشيعة، بَيد أنّ لفظ الشيعةيختلف في الإطلاق على الأفراد والتجمّعات حسب الظروف والسياقات، ففي مِثل تلك الأيّام الملتهبة الّتي اشتدّ فيها الاستقطاب، كانت تُطلَق هذه اللفظة على مَن انحاز إلى لواء أهل البيت (علیهم السلام) بالمعنى الأعمّ، مقابل مَن يتعلّق بأغصان الشجرة الملعونة ويسلك سُبل الضلال مِن أتباع السقيفة والخوارج وغيرهم.

فهم شيعةٌ من باب: إنّ ابن فاطمةٍ خيرٌ من ابن مرجانة وابن ميسون، وشيعةٌ بمعنى الرذاذ المتطاير الّذي يحوم حول أنوار أهل البيت (علیهم السلام) ، تماماً كما فعل الناس يوم بايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخلافة الرابعة، فإنّهم بايعوه على غرار بيعة السقيفة، لا بالارتكان إلى نصّ الغدير وتعيين ربّ العالمين، إذ أنّهم لم يكن عندهم بديلٌ عنه يومذاك حسب زعمهم، بعد أن قدّموا عليه الثلاثة!

ومثلُهم مثلُ مَن اجتمع في الكوفة وكاتب الإمام غريب الغرباء (علیه السلام)

ص: 24

ودعاه، وهم من أتباع السقيفة، ثمّ نكصوا على أعقابهم ورجعوا إلى غابتهم حين عرفوا أنّ الدنيا بيد القرود وأتباعها، وهؤلاء كان يُطلَق عليهم يومذاك: (الشيعة)، بمعنى الأتباع في الاستعمال اللغويّ على الإطلاق، وقد خاطبهم الإمام الحسين (علیه السلام) بهذا اللفظ أيضاً بنفس الاستعمال اللغويّ، لأنّهم أتباعه مقابل أتباع يزيد والأعداء، لا بمعنى أنّهم شيعةٌ بالمعنى الاعتقاديّ المصطلَح ممّن يعتقد فرض طاعته من الله (تبارك وتعالى) حسب تعيين اللهونصّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) .

وقد أتينا على بيان ذلك مفصَّلاً فيما سبق من دراسات، وفي (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام)).

فهل تعبيرهم هنا بالشيعة يقصدون المعنى اللغويّ المشار إليه، أو أنّهم يقصدون الثُّلّة الطيّبة من الشيعة المعتقدين فرض طاعة الإمام بعد الإمام؟!

سيّما إذا أخذنا تعبير الشيخ السماويّ (رحمة الله) بنظر الاعتبار:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعةُ في دار مارية ((1)).

فاجتماع الشيعة في البصرة كاجتماعهم في الكوفة، ولا شكّ أنّ الشيعة الّذين اجتمعوا في الكوفة ليسوا من أتباع الحقّ والنصّ يوم الغدير، إلّا القليل منهم مِن أمثال حبيب وعابس ونظائرهما.

ص: 25


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

وهنا في البصرة أيضاً كان فيهم من الشيعة المخلصين بالمعنى الاعتقاديّ، بدلالة خروج يزيد وأولاده وغيرهم من نفس ذلك المنزل، أمّا غير هؤلاء الأطهار الأبرار الّذين خرجوا، هل يمكن التيقُّن من تشيّعهم بالمعنى الاعتقاديّ؟

قد يُقال: إنّ مارية كانت عبديّة، وإنّ يزيد بن ثبيط وأولاده ومَن خرج لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) من البصريّين أغلبهم من بني عبد القيس أيضاً، فربّما كان هو منتدى العبديّين ومجلسهم ومجمعهم، وليس مكاناًعامّاً يجتمع فيه الشيعة على الإطلاق.

التلميح الثالث: وقت الاجتماع

يبدو من النصوص أنّ الاجتماع كان في فترةٍ كان فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) مقيماً في مكّة قبل خروجه منها بفترةٍ ليست بالقصيرة.

وقد حصل الاجتماع بعد خروج ابن زيادٍ من البصرة، بشهادة قول الطبريّ: «اجتمع الناس من الشيعة ... وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة» ((1)).

فلو كان ابن زيادٍ في البصرة لَما احتاج إلى الكتابة إلى عامله.

وأفاد الخبر أيضاً أنّ يزيد وولدَيه خرجوا من ذلك الاجتماع، والتحقوا

ص: 26


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

بالإمام الحسين (علیه السلام) على مشارف مكّة، فيكون وقت الاجتماع مقدار المسافة الزمنيّة الواقعة بين خروج يزيد من البصرة إلى التحاقه بالإمام (علیه السلام) ، وهي مدّةٌ محسومةٌ عادة، مع ملاحظة أنّهم كانوا يجدّون في السير.

وربّما أفاد كلام الشيخ السماويّ (رحمة الله) أنّه كان في فترة التهاب الكوفة واتّقاد الأحداث فيها، قبل أن تكشّر عن واقعها وتخذل المولى الغريب (علیه السلام) وتنصاع لابن مرجانة وتركع بين يديه، قال:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعةُ في دارمارية ((1)).

والمفروض أنّ ما بلغهم ممّا عليه أهل الكوفة هو الاجتماع للنصرة، وليس الخذلان.

بل إذا أردنا ملاحظة السياق وتتابع الأحداث حسب تصنيف الطبريّ، فإنّ الاجتماع سيكون قبل خروج المولى الغريب (علیه السلام) من مكّة، أي: قبل الخامس عشر من شهر رمضان، إذ أنّه يروي لنا خبر الاجتماع ولحاق يزيد بالإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة _ على حدّ تعبير ابن الأثير، وفي الصفاح في لفظ الطبريّ _، ويعقّب بعدها فيقول:

ثمّ دعا مسلمَ بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداويّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن

ص: 27


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

الأرحبيّ ((1)).

إلّا أن يُقال: إنّ الطبريّ كان في مقام سرد الأحداث من دون ترتّب.

وسيأتي تحديدٌ آخَر لوقت الاجتماع عند التشرّف بذكر خروج يزيد بن ثُبيط وابنَيه.

التلميح الرابع: ظروف الاجتماع

في ذاك الجوّ العاصف بالإرهاب، حيث أعلن ابن ميسون وابن مرجانةحالة الإنذار القصوى والنفير العام، وزرعا العراق خيلاً ورجالاً حتّى لَكأنّ الناس كانت تمشي على رؤوس الأسنّة والحِراب، وقد أخذوا أخذاً شديداً، وكان الأخذ على الظنّة والتهمة، وغصّت المدن والأرياف والصحارى والفيافي والطرقات والجوادّ بالعيون والجواسيس والربايا، واتّصلَت آذان الخيل بأذناب بعضها، فلا يمرّ من بينها المارّ، وخيّم الرعب والإرجاف، وتماوجَت الرياح تعصف بالناس من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال وبالعكس، وترفعهم وتخفضهم، وترمي بهم حبّات الرمال ورذاذ الأخبار في أتون التقلُّب بين الجنّة والنار، والاصطفاف في صفوف الأخيار ونصرة آل البيت الأطهار، أو الانتشار في دمن غابات القرود المسعورة.. كلّ ذلك كان في العراق، أمّا باقي الأصقاع، فكانت قد خنعَت بذُلّ، وخضعَت

ص: 28


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

خضوعاً تامّاً للطاغوت، فلا تسمع لهم ركزاً..

في مِثل هذه الأجواء وما هو أشدّ وأعتى، يكتب عبيد القرود ابن مرجانة إلى عامله على البصرة، وقد بلغه إقبالُ الإمام الحسين (علیه السلام) ، أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ((1)).

فهو تأكيدٌ وتشديدٌ على الإجراءات الغاشمة العاتية الّتي كانت ساريةً تلك الأيّام.

أجل، لم يكن ابن زيادٍ نفسُه في البصرة حين اجتمع الناس من الشيعةفي منزل مارية، بيد أنّ سطوته وبطشه وعساكره كانت تملأ الآفاق، وتسدّ الفروج والأرجاء.

وقد اجتمعوا في بلدٍ كانت صبغته _ يومذاك _ صبغةً معاديةً لآل البيت (علیهم السلام) ، وكان الشيعة _ بأيّ معنىً أخذتَ اللفظة _ أقليّةً ضئيلةً لا تكاد تبين.

وقد اجتمعوا في منزلٍ كان مألفاً لهم _ حسب تعبير الطبريّ _، فهو _ حسب مقتضيات الأُمور _ كان مرصوداً من قبل السلطة.

فلابدّ أن تكون الحيطة والحذر والتوجّس والترقّب تسود الأجواء!

التلميح الخامس: مُجرَيات الاجتماع
اشارة

لم يذكر الطبريّ ولا ابن الأثير المادّةَ الّتي تحاور بها المجتمعون، واقتصرا

ص: 29


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

على ذِكر كلام يزيد يخاطب أبناءَه وانتدابِ ابنَين له معه، هما: عبد الله وعُبيد الله، واعتراض الحاضرين عليه وردّه عليهم.

قال الطبريّ _ ولفظ ابن الأثير مِثله بشيءٍ من الاختصار _ :

فأجمع يزيدُ بن نبيط الخروج _ وهو من عبد القيس _ إلى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له، عبد الله وعُبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج. فقالوا له: إنّانخاف عليك أصحاب ابن زياد. فقال: إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد لَهان علَيّ طلبُ مَن طلبني.

قال: ثمّ خرج، فقوى في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ((1)).

وتفرّد الشيخ السماويّ (رحمة الله) بذِكر مجملٍ يفيد أنّهم «تذاكروا أمر الإمامة وما آل إليه الأمر، فأجمع رأي بعضٍ على الخروج فخرج، وكتب بعضٌ بطلب القدوم ((2)).

ويمكن _ هنا _ تسجيل عدّة تعليقات:

التعليق الأوّل: الخطاب الأوّل

يروي الطبريّ الخطابَ الأوّل، وهو ما دار بين يزيد وأبنائه، وكانوا

ص: 30


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفس المهموم للقمّيّ: 91، الكامل لابن الأثير: 3 / 267.
2- إبصار العين للسماويّ: 25.

عشرة، فلبّى دعوتَه اثنان منهم فقط.

وظاهر الخبر أنّ أبناءه جميعاً كانوا ضمن الحاضرين.. «وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له».

وبهذا يكون قد استجاب له اثنان من أصل عشرة من أبنائه، ولا يذكر الخبر هنا أنّ ثَمّة غيرهما قد استجاب له من الحاضرين.

التعليق الثاني: عرض الأمر على أولاده

الجميل الملفت أنّ يزيد لم يُكرِه أحداً من أولاده، ولم يتّبعه أحدٌ منهمعصبيّةً ونخوةً عمياء لمجرّد اتّباع الأب والسيرِ في المسلَك الّذي اختاره، كاتّباع أفراد القبيلة لرئيسها من دون تمحيصٍ ونظرٍ في الحقّ والباطل.

فمن اتّبعَه منهم اتّبعَه على علم، ومن تخلّف عنه تخلّف بملء إرادته، ولم يُحرجه أبوه، وإنّما اكتفى بالعرض عليهم.

ويبدو من سياق النصّ أنّ يزيد هذا (رضی الله عنه) لم يعرض الأمر على غير وُلده، وكأنّه لم يحضر عنده أحدٌ غيرهم!

التعليق الثالث: الإصحار بالعزم

إكتفى يزيد بالإصحار لأصحابه عن عزمه ونيّته وإقدامه على الخروج، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج ((1)).

ص: 31


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

ربّما كان هذا هو أُسلوبه الذكيّ والمحسوب بدقّةٍ في دعوة القوم للخروج معه، وتشجيعهم وتحريضهم ودفعهم للإقدام على ما أقدم عليه.

وربّما كان على وزان قول عابس بن أبي شبيب الشاكريّ حين تكلّم بين يدَي المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وأخبره أنّه إنّما يتكلّم عن نفسه ويُصحِر عن كامنه، ولا يخبره عن نوايا الناس وكوامنهم، ولا يتحمّل عنهم مسؤوليّة الموقف والإعلان عن النصرة ((1)).فكأنّ سيّدنا يزيد هنا فَعَل كفعل مولانا العابس، فأخبرهم عن نيّته، وأنّه يفعل ما عزم عليه، ولا يريد تحمّل مسؤوليّة أحدٍ غيره، وأنّه لا ينتظر منهم موقفاً، ولا يتوقّع من أحدٍ من الحضور مشاركة، ولا يريد التحدّث عنهم، ولا الدخول في شأنهم، وإنّما هو يعبّر عن موقفه وشأنه بالذات.

التعليق الرابع: جواب القوم!
اشارة

يبدو أنّ القوم ردّوا على يزيد قولاً واحداً، إذ أنّ الراوي نسب الجواب إليهم جميعاً، فقالوا له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد ((2)).

ويمكن أن يفيد الجواب مستويين من الردّ:

ص: 32


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 355، الفتوح لابن أعثم: 5 / 56، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 197، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 176.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
المستوى الأوّل: التحذير

هو ما يظهر من الردّ صراحة، وهو تعبيرهم عن خشيتهم على شخص يزيد من أصحاب ابن زياد، والحذر من تورّطه في الوقوع في فخاخهم، فيكون فريسةً لهم فيُؤخَذ أو يُقتَل.

ويبدو من لحن كلامهم أنّهم لا يريدون الكشف عن تخوّفهم عليه وحرصهم على حياته، وإنّما حذّروه تحذيراً شديداً، وحاولوا تنبيهه إلى ما خالوه غافلاً عنه، فهم إنّما يخافون عليه من أصحاب ابن زياد، بمعنى أنّهم خوّفوه وحذّروه، وكأنّهم يقولون له: لا تقدِمْ على ما عزمتَ عليه، لأنّكتغامر، وسيتعقّبك أزلام السلطان، فلا تُلقِ بنفسك في لهوات الموت والمخاطر!

فإيقاع التحذير والتخويف والتهويل واضحٌ في كلامهم، وإنْ كان في نغمٍ هاديءٍ يعزف بهدوء، ليوحي له أنّهم إنّما يحرصون عليه ويخافون عليه شخصيّاً.

المستوى الثاني: التبرير

لمّا عرض عليهم المولى يزيد عزمه، وكان في عرضه نوع إعلانٍ لهم يحمل ألوان الدعوة والتشجيع، اعترضوا على عزمه بكلماتٍ فيها رنّةٌ وغنّةٌ وصبغةٌ بلون الدفاع عن النفس، والتبرير والتسويغ للتأخُّر وعدم الاستجابة.

ص: 33

فهم يحاولون إقناعه بموقفهم، ويشرحون له سبب انجحارهم وانكفائهم وعدم المبادرة والتجاوب معه، فعبّروا عن خوفهم وتوجُّسهم وتحسُّبهم من أصحاب ابن زياد على أنفسهم بإبرازهم التخوُّف عليه منهم!

فكأنّهم يقولون له: إنّنا لم نُجِبْك ولم نخرج معك، لأنّنا نخاف أصحاب ابن زيادٍ عليك، فكيف لا نخافه على أنفسنا؟!

ولا يخفى على المتلقّي أنّ ابن زيادٍ لم يكن يومها في البصرة _ حسب النصّ _؛ إذ أنّه بعث بكتابٍ إلى عامله _ كما سمعنا _، وحسب تعبير القوم أنفسهم، حيث أنّهم لم يذكروا تخوّفهم من ابن زيادٍ نفسه، وإنّما مِن أصحابه.يا له من تبريرٍ باردٍ لا يتجرّعه مَن ذاق حلاوة حبّ الحسين (علیه السلام) ، وسنسمع بعد قليلٍ جواب المتعلّق بأنوار سيّد الشهداء (علیه السلام) يزيد.

التعليق الخامس: الردّ الأخير
اشارة

ردّ عليهم الواثقُ العالم المؤمن المتيقِّن ردّاً يناسب المستويين المشار إليهما، فأراهم السبيل النيّر والمعلَمَ الواضح وطريق الإفلات من مخالب الذئاب إلى رحاب نعيم نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقال:

إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد، لَهان علَيّ طلبُ مَن طلبني.

ويمكن الإشارة إلى مؤدَّيات كلامه المنير من خلال الأنوار التالية:

ص: 34

النور الأول: التأكيدات

أقسم على نجاح ما خطّط له، وأكّد بجميع وسائل التأكيد وأدواته، كالجملة الاسميّة، والقسَم بالواو ولفظ الجلالة، و(قد)، و(اللام) في جواب (لو)، وتركيب الألفاظ وتجانسها، وغيرها من التأكيدات الظاهرة لمن تأمّل النصّ.

ولا يبعد _ ولو استئناساً _ استعماله مفردة «الجدد» لِما فيها من تجانسٍ واتّحادٍ بالحروف والإيقاع في مفردة (الجدّ)، وتتالي الدال بعد الدال المُشعِرة بالعجلة والقوّة والجدّ والاجتهاد والتلاحق.

النور الثاني: سهولة الطريق

هذا هو السبيل لسلوك طريق الجنّة واللحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو سبيلٌ واضح المعالم بيّنُ المنار قريب المنال هيّن المسالك، لا يحتاج أكثر من أخفافٍ مُجِدّةٍ متلاحقةٍ مسرعة، تلقف الجدد وتنطلق لتسابق الريح، كأنّها مُجنّحٌ يخطف الأبصار، ويمرّ كالبرق على لامع الطريق..

فلْيلحق به مَن يلحق، وعلى أيّ راحلةٍ مهما كانت سريعة، فإنّ الشوق والروح المفعَمة بأمل اللقاء بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، واللحاق بركبه أقوى من كلّ شيء، و«ما ضَعُف بدنٌ عمّا قويَت عليه النيّة» ((1)).

ص: 35


1- أُنظر: مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 4 / 400 ح 5859، الأمالي للصدوق: 329 المجلس 53 ح 6 عن الإمام الصادق (علیه السلام) .

يكفي أن يصل إلى جدد الطريق لينطلق، ثمّ لا يلحق به لاحقٌ حتّى يبلغ منيته ومبتغاه.

النور الثالث: أهمّيّة الإقدام مهما كلّف

قد يكون المقصود من تهوين الأمر إن استوت أخفافُهما على الجدد وعدم الاكتراث بطلب مَن يطلبه، أنّه يريد الإشارة إلى أنّ تكليفه هو اللحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) وابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ والزهراء والإمامِ المفترض الطاعة (علیهم السلام) ، للدفاع عنه وعن عيال الله، وقد عزم على ذلك، فإذا خرج وسلك الطريق وتلقّف الجادّة بالمركب السريع، فإنْ طلبه مَن طلبه فهو لايكترث به ولا يبالي به، حتّى وإنْ ظفر به، وحتّى لو كلّفه ذلك حياته، فإنّه على الجادّة الصحيحة، وفي مقام أداء التكليف الربّانيّ، فهو إنْ بلغ المُنى والتقى بوصيّة ربّ السماء فقد نال ما يريد، وإن أدركه مَن طلبه فقُتل وهو في الطريق إليه، فقد فاز وسبق إلى الجنّة بعد أن عمل بما ندبه إليه ربّه.

النور الرابع: صعق الضمائر

بناءً على ما تبيّن في النورين السابقين، فإنّه قد أبان لمن سمع طريق النجاة، وكشف لهم عن سبيل الركون إلى الحقّ وأداء التكليف، فلا مناص

ص: 36

من الإقدام، ولا حجّة يوم يقوم الناس بين يدَي ربّ الحسين (علیه السلام) للخصام، وقد أقدم على ما أبان ونفذّ ما به يتحقّق المرام على مرأى ومسمع من هؤلاء النيام.

وبهذا يكون قد صعق ضمائرهم صعقةً عنيفة، تفي بالمطلوب في تحريك المشاعر وتنبيه الخواطر وإحياء الضمائر، ونفض ما على القلوب من رين الخلود إلى الأرض والشهوات والتسويلات، فلْيفزع القومُ إلى ربّهم، ويثوبوا إلى عقولهم، ويعرفوا غَبّ موقفهم وخوفهم، والطريقُ سالكةٌ على كلّ حالٍ لبلوغ المنى، وهي سهلة المنال، فإمّا السلوك على الجدد الموصلة، وإمّا السلوك إلى الجنّة على الجدد الموصلة قبل الوصول.

النور الخامس: أفلح باللقاء

لمّا كان العزم حازماً والجدّ جازماً، انطلق بكلّ ما آتاه الله من قوّة،فخرج، فقوي في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ..

لقد انتهى إلى سدرة المنتهى.. انتهى إلى ما كان يتمنّى أن ينتهي إليه.. لقد سعد بلقاء الحبيب.. الحسين (علیه السلام) الحبيب.. سعد بلقاء وجه الله.. ولصق بجنب الله.. نال النعيم الّذي لا نعيم بعده.. بلغ ذُرى الجنان بلقاء وليّ الرحمان الرحمان..

تحقّق ما قاله.. انطلق.. تلقّفت الأخفاف الجدد، وحلّق بجناحَين، وهبط آمِناً في رحاب الله..

ص: 37

يا لها من سعادةٍ هو مغبوطٌ عليها إلى يوم يُبعَثون! وصل ليجد إمام السعداء قد قصد رحله وبادر لاستقباله، ففرح، وقال: ﴿بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ((1)).

وسيأتي تمام الكلام في ذلك عند الحديث عن الشهيد السعيد نفسه.

وصل هو وابناه.. وتخلّف مَن تخلّف في بيت مارية، وتحرّزوا مِن أصحاب ابن زياد، منجَحرين مخلَّدين إلى الأرض ثقالاً.. لم نسمع منهم تسويغاً لتثاقلهم وانكفائهم سوى الخوف من أصحاب ابن زياد..

الضوء الخامس: معلومةٌ انفرد بها الشيخ السماويّ (رحمة الله)

اشارة

إنفرد الشيخ السماويّ (رحمة الله) _ حسب الفحص _ بذكر نكتتَين:

النكتة الأُولى: ما دار في الاجتماع

ذكر الشيخ السماويّ أنّ المجتمعين في دار مارية تذاكروا أمر الإمامة وما آلَ إليه الأمر، فأجمع رأيُ بعضٍ على الخروج، فخرج ((2)).

ولا ندري ما يقصد بقوله: «أمر الإمامة»، فأيُّ إمامةٍ الّتي تذاكروا أمرَها؟ الإمامة كما يعتقدها الشيعة، أو الإمامة بالمعنى المتداوَل يومها مَن

ص: 38


1- سورة يونس: 58.
2- إبصار العين للسماويّ: 25.

تولّى أمر السلطة والحكم وسياسة المجتمع والملك؟

وربّما أفاد قوله: «وما آل إليه الأمر» المعنى الثاني؛ لِما جرى من تغيُّراتٍ طارئةٍ بعد هلاك معاوية ونزو يزيد مِن بعده.

وربّما استفاد الشيخ (رحمة الله) هذا العنوان لما تذاكروا به من قرار البعض وعزمه على اللحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) .

فإن كان كذلك، فإنّ هذا حدس منه _ حشره الله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وصحبه _، وليس خبراً تاريخيّاً.

قد يكون ذلك كذلك، وقد يكون غيره، كأن يكونوا تذاكروا ما جرى على الإمام (علیه السلام) والمخاطر المحدَقة به وبأهله، وخذلانَ الناس له فيمكّة والمدينة، والوعودَ المتطايرة من الكوفة للنصرة والدفاع عنه.

النكتة الثانية: مكاتبة القوم

قسّم الشيخ (رحمة الله) الحاضرين في الاجتماع، وصرّح أنّ بعضهم عزم على الخروج وخرج، والبعض الآخَر كتب بطلب القدوم ((1)).

فيكون البعض الآخَر قد استعدّ للنصرة أيضاً، غير أنّهم لم يخرجوا، واقتصروا على طلب القدوم، وفضّلوا أن ينتظروا الإمام (علیه السلام) حتّى يرد عليهم فيقوموا باللازم ويؤدّوا حقّه.

ص: 39


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

ويفيد أيضاً أمراً مهمّاً غاية الأهمّيّة، وهو أنّ ثمّة مكاتبةً حصلَت من قِبل هذا البعض من أهل البصرة، فينفع في تسويغ ما كتب به الإمام (علیه السلام) لأهل البصرة، كما سنسمع بعد قليل.

ولا ندري أنّ طلب القدوم كان إلى أين؟ هل طلبوا منه (علیه السلام) القدوم عليهم في البصرة، أو طلبوا منه القدوم إلى الكوفة؟

فإن كان القدوم إلى الكوفة فإنّه يلزمهم الخروج إليها، وسيلزم نفس المحذور من الخروج إليه في مكّة، وإن كان طلب القدوم إلى البصرة فهو تعسُّفٌ وتقاعسٌ وطلبٌ يكشف عن النوايا الخائرة.

النكتة الثالثة: مصدر المعلومة

لا ندري بالضبط من أين جاءت معلومة "كتابة القوم للإمام (علیه السلام) يطلبون منه القدوم"، بَيد أنّنا نثق بالشيخ (رحمة الله) ، ونعلم أنّه كان صاحب مكتبةٍ وكتب، ونحتمل أن يكون ذلك استنتاجاً أو تصوُّراً مبتنياً على جملة الحدَث ومجريات الأحداث.

ص: 40

كتاب الإمام (علیه السلام) لأهل البصرة

البلاذريّ:

فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة، وبعث بكتابه في ذلك مع مسلم بن عمرو الباهليّ أبي قُتيبة بن مسلم، وأمر عُبيدَ الله بطلب ابن عقيلٍ ونفيه إذا ظفر به أو قتْلِه، وأن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليٍّ ويكون على استعدادٍ له.

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى كتاب الله، ويقول لهم: «إنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت ونُعشَت».

وكلّهم كتموا كتابه، إلّا المنذر بن الجارود العَبديّ، فإنّه خاف أن يكون عُبيد الله بن زيادٍ دسّه إليه، فأخبره به وأقرأه إيّاه.

فخطب عُبيد الله بن زيادٍ الناسَ بالبصرة، فأرعد وأبرق وتهدّد وتوعّد، وقال: أنا نكلٌ لمن عاداني، وسمامٌ لمن حاربني. وأعلمهم أنّه شاخِصٌ إلى الكوفة، وأنّه قد ولّى عثمان بن زيادٍ أخاه خلافتَه

ص: 41

على البصرة، وأمرهم بطاعته والسمع له، ونهاهم عن الخلاف والمشاقّة.

وشخص إلى الكوفة، ومعه: المُنذر بن الجارود العَبديّ، وشريك ابن الأعور الحارثيّ، ومسلم بن عمرو الباهليّ، وحشمه وغلمانه، فوردَها ((1)).

الدينوريّ:

وأوصل الكتابَ الى عُبيد الله بن زياد.

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب كتاباً الى شيعته من أهل البصرة مع مولىً له يُسمّى: سلمان، نسخته:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم.

أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البِدَع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبل الرشاد، والسلام».

فلمّا أتاهم هذا الكتاب كتموه جميعاً، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه أفشاه، لتزويجه ابنته هنداً من عُبيد الله بن زياد، فأقبل حتّى دخل عليه، فأخبره بالكتاب وحكى له ما فيه، فأمر عُبيد الله بن زيادٍ بطلب الرسول فطلبوه، فأتوه به فضُربَت عُنقُه.

ص: 42


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.

ثمّ أقبل حتّى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس، فقام فقال: أنصف القارة من راماها. يا أهلَ البصرة، إنّ أمير المؤمنين قد ولّاني مع البصرة الكوفة، وأنا سائرٌ إليها، وقد خلّفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوَاللهِ الّذي لا إله غيره، لئن بلغَني عن رجُلٍ منكم خالَفَ أو أرجفَ لَأقتلنّه ووليّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى والبريءَ بالسقيم حتّى تستقيموا، وقد أعذر مَن أنذر.

ثمّ نزل وسار، وخرج معه مِن أشراف أهل البصرة شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود، فسار حتّى وافى الكوفة فدخلها ((1)).

الطبريّ:

فأقبل مسلم بن عمرو حتّى قَدِم على عُبيد الله بالبصرة، فأمر عُبيدُ الله بالجهاز والتهيّؤ والمسير إلى الكوفة من الغد.

وقد كان حسينٌ كتب الى أهل البصرة كتاباً.

قال هِشام: قال أبو مِخنَف: حدّثَني الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهديّ قال:

كتب حسينٌ مع مولىً لهم يُقال له: سليمان، وكتب بنسخةٍ إلىرؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود،

ص: 43


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس بن الهيثم، وإلى عمرو بن عُبيد الله بن معمر، فجاءت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسِل به (صلی الله علیه و آله) ، وكنّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ السنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

فكلّ مَن قرأ ذلك الكتاب مِن أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنّه خشيَ بزعمه أن يكون دسيساً من قبل عُبيد الله، فجاءه بالرسول من العشيّة الّتي يريد صبيحتها أن يسبق إلىالكوفة، وأقرأه كتابه، فقدّم الرسول فضرب عنقه.

وصعد عُبيد الله منبر البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فواللهِ ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، وإنّي

ص: 44

لَنكلٌ لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة مَن راماها.

يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوالّذي لا إله غيره لَئن بلغني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخُذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مخالِفٌ ولا مشاقّ.

أنا ابنُ زياد، أشبهته من بين من وطيء الحصى، ولم ينتزعني شبه خالٍ ولا ابن عمّ.

ثمّ خرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته، حتّى دخل الكوفة ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

قال: فلمّا ورد الكتاب على عُبيد الله بن زيادٍ وقرأه، أمر بالجهاز إلى الكوفة.

قال: وقد كان الحسين بن عليٍّ قد كتب إلى رؤساء أهلالبصرة، مِثل الأحنف بن قيس ومالك بن مسمع والمنذر بن الجارود وقيس ابن الهيثم ومسعود بن عمرو وعمر بن عُبيد الله بن معمر، فكتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه، [لكلّ

ص: 45


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.

واحدٍ كتاباً] ((1))، فكان كلُّ مَن قرأ كتاب الحسين كتمه ولم يُخبِر به أحد، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه خشيَ أن يكون هذا الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت حومة بنت المنذر بن الجارود تحت عُبيد الله بن زياد، فأقبل إلى عُبيد الله بن زيادٍ فخبّره بذلك.

قال: فغضب عُبيد الله بن زياد، وقال: مَن رسول الحسين بن عليٍّ إلى البصرة؟ فقال المنذر بن الجارود: أيّها الأمير، رسوله إليهم مولىً يُقال له: سليمان _ (رحمة الله) _. فقال عُبيد الله بن زياد: علَيّ به! فأُتي بسليمان مولى الحسين، وقد كان متخفّياً عند بعض الشيعة بالبصرة، فلمّا رآه عُبيد الله بن زياد لم يكلّمه دون أن أقدمه فضرب عنقه صبراً (رحمة الله) ! ثمّ أمر بصَلبه.

ثمّ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

أمّا بعد، يا أهلَ البصرة! إنّي لَنكلٌ لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، فقد أنصف القارة من راماها.يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية قد ولّاني الكوفة، وأنا سائرٌ إليها غداً إن شاء الله (تعالى)، وقد استخلفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوالّذي لا إله إلّا هو، لو بلغَني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه ولَأقتلنّ عريفه، ولَآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى يستقيموا لي، فاحذروا أن يكون فيكم

ص: 46


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

مخالِفٌ أو مشاقّ، فأنا ابنُ زيادٍ الّذي لم ينازعني عمٌّ ولا خال، والسلام.

قال: ثمّ نزل عن المنبر.

فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة ((1)).

إبن الأثير:

فلمّا وصل كتابه إلى عُبيد الله، أمر بالتجهّز ليبرز من الغد.

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدةً إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عبد الله بن معمر، يدعوهم إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، وأنّ السُّنّة قد ماتت والبدعةَ قد أُحييَت.فكلّهم كتموا كتابه، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه خاف أن يكون دسيساً من ابن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضُرب عُنق الرسول.

وخطب الناس وقال:

أمّا بعد، فواللهِ ما بي تُقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإنّي لَنكلٌ لمن عاداني، وسلمٌ لمن حاربني، وأنصف القارة من راماها.

ص: 47


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.

يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين قد ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها بالغداة، وقد استخلفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فواللهِ لَئن بلغَني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخُذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستقيموا ولا يكون فيكم مخالِفٌ ولا مشاقّ، وإنّي أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، فلم ينتزعني شبه خالٍ ولا ابن عمّ.

ثمّ خرج من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((1)).

إبن نما:

وأمر مُسلمَ بالتوجّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة، منهم الأحنف بن قيس وقيس بن الهيثموالمنذر ابن الجارود ويزيد بن مسعود النهشليّ، وبعث الكتاب مع زراع السدوسيّ، وقيل: مع سليمان المكنّى بأبي رزين، فيه: «إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيّه، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، فإنْ تُجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد».

فلمّا وصل الكتاب كتموا على الرسول، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه أتى عُبيدُ الله بالكتاب ورسولِ الحسين، لأنّه خاف أن يكون الكتابُ قد دسّه عُبيد الله إليهم ليختبر حالهم مع الحسين، لأنّ

ص: 48


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.

بحريّة بنت المنذر زوجة عُبيد الله، فلمّا قرأ الكتاب ضرب عنق الرسول.

وأمّا الأحنف، فإنّه كتب إلى الحسين (علیه السلام) : أمّا بعد، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((1)).

وأمّا يزيد بن مسعود النهشليّ، فإنّه أحضر بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، وقال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟ فقالوا: أنت فقرة الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسَطاً وتقدّمتَ فرطاً. قال: قد جمعتُكم لأمرٍ أُشاوركم فيه وأستعينُ بكم عليه. قالوا: نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي. قال: إنّ معاوية هلك، فأهوِنْ به هالِكاً ومفقوداً، فقد انكسر باب الجَور، وكان قد عقد لابنه بيعةً ظنّ أنّه أحكمها،وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأسُ الفجور، وأنا أُقسم بالله قسَماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والعِلم والسابقة والسنّ والقرابة، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعيَ رعيّته وإمامَ قوم، وجبَت لله به المحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها مع ابن رسول الله ونصرته، واللِه

ص: 49


1- سورة الروم: 60.

لا يقصّر أحدٌ عنها إلّا ورّثه الله الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لأمتها، وأدّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردَّ الجواب.

فتكلّم بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا، إذا شئتَ فقُم.

وتكلّمَت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرنا بترك القتال، فحمدنا رأيه وبقيَ عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع الرأي ونُحسِن المشورة، ويأتيك خبرنا واجتماع رأينا.وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إنْ غضبتَ ولا نغضبُ إن رضيت، ولا نقطن إن ظعنتَ ولا نظعن إن قطنت، والأمر إليك والمعوَّل عليك، فادعُنا نُجِبك، وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ يا بني سعد، لئن فعلتموها لا رفع الله عنكم السيف أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إلينا كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له من الأخذ بحظّي من طاعتك وبنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرضَ

ص: 50

قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتُم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدّ تهافتاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها، وقد ذلّلتُ لك بني سعدٍ وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مُزن، حتّى استهلّت برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنَكَ الله يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر».فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لِما فاته من نصرته.

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه لمّا جاءه كتاب الحسين (علیه السلام) حمله إلى عُبيد الله بن زياد، لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت بحريّة بنت المنذر بن الجارود زوجةَ عُبيد الله بن زياد، فأخذ عُبيدُ الله بن زيادٍ الرسولَ فصلبه.

ثمّ صعد المنبر فخطب، وتوعّد الناس على الخلاف وإثارة أهل البصرة الإرجاف.

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم عثمانَ بن زيادٍ

ص: 51

أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((1)).

إبن طاووس:

فتأهّب عُبيد الله للمسير إلى الكوفة.

وكان الحسين (علیه السلام) قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً مع مولىً له اسمه: سليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّاحضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون فيكم موضعي وحسَبي منكم؟ فقالوا: بخٍ بخ، أنت واللهِ فقرةُ الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً وتقدّمتَ فيه فرطاً. قال: فإنّي قد جمعتُكم لأمرٍ أُريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. فقالوا: إنّا واللهِ نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي، فقُل حتّى نسمع. فقال: إنّ معاوية مات، فأهوِنْ به واللهِ هالِكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر بابُ الجَور والإثم وتضعضعَت أركانُ الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات والّذي أراد، اجتهد واللهِ ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنُه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع

ص: 52


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

قصر حلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمَيه، فأُقسمُ بالله قسَماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر، لِسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّةٍ وإمامَ قوم، وجبَت لله به الحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته، واللهِ لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه الله الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لامتها وادّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردَّ الجواب.

فتكلّمَت بنو حنظلة فقالوا: أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك والله بأسيافنا ونقيك بأبداننا، إذا شئتَ فافعل.

وتكلّمَت بنو سعيد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرَنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا وبقيَ عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا.

ص: 53

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وخلفاؤك، لا نرضى إنْ غضبت، ولا نوطن إن ظعنت، والأمر إليك، فادعُنا نُجِبك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ يا بني سعد، لَئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له منالأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لا يُخلي الأرض قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خَلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتُم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتُهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خَمسها وكظّها، وقد ذلّلتُ لك بني سعدٍ وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزنٍ حين استهمل برقُها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنَكَ الله يوم الخوف، أعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (علیه السلام) بلغه قتلُه قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عُبيد الله ابن زياد، لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله

ص: 54

ابن زياد، وكانت بحريّة بنت المنذر زوجةً لعُبيد الله بن زياد، فأخذ عُبيد الله بن زيادٍ الرسولَ فصلبه.

ثمّ صعد المنبر فخطب، وتوعّد أهلَ البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف تلك الليلة.فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصر الكوفة ((1)).

النويريّ:

فلمّا وصل كتابُه إلى عُبيد اللَّه، تجهّز ليسير من الغد.

وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عُبيد اللَّه بن معمر، يدعوهم إلى كتاب اللَّه وسُنّة رسوله، فإنّ السنّة قد ماتت والبدعةَ قد أُحييَت.

فكلّهم كتم كتابه، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه خشيَ أن يكون دسيساً من ابن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول.

وخطب الناس، ثمّ قال في آخِر كلامه: يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها بالغد، وقد استخلفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فواللَّهِ لَئن بلغني

ص: 55


1- اللهوف لابن طاووس: 38.

عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخُذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستقيموا ولا يكون فيكم خلافٌ ولا شقاق، إنّي أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، فلم ينتزعني شبَهُخالٍ ولا ابن عمّ.

ثمّ خرج من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((1)).

إبن كثير:

وكتب له كتاباً صورة ما وقع من أمرهما.

وقد كان عُبيدُ الله قبل أن يخرج من البصرة بيومٍ خطب أهلَها خطبةً بليغة، ووعظهم فيها وحذّرهم وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرّق.

وذلك لما رواه هِشام بن الكلبيّ وأبو مِخنَف، عن الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهديّ قال:

بعث الحسين مع مولىً له يُقال له: سلمان، كتاباً إلى أشراف أهل البصرة، فيه:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسِل به، وكنّا أهلَه وأولياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس به وبمقامه في الناس،

ص: 56


1- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

فاستأثر علينا قومُنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقةَ وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه،وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإنْ فعلتم أهدكم سبيلَ الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة.

قال: فكلّ مَن قرأ ذلك من الأشراف كتمه، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه ظنّ أنّه دسيسةٌ من ابن زياد، فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الّذي جاء به من حسين، فضرب عنقه.

وصعد عُبيد الله بن زيادٍ المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فواللهِ ما بي تُقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإنّي لَنكالٌ لمن عاداني، وسهامٌ لمن حاربني، أنصف القارة مَن رماها.

يا أهلَ البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوالّذي لا إله غيره، لَئن بلغَني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى،

ص: 57

حتّى يستقيم لي الأمر ولا يكن فيكم مخالِفٌ ولا مشاقق.

أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، ولم يتنزعني شبَهُ خالٍ ولا عمّ.

ثمّ خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ، فكان من أمره ما تقدّم ((1)).

المقريزيّ:

فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فولّى عُبيد الله بن زياد ابن أبيه الكوفة، وجمع له معها البصرة، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه.

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم، فضرب عُبيد الله ابن زيادٍ عُنق رسوله.

ثمّ ركب من البصرة ودخل الكوفة، وقد بايع مسلم بن عقيل ثمانيةُ عشر ألفاً ((2)).

إبن أبي طالب:

وكتب الحسين (علیه السلام) كتاباً إلى أشراف البصرة، مع مولىً له يُقال له: سليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ.

ص: 58


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
2- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي فيكم وحسَبي منكم؟ قالوا: بخٍ بخ، أنت واللهِ فقرة الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً وتقدّمتَ فيه فرطاً. قال: فإنّي قد جمعتُكم لأمرٍ أُريد أن أُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. فقالوا: واللهِ إنّا نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي، فقُل نسمع. فقال: إنّ معاوية مات، فأهوِنْ به هالِكاً مفقوداً، وإنّه قد انكسر باب الجَور وتضعضعَت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات بالّذي أراد، اجتهد إليه ففشل وشاور فخذل، وقد قام يزيدُ شاربُ الخمر ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين ويتأمّر عليهم، مع قِصَر حلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمه، فأُقسِمُ بالله قسَماً مبروراً إنّ الجهاد في الدين أفضلُ من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يُوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر، لِسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعيَ رعيّةٍ وإمامَ قوم، وجبَت لله به الحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا في وهدة الباطل،فقد كان صخر بن قيسٍ قد انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته، واللهِ لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه الله الذلّ في وُلده

ص: 59

والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لامتها وادّرعتُ لها بدرعها، من لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ في ردّ الجواب.

فتكلّمَت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإنْ غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، نصول بأسيافنا ونقيك بأبداننا.

وتكلّمَت بنو سعد بن زيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا مخالفتُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرَنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا وبقيَ عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا.

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وخلفاؤك، ولا نرضى إن غضبت، ولا نقطن إن ضعنت، والأمر إليك، فادعُنا نُجِبك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ يا بني سعد، لَئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له بالأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وأنّ الله لم يُخلِ الأرض قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم

ص: 60

حُجّة الله على الخلق ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتُهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خَمسها، وقد ذلّلتُ لك بني سعد، وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزنٍ حين استهلّ برقها يلمع.

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنَكَ الله يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (علیه السلام) بلغه قتلُه قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأمّا المنذر بن الجارود، خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت بحريّة ابنة المنذر بن الجارود تحت عُبيد الله بن زياد، فأخذ المنذر الرسول والكتاب وأتى به إلى عُبيد الله بن زياد، فقتله.

ثمّ صعد المنبر، فخطب وتوعّد الناس من أهل البصرة علىالخلاف وإثارة الإرجاف.

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب أخاه عثمان بن زيادٍ على البصرة، وأسرع هو إلى الكوفة ((1)).

ص: 61


1- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وأمره أن يُسرع [السير إلى عُبيد الله]، فلمّا ورد الكتاب على ابن زيادٍ وقرأه، أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير، وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة، كما أشرنا أوّلاً ((1)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك إذ قدم رسول الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته، منهم الأحنف بن قيس وعبد الله بن معمر وعمر بن الجارود ومسعود بن معمر وغيرهم، بنسخةٍ واحدة، أوّله:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ (علیه السلام) :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على جميع خَلقه، وأكرمه بنبوّته، وحباه برسالته، ثمّ قبضه إليه مُكرَّماً، وقد نصح العباد وبلّغ رسالاتِ ربّه، وكان أهلُه وأصفياؤه أحقَّ بمقامه مِن بعده، وقد تأمّر علينا قومٌ فسلّمنا، ورضينا كراهة الفتنة وطلبَ العافية، وقد بعثتُ إليكم بكتابي هذا، وأنا أدعوكم إلى كتابالله وسُنّة نبيّه، فإنْ سمعتُم قولي واتّبعتُم أمري أهدِكم إلى سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

قال: ولم يبقَ أحدٌ من الأشراف إلّا قرأ الكتاب وكتمه، ما خلا المنذر ابن الجارود (لعنه الله)، وكانت ابنته تحت ابن زيادٍ (لعنه الله)،

ص: 62


1- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 180.

فلمّا قرأ الكتاب قبض الرسول وأدخله على ابن زيادٍ (لعنه الله)، فلمّا قرأ ابن زيادٍ (لعنه الله) الكتاب، أمر بالرسول فضُربَت عُنقه (رحمة الله) ، وكان أوّلَ رسولٍ قُتل في الإسلام ((1)).

بحر العلوم:

وكتب (علیه السلام) من مكّة إلى جماعةٍ من أشراف البصرة ورؤساء الأخماس، مع مولىً له اسمه: سليمان، وكنيته: أبو رزين.

ثمّ ذكر كلام الطبريّ وغيره، ثمّ قال:

فأخذ الرسولُ كتاب الحسين (علیه السلام) ، وجعل يجدّ السير من مكّة إلى أن وصل إلى البصرة، فسلّم صورة الكتُب إلى أصحابها ((2)).

ص: 63


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 146.

ص: 64

تمهيداتٌ مهمّة

التمهيد الأوّل: ارتباط المِصرَين

البصرة هي أقرب الحواضر الّتي كان لها صيتٌ يومذاك إلى الكوفة؛ فهي أقرب إليها من المدينة ومكّة واليمن وغيرها من الحواضر والبلدان، ويربطها بالكوفة طريق البرّ وطريق الماء، ولهذا التقارب الجغرافيّ أثره البليغ في التأثير والتأثُّر والتفاعل البليغ بينهما.

والمصران يرتبطان ارتباطاً وثيقاً متشابكاً، من خلال الوشائج القبَليّة والعلاقات العائليّة والأُسريّة المتشابكة الواسعة، والحركة التجاريّة، وغيرها من النشاطات الاجتماعيّة.

وقد شاركَت البصرةُ الكوفةَ بويلات الوُلاة الّذين سلّطهم الطواغيت عليهما، من قبيل زياد ابن أبيه ونغله عُبيد الله ابن زياد.

التمهيد الثاني: اختلاف التركيبة

عمد عمر بن الخطّاب إلى مدينة الكوفة فاتّخذها معسكراً، وحوّلها إلى ثكنةٍ عسكريّةٍ تتمركز فيها قوّاته يومذاك، لتمدّه بالرجال المدرّبينوالعساكر

ص: 65

المقاتلين، ينقل قطعانهم بين المشاتي والمصايف والغزوات، ولتكون الخطّ الأوّل للمواجهة في انتشاره نحو فارس.

فيما كانت البصرة مدينةً آهِلةً كثيرة السكّان، ينتابها «التجّار والحرفيّون الفرس الّذين أخذوا يتوافدون إلى هناك، وكذلك مجموعات الجواري والعبيد الّذين كانوا يُجلَبون كغنائم للحملات في الشرق، وأخيراً السبيل المتدفّق باستمرار من المستوطنين القادمين من شبه جزيرة العرب..

وكان مظهر المدينة الخارجيّ يتغيّر أيضاً مع زيادة السكّان فيها، فقد ظهرَت أسواقٌ واسعةٌ تحوي صفوفاً من الدكاكين، وبُنيَت المساجد والمدارس الملحَقة بها، وبدأت الأكواخ المبنيّة من الطين تتراجع تدريجيّاً أمام البنايات المشيَّدة من الطابوق» ((1)).

فالتركيبة الاجتماعيّة الأصليّة في البصرة تختلف تمام الاختلاف عن التركيبة الأصليّة في الكوفة، إذ أنّ الأخيرة كانت تركيبةً عسكريّةً رغم تقسيمها على أساسٍ قَبَليّ، فيما كانت تركيبة البصرة تركيبةً مدنيّة، ويبقى التقسيم العشائريّ والقَبَليّ هو الّذي يحكم في الولاءات والتحيّزات، كما هو الحال في البناء الاجتماعي الحاكم يومذاك.

فالبصرة حالها حال الحواضر الأُخرى الّتي كان يقطنها الناس في

ص: 66


1- أُنظر: ولاية البصرة للكسندر أداموف، ترجمة هاشم صالح التكريتيّ: 2 / 9.

صبغتها العامّة ولونها المدنيّ، وإن كانت القبائل فيها تتشكّل في صورة عسكرٍ متى اقتضت الضرورة، تماماً كما هو حال القبائل في غيرها.

وهذا الفرق بين الصبغتين المدنيّة للبصرة والعسكريّة للكوفة الّتي كانت تُعدّ مقلع جيوش الخلافة يومها، فرقٌ أساسيٌّ جديرٌ بالالتفات!

التمهيد الثالث: عداوة البصرة يومذاك لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)

كان في البصرة شيعةٌ لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، غير أنّهم كانوا أقلّ من القليل، نسبةً إلى التركيبة الاجتماعيّة المنتشرة في البصرة يومذاك، ويشهد لذلك العدد اليسير الّذي خرج لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) من جميع تلك الأعداد الضخمة الّتي كانت تسكن فيها، ويشهد لذلك أيضاً ما رووه عنهم كردود فعلٍ لمن يسمّونهم الوجوه والأشراف الّذين كاتبهم الإمام (علیه السلام) .

وكانت البصرة يومها لا زالت تعيش الثأر مع ابن مَن قتل صناديدهم وحطّم جماجمهم حين اتّخذوا الجمَل عِجلاً ودافعوا عنه بدمائهم.

ويشهد لذلك أيضاً ما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) في (الكافي) الشريف و(كامل الزيارات)، مُسنَداً عن الحسين بن ثويرٍ قال:

كنتُ أنا ويونس بن ظبيان والمفضَّل بن عمر وأبو سلَمة السرّاج جلوساً عند أبي عبد الله (علیه السلام) ، وكان المتكلّم منّا يونس، وكان أكبرنا سنّاً، فقال له:جُعلتُ فداك، إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم _ يعني وُلدَ

ص: 67

العبّاس _، فما أقول؟ فقال: «إذا حضرتَ فذكرتَنا، فقُل: اللّهمّ أرِنا الرخاء والسرور، فإنّك تأتي على ما تريد».

فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين (علیه السلام) ، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال: «قُلْ: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه مِن قريبٍ ومن بعيد».

ثمّ قال: «إنّ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) لمّا قضى، بكت عليه السماواتُ السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن ينقلبُ في الجنّة والنار مِن خَلْق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى بكى على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة الأشياء؟ قال: «لم تبكِ عليه البصرة، ولا دمشق، ولا آلُ عثمان (عليهم لعنة الله)» ((1)).

ورُوي عن يونس وأبي سلَمة السرّاج والمفضَّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «لمّا مضى الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، بكى عليه جميعُ ما خلَقَ الله، إلّا ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان» ... ((2)).

فالأكثرية الساحقة الّتي تجيز التعميم في الحكم دون ذِكر الاستثناء لضآلته على فرض وجوده، كانت في عِداد الشامتين بقتل ريحانة

ص: 68


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 575، كامل الزيارات لابن قولوَيه: 80 الباب 26 ح 5، و198 ح 2.
2- كامل الزيارات لابن قولوَيه: 80 الباب 26 ح 4.

النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهي على حدّ آل عثمان وأهل الشام، لم تبكِ غريبَ الغرباء وآلَه (علیهم السلام) ، ولم تكترث بما جرى على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولم يُداخلها حزن، وتمرّدَت ونفرت عن جميع المخلوقات الّتي بكت سيّد الشهداء (علیه السلام) وانفصلَت عنها، وأوغلَت في العداوة والبغضاء والشماتة والانتقام والغواية والانقلاب والبُعد عن الرحمة..

وهذا التمهيد مهمٌّ غاية الأهمّيّة، ويُعتبَر أساساً قويماً لفهم المواقف واستطلاع المشاهد في البصرة، وسنضطرّ إلى الإشارة إليه في مواضع عديدة.

التمهيد الرابع: الأفراد لا يمثّلون عشائرهم

للقبيلة الّتي تُنجِب شريفاً شجاعاً يسجّل موقفاً مشرّفاً أن تفتخر به، وتجعلَه لنفسها أُسوةً وقُدوة، بَيد أنّ موقفه لا يمثّل القبيلة إن كانت على غير صراطه وهداه.

وقد استقصينا أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) حسب وسعنا وما توفّر لدينا من معلوماتٍ عنهم، فلم نجدهم يندفعون للقاء جحافل العساكر وأكداس السلاح وجبال الحديد بدافعٍ عشائريٍّ أو قَبَليّ، ولا اتّباعاً لكبراء أقوامهم وشيوخ عشائرهم ووجهاء قبائلهم، وإنّما دفعهم حُبُّ الله وحبُّ رسوله وآل بيته وحبُّ سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وغَيرتُهم على عرض النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعرض أمير المؤمنين وآل الحسين (علیهم السلام) .

ص: 69

أمّا القبائل ككياناتٍ اجتماعيّة، فإنّها كانت خانعةً ذليلةً، رضخَت للطاغوت وجعلَت له في أعناقها نير المقادة والعبودية والاسترقاق.

فمن خرج مِن البصرة مِن أشاوس وأبطال للقاء سيّد الشهداء (علیه السلام) والدفاع عنه وعن آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كانوا أعداداً محدودةً جدّاً لا يتجاوز عددهم العشرة، وهؤلاء لا يحكون الموقف العامّ الشامل الحاكم في المجتمع البصريّ يومذاك، وإنّما يحكون أشخاصهم بأعيانها!

وسنسمع بعد قليلٍ ما يُروى في بني تميم وموقفهم مع شيخهم، فمن أعلن النصرة منهم لم يذكر سيّد الشهداء (علیه السلام) من قريبٍ ولا من بعيد، وإنّما يندفع للولاء القَبَليّ البحت!

ونحن لا نترفّع عن إدخال كلّ مَن تهاون في نصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) في دائرة الخاذلين، سواءً أكان شيعيّاً كما يزعم، إذ لا نرضى تطبيق الاسم عليه بعد الخذلان، أم كان من غير الشيعة، إلّا أن يكون له عذرٌ شرعيٌّ يُمضيه الإمامُ (علیه السلام) نفسُه أو مَن يأتي من بعده من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .

فيزيد بن نبيط _ أو ثبيط _ الّذي خرج مع ابنَين من أولاده لا يحكي موقف المجتمعين في بيت مارية، وكانوا _ حسب نقل التاريخ _ من الشيعة، ولا يحكي موقف بقيّة أولاده، وكانوا عشرة، فالثمانية الآخَرون الّذين تخلّفوا بملء إرادتهم ورغبتهم عن أبيهم يدخلون في دائرة الخاذلين،إلّا أن يثبت لهم عذرٌ مشروع، والخاذِل في هذا الموقف العصيب له أحكامه

ص: 70

وتبعاته.

ولو كان قد خرج من البصرة مئةٌ أو أكثر، لَما كان يشكّل لنا صورةً تنمّ عن مشهدٍ مؤازرٍ للإمام المظلوم (علیه السلام) ، كيف وهم عددٌ _ بالحساب _ ضئيلٌ جدّاً، سيّما إذا قيس إلى مئات الآلاف الّذين كانوا يسكنون البصرة يومها.

كيف كان، فإنّ البصرة كمصر وبلاد كانت يومها تُعَدّ في الخاذلين، حالها حال سائر بلاد المسلمين، سوى الكوفة الّتي لها أحكامها.

التمهيد الخامس: الإمام (علیه السلام) لم يُكاتِب مِصْراً

لا يشكّ مطّلعٌ على التاريخ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُكاتِب بلداً من البلدان، ولا مِصراً من الأمصار، ولا قبيلةً من القبائل، أو كياناً اجتماعيّاً أو سياسيّاً، وما شاكل.. ولم يستنصرهم، أو يدعوهم للقيام معه، أو يستنهضهم، أو يحرّضهم _ ككياناتٍ ومجاميع _ على السلطة، ولم يُسجّل له التاريخ مشاهد تحريضٍ على السلطة أو دعوةٍ لنكث البيعة ليزيد والتحريض عليه، بل لم يسجّل له في العلن ذِكراً ليزيد على رؤوس الأشهاد وبين الملأ..

حتّى أهل الكوفة، لم يكن الإمام (علیه السلام) قد ابتدأهم بالكتابة أو المراسلة والاستنهاض والدعوة للقيام _ بالمعنى المصطلح _ على السلطة الحاكمةيومئذ، وإنّما هم بادروا وكاتبوا الإمام (علیه السلام) وراسلوه ودعَوه إلى ما دعَوه إليه،

ص: 71

فأجاب بعد تحفُّظٍ شديدٍ ومكثٍ واضح، بحذرٍ حازم.. وأرسل إليهم أخاه وابن عمّه وثقته للتوثُّق ممّا زعموه وكتبوه.

وهذا التمهيد من أهمّ الملاحظات الّتي ينبغي التفطُّن لها واستحضارها في كلّ مشهدٍ يُراد أن يُدرَس في مراحل القيام الحسينيّ.. فهو يمنع في بعض الموارد من انعقاد الصورة المفترضة مسبقاً للقيام ولحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

ولكن إذا حشرنا القيام قسراً داخل القالب المُصاغ من السوابق الذهنيّة، وافترضنا أنّ الحركة الجغرافيّة على الأرض والتنقُّل من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق كانت بدافع الخروج بالمعنى المصطلح، فحينئذٍ يسهل تصوّر الاستنهاض والدعوة للخروج والتحريض على الحكم القائم ومواجهة السلطة الغاشمة..

مع ذلك، فإنّ السؤال يبقى حائراً يحوم حول الكتاب الموجَّه لرجالات أهل البصرة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) الّذي أمسك عن مخاطبة البلدان جميعها كيف خاطب (البصرة) بالذات؟!!

كيف خاطب أعداءَه واختصّهم دون غيرهم من العالمين؟!!

لماذا استنهضهم ودعاهم مبادِراً، وهم من الأعداء _ غالباً _، فيماتريّث واستوثق من أهل الكوفة، وهم الّذين كانوا يُصحِرون بالولاء ويزعمون النصرة ويعلنون البيعة، حتّى بعث إليهم المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام) ، وجعل ما سيراه ويكتبه له هو المعوَّل وعليه البناء دون

ص: 72

مئات بل آلاف الكتب الّتي وصلَته منهم؟!!

وللكلام تتمّة تأتي في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

التمهيد السادس: عداوة المخاطَبين

سيأتي الكلام مفصَّلاً عن المخاطَبين بالكتاب بعد قليل، ونكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى أنّ الأشخاص الّذين خاطبهم الإمام (علیه السلام) كأعيانٍ وشخصياتٍ وأتباعٍ محشورون جميعاً في عِداد الأعداء، وأصحابِ المواقف الرديئة والعقائد الفاسدة والسلوكيّات السيّئة مع أهل البيت (علیهم السلام) ، وفيهم مَن هو قريبٌ من ابن زياد سبباً وله ارتباطٌ عائليٌّ به.

فليس فيهم من يُعتمَد عليه أو يُركَن إليه، أو يمكن الاطمئنان به والتعويل عليه في الإجابة إلى دعوة الإمام (علیه السلام) ، أو التستُّر على رسوله وصيانة سرّه ودمه.

وقد سمعنا مواقف هؤلاء القوم مع أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الجمل، وانحيازهم لأعدائه وانخراطهم في صفوف الناكثين ودفاعهم عن أُمّهم وجَملِها، وأمير المؤمنين (علیه السلام) هو الخليفة الظاهر المُجمَع على بيعته، وأُولئكهم البغاة الخارجون على إمام زمانهم، وهم المبادرون لحرب الإمام والمقدِمون على مبارزته، وقد زحفوا إليه من المدينة وجحفلوا في البصرة.

فكيف يتوقّع متوقِّعٌ من هؤلاء أن يدعوهم أحدٌ لنصرته وهو يريد _ حسب الفرض المزعوم _ الابتداء بالخروج بالمعنى المصطلَح والمبادرة إلى

ص: 73

الحرب على الحكم القائم الّذي تمّت مبايعته من قِبل هؤلاء المسوخ؟!

التمهيد السابع: لم تخرج قوّاتٌ من البصرة

لم تتحّرك البصرة سلباً ولا إيجاباً أيّام الحسين (علیه السلام) ، ولم تخرج منها قوّاتٌ للدفاع عن الشرك والباطل أو التوحيد والحقّ، ولم تصطفّ كقوّاتٍ عسكريّةٍ في أحد العسكرين..

ربّما كان من أهل البصرة في عسكر السقيفة، كما كان بعض الأفراد من السعداء في معسكر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، بَيد أنّنا لم نسمع بتحرّك قطعاتٍ ومجاميع بشكلٍ ملحوظٍ بحيث يرصده الراوي ويسجّله المؤرّخ، سواءً كانت قطعاتٍ نظاميّةً عسكريّةً منتظمة، أو كانت تشكيلاتٍ عشائريّةً وقبَليّةً تضمّ أعداداً ضخمة.

وأمّا ما قيل من خروج ابن زيادٍ بخمسمئةٍ من أهل البصرة، فقد تمّتمناقشته في (المجموعة الكاملة) ((1)) لوقائع سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل.

وعلى فرض سلامة الخبر عن أيّ خدش، فإنّ العدد لا يرقى ليُعَدّ جيشاً وقوّةً معبِّرةً عن سكّان أهل البصرة، فما قدر خمسمئة رجُلٍ من حاضرةٍ كبيرةٍ تُعَدّ من الأمصار المكتضّة بالسكّان يومذاك؟! سيّما إذا قورن

ص: 74


1- أُنظر: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) : 2 / 434 وما بعدها.

هذا العدد بالأرقام المهولة الّتي خرجَت من الكوفة لحرب سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، كما سنقرأ بعد قليل.

التمهيد الثامن: لم يَرِد خبرُ أهل البصرة في حديث أهل البيت (علیهم السلام)

ذكرنا في أكثر من موضعٍ أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) الواردة في كربلاء وما جرى فيها على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، وطريقةَ التعامل معها والاستفادة منها، وأنّها وردَت أحياناً بلغةٍ مُرمَّزةٍ وألغازٍ ومختصَراتٍ وإشاراتٍ وكنايات، وغيرها من أساليب البيان المعهودة في بديع بيانهم، وهم الفصحاء الّذين يُكلّمون الناس على قدر عقولهم، وربّما سكتوا عن الاستطراد لضروراتٍ هم أعرف بها.فربّما يُقال: لا يمكن الاستناد على الرواية والحديث الوارد عن أهل البيت (علیهم السلام) في هذا المضمار، بحيث ينفى الحدَث لمجرّد عدم ورود ذِكره في كلامهم (علیهم السلام) ، سيّما إذا أخذنا ظروف التقيّة الحاكمة بلا هوادةٍ في جميع الأوقات والساعات.

أجل، يمكن الارتكان إلى الحديث في إثبات الحدَث وإنْ لم يَرِد في التاريخ، وهذا لا كلام فيه، وقد أتينا على تفصيله في محلّه.

مع ذلك، فإنّ في بعض الموارد يمكن الارتكان إلى الحديث في مجال

ص: 75

النفي بالاستفادة من خلال الشواهد والدلائل والقرائن المحيطة.

ولا نريد هنا الاستدلال الجازم والقاطع على نفي دعوة سيّد الشهداء (علیه السلام) لأهل البصرة، ونكتفي بالاستئناس والاستشهاد ولو من بعيد.

وقد رأينا _ حسب الفحص _ أنّه لم يَرِد لدعوة أهل البصرة في ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام) حين يذكرون ما جرى على سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، سواءً في الأحاديث المفصّلة أو المختصرة، ولم نستشعر فيها إشارةً أو تلويحاً مهما كان بعيداً.

بل ورد في الأحاديث ما يؤكّد شماتة أهل البصرة بمقتله يومئذ، وأنّ البصرة لم تبكِ عليه، ممّا يفيد عداوتهم الصريحةَ له ووضوحَ خذلانهم له وعدمَ نصرتهم له، فكيف يدعوهم وهو عالِمٌ بخذلانهم؟!أجل، يمكن أن يكون للدعوة _ إن ثبتَتْ _ وجهٌ آخَر، سيأتي الكلام عنه قريباً إن شاء الله (تعالى).

التمهيد التاسع: الحذَر من المؤرّخ!

حينما تكون الأجواء ملوّثةً بكثافة، يضطرّ الإنسان السويّ أن يضع الكمّامة إذا اقتحم تلك الأجواء، وربّما كان التلوّثُ بنسَبٍ عاليةٍ جدّاً ممّا يدعو العاقل أن يحتاط، فيحمل معه عبوة الأُكسجين، لئلّا يبتلي فيستنشق السموم فتأخذ منها مأخذاً.

وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «مجالسة الأشرار تورث سوءَ الظنّ

ص: 76

بالأخيار» ((1)).

وقد قيل: إنّ سوء الظنّ مِن حُسن الفطن.. سيّما إذا كان التعامل مع قومٍ أبدوا عداواتهم في كلّ موطن، وربّما تجد في كلماتهم ما يُفزع ويُرعِب في تنميق الباطل وتمويه الحقّ.

ولمّا كان الأصل عندنا سوء الظنّ بالمؤرّخ في روايته أخبار أهل البيت (علیهم السلام) عموماً وأخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) خصوصاً، على تفصيلٍ أتينا على ذِكره في المدخل من (موسوعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة).. فربّما دعانا ذلك إلى التريُّث هنا، مع ملاحظة التمهيداتالسابقة، وملاحظة المشاهد المتناثرة الّتي زرعها المؤرّخ طيلة فترة حركة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من خلال التركيز على المعترضين وأقوالهم ومواقفهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاولاته البائسة اليائسة لإلقاء الظلّ القاتم المشوّه لإقناع المتلقّي بتخطئة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في حركته الّتي رسمها الطاغوت وأذنابه من المؤرّخين.

وقد ذكرنا نماذج كثيرةً لذلك خلال دراستنا لظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة ومكّة، وذكرنا تصريحات أمثال ابن عمر وابن عبّاس، وتركيزهم على تخطئة الإمام (علیه السلام) في حركته، وأنّه يرتكن إلى وعود قومٍ قتلوا أباه وخذلوا أخاه في الكوفة، وشهد لهم تاريخهم بتقلّبهم وغربتهم

ص: 77


1- الأمالي للصدوق: 446 المجلس 68 ح 9.

عن الثبات والاستقرار واتّخاذ المواقف الراسخة المحسوبة العواقب.

فربّما أراد المؤرّخ هنا أيضاً أن يُثير هذا الغبار القاتم ويُربك المشهد بالرذاذ المسموم؛ ليوحي إلى المتلقّي أنّ المشهد المريض الّذي اعتمده الإمام (علیه السلام) في الكوفة من خلال ارتكانه إلى كتبهم وبناء موقفه واستجابته على قومٍ لا أصل لهم ولا جذور، وهو يستمدّ قواه ويبني قواعده على رمالٍ متحرّكةٍ لا تعرف الثبات بتاتاً، ويرصف عساكره من صفوف أعدائه من الخوارج وأتباع السقيفة، فهو يعيد نفس الكرّة في البصرة، فيستمدّ الأعداء ويحاول استقطابهم، وهم لا يستجيبون له أكيداً.فإذا كان في الكوفة يَعتمِد مَن لا يُعتمَد عليه ومَن لا يُعرَف توجّهه واتّجاهه، وربّما يُرصَد في الأشياع والأتباع ظاهراً، فإنّه اعتمد على الأعداء المبتوت في عداوتهم، فإذا شكّ أحدٌ بتصوير المؤرّخ والطاغوت في الكوفة، فإنّ مشهد البصرة يؤكّده ويُحكِم انسجام الفرية، ويُقنع المتذبذبَ الّذي يعوزه التأمّل والإمعان ويفتقر إلى معرفة الإمام (علیه السلام) .

ومن الواضح أنّ مِثل هذا الاستقطاب ستكون عاقبته إلى خسارٍ وفشل.. ومن الواضح أنّ هذا الموقف لا يُشَكّ في خطئه، وأنّ مِثل هذا الاستنهاض لا يؤول إلّا إلى تهاوٍ وانهيار.. وبالتالي، يستنتج المتلقّي دون عناءٍ خطأ الموقف.. نعوذ بالله ونستجير به من هذه التصويرات الخائبة، غير أنّ هذا ما يضطرّنا إليه البحث بعد أن عرفنا طريقة تعامل المؤرّخ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ص: 78

وقت إرسال الكتاب ووصوله

اشارة

لم نجد نصّاً صريحاً يفيد تاريخ كتابة الكتاب أو تاريخ إرساله، كما لم نجد ما يفيد صراحةً تاريخ وصول الرسول إلى البصرة واستلام المخاطَبين للكتاب، ويمكن التوصُّل إلى أوقاتٍ تقريبيّةٍ من خلال متابعة النصوص:

المتابعة الأُولى: وقت إرسال الكتاب

ذكر المؤرّخون خبر كتابة سيّد الشهداء (علیه السلام) كتابَه إلى أهل البصرة بعد أن ذكروا كتاب يزيد إلى عبيد القرود ابن زياد بولاية الكوفة وضمِّها إلى ولايته على البصرة وأمرِه بطلب المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وأنْ يتيقّظ في أمر الإمام الحسين (علیه السلام) ويكون على استعدادٍ له، وكان الكتاب قد وصل بالفعل إلى ابن زياد، إذ أقبل مسلم بن عمرو حتّى قَدِم على عُبيد الله بالبصرة، فأمر عُبيد الله بالجهاز والتهيّؤ والمسير إلى الكوفة من الغد.

وبعدها يذكرون أن «قد كان الحسين (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل

ص: 79

البصرة» ((1))، ممّا يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد كتب الكتاب وتحقّق ذلك قبل أن يصل الكتاب إلى عبيد القرود ابن زياد.

وقال الشيخ ابن نما:

وأمر مسلمَ بالتوجّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ((2)).

وهو يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) كتب إلى أهل البصرة في الوقت الّذي توجّه فيه المولى الغريب (علیه السلام) إلى الكوفة، وكأنّ الرسولان قد خرجا معاً من مكّة، فإذا كان خروجُ المولى الغريب (علیه السلام) من مكّة في النصف من شهر رمضان ((3))، يكون تاريخ الكتابة إلى أهل البصرة في تلك الأيّام أيضاً.

غير أنّ المستفاد من الأخبار المذكورة أنّ ابن زيادٍ استلم كتاب يزيد وأمره بالتوجُّه إلى الكوفة، فضرب عبيد القرود عنق الرسول إلى البصرة، ثمّ ركب من البصرة ودخل الكوفة، وقد بايع مسلمَ بن عقيلٍ ثمانيةُ عشر

ص: 80


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس: 38.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.
3- أُنظر: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّيّ: 82.

ألفاً ((1)).

وهذا يعني أنّ المولى الغريب (علیه السلام) كان آنذاك قد دخل الكوفة منذ زمنٍ بعيدٍ واستقرّ فيها وبايعه هذا العدد، قبل أن يخرج ابن زيادٍ من البصرة، فستكون ثمّة مسافةٌ زمنيةٌ مديدةٌ بين وصول الرسول إلى البصرة _ حسبفرض خروجه مع المولى الغريب مسلم (علیه السلام) من مكّة _ وبين إلقاء القبض عليه وقتله وصلبه، وهو خلاف ما تفيده مجريات الحوادث وتتابع الأحداث.

المتابعة الثانية: وقت وصول الكتاب

أفادَت النصوص أنّ عبيد القرود أمر بالرسول فقُتل من العشيّة الّتي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة ((2))، فقتله ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا كان من الغد وأصبح نادى في الناس وخرج من البصرة ((3))، وعليه يُحمَل قول مَن ذكر خروجه من البصرة بعد قتل الرسول مباشرةً دون أن يذكر المبيت ليلةً والخروج في اليوم الثاني، سيّما إذا لوحظ ترتيب الأحداث في

ص: 81


1- أُنظر: إمتاع الأسماع للمقريزي: 5 / 363.
2- تاريخ الطبري: 5 / 357.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

تلك المصادر، كقول الدينوريّ:

فأمر عُبيدُ الله بن زياد بطلب الرسول فطلبوه، فأتوه به فضُربَت عنقه ... ثمّ نزل وسار ... فسار حتّى وافى الكوفة فدخلها ((1)).

وقول ابن الأثير والنويريّ:

فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول، وخطب الناس ... ثمّ خرج من البصرة ((2)).فتكون شهادة الرسول قبل خروج عبيد القرود من البصرة بيوم، بعد أن استقرّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) في الكوفة وبايعه جماعةٌ كبيرةٌ وبلغ خبره إلى يزيد، فكتب إلى جروه في البصرة يضمّ إليه ولاية الكوفة ويأمر بأخذ المولى الغريب (علیه السلام) .

والظاهر بوضوحٍ مِن تسلسل الأحداث في المصادر أنّ الرسول قد دفع الكتاب إلى المخاطَبين، وسرعان ما وشى به المنذر فوراً من دون تأخيرٍ ولا تلكُّؤ، بحيث يصعب افتراض فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ كان قد أقامها في البصرة قبل تسليم الكتاب، وكان مُجِدّاً في المسير وماضياً بقوّةٍ فيما أُرسِل به، كما يفيد كلام السيّد بحر العلوم، قال:

فأخذ الرسولُ كتابَ الحسين (علیه السلام) وجعل يُجِدّ السير من مكّة إلى أن

ص: 82


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

وصل إلى البصرة، فسلّم صورة الكتب إلى أصحابها ((1)).

المتابعة الثالثة: تسجيل الحدَث من البصرة

لقد سمعنا خبر سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وإرساله من مكّة إلى الكوفة، وقد صرّحَت المصادر بخروجه مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة وحضوره معه في مكّة، كما صرّحَت بدعوةالإمام (علیه السلام) له ودفع الكتاب له وتكليفه بمهمّته وتفصيلها له وتحديد ما أُرسل به ((2))، وتسييره مع جماعة ((3)).

وهو المعتاد في نقل أخبار سفارةٍ ما، كما سمعنا في الرسل الآخَرين

ص: 83


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 146.
2- أُنظر: الأخبار الطوال للدينوريّ: 231، الفتوح لابن أعثم: 5 / 53، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 196، تاريخ الطبريّ: 5 / 347 بسندٍ عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) ، الأمالي للشجريّ: 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، تجارب الأُمم لأبي عليّ مسكوَيه: 2 / 41، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزيّ: 36، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137.. وانظر للتفصيل: الجزء الأوّل من (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة)، تحت عنوان: ثائرٌ أَم سفير؟
3- أُنظر للتفصيل: الجزء الثاني من (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة) _ رفقاؤه.

الّذين أرسلهم سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أهل الكوفة.

بَيد أنّ المُلفِت في خبر إرسال سُليمان إلى البصرة أنّ أخباره لا تبدأ من مكّة كما هو المفروض، وإنّما تبدأ في البصرة حيث ينقل المؤرّخ خبرَ وصول كتاب يزيد إلى ابن زيادٍ وتسليطه على الكوفة وتكليفه بمتابعة المولى الغريب (علیه السلام) ، ثمّ يعقّب المؤرّخ بعد ذلك ليقول: «وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة ...» ((1)).

أجل، جاءت عبارة الشيخ ابن نما بما يشبه الابتداء بمكّة، حيث قال:

وأمر مسلمَ بالتوجّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ... ((2)).

وهي عبارةٌ غائمةٌ مجمَلة، لا تحكي التفاصيل والترتيبات الّتي سمعناها في مثل سفارة المولى الغريب (علیه السلام) مثلاً.

فالخبر _ كما يُلاحَظ _ كأنّه مبتورٌ عن مكّة تماماً، إذ لم يتعرّض إلى مجرياته هناك، وإنّما يبدأ الحديث عنه في خضمّ استعراض أحداث البصرةمباشرة.

ص: 84


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

الرسول

اشارة

ذكرت المصادر رسولاً أرسله الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى البصرة يحمل كتاباً منه (علیه السلام) ، نحاول استكشاف ما ورد عنه من خلال المعلومات التالية:

المعلومة الأُولى: اسمه

لم يذكر بعضهم اسم الرسول، وذكره آخَرون بأسماء:

الاسم الأوّل: سَلمان ((1)).

الاسم الثاني: سُليمان ((2)).

الاسم الثالث: زراع السدوسيّ ((3)).

إنفرد الشيخ ابن نما بذكر (زراع السدوسيّ)، ولم نجد له ذِكراً فيما توفّر

ص: 85


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.
3- مثير الأحزان لابن نما: 27.

لدينا من مصادر على كثرتها، ثمّ ذكر اسم سُلَيمان على نحو القيل، وذكر كنيته.

يبقى الكلام مردَّداً بين اسمين: (سَلمان) و(سُليمان)، واحتمال التصحيف في أحدهما واردٌ جدّاً.

المعلومة الثانية: كنيته

ذكر الشيخ ابن نما كنيته، فقال: «المكنّى بأبي رزين» ((1)).

ورَزين: مِن رَزُنَ الرجُلُ _ بالضمّ _ فهو رَزِينٌ، أي: وقور، وامرأةٌ رَزَانٌ إذا كانت رَزينةً في مجلسها، وشيءٌ رَزِينٌ، أي: ثقيل، والْأَرْزَنُ: شَجَرٌ صلبٌ يُتَّخَذ منه العصا ((2)).

المعلومة الثالثة: أُمّه

قالوا: أُمّه كبشة، كانت جاريةً للحسين (علیه السلام) اشتراها بألف درهم، وكانت تخدم في بيت أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عُبيد الله التيميّة زوجة الحسين (علیه السلام) ، ثمّ تزوّج الجارية أبو رزين، فولدَت منه سليمان، فهو مولى الحسين (علیه السلام) ((3)).

ص: 86


1- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.
2- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحي: رَزَنَ.
3- أُنظر: تنقيح المقال للمامقاني: 2- 1 / 65، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 171، وسيلة الدراين للزنجانيّ: 150، فرسان الهيجا للمحلّاتي: 1 / 213 بترجمة محمّد شعاع فاخر.

المعلومة الرابعة: ولاؤه

نسب جماعةٌ ولاءَه إلى سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بضمير المفرد (مولىً له) ((1))، ونسبه الطبريّ في موضعٍ بضمير الجمع (مولىً لهم) ((2)).

وذكره الشيخ ابن نما من دون نسبةٍ ولا ذِكرٍ للولاء، قال: «وبعث الكتابَ مع زراع السدوسيّ، وقيل: مع سليمان المكنّى بأبي رزين» ((3)). وظاهره أنّه حرٌّ لا ولاء له.

المعلومة الخامسة: مهمّته

إنّ هذا الرجل الشجاع جاء مِن عند سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى جماعةٍ في البصرة، عبّر عنهم المؤرّخ أنّهم الوجوه فيها، وقد أوصل الكتاب وقام بالمهمّة على أحسن وجهٍ وفاز بالشهادة، فهو مجرّد رسولٍ ليس إلّا، لم يُكلَّف بأداء مهامّ أُخرى في البصرة سوى إيصال الكتاب إلى مَن خُوطب به.

ص: 87


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173، اللهوف لابن طاووس: 38، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، نفَس المهموم للقمّيّ: 90.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
3- مثير الأحزان لابن نما: 27.

المعلومة السادسة: صفاته وخصاله

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «رسولُك ترجمانُ عقلك، وكتابُك أبلَغُ ما ينطق عنك» ((1)). وفي لفظٍ آخَر: «رسولُ الرجُلِ ترجمانُ عقله، وكتابُه أبلَغُ مِننطقه» ((2)).

ولمّا كان مولى القوم منهم ((3))، عرفنا أنّ هذا الرسول قد امتاز بخصالٍ أهّلَته ليكون رسولاً لخامس أصحاب الكساء وزينة العرش الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولولا ذاك لَما كان رسولاً لمثله.

وعرفنا أنّه كان قمّةً سامقةً في محاسن الأخلاق رشيداً، بطلاً شجاعاً مقاتلاً فارساً، مُحِبّاً موالياً بصيراً نافذ البصيرة، دقيقاً حاذقاً عارفاً عالماً، فصيحاً بليغاً خطيباً أديباً، فقيهاً راسخاً، أميناً موثوقاً معتمَداً ضابطاً.. إلى غيرها من الخصال الّتي ينبغي أن تتوفّر في الرسول الناجح الّذي يختاره سيّدُ الكائنات وإمامُ الخلق وأعرفُ الخلق بالخلق في مهمّةٍ خطيرةٍ كمهمّة سليمان.. فلابدّ من وصفه بصفاتٍ يتحلّى بها لِيمثّل خير تمثيلٍ ويجسّد أروع تجسيدٍ قولَ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويكون ترجماناً للإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 88


1- نهج البلاغة: 528 قصار الجُمَل 307.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثيّ: 270 ح 4975، غرر الحِكم للآمديّ: 389.
3- أُنظر: الغَيبة للنعمانيّ: 235 ح 23، دعائم الإسلام للنعمان المغربيّ: 2 / 317.

المعلومة السابعة: معلوماتٌ غريبة!

ذكر أحد المعاصرين عُمُر سُليمان وحدّده باتاً ب-- (35 سنة)!!! ((1))

وذكر في أُسلوبٍ قصصيٍّ حَكَواتيٍّ أنّه حمل زوجته معه، بعد حوارٍ دار بين سليمان وبينها، وأنّها التمسَتْه وأقنعَتْه!!!وذكر حواراً دار بينه وبين سيّد الشهداء (علیه السلام) عند الوداع!!!

وذكر أنّ الزوجَين كانا يتباريان في الطريق بمعلَّقة امرئ القيس، فكانت الزوجةُ تُنشِد:

وقد اغتدى، والطيرُ في وكناتها

بمنجردٍ قيد الأوابدِ هيكلِ

مكرٌّ مفرٌّ مقبلٌ مدبرٌ معاً

كجلمود صخرٍ حطّه

السيل من علِ

فيردّ عليها سليمان:

كميتٌ يزلّ اللبد عن حال متنه

كما زلّت الصفواءُ بالمتنزلِ ((2))

وذكر حوادث وأحداث مفصَّلة..

وذكر خطبةً لسليمان في مسجد البصرة، سردها بأُسلوبٍ تصويريٍّ قصصيٍّ، لم نسمع لها مصدراً متقدّماً ولا متأخّراً ولا معاصراً سواه!!!

وذكر قولاً في شهادته كان قد أخذه من رؤياً رآها المؤلّف ليلة شروعه في كتابة (ترجمة سليمان)، حدّثه فيها أحد أصدقائه المخلصين في عالم الرؤيا،

ص: 89


1- آينه داران آفتاب لمحمّد رضا سنگري: 1 / 211.
2- آينه داران آفتاب لمحمّد رضا سنگري: 1 / 214.

فكتب ما أخذه في عالم الرؤيا!!!

ولم يذكر لأيّ واحدةٍ من المعلومات المسرودة هذه مصدراً، ونحن لا ندري من أين جاءت هذه المعلومات، ولم نجد لها أثراً فيما توفّر لدينا من كتب ومصادر قديمةٍ أو معاصرة، ولم تكن هي حتّى لسان حال، إذ أنّ لسانالحال لا يخلق حدَثاً ويُنشئ خطبةً كاملةً وحواراً ومباراةً تدخل فيها معلَّقة امرئ القيس من دون الإشارة إلى أنّها لسان حال!

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!

المعلومة الثامنة: شهادته

اشارة

إتّفق المؤرّخون الّذين ذكروا سُليمان أنّ جميع مَن قرأ الكتاب ممّن يسمّونهم الوجوه كتموا الكتاب، إلّا المنذر بن الجارود العَبديّ فإنّه وشى به، وذكروا لفعلته الشنيعة هذه ذريعةً باهتةً كما سنسمع بعد قليل، وقد أدّت الوشاية إلى شهادة الرسول سُليمان.

وقد تضمّنَت النصوص عدّة نكاتٍ يمكن أن نستجلي منها المشهد:

النكتة الأُولى: ذريعة الوشاية
اشارة

التأمّل في المتون يفيد أنّ المؤرّخين صاغوا بعض الذرائع لتبرير وشاية المنذر، ويمكن نظمها في الذرائع التالية:

ص: 90

الذريعة الأُولى: خوف الدسيسة

علّل البلاذريّ الفعلةَ الغادرةَ بخوف المنذر أن يكون في الأمر خديعة، وأن يكون ابنُ زيادٍ قد دسّ الرسول إليه ليختبر حالهم مع الحسين (علیه السلام) ، فوشى به وأخبر ابنَ زياد، قال:فإنّه خاف أن يكون عُبيدُ الله بن زيادٍ دسّه إليه ((1)).

وتبعه على ذلك مَن جاء بعد وذكر نفس الذريعة.

ويُلاحَظ في مثل هذه النصوص أنّها لا تفيد أنّ المنذر نفسه قد تذرّع بذلك واعتذر عن فعلته بما ذكروه، وظاهرها أنّه تبرُّعٌ وتحليلٌ من المؤرّخ نفسه بعد أن روى ما أقدم عليه المنذر، ووجدها خيانةً وغدراً واضحاً لا يمكن التستّر عليه، فكأنّه صار في موقفٍ حرجٍ لا يمكنه اجتيازه ما لم يقدّم الذريعة المقبولة الّتي يمكن أن تخفّف شيئاً من شناعة الفعلة وقبح الغدرة، فبرّرها بالخوف من الدسيسة.

فهو نوع اعتذارٍ للمنذر يمكن لبعض القلوب الساذجة أو الخاوية أن تقبله وتعذره، ولو بمقدار.

وقد انفرد الطبريّ بنسبة هذا الخوف والتبرير إلى المنذر نفسه بنحوٍ ما، فقال:

ص: 91


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

فإنّه خشيَ _ بزعمه _ أن يكون دسيساً من قبل عُبيد الله ((1)).

والزعم المزعوم منسوبٌ إليه في عبارة الطبريّ، ولا يفيد الجزم بتذرّعه شخصيّاً بذلك، فلا يعارض ما أفاده غيره من المؤرّخين، وتبقى للطبريّ تدخّلاته المفضوحة في تزويق الصور الكالحة.

الذريعة الثانية: قرابة السبب

برّر آخَرون غدر المنذر بالقرابة السببيّة الموجودة بين المنذر وابن زياد، ممّا دفعه إلى كشف أمر الرسول لصهره، قال الدينوريّ:

فإنّه أفشاه؛ لتزويجه ابنته هنداً من عُبيد الله بن زياد، فأقبل حتّى دخل عليه، فأخبره بالكتاب وحكى له ما فيه ((2)).

لا تجد في مثل كلام الدينوريّ ومَن تبعه خوفاً يلاحق المنذر من أن يكون الرسول دسيساً كما ورد في الذريعة الأُولى، وإنّما تجد هنا خوفاً من نوعٍ آخَر يلاحق المنذر، يبدو واضحاً للعيان من دون كثير إمعانٍ وإن لم يصرّح به المؤرّخ، وهو أنّه خاف على صهره، فأقبل حتّى دخل عليه فأخبره بالكتاب.

ويشهد لذلك ما رواه ابن أعثم والخوارزميّ، قال:

فغضب عُبيدُ الله بن زيادٍ وقال: مَن رسول الحسين بن عليٍّ إلى

ص: 92


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.

البصرة؟ فقال المنذر بن الجارود: أيّها الأمير، رسولُه إليهم مولىً يُقال له: سُليمان. فقال عُبيد الله بن زياد: علَيّ به! فأُتي بسليمان مولى الحسين ((1)).

فهو قد تبرّع بالكشف عنه وإفشاء سرّه عند صهره ابتداءً من دون خوف الدسيسة.

الذريعة الثالثة: خوف الدسيسة والقرابة

جمع بعض مَن تأخّر عن رواة الطائفتَين الأُولى والثانية بين الذريعتين، فبرّروا فعله بكلا الأمرَين، ليكون قد أقدم على فعلته خوفاً من الدسيسة ولقربه السببيّ من ابن زياد، قال ابن أعثم:

فإنّه خشيَ أن يكون هذا الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت حومة بنت المنذر بن الجارود تحت عُبيد الله بن زياد، فأقبل إلى عُبيد الله بن زيادٍ فخبّره بذلك ((2)).

وقال ابن نما (رحمة الله) :

لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت بحريّة بنت المنذر بن الجارود زوجة عُبيد الله بن زياد ((3)).

ص: 93


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
3- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.

وكيف كان، فإنّ المنذر هذا قد خان وغدر، ولا تشفع له الذرائع لتجويز فعلته، ولا تنفعه التبريرات، سواءً كانت منه أو من المؤرّخ، فإنّ ظاهر كلمات المؤرّخين وصريح عبارات بعضهم تفيد أنّه قد أقدم على الوشاية بملء إرادته وكامل قواه عامداً عالماً، خائفاً على صهره ومتزلّفاً إليه بدم رسول ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وطبيعة الوقائع والوشائج الاجتماعيّة وطبع المنذر نفسه يشي بجريمةٍنكراء فجّةٍ وقحةٍ جريئةٍ صلفة، أقدم عليها المنذر بروحٍ إجراميّةٍ ونَفْسٍ قذرةٍ ميّالةٍ لإبراز كامن الأحقاد على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وليس بالضرورة _ إذا كان ثمّة خوف الدسيسة _ أن يسلّم الرسول إلى ابن زيادٍ ويدفع به إليه، أو يحرّك عليه، أو يُخبِر عن مكانه، فإنّ الأقلّ من ذلك بكثيرٍ كان يُرضي ابن مرجانة، وكان يكفيه أن يردّ الرسول ولا يقبل منه الكتاب، لو كان خائفاً حقّاً، وليس الأمر كذلك!

النكتة الثانية: كيف أُلقيَ القبض عليه
اشارة

إنقسمَت الأخبار في طريقة إلقاء القبض على سُليمان الرسول، يمكن إجمالها في الصور التالية:

الصورة الأُولى: لم تذكر إلقاء القبض

إكتفى البلاذريّ بذِكر الوشاية من دون أن يتابع الحدَث، فقال: «فأخبره

ص: 94

به وأقرأه إيّاه» ((1)).

فهو لم يذكر إلقاء القبض عليه، ولا يتعرّض إلى شهادته وقتله، وهو _ حسب الفحص _ المصدر الأوّل الّذي يذكر خبر سليمان.

الصورة الثانية: ابن زيادٍ يلاحقه

ذكر الدينوريّ الوشاية، وأوكل متابعة الرسول إلى ابن زياد، فقال:

فأقبل [المنذر ] حتّى دخل عليه، فأخبره بالكتاب وحكى له ما فيه، فأمر عُبيد الله بن زياد بطلب الرسول، فطلبوه فأتوه به ((2)).

وذكر ابن كثيرٍ ما يشبه ذلك ((3)).

حسب هذا المتن يكون ابنُ زيادٍ قد أمر بطلب الرسول فطلبوه، والظاهر أنّ الّذي طلبه هم أزلام ابن زيادٍ وجُنده، وإنْ كانت العبارة عامّةً يمكن أن تشمل الناس أيضاً، غير أن المتبادَر في مِثل هذه الموارد أن ينبري شرطته وجنده لتنفيذ أمره.

وقال ابن أعثم:

فقال عُبيد الله بن زياد: علَيّ به! فأُتيَ بسُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، وقد كان متخفّياً عند بعض الشيعة بالبصرة ((4)).

ص: 95


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

أضاف ابن أعثم الإشارةَ إلى موضعه الّذي كان فيه حين إلقاء القبض عليه، حيث كان متخفّياً عند بعض الشيعة، وهو ما تفرّد به ابن أعثم حسب الفحص.

وينحصر حينئذٍ دور المنذر في الوشاية والإخبار.

الصورة الثالثة: المُنذِر يسلّمه

تبدأ الرواية برسم صورةٍ جديدةٍ منذ أن تدخل كتاب الطبريّ، حيث يكشف عن صورةٍ مروّعةٍ وموقفٍ متسافِلٍ متهاوٍ في وهاد الغدر والجناية والنذالة..

لم يكتف المنذر بالوشاية، وإنّما باشر بنفسه إلقاء القبض على الرسول وجاء به وبالوثيقة الّتي يريد أن يدينه بها، وسلّمه يداً بيد إلى العاتي الجبّار ابن زياد.

قال الطبريّ:

فجاءه بالرسول من العشيّة الّتي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة، وأقرأه كتابه ((1)).

وقال غيرُه:

إنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عُبيد الله بن زياد ((2)).

ص: 96


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

ربّما كانت هذه الصورة أقرب وأوفق بحال مِثل هذا المهزوز الوسخ، الخائف على نفسه وعلى صهره، فإنّ الرسول قد وقع بيده حين دفع إليه الكتاب، وهو قذرٌ متعلّقٌ بذنب ابن مرجانة، ورجسٌ مِن عمله، وسيحٌ من رشحه، وبزقةٌ من تفاله، فلا يفوّت الفرصة ليفلت الرسول من بين مخالبه ليبحث عنه فيما بعد.

النكتة الثالثة: شهادته

لم يتعرّض البلاذريّ إلى شهادته ((1)).

واتّفق الجميع على قتله صبراً بضرب عنقه، وظاهر العبارات نسبة القتل إلى ابن زيادٍ نفسه، من دون تصريحٍ منهم أنّه قد أمر بضرب عنقه، عدا الدينوريّ الّذي تحدّث بصيغة المبني للمجهول: «فأتوه به، فضُربَت عنقه» ((2)).

فيما نسمع الطبريّ يقول: «فقدّم الرسولَ فضرب عنقه» ((3)).

«فلمّا رآه عُبيد الله بن زيادٍ لم يُكلّمه دون أن أقدمه فضرب عنقه

ص: 97


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.

صبراً (رحمة الله) ! ثمّ أمر بصلبه» ((1)).

وهكذا جاءت عبائر الآخرين ((2))..

وهي تفيد بظاهرها أنّ ابن زيادٍ هو الّذي باشر ارتكاب هذه الجريمة النكراء.

أجل، جاء في لفظ (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنف أنّ ابن مرجانة أمر به فضُربَت عنقه ((3)).

ربّما يُقال:

إنّ العاتي الهائج عبيد القرود طاغوتٌ يكتفي بالأمر ولا يُباشِر القتلبنفسه؛ تجبُّراً وعتُوّاً..

بَيد أنّ هذا الكلام يصدق في الطواغيت المتجبّرين أصالةً، أمّا في مثل ابن زيادٍ القزم الضئيل المتعطّش للدماء، الغارق في الغواية وتيّارات الحقد الجارفة، فإنّه بطّاشٌ يمارس الجريمة بشغَفٍ وولعٍ وتوثُّب، وقد رأيناه يباشر ضرب كبير الكوفة وشيخها هانيء بن عروة بنفسه ((4))، فلا يبعد أبداً من

ص: 98


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
2- أُنظر: إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، مثير الأحزان لابن نما: 27.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.
4- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 337، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 237، تاريخ الطبريّ: 5 / 349، الأمالي للشجريّ: 1 / 191، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 425، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 207، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 350.

مثل هذا الجرو المسعور أن يمارس القتل بنفسه.

ولا فرق في البَين، فإنّ ابن مرجانة هو القاتل على كلّ حال، سواءً أكان قد باشر ذلك بنفسه، أو أمر به ونفّذوا الأمر على عينه الطامسة.

وإنّما مكثنا هنا قليلاً لنتبيّن المباشر بالقتل ونميّزه، لينفعنا في تحقيق المراد بسُليمان المذكور في زيارة الناحية المنصوص على اسم قاتله.

النكتة الرابعة: أوّل رسولٍ يُقتَل

ورد في (المقتل) المتداوَل أنّ سُليمان هذا كان أوّل رسولٍ قُتل في الإسلام ((1)).

ونحن لم نتحقّق ذلك ولم نتابعه في كتب التاريخ، غير أنّنا بتوسعةٍ هيّنةٍ جدّاً وفتحٍ بسيطٍ لمعنى الرسول والسفير، يمكن أن نقول بثقةٍ أنّ الرسول الأوّل الّذي قُتل في الإسلام هي بضعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبته سيّدة نساءالعالمين فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، حيث كانت رسولَ بعلها وسفيرتَه والناطقةَ باسمه والمعبِّرةَ عنه، أرسلها لتُكلّم العاتي المتهوّر من وراء الباب، وتردّه عن غَيّه، وتفاوضه ليرجع عمّا أقدم عليه، فاغتنمها فرصةً لا تتكرّر، فحمل عليها وهي وراء الباب، فرفسها وعصرها بين الحائط والباب حتّى

ص: 99


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

اسقطَت جنينها وكسر ضلعها، وجرى عليها ما جرى، وأرداها صريعةً تأنّ وتشكو إلى الله وإلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، حتّى قضَتْ نحبها شهيدةً غريبةً مظلومةً مقهورة.

هذه هي سُنّة الضلال.. لم يعرف أهلُها شيئاً من القيَم في حياتهم، مهما كانت تلك القيَم، في الجاهليّة أَم في الإسلام، عند العرب أو العجم، أو غيرهم من البشر.

«اللّهمّ العَنْ أوّلَ ظالِمٍ ظلَمَ حقَّ مُحمّدٍ وآلِ محمّد، وآخِرَ تابعٍ له على ذلك»..

النكتة الخامسة: صلبه

هكذا هم المتوحّشون.. لا يكتفون بالقتل، ولا يُخمِد سعيرَ أحقادهم وضغائنهم إلّا التنكيل بأولياء الله..

إستُشهِد سليمان، ولحق بالرفيق الأَعلى.. فما يضرّه أن يُصلَب بعد أنأدّى مهمّته ومضى على ما مضى عليه السعداء والصالحون؟ وابن زيادٍ يعلم ذلك، غير أنّه يُمعِن في القساوة والعداوة، فيأخذه ويأمر بصلبه ((1))؛ ليشمت وينكّل به، ويُخيف به وينشر جوّاً من الرعب والإرهاب بين أهل البصرة لينظر إليه الناس، ثمّ ينزو هو على المنبر ليزبد ويرعد ويهدّد، ويريهم

ص: 100


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.

الوعيد بأعينهم في المصلوب.

النكتة السادسة: تاريخ الشهادة

لا يكاد المتابع بدقّةٍ للتاريخ أن يجد مؤشّراتٍ واضحةً يلوح منها تاريخٌ محدّدٌ لشهادة الرسول المغدور المظلوم سليمان.. أجل، يمكن توظيف الأحداث للتوصُّل إلى تحديدٍ إجماليٍّ لذلك.

فمفاد النصوص تؤدّي إلى أنّ المولى الغريب (علیه السلام) كان في الكوفة يومها، وكان يزيد قد أرسل بكتابه إلى جروه ابن زيادٍ يسلّطه على الكوفة، وكان ابن زيادٍ على استعدادٍ ليخرج إلى الكوفة بجناحَين، وينفّذ ما أمره به سائسه، وحينها جاءه المنذر بخبر الرسول سليمان، فقتله وصلبه، وخطب في الناس، ثمّ نزل وسار إلى الكوفة ((1)).

والسياق هنا يفيد أنّه قُتِل وصُلب وخطب ونزل وسار في نفس اليوم.إلّا أن يقال: إنّ هؤلاء قدّموا قبل خبر شهادة الرسول خبر عزيمة ابن زيادٍ على الرحيل في اليوم التالي، فيُحمَل قولهم: «نزل وسار» على ما قدّموا مع طيّ حدث المبيت، فيكون المؤدّى نفس ما أفاده الطبريّ وغيره.

أفاد الطبريّ وابن أعثم أنّه فعل كلّ ذلك العشيّة الّتي يريد صبيحتها

ص: 101


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

أن يسبق إلى الكوفة ((1))، فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة ((2)).

وفي لفظ ابن نما:

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم عثمانَ بن زيادٍ أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((3)).

فيكون تاريخ شهادته هو يومٌ قبل خروج عبيد القرود من البصرة.

هذا أقصى ما يمكن استخلاصه من النصوص المتوفّرة، يبقى أنّ تاريخ خروج ابن زياد نفسه من البصرة مُبهَمٌ غير محدَّد.

المعلومة التاسعة: قاتله

صرّحَت جملةٌ من المصادر المهمّة والمتقدّمة باسم قاتل سُليمان مولى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فقالوا: «قتله سليمانُ بن عَوف الحضرميّ» ((4)).وورد ذِكره في زيارة الناحية المقدّسة: «السلامُ على سُليمان مولى الحسين

ص: 102


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.
3- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.
4- تسمية مَن قُتل للرسّان: 152، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77، تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 303، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 121.

ابن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتلَه سُليمانَ بن عوفٍ الحضرميّ» ((1)).

بَيد أنّها جميعاً لم تحدّد إن كان سليمان الشهيد هذا هو رسول الإمام (علیه السلام) إلى البصرة، أَم هو شهيد كربلاء؟

وما ورد في زيارة الناحية وغيرها لا يمكن تحديده منها، إذ أنّ الزيارة تذكر مَن قُتل بين يدَي الإمام (علیه السلام) في تلك الأيّام، مِن قبيل عبد الله بن يقطر وقيس بن مسهر الصيدوايّ، وهكذا..

فربّما قيل:

إنّ مَن ذكر القاتل إنّما قصد المقتول بكربلاء، لأنّ مَن ذكر شهادة سليمان في البصرة لم يتعرّض لذِكر قاتله والتصريح باسمه هناك، بل أفاد السياق _ كما مرّ معنا _ أنّ ابن زيادٍ هو بنفسه الّذي باشر ضرب عنقه.

فإذا كان كذلك، يكون الشهيد الّذي ورد التسليم عليه في الناحية هو سليمان شهيد كربلاء، وإنْ كان المقصود هو شهيد البصرة يكون السلام الوارد خاصّ به، ويكون قاتله قد ورد اسمه وتعيّن بذاته.

وعلى كلّ تقدير، فإنّنا لم نقف على ترجمةٍ أو ذكرٍ خاصٍّ للقاتل فيما توفّر لدينا من مصادر، لعنه الله وأخزاه وأصلاه سعيراً.

ص: 103


1- إقبال الأعمال لابن طاووس: 3 / 76، مصباح الزائر لابن طاووس: 281، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 271، 45 / 69، العوالم للبحرانيّ: 17 / 337، أسرار الشهادة للدربنديّ: 303، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 21.

المعلومة العاشرة: سُليمان شهيد البصرة وشهيد كربلاء

ورد في المصادر اسم (سليمان مولى الحسين بن عليّ (علیه السلام)) في عِداد شهداء الطفّ في كربلاء يوم عاشوراء.. قالوا:

• وقُتل سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((1)).

• وسُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((2)).

• وقُتل من الموالي: سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان ابن عَوف الحضرميّ ((3)).

• وقُتل في ذلك اليوم سُليمان مولى الحسن بن عليّ بن أبي طالب ((4)).

• بالإسناد عن الليث بن سعدٍ قال:

تُوفّي معاوية في رجب لأربع ليالٍ خلَت منه، واستخلف يزيد ستّين.

ص: 104


1- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 152، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 121.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 303.
4- الثقات لابن حبّان: 2 / 310.

وفي سنة إحدى وستّين قُتل الحسين بن عليٍّ وأصحابُه لعشر ليالٍ خلَون من المحرم، يوم عاشوراء ... وسُليمان مولى الحسين ((1)).

• تسمية مَن شهد مع الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) بكربلاء: ... وسُليمان مولى الحسين ((2)).

• سليم مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل معه ((3)).

• سليمان مولى الحسين ... قُتل معه، وكفى بذلك فخراً ((4)).

• ذِكرُ مَن قُتل من أصحاب الحسين (علیه السلام) ومن أهل بيته ومواليه: ... وقُتِل من الموالي: سُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، قتله ابن عَوف الحضرميّ ((5)).

• سُليمان مولى الحسين، قُتِل معه ((6)).

• الليث بن سعد: قُتِل مع الحسين (علیه السلام) : ... وسُليمان مولى الحسين ((7)).

ص: 105


1- المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، المحاضرات والمحاورات للسيوطيّ: 404، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47.
2- الاختصاص للمفيد: 82.
3- رجال الطوسيّ: 74.
4- رجال ابن داوود: 178 الرقم 720، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 65.
5- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197.
6- نقد الرجال للتفرشيّ: 162.
7- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 321.

• ثمّ برز [بعد أحمد بن محمّد الهاشميّ] سُليمان مولى الحسين (رضی الله عنهما) ، فقَتل منهم رجالاً، ثمّ قُتِل (رضی الله عنه) ((1)).

• قال أبو عليّ في (رجاله): سُليمان المكنّى بأبي رَزين، مولى الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، قُتِل معه.وقال المحقّق الأسترآباديّ في (رجاله): سُليمان بن أبي رَزين، مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل مع الحسين (علیه السلام) .

أقول: والمعتمَد عندي الأول، لأنّ ظاهر كلامهما أنّ سُليمان استُشهد مع الحسين (علیه السلام) في وقعة الطفّ، وهو خلاف ما ذكره أهل السيَر والمقاتل من أنّه قُتِل بالبصرة، وليس في الزيارة دلالةٌ على ذلك.

نعم، ويمكن حمل كلامهما على أنّ مَن قُتِل لأجل الحسين بن عليّ (علیه السلام) في الكوفة والبصرة كساير أصحابه الّذين قُتِلوا معه يوم الطفّ، وإنْ لم يُقتَلوا بين يديه _ انتهى ((2)).

• سليمان مولى الحسين (علیه السلام) _ كما في نسخة _، ومولى الحسن (علیه السلام) _ كما في نسخةٍ أُخرى _، قُتل مع الحسين، ولذا عدّه الشيخ (رحمة الله) في (رجاله) من أصحاب الحسين (علیه السلام) ، قال: سُليمان مولى الحسين، قُتِل معه، أي: مع الحسين (علیه السلام) . وفي بعض نسخه: مولى

ص: 106


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 344.
2- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 172، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 151.

الحسن (علیه السلام) . وقد عدّه ابن داوود في القسم الأول، فقال: ... [ثمّ ذكر كلام ابن داوود كما ذكرناه في (رجاله)].

وأقول: سُليمان هذا، أُمّه كبشة، كانت جاريةً للحسين (علیه السلام) اشتراها بألف درهم، وكانت تخدم في بيت أُمّ إسحاق بنتطلحة ابن عبد الله التَّيميّة زوجة الحسين، فتزوّج بالجارية أبو رَزين، فولدَت منه سليمان، وقد كان مع الحسين.

ظاهر قول الشيخ وابن داوود وغيرهما أنّه قُتِل بالطفّ، ولكنّ صريح جمعٍ كثيرٍ من أهل السيَر أنّ الحسين كتب معه كتاباً إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته، فأخذه المنذر بن الجارود مع الكتاب إلى ابن زيادٍ ليلة عزمه على الخروج من البصرة إلى الكوفة، فأمر بضرب عنقه، فقتله سليمان بن عَوف الحضرميّ (لعنه الله).

ولعلّ غرض الشيخ (رحمة الله) وغيره من أنّه قُتل معه قَتْلُه في سبيله.

وعبارة زيارة الناحية المقدّسة ... لا يدلّ على كونه قُتِل بالطفّ؛ لأنّ المقتول في رسالته كالمقتول بالطفّ في الشرف والسعادة ((1)).

• سُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل معه ((2)).

ذكره في زيارة الناحية المقدّسة: «السلامُ على سُليمان مولى الحسين

ص: 107


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 65.
2- مُستدرَك الوسائل للنوريّ: 3 / 810.

ابن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان بن عَوف الحضرميّ» ((1)).

ملاحظات

الملاحظة الأُولى: الاسم

إسم (سليمان) الوارد في هذه المصادر لم يميَّز بأيّ ميزةٍ ولم يُنسَب أيّ نسبة، خلا ما اتّفقوا عليه من الولاء لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّهم اتّفقوا جميعاً أنّه مولى الحسين (علیه السلام) ، وكفى بذلك فخراً وانتساباً.

فيما نراهم يميّزون (سليمان) شهيد البصرة بذِكر كنيته مثلاً.

وانفرد الشيخ في (الرجال) بذِكره باسم: «سليم مولى الحسين (علیه السلام) » ((2))، فربّما يُظَنّ أنّ سليماً هو نفس سليمان إلّا أنّ فيه تصحيفاً، وربّما يُستبعد ذلك رغم بقاء احتمال التصحيف، باعتبار وضوح الاختلاف بين الرسمَين.

ص: 108


1- إقبال الأعمال لابن طاووس: 3 / 76، مصباح الزائر لابن طاووس: 281، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 271، و45 / 69، العوالم للبحرانيّ: 17 / 337، أسرار الشهادة للدربنديّ: 303، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 21.
2- رجال الطوسيّ: 74.
الملاحظة الثانية: ولاؤه

إتّفق الجميع أنّه كان مولى الإمام الحسين (علیه السلام) .

وانفرد ابن حبّان في (الثقات) بقوله: «مولى الحسن بن عليّ بن أبي طالب» ((1))، ولا يبعد حصول التصحيف بحذف الياء فقط، كما يحتمل التعدّد لشواهد تأتي.

الملاحظة الثالثة: المقتول معه (علیه السلام)
اشارة

ظاهر عبارات المصنّفين أنّ سليمان هذا قد استُشهد في كربلاء مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حيث ذكروه في عداد المستشهَدين هناك، وصرّح بعضهم باسم قاتله، ويمكن تقسيم أقوالهم إلى عدّة أقوال:

القول الأوّل: ذَكَره في عِداد المقتولين

قال الرسّان _ وتبعه المحلّي _ :

وقُتِل سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((2)).

وقال ابن سعد:

وسُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف

ص: 109


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 310.
2- تسمية مَن قُتل للرسّان: 152، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 121.

الحضرميّ ((1)).

وكذا فعل الطبريّ وابن الأثير، قالا:

وقُتِل من الموالي: سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((2)).

وذكره ابن الصبّاغ في (الفصول) في عِداد مَن قُتِل من أصحاب الحسين (علیه السلام) ومن أهل بيته ومواليه، وذَكر قاتلَه ((3)).

وورد ذِكره في زيارة الناحية المقدَّسة: «السلام على سُليمان مولىالحسين ابن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان بن عَوف الحضرميّ» ((4)).

ولا يخفى أنّ الرسّان قد ذكر أيضاً بعده عبد الله بن يقطر الشهيد بالكوفة، ثمّ ذكر قيس بن مسهر الصيداويّ من دون تصريحٍ بمكان شهادته.

القول الثاني: قُتِل معه

قال الشيخ في (الرجال):

ص: 110


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 303.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197.
4- إقبال الأعمال لابن طاووس: 3 / 76، مصباح الزائر لابن طاووس: 281، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 271، و45 / 69، العوالم للبحرانيّ: 17 / 337، أسرار الشهادة للدربنديّ: 303، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 21.

سُلَيم مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتل معه ((1)).

على فرض أن يكون «سُلَيم» هو نفس سليمان!

وقال جماعةٌ _ منهم: ابن داوود، والمامقانيّ، والتفرشيّ، والأردبيليّ، والنوريّ _ أنّ سليمان مولى الحسين قُتل معه، وكفى بذلك فخراً ((2)).

القول الثالث: نصّ على قتله يوم عاشوراء

قال ابن حبّان:

وقُتِل في ذلك اليوم سُليمانُ مولى الحسن بن عليّ بن أبي طالب ((3)).

وكذا عدّه في المقتولين يوم عاشوراء: الطبرانيّ، والهيثميّ، والشجَريّ، والسيوطيّ، والخوارزميّ، رووا مسنَداً عن الليث بن سعدٍ أنّه قال:تُوفّي معاوية في رجب لأربع ليالٍ خلَت منه، واستخلف يزيد سنتين.

وفي سنة إحدى وستّين قُتِل الحسين بن عليٍّ وأصحابُه لعشر ليالٍ خلَون من المحرّم، يوم عاشوراء ... وسُليمان مولى الحسين ((4)).

ص: 111


1- رجال الطوسيّ: 74.
2- رجال ابن داوود: 178 الرقم 720، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 65، نقد الرجال للتفرشيّ: 162، جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 383.
3- الثقات لابن حبّان: 2 / 310.
4- المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، المحاضرات والمحاورات للسيوطيّ: 404، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47.

وذكره الشيخ المفيد في (الاختصاص) عند تسمية مَن شهد مع الحسين ابن عليٍّ (علیهما السلام) بكربلاء ((1)).

وذكره القندوزيّ عن الليث بن سعدٍ في عداد مَن قُتل مع الحسين (علیه السلام) ((2))، وقال:

إنّه برز في كربلاء بعد أحمد بن محمّد الهاشميّ، فقَتل منهم رجالاً، ثمّ قُتِل (رضی الله عنه) ((3)).

وصرّح الشيخ السماويّ _ وتبعه الزنجانيّ _ أنّه قُتِل في الطفّ، قال:

قُتِل من الموالي مع الحسين خمسة عشر نفراً في الطفّ، ومنهم: سُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ((4)).

معالجة الأقوال:
اشارة

ظاهر الأقوال الثلاثة أنّ سُليمان هذا قد قُتِل بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، غير أنّ القولَين الأوّلَين يمكن الجمع بينهما وبين شهادته في البصرة، إذ أنّ مَن قُتِل في طاعة إمام زمانه ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)

ص: 112


1- الاختصاص للمفيد: 82.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 321.
3- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 344.
4- إبصار العين للسماويّ: 128 و129، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 418.

يُعَدّ في المستشهَدين بين يدَيه، سواءً قُتل في كربلاء أو في الكوفة أو في البصرة، فيصحّ أن يُدرَج في عداد المستشهَدين بين يديه، كما يصحّ أن يُقال: قُتل معه، تماماً كما فعل الرسّان حيث ذكر قيس بن مسهر وعبد الله ابن يقطر في عِداد المقتولين بين يدَي الحسين (علیه السلام) ومعه.

والسلام عليه في الناحية المقدّسة لا يفيد تحديد موضع شهادته.

يبقى القول الثالث الّذي ينصّ فيه الشيخ المفيد على أنّه قُتِل بكربلاء، وحصره جماعةٌ _ مثل ابن حبّان وغيره _ فيمن استُشهد يوم عاشوراء، وما رواه القندوزيّ من مبارزته وقتله جماعة، وعدّه السماويّ في عشرة نفرٍ من الموالي قُتِلوا في الطف..

وهنا يمكن أن نفترض عدّة فرضيّات:

الفرضيّة الأُولى: شهيدان!

أن يكون للإمام الحسين (علیه السلام) أكثر من مولىً باسم سليمان، استُشهد أحدهما في البصرة والآخَر في كربلاء.

وربّما شهد لذلك أنّ سليمان المذكور في كربلاء لم يُذكَر بأيّ صفةٍسوى الولاء لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيما ذُكرَت كنية شهيد البصرة.

وربّما كان أحدهما مولى الإمام الحسن (علیه السلام) والآخَر مولى الإمام الحسين (علیه السلام) ، كما نصّ على ذلك ابن حبّان في (الثقات) حيث نسب قتيل كربلاء إلى الإمام الحسن (علیه السلام) .

ص: 113

وقال الاسترآباديّ والأردبيليّ:

سليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل معه ... وفي نسخةٍ: مولى الحسن ((1)). وابن داوود اعتمد الأول ((2)).

وقال الحائريّ:

سليمان مولى الحسين، قُتِل معه ... وفي نسخةٍ: مولى الحسن، واعتمد الأول _ انتهى.

وأقول: كذا (النقد)، لكنّ في نسختين عندي من (جخ): مولى الحسن (علیه السلام) ، ولعلّه الصحيح، ولو كان مولى الحسين (علیه السلام) لَقال الشيخ: مولاه، كما في نظائره، فتتبّع ((3)).

وقد اختلفت النُّسَخ في اسم المولى الشهيد في البصرة بين سَلمان وسُليمان، واختلفت في شهيد كربلاء بين سُلَيم وسُليمان، فربّما أفاد ذلك التعدّد أيضاً.

الفرضيّة الثانية: شهيدٌ في كربلاء فقط

أنْ يكون سليمان واحداً، وقد قُتل في كربلاء، وليس ثَمّة رسولٌ بعث به الإمام (علیه السلام) إلى أهل البصرة، وتُحمَل حكاية كتاب أهل البصرة كلّها على

ص: 114


1- جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 383.
2- منهج المقال للاسترآباديّ: 174.
3- منتهى المقال للحائريّ: 3 / 402.

الوضع لأغراضٍ قصدها المؤرّخ ومشغّله، وللإفلات من المحاذير والإشكالات الّتي يمكن أن تلحق بخبر الكتاب والرسول.

غير أنّ جملة الأخبار الواردة في المصادر تنهض في وجه هذه الفرضيّة نهوضاً ربّما يمنعها من الانعقاد.

الفرضية الثالثة: شهيدٌ في البصرة فقط

أنْ يُحمل مؤدّى القول الثالث على عموم التعبير عن المستشهَدين بين يدَي الحسين (علیه السلام) ، ويُحشَر كلُّ مَن قُتِل في تلك الأيّام في طاعة الإمام (علیه السلام) فيمن استُشهد في كربلاء، ويُتوقَّف في ما رواه القندوزيّ من خبر مبارزته.

وهذه الفرضيّة أيضاً قد لا تكون بمستوىً من المتانة بعد ملاحظة ظواهر كلمات الذاكرين له، بل ربّما تكون بعضها بقوّة التصريح.

فيكون الذهاب إلى التعدّد موافقاً للاحتياط؛ خوفاً من تضييع دمٍ قد جاد به سيفٌ من سيوف الحسين (علیه السلام) دفاعاً عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله!

ص: 115

ص: 116

المخاطَب بالكتاب

المتون

البلاذريّ:

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة ((1)).

الدينوريّ:

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب كتاباً الى شيعته من أهل البصرة مع مولىً له يُسمّى: سلمان، نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم ... ((2)).

ص: 117


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
الطبريّ:

وقد كان حُسينٌ كتب الى أهل البصرة كتاباً ...

كتب حُسينٌ مع مولىً لهم يُقال له: سليمان، وكتب بنسخةٍ إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس بن الهيثم، وإلى عمرو بن عُبيد الله بن معمر، فجاءت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

قال: وقد كان الحسين بن عليٍّ قد كتب إلى رؤساء أهل البصرة، مثل الأحنف بن قيس ومالك بن مسمع والمنذر بن الجارود وقيس ابن الهيثم ومسعود بن عمرو وعمر بن عُبيد الله بن معمر ... ((2)).

إبن الأثير:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدةً إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عبد الله بن معمر ... ((3)).

ص: 118


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.
إبن نما:

وأمر مسلمَ بالتوجُّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة، منهم: الأحنف بن قيس، وقيس بن الهيثم، والمنذر بن الجارود، ويزيد بن مسعود النهشليّ ... ((1)).

إبن طاووس:

فتأهّب عُبيد الله للمسير إلى الكوفة، وكان الحسين (علیه السلام) قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً مع مولىً له اسمه: سُليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم: يزيد بن مسعود النهشليّ، والمنذر بن الجارود العَبديّ ... ((2)).

النويريّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم: مالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عُبيد اللَّه بن معمر.

ثمّ خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((3)).

ص: 119


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.
3- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
إبن كثير:

قال: بعث الحسين مع مولىً له يُقال له: سلمان، كتاباً إلى أشراف أهل البصرة، فيه: ... ((1)).

المقريزيّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم ((2)).

إبن أبي طالب:

وكتب الحسين (علیه السلام) كتاباً إلى أشراف البصرة ... منهم: يزيد بن مسعود النهشليّ، والمنذر بن الجارود العَبديّ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ... ((3)).

وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة، كما أشرنا أوّلاً ((4)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك، إذ قَدِم رسول الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته، منهم: الأحنف بن قيس، وعبد الله بن معمر،

ص: 120


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
2- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
3- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.
4- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 180.

وعمر بن الجارود، ومسعود بن معمر، وغيرهم، بنسخةٍواحدة ... ((1)).

* * * * *

يمكن تقسيم المخاطَبين بلحاظ العناوين الكلّيّة العامّة والمخاطَبة بالأسماء إلى عنوانين:

العنوان الأوّل: العنوان العام

وردَت جملةٌ من العناوين العامّة الكلّيّة في المتون التاريخيّة كمخاطَبين في الكتاب:

العنوان الأول: أهل البصرة ((2)).

العنوان الثاني: وجوه أهل البصرة ((3)).

العنوان الثالث: شيعته من أهل البصرة ((4)).

العنوان الرابع: أشراف البصرة ((5)).

ص: 121


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، مثير الأحزان لابن نما: 27.
4- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
5- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنف (المشهور): 23.

العنوان الخامس: جماعةٌ من أشراف البصرة ((1)).

العنوان السادس: جميع أشرافها ((2)).

العنوان السابع: رؤساء أهل البصرة ((3)).

والجامع المشترك بين هذه العناوين جميعاً هم أهل البصرة، بَيد أنّالعناوين ذكرت المقصود الأصليّ، وهم أهل البصرة تارة، وذكرتهم من خلال العناوين المأخوذة كوسائط تارةً أُخرى، فمخاطَبة الرؤساء والوجوه والأشراف منهم إنّما يُقصَد منه مخاطبة أتباعهم، وهم العناوين المشيرة إلى أُولئك الأتباع.

والاختلاف في التعميم والتحديد قد لا يفرّق كثيراً في المقام، من قبيل: جميع الأشراف، أو جماعة من الأشراف.. وربّما كان تعبير ابن الأثير يجمع هذه الأقوال حين حدّد المخاطَب فقال: إنّ الإمام (علیه السلام) كتب كتاباً إلى أهل البصرة، نسخةً واحدةً إلى الأشراف ((4)).. فالكتاب إلى أهل البصرة، والمخاطَب المباشر هم الأشراف.

ص: 122


1- اللهوف لابن طاووس: 38.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.
4- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.

أجل، ربّما يكون في لفظ الدينوريّ إشعارٌ خاصٌّ ينفعنا في تحديد المخاطَب بصفةٍ معيّنة (شيعته من أهل البصرة) ((1))، فهو لم يخاطِب أهل البصرة أجمعين، وإنّما خاطب شيعته فيها، وفي ذلك بيانٌ يأتي إن شاء الله (تعالى).

العنوان الثاني: مخاطَبة الأشخاص

اشارة

يمكن تناول ما يخصّ هذا العنوان ضمن التلويحات التالية:

التلويح الأوّل: البلاذريّ لم يذكر الأسماء

لم يذكر البلاذريّ اسماً بذاته، وإنّما اكتفى بذكر العنوان العام (وجوه أهل البصرة) ((2)).

وهو أوّل مَن ذكر خبر هذا الكتاب حسب فحصنا، وقد دخلَت الأسماء من المصدر الثانيّ وهو الدينوريّ، كما سنسمع.

التلويح الثاني: الدينوريّ جعل الأسماء ضمن الكتاب

إنفرد الدينوريّ _ حسب الفحص _ بجعل الأسماء من نصّ الرسالة، فقال:

ص: 123


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.

بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم ... ((1)).

أمّا الآخَرون، فقد ذكروا أنّ الكتاب موجَّهٌ إلى جماعة، وذكروا الأسماء من دون أن ترد في نصّ الكتاب.

والفرق بين الحالَين واضح، إذ يمكن احتمال تبرّع المؤرّخ بتحديد الوجوه والأشراف مِن عنده من دون أن يحدّدهم الإمام (علیه السلام) بنفسه، ممّا ينفع في احتمال القول بأنّ المخاطَب بالكتاب هم شيعة الإمام (علیه السلام) دونغيرهم، كما سيأتي بعد قليل.

التلويح الثالث: الشيخ ابن نما يذكر (يزيد)

يأتي في سياق أحداث الكتاب المرسَل إلى أهل البصرة رجُلٌ يُسمّى: يزيد بن مسعود النهشليّ، وأوّل مَن يذكره هو الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، ويتبعه على ذلك السيّد ابن طاووس، بينما لم يرِدْ له أيُّ ذِكرٍ أو تلويحٍ فيما سبق من المصادر المتوفّرة لدينا.

ولهذا الرجل موقفٌ يختلف عن جميع مواقف الآخَرين ويتميّز عنهم تميُّزاً تامّاً، كما سنرى بعد قليل.

ص: 124


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
التلويح الرابع: الأسماء الواردة في المصادر
اشارة

مجموع الأسماء الواردة في المصادر ممّن صرّحوا بهم هي سبعة أسماء:

1 - مالك بن مسمع البكريّ

1 - مالك بن مسمع البكريّ ((1))

مالك بن مِسمَع _ بوزن منبر _ البكريّ، سيّد بكر بن وائل ((2)).

لمّا قُتل عثمان وهاج الهيج بين أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ومعاوية، كان مالك بن مسمع ممّن أعلن حُبّه لعثمان وعزمَه على نصرته ميّتاً، فخرج إلىالشام فكان مع معاوية، وهو على رأي العثمانيّة ((3)).

وكان رأيه مائلاً إلى بني أُميّة، وكان مروان بن الحكم قد لجأ إليه يوم الجمل ((4))، وكان مالك بن مسمع يأمر الناس بعد واقعة الطفّ وقتل الإمام الحسين (علیه السلام) بتجديد البيعة ليزيد بن معاوية ((5)).

وكان عُبيد الله _ بعد هلاك يزيد _ قد أنفذ بالليل إلى شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحُصين بن المنذر، وفرّق فيهم مالاً كثيراً.

ص: 125


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- إبصار العين للسماويّ: 40.
3- تاريخ الطبريّ: 6 / 128 خبر مقتل عُبيد الله بن الحرّ.
4- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 84 حوادث سنة 38، المنتظم لابن الجوزيّ: 5 / 152.
5- مع الركب الحسينيّ: 2 / 32 _ عن: هامش كتاب الغارات: 266، والهامش للمرحوم عبد الزهراء الخطيب.

ثمّ إنّ ابن زيادٍ خطبهم خطبة، فقام هؤلاء _ وهم رؤساء الناس _ فقالوا: ما لنا غيرك، ولا نعرف أحداً هو أقوى على هذا الأمر منك. وبايعه هؤلاء، وبايعه الناس ((1)).

وكان مالك قد تحالف مع مسعود بن عمرو ليردّوا ابن زيادٍ إلى دار الإمارة بعد أن هرب في فتنة ابن الزبير بعد هلاك يزيد، وقاتل بقومه من أجل إعادة ابن زيادٍ إلى دار الإمارة ((2)).

2 - الأحنف بن قيس

2 - الأحنف بن قيس ((3))

إسمه: الضحّاك بن قيس بن معاوية بن حُصين بن حفص بن عبادة ابن النزال بن مُرّة بن عُبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وأُمّه من بني قراض من باهلة، ولدَته وهو أحنف، فقالت وهيترقّصه:

واللهِ لولا حنفٌ في رجله

ما كان في الحيّ غلامٌ مثله

ص: 126


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 94.
2- تاريخ خليفة بن خيّاط: 198، وانظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 457، وترجمته في تاريخ مدينة دمشق: 56 / 497.
3- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

ويُكنّى الأحنف: أبا بحر ((1)).

والأحنف بن قيس: ... سيّد تميم ((2)).

قال الأحنف لمّا قُرئ عليهم كتاب معاوية الّذي يحرّض فيه الناس على الطلب بدم عثمان: أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جَمل. واعتزل أمرهم ذلك ((3)).

ودخل الأحنف بن قيس على معاوية، ويزيد بين يديه وهو ينظر إليه إعجاباً به، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرّة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلَف منّا لمَن بعدنا، فكن لهم أرضاً ذليلةً وسماءً ظليلة، إنْ سألوك فأعطِهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك، فيملّوا قربك ويكرهوا حياتك ويستبطؤوا وفاتك. فقال: لله درّك يا أبا بحر، هم كما وصفت ((4)).

وكان عمر قد أوصى أبا موسى الأشعريّ أن يُدني الأحنف ويشاوره ويسمع منه ((5)).

ص: 127


1- الطبقات لابن سعد: 7 / 93.
2- إبصار العين للسماويّ: 40.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 39، الغارات للثقفيّ: 2 / 384.
4- فقه السُّنّة للسيّد سابق: 2 / 14 _ عن: الأمالي لأبي عليّ القالي.
5- الطبقات لابن سعد: 7 / 94.

وكان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه بالكوفة ومصعب ابن الزبير يومئذٍ والٍ عليها، فتُوفّي الأحنف عنده بالكوفة، فرؤي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء ((1)).

وبعد هلاك يزيد كان ابن زيادٍ قد خطب الناس فنعى يزيد، وقال: اختاروا لأنفسكم. فقال الأحنف: نحن بك راضون حتّى يجتمع الناس. فقال ابن زياد: اغدوا على أُعطياتكم. فوضع الديوان وأعطى العطاء.

هذا وقد قاتل الأحنف بقومه من أجل إعادة ابن زيادٍ إلى دار الإمارة ((2)).

فيما روى ابن قُتيبة في (عيون الأخبار) مسنداً قال:

كتب الحسين بن عليٍّ إلى الأحنف يدعوه إلى نفسه، فلم يردّ الجواب، وقال: قد جرّبنا آل أبي الحسن، فلم نجد عندهم إيالةً ولا جمعاً للمال ولا مكيدةً في الحرب ((3)).

وهو نفسه الّذي روى عنه الشيخ الصدوق (رحمة الله) مسنداً قال:

عن الأحنف بن قيس، عن أبي ذرّ الغفاريّ (رحمة الله علیه) قال: كنّا ذات يومٍ عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد قبا ونحن نفرٌ من أصحابه، إذ قال: «معاشرَ أصحابي، يدخل عليكم من هذا الباب رجُلٌ، هو

ص: 128


1- الطبقات لابن سعد: 7 / 97.
2- تاريخ خليفة بن خياط: 198، وأنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 457.
3- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1 / 311.

أميرُ المؤمنين وإمامُ المسلمين».

قال: فنظروا، وكنتُ فيمن نظر، فإذا نحن بعليّ بن أبي طالب (علیه السلام) قد طلع، فقام النبيّ (صلی الله علیه و آله) فاستقبلَه وعانقَه وقَبّل ما بين عينَيه، وجاء به حتّى أجلسه إلى جانبه، ثمّ أقبل علينا بوجهه الكريم، فقال: «هذا إمامُكم مِن بعدي، طاعتُه طاعتي، ومعصيتُه معصيتي، وطاعتي طاعةُ الله، ومعصيتي معصيةُ الله (عزوجل) » ((1)).

ومع ذلك، فإنّه بعث الأحنف بن قيسٍ إلى عليّ (علیه السلام) : إنْ شئتَ أتيتُك في مئتَي رجُلٍ من أهل بيتي، وإن شئتَ كففتُ عنك أربعة آلاف سيف. فأرسل إليه عليّ: «بل كُفّ عنّي أربعةَ آلاف سيف، وكفى بذلك ناصراً»!! فجمع الأحنف بني تميم، فقال: يا معشرَ بني تميم، إنْ ظهرَ أهلُ البصرة فهم إخوانكم، وإن ظهر عليٌّ فلن يهيجكم وكنتم قد سلمتم. فكفّ بنو تميم، ولم يخرجوا إلى أحد الفريقَين ((2)).

فاختار موقف الحياد، وهو يعرف أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد حدّث عائشةَ وعارضها في خروجها إلى البصرة.

ونحن لا ندري لمن التتمّة بعد جواب أمير المؤمنين (علیه السلام) : «وكفى بذلك ناصراً»، هل هي من ضمن جواب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أَم أنّها من الرواة؟!

ص: 129


1- الأمالي للصدوق: 634 المجلس 76 ح 7.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 67.

وكيف كان، فإنّ كفّ هذا العدد وتحييدَه نصر، ولكنّ الموقف المطلوب من العارف البصير بدِينه هو الانحياز إلى الحقّ، وقومه أتباعه، ينعقون معه ويطيرون معه ويسفون معه، تماماً كما قاتل بهم من أجل إرجاع ابن زياد إلى دار الإمارة.

ورُوي في (الغارات) في خبرٍ طويلٍ اعتراض الحبّاب على معاوية، لأنّه أعطى الأحنف أكثر منه، وقد وفدوا معاً عليه، فقال معاوية: يا حبّاب، إنّي اشتريتُ بها دِينه. فكان _ وفق إخبار معاوية _ ممّن اشترى معاوية منه دِينه بخمسين ألف ((1)).

وقد روى لنا التاريخ مواقف وكلماتٍ للأحنف تنمّ عن ميله لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، سيّما في فتنة الجمل وصاحبته، غير أنّ مواقفه على العموم تجعله عموداً في صفّ الأعداء.

وسيأتي مزيد بيانٍ لحاله عند الحديث عن ردّه على كتاب الإمام (علیه السلام) .

3 - المنذر بن الجارود العَبديّ

3 - المنذر بن الجارود العَبديّ ((2))

المنذر بن الجارود بن عمرو بن حنش ((3)) العَبديّ، سيّد عبد قيس،

ص: 130


1- أُنظر: الغارات للثقفيّ: 2 / 754.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، تسلية المجالس لابن ابی طالب: 2 / 173.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 60 / 281.

وكان عُبيد الله بن زيادٍ تزوّج أُخته بحريّة، وله ذِكرٌ في الحروبوالمغازي ((1)).

والمنذر هذا غيرُ معدودٍ في الصحابة، ولا رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولا ولد له في أيّامه، وكان تائهاً معجَباً بنفسه ((2))، وصفه أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: «إنّه لَنظّارٌ في عطفَيه، مختالٌ في برديه، تفّالٌ في شراكيه» ((3)).

كتب إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد ما خان في بعض ما ولّاه من أعماله: «... أتعمر دنياك بخراب آخِرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دِينك؟! ولئن كان ما بلغني عنك حقّاً لَجمل أهلك وشسع نعلك خيرٌ منك، مَن كان بصفتك فليس بأهلٍ يُسدّ به ثغرٌ أو يُنقَذ به أمرٌ أو يُعلى به قَدْرٌ أو يُشرك في أمانةٍ أو يُؤمَن على خيانة [خ ل: جباية]، فأقبِلْ إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله» ((4)).

وكان الإمام قد ولّاه فارساً، فاحتاز مالاً من الخراج، وكان المال أربعمئة ألف درهم ((5))، فحبسه أمير المؤمنين (علیه السلام) ((6)).

وليَ إصطخر لأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، ثمّ وليَ ثغر الهند من قبل عُبيد

ص: 131


1- إبصار العين للسماويّ: 40.
2- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18 / 57.
3- نهج البلاغة: 462 ك 71.
4- نهج البلاغة: 462 ك 71.
5- أُنظر للتفصيل: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة: 2 / 445.
6- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 323، وغيره.

الله بن زياد، فمات هناك سنة إحدى وستّين، وله ستّون سنة ((1)).

وفي (معجم البلدان) للحَمَويّ:

ولّى زيادُ ابن أبيه المنذرَ بن الجارود العَبديّ _ ويُكنّى بأبيالأشعث _ ثغرَ الهند، فغزا البوقان والقيقان، فظفر المسلمون وغنموا ((2)).

وتبدو عداوته وحقده وخبثه من طريقة تعامله مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فقد رُوي:

أنّه قام المنذر بن الجارود إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: يا أمير المؤمنين، أنت بالمكان الّذي تذكر وأبوك معذَّبٌ في النار؟!

فقال: «مَهْلاً، فضّ الله فاك!»، قال: «أبي يُعذَّب في النار وأنا ابنُه قسيمُ الجنّة والنار؟! واللهِ لو شفع أبي لكلِّ مذنبٍ على وجه الأرض لَأجابه الله، وإنّ نورَ أبي لَيُطفئ نور الخلائق يوم القيامة ما خلا نور الأنبياء والأئمّة (علیهم السلام) ، وسمعتُ حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: مَثَلُ عمّي أبي طالبٍ في هذه الأُمّة كمَثَل أصحاب الكهف في بني إسرائيل، أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر، فآتاهم أجرهم مرّتين» ((3)).

فهو عدوٌّ لدودٌ، خؤونٌ خان الأمانة وسرق المال مع أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 132


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 256، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 60 / 285، النجوم الزاهرة للأتابكيّ: 1 / 157، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 101.
2- أُنظر: معجم البلدان للحَمويّ: 1 / 510، فتوح البلدان للبلاذريّ: 3 / 533.
3- العِقد النضيد لابن الحسن القمّيّ: 30.

وآذاه في أبيه، وختم عاقبته السيّئة الرديئة بخيانةٍ تأباها الوحوش والكواسر ويستنكف منها كلّ خؤون، حين دفع رسول ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى صهره عبيد القرود.يبدو أنّه قد فعل ذلك من ذات نفسه، من دون أيّ توجُّسٍ ولا خوفٍ من ابن زياد، وإنّما فعله حرصاً على صهره وخوفاً على دنياه، وتوغُّلاً في الجناية وارتكاساً في الرذيلة المتوائمة مع تاريخه الفاضح.

ولو كان قد توجّس واحتمل أن يكون دسيساً لابن زياد، وكان يتمتّع بأدنى أخلاقيّات البشر وروح الإنسان، لَطرده وردّه ونهره، وأبدى له صفحته، واتّخذ أيّ وسيلةٍ يُثبت بها براءته عند سائسه، ولا يودي بحياة الرسول بشكلٍ قطعيٍّ وجازم، ويجعل له منفذاً يمكن أن يفرّ منه أو يدفع عن نفسه..

كيف كان، فإنّ موقع المنذر وحيثيّاته كافيةٌ لتشخيص الرسول والمرسل، وإيجاد المخرج له لئلّا يتورّط بالدماء الزاكية، لولا خبثه وبيعه آخرته بدنيا غيره.

4 - مسعود بن عمرو

4 - مسعود بن عمرو ((1))

أحد قادة الأزد في معركة الجمَل في جيش عائشة وطلحة والزبير ((2)).

ص: 133


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- مع الركب الحسينيّ: 2 / 34 _ عن: تاريخ الطبريّ: 5 / 505.

وكان قد أجار ابنَ زيادٍ بعد هلاك يزيد، وبقي عنده مدّةً من الزمان، أي: زهاء تسعين يوماً، ثمّ تحالف مع مالك بن مسمع ليردّوا ابن زيادٍ إلى دار الإمارة ((1)).ثمّ إنّ مسعود هذا أدخل عُبيد الله دار نسائه، وأفرده في بيتٍ من بيوته، ووكّل به امرأتين من خدمه، وجمع إليه قومه ((2)).

ولمّا أتى على عُبيد الله أيّامٌ وأمِن الطلب، قال لمسعود بن عمرو والحارث بن قيس: إنّ الناس قد سكنوا ويئسوا منّي، فاعملا في إخراجي من البصرة لألحق بالشام. فاكتريا له رجُلاً من بني يشكر أميناً هادياً بالطريق، وحملاه على ناقةٍ مهريّة، وقالا لليشكريّ: عليك به، لا تفارقْه حتّى توصله إلى مأمنه بالشام. فخرج، وخرجا معه مشيّعين له في نفرٍ من قومهما ثلاثة أيّام، ثمّ ودّعاه وانصرفا ((3)).

قال الشيخ السماويّ:

مسعود بن عمر الأزديّ الفهميّ، سيّد الأزد، وبسبب قتله قامت حرب البصرة بعد هلاك يزيد، وهو الّذي منع من قتل عُبيد الله

ص: 134


1- تاريخ خليفة بن خيّاط: 198، وانظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 457.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 283.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 283، وانظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 393، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 96، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 134.

ابن زيادٍ يومئذ، ويُكنّى بأبي قبيس ((1)).

فهو عدوٌّ لدودٌ، وعُبيدٌ حقيرٌ لابن زياد ولآل أُميّة سلالة القرود، ومواقفه تأنف منها الطباع السقيمة فضلاً عن السليمة.

والعجب من سماحة الشيخ السماويّ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ أن يقول:

وهو [يعني هذا العدوّ الخبيث مسعود بن عمرو] الّذي جمعالناس وخطبهم لنصرة الحسين (علیه السلام) ، فلم يتوفّق.

ويمضى في كتب المقاتل أنّه يزيد بن مسعود النهشليّ، وهذا تميميٌّ يُكنّى بأبي خالد، وليس من رؤساء الأخماس، ولعلّه مكتوبٌ إليه أيضاً.

والّذي يُستظهَر من الخطبة والكتاب إلى الحسين (علیه السلام) أنّ الّذي جمع الناس هذا، لا مسعود، ولكنّ الطبريّ وغيره من المؤرّخين لم يذكروا الثاني ((2)).

ولا ندري على أيّ شيءٍ استند سماحته ليغيّر ما صرّح به ابن نما، وهو الناقل الأوّل لرواية النهشليّ.

ونحسب أنّه لمّا بحث عن ابن مسعود النهشليّ الّذي ذكره ابن نما، فلم

ص: 135


1- إبصار العين للسماويّ: 40.
2- إبصار العين للسماويّ: 40.

يجد له أثراً في كتب التاريخ والتراجم سوى ما ذكره الشيخ ابن نما، ورأى أنّ الطبريّ وغيره رووا وصول الكتاب إلى مسعود بن عمرو، فنسب الموقف له.

ونحن رغم وثوقنا بالشيخ (رحمة الله) ، بيد أنّ هذا الاستنتاج والتنقّل بالأحداث من شخصٍ إلى شخصٍ اعتماداً على الاجتهاد والتحليل لا يكفينا في قبول النتيجة ما لم تكون مدعومةً بنصٍّ تاريخيٍّ مهما كان.

وقد ذكر الشيخ أنّ مسعود النهشليّ لم يرد له ذكرٌ عند الطبريّ وغيره،وقد صدق، غير أنّه ورد عند الشيخ ابن نما ومَن أخذ عنه.

ولكنّ الطبريّ وغيره من المؤرّخين الّذين لم يذكروا النهشليّ لم يذكروا أيضاً لمسعود بن عمرو هذا الموقف وجمْعَه بني تميم وخطبتَه، وما إلى ذلك من أحداث..

فكيف يمكن نسبة حدَثٍ رواه الشيخ ابن نما لشخصٍ بعينه وباسمه المتمايز تماماً عن غيره إلى شخصٍ لم يذكره الطبري ولا غيره، وقد تبيّن أنّه من الأعداء المنغمسين في قيعان النذالة والسفالة والحقارة والدناءة والانحطاط الأخلاقيّ؟!!

أوَ مِثل هذا تأخذه الغَيرة على وديعة الله ووديعة رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فيجيّش له بني تميم، ثمّ يدعو له الإمام الحسين (علیه السلام) ليرويه الله يوم العطش الأكبر؟!

ص: 136

5 - قيس بن الهيثم

5 - قيس بن الهيثم ((1))

قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلَميّ ((2))، سيّد أهل العالية، وله ذِكرٌ في حرب البصرة ((3)).

وكان رأي قيس في بني أُميّة ((4)).

وكان معتمَداً مخاطَباً عند الأُمويّين وعمّالهم وأزلامهم، فقد رُوي:

إنّ الضحّاك بن قيس كتب إلى قيس بن الهيثم حين مات يزيدبن معاوية كتاباً، جاء فيه: وإنّ يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخواننا وأشقّاؤنا، فلا تسبقونا حتّى نختار لأنفسنا ((5)).

وقال عوانة:

ص: 137


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، نهاية الأرب للنويري: 20 / 389.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 46.
3- إبصار العين للسماويّ: 40.
4- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 4 / 298، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 135، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 505.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 24 / 283، مسند أحمد: 3 / 453، المستدرك للحاكم: 3 / 525، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 308، الآحاد والمثاني للضحّاك: 2 / 137، المعجم الكبير للطبرانيّ: 8 / 298، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 242، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 350.

قدم عبد الرحمان بن زيادٍ على زيد بن معاوية من خراسان بعد قتل الحسين (علیه السلام) ، واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم ((1)).

وقال الزركليّ:

كان من الخطباء الشجعان، من أعيان البصرة في صدر الإسلام، وكان من أنصار بني أُميّة فيها، ثمّ قام بدعوة عبد الله بن الزبير، وصحب أخاه مصعباً في ثورته إلى أن قُتل، فتوجّه إلى عبد الملِك ابن مروان، فعفا عنه وأكرمه. توفّي بالبصرة ((2)).

وكان على الزبيريّة _ يوم الجفرة بالبصرة _ قيس بن الهيثم السلميّ، ويُكنّى: أبا كبير، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه ((3)).

وكان من العثمانيّة، حتّى أنّه قام عند حصار عثمان فخطب وحضّ الناس على نصر عثمان، فسارع الناس إلى ذلك، فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود، فسار بهم حتّى إذا نزل الناس الربذة ونزلَت مقدّمته عند صرار ناحيةٍ من المدينة أتاهم قتل عثمان ((4)).وكان والياً للأُمويّين، إذ بعثه معاوية حين استقامت له الأُمور إلى

ص: 138


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 34 / 343، تاريخ الطبريّ: 4 / 234.
2- الأعلام للزركليّ: 5 / 209.
3- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 464 و468، تاريخ الطبريّ: 5 / 3، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 307.
4- تاريخ الطبريّ: 3 / 402.

خراسان ((1)).

دَمِنٌ متدلٍّ في أُصول أذناب الأُمويّين، وعفِنٌ يخترق خياشيم الزمان، ونخامةٌ عثمانيّةٌ انتشرت في البصرة.. هكذا هو قيس هذا، والأوساخ الأُخرى الّذين سبقوه بالذكر.

6 - عمرو بن عُبيد الله بن مَعمَر

6 - عمرو بن عُبيد الله بن مَعمَر ((2))

عبد الله بن عُبيد الله بن مَعمَر _ بوزن مَقعَد _ التَّيميّ، تيم قريش، وهذا كان في البصرة، وله شرف ((3)).

قام بأمر أهل البصرة عمر بن عُبيد الله بن معمر التَّيميّ، ولّاه عبد الله ابن الزبير ذلك، ولقيه كتابه بالإمارة وهو يريد الحجّ وقد صار إلى بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة ((4)).

وولّاه مصعب.. ولّاه فارس، والخوارج بأرّجان يومئذٍ، وعليهم الزبير بن عليّ السليطي، فشخص إليهم فقاتلهم، وألحّ عليهم حتّى أخرجهم منها فألحقهم بأصبهان، فلمّا بلغ المهلب أنّ مصعباً ولّى حرب الخوارج عمر بن

ص: 139


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 131.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
3- إبصار العين للسماويّ: 40.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 141.

عُبيد الله، قال: رماهم بفارس العرب وفتاها ((1)).

هذا القذَر من ذاك الوضَر، وهذا الدنَس من ذاك النجَس.. كلّهم من بؤرةٍ واحدةٍ، يسيحون في نفس المجرى، ويسرحون في نفس الغابة، ويرتكسون في وهاد فيلوق بغض أهل البيت (علیهم السلام) ..

7 - يزيد بن مسعود النَّهشليّ

7 - يزيد بن مسعود النَّهشليّ ((2))

لم يذكره أحد.. لم يذكره مؤرّخٌ قبل الشيخ ابن نما.. لم يذكره مترجِمٌ ولا رجاليّ.. لم يذكره أحدٌ سوى مَن نقل بالحرف عن الشيخ ابن نما، من قبيل السيّد ابن طاووس، ولم ينقل الكثيرون من العلماء والمؤرّخين عن ابن نما أيضاً فيما سبق.. أجل، نقل مَن جاء بعد العلّامة المجلسيّ، وانتشر الخبر بين المتأخّرين عنهم من الكتّاب والمؤلّفين.

لم نجد لرجُلٍ مثل يزيد بن مسعود النهشليّ، صاحبِ الموقف المبجَّل العظيم المكرّم.. صاحبِ هذا الموقف الشريف.. راسمِ المشهد الأعظم في البصرة..

كيف تمكّن هذا الرجل من جمع بني تميم؟ جمعَ كلَّ تلك الرجال والأفخاذ، ثمّ وقف يخطب فيهم، ويغسل صدورهم بسحابة مُزنٍ تغسل

ص: 140


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 160.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

عنهم الأدران السابقة المتراكمة منذ أيّام الجمل.. ثمّ لم يكن يعرفهأحدٌ أو يذكره أحد!!

أيكون رجُلٌ بهذه المنزلة.. بهذه القدرة.. وهو ليس شيخاً مبرَّزاً من شيوخ البصرة؟

أيقدر رجلٌ أن يجمع كلّ أُولئك ويؤثّر على قلوبهم، وهو ليس من أبرز الشرفاء والوجهاء؟

أينساق رجال العشائر، وتلتمع السيوف وتبرق وتومض في الأجواء، وترتفع الصرخات، وتبتهج الأرواح، وتتوهّج الأحاسيس، وتشتعل المشاعر، وتستجيب العواطف، وتجود القبائل بأرواحها وعوائلها وحياتها وتخاطر بدنياها، لرجلٍ غير معروف؟

لو كان رجلاً متزعّماً على عددٍ محدودٍ من الرجال، قد لا يتجاوز عددهم العشرات، بل العشرة، لَعرفه التاريخ ونوّه باسمه وانتمائه وامتداداته الاجتماعيّة..

كيف بمن جمع كلّ هذا الجمع من الأفخاذ والتشعُّبات؟!

ربّما كان هذا هو السبب الّذي دعا الشيخ السماويّ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ أن يعقد الخبر وأحداثه الجسيمة بناصية مسعود بن عمرو اللعين، لِما له مِن وجاهةٍ عند قومه وفي بلده ومصره.

* * * * *

أجل، روى أبو الفرج في (الأغاني)، قال في ترجمة الفرزدق في خبرٍ

ص: 141

طويل:

وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيميّ والأشهب بن رميلة بأبيات، منها قوله:

تمنّى ابنُ مسعودٍ

لقائي سفاهةً

لقد قال ميناً يوم ذاك

ومُنكَرا

غناءٌ قليلٌ عن فقيمٍ

ونهشلٍ

مقام هجينٍ ساعةً ثمّ

أدبرا

يعني الأشهب بن رميلة، وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردّوه، وقالوا له: اهجُ الفرزدق حتّى نزوجك. فرجز به الأشهب، فقال:

يا

عجباً هل يركب القَينُ الفرس

وعرق القين على الخيل

نجس؟

وإنّما سلاحه إذا جلس

الكلبتان والعلاة

والقبس

فلمّا بلغ الفرزدقَ قولُه هجاه، فأرفث له، وألحّ الفرزدق على النهشليّين بالهجاء، فشكوه إلى زياد، وكان يزيد بن مسعود ذا منزلةٍ عند زياد، فطلبه زياد فهرب، فأتى بكر بن وائل فأجاروه، فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات: ... ((1)).

ولا ندري إن كان هو (يزيد) أو (زيد) المذكور آنفاً، ولا ندري إن كان هو يزيد صاحبنا هذا أو غيره، فإن كان هو فهو ممّن كان ذا منزلةٍ عند ابن زياد!ولا طريق لنا للتأكّد من ذلك والبتّ به، إذ أنّه ورد في كتاب

ص: 142


1- الأغاني لأبي الفرَج: 21 / 250.

(الأغاني) فقط، ولم يرد في كتابٍ آخَر حسب فحصنا.

* * * * *

وقال البلاذريّ:

وذكر بعضهم أنّ خالد بن مالك وفد والقعقاع بن معبد إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ولِّ هذا صدقات قومه. وقال عمر: ولِّ هذا صدقات قومه. فأنزل الله (تعالى): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ((1)).

وكانت ليلى بنت مسعود بن خالد عند عليّ بن أبي طالب، فولدَت له: عُبيد الله، وأبا بكر ...

وسعد بن خالد بن مالك: نزل الكوفة، وقد انقرض وُلده.

ويزيد بن مسعود بن خالد: كان سيّداً بالبادية، ولم يُهاجِر إلى البصرة، وكان يُكنّى أبا خالد وأبا جيداء جميعاً، وفيه يقول سحيم ابن وثيل:

ومن

آل مسعودٍ على الباب مدره

إلى

القوم قالوا: يا يزيد بن خالدِ

وله عقبٌ بالبادية.ويستمرّ البلاذري في ذِكر أولاد خالد وأحفاده وأخبارهم ((2)).

ص: 143


1- سورة الحُجُرات: 1.
2- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 124.

فإنْ كان هذا يزيد بن مسعود موضع البحث هو نفسُه المشار إليه في نصّ البلاذريّ، فسيكون له علاقةٌ وثيقةٌ جدّاً بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّه أخو ليلى النهشليّة زوج أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويكون من أفراد عائلةٍ معروفةٍ لها امتداداتها المذكورة في التاريخ حسب متن البلاذريّ.

وربّما يكون هذا النصّ شاهداً قويّاً على التعريف به، بَيد أنّنا لا نستطيع الجزم بذلك، سيّما إذا لحظنا قول ابن حزمٍ في (الجمهرة):

ولد نهشل بن دارم ... منهم: خالد بن مالك بن ربعيّ بن سلمى ابن جندل بن نهشل بن دارم، كان سيّداً، وابن ابنه عبّاد بن مسعود بن خالد، كان سيّداً، وأُخته ليلى بنت مسعود، كانت تحت عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فولدت له أبا بكرٍ وعُبيد الله ... ((1)).

ولمن جزم أن يرتّب الآثار عليه.

وسيأتي تمام الكلام في التعريف بيزيد بن مسعود بعد قليل.

التلويح الخامس: أعداءٌ بالإجماع

تبيّن لنا _ كما هو المتّفَق عليه _ أنّ الّذين خاطبهم الإمام الحسين (علیه السلام) في هذه الرسالة _ من خلال العناوين العامّة، ومن خلال العناوين الخاصّة، والأسماء بأعيانها _ كلُّهم أعداءٌ حاقدون، ولو كان فيهم مَن له

ص: 144


1- جمهرة أنساب العرب لابن حزم: 1 / 11، 188، 206، 216، 217، 229، 230.

موقفٌ أو كلمةٌ فيها شوب نصرةٍ لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإنّهم في مواقفهم وردودهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) اندمجوا في الضلال والشقاء، والأُمور بخواتيمها.

عدا ما يُقال في موقف يزيد بن مسعود النهشليّ، ونحن لا طريق لنا لمعرفة سوابق الرجل ولا عقيدته سوى ما ذكره الشيخ ابن نما (رحمة الله) .

وسواءً كان المخاطَب هم الأعيان بذواتهم، أو باعتبارهم رؤوساً لمن تحت إمرتهم من أشياعهم وأتباعهم وغوغائهم ممّن يصدق عليه العناوين العامّة، وهم من أهل البصرة، فإنّ الجميع كلّهم كانوا أعداءً لآل أبي طالب وأولاد أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، ولشخص أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، بشهادة الحديث الّذي ذكرناه في أكثر من موضع الّذي يشهد أنّ البصرة لم تبكِ مَن بكته السماوات والأرضون ومَن فيهنّ ومَن بينهنّ وما يُرى وما لا يُرى مِن خلْق ربِّنا.

والنزر القليل الّذي يُعدّ عماد البلد وببركته يُبقي الله على أهله من شيعة الحسين (علیه السلام) المخلصين الأوفياء الأبرار، فإنّهم شاذٌّ نادر، دليلٌ على القاعدة الكلّيّة الجارية فيهم.

وهؤلاء ليسوا من المشركين ضمن الضوابط الجارية، ولا من الكفّاروفق القوانين السارية، وإنّما هم في دركٍ أسفل من ذاك، إذ أنّهم بارزوا الله بالعداوة والبغضاء والحرب المباشرة، من خلال عدواتهم لوليّ الله الأعظم حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) ، الّذي فرض الله طاعته

ص: 145

على العالَمين وجعل طاعته طاعته ومعصيته معصيته..

ولهذا العنوان خاصّةً ميزةٌ فاصلة، وإشعارٌ عميق، ودلالةٌ ذات مغزى بعيد.. فهم أعداؤه، يُبغِضون الله في ذات الحسين (علیه السلام) .. حالهم حال عسلان الفلوات الّتي تتربّص به لتملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً.

ص: 146

مواقف القوم في مقام الردّ

اشارة

يمكن تقسيم المواقف الواردة في النصوص التاريخيّة إلى مستويَين:

المستوى الأوّل: الإجماليّ

إتّفقوا قولاً واحداً على أنّ كلّ مَن قرأ الكتاب كتمه، إلّا المنذر، فإنّه خاس بالأمانة وغدر بالرسول، فأخبر به ابنَ زياد ((1)).

يبدو أنّ هذا المقدار من تعبير المؤرّخ لا يريد به التعبير عن موقف المخاطَب من الكتاب ليستكشف منه ردّة فعله ومدى استجابته للإمام (علیه السلام) ولما في الكتاب من خطاب، وإنّما هو بيانٌ لموقفٍ آخَر لا يتعلّق بالاستجابة وترتيب اللازم على ما في الكتاب.

ص: 147


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

فهم إنّما أرادوا بيان مواقف المخاطَبين مع الرسول نفسه، وأنّهم جميعاً لم يغدروا به ولم يشوا بأمره إلى السلطان وكتموا أمره، عدا المنذر.وعلى هذا، لا يمكن استكشاف موقفٍ لهؤلاء القوم من هذه العبارة من كلام المؤرّخ، وأن يكتموا أمر الكتاب والرسول فهو السلوك السويّ الطبيعيّ المتوقَّع من كلّ عاقلٍ وكلّ ذي شيمة، مهما كان دِينه وانتماؤه ما دام بشراً.. والذي شذّ عن ذلك إنّما هو واحد، فأراد المؤرّخ عزله ونسبة الخيانة له دون غيره من المخاطَبين، فاضطرّ لذِكر مواقف الآخَرين في تعاملهم مع الرسول، لئلّا يتحمّل الآخَرون غبّ ما عمله هذا الجرذ الواطي.

وعليه، تبقى المواقف هنا مسكوتاً عنها، وغاية ما يمكن استنتاجه أنّهم لم يجيبوا الإمام (علیه السلام) ولم يردّوا عليه جواباً، إلّا من نصّ عليه الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، كما سنسمع بعد قليل.

المستوى الثاني: الشخصيّ

اشارة

صرّحَت بعض النصوص بمواقف خاصّةٍ لأشخاصٍ بأعيانهم، كما سيأتي في المواقف التالية:

الموقف الأوّل: المنذر بن الجارود

أشرنا إلى خيانة هذا المسخ المشوَّه والكلب الممطور في أكثر من موضع، ولا نريد الدخول هنا في تفصيلات ذلك، ونكتفي بالإشارة إلى

ص: 148

مؤدّى موقفه الرذل النذل الخسيس الحقير.. فهو قد خان خياناتٍمتعدّدة:

خان الرسول ودفعه إلى عبيد القرود..

خان الكتاب وقرأه على عبيد القرود ((1))..

خان الإمام الحسين (علیه السلام) بكشف كتابه ورسوله..

وخان.. وخان..

لقد كان في دفعه رسولَ الحسين (علیه السلام) إلى عدوّه البطّاش وتسليمِه باليد إلى شفرة الجزّار ردّاً على سيّد الشهداء (علیه السلام) أيضاً..

كانت فعلته البغيضة الفظيعة المُخجِلة المعيبة المنكَرة خيانةً للرسول، وخيانةً للأعراف والقيَم، وهي في نفس الوقت خيانةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وردّاً وقحاً سليطاً صفيقاً فاجراً فاحشاً على ما ورد في الكتاب وعلى شخص الإمام (علیه السلام) ..

فهو بدفعه الرسول إلى عدوّ الإمام قد أعلن عن موقفه مع الإمام (علیه السلام) ، وأصحر عن انتمائه، وكشف عن موقعه في الاصطفاف مع الطاغي العاتي الظلوم الغشوم، وردّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإذ أبى أن يتمسّك بالعروة الوثقى

ص: 149


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

ولو على مستوى كتم أمر الرسول، فكيف بموقفه من الدعوة الّتي في الكتاب؟!لقد شرك ابنَ زيادٍ في دم الرسول، وكان هو السبب الأوّل والرئيس والأصليّ لقتله.. إنّه القاتل الأوّل لرسول الحسين (علیه السلام) ..

وهذا هو الجواب الّذي ردّ به اللعين على كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) .. إنّه قتل رسوله!

اللّهمّ العَنْ قتَلَة الأنبياءِ وذراري الأنبياءِ وأتباعِ الأنبياءِ بالحقّ، والعَنْ مَن سلّطَهم على رقاب الناس!

الموقف الثاني: موقف الأحنف
اشارة

أدرجَت المصادر جميعُها موقف الأحنف ضمن مواقف الآخَرين، فاقتصرَت على ذِكر موقفه من الرسول والكتاب وأنّه كان ممّن كتمه.

وانفرد الشيخ ابن نما بتسجيل موقفٍ له عبّر عنه من خلال كتابٍ جوابيٍّ كتبه إلى الإمام (علیه السلام) ، سنتناول مضمونه من خلال الوكزات التالية:

قال الشيخ ابن نما (رحمة الله) :

وأمّا الأحنف، فإنّه كتب إلى الحسين (علیه السلام) : أمّا بعد، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((1)) ((2)).

ص: 150


1- سورة الروم: 60.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.
الوكزة الأُولى: الأحنف

الأحنف بن قيس.. هو القائل بعد أن دعاه الإمام أبو عبد الله الحسينإلى نصرته ولم يُجِبه: قد جرّبنا آل أبي الحسن، فلم نجد عندهم إيالةً للمُلك ولا جمعاً للمال ولا مكيدةً للحرب.

الأحنف بن قيس.. هو الذي ساعد مصعب بن الزبير على قتل المختار ((1))، وكان على خمس تميم في قتل المختار ((2)).

وهو القائل يوم صفين _ وهو مع عليّ (علیه السلام) _ : هلك العرب ((3)).

وفي هذا مؤشِّرٌ على ضعف اعتقاد الأحنف بأمير المؤمنين (علیه السلام) والحسنين (علیهما السلام) ، إذ لو كان له اعتقادٌ راسخٌ بهم (علیهم السلام) لَكان سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم، ولما همّه بعد ذلك هلكت العرب في حقٍّ أو بقيَت..

ومن المواقف الدالّة على عدم رسوخ اعتقاده بأمير المؤمنين (علیه السلام) ، بل الدالّة على تردُّده وضعف يقينه ووهن موقفه في وجوب نصرة أهل الحقّ وخذلان أهل الباطل، أنّه حينما قُرئت رسالة معاوية على أهل البصرة لتحريضهم على أمير المؤمنين (علیه السلام) تحت شعار الأخذ بثأر عثمان، فإنّ الأحنف قال: أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جَمل. واعتزل أمرهم ((4)).

ص: 151


1- تاريخ الطبريّ: 6 / 95، قاموس الرجال: 1 / 691.
2- قاموس الرجال: 1 / 691.
3- وقعة صفّين: 387.
4- الغارات: 263, وانظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 32 _ 33.

يقولون: إنّ الأحنف كان معروفاً بالحِلم! ((1)) فلْننظر مدى صدق هذا الزعم حين نسمع ردّه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

الوكزة الثانية: انفراده بالجواب

سمعنا _ فيما مضى _ أخبار المخاطَبين، وعرفنا أنّ المؤرّخ لم يروِ لأحدٍ منهم ردّاً على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، خلا المنذر الّذي عرفنا موقفه وردّه العمَليّ على كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكأنّ ردّ الجميع كان هو الصمت والسكوت، وكأنّ شيئاً لم يحدث!

غير أنّ الشيخ ابن نما روى لنا موقفاً للأحنف، وهنا أيضاً فقط للأحنف من بين الآخَرين، إذ أنّ ما يرويه من سلوك المنذر هو كغيره لا يصرّح بشيءٍ سوى دفعه الرسول إلى ابن زياد، ومن سلوكه هذا يُعرف ردّه وموقفه.

وما يرويه أيضاً من مشهدٍ يرسم موقف يزيد بن مسعود النهشليّ، فهو قد تفرّد به أيضاً.

الوكزة الثالثة: كتب إلى الحسين (علیه السلام)

لا ندري إنْ كان النصّ الّذي يرويه الشيخ ابن نما هو النصّ الكامل للكتاب، أم أنّه قد اختصر أو نقل بالمعنى، ولا طريق لنا لمعرفة ذلك، إذ لا

ص: 152


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 24 / 316 وما بعدها.

راوي غيره للخبر.

لذا سنتعامل مع هذا النصّ كمتنٍ كامل، وحينئذٍ نرى فيه بؤراً سوداءقاتمةً تقبّح حِلمه المزعوم وعقله المدّعى فيه ((1))..

إنّه لم يبدأ الكتاب بالبسملة ولا الحمد ولا الصلاة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

لم يبدأ الكتاب بمخاطبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ولو باسمه، على غير العادة في المراسلات حين يبدأ الكاتب بذكر مصدر الكتاب والمخاطَب فيه.

وسنتابع مقزّزاته ومقرّفاته فيما يلي.

الوكزة الرابعة: أجواء الآية الكريمة

إذا قرأنا الآية الكريمة ضمن سياقها في سورة الروم، وهي الآية الأخيرة في السورة، فإنّنا نشعر أنّ جوّاً خاصّاً يظلّل الآية الكريمة، إذ أنّها تختم مشهداً مفعماً بالتأييد والتسديد والمواساة للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتبني أُسساً منيعةً قويّةً راسخة لتثبيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمّد (صلی الله علیه و آله) على أذى هؤلاء الكفّار وإصرارهم على كفرهم، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ بالعذاب والتنكيل لأعدائك، والنصرِ والتأييد لك ولدينك، ﴿ولَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾، أي: لا يستفزّنك ﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ بالبعث والحساب، فهم ضالّون شاكّون.

ص: 153


1- أُنظر: تهذيب الكمال للمزّيّ: 2 / 285، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 24 / 316.

وقيل: ﴿لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾، أي: لا يحملنّك هؤلاء على الخفّة والعجَلة لشدّة الغضب عليهم لكفرهم بآياتنا، فتفعل خلاف ماأُمرتَ به من الصبر والرفق ((1)).

وقال الفيض في (الصافي):

﴿فَاصْبِرْ﴾ على أذاهم، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بنصرتك وإظهار دِينك على الدين كلِّه ﴿حَقٌّ﴾ لابدّ مِن إنجازه، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾: ولا يحملنّك على الخفّة والقلَق بتكذيبهم وإيذائهم، فإنّهم شاكّون ضالّون، لا يستبدع منهم ذلك.

والقمّيّ ((2)): أي: لا يغضبنّك ((3)).

والسورة تبدأ بوعد النصر:

﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ((4)).

ص: 154


1- أُنظر: مجمع البيان للطبرسيّ: 8 / 402 تفسير سورة الروم.
2- أُنظر: تفسير القمّيّ: 2 / 160.
3- تفسير الصافي للكاشانيّ: 5 / 511 سورة الروم.
4- سورة الروم: 2 _ 7.

وتختم بوعد الله بالنصر أيضاً، ليتّصل أوّلها بختامها.

فجوّ الآية هو التثبيت للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودعوةٌ له ليصبر على أذى الّذين لا يوقنون، وتلمس قلب النبيّ (صلی الله علیه و آله) بوعد الله الّذي لا يخلف الميعاد.

الوكزة الخامسة: دلالات توظيف الآية
اشارة

عرفنا قبل قليلٍ الأحنف.. ومعرفتُه ضروريةٌ لمعرفة دلالات كلامه وتوظيفه لهذه الآية الكريمة في كتابه لأعلم الخلق بكتاب الله بعد مَن استثناهم الله.

يمكن أن نفهم توظيفه للآية من خلال الدلالات التالية:

الدلالة الأُولى: من خلال الأجواء

إذا افترضنا في الأحنف أنّه إنّما وظّف الآية الكريمة في كتابه باعتباره يعرف أجواءَها ومداليلها من خلال السياق الّذي وردَت فيه، وحملناه على محملٍ حسن، رغم سيرته ومواقفه وما سمعنا عنه في ترجمته، فحينئذٍ يمكن أن يُقال:

إنّه دعا الإمام (علیه السلام) بدعوة الله لنبيّه إزاء الكفّار والمشكّكين والضالّين وغيرهم، وحكمَ على أعداء الإمام (علیه السلام) والّذين أزعجوه وآذوه ولاحقوه بأنّهم لا يوقنون، وأنّ الله وعده النصر كما وعد جدّه، فليصبر حتّى يحكم الله بحكمه وهو خير الحاكمين.

بَيد أنّ هذه الدلالة بعيدةٌ تمام البُعد عن الأحنف وشخصيّته وطريقته

ص: 155

في معالجة الأُمور وتقديره وتقديسه للإمام (علیه السلام) ، ويبقى في مقام إساءة الأدب، كما سنسمع بعد قليلٍ في الدلالة الثانية.

الدلالة الثانية: توظيف الآية مقطوعةً عن الأجواء
اشارة

سياق الكتاب يفيد بوضوحٍ أنّ الأحنف استعمل مفردات الآية الكريمة وتركيباتها كأنّها جملةٌ وعبارةٌ تعبّر عن مراده، بغضّ النظر عن كونها آيةً من كلام الله خاطَب بها الله نبيّه، بل كأنّها كلماته يخاطب بها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنْ كانت من القرآن، فهو قد جعلها من كلامه مستعيراً ذلك من كتاب الله.

وهنا تختلف الدلالات اختلافاً تامّاً، وتفاجِئ المتابع بطغيانٍ وغطرسةٍ غير ملفوفةٍ ولا مغلّفة، ووقاحةٍ فجّةٍ صفيقة، وخشونةٍ عسيرة، وفظاظةٍ غليظة.. كما سنرى في المفاجآت التالية:

المفاجأة الأُولى: الحسم بكلمة

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الأحنف لم يبدأ رسالته بمقدّماتٍ معهودةٍ في المكاتبات، ولم يذكر حتّى اسم المخاطب في الكتاب..

ثمّ إنّه يحسم الموقف في كتابه بقوله: أمّا بعد.. ثم يبدأ بالآية كبيانٍ قطعيٍّ للموقف، من دون أيّ توطئةٍ أو تمهيدٍ يمكن أن تفيد محاولة الإقناع أو السعي في تبيين الرأي والكشف عن الحقيقة الّتي يريد إرسالها، وإنّما يبتّ بتّاً جازماً لا يدع للمخاطب سوى فرض الطاعة والقبول..

ص: 156

وهذا الأُسلوب الوقح الفظّ ينمّ عن طغيانٍ وتجبُّرٍ واعتدادٍ بائسٍ حقيرٍ بالذات المدنَّسة بالغرور والتكبّر.

المفاجأة الثانية: خطاب العالي إلى الداني

في الآية أمرٌ ونهيٌ بصيغتيهما الصريحتين.. ﴿فَاصْبِرْ﴾ و﴿لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾.. كأنّه يريد أن يجعل نفسه في مقام الربوبيّة ويُخاطِب الإمام (علیه السلام) ..

فهو لا يكلّم الإمام (علیه السلام) باعتباره سيّد شباب أهل الجنّة وأحدَ أصحاب الكساء وسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته..

ولا باعتباره كبير آل أبي طالب، الأُسرة الكريمة الّتي سادت البشر جاهليّةً وإسلاماً..

ولا باعتباره أعظم الوجوه الّتي كانت يومذاك، وأشرف الناس نسَباً، وأبذخهم جاهاً، وأطهرهم شخصاً، وأعلمهم علماً..

فضلاً عن كونه الإمام المفترض الطاعة من الله، وعلى الخلق أن يطيعوه، وله عليهم الولاية الّتي جعلها الله له يوم الغدير..

إنّه ينصب من نفسه جهةً عُليا، على الإمام (علیه السلام) أن يسمع له ويطيع، ولا مجال للمناقشة والمراجعة.. نستجير بالله ونستغفره ونعوذ به!

المفاجأة الثالثة: وَعْد الله!

حينما نقرأ الآية باعتبارها كلماتٍ وظّفها الأحنف وقصد من مفرداتها

ص: 157

وتركيبها ما يريد التنويه به، فحينئذٍ يتشكّل معنىً ينتظم في مراداتٍ مثل هذه المخلوقات، وتنسجم مع طريقتهم في التفكير، وطبيعتهم فيالتوجيه والتسويغ والتبرير والتعبير، وتدخل في مسارب ذواتهم ونفسيّاتهم..

وعدُ الله عند مِثل الأحنف الّذي يأمر بالصبر وينهى عن الاستجابة للاستخفاف، لا يمكن أن يكون بحالٍ هو وعد الله بنصر الدين وظهوره على الدين كلّه، ولا يمكن أن يكون بحالٍ هو وعد الله بنصر الإمام الحسين سليل النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالنصر على الضلال والكفر والشرك والنفاق كما وعد الله نبيَّه في الآية..

ولابدّ أن يكون وعد الله في تصوير الأحنف وأمثاله هو ما يناسب تركيبتهم وكوامنهم وخوفهم من استشاطة السلطان وأنّ السلطان وعد الله يؤتيه من يشاء، فلا يستساغ الاستجابة لمن لا يوقن، لأنّ هذه الاستجابة خروجٌ عن وعد الله، والخروج على وعد الله عاقبته الهلاك الّذي لابدّ منه.

المفاجأة الرابعة: إنّ وعد الله حقّ!

قارن الأحنف هنا بين أمرين:

أحدهما: وعد الله الحقّ.

والآخَر: وعد الّذين لا يوقنون.

إصبر.. ولا يستخفنّك الّذين لا يوقنون.. إنّما يستخفّنّه هؤلاء بما يعدونه من النصرة..

ص: 158

فإذا كان وعد الله حقّاً، فلابدّ أن يكون مقابله وعد الغوغاء الّذين لا يوقنون باطلاً.. اصبر لوعد الله، ولا يستدرجنّك الوعد الباطل..يأمر الإمام (علیه السلام) _ يا لله _ أن يلزم الحقّ ولا يستخفّه الباطل!!!

ألا لعنة الله على الظالمين.

المفاجأة الخامسة: ولا يستخفّنّك!

الاستخفاف: الحمل على الخفّة والجهل.. الإزالة عن الحلم.. الاستهانة.. الاستحقار.. الاستفزاز..

لا يستخفّنّك: أي لا يستجهلنّك.. لا يستفزنّك..

إستخفّ بدِينه: إذا أهانه ولم يعبأ به ولم يعظّم شعائره.. والاستخفاف بالشيء: الإهانة به..

استخفّه عن رأيه واستفزّه عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عمّا كان عليه من الصواب ((1)).

هذا هو معنى الاستخفاف في اللغة..

يُخاطِب الإمامَ (علیه السلام) فيقول: لا يحملك هؤلاء الّذين لا يوقنون على الخفّة!! والجهل!! لا يزيلونك عن الحلم.. لا يستجهلونك.. لا يستهينونك.. لا تستجِبْ لهم؛ لئلّا تؤدّي الاستجابة إلى الإهانة بك.. لا

ص: 159


1- أُنظر: لسان العرب لابن منظور، ومجمع البحرين للطُّريحيّ: خَفَفَ، وانظر أيضاً: مجمع البيان: 8 / 73.

يستحقرونك..

لا يستفزّونك؛ فيحملونك على الجهل، ويزيلونك عمّا أنت عليه منالصواب.. لا يخرجونك من الحقّ الّذي وعده الله إلى الخطأ والباطل الّذي يدعونك له..

إنّا لله وإنّا إليه راجعون! نستجير بالله ونستغفره ونتوب إليه.

المفاجأة السادسة: مَن الّذي يَستخفّ!

سواءً أكان المقصود من الّذين ﴿لَا يُوقِنُونَ﴾ هو ما ورد في كتاب الله العزيز، أو المقصود هو المعنى اللغويّ من الكلمة، بمعنى الفاقد لليقين، سواءً بالإيمان والإسلام والتوحيد والنبوّة والمعاد، أو فاقد اليقين بالموقف وبما يقدِمُ عليه سلوكيّاً وعقائديّاً واجتماعيّاً وغيرها..

سواءً أقصد النهي عن الاستخفاف للكفّار والمشركين والشكّاك، أَم قصد الاستخفاف للّذين لا يوقنون بموقفهم ويشكّكون فيه ويتردّدون، وسرعان ما يخذلون وعلى أعقابهم ينقلبون، فلا يمكن الاعتماد عليه في شيءٍ ولا الركون إليه في المواجهة..

المهم أنّهم لا يوقنون.. يا لَلتعاسة والنحَس.. أنْ يحذّر الأحنف سيّدَ الخلق من الانسياق والاستخفاف لمثل هؤلاء!!!

لا ينهى عن الاستخفاف لقومٍ يمكن أن يستخفّ لهم العاقل اللبيب، ويشكّلون ثقلاً دينيّاً أو اجتماعيّاً، أو يعدّون في الوجوه والأشراف

ص: 160

والشخصيّات والقامات في الصعيد الديني أو السُّلّم الاجتماعيّ.. النهي عن الانسياق لقومٍ لا يوقنون، ولا يفقهون، ولا يعون، ولا يُحسَبون إلّا فيالغوغاء والسفَلة والمذبذَبين..

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم..

نستغفر الله ونتوب إليه من الانسياق مع هذا الكلام البائس التعيس المنحوس المنكود الوقح السليط الصفيق، الّذي يفتقر إلى ذرّةٍ من الحياء، ونعتذر إلى سيّد شباب أهل الجنّة وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإلى جميع الأولياء والمحبّين، غير أنّها ضرورة البحث.

المفاجأة السابعة: الافتراء على سيّد الشهداء (علیه السلام)

إفترض الأحنف _ زوراً وبهتاناً وعتوّاً وطغياناً _ أنّ خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) قد استخفّه الّذين لا يوقنون، وغرّه الّذين لا يعقلون، وهم في غيّهم يتردّدون.. ونصب من نفسه عَلَماً حكيماً عارفاً حاذقاً لبيباً، يمكنه أن يحدّد الموقف ويعيّن التكليف، ويكشف عوار المستخفّين ويستشرف المستقبل، فيأمر الإمامَ أن يصبر ولا ينساق معهم!

ولا ندري على أيّ شيءٍ ارتكن الأحنف ليخرج بهذا التقييم المأفوك المائن الأرعن الأخبل الغبيّ؟!!

كيف استطال وتمرّد حتّى افترض في إمام الحِكمة والعلم ومعدن الصبر والحلم هذا الفرض البارد المهين المطموس المأفون الأهبل؟!!

ص: 161

ومَن قال وزعم أنّ الإمام (علیه السلام) تأثّر بما كتبه القوم واستدعوه؟!!

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن فعله ردّ فعلٍ لمن كاتبه البتّة! وإنّما كان ملاحَقاًمطارَداً هو وأهله وأنصاره، فقصد العراق على علمٍ واضحٍ بيّن، قاصداً القليلَ الديّان الّذي وعده النصرة وثبت..

أمّا الغوغاء والمنافقون ومَن كتب من الخاذلين والخائنين والمتقلّبين، فلم يكن لهم وزن، ولم يعتدّ لهم الإمام (علیه السلام) ، وهو أعرف الخلق بهم.

المفاجأة الثامنة: الكلام مبنيٌّ على ما اعتمده السلطان

عزم السلطان من اليوم الأوّل على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وطلب رأسه في المدينة المنوّرة، وأمر بقتله في مكّة ولو اغتيالاً..

ومنذ تلك اللحظة جعل يسوّغ فعلته، ويبرّر عمله بالنزاع على السلطة، ويزعم أنّه في موقف الدفاع عن المُلك الّذي لا ينازع فيه أحدٌ إلّا أخذ الّذي فيه العينان.

فالأحنف هنا يفترض أنّ الإمام (علیه السلام) ينوي منازعة السلطان والخروج عليه بالمعنى المصطلَح، وأنّه قد استخفّه الّذين لا يوقنون، فأمره بالصبر، والله يؤتي مُلكه مَن يشاء!

أمّا إذا قرأنا المشهد ضمن النظرة الجديدة الّتي عبّر عنها سيّد الشهداء (علیه السلام) في جميع مواطنه ومواقفه، فإنّه مهدَّدٌ مطلوبُ الرأس مهدورُ الدم المقدّس، وإن كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فما معنى الصبر حينئذ؟

ص: 162

قد يُستحسن الصبر ويُبتغى الحِلم والمداراة ما دام في الأمر مخرج، ولو مِثل سمّ الخياط وما دام ثمّة طريقٌ للهواء، أمّا وقد استحكم الطوق وحُوصرالإمام (علیه السلام) من كلّ جانبٍ ومكان، وأطبقَت عليه الأرضُ والسماء جُنداً متكاثفاً يلاحقونه حيثما توجّه وفي أيّ «جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض دخل»، فما معنى الصبر واستعمال المداراة وقد بلغ الأمر الدم؟ هل ثمّة سبيلٌ سوى الدفاع؟!

المفاجأة التاسعة: الأحنف من الّذين لا يوقنون

لو كان الأحنف ممّن يوقن بالله واليوم الآخِر، ويوقن بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) وما ثبت عنه من سيرته وقوله، وممّن يوقن بالمعاد والآخِرة، ويوقن بالإمام ووجوب طاعته، ويوقن بقوله (تعالى): ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ ((1))، وقولِه (تعالى): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ((2))، ويوقن بقوله (تعالى): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ ((3))، وبقوله (تعالى): ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي

ص: 163


1- سورة النساء: 59.
2- سورة المائدة: 55.
3- سورة الأحزاب: 33.

الْقُرْبَى﴾ ((1))، وغيرها من آيات الكتاب الحكيم الكثيرة الّتي اتّفقوا على صدقها بالقطع واليقين على سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وما نزل في أعدائهم وفي بني أُميّة خاصّةً في كتاب الله وبيان رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما لا يقبل الشكّ والتردّد..

لو كان يوقن بما تواتر وتظافر وشاع وذاع حتّى صار في أعلى مراتباليقين من قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) في أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ووجوب طاعته، وإمامة الإمام الحسن والحسين (علیهما السلام) ووجوب طاعتها واتّباعهما..

ولو كان يوقن بما رواه جميع فِرق المسلمين حتّى النواصب منهم من قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»، وأنّهما سبطان، وقوله: «أحبّ اللهُ مَن أحبّ حسيناً»، وغيرها من الأحاديث الّتي لا يُراجع فيها حتّى غير المسلمين فضلاً عن المسلمين..

ولو كان يوقن بما اتّفق عليه المسلمون دون مخالِفٍ _ ولا واحد منهم _ من أنّ الإمام الحسين من أصحاب الكساء (علیهم السلام) الّذي قال فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّهم منه وهو منهم، وأنّه سِلمٌ لمن سالموا وحربٌ لمن حاربوا..

وهكذا غيرها من النصوص القطعيّة الصدور الصريحة الدلالة..

لو كان يوقن بشيءٍ من هذا، ولو بواحدةٍ منها، ولو كان يوقن بما رواه هو نفسه في أمير المؤمنين (علیه السلام) _ كما مرّ معنا _، لَما تجرّأ وخاطب الإمام (علیه السلام) بهذا الخطاب!

ص: 164


1- سورة الشورى: 23.

فهو _ لا شكّ _ مصداقٌ بارز، بل هو أبرز مصاديق الّذين لا يوقنون، وفي غيّهم وضلالهم يتردّدون، وفي مستنقَعات الشكوك يتخبّطون، وفي قيعان الضلالة يركسون، وفي بلاقع فيافي ظلمات الطغيان والتكبّر والتجبّر يتيهون..

فإن كان استعمال الصبر _ ضرورة _ مقابل المستخفّين الّذين لايوقنون، فهو الصبر الّذي ينبغي استعماله مقابل هذا الموجود الّذي لم يعرف اليقين في عمره، ولم يدخل في زمرة الموقنين.

المفاجأة العاشرة: البحث وفق رواية الشيخ ابن نما

كلّ ما ذكرناه تحت عنوان (المفاجأة) مبنيٌّ على ما رواه الشيخ ابن نما في مقام تسجيل موقف الأحنف، وقد تفرّد في رواية ذلك، إذ لم نجد له ذِكراً عند مَن سبقه حسب الفحص.

كما أنّه مبنيٌّ على اعتماد الدلالة الثانية في الوكزة الخامسة، وهو ما يناسب شخصيّة الأحنف وموقفه من سيّد الشهداء (علیه السلام) وخذلانه له، ووقوفه المخزي المُذلّ مع ابن زياد، حتّى في الأيّام الّتي عصفَت فيها رياح التغيير على ابن زياد.

الموقف الثالث: موقف يزيد النهشليّ
اشارة

إبن نما:

وأمّا يزيد بن مسعودٍ النهشليّ، فإنّه أحضر بني تميم وبني حنظلة

ص: 165

وبني سعد، وقال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟ فقالوا: [بخٍ بخ]، أنت فقرة الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسَطاً وتقدّمتَ فرطاً.

قال: قد جمعتُكم لأمرٍ أُشاوركم فيه وأستعينُ بكم عليه. قالوا: نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي.قال: إنّ معاوية هلك، فأهوِنْ به هالكاً ومفقوداً، فقد انكسر باب الجور [والإثم]، وكان قد عقد لابنه بيعةً ظنّ أنّه أحكمها، وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأس الفجور، وأنا أُقسِم بالله قسَماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والعلم والسابقة والسنّ والقرابة، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّته، وإمام قومٍ وجبَت لله به المحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها مع ابن رسول الله ونصرته، والله لا يقصّر أحدٌ عنها إلّا ورّثه الله الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لأمتها وأدّرعت لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمت، ومن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردّ الجواب.

فتكلّم بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبلُ كنانتك وفرسان عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض

ص: 166

واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى والله شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا إذا شئت، فقُم.

وتكلّمَت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياءإلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرنا بترك القتال، فحمدنا رأيه وبقي عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع الرأي ونُحسِن المشورة، ويأتيك خبرنا واجتماع رأينا.

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إن غضبتَ ولا نغضب إن رضيت، ولا نقطن إن ظعنتَ ولا نظعن إن قطنت، والأمر إليك والمعوَّل عليك، فادعُنا نُجِبك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ _ يا بني سعد _ لَئن فعلتموها، لا رفع الله عنكم السيف أبداً ولا زال سيفُكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إلينا كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له من الأخذ بحظّي من طاعتك وبنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرضَ قطُّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خَلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونةٍ أحمديّةٍ هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتُهم أشدَّ تهافتاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها، وقد ذلّلتُ لك بني سعد وغسلتُ درن صدورها بماء

ص: 167

سحابة مُزنٍ حتّى استهلّت برقها فلمع.فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتابَ قال: «ما لَك؟ آمَنَك اللهُ يوم الخوف وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لِما فاته من نصرته ... ((1)).

* * * * *

يمكن تناول هذا النصّ من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: النصّ المختار

ذكرنا فيما مضى أنّ هذا الحدث المجلجل الضخم الهائل ورد عند الشيخ ابن نما، ثمّ نقله السيّد ابن طاووس بأدنى تفاوتٍ وبعض الزيادات الطفيفة في مواضع محدودةٍ غير مؤثرةٍ في أصل الحدَث ولا تفاصيله، وإنّما هي مفرداتٌ وكلمات، لذا اخترنا متن الشيخ ابن نما باعتباره الأصل، وذكرنا الزيادات في مواضعها إن اقتضى البحث ذلك.

الإضاءة الثانية: التعريف بيزيد بن مسعود من خلال النصّ
اشارة

مرّ معنا _ في التلويح الرابع في الأسماء الواردة في المصادر ممّن خاطبه

ص: 168


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

الإمام الحسين (علیه السلام) بكتابه _ الحديثُ عن يزيد بن مسعود، وقلنا هناك: إنّنا لم نجد ليزيد ترجمةً ولا ذكراً في كتب التاريخ والتراجم سوى ما ذكره الشيخ ابن نما، بل حتّى الشيخ لم يعرّف به، ولم يذكر له موقفاً آخَر سوى ما سجّله في مقام الردّ على رسالة الإمام (علیه السلام) .

بيد أنّ النصّ الّذي رواه ابن نما يتضمّن شيئاً من التعريف به تلويحاً أو تصريحاً، كما سنلاحظ من خلال التعريفات التالية:

التعريف الأوّل: قدرته على تحشيد بني تميم وبني حنظلة وبني سعد

أفاد الشيخ ابن نما أنّ يزيد النهشليّ أحضر بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ((1)).

ولا يخفى ما في لفظ «أحضر» من إيقاعٍ وإشعارٍ مجلجلٍ يعلن عن هيمنةٍ تامّة، وقدرةٍ استثنائيّة، وتسلُّطٍ كاملٍ على القوم، فهو لم يدعُهم، ولم ينادِ فيهم، وإنّما أحضرهم.. أمرهم فحضروا..

إنّه لم يستصرخهم، ولم يتوسّل إليهم، ولم يخاطبهم خطاب الراجي، بل استحضرهم فحضروا بين يديه!

وفي ذلك دلالةٌ قويّةٌ على مدى تأثير هذا الرجل في القوم، وخضوعهم له وإذعانهم لأوامره.

ص: 169


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.
التعريف الثاني: ثقته بمنزلته عند القوم

حينما جمع يزيد القوم سألهم: كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟

هذا السؤال من القوم على رؤوس الأشهاد ينمّ عن مدى ثقة الرجل بمقامه ومنزلته عندهم، ويشي بأمرٍ مهمٍّ غايةً في الأهمّيّة يريد أن يفصح عنه، فهو يستدرجهم في البداية ليعترفوا له بمقامه ومنزلته العظيمة عندهم، وبثقتهم المطلقة به، وباعتمادهم على قوله وسكونهم إلى رأيه وارتكانهم إلى زعامته، ثمّ يصرّح لهم بما يريد، ليجرّهم إلى القبول بما يقول بعد إقرارهم واعترافهم له بالوجاهة والشرف والسداد والنصيحة.

وقد سألهم عن موضعه منهم، وعن حسَبه فيهم.. فهو واثقٌ تمام الثقة من هاتين الجهتين، وهما الأهمّ فيما يريد منهم..

ولو كان يحتمل احتمالاً ضئيلاً أنّهم يجبهونه بالإنكار أو يتنكرون له ويعرضوا عنه، أو كان يحتمل أنّ القوم لا يعرفون له منزلةً ولا جاهاً ولا مقاماً، لَما ورّط نفسه وألقى بها في مهاوي التجهيل والتحقير والتصغير.

التعريف الثالث: منزلته عند القوم

ردّ القوم على سؤال يزيد، وأعربوا عن مدى تقديرهم وتعظيمهم له، وعن عظيم منزلته وسموّ مرتبته عندهم، فلا قوام لهم إلّا به، لأنّه فقرة الظهر، وكلّ فخرٍ فيهم فهو راشحٌ من فخره، لأنّه رأس الفخر، وهو مركز الشرف

ص: 170

وقطبه، والمتقدّم عليهم في جميع أُمورهم، وأعلنوا له ولاءَهم، وأنّهم جُنده وكنانته، بهم يصول وبهم يجول، وبهم يقاتل وبهم ينتصر، وهم رهن إشارته، يطيعونه ولا يعصون له أمراً..

- أنت فقرة الظهر.

- رأسُ الفخر.

- حللتَ في الشرف وسطاً.

- تقدّمتَ فرطاً.

- نحن نبلُ كنانتك.

- فرسانُ عشيرتك.

- إنْ رميتَ بنا أصبت.

- إنْ غزوتَ بنا فتحت.

- لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها.

- ولا تلقى شدّةً إلّا لقيناها.

- ننصرك بأسيافنا.

- نقيك بأبداننا.

هذا هو مقامه ومنزلته عند القوم باختصار..

وهنا يرجع السؤال الّذي سقناها في التلويح الرابع: كيف يكون شخصٌمِثل هذا بهذه المنزلة في بني تميم في البصرة، ثمّ لا يذكره التاريخ ولا يعرّج عليه أرباب التراجم، ولم يرد اسمه إلّا في هذا الموقف، وعند الشيخ

ص: 171

ابن نما (رحمة الله) فقط، ولم يسجّل له التاريخ أيَّ موقفٍ قبل ذلك اليوم ولا بعده؟!!

التعريف الرابع: عقيدته

إنّما تعرف عقيدة المرء وكوامنه وما ضمّت عليه جوانحه من خلال أقواله وأفعاله وسلوكه..

وهذا هو النهشليّ يُعلن هنا في خطابه على القوم رأيه في معاوية، وأنّه أهون هالك، وبفقده انكسر باب الجور، وأعلن عن رأيه في يزيد شارب الخمور ورأس الفجور، وأقسَمَ بالله قسَماً مبروراً أنّ جهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين.

كما أعرب بوضوحٍ عن عقيدته في سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه حُجّة الله المفترَض الطاعة، وأنّه الحقّ وغيره الباطل، وذكر لسيّد الشهداء (علیه السلام) مناقباً وفضائل، كما سيأتي في الحديث عن خطابه في القوم بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

وأعلن عن عقيدته في حرب الجَمَل، ووبّخهم على انخذالهم، وحذّرهم غبّ تقاعسهم عن أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .

رجُلٌ يحمل هذا الاعتقاد الناصع الراسخ القويّ.. الاعتقاد الصريحالصحيح الواضح في أهمّ مفارقات القوم يومذاك.. يلزم أن يكون له موقفٌ مشهودٌ في الجمل وصفّين، أو في الجمل على الأقلّ..

ص: 172

ويلزم أن يكون من رؤوس الشيعة وجماجمهم وقاماتهم الّتي أنافت على الثريّا، والّتي تزيح الجبال الرواسي إذا عزمت..

ولو كان هذا الرجل العميد جديدَ عهدٍ في جنان الولاية، فإنّ مثله لا يخفى سابقاً ولاحقاً..

فكيف لا يكون له أيُّ ذكرٍ سابقاً ولاحقاً؟!!

التعريف الخامس: استشرافه للمستقبل وعواقب الأُمور

يفيد تحذيره لبني سعدٍ وغيرهم أنّه قد استشفّ مجريات الأحداث، وعرف عواقب الأُمور، وأدرك أنّ قتل المقدَّس الأعظم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) سيودي بهم إلى الذلّ والهوان وابتذال الدماء، ووقوع الخلاف والشقاق والنفاق فيهم، حتّى لا ينجوا من وقوع السيف بينهم.

وهذا التحذير ينمّ عن مدى قوّة هذا الرجل في تقدير الأحداث، ومعرفة الآثار العظيمة الفتّاكة المدمّرة المترتّبة على قتل حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

الإضاءة الثالثة: مشهد الحوار والمواقف
اشارة

بعد أن استشهد يزيدُ قومَه على نفسه واستنطقهم بالإقرار له بالفضل والمنزلة السامية والافتخار به والطاعة له، أصحر لهم عن الخير الّذي جاءهمبه، فدار بينه وبينهم كلامٌ سنأتي عليه ضمن الكلمات التالية:

ص: 173

الكلمة الأُولى: سبب جَمْعِهم

أخبرهم يزيد عن سبب جمعه وإحضاره لهم، وقد اختصره في أمرين:

الأمر الأول: جمَعَهم لأمرٍ يشاورهم فيه.

الأمر الثاني: الاستعانة بهم على هذا الأمر.

فكان ردّهم على الفور: «نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي» ((1)).

أعلنوا له استعدادهم لبذل كلّ ما بوسعهم من إبداء الرأي بجُهدٍ وجدٍّ وإخلاصٍ وصدق، وأنّهم يبذلونها له ويمنحونه من دون مِنّة، بل بكلّ أريحيّةٍ وارتياح.

الكلمة الثانية: الأمر الّذي دعاهم إليه
اشارة

تطرّق النهشليّ في حديثه مع قومه إلى عدّة نقاط:

النقطة الأُولى: هلاك معاوية

قال:

إنّ معاوية هلك، فأهوِنْ به هالِكاً ومفقوداً، فقد انكسر بابُ الجور [والإثم، وتضعضعَت أركان الظلم]، وكان قد عقد لابنه بيعةً ظنّ أنّه أحكمها ((2))، [وهيهات والّذي أراد، اجتهد واللهففشل، وشاور

ص: 174


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

فخذل] ((1)).

هلك معاوية، فأهوِنْ به هالكاً ومفقوداً.. وبهلاكه انكسر باب الجَور والإثم، وصار الجور عرضةً للاختراق.. وتضعضعَت أركان الظلم، وفقد الظلمُ أساساً مِن أُسسه ومؤسّسيه..

ولمّا كان النهشليّ في مقام تجييش القلوب وحشد العزائم، فقد عرّج على ما فعله معاوية من بذل غاية مجهوده في إحكام عقد بيعة قرده المدلّل يزيد، وسخّف أحلامه في ذلك، واعتبره ظنّاً خائباً واجتهاداً فاشلاً، وكلامه صائبٌ في مثل مقامه..

أمّا إذا أردنا المكث عنده هنيئةً عَجلى، فإنّا نجده مبالغةً تناسب الخطاب التحشيديّ الملتهِبَ الّذي يريد إلهاب المشاعر وتأجيج العواطف وشحذ الهمم، إذ أنّ معاوية فعل فعلته على علم، وضِمن تخطيطٍ دقيقٍ استحوذ فيه على عقول الناس الخاوية وضمائرهم الخائنة ومواقفهم الخائرة.

إنّه عقد البيعة ليزيد الخليع مستعمِلاً جميع وسائل الترهيب والترغيب، وبذل في ذلك الأموال الطائلة، وسفك فيه الدماء وحارب وقاتل، حتّى وطّد له الأمر، وجعل الرقاب خاضعةً خانعةً له، وعجز عن أخذ البيعة عن أشخاصٍ معدودين لا يتعدّى عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وكان العَلَمُالأعظم والممتنِع الأعزّ الأمنع هو سيّد شباب أهل الجنّة الإمام

ص: 175


1- ما بين المعقوفَين من (اللهوف) للسيّد ابن طاووس: 38.

الحسين (علیه السلام) .

أمّا سائر الناس وجميع الأصقاع والبلدان، فقد تذلّلَت وركعَت، وبقيَت على وفائها للبيعة البائسة، وقد سارع الناس في بلدانهم إلى تجديد البيعة حين بلغهم خبر هلاك معاوية ((1)).

حتّى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) فإنّه لم يُجدّد موقفاً بعد هلاك معاوية، فهو قد امتنع عن البيعة ليزيد الخمور في حياة معاوية، وبعد هلاك معاوية لم يُحرّك ساكناً حتّى بعث يزيدُ بكتابه يطلب بيعته أو رأسَه في الكتاب الأوّل، ثمّ رجع عن طلب البيعة واقتصر على أن يبعث الوالي برأس ريحانة النبيّ الحسين (علیه السلام) مع جواب الكتاب الثاني ((2))، وقد أتينا على بيان ذلك مفصَّلاً في (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) وفي غيرها من المواضع.

أجل، تضعضعت أركانُ الظلم وانكسر باب الجَور بهلاك وثنٍ من

ص: 176


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، حياة الحيوان للدميريّ: 1 / 91، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 207، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، المحموديّ: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، وانظر: الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 312.

أوثانها، بَيد أنّ أبواب الظلم والجَور الّتي ارتكبت الجنايةَ العظمى في تاريخ البشريّة انفتحَت، فأتت على نسل النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستأصلت شأفتهم منجديد الأرض، لولا أنّ الله يأبى إلّا أن يُتمّ نوره.

النقطة الثانية: استخلاف يزيد

قال:

وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأسُ الفجور ((1)) يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع قصر حِلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمَيه ((2)).

سقط وثنٌ وهلك، وقام وثنٌ آخَر وانتصب، ولم تكن ثمّة فوارق بين الأوثان، إلّا في بعض التفاصيل والقدرة على استعمال ألاعيب السياسة والرعونة.. وإن اختلفوا كلّ الاختلاف، فإنّهم جميعاً اتّفقوا يداً واحدةً على قتل الرسول وآل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ومحو كلّ أثرٍ يمكن أن يذكّر بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) .

هلك معاوية، وقام يزيد..

وصف يزيدَ بصفاتٍ لم تفارقه يوماً.. فهو شارب الخمور، ورأس الفجور والخلاعة والابتذال والمجون..

وفي لفظ السيّد ابن طاووس:

ص: 177


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.

ادّعى الخلافة على المسلمين.. يتأمّر عليهم بغير رضىً منهم..لقد تأمّر على الأُمّة وهو لا يتحلّى بأدنى مؤهّلات الحاكم، فكيف يكون خليفة؟ فلا حلم، ولا علم، ولا معرفة بالحقّ بتاتاً!

ومثل هذا لا تحتمله الرجال، ولا تصبر عليه، ولا تقبل به حاكماً وسلطاناً، لو كانوا يعقلون!

وهنا أيضاً نقول: إنّ في كلامه مبالغةً تناسب المشهد الخطابيّ الّذي قام به، وإلّا فإنّ الناس عَبيدُ الدنيا، والدنيا بيد يزيد يومها، فهم عبيد مَن بيده دنياهم، وقد بايعوا وثبتوا على بيعتهم في جميع الأمصار والبلدان، سوى ما حصل في الكوفة من الأمواج المتهاودة الواهية الّتي انقلَبَت على نفسها لأوّل حصاةٍ اصطدمت بها.

لقد رأينا الأمصار والبلدان كلَّها سامدةً هامدةً ميّتةً خانعةً خاضعةً مذلَّلةً ذليلة.. جُثّةً خامدةً لم تُحرّك يداً ولا رِجلاً، ولم تنبس بكلمة، ولم يُشاهَد في سَحَرِها نَفَس، وقد قُتل وديعةُ الله ووديعة رسوله (صلی الله علیه و آله) بين ظهرانيهم وهم ينظرون، بل كانوا يتقرّبون إلى الله بدمه ويسمّونه خارجيّاً.. وهذا ما يفيد اجتهادهم في طاعة الوثن..

أمّا من يقول سوى ذلك، فعليه أن يذكر لنا الشاهد ويسوق لنا الدليل!

من أيّ شيءٍ يمكن أن نكتشف عدم رضاهم بتأمُّر يزيد، وقد اصطفّوا في صفّه بإزاء سيّد الكائنات وسيّد شباب أهل الجنّة، الّتي يزعمون أنّهم يبغونها؟

ص: 178

أمّا أن تفلت كلمةٌ من رجُلٍ في كهف هذا الوادي وكلمةٌ من ذاكفي تلك المغارة، أو يفوه متذمِّرٌ من أذناب السلطان هنا، أو يُعرِب رجُلٌ لزقٌ بأسن الوالي هناك، فهذا لا يحكي موقف الأُمّة ولا يرسم مشهد المجتمع!

النقطة الثالثة: الموقف من يزيد

وأنا أُقسِم بالله قسَماً مبروراً، لَجهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين ((1)).

بعد أن ذكر يزيد بصفاته الذميمة القبيحة، وتهوّره ومجونه ومعاقرته الخمر ممّا يمنعه من الانتزاء على أعواد المنبر، أعلن عن موقفه بصراحةٍ فيما يجب عليه أن يفعله، وتكليفِه الّذي اقتنع به، وصفِّه الّذي انحاز إليه..

لم يكتفِ بالإعلان، وإنّما أقسم بلفظ الجلالة، وهو أبلَغُ الأَيمان، وأكّد قسَمَه بذِكر مفردة «أُقسِم»، وتأكيدها بالمفعول المطلَق «قسَماً».. وأكّد كلّ هذه التأكيدات بصحّة قسمه، وأنّه مبرورٌ لا يخاف فيه حنثاً ولا إثماً.. وأكّد مرّةً أُخرى باستخدام (لام التأكيد) في قوله: «لَجهاده»، ثمّ بيّن أفضليّة جهاد يزيد على الدين على جهاد المشركين..

وبهذا كشف لهم عن الأسباب والمسوّغات الكافية المقنعة، والأدّلةِ القاطعة الدامغة الّتي ارتكن إليها واستند عليها لاتّخاذه هذا الموقف،

ص: 179


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

واعتقادِه وجوب محاربة يزيد وتفضيله على جهاد المشركين.

فشحذ الهِمَم وأوغر الصدور على يزيد المخمور، ثمّ انعطف في كلامه ليحدّثهم عن الطُّهر الطاهر والإمام المعصوم أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .

النقطة الرابعة: ذكر الإمام الحسين (علیه السلام)

وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والعلم والسابقة والسنّ والقرابة، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّته وإمامَ قوم، وجبَت لله به المحجّة وبلغت به الموعظة ((1)).

وفي لفظ ابن طاووس:

وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يُوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّةٍ وإمام قوم، وجبَت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة ((2)).

الصفات الّتي وصف بها سيّدَ الشهداء (علیه السلام) :

- ذو الشرف الأصيل.

ص: 180


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.

- ذو الرأي الأثيل.

- له فضلٌ لا يُوصَف.

- له علمٌ لا ينزف.

- له سابقة.

- له سابقة السنّ.

- له السابقة.

- له القرابة.

- هو أَولى بهذا الأمر.

- يعطف على الصغير.

- يحنو على الكبير.

- أكرِمْ به راعي رعيّته.

- أكرِمْ به إمامَ قوم.

- وجبَت لله به الحجّة (المحجّة).

- بلغت به الموعظة ((1)).

مَن يعرف هذه الصفات في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في ذلك اليوم، يُعَدّ على مستوىً من الإيمان والمعرفة، ويلزم أن يكون من ذرى المؤمنين المعاصرين في زمن المحنة والفتن.. ولكلّ واحدةٍ من هذه الصفات مجالٌ

ص: 181


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.

فسيحٌ وميدانٌ واسعٌ للحديث، نتركه تجنُّباً للإطالة.

إنّه ساق لهم يزيد الخمور ووصفه، ثم عرّفهم بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومَن ذا يقارن بين ابن ميسون العاهر وهند داعرةِ السفاح وآكِلةِ الأكباد ونادلة حانات الخمور، وبين ابن الطُّهر الطاهرة البتول سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ؟!

مَن ذا يقارن بين سليل البغاء أبي سفيان ومعاوية، وبين ابن سيّد البشر وخاتم النبيّين وابن سيّد الوصيّين ونور الأنوار؟!

بيد أنّها الدنيا الّتي جرّت الدواهي على آل الله، حتّى صاروا يُقرنوا إلى هذه النظائر!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فهل كان لكلام ابن مسعود النهشليّ من أثر؟ سنرى بعد قليل.

النقطة الخامسة: النتيجة والتحذير

فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذَل بكم يوم الجَمَل، فاغسلوها [بخروجكم] مع ابن رسول الله ونصرته، واللهِ لا يقصّر أحدٌ عنها إلّا ورّثه الله الذلّ في وُلده والقلّة في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لأمتها وأدّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردَّ الجواب ((1)).

ص: 182


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

الآن وقد بيّن لهم ابن مسعودٍ ما ينبغي بيانه وزيادة، دعاهم إلى استعمالالبصيرة والعقل، والتفكُّر في دِين الله، والتدبُّر في مآلاتهم وعواقبهم، فنهاهم أن تغبش أبصارهم وتعشوا عن نور الحقّ.. والنور أبلَجُ متألّقٍ متلألئٍ ناصعٍ لامعٍ ساطعٍ لا يخفى على أحد، إنّما تكلّ الأبصارُ الّتي لا تنظر بالبصيرة عن رؤيته وتعشوا عنه..

ومَن عشى عن نور الحقّ تسكّع في وهدة الباطل، وتحيّر في هوّة الأضاليل، وهوى إلى قاع الجهل، وتخبّط في قرارة الشكّ وأغواره.. وليس لهم بعد أن سمعوا ما يدلّهم على نور الحقّ أن يجثموا في دياجير الظلمات..

«فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل» ((1))..

سيّما أنّهم قد جرّبوا ذلك قبل سنواتٍ لم تكن مديدة.. إذ أنخذل بهم صخر بن قيسٍ يوم الجَمَل، فخسروا الاصطفاف في صفّ الحقّ وأهله، وذاقوا وبال أمرهم، وسجّلوا على أنفسهم وذرّيّاتهم عاراً وشناراً لا تمحوه الأيّام ولا تنسيه السنون..

إلّا أن يغسلوا فعلتهم المتخاذلة بخروجهم إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته.. فحينئذٍ يرفعوا عن أنفسهم إصر خذلان الأمس، ويثقّلون أوزانهم وأحسابهم بنصرة الحقّ وأهله..

فإن أبوا إلّا الإخلاد إلى الأرض، والتثاقل والانغماس في أوحال

ص: 183


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

العيش، والتقلّب في طين الشهوات الآسِن، واختاروا التقصير، فإنّ لهمعاقبةً سوأى تنتظرهم، لا يفلت منها أحدٌ منهم..

أقسم ابنُ مسعودٍ على ذلك بالله..

إنّها وراثةٌ قبيحةٌ منكرةٌ بغيضةٌ ذميمةٌ شنيعةٌ سيورّثها اللهُ أولادهم، فلا تمحوها صروف الأيّام، ولا تفرج بعده ضرّاء، ولا تتّسع ضائقة..

سيورّثهم الذلّ في أولادهم، داهيةً تنزل بكلّ فردٍ فردٍ منهم.. وداهيةً أُخرى لا ينبت بعدها شعرٌ على رؤوسهم.. القلّة في العشيرة..

مَن يخذل منهم إنّما يريد أن ينجو بنفسه وبوُلده، ويبقى في عيشه الرغيد ودَعَته الوادعة.. والحال أنّه سيحصد ثمرةً تأتي بالضدّ من مراده وهواه.. سيقلّ العدد بالخذلان ولا يزداد، بل يضمحلّ وينحسر ويبيد، ويتناقص ويتراجع ويتقهقر..

وسيقضي هو وأولاده بقيّة الدنيا أذلّاء خاسئين، تحكم فيهم القرود وجراؤها.. ويلعقون دمنها في أُصول أذنابها ذُلّاً وهواناً..

إنّه تنويهٌ عميق.. ما يفعله الآباء سيحصده الأبناء!

ثمّ جعل يعظهم موعظةً تمتدّ جذورها إلى كلمات سادات الخلق، ويتصلّ سلسلها بكلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ..

فقد وُلد الإنسان ليموت.. «لِدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا

ص: 184

للخراب» ((1)).. ودخل الدنيا ليخرج منها، وليس في هذه الدنيا مستقرٌّ لأحَد.. فالإنسان مقهورٌ بالموت.. وله أن يختار أن يُقتَل حُرّاً أو يموت حتف أنفه على فراشه، فلا يبخلنّ أحدٌ بنفسه، فإنّه إنْ أفلت من القتل أدركه الموتُ ولو بعد حين.. وسوف لا يطول الحين، إن هي إلّا سنين.. ثمّ إلى الموت الّذي لابدّ منه..

ومَن هرب من القتل لم يفت ملَك الموت الّذي له بالمرصاد، ولو كان في بروجٍ مشيّدة..

ثمّ أعلن عن موقفه الشخصيّ ليشدّ عزائمهم، ويثير شيَمَهم وغَيرتهم، ويجيّش في نفوسهم الأحاسيس، ويملأ قلوبَهم بالإرادة والإقدام، فأخبرهم أنّه قد اعتدّ بعدّته ولبس للحرب لامته وادّرع للوغى بدرعه..

وبعد ذلك كلّه استنطقهم ليسمع منهم الجواب، وحثّهم على الردّ بالحسنى، والإعراب عن الاستجابة بالقبول والرضى، ودعا لهم أن يغمرهم الله برحمته..

وانتظر الجواب.. فانطلقوا يجيبون على الفور..

الكلمة الثالثة: كلام بني حنظلة

فتكلّم بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسانُ عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض

ص: 185


1- نهج البلاغة: 493 _ بتحقيق: صبحي الصالح، وانظر: الكافي للكلينيّ: 2 / 131 ح 14.

واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا، إذا شئتَ [فافعل]، فقُم ((1)).

إنبرى بنو حنظلة معظّمين مكرّمين له، فخاطبوه بكنيته: «يا أبا خالد»..

أخبروه أنّهم طوع إرادته.. أنّهم خزينُه من النبل، يرمي بهم مَن يشاء، كيف يشاء، ومتى شاء، وأنّى شاء.. وأنّهم فرسان عشيرته ومقاتيلهم ومحاربيهم، فهم سيوفٌ بتّارة، تُشهَر إذا شهرها، وتُغمَد إذا أغمدها..

إنّهم نبالٌ ذكيّةٌ، عاليةُ الدقّة فائقة التصويب لا تخطئ، إنْ رمى بها أصاب.. وعساكِر مدجَّجةٌ مدرّبةٌ جاهزة، لا تُقهَر ولا تنهزم، فمتى غزا بها فتح.. يتبعونه ويسلكون أيّ وادٍ سلك، ولو خاض بهم الغمرات.. لا يخذلونه، ولا يتركونه، ولا يُسلِمونه.. يواسونه في كلّ شدّةٍ فيتلقّونها.. ينصرونه بأسيافهم، ويدرؤون عنه سُمر العوالي والمخاطر، ويجعلون أبدانهم وقاءً له..

إذا شئتَ فافعل وقُم.. ونحن جاهزون مستعدّون لخوض اللُّجج وبذل المُهج!

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

وسنسمع بعد قليلٍ جواب (لكن) هذه!

ص: 186


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
الكلمة الرابعة: كلام بني سعد

وتكلّمَت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرنا بترك القتال، فحمدنا رأيه وبقي عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع الرأي ونُحسِن المشورة، ويأتيك خبرنا واجتماع رأينا ((1)).

ثمّ تكلّمَت هذه الطائفة.. فأعربَت عن مدى احترامها وتقديرها وتعظيمها لابن مسعود، خاطبوه بكنيته: «يا أبا خالد»، وأخبروه أنّ أبغض الأشياء إليهم خلافُه والخروجُ عن رأيه.. فطاعتُه محبوبة، والتزامُ رأيه محبوب، ومتابعته محبوبة، وهو في السنام الأَعلى والذروة..

ولكنّهم يختلفون معه في تقييم الأُمور، فما رآه في انخذال صخر بن قيسٍ وطاعتهم له في ترك القتال يرونه خيراً بزعمهم، وأنّه قد أبقى عليهم، وأبقى فيهم عزّهم!

فهم لا يرون ما يراه ابن مسعود.. يرون رأي صخرٍ حميداً.. ويرون العزّ في بقائهم كيف ما كان.. ويرون ترك القتال في جانب الحقّ مأثرة.. ويرون العزّ في الدنيا وإن كانت ذليلة.. ويرون الرعي في غابات القرود _ كالديدان الّتي تلتفّ على بعضها وتقتتل على الجيفة _ حياةً.. ويرون الصراط _ الّذي يمكنهم سلوكه في منعطفات الأيّام والسنين _ بعيونٍ حولاء تدمج الصورة،

ص: 187


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

فتوحّد الحقّ والباطل في مشهدٍ واحد مهزوز!

وقد كان صخر بن قيسٍ أمرَنا بترك القتال، فحمدنا رأيَه وبقي عزُّنا فينا.

فهم من جهةٍ يعظّمون لابن مسعود مقامه ويحترمون رأيه.. ومن جهةٍ يرون خلاف رأيه، ويحمدون رأي مَن أمرهم بترك القتال.. فاختاروا المجاملة والمداراة والتنصُّل والإفلات بما لا يُخرجهم من دائرة الطاعة الظاهرة والمجاراة والمسايرة في الأعراف القبَليّة والعشائريّة.. فطلبوا منه الإمهال حتّى يراجعوا الرأيَ ويُحسنوا المشورة، ويتريّثوا في اتّخاذ القرار ولا يتعجّلوا الأمر، ويبتّوا في ذلك الاجتماع.. ثمّ يخبرونه بخبرهم وما سيجتمع عليه رأيهم..

ومَن يسمع كلامهم يعرف على ماذا سيجتمع رأيهم.. فلْيقعدوا مع القاعدين، ولْيقولوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ((1)).. أخلدوا إلى الطين بأمر صخر بن قيس، وانطمسوا في الوحل يومهم هذا!

الكلمة الخامسة: كلام بني عامر بن تميم
اشارة

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إنْ غضبتَ ولا نغضبُ إن رضيت، ولا نقطن إنْ ظعنتَ ولا نظعن إنْ قطنت، والأمر إليك والمعوَّل عليك، فادعُنا

ص: 188


1- سورة المائدة: 24.

نُجِبْك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت ((1)).

إنبرى بنو عامر بن تميم ليُعربوا عن مدى ثقتهم وطاعتهم لأبي خالد، وتفاخروا وتبجّحوا وتشامخوا زهواً ومباهاةً واعتزازاً أنّهم أبناء أبيه.. أنّهم منه وأنّه منهم.. أنّهم في الشجاعة والإقدام والالتزام كما هو ابن مسعود، لأنّهم ينتمون إلى أبٍ واحد، وهو الأب الّذي تنتهي إليه المفاخر.. هكذا..

جعلوا أنفسهم في طوعه وطاعته.. وحدّدوا صفّهم في صفّه.. يرضون إذا رضى ويغضبون إذا غضب.. ويدورون معه حيثما دار في مواقفه وعواطفه ومشاعره وأحاسيسه وخلجات نفسه وجيّاشات صدره..

لا يقرّ لهم قرارٌ إن رحل، ولا يتوطّنون إن ظعن.. إن قطن قطنوا، وإن توطّن توطّنوا.. فهم يتبعونه، لا يفارقونه، ولا يهمّهم بعد ذلك كلاءٌ ولا ماءٌ ولا دَعةٌ ولا رخاء..

سلّموا أمرهم إليه، وجعلوه أَولى بهم من أنفسهم، وألقوا بكَلّ مسؤوليّتهم عليه، فعليه المعوَّل وإليه الارتكان..

يأتمرون بأمره، ويسلّمون له.. إذا دعاهم أجابوا، وإذا أمرهم أطاعوا.. وعادوا مرّةً أُخرى ليؤكّدوا له أنّ الأمر إليه، ما حكم فيهم وما اتّخذه لهم من قرارٍ فهو أَولى بهم من أنفسهم! يفعل فيهم ما يشاء.. «والأمر لك إذا شئت» ((2)).

ص: 189


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

ولكن!

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

أوَ ليس قد جعل اللهُ ورسولُه (صلی الله علیه و آله) هذه الطاعة على العباد وعلى هؤلاء القوم لأمير المؤمنين وذرّيّته المعصومين (علیهم السلام) ؟

أوَ ليس قد جعل الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أميرَ المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) أَولى بالناس من أنفسهم؟

أوَ ليس قد افترض الله طاعتهم على العباد؟

أوَ ليس قد قرن الله طاعةَ أمير المؤمنين (علیه السلام) بطاعته وطاعةِ رسوله (صلی الله علیه و آله) ؟

أوَ ليس قد جعل النبيُّ (صلی الله علیه و آله) الحقَّ يدور مع عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) حيثما دار؟

أوَ ليس.. وألف أوَ ليس..

إنّهم تركوا ذلك كلّه، وجهلوه أو تجاهلوه، ولم يحرّك فيهم شعرة، ولم يرفّ لذلك منهم جفن..

أعرضوا عن وجه الله والمعصوم الكامل الّذي لا يزلّ ولا يذلّ ولا يخطأ.. وجعلوا كلَّ ما له لرجُلٍ من خلق الله، مهما كان مؤمناً، إذ لا يُقارَن بغبار أقدام سيّد الوصيّين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) !

ص: 190

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

لم نسمع من أحدهم اسمَ سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

لم نسمع أنّهم فزعوا واجتمعوا لينصروا حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) وريحانته..

لم نسمع أنّهم تناهضوا وهاجَت مراجل الغَيرة في قلوبهم على عرض النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبطه..

لم نسمع أنّهم تدفّقَت الدماء في رؤوسهم، وانطلقت حناجرهم تهدر بالصراخ لاستصراخ سيّد الكائنات في عصرهم..

لم يذكر أحدهم حتّى اسم (الحسين (علیه السلام))!

كأنّ ابن مسعودٍ يستنهضهم لنفسه، ويستصرخهم لأمره.. كأنّهم لم يعرفوا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، وإنّما عوّلوا على ابن مسعود، فارتضوا ما ارتضى وغضبوا لما غضب..

كأنّهم لم يعرفوا يزيد الخمور، وإنّما عوّلوا على ابن مسعود، فقرّروا الرحيل معه إلى حيث يرحل، وأن يغضبوا على مَن يغضب، ويقطنوا إن قطن..

فإذا رضيَ ابنُ مسعودٍ عن يزيد رضوا به، وإذا غضب على الإمام الحسين (علیه السلام) غضبوا عليه.. وإذا ظعن لقتال الإمام الحسين (علیه السلام) ظعنوا معه،وإذا قطن واسترخى عن نصرته قطنوا واسترخوا..

إنّها هبّةٌ قبليّةٌ مدوّيةٌ خاوية.. وهياجٌ لعواطف موحشةٍ وغليانٍ باردٍ

ص: 191

في خلاءٍ مهجور.. لا ذِكر لله فيه، ولا ذِكر لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولا ذِكر لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. تمطٍّ ممدودٍ لأبناء الأب!

خرج أنصار الإمام الحسين (علیه السلام) وأهلُ بيته لولائهم الخالص المتمحّض لإمام زمانهم سيّد الشهداء (علیه السلام) بالذات.. ولم يخرج واحدٌ منهم تبعاً لقومه وقبيلته، وانصياعاً لشيخه العشائريّ..

طلّقوا نساءهم، وأفلتوا من عشائرهم، وتحرّروا من قبائلهم، وامتطوا الليل والكتمان والسرّيّة، وتسرّبوا وانسلّوا، حتّى بلغوا حريم المحبوب، فدخلوا ساحة القدس الإلهيّ..

شيخهم هو سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .. له الولاء.. أحبّوه فأطاعوه، فدفعوا عنه، وارتضوا لدنياهم الفناء لينعموا بجواره في دار البقاء..

أمّا هؤلاء القوم، فلا يبدو من كلامهم أنّ لهم أدنى معرفةٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) ..

أجل، هم يعرفون ابن مسعود، ويعوّلون عليه، ويتّبعونه مهما كلّفهم الأمر.. والظاهر من هذا القدر الوارد في التاريخ أنّ تبعيّة (بني تميم) إنّما هي تبعيّة أفراد القبيلة لشيخها، لا أكثر!

وكربلاء تختلف تمام الاختلاف عن المشهد في صفّين والجَمَل.. لاتنفع فيه الولاءات القبَليّة، ولا الوشائج العشائريّة؛ لأنّ المطلوب فيها رأس الحسين (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء.. المطلوب فيها الدفاع عن عرض

ص: 192

رسول الله (صلی الله علیه و آله) آل الله.. فلابدّ من ولاءٍ خاصٍّ وحُبٍّ خاصٍّ لشخص سيّد الشهداء (علیه السلام) يؤهّل الرجُل لبذل الغالي والنفيس في الدفاع!

وزعيمهم هذا _ جزاه الله خيراً _ يعرف الإمام الحسين (علیه السلام) كما يبدو من كلامه.. وهو معروفٌ عندهم، ولولا ذاك لَما سلّموا له تسليماً.. بَيد أنّه غير معروفٍ في التاريخ سوى بما رُوي عنه في هذا الموقف!

الكلمة السادسة: ردّ يزيد على بني سعد

فقال: والله _ يا بني سعد _ لَئن فعلتموها، لا رفع الله عنكم السيف أبداً ولا زال سيفُكم فيكم ((1)).

أنعمَت في الردّ بنو حنظلة وبنو عامر، وتلكّأَت بنو سعد.. فكان الردّ من ابن مسعود على بني سعدٍ خاصّة..

ردّ عليهم، وأتاهم من حيث هم.. ردّ عليهم في النقطة الّتي ركّزوا عليها، واتّخذوها ذريعةً للتريُّث والتنصُّل..

إنّهم إنّما امتنعوا وتوقّفوا وحمدوا رأي صخر بن قيسٍ بتركهم القتال ليبقوا.. ليبقى فيهم عزُّهم كما يزعمون.. فأخبرهم بمآل أمرهم وعاقبتهم الوخيمة الّتي تنتظرهم إنْ هم اختاروا ترك القتال والوقوف على الحياد..إنّهم إن فعلوها سوف لن يرفع الله عنهم السيف أبداً.. ويعمل فيهم أسيافهم هم.. «ولا زال سيفكم فيكم».. فسيكونون أكلةً سهلة، يقتل

ص: 193


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

بعضهم بعضاً، ويفتك بعضهم ببعض، يقتلهم القاصي والداني والقريب والبعيد.. فلا يزالون أذلّاء خاسئين خاضعين خانعين، يتخطّفهم الناس، ويتخطّف بعضهم بعضاً، وهم لا يدفعون ولا يأمنون.. فلا عزّة ولا كثرة، ولا بقاء ولا امتداد، ولا دعة ولا راحة، ولا دنيا ولا آخِرة.. فبئس مثوى الظالمين..

هدّدهم تهديداً مزمجراً، وخوّفهم من عاقبةٍ مدويّةٍ تُغرقهم في غمراتٍ لا نهاية لها.. إنّهم سوف لن يفلتوا من السيف، ولا تكون لهم بقيّة.. يا لَها من أيّامٍ رهيبةٍ فظيعة، ومستقبلٍ قريبٍ مُخيفٍ مُرعبٍ مدمّرٍ مريعٍ شنيع..

* * * * *

بهذا قد قضى ابن مسعود النهشليّ ما عليه، إذ خطب فيهم وتركهم في تيّارات الأحاسيس المتدفّقة وأمواج الحماس العاتية، ينقّزون وينطّون ويتوثّبون ويتقافزون، كأنّ أحدهم يريد أن يطفر أسوار الزمان، ويتخطّى عوائق الأيّام، ويطوي المسافات، ويطير بكلّ جناحٍ حتّى يقع بين يدَي مَن أمرهم بنصرته.. وليس المهمّ من هو!!!

ومَن امتنع منهم وتوقّف، فقد وعظه وخوّفه وهدّده، ودعاه للتي هي أقوم، فإنْ أبى فقد خسر خسراناً مبيناً، وانقلب على حظّه ودنياه وآخرته..ربّما استجاب له بنو سعد، لِما سنسمع في كتابه إلى الإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 194

الإضاءة الرابعة: كتاب يزيد النهشليّ إلى الحسين (علیه السلام)
اشارة

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إلينا [خ ل: إليّ] كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له من الأخذ بحظّي من طاعتك و[الفوز] بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرضَ قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خَلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتُم مِن زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتُهم أشدّ تهافتاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها [خ ل: خَمسها وكظّها]، وقد ذلّلتُ لك بني سعدٍ وغسلتُ درَنَ صدورها بماء سحابة مُزنٍ حتّى استهلّت [خ ل: استهمل] برقها فلمع ((1)).

الآن وقد وعده مَن وراءَه، وأعلن له بنو حنظلة وبنو عامر عن الاستعداد التامّ الكامل المطلق دون قيدٍ أو شرط، واطمأنّ لهم.. انطلق برضىً وطيب خاطر.. وذلّل له بني سعدٍ وغسَلَ درَنَ صدورها _ حسب ما ورد في خطابه لسيّد الشهداء (علیه السلام) _.. كتب واثقاً حازماً، مستقبِلاً الأمر استقبالاً إلى سيّدالشهداء (علیه السلام) .

ويمكن أن نستجلي ما في الكتاب من خلال المعلومات الّتي ساقها فيه:

ص: 195


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
المعلومة الأُولى: إعلان وصول الكتاب

بعد البسملة، أخبر ابنُ مسعودٍ إمامَه (علیه السلام) بوصول كتاب الإمام (علیه السلام) إليه، وقد ورد بلفظ الجمع في نسخة ابن نما، وبلفظ المفرد في نسخة السيّد ابن طاووس، وهو أوفق بالسياق.

وعلى فرض لفظ الجمع (إلينا)، فربّما كان يريد إخبار الإمام (علیه السلام) بوصول الكتاب إلى جميع مَن أرسل إليهم سيّد الشهداء (علیه السلام) وخاطبهم، ومن البعيد جدّاً لرجُلٍ مثل ابن مسعودٍ بما أعرب عن معرفته وتقديسه للإمام (علیه السلام) أن يخاطبه بنسبة الجمع لنفسه تعظيماً.

المعلومة الثانية: دعوتُه فوزٌ له

ثمّ فصّل ما بعد ذلك، فاختصر ما فهمه من كتاب الإمام (علیه السلام) وما يريده منه، وجعلها كلّها دعوةَ خيرٍ مطلقة.. فأطلق على ما ورد في الكتاب (ندب)، وهو دعوةٌ للأمر المطلوب، سيّما إذا اتّشح الأمر بوشاحٍ شرعيٍّ وتلوّن بلون الشريعة.

وأرجع نفع الدعوة إلى نفسه، فهي دعوةٌ للأخذ بحظّه في طاعة الإمام (علیه السلام) ، فهو حظّه.. ودعوةٌ للأخذ بنصيبه في نصرته، فهو نصيبه.. فاستجابته للإمام (علیه السلام) تؤدّي أثرها في خدمة الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّها هي الفوزالأعظم الّذي سيناله..

ص: 196

المعلومة الثالثة: تعليل الاستجابة والفوز

يُشعِر العطف ب-- (بالواو) و(إنّ) أنّ ما يليها تعليلٌ لِما سبقها، فهو أجاب الإمام (علیه السلام) وبذل نفسه في طاعته لِما يلي:

- إنّ الله لم يُخْلِ الأرضَ قطُّ مِن عاملٍ عليها بخير.

- إنّ الله لم يُخْلِ الأرضَ قطُّ مِن دليلٍ على سبيل نجاة.

- إنّ أهل البيت (علیهم السلام) _ والإمام الحسين (علیه السلام) منهم _ حُجّةُ الله على خَلقه.

- إنّ أهل البيت (علیهم السلام) _ والإمام الحسين (علیه السلام) منهم _ وديعةُ الله في أرضه.

- إنّ أهل البيت (علیهم السلام) _ والإمام الحسين (علیه السلام) منهم _ تفرّعوا من زيتونةٍ أحمديّة، النبيّ (صلی الله علیه و آله) أصلها والإمام الحسين (علیه السلام) فرعها.

إنّها معارف لا يرقى إليها إلّا الراقي من البشر في مِثل تلك الأيّام وفي كلّ الأيّام.. أنْ يعتقد ابنُ مسعودٍ أنّ الله لا يُخلي أرضَه من حُجّة، أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنّ أهل البيت (علیهم السلام) هم حُجّة الله على خَلقه، فهو _ إذن _ من المؤمنين المعتقِدين، الّذين يتوسّطون في أعماق الإيمان ويتسنّمونأعالي ذُراه..

وكيف لا يُجيب، وهو يعتقد في الإمام (علیه السلام) حُجّة الله، ويعتقد فرضَ طاعته، ويعتقد أنّه الدليل على سبيل النجاة؟!

وكيف لا يدفع عنه، وهو يعتقد أنّه وديعة الله، ووديعة رسوله (صلی الله علیه و آله) عنده؟!

وكيف لا يذبّ عنه، وهو يراه فرع الزيتونة الأحمديّة المتّصلة بأصلها؟

ص: 197

فالدفاع عنه دفاعٌ عن الأصل!

المعلومة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام)

بعد هذه المقدّمة الرائعة الأخّاذة الجميلة المُشرِقة الوضّاءة، تقدّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليدعوه.. فقال: «فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر».. وتفاءَل بمجيء الإمام (علیه السلام) أروع تفاؤل، ودعا له أن يكون قدومه المبارك مقروناً بأسعد طائر..

ولكن، هذه الدعوة إلى أين؟

«فأقدِمْ».. إلى العراق؟ إلى البصرة؟ إلى الكوفة؟

«أَقدِمْ» على ما اخترتَه؟ «أقدِمْ» على محاربة العدوّ؟

ربّما كان ابن مسعودٍ قد دعا الإمام (علیه السلام) للإقدام إلى البصرة؛ إذ لم نقرأ في كتابه ما يفيد أنّه قد عزم على الخروج إلى مكّة أو إلى الكوفة، ولم يُفِد أنّه مستعدٌّ للتحرّك بقومه من بني تميم إلى حيث يأمره الإمام (علیه السلام) التوجُّهإليه..

ولم نسمع في كلامه مع قومه أنّه قد عزم على الخروج إلى الإمام (علیه السلام) ، أو التوجُّه إلى جهةٍ ما يأمره بها الإمام (علیه السلام) ، وإنّما أخبرهم عن استعداده وعزمه على الحرب والقتال.. «لبستُ للحرب لأمتها وأدّرعتُ لها بدرعها»..

وقد أكّد للإمام (علیه السلام) في هذا المقطع من كتابه _ كما سنسمع بعد قليل _ أنّه قد أعدّ قومه وذلّلهم له، وجعلهم طوع إرادته وأشدَّ تهافُتاً في طاعته..

ص: 198

لا أكثر..

وربّما كان هذا التصوُّر نفسه قد أدّى إلى التأخير وإطالة الفترة حتّى استُشهد الإمام (علیه السلام) ؛ إذ أنّه لم يتعجّل الخروج على أمل قدوم الإمام (علیه السلام) إليهم!

وقد يُقال: إنّ سياقات الأحداث وأخبار الكوفة والمجريات العامّة تفيد أنّ دعوته كانت للقدوم إلى الكوفة.

المعلومة الخامسة: تقرير أحوال القوم
اشارة

طلب القدوم، وعلّل ذلك بقوله: «فقد ذلّلتُ ...».

وهنا أيضاً قسّم القوم إلى قسمين، ولم يتكلّم عنهم كقطعةٍ واحدةٍ في الولاء والاستجابة:

القسم الأوّل: بنو تميم عامّةتحدّث عن بني تميم، ووصفهم وصفاً رائعاً مثيراً في تسابقهم إلى طاعته..

فقد ذلّل له أعناق بني تميم، وجعل الدم يترقرق فيها كأنّها بُدنةٌ اقتربَت مِن منى.. وتذليل الرقاب فيه كنايةٌ عن مدّها للسيوف..

ولصورة الأعناق المذلَّلة تشابُكٌ متداخِلٌ مع صورة الإبل الظماء الّتي ترد الماء بعد خَمسها؛ فإنّ الإبل إذا ركضَت وأسرعَت مدّت أعناقها..

تركهم كإبلٍ كظّها الظمأُ وأُذِن لها بعد خمسة أيّامٍ أن ترد الماء..

ص: 199

يا لَها من صورةٍ مزدحمةٍ بالحركة والسرعة واللهفة والشوق والتعبير عن ضجيج الحاجة.. إنّها الحاجة إلى الماء على الظمأ!

والإبل بطبعها حمّالةٌ للعطش صبورةٌ على الظمأ.. لكنّها إذا فارقت الماءَ خمساً وشمّت رائحتَه عن بُعد، تذهل وتتخبّط، وتخبط الأرض بحوافرها، وتخطر بأذنابها، وترغو ويشتدّ رغاؤها، وتُكثِر التلفُّت برأسها، لِتراقب الإبل الأُخرى إن كانت قد لحقَت بها أو سبقَتها إلى معين الماء..

تتراكض بعشوائيّةٍ مجنونةٍ هائجة، فتسابق حوافرها بعضها بعضاً، كأنّ كلّ رِجْلٍ منها تركض لوحدها، فتتناثر خطواتها يميناً وشمالاً وارتفاعاً وانخفاضاً، وترتطم ببعضها، وتزدحم عند اقترابها من وردها، وتتدافع فتتداخل سيقانها، فتكون كأنّها غابةٌ من السيقان المتشابكة، حتّى لَيعسر على الناظر أن يميّزها، وتلتوي أعناقُها وتلتفّ ببعض، وتحتكّ أبدانها وتكبسالبطونُ البطونَ، وتتسايل شقاشقها رغوةً كالزبد، فتلطخ بعضها الأُخرى.. ولا تسكن إذا استروحت الماءَ إلّا أن تصل إليه، فتنهل وتعلّ وتعبّ حتّى ترتوي..

والرجل الّذي يعايش الإبل يعرف ما في هذه الصورة من الأثر البليغ، والإيقاعِ الصاخب، والشوقِ المتدفّق بالعنفوان، واللهفة الجائشة، والأحاسيس الهائجة.. هكذا هم بنو تميم في تسابقهم إلى طاعة الإمام (علیه السلام) والانقياد له!

ص: 200

القسم الثاني: بنو سعد

عزل ابنُ مسعودٍ بني سعد عن الآخَرين، وأخرجهم عن الصورة الّتي رسمها لهم من شدّة الشوق والتلهُّف للطاعة..

أكّد فيما يخصّ بني سعد أنّه قد ذلّلهم للإمام (علیه السلام) ، وغسل درن صدورهم بماء سحابة مُزنٍ حتّى استهلّت برقها فلمع..

ولا ندري إن كان يُخبِر عن حدَثٍ آخَر غير ما رواه الشيخ ابن نما قد حدَث مؤخَّراً بعد أن استمهله القوم للمشورة والنظر، فاجتمع أمرهم على الامتثال والطاعة واللحاق بركب السعداء..

أو أنّه اكتفى من هذا الاستمهال وعدّه استجابةً منهم!!

أو أنّه اعتبر هذا الاستمهال نوعٌ من التراخي الّذي سيؤول إلى ترويض القلوب المتشنّجة البائسة..أو أنّه في مقام التشجيع وشدّ العزائم، فاكتفى بالتحييد وجعله تذليلاً لهم؟

كيف كان، فإنّ الصورة الّتي رسمها لما فعله بهم ومعهم لا تقلّ روعةً عن الصورة الّتي رسمها لبني تميم الآخَرين..

ماء السماء طهور.. مطهِّرٌ بقوّة.. ينزل من السماء فلا يدنّسه شيءٌ ولا تنجّسه نجاسة.. وهو نازلٌ من سحابة مُزن.. سحابةٍ كثيرة المطر غزيرة الماء، مكتنزةً ماءً، تنهمل انهمالاً، تبرق فتلمع وتنهمر، فتغسل درن الصدور وتتركها نظيفةً طاهرة..

ص: 201

هذه الصورة تعبّر عن الجهد المبذول والنتيجة المؤثّرة القويّة الحاصلة من ذلك الجهد.. وهي في نفس الوقت تعبّر عن مدى تكاثف الدرن وتراكم الدنس في تلك القلوب قبل معالجتها، حتّى احتاجت إلى مِثل تلك السحابة الثقيلة والربابة الماطرة بقوّةٍ لتطهيرها.. إنْ طهرت!

والبرق اللامع سرعان ما يخبو ويخمد وينطفئ، فهل يكفي تلك القلوب إن أضاء لها وخطف أن تبصر الصراط؟!

الإضاءة الخامسة: جواب الإمام الغريب (علیه السلام)
اشارة

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب، قال: ما لَك؟ آمَنَك اللهُ يومَالخوف وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر ((1)).

يمكن متابعة هذا المقطع من خلال التنويرات التالية:

التنوير الأوّل: مواقيت النصّ!

حسب هذا النصّ الوارد عند الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس (رحمها الله) ، نجد المشهد ينتقل فجأةً من رواية ما كتبه ابن مسعود النهشليّ إلى جواب الإمام (علیه السلام) حين قرأ الكتاب..

ليس في النصّ مواقيت..

متى أرسل ابن مسعود الكتاب؟

ص: 202


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

مع مَن أرسله؟

متى وصل الكتاب إلى الإمام (علیه السلام) ؟

أين وصل الكتاب بيد الإمام (علیه السلام) ؟

هل وصل الكتاب والإمام (علیه السلام) محاصَرٌ في كربلاء؟

هل وصل الكتاب والإمام (علیه السلام) لا زال في مكّة أو في الطريق؟

ربّما نجد بعض الأجوبة الغائمة الّتي يلفّها الضباب بعد قليل..

التنوير الثاني: وعودٌ في الزمن العصيب

في زمنٍ قلَّ فيه الديّانون، حتّى كاد الدهر يشهد أنْ ليس فيه أحدٌ منهمإلّا الثُّلّة الطيّبة المعدودة الّتي التحقَت بركب الشهادة..

في زمنٍ طُورد فيه أولياءُ الله، حتّى لا سماء تُظِلّهم ولا أرض تُقِلّهم..

في زمن الجفاء والإعراض.. زمن التجافي والازورار.. زمن الجفوة والشراسة والقسوة.. زمن الصرم والعداوة والغلظة مع آل الله..

في زمن الخذلان والتخلّي والتنصُّل عن كلّ خُلُقٍ كريمٍ وشرف.. زمن تضييع أمانة الله ووديعة الرسول (صلی الله علیه و آله) ..

في زمنٍ ليس في المدينة ولا في مكّة ولا في مصر من الأمصار مَن يَعِدُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالنصرة والإيواء.. حتّى ضمّن اللهُ الأرض ومَن عليها دمَه..

في مِثل هذا الزمن المكفهرّ العصيب.. الزمن المتجهّم الساهم الداجي

ص: 203

العبوس..

في مِثل تلك الأيّام المقطّبة الكالحة الكاسفة العابسة.. تصل رسالةٌ مفعَمةٌ برجاء الحظّ السعيد، والأخذِ بنصيب نصرة الغريب..

يصل كتابٌ يُخبِر عن تزاحم الرجال كتزاحم الهيم العطاش يوم خَمسها.. وتذليل رقاب الأعداء، وغسل صدورها بسحابة مُزنٍ كسحَت أدرانها..

في يومٍ من أيّام الدهر الّذي خبأ لآل البيت (علیهم السلام) المصائب والعجائب من صنوف الجفاء والإعراض عن الحقّ وأهله.. في زمنٍ اجتمع الناسوتألّبوا على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآلِه وأصحابه.. بين مُعِدٍّ ومستعدّ.. يتآزرون ويتعاونون وينقّبون ويتظاهرون.. فلا تسمع سوى صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وازدحام المقاتلين المدجَّجين، وإيقاع طبول الحرب، وارتفاع الغبرة في الأجواء، ولا ترى إلّا عُسلان الفلوات الهائجة الجائشة المتعطّشة للدماء الزاكية والأبدان المقدّسة، لتملأ بها أكراشاً جُوفاً وأجربةً سُغباً.. مجوَّعةً متوحّشةً مفترسة، حدّت أنيابها وبرتها لتقطيع أوصال هيكل التوحيد، وتمزيق ملاحف خدر الله وخدر رسوله (صلی الله علیه و آله) !!

لا ندري إن كانت هذه الوعود ستتربّع على ذُرى عرش الوفاء، أو أنّها ستنكفئ وتنقلب.. بَيد أنّ العمل على الظاهر والحكم على الموجود يقتضي أنّها وعودٌ في زمن العُسرة يمكن أن تصدق وتفي..

ص: 204

يا لها من نصرةٍ رائعة، تقشعرّ لها الجلود، وتنتفض القلوب لتتحسّس الموقف الرهيب! وتستشعر الغربة.. غربة غريب الغرباء، وغربة آل الله!

التنوير الثالث: ما لَك؟!

ربّما كان وصول الكتاب إلى الإمام (علیه السلام) وهو في غربته تلك الّتي لم يشهد لها التاريخ نظيراً، هو الّذي دعا إلى إظهار التعجّب..

ما لَك؟.. سؤالٌ.. يُستخَدم في مواطن التعجّب.. «كقولك: ما لَك مِنفارس؟ وأنت تتعجّب من فروسيّته وتمدحه» ((1)).

سؤالٌ يتضمّن التعجّب والمدح.. إنّه حقّاً موقفٌ يثير الإعجاب والتعجّب، ويستأهل المدح والتقريظ والإشادة والتنويه والثناء..

هذا هو الظاهر من قول الإمام (علیه السلام) : «ما لَك؟»، ولا نجد له معنىً آخَر يمكن أن ينقدح في القلب إلى حين تحرير هذه السطور.

التنوير الرابع: الدعاء!

دعا الإمام (علیه السلام) لابن مسعود ثلاث دعوات:

- آمَنَك الله يوم الخوف.

- أعزّك.

- أرواك يوم العطش الأكبر.

ص: 205


1- أُنظر: لسان العرب: عَوَدَ.

دعواتٌ متناسقةٌ منسجمةٌ مع المشهد تماماً.. فالأعداء لم يُؤمِنوا وليَّ الله، وأخافوا آلَ الله.. وقد سعى ابن مسعودٍ إلى تأمين قلب أولياء الحسين (علیه السلام) بموقفه هذا وإعلانه النصرة، فاستحقّ بذلك الأمنَ يوم الخوف.. يوم القيامة..

وأعزّ ابنُ مسعودٍ بموقفه مقام الإمام (علیه السلام) ، وخالف الأعداء الّذين كانوايبغون إذلال العزّة الإلهيّة المتمثّلة بالإمام وآله.. فاستحقّ العِزّة في الدارَين..

وأظمأ الأعداءُ الإمامَ (علیه السلام) ومَن معه على الفرات.. وكان ابنُ مسعودٍ يريد النصرة في مِثل هذا الموقف، فاستحقّ الرواء يوم العطش الأكبر..

التنوير الخامس: الدعاء لابن مسعود خاصّة!

إنّ ثَمّة ما يثير الاهتمام في الدعوات الثلاث، ويدعو إلى التنبُّه والالتفات!

إنّ الإمام (علیه السلام) خاطب ابنَ مسعود وحده.. خاطبه بضمير المفرد.. «ما لَك؟ .. آمَنَك .. أعزّك .. أرواك».. وكأنْ لم يكن مِن وراء الرجل قومٌ قادمون، ولا جماعةٌ قد وعدَت النصرة والوفاء!

ربّما لأنّ الّذي بادر إلى النصرة إنّما هو ابن مسعودٍ وحده، والقوم تبَعٌ له، ليس لهم موقفٌ يُنسَب إليهم كأفرادٍ وكجماعةٍ لنصرة ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فهم ينصرون ابن مسعود ويمتثلون أمره، ولو بقوا لحالهم لَما نصروا

ص: 206

سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا تدانَت مواقفهم من صفّه أبداً.

ربّما يُقال:

إنّ الإمام (علیه السلام) دعا له باعتباره زعيم قومه، وحاكٍ عمّن وراءَه، فهي دعوةٌ لهم جميعاً، وقد أُخذ ابن مسعود عنواناً حاكياً عنهم.

ربّما يكون هذا التقدير صحيحاً، غير أنّه بعيدٌ عن طريقة أهلالبيت (علیهم السلام) في التعامل والوفاء، وجزاؤهم الإحسان بالإحسان لكلّ مَن أبدى لهم أدنى خدمةٍ قد لا تُذكَر عند غيرهم، كما هو معروفٌ مشهودٌ من سيرتهم، وقد رأينا ذلك في عطاء سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء وقبلها.

الإضاءة السادسة: عاقبة الموقف
اشارة

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغَه قتلُه قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لما فاته من نصرته ((1)).

هكذا انتهَت العاصفة الجارفة المدوّيّة الّتي أطلقها ابن مسعود النهشليّ.. تجهّز للخروج، فبلغه مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يسير، فجزع جزعاً عظيماً لما فاته من نصرته!

ويمكن الوقوف عند هذا المقطع قليلاً لنشهد الخاتمة:

ص: 207


1- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.
الوقفة الأُولى: أدّى ما عليه!

حسب ما ورد في النصّ، فإنّ ابن مسعودٍ قد أدخل السرور على قلب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بما أعلنه له عن نفسه وعن قومه، فتأهّل لنيل دعوات الإمام (علیه السلام) العظيمة، وفاز بها فوزاً عظيماً..

وهو قد جمّع وعبّأ وأعدّ واستعدّ، وأعلن على رؤوس الملأ أنّه قد اعتدّبعُدّته وحمل سيفه وادّرع بدرعه، وحشّد قومه، وكان جاهزاً لخوض اللُّجَج وسفك المُهَج وشرب أكؤس الحتوف وركوب أمواج المنايا، بَيد أنّه قد عاقته المسافات، وعرقلت وصولَه عقارب الساعات..

فهو قد أدّى ما عليه حسب الموازين الظاهريّة، ولم يُكتَب في الخاذلين، بل هو ممّن يُعدّ في الناصرين، إن شاء الله (تعالى)..

لكن تبقى ثمّة أسئلةٌ حائرةٌ طائشةٌ تنتظر الجواب، كما سنسمع في الوقفات التالية.

الوقفة الثانية: فترة التجهيز!

ثَمّة مشكلةٌ عسيرةٌ تعرقل عمل أدوات البحث العاديّة وتعوقها عن التنقير والتنقيب والوصول إلى نتائج مريحةٍ في وقائع البصرة.. منها: فقدان النصوص للمواقيت الزمانيّة دائماً، والمواقيت المكانيّة غالباً..

فلا نجد في النصوص ما يفيد تلويحاً _ فضلاً عن التصريح _ عن تاريخ ما فعله ابن مسعود بالضبط ومكانه، كما لم نجد من قبل تاريخاً

ص: 208

واضحاً ووقتاً محدَّداً لوصول كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) بيد المخاطَبين، سوى أنّه كان قبل خروج ابن زياد من البصرة، وهذا الخروج بنفسه أيضاً لم يكن موقّتاً توقيتاً مضبوطاً.

أجل، يمكن ملاحظة سير الحوادث والأجواء العامّة للتوصُّل إلى توقيتاتٍ تقريبيّة..فمن المعلوم أنّ رسول الإمام الحسين (علیه السلام) خرج إلى البصرة من مكّة كما هو مفاد الأخبار، وربّما أفادَت بعضها أنّه خرج في الوقت الّذي خرج فيه المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) إلى الكوفة، كما أشرنا سابقاً..

وكان مقتل شهيد البصرة سُليمان رسول الإمام الحسين (علیه السلام) قبل خروج ابن الأَمة الفاجرة من البصرة..

وكانت شهادة المولى الغريب (علیه السلام) في التاسع من ذي الحجّة، بعد دخول ابن زياد بفترة..

وكان خروج يزيد بن ثبيط (نبيط) وابنيه من بيت مارية العبديّة بعد اجتماع الشيعة فيه، وقد لحق بالإمام (علیه السلام) على مشارف مكّة..

والمفروض أن يكون ابن مسعود قد استلم الكتاب مع من استلم من المخاطَبين قبل شهادة الرسول..

من هذا كلّه يمكن أن يُقال: إنّ الاجتماع الّذي عقده ابن مسعودٍ يلزم أن يكون قبل التاسع من ذي الحجّة شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، أي: قُبيل خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة أو عند خروجه، هذا على أقصى التقادير

ص: 209

الّتي لا يمكن المناقشة فيها، إذ أنّ يزيد بن ثبيط قد خرج إلى الإمام (علیه السلام) من البصرة مُجِدّاً، فأدرك السعادة على مشارف مكّة، وهو قد خرج في نفس تلك الأيّام من بيت مارية.

فيتحصّل أنّ المدّة بين انطلاقة ابن مسعود وجمعه بني تميم وبين شهادةالإمام الحسين (علیه السلام) لا تقلّ عن شهرٍ كاملٍ ثلاثين يوماً.. وإذا أردنا استقصاء القدر فوق المتيقَّن، فهي لا تقلّ عن عشرين يوماً..

وهنا ينبثق سؤالٌ يلوّح بقوّة:

مدّة شهرٍ كامل.. مدّة ثلاثين يوماً.. أو قُل: مدّة عشرين يوماً، لم تكن كافيةً للتجهيز والانطلاق لقطع مسافةٍ كأنّها رمية سهمٍ أو عصاً بين البصرة والكوفة؟! فهو إنْ لم يُدرِك الإمام (علیه السلام) في مكّة ولا على مشارفها، فإنّه كان يمكنه المسير إلى الكوفة عن طريق البرّ أو عن طريق الماء..

ما الّذي أعاقه كلّ هذه المدّة عن إكمال إجراءات التجهيز والمسير؟!

الوقفة الثالثة: إمكان خروج ابن مسعود بعسكر

مَن يراجع التاريخ على عجَلٍ يعلم أنّ خروج ابن مسعودٍ وقومِه من البصرة على شكل عسكرٍ متكاملٍ وجيشٍ متكاثفٍ وخيلٍ ورجالٍ مدجَّجين شاكي السلاح يكاد يكون من غير المعقول ولا المتصوَّر، إلّا أن يقع بينهم وبين جُند الوالي وعساكر السلطان أشدُّ القتال.. وقد أمر ابنُ

ص: 210

الأَمة الفاجرة أخاه أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ((1))، ولو لم يكتب ابن زيادٍ لَبادر الوالي إلى ذلك بحكم وظيفته.. ولم يرو لنا التاريخ أنّ شيئاً من ذلك قد حصل في البصرة وضواحيها وخارجها!فكيف كان يريد ابن مسعود أن يلحق بالإمام (علیه السلام) مع أتباعه؟!

الوقفة الرابعة: الخروج المتفرّق!

كان بالإمكان أن يخرج ابن مسعودٍ بقومه ضمن مجاميع صغيرةٍ أو أفراداً متفرّقين، مثنى وثلاث ووحداناً، ويرسلهم إلى مكّة أو الكوفة أو إلى ما بينهما من منازل يتسنّى لهم اللحاق بركب السعادة الأبديّة.. لتصدق الصورة الّتي رسمها للإبل الهيم العطاش الّتي ترد الماء بعد خَمسها!

ولم نسمع في التاريخ أنّ ابن مسعود قد فعل ذلك، ولو كان لَبان!

الوقفة الخامسة: الخروج بنفسه ومَن لحق!

لا يُدرى كم كان عدد بني تميم الّذين تزاحموا كالهيم العطاش وتلهّفوا لإجابة زعيمهم ابن مسعود، بيد أنّ سياق الخبر يفيد أنّهم عددٌ ضخم، وكان ابن مسعودٍ يأمل أن يخرج بهم جميعاً إلى نصرة سيّد شباب أهل الجنّة..

غير أنّ الأحداث كانت تتلاحق، والأخبار كانت تتسارع، والأجواء تكتظّ بالزعقات، والوجوه يقبضها التجهُّم والعبوس، والخيل تتراكض في

ص: 211


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

المدن والجوادّ والصحارى والقفار، والرسُل تترى يتلو بعضُها بعضاً في جميع الأرجاء بين الشام والكوفة والبصرة ومكّة والمدينة..

أخبار عجيج الكوفة وضجيجها، وأخبار مكّة وخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) منها، وأخبار العساكر الّتي كانت تحتشد وتتجحفل..

وقد أفلت من البصرة مَن كان قد عزم جادّاً على النصرة، حتّى إذااستوت به أخفافها انطلق يسابق الريح ويباري الليل والنهار، حتّى أدرك مقصوده ونال شرف ملازمة ركاب زين السموات والأرضين وشنف العرش الإمام الحسين (علیه السلام) على مشارف مكّة..

ومَن تأخّر منهم لحق خواتيم المعركة، ونصر عيال غريب الغرباء (علیه السلام) ، كما سنسمع في شهادة الهفهاف..

فما حَدا ابن مسعود على التراخي حتّى بلغه شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

أما كان السبيل متيسّراً له ليفلت هو بمن يلحق به، ويبلغ مناه ويحقّق رجاه في نصرة الإمام الغريب المظلوم، إنْ في مكّة أو في الطريق، أو في كربلاء ولو بعد خواتيم المعركة؟!

ألم يقل أنّه قد لبس للحرب لامتها وادّرع لها بدرعها؟ فلْينطلق، ومَن لحق به أدرك ما أدرك ابنُ مسعود، ومن تخلّف فقد بذل المجهود..

الوقفة السادسة: فلمّا تجهّز!

يفيد قولهم: «فلمّا تجهّز.. بلغه قتلُه قبل أن يسير»، أنّه قد وقع إليه خبر

ص: 212

شهادة غريب الغرباء وما جرى عليه وعلى أهل بيته وأنصاره وعياله وكان هو قد تجهّز، واكتمَلَت عدّته وتراصفَت رجاله، وشُهرت أسيافه وشُرعت رماحه..

وهذا يعني أنّه كان قد جهّز جيشاً على مستوىً من التجهيز والاستعداد، يضمّ رجالاً أشدّ تلهُّفاً لنصرة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) من الإبل إذا وردتيوم خَمسها..

جيشٌ مثل هذا يمكنه أن يفعل الأفاعيل، ويخبط الأرض خبطاً، ويزحزح الجبال ويحرث الصخور بحوافر خيله.. إنّه لم يُحرّك ساكناً في البصرة، ولم يلحق كربلاء، ولم يزحف إلى الكوفة.. لم يلحق السبايا في أيّ موضعٍ من منازل حركتها، ليُنقذ عرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويخلّص بقيّة السيف من آل الله!

الإضاءة السابعة: أسئلةٌ حائرة
اشارة

مرّت علينا خلال الدراسة عدّة أسئلة، وهنا أيضاً نجد بعض الأسئلة الّتي لم نجد لها جواباً وافياً سنذكرها أيضاً.

ولكي تتّضح صورة الأسئلة أكثر، ربّما كرّرنا بعض الأسئلة السابقة الّتي تفرض نفسها هنا بمقتضى طول البحث، ربّما كان عند أهل التحقيق والاختصاص أجوبة، إن شاء الله (تعالى).

ص: 213

السؤال الأوّل: انفراد الشيخ ابن نما

إنفرد الشيخ ابن نما (رحمة الله) بذِكر هذا الخبر الّذي يرسم حدَثاً يُعدّ من أضخم الأحداث في البصرة في تلك الفترة، وهو _ على ما فيه من تفصيلٍ _ يبقى معوزاً في كثيرٍ من ضرورات الخبر، من قبيل التواريخ المضبوطة، فهو لا يذكر متى وصلَت الرسالة إلى يزيد بن مسعود، ولا متى جمع ابنُ مسعودٍ قومه، ولا متى كتب الرسالة، ولا متى وصلَت رسالته بيد الإمام سيّدالشهداء (علیه السلام) ، وفي أيّ ظرفٍ كان الإمام (علیه السلام) ، ولا الكثير من التفاصيل الّتي يحتاجها الباحث ممّا سمعنا وما سنسمعه بعد قليلٍ أيضاً.

غير أنّ هذا السؤال قد يُجاب عليه وفق ما ذكرناه من موازين في (المدخل) من كتاب (وقائع السفارة) وكتاب (بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))، فلا يهمّنا حينئذٍ إرسال الخبر ولا تأخّره ووروده عند الشيخ ابن نما، وهو أبناء القرن السابع، ولم يُذكَر عند أحدٍ ممّن تقدّمه حسب فحصنا وما توفّر لدينا من المصادر، وهي كثيرة.

فإذا استوفى الخبر شروط القبول المذكورة في المدخل، فلا مانع من اعتماده، مع ملاحظة أنّه حدَثٌ ضمن جملةٍ من الأحداث، ومشهدٌ من صورةٍ كاملةٍ رسمها المؤرّخ، وزاد عليها الشيخ ابن نما (رحمة الله) هذا المشهد..

فلْنرى إن نهض الخبر للإجابة على جُملة الأسئلة المهمّة المؤثّرة، وإلّا يكون التفرُّد ثغرةً تنفع مَن أراد خدش الخبر.

ص: 214

السؤال الثاني: يزيد بن مسعود

مرّ معنا في أكثر من موضعٍ هذا السؤال المُلِحّ الّذي ينبثق بقوّة، ويعترض بجدارةٍ كلّما جاء ذِكر ابن مسعود ومواقفه وقوّته ومدى تأثيره القويّ الممتدّ على أفراد القبيلة..

توهّج الرجُل في يومٍ من أيّام التاريخ، ثمّ انطفأ واختفى، وخبا نورُه على حين غِرّةٍ كما انتشر على حين غرّة..لم نجد له ذِكراً بتاتاً في التاريخ، لا قبل يوم قيامه في قومه، ولا بعد خبر جزعه على الحسين (علیه السلام) عند بلوغه خبر مقتله!

في مدّةٍ لا تزيد عن شهرٍ أو شهرين، سجّل موقفاً واحداً فقط حين جمع قومه وكتب كتابه.. ثمّ سمع خبر شهادة غريب الغرباء (علیه السلام) ، فجزع، واختفى كما كان من قبل، لا اسم له ولا رسم في التاريخ، ولا في أيّ مشهدٍ من مشاهد الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولا مَن سبقه من الأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) .. ولم نسمع له أيّ صوتٍ في فتنة الجَمَل، وهو حسب الفرض من الزعماء المرموقين جدّاً، الّذي خضعَت له الرقاب وتذلّلَت وأطاعته طاعة تسليمٍ مطلق، كما سمعنا في أجوبة بني تميم..

يبدو من كلامه وخطابه لقومه وكتابه لسيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه كان عارفاً مؤمناً، معتقِداً بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) والأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) .. وكلماته تفيد معرفةً وإيماناً واعتقاداً راسخاً واعياً عميقاً..

مع ذلك.. لم يكن معروفاً في الشيعة، ولا معدوداً في عدادهم!

ص: 215

ربّما يُجاب على ذلك أنّه كان ممّن يستعمل التقيّة بحزمٍ وقوّة..

ولكنّ هذا التعليل قد يكون قاصراً عن تفسير الحال، لأنّه لم يكن مغموراً مختفياً، بل كان معروفاً مشهوراً مُطاعاً في قومه.

وليس هو معروفاً ولا معدوداً في عداد زعماء القبائل ووجوه العشائر وأشراف البلد قبل ذلك اليوم ولا بعده، وإنّما تزعّم وبلغ مبلغاً في الزعامةبحيث يكون السيّد المطاع بلا منازعٍ ولا اعتراض.. وهذا أيضاً يخالف كونه في تقيّة، ويخالف كونه من الأشراف والوجوه والزعماء، وهو لم يسجّل موقفاً قبل ذلك اليوم في البصرة الملتهبة الّتي كانت الدماء تسيل فيها أنهاراً يوم الجَمل، ولا زلت الفتن فيها بعد الجمل..

كانت البصرة تحت سلطة أولاد البغايا من زياد ابن أبيه ونغله ابن الأَمة الفاجرة.. ويبقى ابن مسعود بعيداً عن أيّ ضوءٍ يسلَّط عليه، على المستوى الاجتماعي، وعلى مستوى الانتماء العقائديّ!

إنّه فقرة الظهر في بني تميم، والسيّد المُطاع الّذي عرفه قومه وشهدوا له في هذا الخبر بشهاداتٍ يعزّ لها النظير في زعيمٍ غيره!

كيف لمع وخمد.. توهّج واتّقد وانطفأ.. وبرق برقة خاطفةً وسرعان ما تبدّدَت سحابة مزنه الهطالة المثقلة؟!

لم يذكره أحدٌ من الأوّلين والآخرين.. لم يأتِ اسمُه في أيّ كتابٍ أو مصدر، مع ما له من مقامٍ ومنزلةٍ وعزّةٍ وجاهٍ وشرفٍ في قبيلةٍ ممتدّةٍ كثير

ص: 216

التشعّب والأفراد..

إلّا ما مرّ ذكره معنا في التعريف باسمه.

السؤال الثالث: ابن مسعود زعيمٌ بين الزعماء

بنو تميم قبيلةٌ واسعة الانتشار، كثير الأفخاذ والأفراد، لها امتداداتها، وزعماؤها كُثُر، وفيهم مَن كان مخاطَباً في كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ..وكان زعماؤها ومَن يسمّونهم الأشراف والوجوه عَبيدَ السلطان وأعداء الإمام (علیه السلام) بالمجاهرة والعيان، وهم من ذوي المكانة وأصحاب كراسي في ديوان ابن زياد..

كيف كان ابن مسعود وحده هو المؤثّر في بني تميم بأفخاذهم، ويخمد الزعماءُ الآخرون من وجوههم وأشرافهم وهم عَبيدٌ للسلطان وأعداءٌ للإمام (علیه السلام) بالمجاهرة والعيان؟!

السؤال الرابع: كيف اجتمع هؤلاء القوم على غفلةٍ من السلطان؟

في فترةٍ تسرّب فيها الرعب إلى الفرائص، وسكن الخوف والإرهاب بين شراسيف الأضلاع، وانخلعَت القلوب من الصدور، وكان الفرد يخال ظلَّه مُخبِراً أو جلوازاً يلاحقه، فلا يطمئنّ لغلامه وعبده وجاريته وأَمَته وخِلِّه وصديقه..

إضطهادٌ وجَورٌ وقتلٌ على التهمة وأخذٌ على الظنّة، مارسها زياد ابن أبيه ومِن بعدُ ابنُ مرجانة الملصوق به..

ص: 217

ربايا ومسالح.. مفارز وحرّاس وجيوش.. تجوب السكك والشوارع، وتثير رمال الصحارى، وتتخلّل النخيل والأشجار، وقد نظمت البلدان والفيفافي خيلاً ورجالاً في كلّ مكان؛ استعداداً لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والحؤول دون التحاق أيّ ناصرٍ به..

وكلُّ وصفِ الواصف لا يبلغ مدى ما كانت عليه الأمصار الّتي لها نوعصلةٍ بالمراكز الثلاثة: مكّة، المدينة، الكوفة.. وكانت البصرة من أهمّ الأمصار وأقربها إلى الكوفة يومذاك..

في مِثل هذا الجوّ الملتهب الهائج في جميع ذرّاته وتفاصيله.. يجمع ابن مسعود بني تميم بأفخاذها، ويخطب فيهم خطبتهم الرنّانة بما فيها من تحشيدٍ وتحريضٍ وعقائد راقية.. ثم لا يعلم به أحدٌ من السلطة؟!

أما كان في الحاضرين عينٌ ولا جاسوسٌ ولا شرّير، ولا أحدٌ من ذوي النفوس الضعيفة البالية لِيُخبر؟!

أكان خطابه حين كان ابن زيادٍ لا زال جاثماً على صدر البصرة يُثقِل كلكلها ويخنق أهلها، أم كان بعد أن خرج ابن زيادٍ إلى الكوفة وخلّف أخاه عليهم، وأوصاه ورسم له ما عليه أن يعمل مع الناس، وأمره أن يأخذ الطرق ويمسك الموالج والمخارج؟

سواءً كان الأمر مع ابن زياد أو مع أخيه، فهما منسوبان إلى زياد ابن أبيه الطاغية الدمويّ، وهما على شاكلته، وينتسبان إلى سلطانٍ واحد.

ص: 218

كيف يخطب يزيد بن مسعود في بني تميم هذه الخطبة على رؤوس الملأ، ولم يبلغ ذاك ابن زياد _ ولا أخاه _، ولم يتّخذ منه ومنهم موقفاً، وقد أزبد وأرعد، وكيف غادر البصرة هانئ البال، وفيها بنو تميم قد خلعوا الطاعة؟!

قد يُقال:إنّ ابن مسعود لم يجمع الناس كلّهم، وأفرادَ القبيلة جميعاً، وإنّما كان الكلام يدور مع أشرافهم ووجوههم ورؤسائهم، فيكون العدد المجتمع حينئذٍ قليل، قد لا يثير فضول السلطان ((1)).

ويُجاب:

أوّلاً: إنّ خلع الطاعة وإعلان البيعة يحصل بهؤلاء الرؤوس، ويكفي لإقلاق السلطان وإفزاعه واضطراره لاتّخاذ الحيطة والحذر وتنفيذِه تهديداته، إذ أنّ السلطان يعلم أنّ الأفراد تبَعٌ لموقف هؤلاء الرؤوس.

ثانياً: إنّ النصّ لا يساعد على هذا الفهم، إذ أنّه يفيد أنّ ابن مسعود أحضر قومه فكلّمهم، ولم يَرِد للوجوه والأشراف والرؤوس ذِكرٌ في المتن، كما هو المعتاد في تعبير المؤرّخ.

ثالثاً: إنّ النصّ افترض في ابن مسعود رأساً خاطبه الإمامُ الحسين (علیه السلام)

ص: 219


1- ملاحظةٌ سجّلها أخي العزيز خادم الحسين (علیه السلام) شاعر أهل البيت (علیهم السلام) الحاج عادل أشكنانيّ، حفظه الله ورعاه وثبّته على خدمة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

بكتابه، وهو بدوره دعا قومه فحشّدهم وحرّضهم على نصرة الإمام (علیه السلام) ، وهي العادة المعهودة في مِثل هذه المواقف.

رابعاً: لو فرضنا صحّة هذه الملاحظة، فإنّ مؤدّى اجتماع هؤلاء الرؤوس وانطلاقهم إلى مَن هم تحت ولاءاتهم سيُحدِث في البلد حركةً ملحوظةً يتنبّه لها حتّى الأعمى، بعد أن يجمع كلُّ واحدٍ من هؤلاء أفرادَه،فيخطب فيهم ويكلّمهم ويحثّهم ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه ابن مسعود.

خامساً: لو افترضنا أنّ الرؤوس هؤلاء كلّموا أفرادهم بهدوءٍ وسرّيّةٍ تامّةٍ لا تستفزّ السلطان، فإنّ تجهيزهم واستعدادهم يثير في البلد حركةً غير رتيبة، كما سنسمع في السؤال الآتي.

السؤال الخامس: كيف جهّز ابن مسعود قومه ولم يحفل بهم أَحَد؟

خلعَت بنو تميم الطاعة، وأعلنَت نصرتها لزعيمها، وأعلن زعيمُها نصرته لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وراح الجميع يتجهّزون ويستعدّون..

يستعدّون لخوض حربٍ ضروسٍ قاسية، وقتالٍ شرسٍ أدناه أن تطيح فيه الرؤوس وتُقطَع الأيدي وتُرمَّل النساء ويُيتَّم الأولاد..

يستعدّون للخروج من البلد، ويخلّفون من ورائهم الأهل والأموال والأراضي والعقارات، ومستلزمات الدنيا وبهرجها..

يتجحفلون ويتلاقون.. يصلحون أسيافهم.. يبرون نبالهم.. يقوّمون كعابهم ورماحهم.. يمسحون دروعهم.. ويتفحّصون درقهم وأتراسهم..

ص: 220

قبيلةٌ منهم بنو حنظلة وبنو سعد وبنو عامر.. رجالٌ فرسان، وخيولٌ وأسلحةٌ جاهزة للخروج إلى مواجهةٍ وحرب..

ولك أن تتصوّر كلّ ما يلزم من تجهيز هذه الأعداد للحرب من صخبٍ وقعقعةٍ واتّصالاتٍ وتردّداتٍ في الأسواق والنوادي والمحافل، وتحرّكاتٍ ونشاطاتٍ على كلّ صعيد..كلّ ذلك والقوم يخلعون الطاعة ويعلنون الولاء لعدوّ السلطات..

والسلطات في غفلةٍ تامّة.. لم تتخذ أيّ موقفٍ يُذكَر!

السؤال السادس: أخبار التجهيز

أعدادٌ ضخمةٌ تتجهّز للخروج إلى حربٍ تواجه فيها السلطة القائمة ذات العدّة والعدد والمال والسلاح والرجال والعساكر المنتظمة في ثكناتها ومواقعها المنتشرة في كلّ مكانٍ وجميع الأرجاء..

مَن كان المؤثّر فيهم والمحرّك لهم، حتّى لا يخفت فيهم الهيجان ولا تبرد القلوب وتستمر في وهجها واشتعالها وتوثّبها؟

أين كانت تنعقد اجتماعاتهم؟

أين كانت تُجمَّع تجهيزاتهم وعدّتهم؟

من أين كان يأتيهم المدد والمال والحماس؟

لم يروِ لنا التاريخ أيَّ تفاصيل عن حركةٍ بهذه الضخامة لعددٍ بهذه الضخامة، ولموقفٍ بهذه الضخامة!

ص: 221

السؤال السابع: التعارض!

إستمهل بنو سعدٍ حتّى يروا رأيهم ويحسنوا المشورة ويُخبروا ابن مسعود، بعد أن قرّروا رضاهم وانشراحهم وابتهاجهم برأي صخر بن قيسٍوارتياحهم لأمره بترك القتال وطاعتهم لهم، وما أنتج بزعمهم من بقاء عزّهم فيهم ((1))..

وهذا انخذالٌ يرعى الأدب، واستمهالٌ يقصد البحث عن ذريعةٍ تخرج بهم إلى رأي صخر بن قيس، وتفلّتٌ بهم من الموقف دون أن تجعلهم في موقفٍ شاذٍّ بين سائر المجتمعين.. ممّا دعا ابن مسعود للردّ عليهم بالذات، وتحذيرهم وتخويفهم من عاقبة أمرهم، وهدّدهم بالموت والفناء وتسليط سيوفهم عليهم إذا ما تقاعسوا وتثاقلوا واعتزلوا..

هكذا هو موقف بني سعد، كما يرويه الخبر.. بَيد أنّ ابن مسعودٍ يرسم في كتابه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) صورةً تختلف تماماً، إذ يخبره أنّه قد ذلّل له رقابهم، وغسل درَنَ صدورهم بماء سحابة مُزن ((2))..

وشتّان بين ما أخبر به في كتابه، وبين موقفهم يوم اجتمع بهم..

ولا يمكن افتراض أنّهم قد أخذوا قسطهم من المشورة وتداول الرأي وخرجوا بقرار الالتحاق؛ لأنّ الخبر لا يتكفّل بيان ذلك، ولم يعرّج على

ص: 222


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.

موقفهم بعد ذلك الموقف، ويختم الحدث بتحذير ابن مسعودٍ فقط.

هذا نموذجٌ للتعارض الموجود في أحداث الخبر، ومَن تأمّل الخبر وتابع الدراسة يجد أمثلةً أُخرى، تركنا التنويه إليها هنا تجنُّباً للإطالة.

السؤال الثامن: عدم كفاف المدّة للتجهّز

المدّة بين وصول كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى البصرة وشهادته لا تقلّ عن شهرٍ على أقلّ التقادير، وإذا حسبنا خروج سُليمان مع خروج المولى الغريب (علیه السلام) _ كما أفادت النصوص _، فهي شهرين أو أكثر.. وهذه المدّة كافيةٌ للتجهُّز واللحاق بالإمام..

وقد خرج الأبطال الّذين سارعوا إلى المغفرة ورضوان الله، فلحقوا الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة أو على مشارفها..

فبماذا يمكن تفسير تأخُّر ابن مسعودٍ وانشغاله بالتجهيز، حتّى إذا تجهّز بلغه خبر شهادة الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ؟

السؤال التاسع: تتبُّع الأخبار

كانت الأخبار تصل إلى البصرة وغيرها من الحواضر، ولابدّ لمن يهمّه الأمر أن يتابع الأخبار بدقّةٍ ومتابعةٍ أشدّ، والخبر يقتطع الأحداث ما بين جَمعِ ابنِ مسعودٍ لقومه إلى بلوغ خبر شهادة الإمام (علیه السلام) وجزعه عليه، وكأنّ ابن مسعود لم يبلغه أيُّ خبرٍ يتعلّق بسيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته وتنقُّلاته، أو ما يخصّ إعدادات العدوّ وتجميعه أبالسته وشياطينه وتسليحهم، وما جرى

ص: 223

من التهابٍ واشتعالٍ وأمواجٍ عاتيةٍ لفّت الناس في الكوفة وتوابعها..

لم يبلغه أيُّ خبرٍ سوى شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

لا يُقال: إنّ تسارع الأحداث كان بشكلٍ لا يُمهِل المتابع، ولا يسمحللبعيد أن يتدانى؛ فإنّ ابن مسعود كان قد استعدّ، وهو على مستوىً رفيعٍ من الولاء والاندفاع والاستعجال في نصرة الإمام (علیه السلام) ، وقد لبس للحرب لامتها وادّرع لها بدرعها، كما قال في خطبته.

فهو إمّا أن يكون قد غاب عن المشهد ولم يبلغه أيُّ خبر، وهذا بعيدٌ وغير متوقّعٍ ولا متصوَّر في حقّ رجُلٍ كهذا في الولاء والاستعداد للحرب.

وإمّا أن يكون قد تابع وسمع.. فلماذا كلّ هذا التراخي والتمهُّل حتّى يبلغه خبر شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

لماذا لم يفلت ابن مسعود وحده أو بمن معه ليصل إلى الإمام (علیه السلام) في أيّ موضعٍ كان؟!

السؤال العاشر: تعارض الموقف مع ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام)

سيأتي الحديث عن حال البصرة عند مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ونقتصر هنا على ذِكر حديثٍ واحد، وسنضطر إلى العودة إليه، رواه الثقة الكلينيّ والثقة ابن قولويه، بالإسناد عن الحسين بن ثوير _ في حديثٍ _ قال:

ثمّ قال (علیه السلام) : «إنّ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) لمّا قضى، بكَتْ عليه

ص: 224

السماواتُ السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن ينقلب في الجنّة والنار مِن خَلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى بكى على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه».قلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة الأشياء؟

قال: «لم تبكِ عليه "البصرة" ولا "دمشق" ولا "آل عثمان" (عليهم لعنة الله)» ... ((1)).

صورةٌ ما أعظمها من صورةٍ يرسمها الإمام (علیه السلام) ، وهم سادات اللغة وأُمراء الكلام..

لمّا قضى أبو عبد الله.. حين قُتِل الإمام الحسين (علیه السلام) .. التوقيت محدَّدٌ مضبوط.. بكى عليه كلُّ شيء.. فصّله الإمام (علیه السلام) تفصيلاً، وذكر موارد قد يصعب على الإنسان أن يتخيّل أنّها ستبكي أو يتوقّع منها البكاء.. السماوات السبع جمعيها، والأرضون السبع جمعيها.. وكان بالإمكان الاكتفاء بهذا الشمول، بَيد أنّه فصّل أكثر.. وما فيهنّ.. وشمل ما يكون بينهنّ، ومَن ينقلب في الجنّة والنار.. أجل، في الجنّة والنار.. وكلّ المخلوقات مِن خَلق ربّنا، ما يُرى منها وما لا يُرى.. حتّى الذرّة وما حوَت..

ص: 225


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 575، كامل الزيارات لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 5، و198 ح 2.

بعد هذا التفصيل العامّ الشامل الّذي لا يستثني أحداً من المخلوقات، يستثني الإمام (علیه السلام) ثلاثة، أحدها _ بل أوّلها _ : البصرة!!!

ومفاد دلالة الاقتضاء أنّ أهل البصرة يومذاك لم يبكوا على الإمام المظلوم (علیه السلام) .. ومن الواضح أنّهم لم يبكوا، لأنّهم فرحوا وشمتوا وقبلوا ورضوا بما جرى له ولآله..لم يستثنِ الإمام (علیه السلام) أحداً من أهل البصرة يومها، كما لم يستثنِ أحداً من أهل دمشق، ولا من آل عثمان.. والمفروض أنّ هذا الإطلاق والعموم الحاصل من (ال) الاستغراق يفيد الشمول لهم جميعاً.

أجل، ربّما استُثني عددٌ محدودٌ لا يخرم صدق الإطلاق والعموم، ويكون شاذّاً نادراً.

كان هذا لمّا قضى الإمام أبو عبد الله (علیه السلام) .. أي: لمّا قُتل الإمام الغريب (علیه السلام) ، لم تبكِ عليه البصرة ذلك اليوم؛ شماتةً وعداوةً وبغضاً..

إذا كان حال عموم البصرة يومذاك هو هذا الحال الّذي يصفه الإمام المعصوم (علیه السلام) ، فكيف يمكن تصوير حالةٍ هائجةٍ مائجةٍ متلهّفةٍ لنصرته، وجازعةٍ عليه؟! وهم ليسوا بالعدد القليل.. إنّهم بنو حنظلة وبنو سعد وبنو عامر.. إنّهم بنو تميم، القبيلة الكبيرة الممتدّة الشاسعة في الوشائج والعلائق والأفراد..

فهل نصدّق الخبر ونتماشى معه، أو نصدّق الحديث الشريف ونسلّم له؟

ص: 226

هل ثَمّة ضرورةٌ تدعونا لليّ عُنق الحديث، والالتواء على كلام الإمام (علیه السلام) وتأويله وإخراجه عن سياقه، من أجل تصديق الخبر؟

ولو أغمضنا النظر _ تسليماً وجدلاً _، ولم نتعامل مع الحديث الشريف كحديث، ولم نرتفع به حتّى ينتهي إلى الإمام المعصوم الصادق المصدّق، واكتفينا بالعظيمَين الجليلَين الثقتَين الكلينيّ وابن قولويه، واعتبرنا التعارضبين نصٍّ يرويه هذان العلمان، ونصٍّ يرويه الشيخ ابن نما، فسيبقى الميزان راجحاً رجحاناً ثقيلاً جدّاً تبلغ فيه كفّتهما الأرض وتحفرها..

ونعود لنؤكّد أنّ الكلام يدور حول قبيلةٍ بضخامة بني تميم، وليس الأمر متعلّقاً بأفراد معدودين حتّى نُدخلهم في الاستثناء، إنْ كان ثَمّة ضرورةٌ لافتراض الاستثناء!

أجل، قد يُقال:

إنّ الأمر لم يكن بالنسبة لبني تميم والّذين أعلنوا النصرة ذا بال، ولم يكن يهمّهم من قريب، لأنّهم اتّبعوا زعيمهم وأطاعوه من دون ولاءٍ خاصٍّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ لا يهمّهم مَن المنصور بسيوفهم ولمن يبذلون أرواحهم، فحينئذٍ من الطبيعيّ أن لا يبكوا على الإمام المظلوم (علیه السلام) ، بل سيفرحوا بما نالوا من الدعة ومجانبة الحرب والقتال ومفارقة المال والعيال.

* * * * *

هذه جملةٌ من الأسئلة، وهناك أسئلةٌ أُخرى مرّت، ويمكن أن تخطر

ص: 227

على بال مَن يتابع الموقف بدقّة، فربّما واجهته بين المقطع والمقطع من مقاطع الخبر.

ص: 228

القسم الأوّل: رواية مضامين الكتاب

أجملَت جملةٌ من المصادر في نقل الكتاب، فاقتصرَت على نقل مضمونه حسب فهم المؤرّخ..

فاكتفى المقريزيّ بقوله: «يدعوهم» ((1)) فقط، مِن دون ذِكر متعلّق الدعوة.

وقال ابن أعثم وتبعه الخوارزميّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه ((2)).

وصاغها السيّد ابن طاووس في الدعوة إلى نصرته ولزوم طاعته ((3)).

ص: 229


1- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
3- اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

سنقتصر هنا على التنويه إلى نكتةٍ منهجيّةٍ خطيرةٍ غاية الخطورة، قد أشرنا إليها في كثيرٍ من المواضع.

إنّ المؤرّخ قد يروي لنا خبراً ويترك للمتلقّي مجال التفكير والتحليل والاستنتاج واستنطاق النصّ، وقد يقرأ الخبر ثمّ يفهم منه فهماً خاصّاً وينقل لنا فهمه من الحدَث، فهو عاقبةً يفرض على المتلقّي فهمه، ويبني عقله وفق متبنّياته واستنتاجاته..

لقد فهم هؤلاء من الكتاب الدعوةَ إلى نصرته والقيامَ بحقّه ولزومَ طاعته، فنقلوا فهمهم، كما فعل البلاذريّ وابن الأثير في جزءٍ من روايتهم، كما سيأتي في القسم الثاني.. وبهذا وضعوا أُسساً لبناءٍ عقليٍّ ونفسيّ، وألقوا في ذهن المتلقّي لوناً خاصّاً من الفهم سينساق معه المتلقّي، ويكوّن له سابقةً في الفهم، إلّا أن يكون قد أخذ من الحيطة والحذر ترساً واقياً قبل الاستسلام لما ينثره المؤرّخ هنا وهناك من تصوّراته ومتبنّياته..

وللمتلقّي أن يحرّر نفسه من هذه السوابق الملقاة، وينظر في الكتاب ليرى إن كان الكتاب يتضمّن الدعوة إلى نصرته أم لا، كما سنسمع بعد قليل.

القسم الثاني: الدمج بين رواية المضامين والنصّ

عمد بعض المؤرّخين إلى رواية مضمون الكتاب حسب فهمه الخاصّ، وطرّزه بذِكر جملةٍ من نصّ الكتاب، وإنّما عرفنا أنّها من نصّ

ص: 230

الكتاب لما وجدناه عند مَن روى الكتاب كاملاً، ولولا ذاك لَكان مدرَجاً في القسم الأوّل.

قال البلاذريّ:

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى كتاب الله، ويقول لهم: «إنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعةَ قد أُحييَت ونُعشَت» ((1)).

يُلاحَظ أنّه يصوغ الدعوة إلى كتاب الله في كلامه، ثمّ يذكر قولاً لسيّد الشهداء (علیه السلام) .

وجرى ابن الأثير والنويريّ مجرى البلاذريّ، وزادا عليه بإضافة: «الدعوة إلى سُنّة نبيّه» إلى الدعوة إلى الكتاب، ثمّ نقلا نفس الفقرة بأدنى تفاوت ((2)).

هذا القسم يدخل في القسمَين الآخَرين، فهو من حيث رواية المضامين تابعٌ للقسم الأوّل، ومن حيث نقل النصّ _ ولو جملة واحدة منه _ تابعٌللقسم الثالث الّذي سيأتي الكلام عنه لاحقاً، إن شاء الله (تعالى).

القسم الثالث: رواية نصّ الكتاب
اشارة

يمكن تقسيم ما رُوي في نصّ الكتاب إلى روايتين:

ص: 231


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
الرواية الأُولى: المختصرة
اشارة

يُلاحَظ أنّ مَن روى الكتاب قبل الطبريّ رواه مختصراً، سواءً كان قد نقل مضمونه، أو عبارةً منه فقط كما فعل البلاذريّ، أو نقله ككتابٍ كاملٍ مثل الدينوريّ، فقد رواه الأخير بهذا اللفظ:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم.

أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبل الرشاد، والسلام» ((1)).

ورواه الشيخ ابن نما مختصراً أيضاً، فقال:

وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ... فيه: «إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيّه، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، فإنْ تجيبوا دعوتيوتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد» ((2)).

يمكن دراسة ما في هذا النصّ من خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: نصّ ابن نما (رحمة الله)

يبدو من قول الشيخ ابن نما: «وفيه»، أنّ الكتاب أكثر ممّا نُقِل، فهو

ص: 232


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

إمّا أن يكون قد اقتطعه من لفظ الدينوريّ بحذف أسماء المخاطَبين، أو أنّه اقتطعه من نصّ الطبريّ الطويل، والظاهر من تقارب اللفظ إلى حدّ التطابق مع نصّ الطبريّ أنّه قد اقتطعه من نصّ الطبريّ.

وربّما يُفترض وجود طريقٍ ثالثٍ روى عنه الشيخ لم يصل إلينا؛ بشهادة الزيادات الكثيرة الواردة في روايته.

غير أنّ تقارب اللفظ مع الطبريّ يكفي لدمج الحديث عنه معه، فلا نتعرّض له هنا.

المتابعة الثانية: ورود أسماء المخاطَبين في متن الرسالة

يمتاز هذا النصّ بورود أسماء المخاطَبين في متن الكتاب، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) قد خاطب أفراداً بأعيانهم، لا يزداد عددهم ولا ينقص، ولا يصحّ إدخال غيرهم في الخطاب، كما لا يصحّ إخراج أحدهم من الخطاب.وهم _ كما مرّ معنا سابقاً _ أعداءٌ متوحّشون، حتّى الأحنف منهم فهو على حدّ العداوة.. ومَن خلفهم من أتباعهم على شاكلتهم، إن لم يكونوا أتعس منهم وأنجس، لجهلهم المطبق وتبعيّتهم البغيضة لكبرائهم.

المتابعة الثالثة: مقدّمة الكتاب

ورد في هذا اللفظ الابتداء بالبسملة والسلام على المخاطَبين بعد ذِكرهم بأسمائهم، كما يختم الكتاب بالسلام المطلق أيضاً، من دون تقييدٍ

ص: 233

بمَن اتّبع الهدى أو عرف الحقّ أو ما شاكل..

وهذا النوع من الخطاب الليّن والرفق بالمخاطَب من أدب أهل البيت (علیهم السلام) وأخلاقهم، فهم معدن الحِلم والكرم، وهم الوجودات المقدّسة الّتي يرى فيها المخلوقاتُ أخلاقَ الله (تبارك وتعالى) في مداراة الخَلق والصبر عليهم.

المتابعة الرابعة: الدعوة
اشارة

يمكن أن نتابع هذه المتابعة من خلال اللمعات التالية:

اللمعة الأُولى: الدعوة في شقَّين

جاءت الدعوة في شقَّين، يتمّم أحدُهما الآخَر:

الشقّ الأوّل: الدعوة إلى إحياء معالم الحقّ.

الشقّ الثاني: إماتة البدَع.والمفروض أنّ يؤدّي كلّ واحدٍ من الشقَّين إلى تحقُّق الآخَر، إذ أنّ من يُحيي معالم الحقّ يلزمه أن يُميت البدعة.

اللمعة الثانية: عموم الدعوة

لقد جاء بهذه الدعوة جميعُ الأنبياء والمرسَلين والأوصياء، وجرت على لسان أولياء الله من الأوّلين والآخرين.

هذه الدعوة هي دعوة القرآن الّذي يُتلى في كلّ آن..

هذه دعوة رسول الله سيّد الرسل وخاتم النبيّين (صلی الله علیه و آله) ..

ص: 234

هذه دعوة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ودعوة أبي محمّدٍ الحسن المجتبى الأمين (علیه السلام) ، ودعوة سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، ودعوة أولاده المعصومين إلى خاتم الأولياء (علیهم السلام) ، ودعوة أتباعهم والمقتدين بهداهم إلى يوم الدين..

وقد دعا بها وإليها الإمام الحسين (علیه السلام) قبل كتابه لأهل البصرة وبعدها إلى حين شهادته..

خاطب بها الإمام الحسين (علیه السلام) طاغيةَ الأُمويّين وواجهه بها، وخاطب بها مَن أنعم الله عليه فعاش في ظلّه أيّام إمامته..

ولا نريد الاسترسال في ذِكر الأدلّة والشواهد على ذلك، فإنّ هذا ما يعتقده كلُّ مَن يؤمن بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) وعصمته، وإمامةِ الأئمّة الطاهرين وعصمتهم (علیهم السلام) .. وفي الأحاديث الشريفة ونصوص الزياراتالمقدّسة ما يكفي ويفي ببيان ذلك.

اللمعة الثالثة: معنى «الحياة، المعالم، الحقّ»

الحَيَاةُ: نقيض الموت، والحَيُّ من كلّ شيءٍ: نقيضُ الميّت، وأحياه: جَعَله حيّاً.

الأرض المَوَات: الأرض الّتي لم يَجْرِ عليها مُلك أَحَد، وإحياؤها: مباشرتها بتأثير شيءٍ فيها، من إحاطةٍ أو زرعٍ أو عمارةٍ ونحو ذلك، تشبيهاً بإحياء الميّت.

ص: 235

وأَحْيُوا ما بين العِشاءَين، أي: اشغلوه بالصلاة والعبادة والذِّكر، ولا تعطِّلوه فتجعلوه كالميت بعُطْلَته، وإحياءُ الليل: السهرُ فيه بالعبادة وترك النوم.

وأحيا الله الأرضَ: أخرجَ فيها النبات، وقيل: إنّما أحياها، من الحياة، كأنّها كانت ميتةً بالمحْلِ فأحياها بالغَيث ((1)).

* * * * *

المَعْلَمُ: ما جُعِل علامةً وعَلَماً للطُّرق والحدود، مثل أَعلام الحَرَم ومعالِمِه المضروبة عليه.

المعلم: العَلامةُ، والعَلَمُ الفصلُ يكون بين الأرضَيْن. والعَلامة والعَلَمُ:شيءٌ يُنصَب في الفلَوات تهتدي به الضالّة.

والمعلم: الأثرُ يُستدَلُّ به على الطريق، وجمعه: المعالِم.

يُقال لِما يُبنى في جَوادّ الطريق من المنازل يُستدَلّ بها على الطريق: أعلام، واحدها عَلَم.

ومَعْلَمُ الطريق: دَلالتُه، وكذلك مَعْلَم الدِّين على المثل، ومَعْلَم كلِّ شيءٍ: مظِنَّتُه، وفلانٌ مَعلَمٌ للخير كذلك ((2)).

* * * * *

ص: 236


1- أُنظر: لسان العرب: حَيَوَ.
2- أُنظر: لسان العرب وغيره: عَلمَ.

الحَقُّ: نقيض الباطل.

قوله (تعالى): ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ ((1))، قال أبو إسحاق: الحقّ أمرُ النبي (صلی الله علیه و آله) وما أتى به من القرآن، وكذلك قال في قوله (تعالى): ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ﴾ ((2)).

وحَقَّ الأمرُ: صار حَقّاً وثَبُت. قال الأَزهريّ: معناه: وجَبَ وحَقَّ عليه القول، وفي التنزيل: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ ((3))، أي: ثبُت، وقوله (تعالى): ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ((4))، أي: وجبَت وثبتَت، وكذلك: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ ((5)).

وحَقَّه وأحَقَّه _ كلاهما _ : أثبتَه وصار عنده حقّاً لا يُشكُّ فيه، وأحَقَّه:صيّره حقّاً، وحَقَّه وحَقَّقه: صدَّقه. وقال ابن دريد: صدَّق قائلَه، وحقَّق الرجلُ إذا قال هذا الشيء هو الحقُّ، كقولك صدَّق، ويُقال: أحقَقْت الأمر إحقاقاً، إذا أحكمتَه وصَحَّحتَه.

وحَقَّ الأمرَ وأحقَّه: كان منه على يقين، تقول: حَقَقْتُ الأمرَ وأحْقَقْتُه،

ص: 237


1- سورة البقرة: 42.
2- سورة الأنبياء: 18.
3- سورة القصص: 63.
4- سورة الزُّمر: 71.
5- سورة يس: 7.

إذا كنتَ على يقينٍ منه ((1)).

اللمعة الرابعة: إحياء معالم الحقّ

بحثنا عن ورود هذا التركيب (معالم الحقّ) على عجلٍ في حديث أهل البيت (علیهم السلام) ، فلم نجد له أثراً _ حسب فحصنا _.. أجل، ورد تركيب (معالم الدين)..

أجل، وجدناه فيما يُنسَب لسيّد الشهداء (علیه السلام) من كلامٍ جرى بينه وبين ابن مطيع في لقائه، وسأله عن وجهته، فقال (علیه السلام) : «إنّ أهل الكوفة كتبوا إليّ يسألونني أنْ أقدِمَ عليهم، لِما رجَوا من إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع» ((2)).

وهو نفس ما ورد هنا في كتابه (علیه السلام) لأهل البصرة، فتكون الدعوة تحقيقاً لرجاء ما رجاه أهل الكوفة.

وقد أتينا على مناقشة لقاء ابن مطيع في محلّه بالتفصيل.

وتبيّن لنا معنى "الإحياء"، ومعنى "معالم"، ومعنى "الحقّ"..ولا يبدو في نصّ الكتاب _ وفق هذا اللفظ _ شيءٌ يحدّد لنا معالم الحقّ الّتي يُراد إحياؤها، والظاهر من إطلاق الإحياء وإطلاق المعالم وإطلاق الحقّ أنّ المراد هو جميع الأفراد وفي جميع الأصعدة والمستويات

ص: 238


1- أُنظر: لسان العرب وغيره: حَقَقَ.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 246.

والأبعاد..

والمأساة الّتي يعيشها البشر يومذاك، وفي كلّ عصرٍ وزمانٍ منذ أن هبط آدم إلى الأرض، هو تضييع معالم الحقّ والإجهاز عليها ومباشرة محوها وطمسها وتغييبها..

والحقّ هو الحقّ، ثابتٌ لا يتغيّر ولا يتزحزح، وعلى الإنسان أن يكدح ليبلغه من خلال المعالم المحدَّدة له الّتي تنير له الطريق..

وقد أرسى معالم الحقّ الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) على كرّ العصور ومرّ الدهور، ورفعَ قواعدَها وأبانها بوضوحٍ خاتمُ الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وأشاد أركانها وعمّق التباين في ألوانها أمير المؤمنين (علیه السلام) ومِن بعده الأئمّة الميامين (علیهم السلام) ..

والإنسان يُبعِدها عن طريقه، ويَبتعد عنها في سلوكه، ويضع الغشاوة على بصره وبصيرته..

فمعالم الحقّ _ كما تفيد عبارة سيّد الشهداء (علیه السلام) _ موجودة، غير أنّها مطموسةٌ ودارسة، والإمام يدعوهم لإحيائها، والكشفِ عنها، وتتبُّعِ مواقعها وآثارها، والسيرِ إلى منارها والتنوّر بنورها..دعوةٌ لإحياء كلّ ما هو نقيض الباطل في كلّ صعيد، وفي كلّ بُعدٍ من أبعاد البشر والحياة البشريّة.. عقائديّاً ومعرفيّاً وسلوكيّاً، فرديّاً واجتماعيّاً، وغيرها من الأبعاد والأعماق والأصعدة..

ص: 239

هي دعوةٌ جاء بها جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) لجميع البشر.. غير أنّ بعض الظروف تقتضي التذكير بها لبعض البشر!

اللمعة الخامسة: الدعوة إلى إماتة البدَع

الشقّ الثاني من الدعوة الواردة في الكتاب هي الدعوة إلى إماتة البدع..

هذه الدعوة أيضاً دعوةٌ عامّةٌ من الجهتين:

من جهة الإمام (علیه السلام) الداعي، إذ أنّ جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ، سيّما نبيّنا الأكرم والأوصياء بالحقّ الأنوار الّتي تلَت نور النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، من أمير المؤمنين والزهراء حتّى الوليّ الخاتم المنتظر (علیهم السلام) ، كلّهم دعوا ويدعون بهذه الدعوة.

ومن جهة المدعوّ، إذ أنّ جميع الخلق والعباد مدعوّون على طول خطّ حركة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) إلى إماتة البدع، والتزام دِين الله والأمر الإلهيّ.

وقد ورد في الزيارة الجامعة الواردة عن الصادقِين (علیهم السلام) الّتي يرويها الشيخ ابن المشهديّ في (المزار الكبير): «وأشهدُ يا مولاي أنّك وفيتَ بشرائط الوصيّة، وقضيتَ ما ألزمك من فرض الطاعة، ونهضتَ بأعباء الإمامة،واحتذيتَ مِثال النبوّة في الصبر والاجتهاد، والنصيحةِ للعباد، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، وعزمتَ على العدل في البريّة، والنصفة في القضيّة، ووكّدتَ الحُجَج على الأُمّة بالدلائل الصادقة والشواهد الناطقة، ودعوتَ إلى الله بالحكمة البالغة والموعظة، فمنعتَ مِن تقويم الزيغ، وسدّ الثلم، وإصلاح الفاسد، وكسر

ص: 240

المعاند، وإحياء السُّنَن، وإماتة البدَع، حتّى فارقتَ الدنيا وأنت شهيد، ولقيتَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنت حميد، صلوات الله عليك صلاةً تترادف وتزيد» ((1)).

بل إنّ وجود الإمام المعصوم نفسِه هو إحياءٌ للسُّنّة وإماتةٌ للبدعة!

قال أمير المؤمنين ومولى الموحّدين عليّ بن أبي طالبٍ أبو الأئمّة الميامين (علیهم السلام) : «أنا مُحيي السُّنّة ومُميتُ البدعة» ((2)).

وهذا ما نعتقده في الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) جميعاً، وكذا في الأنبياء والمرسلين والأوصياء أجمعين.

فهذه الدعوة هي من مقتضيات الإمامة ولوازمها.

وقد أمات القوم السنّة وأحيوا البدعة منذ أن أغمض النبيُّ (صلی الله علیه و آله) عينَيه والتحق بالرفيق الأَعلى، وما تركوا صغيرةً ولا كبيرةً إلّا مدّوا آنافهم فيها، وقلّبوها بين أصابع التحريف.. حتّى أنّ الناس قد نسوا الصلاة الّتي كانيصلّيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَمامهم ويقول لهم: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» ((3))، فلمّا صلّى بهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد استخلافه، جعلوا يقولون: واللهِ لقد

ص: 241


1- المزار الكبير لابن المشهديّ: 295، بحار الأنوار للمجلسيّ: 99 / 165 الباب 8.
2- عيون الحِكَم والمواعظ لليثيّ: 167 ح 3542.
3- أُنظر: السنن الكبرى للبيهقيّ: 2 / 345، كتاب البخاريّ: 7 / 77، سنن الدارقطنيّ: 1 / 279، والحديث لا يحتاج توثيقاً لكثرة وروده في مجامع الفريقَين الحديثيّة.

ذكّرَنا بصلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! ((1)) فإذا كانت الصلاة اليوميّة الّتي يصلّيها النبيّ (صلی الله علیه و آله) على مرأى ومسمع منهم خمس مرّاتٍ على الأقلّ قد نسوها، فما بالك بغيرها من الأحكام والسنن؟!!

وكانت هذه الدعوة قائمةً فيهم على لسان أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (علیهما السلام) ، الوريثِ الوحيد للنبيّ (صلی الله علیه و آله) نسباً، وجرَت على لسان أولادهما المعصومين (علیهم السلام) صالحاً بعد صالح، لا نستثني منهم أحداً..

فهي دعوةٌ جاء بها جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) لجميع البشر.. غير أنّ بعض الظروف تقتضي التذكير بها لبعض البشر! تماماً _ كما قلنا قبل قليلٍ _ في الدعوة إلى إحياء السنّة.

اللمعة السادسة: «فإنْ تُجيبوا»!

بعد أن أبان الإمام (علیه السلام) الدعوة، وأنّها تتضمّن شقَّين: إحياء معالم الحقّ، وإماتة البدَع، قال لهم: «فإنْ تُجيبوا».. فلابدّ أن تكون الإجابة هنا المقصودة والمطلوبة هي الإجابة إلى الدعوة بشقَّيها، لا أكثر..أي: اقبلوا الدعوة لإحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع.. وهي _ كما ذكرنا _ دعوةٌ عامّة، يأتي بها كلُّ وصيٍّ من الأوصياء المعصومين (علیهم السلام) لجميع الأُمّة أفراداً وجماعات، وفي كلّ زمان، وتحت أيّ ظرفٍ من الظروف.. ونحن

ص: 242


1- أُنظر: سُنن ابن ماجة: 1 / 296، مُسند أحمد: 4 / 415، المصنّف لابن أبي شيبة: 1 / 272.

نشهد لهم بأداء ذلك وعدم التقصير فيه فرداً فرداً من أفراد المعصومين (علیهم السلام) ، وأنّهم أعذروا في الدعاء وبذلوا مُهَجَهم في الله لتحقيق ذلك..

اللمعة السابعة: أُسلوب الدعوة

الدعوة إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع لا تنحصر بطريقٍ دون آخَر، ولا يلزم منها الخروج بالمعنى المصطلَح واستعمال القوّة والدعوة إلى القتال، بل هي على العكس تماماً في سلوك المعصومين الّذين يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلون بالّتي هي أحسن، فإذا الّذي بينهم وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم!

لم يُقاتِل أمير المؤمنين (علیه السلام) وخليفة رسول ربّ العالمين المنصوب بالنصّ الجليّ المبين مَن أسّس أساسَ الظلم والجَور، وفتح باب البدَع على مصراعَيه، وبدّل وغيّر وقلب الدين ولبسه لبس الفرو مقلوباً..

ولم يقاتل الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) مَن حوّل ما يُسمّى (الخلافة) إلى مُلكٍ عقيم، قاتل عليه مولى الموحّدين والمنصوص عليه في الغدير..ولم يقاتل أحدٌ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) لإحياء معالم الدين وإماتة البدَع في العالمين..

ولم يكن الأفراد والجماعات بحاجةٍ إلى استعمال القوّة بالمعنى المصطلح، لإقامة العوَج وإصلاح السلوك، وإماتةِ البدَع وإحياء السنن،

ص: 243

ويكفي التزامهم وإلزامهم مَن تحت زعاماتهم بذلك والتوافق عليه، واستعمال الرفق والمراقبة والمتابعة لتحقيق ذلك.

هكذا كانت سيرة الأنبياء (علیهم السلام) وسيّدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والأوصياء وسيّدهم أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، ومَن سار على نهجه من الخلفاء الراشدين المعصومين المنصوبين من الله بالتعيين!

اللمعة الثامنة: إنْ أجابوا اهتدوا..

لم يفرض الإمام (علیه السلام) عليهم الإجابة، وإنّما أبان لهم نتيجة الإجابة، فإنّهم إن أجابوا اهتدوا سُبل الرشاد..

لم يستعمل الإمام (علیه السلام) مفردةً تفيد الوجوب والفرض والتعيُّن، وإنّما جعلهم بالخيار.. «فإنْ تُجيبوا».. غاية ما في الأمر أنّه أوضح لهم العاقبة الحسنة الّتي تترتب على هذه الإجابة..

إنّهم إن أجابوا اهتدوا سبيل الرشاد.. ولم يصرّح لهم بطلبٍ ودعوةٍ خاصّةٍ ذات لونٍ وطابعٍ خاصٍّ يترتّب على هذه الإجابة، كأن يطلب منهم التحرّك من أجل تحقيق هذه الدعوة بطريقٍ خاصّ..ولم يُخبرهم بانعقاد عزمٍ خاصٍّ له بالذات يريد من خلاله تحقيق ذلك، ويدعوهم للالتحاق به..

بل لم ينسب الهداية له، ولم يجعل نفسه سبباً في ذلك لما يريد أن يفعله ممّا يؤدّي بهم إن التحقوا به إلى هذه الهداية..

ص: 244

قال: إن أجبتم تهتدوا سبل الرشاد.. وهذه دعوةٌ ونتيجةٌ لازمةٌ لكلّ مَن استجاب لها في كلّ زمانٍ وكلّ مكانٍ وفي أيّ ظرف.

اللمعة التاسعة: تهتدوا سبيل الرشاد

النتيجة الّتي رتّبها الإمام (علیه السلام) في كتابه على إجابة القوم لدعوته هي الهداية إلى سبيل الرشاد.. تهتدوا سبيل الرشاد..

وهذه الدعوة والنتيجة المترتّبة عليها تحمل نفس الإيقاع والإشعارات والنَفَس الّذي تحمله دعوة مؤمن آل فرعون، ويمكننا من خلال تلاوة بعض الآيات الّتي وردَت فيها هذه الدعوة، لنعيش أجواءَها ونتصوّر المشهد الّذي وردت فيه..

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْعَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى

ص: 245

اللهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدَىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَبِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ ((1)).

كانت دعوة مؤمن آل فرعون دعوةً وموعظةً حسنةً ومجادلةً بالّتي هي أحسن..

ولا نريد الدخول في تفسير هذه الآيات وتطبيقها على ما نحن فيه، ونحسب أنّ مجرّد تلاوتها واستشعار أجوائها كافٍ لتصوّر المشهد..

ص: 246


1- سورة غافر: 36 _ 55.
اللمعة العاشرة: الخاتِمة

قد يُقال:

لا يُرى في الكتاب ما يتضمّن الدعوة إلى الاستنهاض والاستنصار، والتحريضِ على القتل والقتال، ومواجهةِ السلطة والحكم والولاة المزروعين في كلّ النواحي والبلدان والأمصار..

غاية ما في الكتاب أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، ودعوةٌ لإحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع، وهذه الدعوة أعمّ من إعلان الخروج بالمعنى المصطلَح، والسلام.

وقد أشرنا فيما سبق إلى ذلك، وسيأتي في ذيل الرواية الثانية المفصّلة الكلام عن مؤدّى الكتاب.

الرواية الثانية: المفصّلة
اشارة

الطبريّ:

فجاءت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسل به (صلی الله علیه و آله) ، وكنّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ

ص: 247

علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمرى أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمه الله» ((1)).

إبن كثير:

«... فتسمعوا قولي وتطيعوا أَمري، فإن فعلتم أهدكم سبيلالرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة ((2)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك إذ قَدِم رسولُ الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته ... بنسخةٍ واحدة، أوّله:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ (علیهما السلام) :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على جميع خَلقه، وأكرمَه

ص: 248


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

بنبوّته، وحباه برسالته، ثمّ قبضه إليه مكرماً، وقد نصح العباد وبلّغ رسالاتِ ربّه، وكان أهلُه وأصفياؤه أحقُّ بمقامه مِن بعده، وقد تأمّر علينا قومٌ، فسلّمنا ورضينا كراهة الفتنة وطلب العافية، وقد بعثتُ إليكم بكتابي هذا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإنْ سمعتم قولي واتّبعتم أمري أهدكم إلى سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ((1)).

* * * * *

يمكن متابعة هذا النصّ من خلال المسالك التالية:

المسلك الأوّل: انفراد الطبريّ

ورد في كتب التاريخ ذكرٌ للكتاب، إمّا على نحو الإشارة وذِكر المضمون، أو على نحو الدمج، أو ذِكر النصّ كما مرّ معنا في الأقسام السابقة والرواية الأُولى التي ذكرناها قبل قليلٍ في القسم الثالث.

وروى الطبريّ نصّ الكتاب، وهو يتضمّن ما ورد في الرواية الأُولى المختصرة، بَيد أنّ فيه زياداتٍ كثيرةً وخطيرة..

ويبدو أنّه قد تفرّد بهذه الزيادات _ حسب الفحص _، وقد أعرض عن ذِكرها مَن جاء بعد الطبريّ، سوى ابن كثيرٍ في (البداية والنهاية)، حيث نقل اللفظ نفسه باختلافٍ لا يكاد يبين في مفرداتٍ معدودةٍ لا

ص: 249


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة..

أمّا ما ورد في نسخة (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنَف، فهو يتوافق في اللفظ والتفصيل بنحوٍ ما مع لفظ الطبريّ، غير أنّه يمتاز عنه بميزةٍ مهمّةٍ جدّاً، إذ أنّه لم ينقل ما ورد في لفظ الطبريّ من العبارات المثيرة الخطيرة التي تتحلّق لها عيون كلّ مَن يقرأها!

المسلك الثاني: ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) والشهادة له بالتبليغ

قدّم الكتاب ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّ الله اصطفاه على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، وأختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه..

وشهد له على التحقيق ب- (قد) والفعل الماضي أنّه قد نصح لعباده وبلّغما أُرسِل به.. فلم يقصّر النبيّ (صلی الله علیه و آله) في البيان الكامل التامّ الشافي الوافي، وحاشاه، ولم يرحل إلى الرفيق الأَعلى إلّا بعد أن أكمل اللهُ له دِينَه وأحكم أمر دِينه إلى يوم القيامة، لأنّ رسول الله هو خاتم الأنبياء والمرسَلين، فشرّع الله ما يتكفّل أمر عباده، ويضمن دينهم وتمامه من بعده، فأمر نبيّه أن يحدّد للناس ما يجب عليهم أن يفعلوه مِن بعده، وحدّد لهم الملجأ والكهف الحصين الّذي يحميهم، ويعلّمهم مراضي الله ومساخطه، وينصب لهم الإمام الّذي يأتمّون به ويقتدون به، فيسير بهم على المحجّة البيضاء الّتي تنتهي بهم إلى رضوان الله وجِنانه.

فأمر الله نبيّه أن يصدع بالأمر على رؤوس الأشهاد: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ

ص: 250

مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ((1)).

فصدع النبيّ (صلی الله علیه و آله) بما أُمِر، وتحمّل مكاره القوم، وصبر على كيدهم ونظراتهم الّتي كانت كافيةً لأن تُزيل الجبال عن مراسيها، وكلماتِهم الّتي كانت تتناهى إليه وهم يُسرّون بعضهم بعضاً..

فشاء الله أن يُيأس الكفّارَ من دِين الله، وأن يُطمْئن المؤمنين، ويُكمِلَ لهم دِينهم ويُتمّ عليهم نعمته، ويرضى لهم الإسلام التامّ بولاية الأوصياء من بعدالنبيّ (صلی الله علیه و آله) .. ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ ((2)).

فأعلن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبلّغ ما أُرسِل به كمُلاً، ولم يترك لذي بصيرةٍ وصاحب دينٍ عُذراً إلى يوم القيامة.. فكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) يُعلن ذلك في كلّ موطنٍ وموقفٍ ومشهدٍ يشهده، سرّاً وعلانيةً، منذ اليوم الأوّل من البعثة ومنذ يوم الدار، إلى أن أعلنها على رؤوس الملأ في مشهدٍ عظيمٍ تواتر المسلمون واتّفقوا على نقله بالاتّفاق، وإلى ما بعد ذلك حتّى اللحظات الأخيرة من عُمُره المبارك..

ص: 251


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة المائدة: 3.

هكذا أراد الله لعباده.. وهو المطلوب.. أيكون النبيّ (صلی الله علیه و آله) حريصاً على بيان بعض الأحكام الجزئيّة وتلاوة القرآن، ولا يكون حريصاً على بيان الحُكم الأعظم الّذي به ضمان أُمّته إلى يوم القيامة، ولا يكون حريصاً على بيان تكليف الأُمّة والمفزع لها بعده، المفسّر الأعظم للقرآن، والمبيّن للسنّة، والداعي إلى الله، والمنار الّذي به يهتدي الناس، والمحجّة الّتي بها ينجو العباد؟!!

المسلك الثالث: أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) مِن بعده

ثمّ ذكر الكتاب أهلَ بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) مِن بعده، وأجمل في سطرٍ واحدٍحقائق تحتاج إلى أسفارٍ ومجلّداتٍ لبيانها.. غير أنّ الإمام (علیه السلام) أرسلها إرسال المسلَّمات، لأنّها هي كذلك.. لأنّ أحداً من المسلمين لا يمكنه إنكارها أو التشكيك بها أو الردّ عليها.. لقد عمل النبيّ (صلی الله علیه و آله) على بيانها حتّى صارت من البديهيّات في عقيدتهم وحياتهم اليوميّة، لا تجد مسلماً إلّا وقد سمع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو سمع عن أصحابه ما رووا عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ما يؤكّد ذلك..

فلا شكّ أنّ أهل البيت (علیهم السلام) هم:

- أهل النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

- أولياؤه.

- أوصياؤه.

- ورثَته.

ص: 252

- أحقّ الناس بمقامه في الناس.

فهم أحقّ الناس بمقامه في الناس، في نصّ القرآن الكريم..

وهم أحقّ الناس بمقامه في الناس، في صريح كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) المتواتر المتظافر المتكاثر..

وهم أحقّ الناس بمقامه في الناس فيما آتاهم الله في أنفسهم، فجعلهم أعلم الخلق، وجعل كلامهم نوراً، وأمرهم رُشداً، ووصيّتهم التقوى، وفعلهم الخير، وعادتهم الإحسان، وسجيّتهم الكرم، وشأنهم الحقّ والصدق والرفق،وقولهم حُكماً وحتماً، ورأيهم علماً وحِلماً وحَزماً، إنْ ذُكر الخيرُ كانوا أوّلَه وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه..

لا يستطيع واصفٌ من الناس وصف حُسن ثنائهم، ولا يُحصي جميل بلائهم، وبهم أخرج الله عباده من الذلّ، وفرّج عنهم غمرات الكروب، وأنقذهم من شفا جُرُف الهلكات ومن النار.

بموالاتهم علّم الله عباده معالم دينهم، وأصلح ما كان فسد من دنياهم، وبموالاتهم تمّت الكلمة وعظُمَت النعمة وائتلفَت الفرقة، وبموالاتهم تُقبَل الطاعة المفترضة، ولهم المودّة الواجبة، والدرجات الرفيعة، والمقام المحمود، والمقام المعلوم عند الله (عزوجل) ، والجاه العظيم، والشأن الكبير، والشفاعة

ص: 253

المقبولة ((1))..

وآتاهم الله كلّ ما يحتاجه العباد إلى يوم القيامة!

المسلك الرابع: الاستئثار عليهم

بعد أن شهد الكتاب للنبيّ (صلی الله علیه و آله) بالأداء والنصيحة، وذكر ما لآل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) باتّفاق المسلمين وشهادة الواقع بالقطع واليقين، عرّج على بيان ما جرى بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من إقصاء أهل بيته وإزاحتهم عن مقامهمودفعهم عن مراتبهم الّتي رتّبهم الله بها، وصبرهم على ذلك..

فذكر استئثار القوم عليهم!

والاستيثارُ: الانفراد بالشيء، واستَأثَرَ فلانٌ بالشيء: استبدّ به، استأثَرَ بالشيء على غيره: خصَّ به نفسَه واستبدّ به ((2)).

وقد كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أخبر أهلَ بيته بما سيجري عليهم من الإثرة والظلم والجَور من القوم، وأوصاهم بالصبر، فصبروا..

المسلك الخامس: الرضى وكراهة الفرقة

ثمّ أشار الكتاب إلى صبرهم ورضاهم بما فعل المعتدون، فقال: «فرضينا، وكرهنا الفرقة»..

ص: 254


1- إقتباسٌ من الزيارة الجامعة. أُنظر: مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 2 / 616، عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق: 2 / 277، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 100.
2- أُنظر: لسان العرب لابن منظور، مجمع البحرين للطريحي، وغيرهما: أَثَرَ.

وللرضى معانٍ، منها ما ينسجم مع المشهد، ومنها ما يأبى الانسجام.

فالرِّضى: ضدُّ السَّخَط، يُعدّى ب-- (على)، قال (عزوجل) : ﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ ((1)).

وفي حديث الشيعة مع مخالفيهم: «ارضُوا ما رَضِيَ اللَّهُ منهم مِن الضَّلال»، أي: أقرّوهم على ما أقرّهم الله عليه، وليس المراد حقيقة الرضى.

ورضيتُ بالشيء رضى: اخترتُه.

والراضي قد يعاقِب للمصلحة أو لاستيفاء حقِّ الغير ((2)).فالرضى هنا بمعنى إقرارهم على ما هم عليه، واختيار الصبر على ما هم عليه، وليس المراد حقيقة الرضى؛ لاستحالة رضاهم بما لا يرضاه الله، وغصبُ الخلافة معصيةٌ هي أُمّ المعاصي لجميع الأُمّة إلى يوم القيامة، والمعصوم لا يرضى بمعصيةٍ مهما كانت صغيرة، فكيف يرضى بمحاربة الله ومبارزته في ولايته، وتحريفِ أوامره في القرآن، وقلْبِ دِينه، وجَحْدِ إنعامه، ومعصيةِ الرسول جهاراً نهاراً، وتعطيلِ الأحكام، وإبطالِ الفرائض، والإلحادِ بآيات الله، ومعاداةِ أَوليائه، وموالاةِ أعدائه، وتخريبِ البلاد، وإفسادِ العباد، وهتكِ الحُرمات، وغيرها من الجرائم الّتي تلَتْ غصبَ الخلافة ودفْعَ أهلها عنها؟!

ص: 255


1- سورة المائدة: 119، سورة التوبة: 100، سورة المجادلة: 22، سورة البيّنة: 8.
2- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحي، لسان العرب لابن منظور، وغيرهما: رَضَوَ.

لقد ذُكرَت الخلافة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فقال:

«واللهِ لقد تقمّصَها أخو تَيم، وإنّه لَيعلَمُ أنّ محلّي منها محلُّ القُطب مِن الرحى، ينحدرُ عنّي السَّيلُ ولا يرتقي إليّ الطير، فسدَلْتُ دونها ثوباً، وطَويتُ عنها كَشحاً، وطفِقتُ أرتئي ما بين أنْ أصولَ بيدٍ جَذّاء أو أصبرُ على طِخيةٍ عَمياء، يشيبُ فيها الصغيرُ ويهرم فيها الكبير، ويكدحُ فيها مؤمنٌ حتّى يلقى الله ربَّه، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذىً وفي الحلق شجاً، أرى تُراثي نهباً.

حتّى إذا مضى الأوّلُ لسبيله، عقدها لأخي عَديٍّ بعده، فيا عجَباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخَر بعد وفاته، لَشدّ ما تشطّرا ضرعيها، فصيّرها في حوزةٍ خشناء، يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثارُ فيها والاعتذارُ منها،فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم.

فمُنيَ الناسُ _ لَعمر الله _ بخبطٍ وشماس، وتلوُّنٍ واعتراض، فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدُهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريبُ فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرَن إلى هذه النظائر؟!

لكنّي أسففتُ إذ أسفوا، وطرتُ إذ طاروا، فصغا رجُلٌ منهم لضغنه، ومال الآخَر لصهره، مع هنٍ وهن، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنَيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن

ص: 256

انتكث عليه فتلُه، وأجهز عليه عملُه، وكبَتْ به بطنتُه» ((1)).

صبروا.. إذ أمرهم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بالصبر، حالهم حال هارون إذ رأى قومه قد ارتدّوا وعبدوا العجل..

﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ولا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً * وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُوني وَأَطيعُوا أَمْري * قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى * قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْري * قالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتي وَلا بِرَأْسيإِنِّي خَشيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَني إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلي﴾ ((2))..

مع كلّ ما تجرّعه آل الله في الله، ما فتأ القوم يرمونهم بشقّ العصا وتفريق الأُمّة الّتي اجتمعت على ضلالٍ تحت وطأة الترهيب والترغيب وتزيين الشيطان وإغوائه..

صبروا.. وهم والأعداء يعلمون أنّ الأوصياء الّذين فرض الله طاعتهم على العباد أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ عليهم ممّن تولاه من الأعراب..

ص: 257


1- أُنظر: علل الشرائع للصدوق: 1 / 151، معاني الأخبار للصدوق: 361، نهج البلاغة: 48 _ بتحقيق: صبحي الصالح.
2- سورة طه: 88 _ 94.
المسلك السادس: أحسنوا! أصلحوا! تحرّوا الحقّ!!!
اشارة

يمكن ملاحظة هذه الفقرة من خلال التعليقات التالية:

التعليقة الأُولى: المُسيء مُحسن.. المُفسِد مُصلح!!

أعيت هذه الفقرة مَن ذكر الكتاب، سيّما الكُتّاب والمحقّقين من الشيعة _ أعزّهم الله وكثّرهم _؛ إذ أنّ فيها شهاداتٍ يفترض النصُّ أنّها صادرةٌ من خامس أصحاب الكساء المعصوم المظلوم المهتضَم للغاصبين المعتدين، وهي لا تنسجم مع أيّ تأويلٍ وتصوير..

كيف يمكن أن يكون مَن بارز الله بالمحاربة وغصب الحقّ الحقيق المفترض المنصوص عليه بالنصّ الجليّ الصريح، قد أحسن، أصلح، تحرّىالحقّ؟!! وكلّ هذا مؤكَّدٌ ب-- «قد»، ومشفوعٌ بالدعاء لهم!

ربّما استطاع مؤوِّلٌ أن يؤوّل قوله: «قد أحسنوا».. أقول: قد يستطيع! ولكن كيف يمكن تأويل أنّهم أصلحوا؟ وقد أفسدوا في الأرض فساداً لا يُصلِحه إلّا سيف الله المنتقِم صاحب الأمر والزمان!

وكيف يمكن أن يسوّغ فعلهم، ويبرّر عملهم، ويبحث لهم عن ذرائع، ويصحّح نواياهم، إذ أنّهم تحرّوا الحقّ.. اجتهدوا فأخطؤوا فلهم أجر!!!

أيكون مَن ترك جثمان النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسارع إلى السقيفة ينازع المُلك والسلطان مُحسِناً مُصلِحاً متحرّياً للحقّ؟!!

أيكون مَن غصب الخلافة، وخالف الله وخالف رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وحرّف

ص: 258

الكتاب، ومحى السنّة الشريفة، وبدّل الدين، وقلَبَ الموازين، وآوى مَن طرده النبيّ (صلی الله علیه و آله) وطرد مَن آواه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنكر الوحي في ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ورمى النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالهجر وأنّ الوجع قد غلبه فلا يعي ما يقول، وخرّب البلاد، وأفسد العباد، وأخرب بيت النبوّة، وردم بابه، ونقض سقفه، وألحق سماءَه بأرضه، وعاليَه بسافله وظاهره بباطنه، واستأصل أهله، وأباد أنصاره، وقتل أطفاله، وأخلى منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) من وصيّه ووارث عِلمه، وجحد إمامته، وأشرك بربّه، وأخفى الحقّ، وآذى المؤمن، وولّى المنافق، وعزل الأولياء، وقهر الإمام الّذي نصبه الله، وغيّر الفروض، وأثار الشرّ، وأراق الدماء، وبدّل الأحاديث والأخبار، وغصب إرث الصدّيقةالزهراء (علیها السلام) حبيبة ذي الجلال، واقتطع الفيء، وأكل السُّحت، واستحلّ الخُمس الّذي فرضه الله لفاطمة (علیها السلام) وذرّيّتها، وأسّس أساس الباطل، وبسط الجور والنفاق، وأضمر الغدر لله ولرسوله ولأوليائه (علیهم السلام) ، ونشر الظلم، وأخلف الوعد، وخان الأمانة، ونقض العهد، وحلّل الحرام وحرّم الحلال، وفتق بطن حبيبة الله وحبيبة رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وأسقط جنينها من غير جُرم، ودقّ ضلعها، ومزّق صكّها، وبصق على اسم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومحاه في الكتاب المكتوب لابنته في فدك، وبدّد شمل آل الرسول، وأذلّ عزيزهم، وأعزّ ذليل أعداء الله ورسوله وآله، ومنع الحقّ، ودلّس الكذب، وترك الفرائض، وغيّر السنّة، وعطّل الأحكام، وضيّع الوصيّة، ونكث البيعة يوم الغدير، وأنكر

ص: 259

بيّنة الزهراء وأمير المؤمنين (علیهما السلام) ، وارتقى العَقَبة، ودحرج الدباب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لينفّر به ناقته ويقتله، ولزم الأزياف، وكتم الشهادات ((1))..

أيكون مثل هذا _ وما فعله أكثر _ قد أحسن، وأصلح، وتحرّى الحقّ؟!

التعليقة الثانية: تأليف القلوب والتقيّة

قد يُقال:

إنّ الإمام (علیه السلام) كان يخاطب الأعداء في كتابه، وهم مِن أتباع العِجل والسامريّ، يقدّسونهم إلى حدّ العبادة ويتّخذونهم أوثاناً، وهو يريد استنهاضهم وتحريضهم على مَن هم على شاكلتهم في المعتقَد، فلابدّ من تأليف قلوبهم، وترطيب الأجواء معهم، والانسياق معهم، ودغدغة عواطفهم، والتأثير على أحاسيسهم، والتقرّب إليهم بما يحبّون ويرغبون فيه، وفتح مغاليق قلوبهم بمفاتيحها..

بيد أنّ هذا الكلام فيه جهالةٌ وإجحافٌ في حقّ الإمام المعصوم (علیه السلام) ، فالإمام (علیه السلام) قد يتألّف القلوب لمصلحة الإسلام، ولكن ضمن الضوابط الّتي حدّدها الله ورسمها المعصوم نفسه بأمر الله، فلا يمكن أن يكون التأليف على حساب الحقّ والحقيقة والدين الحقّ والأمر الإلهيّ!

كان بالإمكان الاكتفاء مثلاً لتحقيق ذلك الترحّم عليهم لو كان ثمّة ضرورةٌ تدعو إلى ذلك..

ص: 260


1- إقتباس. أُنظر: المحتضر للحلّي: 112 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يطلب الحقّ بالجور، ولا يقلب حُكم الله ويجور على الحقّ وهو الّذي جعله الله للحقّ مناراً..

إنّ في تصحيح ما فعله الظالمون تغريرٌ بالعباد.. ولا مجال للتقيّة هنا كما هو واضح، بأيّ معنىً فسّرنا التقيّة، إن على المشهور، أو على أنّها مفهومٌ عامٌّشاملٌ كاملٌ يشمل جميع مناحي الحياة بتفاصيلها، وهي عبارةٌ عن احترام الآخَر ومداراته وعدم حمله على ما لا يطيق، فإنّ الإمام (علیه السلام) في هذا الموقف لم يكن في حالةٍ تستدعي منه المداراة إلى حدّ تضييع الحقّ _ والعياذ بالله _..

التعليقة الثالثة: لماذا القيام على الإحسان والصلاح؟!

إذا كان القوم قد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ فرحمهم الله، فلماذا قام الإمام (علیه السلام) ؟ وبماذا قام؟ وماذا يهدف من قيامه وقد كان مَن كان قبله مُحسِناً مُصلِحاً متحرّياً للحقّ؟ فليُبقي على إحسانهم وإصلاحهم، ويتّبع الحقّ الّذي تحرّوه من قبل!

وما يزيد إلّا إفراز نتنٍ من إفرازات هؤلاء القوم الموصوفين بهذه الصفات، فالمفروض أن يكون حسنةً من حسناتهم، ومفردةً من مفردات إصلاحهم، وجلوةً من جلوات الحقّ الّذي تحرّوه!

حاشا لسيّدي ومولاي أن يشهد هذه الشهادة، وهو الحقّ نفسه!

ص: 261

التعليقة الرابعة: على منوال كلام أمير المؤمنين (علیه السلام)
اشارة

قد يُقال:

إنّ في التاريخ كلاماً لأمير المؤمنين (علیه السلام) يشبه الكلام الوارد في هذا الكتاب شبهاً قريباً جدّاً، فقد روى المنقريّ في (وقعة صفّين) وابن أبي الحديد في (شرح النهج)، في مناظرةٍ طويلةٍ بين أمير المؤمنين (علیه السلام) ومناوئيهفي صفّين، أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) أجاب أحدهم فيما أجاب، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

«أمّا بعد، فإنّ الله بعث النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلَكة، وجمع به بعد الفُرقة، ثمّ قبضه الله إليه وقد أدّى ما عليه.

ثمّ استخلف الناسُ أبا بكر، ثمّ استخلف أبو بكرٍ عمر، وأحسنا السيرة، وعدلا في الأُمّة، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا الأمر دوننا ونحن آل الرسول وأحقُّ بالأمر، فغفرنا ذلك لهما.

ثمّ ولي أمْرَ الناس عثمان، فعمل بأشياءٍ عابها الناس عليه، فسار إليه ناس فقتلوه.

ثمّ أتاني الناس وأنا معتزِلٌ أمرهم، فقالوا لي: بايعْ. فأبيتُ عليهم، فقالوا لي: بايعْ، فإنّ الأُمّة لا ترضى إلّا بك، وإنّا نخاف إنْ لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتُهم.

فلم يرعني إلّا شقاق رجُلَين قد بايعاني، وخلاف معاوية إيّاك الّذي لم يجعل الله له سابقةً في الدين ولا سلف صدقٍ في الإسلام، طليقٌ ابن طليق، وحزبٌ من

ص: 262

الأحزاب، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّاً هو وأبوه، حتّى دخلا في الإسلام كارِهَين مُكرَهَين.

فعجبنا لكم ولإجلابكم معه وانقيادكم له، وتدَعُون أهل بيت نبيّكم (صلی الله علیه و آله) الّذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم أحداً من الناس.إنّي أدعوكم إلى كتاب الله (عزوجل) وسُنّة نبيّكم (صلی الله علیه و آله) ، وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لنا ولكلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ ومسلمٍ ومسلمة» ((1)).

يُلاحَظ مدى الشبَه بين خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) هذه وبين الكتاب، مع اختلافاتٍ مهمّةٍ تبدو للمتأمّل بوضوح:

الاختلاف الأوّل: أمير المؤمنين (علیه السلام) في مقام المحاججة

كان الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في مقام المحاججة مع المناوئين في ساحة حرب، وكلّهم يبحث عن ذريعةٍ لتكفير الإمام (علیه السلام) والنيل منه.

والمحاججة لها أحكامها وضروراتها، وربّما اضطرّ المحاجج أن يسير مع الطرف المقابل ويتنازل له جدلاً، ويتماشى معه فيما يقرّ به، ويعترف لينال منه الإقرار بما لا يقرّ به إلّا بهذا النوع من المحاججة.

فيما كان الكتاب المرسَل إلى أهل البصرة ابتداء، وليس في مقام المحاججة!

ص: 263


1- وقعة صفّين للمنقريّ: 201، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 24.
الاختلاف الثاني: خلفاء الناس!

أكّد الإمام (علیه السلام) أنّ الناس قد استخلفوا أبا بكر، وأنّ أبا بكرٍ استخلف عمر، فبتر القضيّة من الجانب الشرعيّ والبُعد الإلهيّ، وجعلها سلطةً زمانيّة،وأنّ هذين الرجلين خليفتان للناس، وليسا خليفتان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) !

فالإمام (علیه السلام) هو خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنصّ يوم الغدير وغيره من النصوص، وهو الوليّ الّذي جعله الله أَولى بالمؤمنين من أنفسهم، أمّا الآخَران فإنّهما من الأرض وإلى الأرض، ولا علاقة لهما بربّ الأرض والسماء، فهو لم يقرّر لهما مقاماً دينيّاً من قريبٍ ولا من بعيد.

الاختلاف الثالث: أحسنا السيرة في الأُمّة لا في الآل

صرّح الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّهما: «أحسنا السيرة وعدلا في الأُمّة»، ولم يُطلِق الإحسان لهما، ولم يقس إحسانهما إلى أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما ذكر ما يعتقده فيهما أصحابُهما وأتباعهما وعبدتهما، إذ أنّهم يعتقدون أنّهما أحسنا السيرة وعدلا في الرعيّة..

وعلى أقصى التقادير، فإنّ إحسانهما السيرة وعدلهما كان في (الأُمّة) الّتي اختارتهما، ولم يتعرّض لحُسن سيرتهما مع أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ولا عدلهما فيهم.. كيف وقد غصبوا جميع حقوق أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) الخاصّة والعامّة؟

ص: 264

بل على العكس، أكّد في الفقرة التالية أنّ أهل البيت (علیهم السلام) وجدوا عليهما..

إنّهما أحسنا السيرة فيمن اختارهما من الناس، وفق موازين الناس، وفق موازين الجاهليّة، وفق موازين العالقين بأثقال شهوات الطين المتقلّبين فيأوحال قيعان الدنيا..

لم يقسهما إلى عدل الله، وإلى عدل مَن نصبه الله مجسّداً لعدله في عباده.. إنّهما أئمّة الناس باختيار الناس، وليسا أئمّة الناس باختيار الله، فحسن سيرتهما وعدلهما يقاسان إلى الناس..

وما جرى على بعض الأُمّة من قبيل ما جرى على بني حنيفة ومالك ابن نُويرة من قتلٍ وسبي، فإنّهم إنّما أُخذوا من حيث ولايتهم لأمير المؤمنين (علیه السلام) وخليفة رسول ربّ العالمين، إذ أنّهم أبوا أن يدفعوا الزكاة إلى خليفة الناس، وقالوا أنّهم لا يعرفون خليفةً لرسول الله بهذا الاسم وهذه الصفة، وإنّما يعرفون من بايعوه ببيعة الغدير، فهم لا يدفعون الزكاة إلّا له، فأخذهم القوم قتلاً وسبياً.. فهم تبعٌ لآل الرسول، جرى عليهم ما جرى على آل الرسول، ولم يتعاملوا معهم كما تعاملوا مع من استخلفهم من الناس.

الاختلاف الرابع: وَجْدُ أهل البيت (علیهم السلام) عليهما

صرّح الإمام (علیه السلام) أنّ أهل البيت وقد وجدوا عليهما أن تولّيا الأمر

ص: 265

دونهم، وهم آل الرسول وأحقّ بالأمر.. فهو قد أعلن صراحةً سخطه وعدم رضاه وما تعرّض إليه من الأذى منهم.

قال: «وقد وجدنا عليهما».

وَجَدَ عليه: غضب، وفي الدعاء: «أسألُكَ فلا تَجِدْ عَلَيّ»، أي: لاتغضبْ علَيّ من سؤالي ((1)).

ولم يذكر الرضى عنهم بأيّ معنىً من معاني الرضى.

الاختلاف الخامس: المغفرة

لم يعبّر الإمام (علیه السلام) تعبيراً يفيد رضاه عنهما، وإنّما قال: «فغفرنا ذلك لهما»، وهذا التعبير فيه إشعار تجريمٍ واضحٍ يمكن لمسه من خلال الإيقاع والتركيب الّذي كوّن الصياغة والأُسلوب.

ويُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) نسب (الغفر) لهم، ولم ينسبه إلى الله، فهو لم يقل: إنّ الله قد غفر لهما ذلك، وإنّما قال: «فغفرنا ذلك لهما»، فهم الّذين قد غفروا، وسيكون لهما مع الله موقف، يكون فيه الخصم محمّدٌ وآله، والحَكَم الله، ف-- ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ ((2))، وسيعلمان أيّهم ﴿شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ ((3))، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((4))، ﴿وَالْعَاقِبَةُ

ص: 266


1- أُنظر: لسان العرب لابن منظور، مجمع البحرين للطريحي: وَجَدَ.
2- سورة الكهف: 50.
3- سورة مريم: 75.
4- سورة الشعراء: 227.

لِلْمُتَّقِينَ﴾ ((1)).

ثمّ إنّ الغَفْر: التغطية والستر، غفَرَ اللهُ ذنوبه: أي سترها، وغَفَره: ستره، وكلّ شيءٍ سترتَه فقد غفرتَه، ومنه قيل للّذي يكون تحت بيضة الحديد على الرأس: مِغْفَر، وتقول العرب: اصبُغْ ثوبَك بالسواد، فهو أغفَرُ لوسَخِه، أي: أحْمَلُ له وأغطى له، ومنه: غفرتُ المتاع: جعلتُه في الوعاء، وغفر الأمْرَبغُفْرته وغَفيرته: أصلَحَه بما ينبغي أن يَصْلَح به، يُقال: اغْفِروا هذا الأمرَ بغُفْرته وغَفيرته، أي: أصلحوه بما ينبغي أنْ يُصلَح ((2)).

فالمغفرة ستر الشيء أو إصلاحه بما ينبغي أن يُصلَح، وليست هي العفو وترك المحاسبة، إن عاجِلاً أو آجِلاً، كما أنّها ليست تعني الرضى بحال!

الاختلاف السادس: التمييز بينهما وبين الثالث

لقد ميّز الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في التعامل والحُكم بين الأوّلَين، وهما موضع التقيّة وضرورة مداراة أتباعهما، وقد اتّفقَت عليهما الأُمّة المتعوسة وقدّستهما، فذكرهما بما ذكرهما به.

ثمّ أفرد الحكم على الثالث، ونسب ولايته وقتله إلى الناس أيضاً: «ثمّ وليَ أمرَ الناس عثمان، فعمل بأشياءٍ عابها الناس عليه، فسار إليه ناسٌ فقتلوه».

ص: 267


1- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.
2- أُنظر: لسان العرب: غَفَرَ.

وصرّح في معاوية تصريحاً واضحاً: «لم يجعل الله له سابقةً في الدين ولا سلفَ صدقٍ في الإسلام، طليقٌ ابن طليق، وحزبٌ من الأحزاب، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّاً هو وأبوه، حتّى دخلا في الإسلام كارهَين مُكرَهَين».

فيما جاء المدح والشهادة في الكتاب لكلّ مَن سبق زمن الكتاب، بما يشمل الثالث ومعاوية، وأنّهم جميعاً أحسنوا، وأصلحوا، وتحرّوا الحقّ!فلماذا إذن كانت الجَمَل وصفّين؟!

الاختلاف السابع: إلزام القوم بالتزام أهل البيت (علیهم السلام)

ثمّ جرى أمير المؤمنين (علیه السلام) في كلامه _ بعد أن ذكر معاوية ما فيه من مساوئ _ مجرى إلزام القوم بأهل بيت نبيّهم (صلی الله علیه و آله) ، وعجب من إجلاب القوم مع معاوية وانقيادهم لهم، وتركهم أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذين لا ينبغي لهم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن يعدلوا بهم أحداً من الناس.

وبهذا ختم أعمال كلّ من سبق ودفع أهل البيت عن مقامهم وتركهم وشاققهم وانضمّ إلى مَن كان خلافهم وعدل بهم أحداً من العالمين، وكشف زيفهم، وألزمهم إلزاماً باتّباعه، ولم يجعل لهم خياراً وطريقاً إلى رضوان الله سوى الطريق الّذي اختاره الله لهم.

الاختلاف الثامن: الدعوة!

ثمّ دعاهم الإمام (علیه السلام) _ في مقام المحاججة _ إلى كتاب الله وسُنّة نبيّهم، وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين..

ص: 268

أجل، هذه هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين والأوصياء (علیهم السلام) والمؤمنين، وجاءت هنا تحمل لحناً تعريضيّاً واضحاً..

إنّ الإمام (علیه السلام) يدعو إلى هذه الموازين الواضحة المقبولة عند جميع المسلمين فيما يزعمونه من التزامه الإسلام، فمن يقاتله ويقف في الصفّالمقابل له فهو يدعو لخلاف هذه جميعاً، سيّما وأنّ الإمام (علیه السلام) قد ذكر لهم في المقطع الّذي سبق هذا المقطع بيعتهم له، فهي بيعةٌ صحيحةٌ على جميع الموازين، حتّى على موازين السقيفة والعقد الاجتماعيّ، ولم يشهد تاريخ الإسلام بيعةً أجمعَت عليها الأُمّة بقضّها وقضيضها وعامّتها وخاصّتها مثل ما حصل لبيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، إنْ في الغدير أو في البيعة الظاهريّة على موازين القوم بعد هلاك عثمان.

فهو يقول لهم: إنّي أدعوكم إلى موازين الحقّ هذه، فكيف تتركوني وتلتزمون مَن يدعو إلى موازين الباطل؟

الاختلاف التاسع: استغفار الإمام (علیه السلام) !

يُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) لا يختم كلامه بالسلام على القوم الّذين كانوا وقوفاً بين يديه يحاججونه، كما جاء في ختام الكتاب..

بل يُلاحَظ استغفاره وهو قائمٌ أَمامهم، فإنّه يستغفر الله بصيغة الجمع، ولا يستغفر لنفسه بصيغة المفرد؛ لخطورة الموقف، ولردم الطريق أمام دعاواهم الباطلة.

ص: 269

ثمّ يستغفر لكلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ ومسلمٍ ومسلمة، ولم يقُل: أستغفر الله لي ولكم، كما هو دأبه _ فداه العالَمين _ في خطاباته، فأطلقها _ وهو سيّد اللغة وأميرها _ ليدخل مَن يدخل تحت العناوين الّتي حدّدها، من دون مخاطبتهم بها، لأنّهم لا يستحقّون الاستغفار وهم في موقفهم ذاك، تماماًكما كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته يخاطبون غير المسلمين في كتبهم بالسلام على مَن اتّبع الهدى.

الاختلاف العاشر: الاختلاف عموماً

لا نريد الدخول في تفاصيل الاختلافات بين الكتاب المرسَل إلى أهل البصرة وبين خطاب أمير المؤمنين (علیه السلام) هذا، ونكتفي بهذا القدر الّذي أتينا عليه كقبسة العجلان..

ولكن على العموم، فإنّ الكتاب يختلف عن هذه الخطبة من حيث الموقف وطبيعته، والمخاطَب وطبيعته، والموادّ والمضامين، والمقصود من الخطاب والمطلوب من القوم المخاطَبين، وغيرها من الجهات الكثيرة..

وعلى فرض أن يكون مؤدّى هذا الخطاب هو نفس مؤدّى الكتاب في الإقرار والاعتراف للظالمين بالإحسان مطلقاً والإصلاح مطلقاً وتحرّي الحقّ مطلقاً، فالكلام في الخطبة سيكون نفسُ الكلام في الكتاب، إذ أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) هو ميزان الحقّ، وبه يُعرَف الحقّ وأهله، وهو مع الحقّ والحقّ معه بإقرار النبيّ (صلی الله علیه و آله) في مواطن كثيرةٍ قالها (صلی الله علیه و آله) .. وهذا الحقّ المطلَق لا يقرّ

ص: 270

للباطل المطلق أنّه أحسن وأصلح وتحرّى الحقّ..

وكيف يطلق على الباطل (أصلح) وتحرّى الحق، وهو تسويغٌ وتبريرٌ ودفاعٌ عنه وبحثٌ للمعاذير؟!!والإمام الحسين (علیه السلام) حُكمه حُكم أبيه، وهو خامس أصحاب الكساء، معصومٌ من الخلل والزلل، مطهَّرٌ تطهيراً..

التعليقة الخامسة: التناقض بين خطاب الكتاب وأهداف القيام

قالوا:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قام ليصحّح المسيرة الّتي انحرفَت منذ رحيل النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويخلّص الحُكم من المُلك العضوض والوراثة..

قام ليصحّح الانحراف.. وقد صحّحه هنا من خلال هذه الرسالة.. فإذا كان مَن مارس الانحراف ونظّر له وأجراه في الناس وفعل الأفاعيل الّتي قام الإمام (علیه السلام) ليرجعها إلى نصابها، تبيّن أنّه كان مُحسناً في ذلك وهو يبتغي الإصلاح ويتحرّى الحقّ.. فلماذا القيام إذن؟!!

إنّ ثمّة تناقضاً مقيماً مستحكماً لا ينحلّ بين الأهداف المعلنة للقيام وخطاب هذا الكتاب.

التعليقة السادسة: تخطئة الحقّ والأئمّة (علیهم السلام)

إذا كان أُولئك قد أصلحوا وأحسنوا وتحرّوا الحقّ _ بشهادة سيّد شباب

ص: 271

أهل الجنّة (علیه السلام) _، فمن وجد عليهم وسخط فعلهم فقد أخطأ ولم يصلح ولم يُحسِن ولم يتحرَّ الحقّ، وهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين (علیه السلام) ومَن اقتدى به من أولاده المعصومين (علیهم السلام) وشيعته الميامين، نستغفر الله ونتوب إليه من هذه النتيجة التعيسة والمآل القبيح..

لماذا خرجَت الصدّيقة الطاهرة (علیها السلام) مطالِبةً بحقّها وإرثها من قومٍ كانوا «قد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ»؟! نستجير بالله ونستغفره من هذا الاستطراد، ونكتفي بهذا القدر، وللمتلقّي أن يتابع..

المسلك السابع: المقطع المتكرّر

ورد في هذا المقطع من الكتاب نصٌّ قد مرّ معنا فيما مضى من الدراسة وتكرّر إمّا بالمعنى أو باللفظ، وهو الدعوة الّتي دعاهم إليها الإمام (علیه السلام) ، فلا نعيد.

غير أنّ نصّ الطبريّ امتاز بالتصريح ببعث الرسول بالكتاب، وعرض الدعوة كتقرير حالٍ واقع، إذ أنّ السنّة قد أُميتَت والبدعةَ قد أُحييَت..

ومن الواضح أنّ السنّة قد أُميتَت منذ أن غمض النبيّ (صلی الله علیه و آله) عينه واجتمع القوم في السقيفة، والبدعة قد أُحييَت منذ ذلك اليوم، بل من قبل ذلك اليوم.. والدعوة مفتوحةٌ منذ ذلك اليوم، وستبقى مفتوحةً حتّى يُورث اللهُ الأرض أولياءَه الصالحين ويُنقذ دِينه بالوليّ الخاتم المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

ص: 272

وختم الكتاب هنا بالسلام التامّ: «والسلام عليكم ورحمة الله»!! ((1))

المسلك الثامن: خبرٌ لا يرتضيه المخالِف والمؤالف!

ذكر ابن كثيرٍ الكتابَ وفق رواية الطبريّ، ثم ذيّل عليه قائلاً:

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة ((2)).

فهو إنّما رواه ليعلّق عليه هذا التعليق ويشكّك فيه، وربّما أفاد ذلك أنّ الطبريّ سيبقى فريداً في رواية هذا اللفظ، لم يسبقه أحدٌ ولم يلحقه أحدٌ في روايته عنه أيضاً، حسب الفحص..

وقد شكّك ابن كثيرٍ في صحّة هذا عن الإمام الحسين (علیه السلام) ، واستظهر أن يكون مطرّزاً بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة..

وقال بعض الشيعة: إنّ ما ورد في هذا الكتاب من زياداتٍ تشهد للقوم بالإحسان والإصلاح وتحرّي الحقّ، هو من الزيادات الموضوعة؛ لأنّها لا تنسجم مع سيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومبادئ الحقّ والعدل..

فأيّ كتابٍ هذا الّذي يُشكّك فيه المخالِف والمؤالِف، ويتّهم المخالف الشيعة بالزيادة فيه، ويتّهم الشيعة المخالفين بالزيادة فيه؟!!

ص: 273


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
المسلك التاسع: دوافع إرسال الكتاب
اشارة

بناءً على ما مرّ معنا من أنّ المخاطَبين بالكتاب كلَّهم أعداءٌ لشخصسيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، حتّى على رواية الشيخ ابن نما، فإنّ يزيد بن مسعود النهشليّ إنْ كان موالياً، فإنّ مَن خاطبهم من بني تميم كانوا أعداءً، حتّى أنّ بني سعد كانت صدورهم وغرةٌ تتميّز حقداً على حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ممّا اضطرّ ابن مسعودٍ لغسلها بمزن سحابةٍ، كما ذكر في كتابه..

وعرفنا أنّ البصرة لم تسجّل موقفاً مع الإمام (علیه السلام) يومذاك، ولم يخرج منها _ في المقابل _ عسكرٌ منظَّمٌ لصالح السلطان الحاكم..

وغيرها من الأسباب الّتي مرّت خلال الدراسة، ممّا دعا الباحثين من ذوي الاختصاص للتريّث هنا للبحث عن مبرّراتٍ ومسوّغاتٍ لإرسال مثل هذا الكتاب إلى مثل هؤلاء القوم.

ويمكن إجمال المسوّغات فيما يلي:

المسوّغ الأوّل: إقامة الحُجّة
اشارة

قالوا:

إنّ الإمام (علیه السلام) كتب إلى أهل البصرة، وهو لا شكّ عليمٌ بحالهم وعدواتهم له ولآل أبي طالبٍ ولكلّ مَن يمتّ إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ووليّ ربّ العالمين بصلة، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يقيم عليه الحجّة ويتمّها

ص: 274

ويبلغها..

وإقامة الحجّة وإتمامها تارةً تكون من باب إبلاغ التكليف والفراغ منإعلام المكلّف، وله الخيار إن شاء امتثل وإن شاء عصى.. وتارةً تكون من باب قطع المعاذير، وإعطاء الفرصة الكافية للنجاة، ليستحقّ العاصي العقاب بعد البلاغ والتمرّد على الله (تبارك وتعالى)..

والإمام (علیه السلام) يعلم أنّ هؤلاء القوم يصدق عليهم تماماً قوله (تعالى): ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ ((1)).

فأراد بذلك أن يركسهم في العذاب ركساً، ويسدّ عليهم أبواب النجاة، ليستحقوا الغضب الإلهيّ والسخط الربّانيّ، ولا يكون لهم طريقٌ إلّا طريق جهنّم وبئس المصير.

تماماً كما فعل مع ابن عمر وعُبيد الله بن الحُرّ الجُعفيّ، بَيد أنّه ترك للأخير فُرجةً حين نصحه أن يبتعد ولا يسمع واعيته، فإنّ مَن سمع واعيته ولم ينصره أكبّه الله على منخريه في النار.

وعلى كلا التقديرَين، يمكن أن يُثار هنا سؤال:

لماذا أهل البصرة بالذات؟

ص: 275


1- سورة الأعراف: 192 _ 193.

مرّ معنا أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكاتب أحداً من أهل البلدان والأمصار بتاتاً، ولم يستنهض أحداً، ولم يدعو أحداً لمواجهة السلطان الحاكم، حتّى أهلالكوفة، إذ أنّهم هم الّذين بدؤوا وكاتبوا الإمام (علیه السلام) ودعوه، وقد ذكرنا ذلك في مواطن عديدة..

فلماذا اختصّ أهلَ البصرة دون غيرهم من أهل البلدان والحواضر الأُخرى الّتي كانت في تلك الأيّام، من قبيل المدينة ومكّة واليمن والبحرين ومصر؟!

وإذا كانت الحجّة تُقام على الأعداء أيضاً، فإنّ أعدى الأعداء يومذاك كان أهل الشام، فلماذا لم يكتب إليهم الإمام (علیه السلام) ، ولم يتمّ عليهم الحُجّة ولم يُقِمْها عليهم؟!

لماذا لم يُكاتب الإمام (علیه السلام) رؤوس القبائل والعشائر المعروفة في الجُملة في عداد الأولياء، أو القريبين إلى أهل البيت (علیهم السلام) أكثر من قربهم إلى الأعداء، من قبيل قبيلة هَمْدان بأفخاذها وبطونها العظيمة الكبيرة الممتدّة المتشعّبة بما فيها من رؤوسٍ وجماجم وأعمدةٍ وأساطين ورجالٍ شجعانٍ ومقاتلين معرفين بالبطولة والبسالة والتضحية؟! وغيرها من القبائل المتواجدة في الكوفة قبل أن يكتب له أهل الكوفة وبعد أن كتبوا إليه، وفي غيرها من الأمصار..

لماذا لم يكتب إلّا إلى أهل البصرة، ولم يقم الحجّة إلّا عليهم دون سواهم من العالمين؟!

ص: 276

فالقيام بالمعنى المصطلح إمّا أن يكون تكليفاً واجباً على الناس جميعاًفي مشارق الأرض ومغاربها، فالمفروض أن تقام الحجّة عليهم أجمعين، وإمّا أن يكون واجباً على مَن حضر، فأهل البصرة حالهم حال غيرهم من الأمصار لم يحضروا، وإمّا أن لا يكون واجباً، فلماذا تقام الحجّة على أهل البصرة في أمرٍ غير واجب، وأيضاً تقام عليهم دون غيرهم؟!

المسوّغ الثاني: تحييد القوم!
اشارة

قد يُقال:

إنّ رسالة الإمام (علیه السلام) قد تُثمِر صدّ المتردّد من الأشراف ورؤساء الأخماس عن الانضمام إلى أيّ فعلٍ مضادٍّ لحركة الإمام (علیه السلام) ، وقد يعتزل هو وكثيرٌ من أفراد قبيلته فلا ينصرون الحُكم الأُمويّ، وهذا _ على أيّ حالٍ _ أفضل من اشتراكهم في القتال ضدّ الإمام (علیه السلام) ((1)).

وعلى هذا يكون هدف الكتاب تحييد القوم، فيكفي أن يتركوا الإعانة على الإمام (علیه السلام) ، ويبعدوا عن ساحة المعركة وأحداثها، وفي ذلك نفعٌ عظيمٌ ونصرٌ جسيم.

وهو تفسيرٌ جميلٌ وذو أثرٍ في فهم المسوّغ الّذي يبرّر صدور الكتاب وإرساله إلى أهل البصرة، بَيد أنّ ثَمّة معوّقات قد تعرقل الاكتفاء بهذا المسوّغ وتمنعه من النهوض لوحده لتفسير الموقف، ومن هذه المعوّقات:

ص: 277


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 364.
المعوّق الأوّل: لماذا أهل البصرة بالذات؟

الكلام المذكور سابقاً والسؤال الّذي يبقى شاخصاً يلوح للناظر في التاريخ كأنّه رؤوس الأفاعي القائمة على أذنابها:

لماذا تحييد أهل البصرة دون غيرهم من الأقوام والأمصار الّتي كان يقطنها أعداء أهل البيت (علیهم السلام) في ذلك الزمان؟ وكانت البلدان يومها جميعاً في عِداد أعداء الحقّ وأهله من أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهذا ما قد تبيّن بما لا يحتاج إلى مزيد استدلالٍ وبيان.

فأهل الشام أعداء، وأهل مكّة أعداء، وأهل المدينة أعداء، وهكذا فقس على بقيّة البلدان والأقوام..

قد يُقال:

إنّما استهدف الكتاب أهل البصرة لقربهم من مسرح الأحداث في الكوفة..

فيرجع السؤال حينئذٍ مرّةً أُخرى: لماذا لم يكتب الإمام (علیه السلام) إلى القبائل والرؤوس والأشراف والوجهاء في الكوفة قبل أن يكاتبوه، وكان الإمام (علیه السلام) قد أقام مدّةً مديدةً في مكّة، يستنهضهم أو يحيّدهم..

وعلى فرض أنّ أهل الكوفة قد سبقوا للكتابة إلى ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ العدد الّذي كاتب الإمام (علیه السلام) لا يبلغ خُمس عدد المقاتلين وحمَلَة السيوف في الكوفة آنذاك، كما بيّنّا ذلك مفصّلاً في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وقائع السفارة).

ص: 278

بل كان في الكوفة ممّن يُحسَب على المتردّدين الكثير الكثير، بل حتّى لو كانوا من الأعداء، فإنّ أهل البصرة كانوا من الأعداء بالاتّفاق، فلماذا لم يكتب الإمام (علیه السلام) إلى الشريحة الأكبر ممّن لم يكاتبه من أهل الكوفة لتحييدهم، أو استنهاضهم، أو توظيف مواقفهم أيّاً كانت؟

المعوّق الثاني: ما هو الضمان على التحييد؟

إنّنا افترضنا على نحوٍ محتمَلٍ أن يكون التحييد هدفَ الكتاب، وليس لنا أيّ شاهدٍ أو دليلٍ من نفس الكتاب، أو من قول الإمام (علیه السلام) ، بل لا شاهد لنا سوى محاولة الإفلات من الإشكال المستعصي المعضل لفهم سبب إرسال الكتاب إلى جماعةٍ من الأعداء الّذين لا يُرتجى منهم أيُّ خير.

والآن، كيف يمكن أن نُثبِت أنّ الكتاب قد أدّى دوره وحيّد القوم؟

لم يطلب منهم عبيد القرود ابن الأَمة الفاجرة ولا سائسُه يزيد التحرّك لحرب ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولو كان قد طلب _ فرضاً _ فمَن الضامن أنّهم لن يستجيبوا، وهم عبيدهم وعبيد دنياهم وعلى دِينهم وشاكلتهم؟ وقد رأينا موقف بعض هؤلاء المخاطَبين بالكتاب في نصرة ابن زياد وحمايته والدفاع عنه!

وقد رأينا تاريخهم وموقفهم مع أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وحمايتهم للجَمَل وراكبته، ودفاعهم عنهما بالنفس والنفيس والأعراض والأموال والدماء!

ص: 279

فسوابقهم تشهد لهم بالطاعة والخنوع والخضوع والامتثال والاستجابة لآل أبي سفيان ومَن حملهم على رقاب المسلمين، وأنّ دينهم وعقيدتهم الراسخة هي عبادة العِجل والسامريّ والتمدّد في أفياء السقيفة..

وقد تركها ابن الأَمة الفاجرة ابن زيادٍ هانئ البال مطمئنّاً، لا يُزعجه هاجس، ولا يراوده خوف، ولا يزعزعه قلقٌ من استباب الأمر في البصرة، وخلّف عليهم أخاه، فلم تبدر منهم أيُّ بادرة، ولم يتحرّكوا أيّ حركة..

فمَن ذا يضمن أنّهم إن دُعوا أو أُمروا بحرب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشبل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لم يكن أحدهم يستجيب راكضاً لاهثاً، يتقرّب بدمه إلى ربّه السلطان؟

فهذا الفرض رغم نضوجه بنحوٍ ما، بَيد أنّ إثباته متعسِّرٌ إلى حدّ الامتناع على ما يبدو.

المعوّق الثالث: فائدة التحييد

تبيّن لنا بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكتب إلى أيّ بلدٍ من البلدان سوى البصرة، ولو كان ثَمّة كتابٌ لَبان..

ومهما يكن عدد المقاتلين في البصرة، فإنّه لا يبلغ في حساب العساكر المتكاثفة المتواجدة في ثكنة الكوفة إذا أدخلنا في الحساب معها عساكر الشام والعساكر المتواجدة يومذاك في المشاتي والمصايف والثغور الّتييمكنها الالتحاق بساحة المعركة بأمرٍ واحدٍ يصدر من يزيد القرود، فتطير بأجنحةٍ

ص: 280

على خيولٍ تسابق الريح، فتتوسّط الميدان في أيّ وقتٍ شاء..

ففي الكوفة وحدها _ والفرض قبل خيانتها وانقلابها _ أكثر من ثمانين ألف سيفٍ مواليةٍ للسلطان، والشام كلّها خولٌ وعبيدٌ مقاتلةٌ في طاعته، فما قدر أهل البصرة إن تحيّدوا أو شاركوا، وهم خارج أرض المعركة؟

المعوّق الرابع: معنى التحييد

إذا كان الإمام (علیه السلام) قد عزم على الخروج بالمعنى المصطلَح كما يزعمون، فالمفروض استنهاض الأُمّة، وتحريك أكبر عددٍ ممكنٍ من المخالفين والمعارضين للحكم، أمّا المستسلمين أو المستفيدين من الوضع القائم، فلا يمكن تحييدهم بحالٍ في حال الخروج بالمعنى المصطلح، فإنّهم وقود سلطان الوضع القائم.

وليس بالضرورة أن يلزم الخروج بالمعنى المصطلح القتالَ، إلّا أن يُقال: إنّ الإمام (علیه السلام) قد بيّت وخطّط للقتال منذ البداية، والإطاحة بالنظام القائم ورموزه من خلال الحرب، وهذا ما يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه!

فما معنى تحييد جماعةٍ بعيدةٍ نسبيّاً عن موقع الحدَث في مثل هذه الأوضاع؟

المسوّغ الثالث: إشغال السلطان بالبصرة

قد يُقال:

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يكتب إلى بلدٍ من البلدان سوى أهل

ص: 281

الكوفة، وكانت مكاتبته لأهل الكوفة ردّاً على كُتبهم، ولم يكن يبتدئهم هو بنفسه (علیه السلام) .. مع ذلك، فإنّه لم يكن يذكر في كتبه أسماء المخاطَبين، فيما نجده يذكر أسماء المخاطَبين في كتابه إلى أهل البصرة، وهم من رؤوس المعاندين والأعداء، والإمام (علیه السلام) يعلم أنّهم سوف لا يجيبونه، بل قد يردّون دعوته ردّاً عنيفاً كما فعل بعضهم بالفعل..

ولكنْ مع ذلك، فإنّ السلطان حين يسمع أنّ الإمام (علیه السلام) قد كتب إلى رؤوس أتباعه وكبراء غوغائه، فإنّه سيتابع الأمر بجدٍّ وقلق، وبالتالي ستقع فجوةٌ وجفوةٌ بين الوالي ورعيّته، وتتزلزل الثقة، ويضطرّ السلطان إلى إذكاء عيونه وتفعيل جواسيسه وتجديد نشاطاته ليستبرئ الناس أتباعاً ومتبوعين.

وبذلك ستُفتَح ثغرةٌ جديدةٌ وجبهةٌ افتراضيّةٌ للعدوّ شاغلةً للسلطان، تضطرّ ابنَ زيادٍ للمكث أكثر في البصرة لارتيابه وتخوّفه منهم، حتّى يضمن الوضع قبل خروجه، وهكذا..

بَيد أنّ هذا المسوّغ فيه من السذاجة والبساطة والتضخيم ما يغني عن مناقشته.

وقد كان السلطان على ثقةٍ عاليةٍ بأتباعه، لا من باب التبعيّة فقط، وإنّماكان هؤلاء المخاطَبون هم بأنفسهم أعداءٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، لا يمنعهم دون شرب دمائه الزاكية إلّا ما منعهم من الظروف وحبّ الدَّعَة والدنيا، كما أنّ أتباعهم كانوا على ما كان عليه زعماؤهم..

ص: 282

أضف إلى ذلك: فإن كان هذا هو المسوّغ أو جزءَ العلّة في المسوّغ، فإنّه لم يُثمِر ولم يُفلِح في تحقيق الغرض، إذ أنّ ابن زيادٍ خرج من البصرة متعجّلاً طائراً بجناحين، وخلّف عليهم أخاه، وهو هادئ البال مطمئنّ، لا يُقلقه هاجسٌ ولا يزعجه تململٌ ولا زعيقٌ ولا نعيقٌ من القوم، إذ ليس فيهم من يبزّ أو ينقز.

المسوّغ الرابع: مخاطبة الناس من خلال الرؤساء
اشارة

قد يُقال:

إنّ الكتاب اتّخذ من الرؤساء والزعماء عنواناً حاكياً خاطب الإمام (علیه السلام) من خلاله أتباعهم، إذ كانت المخاطبات تلك الأيّام لابدّ أن تمرّ عبر المشايخ وزعماء القبائل، فالإمام (علیه السلام) يعلم أن لا خير يُرتجى من الزعماء، بَيد أنّ في أتباعهم وقبائلهم مَن ربّما كان راغباً في اللحاق ومتوثّباً للنصرة، فخاطب الناس من خلالهم، لا أكثر..

بَيد أنّ هذا الافتراض أيضاً يبدو أنّه غير ناهض، وفيه شيءٌ من التبسيط الزائد، وذلك:

أوّلاً: الزعيم الحاقد لن يُوصِل الرسالة

إنّ هذا الكتاب ما كان يصل خبرُه إلى الناس إلّا من خلال الزعماء المخاطَبين، فكانوا يفعلون كما فعل يزيد بن مسعود النهشليّ مثلاً في خبر الشيخ ابن نما، حيث سيخبرونهم بعد أن يجمعوا أتباعهم أو يسرّبوا الخبر

ص: 283

لهم من خلال العرفاء والفروع الّتي تنتشر في نواديهم ومجالسهم، أو بأيّ وسيلةٍ كانت مستخدَمةً يومذاك للتواصل بين الزعيم القبَليّ وأفراد قبيلته والشريف ومَن تحت زعامته..

فإذا كان الزعيم رافضاً عدوّاً لدوداً خائفاً على زعامته ودنياه من السلطان، فإنّه سيمتنع عن إيصال خبر الكتاب إلى أحدٍ من أتباعه، وهذا من البديهيّ الّذي يقفز إلى أيّ ذهنٍ يستمع إلى هذه القصّة.

فكيف كان يكون هذا الزعيم ممرّاً يصل الكتاب إلى أتباعه من خلاله، وقد دفن خبره عنده؟!

ثانياً: الأتباع كالزعماء في العداوة

إنّ من أوضح الواضحات المتسالَم عليها أنّ أهل البصرة كانوا يومها جميعاً في عِداد أعداء الإمام (علیه السلام) ، وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى مزيد استدلالٍ وبيان، ولو لم يكن ثَمّة اتّفاقٌ على ذلك لَكفانا ما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) من شهادةٍ فيهم وحشرهم في عداد أهل الشام وآل عثمان، وأنّ السماوات والأرضين وجميع المخلوقات بكت إلّا أهل البصرة لمقتل الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) .فحُكم الأتباع حُكمُ المتبوعين في العداء، وموقفهم موقفهم، فإذا كان إرسال الكتاب إلى الزعماء الأعداء يحتاج إلى تبريرٍ وتسويغٍ لجهة عداوتهم، فإنّ نفس هذه الجهة متوفّرةٌ في الأتباع وتحتاج إلى تسويغٍ

ص: 284

وتبرير.

ثالثاً: عدم انحصار الإيصال بالزعماء

إنّ افتراض انحصار إيصال الرسالة إلى الأتباع بالمرور عن طريق الزعماء افتراضٌ قاصر، إذ أنّ وسائل التواصل بالناس كانت متعدّدةً كثيرة..

أجل، قد يكون أقربها وأنجعها وأسرعها هو التواصل عن طريق الزعماء، إلّا أنّ الزعماء كانوا في قبضة السلطان طواعية، فلا يمكن الحساب عليهم بحال.

وقد رأينا أهل الكوفة كاتبوا الإمام (علیه السلام) أفراداً وجماعاتٍ من دون المرور بالزعماء، وكاتبهم الإمام (علیه السلام) أيضاً بنفس الطريقة وأرسل إليهم الرسُل..

وكان من المتداول يومذاك بثُّ الدعاة وإرسالهم بالكتب والخطابات قبل القيام بالحركة المطلوبة، وقد اقترح ذلك المولى المكرّم ابن الحنفيّة وابن عبّاس وغيرهما على سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، وطلبوا منه التريّث حتّى يتسنّى له بثّ دُعاته وإرساله الرسل إلى الناس جميعاً ومكاتبتهم ليجمع الرجال والأنصار..فلا ضرورة لافتراض أنّ مخاطبة الناس في البصرة لم يكن ليتسنّى إلّا عن طريق مجموعةٍ من الأوباش والسفَلَة المتزعّمين على قبائلهم وعشائرهم.

ص: 285

المسوّغ الخامس: إعلام الراغبين
اشارة

قد يُقال:

ربّما كان الكتاب عبارةً عن إعلانٍ لأنصاره المعدودين في البصرة الّذين كانوا على استعدادٍ للنصرة وبذل النفس في الدفاع عنه، وهو أعلم وأعرف بهم، غير أنّه عمّم الكتاب إلى غيرهم كغطاءٍ عليهم، لئلّا يخاطبهم بأعيانهم وهم في سلطة الطاغوت.

وهذا الفرض فيه من الوجاهة الّتي تجعله ينهض لتفسير إرسال الكتاب، بَيد أنّه قابلٌ للنقاش أيضاً بالمناقشات التالية:

المناقشة الأُولى: وجود تجمُّعٍ شيعيّ

حسب فرض التاريخ أنّ ثَمّة موضعٌ كان الشيعة يجتمعون فيه، وقد نصّ على بيت مارية العبديّة..

والمفروض أن يكون هذا المكان معروفاً لدى الشيعة، ومعروفاً عند الإمام (علیه السلام) _ حسب الموازين الظاهريّة _، والقوم الّذين يهمّهم الأمر كانوا يتواجدون في مِثل هذا المكان، فكان بالإمكان إرسال الرسول إلى بيت مارية العبديّة ليجتمع الشيعة هناك ويسمعوا الكتاب، أو كان يستمع إلىالكتاب مَن يحضر ويبلّغه الغائب.

المناقشة الثانية: انتشار خبر حركة سيّد الشهداء (علیه السلام)

كانت أخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) يومذاك تملأ الخافقَين وتسري بها

ص: 286

الركبان، إنْ من مكّة أو من الكوفة، وكان تقارُبُ المصرَين وتفاعلهما وتواصلهما في النسيج الاجتماعيّ والفعّاليّات الحياتيّة المختلفة يساعد كثيراً في وصول أخبار الكوفة إلى البصرة، وكانت الكوفة يومها تموج بأهلها _ كما يصفون _، يعلو فيها الصخَب والضجيج والعجيج، وتزدحم فيها الأحداث والرجال، وتتكدّس فيها العساكر والخيول، وتتطاير منها الأنباء لتنتشر في كلّ مكان..

ثمّ إنّ ابن زيادٍ خرج من البصرة متوجّهاً إلى الكوفة بعد أنْ أمره سائسُه بذلك، وكانت الأوضاع على العموم تُنذِر بالخطر.

ألم تكن هذه الضجّة والأخبار المتداولة كافيةً لمعرفة مَن أراد من الراغبين بأخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم متحفّزون متوثّبون مستعدّون لنصرته؟!

أجل، قد يُقال:

إنّ وصول الكتاب إلى هؤلاء القوم وشهادة الرسول سُليمان، كان فيه إعلانٌ أفاد الأنصار الأبرار عن حلول وقت اللحاق، فالتحقوا.. هكذا..

وثَمّة فرقٌ بين أن يكون حدَثٌ من الأحداث أفاد شيئاً، وبين أن يكونالرسول والكتاب لم يُرسَلا إلّا لهذا الغرض!

المسوّغ السادس: الكتاب ردٌّ على كتاب!

قد يُقال:

ص: 287

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما كتب إلى أهل البصرة تماماً كما كتب إلى أهل الكوفة، أي: بعد أن كتب إليه جماعةٌ من أهل البصرة يدعونه، فردّ عليهم وأجاب كتبهم بهذا الكتاب.

ولا يبعد أن يكون فيمن كتب إلى الإمام (علیه السلام) بعض الوجوه والأشراف، تماماً كما حصل في الكوفة حين كتب إليه شبث بن ربعيّ وحَجّار بن أبجر وابن رُويم، وأمثالهم من الكفّار والمنافقين والانتهازيّين..

ويشهد لذلك اجتماع الشيعة في بيت مارية العبديّة، فربّما يُقال: إنّهم إنّما اجتمعوا كما اجتمعوا في الكوفة في بيت سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وأنّهم كتبوا للإمام (علیه السلام) من البصرة من بيت مارية كما كتب أهل الكوفة من بيت سليمان..

ويشهد له أيضاً ما قاله الشيخ السماويّ (رحمة الله) :

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعةُ في دار مارية بنت مُنقِذ العَبديّ، وكانت من الشيعة، فتذاكروا أمْرَ الإمامة وما آلَ إليه الأمر، فأجمع رأيُ بعضٍ على الخروجفخرج، وكتب بعضٌ بطلب القدوم ... ((1)).

هنا يصرّح الشيخ (رحمة الله) أنّ الاجتماع في بيت مارية أسفر عن عزم بعضهم على الخروج وكتابة بعضهم بطلب القدوم.

ص: 288


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

ولا ندري إلى أين كان طلب القدوم؟ هل القدوم إلى البصرة وحصول خيارٍ جديدٍ إضافةً إلى خيار الكوفة، أو القدوم إلى الكوفة؟ باعتبار أنّ أخبار الكوفة كانت تصلهم وأنّها كانت مسرح الأحداث، فكأنّهم طلبوا القدوم إلى الكوفة على أمل اللحاق بالإمام (علیه السلام) هناك!

هذا ما لا يمكن استخلاصه بالقطع والجزم من كلام الشيخ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _.

ولا ندري إن كان ما كتبه الشيخ (رحمة الله) هي استفادةٌ منه، أو أنّه قد وقع على نصٍّ يفيد ذلك، ولم يُرجِع إلى المصدر ولم يُخبِرنا عنه ولم يصلنا المصدر، فإنّ الشيخ (رحمة الله) كان صاحب كتبٍ ومكتبة.

ويشهد له أيضاً ما ورد في ترجمة كتاب (فرسان الهيجا) للمحلّاتيّ، ترجمة سماحة السيّد محمّد شعاع فاخر، قال في ترجمة سُليمان بن أبي رزين:

قال [ابن زياد]: مَن الّذي كتب إلى الحسين من أهل البصرة؟ فسمّوه له، وأمر بإحضاره، وقال لهم: رأيتم بطش أبي زيادوشدّته في سفك الدماء، وأنا أشبهتُه من دون إخوتي وثمرةُ تلك الشجرة، فاحرصوا على منع أنفسكم من الفتنة، لئلّا تنالوا العقاب الأليم. وصعد المنبر، وراح يرعد ويزبد ويتهدّد ويتوعّد، ويعدهم بالعذاب

ص: 289

والتنكيل، حتّى دبّ الرعب في نفوسهم، ثمّ أمر برسول الحسين سُليمان أن يُصلَب، فصلبوه ... ((1)).

فقول ابن زياد: مَن الّذي كتب إلى الحسين من أهل البصرة؟ فسمّوه له، وأمر بإحضاره.. يفيد أنّ ثَمّة كتبوا إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، فاستحضرهم ابنُ زيادٍ وهدّدهم..

بَيد أنّ الموجود في الأصل الفارسيّ هو: «حسين چه کسانی را از مردم بصره نامه کرده است؟» ((2)).

وبناءً على هذا اللفظ يكون إعراب كلمة (الحسين) فاعل، وإعراب (أهل البصرة) مفعول، ويكون مضمون السؤال عمّن كتب إليهم الإمام الحسين (علیه السلام) من أهل البصرة.

ونحسب أنّ خطأً مطبعيّاً وقع في الترجمة، إذ يكفي أن تضاف (هاء) على (إلى) في الجملة، فتتطابق مع الأصل الفارسيّ، فيُقال: (مَن الّذي كتب إليه الحسين من أهل البصرة؟).وعلى هذا، لا يكون ما قاله الشيخ المحلّاتيّ شاهداً هنا!

* * * * *

ص: 290


1- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 1 / 214.
2- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 1 / 326 _ بتصحيح وتحقيق: حامد فدوي اردستاني، ط إنتشارات مرتضوي.

كيف كان، إن كانت هذه الشواهد كافيةً _ ولا تبدو الشواهد بمستوىً عالٍ من المتانة والقوّة _، فإنّ هذا المسوّغ يمكنه أن يعالج الكثير من الإشكالات، ويجيب على أكثر الأسئلة الحائرة، ويكون مسوّغاً قويّاً..

المسوّغ السابع: وجود التواصل من قَبل!
اشارة

كانت ثَمّة مكاتباتٌ بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وبعض أهل البصرة فيما مضى قبل يوم الحسين (علیه السلام) ، كما روى الشيخ الصدوق (رضی الله عنه) في كتاب (التوحيد)، عن وهب بن وهب القرشيّ قال: وحدّثَني الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه (علیهم السلام) : «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) يسألونه عن الصمَد، فكتب إليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادِلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير عِلم، فقد سمعتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: مَن قال في القرآن بغير علم، فلْيتبوّأ مقعدَه من النار.

وإنّ الله (سبحانه) قد فسّر الصمد، فقال: ﴿اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ﴾، ثمّفسّره فقال: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ ((1))، لم يَلِدْ: لم يخرج منه شيءٌ كثيف، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين، ولا شيءٌ

ص: 291


1- سورة الإخلاص: 1 _ 4.

لطيفٌ كالنفْس، ولا يتشعّب منه البدوات، كالسِّنَة والنوم والخطرة والهَمّ والحزن والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسأمة والجوع والشبع، تعالى أنْ يخرج منه شيءٌ وأن يتولّد منه شيءٌ كثيفٌ أو لطيف، ولم يُولَد: لم يتولّد من شيءٍ، ولم يخرج من شيءٍ كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابّة من الدابّة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأُذُن، والشمّ من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتميّز من القلب، وكالنار من الحجَر، لا، بل هو الله الصمَد، الّذي لا مِن شيءٍ ولا في شيءٍ ولا على شيء، مُبدِعُ الأشياء وخالقُها، ومُنشِئُ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته، ويبقى ما خلق للبقاء بعِلمه، فذلكم الله الصمَد، الّذي لم يَلِد ولم يُولَد، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ ((1))، ولم يكُن له كفُواً أَحَد» ((2)).

إستفادوا من هذا الحديث "اليتيم" أنّ ثَمّة مكاتباتٌ كانت بين أهل البصرة والإمام الحسين (علیه السلام) من قبل، فمن الطبيعيّ أن يكونوا قد كتبوا إليهيدعونه للقدوم، أو أن يكتب لهم مبتدئاً للاستنهاض، لوجود هذا النوع من التواصل والترابط..

ص: 292


1- سورة الرعد: 9.
2- التوحيد للصدوق: 90 الباب 4 ح 5.

قد يُقال:

إنّ هذا التواصل والتكاتب يفيد وجود علاقةٍ مستمرّةٍ تسوّغ مخاطبة القوم الّذين هم على تواصلٍ مع الإمام (علیه السلام) .

ويمكن الجواب على هذا المسوّغ بالأجوبة التالية:

الجواب الأوّل: كتابة الإمام (علیه السلام) لا تحتاج إلى سوابق

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يحتاج إلى وجود علاقةٍ مسبقةٍ ليكتب، وقد كتب هذا الكتاب إلى جملةٍ من أعدائه، وفيهم مَن لم يُعرَف له أيّ تعاملٍ أو علاقةٍ مسبقة، بما فيهم مَن أحسن ردّ الجواب للكتاب يزيد بن مسعود النهشليّ، فهو لم يرد له أيّ اقترانٍ أو ارتباطٍ سابقٍ بالإمام (علیه السلام) بأيّ نوعٍ من أنواع الارتباط والتواصل، إذ لم يَرِدْ له اسمٌ في التاريخ والتراجم كي يثبت له ذلك.

الجواب الثاني: الكتابة إلى قومٍ جُدُد

إنّ الزعماء والأشراف الّذين أرسل إليهم الكتاب هذا، لم يُعرَف أنّهم هم الّذين كانوا قد كاتبوا الإمام (علیه السلام) من قبل، أو كان لهم به نوع علاقةٍ مستمرّةٍ بالتكاتب، فسيكون الكتاب قد خاطب أُناساً جُدُداً، ولم يصل إلىصاحب العلاقة المستمرّة..

فمَن قال: إنّ الذين خاطبهم الإمام (علیه السلام) ، كانت لهم مكاتباتٌ مع الإمام (علیه السلام) قبل ذلك اليوم؟

ص: 293

الجواب الثالث: الكتاب الواحد لا يُمثِّل ظاهرة

من الواضح أنّ كتاباً واحداً _ فيه استفسارٌ عن آيةٍ من كتاب الله _ لا ثاني له، لا يمكن استنتاج ظاهرةٍ منه، ولا سلوكٍ مداوم، ولا يفيد أيضاً أن يكون السائل من الشيعة!

سيّما أنّ الناس كانوا يكتبون إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من جميع أصقاع البلاد الإسلاميّة، ويحضرون بين أيدي أهل بيت النبوّة ويستفتونهم ويسألونهم عن دِينهم وقرآنهم..

فهل يمكن أن نجد كتاباً واحداً ورد من أهل البصرة، فنقول بوجود مكاتباتٍ مستمرّة، ونذهب إلى القول بوجود ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ تكتسح المجتمع أفراداً وجماعات، بل ظاهرةٍ تقوم ولو بجماعةٍ من الجماعات أو فئةٍ من فئات الناس؟

المسوّغ الثامن: الكتاب عامّ!

قد يُقال:

لا تبدو أنّ ثمّة دعوةً صريحةً للاستنصار بهم واستنهاضهم ودعوتهمللقيام والتحريض على الخروج بالمعنى المصطلَح واللحاق به، وإنّما هي دعوةٌ إلى كتاب الله وسُنّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، لأنّ السنّة قد أُميتَت والبدعةَ قد أُحييَت، ويكفي هذا القدر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويشهد لذلك أنّ أهل البصرة كانوا يومها أعداءً للإمام (علیه السلام) وشامتين، بشهادة الأحاديث الواردة عنهم، وأعداءُ الإمام أعداءُ الله، والإمام (علیه السلام) لا

ص: 294

يستنصر أعداء الله بتاتاً.

وهذا الموقف يختلف عمّا إذا كان الإمام (علیه السلام) يوظّف اليهود والنصارى في محاربة المشركين مثلاً، بل توظيف المشركين بعضهم على بعض، لأنّ أُولئك لا يكنّون العداء لشخصه الكريم، ولا يتديّنون ببغضه، ولا يجاهرون بعداوتهم له بالذات!

لاسيّما إذا فرّقنا بين نظرتَين لتفسير قيام الإمام (علیه السلام) ، فعلى فرض أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج إلى العراق للدفاع عن نفسه وعن آل الله، فهو في موقفٍ دفاعيٍّ محض، وسيتّضح عدم استنصاره بالأعداء أكثر ممّا لو كان قد خرج بالمعنى المصطلح للإطاحة بنظام الحكم مثلاً..

وكذا إذا كان قد خرج من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ الأمر واضحٌ أيضاً، فكيف يستنصر بالباطل على الباطل، وهو في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ويكفي ما جاء في الكتاب في تحقيق الغرض.

المسوّغ التاسع: مشكلة البحث عن مسوّغ!

قد يُقال:

يُلاحَظ أنّ كلّ مَن ذكر الكتاب أكّد أنّ المخاطَبين كانوا من الأعداء، وأنّ البصرة يومها لم تكن في موقعٍ يؤهّلها للاستنصار بها واستنهاضها، على الفرض المشهور في تفسير قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فانبرى للبحث عن مسوّغٍ لإرسال الكتاب وتبريره وافتراض فرضيّاتٍ لتفسير الموقف.

ص: 295

والحال أنّنا لم نحتج إلى هذه المعالجات والافتراضات والبحث عن المسوّغات الّتي تفسّر إرسال الكتب إلى أهل الكوفة؛ فالأمر في الكوفة واضح، وليس هو كذلك في البصرة، وكأنّ كتاب البصرة معضلةٌ تحتاج إلى حلّ، والحال أنّ أفعال الإمام (علیه السلام) وأقواله أيّام قيامه جميعها بيّنةٌ واضحةٌ جليّة، لا تحتاج إلى تكلُّفٍ ومصارعةٍ مع الأحداث والظروف لتسويغها وتصحيحها!!

فهذه المعالجات نفسها قد تدعو المتلقّي والمتابع للتريّث والتأمّل والمراجعة في شأن الكتاب ونسبته إلى الإمام (علیه السلام) .

المسوّغ العاشر: تطريز الكتاب!

قد يُقال:

إنّ الكتاب ملفَّقٌ على الإمام (علیه السلام) ، وهو من تطريز بعض المغرضين، لأغراضٍ أشرنا إلى بعضها من خلال البحث..وقد يُقال في المقام أيضاً:

ربّما وُضع هذا الكتاب لترويج فكرة (خروج) الإمام (علیه السلام) على السلطان بالمعنى المصطلَح الّذي روّج له يزيد وأتباعه وأبواقه منذ اليوم الأوّل الّذي هجم فيه على الإمام (علیه السلام) يطلب رأسه المقدّس..

ولتخطئة الإمام (علیه السلام) ، وإثبات ما يزعمونه من الاعتماد على وعود أهل الكوفة الغرّارة، وهو يعلم أنّهم أهل غدرٍ وخيانة، وأنّهم ليسوا من أتباعه

ص: 296

على وجه الحقيقة، فلو أنّ فرداً أراد الدفاع عن موقف الإمام (علیه السلام) في تعامله مع كتب أهل الكوفة ووعودهم على ما فيهم وعلى ما هم عليه، فإنّ كتابه لأهل البصرة سيكون خير شاهدٍ على أنّ الإمام (علیه السلام) قد قبل أهل الكوفة ووعودهم، إذ أنّه كان (يطمع) في نصرة أهل البصرة واستنهاضهم، مع أنّه كان يجزم أنّهم أعداءً ألدّاء لا يطمع فيهم طامع..

فإذا كان الشخص قد استنصر في قيامه بالأعداء، فمن الطبيعيّ أن يكون مقتنعاً بالغوغاء وأصحاب السوابق!

وهذا هو ما يريد إلقاءَه الأعداءُ ويروّجون له من استعجال الإمام (علیه السلام) في حركته واعتماده على سرابٍ لا يبلغه ظمآن.

نستغفر الله ونتوب إليه ممّا مرّ من كلماتٍ وتعابير غير مؤدَّبةٍ في ساحة سيّد الكائنات وسيّد شباب أهل الجنّة خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، ونعتذر إليه، بَيد أنّها ضرورة البحث.وربّما يشهد لذلك أنّ فحول العلماء قد أعرضوا عن ذِكر الكتاب وما يتعلّق به من أحداث، بل أعرضوا حتّى عن ذِكر شهادة سُليمان رسول الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي قتله ابن الأَمة الفاجرة قبل أن يخرج إلى الكوفة، وذكروه ضمن شهداء الطفّ يوم عاشوراء بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهؤلاء العلماء كثيرون، منهم: الشيخ المفيد، والشيخ الطبرسيّ (رحمهما الله) .

ص: 297

متن الكتاب

البلاذريّ:

وقد كان الحسينُ بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى كتاب الله، ويقول لهم: «إنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت ونُعشَت» ... ((1)).

الدينوريّ:

«بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر ابن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم.

أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبل الرشاد، والسلام» ... ((2)).

ص: 298


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

الطبريّ:

فجاءَت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على خَلقه، وأكرمَه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسل به (صلی الله علیه و آله) ، وكنّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمرى أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله» ... ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

فكتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه، [لكلّ واحد كتاباً] ((2)).

ص: 299


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

إبن الأثير:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدةً إلى الأشراف ... يدعوهم إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، وأنّ السنّة قد ماتت والبدعة قد أُحييت ... ((1)).

إبن نما:

وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ... فيه:

«إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيّه، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، فإنْ تُجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد» ... ((2)).

إبن طاووس:

وكان الحسين (علیه السلام) قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً ... يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ... ((3)).

النويريّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة ... يدعوهم إلى كتاب

ص: 300


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.
3- اللهوف لابن طاووس: 38.

اللَّه وسُنّة رسوله، فإنّ السنّة قد ماتت والبدعةَ قد أُحييَت ... ((1)).

إبن كثير:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسل به، وكنّا أهلَه وأولياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس به وبمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتَت وإنّ البدعة قد أُحييَت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة ((2)).

ص: 301


1- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

المقريزيّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم ... ((1)).

إبن أبي طالب:

وكتب الحسين (علیه السلام) كتاباً إلى أشراف البصرة ... يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ((2)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك، إذ قَدِم رسولُ الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته ... بنسخةٍ واحدة، أوّله:

«بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليّ (علیه السلام) :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على جميع خَلقه، وأكرمه بنبوّته، وحَباه برسالته، ثمّ قبضه إليه مكرماً وقد نصح العبادَ وبلّغ رسالات ربّه، وكان أهلُه وأصفياؤه أحقَّ بمقامه من بعده، وقد تأمّر علينا قومٌ فسلّمنا، ورضينا كراهة الفتنة وطلب العافية.

ص: 302


1- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
2- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

وقد بعثتُ إليكم بكتابي هذا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإن سمعتُم قولي واتّبعتم أمري أهدكم إلى سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ((1)).

* * * * *

يمكن تقسيم هذه النصوص إلى أقسام:

موقف ابن زيادٍ من الكتاب والرسول

اشارة

يمكن تلخيص موقف ابن الأَمة الفاجرة ابن زيادٍ من الكتاب والرسول في الإجراءات التالية:

الإجراء الأوّل: قتْلُ الرسول وصلبُه

مرّ معنا الحديث مفصَّلاً عن إلقاء القبض على الرسول وضرب عنقه وقتله صبراً، ثمّ أمر بصلبه، فلا نعيد.

الإجراء الثاني: جمْعُ المخاطَبين

لم يرِدْ في كتب التاريخ المعروفة أنّ ابن زيادٍ جمع المخاطَبين بالكتاب، أو أرسل عليهم، أو أنّه طلب منهم موقفاً يُثبِت براءتهم..

فربّما قيل: إنّ ترك المخاطَبين وشأنهم من دون التعرّض لهم ليس من دأب الطغاة، فهم يأخذون على الظنّة، ويقتلون على التهمة، وربّما قتلوا

ص: 303


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.

البريء مع علمهم ببراءته لإرعاب غيره.. فلا يسوغ تبرير ترك المخاطَبين وعدم ملاحقتهم بأنّ المخاطَب لا ذنب له ما لم يستجب.

كيف، وقد كان ابن زيادٍ في موقفٍ حاسمٍ خطيرٍ حسّاس، وهو يريد ترك البصرة إلى الكوفة، والأوضاع كانت متفجّرةً ملتهبة، والساحات كانت ملغومةً، تُنذِر باكتساح الأمواج العاتية العالية الهائجة في كلّ مكان..

أجل، قد يُقال: إنّ ابن زيادٍ كان واثقاً تمام الثقة من المخاطَبين؛ لمعرفته بمدى عداوتهم لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وذوبانهم في عفن القرود واعتيادهم على دمنهم، فهم ليسوا في دائرة الشكّ، لأنّه يعلم أنّهم لا يخرجون عن دائرته، بل ربّما كانوا نتيجة معتقداتهم ومخاوفهم وحبّهم للدنيا وتزلّفهم وملّقهم أرسخ منه في الموقف المعادي لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

أو أن يُقال: إنّهم بادروا للحضور بين يديه حين خطبته، أو أنّه أحضرهم حين أراد الخطبة، كما أشار إلى ذلك الشيخ المحلّاتيّ في كتابه (فرسان الهيجا):

قال [ابن زياد]: مَن الّذي كتب إليه الحسين من أهل البصرة؟ فسمّوه له، وأمر بإحضاره، وقال لهم: رأيتُم بطشَ أبي زياد وشدّته في سفك الدماء، وأنا أشبهتُه مِن دون إخوتي وثمرةُ تلك الشجرة، فاحرصوا على منع أنفسكم من الفتنة لئلّا تنالوا العقاب الأليم. وصعد المنبر، وراح يرعد ويزبد ويتهدّد ويتوعّد، ويعدهم بالعذاب والتنكيل حتّى دبّ الرعب في نفوسهم.

ص: 304

ثمّ أمر برسول الحسين سُليمان أن يُصلَب، فصلبوه ... ((1)).

بَيد أنّ ما يذكره الشيخ يفيد أنّ ابن زيادٍ كان له كلامٌ خاصٌّ مع المخاطَبين بالكتاب، ثمّ إنّه صعد فخطب..

ولا ندري من أين استفاد الشيخ المحلّاتيّ (رحمة الله) ما نقله!

الإجراء الثالث: الخُطبة

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الّتي روت خطبة الخاطئ الأثيم إلى قسمين:

القسم الأوّل: نقل المضمون

إختزل البلاذريّ الخطبة من خلال التعبير عنها كحدَثٍ وخبرٍ يروي مضمونه، فأخبر عن أنّ عُبيد الله بن زيادٍ خطب بالبصرة، فأرعد وأبرق وتهدّد وتوعّد..

واكتفى بنقل جملةٍ واحدةٍ منها، وهي قوله: أنا نكلٌ لمن عاداني وسمامٌ لمن حاربني.

ثمّ عاد ليُخبر عنه من دون نقل النصّ، فحكى فهمه منها وقال:

وأعلمَهُم أنّه شاخصٌ إلى الكوفة، وأنّه قد ولّى عثمان بن زيادٍ أخاه خلافتَه على البصرة، وأمَرَهم بطاعته والسمعِ له، ونهاهمعن

ص: 305


1- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 1 / 214 _ ترجمة: محمّد شعاع فاخر.

الخلاف والمشاقّة ((1)).

واختصر الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس (رحمهما الله) ذلك في سطر:

ثمّ صعد المنبر، فخطب وتوعّد الناس على الخلاف وإثارة أهل البصرة الإرجاف ((2)).

ولمّا كانت هذه المضامين مذكورةً بنحوٍ ما في القسم الثاني، سنترك التعليق عليها إلى هناك.

ونرجع لنؤكّد أنّ رواية تقريرٍ عمّا ورد في الخطبة ونقْلَ ما يتلقّاه الراوي والمؤرّخ ويفهمه من النصّ، يختلف تماماً عمّا لو كان يروي النصّ ويترك للمتلقّي حرّيّة الفهم والاستنطاق والاستخلاص والاستنتاج من النصّ!

القسم الثاني: نقل الخطبة
اشارة

روى الخطبة الدينوريّ والطبريّ وغيرهما، وجاءت الألفاظ متقاربةً والاختلافاتُ طفيفة، حاولنا جمعها في هذا النصّ:

وصعد عُبيد الله منبر البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:أمّا بعد، فوَاللهِ ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنان، وإنّي لَنكلٌ لمن عاداني وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة مَن راماها.

يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة،

ص: 306


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27، وانظُر: اللهوف لابن طاووس: 38.

وقد استخلفتُ عليكم عثمانَ بن زياد بن أبي سفيان.

وإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوَالّذي لا إله غيره، لَئن بلغني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستمعوا [تستقيموا] ((1)) لي [يستقيم لي الأمر] ((2)) ولا يكون فيكم مخالِفٌ ولا مشاقّ.

أنا ابن زياد، أشبهتُه مِن بين من وطأ الحصى، ولم ينتزعني شبَهُ خالٍ ولا ابن عمّ ((3))، وقد أعذر مَن أنذر ((4)).

ولفظ ابن أعثم والخوارزميّ قريبٌ من الطبريّ ((5)).

* * * * *

يمكن متابعة هراء هذا المخلوق وطغيانه وتجبُّره الّذي طفح به خطابه هذا _ على عجلٍ _ من خلال الإشارات:

الإشارة الأُولى: وقت الخطبة

إتّفَقوا أنّ الخطبة كانت بعد شهادة الرسول سُليمان وصلبِه بلا فاصل،

ص: 307


1- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
4- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
5- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

وقبل خروج ابن الأَمة الفاجرة من البصرة متوجّهاً إلى الكوفة ((1)).

والأكثر على أنّ خروجه كان بعد الخطبة مباشرةً، حتّى ذكر بعضهم المسير بعد نزوله من الأعواد مباشرة.. «ثمّ نزل، وسار» ((2)).

فيما ذكر الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس وقبلهما ابن أعثم أنّه خرج في اليوم التالي بعد شهادة الرسول والخطبة، فقالوا _ واللفظ للشيخ ابن نما _ :

ثمّ بات تلك الليلة ... فلمّا أصبح استناب عليهم عثمان بن زيادٍ أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((3)).

وربّما كان تعبير ابن الأثير ومَن استعمل لفظه: «ثمّ خرج من البصرة» ((4))، جامعاً..

إذ ربّما أغفل القول الأوّل مبيت الليلة لعدم وجود حدَثٍ يذكر فيما ذكره الآخَرون، والقدَر الحاصل أنّه لم يفعل شيئاً خاصّاً بعد شهادة سُليمان سوى إعلانه خلافة أخيه له وتحذيره.

ص: 308


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
4- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

ويبقى التاريخ الدقيق لا يكاد يبين؛ لأنّ تاريخ شهادة سليمان نفسه غيرواضح، وتاريخ خروج ابن الأَمة الفاجرة من البصرة غير واضحٍ أيضاً.

الإشارة الثانية: مكان الخطبة

حدّد البلاذريّ مكان الخطبة، فقال أنّه خطب بالبصرة ((1))، وكذا فعل الطبريّ، بَيد أنّه أفاد أنّ عُبيد الله صعد منبر البصرة ((2))، ويبدو أنّ مَن صرّح بصعوده المنبر وخطبته ((3)) بشكلٍ عامٍّ يقصد منبر البصرة أيضاً، والمتبادَر من صعود منبر البصرة أنّه صعد المنبر المركزيّ الّذي ينزو عليه وُلاة الظلَمة آنذاك..

وهو ما صرّح به الدينوريّ، إذ قال: ثمّ أقبل حتّى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس ((4)).

فيكون مكان الخطبة _ وفق هذه الإفادات _ هو المسجد الأعظم في البصرة.

ص: 309


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
3- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
4- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
الإشارة الثالثة: مناسبة الخطبة وظروفها

يُلاحِظ المتابِع للأحداث المتسارعة المتلاحقة تلك الأيّام أنّ البصرة كانت تغطّ في سُباتٍ عميق، واستقرارٍ أمنيٍّ واجتماعيّ، إذ لم يُرصَد فيها _ من خلال النصوص التاريخيّة المتوفّرة _ أيُّ حركةٍ مثيرةٍ للالتفاتسوى ما ذكروه من الاجتماع في بيت مارية، وهو اجتماعٌ سرّيٌّ لا يُعَدّ حدَثاً علنيّاً يحكي حالةً اجتماعيّةً عامّة، وما ذكره الشيخ ابن نما من اجتماع ابن مسعود النهشليّ ببني تميم، وهو اجتماعٌ لطائفةٍ معيّنة، كبرقةٍ سرعان ما اختفَت ومضتُها، وقزعة خريفٍ سرعان ما تبدّدَت وانقشعَت، وهي بالنظر إلى ظروفها وملابساتها لا تشكّل أيضاً ظاهرةً اجتماعيّةً عامّة.

لم يُسجَّل في تلك الأيّام أيُّ تحرّكٍ عسكريٍّ في البصرة ولا استنفار، ولا أيّ ظاهرةٍ تفيد أنّ السلطة قد اتّخذَت إجراءً احترازيّاً، أو أنّها تحسّبَت لموقفٍ مرتقَبٍ من أهل البصرة في الإرجاف والخلاف..

وما ورد في كتاب ابن زياد لأخيه يأمره بأخذ الحيطة والحذَر وأخذ الطرق، فهو واضحٌ لم يقصد البصرة ككلّ، وإنّما يقصد مَن يريد اللحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) على فرض وجوده، كما سيأتي بيانه في محلّه.

أمّا خطبة ابن زياد، فهي خطوةٌ في السياق قبل خروجه من البلد، وبعد قتله رسول الإمام الحسين (علیه السلام) خطبها لإعلان الخليفة من بعده، والتخويف العامّ والإرعاب والإرهاب الّذي دأب عليه هو وأبوه وأسيادهم.

ص: 310

ثمّ إنّ الخطبة لم تتضمّن الإشارة إلى أيّ حدَثٍ يمكن أن يكون قد وقع في مكانٍ آخَر، مثل الكوفة أو مكّة أو المدينة..

كما لم تتضمّن الإشارة _ ولو من بعيدٍ _ إلى شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) والأحداث المتعلّقة به، ولا إلى سبب ضمّ ولاية الكوفة إليه مع البصرة..وبكلمة، فإنّ الإجراءات الّتي اتّخذها الطاغوت في البصرة ليست نتيجة تحرّكاتٍ ملحوظةٍ تشي بواقعٍ متململٍ يُنذر أزيزه بغليان مراجله، وإنّما هي عادة الطاغوت في الإرعاب والتخويف والتوجّس والخوف من الواقع الّذي ينخر فيه!

الإشارة الرابعة: الإرعاب بنفسه

نزا على المنبر جرواً متوحّشاً هائجاً طائشاً متمرّداً جائشاً، يتمّيز غيضاً ونزقاً وخرقاً وغروراً وتكبّراً وتجبّراً وطغياناً وعتوّاً..

يخال نفسه جبّاراً عنيداً، على الناس أن يخافوه ويحذروا بطشه؛ لأنّهم ذاقوا نكاله ونكال أبيه مِن قبل..

يُقسِم بالله أنّه لا تُقرَن به الصعبة، ولا يقعقع له بالشنان..

القعقعة: حكاية صوت السلاح، والشِّنان _ بالكسر _ : جمع الشن، وهو القربة الخلقة.

قال الزمخشريّ والميدانيّ: إذا أرادوا حثّ الإبل على السير، يحرّكون القربة اليابسة لتفزع، فتُسرع ...

ص: 311

وهو مَثَلٌ يُضرَب للرجل الشرس الصعب، الّذي لا يتفزّع لما ينزل به من حوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له ((1)).ثمّ يعود ليحدّثهم عن نفسه وسطوته وبطشه.. ويؤكّد ذلك بكلّ أدوات التأكيد، وأنّه نكلٌ لمن عاداه..أي: متفوّقٌ غالِبٌ وشرٌّ قويٌّ عليه، يلجمه ويقوده..

ويصف نفسه أنّه سمٌّ لمن حاربه، ويتبجّح بخيلاءٍ وزهوٍ وغرورٍ وتحدٍّ صلف، فيسوق لذلك مَثَلاً: (أنصف القارة مَن راماها)..

القارة: قبيلة، سُمّوا بالقارة لاجتماعهم والتفافهم في موقعةٍ لهذا ذِكرٌ معروف، وهم معروفون بمهارة الرمي ودقّة التصويب..

قيل: إنّ رجلين التقيا، أحدهما قاري، فقال القاري: إن شئتَ صارعتُك، وإن شئتَ سابقتُك، وإن شئتَ راميتُك. فقال الآخَر: قد اخترت المراماة. فقال القاري: قد أنصفتَني. وأنشأ يقول:

قد أنصف القارة

مَن راماها

أنا إذا ما فئةٌ نلقاها

نردّ أُولاها على أُخراها

ثمّ انتزع له بسهمٍ فشكّ به فؤاده.

وقال أبو عُبيد: أصل القارة الأكمة، وجمعها قور.

وقال ابن واقد: وإنّما قيل: أنصف القارة مَن راماها، في حربٍ كانت

ص: 312


1- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 29 / 178.

بين قريشٍ وبين بكر بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القارة مع قريش، وهم قومٌ رماة، فلمّا التقى الفريقان رماهم الآخَرون، فقيل: قد أنصفهمهؤلاء، إذ ساووهم في العمل الّذي هو شأنهم وصناعتهم ((1)).

فكأنّه يريد أن يهيّج القوم ويتحدّاهم، ويدعوهم للمبارزة إن شاؤوا، إذ أنّه مستعِدٌّ لها، وهو لا يخافهم ولا يأبه بهم ولا يكترث بعد ما يرى في نفسه الكفاءة والجرأة والقوّة والسطوة والتسلُّط والمهارة في فنّ الإجرام والتنكيل والإبادة والتخويف والإرعاب والإرجاف والإدمان على شرب الدماء والتلذّذ بها واعتياده الرقص على شخير الأوداج إذا فارت منها الدماء كالفوّارة..

كم في كلماته هذه من الغرور والطغيان والعتوّ والتكبُّر على الله وعلى الحرُمات!

الإشارة الخامسة: ذكر ولايته وخليفته

بعد أن أزبد وأرعد وزقح بحنقه وغروره، توجّه بالخطاب إلى أهل البصرة، ليخبرهم خبرَين يُفهَم منهما سبب خنخنته وتهديده المرعب الّذي صوّره في نفسه..

ص: 313


1- أُنظر: مجمع الأمثال للميدانيّ: 2 / 46، وقد وردت قصّة المَثَل في كثيرٍ من المصادر التاريخيّة.

إنّه يريد أن يغادر البصرة ويخلف عليهم أخاه.. والعفَن نفسُ العفَن، والقذَر نفسُ القذَر.. فهم أولاد سميّة، وكلّهم وحوشٌ كاسرة.. أولاد البغايا الرخيصات الّتي جعلت من أجوافها مستنقَعاً لسيلانات نطف الزناة علىقارعة الطريق بين دنان الخمر..

هكذا هم يقلبون الحقائق.. يزيد.. أمير المؤمنين!! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم..

لقبٌ منحه الله (تبارك وتعالى) لمن خلقه على عينه.. نور الأنوار، وسليل الأطهار، ومعدن الطُّهر الّذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً، وجعله مثابةً للخلق في العدل والكرامة وجميع مكارم الأخلاق ومحامدها وأسباب السعادة ومفاتحها في الدارين.. فيسلبه هؤلاء القردَة، ويخلعونه على قردٍ مجدورٍ مخمورٍ مسعورٍ مبتذلٍ سافلٍ خليعٍ ماجنٍ عاهر.

الإشارة السادسة: التهديد الاستباقيّ

بعد أن أعلن لهم عزمه على الرحيل إلى الكوفة، هجم عليهم هجمةً جديدة، تبدأ بالتحذير وتنتهي بإعلان العقوبات..

حذّرهم الخلاف والإرجاف.. فقط.. لم يكن يومها قد حصل شيءٌ من ذلك، فليس في القوم مخالِفٌ ولا مُرجِف، وهو يريد لهم أن يبقوا على حالهم من الركود والخنوع والخضوع والتذلّل والإقعاء.. إذ أنّه أقسم بعد ذلك على إنزال العقوبة بهم إن بلغه عن رجُلٍ منهم ذلك.. ولو كانوا على

ص: 314

حالٍ من الإرجاف والخلاف لَنفّذ فيهم تهديده قبل أن يرحل، ولو كان فيهم رجلٌ قد ارتكب ما حذّر منه الوغد الرعديد لَاتّخذه مثالاً وجعلهلهم عِبرةً ونكالاً..

ثمّ ذكر تهديده، وهو عمله المعهود وعملُ مَن سلّطه منذ يوم الهجوم على دار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وغصبِ الخلافة بالقهر والتهديد، وقتلِ كلّ مَن له علاقةٌ من قريبٍ أو من بعيدٍ بأيّ خلافٍ عليهم..

هدّدهم بما يجعل كلَّ واحدٍ منهم يحميه ويتبرّع بالدفاع عنه خوفاً على نفسه وعريفه ووليّه، وجعل الأقصى يخشى الأدنى، ويحذر من كلّ حركة، ويحسب لظلّه حين يلاحقه ويتوجّس منه..

ثمّ عاد من جديدٍ ليؤكّد إنّه سيفعل بهم ويفعل، حتّى يستقيموا له ويسمعوا له، ولا يكون فيهم مخالِفٌ ولا مشاقّ.. وهو تأكيدٌ على أنّ القوم كانوا كذلك، فهدّدهم إنْ خرجوا عن دائرة طاعته والخنوع له، فسيعيدهم بذلك إلى ما يريد منهم.

الإشارة السابعة: عودةٌ إلى التهديد باسمه

بدأ أراجيفه وطيشه بالتبجُّح والتهديد بنفسه، ثمّ عاد ليختم خطبته بالتهديد بنفسه شخصيّاً مرّةً أُخرى، وهو يعتقد أنّ مجرّد ذِكر اسمه واسم أبيه كافٍ في الإرعاب والإرهاب، وهو كذلك يومذاك؛ لأنّه لا ذمّة له ولا ضمير، ولا رعاية حرمةٍ لله ولا للناس..

ص: 315

فكان التهديد الأهمّ في ختام كلامه أنّه ذكّرهم أنّه ابن زياد!زياد الّذي أذاقهم الويلات، وصلّبهم على جذوع النخل، وسمّل أعينهم، وأخذ على الظنّة والتهمة، وقتل الأبرياء، وفعل الأفاعيل..

وهو نغله المعروف الّذي لا يسكن إلّا إذا مزج كؤوس خمره بالدماء، وترك اسمه كقيء قيحٍ معتَّقٍ من خنزيرٍ مخمورٍ مجذومٍ على صفحات التاريخ، بل أنجس وأشدّ قبحاً.. فأمثال هؤلاء لا تفي الأمثال بتقريب ما هم عليه..

إنّه نغلٌ متهاود، لا يمكن أن يشبهه أحَد، لأنّ المشتركون في إقحام نطفته في بالوعات البغايا كُثُر!

ص: 316

محتويات الكتاب

إجتماع شيعة البصرة.......................................................... 7

المتون............................................................................................ 7

الطبريّ:........................................................................................................................... 7

إبن الأثير:........................................................................................................................ 8

السماويّ:......................................................................................................................... 9

المقرّم:............................................................................................................................ 9

النَّمازيّ:.......................................................................................................................... 9

الضوء الأوّل: رواة الخبر.............................................................. 10

الضوء الثاني: تعريض الخبر بشيعة البصرة..................................... 11

الضوء الثالث: ماريّة العبديّة!......................................................... 14

المعلومة الأُولى: اسمها ونسبتها...................................................................................... 15

المعلومة الثانية: مَن هو أبوها؟......................................................................................... 15

الاسم الأوّل: مُنقِذ العَبديّ........................................................................................ 16

الأوّل: رضيّ بن مُنقِذ العَبديّ.................................................................................... 16

الثاني: مُرّة بن مُنقِذ العَبديّ....................................................................................... 16

الثالث: رجاء بن مُنقِذ العَبديّ.................................................................................... 17

الاسم الثاني: سعد العَبديّ........................................................................................ 18

المعلومة الثالثة: تشيُّعها!.................................................................................................. 20

ص: 317

المعلومة الرابعة: وضعها الاجتماعيّ................................................................................ 21

المعلومة الخامسة: وجاهتها............................................................................................ 22

الضوء الرابع: الاجتماع................................................................ 23

التلميح الأوّل: عدد المجتمِعين....................................................................................... 23

التلميح الثاني: هويّة المجتمِعين...................................................................................... 24

التلميح الثالث: وقت الاجتماع........................................................................................ 26

التلميح الرابع: ظروف الاجتماع...................................................................................... 28

التلميح الخامس: مُجرَيات الاجتماع............................................................................... 29

التعليق الأوّل: الخطاب الأوّل................................................................................... 30

التعليق الثاني: عرض الأمر على أولاده..................................................................... 31

التعليق الثالث: الإصحار بالعزم................................................................................. 31

التعليق الرابع: جواب القوم!...................................................................................... 32

المستوى الأوّل: التحذير........................................................................................... 33

المستوى الثاني: التبرير............................................................................................. 33

التعليق الخامس: الردّ الأخير.................................................................................... 34

النور الأول: التأكيدات............................................................................................. 35

النور الثاني: سهولة الطريق........................................................................................ 35

النور الثالث: أهمّيّة الإقدام مهما كلّف........................................................................ 36

النور الرابع: صعق الضمائر........................................................................................ 36

النور الخامس: أفلح باللقاء........................................................................................ 37

الضوء الخامس: معلومةٌ انفرد بها الشيخ السماويّ (رحمة الله) .................. 38

النكتة الأُولى: ما دار في الاجتماع.................................................................................. 38

النكتة الثانية: مكاتبة القوم.............................................................................................. 39

النكتة الثالثة: مصدر المعلومة.......................................................................................... 40

كتاب الإمام (علیه السلام) لأهل البصرة........................................... 41

ص: 318

تمهيداتٌ مهمّة................................................................ 65

التمهيد الأوّل: ارتباط المِصرَين................................................... 65

التمهيد الثاني: اختلاف التركيبة................................................... 65

التمهيد الثالث: عداوة البصرة يومذاك لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ......... 67

التمهيد الرابع: الأفراد لا يمثّلون عشائرهم.................................... 69

التمهيد الخامس: الإمام (علیه السلام) لم يُكاتِب مِصْراً................................. 71

التمهيد السادس: عداوة المخاطَبين............................................. 73

التمهيد السابع: لم تخرج قوّاتٌ من البصرة................................... 74

التمهيد الثامن: لم يَرِد خبرُ أهل البصرة في حديث أهل البيت (علیهم السلام) 75

التمهيد التاسع: الحذَر من المؤرّخ!.............................................. 76

وقت إرسال الكتاب ووصوله............................................. 79

المتابعة الأُولى: وقت إرسال الكتاب............................................. 79

المتابعة الثانية: وقت وصول الكتاب.............................................. 81

المتابعة الثالثة: تسجيل الحدَث من البصرة................................... 83

الرسول.......................................................................... 85

المعلومة الأُولى: اسمه................................................................... 85

المعلومة الثانية: كنيته................................................................... 86

المعلومة الثالثة: أُمّه....................................................................... 86

المعلومة الرابعة: ولاؤه.................................................................. 87

المعلومة الخامسة: مهمّته............................................................... 87

المعلومة السادسة: صفاته وخصاله.................................................. 88

ص: 319

المعلومة السابعة: معلوماتٌ غريبة!.................................................. 89

المعلومة الثامنة: شهادته................................................................ 90

النكتة الأُولى: ذريعة الوشاية.......................................................................................... 90

الذريعة الأُولى: خوف الدسيسة............................................................................... 91

الذريعة الثانية: قرابة السبب...................................................................................... 92

الذريعة الثالثة: خوف الدسيسة والقرابة..................................................................... 93

النكتة الثانية: كيف أُلقيَ القبض عليه.............................................................................. 94

الصورة الأُولى: لم تذكر إلقاء القبض...................................................................... 94

الصورة الثانية: ابن زيادٍ يلاحقه................................................................................ 95

الصورة الثالثة: المُنذِر يسلّمه.................................................................................... 96

النكتة الثالثة: شهادته...................................................................................................... 97

النكتة الرابعة: أوّل رسولٍ يُقتَل....................................................................................... 99

النكتة الخامسة: صلبه................................................................................................... 100

النكتة السادسة: تاريخ الشهادة...................................................................................... 101

المعلومة التاسعة: قاتله................................................................. 102

المعلومة العاشرة: سُليمان شهيد البصرة وشهيد كربلاء................ 104

ملاحظات................................................................................... 108

الملاحظة الأُولى: الاسم.............................................................................................. 108

الملاحظة الثانية: ولاؤه................................................................................................ 109

الملاحظة الثالثة: المقتول معه (علیه السلام) ................................................................................ 109

القول الأوّل: ذَكَره في عِداد المقتولين................................................................... 109

القول الثاني: قُتِل معه............................................................................................. 110

القول الثالث: نصّ على قتله يوم عاشوراء............................................................... 111

معالجة الأقوال...................................................................................................... 112

ص: 320

الفرضيّة الأُولى: شهيدان!........................................................................................ 113

الفرضيّة الثانية: شهيدٌ في كربلاء فقط....................................................................... 114

الفرضية الثالثة: شهيدٌ في البصرة فقط....................................................................... 115

المخاطَب بالكتاب.......................................................... 117

المتون....................................................................................... 117

البلاذريّ:.................................................................................................................... 117

الدينوريّ:................................................................................................................... 117

الطبريّ:...................................................................................................................... 118

إبن أعثم، الخوارزميّ:................................................................................................. 118

إبن الأثير:................................................................................................................... 118

إبن نما:....................................................................................................................... 119

إبن طاووس:............................................................................................................... 119

النويريّ:...................................................................................................................... 119

إبن كثير:.................................................................................................................... 120

المقريزيّ:................................................................................................................... 120

إبن أبي طالب:............................................................................................................ 120

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):...................................................................................... 120

العنوان الأوّل: العنوان العام....................................................... 121

العنوان الثاني: مخاطَبة الأشخاص.............................................. 123

التلويح الأوّل: البلاذريّ لم يذكر الأسماء.................................................................... 123

التلويح الثاني: الدينوريّ جعل الأسماء ضمن الكتاب................................................... 123

التلويح الثالث: الشيخ ابن نما يذكر (يزيد)................................................................... 124

التلويح الرابع: الأسماء الواردة في المصادر.................................................................. 125

1 - مالك بن مسمع البكريّ................................................................................. 125

ص: 321

2 - الأحنف بن قيس............................................................................................ 126

3 - المنذر بن الجارود العَبديّ.............................................................................. 130

4 - مسعود بن عمرو............................................................................................. 133

5 - قيس بن الهيثم................................................................................................ 137

6 - عمرو بن عُبيد الله بن مَعمَر.............................................................................. 139

7 - يزيد بن مسعود النَّهشليّ.................................................................................. 140

التلويح الخامس: أعداءٌ بالإجماع................................................................................. 144

مواقف القوم في مقام الردّ............................................. 147

المستوى الأوّل: الإجماليّ.......................................................... 147

المستوى الثاني: الشخصيّ.......................................................... 148

الموقف الأوّل: المنذر بن الجارود............................................................................... 148

الموقف الثاني: موقف الأحنف.................................................................................... 150

الوكزة الأُولى: الأحنف......................................................................................... 151

الوكزة الثانية: انفراده بالجواب............................................................................... 152

الوكزة الثالثة: كتب إلى الحسين (علیه السلام) ..................................................................... 152

الوكزة الرابعة: أجواء الآية الكريمة........................................................................ 153

الوكزة الخامسة: دلالات توظيف الآية................................................................... 155

الدلالة الأُولى: من خلال الأجواء............................................................................. 155

الدلالة الثانية: توظيف الآية مقطوعةً عن الأجواء........................................................ 156

المفاجأة الأُولى: الحسم بكلمة.................................................................................. 156

المفاجأة الثانية: خطاب العالي إلى الداني..................................................................... 157

المفاجأة الثالثة: وَعْد الله!......................................................................................... 157

المفاجأة الرابعة: إنّ وعد الله حقّ!............................................................................... 158

المفاجأة الخامسة: ولا يستخفّنّك!............................................................................. 159

المفاجأة السادسة: مَن الّذي يَستخفّ!......................................................................... 160

ص: 322

المفاجأة السابعة: الافتراء على سيّد الشهداء (علیه السلام) ............................................................. 161

المفاجأة الثامنة: الكلام مبنيٌّ على ما اعتمده السلطان....................................................... 162

المفاجأة التاسعة: الأحنف من الّذين لا يوقنون.............................................................. 163

المفاجأة العاشرة: البحث وفق رواية الشيخ ابن نما.......................................................... 165

الموقف الثالث: موقف يزيد النهشليّ........................................................................... 165

الإضاءة الأُولى: النصّ المختار............................................................................... 168

الإضاءة الثانية: التعريف بيزيد بن مسعود من خلال النصّ....................................... 168

التعريف الأوّل: قدرته على تحشيد بني تميم وبني حنظلة وبني سعد............................. 169

التعريف الثاني: ثقته بمنزلته عند القوم...................................................................... 170

التعريف الثالث: منزلته عند القوم............................................................................. 170

التعريف الرابع: عقيدته........................................................................................... 172

التعريف الخامس: استشرافه للمستقبل وعواقب الأُمور................................................ 173

الإضاءة الثالثة: مشهد الحوار والمواقف................................................................. 173

الكلمة الأُولى: سبب جَمْعِهم................................................................................... 174

الكلمة الثانية: الأمر الّذي دعاهم إليه........................................................................ 174

النقطة الأُولى: هلاك معاوية.................................................................................... 174

النقطة الثانية: استخلاف يزيد.................................................................................... 177

النقطة الثالثة: الموقف من يزيد................................................................................. 179

النقطة الرابعة: ذكر الإمام الحسين (علیه السلام) ......................................................................... 180

النقطة الخامسة: النتيجة والتحذير............................................................................... 182

الكلمة الثالثة: كلام بني حنظلة................................................................................ 185

الكلمة الرابعة: كلام بني سعد.................................................................................. 187

الكلمة الخامسة: كلام بني عامر بن تميم................................................................... 188

ولكن!............................................................................................................... 190

الكلمة السادسة: ردّ يزيد على بني سعد..................................................................... 193

الإضاءة الرابعة: كتاب يزيد النهشليّ إلى الحسين (علیه السلام) ............................................. 195

المعلومة الأُولى: إعلان وصول الكتاب..................................................................... 196

المعلومة الثانية: دعوتُه فوزٌ له.................................................................................. 196

ص: 323

المعلومة الثالثة: تعليل الاستجابة والفوز..................................................................... 197

المعلومة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام) ............................................................................. 198

المعلومة الخامسة: تقرير أحوال القوم....................................................................... 199

القسم الأوّل: بنو تميم عامّة...................................................................................... 199

القسم الثاني: بنو سعد............................................................................................. 201

الإضاءة الخامسة: جواب الإمام الغريب (علیه السلام) ........................................................... 202

التنوير الأوّل: مواقيت النصّ!................................................................................... 202

التنوير الثاني: وعودٌ في الزمن العصيب..................................................................... 203

التنوير الثالث: ما لَك؟!.......................................................................................... 205

التنوير الرابع: الدعاء!.............................................................................................. 205

التنوير الخامس: الدعاء لابن مسعود خاصّة!............................................................... 206

الإضاءة السادسة: عاقبة الموقف............................................................................ 207

الوقفة الأُولى: أدّى ما عليه!..................................................................................... 208

الوقفة الثانية: فترة التجهيز!...................................................................................... 208

الوقفة الثالثة: إمكان خروج ابن مسعود بعسكر........................................................... 210

الوقفة الرابعة: الخروج المتفرّق!............................................................................... 211

الوقفة الخامسة: الخروج بنفسه ومَن لحق!................................................................. 211

الوقفة السادسة: فلمّا تجهّز!..................................................................................... 212

الإضاءة السابعة: أسئلةٌ حائرة.................................................................................. 213

السؤال الأوّل: انفراد الشيخ ابن نما............................................................................ 214

السؤال الثاني: يزيد بن مسعود................................................................................. 215

السؤال الثالث: ابن مسعود زعيمٌ بين الزعماء.............................................................. 217

السؤال الرابع: كيف اجتمع هؤلاء القوم على غفلةٍ من السلطان؟................................... 217

السؤال الخامس: كيف جهّز ابن مسعود قومه ولم يحفل بهم أَحَد؟............................... 220

السؤال السادس: أخبار التجهيز................................................................................ 221

السؤال السابع: التعارض!......................................................................................... 222

السؤال الثامن: عدم كفاف المدّة للتجهّز................................................................... 223

ص: 324

السؤال التاسع: تتبُّع الأخبار...................................................................................... 223

السؤال العاشر: تعارض الموقف مع ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام) ................................ 224

متن الكتاب................................................................... 229

البلاذريّ:................................................................................... 229

الدينوريّ:.................................................................................. 229

الطبريّ:...................................................................................... 230

إبن أعثم، الخوارزميّ:................................................................ 230

إبن الأثير:................................................................................... 231

إبن نما:...................................................................................... 231

إبن طاووس:.............................................................................. 231

النويريّ:..................................................................................... 231

إبن كثير:.................................................................................... 232

المقريزيّ:.................................................................................. 233

إبن أبي طالب:........................................................................... 233

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):..................................................... 233

القسم الأوّل: رواية مضامين الكتاب............................................ 234

القسم الثاني: الدمج بين رواية المضامين والنصّ........................ 235

القسم الثالث: رواية نصّ الكتاب................................................. 236

الرواية الأُولى: المختصرة............................................................................................ 237

المتابعة الأُولى: نصّ ابن نما (رحمة الله) .......................................................................... 237

المتابعة الثانية: ورود أسماء المخاطَبين في متن الرسالة............................................ 238

المتابعة الثالثة: مقدّمة الكتاب................................................................................. 238

ص: 325

المتابعة الرابعة: الدعوة........................................................................................... 239

اللمعة الأُولى: الدعوة في شقَّين............................................................................... 239

اللمعة الثانية: عموم الدعوة...................................................................................... 239

اللمعة الثالثة: معنى «الحياة، المعالم، الحقّ»................................................................ 240

اللمعة الرابعة: إحياء معالم الحقّ............................................................................... 243

اللمعة الخامسة: الدعوة إلى إماتة البدَع..................................................................... 245

اللمعة السادسة: «فإنْ تُجيبوا»!.................................................................................. 247

اللمعة السابعة: أُسلوب الدعوة................................................................................. 248

اللمعة الثامنة: إنْ أجابوا اهتدوا................................................................................. 249

اللمعة التاسعة: تهتدوا سبيل الرشاد........................................................................... 250

اللمعة العاشرة: الخاتِمة........................................................................................... 252

الرواية الثانية: المفصّلة................................................................................................. 252

المسلك الأوّل: انفراد الطبريّ............................................................................... 254

المسلك الثاني: ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) والشهادة له بالتبليغ.............................................. 255

المسلك الثالث: أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) مِن بعده...................................................... 257

المسلك الرابع: الاستئثار عليهم............................................................................. 259

المسلك الخامس: الرضى وكراهة الفرقة............................................................... 259

المسلك السادس: أحسنوا! أصلحوا! تحرّوا الحقّ!!!................................................ 263

التعليقة الأُولى: المُسيء مُحسن.. المُفسِد مُصلح!!....................................................... 263

التعليقة الثانية: تأليف القلوب والتقيّة......................................................................... 265

التعليقة الثالثة: لماذا القيام على الإحسان والصلاح؟!.................................................... 266

التعليقة الرابعة: على منوال كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ..................................................... 267

الاختلاف الأوّل: أمير المؤمنين (علیه السلام) في مقام المحاججة.................................................. 268

الاختلاف الثاني: خلفاء الناس!................................................................................. 269

الاختلاف الثالث: أحسنا السيرة في الأُمّة لا في الآل........................................................ 269

الاختلاف الرابع: وَجْدُ أهل البيت (علیهم السلام) عليهما............................................................ 270

الاختلاف الخامس: المغفرة..................................................................................... 271

ص: 326

الاختلاف السادس: التمييز بينهما وبين الثالث............................................................... 272

الاختلاف السابع: إلزام القوم بالتزام أهل البيت (علیهم السلام) ..................................................... 273

الاختلاف الثامن: الدعوة!........................................................................................ 273

الاختلاف التاسع: استغفار الإمام (علیه السلام) !......................................................................... 274

الاختلاف العاشر: الاختلاف عموماً........................................................................... 275

التعليقة الخامسة: التناقض بين خطاب الكتاب وأهداف القيام....................................... 276

التعليقة السادسة: تخطئة الحقّ والأئمّة (علیهم السلام) ............................................................. 276

المسلك السابع: المقطع المتكرّر........................................................................... 277

المسلك الثامن: خبرٌ لا يرتضيه المخالِف والمؤالف!............................................. 278

المسلك التاسع: دوافع إرسال الكتاب................................................................... 279

المسوّغ الأوّل: إقامة الحُجّة..................................................................................... 279

لماذا أهل البصرة بالذات؟....................................................................................... 280

المسوّغ الثاني: تحييد القوم!.................................................................................... 282

المعوّق الأوّل: لماذا أهل البصرة بالذات؟.................................................................... 283

المعوّق الثاني: ما هو الضمان على التحييد؟.................................................................. 284

المعوّق الثالث: فائدة التحييد.................................................................................... 285

المعوّق الرابع: معنى التحييد..................................................................................... 286

المسوّغ الثالث: إشغال السلطان بالبصرة..................................................................... 286

المسوّغ الرابع: مخاطبة الناس من خلال الرؤساء......................................................... 288

أوّلاً: الزعيم الحاقد لن يُوصِل الرسالة......................................................................... 288

ثانياً: الأتباع كالزعماء في العداوة.............................................................................. 289

ثالثاً: عدم انحصار الإيصال بالزعماء........................................................................... 290

المسوّغ الخامس: إعلام الراغبين............................................................................. 291

المناقشة الأُولى: وجود تجمُّعٍ شيعيّ........................................................................... 291

المناقشة الثانية: انتشار خبر حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ......................................................... 291

المسوّغ السادس: الكتاب ردٌّ على كتاب!.................................................................. 292

المسوّغ السابع: وجود التواصل من قَبل!.................................................................... 296

الجواب الأوّل: كتابة الإمام (علیه السلام) لا تحتاج إلى سوابق...................................................... 298

ص: 327

الجواب الثاني: الكتابة إلى قومٍ جُدُد........................................................................... 298

الجواب الثالث: الكتاب الواحد لا يُمثِّل ظاهرة.............................................................. 299

المسوّغ الثامن: الكتاب عامّ!.................................................................................... 299

المسوّغ التاسع: مشكلة البحث عن مسوّغ!................................................................. 300

المسوّغ العاشر: تطريز الكتاب!................................................................................ 301

موقف ابن زيادٍ من الكتاب والرسول............................... 303

الإجراء الأوّل: قتْلُ الرسول وصلبُه............................................ 303

الإجراء الثاني: جمْعُ المخاطَبين................................................ 303

الإجراء الثالث: الخُطبة.............................................................. 305

القسم الأوّل: نقل المضمون......................................................................................... 305

القسم الثاني: نقل الخطبة............................................................................................. 306

الإشارة الأُولى: وقت الخطبة........................................................................................ 307

الإشارة الثانية: مكان الخطبة......................................................................................... 309

الإشارة الثالثة: مناسبة الخطبة وظروفها.......................................................................... 310

الإشارة الرابعة: الإرعاب بنفسه..................................................................................... 311

الإشارة الخامسة: ذكر ولايته وخليفته........................................................................... 313

الإشارة السادسة: التهديد الاستباقيّ.............................................................................. 314

الإشارة السابعة: عودةٌ إلى التهديد باسمه...................................................................... 315

ص: 328

المجلد 7

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم السابع

( وقائع البصرة 2 )

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

يزيد يضمّ الكوفة إلى ولاية ابن زياد

اشارة

يزيد يضمّ الكوفة إلى ولاية ابن زياد ((1))

المتون

إبن سعد، ابن عساكر، مختصر ابن منظور:

وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة في آخِر خلافة معاوية، فهلك وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان! وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها: فإنْ كان لك جناحان فطِرْ حتّى تسبق إليها ((2)).

ص: 5


1- هذا المقطع من الدراسة مقتبَسٌ من الجزء الثاني من مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام)) الجزء الثاني، وقد بحثنا المتون هناك باختصارٍ على أمل التفصيل هنا، بَيد أنّ صوارف الزمان وأتعاب الأيّام منعَت من تناولها هنا بالشكل المطلوب، ورأينا نقلها بما هي لضرورة البحث ولكي تكتمل الصورة في وقائع البصرة، وليس بالضرورة أن يقع هذا الكتاب بيدٍ قد وقعَت على تلك المجموعة.. إلّا إذا دعَت الضرورة إلى شيءٍ من التغيير في الألفاظ وغيرها.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 65، ومثله ابن عساكر، مختصر ابن منظور: 27 / 58.
إبن قُتيبة، البيهقيّ:

فبعث الحسين بن عليٍّ مسلمَ بن عقيل إلى الكوفة يبايعهم له، وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فقال النعمان: لَابنُ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحبُّ إلينا من ابن بحدل.

قال: فبلغ ذلك يزيد، فأراد أن يعزله، فقال لأهل الشام: أشيروا علَيّ، مَن أستعمل على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم. قالوا: فإنّ الصكّ بإمرة عُبيد الله بن زيادٍ على العراقَين قد كتبه في الديوان. قال: فاستعمله على الكوفة ((1)).

البلاذريّ:

فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة، وبعث بكتابه في ذلك مع مسلم بن عمرو الباهلي _ أبي قُتيبة بن مسلم _، وأمَرَ عُبيدَ الله بطلب ابن عقيل ونفيه إذا ظفر به أو قتله، وأن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليٍّ ويكون على استعدادٍ له ((2)).

وحدّثَني عبد الله بن صالح المُقرئ، عن أبي زبيد، عن أبي حُصين

ص: 6


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، المحاسن والمساوئ للبيهقيّ: 50.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.

قال: بلغ يزيد بن معاوية أنّ الحسين (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة، فغمّه ذلك وساءه، فأرسل إلى سرجون مولاهم _ وكان كاتبه وأنيسه _ فاستشاره فيمن يولّيه الكوفة، فأشار بعُبيد الله بن زياد، فقال: إنّه لا خير عنده. قال: أرأيتَ لو كانمعاوية حيّاً فأشار عليك به أكنتَ تولّيه؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد معاوية إليه بخاتمه، وقد كان ولّاه، فلم يمنعني أنْ أُعلمك ذلك إلّا معرفتي ببغضك له.

فأنفذه إليه، وعزل النعمان بن بشير، وكتب إليه: أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، وقد سُميَ بك يوماً إلى غايةٍ أنت فيها، كما قال الأوّل:

رفعتَ فجاوزتَ السحاب وفوقه

فما لك إلّا مرقب الشمس مقعدُ ((1))

الدينوريّ:

فلمّا ورد الكتاب على يزيد، أمر بعهدٍ فكتب لعُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، وأمره أن يبادر إلى الكوفة فيطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتّى يظفر به، فيقتله أو ينفيه عنها.

ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ _ أبي قُتيبة بن مسلم _، وأمره بإغذاذ السير ((2)).

ص: 7


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 407.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233.
اليعقوبيّ:

وكان يزيد قد ولّى عُبيد الله بن زيادٍ العراق، وكتب إليه [وقد جمع بين الكتابَين اليعقوبيّ، فقال]: قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قدكتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُليَ بلدُك من بين البلدان وأيّامُك من بين الأيّام، فإنْ قتلتَه وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذرْ أن يفوتك ((1)).

الطبريّ، الشجريّ، المُزّيّ، ابن حجَر:

فدعا مولىً له يُقال له: سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبَلْ منّي، فإنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّها إيّاه.

وكان يزيد عليه ساخطاً، وكان همّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضائه وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إنْ وجده ((2)).

ص: 8


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 348، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 423، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349.
الطبريّ:

قال هِشام: قال عوانة: فلمّا اجتمعَت الكتبُ عند يزيد، ليس بين كتبهم إلّا يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية، فقال: ما رأيك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيلٍ بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغَني عن النعمان ضعفٌوقولٌ سيّئ _ وأقرأه كتبهم _، فما ترى مَن أستعملُ على الكوفة؟ وكان يزيد عاتِباً على عُبيد الله بن زياد، فقال سرجون: أرأيتَ معاوية لو نُشر لك، أكنتَ آخذاً برأيه؟ قال: نعم. فأخرج عهد عُبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه، وضمّ المصرَين إلى عُبيد الله، وبعث إليه بعهده على الكوفة.

ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهليّ، وكان عنده، فبعثه إلى عُبيد الله بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيلٍ بالكوفة يجمع الجموعَ لشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيلٍ كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((1)).

ص: 9


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 356.
إبن أعثم:

قال: فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد بن معاوية، دعا بغلام أبيه، وكان اسمه: سرجون، فقال: يا سرجون، ما الّذي عندك في أهل الكوفة؟ فقد قَدِم مسلم بن عقيل، وقد بايعه الترابيّة للحسين بن عليّ [رضي الله عنهما]؟ فقال له سرجون: أتقبل منّي ما أُشيربه عليك؟ فقال يزيد: قُل حتّى أسمع. فقال: أُشير عليك أن تكتبَ إلى عُبيد الله بن زياد، فإنّه أمير البصرة، فتجعل له الكوفة زيادةً في عمله، حتّى يكون هو الّذي يقدم الكوفة فيكفيك أمرهم. فقال يزيد: هذا لَعمري هو الرأي.

ثمّ كتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فإنّ شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ، فخبّروني أنّ مسلم بن عقيلٍ يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع عليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا وصل إليك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه، حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد جعلتُها زيادةً في عملك وضممتُها إليك، فانظُرْ أين تطلب مسلم بن عقيل بن أبي طالبٍ بها، فاطلبه طلب الخرزة، فإذا ظفرت به فاقتله ونفذ إليّ رأسه، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتُك به، فالعجل العجل والوحا الوحا، والسلام.

ص: 10

ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، ثم أمره أن يجدّ السير إلى عُبيد الله بن زياد ((1)).

إبن عبد ربّه:

قال: فبلغ ذلك يزيد، فقال: يا أهلَ الشام، أشيروا علَيّ، مَنأستعمل على الكوفة؟ فقالوا: ترضى مَن رضى به معاوية؟ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصكّ بإمارة عُبيد الله بن زيادٍ على العراقَين قد كُتب في الديوان. فاستعمَلَه على الكوفة ((2)).

الباعونيّ:

فبلغ ذلك يزيد، فقال: يا أهلَ الشام، أشيروا علَيّ، مَن أستعمل على أهل الكوفة؟ قالوا: نرضى بما رضيت. فولّى [يزيدُ] عُبيدَ الله ابن زيادٍ على العراقَين ((3)).

المسعوديّ:

واتّصل الخبر بيزيد، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة ((4)).

ص: 11


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 60.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377.
3- جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 265 _ عن ابن عبد ربّه.
4- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 66.
إبن حبّان:

فلمّا اتّصل الخبر بيزيد بن معاوية أنّ مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة للحسين بن عليّ، كتب يزيدُ بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاك بالبصرة، وأمره بقتل مسلم بن عقيلٍ أو بعثه إليه ((1)).

القاضي النعمان:

وانتهى ذلك إلى يزيد (لعنة الله عليه)، فعزله، وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد، وأمره بقتل مسلم بن عقيل، وبأن يقطع على الحسين (علیه السلام) قبل أن يصل إلى الكوفة ((2)).

الشيخ المفيد (رحمة الله) :

فلمّا وصلَت الكتب إلى يزيد، دعا سرجون مولى معاوية فقال: ما رأيُك؟ إنّ حسيناً قد نفذ إلى الكوفة مسلمَ بن عقيلٍ يُبايع له، وقد بلغَني عن النعمان ضعفٌ وقولٌ سيّئ، فمَن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيتَ معاوية لو نُشر لك حيّاً، أما كنتَ آخِذاً برأيه؟ قال: بلى. قال: فأخرجَ سرجون عهدَ عُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة،

ص: 12


1- الثقات لابن حبان: 2 / 307.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 147.

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمَّ المصرَين إلى عُبيد الله. فقال له يزيد: أفعل، ابعَثْ بعهد عُبيد الله ابن زيادٍ إليه.

ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهليّ، وكتب إلى عُبيد الله معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابنعقيلٍ بها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام. وسلّم إليه عهده على الكوفة.

فخرج مسلم بن عمرو حتّى قدم على عُبيد الله بالبصرة، وأوصل إليه العهد والكتاب، فأمر عُبيدُ الله بالجهاز من وقته والمسير والتهيّؤ إلى الكوفة من الغد، ثمّ خرج من البصرة، فاستخلف أخاه عثمان، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك ابن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((1)).

الخوارزميّ، ابن أبي طالب:

فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد، دعا بغلامٍ كان كاتباً عند أبيه يُقال له سرجون، فأعلمه بما ورد عليه، فقال: أُشير عليك بما تكره؟ قال: وإنْ كرهت. قال: استعملْ عُبيدَ الله بن زيادٍ على

ص: 13


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 39.

الكوفة. قال: إنّه لا خير فيه _ وكان يبغضه _، فأشِرْ بغيره. قال: لو كان معاوية حاضراً، أكنتَ تقبل قوله وتعمل بقوله؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد عُبيد الله على الكوفة، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبتُه، وخاتمه عليه، فمات وبقي العهد عندي. قال: ويحك،فأمضِه!

وكتب: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين! إلى عُبيد الله بن زياد، سلامٌ عليك، أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وأنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، ولك ما لَك وعليك ما عليك، وقد انتميتَ ونميتَ إلى كلّ منصب، كما قال الأوّل:

رفعتَ فما زلتَ السحاب

تفوقه

فما

لك إلّا مقعد الشمس مقعدُ

وقد ابتُلي بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وابتُلي به بلدُك من بين البلدان، وابتُليت به بين العمّال، وفي هذه تُعتَق أو تكون عبداً تعبَّد كما تعبَّد العبيد، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتُها إليك وجعلتُها زيادةً في عملك _ وكان عُبيد الله أمير البصرة _، وانظر أن تطلب مسلم بن عقيلٍ كطلب الحرد، فإذا ظفرتَ به فخُذ بيعته أو اقتله إنْ لم يبايع، واعلمْ أنّه لا عذر لك عندي وما أمرتُك به، فالعجل العجل والوحاء الوحاء، والسلام.

ص: 14

ثمّ دفع يزيد كتابه إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وأمره أن يُسرعالسير إلى عُبيد الله.

فلمّا ورد الكتاب إلى عُبيد الله وقرأه، أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير إلى الكوفة ...

فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه أبو قُتيبة مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن عبد الله الهمداني ((1)).

المحلّيّ:

فدعا يزيد مولىً له يُقال له: سرجون، قد كان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبلْ منّي، إنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّها إيّاه.

وكان يزيد عليه ساخطاً وقد كان هَمّ بعزله، وكان على البصرة، فكتب إليه برضاه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله إنْ وجده ((2)).

ص: 15


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 178.
2- الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 115.
أبو الفداء:

وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولّى على الكوفة عُبيد الله بن زياد، وكان والياً على البصرة ((1)).

السمهوديّ:

فكتب إلى عُبيد الله بن زياد ابن أبيه: قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قد سار إلى الكوفة، فاحترز منه، واقتُلْ مسلم بن عقيل.

فقدم عُبيد الله بن زيادٍ من البصرة، معه وجوه أهلها، فدخل على الاحتراس من الحسين، وأمره أن يحبس على الظنّة ويأخذ على التهمة ((2)).

مسكويه:

فدعا يزيد كاتبَه سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر، قال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبلْ منّي، فإنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّه.

وكان يزيد ساخطاً عليه وهَمّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه

ص: 16


1- تاريخ أبي الفداء: 1 / 189.
2- جواهر العقدَين للسمهوديّ: 407.

برضاه عنه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله ((1)).

الطبرسيّ:

فلمّا وصلَت الكتب إلى يزيد، دعا بسرحون مولى معاويةوشاوره في ذلك، وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال سرحون: أرأيتَ معاوية لو يشير لك كنتَ آخِذاً برأيه؟ قال: نعم. فأخرج سرحون عهد عُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، فقال: إنّ معاوية مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمَّ المصرَين إلى عُبيد الله. فقال يزيد: ابعث بعهد ابن زياد إليه.

وكتب إليه أنّ سرحون لا يقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة، حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((2)).

الخوارزميّ:

فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد، دعا بغلامٍ كان كاتباً عند أبيه يُقال له: سرحون، فأعلمه بما ورد عليه، فقال: أُشير عليك بما تكره؟ قال: وإنْ كرهت. قال: استعمِلْ عُبيد الله بن زيادٍ على

ص: 17


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 42.
2- إعلام الورى للطبرسيّ: 224.

الكوفة. قال: إنّه لا خير فيه _ وكان يبغضه _، فأشِرْ بغيره. قال: لو كان معاوية حاضراً، أكنتَ تقبل قوله وتعمل بقوله؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد عُبيد الله على الكوفة، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبتُه، وخاتمه عليه، فمات وبقي العهد عندي. قال: ويحك، فأمضِه!وكتب: مِن عبد الله يزيد أمير المؤمنين! إلى عُبيد الله بن زياد، سلامٌ عليك، أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، ولك ما لَك وعليك ما عليك، وقد انتميتَ ونميتَ إلى كلّ منصب، كما قال الأوّل:

رفعتَ فما زلتَ السحاب

تفوقه

فما

لك إلّا مقعد الشمس مقعدُ

وقد ابتُلي بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وابتُلي به بلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به بين العمّال، وفي هذه تُعتَق أو تكون عبداً تعبَّد كما تعبَّد العبيد، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيل بالكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا، فسِرْ حين تقرأه حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتُها إليك وجعلتُها زيادةً في عملك _ وكان عُبيد الله أمير البصرة _، وانظر أن تطلب مسلم بن عقيلٍ كطلب الحرد، فإذا ظفرتَ به فخُذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع، واعلمْ أنّه لا عذر لك عندي وما أمرتك به، فالعجل العجل والوحاء الوحاء، والسلام.

ص: 18

ثمّ دفع يزيد كتابه إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وأمره أن يُسرعالسير إلى عُبيد الله ((1)).

إبن عساكر، مختصر ابن منظور:

كان [مسلم بن عمرو] عظيمَ القدر عند يزيد بن معاوية، ووجّهه يزيد إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتوليته إيّاه الكوفة عند توجُّه الحسين (علیه السلام) إليها ((2)).

الشيخ ابن شهرآشوب (رحمة الله) :

فكتب يزيد على يدَي مسلم بن عمر الباهليّ إلى عُبيد الله بن زياد، وهو والي البصرة، وولّاه الكوفة مع البصرة، وأن يطلب مسلم ابن عقيلٍ فيقتله أو ينفيه، فالعجل العجل ((3)).

إبن الجَوزيّ:

فولّى الكوفةَ عُبيدَ الله بن زيادٍ إضافةً إلى البصرة، وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل ((4)).

ص: 19


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198.
2- مختصر ابن منظور: 24 / 295، ومثله ابن عساكر.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 91.
4- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325.

قال أهل السيَر: لمّا بعث الحسينُ مسلمَ بن عقيل، بلغ الخبر إلى يزيد، فولّى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد، وكتب إليه يزيد [وقد جمع بين الكتابَين]: إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس، واحبس على الظنّة وخُذ علىالتهمة ((1)).

إبن الأثير، النويريّ:

فلمّا اجتمعَت الكتبُ عند يزيد، دعا سرجونَ مولى معاوية، فأقرأه الكتب واستشاره فيمن يولّيه الكوفة، وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيتَ لو نُشر لك معاوية، كنتَ تأخذ برأيه؟ قال: نعم. فأخرج عهد عُبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب.

فأخذ برأيه، وجمع الكوفة والبصرة لعُبيد الله، وكتب إليه بعهده، وسيّره إليه مع مسلم بن عمرو الباهليّ والد قُتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه ((2)).

سبط ابن الجَوزيّ:

وكان يزيد أبغضَ الناس في عُبيد الله بن زياد، وإنّما احتاج إليه، فكتب إليه أنْ قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قد سار

ص: 20


1- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزيّ: 36.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388.

إلى الكوفة، فاحترز منه، وأنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة فاقتله. فعزل النعمان وولّى ابن زياد ((1)).

السيّد ابن طاووس (رحمة الله) :

فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان والياً على البصرة _ بأنّه قد ولّاه الكوفة وضمّها إليه، وعرّفه أمْرَ مسلم بن عقيل وأمْرَ الحسين (علیه السلام) ، ويشدّد عليه في تحصيل مسلم وقتله (رضوان الله علیه) ((2)).

الذهبيّ:

[عن ابن سعد]: وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله _ وهو على البصرة _ فضمّ إليه الكوفة، وقال له: إنْ كان لك جناحان فطِرْ إلى الكوفة!

وكان يزيد ساخطاً على عُبيد الله بن زياد، فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه ولّاه الكوفة مضافاً إلى البصرة، وكتب إليه أن يقتل مسلماً ((3)).

ص: 21


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 138 و140.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.
3- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 201 و206.
إبن كثير:

فبعث يزيد، فعزل النعمان عن الكوفة، وضمّها إلى عُبيد الله بن زيادٍ مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره، فقال سرجون: أكنتَ قابلاً من معاوية ماأشار به لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبلْ منّي، فإنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّه إيّاها. وكان يزيد يبغض عُبيدَ الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معاً لما يريده الله به وبغيره.

ثمّ كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمتَ الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإنْ قدرتَ عليه فاقتله أو انفنه.

وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهليّ ((1)).

إبن خلدون:

فأشار عليه سرجون ((2)) ... [بيّض له بالأصل نحو ثلاث ورقات].

إبن حجَر، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر:

فدعا يزيد مولىً له يُقال له: سرحون، فاستشاره، فقال له: ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد. وكان يزيد ساخطاً على عُبيد الله

ص: 22


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152.
2- تاريخ ابن خلدون: 3 / 22.

وكان هَمّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه قد أضاف إليه الكوفة، وأمره أن يطلب مسلم بن عقيل، فإنْ ظفر به قتله ((1)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

فجهّز يزيدُ عند ذلك إلى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((2)).

إبن حجَر:

وأمَرَ يزيدُ ابنَ زياد ((3)).

تاج الدين العامليّ:

وبلغ الخبرُ إلى يزيد، فأرسل إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان والياً على البصرة _ يأمره بالمضيّ إلى الكوفة، وببذل الجهد في قتل مسلم بن عقيل ((4)).

الشيخ الطُّريحيّ:

فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أنفذ إلى الكوفة عمر بن سعد (لعنه الله)،

ص: 23


1- الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
3- الصواعق المُحرقة لابن حجَر: 117.
4- التتمّة لتاج الدين العامليّ: 78.

وكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان في البصرة _ كتاباً يستنهضه على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من نسل عليٍّ إلّا قتَلَه ((1)).

مقتل أبي مِخنَف (المشهور):

فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد (لعنه الله)، دعا بمولىً له يُقال له:سرجون، وقال له: ما تنظر الحسين (علیه السلام) كيف أرسل ابن عمّه إلى الكوفة يبايعهم؟ وبلغني أنّ النعمان ضعيفٌ فيهم. فأقرأَه الكتبَ الّتي أتته من الكوفة، فقال له: وما عندك من الرأي؟ فأشار عليه بتولية عُبيد الله بن زياد (لعنه الله) وعزل النعمان، ففعل ذلك، وضمّ إليه المصرَين: البصرة والكوفة.

فكتب إليه: أمّا بعد، فإنّي ولّيتُك المصرَين: البصرة والكوفة، فخُذْ بالرأي السديد واعمل النصح.

وأرسل إليه كتاباً ثانياً يقول فيه: من يزيد بن معاوية [لعنه الله] إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فقد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين [ (علیه السلام) ]، وقد كتبتُ إليك كتاباً، فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأَ منك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فارتحلْ من وقتك وساعتك، وإيّاك والتواني، واجتهد، ولا تُبقِ من نسل عليّ بن أبي طالبٍ [ (علیه السلام) ] أحداً، واطلب مسلم بن

ص: 24


1- المنتخب للطريحي: 2 / 423.

عقيلٍ [ (علیه السلام) ] فاقتله وابعَثْ إليّ برأسه، والسلام.

كتب هذا العهد في شهر ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة، وهي السنة الّتي قُتل فيها الحسين (علیه السلام) .

قال: ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وقال له: امضِ إلى البصرة، وادفعْ كتابي هذا إلى عُبيد الله بن زياد [لعنه الله]((1)).

القندوزيّ:

فأرسل يزيدُ عمرَ بن سعد بن أبي وقّاص إلى ابن زياد _ وكان في البصرة _ مع كتابٍ يأمره على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من بني عليٍّ إلّا قتَلَه ((2)).

أسد حيدر:

فاضطرب حبلُ استقراره، ولجأ إلى أهل الرأي والمشورة من كبار أنصاره ومعاونيه، وكان أبرز مشاوريه سرجون مولى معاوية، وهو رجلٌ مجوسيٌّ يحقد على العرب، فأشار عليه بعزل النعمان وتولية عُبيد الله بن زياد، ويقال: إنّ سرجون كان يرعى الرابطة الّتي بينه وبين ابن زياد، لأنّ سرجون مجوسيّ العقيدة، وكانت مرجانة على عقيدته، فأراد أن يقدّم ابن مرجانة ويولّيه المصرَين، ليفتك

ص: 25


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 22.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 335.

بالعرب، ويوقد بين المسلمين نار حربٍ يكون وقودَها المسلمون.

فكتب إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيلٍ يجمع الجموع ويشقّعصى المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخزرة، حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ((1)).

بواعث ضمّ الكوفة إلى ابن زياد

اشارة

يبدو لمن تمعّن أنّ المتون التاريخيّة تذكر أسباباً ودوافع مختلفةً حملَت القرد المجدور على تسويغ الكوفة لابن الأَمَة الفاجرة، وجعلِها لقمةً واحدةً مع البصرة.

والظاهر من النصوص أنّ كلّ واحدٍ من المؤرّخين يحصر السبب فيما يذكره هو، ولا مانع من اجتماع الأسباب كلّها، وقد أخذ كلُّ واحدٍ من المؤرّخين أحدها وركّز عليه، وهي كافيةٌ جمعاً أو إفراداً لتحريك القرد المجدور وبعثه على اتّخاذ مِثل هذا القرار الخطير.

ويمكن إجمالها في البواعث التالية:

الباعث الأوّل: كان قد ولّاه مِن قبل

ربّما أفادت عبارة اليعقوبيّ في (تاريخه) أنّ القرد المجدور كان قد ولّى

ص: 26


1- مع الحسين (علیه السلام) في نهضته لأسد حيدر: 88.

ابنَ الأَمة الفاجرة العراقَ بمصرَيه، وإنّما كتب إليه وهو في البصرة يستحثّه ويستعجله لينتقل إلى المركز الثاني من مراكز ولايته، باعتبار أنّه استشعر ثَمّة تململاً واضطراباً وتخلخلاً في الأوضاع.

قال اليعقوبيّ:

وكان يزيد قد ولّى عُبيدَ الله بن زيادٍ العراق، وكتب إليه: قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدُك من بين البلدان ... ((1)).

وقال الصبّان:

فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل إلى عُبيد الله بن زيادٍ واليه على الكوفة يأمره بطلب مسلم وقتْلِه ((2)).

وهذا يعني أنّ الأحداث لم تدفع يزيد الفجور إلى تعيين ابن زيادٍ على الكوفة وضمّها إلى ولايته على البصرة، وإنّما كان هو والياً عليها من قبل، غاية ما فعله سليلُ البغاء أنّه أمره بالانتقال السريع من موضعٍ إلى موضعٍ آخَر داخل ولايته.

وهذا لا يتعارض مع وجود النعمان في الكوفة، فإنّ المرسوم سابقاً _ كما

ص: 27


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
2- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.

هو واضحٌ _ أن يُنصَّب والٍ على ولايةٍ كبيرة، ويُنصَّب والٍ آخَر على جزءٍ من ولايته، ويكون الثاني خاضعاً للأوّل إداريّاً، بل ربّما عيّن الوالي على الولاية الكبيرة عمّالاً له على بعض الكور والمدُن والمراكز القريبة أو البعيدة عن مركز ولايته، تماماً كما فعل ابن زيادٍ نفسِه حين انتقل إلى الكوفة فخلّف عليهم أخاه.

الباعث الثاني: سماعه بقصد الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة

أفادَت عبارة البلاذريّ والمسعوديّ أنّ القرد المجدور بلغه أنّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) قصد الكوفة وقد خرج من مكّة المكرّمة، فبادر إلى تولية ابن الأَمة الفاجرة على الكوفة.

قال البلاذريّ:

قال: بلغ يزيدَ بن معاوية أنّ الحسين (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة، فغمّه ذلك وساءه، فأرسل إلى سرجون مولاهم، وكان كاتبَه وأنيسه، فاستشاره فيمن يولّيه الكوفة ((1)).

وقال المسعوديّ:

واتّصل الخبر بيزيد [أي: خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى الكوفة]، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة ((2)).

ص: 28


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 407.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 66.

وهذا يعني أنّ ابن ميسون الفاجرة قد بادر إلى تولية نغل الأُمويّين ابنزيادٍ لمجرّد سماعه بخبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة _ حسب نصّ المسعوديّ _، ولمجرّد اطّلاعه على عزم الإمام الحسين (علیه السلام) وأنّه يريد الكوفة، وكأنّ تولية ابن زيادٍ لا علاقة لها بدخول المولى الغريب (علیه السلام) إلى الكوفة، وليس المقصود من انتقال ابن زيادٍ إلى الكوفة لمعالجة الأحداث المتسارعة الّتي ماجت الكوفة وهاجت بها بعد تشرّفها بأقدام المولى الغريب (علیه السلام) وقدوم سفير خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) إليها، وإنّما المقصود أساساً هو معالجة ما سيقع وما يُستقبَل فيها من أحداثٍ ويستجدّ فيها من أوضاعٍ إذا ما وصلها سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الباعث الثالث: إجراءٌ احترازيّ
اشارة

ربّما يكون هذا السبب هو من فروع السبب السابق وتابعاً له وواقعاً في نفس السياق، بَيد أنّنا أفردناه تحت عنوانٍ خاصٍّ به؛ لوجود شيءٍ من الاختلاف الدقيق والإضافات المهمّة، وقد وردَت فيه النصوص على أنحاءٍ ثلاث:

النحو الأوّل: الخوف من النعمان

صرّح ابن سعدٍ ومَن تبعه أنّ يزيد الفجور إنّما عزل النعمان وولّى ابن الأَمة الفاجرة لخوفه من النعمان أن لا يقدم على الحسين (علیه السلام) ، فاحترز للموقف وعزله، وجعل مكانه مَن يطمئنّ إليه ويجزم أنّه يقدم على الإمام

ص: 29

الحسين (علیه السلام) وعلى جدّه، وهو ممّن لا يتورّع ولا يخاف الله، وليس له إلّاً ولا ذمّة!

قال ابن سعد:

وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة في آخِر خلافة معاوية، فهلك وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان!! ((1))

ومن الغريب! أن يطيع ابن سعدٍ ومَن تبعه ابن هند آكلة الأكباد ويخالف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، إذ ينسب زياداً إلى أبي سفيان، وقد قال النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «الولد للفراش، وللعاهِر الحجَر»!

النحو الثاني: الاحتراز لمعالجة الموقف

أفادت بعض المصادر أنّ القرد المجدور إنّما ولّى ابنَ الأَمة الفاجرة الكوفةَ حينما بلغه أنّ المولى الغريب (علیه السلام) دخل الكوفة وجعل يأخذ البيعة لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فخاف من هذا الإقدام وتقديم سيّد الشهداء لسفيره (علیهما السلام) ، فانتدب جروه ابن زيادٍ ليطير بجناحَين فيعالج الموقف هناك.

قال ابن حبّان:

فلمّا اتّصل الخبر بيزيد بن معاوية أنّ مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة

ص: 30


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 65، مختصر ابن منظور: 27 / 58، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 201 و206 _ عن ابن سعد.

للحسين بن عليّ، كتب يزيد بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاك بالبصرة ... ((1)).

إبن الجوزيّ:

قال أهل السيَر: لمّا بعث الحسينُ مسلمَ بن عقيل، بلغ الخبرُ إلى يزيد، فولّى الكوفةَ عُبيدَ الله بن زياد ((2)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

إجتمع الشيعة على مسلم بن عقيل، وأخذ عليهم البيعة للحسين ابن عليّ (علیه السلام) ، فكتب والي الكوفة _ وهو يومئذٍ النعمان بن بشير _ إلى يزيد بن معاوية يُخبره بذلك، فجهّز يزيدُ عند ذلك إلى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((3)).

وهذه الطائفة كأنّها ترتّب اتّخاذ قرار تولية ابن الأَمة الفاجرة على مجرّد دخول المولى الغريب (علیه السلام) إلى الكوفة، أو مبادرته إلى أخذ البيعة، بغضّ النظر عمّا جرى فيها من أحداث، فيلوح للناظر فيها أنّ ما فعله القرد المجدور إنّما كان احترازاً لما سيقع من أحداثٍ وتضعضُعٍ في الأوضاع، وتحسُّباً لما سيؤدّي إليه وجود المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة وأخذه البيعة ودخول سيّد الشهداء (علیه السلام) عاقبةً إليها!

ص: 31


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 307.
2- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 36.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
النحو الثالث: إحتراز معاوية

سنسمع بعد قليلٍ النصوصَ الّتي تفيد أنّ القرد المترهّل معاوية كان قد أعدّ جروه ابنَ الأَمة الفاجرة لمثل هذا اليوم، وقد كتب له الصكّ وأمّره، بيد أنّ الأجل لم يمهله حتّى ينفّذ التولية..

فيكون المحترز المتحسّب المترقّب لهذه الوقائع الّذي أعدّ لها الوحش المفترس النزق ابن زيادٍ إنّما هو معاوية مِن قبل أن ينزو القرد المجدور على الأعواد!

الباعث الرابع: تفضيل النعمان للإمام الحسين (علیه السلام) على يزيد

تفيد عبارة ابن قُتيبة ومَن تبعه والقاضي النعمان أنّ القرد المجدور لمّا سمع أنّ النعمان قد قال: لَابنُ بنت رسول الله أَحبُّ إلينا من ابن بنت بحدل، ساءه ذلك، فعزله واستبدله بابن الأَمة الفاجرة.

قال ابن قُتيبة، البيهقي، ابن عبد ربّه، الباعونيّ:

فبعث الحسينُ بن عليٍّ مسلمَ بن عقيلٍ إلى الكوفة يُبايعهم له، وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فقال النعمان: لَابنُ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَحبُّ إلينا من ابن بحدل. قال: فبلغ ذلك يزيد، فأراد أن يعزله ... ((1)).

ص: 32


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، المحاسن والمساوئ للبيهقيّ: 50، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 265 _ عن ابن عبد ربّه، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377.

وقال القاضي النعمان:وكان على الكوفة يومئذٍ النعمان بن بشير، وانتهى ذلك إليه، فقال: إنّ ابنَ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَحبُّ إلينا من ابن بنت بجدل ... وانتهى ذلك إلى يزيد (لعنة الله عليه)، فعزله، وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((1)).

فهذه المجموعة من المصادر تفيد أنّ سببَ عزل النعمان واستبدالِه المقالُ الّذي صدر منه فبلغ القرد المجدور، وهو ينمّ عن عدم الوفاء ليزيد الخمور، والانحياز عنه والميل لغيره، فيكون عزله في الأصل _ على ما يظهر _ موقفَ شخصِ النعمان وما قاله، لا مجريات الأحداث..

وربّما كان هذا القول هو ما بلغ يزيد الفجور في قول أبي الفداء: «وبلغ يزيدَ عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولّى على الكوفة عُبيد الله بن زياد» ((2)).

قال القمّيّ (رحمة الله) :

وأمّا قول يزيد: وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقولٌ سيّء، فلعلّه إشارةٌ إلى ما رواه ابن قُتيبة الدينوريّ في كتاب (الإمامة

ص: 33


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 147.
2- تاريخ أبي الفداء: 1 / 189.

والسياسة): إنّه قال النعمان بن بشير: لَابنُ بنت رسول الله أَحبُّ إلينا من ابن بنت بحدل ((1)).

الباعث الخامس: لِما ورده من كتاب عيونه في الكوفة

أوعزت جملةٌ من المصادر سببَ عزل النعمان واستبداله بابن الأَمة الفاجرة إلى ما كتبه عيون القرد المجدور وأذنابه في الكوفة، وما وصفوا به الوضع في الكوفة على العموم، وموقف النعمان على الخصوص، واقتراحهم عليه أن يستبدله إن كان له في سلطانه حاجة..

وسنقتصر على ذكر نصٍّ واحدٍ منها؛ باعتباره الأقدم حسب فحصنا، واشتماله على ما ذكره الآخَرون على اختلاف تعبيراتهم.

قال البلاذريّ:

فكتب وجوهُ أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ، ومحمّد ابن الأشعث الكِنديّ، وغيرهما، إلى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل، وتقديمِ الحسين إيّاه إلى الكوفة أَمامه، وبما ظهر لهم من ضعف النعمان بن بشير وعجزه ووهن أمره، فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد ابن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة ((2)).

ص: 34


1- نفَس المهموم للقمّيّ: 86.
2- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233، تاريخ الطبريّ: 5 / 348، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 423، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، تاريخ الطبريّ: 5 / 356، الفتوح لابن أعثم: 5 / 60، الإرشاد للمفيد: 2 / 39، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 178، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 115، حياة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الحدائق الوردية: 70 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 42، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 180، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388، اللهوف لابن طاووس: 38، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336، المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 423، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 22.
الخلاصة:

ربّما كانت الأسباب المذكورة أعلاه متقاربةً أو حتّى متداخلةً أحياناً،بيد أنّها تختلف بنحوٍ ما عن بعضها البعض، ولكنّها جميعاً تفسّر إقدام القرد المجدور على عزل النعمان واستبداله بابن زياد، عدا السبب الأوّل الّذي يفيد أنّ ابن زيادٍ كان على العراق من قبل ولم تجدَّد له ولاية، وإنّما انتدبه يزيد واستعجله للانتقال إلى الكوفة، ليرقب مجريات الأحداث عن كثبٍ ويتّخذ القرارات ويباشر معالجة الموقف بنفسه.

ويمكن أن يُقال:

إنّ السبب الأخير المشهور، وهو ترتيب الاستبدال على كتب العيون

ص: 35

والملّاقين، ليس هو السبب الأوّل والأخير كما قد يفيده البعض، وإنّما هو في أقصى التقادير سببٌ بين الأسباب وجزءُ علّة..

كما يمكن أن يُقال:

إنّ لكلّ سببٍ من الأسباب المذكورة أثره في ما فعل، على فرض ثبوت ذلك السبب تاريخيّاً.. فالاستبدال كان نتيجةً لتراكم الأسباب، ولمّا كانت الأحداث متسارعةً متلاحقة، كان كلّ واحدٍ منها يبدو وكأنّه هو الباعث.

مستشار يزيد!

اشارة

حينما تُفرَز المتون التاريخيّة وتُوزَّع بعد التأمّل، تنقسم إلى جملةٍ من الإفادات الّتي تختلف أحياناً اختلافاً تامّاً، وربّما أمكن الجمع بينها وحملهاعلى بعضها أحياناً أُخرى، وسنلاحظ ما ورد من نصوصٍ تعرّضَت للحديث عن استشارة يزيد في أمر ابن الأَمة الفاجرة:

المستشار الأوّل: رأي القرد المجدور

المستشار الأوّل ((1)): رأي القرد المجدور

أفادت النصوص القديمة، كابن سعدٍ والدينوريّ واليعقوبيّ والمسعوديّ والقاضي النعمان وغيرهم، إمّا تصريحاً أو تلويحاً، أنّ القرد المجدور عمل برأيه ولم يستشِرْ أحداً، بل بادر إلى ذلك من تلقاء نفسه

ص: 36


1- ربّما كان تسامحاً واضحاً في استعمال العنوان الأوّل هذا!

عملاً بما رآه هو شخصيّاً.

قال ابن سعدٍ وغيره:

وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة في آخِر خلافة معاوية، فهلك وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان! وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة ((1)).

وقال الدينوريّ:

فلمّا ورد الكتاب على يزيد، أمر بعهدٍ فكتب لعُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، وأمره أن يُبادر إلى الكوفة ((2)).

وقال اليعقوبيّ:وكان يزيد قد ولّى عُبيدَ الله بن زيادٍ العراق وكتب إليه ((3)).

وقال المسعوديّ:

واتّصل الخبر بيزيد، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة ((4)).

ص: 37


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 65، ومثله ابن عساكر، مختصر ابن منظور، 27 / 58، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 201 و206.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233.
3- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
4- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 66.

وقال ابن حبّان:

فلمّا اتّصل الخبر بيزيد بن معاوية أنّ مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة للحسين بن عليّ، كتب يزيدُ بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاك بالبصرة ((1)).

وقال القاضي النعمان:

وانتهى ذلك إلى يزيد (لعنة الله عليه)، فعزله، وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((2)).

وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ:

فجهّز يزيد عند ذلك إلى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((3)).

وقال ابن حجَر:

وأمر يزيدُ ابنَ زياد ((4)).

نكتفي بهذا القدر من النصوص، ويمكن مراجعة المتون الأُخرى الّتيذكرناها قبل قليل ((5)).. وهي _ كما تلاحظ _ واضحة، ويأبى بعضها عن

ص: 38


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 307.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 147.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
4- الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117.
5- أُنظُر: التتمّة لتاج الدين العامليّ: 78، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 423، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، تاريخ أبي الفداء: 1 / 189، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 180، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 36، اللهوف لابن طاووس: 38.

الحمل على الاختصار.

المستشار الثاني: أهل الشام
اشارة

ذكر ابن قُتيبة والبيهقيّ وابن عبد ربّه أنّ القرد المجدور استشار أهل الشام فيمن يستعمله على الكوفة، فأشاروا عليه بابن زيادٍ باعتبار أنّه مَن رضى به معاوية!

قال ابن قُتيبة والبيهقيّ وابن عبد ربّه:

فأراد أن يعزله، فقال لأهل الشام: أشيروا علَيّ، مَن أستعمل على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم. قالوا: فإنّ الصكّ بإمرة عُبيد الله بن زيادٍ على العراقَين قد كتبه في الديوان. قال: فاستعمله على الكوفة ((1)).

وقال الباعونيّ:

فبلغ ذلك يزيد، فقال: يا أهلَ الشام، أشيروا علَيّ مَن أستعمل على أهل الكوفة؟ قالوا: نرضى بما رضيت. فولّى [يزيدُ] عُبيدَ الله ابن زيادٍ على العراقَين ((2)).

ص: 39


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، المحاسن والمساوئ للبيهقيّ: 50، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377.
2- جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 265 _ عن ابن عبد ربّه.

لقد اعتاد الباعونيّ على النقل عن ابن عبد ربّه، فينتقل الكلام إلى الأخير، أمّا ابن قُتيبة فهو الأقدم، بَيد أنّ ثَمّة نقطتين ينبغي الإلتفات إليهما:

النقطة الأُولى: المقصود بأهل الشام

إنّ استشارة أهل الشام جَمعاً قد لا يكون له معنىً هنا؛ إذ كيف اطّلعوا جميعاً على صكّ إمارة العراقَين الّذي كتبه القرد المترهّل للقيطهم ابن زياد؟ فربّما ينصرف الفهم إلى أنّه استشار جلساءَه وندماءَه وأهل الرأي عنده ممّن يعدّهم وجوهاً للقوم والمعبّرين عن آراء مَن ورائهم، فسمّاهم المؤرّخ: أهلَ الشام.

النقطة الثانية: عدم تفرّد سرجون

يمكن الإفادة من هذا النصّ أنّ سرجون لم يكن هو المستشار الوحيد الّذي اعتمد القرد المجدور رأيه، وإنّما كان معه غيره، سواءً كان أهل الشام جمعاً أو الخواصّ منهم..

وعلى هذا، لا يكون (سرجون) موضوعاً مستقلّاً، ولا يكون رأيه هو الرأي الوحيد الّذي دفع يزيد القرد إلى اتّخاذ هذا القرار، وفي هذه النتيجة أهمّيّةٌ تسترعي انتباه بعض المعاصرين الّذين رتّبوا على رأي سرجون آثاراً ونتائج واستنتاجاتٍ خطيرةً جدّاً.

المستشار الثالث: سرجون
اشارة

ذكر البلاذريّ وآخَرون ممّن تأخّر عنه أنّ القرد المجدور استشار

ص: 40

سرجون، وكان كاتبَه وأنيسه ومستشاره، فأشار عليه بابن الأَمة الفاجرة..

قال البلاذريّ:

وحدّثَني عبد الله بن صالح المقرئ، عن أبي زبيد، عن أبي حُصين قال: بلغ يزيدَ بن معاوية أنّ الحسين (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة، فغمّه ذلك وساءه، فأرسل إلى سرجون مولاهم، وكان كاتبه وأنيسه، فاستشاره ((1)).

وكذا أفاد الطبريّ، والشجريّ، والمُزّيّ، وابن حجَر، وابن أعثم، والمفيد، والخوارزميّ، وابن أبي طالب، والمحلّيّ، ومسكويه، والطبرسيّ، وابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، وابن حجَر، وابن بدران، وكذا في (المقتل) المشهور لأبي مِخنف ((2)).

ص: 41


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 407.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 348 و356، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 423، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الفتوح لابن أعثم: 5 / 60، الإرشاد للمفيد: 2 / 39، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 178، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 115، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 42، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152، تاريخ ابن خلدون: 3 / 22، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 22.

وقد اختلفَت المصادر فيما إذا كان سرجون قد أشار برأيه شخصيّاً، أو أنّه عمل بما قد عزم عليه معاوية من قبل، فأخبر يزيدَ بعزم أبيه ليس إلّا.

فهنا قولان:

الأوّل: إعداد معاوية

أكّد البلاذريّ ومَن تلاه أنّ معاوية كان قد عزم على تولية ابن الأَمةالفاجرة على الكوفة، وقد مضى في عزمه حتّى كتب له العهد وختمه بخاتمه، وقد تردّد سرجون _ المستشار _ في عرض الأمر على يزيد؛ لعلمه ببغضه لابن زياد، فلمّا احتاج إليه عرض عليه رأي معاوية وعزمه، فاستجاب له وأنفذه عهد أبيه.

قال البلاذريّ:

فأرسل إلى سرجون مولاهم، وكان كاتبه وأنيسه، فاستشاره فيمن يولّيه الكوفة، فأشار بعُبيد الله ابن زياد، فقال: إنّه لا خير عنده. قال: أرأيتَ لو كان معاوية حيّاً فأشار عليك به، أكنتَ تولّيه؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد معاوية إليه بخاتمه، وقد كان ولّاه، فلم يمنعني أن أُعلمك ذلك إلّا معرفتي ببغضك له. فأنفذَه إليه، وعزل النعمان بن بشير ((1)).

وصوّر الآخَرون المشهد بصورةٍ قريبةٍ جدّاً ممّا رواه البلاذريّ، كالطبريّ،

ص: 42


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 407.

والشجريّ، والمزّيّ، وابن حجَر، وابن عبد ربّه، والمفيد، والخوارزميّ، وابن أبي طالب، والطبرسيّ، والخوارزميّ، وابن الأثير، والنويريّ ((1)).

يُضاف إلى هذه المجموعة ما رواه ابن قُتيبة والبيهقيّ ((2)) وابن عبد ربّه الّذي ذكرناه في المستشار الثاني، إذ أنّهم أشاروا عليه برأي معاوية، وأنّهكان قد كتب الصكّ لابن زيادٍ على العراقَين.

وبناءً على هذا، يكون معاوية قد أعدّ العدّة قبل هلاكه، إذ أنّه كان يعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لن يبايع ليزيد، وقد أبى البيعة له رغم إلحاح معاوية، واعتباره بيعة يزيد قضاءً من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم ((3))، وتهديده وقوله: والله لئن لم يبايعوا ليزيد، لَأفعلنّ ولَأفعلنّ ((4))، وقد ذكر الحسين (علیه السلام) وأصحابه فقال: لَأقتلنّهم إنْ لم يبايعوا ((5))..

ص: 43


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 348، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 423، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، الإرشاد للمفيد: 2 / 39، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 178، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، المحاسن والمساوئ للبيهقيّ: 50.
3- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 158.
4- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 4 / 235.
5- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 251، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 356.

وما يُقال من أنّ معاوية كان يكره أن يقتل الإمام الحسين (علیه السلام) علناً، وأنّه يتجنّب ذلك إصلاحاً لدولته وتحرُّزاً لسلطانه وتخوُّفاً من زلزلة أركان مملكته، فإنّ ذلك كلّه _ إن صحّ _ مشروطٌ أن يكون دون ما يرومه ويعتبره قضاءً من قضاء الله الّذي لا يُردّ، أمّا بيعة يزيد الّذي منعه من إبصار رشده وأضلّه عن معرفة قصده، كما قال هو نفسه: ولولا هواي في يزيد لَأبصرتُ رُشدي وعرفتُ قصدي ((1))، فإنّها لا مجال فيها ولا تسامح في ديوان القرد المترهّل، وقد أقدم من قبل على قتل سيّد الأوصياء وأمير المؤمنين وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) .

وقد رأيناه فعل الأفاعيل، وبذل الأموال، ورغّب ورهّب، حتّى جمع الناس على بيعة نغله طوعاً أو كرهاً قبل هلاكه، وقد أتينا على بيان ذلك فيظروف خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة.

الثاني: رأي سرجون!
اشارة

أفاد ابن أعثم وآخَرون تأخرّوا عنه أنّ القرد المجدور استشار سرجون في أمر الكوفة، فأشار عليه بابن زياد، وأنّه ليس له إلّا هذا الخيار، وأنّه سيكفيه الكوفيّين.

ص: 44


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 4 / 249، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 174، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 162.

قال ابن أعثم:

فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد بن معاوية، دعا بغلام أبيه، وكان اسمه: سرجون، فقال: يا سرجون، ما الّذي عندك في أهل الكوفة؟ فقد قدم مسلم بن عقيل، وقد بايعه الترابيّة للحسين بن عليّ [ (رضی الله عنهما) ]! فقال له سرجون: أتقبل منّي ما أُشير به عليك؟ فقال يزيد: قُلْ حتّى أسمع! فقال: أُشير عليك أن تكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ فإنّه أمير البصرة _، فتجعل له الكوفة زيادةً في عمله، حتّى يكون هو الّذي يقدم الكوفة فيكفيك أمرهم. فقال يزيد: هذا لَعمري هو الرأي ((1)).

وقال المحلّيّ:

فدعا يزيدُ مولىً له يُقال له: سرجون، قد كان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال:فاقبلْ منّي، إنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّها إيّاه ((2)).

وذكر قريباً من هذا مسكويه وابن كثير وابن حجَر وابن بدران، وكذا في مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنف (المشهور) ((3)).

ص: 45


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 60.
2- أُنظر: الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 22.
3- أُنظر: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 42، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 22.

وهنا ثَمّة نكاتٌ مهمّةٌ يحسن الوقوف عندها على عجَل، وسنشير إليها ضمن الوقفات التالية:

الوقفة الأُولى: سرجون، أو الآخَرون؟

تبيّن لنا ممّا مضى من تقسيمٍ للمتون التاريخيّة أنّ ثمّة مصادر لها ثقلها من حيث القِدَم والعدد، اتّفقَت _ ولو على نحو الإجماع المركَّب _ أنّ الرأي ليس هو رأي سرجون، كما سمعنا قبل قليلٍ تحت عنوان (مستشار يزيد).

ففي الطائفة الأُولى: كان الرأي هو رأي يزيد الفسوق نفسه، وهي مصادر قديمةٌ وعديدة.

وفي الطائفة الثانية: كان المستشار أهل الشام، ولو حُمل على إرادة أهل الحلّ والعَقد والرأي منهم.

وفي الطائفة الثالثة: الّتي ورد فيها اسم سرجون، فإنّها تنسب الرأي إلى معاوية، وإنّه كان قد عزم على تسليط ابن الأَمة الفاجرة، وقد كتبعهده وختمه بخاتمه قبل أن يهلك.

فلا يبقى إلّا ابن أعثم ومَن حذا حذوه، وهم _ كما سمعنا _ جزءٌ من الطائفة الثالثة، وغيرهم كثيرٌ ممّن لا ينسب الرأي إلى سرجون، سواءً كان قد نطق به سرجون نفسه بَيد أنّه كان يحدّث عن رأي معاوية، أو المصادر

ص: 46

الأُخرى الّتي لم تذكر له أيّ دورٍ لا من قريبٍ ولا من بعيد.

وكيف كان! فهو رأيٌ من بين الآراء، وموقفٌ من بين المواقف، وباعثٌ من بين البواعث الّتي ذكرناها قبل قليل.

الوقفة الثانية: دلالات رأي سرجون!

لمّا حصر البعض اختيار ابن الأَمة الفاجرة ليُسلَّط على الكوفة في تلك الفترة برأي سرجون بالذات!! وإشارته إلى يزيد.. رتّبوا على رأيه الشخصيّ أُموراً كثيرةً واستنتاجاتٍ خطيرة..

فصوّره البعض باعتباره «ممثّل فصيل منافقي أهل الكتاب في البلاط الأُمويّ»، واحتمل أن يكون «قد أشار على معاوية أيضاً بنفس هذا الرأي، فتبنّاه معاوية، ثمّ أظهره سرجون ليزيد في الوقت المناسب على أنّه رأي أبيه» ((1))..

وذهب آخَرون إلى أنّ سرجون كان رجلاً مجوسيّاً يحقد على العرب،فأشار عليه بعزل النعمان وتولية عُبيد الله بن زياد، ويُقال: إنّ سرجون كان يرعى الرابطة الّتي بينه وبين ابن زياد، لأنّ سرجون مجوسيّ العقيدة، وكانت مرجانة على عقيدته، فأراد أن يقدّم ابن مرجانة ويولّيه المصرَين، ليفتك بالعرب، ويوقِد بين المسلمين نار حربٍ يكون وقودها المسلمون! ((2))

ص: 47


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 134.
2- مع الحسين (علیه السلام) في نهضته لأسد حيدر: 88.

واستفاد بعضٌ مِن إشارة سرجون أنّ الروم هم الّذين خطّطوا لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ قاتله الأصليّ ليس بمسلمٍ بتاتاً، وإنّما هم البيزنطيّون!!! وزعموا أنّ سرجون أصلها: (السير، جون)، يعني: السيّد جون! وأنّ قاتل سيّد الشهداء (علیه السلام) هم الأُوربيّون!

وبغضّ النظر عن كون رأي سرجون فرعاً لأحد الاحتمالات المذكورة سلَفاً، فإنّ الأمر لا يبدو بهذا المستوى من التهويل، بل ربّما كان هو أهون من ذلك بكثير! وأنّ المسؤول الأوّل والأخير والمخطّط والمباشر هم أجلاف العرب والمشركين وقرود الأُمويّين، ومن أعانهم وسهّل لهم طريق النزو على منابر المسلمين وسلّطهم على رقاب الناس، وقد أخذوا ثأرهم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عترته الطيّبة، ونعق غرابهم بين الملأ وعلى رؤوس الأشهاد ينعى فطائس المشركين في بدرٍ وأُحُد، ويتمنّى أن يشهدوا يوم الحسين (علیه السلام) ، يوم تصفية الحساب واستيفاء الدَّين من النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ! ((1))

الوقفة الثالثة: هل علم سرجون ولم يعلم يزيد؟!

لقد كان يزيد في مركز السلطة أيّام أبيه، وكان القرد المترهّل يعبِّد له طريق النزو على الأعواد قبل هلاكه، حتّى أخذ له البيعة في جميع الأمصار، وكان يُرجع إليه كثيراً من الأُمور، وقد علّم الملّاقون أنّ قرده المدلَّل يزيد من أقرب

ص: 48


1- إقتصرنا هنا على هذا المقدار؛ لأنّ البحث خارجٌ عن موضوعنا.

الوسائل للتقرّب إليه والتزلّف لديه، ولَطالما استخدمه مثلُ النعمان وغيرُه من النفعيّين طريقاً لدخول حضيرة معاوية والتماس رضاه ولحس ما عنده..

فمن المستبعَد جدّاً أن يكون معاوية قد كتب عهد ابن زيادٍ وختمه وعزم على توليته الكوفة، ثمّ لم يُخبِر يزيد المخمور أبداً، وهو الّذي كان قد حدّثه ورسم له الخطوط العامّة، بل والتفاصيل أحياناً لمستقبل أيّامه!

أجل، ربّما كانت أخبار الطائفة الأُولى الّتي ذكرناها تحت عنوان (المستشار الأوّل) أرجح، إذ يكون يزيد قد اتّخذ بنفسه قرار تسليط جروهم ابن الأَمة الفاجرة، وإنّما كان ذلك بتوصيةٍ من أبيه معاوية، وقد أكّد له سرجون ما عزم عليه من خلال عهده المختوم بختم معاوية.

وكيف كان، فنحن لا نريد إنكار دور سرجون في تشجيع القرد المجدور، وإنّما نشير إلى أنّ رأي سرجون لم يكن هو المنشأ والأساس، بحيث كانت تولية ابن الأَمة الفاجرة للكوفة تنتفي لو لم يكن سرجون، وأنّ سرجون هو ولا غيره قد أقنع يزيد برأيه الشخصي، بحيث نستطيع أن نثبت أنّخطّة (النصارى وأهل الكتاب) وخطّة (المجوس) ونزعات الشعوبيّة والقوميّة هي الّتي أودت _ في الحقيقة _ بحياة سيّد الشهداء (علیه السلام) تحقيقاً لأحقادهم!!!

وهذا كلّه أيضاً لا يعني أنّ أهل الكتاب والنصارى والمجوس لم يفرحوا بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) يومها، أو أنّهم لم يوظّفوا فعلة يزيد أو يساهموا فيها، فإنّنا في هذا المقام لا نريد أن ننفي أو نثبت ذلك، إذ أنّ الكلام يدور هنا حول موقف سرجون خاصّة!

ص: 49

حامل كتاب يزيد

دعا القردُ المجدور مسلمَ بن عمرو الباهليّ، ودفع إليه الكتاب، وحمّله عهد ابن الأَمة الفاجرة ((1))، وأمره بإغذاذ السير ((2)) والجدّ في الإسراع إلى ابن زياد ((3))..

وانفرد القندوزيّ بقوله:

فأرسل يزيدُ عُمرَ بن سعد بن أبي وقّاص إلى ابن زياد _ كان في البصرة _ مع كتابٍ يأمره على الرحيل إلى الكوفة ((4)).

والقندوزيّ يروي في كتابه عن (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبي مِخنَف النسخة المتداولة المشهورة مع اختلاف، لذا يبدو أنّ ثمّة سهواً أو خطأً قد

ص: 50


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233، تاريخ الطبريّ: 5 / 356، الفتوح لابن أعثم: 5 / 60، الإرشاد للمفيد: 2 / 39، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 178، ومثله ابن عساكر، مختصر ابن منظور: 24 / 295، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 180، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 22.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 60، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 178.
4- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 335.

حصل.

وقد روى الطُّريحيّ فقال:

فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أنفذ إلى الكوفة عُمرَ بن سعد (لعنه الله)، وكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان في البصرة _ كتاباً يستنهضه على الرحيل إلى الكوفة ((1)).

فربّما كان تعبيراً من هذا القبيل فأصابه التشويش، والله العالم.

أمّا مسلم بن عمرو الباهليّ هذا، فقد كان من صنائع معاوية وابنه يزيد ((2))، وكان عظيم القدر عند يزيد بن معاوية ((3))، وكان نديماً ليزيد يشرب معه ويغنّيه ((4)).

وقد استصحبه ابن الأَمة الفاجرة معه إلى الكوفة، فكانت له مواقف مخزيةٌ مع المولى الغريب (علیه السلام) وناصره هانيء بن عروة، أبدى فيها فظاظةً وقساوةً وجلفيّةً تنمّ عن حقده على النبيّ وآله (صلی الله علیه و آله) ، وملقه الرخيص الممجوج لأولاد البغايا المتبذّلات، وقد أتينا على ذِكرها في مواضعها من دراساتنا عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .

ص: 51


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 423.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 108.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 114.
4- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 298.

وكان من ثَمّ في جيش مصعب بن الزبير، فضُرب حتّى ارتُثّ، فأتى بهخالد بن يزيد إلى عبد الملِك وقد أخذ له منه الأمان، فقيل له: أنت ميّتٌ لا ترجو الحياة لِما بك من الجراح، فما تصنع بالأمان؟ قال: ليسلم مالي ويأمن وُلدي بعدي. فلمّا وُضع بين يدَي عبد الملك قال: قطعَ الله يد ضاربك، كيف لم يُجهِز عليك؟ أكفرتَ صنائع آل حربٍ معك؟ فأمّنه على ماله ووُلده، ومات من ساعته ((1)).

هكذا هم هؤلاء الأوغاد.. ينعقون مع كلّ ناعق، ويميلون مع كلّ ريح، ويلهثون خلف كلّ مَن يحمل لهم كيس العظام الّتي تؤمّن لهم المال والحياة الرخيصة الذليلة!

محتويات كتاب يزيد

اشارة

يمكن تقسيم المتون الواردة في الباب _ من حيث الموضوع الأصليّ الّذي تتحدّث عنه الرسالة، والمحور الرئيس الّذي تؤكّد عليه، والمطلوب الأوّل الّذي تدعو لمحاربته وقتله واستئصال شأفته _ إلى عدّة مواضيع:

الموضوع الأوّل: سيّد الشهداء (علیه السلام)
اشارة

قال ابن سعد، ابن عساكر، مختصر ابن منظور:

ص: 52


1- أُنظر: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 108.

فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، وهو على البصرة،فضمّ إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها، فإنْ كان لك جناحان فطِرْ حتّى تسبق إليها ((1)).

وقال اليعقوبيّ:

وكتب إليه: قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي بلدُك من بين البلدان وأيّامُك من بين الأيام، فإنْ قتلتَه وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذرْ أن يفوتك ((2)).

وقال ابن الجوزيّ:

فولّى الكوفةَ عُبيدَ الله بن زياد، وكتب إليه يزيد: إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس، واحبس على الظنّة وخُذْ على التهمة ((3)).

وقال الطُّريحيّ:

فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أنفذ إلى الكوفة عُمر بن سعد (لعنه الله)، وكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان في البصرة _ كتاباً يستنهضه

ص: 53


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 65، ومثله ابن عساكر، مختصر ابن منظور: 27 / 58.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
3- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 36.

على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من نسل عليٍّ إلّا قتله ((1)).

وقال القندوزيّ:فأرسل يزيدُ عمرَ بن سعد بن أبي وقّاص إلى ابن زياد _ كان في البصرة _ مع كتابٍ يأمره على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من بني عليٍّ إلّاقتله ((2)).

* * * * *

تبدو في هذه النصوص المذكورة عدّة إشاراتٍ نذكرها فيما يلي:

الإشارة الأُولى: الموضوع الأوّل

ظهر الموضوع الأوّل ذو الأهمّيّة _ عند ابن سعدٍ ومَن روى عنه واليعقوبيّ وابن الجوزيّ وغيرهم _ يتركّز الحديث فيه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته وقيامه، ودعوة نغل آل أبي سفيان للحاق بالكوفة على عجلٍ لمواجهة إقبال سيّد الشهداء (علیه السلام) عليها أو توجّهه نحوها.

أمّا ما ذكره الطريحيّ والقندوزيّ، فقد أتينا على معالجته سابقاً، وهما ينقلان عن (المقتل) المشهور لأبي مِخنَف.

الإشارة الثانية: نغل آل أبي سفيان

من العجيب التأكيد على نسبة ابن زيادٍ إلى أبي سفيان، وربّما كان

ص: 54


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 423.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 335.

ذلك نتيجة ما كان يسمّيه به القرد المجدور المولود في خيام البغاء، وهو نسبٌ لصيقٌ صفيقٌ مهلهل، لا يتوفّر على أيّ مقوّمٍ من مقوّمات اللصقوالثبات، بحيث يهدّده بنفيه وقلعه وإلغاء الوصلة به في أيّ لحظة، فيطلب منه المبادرة إلى ما أمره به وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .. «وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد» ((1))، بمعنى إعادته إلى حارة البغايا في الطائف.

الإشارة الثالثة: إخباره بتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) نحو الكوفة!

أكّدَت هذه النصوص على توجيه ابن زيادٍ إلى الكوفة لغرض معالجة توجُّه سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها، فعبّر ابن سعدٍ ومَن تبعه بقوله: «وكتب إليه بإقبال الحسين إليها» ((2))، وقال اليعقوبيّ: «قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم» ((3))، وكذا عبّر ابن الجَوزيّ: «وكتب إليه يزيد: إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق» ((4)).

ص: 55


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 65، ومثله ابن عساكر، مختصر ابن منظور: 27 / 58.
3- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
4- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 36.

وفي جميعها نسمع القرد المجدور يزقح ((1)) ويخنخن ((2))، ليُخبر ابنَ زيادٍ بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة متوجّهاً إلى العراق.. إلى الكوفة!

ويعضد هذه المجموعة ما ورد من تعبيراتٍ من قبيل قول الصبّان: «فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل إلى عُبيد الله بن زيادٍ واليه على الكوفة يأمره بطلب مسلم وقتله» ((3))، وهذا ما يؤكّد قول اليعقوبيّ مِن تولّي ابن زيادٍ الكوفة من قبل ((4)).وقول البلاذريّ مسنداً قال: «لمّا بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسير الحسين ابن عليٍّ من الحجاز يريد الكوفة، وعُبيدُ الله بن زيادٍ بالبصرة» ((5)).

وقول البلخيّ: «وخرج الحسين بأهله ووُلده، وبلغ الخبر عُبيدَ الله بن زيادٍ وهو بالبصرة، فهمّ إلى الكوفة» ((6)).

وقول الذهبيّ: «وقال جرير بن حازم: بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسيرُ الحسين وهو بالبصرة، فخرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً حتّى قدموا

ص: 56


1- الزقح: صوت القرد (أُنظر: تاج العروس، والقاموس المحيط: زَقَحَ).
2- الخَنْخَنَة: صوتُ القِرد (أُنظر: تاج العروس: خَنَنَ).
3- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
4- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
5- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.
6- البدء والتاريخ للبلخيّ: 2 / 240.

الكوفة» ((1)).

مشكلة التوقيت!
اشارة

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يخرج من مكّة متوجّهاً إلى الأرض الموعودة إلّا يوم شهادة مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، أو يوم ندائه بالشعار في الكوفة على أقصى التقادير!

وإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُعلِن على رؤوس الأشهاد توجُّهَه إلى العراق إلّا قُبيل رحيله، ولم يكن ليصرّح بذاك في أيّامه الأُولى الّتي دخل فيها مكّة!

فربّما يُقال: إنّ هذا التوقيت لا ينسجم مع مجريات الأحداث، فيكون ثغرةً تمنع من اعتماد هذه النصوص مع ما امتازت به من تقدُّمٍ على سائر المؤرّخين إذا لحظنا ابن سعد!ويُمكن أن يُجاب:

الجواب الأوّل: اعتماد مجريات الأحداث

إنّ القرد المجدور إنّما أخبر نغلهم بما سيقع، لأنّه قدّر من خلال ما وصلَته من الكتب والأنباء من مكاتبة أهل الكوفة لسيّد الشهداء (علیه السلام) منذ زمن معاوية بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، ومكاتبتهم له (علیه السلام) بعد هلاك القرد المترهّل، ومحاصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة وخروجه إلى

ص: 57


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344.

مكّة، وهو يعلم أنّه قد أخذ عليه أقطار الأرض وآفاق السماء، فليس له إلّا أن يتوجّه إليهم، وهذا ما تؤكّده الشواهد والمعطيات يومذاك، فبادر إلى تكليف ابن الأَمة الفاجرة بالمهمّة الأصليّة الّتي ألقاها عليه، وهي قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستئصال نسل أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ..

غير أنّ هذا التوجيه _ مع ما فيه من قُربٍ وقوّةٍ _ يبقى غير منسجمٍ مع فعليّة تعبير القرد المجدور: «وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم» ((1))، «إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق» ((2))، وتأكيده بتحقّق ذلك (قد).

إلّا أن يُقال:

إنّه إنّما استخدم هذا النمط من التأكيد والإخبار بالتحقُّق، ليفيد حتميّةالخروج وإن لم يتحقّق في الخارج.

وهو بعيد، ويصعب إفادته من ظاهر السياق، ويشهد لهذه الصعوبة تعبير البلاذريّ والبلخيّ والذهبيّ الّتي تؤكّد أنّ ابن زيادٍ سمع بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو في البصرة.

الجواب الثاني: الكتابة إليه وهو في الكوفة

يمكن أن نصوّر الكتاب لمرحلةٍ متأخّرة، كأن يكون قد كتبه إليه وهو في الكوفة بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، وهذا الفرض عصيٌّ على الانسجام

ص: 58


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
2- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 36.

مع النصوص، وذلك لما تضمّن من حثّه على الإسراع إلى الكوفة والطيران نحوها بجناحَين! وتصريح بعضها أنّه قد سمع بخبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة وهو في البصرة.

الجواب الثالث: إرسال كتابَين

إنّ التأمّل في النصوص وإمعان النظر فيها بعد رصفها جنباً إلى جنب، يقوّي في النظر احتمالاً يكاد يفرض نفسه فرضاً، ويتلخّص الكلام فيه بأن يُقال:

يظهر من المؤرّخين أنّهم خلطوا بين كتابَين أرسلهما القرد المجدور إلى جروه المسعور، أحدهما الكتاب الّذي يستنهضه فيه ليطير بجناحَين من البصرة إلى الكوفة ويكفيه أمرها ويقتل المولى الغريب (علیه السلام) ، والآخَرالكتاب الذي أرسله إليه بعد أن بعث ابن الأَمة الفاجرة رأس المولى الغريب (علیه السلام) ورؤوس أصحابه إليه، فكتب إليه يشكره، ويوصيه ويصدر له الأوامر للاستعداد والقيام بما يلزم لمواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أتينا على ذِكرها وتفصيل الكلام فيها في كتابنا (مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع الشهادة) ((1)).

وربّما شهد لهذا الفرض بعض التعابير، من قبيل قول ابن سعد:

فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها، فإنْ كان لك

ص: 59


1- أُنظر: مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وقائع الشهادة: 406 وما بعدها.

جناحان فطِرْ حتّى تسبق إليها ((1)).

فهو يذكر أنّه قد كتب له بضمّ الكوفة إليه وهو في البصرة، ويذكر بعد ذلك أنّه كتب إليه بإقبال سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) إليها، وكذا يمكن الإفادة من تعبير ابن الجوزيّ..

فإذا قبلنا هذا الاحتمال واقتنعنا بهذا الفرض، تكون هذه الطائفة قد مزجَت الكتابين، ودمجَت بين الفترتين، وخلطَت بين المهمّتين، مهمّة الطيران إلى الكوفة بجناحَين لقتل المولى الغريب (علیه السلام) ، ومهمّة قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والقضاء على نسل أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، ويكون القرد المجدور قد أصدر أوامره في الكتاب الثاني بعد حركة الركب الحسينيّ منمكّة متوجّهاً نحو الأرض الموعودة.

لكن يبقى ما قد يعارض الفرض ويضعّف هذا الاحتمال، بل ربّما ينفيه، لوجود تعبيراتٍ عصيّةٍ على القول بالدمج، كما سمعتها قبل قليل، سيّما تعبير البلاذريّ والذهبيّ والبلخيّ.

وحينئذٍ يبقى هذا الإشكال مقاوماً ممعناً في تمريض هذه الطائفة من النصوص، مانعاً من نهوضها، حاجباً لها من رسم صورة المشهد الحاكي لتلك الفترة، مع وروده في المصادر القديمة!

ص: 60


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 65، ومثله ابن عساكر، مختصر ابن منظور: 27 / 58.
الموضوع الثاني: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام)
اشارة

قال الدينوريّ:

فكتب لعبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، وأمره أن يبادر إلى الكوفة فيطلب مسلم بن عقيلٍ طلب الخرزة حتّى يظفر به، فيقتله أو ينفيه عنها ((1)).

وقال الطبريّ، الشجريّ، المزّيّ، ابن حجَر:

وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتله إنْ وجده ((2)).

وقال الطبريّ:

وكتب إليه معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفةيخبرونني أنّ ابن عقيلٍ بالكوفة، يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((3)).

وقال ابن أعثم:

ثمّ كتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فإنّ شيعتي من أهل

ص: 61


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 348، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 423، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 356.

الكوفة كتبوا إليّ، فخبّروني أنّ مسلم بن عقيلٍ يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع عليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا وصل إليك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه، حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد جعلتُها زيادةً في عملك وضممتُها إليك، فانظر أين تطلب مسلم بن عقيل بن أبي طالب بها، فاطلبه طلب الخرزة، فإذا ظفرتَ به فاقتله ونفّذ إليّ رأسه، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتُك به، فالعجل العجل والوحا الوحا، والسلام ((1)).

وقال ابن حبّان:

كتب يزيد بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاكبالبصرة، وأمره بقتل مسلم بن عقيل أو بعثه إليه ((2)).

وقال المفيد:

وكتب إلى عُبيد الله معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيلٍ بها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه،

ص: 62


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 60.
2- الثقات لابن حبّان: 2 / 307.

والسلام ((1)).

وقال المحلّيّ:

فكتب إليه برضاه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله إن وجده ((2)).

وقال مسكويه:

وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله ((3)).

وقال الطبرسيّ:

فقال يزيد: ابعثْ بعهد ابن زيادٍ إليه. وكتب إليه أنّ سرحون لا يقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة، حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((4)).

وقال ابن شهرآشوب:فكتب يزيد ... إلى عُبيد الله بن زياد، وهو والي البصرة، وولّاه الكوفة مع البصرة، وأن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله أو ينفيه، فالعجل العجل ((5)).

ص: 63


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 39.
2- الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 115.
3- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 42.
4- إعلام الورى للطبرسيّ: 224.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 91.

وقال ابن الجوزيّ:

فولّى الكوفة عُبيدَ الله بن زيادٍ إضافةً إلى البصرة، وأمَرَه أن يقتل مسلم بن عقيل ((1)).

وقال ابن الأثير والنويريّ:

فأمره بطلب مسلم بن عقيل، وبقتله أو نفيه ((2)).

وقال الذهبيّ:

فكتب إلى عُبيد الله وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة، وقال له: إنْ كان لك جناحان فطِرْ إلى الكوفة!

وكان يزيد ساخطاً على عُبيد الله بن زياد، فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه ولّاه الكوفة مضافاً إلى البصرة، وكتب إليه أن يقتل مسلماً ((3)).

وقال ابن كثير:

وكان يزيد يبغض عُبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معاً، لما يريده الله به وبغيره.

ثمّ كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمتَ الكوفة فاطلب مسلم بنعقيل، فإن قدرتَ عليه فاقتله أو انفنه ((4)).

ص: 64


1- المنتظَم لابن الجوزيّ: 5 / 325.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388.
3- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 201 و206.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152.

وقال ابن حجر، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر:

فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه قد أضاف إليه الكوفة، وأمره أن يطلب مسلم بن عقيل، فإن ظفر به قتله ((1)).

وقال تاج الدين العامليّ:

فأرسل إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان والياً على البصرة _ يأمره بالمضيّ إلى الكوفة، وببذل الجهد في قتل مسلم بن عقيل ((2)).

* * * * *

تضمّنَت هذه الطائفة من النصوص جملةً من النقاط:

النقطة الأُولى: أن يطلب المولى الغريب (علیه السلام)

إتّفقَت جميعها على أمر القرد المجدور الصادر لجروه أن يلاحق المولى الغريب (علیه السلام) ويطلبه، ويبذل جهده في ذلك، وقد مثّل له ذلك بطلب الخرزة إمعاناً في التفتيش.

وربّما كان هذا التعبير وأمثاله من كلمات المؤرّخين والأُمويّين ألقى في الأذهان سابقةً أدّت إلى تكوّن صورةٍ عن تخفّي المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة، وأنّه كان يفرّ من مكمنٍ إلى مكمنٍ ليتوارى عن عين ابن الأَمة

ص: 65


1- الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336.
2- التتمّة لتاج الدين العامليّ: 78.

الفاجرة ويفلت من مخالبه، والجرو يلاحقه ويتتبّعه ويطلبه تماماً كما أمر القرد المجدور طلب الخرزة!!

لقد تبيّن لنا من خلال دراساتنا عن المولى الغريب (علیه السلام) أنّ الأمر ليس كما يصوّره الأُمويّون، بل كان على العكس تماماً، حيث كان زمام المبادرة بيد المولى الغريب (علیه السلام) دائماً، منذ أن دخل الكوفة حتّى اللحظة الأخيرة قُبيل أن ينعم برحيق الشهادة بين يدَي المحبوب، ولم يكن ليختفي من الجبان الرعديد في أيّ موقفٍ ولا مشهدٍ من مشاهده الّتي بقيَت مفخَراً لكلّ شجاعٍ أبيٍّ غيورٍ مقدام.. وقد سارت بحديثه الركبان، وسامرت به المخدّرات في خدورهن، ودخل عليه ثمانية عشر ألفاً يبايعونه في غير موضعٍ من الكوفة ((1)).

النقطة الثانية: التعامل مع المولى الغريب (علیه السلام)

أصدر القرد المجدور أمراً اتّخذ في النصوص عدّة صور:

الصورة الأُولى: قتل المولى الغريب (علیه السلام) أو نفيه عن الكوفة ((2))، وجاء في لفظٍ اشتراط القدرة عليه ((3)).

ص: 66


1- للمزيد انظُر: مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 233، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 91، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 388.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152.

الصورة الثانية: قتله إن وجده ((1))، وجاء في لفظ اشتراط الظفَر بهلقتله ((2)).

الصورة الثالثة: أن يوثقه أو يقتله أو ينفيه ((3)).

الصورة الرابعة: قتله إن ظفر به، وإنفاذ رأسه إلى القرد المجدور ((4)).

الصورة الخامسة: قتل المولى الغريب (علیه السلام) ، أو بعثه إلى القرد المجدور ((5)).

الصورة السادسة: أمره بقتل المولى الغريب (علیه السلام) مطلقاً ((6))، وجاء في لفظٍ ببذل الجهد في قتله ((7)).

وكيف كان، فإنّ هذه المصادر اتّفقَت على طلب المولى الغريب (علیه السلام) وقتْلِه، وجعلَت لابن زياد خياراتٍ أُخرى سوى القتل وفق بعضها، مِن قبيل نفيه، وجاء في بعضها الأمرُ بترحيل المولى الغريب (علیه السلام) إلى القرد المجدور، أو إنفاذ رأسه المقدّس إليه.

ص: 67


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 348، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 423، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 115.
2- الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 356، الإرشاد للمفيد: 2 / 39، إعلام الورى للطبرسيّ: 224.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 60.
5- الثقات لابن حبّان: 2 / 307.
6- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 42، المنتظم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 201، 206.
7- التتمّة لتاج الدين العامليّ: 78.

فالمولى الغريب (علیه السلام) هو الطلبة الأُولى من دخول ابن الأَمة الفاجرة إلى الكوفة، وتترتّب على هذه النتيجة المهمّة أُمورٌ كثيرةٌ أتينا على ذِكرها والاستفادة منها في غير موضعٍ من دراساتنا عن المولى الغريب (علیه السلام) .

ويُضاف هنا أنّ ما فعله الجرو ابن زيادٍ من إرسال الرأس المقدّس ورأس هانيء وغيرهما إلى نغل معاوية لم يكن اعتباطاً، وإنّما كان بأمرٍ منيزيد الخمور نفسه! ((1))

النقطة الثالثة: مزاعم شيعة القرود

روى الطبريّ وابن أعثم أنّ يزيد الكفر والفسوق كتب إلى ابن زيادٍ أنّه تلقّى من شيعته في الكوفة كتباً تخبره أنّ المولى الغريب (علیه السلام) يجمع الجموع، وعلّل ذلك بأنّه يريد شقّ عصا المسلمين!! وقد اجتمع عليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب! لذا انتدب ابنَ زيادٍ إلى الكوفة ليأتي أهلها ويكفيه أمرها ((2)).

هكذا هو دأب القرود وساستهم الّذين سلّطوهم على رقاب الناس.. كانوا ولا زالوا يقلبون الموازين، فيدعون الدعوة إلى إمام الهدى ونور الله الّذي لا يُطفأ والعروة الوثقى والشجرة الطيّبة الثابت أصلها وفرعها في السماء شقّاً لعصا المسلمين، والتعلّق بذيول القرود والضباع والثعالب

ص: 68


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 60، وانظُر لزيادة التفصيل في بعث الرأس المقدّس إلى الشام: كتاب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع الشهادة، للمؤلّف.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 356، الفتوح لابن أعثم: 5 / 60.، الإرشاد للمفيد: 2 / 39.

والكلاب والتمسّك بأعواد الشجرة الملعونة في القرآن واللهاث في غابة القرود المخمورة وحدةً وتماسكاً بين أواصر المجتمع المتهرّئ! ((1))

النقطة الرابعة: خبث التعبير

سمعنا قبل قليلٍ تعبير ابن سعدٍ وغيره عن ابن زيادٍ ونسبته إلى أبي سفيان، وهنا طلع علينا ابن كثيرٍ بعبارةٍ ترشح خُبثاً مقيّحاً وتَجنٍّ ودسيسةً كالحة، فقال:وكان يزيد يبغض عُبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معاً، لما يريده الله به وبغيره ((2)).

فيزيد الآثم المجرم كان يبغض ابن زياد، بحيث كان يريد أن يعزله عن البصرة، وكان عازماً على إقصائه، بَيد أنّ الله جعله يجمع له البصرة والكوفة معاً، لِما يريده به وبغيره! فالله هو الّذي أراد ما أراد لابن زيادٍ وانتدبه لهذه المهمّة!! وهو الّذي أراد لغيره!! فما ليزيد من قدرةٍ على مخالفة إرادة الربّ ولا عليه أيّ تبعات، فالله هو الّذي أراد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !!!

إنّها شنشنةٌ قديمةٌ وخنخنةٌ زَقَحَ بها أسيادُهم، فتنصّلوا عن كلّ

ص: 69


1- أُنظر للمزيد: كتاب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع الشهادة، فصل المحاججة والمناظرة بين ابن الأَمة الفاجرة والمولى الغريب (علیه السلام) ، وغيره من دراساتنا عن المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152.

الجرائم، ونسبوها إلى ساحة القدس الإلهيّ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وتعساً وبؤساً للقوم المنكوسين المرتكسين في أوحال قيعان الرذيلة الأُمويّة من أمثال هؤلاء المؤرّخين!

الموضوع الثالث: سيّد الشهداء والمولى الغريب مسلم (علیهما السلام) ، ووضعُ الكوفة
اشارة

قال البلاذريّ:

فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة ... وأمر عُبيدَ الله بطلب ابن عقيل، ونفيه إذا ظفر به أو قتله، وأن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليٍّويكون على استعدادٍ له ((1)).

وقال أيضاً:

وكتب إليه: أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، وقد سمي بك يوماً إلى غايةٍ أنت فيها، كما قال الأول:

رفعتَ

فجاوزتَ السحاب وفوقه

فما

لَك إلّا مرقب الشمس مقعدُ ((2))

وقال القاضي النعمان:

وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد، وأمَرَه بقتل مسلم بن عقيل،

ص: 70


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 407.

وبأن يقطع على الحسين (علیه السلام) قبل أن يصل إلى الكوفة ((1)).

وقال السمهوديّ:

فكتب إلى عُبيدِ الله بن زياد ابن أبيه: قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قد سار إلى الكوفة، فاحترِزْ منه، واقتُل مسلم ابن عقيل ... وأمَرَه أن يحبس على الظنّة ويأخذ على التهمة ((2)).

وقال الخوارزميّ:

وكتب: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى عُبيد الله بن زياد، سلامٌ عليك.أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، ولك ما لَك وعليك ما عليك، وقد انتميتَ ونميتَ إلى كلّ منصب، كما قال الأوّل:

رفعتَ فما زلتَ السحاب تفوقه

فما لك إلّا مقعد الشمس مقعدُ

وقد ابتُلي بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وابتُلي به بلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به بين العمّال، وفي هذه تُعتَق أو تكون عبداً تعبّد كما تعبّد العبيد.

وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خَلقٌ كثيرٌ

ص: 71


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 147.
2- جواهر العِقدَين للسمهوديّ: 407.

من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه، حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتُها إليك وجعلتُها زيادةً في عملك _ وكان عُبيدُ الله أميرَ البصرة _، وانظُر أن تطلب مسلم بن عقيلٍ كطلب الحرد، فإذا ظفرتَ به فخُذ بيعته أو اقتله إنْ لم يبايع، واعلم أنّه لا عذر لك عندي، وما أمرتُك به فالعجل العجل والوحاء الوحاء، والسلام ((1)).

وقال سبط ابن الجَوزيّ:

فكتب إليه أن قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قدسار إلى الكوفة، فاحترِزْ منه، وأنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة فاقتُله. فعزل النعمان، وولّى ابنَ زياد ((2)).

وقال ابن طاووس:

فكتب يزيدُ إلى عُبيد الله بن زيادٍ _ وكان والياً على البصرة _ بأنّه قد ولّاه الكوفة وضمّها إليه، وعرّفه أمْرَ مسلم بن عقيل وأمْرَ الحسين (علیه السلام) ، ويشدّد عليه في تحصيل مسلم وقتْلِه (رضوان الله علیه) ((3)).

وفي مقتل أبي مِخنَف (المشهور):

وأرسل إليه كتاباً ثانياً يقول فيه: من يزيد بن معاوية (لعنه الله)

ص: 72


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 138 و140.
3- اللهوف لابن طاووس: 38.

إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فقد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين (علیه السلام) ، وقد كتبتُ إليك كتاباً، فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرَأَ منك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فارتحلْ من وقتك وساعتك، وإيّاك والتواني، واجتهدْ ولا تُبقِ من نسل عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) أحداً، واطلبْ مسلم بن عقيل (علیه السلام) فاقتله وابعثْ إليّ برأسه، والسلام ((1)).

* * * * *

تضمّنَت النصوص المذكورة جملةً من المحاور، يمكن إجمالها بما يلي:

المحور الأوّل: جمعها الموضوعَين الأوّلَين

إنّ هذه الطائفة من النصوص تجمع الموضوعَين الأوّل والثاني، وكان بالإمكان أن تُقطَّع فتُدرَج حسب ما ورد فيها تحت أحد العنوانين، بَيد أنّنا أفردناها تحت عنوانٍ مستقلّ؛ باعتبار أنّها تختلف عن كِلا العنوانَين السابقَين من حيث الاجتماع.

فنصوص الموضوع الأوّل الّتي ذكرت سيّد الشهداء (علیه السلام) كموضوع محوريٍّ في الكتاب لم تتعرّض إلى ذِكر مسلم بن عقيل (علیه السلام) بتاتاً، وكذا نصوص الموضوع الثاني لم تذكر سيّد الشهداء (علیه السلام) بتاتاً.

فيما جاءت هذه الطائفة من النصوص لتجمع بين الموضوعَين

ص: 73


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 22.

كمحورَين أساسَين تعرّض لهما كتاب القرد المجدور، وكأنّه رسالتان جُمعتا في نصٍّ واحد!

المحور الثاني: ما يخصّ المولى الغريب (علیه السلام)

ذكر البلاذريّ تخيير ابن الأَمة الفاجرة بين قتْلِ المولى (علیه السلام) أو نفيِه، وصرّح ابن أعثم تخيير المولى الغريب (علیه السلام) بين البيعة وبين القتل، واتّفق الآخَرون على الأمر بقتله.

فهذه المجموعة كسابقتها تماماً فيما يتعلّق بشأن المولى الغريب (علیه السلام) .

المحور الثالث: ما يتعلّق بشأن سيّد الشهداء (علیه السلام)

لقد أخبر القرد المجدور في النصوص المذكورة بمسير سيّدالشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة، وأمره أن يحترّز منه ((1)) وأن يتيقّظ في أمره ويكون على استعدادٍ له ((2))، وأن يقطع على سيّد شباب أهل الجنّة الحسين (علیه السلام) قبل أن يصل إلى الكوفة ((3))..

وتواجهنا هنا في عبارة سبط ابن الجوزيّ نفس ما واجهنا في نصوص الموضوع الأوّل، إذ أنّه يذكر بالتحقيق مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة، والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) انطلق نحو العراق بعد دخول ابن الأَمة

ص: 74


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 138 و140.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
3- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 147.

الفاجرة إلى الكوفة ويوم استشهاد المولى الغريب (علیه السلام) أو يوم ندائه بالشعار..

وكيف كان، فإنّ الأوامر الصارمة والتشديد والتأكيد على الاستعداد لسيّد الشهداء (علیه السلام) كان محوراً مهمّاً لَطالما ركّز عليه القرد المجدور في مخاطباته، وقد أكّد هنا على التيقُّظ ومنع سيّد الشهداء (علیه السلام) من دخول الكوفة والوصول إليها، فبادر ابنُ الأَمة الفاجرة فزرع الصحراء خيلاً ورجالاً، وقد نظمها طولاً وعرضاً، وأحصى كلّ داخلٍ وخارجٍ إليها..

”وهذه الأوامر الصارمة تكشف عن أجواء الرعب الّتي خيّمَت على المنطقة الممتدّة في الصحراء الّتي يتحرّك فيها الركب الحسينيّ الفاتح، وتُنبئ عن الارتجاج والزلزال الهائل الّذي ضرب الكوفة وضواحيها ومخارجها وموالجها، فالعيون حادّةٌ محدّقة، تحصي الأنفاس في جميعالأرجاء، وتمتدّ إلى أقصى الخصوصيّات، وتخترق حريم العشائر والقبائل والدور والبيوت والقوافل، والحركة مرصودةٌ ولو كانت دبيباً في رمال المفاوز والصحارى والفيافي والقفار، والمسالح والمناظر والمراصد مزروعةٌ في كلّ اتّجاه، والربايا تجعل الطرق تحت الإشراف المباشر لملاحقات العساكر.. العساكر الّتي كانت تجوب الصحراء، تبحث عن الصيد السماويّ الأعظم، المتعطّشة للولوغ في الدماء الزاكية، المتألّبة على انتهاك حرم الله وحرم رسوله.. وقد أعدّت مخالبها وأنيابها لتقطيع أوصال العترة الطاهرة، واشتدّ ولعها وتجيّش

ص: 75

توحُّشها لاستخراج العلقة من جوف سيّد الشهداء (علیه السلام) “ ((1)).

المحور الرابع: ما يتعلّق بالكوفة وأهلها

أمر القرد المجدور جروه المسعور أن يُقدِم إلى الكوفة فيكفيه أمرها ((2))، وأن يحبس على الظنّة ويأخذ على التهمة ((3))، ف- ”أُطلقَت الوحوش الكاسرة على كلّ ما هبّ ودبّ في الكوفة، لتكون مجرد التهمة كافيةً لاستباحة الحريم، والظنّة موجبةً لسفك الدم..

لقد التهبَت شوارع الكوفة وأزقّتها، وانتشرت النار إلى أطرافها وأكنافها والمنازلِ والطرق المؤدّية إليها.. واستسلم الناس فيها للطاغية حينمااستخفّهم فأطاعوه.. فازدحمَت المناهج والسكك بالرجال، يتكالبون على التقرّب إلى ابن الأَمة الفاجرة، فارتفع الضجيج، وتعالى الصخَب، وانبثّت الضوضاء تلفّ الأجواء وتدوّي في الأرجاء، وتداخلَت أصوات قعقعة السلاح وصهيل الخيل ودبك حوافرها وسنابكها، وأزيز شحذ السيوف وبري الرماح وقدح النبال وزعقات الرجال يخبطون الأرض ويثيرون رمال الفيافي والصحراء، يستعدّون لارتكاب الجريمة العظمى“ ((4)).

ص: 76


1- أُنظر: مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع الشهادة، للمؤلّف: 419.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 198.
3- جواهر العقدَين للسمهوديّ: 407.
4- أُنظر: مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع الشهادة، للمؤلّف: 419.

فأغضبَتِ اللهَ في قتلِه

وأرضَتْ بذلك شيطانَها

عشيّة أنهضها بغيُها

فجاءته تركبُ طغيانَها

بجمعٍ من الأرض سدَّ الفروجَ

وغطّى النجود وغيطانَها ((1))

* * * * *

خلاصة ما ورد في الكتاب على العموم

تضمّن الكتاب جملةً من الموارد اشتركَت فيها النصوص، وسنأتي على ذكرها مفهرسة، وسنُدخِل فيها شيئاً ممّا ذكرناه آنِفاً ليكون تلخيصاً لما سبق:

أوّلاً: ضمّ الكوفة إلى البصرة وتولية الجرو المسعور عليهما معاً، وربّما فعل ذلك لتبقى يد الجرو المتوحّش مفتوحةً في البصرة، ويبقى اسمهالمرعِب يهدّد كلّ مَن يفكّر بإحداث بلبلةٍ هناك.

ثانياً: الاستعجال والمبادرة وأن يطير بجناحَين إلى الكوفة، ليسابق الزمن قبل أن يستفحل الأمر ويدخلها سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ثالثاً: تهديد ابن زيادٍ بالتنفيذ أو العودة إلى العبوديّة ودائرة أبناء الزنا، فيُعبَّد كما تُعبَّد العبيد ويُنسَب إلى أُمّه ويُعاد إلى حارة البغايا، ويبدو أنّ هذا البند بالخصوص دخل من الكتاب الّذي أرسله بعد بعث الرؤوس المقدّسة.

ص: 77


1- من قصيدةٍ للسيّد حيدر الحلّي (رحمة الله) .

وكيف كان، ”فربّما كان هذا في ذيل تلك الأوامر الصادرة من ابن آكلة الأكباد، ليذكّره بماضيه ويحسّسه بمزايا الوضع الّذي هو يعيشه الآن، ويجعل له حافزاً إضافيّاً في قتاله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .. فالقضيّة لا تتوقّف بعدئذٍ عند أحقاد ابن زيادٍ وحوافزه الخاصّة ومنطلقاته وعقائده الأصليّة، وإنّما تحوّلَت إلى وجودٍ أو عدم.. أن يكون أو لا يكون.. سلطنةٌ وتفرعن، وإمارةٌ وحظوة، وعودٌ خاصٌّ يتميّز به من فروع الشجرة الملعونة، وحشرٌ مع قرودها المتدلّية من أغصانها في الجحيم.. أو عبوديّةٌ ورقّيّةٌ وطردٌ من حظيرة القرود!!

ومن هنا يمكن أن تلوح أحقاد يزيد واستعجاله في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتربّصه ليوم الثأر، وشدّة نهمه لشرب الدماء الزواكي والتشفّي، واستنهاض المشايخ الّذين أطاح رؤوسهم أميرُ المؤمنين (علیه السلام) في بدر ...“ ((1)).رابعاً: كتب إليه برضاه عنه، ومدح ابن زياد، وتحريضه للقيام بهذه المهمّة المشؤومة.

خامساً: أخبره أنّ شيعته من أهل الكوفة كتبوا إليه أنّ ابن عقيلٍ بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين!

سادساً: إخباره أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد خرج من مكّة متوجِّهاً إلى الكوفة بعد أن كاتبه أهلُها.

ص: 78


1- أُنظر: مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع الشهادة: 420.

سابعاً: أخبره أنّ هذا اختباراً خاصّاً للجرو الأُمويّ، وأنّ بلده قد ابتُلي من بين البلدان وزمانَه من بين الأزمان.

ثامناً: الأمر بقتل المولى الغريب (علیه السلام) وقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنْ لا يُبقي أحداً من نسل عليّ (علیه السلام) .

تاسعاً: القبض على مسلم (علیه السلام) ليُقتَل، أو يُحمَل إلى يزيد المتوحّش، أو يُنفى أو يوثَق، أو يخيّر بين البيعة للقرد أو القتل.

عاشراً: الاحتراس والحذر، ووضع المناظر والمسالح، ومراقبة كلّ متحرّكٍ داخلَ أو خارجَ الكوفة، ومسح الصحراء.

الحادي عشر: الحبس على الظنّة والأخذ على التهمة.

الثاني عشر: أن يقطع على سيّد الشهداء (علیه السلام) ويمنعه من دخول الكوفة.

الثالث عشر: أن يتيقّظ في أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويكون له علىاستعداد.

الرابع عشر: الحذر من أن يفوته سيّد الشهداء (علیه السلام) .

تاريخ كتابة العهد

حدّد تاريخ كتابة العهد في كتاب (المقتل) لأبي مِخنف المشهور المتداوَل، فقال:

كتب هذا العهد في شهر ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة، وهي

ص: 79

السنة الّتي قُتل فيها الحسين (علیه السلام) ... ((1)).

وبهذا حدّد لنا الشهر والسنة فقط.

فإذا كان الكتاب قد كُتب في شهر ذي الحجّة، فيلزم أن نطرح من شهر ذي الحجّة المسافةَ الزمنيّةَ الفاصلةَ بين كتابته وحمله من الشام إلى البصرة، ثمّ الفترة الزمنيّة الّتي قطع بها الجرو المسعور المسافة بين البصرة إلى الكوفة..

ويفيد أنّ دخول ابن زيادٍ إلى الكوفة لم يكن قبل شهر ذي الحجّة، وأنّ كلّ ما جرى من أحداثٍ بين المولى الغريب (علیه السلام) وبين الجرو المسعور كانت في أقلّ من أسبوع! بل ربّما حُصرت في يومٍ أو يومين على أقصى التقادير! إنْ أمكن ذلك، وهو غير ممكنٍ في الحسابات العاديّة، بعدملاحظة المسافة بين الشام والبصرة!

وقد أفاد ابن سعدٍ واليعقوبيّ ((2)) وغيرهما _ كما سمعنا قبل قليلٍ تحت عنوان (الموضوع الأوّل) في محتويات كتاب القرد المجدور إلى ابن زياد _ أنّ نغل معاوية كتب إلى جروه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد خرج من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة!

وأفاد المسعوديّ أنّه لمّا اتّصل خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة

ص: 80


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 22.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.

إلى الكوفة بيزيد، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة! ((1))

وممّا لا خلاف فيه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد تحرّك من مكّة منطلقاً إلى الأرض الموعودة في شهر ذي الحجّة، بغضّ النظر عن الاتفاق على خروجه يوم شهادة المولى الغريب (علیه السلام) أو يوم ندائه بالشعار.

والألفاظ _ كما تلاحظ _ تفيد تحقّق الخروج، وتكاد تأبى الحمل على استخدام لفظ التحقّق للتعبير عن العزم الجازم.

إلّا أن يُقال _ كما ذكرنا ثَمّة _ : إنّ المؤرّخين قد دمجوا بين كتابَي يزيد، كتاب التولية وكتاب الردّ على فعلة ابن الأَمة الفاجرة بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، وهو ما يكاد يأباه سياقها.

فإذا قلنا بالدمج، يبقى التصريح الوارد في المقتل المشهور على شهرذي الحجّة متفرّداً لا شاهد عليه، وربّما يُقال: إنّ ما تفرّد به هذا الكتاب ولم تنهض به الشواهد لا يُعتدّ به.. والله العالم!

ص: 81


1- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 66.

ص: 82

خروج ابن زياد من البصرة

المتون

• وشخص إلى الكوفة، ومعه المُنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن الأعور الحارثيّ ومسلم بن عمرو الباهليّ، وحشمه وغلمانه ((1)).

• وحدّثَنا خلف بن سالم المخزوميّ وزهير بن حرب أبو خيثمة، قالا: حدّثَنا وهب بن جرير بن حازم، قال: لمّا بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسيرُ الحسين بن عليٍّ من الحجاز يريد الكوفة، وعُبيدُ الله بن زيادٍ بالبصرة، خرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً ((2)).

• وسار، وخرج معه من أشراف أهل البصرة شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود ((3)).

• ثمّ خرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ،

ص: 83


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 234.

وحشمه وأهل بيته ((1)).

• وأمّا عيسى بن يزيد الكنانيّ، فإنّه قال فيما ذكر عمر بن شبّة، عن هارون بن مسلم، عن عليّ بن صالح، عنه قال:

لمّا جاء كتاب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد، انتخب من أهل البصرة خمسمئة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور، وكان شيعةً لعليّ، فكان أوّل من سقط بالناس شريك، فيقال: إنّه تساقط غمرةً ومعه ناس، ثمّ سقط عبد الله بن الحارث، وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عُبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى مَن سقط ويمضي حتّى ورد القادسيّة، وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال إنْ أمسكت عنك حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا، واللهِ ما أستطيع ((2)).

• فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته ((3)).

• قال عمر بن سعد، عن أبي مخنف: فحدّثَني المصعب بن زهير،

ص: 84


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 358، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 359.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 64.

عن أبي عثمان: إنّ زياداً أقبل من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن عمرو بن الجارود وشريك بن الأعور، وحشمه وأهله ((1)).

• ثمّ خرج من البصرة، فاستخلف أخاه عثمان، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته ((2)).

• ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته ((3)).

• فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه أبو قُتيبة مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن عبد الله الهمدانيّ ((4)).

• ثمّ خرج من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعيّاً، وقيل: كان معه خمسمئة، فتساقطوا عنه، فكان أوّل من سقط في الناس

ص: 85


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186، أسرار الشهادة للدربنديّ: 219، روضة الواعظين للفتّال: 149.
3- إعلام الورى للطبرسيّ: 224.
4- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

شريك، ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة،فلم يقف على أحدٍ منهم ((1)).

• ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم عثمان بن زيادٍ أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((2)).

• ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصر الكوفة ((3)).

• وقال جرير بن حازم: بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسير الحسين وهو بالبصرة، فخرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً حتّى قدموا الكوفة ((4)).

• فسار ابن زيادٍ من البصرة إلى الكوفة.

• ثمّ خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ، فكان مِن أمره ما تقدّم ((5)).

• فلمّا قرأ الكتاب، تجهّز للمسير إلى الكوفة مُجِدّاً في مسيره ((6)).

ص: 86


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- مثير الأحزان لابن نما: 13.
3- اللهوف لابن طاووس: 44، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 339، العوالم للبحرانيّ: 17 / 189، أسرار الشهادة للدربنديّ: 230، نفَس المهموم للقمّيّ: 90.
4- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344.
5- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152 و158.
6- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 423.

• ثمّ خرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه عشيرته ومواليه وأشراف أهل البصرة، منهم: مسلم بن عمرو الباهليّ، والمنذر بن الجارود، وشريك بن الأعور الحارثيّ، إلّا مالك بن مسمع، فإنّه تعذّر عنده وشكى وجَعاً في خاصرته، وقال: إنّي لاحقٌبالأمير ((1)).

• وجعل أخاه عثمان على البصرة وتوعّدها، وخرج إلى الكوفة ومعه شريك بن الأعور، وكان قد جاء من خراسان معزولاً عن عمله عليها، ومسلم بن عمرو الباهليّ، وكان رسولَ يزيدٍ إلى عُبيد الله بولاية المصرَين، وحُصين بن تميم التميميّ، وكان صاحبه الّذي يعتمد عليه، وجعل شريك يتمارض في الطريق ليحبسه عن الجدّ فيدخل الحسين الكوفة، فما عاج عليه، وتقدّم حتى دخلها ((2)).

• فتعجّل ابنُ زيادٍ المسير إلى الكوفة، مع مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود وشريك الحارثيّ وعبد الله بن الحارث بن نوفل، في خمسمئة رجُلٍ انتخبهم من أهل البصرة، فجدّ في السير، وكان لا يلوي على أحدٍ يسقط من أصحابه، حتّى أن شريك بن الأعور سقط أثناء الطريق، وسقط عبد الله بن الحارث رجاء أن يتأخّر ابن زيادٍ من أجلهم، فلم يلتفت ابن زيادٍ إليهم مخافة أن يسبقه الحسين إلى الكوفة، ولمّا ورد القادسيّة سقط مولاه مهران، فقال له

ص: 87


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 24.
2- إبصار العَين للسماويّ: 6.

ابن زياد: إن أمسكتَ على هذا الحال فتنظر القصر، فلك مئةألف. قال: واللهِ لا أستطيع. فتركه عُبيد الله ((1)).

• وتعجّل ابن زيادٍ السفر إلى الكوفة في صباح تلك الليلة، وصحب معه مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن عبد الله الحارثيّ الهمداني، وحشمَه وغلمانه، وجماعةً آخَرين انتخبهم من أهل البصرة ((2)).

• فانتخب من وجهاء البصرة وزعماء المصرَين جماعةً يستطيع بهم أن يسند قوّته، وأن يرسلهم في ميدان التخذيل ومجالس المفاوضات مع أبناء عمومتهم في الكوفة، وبالطبع إنّ هؤلاء الوفود لهم أثرهم في الاستجابة لما يطلبون (و لكل قادمٍ كرامة)، كما أنّه صحب من أبطال الجند المدرَّب خمسمئة فارساً.

• وسار ابن زيادٍ بسرعةٍ فائقة، ومعه حرّاسٌ أقوياء وجيشٌ بكامل عدّته، ومعه جماعةٌ من أشراف البصرة، فكان لا يمرّ بحيٍّ من أحياء العرب إلّا وظنّوا أنّ هذا الركب هو ركب الحسين (علیه السلام) ، وهم يستبشرون بقدومه، إذ سبق أن علموا بدعوة أهل الكوفة له، وكان استبشار الأعراب في البادية يبعث فيه نشاطاً لدخول الكوفة قبل أن يدخلها الحسين (علیه السلام) .

ص: 88


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 169.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 220.

فسار بسرعةٍ هائلةٍ عجز عن مسايرته أصحابُه، ولم يلحقه إلّامولىً من مواليه اسمه مهران، وقد أعياه النصب في القادسيّة، فقال ابن زياد: يا مهران، على هذه الحالة إنْ أمسكتَ حتّى تنظر إلى القصر فلك مئة ألف. قال: لا واللهِ ما استطيع. وتأخّر مهران، وسار ابن زيادٍ بمفرده حتّى دخل الكوفة ((1)).

* * * * *

لقد خرج عُبيد القرود من البصرة مسرعاً مغذّاً، وطار بجناحَين طاعةً ولهفة، وكأنّي به استقرض معهما جناحَين آخَرين سروراً وفرحاً، امتثالاً لأمر سيّده وسائسه يزيد القرود، وشوقاً وشهوةً ليملأ بآل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسادات البشريّة أكراشاً سُغباً وأجربةً جوفاً، وليشفي أحقاداً قديمةً وأضغاناً دفينة، وليتشفّى من ثاراتٍ لجراحٍ عميقةٍ لا تتداوى إلّا بالشماتة بالنبيّ وأمير المؤمنين (صلّى الله عليهما وآلهما أجمعين).

ونحن لا نروم هنا استقصاء الحدَث ومتابعته بتفاصيله، ونكتفي بالإشارات السريعة:

الإشارة الأُولى: متى خرج ابن زيادٍ من البصرة؟

لا يتسنّى تحديد تاريخ خروج الجرو المسعور من البصرة بالضبط، لكن

ص: 89


1- مع الحسين (علیه السلام) في نهضته لأسد حيدر: 91.

يمكن أن نعرف أنّه كان بعد أن دفع إليه مسلم الباهليّ الكتاب والعهد مباشرة، وفق تعبير مثل الشيخ ابن شهرآشوب: «فلمّا وصل المنشور إلى ابن زياد، قصد الكوفة» ((1))، والسيّد ابن طاووس: «فتأهّب عُبيدُ الله للمسير إلى الكوفة» ((2))، وكذا في (المقتل) المشهور فرّع التأهُّب للمسير على أخذ الكتاب ((3)).

وصرّح جملةٌ من المؤرّخين _ منهم الطبريّ وابن أعثم والمفيد والفتّال وغيرهم _ أنّ ابن زيادٍ أمر بالجهاز والتهيُّؤ من وقته حين أخذ الكتاب وقرأه، ليبرز من الغد ويسير إلى الكوفة ((4)).

فإذا فهمنا من قولهم: (الغد)، اليوم الّذي يلي اليوم الّذي استلم فيه الكتاب، فهو لم يبُتْ سوى ليلته تلك في البصرة، ثمّ خرج مسرعاً إلى الكوفة امتثالاً لأمر سائسه المخمور..

ص: 90


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 4 / 91.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.
4- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186، روضة الواعظين للفتّال: 149، إعلام الورى للطبرسيّ: 34، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

وقد صرّح بذلك السيّد ابن طاووس وابن نما، قالا:

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((1)).

الإشارة الثانية: عدد مَن أخرجهم معه

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الّتي أشارت إلى عدد من أخرجهم الجرو المسعور معه من البصرة إلى الكوفة إلى عدّة أعداد:

العدد الأوّل: فاقدٌ للتحديد
اشارة

نعني بالفاقد للتحديد أنّه لم يتضمّن أيَّ عددٍ يمكن الارتكان إليه واحتسابه، وإنّما يذكر النصّ بعض الأسماء أو العناوين العامّة، من قبيل الحشم والغلمان.

القسم الأوّل: ذكر بعض الأسماء

إقتصرت بعض المصادر على التصريح ببعض الأسماء، وأغفلَت الحديث عن غير ما صرّحوا به، من قبيل الدينوريّ الّذي قال: «وخرج معه من أشراف أهل البصرة شريك والمنذر» ((2))، وأضاف الخوارزميّ: مسلم

ص: 91


1- اللهوف لابن طاووس: 44، مثير الأحزان لابن نما: 13، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 339، العوالم للبحرانيّ: 17 / 189.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 234.

الباهليّ ((1))، وأفرد ابن كثير الباهليّ بالنصّ على اسمه دون غيره ((2)).

ومن الواضح بجلاءٍ أنّه لم يخرج مع الفرد أو الفردين أو الثلاثة الّذين ورد التصريح بأسمائهم، إذ أنّ طبيعة سفر مثل هؤلاء الطواغيت الجبناء أن يخرجوا بخدمٍ وحشمٍ وحمايةٍ وحرس، بيد أنّ هؤلاء المؤرّخين اقتصروا على ذكر الشخصيّات المعروفة، وتركوا الإشارة إلى التوابع اعتماداً علىالمقتضيات.

وبهذا لا تتعارض أخبار هذا القسم مع ما سنسمعه فيما يلي من أخبار القسم الثاني.

القسم الثاني: ذكر الأسماء والعنوان العامّ

أضافت مصادر هذا القسم إلى الأسماء الثلاثة المذكورة آنفاً بعضَ العناوين الأُخرى الّتي تشمل جملةً من الراحلين مع ابن الأَمة الفاجرة، من غير تحديدٍ لعددهم، من قبيل عنوان (حشمه وغلمانه) ((3)) الّذي ذكره البلاذريّ، و(حشمه وأهل بيته) أو (أهله) ((4)) الّذي ذكره الطبريّ وابن أعثم

ص: 92


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152 _ 153 و158.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
4- تاريخ الطبريّ: 5 / 358، الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337 و340، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186 و190، روضة الواعظين للفتّال: 149، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، الفتوح لابن أعثم: 5 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

وبعض مَن تلاهما.

وفي تعبير (المقتل) المشهور لأبي مِخنَف غرابةٌ مليحة، إذ يقول: «ومعه عشيرته!! ومواليه وأشراف أهل البصرة» ((1))..

خروج الموالي معه طبيعيّ، وللمولى أن يُخرج معه مَن يشاء من مواليه حسب حاجته إليهم، ويمكن أن نفهم خروج أشراف أهل البصرة أنّه تعبيرٌ عن بعضهم، سيّما وأنّه صرّح ببعض الأسماء.

أمّا خروج عشيرته معه، فلا نعرف له معنى!! أيّ عشيرةٍ يعني؟ وهو سليل الفواحش، ووليد خيام الدعارة.. فلْيذكر لنا التاريخ له عمّاً أو خالاً أوجدّاً، فربّما أعاننا على معرفة عشيرته! إلّا أن يكون أولاد الزنا كلّهم عشيرةً واحدةً ينتمي إليهم كلّ نغلٍ في شرق الأرض وغربها!!!

وكيف كان، فإنّ هذا القسم أيضاً لا يحتوي على عددٍ محدَّدٍ يمكن الارتكان إليه والاعتماد عليه، لنعرف من خلاله حجم ركب الشؤم واللؤم المنطلق إلى الكوفة للصدّ عن سبيل الله ومحاربة أوليائه وارتكاب الجريمة العظمى وفجع الكائنات بالجناية الكبرى.

ص: 93


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 24.
العدد الثاني: فيه تحديد
اشارة

ذكرت هذه الطائفة من المصادر رقمين:

الرقم الأوّل: اثنا عشر رجُلاً

الرقم الأوّل هو ما ذكره البلاذريّ في إحدى رواياته، وتبعه الذهبيّ في روايةٍ عن جرير بن حازم، وأنّه خرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً حتّى قَدِم الكوفة ((1)).

وهذا الرقم لا يكاد يُصدَّق، إلّا أن يقال: المقصود بالرجال هنا هم الرؤوس والشخصيّات، ومَن يعبّر عنهم المؤرّخ بالوجوه والأشراف، وقد أغفل ذكر الحشم والخدم والحرس ومَن كان على شاكلتهم.

وفيه شيءٌ من الغرابة من حيث خروجه على البغال!أجل، ربّما كان قد فعل ذلك واختزل الأفراد الخارجين معه بناءً على هذا الخبر، وخرج على البغال ليتنكّر في الطريق أيضاً، ويخرج في هيئة أعرابيٍّ لا يلفت النظر، لأغراضٍ أمنيّةٍ ودوافع الجبن والخوف وغيرها.

الرقم الثاني: خمسمئة من أهل البصرة

من بين كلّ المصادر الّتي مرّ ذكرها، انفرد الطبريّ في إحدى رواياته _ حسب الفحص _ بذكر عدد الخمسمئة، وعرّفهم أنّهم منتخَبون اختارهم

ص: 94


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344.

الجرو المسعور من أهل البصرة، وصرّح بأسماء بعضهم.

قال الطبريّ:

وأمّا عيسى بن يزيد الكنانيّ، فإنّه قال فيما ذكر عمر بن شبّة، عن هارون بن مسلم، عن عليّ بن صالح، عنه قال: لمّا جاء كتاب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد، انتخب من أهل البصرة خمسمئة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور ... ((1)).

ثمّ ذكر هذا العدد من بعده ابن الأثير والنويريّ بعد أن ذكرا عبارةً تنتمي إلى القسم الثاني من العدد الأوّل، أي أنّهما لم يحدّدا العدد، وذكرا الحشم وأهل بيت الجرو المسعور، ثمّ أرسلا على نحو ال- (قيل) ما ذكره الطبريّ بعنوان: «وأمّا عيسى بن يزيد الكنانيّ، فإنّه قال ...»، فقالا: «وقيل:كان معه خمسمئة» ((2)).

وكأنّ عبارة الطبريّ أيضاً عند نقله للخبر مسنداً يُشَمّ منها رائحة ال-- (قيل) أيضاً.

الحاصل:

إنّ أعلى الأرقام المذكورة فيمن خرج مع الجرو المسعور، هو الرقم الّذي انفرد به الطبريّ وامتاز عمّن سبقه، أمّا مَن لحقه من قبيل ابن الأثير

ص: 95


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 359.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

والنويريّ، فإنّهما قدّما شيئاً آخَر، ثمّ نقلا على عهدة ال- (قيل) رقم الخمسمئة، من دون تحديدٍ لهويّتهم، فيما حدّد الطبريّ هويّتهم وأنّهم من أهل البصرة.

ولقد اكتفى الطبريّ بهذا التحديد العامّ لهويّتهم، ولا ندري من أين استفادوا أنّه «صحب من أبطال الجند المدرَّب خمسمئة فارساً»، وأنّه «سار ابنُ زيادٍ بسرعةٍ فائقة، ومعه حرّاسٌ أقوياء وجيشٌ بكامل عدّته» ((1)).

والحال أنّ الجمع بين قول من تقدّم الطبريّ _ من قبيل البلاذريّ ((2)) الّذي حصر العدد باثنَي عشر رجُلاً _ وبين قول الطبريّ يحتاج إلى مؤونةٍ وتحرٍّ، فكيف يعدّ عدد (الخمسمئة) المرسَل كقولٍ بين الأقوال حتّى عند من رواه جيشاً كامل العدّة؟!ثمّ هل يُعدّ هذا العدد جيشاً كافياً للإقدام على أرضٍ مسبعةٍ تتربّص بالجرو وأذنابه، وقد تزايد عددهم وبلغ ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون كما يروون؟!

وفيهم مَن هو شيعةٌ لا يركن إليه ابن الأَمة الفاجرة، ومَن هو في عِداد

ص: 96


1- مع الحسين (علیه السلام) في نهضته لأسد حيدر: 91.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344.

الموالي والخدم والحشم والحرس الشخصيّ وغيرهم!

والجميل في القصّة أنّ المؤلّف _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ نفسَه يستمرّ في حديثه فيقول: «فسار [يعني الجرو المسعور] بسرعةٍ هائلة، عجز عن مسايرته أصحابُه، ولم يلحقه إلّا مولىً من مواليه اسمه مهران، وقد أعياه النصَب في القادسيّة، فقال ابن زياد: يا مهران، على هذه الحالة إنْ أمسكتَ حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا والله ما استطيع. وتأخّر مهران، وسار ابن زيادٍ بمفرده حتّى دخل الكوفة»! ((1))

ولا ندري كيف انطلق ابن الأَمة الفاجرة بهذه السرعة المذهلة الّتي أعيَت الجميع، وهو _ حسب ما رواه البلاذريّ والذهبيّ _ قد خرج على بغاله ((2))، ولم ينصّ غيرهما على وسيلته الّتي امتطاها.

أجل، ربّما يُقال: إنّ هذه السرعة معهودةٌ في القرود وجرائها!!ولكن، ما يصنع باصطحاب (أبطال الجند المدرَّب) وقد دخل الكوفة مفرداً؟!

الإشارة الثالثة: أسماء مَن أخرجَهم معه

اشارة

يمكن حصر الأسماء والعناوين الواردة في المصادر الّتي تعرّضَت لذلك

ص: 97


1- مع الحسين (علیه السلام) في نهضته لأسد حيدر: 91.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344.

فيما يلي:

الأوّل: المنذر بن الجارود

المنذر بن الجارود العَبديّ، ذكره البلاذريّ والدينوريّ وابن أعثم، ومَن تلاهم ((1)).

وقد مرّ الكلام عنه، فلا نعيد.

الثاني: شريك بن الأعور

شريك بن الأعور الحارثيّ، نصّ عليه البلاذريّ والدينوريّ والطبريّ وابن أعثم، ومَن تبعهم ((2)).

ص: 98


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 234، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، الفتوح لابن أعثم: 5 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 24.
2- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 234، تاريخ الطبريّ: 5 / 358، الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337 و340، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186 و190، روضة الواعظين للفتّال: 149، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، تاريخ الطبريّ: 5 / 359، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، الفتوح لابن أعثم: 5 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 24.

وشريك بن الأعور الحارثيّ الهمدانيّ من خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه)، شهد معه الجَمَل وصفّين، قويّ الإيمان صلب اليقين، وكان ردءاً لجارية بن قدامة السعديّ في محاربة ابن الحضرميّ بالبصرة، ولمعقل بن قيس الرياحيّ في محاربة الخوارج بالكوفة، وهو في ثلاثة آلاف مقاتلٍ من أهل البصرة.

جاء من البصرة مع ابن زيادٍ إلى الكوفة، فمرض فنزل دار هاني أيّاماً ...

ويُستفاد من كلام المحدّث القمّيّ في (تتمّة المنتهى) ((1)) أنّ هذا متّحدٌ مع شريك بن أعور السلَميّ، وأنّه مات قبل شهادة مسلم وهاني (علیهما السلام) ودُفن في الكوفة ((2)).

وقال السيّد الخوئيّ في (معجم الرجال):

شريك الأعور السلَميّ النخَعيّ، من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، رجال الشيخ.

وعن ابن شهرآشوب وغيره: أنّ شريك بن الأعور دخل على معاوية، فقال له: واللهِ إنّك لَشريك، وليس لله من شريك، وإنّك لَابن الأعور، والبصير خيرٌ من الأعور، وإنّك لَدميم، والجيّد خيرٌ من الدميم، فكيف سُدتَ قومَك؟! فقال له شريك: إنّك لَمعاوية، وما

ص: 99


1- أُنظر: تتمّة المنتهى للقمّيّ: 167.
2- أُنظر: مستدركات علم رجال الحديث للنمازيّ: 4 / 209.

معاوية إلّا كلبةٌ عوَتْ واستعوَتْ، وإنّك لَابن صخر، والسهلخيرٌ من الصخر، وإنّك لَابن حرب، والسلم خيرٌ من الحرب، وإنّك لَابن أُميّة، وما أُميّة إلّا أُمّةٌ صغرت فاستصغرت، فكيف صرتَ أمير المؤمنين؟!

فغضب معاوية، فخرج شريك وهو يقول:

أيشتمني

معاويةُ بن صخرٍ

وسيفي

صارمٌ ومعي لساني

وحولي

مِن ذوي يمنٍ ليوثٌ

ضراغمةٌ

تهشّ إلى الطعانِ؟

فلا

تبسطْ علينا يا ابنَ هندٍ

لسانَك إنْ بلغتَ ذُرى الأماني

وإنْ

تكُ للشقاء لنا أميراً

فإنّا

لا نقرّ على الهوانِ

وإنْ

تكُ في أُميّة مِن ذُراها

فإنّا

في ذُرى عبد المدانِ

أقول: إنّ شريكاً هذا هو ابن الأعور على ما عرفت، وعليه فسقوط كلمة (الابن) في عبارة الشيخ من سهو القلم، أو من غلط النُّسّاخ.

ثمّ إنّه يظهر من بعضهم أنّ الأعور والد شريك اسمه الحارث، ومن ثَمّ يُطلَق على شريك: الحارثيّ، أحياناً ((1)).

الثالث: مسلم بن عمرو الباهليّ

مسلم بن عمرو الباهليّ، ذكره البلاذريّ والطبريّ، ومَن تلاهما ((2)).

ص: 100


1- مُعجَم رجال الحديث للخوئيّ: 10 / 27 الرقم 5723.
2- أُنظُر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، تاريخ الطبريّ: 5 / 358، الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337 و340، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186 و190، روضة الواعظين للفتّال: 149، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، الفتوح لابن أعثم: 5 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 152 _ 153 و158، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 24.

أتينا على ترجمته وذِكر بعض فضائحه وقبائحه تحت عنوان (حاملالكتاب).

الرابع: عبد الله بن الحارث

عبد الله بن الحارث بن نوفل، انفرد بذكره الطبريّ ((1)).

وفي (الطبقات) لابن سعد: عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وأُمّه: هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ((2)).

عدّه الشيخ من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ((3))، وأنفذه الإمام الحسن (علیه السلام) إلى معاوية ((4))، وحبسه ابن زيادٍ مع المختار

ص: 101


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 359.
2- أُنظر: الطبقات لابن سعد: 5 / 24.
3- أُنظر: معجم رجال الحديث للخوئيّ: 11 / 164 الرقم 6787.
4- أُنظر: مستدرك علم رجال الحديث للنمازيّ: 4 / 508 الرقم 8178، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 56.

ومِيثم، وكانت للمختار معه كلمات ((1)).

كانت أُمّه هند أُخت معاوية ترقّصه وتسمّيه: (ببة)، فاشتهر بهذا اللقب.

ولّاه ابن الزبير على البصرة، ولمّا قامت فتنة ابن الأشعث خرج إلى عمان هارباً من الحَجّاج، فتُوفّي فيها ((2)).

ويُحتمَل أن يكون المراد من عبد الله بن الحارث بن نوفل، الهمدانيّ ((3)) الّذي استُشهِد في الكوفة.

قال الحائريّ: قال العسقلانيّ في (الإصابة): هو عبد الله بن الحارث ابن نوفل بن عمرو بن الحارث بن ربيعة بن بلال بن أنس بن سعد الهمدانيّ ((4)).وقال المحلّاتيّ المعاصر في كتابه ((5)): عبد الله بن الحارث بن نوفل بن

ص: 102


1- أُنظر: مستدرك علم رجال الحديث للنمازيّ: 4 / 508 الرقم 8178، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 353.
2- أُنظر: الأعلام للزركليّ: 4 / 77.
3- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 238.
4- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 285.
5- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 237.

عمرو بن ربيعة بن بلال بن أنس بن سعد الهمدانيّ ((1)).

له إدراك، وشهد صفّين مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ((2))، قاله ابن الكلبيّ ((3))، وهكذا في (الإصابة) ((4)).

بايع مسلمَ بن عقيل، وكان يأخذ البيعة من أهل الكوفة للحسين (علیه السلام) ((5)).

وفي الطبريّ:

أنّ المختار بن أبي عُبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار برايةٍ خضراء، وخرج عبد الله برايةٍ حمراء وعليه ثيابٌ حُمر، وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنّما خرجتُ لأمنع عَمراً، وإنّ ابن الأشعث والقعقاع ابن شور وشبث بن ربعيّ قاتلوا مسلماً ... وإنّ عُبيد الله أمر أن يطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلاً، فأُتي بهما فحُبسا ((6)).

ص: 103


1- أُنظر: وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 167.
2- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 238.
3- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 285.
4- أُنظر: وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 167.
5- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 238.
6- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 318.

وقال ابن الأثير والنويريّ:وقيل: وكان فيمن خرج معه المختار بن أبي عُبيد وعبدُ الله بن الحارث بن نوفل، فطلبهما ابن زيادٍ وحبسهما ((1)).

وقال ابن كثير:

وسمع مسلم بن عقيلٍ الخبر، فركب ونادى بشعاره: يا منصور أَمِتْ! فاجتمع إليه أربعة آلافٍ من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عُبيد ومعه رايةٌ خضراء، وعبد الله بن نوفل بن الحارث برايةٍ حمراء ((2)).

ولمّا قُتل مسلم، أحضره عُبيد الله فسأله: مَن أنت؟ فلم يتكلّم، فقال: أنت الّذي خرجتَ برايةٍ حمراء وركزتها على باب دار عمرو بن حريث وبايعت مسلماً، وكنت تأخذ البيعة من الناس للحسين؟ فسكت، فقال عُبيد الله: انطلقوا به إلى قومه، فاضربوا عنقه. فانطلقوا به، فضُربت عنقه (رضوان الله علیه) ((3)).

الخامس: حُصَين بن تميم

حُصين بن تميم التميميّ، انفرد بذكره السماويّ (رحمة الله) ، وقال: وكان صاحبه الّذي يعتمد عليه ((4)).

ص: 104


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 404.
2- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 154 _ 155.
3- ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 285، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 168، وانظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 238.
4- إبصار العَين للسماويّ: 6.

يبدو أنّه نفسه المعروف في كتب التاريخ بالحُصين بن تميم من دون نسبة، وهو (عليه لعائن الله) من أركان عسكر السقيفة مجرمي التاريخ، وكان على شرطة ابن الأَمة الفاجرة، وقد سلّطه على بيوت الكوفة ليستبرئها، وهوالّذي كان يجوب الصحراء ملاحقاً الركب الفاتح، وهو الّذي رمى سيّد الشهداء (علیه السلام) بسهم.. وفعاله الشنيعة تقطّع القلب وتهزّ العرش، وقد أتى ما لم تأتيه الوحوش الكاسرة، فلعنة الله عليه وعلى مَن استعمله.

السادس: مهران

مهران مولاه، ذكره الطبريّ فقط عندما أتى على مَن سقط في الطريق ((1)).

يبدو أنّه كان حاجباً لزياد ابن أبيه، الّذي ذكره ابن خيّاط ((2)).

السابع: الحشَم والغلمان

الحشم ((3)).. الغلمان ((4)).. هكذا قالوا من غير تفصيلٍ في ذكر أسمائهم

ص: 105


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 359.
2- أُنظر: تاريخ خليفة بن خيّاط: 159.
3- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 358، الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337 و340، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186 و190، روضة الواعظين للفتّال: 149، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، الفتوح لابن أعثم: 5 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
4- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.

هنا، سوى مهران الّذي جاء في لفظ الطبريّ عندما سقط في الطريق، فاستحثّه ابن الأَمة الفاجرة واستنهضه، فلم يُطِقِ الاستمرار معه رغم الجائزة الّتي عيّنها له..

بيد أنّهم صرّحوا ببعض الأسماء، من قبيل: ذكوان، ومعقل.. ولا ندري ما إذا كانوا هؤلاء قد خرجوا معه من البصرة أو أنّهم كانوا في الكوفة، أو أنّه استخدمهم فيما بعد.

الثامن: أهل بيت الجرو

أهل بيت الجرو ((1)).. هذا العنوان جاء عند الطبريّ وابن أعثم، ومَن تأخّر عنهما.

ولا ندري بالضبط مَن المقصود بأهل بيته، هل يعنون أزواجه وأولاده، أو من عبّر عنهم في (المقتل) المشهور بعشيرته؟!

وكيف كان، لابدّ أن لا يكونوا عدداً ضخماً يستأثر بالحصّة الكبيرة من (الخمسمئة) الّذين ذكرهم الطبريّ!

ص: 106


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 358، الإرشاد للمفيد: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 337 و340، العوالم للبحرانيّ: 17 / 186 و190، روضة الواعظين للفتّال: 149، إعلام الورى للطبرسيّ: 224، الفتوح لابن أعثم: 5 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

الإشارة الرابعة: أحداثٌ في الطريق

اشارة

لا يخفى أنّ المصادر الّتي ذكرت حدَثاً في الطريق من البصرة إلى الكوفة، إنّما هي المصادر الّتي ذكرت عدد الخمسمئة، والعمدة فيها نصّ الطبريّ، حيث قال:

فكان أوّل مَن سقط بالناس شريك، فيُقال: إنّه تساقط غمرة ومعه ناس، ثمّ سقط عبد الله بن الحارث، وسقط معه ناس، ورجَوا أن يلوي عليهم عُبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى مَن سقط ويمضي حتّى ورد القادسيّة،وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال إنْ أمسكت عنك حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا واللهِ ما أستطيع ((1)).

وذكر في (المقتل) المشهور أنّ مالك بن مسمع اعتذر عند ابن زيادٍ وشكى وجعاً في خاصرته، وقال: إنّي لاحقٌ بالأمير. ولم يذكر أحداً آخَر قد تمارض وسقط ((2)).

يمكن الإفادة من هذا النصّ:

ص: 107


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 359، وانظر أيضاً: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 24.
الإفادة الأُولى: مكان تمارُض القوم

يفيد النصّ أنّ القوم تساقطوا قبل القادسيّة، والقادسية قريةٌ قرب الكوفة من جهة البرّ، بينها ((1)) وبين الكوفة خمسة عشر فرسخاً ((2))، وهي أوّل مرحلةٍ لمن خرج من الكوفة إلى المدينة ومكّة، وهي قريةٌ كبيرةٌ فيها حدائق نخلٍ ومشارع من الماء الفرات ((3)) على حافّة البادية ((4)).

فهي تبعد عن الكوفة بالحساب المعاصر زهاء تسعين كليومتراً.

الإفادة الثانية: مَن سقط أوّلاً

يصرّح الطبريّ ومَن تلاه أنّ «أوّل مَن سقط بالناس شريك» ومعه ناس،ثمّ سقط عبد الله بن الحارث وسقط معه ناس.

ويُلاحَظ أنّهما شيعيّان! وأنّ الناس كانوا يسقطون تبعاً لهما.

وذكر في (المقتل) المشهور أنّ مالك بن مسمع اعتذر عند ابن زياد، ولم يذكر أحداً آخَر قد تمارض وسقط ((5)).

ويبدو مِن تتبُّع حال شريك أنّ الرجل كان قد مرض بالفعل، إذ أنّ

ص: 108


1- مراصد الاطلاع: 3 / 1054.
2- مراصد الاطلاع: 3 / 1054، معجم البلدان: 4 / 291.
3- الروض المعطار: 447.
4- حدود العالم: 161.
5- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 24.

قصّة الاغتيال المزعوم ((1)) في بيت هانيء أو في بيته هو نفسه مبنيّةٌ على مرضه وعزم ابن الأَمة الفاجرة على زيارته.

ثمّ إنّ التاريخ ينصّ أنّه قد مات على أثر مرضه ودُفن في الكوفة.

الإفادة الثالثة: سبب التمارُض والتساقط
اشارة

أفاد النصّ أنّهم إنّما فعلوا ذلك لأنّهم «رجوا أن يلوي عليهم عُبيدُ الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى مَن سقط ويمضي»..

وقد تضمّن هذا النصّ بعض المؤدّيات:

المؤدّى الأوّل: رجاء سبق الحسين (علیه السلام)

إنّهم إنّما فعلوا ذلك رجاء أن يتأخّر الجرو المسعور، فيسبقه سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة فيستولي عليها ويستتبّ له الأمر!

وفي ذلك مناقشاتٌ كثيرةٌ ليس هذا موضع طرحها، وقد تناولنا بعضهافي ثنايا بعض الدراسات عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .

بَيد أنّنا نودّ أنّ نؤكّد هنا ما ذكرناه في غير موضعٍ من أنّ فهم هؤلاء القوم استقرّ على أنّ المقصود الأساس من تشريف الكوفة بالمولى الغريب (علیه السلام) إنّما هو الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يكن المولى الغريب (علیه السلام) مكلَّفاً ولا ناوياً ولا عازماً على إحداث ما يسمّونه: (الثورة)، ولا الاستيلاء على

ص: 109


1- أُنظر: مسلم بن عقيل _ قصة محاولة اغتيال ابن زياد، للمؤلف.

القصر أو امتلاك مقاليد الحكم في الكوفة، ولو كان كذلك لَما تصوّر هؤلاء _ وفق ما ورد في هذا الخبر _ أنّ تأخير ابن زيادٍ كان نافعاً فيما رجَوا والمولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة!

فهم يمهّدون لسيّد الشهداء (علیه السلام) ودخوله، لا لثورة سفيره (علیه السلام) ! ((1))

المؤدّى الثاني: فطنة ابن الفاجرة

يعود المؤرّخ هنا للتلويح وتسريب المعلومات خفيةً من خلال التأكيد على رجاء القوم من دون تصريحٍ منهم، وفطنة ابن الأَمة الفاجرة إلى ذلك من دون تصريحٍ من المؤرّخ، إذ أنهم فعلوا ذلك بقصدٍ وتبييت، ومضى الجرو المسعور ولم يلتفت إلى أحدٍ منهم، والعاقبة أنّ المتلقّي سيقفز ذهنه فوراً ليستنبط ذكاء أبناء الزواني وفطنتهم واستكشافهم للمكنونات وخباياالصدور!

المؤدّى الثالث: استعجال الجرو المسعور

يمكن الإفادة من تتمّة عبارة الطبريّ: «وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال إنْ أمسكت عنك حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا واللهِ ما أستطيع» ((2))، مدى عزم الجرو المسعور واستعجاله

ص: 110


1- أتينا على مناقشة ذلك بالتفصيل تحت عنوان: (مسلم بن عقيل (علیه السلام) ثائرٌ أم سفير؟).
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 359، وانظر أيضاً: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

وقوّة مضائه واندفاعه كالشفرة المحماة في السنام.

كما يمكن أن يكون من مؤدّيات الكلام مدى شجاعة الرعديد الجبان، بحيث مضى في الطريق وحده حتّى دخل الكوفة، وخلّف وراءَه مولاه الّذي لا يفارقه وحرسه الشخصيّ الملتزم به!

الإشارة الخامسة: مناقشة

اشارة

في تتمّة عبارة الطبريّ هذه _ بعد أن اعتذر مهران وأقسم لمولاه بالله أنّه لا يستطيع المداومة على المسير _ قال:

فنزل عُبيد الله، فأخرج ثياباً مقطّعةً من مقطّعات اليمن، ثمّ اعتجر بمعجرةٍ يمانيّة، فركب بغلته، ثمّ انحدر راجلاً وحده ((1)).

وأكّد ابن الأثير والنويريّ أنّ ابن الأَمة الفاجرة مضى لا يلوي على شيءٍ حتّى دخل الكوفة وحده ((2)).ومعنى هذا الكلام أنّه قد انساب ممّا يلي القادسيّة وحده حتّى دخل الكوفة وحده!

بَيد أنّه كلامٌ لا يكاد يستقيم ولا ينهض، إذ يمكن مناقشته بما يلي:

ص: 111


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 359.
2- مثير الأحزان لابن نما: 14، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 340، العوالم للبحرانيّ: 17 / 189.
المناقشة الأُولى: ما مرّ في المؤدَّيات

لقد مرّ معنا قبل قليلٍ في الإفادة الثالثة أنّ النصّ يتضمّن مؤدّيات، منها القول بشجاعة هذا الجرو المرتعش، وقد عرفنا _ في أكثر من موضعٍ من دراساتنا عن المولى الغريب (علیه السلام) _ جُبنَ هذا الرعديد حين ينفرد وبَطشَه ورعونته وتجبّره حينما يكون بين أذنابه، ونقلنا شهادة الحسن البصريّ.

ولا يكاد المرء العارف بهذا الوغد يقبل أن يخترق الصحارى والقفار ويسلك طريقاً يخبّئ له المفاجآت والأخطار، وهو يُقدِم على بلدٍ تكمن له السيوف وترصده الأعداء حسب ما يصوّره التاريخ ((1)).

بل هو حسب الفرض أمير، ولا يناسب الأمير أن يشقّ الصحراء ويدخل بلد إمارته وحيداً.

المناقشة الثانية: انفراد الطبريّ

أضف إلى ما في أصل الخبر من اهتزاز، فهو أساساً ممّا انفرد بهالطبريّ، وقد رواه بشيءٍ من التمريض كما أشرنا، وفيه ارتباكٌ في المتن، من قبيل

ص: 112


1- إنّما قلنا: حسب ما يصوّره التاريخ؛ لأنّنا نحسب أنّ الكوفة كانت جُندٌ مجنَّدةٌ له بجيشها وشرطتها وحرسها وغوغائها، إلّا الأقلّيّة من المجتمع الخاضع له بالقوّة، والّذي سيكشف عن ولائه وخضوعه له عمّا قريب، وقد أتينا على أثبات ذلك في بعض دراساتنا، منها: معركة القصر والحرب الأخيرة.

قوله: «فركب بغلته، ثمّ انحدر راجلاً وحده» ((1))، فإنّنا لا نفهم كيف ركب بغلته وقد انحدر راجلاً؟! إلّا أن يكون لكلمة (راجلاً) معنىً آخَر غير ما هو متبادَرٌ منها لم نتوجّه له.

المناقشة الثالثة: التعارض مع نصوصٍ أُخرى

إنّ خبر مُضيّه وحده وعدم الالتفات إلى مَن معه، يعارض ما رواه الطبريّ نفسه وابن أعثم والخوارزميّ والمسعوديّ وسبط ابن الجوزيّ وابن أبي طالب والمحلّيّ وغيرهم..

فقد روى الطبريّ خبر دخول ابن زيادٍ إلى الكوفة واحتفاء الناس به ظنّاً منهم أنّه الحسين (علیه السلام) !! واستياءَه من تباشيرهم بالحسين (علیه السلام) ، ثمّ قال: فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا: تأخَّروا، هذا الأمير عُبيد الله بن زياد! فأخذ حين أقبل على الظهر، وإنّما معه بضعة عشر رجُلاً ((2)).

وقال ابن أعثم يصف ابن الأَمة الفاجرة عندما تقارب من الكوفة وقد جاء الليل، فدعا بعمامةٍ غبراء واعتجر بها، ثمّ تقلّد سيفه وتوشّح قوسه وتكنّن كنانته، وأخذ في يده قضيباً، واستوى على بغلته الشهباء، وركب معهأصحابه، وأقبل حتّى دخل الكوفة من طريق البادية.

ص: 113


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 359.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 358.

ثمّ استرسل يروي اهتمام الناس به متوهّمين أنّه الحسين (علیه السلام) ، واستياءَه من ذلك، وأنّه سكت ولم يكلّمهم شخصيّاً، فتكلّم مسلم بن عمرو الباهليّ وقال: إليكم عن الأمير يا ترابيّة! فليس هذا مَن تظنّون ((1)).

وأكّد المسعوديّ أنّه قدم الكوفة على الظهر، فدخلها في أهله وحشمه ((2)).

ولم يستثنِ ابنُ الجوزيّ وسبطُه وابن حجَر والطبريّ والمزّيّ وابن بدران والشجريّ والذهبيّ والمحلّيّ أحداً من وجوه أهل البصرة، إذ أنّهم أكّدوا أنّه أقبل في وجوه أهل البصرة حتّى قَدِم الكوفة ((3)).

وصرّح ابن كثيرٍ بالعدد الّذي كان معه، فقال: ودخلها في سبعة عشر راكباً ((4)).

هذه النصوص تؤكّد تلويحاً وتصريحاً أنّه دخل الكوفة مع جماعةٍ من

ص: 114


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 65، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 180.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 66.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 138، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 115، وانظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 348، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 423، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 206، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 336، المنتظم لابن الجَوزيّ: 5 / 325.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 153.

أهله وحشمه ووجوهِ أهل البصرة، ومَن دعاهم ليناولوه عمامته وسيفه، والباهليّ الّذي دفع الناس عنه، وهي أوفق بحال الطاغية ابن الأَمة الفاجرة، وأكثر انسجاماً مع الظروف والأحداث!

المناقشة الرابعة: توهُّم الناس أنّه سيّد الشهداء (علیه السلام)

ذكرنا في محلّه ((1)) عند الحديث عن دخول ابن الأَمة الفاجرة إلى الكوفة، أنّ الناس ظنّوا عند دخوله أنّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فرحّبوا به واستقبلوه.. وبغضّ النظر عمّا ذكرناه من المناقشة في ذلك، فإنّ هذا بنفسه شاهدٌ على أنّ الخبيث لم يدخل الكوفة وحده، وإنّما دخلها في موكبٍ وهيئةٍ تدعو للتوهُّم أنّه ركب الحسين (علیه السلام) .

المناقشة الخامسة: التمارض رجاء سبق سيّد الشهداء (علیه السلام)

يبدو أنّ الجميع كان في تسابُقٍ مع الزمن، إذ يستحثّ القرد المجدور جروه من الشام أن يطير بجناحَين إلى الكوفة، ويتمارض هؤلاء القوم _ إنْ صحّ ذلك _ رجاء أن يسبق سيّدُ الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة.

وربّما كان هذا الأخير من صنع المحترفين في صياغة الأحداث، فشريك وأصحابه الّذين خرجوا مع الجرو الأُمويّ يعلمون كما يعلم الجرو نفسه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أرسل مبعوثه وسفيره إلى الكوفة، غير أنّ

ص: 115


1- أُنظر: الجزء الثاني من مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام)).

الفترة الزمنيّة الّتي سيستغرقها المولى الغريب (علیه السلام) من أجل التحقّق من مهمّته واتّخاذ القرار لإخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) لم تحصر بعد.

وقد علم الجميع أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان لا زال في مكّة، وأنّه لميتحرّك باتّجاه العراق تلك الأيّام حسب المشهور في النصوص التاريخيّة، فكيف يتمارض هؤلاء في طريق البصرة إلى الكوفة، ليوفّروا فرصةً تمكّن سيّد الشهداء (علیه السلام) من اللحاق من مكّة إلى الكوفة؟!!

المناقشة الخامسة: لو سبق سيّد الشهداء (علیه السلام)

هذه المناقشة تتمّةٌ للمناقشة السابقة، وإنّما أفردناها تحت عنوانٍ خاصٍّ للأهمّيّة..

لو فرضنا أنّ القوم قد تمارضوا، وتأخّر الجرو المسعور والتفت إليهم، وسبق سيّدُ الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة.. فماذا سيغيّر ذلك في واقع الناس ومجريات الأحداث؟!

لقد أثبتنا في غير موضعٍ أنّ الزبد المتراكم الّذي بايع سيّد الشهداء (علیه السلام) من خلال الكتب والرسل، وأكّد البيعة أو بايع على يد المولى الغريب (علیه السلام) لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، كانوا رغم الأعداد المذكورة في المقام أقلّيّةً قليلةً في المجتمع الكوفيّ! ((1))

ص: 116


1- أُنظر: مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ معركة القصر، وغيره، للمؤلّف.

وكانت الكوفة يومها جُنداً مجنَّدة، لم يتضعضع فيها شيءٌ من حصّة السلطان، ولم تجتاح رياح هؤلاء الرعاع الّذين بايعوا لأوّل وهلةٍ سيّد الشهداء (علیه السلام) غابة القرود، ولم تهزّ فيهم قصبةً ولا عوداً، ولم يقطعوا لهمذيلاً ولا يداً، فلم تكن الكوفة في طوع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان فيها مَن يقود قطعان الذئاب الّتي روّضَتها السقيفة لمواجهة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ومَن معه..

ولَكان ابن الأَمة الفاجرة يقدم على جُندٍ مجنّدةٍ وأذلّاء خاسئين من عبدة الطاغوت، ولَانقلب المبايعون لأيّ سببٍ وبأيّ وسيلةٍ يستعملها الأُمويّون وجراؤهم، تماماً كما انقلبوا بعد دخول ربيب الدعارة ابن زياد، ونكثوا البيعة وغدروا بالمولى الغريب (علیه السلام) .

لقد قامت البحوث على أنّ الكوفة كانت كلّها مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما غيّرها دخول ابن الأَمة الفاجرة وأساليبه وفطنته ومعرفته بالمجتمع الكوفيّ وذكاؤه.. والأمر ليس كذلك! وقد أتينا على بحث هذا الموضوع في محلّه، فلا نعيد.

ص: 117

ص: 118

البصرة بعد خروج ابن زياد

اشارة

خرج ابن الأَمة الفاجرة مُسرعاً إلى الكوفة وطار بجناحَين، وهو الجرو المجوَّع العاطش للدماء الزاكية، المثل الأوّل لعُسلان الفلَوات الّتي كانت تتربّص بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، لتملأ الأكراش والأجربة الجوفاء السُّغبى.. وخلّف البصرة وراءه هادئ البال واثقاً، لا تُقلِقه هواجس، ولا تنتزعه مخاوف، ولا تهدّده مواقف..

خرج وهو لا يتحسّب لحسيسٍ قد يخشخش من ورائه، بعد أن وضع الخشاش في أُنوفهم، واستخفّهم هو وأبوه فأطاعوه، واستخفّهم من قبله فساد عقيدتهم وما أوغروا به صدورهم على الحقّ وأهله، وحقدهم على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وكلّ ما يمتّ إليه بصلة..

لم يُعهَد في البصرة آنذاك أنّها كانت تضمّ معسكراً أو ثكنةً لجنود الطاغوت، ولم يُعهَد أن أرسلوا إليها كتائب لحمايتها أو لحماية النظام الحاكم فيها.. كانت تعيش حياتها الرتيبة، كأيّ مصرٍ من الأمصار البعيدة عن مركز الحدَث!

كان فيها من العسكر المسجّل في الديوان الّذي يأخذ العطاء ممّن

ص: 119

يسمّونهم المقاتلة أكثر من ثمانين ألفاً، بل يربو عددُهم على مئة ألف، كما زعم هو ابن زيادٍ نفسُه في خطبته لأهل البصرة بعد هلاك يزيد ((1)).

وهم جميعاً في طاعة السلطان وطوع إرادته، لم يتمرّد منهم أحدٌ يذكره التاريخ..

لم يُعهَد أنّ عثمان ابن سُميّة قد عانى أيّ اضطراباتٍ في محلّ ولايته بعد غياب عُبيد القرود، وإنّه لم يرَ منهم ما يقلقه أو يفزعه أو يدعوه إلى

ص: 120


1- في (البيان والتبيين للجاحظ: 2 / 85): واللهِ لقد وليَكم أبي، وما مقاتلتكم إلّا أربعون ألفاً، فبلغ بها ثمانين ألفاً، وما ذرّيّتكم إلّا ثمانون ألفاً، وقد بلغ بها عشرين ومئة ألف، وأنتم أوسعُ الناس بلاداً، وأكثره جواداً، وأبعده مقاداً، وأغنى الناس عن الناس ... وفي (تاريخ الطبريّ: 5 / 504): ولقد وليتكم وما أُحصي ديوان مقاتلتكم إلّا سبعين ألف مقاتل، ولقد أُحصي اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفاً، وما أُحصي ديوان عمّالكم إلّا تسعين ألفاً، ولقد أُحصي اليوم مئةً وأربعين ألفاً، وما تركتُ لكم ذا ظنّةٍ أخافه عليكم إلّا وهو في سجنكم هذا. وفي (تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 83): ولقد وليتُكم وما أُحصي ديوان مقاتلتكم إلّا سبعين ألفاً، ولقد أُحصي اليوم ثمانين ألفاً، وما كان ديوان عيالكم إلّا سبعين ألفاً، وقد أُحصي اليوم مئة ألفٍ وأربعين ألفاً ... وفي (الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 319): وقد وليتُكم وما أُحصي ديوان مقاتلتكم إلّا أربعين ألفاً، وقد أُحصي إلى اليوم أربعين ومئة ألف ... أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 39 / 334، مختصر ابن منظور: 15 / 318.

تحريك أيّ قطعةٍ عسكريّةٍ من داخل البصرة أو خارجها.

ويمكن اختصار الحكاية بجعل البصرة والشام في كفّةٍ واحدة، والحكم عليها بحكمٍ واحد، بعد أن فعل الإمام المعصوم ذلك، إذ جعلهما في الميزان في كفّةٍ واحدة، وأخبر عنهما أنّهما لم يبكيا على مَن بكته المخلوقات بلا استثناء! ((1))

من هنا قد يُقال:

إنّ إقحام البصرة وأهلها كميدانٍ للبحث والتحليل، وجعلَها ساحةً من الساحات الّتي تُدرَس في خضمّ دراسة المشاهِدِ الّتي تُرسَم في المدن الّتيتفاعلَت مع قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، تكلُّفٌ والتواءٌ على الواقع القائم يومذاك!

أجل، يمكن أن نجد بعض الإجراءات الّتي مارسها ابن زيادٍ وأذنابه وجلاوزته قُبيل خروجه من البصرة وبعده:

الإجراء الأوّل: الإرهاب والإرعاب

أخذ ابن زيادٍ رسولَ سيّد الشهداء (علیه السلام) (سليمان) فقتَلَه وصلَبَه، وتسلّق الأعواد فصعد المنبر، وخطب خطبةً أزبد فيها وأرعد وهدّد وتوعّد،

ص: 121


1- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 4 / 575، كامل الزيارات لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 5، و198 ح 2.

على التفصيل الّذي مرّ معنا فلا نعيد.

الإجراء الثاني: أخذ الطريق

أمر ابن زيادٍ فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة، فلا يترك أحداً يلج ولا أحداً يخرج ((1)).

بهذا الإجراء الشامل سدّ ابن زيادٍ جميع الفروج، ونظم الصحارى والقفار خيلاً ورجالاً، وزرع البيداء ربايا ومسالح، تمسح الطُّرُق والجوادّ، وترصد دبيب النمل بين الرمال، احترازاً من أيّ حركةٍ يمكن أن تكون لصالح سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلا يلج أحدٌ ولا يخرج، ولا يتحرّك في الفيافيأحدٌ إلّا أخذوه وفتّشوه، لئلّا يكون ممّن ينوي نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة.

وكان عسكر الحرّ من هذه المسالح المنتشرة يومئذٍ في تلك الأصقاع، فلمّا «سار [الإمام الحسين (علیه السلام) ] فمرّ ببطن العقبة، فنزل شِراف وبات بها، فلمّا أصبح سار، فطلعَت خيلٌ عليهم، فلجأ إلى ذي حسم، فإذا هو الحرّ

ص: 122


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377، تاريخ الطبريّ: 5 / 392، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 170، الإرشاد للمفيد: 2 / 71، 73، روضة الواعظين للفتّال: 152، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 369 و371، العوالم للبحرانيّ: 17 / 219، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 240، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247 و249، نفَس المهموم للقمّيّ: 174.

ابن يزيد في ألف فارسٍ يمانعه عن المسير بأمره، وقد بعثه الحُصين بن تميم التميميّ، وكان على مسلحة الطفّ الّتي نظمها ابن زيادٍ من البصرة إلى القادسيّة» ((1)).

الإجراء الثالث: تحريض أهل البصرة على حرب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)

كان سمرة بن جندب _ المجرم الجاني الّذي ولغ في دماء البصريّين وكرع منها ولم يشبع _ على شرطة ابن زياد أيّام مسير الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، وكان يحرّض الناس على الخروج إلى الإمام الحسين (علیه السلام) وقتاله ((2)).

ولا ندري إنْ كان يكتفي هذا الوغد المتهتّك بالتحريض، أو كانيقسر الناس على ذلك؟!

ص: 123


1- إبصار العَين للسماويّ: 7.
2- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 78.

ص: 124

الملتحقون من أهل البصرة

اشارة

يمكن الإشارة هنا إلى عدّة نقاط:

النقطة الأُولى: التحاقهم في مكّة

روى الطبريّ والشيخ المفيد وغيرهما أنّه:

كان قد اجتمع إلى الحسين (علیه السلام) مدّة مقامه بمكّة نفرٌ من أهل الحجاز، ونفرٌ من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه ((1)).

والظاهر ممّا رواه المؤرّخون في يزيد بن ثبيط وأولاده أنّهم التحقوا بسيّد الشهداء (علیه السلام) في الأبطح من مكّة، أمّا الآخَرون فلم نجد نصّاً واضحاً عند الطبريّ وغيره يفيد لحاقهم بيزيد أو خروجهم معه، كما لم نجد ما يفيد

ص: 125


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 67، روضة الواعظين للفتّال: 152، إعلام الورى للطبرسيّ: 230، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 363، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، وانظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 353، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267، نفَس المهموم للقمّيّ: 91، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 224، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 254، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 211، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 387.

تصريحاً أو تلويحاً عند الطبريّ وغيره من القدماء أنّهم التحقوا بمكّة..

إلّا أن يُقال:إنّ هؤلاء الأبرار خرجوا في وقتٍ متزامنٍ وفي ظرفٍ واحد، فربّما يُستفاد من ذلك أنّهم كانوا قد حضروا مجلس العبديّين في البصرة فخرجوا جميعاً.. وهو استنتاجٌ وليس خبراً، والله العالم.

ويبدو من خلال الفحص أنّ هؤلاء الأقمار المنيرة بعددهم المحصور خرجوا من البصرة، وليس ثَمّة غيرهم..

وقد أضفنا إليهم الهفهاف البطل الشجاع استطراداً، لنستكمل عدّة الشهداء من البصريّين (صلوات ربّي عليهم أجمعين).

النقطة الثانية: نسبة مَن خرج إلى مَن تخلّف

كان عدد المقاتلة في البصرة أيّام هلاك يزيد _ حسب تقرير ابن زيادٍ في خطبته الّتي ألقاها في البصرة _ يربو على الثمانين ألفاً، أو زهاء مئة ألفٍ أو يزيدون، وكانت قبيلة بني عبد القيس الّتي زهت بأسماء الشهداء الملتحقين بالإمام كبيرةً جدّاً، وكان ليزيد نفسه عشرة أولاد استجاب منهم اثنان فقط..

فكان عدّة الشهداء من البصرة لا يتجاوز العشرة!

وصل الرسول إلى البصرة.. بلّغ الكتاب.. سمع رؤوسُ الأخماس والأشراف.. قتل ابنُ زيادٍ الرسولَ وصلَبَه على رؤوس الأشهاد.. جمع يزيد

ص: 126

ابن مسعود النهشليّ بني تميم، وخطب فيهم، وحرّضهم على نصرةالإمام المظلوم.. كان في البصرة عشرات الآلاف من السيوف والمقاتلين، وكلّهم يعرف ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ..

مع هذا كلّه، لم تفرز البصرة سوى عشرةً من الرجال الأبطال الّذين عرفوا الحقّ ونصروه..

يبدو أنّ هذه النقطة جديرةٌ بالالتفات والتأمّل؛ إذ أنّنا نعتقد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يعرف هذه النتيجة، ويعرف المجتمع البصريّ تماماً حسب الظواهر المنظورة للجميع، فضلاً عن علم الإمامة.

النقطة الثالثة: اختيار مكّة على الكوفة

صرّح الطبريّ وغيره أنّ يزيد وابنَيه لحقا بسيّد الشهداء (علیه السلام) في الأبطح من مكّة، وقيل في الباقين مثل ذلك، بمعنى أنّ جميع البصريّين لحقوا بالإمام (علیه السلام) في مكّة، عدا الهفهاف.

والحال أنّ الكوفة كانت أقرب إليهم من مكّة، والمسير إلى الكوفة أيسر، لتعدّد الخيارات في المسالك والطرق الموصلة، فثَمّة طريق الماء وطريق البرّ، وهكذا..

وكانت الكوفة يومذاك مشتعلة، والأمواج متلاطمة، وكان المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة سفيراً لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، والكوفة في حالة انتظارٍ

ص: 127

وترقُّب، تتوقّع دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها ووصوله إليهم.. فكان المفروض في الحسابات الظاهريّة أن يسارع هؤلاء الأبرار الأوفياء إلى الكوفة لنصرة المولى الغريب (علیه السلام) وانتظار الإمام (علیه السلام) فيها.

غير أنّهم يممّوا وجهتهم نحو وجه الله، والتجأوا إلى جنب الله، والتحقوا بسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) حيث كان، ولم يتوجّهوا إلى الكوفة..

ربّما.. لأنّ الكوفة لم تكن بحاجةٍ إليهم.. لم يكن في الكوفة ما يدعو للذهاب إليها.. إنّما كان الخطر يُحدِق بالإمام (علیه السلام) وأهله، وعليهم أن يبادروا إلى حيث يمكنهم الدفاع عنه أينما كان!

وربّما كانت ثَمّة أسبابٌ أُخرى دعتهم إلى المبادرة إلى مكّة واللحاق بالركب هناك، سنأتي على ذِكرها في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

النقطة الرابعة: مَن قُتِل مِن أهل البصرة

أسماء مَن نال الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) من البصريّين ورد أكثرُها في كتاب (تسمية مَن قُتِل) للرسّان، أضِفْ إلى اثنين آخَرَين.

قال الرسّان:

وقُتِل من عبد القيس من أهل البصرة:

1 _ يزيد بن ثبيط.

2 _ وابناه: عبد الله.

3 _ وعُبيد الله، ابنا يزيد.

ص: 128

4 _ وعامر بن مسلم.

5 _ وسالم مولاه.

6 _ وسيف بن مالك.

7 _ والأدهم بن أُميّة.

8 _ ... الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ ((1)).

9 _ قعنب بن عمر النمريّ.

10 _ الحجّاج بن بدر التميميّ.

نحاول التعرّف إليهم بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

ص: 129


1- تسمية مَن قُتل للرسّان: تراثنا _ س، ع 2 / 149 _ 157، الأمالي للشجريّ: 1 / 170 _ 173، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 120 _ 123.

ص: 130

شهداء من البصرة

1 - 3. يزيد بن ثُبَيط العَبديّ البصريّ، وابناه: عبد الله، وعُبيد الله

اشارة

نحاول الاستزادة من معرفة هؤلاء الأشعّة النيّرة المتّصلة بشعاع نور ابن نور الأنوار وخامس أصحاب الكساء الإمام الحسين (علیه السلام) ، من خلال المعلومات التالية:

المعلومة الأُولى: نسَبهم

الكلام في النسَب لهؤلاء الثلاثة الأبرار واحد، فالحديث عن الأب حديثٌ عن الأبناء عاقبة.

قال الرسّان:

وقُتل من عبد القيس من أهل البصرة: يزيد بن ثُبيط، وابناه: عبد الله وعبيد الله، ابنا يزيد ((1)).

ص: 131


1- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 2 / 121.

وكذا قال الطبريّ وابن الأثير والنويريّ ((1)).

وهم من أصحاب سيّد الشهداء المستشهَدين بين يدَيه ((2)).

نسبتهم: القيسيّ ((3)) العبديّ، البصريّ ((4)) _ بفتح العَين المهملة، وسكون الباء المنقوطة بواحدة، وفي آخِرها الدال المهملة _.

وهذه النسبة إلى (عبد القيس) في ربيعة بن نزار، وهو:

عبد القيس بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، مِن وُلد إسماعيل (علیه السلام) ، بنو ربيعة باليمن ((5)).

والمنتسب إليه مخيَّرٌ بين أن يقول: (عبديّ)، أو (عبقسيّ) ((6)).

والنسب الأعلى _ الّذي لا يبلغ أحدٌ ذراه ويتطاول إليه كلّ ذي شرف _ نسبٌ قصير.. هو الانتساب إلى ريحانة النبيّ وقرّة عين الوصيّ،

ص: 132


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 354، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 387.
2- الرجال للطوسيّ: 77 و81، نقد الرجال للتفرشيّ: 377، منهج المقال للاسترآبادي: 373، 208، جامع الرواة للأردبيليّ: 2 / 342، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 211، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 113.
3- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 325.
4- إبصار العين للسماويّ: 110.
5- جمهرة الأنساب لابن حزم: 9، 292، 295.
6- الأنساب للسمعانيّ: 4 / 135.

عزيز الزهراء، غريب الغرباء الإمام الحسين (علیهم السلام) .. فيكفيه فخراً وانتساباً حين يُنسَب إليه فيُقال: من أنصار الحسين (علیه السلام) !

قال السماويّ:

ممّا وقع في هذه الترجمة: (ثُبَيط) _ بالثاء المثلثّة، والباء المفردة، والياء المثنّاة تحت، والطاء المهملة _، علَمٌ مصغَّر، ويمضي فيبعض الكتب: ثبيت، وثبيط، وهما تصحيف ((1)).

المعلومة الثانية: بعض خصائصهم

قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :

كان يزيد من الشيعة، ومن أصحاب أبي الأَسود، وكان شريفاً في قومه ((2)).

وقال الحائريّ (رحمة الله) :

لهم ذِكرٌ في الحروب والمغازي.

وقال العسقلانيّ في (الإصابة): يزيد بن ثُبيط العَبديّ، من الشيعة، ومن أصحاب أبي الأَسود الدُّؤلي، وكان شريفاً في قومه ((3)).

ص: 133


1- إبصار العَين للسماويّ: 110.
2- إبصار العين للسماويّ: 110، العيون العَبرى للميانجيّ: 107، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 325.
3- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 224، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 211.

وقد فحصنا في نسختنا من (الإصابة)، فلم نجد لما ذكره السيّد الحائريّ أثَراً، سواءً الاسم المعروف أو الأسماء المحتمَلَة كتصحيف.

وما ذكره الحائريّ من كون يزيد العَبديّ هذا من أصحاب أبي الأَسود، إنّما ورد في كتاب الشيخ السماويّ (رحمة الله) كما سمعنا قبل قليل.

أمّا ما ذكره الشيخ السماويّ من صحبته لأبي الأَسود، فإنّ الشيخ كان صاحب مكتبةٍ وكتب، متضلّعاً واسع الاطّلاع، فربّما وقف على هذه المعلومة في كتابٍ ثمّ لم يوثّقها لنا.أمّا كونه من الشيعة، فلا شكّ في ذلك بعد موقفه ومبادرته لنصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء (علیها السلام) ، بل هو من ذُرى الشيعة وأشرف أشرافهم، هو وولداه!

أمّا قول الشيخ: «كان شريفاً في قومه»، فهو صادق، وإن لم يذكر المترجمون هذه المعلومة في كتبهم عنه، فهو أسمى وأعلى وأجلّ وأعظم ممّا يقولون فيه، مهما قالوا في الشرف ولن يبلغوا، بعد أن نال شهادة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) : «لا أعلم أصحاباً ...» ((1)).

فحقّ له أن يقول: كان أشرف قومه وأنبلهم وأعزّهم، بل كان شرف

ص: 134


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 418، الفتوح لابن أعثم: 5 / 169، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 74، الإرشاد للمفيد: 2 / 93، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 392، وغيرها..

قومه وعزّهم ومفخرهم.. وكلّ ما يُقال لبيان الرتبة الأعلى والغاية القصوى للفضل على قومه، بل على البشر أجمعين إلّا من استثناهم الله (تبارك وتعالى).

* * * * *

وقد شاء الله (تبارك وتعالى) أن يميّز هؤلاء الأوفياء الأبرار، فقد امتازوا بخصائص في كربلاء، منها:

أنّهم كانوا ممّن قُتِل آباؤهم معهم، إذ قُتِل الأب وابناه بين يدَي عزيز الزهراء (علیها السلام) ((1)).كما نالوا وساماً آخَر حين قُتِل كلا الأخَوَين ((2))، فواسوا بذلك الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) حين قُتِل مع إخوته.. وهذه ميزةٌ لهم أن يستشهد أَخَوان وأبوهم يوم الحسين (علیه السلام) ، ويرحلون معاً إلى رحاب الله ورسوله وأصحاب الكساء.

ولهم خصائص أُخرى يأتي الحديث عنها في محلّه إن شاء الله (تعالى)..

من قبيل: ملازمتهم لركاب الإمام (علیه السلام) من مكّة ومسايرتهم له، مدافعين محامين عن خدر رسول الله طيلة فترة المسيرة.

ص: 135


1- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 129.
2- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 130.

ومن قبيل: نيلهم شرف التواجد في معسكر الإمام (علیه السلام) بعد المحاصرة، وحضورهم ليلة العاشر من المحرّم، ولهذا التواجد خصائص غايةٌ في الأهمّيّة.

ومن قبيل: تعرّضهم للابتلاء والاختبار بعد إذن الإمام (علیه السلام) لهم، وثباتهم وإصرارهم على نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والدفاع عن آله.

وكون الأولاد من شهداء الحملة الأُولى، وغيرها..

المعلومة الثالثة: عُمُره

لم يصرّح التاريخ بمقدار عمر الأب ولا الأبناء..ولكن إذا أخذنا بالحساب، فإنّ التاريخ قد صرّح أنّ له عشرةً من الأولاد، هذا سوى البنات، فإذا كان بين كلّ واحدٍ والآخَر سنتان رضاعةً _ كما هو عادة القانون الإلهيّ في خلقه _ وتسعة أشهُر الحمل الّتي تكاد تكون سنةً كاملة، يكون مجموع الفترة زهاء ثلاثين عاماً، على فرض أن يكونوا من أُمٍّ واحدة، يُضاف إليها في القدَر المتيقّن خمسة عشر عاماً حدّ البلوغ، يكون المجموع خمسةً وأربعين عاماً، ومع افتراض وجود البنات أو التأخُّر قليلاً في الزواج، يخرج عمره من حدّ (الكهل) إلى حدّ (الشيخ) حسب التقديرات الواردة في روايات أهل البيت (علیهم السلام) ..

فهو _ إذن _ رجُلٌ كبيرٌ في السنّ، كبيرٌ في المنزلة.. بورك وبورك عمره وبوركت شهادته..

ص: 136

أمّا أولاده الكرام، فليس لنا ما يفيد لتقدير أعمارهم الشريفة.

المعلومة الرابعة: التحاقهم بالإمام (علیه السلام)
اشارة

مرّت الإشارة إلى خبر التحاق هذه الثلّة الطيّبة الطاهرة بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) في أكثر من موضع..

إجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس _ يُقال لها: مارية _ أيّاماً، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه، وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين (علیه السلام) ، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظرويأخذ بالطريق..

فأجمع يزيد بن ثُبيط الخروج _ وهو من عبد القيس _ إلى الحسين (علیه السلام) ، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله، وعُبيد الله.

فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج. فقالوا له: إنّا نخاف عليك أصحابَ ابن زياد! فقال: إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد، لَهان علَيّ طلَبُ مَن طلبني.

ثمّ خرج، فقوي في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ، فدخل في رحله بالأبطح.

وبلغ الحسينَ مجيؤه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رَحْل الحسين، فقيل له: قد خرج إلى منزلك. فأقبل في أثره، ولمّا لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، وجاء البصريّ فوجده في رحله جالساً،

ص: 137

فقال: ﴿بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ((1)). فسلّم عليه، وجلس إليه، فخبّره بالّذي جاء له، فدعا له بخير.

ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه، فقُتِل معه هو وابناه ((2)).وروى الشيخ السماويّ (رحمة الله) خبر الطبريّ، ثمّ قال:

ثمّ خرج وابناه، وصحبه عامر ومولاه وسيف بن مالك والأدهم بن أُميّة ((3)).

* * * * *

يمكن الوقوف عند هذا النصّ قليلاً واستفادة عدّة إفاداتٍ منه:

الإفادة الأُولى: وقت الاجتماع

ربّما أفاد هذا النصّ أنّ الاجتماع كان بعد خروج ابن زيادٍ من البصرة، إذ أنّه يشير إلى كتاب ابن زيادٍ إلى أخيه أن يضع المناظر ويأخذ الطريق.

والتاريخ لم يذكر لنا زمن كتابة الكتاب، إلّا أنّ السياق يفيد أنّه كتبه

ص: 138


1- سورة يونس: 58.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 387، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 325، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 224، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 254، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 211.
3- إبصار العين للسماويّ: 110، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 224، العيون العَبرى للميانجيّ: 107، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 212.

بعد خروجه من البصرة، من دون الإشارة إلى الموضع الّذي كتب منه، فهل كتب من الطريق، أو أنّه كتب بعد أن استقرّ في قصر الخبال في الكوفة؟

ربّما كان من المستبعَد أن يكتب من الطريق؛ لما كان فيه من العجلة والهلع، وقد اتّضحَت له الأُمور بعد دخول الكوفة والنظر إلى مجريات الأحداث فيها، فربّما يُقال: إنّه كتبه من الكوفة.

وربّما أفاد سياق الخبر أنّ كتاب ابن زيادٍ كان في وقتٍ متأخّرٍ جدّاً عناجتماع القوم في بيت مارية وخروج يزيد وأولاده من هناك، إذ أنّ الخبر يصرّح أنّ الكتاب كان على أثر بلوغ خبر إقبال الحسين (علیه السلام) ، والحال أنّ يزيد وأولاده لحقوا بالإمام (علیه السلام) في مكّة، فيلزم أن تكون حركتهم قبل أيّامٍ من خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة ليلحقوا به، ولابدّ من احتساب مدّة مسافة الطريق من البصرة إلى مكّة للمُجِدّ المُسرع.. والله العالم.

الإفادة الثانية: ظروف خروج يزيد وابنيه

في بلدٍ احتوى سباعاً ضاريةً ملأَتِ الأصقاع.. سيوفاً نائمةً في أغماد الحقد والضغينة على الحقّ ورجاله من آل أبي طالب، مواليةً للسلطان خاضعةً خانعةً له، تُعدّ في عديده..

مدينة كانت مغلَقةً على أعداء أهل البيت (علیهم السلام) .. كانت بحكم الشام، كما ورد في حديث أهل البيت (علیهم السلام) ، إذ لم تبكِ الحسين المظلوم (علیه السلام) حين بكته كلّ المخلوقات!

ص: 139

كلّ فردٍ في البلد يمكن أن يكون ذئباً ضارياً ووحشاً متغوّلاً على أنصار الحقّ..

صدرت الأوامر من ابن الأَمة الفاجرة أن تؤخَذ الطرق وتوضع المناظر.. فكلّ شيء مرصود.. لا يلج أحدٌ إلى البلد ولا يخرج منها خارجٌ إلّا بعد أن يفتَّش تفتيشاً دقيقاً..

وهذا يعني أنّ العساكر قد نُظمَت وانتشرت في كلّ مكان، والرباياوالمسالح قد نُصبَت على أفواه السكك والجوادّ..

البصرة محاصَرةٌ بالجند من جميع الأرجاء والنواحي، والعيون منثورةٌ في جميع الأنحاء، والجواسيس مزروعون وراء كلّ مخبأ..

بلدٌ ظلّله التوجّس، وعمّه الترقُّب والمراقبة.. وكلّ ما هبّ ودبّ موضعٌ للظنّة والتهمة.. والوجوه يغشاها الوجوم، والنظرات بين حادّةٍ ومختلسة.. والخوف هابطٌ بدوافعه، يقتحم القلوب الخاوية من حبّ الحسين (علیه السلام) ..

واحتمال الأخذ والقتل والصلب كامنٌ في أيّ سؤالٍ يمكن أن يعترض الماشي في طرقات البصرة والجوادّ المؤدّية إليها..

وقد سدّ العدوّ كلَّ الفروج، وأخذ بكظم جميع المنافذ، وأطبق الحصار على البلد إطباقاً خانقاً..

في مثل هذه الأجواء.. يعزم يزيد وأولاده أن يفلت من جميع القيود ويعبر جميع السدود، ويجتاز الأرض المسبعة في حلكة ظلام الجهل المخيّم

ص: 140

على الناس، ويجدّ السير ويركض بحوافر مركبه على رؤوس الأفاعي القرعاء المرقطة بسمّها الناقع، ويسلك طريق المجد وسبيل رضوان الله، ويلتحق بحبيب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ..

أجل، خرج ونجى بنفسه على ساحة القدس الأرحب!

الإفادة الثالثة: موقف الحاضرون

أشرنا فيما مضى إلى موقف الحاضرين في الاجتماع المشار إليه..ونعود إلى الإشارة هنا لبيان الأجواء الّتي خرج فيها يزيد متحرّراً من جميع قيود الأرض، محلّقاً بنشوة المنتصر عن أوحال الطين اللزج المثقل بزخارف الدنيا وسفاسفها..

كان المجتمعون في دار مارية العبديّة مدركين تماماً لما يجري في تلك الأيّام، والأخطارِ المحدقة بسيّد الأنام يومها الإمام الحسين (علیه السلام) .. وقد أصحروا عن كوامنهم وهواجسهم.. بيد أنّ المانع الّذي ذكروه ليزيد البطولة هو الخوف عليه من أصحاب ابن زياد!

هكذا الخوف عليه، لا على أنفسهم..

إنّهم لم يُعربوا عن خوفهم على أنفسهم من أصحاب ابن زياد، لأنّهم قد حسموا أمرهم، وعزموا على الخلود إلى التراب والالتزاق بطين دار الدنيا..

فهم قد قدّموا العذر ليزيد إن امتنع عن الخروج واللحاق بركب السعداء، وكأنّهم أرادوا الإعراب عن عذرهم أيضاً لو كانوا أرادوا الإقدام

ص: 141

على ما أقدم عليه.. بَيد أنّهم لم يقدموا، ولم يعزموا، ولم يعتذروا لأنفسهم!!

الإفادة الرابعة: موقف الأولاد!

هكذا هو إمام الرحمة والعدل سيّد الشهداء، والأشعّة المتّصلة به من أنصاره.. لم يفرضوا على أحدٍ موقفاً!

كان يزيد العَبديّ شرف قومه وشرف أهله وسيّدهم، بيد أنّه اكتفىبعرض الأمر على أولاده عرضاً، وترك لهم الخيار في اتّخاذ القرار..

أخبرهم عمّا أزمع عليه، وعن عزمه وتقدُّمه في الأمر، وترك لهم الاختيار..

كانوا عشرة.. وكانت الشيَم والأخلاق العامّة عند العرب يومها أن ينصر الابنُ الأبَ ويتفانى في الدفاع عنه.. كان الولاء القبَليّ والعشائريّ كافياً عند الناس لتبذل فيه الأرواح والأعراض والأموال، فإذا أراد الشيخ حرباً لبسوا لها لامتها وتفانوا فيها لمجرّد الانتماء.. وهكذا كان الأولاد مع الآباء، بل أشدّ وأقوى وأعمق في بناء المواقف والتبعيّة والمغامرة بكلّ شيءٍ من أجل الانتماء وحفظ اسم الأب وسمعته بين الأحياء..

غير أنّ يزيد الخير والسعادة لا يقيم لهذا الولاء وزناً، فلا يدعوهم به.. لا ولاء عند أصحاب سيّد الشهداء (علیه السلام) إلّا لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وبهذا قال مفتخِرُهم: «أميري حسينٌ ونِعمَ الأمير!» ((1)).

ص: 142


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 21، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 104، أسرار الشهادة للدربنديّ: 287.

هذه النسبة وهذا الولاء هو الحاكم عند جميع أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وإن كان الولاء للأهل وللآباء الأتقياء ممدوحاً..

تركهم يزيد السعادة هم وخياراتهم، فاختار منهم اثنان اللحاقَ بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتخلّف ثمانية!

اثنان مِن عشرة!

لماذا تخلّف هؤلاء الثمانية، مع أنّهم أبناء هذا الضيغم البطل؟!لا يذكر لنا التاريخ لهم عذراً، ولم يصرّحوا هم بعذرهم.. بَيد أنّهم لم يبلغوا الفتح بأنفسهم، وإنْ بلغوه بأبيهم وأخوَيهم.. فهنيئاً لمن بلغ و«أدرك بالحسين (علیه السلام) أكبر عيد».

الإفادة الخامسة: اجتماع العبديِّين

يبدو للناظر _ كما أشرنا سابقاً _ أنّ الملتحقين بركب السعادة هم في الغالب من العبديّين..

فحينما يطالعنا الشيخ السماويّ ليخبرنا أنّ الملتحقين صحبوا يزيد والتحقوا بالإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنّهم انطلقوا جميعاً من منتدى مارية العبديّة، ونجدهم في الأغلب عبديّين من قبيلةٍ واحدة.. فلنا أن نحتمل _ حينئذٍ _ أنّ المنتدى كان منتدىً للعبديّين في بيت واحدةٍ منهم.. وليس بالضرورة أن يكون المنتدى لجميع الشيعة!

هذا النوع من النوادي والمنتديات والمجالس كان منتشراً يومذاك، ولا

ص: 143

زال، وكان لكلّ قومٍ وجماعةٍ وقبيلةٍ وفخذٍ وما دون ذلك من التجمّعات مكانٌ يجتمعون فيه، يتسامرون ويتداولون فيه الأحاديث والقصص والأخبار، ويتبادلون فيه الآراء ويتّخذون فيه القرارات إن اقتضت الحاجة..

فإذا كان الأمر كذلك، تخرج القضيّة من الصورة الخاصّة الّتي رسمهاالمؤرّخ وضخّمها المحلّلون والمتابعون، ولا يكون موضعاً يجتمع فيه الشيعة سرّيّاً، وإنّما هو موضعٌ يجتمع فيه العبديّون ومَن له علاقةٌ بهم على رؤوس الأشهاد، كأيّ منتدىً لقبيلةٍ أُخرى كانت تعيش تلك الأيّام ضمن الأعراف العربيّة السائدة!

وهذا القول لا يُبايِن ما ذكره الطبريّ بعد أن قرّر أنّ مارية نفسها كانت تتشيّع، ثمّ قال: «وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه» ((1))؛ إذ أنّ الشيعة كانوا في البصرة _ وفق ما عرفنا من انتماءات الملتحقين القبَليّة _ من العبديّين، فإذا كان هناك غيرهم من الشيعة، فإمّا أنّهم كانوا يجتمعون معهم لقلّتهم، أو أنّهم كانت لهم مجالسهم ومنتدياتهم حسب انتماءاتهم..

واجتماع الشيعة من العبديّين وتوابعهم في بيت مارية يؤهّله لإطلاق اسم المألف عليه.

ص: 144


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
الإفادة السادسة: خروج البصريّين الآخَرين معه!

ما وجدناه في رواية الطبريّ وغيره من المؤرّخين، إنّما هو خروج يزيد وابنيه من بيت مارية بعد أن حذّره القوم.. والهفهاف الّذي وصل كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) .. والحجّاج الّذي قيل أنّه حمل كتاب يزيد ابن مسعود، وسيأتي الكلام فيه..أمّا الآخرون، فلم نجد _ تلويحاً ولا تصريحاً _ في المصادر المتوفّرة لدينا ما يشير إلى زمان ومكان لحاقهم بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إلّا ما ذكره الشيخ السماويّ (رحمة الله) ، وأخذ عنه مَن تأخّر عنه..

فبعد أن روى الشيخ (رحمة الله) خبر الطبريّ، وهو _ كما سمعناه _ لم يذكر شيئاً عن التحاق أحدٍ سوى الثلاثة المسارعين إلى جنان الحسين (علیه السلام) ، قال الشيخ (رحمة الله) :

ثمّ خرج وابناه، وصحبه عامر ومولاه وسيف بن مالك والأدهم بن أُميّة ((1)).

ونحن لا ندري من أين حصلَت هذه المعلومة عند الشيخ (رحمة الله) ، فهي إمّا استنتاجٌ منه تصيّده من سياقات الأحداث والأخبار، أو أنّه وقع عليه في مصدرٍ لم يذكره لنا وهو غير متوفّرٍ لدينا إلى اليوم!

ص: 145


1- إبصار العين للسماويّ: 110، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 224، العيون العَبرى للميانجيّ: 107، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 212.

وسيأتي الكلام عن ذلك في مواضعه، إن شاء الله (تعالى).

الإفادة السابعة: مخالفة القوم!

ذكرنا الحوار وتفاصيل ما دار بين يزيد السعادة واليُمن والبركة، وبين القوم الحاضرين في بيت مارية، فلا نعيد هنا.

غير أنّ ثَمّة نقطةً جديرةً بالالتفات سنركّز التنويه إليها هنا:كانت المخاطر تحفّ بيزيد وأولاده وتُحدِق بهم، وكانت المنيّة تحوم عليهم، وكانت الأجواء مشحونة، والحصار مُطبق، والبصرة بقضّها وقضيضها وكبيرها وصغيرها يخالفهم في الموقف، وكان الجميع يحذّرونهم، بما فيهم المجتمعون معهم ممّن أطلقوا عليهم اسم الشيعة..

لم يكن في الأُفق أملٌ يُرتجى.. لم يحصل لهم أحدٌ يشجّعهم ويشدّ عزمهم.. كان كلّ شيءٍ يثبّطهم ويُثنيهم عن عزمهم.. الأجواء.. الظروف.. الأحداث.. الأعداء.. الوالي والجُند والعساكر المنتشرة في كلّ مكان.. الشيعة المجتمعون معهم..

بَيد أنّ شيئاً واحداً كان يثير العزم فيهم، ويثوّر الهمم، ويجيّش العواطف.. كانت فرحة اللقاء بالحسين (علیه السلام) .. الابتهاج بالنظر إلى وجه الله الحبيب..

كانت الفرحة والبهجة والشوق الّذي لا تحدّه حدود القلوب، والحبّ الّذي لا يحتويه شغاف الأفئدة، والبشرى الّتي لا تطيقها النفس البشريّة

ص: 146

العاديّة بلقاء ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والدفاع عن عزيز الزهراء (علیها السلام) ، والذبّ عن عيال الله.. تثير في كيانهم عزماً لا تحتمله الجبال الرواسي، ولا تصدّه جيوش الأرض..

خرجوا.. وأمل الانضمام إلى رحل الحسين يراودهم، واتّخذوا جدد الطريق سُلّماً ارتقوا فيه إلى أعلى علّيّين..خرجوا.. والانتماء إلى رحل سيّد الشهداء (علیه السلام) يحفّزهم، لتلتهم حوافر مراكبهم المسافات، وتطوي لهم الطريق، وتحقّق لهم الآمال..

لم تكن الموانع والسدود والمناظر والمسالح لتصدّهم، وإنّما كانت حوافز اللقاء والانضمام إلى رحل الحسين (علیه السلام) تجرّهم وتدفعهم بأقوى ما يكون.. فقووا في الطريق، وهان عليهم طلب مَن يطلبهم..

قويَت عزيمتهم، وحوّلت الموانع دوافع، لتحقيق الأمل المرتَجى في لقاء حبيب القلوب والدفاع عنه وبذل الدم والروح بين يديه، وقد سمحَت أنفُسُهم بمهجهم للذبّ عن مهجة الرسول والوصيّ والبتول (علیهم السلام) ..

لم ينتظروا أحداً، ولم يتذرّعوا بتجهيزٍ ولا إعداد عدّة، فعدّتهم التوكّل على الله والطاعة لوليّ الأمر الحسين (علیه السلام) ..

أعلموا مَن ينبغي إعلامه، ثمّ انطلقوا.. فلْيحق مَن شاء كما لحقوا.. والفرص تمرّ مرّ السحاب، وفي مِثل هذا فلْيتنافس المتنافسون، ولْيسارع مَن أراد أن يتّخذ إلى رضوان الله سبيلاً.. ولا يمنعه المتثاقل المتردّد من الهجرة إلى الله وإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولا يخسر حظّه طمعاً في أن يربح الآخَرون معه!

ص: 147

الإفادة الثامنة: المسابقة إلى اللقاء!

بدنٌ مكدود.. يكاد المتلقّي يقدّر ذلك حين يسمع كلامه وهو يُعرِب للقوم في بيت مارية عن عزمه أنّه يسابق الريح ويستعجل الزمن، ويطويالطريق براحلةٍ يحثّها لتسرع حتّى لا تكاد حوافرها تلامس الأرض، ولا تكاد سيقانها تُرى كالمروحة إذا دارت بأقصى سرعتها..

قطع المسافة بين البصرة ومكّة لا يلوي على شيء.. يطوي الفيافي، ويخدّ الرمال، ويجتاز المفاوز، تعلو به الراحلة وتنخفض، وهو يتحامل على وعثاء السفر ومتاعبه..

بَيد أنّ الروح والريحان والراحة بلقاء ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا تبقي للتعب والنصب أثراً..

وصل إلى مكة.. توجّه فوراً إلى إمامه، وكأن لم يكن قد مسّه نصَبُ السفر وعضّ ظهر المركب ظهره وبدنه..

سارع إلى الإمام (علیه السلام) بمجرّد أن وطأَت أقدامه أرض الأبطح.. ليس له غايةٌ سوى اللقاء بالحسين (علیه السلام) !

وسيّد الكائنات يومها الإمام الحسين (علیه السلام) بلغه مجيؤه!

سيّد الشهداء (علیه السلام) .. إمامٌ خلقه الله ليكون إماماً، ويكون خامسَ أصحاب الكساء.. أعطاه الله ومنحه ما يريد أن يعطيه ويهبه، ليكون إماماً.. فهو بقدراته وما أغناه الله به لا يُقاس به أحد..

لكن حسب ما نراه بقوانا البشريّة المحدودة.. نراه في تلك الأيّام

ص: 148

المزدحمة بالأحداث الساخنة الملتهبة.. لقاءات.. معارضون.. مفاوضات.. استعدادٌ للسفر مع الأهل والعيال، في سفرٍ ليس كباقي الأسفار،سفرٍ ترفرف المنايا على أفراد الركب.. كانت المشاغل والأخطار والمنايا تحوم حول الركب وتحدق به، وتطوّقه من كل جانبٍ ومكان..

يسمع الإمام بمجيء هذا البطل الضرغام، فيطلبه..

يا لله.. يكاد القلب يطير من شغافه، وينخلع ليفلت من الصدر.. لا يكاد القارئ يطيق تصوّر المشهد.. إنّه مشهدٌ عظيم!

أيكون الرجل بمحلٍّ ومكانٍ حتّى يطلبه الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) بمجرّد أن يبلغه مجيؤه؟!!

مَن هذا الرجل العظيم الّذي نال هذه الرتبة، وحاز هذا المقام الرفيع، وتربّع على ذُرى المجد والسموّ والسموق والسؤدد؟!

جعل الإمام (علیه السلام) يطلبه.. الإمام الحسين (علیه السلام) .. الحسين (علیه السلام) يطلبه!

أحسب أن لو جمع الكاتب عمره، وحشد عساكر المفردات والصور، وفكّر وتخيّل ما وسعه، لا يكاد يستطيع تصوير هذا اللقاء، وتقدير هذا الموقف، ورسم هذا المشهد!

كان الإمام (علیه السلام) يعرفه.. يعرفه باسمه ورسمه.. وإذا عرفه الإمام (علیه السلام) فلْيتنكّر له التاريخ والمؤرّخ والمترجمون، ومَن يسمّونهم علماء الرجال..

عرفه الإمام (علیه السلام) ، فلا يمكن أن يكون مجهولاً.. إنّه أعظم مِن عَلَم، وإنْ جهله أهل الأرض..

ص: 149

أيمكن أن يُستفاد من هذا النصّ أنّ الإمام (علیه السلام) كان على موعدٍ معه؟!أكان الإمام (علیه السلام) قد أنس وهشّ بمجيئه، حتّى بادر إليه يطلبه؟

مَن كان يزيد هذا حتّى يطلبه الإمام (علیه السلام) فور بلوغه خبر وصوله؟

إنّ له لَمكاناً ومنزلةً لا نحسب أنّا نقوى على بلوغ إدراكها وتقديرها والحديث عنها..

يخرج هو للقاء الإمام (علیه السلام) فور وصوله.. ويطلبه الإمام الحسين (علیه السلام) فور بلوغه خبر وصوله..

لا يمكن أن يُقال في المقام سوى أنّ العجز يسيطر تمام السيطرة على مَن يقرأ هذا الموقف، ويريد أن يتحدّث عنه.. لا سبيل إلّا الإقرار أنّ الذهن الحاذق والأدب البارع واللغة الواسعة والقلب الواعي والأحاسيس الجيّاشة والعواطف المتوقّدة تخبو وتتهاوى، وتعترف بالقصور عن وصف ما جرى..

يهنيك اللقاء يا يزيد العَبديّ.. يهنيك اللقاء.. ورزقنا الله ببركتك وببركة سيّدك وسيّدنا وحبيبك وحبيبنا النظر إليه في الدنيا والآخرة..

هكذا هو الحسين (علیه السلام) الرؤوف مع أنصاره وأحبابه وأوليائه يطلبهم.. وقد وردَت الرواية تبشّر زوّاره أنّه سيطلبهم يوم الغربة والفزع الأكبر، بل سيطلبهم جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم المحشر، فيأخذ بأعضادهم، ويعرفهم بسيماهم وبأنوار دموعهم الّتي ستشعّ في أرض المحشر نوراً يسعى بين أيديهم..

ص: 150

خرج يزيد لينعم بلقاء الإمام (علیه السلام) ، وجاء إلى رَحْله، وإذا بالإمام (علیه السلام) قدخرج إلى منزله!

الفائدة التاسعة: يزيد يرجع إلى رَحْله

أقبل معدن الرحمة والرأفة والتواضع في أثر يزيد، فلمّا لم يجده جلس في رحله ينتظره..

يا لله.. ما أعظم تواضع الإمام (علیه السلام) ! كان بالإمكان أن يرجع إلى رحله، ليأتي يزيد ثَمّ ويتشرّف بلقاء إمامه.. غير أنّ الإمام (علیه السلام) جلس ينتظره..

كلّ مؤمنٍ في الكون يتمنّى أن ينعم بالنظر إلى وجه الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويحظى بلقائه، ويسعد بلحظات الانتظار لهذا اللقاء.. ويزيد هذا السعيد ينتظره الإمام (علیه السلام) !

الشعاع يحنّ إلى قرصه.. لذا عجّل يزيد الرجوع إلى رحله حين عرف أنّ الإمام (علیه السلام) قد طلبه..

لا أدري كيف يمكن مَن يواجه هذا المشهد أن يصف حال يزيد وهو يرجع إلى رحله؟!

الفائدة العاشرة: فبذلك فلْيفرحوا!

إنّ الرجل فقيهٌ عالمٌ بكتاب الله، وبما رزقه الله من معرفة مقام الإمام (علیه السلام) .. فإنْ كان شيءٌ يستحقّ الفرح فهو هذا..

إنْ فرحوا بشيءٍ فلْيحصوه بالفرح هذا، فإنّه لا مفروح به أحقّ من

ص: 151

الفرح بفضل الله وبرحمته، فلْيعتني بهما ولْيفرح لذلك ((1)).

إنّما يكون فرحه بجميل نظر الله، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم.. فكأنّه ظهر له أنّه عند الله مقبول، ففرح به ((2)).

ففضلُ الله النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ورحمتُه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، كما قال الإمام الباقر (علیه السلام) ((3)).

فمَن قسَمَ الله له حُبّ أهل البيت، فهو خيرٌ له من سلطان هؤلاء، وخيرٌ له ممّا يجمعون ((4)).

وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «فلْيفرح شيعتُنا، هو خيرٌ ممّا أعطى عدوّنا من الذهب والفضّة» ((5)).

فلْيفرح بالإقرار بنبوّة محمّد (صلی الله علیه و آله) ، والائتمام بأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، فهو خيرٌ له ممّا يجمع هؤلاء في دنياهم ((6)).

فلْيفرح بولاية محمّدٍ وآل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين)، هو خيرٌ

ص: 152


1- أُنظر: مرآة العقول للمجلسيّ: 14 / 177.
2- أُنظر: تنبيه الخواطر لورّام: 2 / 188.
3- أُنظر: تفسير فرات: 180.
4- أُنظر: تفسير فرات: 180.
5- أُنظر: تفسير العيّاشيّ: 2 / 124 ح 28.
6- أُنظر: تفسير العيّاشيّ: 2 / 124 ح 29.

ممّا يجمع هؤلاء في دنياهم ((1)).

فلْيفرح شيعتنا، هو خيرٌ ممّا أُعطوا أعداؤنا من الذهب والفضّة ((2))..

وفي (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام)): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : فضل الله (عزوجل) :القرآن والعلم بتأويله، ورحمته: توفيقه لموالاة محمّدٍ وآله الطيّبين، ومعاداة أعدائهم. ثمّ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : وكيف لا يكون ذلك خيراً ممّا يجمعون، وهو ثمن الجنّة ونعيمها؟ فإنّه يكتسب بها رضوان الله (تعالى) الّذي هو أفضل من الجنّة، ويستحقّ بها الكون بحضرة محمّدٍ وآله الطيّبين الّذي هو أفضل من الجنّة، وإنّ محمّداً وآلَه الطيّبين أشرفُ زينةٍ في الجنان» ((3)).

هذه هي الفرحة.. وبها فرح يزيد، وحقّ له أن يفرح!

الفائدة الحادية عشرة: سياق الآية الكريمة

حين نقرأ الآية في سياقها، وقد جاءت تتمّةً للآية الّتي سبقَتها، نجد قوّة التوظيف، وعظمة الروح، وسموّ الذات، ونتحسّس طعم الذوق الرفيع، وندرك عمق المعرفة عند هذا الرجل الفادي بنفسه وولده لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

قال الله (عزوجل) :

ص: 153


1- أُنظر: الكافي للكليني: 1 / 423 ح 55.
2- أُنظر: تفسير القمّي: 1 / 313.
3- تفسير الإمام العسكري (علیه السلام) : 15.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ((1)).

جاءتكم موعظةٌ من ربّكم..جاءكم شفاءٌ لما في الصدور..

جاءكم هُدى..

جاءكم رحمةٌ للمؤمنين..

جاءه إمامُه الحسين (علیه السلام) ..

هذا هو فضل الله ورحمته..

هو خيرٌ ممّا يجمعون.. للدنيا!

ما أروع التوظيف واستحضار الآية بداهة!

الفائدة الثانية عشرة: الإخبار عن سبب المجيء

إنّها مفاجأةٌ أجمل وأروع من أيّ مفاجأةٍ يرجوها المؤمن في حياته الدنيا وفي الآخِرة.. أنْ يدخل رَحْله فيجد إمامَ الكون ووليّ أمره ينتظره في منزله..

سلّم عليه، وجلس إليه.. فخبّره بالّذي جاء له..

ص: 154


1- سورة يونس: 57 و58.

جاء لينصر إمامه.. جاء ليذبّ عن حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعياله.. جاء ليفدي سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه وولده.. جاء ليجعل نفسه لنفسه الوقاء، ودمَه لدمه الفداء.. جاء ليأخذ بحظّه الأوفر، ويفوز بالشهادة العظمى بين يدَي سيّد شباب أهل الجنّة.. جاء ليمتلك ناصية المجد في الدارين، وينال رضوان الله ورضى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ورضى أمير المؤمنين وفاطمة سيّدة نساء العالمين (علیهما السلام) ..جاء لينعم بالنظر إلى وجه الحسين (علیه السلام) ، ويدخل في رحله.. يدخل في رحل سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فسمع الجواب من الإمام (علیه السلام) ، إذ دعا له بخير.. وقد استجاب الله دعاء حبيبه، فنال يزيدُ درجة: «لا أعلمُ أصحاباً».. نال درجةً ترك مَن بعده من الخلق أجمعين يردّدون: (يا ليتنا كنّا معك).. درجةً يتمنّاها جميع الخلق، من الأوّلين والآخِرين..

وممّا يُؤسَف له أنْ ترك المؤرّخ المشهد صورةً عبّر عنها بكلمتين، ثمّ ختم الموقف.. واكتفى بقوله: فأخبره الّذي جاء له.. ولم يشرح لنا ما قاله ويفصّل لنا خبره، ولم يذكر لنا ما دعا به الإمام (علیه السلام) له..

الفائدة الثالثة عشرة: اختزال الموقف

هكذا اختزل المؤرّخ الموقف، واكتفى بذلك عن التفصيل..

أخبره بالّذي جاء له.. ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه فقُتِل معه،

ص: 155

هو وابناه..

يلزم أن يكون يزيد وابناه قد أحرموا حين دخلوا الميقات وحدود الحرم، إذ أنّ اللقاء كان بالأبطح من مكّة.. فهل ذهب يزيد وابناه ليعتمروا ويحلّوا إحرامهم، ثمّ التحقوا بالإمام (علیه السلام) ؟

يبدو أنّ هذا هو المفروض، لأنّ المؤرّخ لم يذكر له دخولاً إلى مكّة بعد أن التقى الإمام (علیه السلام) ، وإنّما أكّد على ملازمته له وإقباله معه حتّى أتىكربلاء، فقاتل فقُتِل..

هكذا هو المؤرّخ يختزل الأحداث، إذ يترك يزيد وابنيه بعد أن ينقل رحله إلى رحل بيت النبوّة ومعدن الرسالة وينضمّ إليهم، وتنقطع أخبار يزيد وابنيه إلى حين الشهادة في كربلاء.

المعلومة الخامسة: استشهادهم

هذا الرجل العظيم الّذي بادر سيّدُ الكائنات يومذاك الإمام الحسين (علیه السلام) إلى زيارته فور بلوغه خبر وصوله، لم يحدّثنا المؤرّخ عن شهادته، واكتفى الطبريّ بذِكر ملازمته ركاب الإمام (علیه السلام) من مكّة حتّى الشهادة، فقال:

ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه، فقُتِل معه هو وابناه ((1)).

ص: 156


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 387، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 325، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 224، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 254، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 211.

وقال العلّامة ابن شهرآشوب (رحمة الله) في (المناقب) _ وهو يعدّ أسماء شهداء الحملة الأُولى _ :

المقتولون من أصحاب الحسين (علیه السلام) في الحملة الأُولى: ... عبد الله وعُبيد الله ابنا زيدٍ البصريّ ((1)).

وقال الشيخ السماويّ:

وما زال معه حتّى قُتِل بين يدَيه في الطفّ مبارزةً، وقُتِل ابناه فيالحملة الأُولى، كما ذكره السرويّ ((2)).

ونقل الشيخ المامقانيّ عبارة الشيخ السماويّ، وأضاف:

وقد زادهم شرفاً على شرف الشهادة تسليمُ الحجّة المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عليه وعليهما بالخصوص في زيارة الناحية المقدّسة ((3)).

هذا ما توفّر لدينا _ حسب الفحص _ في شهادتهم..

ص: 157


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 373 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 64، العوالم للبحرانيّ: 17 / 341، نفَس المهموم للقمّيّ: 295، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 330.
2- إبصار العين للسماويّ: 111، العيون العَبرى للميانجيّ: 108.
3- تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 325.

ربّما استفاد الشيخ السماويّ طريقة شهادة الأب وصرّح أنّه قُتِل مبارزةً باعتبار أنّ اسم ولدَيه ورد في عِداد شهداء الحملة الأُولى حسب نصّ الشيخ ابن شهرآشوب، ولمّا لم يذكر الأب معهما، فلابدّ أن يكون قد قُتل مبارزة..

ولكنّهم لم ينصّوا على قاتله، ولا على حوادث مبارزته، ولم يسجّلوا له رجَزاً كما هو عادة مثل هؤلاء الأبطال حين يخبطون عسكر العدوّ بحملاتهم.

المعلومة السادسة: رثاؤهم

روى الشيخ ابن نما في (المثير) قال:

حدّث أبو العباس الحِميَريّ: قال رجلٌ من عبد القيس قُتِل أخوه مع الحسين (علیه السلام) ، فقال:

يا فروُ قومي فاندبي

خيرَ البريّة في

القبورِوابكي الشهيدَ بعَبرةٍ

مِن فيض دمعٍ ذي درورِ

ذاك الحسينُ مع التفجُّ

-عِ والتأوُّهِ والزفيرِ

قتلوا الحرام من الأئمّ-

-ةِ في الحرام من الشهورِ ((1))

وقال الشيخ السماويّ:

ص: 158


1- مثير الأحزان لابن نما: 61.

وفي رثائه ورثاء ولدَيه، يقول ولده عامر بن يزيد:

يا فروُ قومي فاندبي

خيرَ البريّةِ في

القبورِ

وابكي الشهيدَ بعَبرةٍ

مِن فيض دمعٍ ذي درورِ

وارثِ الحسينَ مع

التفجُّ

-عِ والتأوُّهِ

والزفيرِ

قتلوا الحرام من الأئمّ

-ةِ في الحرامِ من

الشهورِ

وابكي يزيدَ مجدَّلاً

وابنَيه في حرّ

الهجيرِ

مترمّلين، دماؤهم

تجري على لُبب النحورِ

يا لهف نفسي لم تفُزْ

معهم بجناتٍ وحورِ

في أبيات، كما ذكر ذلك أبو العبّاس الحِميَريّ وغيرُه من المؤرّخين ((1)).

هكذا قال الشيخ السماويّ: «وغيره من المؤرّخين».. وأنّ ما رواه إنّما هي أبياتٌ ضمن قصيدةٍ لها تتمّة، بشهادة قوله: «في أبيات»، وممّا يؤسَف لهحقّاً أن لا تصل إلينا الأبيات إلّا عن طريق الشيخ.

والأبيات تكتسب أهميّةً خاصّة؛ إذ أنّها صدرت عن معاصرٍ للمصيبة، فهي توثيقٌ وروايةٌ لبعض الأحداث، وعرضٌ لمشاعر الراثي الّذي يتلمّظ طعم المرارة في لهواته، وعرض تحسّره وزفراته على ما فاته من الفوز بالنصرة..

ص: 159


1- إبصار العين للسماويّ: 111، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 254.

وأعرب عن تفجُّعه أوّلاً وقبل كلّ رزءٍ ومصيبةٍ بمصيبة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) ، ودعا (فرو) لتندبه أوّلاً، ثمّ عرّج على ذكر شهيده ومصيبته بأهله.. ولا ندري ربّما كانت فرو هذه واحدةً من بنات يزيد وأُختاً للشهيدَين العبدَين الصالحَين..

إنّه وثّق _ كمثالٍ _ أنّ يزيد وابنيه جُدّلوا في حرّ الهجير.. وفي ذلك جوابٌ لبعض متأخّري المتأخّرين الّذين اعتمدوا حساباتٍ باردةً وأقوالاً لبعض المؤرّخين يعملون بالحساب، فحكم أنّ فجائع عاشوراء كانت في وقتٍ بارد!!!

المعلومة السابعة: ذِكرهم في زيارة الناحية المقدّسة

ورد في نسخة (المزار الكبير) للمشهديّ: «السلامُ على زيد بن ثُبيت القَيسيّ» ((1)).. ولم يذكر ولدَيه.وفي نسخة السيّد ابن طاووس: «السلامُ على زيد بن ثُبيت القيسيّ، السلامُ على عبد الله وعُبيد الله ابنَي يزيد بن ثُبيت القيسي» ((2))، وفي نسخة: «ثُبيط».

فربّما كان اختلاف الاسم هذا هو الّذي دعا الشيخ النمازيّ ليقول:

ص: 160


1- المزار لابن المشهديّ: 494.
2- الإقبال لابن طاووس: 3 / 78.

زيد بن ثُبيت القَيسيّ: لم يذكروه، وهو من شهداء الطفّ، وتشرّف بسلام الناحية المقدّسة ((1)).

وقال في يزيد بن ثُبيط:

من شهداء الطفّ، كما في (فرسان الهيجاء) وغيره.

وقال العلّامة المامقانيّ _ بعد أن ذكره وذكر شهادة ابنيه عبد الله وعُبيد الله _ :

وقد زادهم شرفاً على شرف الشهادة تسليمُ الحجّة المنتظر (علیه السلام) بالخصوص في زيارة الناحية المقدّسة.

أقول: لم أجد اسمه ولا اسمهما في الزيارة المذكورة المنقولة في (البحار) في العاشر وكتاب المزار، وإنّما الموجود: «السلامُ على زيد بن ثُبيت القَيسيّ، السلام على عبد الله وعُبيد الله ابنَي يزيد بن ثُبيت القَيسيّ».

والشيخ في (رجاله) في أصحاب الحسين (علیه السلام) عدّ يزيد بن ثُبيط من دون وصف ((2)).

4. الأدهم بن أُميّة البصريّ

اشارة

يمكن أن نستجلي ما يتوفّر من معلوماتٍ مقتضبةٍ عن هذا الشعاع الناصع والسيف البتّار القاطع من سيوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من خلال

ص: 161


1- مستدركات علم الرجال للنَّمازيّ: 3 / 463.
2- مستدركات علم الرجال للنَّمازيّ: 8 / 247.

التلميحات التالية:

التلميح الأوّل: النسَب

نسبه الرسّان في (تسمية مَن قُتِل) _ ومَن تلاه _ إلى عبد القيس وإلى البصرة، فقال:

قُتِل من عبد القيس من أهل البصرة: الأدهم بن أُميّة ((1)).

وقال الشيخ السماويّ:

العَبديّ البصريّ ((2)).

والعَبديّ هي النسبة إلى عبد القيس، والبصريّ نسبةً إلى البلد.

فهو ينتسب إلى نفس النسبة الّتي ينتسب إليها يزيد بن ثُبيط وأولاده.

وقال الحائريّ في (ذخيرة الدارَين):

ومنهم: الأدهم بن أُميّة العَبديّ البصريّ.

قال في (الإصابة): هو الأدهم بن أُميّة بن أبي عُبيدة بن همّام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيدالعَبديّ ((3)).

ص: 162


1- تسمية مَن قُتل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121.
2- إبصار العين للسماويّ: 112، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610.
3- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 265، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 99.

وقال السيّد الأمين:

الأدهم بن أُميّة العَبديّ البصريّ:

في كتابٍ لبعض المعاصرين، عن ابن سعدٍ في محكي (الطبقات): إنّ أباه أُميّة صحب النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ثم سكن البصرة، وأعقب بها.

ولم نجد لذلك في (الطبقات) أثراً، ولا في الكتب المستقصى فيها أخبار الصحابة، ك- (الاستيعاب) و(الإصابة) و(أُسد الغابة)، ولو كان كذلك لَذُكر في أحدها ((1)).

أجل، الموجود في (الطبقات) و(الإصابة) وغيرهما: هو أُميّة بن مخشى الخزاعيّ ((2))، وله حديثٌ يرويه حفيده عنه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في آداب الأكل، أمّا أن يكون هو أبو الأدهم فلا دلالة على ذلك ولا إشارة في الكتب الّتي ذكرته.

وفي (الإصابة) و(الاستيعاب) وغيرهما:

أُميّة بن أبي عُبيدة بن همّام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميميّ الحنظليّ، والد يعلى بن أُميّة الّذي يُقال له: يعلى ابن منيّة، وهيأُمّه، أُميّة أبوه،

ص: 163


1- أعيان الشيعة للأمين: 3 / 232.
2- الطبقات لابن سعد: 7 / 12، الاستيعاب لابن عبد البر: 1 / 38، أُسد الغابة لابن الأثير: 1 / 120، الإصابة لابن حجَر: 1 / 80 الرقم 260، الرجال للطوسيّ: 6، جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 109 الرقم 789، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 499.

ولابنه يعلى صحبة، وصحبة ابنه أشهر ((1)).

والظاهر من عبارة صاحب (الذخيرة) الخلط بين أُميّة التميميّ وأُميّة الخزاعيّ، وجعلهما واحداً.

ولا يخفى أنّ مِثل هذا الانتساب الواضح الّذي يذكره صاحب (الذخيرة) لا يبعد عن متناول أرباب الفنّ وخبراء الصنعة من أمثال الشيخ السماويّ (رحمة الله) .

ولا يبدو أنّ ثَمّة حاجةً ملحّةً لهذا التكلُّف، فالأدهم _ كغيره من أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) _ قد ارتقى ذُرى شرف الانتساب إلى رحل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ودخل دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فلا شرف في النسب يرقى إلى شرف النسبة إلى أنصار الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .

التلميح الثاني: صحبته

الأدهم بن أُميّة العَبديّ البصريّ، صحابيّ، ثمّ سكن البصرة ((2)).

يبدو أنّ الشيخ قد وقف على ما قاله صاحب (الذخيرة) أو مَن نقل عنه، فقال ذلك، فإنْ كان هذا هو المستنَد في قوله فقد تبيّن لنا الأمر قبل قليل، وإن كان له مستندٌ آخَر اعتمده ولم يذكره فهو ذاك.

ص: 164


1- أُسد الغابة لابن الأثير: 1 / 119، الإصابة لابن حجَر: 1 / 80 الرقم 257، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 38، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 499.
2- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 1 / 533.
التلميح الثالث: التحاقه بالإمام (علیه السلام)

قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :

كان الأدهم من الشيعة البصريّة الّذين يجتمعون عند مارية، فخرج إلى الحسين مع يزيد ((1)).

ونقل صاحب (الذخيرة) و(الوسيلة) عبارة الشيخ السماويّ في ترجمة يزيد بن ثُبيط، والتحاقَ الأدهم به وخروجَه معه ((2)).

وقد أفاد الشيخ السماويّ (رحمة الله) هنا معلومتَين مهمّتَين في شأن الأدهم، إذ أنّه قرّر أنّه كان من الشيعة البصريّة الّذين يجتمعون عند مارية، كما قرّر أنّه كان ممّن خرج مع يزيد بن ثُبيط إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وكِلا المعلومتين انفرد بهما الشيخ السماويّ، فهما إمّا أن تكونا استنتاجاً منه _ حشره الله مع الحسين (علیه السلام) _، وإمّا أن يكون قد وقف عليهما في كتابٍ لم يصل إلينا، فنقلها من دون تصريحٍ باسم المصدر، والله العالم.

التلميح الرابع: استشهاده

قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :

وما زال معه حتّى قُتِل بين يديه في كربلاء مبارزةً بعد صلاة

ص: 165


1- إبصار العَين للسماويّ: 112، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 232.
2- ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 265، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 106، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 232، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 99.

الظهر ((1)).

قال صاحب (الحدائق): قُتِل مع الحسين. ولم يذكر غير ذلك.

وقال غيره: قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتل من أصحاب الحسين ((2)).

وخلط البعض فنقل عبارة الشيخ جملةً واحدة، ونسب ما رواه الشيخ عن صاحب (الحدائق) وما رواه عن غيره فنسبه جميعاً إلى صاحب (الحدائق) ((3)).

فإن كان قد استُشهد في الحملة الأُولى _ كما نسب الشيخ السماويّ إلى غير صاحب (الحدائق)، ولم نقف عليه _، فقد نال شرف الخصائص الّتي اختصها الله بهذه الثلّة الطيّبة.

وإنْ قُتل مبارزةً، فإنّ المؤرّخ قد أغفل تفاصيل شهادته ومبارزته، ولم يذكر لنا قاتلَه ولا ظروف مبارزته، ولم يسجّل له رجَزاً.

بَيد أنّ العمومات الواردة في التاريخ تجري عليه كسائر الأنصار (رضوان الله عليهم)، فيلزم أن يكون قد تقدّم للاستئذان بين يدَي إمامه

ص: 166


1- إبصار العَين للسماويّ: 112.
2- إبصار العَين للسماويّ: 192.
3- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 266، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 106، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 232، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 100.

الغريب، وسلّم عليه وودّعه، وشيّعه الإمام (علیه السلام) بتلاوة قوله (تعالى): ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ﴾ ((1)).. ثمّ إنّه لما صُرع مشى إليهسيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما كان يفعل مع باقي الأنصار، وغيرها من العمومات الّتي ذكرها المؤرّخ في الأنصار الأبرار.

5. الحَجّاج بن بدر التميميّ

اشارة

ممّا يُؤسَف له أسفاً لا ينقضي، أنّ المؤرّخ والرجاليّ لم يتابع أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يسجّل لنا عنهم الكثير، وربّما كان لذلك أسبابٌ كثيرةٌ سنأتي على بيانها في محلّه إن شاء الله (تعالى).

واكتفى التاريخ بتسجيل بعض الإشارات، نحاول التعرّف إليها فيما يلي:

الإشارة الأُولى: الاسم والنسَب

إتّفقوا على اسمه: الحَجّاج ((2)).

ص: 167


1- سورة الأحزاب: 23.
2- أُنظر: تسمية مَن قُتِل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121، إبصار العَين للسماويّ: 122، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 219، العيون العَبرى للميانجيّ: 110، تنقيح المقال للمامقاني: 1- 2 / 255، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 133.

أمّا اسم الأب: فقال بعضهم: بدر ((1))، وقال آخَرون: زيد ((2))، وطائفةٌ ثالثةٌ قالوا: يزيد ((3)).

وقد وردَت الأسماء الثلاثة في زيارة الناحية لشخصٍ واحدٍ حسب النُّسَخ المختلفة للزيارة.

أمّا نسبته:فقد قال الرسّان:

وقُتِل من بني سعد بن بكر: الحَجّاج بن بدر ((4)).

وقال الشيخ السماويّ:

الحَجّاج بن بدر التميميّ السعديّ: كان الحَجّاج بصريّاً، مِن بني سعد بن تميم ((5)).

ص: 168


1- أُنظر: تسمية مَن قُتل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121، إبصار العَين للسماويّ: 122، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 219، العيون العَبرى للميانجيّ: 110.
2- تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 255، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 133.
3- وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 133.
4- تسمية مَن قُتل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121.
5- إبصار العَين للسماويّ: 122، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 219، العيون العَبرى للميانجيّ: 110.

وجمعها الشيخ المامقانيّ فقال:

الحَجّاج بن زيد السعديّ التميميّ البصريّ ((1)).

والسعديّ: نسبةً إلى عدّة قبائل: إلى سعد بن بكر بن هوزان، وإلى سعد تميم، وإلى سعد الأنصار، وإلى سعد جذام، وإلى سعد خولان، وإلى سعد تجيب، وإلى سعد بن أبي وقّاص، وإلى سعد من بني عبد شمس، وإلى سعد هذيم بن قضاعة..

وأمّا سعد تميم، فهو: سعد بن زيد مناة بن تميم، منهم سهم بن منجاب السعديّ ((2)).

وقد زاده الله شرفاً، وجعله لقبيلته ولجميع البشر مفخَراً بانتسابه إلى الإمام غريب الغرباء وعزيز الزهراء (علیها السلام) ، ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ((3))، فبذّ مَن سبق وأعجز مَن لحق، سوى مَن استثناهم الله.

الإشارة الثانية: صحبته لأمير المؤمنين (علیه السلام)

قال الزنجانيّ:

حَجّاج بن يزيد: وكان من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) في

ص: 169


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 255، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 133.
2- الأنساب للسمعانيّ: 3 / 255.
3- سورة يونس: 58.

صفّين ((1)).

إنفرد الزنجانيّ بهذا التصريح حسب فحصنا، وهو لم ينصّ على المصدر الّذي استقى منه المعلومة.

وحضوره في صفّين _ إنْ ثبت _، فإنّه بالإضافة إلى ما يفيده من وجود هذا النور في صفّ الحقّ منذ ذلك الحين وثبوت خوضه الحرب قبل يوم الحسين (علیه السلام) ، فإنّه يفيد تلويحاً مدّة عمره وسنّه.

ولو لم يثبت، ففي شهادته بين يدَي قرّة عين أمير المؤمنين (علیه السلام) مدافعاً عنه وذابّاً عن عياله ودخوله في دائرة «لا أعلم أصحاباً»، فإنّ فيه من الشرف والسموّ ما لا يجعله يتحسّر على فوت سعادةٍ سبقه إليها أحد.

الإشارة الثالثة: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟

قال الشيخ السماويّ: إنّ الحجّاج بن بدر السعديّ حمل كتاب يزيد بن مسعود النهشليّ الّذي جمع بني تميم وحثّهم على نصرة الإمام الحسين (علیه السلام) _ على التفصيل الّذي مرّ معنا _، ونسب ذلك إلى بعض أهل المقاتل..قال (رحمة الله) :

ثمّ كتب [مسعود بن عمرو] إلى الحسين.

قال بعض أهل المقاتل: مع الحجّاج بن بدر السعديّ ...

ص: 170


1- وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 133.

وبقي الحَجّاج معه حتّى قُتِل بين يديه.

أقول: إنّ الّذي ذكره أهل السيَر أنّ الحسين (علیه السلام) كتب إلى مسعود ابن عمرو الأزديّ، وهذا الخبر يقتضي أنّه كتب إلى يزيد بن مسعود التميميّ النهشليّ، ولم أعرفه، فلعلّه كان من أشراف تميم بعد الأحنف، وقد تقدّم القول في هذا ((1)).

وقد مرّ كلام الشيخ السماويّ، وأنّه افترض أنّ الّذي جمع القوم وكتب الكتاب إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) هو مسعود بن عمرو، وعرفنا هناك أنّ مسعود بن عمرو هذا من ألدّ أعداء الإمام (علیه السلام) ، وليس ثَمّة مَن يروي استجابته للإمام (علیه السلام) ، سوى أنّ الشيخ السماويّ لمّا كان لا يعرف يزيد بن مسعود النهشليّ ولم يجد له ذِكراً في الكتب، افترض وقوع الخطأ في الاسم الوارد في الخبر، فأرجع الحدَث إلى مسعود بن عمرو، لأنّ اسمه واردٌ في المصادر كمخاطَبٍ للإمام (علیه السلام) في الكتاب الّذي بعثه إلى وجوه أهل البصرة..

فمن افترضه الشيخ (رحمة الله) ليكون كاتباً للإمام (علیه السلام) (وهو مسعود)، لم يرد بتاتاً في التاريخ _ حسب فحصنا _، ومن ورد اسمه ككاتبٍ للإمام (علیه السلام) عندابن نما (يعني يزيد النهشلي)، لم يكن اسمه وارداً في التاريخ _ حسب الفرض _، فكيف يمكن ترتيب النتائج على هذا النحو؟

ص: 171


1- إبصار العَين للسماويّ: 122، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 219.

بعبارةٍ أُخرى:

إنّ مَن ورد اسمه في التاريخ كمخاطَبٍ للإمام (علیه السلام) (مسعود)، لم يرد في التاريخ أنّه ردّ على الإمام (علیه السلام) هذا الردّ الموفّق، وأنّى له به وهو من ألدّ الأعداء!

ومَن روى ابن نما له هذا الموقف، لم يرد اسمه في التاريخ!

فمن ذكره أهل المقاتل وقالوا أنّ الحجّاج كان حاملاً لكتابه، مَن هو؟ هل هو مسعود الّذي افترضه الشيخ _ وهو لم يفعل _، أو يزيد بن مسعود الّذي نصّ عليه ابن نما ولم يذكر في خبره اسم حامل الكتاب؟

وقد أطلق الشيخ (رحمة الله) النقل عن أهل المقاتل ولم يُسمِّ شيئاً منها، وما توفّر لدينا من كتب ومصادر لم نقف فيها على ما ذكره، وهو غريب؛ إذ لم ينقل الشيخ عن كتابٍ واحدٍ أو كتابٍ بعينه، فنفترض وصوله له دون أن يصل إلينا، وإنّما قال: «بعض أهل المقاتل»، وهذا التعبير يفيد أن يكون الراوي لهذا الخبر أكثر من واحد..

ونحن لا نشكّ أنّ الشيخ كان صاحب كتب ومكتبة، ونحسب أنّه قد وقف على المعلومة إن شاء الله (تعالى)، ولم تصلنا.. سيّما أنّه ينقل حدَثاً ويروي خبراً ويقدّم معلومة، فيبعد حمله على الاستنتاج والتحليل..كما يبعد أن يُقال: إنّ كتاب يزيد بن مسعود النهشليّ _ وحسب الشيخ السماويّ: مسعود الأزديّ _ لابدّ أن يكون قد أرسله بيد رسولٍ حمله

ص: 172

إلى الإمام الحسين (علیه السلام) من البصرة، فلْيكن الحامل هو الحجّاج بن بدر، فإنّ اختيار الحجّاج دون غيره من الأبطال المبادرين إلى نصرة الإمام (علیه السلام) من البصرة غريبٌ لا مسوّغ له.

ونظنّ أنّ مَن تأخّر عن الشيخ نقل عبارته اعتماداً عليه وثقةً به _ وهو موضعٌ للثقة _، من دون أن يكون قد وقع الناقل على المعلومة بنفسه في كتاب ((1))، إذ لو كانت المعلومة متوفّرةً لمن جاء بعد الشيخ وموجودةً في الكتب المتداولة، لَوصلَت لغيرهم من المعاصرين، والله العالم.

الإشارة الرابعة: استشهاده

قال الشيخ السماويّ:

قال صاحب (الحدائق): قُتِل مبارزةً بعد الظهر. وقال غيره: قُتِل في الحملة الأُولى قبل الظهر ((2)).

لم نجد ما ذكره الشيخ في النُّسَخ المتوفّرة لدينا من كتاب (الحدائق)، وقد حقّقنا ما ورد في الكتاب عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وطبعناه مفرداً..

والموجود في نسخنا عن الحجّاج بن بدر عدُّه في شهداء من بني سعد

ص: 173


1- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 255، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 219، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 133، العيون العَبرى للميانجيّ: 110.
2- إبصار العَين للسماويّ: 124، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 564.

ابن بكر، وعبارته الموجودة بالحرف وهو يعدّد شهداء الطف: «وقُتِل من بني سعد بن بكر: الحَجّاج بن بدر»، وانتهى!

فربّما كانت نسخةٌ عند الشيخ أتمّ ممّا هو متوفّرٌ حالياً من مطبوعٍ وحجريٍّ ومصوّرةٍ مخطوط، ربّما وفقنا الله للوقوف عليها.

وربّما يشهد لذلك أنّ الشيخ يعدّ (قعنب بن عمر النمريّ) في الشهداء، وينسبه إلى (الحدائق)، ولم نجده، كما سيأتي بيانه بعد قليل.

أو ربّما كان الشيخ ينقل عن كتابٍ آخَر اسمه (الحدائق) أيضاً، وليس هو للمحلّيّ، غير أنّ هذا الاحتمال بعيد؛ لتصريحه أحياناً بالاسم الكامل: (الحدائق الورديّة)، ولاشتهاره.. والله العالم.

ولا ندري مَن يقصد بغير صاحب (الحدائق) الّذين قالوا: إنّه قُتِل في الحملة الأُولى، فإنْ كان المقصود هو الشيخ ابن شهرآشوب، كما صرّح به الحائريّ صاحب (الذخيرة) ((1))، فإنّ مصوّرات النُّسَخ المخطوطة والمطبوعة المتوفّرة لدينا من كتاب (المناقب) لابن شهرآشوب لم نجد فيها اسمه اللامع بين مَن عدّهم الشيخ صاحب (المناقب) من شهداء الحملة الأُولى ((2)).

ص: 174


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 221.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 372 المقتولين في الحملة الأُولى _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

وإن كان غيره من المؤرّخين أيضاً، كما صرّح به صاحب (الذخيرة) بقوله: «وقال ابن شهرآشوب وغيره من المؤرّخين» ((1))، فإنّنا لم نقف على قول الشيخ ابن شهرآشوب فضلاً عن غيره من المؤرّخين، ولا ندري مَن يقصد بهم، إلّا أن يكون مقصوده بالمؤرّخين الشيخ السماويّ.

كيف كان، فإنّه قد نال بالشهادة بين يدَي ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء وقرّة عين الوصيّ (علیهما السلام) ما يغبطه عليه المؤمنون، ولا زالوا في الأعصار والأمصار على كرّ الليالي والأيّام ودوران الفلك ومرّ الدهور يكرّرون بلهفةٍ وحسرة: يا ليتنا كنّا معكم!

فهنيئاً له.. فقد فاز بالحُسنَيَين بين يدَي حبيبه الحسين (علیه السلام) ، دفاعاً عنه وعن آل الله وحرمه، وحضر يومه، وحاز كلّ المراتب الّتي لا يبلغها إلّا مَن هو مثله، ومزج دمه بدماء ساداته، وأصاب قلوب المؤمنين بمصيبته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الإشارة الخامسة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة

في (المزار) لابن المشهديّ:

«السلامُ على شبيب بن عبد الله النهشليّ، السلامُ على الحَجّاج ابن زيدٍ السعديّ» ((2)).

ص: 175


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 221.
2- المزار لابن المشهديّ: 493.

وورد في (الإقبال) و(البحار) السلامُ عليه في نفس السياق الّذي وردفي (المزار) وغيره من المصادر باختلافٍ في اسم الأب، كما أشرنا فيما مضى.. فورد (زيد) و(يزيد) ((1))..

وفي زيارة أوّل رجب والنصف من شعبان ورد: (يزيد) و(بدر) ((2))..

والظاهر أنّه واحد، وثَمّة تصحيفٌ قد وقع، والله العالم.

السلام عليه.. لقد طاب وطابت الأرض الّتي فيها دُفن.. ونُشهِدك اللّهمّ أنّا بما فعل هو وباقي الأنصار راضون.. يا ليتنا كنّا معهم، فنفوز فوزاً عظيماً..

6. عامر بن مُسلم العَبديّ البصريّ

اشارة

يمكن التشرّف بالتعرّف على هذا الشعاع الساطع من الأنوار الحسينيّة من خلال اللمحات التالية:

اللمحة الأُولى: الاسم والنسب
اشارة

قال ابن الأثير في (اللُّباب):

ص: 176


1- أُنظر: الإقبال لابن طاووس: 3 / 78، مصباح الزائر لابن طاووس: 283، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 273، و45 / 71، العوالم للبحرانيّ: 17 / 339، أسرار الشهادة للدربنديّ: 304.
2- أُنظر: الإقبال لابن طاووس: 3 / 346، مصباح الزائر لابن طاووس: 297، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 341، المزار للشهيد الأوّل: 180.

قال هِشام الكلبيّ:

منهم: عامر بن مسلم بن قيس بن سلَمة بن طريف بن أبان بن سلَمة بن جارية بن فهم بن بكر بن عبلة بن أنمار بن مبشر بن عميرة، قُتِل مع الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، ولطريف صحبة ((1)).

وقال ابن حزمٍ في (الجمهرة):فمن بني عُميرة بن أسد بن ربيعة بن نزار: طريف بن أبان بن سلَمة ابن جارية بن فهم بن بكر بن عبلة بن أنمار بن مبشّر بن عُميرة بن أسد بن ربيعة، وفد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ومن وُلده: عامر بن مسلم بن قيس بن مسلمة بن طريف بن أبان، قُتِل مع الحسين (علیه السلام) ((2)).

نسبتُه: العَبديّ، البصريّ ((3)).. والعَبديّ نسبةً إلى عبد القيس، والبصريّ نسبةً إلى البلد.

كما ورد في (التسمية) للرسّان، قال:

وقُتِل من عبد القيس من أهل البصرة: عامر بن مسلم، وسالم مولاه ((4)).

ص: 177


1- اللُّباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير: 2 / 359.
2- جمهرة أنساب العرب لابن حزم: 293.
3- أُنظر: إبصار العَين للسماويّ: 111.
4- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121، وانظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 113، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 330.

وقال ابن حزم في (الجمهرة):

العَبديّ: هو عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن حديلة بن أسد ابن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (من ولد إسماعيل (علیه السلام))، وبنو ربيعة باليمن ((1)).

إسم أبيه:

الوارد في الزيارة وفي المصادر: (مسلم)، بالاتّفاق.

إسم جدّه:

ذكرنا قبل قليلٍ اسم جدّه ونسبه..

بَيد أنّ البعض خلط هنا فجعل اسم الجدّ (حسّان)، وزعم أنّ هذا ما ذكره النجاشيّ في (رجاله) والحلّيّ في (توضيح الاشتباه).. قال:

أقول: قال أبو عليّ في (رجاله): عامر بن مسلم العَبديّ، مِن أصحاب الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، قُتِل معه بكربلاء.

وقال أبو العبّاس النجاشيّ في (رجاله): هو عامر بن مسلم بن حسّان بن شُريح بن سعد بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن بشماقة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن قطرة السعدي

ص: 178


1- جمهرة الأنساب لابن حزم: 292 و295.

البصريّ، من أصحاب الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، قُتِل معه بالطفّ.

وفي (إيضاح الاشتباه) للعلّامة (رحمة الله) ، قال: ومن أحفاده: أحمد بن عامر _ المكنّى أبا الجعد _ بن سليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ الّذي قُتِل مع الحسين بن عليٍّ بكربلاء _ بن مسلم بن حسّان _ المقتول بصفّين مع أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بن شُريح _ بالشين المعجمة _ بن سعد بن حارثة _ بالثاء المنقطة _ بن ذهل بن جُدعان _ بضمّ الجيم وإسكان الدال _ بن قنطرة بن طيء، العَبديّ البصريّ.

وقال النجاشيّ: أدرك الرضا (علیه السلام) أحمدُ بن عامر بن سُليمان فيسنة أربعٍ وخمسين ومئة، وله مؤلّفاتٌ عديدة، منها: كتاب أخبار البصرة، وكتاب مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وكتاب السقيفة. إلى أن قال: ومات في سنة أربعٍ وسبعين ومئة ((1)).

والحال أنّ النجاشي والحلّيّ إنّما يذكران عامر بن حسّان الطائيّ، وقد ورد اسمه في الزيارة الناحية والمصادر، وهو غير عامر بن مسلم العَبديّ، ولا ندري كيف يكون الطائيّ عبديّاً؟!

قال النجاشيّ:

أحمد بن عامر بن سُليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين بن عليّ (علیهما السلام) بكربلاء _ بن حسّان بن شُريح بن

ص: 179


1- ذخيرة الدارين للحائري:1 / 225، وسيلة الدارين للزنجاني: 161.

سعد بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة بن طيء، ويُكنّى أحمد بن عامر: أبا الجعد.

قال عبد الله ابنه _ فيما أجازنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم، حدّثَنا أبي، قال: حدّثَنا عبد الله، قال _ : وُلد أبي سنة سبعٍ و خمسين ومئة، ولقي الرضا (علیه السلام) سنة أربعٍ و تسعين ومئة، ومات الرضا (علیه السلام) بطوس سنة اثنتين ومئتين يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلَون من جُمادى الأُولى، وشاهدتُ أبا الحسن وأبامحمّد (علیهما السلام) ، وكان أبي مؤذّنهما، ومات عليّ بن محمّدٍ (علیه السلام) سنة أربعٍ وأربعين ومئتين، ومات الحسن (علیه السلام) سنة ستّين ومئتين يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من المحرّم، وصلّى عليه المعتمد أبو عيسى ابن المتوكّل. رفع إليّ هذه النسخة نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر الطائيّ أبو الحسن أحمد بن محمّد بن موسى الجنديّ شيخنا (رحمة الله) ، قرأتها عليه، حدّثكم أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن عامر، قال: حدّثَنا أبي، قال: حدّثَنا الرضا عليّ بن موسى (علیه السلام) . والنسخة حسنة ((1)).

وقال في موضعٍ آخَر:

عبد الله بن أحمد بن عامر بن سُليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء _ بن حسّان _ المقتول

ص: 180


1- رجال النجاشيّ: 100 الرقم 250.

بصفّين مع أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بن شُريح بن سعد بن حارثة بن لام ابن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن طيء، يُكنّى: أبا القاسم.

روى عن أبيه عن الرضا (علیه السلام) نسخة، قرأتُ هذه النسخة على أبي الحسن أحمد بن محمّد بن موسى، أخبركم أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عامر، عن أبيه، عن الرضا (علیه السلام) .ولعبد الله كتب، منها: كتاب قضايا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أخبرنا به إجازةً أحمدُ بن محمد [بن] الجنديّ عنه ((1)).

وقال الحلّيّ في (الإيضاح):

أحمد بن عامر بن سُليمان ... بن صالح بن وهب ... بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء _ ابن حسّان بن شُريح ... بن سعد بن حارثة بن لاثم ... بن عمرو ... بن طريف ... بن عمرو ... بن بشامة ... بن ذهل بن جدعان ... بن سعد ... بن فطرة ((2)).

وقال في موضعٍ آخَر:

عبد الله بن أحمد بن عامر بن سُليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء_ بن حسّان _ المقتول

ص: 181


1- رجال النجاشيّ: 229 الرقم 606.
2- إيضاح الاشتباه للحلّيّ: 111.

بصفّين مع أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بن شُريح ... بن سعيد بن حارثة ... بن لام ... بن عمرو ... بن طريف بن عمرو ... بن ثمامة ... ابن ذهل بن جدعان ((1)).

فالخلط بإضافة اسم مسلم إلى نسب عامر بن حسّان إنّما كان من صاحب (الذخيرة)، وله في كتابه أمثالها، وتبعه على ذلك بعض مَن تأخّرعنه.

قال السيّد الأمين في ترجمة عامر بن حسّان:

عامر بن حسّان بن شريح ...

ذكر النجاشيّ في ترجمة حفيده (أحمد بن عامر) أنّه قُتِل مع الحسين (علیه السلام) ، وهو غير (عامر بن مسلم العَبديّ) الآتي، فذاك ابن مسلم وهذا ابن حسّان، وذاك عَبديٌّ وهذا طائيّ ((2)).

اللمحة الثانية: وثاقته

في (رجال الطوسيّ):

من أصحاب الحسين بن عليّ (علیهما السلام) : عامر بن مسلم، مجهول ((3)).

ص: 182


1- إيضاح الاشتباه للحلّيّ: 243.
2- أُنظر: أعيان الشيعة للأمين: 1 / 611.
3- الرجال للطوسيّ: 77، نقد الرجال للتفرشيّ: 178، منهج المقال للاسترآباديّ: 187، الرجال للحلّيّ (خلاصة الأقوال): 242 ط النجف، رجال ابن داوود: 465 الرقم 243، جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 428.

قال الشيخ المامقانيّ:

وقوله: «إنه من أصحاب الحسين (علیه السلام) ، مجهول»، ناشٍ من عدم الفحص عن حاله، وإلّا فأيّ عدالةٍ وثقةٍ أعظم كاشفاً من بذل النفس، مع العلم بحكم العادة بظفر الخصم؟!

وأغرب ممّا صنعه آية الله، ما صنعه الجزائريّ من عدّه إيّاه في الضعفاء! ((1))إنّها المصطلحات الفنّيّة الجامدة الباردة المتحجّرة، تُستخدَم للتعبير عن معانٍ محدَّدةٍ مضبوطة، لا تلحظ المادّة المبحوثة ولا تتعدّى القالب المقطوع لها على القياسات الدقيقة.. وإلّا فهل يحتاج إلى شهادة أحدٍ مَن دخل دائرة «لا أعلم أصحاباً..»؟!!

اللمحة الثالثة: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟

قال الشيخ السماويّ:

كان عامر من الشيعة في البصرة، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد [بن ثُبيط البصريّ] إلى الحسين (علیه السلام) ، وانضمّ إليه، حتّى وصلوا كربلاء ((2)).

ص: 183


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 117.
2- إبصار العَين للسماويّ: 112.

قد مرّ الكلام في ذلك قبل قليل، فلا نعيد.

وقال الحائريّ في (الذخيرة):

وقال صاحب (الحدائق): كان عامر بن مسلم العَبديّ من الشيعة في البصرة، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد بن ثُبيط البصريّ العَبديّ _ الّذي مرّ ذكره آنفا _ إلى الحسين (علیه السلام) ، وانضمّ إليه بالأبطح من مكّة، حتّى وصلوا كربلاء، وكان معه إلى يوم الطفّ ((1)).لم نقف على شيءٍ ممّا نقله السيّد الحائريّ عن (الحدائق) في النُّسَخ المتوفّرة لدينا من مطبوعٍ ومصوّرة المخطوطة، وهي عبارة الشيخ السماويّ (رحمة الله) ، وقد اكتفى صاحب (الحدائق) بتوثيق اسمه كشهيدٍ من شهداء الطفّ بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ويبدو أنّ الحائريّ نقل عبارة الشيخ السماويّ ونسبها إلى صاحب (الحدائق)، والله العالم.

اللمحة الرابعة: استشهاده

عدّه الشيخ ابن شهرآشوب في شهداء الحملة الأُولى ((2)).

ص: 184


1- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 225، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 161.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 372 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 64، العوالم للبحرانيّ: 17 / 341، نفَس المهموم للقمّيّ: 295، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 94، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 330.

وقال الشيخ السماويّ:

وكان القتال، فقُتِلا بين يدَيه ...

قال في (المناقب) وفي (الحدائق): قُتِلا في الحملة الأُولى ((1)).

ولم نرَ فيما توفّر لدينا من نسخة (الحدائق) إشارةً إلى عدِّه في شهداء الحملة الأُولى.

صلّى الله وسلّم على روحه وبدنه.. طاب وطابت الأرض الّتي فيها دُفن.. ويا ليتنا كنّا معه، فنفوز فوزاً عظيماً..

اللمحة الخامسة: رثاؤه

وفيه يقول الفضل بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب من قصيدته الّتي ينعى بها على بني أُميّة أفعالهم:

أرجِعوا عامراً وردّوا زهيراً

ثمّ عثمان فارجعوا غارمينا

وارجعوا الحرّ وابنَ قَينٍ وقوماً

قُتِلوا حين جاوروا صفّينا

أين عمرٌو وأين بِشرٌ وقتلى

منهمُ بالعراء ما يدفنونا؟

عنى بعامر: العَبديّ، وبزهير: هذا، وبعثمان: أخا الحسين (علیه السلام) ، وبالحُرّ: الرياحيّ، وبابن قَين: زهيراً، وبعمرو: الصيداويّ، وببشر: الحضرميّ ((2)).

ص: 185


1- إبصار العَين للسماويّ: 112.
2- إبصار العَين للسماويّ: 109.

والأبيات من قصيدةٍ طويلةٍ يرويها ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ((1)).

اللمحة السادسة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة

في زيارة الناحية المقدّسة:

«السلامُ على عامر بن مُسلم» ((2)).

وزيارتِه في أوّل رجب والنصف من شعبان أو في زيارة الأربعين:

«السلامُ على عامر بن مُسلم، ومولاه مُسلم» ((3)).

هنيئاً له هذا السلام من المنتقِم لدمائهم، الّذي علّم في هذه الزيارةبالسلام على أصحاب الحسين (علیه السلام) بأسمائهم.

7. سالم مولى عامر بن مسلم العَبديّ

اشارة

يمكن متابعة ما ورد عن هذا السيف البتّار من سيوف سيّد

ص: 186


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 7 / 166.
2- المزار لابن المشهديّ: 494، الإقبال لابن طاووس: 3 / 78، مصباح الزائر لابن طاووس: 284، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 273، و45 / 72، العوالم للبحرانيّ: 17 / 339، أسرار الشهادة للدربنديّ: 304.
3- الإقبال لابن طاووس: 3 / 345، مصباح الزائر لابن طاووس: 297، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 340، المزار للشهيد الأوّل: 179.

الشهداء (علیه السلام) من خلال الومضات التالية:

الومضة الأُولى: النسَب

لم نجدْ في كتب التاريخ والتراجم المتوفّرة لدينا سوى نسبة الولاء الّتي اشتهر بها هذا الشهيد الطيّب الطاهر، إذ نسبوه إلى عامر بن مسلم العَبديّ البصريّ بالولاء، لا أكثر، كما ورد في (تسمية مَن قُتِل) للرسّان ((1)) والناحية المقدّسة ومَن تلاهما..

وعدّه الشيخ السماويّ (رحمة الله) في عِداد الموالي الخمسة عشر الّذين قُتِلوا في الطفّ ((2)).

وقال السيّد الحائريّ في (الذخيرة):

أقول: وقال ابن حجَر العسقلانيّ في (الإصابة): هو سالم بن أبي الجعد العَبديّ، أحد الثقات التابعين، مولى عامر بن مسلم، وكان من شيعة البصرة ((3)).ولفظ ابن حجَر في (الإصابة) هو:

سالم بن أبي الجعد: أحد ثقات التابعين.

ص: 187


1- أُنظر: تسمية مَن قُتل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121، إبصار العَين للسماويّ: 111.
2- أُنظر: إبصار العَين للسماويّ: 128، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 418.
3- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226.

ذكره بعضهم في المخضرمين، معتمِداً على ما حكاه ابن زبر أنّه مات سنة تسعٍ وتسعين وله مئةٌ وخمسة عشرة سنة، فيكون أدرك مِن الحياة النبويّة ستّاً وعشرين سنة.

وهذا باطل؛ فقد جزم أبو حاتم الرازيّ بأنّه لم يُدرِك ثوبان ولا أبا الدرداء ولا عمرو بن عبسة، فضلاً عن عثمان، فضلاً عن عمر، فضلاً عن أبي بكر ((1)).

ولم نجد ذكراً لسالم بن أبي الجعد غير هذا في نُسَخ (الإصابة) المطبوعة المتوفّرة لدينا.

وأبو سالم هذا الّذي يذكره صاحب (الذخيرة) عن (الإصابة) رجُلٌ غطفانيّ، مولى لأشجع كوفي ((2)).. وليس عبديّاً، وقد ورد اسمه في كتب التراجم والحديث.. فهو _ على ما يبدو _ ليس سالم الشهيد مولى عامر بن مسلم!

ويبدو أيضاً أنّ الزنجانيّ صاحب (الوسيلة) اعتمد صاحب (الذخيرة) ونقل عنه، كما يفعل دائماً، غير أنّه لم يذكر اسم أبيه، واكتفى بوصفه: «كان من الثقات التابعين ... ومن شيعة البصرة» ((3)).

ص: 188


1- الإصابة لابن حجَر: 3 / 225.
2- أُنظر: أُسد الغابة لابن الأثير: 5 / 51، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 4 / 1620، الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 232.
3- أُنظر: وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 146.

أمّا نسبته بالعَبديّ، فالظاهر هو نسبةً لمولاه (عامر بن مسلم)، وقد مرّ الحديث في ذلك، فلا نعيد.

والنسبة الأعظم الّتي ارتقى إليها وسما بها في سماء المجد والخلود، فهي الانتساب إلى أنصار غريب الغرباء وإمام السعداء ريحانة النبيّ الإمام الحسين (علیه السلام) ، ودخوله في دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فهنيئاً له.

الومضة الثانية: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟

مرّ الكلام في ذلك قبل قليلٍ عند الحديث عن كيفيّة التحاق مولاه عامر بن مسلم، فلا نعيد.

الومضة الثالثة: استشهاده

قال الشيخ السماويّ:

قال في (المناقب) وفي (الحدائق): قُتِلا في الحملة الأُولى ((1)).

وقال صاحب (الذخيرة)، وتبعه صاحب (الوسيلة):

فلمّا نشب القتال يوم الطفّ، تقدّم بين يدَي الحسين (علیه السلام) وقُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتِل.

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب قال: ومِن المقتولين يوم الطفّ في

ص: 189


1- إبصار العَين للسماويّ: 147 المقصد الحادي عشر في العبديّين من أنصار الحسين (علیه السلام) .

الحملة الأُولى: سالم مولى عامر العَبديّ (رضوان الله علیه) ((1)).

وقد عدّ الشيخ ابن شهرآشوب عامرَ بن مسلم في شهداء الحملة الأُولى، أمّا سالم مولاه فلم نجِدْ له ذِكراً في شهداء الحملة الأُولى الّذين عدّهم صاحب (المناقب)، وكذا في (الحدائق)..

فإمّا أن تكون نسخةٌ خاصّةٌ للكتابَين وصلَت بيد الشيخ ولم تصلنا، رغم أنّنا راجعنا النسَخ المطبوعة ومصوّرات النسخة الخطّيّة القديمة المتوفّرة عندنا.. وإمّا أن يكون هو استنتاج الشيخ (رحمة الله) ، حيث وجد اسم عامر بن مسلم العبديّ في شهداء الحملة الأُولى، فعدّ مولاه معه، إذ أنّ العادة كانت جاريةً على تقديم صاحب الولاء مولاه قبله ليحتسبه، وكان المولى يتقدّم على صاحب ولائه عادة، والله العالم.

الومضة الرابعة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة

ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة:

«السلامُ على سالم مولى عامر بن مُسلم» ((2)).

نال شرف الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وحاز شرف السلام

ص: 190


1- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 146.
2- المزار لابن المشهديّ: 494، الإقبال لابن طاووس: 3 / 78، مصباح الزائر لابن طاووس: 284، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 273، و45 / 72، العوالم للبحرانيّ: 17 / 339، أسرار الشهادة للدربنديّ: 304.

عليه بالاسم.. فيا ليتنا كنّا معه، فنفوز فوزاً عظيماً.

8. سيف بن مالك العَبديّ

اشارة

يمكن متابعة هذا السيف اللامع من سيوف الحسين (علیه السلام) من خلال الإلماعات التالية:

الإلماعة الأُولى: النسَب

قال الرسّان:

وقُتِل من عبد القيس من أهل البصرة: سيفُ بن مالك ((1)).

وذكره الشيخ الطوسيّ في أصحاب الإمام الحسين (علیه السلام) ، قائلاً:

من أصحاب الحسين بن عليّ (علیهما السلام) : سيف بن مالك ((2)).

وذكره الشيخ ابن شهرآشوب مرّتين، مرّةً في أصحاب الإمام الحسين (علیه السلام) على الإطلاق باسم (مالك بن سيف) فقط ((3))، ومرّةً في

ص: 191


1- تسمية من قُتِل للرسّان: 153، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 121.
2- الرجال للطوسيّ: 74، نقد الرجال للتفرشيّ: 166، منهج المقال للأستراباديّ: 178، جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 397، منتهى المقال للحائريّ: 160، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 79، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 78، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 199، العوالم للبحرانيّ: 17 / 333.
3- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 109 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

عِداد الشهداء (علیه السلام) ، وجعل نسبته (النميريّ) ((1)).

وفي (إبصار العين) وغيره ممّن تأخر عنه: العَبديّ البصريّ ((2)).

لقد سما بحسبه ونسبه وارتفع فوق كلّ حسَبٍ ونسَبٍ بانتسابه إلى أنصار ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، عزيز الزهراء وقرّة عين سيّد الأوصياء، الإمامغريب الغرباء الحسين (علیهم السلام) ، ودخوله في دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فلْيُهنِه الحسب الأثيل والانتساب الأصيل.

الإلماعة الثانية: التحاقه بالإمام (علیه السلام)

قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :

كان سيفٌ من الشيعة، ممّن يجتمع في دار مارية ... وخرج مع يزيد [بن ثُبيط] إلى الحسين (علیه السلام) وانضمّ إليه.

ثمّ نقل خبر خروج يزيد بن ثُبيط وابنَيه، وقال:

... ثمّ خرج وابناه، وصحبه عامر ومولاه وسيف بن مالك والأدهم ابن أُميّة ((3)).

وقال صاحب (الذخيرة):

ص: 192


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 372 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- إبصار العين للسماويّ: 112، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 153 _ عن أبي عليّ في رجاله، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 79.
3- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 110 و112.

قال أبو جعفر في كتابه: كان سيفٌ من الشيعة، وكان ممّن يجتمع بالبصرة في بيت امرأةٍ من عبد قيس، يُقال لها: مارية بنت سعد أو مُنقذ، كما ذكرنا آنفاً في ترجمة يزيد بن ثُبيط، فخرج سيف بن مالك مع يزيد ومَن معه إلى الحسين (علیه السلام) ، وانضمّ إليه بالأبطح من مكّة، وما زال معه حتّى وصلوا كربلاء ((1)).

نسب الكلام كلّه لأبي جعفر _ يعني الطبريّ _، والحال أنّ الشيخالسماويّ نقل عن أبي جعفرٍ الطبريّ خبره، ثمّ أكمل من عنده خبر لحاق سيف والآخَرون، ولا ندري ما هو مصدر كلامه، فأخذ صاحب (الذخيرة) كلام الشيخ السماويّ وضمّه إلى كلام الطبريّ ظاهراً، وليس في كلام الطبريّ ما يشير إلى ذلك، وقد أتينا على مناقشة ذلك قبل قليل، فلا نعيد.

الإلماعة الثالثة: استشهاده

عدّه الشيخ ابن شهرآشوب في شهداء الحملة الأُولى، وذكره باسم: سيف بن مالك النميريّ ((2)).

وقال الشيخ السماويّ:

ص: 193


1- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 153.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 372 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 64، العوالم للبحرانيّ: 17 / 341، نفَس المهموم للقمّيّ: 295، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 330.

قال صاحب (الحدائق): قُتِل مع الحسين (علیه السلام) . ولم يذكر غير ذلك.

وقال غيره: قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتِل من أصحاب الحسين (علیه السلام) ((1)).

وقال صاحب (الذخيرة):

وقال صاحب (الحدائق): فلمّا كان يوم الطفّ، تقدّم إلى القتال بين يدَي الحسين (علیه السلام) ، فقاتل حتّى قُتِل مبارزةً بعد صلاة الظهر (رضوان الله علیه) .وقال ابن شهرآشوب في (المناقب): قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتل قبل الظهر، والله العالم ((2)).

ولا ندري من أين نقل صاحب (الذخيرة) _ وتبعه على ذلك صاحب (الوسيلة) _ كلامَ صاحب (الحدائق)، وليس في كتاب (الحدائق) للمحلّي شيءٌ ممّا نُقِل، سيّما أنّ الشيخ السماويّ أكّد أنّ صاحب (الحدائق) عدّه في الشهداء، «ولم يذكر غير ذلك»، إذ أنّه عدّه في شهداء العَبديّين، ولم يزد على ذلك بالفعل ((3)).

ص: 194


1- إبصار العَين للسماويّ: 112.
2- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 153.
3- أُنظر: الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 155 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

كيف كان، فقد نال شرف الدفاع عن ذرّيّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والذبّ عن عياله، وفدى نفسه ودمه دون إمام زمانه خامس أصحاب الكساء في يومه الّذي لا يوم كمثله، فيا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.

الإلماعة الرابعة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة

ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة:

«السلامُ على سيف بن مالك» ((1)).

جمع سيفُ الحسين (علیه السلام) هذا أطراف الشرف من كلّ الجهات، ففاز ببذل مهجته والسخاء بدمه في الدفاع عن إمامه وحرمه، ونال شرف السلام عليه في الزيارة الّتي ظهرَت عن إمامه، وبقي عَبرةً تتردّد في صدورالمؤمنين، ودمعةً ساكبة على مرّ الدهور وكرّ العصور، فهنيئاً له سعادةَ الدارَين ونيلَ المكارم والصعودَ في سُلّم الكمال الّذي ارتقاه بالدفاع عن إمامه الحسين (علیه السلام) ، فبلغ الذروة الّتي لا ينالها إلّا مَن كان مثله.

ص: 195


1- المزار لابن المشهديّ: 494، الإقبال لابن طاووس: 3 / 78، مصباح الزائر لابن طاووس: 284، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 273، و45 / 72، العوالم للبحرانيّ: 17 / 339، أسرار الشهادة للدربنديّ: 304، تنقيح المقال للمامقاني: 2- 1 / 79.

9. قعنب بن عمرو النمريّ

اشارة

يمكن التعرّف على هذا الضيغم الضرغام والبطل الهمام من خلال التلويحات التالية:

التلويح الأوّل: النسَب

ورد اسمه في زيارة الناحية المقدّسة: «قعنب بن عمرو النمريّ» ((1)).

وقال السماويّ: قعنب بن عمر النمريّ، وله في القائميّات ذِكرٌ وسلام ((2)).

ولعلّ سقوط الواو من (عمرو) في كلام الشيخ خطأُ مطبعيٌّ أو سهو؛ إذ أنّ كلّ مَن ذكره إنّما ذكره بالواو (عمرو)، وهو كذلك في نُسَخ الزيارة المقدّسة.

وقال الشيخ المامقانيّ:

الضبط: قعنب، بالقاف والعين المهملة والنون والباء الموحّدة منتحت، وزن جعفر، وفي بعض النُّسَخ: قعيب، بإبدال النون ياءً

ص: 196


1- المزار لابن المشهديّ: 494، الإقبال لابن طاووس: 3 / 78، مصباح الزائر لابن طاووس: 284، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 273، و45 / 72، العوالم للبحرانيّ: 17 / 339، أسرار الشهادة للدربنديّ: 304.
2- إبصار العَين للسماويّ: 125.

مثنّاةً من تحت ((1)).

وقال أيضاً في ضبط النسبة:

النُّميريّ، بالنون والميم والباء المثنّاة من تحت والراء المهملة والياء، نسبةً إلى أبي قبيلةٍ من قيس عيلان اسمه نُمير _ كزُبَير _، ابن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.

قال سيبويه: وقالوا في جمعه: النُّميرون، استخفوا بحذف ياء الإضافة، كما قالوا: الأعجمون ((2)).

وفي (جمهرة الأنساب) لابن حزم:

وَلد عامرُ بن صعصعة: ربيعة _ وفيه البيت والعدد _، هلال، ونمير، وسواءة، بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان (مِن وُلد إسماعيل (علیه السلام)) ((3)).

والنسب الأرفع الّذي يغبطه عليه كلّ الناس من قبيلته ومن سائر بني آدم، سوى مَن استثناهم الله، هو الانتساب إلى أنصار الإمام المظلوم (علیه السلام) ، ودخوله دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فهنيئاً له أبد الآبدين، ويا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.

ص: 197


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 221.
2- تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 245.
3- جمهرة الأنساب لابن حزم: 1 / 10 و272، و2 / 279 _ 280.
التلويح الثاني: بلده

قال الشيخ السماويّ:

كان قعنب رجُلاً بصريّاً، من الشيعة الّذين بالبصرة ((1)).

هكذا وجدناه في كتاب (إبصار العين) للشيخ المحقّق السماويّ، ولا ندري مأخذه ومصدره الّذي اعتمده في توثيق كونه بصريّاً من الشيعة الّذين بالبصرة، ولم نقف على هذه المعلومة في غيره من المصادر المتقدّمة عليه حسب فحصنا، بيد أنّ الشيخ كان خبيراً بالقبائل وصاحب مكتبةٍ وكتب، والله العالم.

ويكفيه فخراً أنّه سكن الأرض الطيّبة الّتي اختارها الله لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فسكن بالقرب من الهيكل المقدّس، فطاب وطابت به التربة الزاكية كربلاء، وانتسب إليها وطناً إلى يوم القيامة.

التلويح الثالث: التحاقه بالإمام (علیه السلام)

قال الشيخ السماويّ:

جاء مع الحَجّاج السعديّ إلى الحسين (علیه السلام) وانضمّ إليه ((2)).

ص: 198


1- إبصار العَين للسماويّ: 125، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، العيون العَبرى للميانجيّ: 110، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 184.
2- إبصار العَين للسماويّ: 125، وانظر: العيون العَبرى للميانجيّ: 110، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 184.

وقال الشيخ المامقانيّ:قد ذكر أهل السيَر أنّ قعنباً هذا كان من شيعة البصرة ((1)).

وقد مرّ الكلام في التحاق الحَجّاج نفسه، فالكلام هنا تماماً كما هو هناك، فلا نعيد.

ولا ندري مَن يقصد الشيخ المامقانيّ بأهل السيَر، فربّما قصد الشيخ السماويّ _ حشرهما الله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _.

التلويح الرابع: استشهاده

قال الشيخ السماويّ:

وقاتل في الطفّ بين يدَيه حتّى قُتِل، ذكره صاحب (الحدائق) ((2)).

لم نجده في النُّسَخ المتوفّرة لدينا من (الحدائق)، وقد أرجع محقّق كتاب (الإبصار) كلام المؤلّف إلى (الحدائق، الصفحة: 122)، فربّما كانت نسخةٌ في مكتبة الشيخ فيها يشعّ منها نور هذا الاسم.

وقال صاحب (الذخيرة):

فلمّا نشب القتال، تقدّم بين يدَي الحسين (علیه السلام) وجاهد، حتّى قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتِل (رضوان الله علیه) .

ص: 199


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 2 / 29.
2- إبصار العَين للسماويّ: 125.

وقال غيره: قُتِل مبارزة. والله العالم ((1)).ولا ندري من أين حصل على هذه المعلومات، سواءً أكان عدّه في شهداء الحملة الأُولى، أو روايته قول الغير وأنّه قُتِل مبارزة.

كيف كان، فإنّه تقدّم للقتال ليفدي إمامه حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، ويدفع عنه وعن آل الرسول بروحه ودمه، ويكون ممّن شهد معسكر إمام الحقّ، وينال الدرجات العُلى الّتي رفعَتْه إلى الرفيق الأعلى، وهو متوسّماً بوسام «لا أعلم أصحاباً..»، ونجماً من النجوم الّتي نعتها الرسول (صلی الله علیه و آله) وهو يحدّث فاطمة (علیها السلام) ((2))، وشهد مصارع شهداء لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن كان بعدهم، كما وصفهم أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).

التلويح الخامس: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة

ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة:

«السلامُ على قعنب بن عمرو النمريّ» ((4)).

ص: 200


1- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 184.
2- أُنظر: تفسير فرات: 171، كامل الزيارات لابن قولويه: 145 الباب 22 ح 2.
3- أُنظر: تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 73 الباب 22 حتّى 7، الخرائج للراونديّ: 1 / 183 في حديثٍ عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) .
4- المزار لابن المشهديّ: 494، الإقبال لابن طاووس: 3 / 78، مصباح الزائر لابن طاووس: 284، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 273، و45 / 72، العوالم للبحرانيّ: 17 / 339، أسرار الشهادة للدربنديّ: 304.

وفي بعض نُسَخ (الإقبال): «التمريّ»، أو «النُّميريّ».

حاز السموّ والرفعة وجمعها حين فاز بسعادة الشهادة بين يدَي الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، ونال وسام السلام عليه في كلّ زمان، فالسلام عليه أبداً ما بقينا وبقي الليل والنهار، ويا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.

10. الهَفْهاف بن المهنّد الراسبيّ الأزديّ

اشارة

عظيمٌ من العظماء، وشخصيّةٌ فريدةٌ يعزّ لها النظير في أولاد آدم، بل ليس له نظيرٌ في العالَمين، سوى مَن استثناهم الله.. وظاهرةٌ فريدةٌ في يوم الحسين (علیه السلام) !

أُمّةٌ في رجل.. له موقفٌ يدكدك الرواسي، ويُذهِل عقول ذوي الألباب، ويأسر قلوب المؤمنين والناس أجمعين..

سنأتي على استكشاف معالم هذه الشخصيّة الأخّاذة الّتي صارت مثالاً للشجاعة في التاريخ، من خلال اللمعات التالية:

اللمعة الأُولى: النسَب

الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ، من البصرة ((1)).

ص: 201


1- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 156، الأمالي للشجريّ: 1 / 173، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 2 / 122 _ 123.

فهو ينتسب إلى:

راسب بن مالك بن ميدعان بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت ابن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (من وُلد سام بن نوح أو هود (علیهما السلام))، اليمانيّة، كلّها راجعةٌ إلى وُلد قحطان ((1)).

فهو: راسبيٌّ أزديٌّ بصريّ ((2)).وقد بذّ بانتسابه إلى الشهداء في طفّ كربلاء ونصرته لعيال الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) بعد شهادته كلّ نسب، وصار مفخَراً لقومه ولكلّ البشر، فهنيئاً له نصرته لحرم الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولإمام زمانه زين العابدين (علیه السلام) ، ودفاعه وذبّه عنهم.

اللمعة الثانية: من خصائصه

ذكروا في وصفه أنّه كان فارساً شجاعاً ((3))..

ص: 202


1- جمهرة الأنساب لابن حزم: 386، و329 _ 330 و474.
2- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 303، و2- 1 / 223، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 400 و402.
3- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 400 _ 401.

وهذه الصفة لا تفارق جميع أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) على الإطلاق، إذ كانت شجاعتهم مثَلاً لجميع البشر من لدن آدم إلى يوم القيامة، سوى مَن استثناهم الله (تعالى)..

وكيف لا، وقد لبسوا القلوب على الدروع، وقارعوا أكداس السلاح المتجمّع، وجحافلَ المقاتلين من صناديد البلدان والأمصار، وعساكر الجند الّتي سدّت فروج الأرض وملأَت الغيطان، وشروا أنفسهم لله في زمنٍ لم يكن فيه ناصرٌ ولا معين!

والهفهاف قابَلَ جميع تلك العساكر الّتي كانت ثملَةً بسُكر الظفر وحيداً فريداً..

أيّ شجاعةٍ كانت بين جوانح هذا الرجل الّذي أخرس البلغاء، وقلَبَزهو الأعداء وجذلهم إلى وقعةٍ دهماء سوداء؟!

وقالوا: كان من المخلِصين في الوَلاء ((1))..

وهي شهادةٌ على واقعٍ لا ينكره مكابر.. وقد أثبت ولاءَه بموقفه الّذي لا نظير له في التاريخ..

وقالوا: إنّ له ذِكراً في المغازي والحروب، وكان من أصحاب أمير

ص: 203


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 400 _ 401.

المؤمنين (علیه السلام) ، وحضر معه مشاهده كلّها..

ولمّا عقد الألوية أميرُ المؤمنين (علیه السلام) يوم صفّين، ضمّ تميم البصرة إلى الأحنف بن قيس، وأمّر على حنظلة البصرة أعين بن ضبيعة، وعلى أزد البصرة الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ الأزديّ، وعلى ذهل البصرة خالد بن معمّر، وكان ملازماً لعليٍّ (علیه السلام) إلى أن قُتِل، فانضمّ بعده إلى ابنه الحسن (علیه السلام) ، ثمّ إلى الحسين (علیه السلام) ((1)).

هكذا قالوا، وقد فحصنا فيما تيّسر لنا من المصادر والمظانّ، فلم نجد لهذه المعلومات الهامّة أثراً.

وفي موقفه في كربلاء غنىً عن كلّ موقف، فمن ختم الله له بخيرٍ عظيمٍ كما ختم للهفهاف، تعرف منه سوابقه وطهارته، فإنْ كان كما ذكروا فهو ممّن يُرتجى منه ذلك، وإنْ لم يكن ففي خاتمه ما يُنبئ عن جليلمنزلته وعظيم رتبته وسموّ معرفته بالولاية والإمامة!

اللمعة الثالثة: التحاقه بالإمام (علیه السلام) واستشهاده

من خصائص هذا البطل الضرغام والأسد الهمام والشجاع المقدام، أنّ التحاقه كان مقارناً لشهادة الإمام (علیه السلام) .

وقد اقتصر الرسّان غالباً على ذِكر اسم الشهيد وانتسابه في الغالب، إلّا

ص: 204


1- أُنظر: تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 303، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 400 _ 401.

في الهفهاف، فقد روى التحاقه وشهادته..

قال:

وخرج الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ من البصرة حين سمع بخروج الحسين (علیه السلام) ، فسار حتّى انتهى إلى العسكر بعد قتله، فدخل عسكر عُمر بن سعد، ثمّ انتضى سيفه وقال:

يا أيّها الجندُ

المجنَّد

أنا الهفهافُ بنُ

المهنّد

أبغي [خ ل: أحمي] عيالَ محمّد

ثمّ شدّ فيهم.

قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) : «فما رأى الناسُ منذ بعَثَ اللهُ محمّداً (صلی الله علیه و آله) فارساً بعد عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) قتل بيده ما قتل، فتداعوا عليه خمسة نفرٍ فاحتوشوه، حتّى قتلوه (رحمه اللهتعالى)» ((1)).

وقال آخَرون من المتأخّرين:

فلمّا سمع بخروج الحسين (علیه السلام) من مكّة إلى العراق، خرج من البصرة، فسار حتّى انتهى إلى العسكر بعد صلاة العصر، فدخل على عسكر عمر بن سعد، فسأل القوم: ما الخبر؟ أين الحسين بن

ص: 205


1- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 156، الأمالي للشجريّ: 1 / 173، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 2 / 122 _ 123.

عليّ؟ فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا الهفهاف الراسبيّ البصريّ، جئتُ لنصرة الحسين (علیه السلام) حين سمعتُ خروجَه من مكّة إلى العراق. فقالوا له: قد قتلنا الحسين (علیه السلام) وأصحابَه وأنصارَه وكلَّ مَن لحق به وانضمّ إليه، ولم يبقَ غيرُ النساء والأطفال وابنُه العليل عليُّ بن الحسين، أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول الله؟! فلمّا سمع الهفهاف بقتل الحسين (علیه السلام) وهجوم القوم، انتضى سيفه وهو يرتجز ويقول:

يا أيّها الجندُ

المجنَّد

أنا الهفهافُ بنُ

المهنّد

أحمي عيالاتِ محمّد

ثمّ شدّ فيهم كليث العرين يضربهم بسيفه، فلم يزل يقتل كلَّ مَن دنا منه من عيون الرجال، حتّى قتل من القوم جماعةً كثيرةًسوى مَن جَرح، وقد كانت الرجال لَتشتدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، وهو في ذلك يرتجز بالشِّعر المقدّم، وقد أُثخِن بالجراح، فصاح عمر بن سعدٍ بقومه: الويلُ لكم، احملوا عليه مِن كل جانب.

ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) في ذلك اليوم: «فما رأى الناسُ منذ بعث الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) فارساً شجاعاً بعد عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) قَتل ما قَتل كهذا الرجل، فتداعوا عليه، فأقبل خمسة عشر نفراً فاحتوشوه، حتّى قتلوه في حومة الحرب بعدما عقروا فرسه،

ص: 206

رضوان الله عليه» ((1)).

اللمعة الرابعة: وقت خروجه من البصرة

يفيد النصّ أنّ الهفهاف خرج من البصرة حين سمع بخروج الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يحدّد الموضع الّذي خرج منه الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ السياق يفيد أنّ المراد هو الخروج من مكّة.

وربّما شهد لذلك ما قاله المتأخّرون عند رواية خبره على لسانه حين سأله القوم عن نفسه، فأجاب:أنا الهفهاف الراسبيّ البصريّ، جئتُ لنصرة الحسين (علیه السلام) حين سمعتُ خروجَه من مكّة إلى العراق ((2)).

وإنّما اكتفينا بالاستشهاد بنقلهم (رحمهم الله) ؛ لاحتمال أن يكون ما نقلوه تفصيلاً للنصّ المأثور، وليس روايةً لخبرٍ كما سيأتي، والله العالم.

فإذا كان ما يفهم من السياق هو المتعيّن، فهو يعني أنّ الهفهاف قد خرج من البصرة قاصداً الإمام الحسين (علیه السلام) وقد خرج من مكّة، فلحق به في كربلاء بعد شهادته.

ص: 207


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 401، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 304.
2- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 401، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 304.

ويفيد هذا التصوير أنّ الهفهاف كان قد عانى أشدّ المعاناة في مسيره؛ فهو قد خرج وحده _ كما يفيد سياق النصّ _، غير أنّ الأرض كانت مكتظّةً بالجُند والخيل والرجال، ممّا يعسر على مثل الهفهاف أن يسير على رَسْله وكما يحبّ، وعليه أن يختار الطرق غير السالكة، ويضطرّ للكمون والظهور في الجادّة أو غير الجادّة حسب توفّر الظروف الّتي تؤمّن له الحركة بين حراب القوم وعيونهم وخيلهم..

ويفيد السياق أيضاً أنّ الهفهاف كان يتابع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وركب المنايا منذ أن خرج من مكّة، ولولا ذاك لما توجّه إلى كربلاء حيث وقعت الفاجعة..إلّا أن يُفهَم أنّ خروج الهفهاف كان منذ أن أُسر الحسين (علیه السلام) واضطرّه الأعداء للنزول في كربلاء، إذ أنّه (علیه السلام) نزل كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم، ووقع القتال في اليوم العاشر، وهذه الأيام الثمانية كافيةٌ للمُجِدّ أن يسير من البصرة إلى كربلاء، سيّما إذا كان فارساً يدفعه الشوق إلى ركب المنايا، فيستحثّ فرسه ليسابق الريح والزمن حتّى يبلغ أمله في نصرة الحبيب!

اللمعة الخامسة: دخول كربلاء

سار حتّى انتهى إلى العسكر بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .. هكذا روى

ص: 208

الرسّان ((1)) ومَن تلاه.

إنتهى إلى العسكر.. إذ كان الإمام الحسين (علیه السلام) قد قُتِل، والمصيبة العظمى قد وقعَت.. لم يكن الإمام الحسين (علیه السلام) ليدخل عليه ويسلّم عليه..

يا لها من صدمةٍ فادحةٍ مفجعةٍ، تتهاوى لهولها الجبالُ الراسيات، وتندكّ لها الصمُّ الصلاب.. جاء ليلقى إمامه وحبيبه ويدفع عنه، وإذ هو يسمع منهم أنّهم قتلوه.. تركوه على الرمضاء مقطّع الأعضاء.. قد قلّبوا الهيكل المقدّس بحوافر الخيول، فرضّوا صدره وظهره، ورفعوا رأسه على عالي السنان يلوّحون به..وربّما فصّل المتأخّرون ما ورد عند المتقدّمين، فرووا أنّه سأل القوم: ما الخبر؟ أين الحسين بن عليّ؟! فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا الهفهاف الراسبيّ البصريّ، جئتُ لنصرة الحسين (علیه السلام) حين سمعتُ خروجَه من مكّة إلى العراق. فقالوا له: قد قتلنا الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأنصاره وكلَّ مَن لحق به وانضمّ إليه، ولم يبقَ غيرُ النساء والأطفال وابنُه العليل عليّ بن الحسين، أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول الله؟ ((2))

ص: 209


1- أُنظر: تسمية مَن قُتِل للرسّان: 156، الأمالي للشجريّ: 1 / 173، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 2 / 122 _ 123.
2- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 401، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 304.

أخبروه أنّهم قتلوا الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأنصاره، وكلَّ مَن لحق به وانضمّ إليه..

أكانوا يريدون إفزاعه وإرعابه وتحذيره أن يقدم على أيّ شيء؟ فإنّ مَن قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا يرعى بعده حُرمةً لدمٍ ولا حرمةً لله..

أخبروه أن لم يبقَ غيرُ النساء والأطفال، وابنُه العليل... وكان في ذلك حافزاً كافياً للهفهاف أن يذبّ عن هؤلاء النساء والأطفال المذاعير، وعن إمامه العليل الّذي شاء الله أن تقيّده العلّة فيصبر..

ربّما يُشعِر قولُهم: أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. أنّه شهد هذه المصيبة العظمى، فحقّ له أن تشتعل في كيانه جذوات الغَيرة لهباً عاصفاً يهبّ في وجوه الطغاة العتاة..

مَن يقوى على تصوير المشهد الّذي دخل فيه الهفهاف إلى كربلاء؟إمامه ملقىً على الرمضاء، مرمّلاً بالدماء، مسلوباً بالعراء، موزّع الأشلاء، ذبيحاً على الظماء، مرفوع الرأس على القنا.. والخيل لا زالت تحوم حوله سكرى مهملجة..

الأجساد المقدّسة المقطّعة السليبة مطروحةٌ في الميدان، كأنّها النجوم والأقمار في غدير الدماء..

الخيل ضابحةً تحمل أوغاداً ووحوشاً كواسر، تثير القسطل وتقتحم خدر

ص: 210

الله.. تسلب، وتنهب، وتضرب، وتروّع..

نساءٌ وأطفالٌ يفرّون على وجوههم في البيداء، يصرخون ويستغيثون.. والذئاب تلاحقهم.. تخرم الآذان.. تعالج الخلاخيل.. تفصم الأساور.. تخمش العقود.. فتخلفها جروحٌ وكدماتٌ وأسواطٌ وكعابُ الرماح وبعجات السيوف..

الكون قد تغيّر.. اظلمّ الهواء، وهبّت ريحٌ سوداء.. ونادى جبرئيل بين الأرض والسماء.. ومطرت السماء دماً وتراباً أحمر.. ارتفع ضجيج الملائكة وعويلها، وامتزج بضجيج الأيامى والأرامل والأيتام والثواكل... كلّ شيءٍ يُنذر بالخطر، حتّى ظنّوا أنّ الساعة قد قامت!

العسكر الطاغي يصفّق ويكبّر ويغنّي ويزغرد، ويملأ الأرجاء شماتةً وفرحاً بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. يزهو بقتل سادات البشر وخيار الكائنات..لم يعد يُبصِر مِن شدّة السكر طرباً وجذلاً وسروراً.. نشوان بقتله مَن جعلهم الله مظهر قوّته وتجسيداً للشجاعة.. فمن تجرّأ على حرمات الله وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وافتخر بذلك مفتخرهم، أيحسب لغيره حساباً؟!

في مِثل هذا الجوّ الصاخب في الأعداء..

في مثل هذا الجوّ الحزين الكئيب الباكي في الخلائق..

في مثل هذا الظرف الّذي كاد نظام الكون ينخرم فيه..

يقدم الهفهاف وحده، لينصر آلَ الله!

رجُلٌ يواجه عسكراً بأكمله.. خيّالته ورجّالته، ميمنته وميسرته، وقلبه

ص: 211

وجناحاه، رمّاحته وسيّافته ورماته..

رجُلٌ يواجه زهو العسكر الهائج المائج الجائش المتوحّش.. إنّ الوحش إذا سفك الدم تهيّج وحشيّته.. كيف وقد سفك الدم الزاكي الّذي اقشعرّت له أظلّة العرش!

رجُلٌ واحدٌ يواجه آلافاً مؤلّفةً مدجّجةً بأنواع الأسلحة.. ومن ورائه نساءٌ وصبيةٌ يساقون إلى السبي..

رجُلٌ واحد.. وإمامه عليلٌ مريض، أنهكَته العلّة والمصائب والفجائع.. وعسكرٌ جرّارٌ ملأ فجاج البيداء..

رجُلٌ واحد.. ومصيبةٌ هزّت السماواتِ والأرضين ومَن فيهنّ.. وهو يراها بعينه.. مصيبةً ترتعد لها فرائص الخلائق.. وعليه أن يتماسك لهاوينتقم..

ولو استرسلنا بالوصف والحديث عن تلك اللحظة الّتي وصل فيها الهفهاف كربلاء، وسوّدنا عشرات بل مئات الأوراق، لَما وفينا المشهد حقّه.. فيا ساعد الله الهفهاف!

اللمعة السادسة: دخول عسكر ابن سعد!

هكذا عبّر الرسّان في (تسميته): «فسار حتّى انتهى إلى العسكر بعد قتله، فدخل عسكر ابن سعد، ثمّ انتضى سيفه»..

كأنّ غاية مسيره كان العسكر.. فسار حتّى انتهى إلى العسكر..

ص: 212

وحينما وصل غايته، دخل فيهم.. اقتحمهم.. خاض فيهم وقد انتضى سيفه.. دخل عسكر ابن سعد.. رجُلٌ واحدٌ يدخل في عسكرٍ كامل.. يشقّ عبابهم، ويغوص في أعماقهم.. منتضياً سيفه، شاهراً سلاحه الّذي يلتحم بهم من خلاله.. إنّه قصد العسكر كملاً..

عجيبٌ واللهِ هذا الرجُل الشجاع القويّ البطل..

كان وصوله إلى كربلاء دخولاً في العسكر وحرباً ضروساً.. حقّاً كان من الجدير بالعسكر أن يغمره الذهول، وأن يتصايح ليجمع شتاته حين يرى صاعقةً حارقةً نزلَت عليه، تحصد فرسانه وتنثر المنايا عليهم في زخّاتٍ من الموت الزؤام..هزم الزهو.. سحق الكبرياء.. داس الغرور.. محق الخيلاء.. أطار النشوة.. قلب الفرح ترحاً والجذلَ وجوماً.. ظنّوا أنّهم قد أتوا على فرسان الهيجا وأبطال الدنيا، وإذا بهم يبعجون في قلب العسكر بسيفٍ تطاير له شرر الموت الأحمر، فتطاير له القوم كأنّهم جرادٌ منتشر..

لم يشعروا إلّا وهم يواجهون ملَكَ الموت يفري فيهم ويطحنهم، ويعجّل بأرواحهم الخبيثة إلى جهنّم والنيران..

اللمعة السابعة: رجَزه
اشارة

يمكن استشراف رجَز هذا البطل الهمام وليث البصرة الضرغام من خلال اللوحات التالية:

ص: 213

اللوحة الأُولى: نداء

كان الجيش الغارق في غمرات الزهو والتعالي والغرور والتعجرف والتبختر والتبجّح، المتطاول بالخيلاء والصلف والعتوّ والتيه.. طائشاً سادراً في النزق، يتمايل في هوج الخرق والنزق والتهوّر.. يجول بخيله في الميدان في استعراضٍ مقيتٍ شامت، وتنازعٍ عنيفٍ على سلب رحل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتجاذبٍ شرسٍ شكسٍ خشنٍ لثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. يتفاخرون باقتسام الرؤوس، ويتبجّحون بما فعلوا من جرائم عظامٍ اهتزّ لها عرش الجبّار واقشعرّت أظلّته، وارتجّ لها الكون والتكوين ممّا خلق ربُّالعزّة..

وبينما هم في خضمّ ما هم في الفرح والجذل والخيلاء، فإذا رجُلٌ يناديهم، وقد شهر سيفه، ويدعوهم ليحطّم كبريائهم، ويهشّم غرورهم، ويسحق بأقدامه الراسخة الثابتة زهوهم، ويدمّر غرورهم وطغيانهم..

يا أيّها الجند!

اللوحة الثانية: الجُند المجنَّد

دخل عسكر الأعداء، وقد انتضى سيفه، وهو يناديهم: «يا أيّها الجند المجنّد».. يبدو أنّه يصفه بتحشّده واجتماعه وتكاثفه وتآزره وتظاهره، كمن يقول: آلافٌ مؤلَّفة..

ميدان المعركة لم يكن كبيراً واسعاً، وعدد العسكر كان كثيفاً متكثّراً، فلابدّ من تكادسهم وتكردسهم وتحشّدهم وتجحفلهم وتكوّمهم وتراكمهم،

ص: 214

لتستوعبهم الأرض المحدودة لقتال العدد المحدود.. فهم مجنَّدون..

وهذا المعنى أقرب إلى تصوير المشهد من افتراض المجنَّد بمعنى المدفوع المأمور المألَّب بالتحشّد والاجتماع والتجمهر.

اللوحة الثالثة: التعريف بنفسه

حقّاً إنّه أُمّةٌ في رجُل.. عسكرٌ كاملٌ في رجُل..

إنّ رجلاً يواجه أكداس السلاح وكتائب الرجال وسرايا الفرسان،ويدعوهم إلى نفسه في مِثل تلك الساعة الّتي عثر الدهر فيها فرجّ الكائنات، لَجديرٌ به أن يعرّف نفسه لهم..

لقد أسمع التاريخَ صوتاً لم يسمع له أبناءُ آدم إيقاعاً مثيلاً..

مَن هذا الّذي يصعق عساكر الضلال بصوته، ويدمدم عليهم بصاعقة سيفه، ويختطف أبصارهم بوميض مهنّده الّذي برق في عتمة التاريخ وظلمة الأيّام ليمزّق جمعهم؟!!

إنّه الهفهاف بن المهنّد!

إنّه الشجاع الّذي قابل الجيش بكلّ قطعاته فرداً وحيداً، على أنقاض خيامٍ محترقةٍ، وأشلاءٍ موزّعةٍ، وعسكرٍ مقتولٍ مبضّع..

فلْتسمع كلُّ الخلائق صوته المجلجل الّذي دوّى في جميع آنات التاريخ، ليعلن عن رجلٍ اسمه (الهفهاف).. حملَته همّتُه، ودفعه إيمانه وعزمه، ليقاتل في ساحة الوغى الّتي تناثرت فيها جثث الضحايا والشهداء،

ص: 215

ولم يكن مَن يقاتل فيها سواه..

إنّه يرى نفسه كفؤاً لجميع تلك الجموع المتكاثفة، وهو لها كذلك.. إنّها الشجاعة والثقة بالله الّتي لا تكون إلّا في مِثل هؤلاء الرجال..

لك الفخر كلّه.. ولكلّ مؤمنٍ غيورٍ أن يباهي بك في كلّ يومٍ من أيّام التاريخ.. ولأبيك الّذي ذكرتَه بالاسم وافتخرتَ به كلّ الفخر والرحمة والسؤدد أن خلّف وَلداً مِثلَك..

اللوحة الرابعة: الغرض من النداء

في (تسمية مَن قُتل) للرسّان و(الحدائق) للمحلّيّ وغيرهما من مصادر المتقدّمين: «أبغي عيالَ محمّد»، وفي بعض كتب المتأخّرين: «أحمي» بدل «أبغي»..

ولا ندري إنْ كان المتأخّرون قد وقفوا على نسخة، أو أنّهم صحّحوا ما في المصدر الأوّل ومَن تلاه _ اجتهاداً _ ليضمّنوه معنىً يناسب المقام..

ولقوله: «أبغي» دلالةٌ مفجِعة..

أبغي.. أطلب.. إنّه يخبرهم أنّه يطلب عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ، ويريد الوصول إليهم.. لقد قُتل الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولو كان حيّاً لَطلبه وأراده.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..

ربّما أفاد هذا الإعلان أنّه قصد الوصول إلى عيال الإمام الحسين (علیه السلام) ، فمنعه الأوغاد، وصدّته الوحوش الكواسر، فانتضى سيفه وقاتلهم، ليقشعهم

ص: 216

ويكنسهم ويكردهم عن طريقه..

كما يفيد معنى الحماية.. أبغي عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ، أي: أبغي الدفاع عن عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) .. ففي هذا اللفظ ما يغني عن التغيير إلى «أحمي».

اللوحة الخامسة: عيال محمّد (صلی الله علیه و آله)

يفيض هذا الليث الهمام معرفةً وعلماً وإيماناً ووعياً وغَيرةً..

إنّه أسمعهم كلاماً لو سمعه مَن فيه شمّةٌ من البشريّة والدين، لَوعىوخشى وخاف وانكفأ..

إنّ العيال المتواجدين في كربلاء هم رحل الإمام الحسين (علیه السلام) وثقله.. غير أنّ الهفهاف نسبه النسبة الأصلية.. نسبهم إلى محمّدٍ نبيّهم وخاتم المرسلين (صلی الله علیه و آله) ..

الحرب كانت مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. المقتول في كربلاء هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. الدم المسفوك هو دم النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. الهيكل المرضوض هو هيكل النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. الخيام المحترقة الّتي التهمَتها نيران الحقد هي خيام النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. العيال المنهوبون المسلوبون المحرّق عليهم الفسطاط هم عيال النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ..

يا له من وعيٍ ومعرفةٍ وعمقٍ ينطق به الهفهاف، ليعلن في خضمّ تلك المعركة المتوحّشة أنّ الحرب كانت مع النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) ، والمقصود بها هو النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) !

ص: 217

إنّها حرب الانتقام ممّن حطّم أصنامهم، وسفّه أحلامهم، وهشّم جماجم كبرائهم، وسفك دماءهم العفنة بسيف أخيه ويد أمير المؤمنين أبي الحسين (علیهما السلام) .

اللوحة السادسة: صوتٌ غريبٌ يسمعه العيال

الابتعاد عن الوطن غربة.. فقد الأحبّة غربة ((1)).. فقد الأحبّة يهدّ القوى ((2)).. البقاء بين الأعداء غربة.. العطش والماء موجودٌ غربة.. النظر إلى الأهل والأولاد والأزواج والأنصار مجزّرين كالأضاحي مطرّحين على الرمضاء غربة..

عدّد واحصِ واحصر كلّ مصداق، وكلّ صورةٍ من صور الغربة الّتي يمكن أن يُبتلى بها مخلوقٌ أيّاً كان.. فإنّك لا تجد غربةً كغربة الإمام غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) وعياله!

عيالٌ قد هتك العدوّ خدرهم.. هجم عليهم في عقر خيامهم.. أحرق عليهم سرادقهم.. سلب ونهب، وتركهم يتراكضون على جمر الرمضاء وجمر النيران المتوقّدة تحت الأقدام.. يفرّون على وجوههم في البيداء.. ترطمهم صدور الخيل، وترمحهم حوافرها، وتطاردهم فرسانها المتوحّشون، وتنازعهم ملاحفهم، وتقضم أقراطهم، وتكسر معاصمهم، وتسوقهم بالسياط،

ص: 218


1- أُنظر: نهج البلاغة: 479 _ بشرح: صبحي الصالح.
2- أُنظر: عيون الحِكَم لليثيّ: 211 من كلامٍ لأمير المؤمنين (علیه السلام) .

وتلاحقهم على ظهور الخيل.. وهم يركضون عُزّلاً مذعورين مرعوبين بأقدامٍ لا تقوى على حملهم من شدّة العطش وعظيم الفادحة..

في مثل تلك الساعة العصيبة المكفهرّة الّتي انقلب العسكر الهائجالمتوحّش على عيال محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) بعد أن قتل الحماة والولاة.. قُتِل سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام الخلق.. قُتل حامل رايته أبو الفضل العبّاس (علیه السلام) .. قُتل عليٌّ الأكبر (علیه السلام) شبيه النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. قُتل حامل راية الميمنة والميسرة زهيراً وحبيباً.. قُتل جميع أهل البيت والأنصار.. لم يكن في ميدان الوغى سوى الأعداء، وقد أحاط الأوغاد والغوغاء ودخلوا خيام عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ..

في مثل هذه الغربة الّتي يندكّ لها كلّ كيان.. تسمع زينب بنت محمّدٍ وعليٍّ ويسمع عيالُ الحسين صوتاً ينادي في الجمع أنّه يبغيهم ويطلبهم ويدفع عنهم!

لا ناصر لإمام العصر بعد أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في تلك الأرض المهولة الموحشة.. يتدافعون على خيمته، ويتنازعون قتله.. ثمّ يسمع الإمام زين العابدين (علیه السلام) رجلاً ينادي في القوم، ويرجو أن يبلغ بسيفه ونصرته عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) !

بين صهيل الخيل الضابحة الهائجة، وقعقعة السلاح العاري المشهور الّذي ولغ في الدماء الزاكية ولا زالت تقطر منه.. رؤوس الحراب مضرّجةٌ بالدماء المقدّسة، وحدّ السيوف لا زال مصبوغاً بالدم.. زعقات العسكر.. صيحات الثمالى.. عربدة السكارى.. طبولٌ تُقرع وأبواقٌ تنفخ.. وفرسانٌ

ص: 219

يستعرضون بخيولهم في جميع الأنحاء، يفتّشون كلّ الأرجاء بحثاً عن غنيمةٍ أو بقايا غنيمة، أو ضحيّةٍ أو بقايا ضحيّة..في هذه الزحمة.. يسمع العيال رجُلاً يهتف لهم وباسمهم، ويريد الوصول إليهم لينصرهم.. يسمع العيالُ صوت ناصرٍ لهم!

أيّ موقفٍ عظيمٍ هذا؟! أيّ ذبٍّ عن الكرب؟! أيّ نصرة؟! أيّ مواساة؟! أيّ تسكينٍ لروع الغرباء؟!!

أرأيتَ امرأةً تُنازَع ملحفتها وتُغالَب على خمارها، فتصرخ وتستغيث حتّى يبحّ صوتها، ولا ترى من يغيث، ثمّ ترى مَن ينبري لنجدتها؟!

إنّه مشهدٌ لا يدركه إلّا مَن أدرك ذلك اليوم، ولا يصفه إلّا الإمام المعصوم (علیه السلام) ، كما فعل الإمام زين العابدين (علیه السلام) !

اللمعة الثامنة: شدّ فيهم

كان أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ينعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، فيتزوّدون منه العزم والشجاعة والإقدام، ويستمدّون منه القوّة والقدرة.. فوجهُ الإمام الحسين (علیه السلام) يشعّ للمحبّ شجاعةً وعزماً، فيستبسل ويستميت، فيسخو بالدنيا وزهرتها وما فيها، وينسى المال والأهل وعلائق الدنيا، ويفيض عليه الأمن والراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة..

وفي الوقت ذاته، تجد وجه الحسين (علیه السلام) وجه الله بجلاله وقدرته وسلطانه يشعّ على المناوئ المعادي هيبةً وجلالاً وهيمنة، فيملأ كيانه

ص: 220

الخوف والرعب والذعر والرهبة والفزع والارتياع والفَرَق..فيما أقدم الهفهاف وحده، وقد قَتلوا إمامه، وغيّبوا عنه وجه الحسين (علیه السلام) .. بيد أنّهم كانوا قد رفعوه على السنان في تلك الأحيان، فمن يدري لعلّه أبصر وجهه الأزهر القمريّ، ووقعَت عينُه على عينَي الإمام الحسين (علیه السلام) ، كأنّهما عينَي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهو على عالي السنان!

مع ذلك، فإنّه شدّ فيهم.. قاد العزم لوحده وشدّ فيهم.. هكذا عبّر الخبر.. تماماً كليثٍ غضبانٍ حرد، وتركهم كأنعامٍ مذعورةٍ تفرّ من قسورة، يعثر بعضهم برأس بعض، تسابق رؤوسُهم أقدامَهم، وفرسانُهم أفراسَهم، وهو يفري بسيفه ويجري حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة، كما سنسمع في كلام الإمام السجّاد (علیه السلام) ..

شدّ فيهم، ففرّق جمعهم، وخبطهم خبطاً.. فأحالها دهماء، لا يُبصِر فيها أحدُهم مهرباً ينجو به.. فتطايرت الرؤوس، وتناثرت الجماجم، ونقزت بهم الأفراس.

اللمعة التاسعة: إقامة الحُجّة بقتاله على القوم

في زحمة العسكر، وهياج الهيجاء، وطيش الغرور، وسكر الظفر.. يرتفع صوتٌ ينطق بالحقّ، فيُسمِع الأوغاد..

في تظافر قوى الشرّ وجنود إبليس، وتآزر سيوف الضلال والمكر والكبر والعتوّ.. يلمع وميض برق سيفٍ لا زال ضياؤه يشعّ إلى اليوم..

ص: 221

يبدر رجُلٌ يصرخ فيهم، ويحذّرهم وينذرهم، وينقضّ عليهم بسيفه، ويناديهم ليُسمعهم الحقّ من جديد، ويُعلمهم أنّهم إنّما فروا لحم محمّدٍ النبي (صلی الله علیه و آله) وهشّموا عظمه وسفكوا دمه وداسوا جسده بحوافر الخيول، وسلبوه وتركوه عرياناً في العراء.. وهم الآن ينهبون رحله ويسبون عياله.. إنّهم عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) !

ولا حُجّة لغاشمٍ ظلوم، ولا عذر له.. ليس لأحدٍ بين ذاك القطيع النافر أن يقول: لقد قتلوا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشتّتوا عياله، وأنا فردٌ لا أُقاوم هذا الجحفل الجرّار والسيل العارم من أكداس السلاح والرجال.. فإنّ في الوقت بقيّة.. هؤلاء عيال محمّدٍ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والواجب نصرتهم والدفاع عنهم، واستنقاذ بقيّتهم من أيدي الأشرار الكفّار الفجّار..

بل ربّما اشتدّ الأمر واعصوصب حين فقدوا الحماة وغادرهم الولاة، فنصرتهم الساعة أبلغ في الدفاع عنهم.. وقد وقعوا في الأسر، وهم عن أنفسهم لا يدفعون، ورجالهم وحماتهم على الرمضاء مطرّحون، فغربتهم أدهى وأمرّ..

لقد رمى بالحُجّة عليهم، ونثرها بين أعينهم بحدّ سيفه البتّار بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وألبسهم الذلّ والعار والشنار فوق ما جنوا لأنفسهم!

ص: 222

اللمعة العاشرة: شهادة الإمام السجّاد (علیه السلام) إمضاءٌ لشهادته وتصويبٌ لها

إذا أحبّ الله عبداً شمله بالعطاء، واحتواه بالسناء، وجعله مصبّاً لرحماته وعطاياه..

لقد وصل كربلاء في حين كان القوم قد قتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامسَ أصحاب الكساء.. وقد أمضى الإمام الحسين (علیه السلام) شهادة كلّ واحدٍ من أنصاره وأهل بيته والمستشهَدين بين يديه في الطفوف.. وها هو ذا الهفهاف يقاتل عسكر الكفر والضلال وحيداً في مرمى بصر إمام زمانه الغريب الوحيد الفريد زين العابدين (علیه السلام) وعلى عينه.. فأكرمه الإمام (علیه السلام) وأمضى له شهادته بشهادته له بما سنسمعه بعد قليل، ففاز بالشهادة راضياً مرضيّاً، قد أبّنه إمامه ورضي له فعله، وأُدخِل في كوكبة الشهداء السعداء الّذين رحلوا في ذلك اليوم.

اللمعة الحادية عشرة: شهادة الإمام زين العابدين (علیه السلام)

الإمام هو عنصر الشجاعة ومعدنها، ومظهر قدرة الله وقوّته وجلاله، فإذا شهد لأحدٍ بالشجاعة فذاك غايتها ومنتهاها ونموذجها الأمثل!

وقد ظهرت منذ أن بعث الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) من صور الشجاعة والفروسيّة والبطولة في الناس ما يعزّ له النظير في تاريخ البشر.. فإذا أخذتَ هذه الفترة الّتي امتازت بهذه الميزة عنواناً، فإنّك استوعبتَ التاريخ طولاً وعرضاً..

والإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) هو العنوان الحاكي عن

ص: 223

جميع الأئمّة (علیهم السلام) ، بل جميع آل أبي طالب.. فهم لا يُقاس بهم أحدٌ في كلّ شيء، لذا استثناه الإمام السجّاد (علیه السلام) ..

ثمّ إنّه لم يقل: لم أرَ أو لم نرَ، بحيث ينسب ذلك إلى نفسه المقدّسة كإمامٍ أو كشخصٍ بذاته، وإنّما نسب الرؤية للناس، فالمقارنة خارج دائرتهم (علیهم السلام) .. وربّما أشار بهذه النسبة إلى الأعداء الّذين قاتلوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فهم الّذين عبّر عنهم الناس..

وقد وصفه الإمام (علیه السلام) بثلاث صفات، كلّها تؤكّد معنىً واحداً:

- فارساً..

- شجاعاً.. ((1))

- قتل بيده ما قتل..

ولو اكتفينا بنصّ الرسّان ومَن تلاه، فإنّ وصفه بالفارس لَمنقبةٌ لا ترقى إليها منقبةٌ في البطولة والشجاعة والانضباط والفتوّة والسطوة في الميدان والتسلّط على الأعداء والعدوان!

وقد قتل مَن قتل بيده.. مواجهةً، لا بحيلةٍ ولا غدر.. لا بسهمٍ يرميه من بعيد، ولا برمحٍ يطعن به على مسافة، وإنّما بيده.. أي: بسيفه، غير أنّ التعبير باليد أبلغ في بيان الشجاعة والقوّة والاقتدار..

ص: 224


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 401، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 304.

لقد قتل منهم مقتلةً عظيمة.. قتل ما قتل.. ويكفيه فخراً أنّ الإمام السجّاد (علیه السلام) أخرج الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لكثرة ما قتل، ثمّ ذكره، فالإمام (علیه السلام) حين أخرج الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) من المقارنة، لاستحالة أن يبلغ أحدٌ من البشر العاديّ قوّته وقدرته وكثرة ما قتله من أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فهو قد عظّم ورفع مقام الهفهاف، إذ أنّه أخرجه في حدّ المقارنة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وليس عن أحدٍ آخَر من العالمين منذ أن بعث الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) .

اللمعة الثانية عشرة: قتاله وشهادته

ورد في (تسمية) الرسّان مختصراً يروي قتاله وشهادته، وورد عند مَن تأخّر شيءٌ من التفصيل لذاك المختصر..

شدّ فيهم كليث العرين، يضربهم بسيفه.. وهو يرتجز، ويزمجر، ويدمدم عليهم.. لم يزل يحصد الرؤوس، ويقتل كلَّ مَن دنا منه من عيون الرجال.. قتل ما قتل منهم، سوى مَن جرح..

وقد كانت الرجال لَتشتدّ عليه، فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الأسد الحردان.. وهو في ذلك يرتجز بالشعر المذكور، وقد أُثخِن بالجراح..

فصاح عمر بن سعد بقومه: الويل لكم، احملوا عليه من كلّ جانب!

فأقبل خمسة عشر نفراً، وفي كتاب (التسمية): خمسة، فاحتوشوه حتّى

ص: 225

قتلوه في حومة الحرب، بعدما عقروا فرسه ((1)).

إحتوشوه، وتكاثروا عليه.. هكذا قتلوا جميع أنصار الحسين (علیه السلام) وأهل بيته، وهكذا قتلوا سيّد شباب أهل الجنّة وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) .. ولو برزوا لهم رجُلاً رجُلاً، لَأفنوهم عن آخِرهم.. إنّها لؤم الغلَبة المتجذّرة فيهم منذ اليوم الّذي تكاثروا فيه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبته وابنته، واحتوشوها حتّى كسّروا أضلاعها وأسقطوا جنينها..

فسلام الله عليه وسلام ملائكته وعباده الصالحين، وله منّا السلام، و(ستبقى هاطلات الدموع تحيّيه غاديةً رائحة).

11. سعيد بن مرّة التميميّ

روى السيّد عليّ بن الحسين الهاشميّ النجفيّ الخطيب (المتوفّى سنة 1396 هجريّة، أي: قبل 45 سنة) في كتابه (ثمرات الأعواد) أحداثاً غريبةً تفرّد بها، ربّما ناسبت أُسلوبه السرديّ.

سنذكر هنا ما جاء في الكتاب من دون تعليقٍ ولا مناقشة، اعتماداً على ما مرّ معنا من بحث، ولأنّه معاصرٌ قد تفرّد بمعلوماتٍ لم نجد لها أثراً عند مَن سبقه فيما توفّر لدينا من مصادر وكتب.

ص: 226


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 257، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 203، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 401، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 304.

وإنّما عمدنا إلى سردها هنا كما سردها هو (رحمة الله) ، لنكون قد استوعبنا ما ورد في الباب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولأنّه ذكر شهيداً هو (سعيد بن مرّة التميميّ)، فاحتطنا للدم المقدّس فذكرناه.

قال السيّد الهاشميّ تحت عنوان (المطلب الثاني والثلاثون، في مَن حظي بالشهادة من أهل البصرة):

لمّا كاتب الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) أشراف أهل البصرة ورؤسائهم يدعوهم إلى نصرته واللزوم تحت طاعته، أجابه مَن أجابه، كيزيد ابن مسعود النهشليّ ومعه إثنا عشر ألف، لكنّهم فاتتهم نصرة الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّهم خرجوا من البصرة متّجهين إلى الحسين (علیه السلام) ، فوافاهم خبر قتله في بعض الطريق فرجعوا خائبين من نصرته..

وأمّا الّذين سُعدوا ورُزقوا الشهادة، فهم ستّةٌ كما ذكرهم أهل المقاتل، أوّلهم: عبد الله الفقعسيّ، وكان شيخاً كبيراً طاعِناً في السنّ، ووُلده أربعة، والسادس هو سعيد بن مُرّة التميميّ.

أمّا سبب خروج هذا الشيخ [أي: عبد الله الفقعسيّ] ووُلده على ما يُروى:

إنّه كان امرأةٌ من أهل البصرة تُسمّى: مارية بنت مُنقذ العَبديّ، وكانت تتشيّع، وهي من ذوي البيوت والشرف، وقد قُتل زوجُهاوأولادها يوم الجَمَل مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد بلغها أنّ الحسين (علیه السلام) كاتب أشراف أهل البصرة ودعاهم إلى نصرته، وكان

ص: 227

عندها نادٍ يجتمع فيه الناس، وجلست بباب مجلسها وجعلت تبكي حتّى علا صراخها، فقام الناس في وجهها وقالوا لها: ما عندكِ؟ ومَن أغضبكِ؟ قالت: ويلكم! ما أغضبَني أحد، ولكن أنا امراةٌ ما أصنع؟ ويلكم! سمعتُ أنّ الحسين ابن بنت نبيّكم استنصركم، وأنتم لا تنصرونه. فأخذوا يعتذرون منها لعدم السلاح والراحلة، فقالت: أهذا الّذي يمنعكم؟! قالوا: بلى.

فالتفتَتْ إلى جاريتها وقالت لها: انطلقي إلى الحُجرة وآتيني بالكيس الفلاني. فانطلقَت الجارية وأقبلَت بالكيس إلى مولاتها، فأخذَت مولاتها الكيس وصبّته، وإذا هو دنانير ودراهم، وقالت: فلْيأخُذ كلُّ رجُلٍ منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيّدي ومولاي الحسين (علیه السلام) .

قال الراوي: فقام عبد الله الفقعسيّ وهو يبكي، وكان عنده أحد عشر ولداً، فقاموا في وجهه وقالوا: إلى أين تريد؟ قال: إلى نصرة ابن بنت رسول الله. ثمّ التفت إلى مَن حضر وقال: ويلكم! هذه امرأةٌ أخذَتها الحميّة، وأنتم جلوس؟! ما عذركم عند جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة؟!قال: ثمّ خرج من عندها، وتبعه مِن وُلده أربعة، فأقبلوا يجدّون السير، حتّى استخبروا بأنّ الحسين (علیه السلام) ورد كربلاء، فجاء الشيخ بأولاده إلى كربلاء، ورُزقوا الشهادة!!

* * * * *

ص: 228

وأمّا السادس: فهو سعيد بن مُرّة التميميّ، وكان سعيداً شابّاً له من العمر تسعة عشر سنة.

فإنّه لمّا سمع بأنّ الحسين (علیه السلام) يستنصر أشراف أهل البصرة في كتبه، أقبل إلى أُمّه في صبيحة عرسه وصاح: أُمّاه! علَيّ بلامة حربي وفرسي. قالت: وما تصنع بها؟ قال: أُمّاه، قد ضاق صدري، وأُريد أن أمضي إلى خارج البساتين. فقالت له: ولدي، انطلقْ إلى زوجتك ولاطِفْها. فقال: يا أُمّاه، لا يسعني ذلك.

فبينما هم كذلك إذ أقبلَت إليه زوجتُه، وقالت له: إلى أين تريد يا ابن العمّ؟! فقال لها: أنا ماضٍ إلى مَن هو خيرٌ منّي ومنكِ! فقالت له: ومَن هو خيرٌ منك ومنّي؟! فقال لها: سيّدي ومولاي الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .

فلمّا سمعَتْ أُمُّه بكت، وقالت له: وَلدي، جزاك الله عن الحسين خيراً، لكن ولدي، أما حملتُك في بطني تسعة أشهر؟! قال: بلى. قالت: أما سهرتُ الليالي في تربيتك؟ قال: بلى، وأنا لستُ بمُنكِرٍ لحقّكِ علَيّ. قالت: إذاً عندي وصيّة! قال: وما هييا أُمّاه؟ فقالت له: ولدي، إذا أدركتَ سيّدَ شباب أهل الجنّة، اقرأْه عنّي السلام، وقُلْ له فلْيشفع لي يوم القيامة.

فقال لها: يا أُمّاه، وأنا أُوصيكِ بوصيّة. قالت: ما هي؟ قال: إذا رأيتِ شابّاً لم يتهنّأ بشبابه وعرّيساً لم يتهنّأ بعرسه، اذكري عرسي وشبابي.

ص: 229

قال الراوي: ثمّ ودّعها وخرج من البصرة، وأقبل يجدّ السير في الليل والنهار، واستخبر ببعض الطريق أنّ الحسين قد نزل كربلاء، فجعل يجدّ السير حتّى وافى الحسين في اليوم العاشر من المحرّم وحيداً فريداً.

فلمّا رآه الحسين قال: «سعيدٌ هذا؟»، قال: نعم سيّدي. قال: «يا سعيد، ما قالت لك أُمُّك؟»، فقال: سيّدي، تقرؤك السلام. فقال الحسين (علیه السلام) : «عليك وعليها السلام، يا سعيد، إنّ أُمّك وأُمّي في الجنّة».

ثمّ قال سعيد: سيّدي، أتأذن لي أن أُسلّم على بنات الرسالة؟ قال: «نعم». فأقبل سعيد حتّى وقف بإزاء الخيام، ونادى: السلام عليكم يا آل بيت رسول الله! فصاحت جارية زينب: وعليك السلام، فمن أنت؟ قال: سيّدتي، أنا خادمكم سعيد بن مُرّةالتميميّ، جئتُ إلى نصرة سيّدي ومولاي الحسين. فقالت: يا سعيد، أما تسمع الحسينَ (علیه السلام) ينادي: «هل مِن ناصر؟ هل من معين؟». قال: ثمّ سلّم عليهنّ، ورجع إلى الحسين ووقف يستأذنه للبراز، فأذن له الحسين (علیه السلام) .

فحمل على القوم وجعل يُقاتل، حتّى قتل جمعاً كثيراً، فعطفوا عليه أعداء الله فقتلوه.

ولمّا قُتل سعيد مشى لمصرعه الحسين فجلس عنده، وأخذ رأسه

ص: 230

ووضعه في حِجره، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول: «أنت سعيدٌ كما سمّتك أُمُّك، سعيدٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة» ((1)).

ص: 231


1- ثمرات الأعواد للهاشميّ: 169 وما بعدها.

ص: 232

البصرة عند مقتل الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

مرّ معنا الحديث عن البصرة وظروفها وسكّانها فيما سبق من البحث، بَيد أنّ الخاتمة اقتضَت التنويه إلى بعض الأُمور، ليتمّ البحث عن وقائع البصرة وتكتمل الصورة عن الأجواء تلك الأيّام فيما يخصّ قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسنكتفي بالإشارة إليها على عجل.

إنّ من المجازفة بمكانٍ أن يصوّر أحدٌ أنّ البصرة كانت أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) غير مغلقةٍ على الأُمويّين وأتباع السقيفة والجَمَل بعد أن وردَت النصوص المقدّسة في تأكيد ذلك، ووجودُ أفرادٍ معدودين محصورين كالنجوم الزواهر _ الّتي علاها الغبار فكسف ضوأها في حنادس الظلمات _ لا يعني الحكم على تلك الظلمات بانتشار الضياء في بلاقعها..

لقد كان الشيعة في الكوفة يومذاك عدداً قليلاً بالنسبة إلى مجموع عدد السكّان القاطنين فيها، وكان عددهم ضئيلاً جدّاً، كما مرّ معنا في دراسة وقائع سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .

ص: 233

ومع ذلك، كان يُقال: إنّ الشيعة في الكوفة هم الأكثر بالنسبة إلى باقي البلدان.. فكيف سيكون عددهم في باقي البلدان؟

ربّما كان قد هجّر الطاغوت بعض الشيعة الأبرار إلى البصرة، أو اضطرتهم المضايقات والملاحقات إلى الهجرة إليها، بَيد أنّهم لا يزالون أقلّيّةً لا تكاد تبين ولا يُرى لها سواد!

وكانت البصرة على تلك الحال آماداً من الزمن لا يسارع منهم أحدٌ إلى الحقّ واتّباع أئمّته (علیهم السلام) إلّا القليل، وذلك بعد فترةٍ طويلةٍ من شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حتّى كانوا يقولون في قوله (تعالى): ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ((1))، إنّها لأقارب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فكذّبهم الإمام الصادق (علیه السلام) وقال: «كذبوا، إنّما نزلَت فينا خاصّةً في أهل البيت، في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء (علیهم السلام) » ((2)).

وكانوا راسخين متوغّلين في الولاء والتبعيّة لآل أبي سفيان، ومّما يشهد لذلك _ والشواهد كثيرة _ :

أنّه لمّا بويع خالد بن يزيد بن معاوية بعده، اجتمع أهل البصرة

ص: 234


1- سورة الشورى: 23.
2- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 8 / 93 ح 66، الصافي للكاشانيّ: 4 / 373، البرهان للبحرانيّ: 4 / 121، نور الثقلين للحويزيّ: 4 / 572، كنز الدقائق للمشهديّ: 11 / 502.

على عُبيد الله بن زياد، وكان واليها في أيّام معاوية ويزيد، ونصبوه أميراً ((1)).

وقد جهد كبراؤهم في الدفاع عن ابن زياد، وحموه حتّى أخرجوهمنها.. وقد أتينا على الإشارة إلى ذلك فيما مضى.

فلمّا اختلف أمر الناس، ومات يزيد، وامتدّ سلطان ابن الزبير وغلظ شأنه وعظم أمره، وخلع أهلُ البصرة طاعة بني أُميّة وبايعوا ابن الزبير ((2))..

وكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلّي بالناس ((3))..

ويشهد لذلك أيضاً ما رواه السمعانيّ في (الأنساب)، قال:

وسمعتُ أبا الغنائم المسلم بن نجم المزنيّ الكوفيّ بسمرقند يقول:

فاخرت أهلُ الكوفة أهلَ البصرة حتّى وقعوا في القبائل، فكلّ قبيلةٍ ذكرها أهلُ الكوفة ذكر أهلُ البصرة أنّ جماعةً من هذه القبيلة نزلَت بالبصرة منهم طائفةٌ أيضاً، حتّى وصل أهل الكوفة إلى همدان، فسكت أهل البصرة، واعترفوا أنْ ليس بالبصرة من بني همدان أحد.

ورُوي أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) قال:

ص: 235


1- البدء والتاريخ للبلخيّ: 2 / 245.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 16.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 237.

«فلو

كنتُ بوّاباً على باب جنّةٍ

لَقلتُ

لهمدان: ادخُلي بسلامِ» ((1))

وقديماً قيل:مَن نزل البصرة فلم يقرّ لهم بثلاثٍ فليست له بدار: بفضل عثمان، وفضل الحسن البصريّ، ورطب الأزاذ ((2)).

وعند شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كانوا في عداد الشامتين، كما سمعنا وسيأتي بعد قليل.

بكاء أهل البصرة!

روى المحموديّ _ المعاصر _ في (العبرات)، عن الزهريّ قال:

لمّا بلغ الحسنَ البصريّ وابنَ سيرين وعلماءَ البصرة قتلُ الحسين (علیه السلام) ، اجتمعوا وبكوا عليه أيّاماً ((3)).

وقال:

وشاع قتلُ الحسين (علیه السلام) في جميع الأقطار، فعظم حزنهم وبكاؤهم عليه، وكان أشدّ الناس عليه حُزناً أهلُ المدينة وأهل مكّة وأهل البصرة، ولم يبقَ منهم أحدٌ إلّا لطم وجهه ((4)).

ص: 236


1- الأنساب للسمعانيّ: 5 / 647.
2- أُنظر: البلدان لابن الفقيه الهمَداني (ت 340 ه-): 203.
3- العَبرات للمحموديّ: 2 / 381.
4- زفرات الثقلين للمحموديّ: 1 / 82.

هذه الأمصار الثلاثة الّتي خذلَت ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودفعَته إلى سيوف القوم طعمةً ولسهامهم دِريّةً ولرماحهم غرضاً، وتركوا عيال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعُسلان الفلَوات تنهشهم نهباً وسلباً وسبياً وتشهيراً..

ويكفي في تكذيب هذه الأباطيل التافهة الّتي لا تنهض، ما سمعناهوسنسمعه من كلام أهل البيت (علیهم السلام) في شرح حال أهل البصرة بالذات!

لا يغرّنا الراوي والمؤرّخ، فيزوّق لنا قبائح القوم ويصوغ الدفاع عن المتخاذلين المجرمين في قوالب تشبه قوالب المناقب والفضائل.. كأنّه يريد أن يسوق لنا جليل رزء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيخيّل إلينا أنّ هؤلاء الأوغاد بكوا على الإمام (علیه السلام) ولطموا وجوههم.. وهم خاذلون، والإمام المعصوم (علیه السلام) يصرّح أنّ الكائنات كلّها بما فيها بكت غريب الغرباء (علیه السلام) ، إلّا بعض الأمصار، ومنها البصرة!

فلْنستمع ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، فإنّ في بيانه الوافي الكافي ما يغني عن الشرح والتفصيل..

روى الشيخ الكلينيّ والشيخ ابن قولويه مسنداً عن الحسين بن ثوير قال: كنتُ أنا ويونس بن ظبيان والمفضَّل بن عمر وأبو سلَمة السرّاج جلوساً عند أبي عبد الله (علیه السلام) ، وكان المتكلّم منّا يونس، وكان أكبرنا سنّاً، فقال له: جُعلتُ فداك، إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم _ يعني وُلد العبّاس _، فما أقول؟ فقال: «إذا حضرتَ فذكرتَنا، فقُل: اللّهمّ أرِنا الرخاء

ص: 237

والسرور، فإنّك تأتي على ما تريد».

فقلت: جُعلتُ فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين (علیه السلام) ، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال: «قل: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه من قريبٍ ومن بعيد».ثمّ قال: «إنّ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) لمّا قضى، بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن ينقلب في الجنّة والنار مِن خَلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى بكى على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه!». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة الأشياء؟! قال: «لم تبكِ عليه البصرة ولا دمشق ولا آل عثمان (عليهم لعنة الله)» ... ((1)).

وروى ابن قولويه مسنداً عن يونس وأبي سلَمة السرّاج والمفضّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «لمّا مضى الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، بكى عليه جميعُ ما خَلَق الله، إلّا ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان» ((2)).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «لمّا قُتل الحسين (علیه السلام) ، بكت عليه السماوات السبع ومَن فيهنّ مِن الجنّ والإنس والوحوش والدوابّ والأشجار والأطيار، ومَن في الجنّة والنار، وما لا يُرى، كلّ ذلك يبكون على الحسين (علیه السلام)

ص: 238


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 575، كامل الزيارات لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 5، و198 ح 2.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 4.

ويحزنون لأجله، إلّا ثلاث طوائف من الناس، فإنّها لم تبكِ عليه أبداً!». فقيل: فمن هذه الثلاثة الّتي لم تبكِ على الحسين؟! فقال: «هم أهل دمشق، وأهل البصرة، وبنو أمية، لعنة الله على الظالمين!» ((1)).

هذه شهادة الإمام المعصوم (علیه السلام) فيهم، فما قدر تُرّهات الحسن البصريّ وغيره من الخاذلين الملعونين؟!!لم يبقَ شيءٌ في المخلوقات إلّا بكى.. وأهل البصرة على مستوىً واحدٍ من الشماتة والقساوة مع الشام وبني أُميّة!

لقد كانت هذه النصوص هي الأساس الّذي ابتنى عليه البحث وانطلق في تقييم المواقف وتشييد المباني وترسيم المشاهد، وفق ما قرّرناه في (المدخل) من مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة) وكتاب (السيّدة بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))..

فلا ضرورة للمزايدة والتنافخ والمنافحة والمكابرة، والتفلّت من صريح النصوص الحديثيّة الواردة في المصادر الموثوقة، لترسيخ الصور الّتي تكدّسَت في الأذهان كسوابق، ولا العصبيّة التافهة لمغالطاتٍ تنفر منها العقول وتقرف منها القلوب حين تغلي اليوم من أجل أُمّةٍ بادت وانقرضت.. فالبصرة اليوم غير البصرة بالأمس الغابر! ولكلٍّ حكمه وموقعه حسب الموازين الربّانيّة.

ص: 239


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 1 / 39.

ص: 240

محتويات الكتاب

يزيد يضمّ الكوفة إلى ولاية ابن زياد.................................... 5

المتون............................................................................................ 5

إبن سعد، ابن عساكر، مختصر ابن منظور:......................................................................... 5

إبن قُتيبة، البيهقيّ:............................................................................................................ 6

البلاذريّ:......................................................................................................................... 6

الدينوريّ:........................................................................................................................ 7

اليعقوبيّ:......................................................................................................................... 8

الطبريّ، الشجريّ، المُزّيّ، ابن حجَر:................................................................................ 8

الطبريّ:........................................................................................................................... 9

إبن أعثم:...................................................................................................................... 10

إبن عبد ربّه:.................................................................................................................. 11

الباعونيّ:....................................................................................................................... 11

المسعوديّ:.................................................................................................................... 11

إبن حبّان:...................................................................................................................... 12

القاضي النعمان:............................................................................................................. 12

الشيخ المفيد (رحمة الله) :....................................................................................................... 12

الخوارزميّ، ابن أبي طالب:............................................................................................ 13

المحلّيّ:........................................................................................................................ 15

ص: 241

أبو الفداء:...................................................................................................................... 16

السمهوديّ:................................................................................................................... 16

مسكويه:....................................................................................................................... 16

الطبرسيّ:....................................................................................................................... 17

الخوارزميّ:................................................................................................................... 17

إبن عساكر، مختصر ابن منظور:..................................................................................... 19

الشيخ ابن شهرآشوب (رحمة الله) :.......................................................................................... 19

إبن الجَوزيّ:................................................................................................................. 19

إبن الأثير، النويريّ:....................................................................................................... 20

سبط ابن الجَوزيّ:......................................................................................................... 20

السيّد ابن طاووس (رحمة الله) :............................................................................................... 21

الذهبيّ:......................................................................................................................... 21

إبن كثير:....................................................................................................................... 22

إبن خلدون:.................................................................................................................. 22

إبن حجَر، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر:.................................................... 22

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:................................................................................................... 23

إبن حجَر:...................................................................................................................... 23

تاج الدين العامليّ:......................................................................................................... 23

الشيخ الطُّريحيّ:............................................................................................................ 23

مقتل أبي مِخنَف (المشهور):.......................................................................................... 24

القندوزيّ:..................................................................................................................... 25

أسد حيدر:.................................................................................................................... 25

بواعث ضمّ الكوفة إلى ابن زياد................................................... 26

الباعث الأوّل: كان قد ولّاه مِن قبل................................................................................. 26

الباعث الثاني: سماعه بقصد الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة............................................. 28

ص: 242

الباعث الثالث: إجراءٌ احترازيّ....................................................................................... 29

النحو الأوّل: الخوف من النعمان.............................................................................. 29

النحو الثاني: الاحتراز لمعالجة الموقف.................................................................... 30

النحو الثالث: إحتراز معاوية..................................................................................... 32

الباعث الرابع: تفضيل النعمان للإمام الحسين (علیه السلام) على يزيد............................................ 32

الباعث الخامس: لِما ورده من كتاب عيونه في الكوفة.................................................... 34

الخلاصة:...................................................................................................................... 35

مستشار يزيد!................................................................................. 36

المستشار الأوّل: رأي القرد المجدور.............................................................................. 36

المستشار الثاني: أهل الشام............................................................................................. 39

النقطة الأُولى: المقصود بأهل الشام...................................................................... 40

النقطة الثانية: عدم تفرّد سرجون............................................................................... 40

المستشار الثالث: سرجون............................................................................................... 40

الأوّل: إعداد معاوية................................................................................................ 42

الثاني: رأي سرجون!............................................................................................... 44

الوقفة الأُولى: سرجون، أو الآخَرون؟....................................................................... 46

الوقفة الثانية: دلالات رأي سرجون!......................................................................... 47

الوقفة الثالثة: هل علم سرجون ولم يعلم يزيد؟!........................................................ 48

حامل كتاب يزيد......................................................................... 50

محتويات كتاب يزيد.................................................................... 52

الموضوع الأوّل: سيّد الشهداء (علیه السلام) .................................................................................. 52

الإشارة الأُولى: الموضوع الأوّل............................................................................... 54

الإشارة الثانية: نغل آل أبي سفيان............................................................................. 54

الإشارة الثالثة: إخباره بتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) نحو الكوفة!....................................... 55

ص: 243

مشكلة التوقيت!...................................................................................................... 57

الجواب الأوّل: اعتماد مجريات الأحداث...................................................................... 57

الجواب الثاني: الكتابة إليه وهو في الكوفة..................................................................... 58

الجواب الثالث: إرسال كتابَين.................................................................................... 59

الموضوع الثاني: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .................................................. 61

النقطة الأُولى: أن يطلب المولى الغريب (علیه السلام) ............................................................. 65

النقطة الثانية: التعامل مع المولى الغريب (علیه السلام) ............................................................. 66

النقطة الثالثة: مزاعم شيعة القرود.............................................................................. 68

النقطة الرابعة: خبث التعبير....................................................................................... 69

الموضوع الثالث: سيّد الشهداء والمولى الغريب مسلم (علیهما السلام) ، ووضعُ الكوفة.................. 70

المحور الأوّل: جمعها الموضوعَين الأوّلَين............................................................... 73

المحور الثاني: ما يخصّ المولى الغريب (علیه السلام) ............................................................ 74

المحور الثالث: ما يتعلّق بشأن سيّد الشهداء (علیه السلام) ........................................................ 74

المحور الرابع: ما يتعلّق بالكوفة وأهلها..................................................................... 76

خلاصة ما ورد في الكتاب على العموم.......................................................................... 77

تاريخ كتابة العهد.......................................................................... 79

خروج ابن زياد من البصرة............................................... 83

المتون.......................................................................................... 83

الإشارة الأُولى: متى خرج ابن زيادٍ من البصرة؟.......................... 89

الإشارة الثانية: عدد مَن أخرجهم معه........................................... 91

العدد الأوّل: فاقدٌ للتحديد............................................................................................. 91

القسم الأوّل: ذكر بعض الأسماء.............................................................................. 91

القسم الثاني: ذكر الأسماء والعنوان العامّ.................................................................. 92

العدد الثاني: فيه تحديد.................................................................................................. 94

ص: 244

الرقم الأوّل: اثنا عشر رجُلاً...................................................................................... 94

الرقم الثاني: خمسمئة من أهل البصرة...................................................................... 94

الحاصل:....................................................................................................................... 95

الإشارة الثالثة: أسماء مَن أخرجَهم معه......................................... 97

الأوّل: المنذر بن الجارود............................................................................................... 98

الثاني: شريك بن الأعور............................................................................................... 98

الثالث: مسلم بن عمرو الباهليّ..................................................................................... 100

الرابع: عبد الله بن الحارث............................................................................................ 101

الخامس: حُصَين بن تميم............................................................................................ 104

السادس: مهران........................................................................................................... 105

السابع: الحشَم والغلمان................................................................................................ 105

الثامن: أهل بيت الجرو................................................................................................ 106

الإشارة الرابعة: أحداثٌ في الطريق........................................... 107

الإفادة الأُولى: مكان تمارُض القوم.............................................................................. 108

الإفادة الثانية: مَن سقط أوّلاً......................................................................................... 108

الإفادة الثالثة: سبب التمارُض والتساقط........................................................................ 109

المؤدّى الأوّل: رجاء سبق الحسين (علیه السلام) .................................................................. 109

المؤدّى الثاني: فطنة ابن الفاجرة............................................................................ 110

المؤدّى الثالث: استعجال الجرو المسعور............................................................... 110

الإشارة الخامسة: مناقشة.............................................................. 111

المناقشة الأُولى: ما مرّ في المؤدَّيات............................................................................. 112

المناقشة الثانية: انفراد الطبريّ....................................................................................... 112

المناقشة الثالثة: التعارض مع نصوصٍ أُخرى................................................................. 113

المناقشة الرابعة: توهُّم الناس أنّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ......................................................... 115

ص: 245

المناقشة الخامسة: التمارض رجاء سبق سيّد الشهداء (علیه السلام) ............................................... 115

المناقشة الخامسة: لو سبق سيّد الشهداء (علیه السلام) .................................................................. 116

البصرة بعد خروج ابن زياد............................................. 119

الإجراء الأوّل: الإرهاب والإرعاب.............................................. 121

الإجراء الثاني: أخذ الطريق....................................................... 122

الإجراء الثالث: تحريض أهل البصرة على حرب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) 123

الملتحقون من أهل البصرة............................................. 125

النقطة الأُولى: التحاقهم في مكّة................................................. 125

النقطة الثانية: نسبة مَن خرج إلى مَن تخلّف............................... 126

النقطة الثالثة: اختيار مكّة على الكوفة......................................... 127

النقطة الرابعة: مَن قُتِل مِن أهل البصرة...................................... 128

شهداء من البصرة.......................................................... 131

1 - 3. يزيد بن ثُبَيط العَبديّ البصريّ، وابناه: عبد الله، وعُبيد الله 131

المعلومة الأُولى: نسَبهم................................................................................................ 131

المعلومة الثانية: بعض خصائصهم................................................................................. 133

المعلومة الثالثة: عُمُره................................................................................................... 136

المعلومة الرابعة: التحاقهم بالإمام (علیه السلام) ........................................................................... 137

الإفادة الأُولى: وقت الاجتماع............................................................................... 138

الإفادة الثانية: ظروف خروج يزيد وابنيه................................................................ 139

الإفادة الثالثة: موقف الحاضرون............................................................................ 141

الإفادة الرابعة: موقف الأولاد!................................................................................ 142

الإفادة الخامسة: اجتماع العبديِّين........................................................................... 143

ص: 246

الإفادة السادسة: خروج البصريّين الآخَرين معه!..................................................... 145

الإفادة السابعة: مخالفة القوم!................................................................................. 146

الإفادة الثامنة: المسابقة إلى اللقاء!.......................................................................... 148

الفائدة التاسعة: يزيد يرجع إلى رَحْله..................................................................... 151

الفائدة العاشرة: فبذلك فلْيفرحوا!.......................................................................... 151

الفائدة الحادية عشرة: سياق الآية الكريمة.............................................................. 153

الفائدة الثانية عشرة: الإخبار عن سبب المجيء....................................................... 154

الفائدة الثالثة عشرة: اختزال الموقف...................................................................... 155

المعلومة الخامسة: استشهادهم...................................................................................... 156

المعلومة السادسة: رثاؤهم............................................................................................ 158

المعلومة السابعة: ذِكرهم في زيارة الناحية المقدّسة...................................................... 160

4. الأدهم بن أُميّة البصريّ......................................................... 161

التلميح الأوّل: النسَب................................................................................................... 162

التلميح الثاني: صحبته.................................................................................................. 164

التلميح الثالث: التحاقه بالإمام (علیه السلام) ................................................................................ 165

التلميح الرابع: استشهاده............................................................................................... 165

5. الحَجّاج بن بدر التميميّ....................................................... 167

الإشارة الأُولى: الاسم والنسَب..................................................................................... 167

الإشارة الثانية: صحبته لأمير المؤمنين (علیه السلام) ..................................................................... 169

الإشارة الثالثة: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟....................................................................... 170

الإشارة الرابعة: استشهاده............................................................................................. 173

الإشارة الخامسة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة......................................................... 175

6. عامر بن مُسلم العَبديّ البصريّ............................................... 176

اللمحة الأُولى: الاسم والنسب...................................................................................... 176

ص: 247

إسم أبيه:.............................................................................................................. 178

إسم جدّه:............................................................................................................. 178

اللمحة الثانية: وثاقته..................................................................................................... 182

اللمحة الثالثة: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟........................................................................ 183

اللمحة الرابعة: استشهاده.............................................................................................. 184

اللمحة الخامسة: رثاؤه................................................................................................. 185

اللمحة السادسة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة.......................................................... 186

7. سالم مولى عامر بن مسلم العَبديّ.......................................... 186

الومضة الأُولى: النسَب................................................................................................. 187

الومضة الثانية: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟....................................................................... 189

الومضة الثالثة: استشهاده.............................................................................................. 189

الومضة الرابعة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة............................................................ 190

8. سيف بن مالك العَبديّ.......................................................... 191

الإلماعة الأُولى: النسَب................................................................................................ 191

الإلماعة الثانية: التحاقه بالإمام (علیه السلام) ................................................................................ 192

الإلماعة الثالثة: استشهاده............................................................................................. 193

الإلماعة الرابعة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة........................................................... 195

9. قعنب بن عمرو النمريّ.......................................................... 196

التلويح الأوّل: النسَب.................................................................................................. 196

التلويح الثاني: بلده...................................................................................................... 198

التلويح الثالث: التحاقه بالإمام (علیه السلام) ................................................................................ 198

التلويح الرابع: استشهاده............................................................................................... 199

التلويح الخامس: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة......................................................... 200

10. الهَفْهاف بن المهنّد الراسبيّ الأزديّ..................................... 201

ص: 248

اللمعة الأُولى: النسَب................................................................................................... 201

اللمعة الثانية: من خصائصه........................................................................................... 202

اللمعة الثالثة: التحاقه بالإمام (علیه السلام) واستشهاده.................................................................. 204

اللمعة الرابعة: وقت خروجه من البصرة........................................................................ 207

اللمعة الخامسة: دخول كربلاء..................................................................................... 208

اللمعة السادسة: دخول عسكر ابن سعد!........................................................................ 212

اللمعة السابعة: رجَزه.................................................................................................... 213

اللوحة الأُولى: نداء............................................................................................... 214

اللوحة الثانية: الجُند المجنَّد................................................................................... 214

اللوحة الثالثة: التعريف بنفسه................................................................................. 215

اللوحة الرابعة: الغرض من النداء............................................................................ 216

اللوحة الخامسة: عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ........................................................................ 217

اللوحة السادسة: صوتٌ غريبٌ يسمعه العيال........................................................... 218

اللمعة الثامنة: شدّ فيهم................................................................................................. 220

اللمعة التاسعة: إقامة الحُجّة بقتاله على القوم................................................................. 221

اللمعة العاشرة: شهادة الإمام السجّاد (علیه السلام) إمضاءٌ لشهادته وتصويبٌ لها................................... 223

اللمعة الحادية عشرة: شهادة الإمام زين العابدين (علیه السلام) .................................................... 223

اللمعة الثانية عشرة: قتاله وشهادته................................................................................. 225

11. سعيد بن مرّة التميميّ.......................................................... 226

البصرة عند مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ................................ 233

بكاء أهل البصرة!........................................................................ 236

ص: 249

المجلد 8

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الثامن( كتب أهل الكوفة ورُسُلهم )

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

كتب أهل الكوفة

سجّل لنا التاريخ حدَثاً اعتبروه من الأحداث المهمّة خلال فترة إقامة سيّد الشهداء وإمام السعداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة، حيث بعث بعض أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) جُملةً من الكتب والرسائل يدعونه إلى القدوم عليهم.

كما سجّل اجتماعاً لبعض الشخصيّات في بيت سليمان بن صُرد الخزاعيّ، أنتج كتاباً هو الأشهر والأهمّ، بعثوا به إلى الإمام الحسين (علیه السلام) .

نحاول في هذه الدراسة استكشاف هذا الاجتماع اليتيم، والكتب الّتي وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) ، وهي لا تزيد على المئة والستّة والخمسون كتاباً على أقصى التقادير!

مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يكاتبهم، وإنّما كانوا هم الّذين بادروا بالكتابة!

ص: 5

ص: 6

الاجتماع في دار سُليمان بن صُرَد

المتون:

الدينوريّ:

قالوا: ولمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية وخروجُ الحسين بن عليٍّ إلى مكّة، اجتمع جماعةٌ من الشيعة في منزل سُليمان بن صُرَد، واتّفقوا على أن يكتبوا إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم؛ ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير ((1)).

الطبريّ:

قال أبو مِخنَف: فحدّثَني الحجّاج بن عليّ، عن محمّد بن بشير الهمدانيّ قال:

اجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد، فذكرنا هلاك معاوية

ص: 7


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صُرد: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجُل من نفسه. قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

قال: وبلغ ذلك أهلَ الكوفة أنّ الحسين بن عليٍّ قد صار مكّة.

قال: واجتمعَت الشيعة في دار سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فلمّا تكاملوا في منزله قام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) وعلى أهل بيته، ثمّ ذكر أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فترحّم عليه وذكر مناقبه الشريفة، ثمّ قال: يا معشرَ الشيعة! إنّكم قد علمتُم بأنّ معاوية قد صار إلى ربّه وقدم على عمله، وسيجزيه الله (تبارك وتعالى) بما قدّم من خيرٍ أو شرّ، وقد قعد في موضعه ابنُه يزيد _ زاده الله خزياً _، وهذا الحسين بن عليٍّ قد خالفه، وصار إلى مكّة خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه من قبله، وقد احتاج إلى

ص: 8


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 352.

نصرتكم اليوم، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

فقال القوم: بل ننصره ونقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه، حتّى ينال حاجته.

فأخذ عليهم سليمان بن صُرد بذلك ميثاقاً وعهداً أنّهم لا يغدرون ولا ينكثون.

ثمّ قال: اكتبوا إليه الآن كتاباً من جماعتكم أنّكم له كما ذكرتم، وسلوه القدوم عليكم. قالوا: أفلا تكفينا أنت الكتاب إليه؟ قال: لا، بل يكتب جماعتُكم ((1)).

الشيخ المفيد (رحمة الله) :

وبلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية (عليه الهاوية)، فأرجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسين (علیه السلام) وامتناعه من بيعته، وما كان مِن أمر ابن الزُّبير في ذلك وخروجهما إلى مكّة، فاجتمعَت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ ... ((2)).

ص: 9


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، وانظُر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190، 193 بأدنى تفاوت.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 332، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، مناهل الضرب للأعرجيّ: 387، نفَس المهموم للقمّيّ: 79، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

ثمّ ذكر لفظَ الطبريّ.

مسكوَيه:

وبلغ أهلَ العراق امتناعُ الحسين من البيعة ليزيد وأنّه لحق بمكّة، فأرجفوا بيزيد.

ثمّ إنّ أهل الكوفة من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) اجتمعوا ((1)).

الطبرسيّ:

بلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية، وعرفوا خبر الحسين، فاجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ، وقالوا: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ الحسين خرج إلى مكّة، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه ((2)).

إبن شهرآشوب:

ثمّ إنّ أهل الكوفة اجتمعوا في دار سليمان بن صُرد الخزاعيّ ((3)).

ص: 10


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 40.
2- إعلام الورى للطبرسيّ: 223.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
إبن الجَوزيّ:

وقام سليمان بن صُرد بالكوفة فقال: إنْ كنتم تعلمون أنّكم تنصرون حسيناً فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الفشل فلا تغرّوه. قالوا:بل نقاتل عدوَّه ((1)).

إبن الأثير، النويريّ:

ولمّا بلغ أهلَ الكوفة موتُ معاوية وامتناعُ الحسين وابنِ عمر وابنِ الزُّبير عن البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فذكروا مسير الحسين إلى مكّة ((2)).

إبن نما:

ورويتُ: أنّه لمّا بلغ أهلَ الكوفة موتُ معاوية وأنّ الحسين (علیه السلام) بمكّة، اجتمعَت الشيعة في دار سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فقال لهم: إنّ معاوية هلك، وإنّ الحسين قد تعيّص على القوم ببيعته، وخرج إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعتُه وشيعة أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل بنفسه.

ص: 11


1- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 327.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385.

قالوا: بل نقاتل عدوَّه ونقتل أنفسنا دونه ((1)).

سبط ابن الجَوزيّ:

قال ابن إسحاق: فلمّا بلغ الشيعة بالكوفة أنّ الحسين بمكّة وأنّه قد امتنع من بيعة يزيد، اجتمعوا في منزل سليمان بن صُرد، فقاللهم: يا قوم، قد امتنع الحسينُ من بيعة يزيد، وأنتم شيعةُ أبيه، فإنْ كنتم تنصروه وتجاهدوا عدوَّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجُل بنفسه. فقالوا: لا والله، بل ننصره ونبذل نفوسنا دونه ((2)).

إبن طاووس:

قال: وسمع أهلُ الكوفة بوصول الحسين (علیه السلام) إلى مكّة وامتناعِه من البيعة ليزيد، فأجمعوا في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فلمّا تكاملوا قام سليمان بن صُرد فيهم خطيباً، وقال في آخِر خطبته: يا معشرَ الشيعة، إنّكم قد علمتُم بأنّ معاوية قد هلك وصار إلى ربّه وقدم على عمله، وقد قعد في موضعه ابنُه يزيد، وهذا الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) قد خالفه، وصار إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعتُه وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى

ص: 12


1- مثير الأحزان لابن نما: 10.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.

نصرتكم اليوم، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجُل من نفسه ((1)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

ولمّا بلغ أهلَ الكوفة موتُ معاوية وامتناعُ الحسين وابنِ عمر وابنِ الزُّبير من البيعة، وأنّ الحسين سار إلى مكّة، اجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد بالكوفة، وتذاكروا أمر الحسين ومسيره إلى مكّة، قالوا: نكتب إليه يأتينا الكوفة ((2)).

المقتل المشهور:

فلمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية (لعنه الله)، امتنعوا من البيعة ليزيد (لعنه الله)، وقالوا: لقد امتنع الحسين (علیه السلام) من البيعة ليزيد (لعنه الله)، وقد لحق بمكّة، ولسنا نبايع يزيد (لعنه الله).

قال أبو مِخنَف: وكان عامل الكوفة يومئذٍ النعمانَ بن بشير الأنصاريّ، فاجتمع من الشيعة جماعةٌ إلى منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ وقالوا: نكتب إلى الحسين (علیه السلام) . فقال لهم: يا معشر الناس،

ص: 13


1- اللهوف في قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس: 32، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 588، لواعج الأشجان للأمين: 33.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

إنّ معاوية قد هلك، وقد امتنع الحسين (علیه السلام) من البيعة، ونحن شيعتُه وأنصاره، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم تنصرونه وتجاهدون بين يديه فافعلوا، وإنْ خفتم الوهن والتخاذل فلا تغرّوا الرجل. فقالوا: بل نقاتل عدوَّه. فقال: اكتبوا على اسم الله (تعالى) ((1)).

تتمّة:

في مفاخرةٍ طويلةٍ جدّاً بين أبي بكر وابن عيّاش في محضر الملك أبي العبّاس:

... وعبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث الكنديّ ...

فقال أبو بكر: هذا الّذي سلب الحسينَ بن عليٍّ قطيفة، فسمّاه أهل الكوفة: عبد الرحمان قطيفة، فقد كان ينبغي أن لا تذكره. فضحك أبو العبّاس من قول أبي بكر.

فقال ابن عيّاش: والّذي سار تحت لوائه أهلُ الكوفة والبصرة وجماعةُ أهل العراق وبالكوفة من أحياء العرب بأسرهم، ما ليس بالبصرة منهم إلّا أهل بيتٍ واحد، وهم الّذين يقول فيهم عليّ بن أبي طالب:

«لو

كنتُ بوّاباً على باب جنّةٍ

لَقلتُ لهمدان: ادخُلي

بسلامِ»

ص: 14


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.

فقال أبو بكر: فهل فيمن سمّيت أحدٌ إلّا قاتَلَ الحسينَ بن عليٍّ وأهل بيته، أو خذلهم أو سلبهم وأوطأ الخيل صدورهم؟

فقال ابن عيّاش: تركت الفخر وأقبلت على التعيير، أنتم قتلتم أباه عليَّ بن أبي طالب، فأمّا أهلُ الكوفة فكان منهم مع الحسين يوم قُتِل أربعون رجُلاً، وإنّما كان معه سبعون رجُلاً، فماتواكلُّهم دونه، وقتل كلُّ واحدٍ منهم عدوَّة قبل أن يُقتَل.

فقال أبو بكر: إنّ أهل الكوفة قطعوا الرحم ووصلوا المثانة، كتبوا إلى الحسين بن عليٍّ أنّا معك مئة ألف، وغرّوه، حتّى إذا جاء خرجوا إليه فقتلوه وأهلَ بيته صغيرَهم وكبيرَهم، ثمّ ذهبوا يطلبون دمه، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟

فقال ابن عيّاش: ومن أهل الكوفة أبو عبد الله الجدليّ، الّذي صار ناصراً لبني هاشم حين حصرهم ابن الزبير، وكتب ابنُ الحنفيّة يستنصرهم، فسار في عدّةٍ ممّن كان مع ابن الزبير، حتّى صيّر الله بني هاشم حيث أحبّوا، فهل كان فيهم بصريّ؟ ((1))

* * * * *

يمكن استعراض ما في هذه المتون من خلال التنويه إلى عدّة نكات:

ص: 15


1- البلدان لابن الفقيه الهَمَدانيّ (ت 340 ه-): 210.

النكتة الأُولى: الحاضرون!

ورد في المتون أنّ شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) اجتمعوا في بيت سليمان بن صُرد.

وحينما نرجع إلى نصوص الاجتماع ونصوص الكتاب المرسَل الّذي خرج به المجتمعون، لا نجد اسماً لامعاً من أسماء شيعة الإمام أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالمعنى المصطلَح للتشيّع، أي: اعتقاد إمامة الإمام وفق بيعة الغدير.

أجل، ورد اسم حبيب بن مظاهر عند البلاذريّ ((1)) في مقدّمة الكتاب، ثمّ جاء عند بعض مَن تأخّر عنه وليس جميعهم، ولم يرد اسمُه في الحاضرين في الاجتماع صراحة، وذِكره في الكتاب لا يفيد بالضرورة حضوره، فربّما أدرجوا اسمه في الكتاب وأعلموه بذلك فرضيَ به.

فأين كان الأبطال من الشيعة والأبرار من أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، الّذين خرجوا من الكوفة والتحقوا به ولازموه حتّى الشهادة، من أمثال عابس بن أبي شبيب وأبي ثُمامة الصائديّ ومسلم بن عوسجة، وغيرهم الكثير الّذين رأيناهم يقفون شامخين بين يدَي سفير الحسين مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ورأيناهم بين يدَي الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في طفّ كربلاء؟

لقد كانت جماجم الشيعة ورؤوسهم ورجالهم يقطنون الكوفة يومذاك،

ص: 16


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369.

وفيهم من الصحابة والتابعين وصناديد المقاتلين، وإذا أردنا حصر أسمائهم في مسردٍ لَطال بنا الأمر، والحال أنّ المتون التاريخيّة لا تشير إلى أحدٍ منهم، لا في أحداث الاجتماع ولا في متن الكتاب!

واكتفَت النصوص بالتصريح بجملةٍ من الأسماء الّتي سنأتي علىذِكرها بعد قليل.

فمن هم هؤلاء الشيعة المجتمعون في دار سليمان بن صُرد، بحيث يعبّر عنهم المؤرّخ بقوله: فلمّا تكاملوا في منزله ((1))؟ وهو تعبيرٌ يفيد أنّهم عددٌ محصورٌ معروفٌ كانوا ينتظرون لمّ شمله واجتماع أفراده، فلمّا تكاملوا بدؤوا بالحديث..

كم كان عددُهم؟

ما هي انتماءاتهم القبليّة؟

كيف اجتمعوا؟

مَن الّذي دعاهم للاجتماع؟

ما المقصود بالشيعة الّذين اجتمعوا؟ هل هم الشيعة بالمعنى العقائديّ، أو الشيعة بالمعنى اللغويّ، أي: مَن كان هواهم في أهل البيت

ص: 17


1- أٌنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190، 193، اللهوف للسيّد ابن طاووس: 32، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 588، لواعج الأشجان للأمين: 33.

وإن كانوا من أتباع السقيفة ورموزها، مقابل مَن كان هواهم في بني أُميّة؟

هل حضروا في الاجتماع ككياناتٍ عشائريّةٍ ووجودات قبليّة، أو أنّهم حضروا كأفرادٍ متفرّقين كلٌّ يمثّل نفسه؟ كما فعلوا حين كتبوا كتباً متفرّقةً متناثرةً تطايرت نحو الإمام (علیه السلام) .

النكتة الثانية: اجتماعٌ يتيم!

كان الشيعة في الكوفة قليلين، ورغم قلّتهم يعدّون أكثر عدداً بالنسبة إلى الأمصار الأُخرى، وكانت بعض القبائل القاطنة في الكوفة تُحسَب _ على العموم _ فيمن هواهم في أهل البيت (علیهم السلام) ، من قبيل قبيلة هَمْدان الكبيرة الواسعة.

وكانت الأحداث تغلي وتتسارع.. وقد بلغ خبر تقبُّض الإمام (علیه السلام) عن البيعة الكوفةَ، فسارع هؤلاء القوم إلى عقد هذا الاجتماع الطارئ، وكتبوا كتاباً، ثمّ خمدَت الأنفاس، وسكنت الأجراس، وخفتَتْ نيران المراجل، وكأن لم يكن شيئاً بعد ذلك الاجتماع!

فهو _ على ما يبدو من النصوص التاريخيّة _ اجتماعٌ يتيمٌ ليس له ثانٍ.. اجتمعوا مرّةً واحدةً وكتبوا، ثمّ تفرّقوا، ولم يجتمعوا بعدها ليتابعوا الأُمور، رغم طول الفترة بين كتابتهم وبلوغ الرسُل مكّة وعودتهم مع سفير الحسين المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، وطول الفترة بين دخول ابن زيادٍ الكوفة وانقلاب الّذين بايعوا ثمّ نكصوا.

ص: 18

فالاجتماع فورةٌ سرعان ما سكنَت، وفقاعةٌ لم تنتفخ حتّى انفجرَت، وهي حالةٌ طارئة، وليست ظاهرةً يمكن الحساب عليها وتسجيلها كحِراكٍ يعبّر عمّا سيتلوه من الأحداث!

أجل، انفرد مسكوَيه بتصوير كتابة الكتب والرسائل بصيغةٍ خاصّةٍ تفيدتكرّر الاجتماع، حيث قال:

فكاتبوا الحسينَ بن عليّ ...

ثمّ ذكر نصَّ الكتاب، ثمّ قال:

ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مِثل سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه ...

ثمّ ذكر نصّ الكتاب المختصر، ثمّ قال:

ثمّ اجتمعوا ثالثةً، فكتبوا إليه ...

ثمّ ذكر كتاب شبث بن ربعيّ وجماعته ((1)).

فهو لا يفيد تكرُّر الاجتماع من نفس القوم الّذين كتبوا للوهلة الأُولى، وأنّ كلّ جماعةٍ كتبت تابعت الاجتماع باجتماعاتٍ أُخرى متلاحقة، وإنّما يفيد أنّ ثَمّة ثلاث جماعاتٍ اجتمعَت، كلُّ جماعةٍ على حدة، وكتبت كتاباً.. كتبت الجماعة الأُولى، ثمّ اجتمع سليمان وجماعته فكتبوا، ثمّ اجتمع شبث بن ربعيّ وجماعته فكتبوا..

ص: 19


1- تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41.

وهو تصويرٌ انفرد به مسكويه، ولم نجد له ذِكراً عند الآخَرين _ حسب فحصنا _، فربّما فهم هو أنّ كلّ كتابٍ من الكتب كان نتيجةً أفرزها اجتماع.

النكتة الثالثة: كيف نعرف الشيعة الحاضرين؟

يؤكّد النصّ التاريخيّ على أنّ المجتمعين هم الشيعة، بل صرّح بعضهم أنّهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

وحين يدخل المؤرّخ في شرح التفاصيل، لا يذكر لنا سوى بعض الأسماء المخدوشة، عدا المولى حبيب بن مظاهر!

ونحن لا يسعنا متابعة صحّة ما يرويه المؤرّخ وسقمه ومدى صدقه وكذبه؛ إذ أنّه أعرض عن ذِكر الأسماء وتعدادها، ولم يذكر لنا التفاصيل المتعلّقة بالحاضرين، فمن أين يمكننا التعرّف إلى الحاضرين، لنتوثّق إن كانوا من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) حقّاً، أو أنّهم من الزبد الطافح الّذي ركب الأمواج تلك الأيّام من أتباع السقيفة والخوارج الّذين كانوا يتحيّنون الفرص ليقاتلوا الأُمويّين أو العلويّين على حدٍّ سواء، فكانت كفّتهم تميل تلك الأيّام بالذات إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ليقاتلوا تحت رايته الأُمويّين، أو كانوا من الانتهازيّين الّذين يريدون انتهاز الفرصة لقطف ثمار الدنيا الّتي كانت تتراءى لهم بعد هلاك معاوية، فلمّا حضروا في ذلك الاجتماع سمّاهم الراوي والمؤرّخ بالشيعة؟!

ص: 20

ربّما كان فهم المؤرّخ من الأحداث دعاه لتصنيفهم في الشيعة.. مَن يدري؟ إذ أنّه لم يذكر عدداً مقبولاً من الحاضرين بحيث يمكن تمييز جُلّالحضور من خلال الرؤوس وكبار الشخصيات الّذين حضروا!

النكتة الرابعة: التركيز على عنوان الشيعة!

بعد أن ترك المؤرّخ التفاصيلَ المتعلّقة بالحضور، وغبّش الصورة وتركها مموَّهةً موهومةً غائمةً غامضة، اقتصر على ذِكر بعض الأسماء فقط باعتبارهم الرؤوس وكبار الشخصيّات والذوات المتعيّنة من الشيعة الّتي أدارت الاجتماع، ونوّه المؤرّخ بأسمائهم..

وحينما نراجع النصوص _ سواءً المجتمعين أو المكاتبين _، تطالعنا أسماءٌ خذلَت سيّد الشهداء (علیه السلام) في محنته واختفَتْ بعد ذلك الاجتماع، ولم تظهر إلّا بعد سنواتٍ من شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كسليمان ورفاعة والمسيّب..

فلماذا هذا التركيز على تسمية الاجتماع باسم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ثمّ التركيز على اسم جماعةٍ من الخاذلين المحسوبين على الشيعة دون غيرهم؟!!

كان هؤلاء المكاتبون _ حسب المتون _ الّذين نصّ عليهم المؤرّخ، كسليمان ورفاعة والمسيّب، في عداد الشيعة، بَيد أنّهم خذلوا الإمام (علیه السلام) ، وإنْ كفّروا عن ذلك بما سُمّي في التاريخ ب-- (حركة التوّابين)، غير أنّهم خذلوه

ص: 21

في ساعة العُسرة، فجاء المؤرّخ ليسلّط الضوء عليهم دون غيرهم من الشيعة، ويكشف عن اجتماعهم ومكاتبتهم، ثمّ سرّب خذلانهم تسريباً بتجاهل مواقفهم أيّام الحسين (علیه السلام) ، وأبرزهم بعد سنواتٍ حين قاموا بحركتهم.

هل كان قصد المؤرّخ أن يركّز في الأذهان ما روّج له العدوّ _ ولا زال يروّج _ من أنّ الشيعة هم الّذين دعوا إمامهم، ثمّ خذلوه، وعدَوا عليه فقتلوه، وليس لبني أُميّة وعساكرها وليزيد وجنوده دورٌ سوى الاستجابة إلى حركة الشيعة وخذلانهم وغدرهم؟!

سيّما إذا لاحظنا أنّ المؤرّخ يحشر جميع مَن كاتب الإمام (علیه السلام) تحت عنوان الشيعة، بما فيهم شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر وابن رويم وغيرهم من المنافقين والملعونين، كما فعل _ مثلاً _ ابنُ حبّان:

ووردَت على الحسين كتبُ أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إيّاها ((1)).

هم الشيعة أنفسهم _ حسب تصوير المؤرّخ واقتصاره على التنصيص على أسماء بذاتها _ اجتمعوا في بيت سليمان بن صُرد، فدعوا الإمام (علیه السلام) ، ثمّ خذلوه، ثمّ اجتمعوا مرّةً أُخرى في بيت سليمان نفسه ((2))، فقرّروا التكفير

ص: 22


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 306.
2- أُنظر: ذوب النضّار لابن نما: 73.

عن خذلانهم بحركتهم الّتي سُمّيَت بحركة التوّابين!

النكتة الخامسة: وقت الاجتماع وظرفه

اشارة

لم يذكر لنا المؤرّخ تاريخاً محدَّداً للاجتماع، بيد أنّ الواضح أنّه كان بعد هلاك معاوية في الفترة الّتي كان فيها الإمام أبو عبد الله (علیه السلام) في مكّة، وكان الوالي على الكوفة النعمانُ بن بشير.

وربّما كان في ما رواه المؤرّخ في ذيل الكتاب الّذي كتبه سيلمان وصحبه عند ذكره لوصول الرسل إلى الإمام (علیه السلام) في مكّة، ما يفيد تاريخاً تقريباً.

التاريخ الأوّل: ذو الحجّة!

ذكر أبو طالب الزيديّ في (الإفادة)، قال:

ووردَت عليه كتبُ أهل الكوفة، كتابٌ بعد كتابٍ _ وهو بمكّة _ بالبيعة، في ذي الحجّة من هذه السنة ((1)).

وهذا يعني أنّ الكتب وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) في شهر ذي الحجّة من نفس السنة الّتي توجّه فيها الإمام (علیه السلام) إلى العراق، أي: في الشهر الأخير من إقامته في مكّة، بل في الأيّام الأخيرة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من مكّة في

ص: 23


1- الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 57.

الثامن من ذي الحجّة، فيلزم أن تكون الكتب قد وصلَت في الأُسبوع الأوّل من الشهر، قبل خروج الإمام (علیه السلام) .

ويبدو أنّ هذا التاريخ بعيدٌ جدّاً، ولا يكاد يُصدَّق بحال، إذ أنّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) قد خرج من مكّة في النصف من شهر رمضان، وكان توجيهه إلى الكوفة ردّاً على الكتب الّتي وصلَت منهم.

ومعنى أنّ الكتب وصلَت في ذي الحجّة أنّ الرسُل قد خرجوا من الكوفة في النصف من ذي القعدة أو في بداية العقد الثاني منه، وهو وقتٌ متأخِّرٌ جدّاً حسب مجريات الأحداث في الكوفة.

وكان المولى الغريب مسلم (علیه السلام) قد دخل الكوفة وباشر عمله، وكان الناس قد توجّهوا _ حسب الفرض _ للتعامل مع رسول الإمام (علیه السلام) ، وتركوا المراسلة كما يفيد التاريخ.

فيبعد حينئذٍ حتّى افتراض أن تكون الكتب والرسائل مستمرّةً إلى ذي الحجّة من تلك السنة!

التاريخ الثاني: العاشر من شهر رمضان

إنّ أوّل الرسل قد وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان.

قالوا:

وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن وال التَّيميّ، فقَدِما بالكتاب على الحسين لعشر ليالٍ خلَون من شهر

ص: 24

رمضان بمكّة ((1)).

وكانوا قد أمروا الرسولَين بالنجاء، فخرجا مسرعَين ((2)) حتّى قدما على سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فإذا افترضنا الطريقَ للمُجِدّ المسرع من الكوفة إلى مكّة عشرين يوماً على أقصى التقادير، إذ أنّهما فردان رسولان بريدان، وليس معهما ما يعوقهما من متعلّقات القوافل ومعوّقات السفر، فسيكون خروجهما من الكوفة في العشرين من شهر شعبان تقريباً.. وقد صرّح السيّد بحر العلوم أنّهم كتبوا إليه في أواخر شعبان ((3)).

ص: 25


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، وانظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 151.

أي: إنّ الاجتماع كان بعد أقلّ من عشرين يوماً من دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، وقبل مدّةٍ مديدةٍ من خروجه من مكّة إلى العراق، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) أقام في مكّة شعبان وشهر رمضان وشوّال وذا القعدة، وخرج في الثامن من ذي الحجّة.

النكتة السادسة: دواعي الاجتماع

سيأتي _ بعد قليلٍ _ الكلام عن دواعي كتابة الكتاب، والبحث متداخل، بَيد أنّنا حاولنا الفرز باعتبار أنّ الكتاب ودواعيه كانت متأخّرةً عندواعي الاجتماع.. فيمكن أن نستخلص دواعي الاجتماع ممّا دار فيه من حوارٍ أو خطبة، ويمكن استخلاص دواعي الكتاب من ألفاظ الكتاب نفسه ومقدّماته.

ويمكن تلخيص ما ورد في النصوص ممّا يفيد ذلك بما يلي:

- بلوغ خبر هلاك معاوية.

- إرجافهم بيزيد.

- تقبُّض الإمام (علیه السلام) عن البيعة.

- خروج الإمام (علیه السلام) إلى مكّة.

- دعوة القوم إلى نصرة الإمام (علیه السلام) ، على التفصيل الآتي.

وجمعَها الشيخ المفيد وغيره في العبارة التالية:

وبلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية (عليه الهاوية)، فأرجفوا بيزيد،

ص: 26

وعرفوا خبر الحسين (علیه السلام) وامتناعه من بيعته، وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك، وخروجَهما إلى مكّة، فاجتمعَت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ ... ((1)).

- الاتّفاق على الكتابة إلى الحسين (علیه السلام) يسألونه القدوم عليهم، ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير ((2)).

النكتة السابعة: كلام ابن صُرَد

يُلاحَظ أنّ الاجتماع كان في منزل سليمان بن صُرد، وكان المتكلّم الوحيد والخاطب الوحيد في الاجتماع هو سليمان بن صُرد، وجاء الردّ من القوم على كلام سليمان بن صُرد، ولم تحصل أيّ مداخلات، ولم يوجَّه الكلام لأيّ أحدٍ سوى سليمان بن صُرد، وسيأتي بعد قليلٍ أنّ الذي ردّ عليهم وأمرهم بالكتابة هو سليمان بن صُرد، وحينما طلبوا أن يكتب عنهم أبى وطلب منهم أن يكتبوا هم.

ص: 27


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 40، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 332، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، مناهل الضرب للأعرجيّ: 387، نفَس المهموم للقمّيّ: 79، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

ثمّ جاء الكتاب مصدّراً باسم سليمان بن صُرد، وكان أوّل مَن مُحي عن صفحة التاريخ بعد الكتاب وضُبط اسمه في الخاذلين هو سليمان بن صُرد.

ثمّ جاء المؤرّخ لينقل الحدَث باسم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ! أوَليس في ذلك حيّزٌ واسعٌ لمن أراد التأمّل؟!

كيف كان، يمكن اختصار محتويات خطاب سليمان بن صُرد في النقاط التالية:

- إعلان خبر هلاك معاوية، وأنّ يزيد قعد مكانه.

- إعلان تقبُّض الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة.

- إعلان خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة.- ذِكر علّة خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة، وأنّه صار إلى مكّة هارباً خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان ((1)).

- لذلك فهو «قد احتاج إلى نصرتكم اليوم» ((2)).

ص: 28


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190، 193، مثير الأحزان لابن نما: 10، اللهوف للسيّد ابن طاووس: 32، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 588، لواعج الأشجان للأمين: 33.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190، 193، مثير الأحزان لابن نما: 10، اللهوف للسيّد ابن طاووس: 32، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 588، لواعج الأشجان للأمين: 33.

- خاطب الحاضرين باعتبارهم شيعة الإمام الحسين وشيعة أبيه (علیهما السلام) .

- أخبرهم على نحو الشرط إنْ كانوا يعلمون من أنفسهم أنّهم ناصروه ومجاهدو عدوّه فلْيكتبوا له.

- قدّم لهم الخيار الثاني إنْ هم خافوا الوهن والفشل فلا يغرّوا الرجُل ولا يكتبوا له ((1)).

يبدو أنّ سليمان لم يكن واثقاً جدّاً من القوم الّذين يخاطبهم، ولذا ذكر لهم الشرط.

وما يبدو بوضوحٍ من كلام ابن صُرد _ إلى هنا _ أنّ ما بلغهم هو تقبُّض الإمام (علیه السلام) عن البيعة فقط، وأنّ حياته تعرّضَت للخطر الفعليّ القطعيّ الجدّيّ، ممّا اضطرّه للخروج من المدينة ودخوله مكّة هارباً خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان..

ص: 29


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 352، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 332، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، مناهل الضرب للأعرجيّ: 387، نفَس المهموم للقمّيّ: 79، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، 45، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190 و193 بأدنى تفاوت، اللهوف للسيّد ابن طاووس: 32، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 588، لواعج الأشجان للأمين: 33، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، مثير الأحزان لابن نما: 10، المنتظم لابن الجَوزيّ: 5 / 327، إعلام الورى للطبرسيّ: 223.

بمعنى أنّ الإمام (علیه السلام) ملاحَقٌ مطلوب الدم، قد عزم العدوّ وأقدم على قتله، وهو يحتاج _ على حدّ تعبير سليمان _ إلى نصرتهم..

ويبدو أنّ الأمر والمطلب الّذي تقدّم به سليمان وما شرحه للقوم وما انتدبهم له بمكانٍ من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ وتفسيرٍ وتوضيح، ولمن تخلّى عن سوابقه الذهنية _ المقدّسة عنده _ أن يفهم كلام سليمان دون تكلُّفٍ ولا تحميلٍ ولا إضافاتٍ ولا رتوش!

الإمام مهدَّدٌ بالقتل، يلاحقه طواغيت آل أبي سفيان، وقد دخل مكّة نتيجةً لذلك، وهو الآن يدعوهم لنصرته.

لم يبلغ القومَ _ حسب تصريحاتهم _ عن الإمام (علیه السلام) شيءٌ سوى أنّه تقبّض عن البيعة ليزيد، ثمّ خرج إلى مكّة خوفاً من طواغيت آل أبي سفيان أن يقتلوه.. هذا الّذي بلغهم عن الإمام (علیه السلام) فحسب، ولم يبلغهم شيءٌ آخَر يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد بيّت أمراً أو عزم عزماً خاصّاً..

نحسب أنّ القضية واضحة، أليس كذلك؟!

ومن الغريب أنّ الكتب تضمّنَت أشياء أُخرى سوى قضيّة خروج الإمام الحسين (علیه السلام) خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، كما سنسمع بعد قليل، فكيف أنتجَت خطبة سليمان ذلك الكتاب وما حواه؟!

النكتة الثامنة: جواب القوم ونتيجة الاجتماع

إنفرد الدينوريّ بنقل نتيجة الاجتماع كتقريرٍ صاغه بنفسه من دون

ص: 30

حكايةٍ للأحداث، فقال:

واتّفقوا على أن يكتبوا إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم، ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير ((1)).

فهو لم يذكر جواب القوم وما صرّحوا به، ولم يروِ ما قاله سليمان.

ويبدو ما في الصياغة من خُبثٍ واستنتاجٍ خطيرٍ لم نسمع له أيَّ أثرٍ في كلام سليمان، ولا في جواب القوم الحاضرين، فمن أين استفاد الدينوريّ أنّهم يريدون أن «يسألونه القدوم عليهم؛ ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير»؟!

والحال أنّ سليمان حينما عرض عليهم الحال ذكر لهم خروج الإمام (علیه السلام) إلى مكّة بعد أن تقبّض عن البيعة، وأنّه في خطرٍ من عدوّه، ودعاهم لنصرته إن عرفوا في أنفسهم ذلك، فقالوا:

- نقاتل عدوّه ((2)).

- نقتل أنفسنا دونه ((3)).

ص: 31


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 327، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17، تاريخ الطبريّ: 5 / 352، الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، وانظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190 و193، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، مثير الأحزان لابن نما: 10.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 352، الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، وانظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190 و193، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، مثير الأحزان لابن نما: 10.

- نكتب إليه يأتينا الكوفة ((1)).

ورد في المصادر وعدُهم بقتال عدوّه وبذل أنفسهم دونه على وجهالإطلاق، إلّا أن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ ذكرا أنّهم قالوا: يكتبون له يأتيهم الكوفة..

يبدو تناسق الجواب والخطاب، فحين أنذرهم سليمان بالخطر المُحدِق بالإمام الحسين (علیه السلام) ، أجابوه أنّهم يقاتلون عدوّه ويقتلون أنفسهم ويبذلونها دونه.. دونه.. أي: دفاعاً عنه وحمايةً له، وأنّهم سيفدونه بأنفسهم وأرواحهم، ليقوه ويدفعوا عنه القتل..

فأخذ سليمان عليهم العهد والميثاق أنّهم لا يغدرون ولا ينكثون ((2))، ثمّ قال لهم: اكتبوا إليه الآن كتاباً من جماعتكم أنّكم له كما ذكرتم، وسَلوه القدوم عليكم. قالوا: أفلا تكفينا أنت الكتاب إليه؟ قال: لا، بل يكتب جماعتُكم ((3)).

ص: 32


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190 و193 بأدنى تفاوت.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 و45، وانظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 190 و193 بأدنى تفاوت.

ربّما أكّد هذا التنصُّل عن تجشّم الكتابة عنهم _ وفق ما ورد في (الفتوح) _ عدمَ وثوق سليمان بهم وثوقاً كافياً يسمح له بتحمّل المسؤوليّة عنهم، أو ربّما كان يرى فيهم ما يرى في نفسه من التذبذب وعدم الثبات وإمكان الخلود إلى الخذلان فيما بعد..

أجل، ربّما يُقال: إنّ الدينوريّ استفاد ما قرّره من مضامين الكتب الّتي كتبوها وأرسلوها إلى الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ في استفادته مجازفةً واستعجالاً؛ إذ أنّه يحكي خبر الاجتماع، وللكتب ومضامينها مقامٌ آخَر.ويبقى أنّ ما استفاده الدينوريّ تعبيرٌ عن نوازع القوم وأُمنياتهم، وهي لا علاقة لها بدوافع حركة الإمام (علیه السلام) وبواعثه، إذ أنّ الإجماع قام عند أتباع سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه لم يطلب الحكم، ولم يقصد بتاتاً تسلُّم الأمر!

ص: 33

ص: 34

كتُب الكوفيّين للإمام الحسين (علیه السلام)

المتون

إبن سعد ومَن تلاه:

بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُل والكتُب يدعونه إليهم، فخرج متوجّهاً إلى العراق في أهل بيته وستّين شيخاً من أهل الكوفة ((1)).

إبن قُتيبة:

قال: فأتاه كتابُ أهل الكوفة، فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليّ، مِن سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة

ص: 35


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.

ابن شدّاد وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي اعتدى على هذه الأُمّة، فانتزعَها حقوقها، واغتصبها أُمورها، وغلبها على فيئها، وتأمّر عليها على غير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام، فأقدِمْ علينا، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا مخرجُك أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام.

والسلام ((1)).

البلاذريّ:

• وبلغ الشيعةَ من أهل الكوفة موتُ معاوية وامتناعُ الحسين من البيعة ليزيد، فكتبوا إليه كتاباً صدّروه:

مِن سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب ابن مظهّر _ وبعضهم يقول: مطهّر [كذا] _ وشيعتِه من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير

ص: 36


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4.

رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين أغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

وليس علينا إمام، فأقدِمْ علينا، لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ.

واعلمْ أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه جمعةً ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغَنا إقبالُك إلينا أخرجناه فألحقناه بالشام، والسلام.

وكان معاوية ولّى النعمان الكوفة بعد عبد الرحمان بن أُمّ الحكَم، وكان النعمان عثمانيّاً مجاهِراً ببغض عليٍّ سيّءَ القول فيه.

وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن وال التيميّ، فقدما بالكتاب على الحسين لعشر ليالٍ خلَون من شهر رمضان بمكّة.

ثمّ سرّحوا بعد ذلك بيومين قيس بن مسهر بن خليد الصيداويّ من بني أسد، وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبيّ، وعمارة ابن عبد السلوليّ، فحملوا معهم نحواً من خمسين صحيفة، الصحيفة من الرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة.

ثمّ لبثوا يومين آخَرَين، ثمّ سرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكتبوا معهما:

أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس منتظرون لك، لا إمام لهم غيرك، فالعجل، ثمّ العجل، ثمّ العجل، والسلام.

قالوا: وكتب إليه أشراف الكوفة: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ،ومحمّد

ص: 37

ابن عُمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا]، وحجّار بن أبجر العجليّ، ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيبانيّ، وعزرة بن قيس الأحمسيّ، وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ:

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ علينا، فإنّما تقدمُ على جُندٍ لك مجنّد، والسلام ((1)).

• حدّثَنا سعيد بن سلمان، حدّثَنا عبّاد بن العوام، عن حُصين:

إنّ أهل الكوفة كتبوا إلى الحسين:

إنّا معك، ومعنا مئة ألف سيف ((2)).

الدينوريّ:

فكتبوا إليه بذلك، ثمّ وجّهوا بالكتاب مع عُبيد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن وداك السلميّ، فوافوا الحسين (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ خلَون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب إليه.

ثمّ لم يُمسِ الحسينُ يومَه ذلك حتّى ورد عليه بشْرُ بن مسهّر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبيد الأرحبيّ، ومعهما خمسون كتاباً من أشراف أهل الكوفة ورؤسائها، كلّ كتابٍ منها منالرجلين والثلاثة والأربعة بمثل ذلك.

فلمّا أصبح وافاه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله

ص: 38


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422.

الخثعميّ، ومعهما أيضاً نحوٌ من خمسين كتاباً.

فلمّا أمسى أيضاً ذلك اليوم ورد عليه سعيد بن عبد الله الثقفيّ ومعه كتابٌ واحدٌ من شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عمير بن عطارد، وكانوا هؤلاء الرؤساء من أهل الكوفة.

فتتابعَت عليه في أيّام رسُل أهل الكوفة من الكتب ما ملأ منه خُرجَين ((1)).

اليعقوبيّ:

فأقام بها أيّاماً، وكتب أهلُ العراق إليه ووجّهوا بالرسُل على إثر الرسل، فكان آخِر كتابٍ ورد عليه منهم كتاب هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين والمسلمين.

أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجل، ثمّ العجل.والسلام ((2)).

ص: 39


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251.
الطبريّ، ابن الجَوزيّ:

وفي هذه السنة وجّه أهلُ الكوفة الرسُلَ إلى الحسين (علیه السلام) وهو بمكّة، يدعونه إلى القدوم عليهم ((1)).

الطبريّ وجماعة:

فأتاه أهلُ الكوفة رسُلُهم: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدِمْ علينا.

وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة ((2)) [بسندٍ تقدّم عن أبي جعفر (علیه السلام) ].

الطبريّ:

فلمّا بلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية، أرجف أهلُ العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسينٌ وابن الزبير ولحقا بمكّة.

فكتب أهل الكوفة إلى حسين، وعليهم النعمان بن بشير، فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

ص: 40


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 347، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 347، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335.

لحسين بن عليّ، مِن سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلامٌ عليك، فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام، فأقبل، لعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشيرٍ في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله.

والسلام، ورحمة الله عليك.

قال: ثمّ سرّحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله ابن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجُلان مسرعَين حتّى قدما على حسينٍ لعشرٍ مضين من شهر رمضان بمكّة.

ثمّ لبثنا يومين، ثمّ سرحنا إليه قيس بن مسهر الصيّداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ، فحملوا معهم نحواً من ثلاثةٍ وخمسين صحيفة،الصحيفة من الرجُل والإثنين والأربعة.

ص: 41

قال: ثمّ لبثنا يومين آخَرَين، ثمّ سرّحنا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكتبنا معهما:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجلَ العجل.

والسلام عليك.

وكتب شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد ابن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمير التميميّ:

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنّد، والسلام عليك ((1)).

الطبريّ، ابن كثير:

حدّثَني الحسين بن نصر، قال: حدّثَنا أبو ربيعة، قال: حدّثَنا أبو عوانة، عن حُصين بن عبد الرحمان قال: بلغَنا أنّ الحسين (علیه السلام) ...

وحدّثَنا محمّد بن عمّار الرازيّ، قال: حدّثَنا سعيد بن سليمان،قال: حدّثَنا عبّاد بن العوّام، قال: حدّثَنا حُصين:

ص: 42


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 351.

أنّ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) كتب إليه أهلُ الكوفة: إنّه معك مئة ألف ((1)).

إبن أعثم:

قال: فكتب القومُ إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) :

بسم الله الرحمن الرحيم.

إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة شيعته من المؤمنين.

أمّا بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قبلك، الجبّارَ العنيدَ الغشومَ الظلوم، الّذي أبتزّ هذه الأُمّة وعضاها، وتأمّر عليها بغير رضاها، ثمّ قتل خيارها واستبقى أشرارها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

ثمّ إنّه قد بلغَنا أنّ وَلده اللعين قد تأمّر على هذه الأُمّة بلا مشورةٍ ولا إجماعٍ ولا علمٍ من الأخبار، ونحن مقاتلون معك، وباذلون أنفُسَنا من دونك، فأقبِلْ إليه فرحاً مسروراً مأموناً، مباركاًسديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، إماماً خليفةً علينا مهديّاً، فإنّه ليس عليك [!!!] إمامٌ ولا أميرٌ إلّا النعمان بن بشير، وهو في قصر الإمارة وحيدٌ طريد،

ص: 43


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 391، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 170.

ليس يُجتمَع معه في جمعةٍ ولا يُخرَج معه إلى عيدٍ ولا يُؤدّى إليه الخراج، يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ولو بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام، فأقدِمْ إلينا، فلعلّ الله (عزوجل) أن يجمعَنا بك على الحقّ.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ثمّ طوى الكتاب وختمه، ودفعه إلى عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن مسمع البكريّ، ووجهوا بهما إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فقرأ الحسين كتاب أهل الكوفة، فسكت ولم يُجبهم بشيء.

ثمّ قدم عليه بعد ذلك قيسُ بن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان ابن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ وعبد الله بن وال التميميّ، ومعهم جماعةٌ نحو خمسين ومئة، كلُّ كتابٍ من رجُلين وثلاثة وأربعة، ويسألوه القدوم عليهم، والحسين يتأنّى في أمره فلا يُجيبهم بشيء.

ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد اللهالحنفيّ بهذا الكتاب _ وهو آخِر ما ورد على الحسين من أهل الكوفة _ :

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه.

ص: 44

أمّا بعد، فإنّ الناس منتظرون، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قد اخضرّ[ت] الجنّات، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئت، فإنّما تقدم إلى جُندٍ لك مجنّد.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك مِن قبلك ((1)).

المسعوديّ:

ولمّا مات معاوية، أرسل أهلُ الكوفة إلى الحسين بن عليّ:

إنّا قد حبسنا أنفُسَنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعةً ولا جماعةً بسببك ((2)).

المسعوديّ:

فأقام ابنُ الزبير بها، وشخص الحسينُ يريد العراق حين تواترت عليه كتبُهم وترادفَت رسُلُهم ببيعته والسمعِ والطاعة له ((3)).

إبن حبّان:

ولمّا بايع أهلُ الشام يزيدَ بن معاوية، واتّصل الخبر بالحسين بن

ص: 45


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46.
2- مروج الذهَب للمسعوديّ: 3 / 64.
3- التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303.

عليّ، جمع شيعته واستشارهم، وقالوا: إنّ الحسن لمّا سلّم الأمر لمعاوية سكت وسكت معاوية، فالآن قد مضى معاوية، ونحبّ أن نبايعك. فبايعَتْه الشيعة.

ووردَت على الحسين كتبُ أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إيّاها ... ((1)).

أبو الفرَج:

حدّثَني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجليّ، قال: حدّثَنا حسين ابن نصر بن مزاحم، قال: حدّثَنا أبي، قال: حدّثَنا عمر بن سعد، عن أبي مِخنَف لوط بن يحيى الأزديّ، وحدّثَني أيضاً أحمدُ بن محمّد ابن شبيب المعروف بأبي بكر بن شيبة، قال: حدّثَنا أحمد بن الحرث الخزّاز، قال: حدّثَنا عليّ بن محمّد المدائنيّ، عن أبي مِخنَف، عن عوانة وابن جعديّة وغيرهم، وحدّثَني أحمد بن الجعد، قال: حدّثَنا عليّ بن موسى الطوسيّ، قال: حدّثَنا أحمد بن جناب، قال: حدّثَنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القشيريّ، قال: حدّثَنا عمّار الدُّهنيّ، عن أبي جعفرٍمحمّد بن عليّ، كلّ واحدٍ ممّن ذكرتُ يأتي بالشيء يوافق فيه صاحبه أو يخالفه ويزيد عليه شيئاً أو ينقص منه، وقد ثبت ذلك برواياتهم منسوباً إليهم.

ص: 46


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 306.

قال المدائنيّ: عن هارون بن عيسى، عن يونس بن أبي إسحاق قال:

لمّا بلغ أهلَ الكوفة نزولُ الحسين (علیه السلام) مكّة وأنّه لم يبايع ليزيد، وفد إليه وفدٌ منهم، عليهم أبو عبد الله الجدليّ، وكتب إليه شبث ابن ربعيّ وسليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة، يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد ((1)).

الشيخ المفيد (رحمة الله) ، الفتّال:

فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجليّ وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلامٌ عليك، فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى علىهذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

ص: 47


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 62.

إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ، والنعمان بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام، إن شاء الله (تعالى).

ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعَين حتّى قدما على الحسين (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ مضين من شهر رمضان.

ولبث أهلُ الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس ابن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ إلى الحسين (علیه السلام) ، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين صحيفةً من الرجُل والإثنين والأربعة.

ثمّ لبثوا يومين آخَرَين، وسرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد ابن عبد الله الحنفيّ، وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك،فالعجلَ العجل، ثمّ العجلَ العجل، والسلام.

ثمّ كتب شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمرو التميميّ:

ص: 48

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجنّات، وأينعَت الثمار، فإذا شئتَ فأقبِلْ على جُندٍ لك مجنّد، والسلام.

وتلاقت الرسلُ كلُّها عنده، فقرأ الكتاب، وسأل الرسُلَ عن الناس ((1)).

مسكوَيه:

فكاتبوا الحسينَ بن عليّ:

إنّا قد اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّي بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلتَ إلينا رجونا أن يجمعَنا اللهُ لك على الإيمان.

ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مثل سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين.

أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم في غيرك،فالعجل، ثمّ العجل، والسلام.

ثمّ اجتمعوا ثالثةً، فكتبوا إليه:

من شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم

ص: 49


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عمير.

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جنودٍ مجنّدةٍ لك، والسلام ((1)).

أبو طالب الزيديّ:

ووردَت عليه كتبُ أهل الكوفة، كتابٌ بعد كتاب، وهو بمكّة، بالبيعة، في ذي الحجّة من هذه السنة ((2)).

الطبرسيّ:

فكتبوا إليه كتباً كثيرة، وأنفذوا إليه الرسُل إرسالاً، ذكروا فيها: إنّ الناس ينتظرونك، لا داعي لهم غيرك، فالعجلَ العجل.

فكتب إليه أُمراء القبائل: أمّا بعد، فقد اخضرّت الجنّات، وأينعَت الثمار، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنّدة ((3)).

الخوارزميّ:

فكتب القوم إلى الحسين (علیه السلام) :بسم الله الرحمن الرحيم.

ص: 50


1- تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41.
2- الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 57.
3- إعلام الورى للطبرسيّ: 223.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة شيعته من المؤمنين، سلامٌ عليك.

أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قبل، الجبّارَ العنيدَ الغشومَ الظلوم، الّذي ابتزّ هذه الأُمّة أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعتاتها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

ثمّ إنّه قد بلغَنا أنّ وَلده اللعين قد تأمّر على هذه الأُمّة، بلا مشورةٍ ولا إجماع، ولا علمٍ من الأخيار.

وبعد، فإنّا مقاتلون معك، وباذلون أنفُسَنا من دونك، فأقبِلْ إلينا فَرِحاً مسروراً، مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، إماماً مطاعاً، وخليفةً مهديّاً، فإنّه ليس علينا إمامٌ ولا أميرٌ إلّا النعمان بن بشير، وهو في قصر الإمارة، وحيدٌ طريد، لا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولا نؤدّي إليه الخراج، يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ولو بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام، فأقدِمْ إلينا، فلعلّ الله (تعالى) أن يجمعَنا بك على الحقّ.والسلام عليك يا ابن رسول الله، وعلى أبيك وأخيك، ورحمة الله وبركاته.

ثمّ طووا الكتاب وختموه، ودفعوه إلى عبد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن مسمع البكريّ، فتوجّها به إلى الحسين، فقرأ كتابَ

ص: 51

أهل الكوفة، فسكت ولم يُجبهم بشيء.

ثمّ قدم إليه بعد ذلك قيسُ بن مسهر الصيداويّ وعبد الله بن عبد الرحمان الأرحبيّ وعامر بن عُبيد السلوليّ وعبد الله بن وال التيميّ، ومعهم نحوٌ من خمسين ومئة كتاب، الكتاب من الرجلين والثلاثة والأربعة، يسألونه القدوم عليهم، والحسين يتأنّى في أمره ولا يجيبهم في شيء.

ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ بكتاب، وهو آخِرُ ما ورد إليه من أهل الكوفة، وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه.

أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئتَ، فإنّما تقدم إلى جُندٍ مجنَّدٍ لك.والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك من قبل ((1)).

إبن شهرآشوب:

فكاتبوا الحسين (علیه السلام) :

ص: 52


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194.

من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب ابن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.

أمّا بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعتاتها، بُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

إنّه ليس علينا بإمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعنا على الحقّ بك، والنعمانُ بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجمع معه في الجمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام، إن شاء الله.

ثمّ سرّحوا الكتاب مع عُبيد الله بن مسلم الهمدانيّ وعبد الله بن مسمع البكريّ، حتّى قدما على الحسين لعشرٍ مضين من شهر رمضان.ثمّ بعد يومين أنفذوا قيسَ بن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله الأرخيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ وعبد الله بن وال السهميّ إلى الحسين، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين صحيفةً من الرجُل والإثنين.

ثمّ سرّحوا بعد يومين هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيٍّ بكتاب، فيه:

ص: 53

للحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين.

أمّا بعد، فحيّهَل، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجل، ثمّ العجلَ يا ابن رسول الله.

وكتب شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعمرو بن الحجّاج ومحمد بن عمير وعروة بن قيس:

أمّا بعد، فقد أخصب الجناب، وأينعَت الثمار، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ مجنّدة ((1)).

إبن الجَوزيّ:

• وكان أهلُ الكوفة قد بعثوا إلى الحسين (علیه السلام) يقولون:

إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة، فأقدِمْ علينا.فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجيّة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.

فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، الحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك.

وإنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله يجمعنا بك.

ص: 54


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

فقدم الكتابُ عليه بمكّة لعشرٍ مضين من رمضان، ثمّ جاءه مئةٌ وخمسون كتاباً من الرجُل والإثنين والثلاثة، ثمّ جاءه كتابٌ آخَر يقولون: حيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، فالعجلَ العجل ((1)).

• ووجّه أهلُ الكوفة إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم، وقالوا: نحن معك مئة ألف.

أخبرَنا ابن ناصر، قال: أنبأنا أبو محمّد بن السرّاج، قال: أنبأنا أبو طاهر محمّد بن عليّ بن العلاف، قال: أنبأنا أبو الحسين ابن أخي ميمي، قال: حدّثَنا أبو عليّ ابن صفوان، قال: حدّثَنا أبو بكر ابن أبي الدنيا، قال: حدّثَني محمّد بن صالح القرشيّ، قال: حدّثَنا عليّ ابن محمّد القرشيّ، عن يونس بن أبي إسحاق قال:لمّا بلغَتْ أهلَ الكوفة نزولُ الحسين بمكّة وأنّه لم يبايع ليزيد بن معاوية، خرج منهم وفدٌ إليه، وكتب إليه سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا:

إنّا تركنا الناس متطلّعةً أنفسهم إليك، وقد رجونا أن يجمعنا الله بك على الحقّ، وأن ينفي عنهم بك ما هم فيه من الجور، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّةَ فيئها وقتل خيارها ((2)).

ص: 55


1- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327.
2- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35.
إبن الأثير، النويريّ:

وكتبوا إليه عن نفر، منهم: سليمان بن صُرد الخزاعيّ، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وغيرهم:

بسم الله الرحمن الرحيم.

سلامٌ عليك، فإنّنا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها.

وإنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ، والنعمانُ بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولاعيد، ولو بلغَنا إقبالُك إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام، إن شاء الله (تعالى).

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وسيّروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، ثمّ كتبوا إليه كتاباً آخَر وسيّروه بعد ليلتين، فكتب الناسُ معه نحواً من مئةٍ وخمسين صحيفة، ثمّ أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثّونه على المسير إليهم.

ثمّ كتب إليه شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث

ص: 56

ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد ابن عمير التميميّ بذلك ((1)).

إبن الأثير، الدياربكريّ:

إنّه لمّا مات معاوية بن أبي سفيان، كاتب كثيرٌ من أهل الكوفة الحسينَ بن عليّ، ليأتي إليهم ليبايعوه ((2)).

إبن الأثير:

فأتاه كتبُ أهل الكوفة وهو بمكّة ((3)).

إبن نما:

ورويتُ إلى يونس بن أبي إسحاق، قال:

خرج وفدٌ إليه من الكوفة، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، ومعهم كتبٌ من شبث بن ربعيّ وسليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله [بن] وال وقيس بن مسهر الأسديّ _ أحد بني الصيداء _ وعمارة بن عُتبة السلوليّ وهانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ ووجوه الكوفة،

ص: 57


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385.
2- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 20، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.
3- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21.

يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا:

إنّا تركنا الناس قِبَلنا وأنفُسُهم منطلقةٌ إليك، وقد رجونا أن يجمعنا الله بك على الهدى، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّة فيئها، وقتل خيارها، واتّخذ مال الله دولاً في شرارها، وهذه كتب أماثلهم وأشرافهم.

والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه في جمعةٍ ولا جماعةٍ ولا عيد، ولو بلغَنا إقبالُك أخرجناه حتّى يلحق بالشام.

وتواترت الكتبُ حتّى تكمّلت عنده اثنا عشر ألف كتاب، وهو مع كلّ ذلك لا يجيبهم.

ثمّ قدم إليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد اللهالحنفيّ بكتاب، وهو آخِرُ الكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين.

أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجل، فقد اخضرّت الجنّات، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئت، فإنّما تقدم على جُندٍ مجنَّدٍ لك.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

ورويت إلى حُصين بن عبد الرحمان، أنّ أهل الكوفة كتبوا إليه: إنّا

ص: 58

معك مئةُ ألف ((1)).

البرّيّ:

فلمّا قدم الحسينُ مكّة، كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة الفزاريّ وغيرهما من رجال أبيه وشيعته من الكوفة:

هلمّ إلينا يا ابن رسول الله، فأنت أحقُّ بالخلافة من يزيد الخمور.

وكتبوا بيعتهم ((2)).

إبن طلحة، الأربليّ:

ووصل الخبر إلى الكوفة بموت معاوية وولاية يزيد مكانه، فاتّفق منهم جمعٌ جمّ، وكتبوا كتاباً إلى الحسين يدعونه إليهم، ويبذلون له فيه القيامَ من بين يديه بأنفسهم، وبالغوا في ذلك.

ثمّ تتابعَت إليه الكتبُ نحواً من مئةٍ وخمسين كتاباً، من كلّ طائفةٍ كتاب، يحثّونه فيه على القدوم.

وآخَر ما ورد عليه كتابٌ من جماعتهم على يد قاصدين من أعيانهم، وصورته:

بسم الله الرحمن الرحيم.

ص: 59


1- مثير الأحزان لابن نما: 11.
2- الجوهرة للبرّيّ: 41.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليّ، سلامٌ عليك.

أمّا بعد، فإنّ الناس منتظروك، ولا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله.

والسلام عليك ورحمته وبركاته ((1)).

سبط ابن الجَوزيّ:

• ولمّا استقرّ الحسينُ بمكّة وعلم به أهلُ الكوفة، كتبوا إليه يقولون:إنّا قد حسبنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الوُلاة، فأقدِمْ علينا، فنحن في مئة ألف، فقد فشا فينا الجَور، وعُمِل فينا بغير كتاب الله وسُنّة نبيّه، ونرجوا أن يجمعَنا اللهُ بك على الحقّ ويُنفى عنّا بك الظلم، فأنت أحقُّ بهذا الأمر من يزيد وأبيه، الّذي غصب الأُمّة فيئها، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين.

وكان ممّن كتب إليه: سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة ((2)).

• قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ حسيناً كثُرَت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسُلُهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثِم!!!

ص: 60


1- مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 42.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 136، معالى السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228.

فكتبوا إليه بما قدّمنا ذِكْره، وبعثوا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، فقدما إلى الحسين لعشرٍ مضين من رمضان.

ثمّ بعثوا بعدهما بيومين قيسَ بن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان ابن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين صحيفةً من أهل الكوفة.

ثمّ لبثوا يومين، وسرّحوا هانئ بن هانئ السبعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكتبوا معهما إلى الحسين كتاباً فيه:الناس ينتظرون قدومك، لا رأي لهم في غيرك، فحيّهلا، العجلَ العجل.

وكتب إليه شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر وزيد بن الحارث وعروة ابن قيس في آخَرين:

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجنان، واينعَت الثمار، فأقدِمْ، فإنّك تقدمُ على جُندٍ مجنّدٍ لك، والسلام.

واجتمعَت الرسُلُ كلُّها بمكّة عنده ((1)).

إبن طاووس:

قال: فكتبوا إليه:

ص: 61


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله ابن وائل وشيعته من المؤمنين، سلامٌ عليك.

أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قَبل، الجبّارَ العنيد، الغشوم الظلوم، الّذي ابتزّ هذه الأُمّة أَمرها، وغصبَها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعُتاتها،فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

ثمّ إنّه ليس علينا إمامٌ غيرك، فأقبِلْ، لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن البشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه في جمعةٍ ولا جماعة، ولا نخرج معه في عيد، ولو قد بلغَنا أنّك أقبلتَ أخرجناه حتّى يلحق بالشام.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله، وعلى أبيك مِن قَبلك، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ثمّ سرّحوا الكتاب، ولبثوا يومين، وأنفذوا جماعةً معهم نحو مئةٍ وخمسين كتاباً من الرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة، يسألونه القدومَ عليهم، وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستُّمئة كتاب، وتواترت الكتبُ حتّى اجتمع عنده في نُوَبٍ متفرّقةٍ اثنا عشر ألف كتاب.

ص: 62

قال: ثمّ قدم عليه (علیه السلام) بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد ابن عبد الله الحنفيّ بهذا الكتاب، وهو آخِر ما ورد على الحسين (علیه السلام) من أهل الكوفة، وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) .

أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَالعجلَ يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجنّات، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ علينا إذا شئت، فإنّما تقدمُ على جُندٍ مجنَّدةٍ لك.

والسلام عليك ورحمة الله، وعلى أبيك مِن قَبلك ((1)).

اليافعيّ:

وجاءَته كتبُ أهل الكوفة، يحضّونه على القدوم عليهم، فاغترّ!!! ((2))

إبن الطقطقيّ:

فلمّا استقرّ بمكّة، اتّصل بأهل الكوفة تأبّيه من بيعة يزيد، وكانوا

ص: 63


1- اللهوف لابن طاووس: 33.
2- مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131.

يكرهون بني أُميّة، خصوصاً يزيد؛ لقبح سيرته، ومجاهرته بالمعاصي، واشتهاره بالقبائح.

فراسلوا الحسين (علیه السلام) ، وكتبوا إليه الكتب يدعونه إلى قدوم الكوفة، ويبذلون له النصرة على بني أُميّة، واجتمعوا وتحالفوا على ذلك، وتابعوا الكتب إليه في هذا المعنى ((1)).

الذهبيّ:

فأتاه رسلُ أهل الكوفة، وعليها النعمان بن بشير ((2)) [بسندٍ تقدّمعن أبي جعفر (علیه السلام) ].

إبن كثير:

وقد كثر ورودُ الكتب عليه من بلاد العراق، يدعونه إليهم، وذلك حين بلغَهم موتُ معاوية وولاية يزيد، ومصيرُ الحسين إلى مكّة فراراً من بيعة يزيد.

فكان أوّلُ مَن قدم عليه عبدَ الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، معهما كتابٌ فيه السلام والتهنئة بموت معاوية، فقدما على الحسين لعشرٍ مضين من رمضان من هذه السنة.

ثمّ بعثوا بعدهما نفراً، منهم: قيس بن مسهر الصيداويّ وعبد

ص: 64


1- كتاب الفخريّ لابن طقطقيّ: 104.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 206.

الرحمان بن عبد الله بن الكوا الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين كتاباً إلى الحسين.

ثمّ بعثوا هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، ومعهما كتابٌ فيه الاستعجال في السير إليهم.

وكتب إليه شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعمرو بن حجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمير بن يحيى التميميّ:

أمّا بعد، فقد اخضرّت الجنان، وأينعَت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنّدة، والسلام عليك.

فاجتمعَت الرسُلُ كلُّها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثّونهويستقدمونه عليهم، ليبايعوه عوضاً عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنّهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلّمون في دولته، وأنّهم لما يبايعوا أحداً إلى الآن، وأنّهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدّموك عليهم ((1)).

إبن خلدون:

ولمّا بلغ أهلَ الكوفة بيعةُ يزيدٍ ولحاقُ الحسين بمكّة، اجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد، وكتبوا إليه عن نفر، منهم: سليمان، والمسيّب بن محمّد، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن

ص: 65


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

مظاهر، وغيرهم، يستدعونه، وأنّهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعةٍ ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه.

وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، ثمّ كتبوا إليه ثانياً بعد ليلتين نحو مئةٍ وخمسين صحيفة، ثمّ ثالثاً يستحثّونه للحاق بهم، كتب له بذلك شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمير التميميّ ((1)).

إبن عنبة:

وتسامع إلى أهل الكوفة بذلك، فأرسلوا إلى الحسين ((2)).

إبن حجَر:

ثمّ أتَتْه كتبُ أهل العراق بأنّهم بايعوه بعد موت معاوية ((3)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

فكتبوا إليه كتباً من رؤسائهم، من سليمان بن صُرد ومن المسيّب ابن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشبث بن ربعيّ

ص: 66


1- تاريخ ابن خلدون: 3 / 21.
2- عُمدة الطالب لابن عنبة: 158.
3- الإصابة لابن حجَر: 1 / 332.

ويزيد بن الحارث ويزيد بن دؤب وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمر التميميّ، وغيرهم من أعيان الشيعة ورؤساء أهل الكوفة، قريباً من نحو مئة كتاب، وسيّروا الكتب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن والي، وهم يحثّونه فيها على القدوم عليهم والمسير إليهم على كلّ حال.

وكتابٌ واحدٌ عامٌّ على لسان الجميع كتبوه، وأرسلوه مع القاصدين، وصورته:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه عليّ (علیه السلام) .أمّا بعد، فإنّ الناس منتظروك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، لعلّ الله (تعالى) أن يجمعنا بك على الحقّ، ويؤيّد بك المسلمين والإسلام، بعد أجزل السلام وأئمة عليك، ورحمة الله وبركاته ((1)).

السيوطيّ:

وبعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُلَ والكتب، يدعونه إليهم ((2)).

ص: 67


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207.
إبن حجَر:

فسمع به أهلُ الكوفة، فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه، ويمحو عنهم ما هم فيه من الجَور ((1)).

تاج الدين العامليّ:

فوصل خبرُه إلى أهل الكوفة، فكاتبوه، ووعدوه بالنصرة، وأكّدوا عليه في طلب القدوم عليهم ((2)).

الطُّريحيّ:

فلمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية، امتنعوا من البيعة ليزيد،فاجتمعوا وكتبوا إلى الحسين كتاباً، يقولون فيه:

أقدِمْ إلينا، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، فلعلّ الله يجمع بيننا وبينك على الهدى ودين الحقّ.

ورغّبوه في القدوم إليهم، إلى أن قالوا:

فإنْ لم تقدر على الوصول إلينا، فأنفِذْ إلينا برجُلٍ يحكم فينا بحكم الله ورسوله.

وكتبوا بهذا المعنى كتُباً كثيرة ((3)).

ص: 68


1- الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117.
2- التتمّة لتاج الدين العامليّ: 77.
3- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 422.
المقتل المشهور لأبي مِخنَف:

فكتبوا كتاباً، فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، من سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجليّ وحبيب بن مظاهر الأسديّ ومَن معه من المسلمين، وسلامٌ عليك ورحمة الله وبركاته.

أمّا بعد، فإنّا نحمد اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، ونصلّي على محمّدٍ وآل محمّد.

واعلمْ _ يا ابن محمّدٍ المصطفى وابنَ عليٍّ المرتضى _ أنْليس لنا إمامٌ غيرك، فأقدِمْ إلينا، لنا ما لك وعليك ما علينا، فلعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ والهدى، واعلمْ أنّك تقدم على جنودٍ مجنّدة، وأنهارٍ متدفّقة، وعيونٍ جارية.

فإنْ لم تقدِمْ على ذلك، فابعثْ إلينا أحداً من أهل بيتك، يحكم بيننا بحكم الله (تعالى) وسُنّة جدّك رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

واعلمْ أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نشهد معه جمعةً ولا جماعة، ولو أنّك أقبلتَ إلينا لكنّا أخرجناه إلى الشام، والسلام.

وبعثوا الكتاب مع عمر بن نافذ التميميّ وعبد الله بن السبيع الهمدانيّ، فخرجا مسرعَين حتّى قدما على الحسين (علیه السلام) ، ومعهما خمسون صحيفة.

ص: 69

ولبثوا يومين آخَرَين، وبعثوا إليه [قيس بن] مسهر الأنصاريّ، ومعه كتابٌ فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

أمّا بعد، فإنّه لا إمام غيرك لنا يا ابن رسول الله، العجلَ العجل.

ثمّ لبثوا يومين آخَرَين، وكتبوا كتاباً يقولون فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

قد أينعَت الثمار، فأقدِمْ إلينا يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) مُسرِعاً.قال أبو مِخنَف: وتواترت الكتب إليه، فسأل الرسُلَ عن أمر الناس، فقالوا: إنّهم كلّهم معك.

ثمّ كتبوا مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكانا آخِرَ الرسُل من أهل الكوفة ((1)).

الخافي الشافعيّ:

قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ الكتب كثرت، وتواترت عليه الرسائل: إنّك إنْ لم تصل إلينا فأنت آثِم؛ لوجود الأنصار على الحقّ، وتمكُّنِك من القيام، فإنّك أصله وعموده وأهله ومعدنه ((2)).

ص: 70


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 17.
2- التبر المُذاب للخافي الشافعيّ: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، أسرار الشهادة للدربنديّ: 244، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228.

* * * * *

قبل الخوض في تفاصيل الكتاب، يحسن تقديم بعض التنويهات:

التنويه الأوّل: البادئ بالكتابة

ممّا لا خلاف فيه أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يُكاتِب أحداً من أهل الكوفة ولا غيرها من الأمصار، إلّا ما ذكروا من كتابه (علیه السلام) لأهل البصرة، وقد أتينا على تفصيل الكلام في ذلك في محلّه.وهذا التنويه غايةٌ في الأهمّيّة، إذ اتّفق الجميع دون استثناءٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يبتدئ أحداً من أهل الكوفة بالكتابة له أو استنهاضه ودعوته لأيّ أمرٍ يمكن أن نتصوّره، سواءً كان على مستوى الدعوة إلى الخروج بالمعنى المصطلَح، أو للدفاع عنه وعن عيال الله.

ولا شكّ أنّ ثَمّة فوارقاً كبيرةً وكثيرةً جدّاً بين أن يكون الإمام (علیه السلام) هو البادئ وهو المبادر بالمكاتبة والدعوة، وبين أن تكون كتبه أجوبةً وردوداً على ما كتبه القوم!

ولا يخفى أنّ بعض الرجال قد اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يلجأ إلى كهوف الجبال وشواطئ البحار ومغاور كثبان الصحراء، ثمّ يكاتب الناس ويراسلهم، حتّى يجمع منهم الرجال إنْ كان هو يريد الخروج بالمعنى

ص: 71

المصطلَح، وقد أبى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ذلك.

وقد أتينا في أكثر من موضعٍ على الإشارة إلى هذا التنويه المهمّ، لِما له من دورٍ في فهم كتب سيّد الشهداء (علیه السلام) وتفسير المواقف.

التنويه الثاني: الإمام (علیه السلام) لم يطلب الحُكم!

إتّفق علماء الشيعة _ كثّرهم الله وأعزّهم _ بالإجماع أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن يطلب الحكم والسلطان في قيامه، وقد استدلّوا على ما أجمعوا عليه بالأدلّة الكافية الوافية، ويكفي ما ورد عن جدّه وأبيه من الإخباراتالمتظافرة المتكاثرة بشهادته، وكذا ما أخبر به الإمام الحسين (علیه السلام) نفسُه عن شهادته في كربلاء.. ومَن كان جازماً بالقطع واليقين أنّه مقتولٌ لا محالة في خروجه إلى العراق، لا يطلب حُكماً وسلطاناً!

وسيأتي الحديث في ذلك مفصَّلاً في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ولازم هذا القول المجمَع عليه أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يقصد الخروج بالمعنى المصطلَح للإطاحة بحكم يزيد وبني أُميّة، واقتلاعهم من على أعواد المنابر، والقضاء على سلطانهم، واجتثاث شأفتهم واستئصالهم، ليتولّى هو الحكم والسلطان..

وحينئذٍ سيكون التالي اللازم الّذي لا ينفكّ بتاتاً عن حركة الإمام (علیه السلام) أنّه لم يقصد قتل يزيد، ولا الهجوم عليه للقضاء على سلطانه، ولم يبيّت ما يعبّرون عنه ب-- (المشروع)، بحيث يُفهَم من حركته أنّه كان يستهدف

ص: 72

الانقضاض على الحكم والاستيلاء على مقاليد السلطان، ومتابعة (المشروع) لإقامة حكم الله وشرعه باعتباره الإمام المفترض الطاعة على الخَلق والحاكم باسم الله وفق كتابه وسُنّة نبيّه..

فالإمام (علیه السلام) لم يقصد في توجُّهه إلى الكوفة يومذاك بالفعل هدمَ الموجود من بناءٍ سلطويٍّ حاكمٍ منذ يوم غصب الخلافة وتعاقب الملوك والسلاطين واحداً بعد الآخَر حتّى وصلَت النوبة إلى يزيد..

وهذا ما أجمع عليه علماءُ الإماميّة منذ شهادة الإمام (علیه السلام) إلى يوم الناسهذا، وهو ردٌّ كافٍ وجوابٌ شافٍ للدعاوى الواردة في كتب القوم، كما سنسمع بعد قليل.

التنويه الثالث: عِلمُ الإمام (علیه السلام) بحال الناس

ذكرنا هذا التنويه في مواضع عديدة، ونحن مضطرّون للعودة إليه كلّما دعَت الحاجة إلى ذلك.

لقد أجمع الشيعة الإماميّة _ أعزّهم الله _ على عقيدة علم الإمام (علیه السلام) بالناس ومعرفتهم بالتفصيل حسب ما ورد في أحاديثهم الشريفة، وهو بحثٌ ينضوي تحت كلّيّة عِلم الإمام، وليس هذا محلّه.

ولو أغمضنا النظر عن علم الإمام (علیه السلام) ، فإنّ مَن كان في عصر الإمام (علیه السلام) ممّن يسمّونهم الوجوه والأشراف والشخصيّات، قد علم مِن خلال المتابعة والتجارب غدرَ أهل الكوفة وخيانتهم وتقلُّبهم واتّباع أكثرهم

ص: 73

للعِجْل والسامريّ، وانحيازه إلى دِين الملوك الأوائل..

فلا يمكن _ والحال هذه _ افتراضُ انكشاف هذه الحقيقة لمِثل ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وغيرهم ممّن اعترض على الإمام (علیه السلام) ، وعدم انكشافها لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد عالج القومَ بنفسه وعاصرهم أيّام أبيه وأخيه (علیهما السلام) ، وهو أعلمُ أهل زمانه بزمانه _ بغضّ النظر عن عِلم الإمامة _؟! وقد تبيّن ذلك بوضوحٍ من طريقة تعامل الإمام (علیه السلام) مع الكتبوالرسائل والدعوات الواردة من الكوفة.

ومن البديهيّ الضروريّ الّذي لا يشُكّ فيه معتقِدٌ بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولا يتردّد فيه أحدٌ يعرف الإمام الحسين (علیه السلام) وعِلمه ومعرفته بالناس، أنّ الإمام (علیه السلام) لا يخفى عليه حقيقة القوم وأهواء المكاتبين وخداعهم وغدرهم وخيانتهم وتقلّبهم، وانسياقهم مع الأمواج الهادئة أو العاتية الّتي يمكن أن يتعرّضوا لها في خضمّ حركاتهم الاجتماعيّة والدينيّة.

وسيتبيّن لنا فيما يلي من الدراسة: أنّ الإمام لم يُرتّب في حركته الشخصيّة أيَّ ترتيبٍ ولم يبنِ أيَّ بناءٍ على الكتب والرسائل، ولم يكن لهذه الكتب والرسائل أيُّ دورٍ في قرار الإمام (علیه السلام) وتحديد المواقف، وهو القائل: «الناس عبيدُ الدنيا، والدين لَعِقٌ [لغوٌ] على ألسنتهم»..

أجل، ربّما كان الإمام (علیه السلام) يوظّف هذه الكتب والرسائل في المحاججة مع القوم وإقامة الحجّة عليهم، وهذا التوظيف شيءٌ يختلف تماماً عمّا إذا كان الإمام (علیه السلام) قد بنى عليها وحسب لها حساباً وأقام لها وزناً!

ص: 74

التنويه الرابع: مطالب القوم!

سيأتي الحديث مفصَّلاً عن مطالب القوم وشعاراتهم الّتي رفعوها في الكتب والرسائل، بَيد أنّ أهمّيّة الأمر تقتضي التنويه هنا ولو بالإشارة إلى حين تناول الموضوع بالتفصيل..سنسمع بعد قليلٍ من خلال الكتب والرسائل جملةً من الشعارات الحماسيّة والمطالب المتفجّرة والصولات الكلاميّة المتتالية على معاوية وابنه يزيد، والآمال المتعلّقة على قدوم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وغيرها من الأماني والدعوات الهائجة..

صدرَت من القوم على اختلاف مشاربهم واتّجاهاتهم ودوافعهم ونوازعهم، بل على اختلاف تبعيّاتهم ومرجعيّاتهم الدينيّة.. والمخاطَب هو الإمام الحسين (علیه السلام) ..

ولابدّ من الفصل بين مرادات الناس ومطالبهم ومطالب الإمام (علیه السلام) ومقاصده، ولابدّ من التمييز بين ما يدعون إليه وبين ما يعلنه الإمام نفسُه (علیه السلام) ؛ فليس بالضرورة أن يكون توافقاً بين دعوات القوم ومراد الإمام (علیه السلام) !

ونحن لا يحقّ لنا إسقاط مطالب المكاتبين وشعاراتهم وما دعوا إليه على موقف الإمام (علیه السلام) ، ولا يصحّ نسبة ما اعتبره القوم أهدافاً إلى الإمام (علیه السلام) ما لم نسمعه من الإمام (علیه السلام) نفسه أو نسمع منه إقراراً لما أرادوا!

ص: 75

وبعبارةٍ أُخرى:

لا يمكن قراءة مواقف الإمام (علیه السلام) وتشييدها وتفسيرها من خلال ما يقوله الآخَرون والشعارات الّتي يرفعها المكاتبون والمطالب الّتي يرسمها المراسلون، فهم لهم موقفهم ومطالبهم، وللإمام (علیه السلام) أن يقبل أو يردّ.. فليسمن المُلائم دمجُ المواقف وتوحيد الأهداف بين الناس وبين الإمام (علیه السلام) ، ما لم يشهد لهذا الدمج والتوحيد شاهدٌ من كلام الإمام (علیه السلام) ويقوم عليه دليلٌ محكَمٌ من أفعاله.

وربّما كان من المجازفة أن ننسب للإمام (علیه السلام) ما يقوله الناس ويكتبونه إليه، بعد أن عرفنا أنّهم يريدون استبدال الحاكم ودفع مقاليد البلاد والعباد للإمام (علیه السلام) ، وعرفنا أنّ الإمام (علیه السلام) لا يبغي ذلك بتاتاً، كما أشرنا إلى ذلك في التنويه الأوّل، وللكلام تتمّةٌ ستأتي في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

المهمّ، أنّ مواقف الإمام (علیه السلام) ومراداته وأهدافه تُعرَف منه، لا من كلام يزيد الخمور، ولا من المعترضين أمثال ابن عبّاس وابن عمر، ولا من كتب الناس ورسائلهم ومواقفهم ومراداتهم ومطالبهم!

التنويه الخامس: نظرةٌ سريعةٌ إلى المكاتبين

سيأتي بعد قليلٍ استعراضٌ سريعٌ لأسماء المكاتبين والداعين، وسيتبيّن لنا أنّ المؤرّخ لم يتعرّض إلّا إلى أسماء محدودة، جعلهم الرؤوس والقادة، ثمّ تجاهل العدد الكبير الّذين كتبوا، فلم يستعرض أسماءَهم ولا اتّجاهاتهم

ص: 76

ودوافعهم ونوازعهم.

أمّا الأسماء المذكورة المصرَّح بها، فقد لاحظناها، فوجدناهم جميعاً بين خاذلٍ وعدوٍّ متوغِّلٍ في العداوة.. إلّا واحداً منهم، وهو صاحب ميسرةالإمام الحسين (علیه السلام) حبيب بن مظاهر.

فمَن كان في صفّ سليمان بن صُرد، من أمثال المسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وأبي عبد الله الجدليّ، فهم خاذلون، بغضّ النظر عن مواقفهم قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّ الكلام يدور عن يوم الحسين (علیه السلام) بالذات وموقفهم في ذلك اليوم..

ومَن كان في صفّ شبث بن ربعيّ، من قبيل حجّار بن أبجر وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ وأمثالهم، فهم أعداءٌ حاربوا الإمام (علیه السلام) قبل يوم الطفّ، وكانوا من الأشدّاء في حربه يوم كربلاء، وبقوا على عداوتهم بعد ذلك حتّى التهمتهم نيران جهنّم وبئس المصير..

ولرصف هذه الأسماء بالذات والتصريح بها والتنويه إليها أغراضٌ كثيرةٌ لا تخفى على اللبيب المتابع، وربّما كان منها:

إنّ المؤرّخ المأجور يريد التأكيد على فكرته الّتي يحاول إقناع المتلقّي للتاريخ بها، وهي تخطئة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في حركته، وأنّه اعتمد سرابَ وُعود هؤلاء المميّزين المعروفين بالعداوة والتذبذب وعدم الثبات..

إنّه اعتمد على صنفَين من القادة: أحد الصنفَين خاذِلٌ لا يُعتَدّ به، والآخَر عدوٌّ مشحونٌ بالعدواة والبغضاء.. وليس مِثل هذا الاعتماد مقبولاً

ص: 77

بحال، وقد حذّر الآخَرون عن مثل هذا الاعتماد، كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما..وقد عالج الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) مِثلَ هذه الفرية بإرساله أخاه المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للتأكّد من نواياهم، وتأكيده للملأ أنّ سبب خروجه من مكّة متعجِّلاً إنّما كان خوف القتل في الحرم، وأنّ العدوّ لم يُمهله ليقضي موسم حجّه، وغيرها من المعالجات.

التنويه السادس: هل كان وراء المراسلة تخطيط؟!

اشارة

ربّما يكون ثَمّة مَن يقول: إنّ كتب أهل الكوفة كانت في الغالب بتخطيطٍ من الأُمويّين، وكان الغرض منها استدراج الإمام (علیه السلام) ليُقتَل في العراق.

ويمكن الاستشهاد لذلك بشواهد عديدة، منها:

الشاهد الأوّل: تخطيط معاوية لقتل الإمام (علیه السلام) على يد أهل الكوفة

قال آية السيّد عليّ الميلانيّ (حفظه الله) في كتاب (مَن هم قتَلَة الحسين (علیه السلام) ؟):

قد أوضحنا في ما تقدّم دور معاوية في استشهاد الإمام (علیه السلام) في العراق، وقد توصّلنا في دراستنا إلى أنّ معاوية بعد أن عزم على

ص: 78

العهد لابنه يزيد، تمكّن من القضاء على سائر المعارضين، أو إسكات مَن تمكّن مِن إسكاته منهم ببذل الأموال أو التهديد، فأزال العقبات، حتّى لم يبقَ إلّا الإمام الحسين (علیه السلام) سيّد الشهداءوعبد الله بن الزبير، لكنّه كان عارفاً بالإمام وملكاته النفسيّة، ثمّ موقعيّته في المجتمع والأُسرة الهاشميّة خاصّة.

على أنّه كان قد تعهّد أن لا يبغي للإمامَين السبطَين الحسن والحسين (علیهما السلام) سوءاً.

ولمّا اغتال الإمامَ السبط الأكبر (علیه السلام) على يد جعدة بنت الأشعث، وشاع الخبر وافتضح أمام المسلمين، فلم يرَ من مصلحته أن يتعرّض لأبي عبد الله (علیه السلام) .

فقام بتدبير مؤامرةٍ ضدّ الإمام (علیه السلام) ، ونسّق مع أتباعه في الكوفة والخوارج المناوئين لأهل البيت (علیهم السلام) هناك، وأمر ولاته في البلاد أن يقوم كلٌّ منهم بالدور المناسب، فجعلوا يطاردون الإمام من داخل الحجاز، من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، في حين تدعوه كتب أهل الكوفة إلى التوجّه إليهم ...

ثمّ جاء دور يزيد، فطبّق الخطّة بجميع أطرافها ((1)).

وقال (حفظه الله):

وهكذا نجد معاوية حائراً مع الإمام (علیه السلام) ، فلا هو أهلٌ للمساومة،

ص: 79


1- مَن هم قتَلَة الحسين (علیه السلام) : 239.

ولا التهديدات ترعبه، وهو إنْ بقي بين أظهُر الناس وفي عاصمة الإسلام ومدينة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فلن يتمّ الأمر ليزيد..

ومن جهةٍ أُخرى، فقد تعهّد في بنود الصلح على أن لا يصيبالحسنَ والحسينَ (علیهما السلام) بضررٍ أو أذىً ولا يمسّهما بسوء.

فهو وإنْ نكث العهد باغتيال الإمام الحسن (علیه السلام) ، إلّا أنّه قد أقدم على ذلك بواسطة زوجته، ظنّاً منه أنّ ذلك سيبقى سرّاً لا يطّلع عليه أحد، فجعل يخطّط للقضاء على الإمام الحسين (علیه السلام) على يد أهل العراق بالتنسيق مع الخوارج في الكوفة ومع أنصار الأُمويّين هناك، هذا من جهة، ومع ولاته في المدينة ومكّة والكوفة من جهةٍ أُخرى ((1)).

وقال أيضاً:

وكان [معاوية] قد أوصى يزيد _ في ما اتّفقَت المصادر عليه _ أن لا يمسّ الإمامَ (علیه السلام) بسوء، وأنّ الّذين قتلوا أباه وأخاه سيدعونه إلى العراق، وهم الّذين سيقتلونه.

«أمّا الحسين بن عليّ، فأحسَبُ أهل العراق غير تاركيه حتّى يُخرجوه ...» ((2)).

ص: 80


1- من هم قتلة الحسين (علیه السلام) ، للسيّد الميلاني: 163.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال: 226، تاريخ الطبريّ: 3 / 260، المنتظَم: 4 / 137، الكامل في التاريخ: 3 / 368 _ 369، تاريخ ابن خلدون: 3 / 22 _ 23.

«أُنظر حسينَ بنَ عليٍّ وابنَ فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... فإنْ يكُ منه شيءٌ فإنّي أرجو أن يكفيكه الله بمَن قتل أباه وخذل أخاه ...» ((1)).

وقال (حفظه الله):قال ابن كثير:

وقالوا: لمّا بايع الناسُ معاويةَ ليزيد، كان حسينٌ ممّن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كلّ ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم ... ((2)).

يفيد هذا الخبر:

1 _ إنّ المكاتبة كانت في زمان حكومة معاوية.

2 _ وكانت لمّا بايع الناسُ معاوية ليزيد، والإمام ممّن لم يبايع.

3 _ ولم تكن مرّةً واحدة، بل كانوا (يكتبون) إليه.

4 _ ولم يكتفوا بالكتابة، بل أرسلوا من قبلهم قوماً إلى المدينة ليرضوه (علیه السلام) بالخروج إليهم.

ص: 81


1- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 423، العِقد الفريد: 3 / 360، تهذيب الكمال: 4 / 488 الرقم 1305، سيَر أعلام النبلاء: 3 / 295 الرقم 48، تاريخ الإسلام: 2 / 341، البداية والنهاية: 8 / 162، تاريخ ابن خلدون: 3 / 23، بُغية الطلب في تاريخ حلب: 6 / 2607.
2- البداية والنهاية: 8 / 121 و127 و129، وانظر كذلك: أنساب الأشراف: 3 / 370، تاريخ الطبريّ: 3 / 277.

5 _ ووسّطوا محمّد ابن الحنفيّة أيضاً.

فماذا قال الإمام (علیه السلام) ؟ قال: «إنّ القوم إنّما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا» ((1)).

وماذا كتب إليهم؟ كتب إليهم: «فالصقوا بالأرض، واخفوا الشخص، واكتموا الهوى واحترسوا ... ما دام ابن هند حيّاً» ((2)) ((3)).

ثمّ ذكر سعيَ الحكومة وراء خروج الإمام من المدينة، وأنّ الخطّة كانت تقضي أن يُترك الإمام (علیه السلام) ولا يُؤذى، لأنّ أهل العراق غير تاركيهحتّى يُخرجوه، ما لم يثر ويُظهِر العداوة للحكومة، والإمام (علیه السلام) يعلن للناس إباءه عن البيعة، يصرّح بذلك لكلّ مَن يسأله..

وفي هذه الظروف، نرى أنّ الكتب من الكوفة تترى، يدعونه ويطلبون منه القدوم إليهم، والإمام يقول: «لا أراهم إلّا قاتلي» ((4))، وبدأ الحكّام يسعون وراء خروج الإمام من الحجاز ((5)).

ص: 82


1- البداية والنهاية: 8 / 129، وأنظُر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 422، بُغية الطلب: 6 / 2606، سيَر أعلام النبلاء: 3 / 294.
2- أُنظر: أنساب الأشراف: 3 / 366، الأخبار الطِّوال: 222.
3- مَن هم قتَلَة الحسين (علیه السلام) للسيّد الميلانيّ: 255.
4- تاريخ مدينة دمشق: 14 / 216، سيَر أعلام النبلاء: 3 / 306، البداية والنهاية: 8 / 135 حوادث سنة 60 ه-.
5- أُنظر: مَن هم قتَلَة الحسين (علیه السلام) للسيّد الميلانيّ: 165 وما بعدها.
الشاهد الثاني: إخبار يزيد بذلك

في اليوم الأوّل الّذي نزا فيه يزيد على الأعواد وجلس للتعزية والتهنئة، وفي أوّل خطابٍ له مع الشاميّين، أعلن يزيد عن حربه مع أهل العراق، وأنّ له ملحمةً معهم..

فقد روى ابن أعثم والخوارزميّ في خبرٍ طويل، قالا _ واللفظ للأوّل _ :

حتّى صار [أي: يزيد] إلى القبّة الخضراء، فلمّا دخلَها نظر فإذا قد نُصبَت له فيها فرشٌ كثيرةٌ بعضُها على بعض، ويزيد يحتاج أن يرقى عليها بالكراسي.

قال: فصعد حتّى جلس على تلك الفُرُش، والناس يدخلون عليه يهنّئونه بالخلافة ويعزّونه في أبيه.وجعل يزيد يقول: نحن أهل الحقّ وأنصار الدين، وأبشروا يا أهل الشام، فإنّ الخير لم يزل فيكم، وسيكون بيني وبين أهل العراق حربٌ شديد، وقد رأيتُ في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً، وجعلتُ أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك، حتّى جاءني عُبيد الله بن زيادٍ فجازه بين يدَيّ وأنا أنظر إليه.

قال: فأجابه أهل الشام وقالوا: يا أمير المؤمنين! امضِ بنا حيث شئت، وأقدِمْ بنا على مَن أحببت، فنحن بين يديك، وسيوفنا تعرفها أهلُ العراق في يوم صفّين.

ص: 83

فقال لهم يزيد: أنتم لَعمري كذلك ... ((1)).

قد حدّد يزيد الخمور مكان الحرب المقبلة وشيكاً مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأعلن عنها منذ الخطاب الأوّل، وعيّن فيها القائد الّذي سيعبر به نهر الدماء!

ويمكن أن يكون هذا شاهداً على عزم يزيد ومَن حمله على رقاب الناس على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتخطيطه لذلك وابتدائه بالهجوم على الإمام (علیه السلام) .

الشاهد الثالث: سعي والي المدينة لإخراج الإمام (علیه السلام) منها

ممّا يشهد لسعي الولاة لإخراج الإمام (علیه السلام) من الحجاز، أنّ الوليد تراخى في موقفه مع الإمام (علیه السلام) ولم يستعمل الشدّة معه، فضلاً عن أن يقدم على قتله، وإنّما بعث إليه وأخبره بوفاة معاوية ودعاه إلى البيعة ليزيد، فقال الإمام (علیه السلام) : «نُصبح وننظر»، فلم يشدّد الوليد على الإمام ((2))، بل قال: انصرفْ على اسم الله ((3)). رغم أنّ مروان أمره بقتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّه إن تركه يخرج من عنده فسوف لن يتمكّن منه بعد ذلك أبداً ((4)).

ص: 84


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 6، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 179.
2- سيَر أعلام النبلاء: 3 / 534 الرقم 139.
3- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 3 / 270، البداية والنهاية: 8 / 118.
4- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 33، تاريخ الطبريّ: 3 / 270، الكامل في التاريخ: 3 / 378، البداية والنهاية: 8 / 118.

وإنّما كان هذا التراخي والتمهُّل ذريعةً لفسح المجال أمام الإمام (علیه السلام) للخروج من المدينة، بتنسيقٍ مسبَقٍ مع أسياده، وأنّ الوليد كان مأموراً بما فعل، وأنّ ما فعله كان تطبيقاً لما أُمِر به، لكنّ مروان كان يجهل الأمر، أو كان يريد غير ذلك.

ويشهد لذلك:

أنّهم لاحقوا ابن الزبير حين خرج، ووجّه الوليدُ في إثره حبيبَ بن ذكوان في جماعة.

فيما قال الوليد حين علم بخروج الإمام (علیه السلام) من المدينة: الحمد لله.

وأنّه لو كان مأموراً بقتل الإمام (علیه السلام) لَما قال له لمّا أبى أن يبايع: انصرفْعلى اسم الله.

وأنّ الكلام الّذي دار بينه وبين مروان، يدلّ دلالةً واضحةً على كون مروان هو المُصرّ على القتل إن لم يبايع الإمام (علیه السلام) .

ويشهد لذلك أيضاً أنّ الوليد لم يتعرّض إلى أيّ عقوبة.. فلو كان يزيد قد أمَرَه بقتل الإمام (علیه السلام) ولم يمتثل لَعاقبه، ولا أقلّ من أن لا يولّيه شيئاً من المناصب، والحال أنّ يزيد قد ولّاه المدينة مرّتين، وأقام الموسم غير مرّة، آخرها سنة 62 ه-، كما ذكر الذهبيّ ((1))، وأنّ الوليد هو الّذي صلّى على

ص: 85


1- العِبَر في خبر مَن غبر للذهبيّ: 1 / 52.

جنازة معاوية بن يزيد ((1))، وأرادوه للخلافة بعد معاوية بن يزيد، فأبى ((2)).

فعزلُه عن المدينة في تلك الفترة لم يكن إلّا لمصلحةٍ خاصّةٍ، وليس عقوبة! إلّا أن يكون لتفريطه في أمر ابن الزبير الّذي أوصى معاويةُ يزيدَ بأن يقطّعه إرباً إرباً إنْ قدر عليه ((3)).

الشاهد الرابع: سعي والي مكّة لإخراج الإمام (علیه السلام) منها

ويشهد لذلك أيضاً:

إنّ والي مكّة الجبّار العنيد عمرو بن سعيد الأشدق لم يتعرّض للإمام (علیه السلام) بسوء.ولمّا حاول يحيى ومَن معه الحيلولة دون خروجه (علیه السلام) ، وتدافع الفريقان، وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فأرسل إليهم يأمرهم بالانصراف ((4)).

ولكن عمرو بن سعيد قد كتب في الحال إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فقد توجّه إليك الحسين، وفي مِثلها تُعتَق أو تكون عبداً تُسترقّ كما

ص: 86


1- الإنباء بالأنباء (تاريخ القضاعيّ): 210.
2- دول الإسلام: 41.
3- أُنظر: مَن هم قتَلَة الحسين (علیه السلام) للسيّد الميلانيّ: 170.
4- أُنظر: أنساب الأشراف: 3 / 375، الأخبار الطِّوال: 244، تاريخ الطبريّ: 3 / 296، الكامل في التاريخ: 3 / 401.

تسترقّ العبيد ((1)).

فربّما كان هذا الطاغي الجبّار العنيد قد خرج من مكّة وتوجّه إلى المدينة، ليتمّ اغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة وهو خارجٌ عنها، فلا يُتّهَم بذلك هو والأُمويّون، فلمّا عجز عن ذلك وبلغه خبر خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، رجع إليها ليتّخذ التدابير اللازمة في الفترة الوجيزة المتبقّية، وليعمل جاهداً في تعجيل خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق.

الشاهد الخامس: حفظ الإمام (علیه السلام) للحُرُمات

هم يعلمون جيّداً أنّ الإمام (علیه السلام) لن يبايع يزيد الخمور.. والبيعة المطلوبة _ كما ذكرنا في غير موضع _ إنّما هي البيعة الذليلة الخانعة وقبول فرض الطاعة، لأنّهم أرادوا منه أن يبايع صاغراً، على حدّ تعبير مروان.

هم يعلمون جيّداً أنّ الإمام (علیه السلام) يحفظ الحرمات، ولن يكون سبباً في هتك حرمة المدينة حرم جدّه (صلی الله علیه و آله) ومكّة حرم الله.. فإذا أقدموا على قتلههناك، فإنّه سوف لن يبقى، ويخرج منها حمايةً لحرمتها وحرمة سفك دمه فيها.

وقد سمعه الجميع وهو يقول: «لَئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبُّ إليّ مِن أن

ص: 87


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 429 الرقم 1374، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 212 الرقم 1566، وانظر: مَن هم قتلة الحسين (علیه السلام) : 184.

يُستحَلّ بي حرم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .. تُستحَلّ بي (مكّة)» ((1)).

وقال (علیه السلام) : «خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الّذي يُستباح به حرمة هذا البيت» ((2)).

وقال (علیه السلام) : «لَئن أُقتَل بيني وبين الحرم باع، أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل وبيني وبينه شبر، ولَئن أُقتَل بالطفّ، أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل بالحرم» ((3)).

وقال (علیه السلام) : «لَئن أُدفَن بشاطئ الفرات، أحبُّ إليّ مِن أن أُدفَن بفناء الكعبة» ((4)).

لذا جاء كتاب يزيد في أوّل يومٍ نزا فيه على الأعواد وأخذ بمقاليد المُلك يأمر فيه بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) إن هو امتنع عن البيعة..

قال اليعقوبيّ:

وملَكَ يزيدُ بن معاوية ...

وكان غائباً، فلمّا قدم دمشق كتب إلى الوليد بن عُتبة بن أبي

ص: 88


1- أُنظر: مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 192، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 120، أمالي المحامليّ: 226، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 201، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 292، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 147، أخبار مكّة للأزرقيّ: 2 / 132، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 106، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 174.
2- اللهوف لابن طاووس: 128.
3- كامل الزيارات لابن قولويه: 72 الباب 23 ح 4.
4- كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 6.

سفيان _ وهو عامل المدينة _ :

إذا أتاك كتابي هذا، فأحضِر الحسينَ بن عليٍّ وعبد الله بن الزبير، فخُذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضربْ أعناقهما، وابعث إليّ برؤوسهما، وخُذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفِذْ فيه الحكم، وفي الحسين بن عليٍّ وعبد الله بن الزبير، والسلام ((1)).

وقال الطبريّ:

ولم يكن ليزيد همّةٌ حين ولي إلّا بيعة النفر الّذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته وأنّه وليّ عهده بعده والفراغ من أمرهم ...

وكتب إليه صحيفةً كأنّها أُذُن فأرة:

أمّا بعد، فخُذْ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ليست فيه رخصة، حتّى يبايعوا، والسلام ((2)).

وقال ابن أعثم:

ثمّ كتب إليه في صحيفةٍ صغيرةٍ كأنّها أُذُن فأرة:

أمّا بعد، فخُذ الحسين بن عليٍّ ... أخذاً عنيفاً، ليست فيه رخصة، فمَن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه ((3)).

ص: 89


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 154.
2- تاريخ الطبريّ: 3 / 269.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 9، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 626.

وكتب إليه ثانية:

أمّا بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخُذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيدٍ منك عليهم، وذر عبد الله بن الزبير؛ فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبداً ما دام حيّاً، ولْيكُن مع جوابك إليّ رأسُ الحسين ابن عليّ، فإنْ فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنعمة واحدة، والسلام ((1)).

وقال الخوارزميّ:

كتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم ... أمّا بعد، فإنّ معاوية كان عبداً من عبيد الله ... وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتَهم على سفك الدماء، وقد علمتَ _ يا وليد _ أنّ الله (تعالى) منتقمٌ للمظلوم عثمان بن عفّان من آل أبي تراب بآل سفيان، لأنّهم أنصار الحقّ وطلّاب العدل ... ((2)).

وروى الصدوق في (أماليه)، مسنَداً عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) _ في حديثٍ _ قال:

«كتب الجواب إلى عُتبة:

أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فعجِّلْ علَيّ بجوابه، وبيِّنْ ليفي

ص: 90


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 18.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 262.

كتابك كلَّ مَن في طاعتي أو خرج عنها، ولْيكن مع الجواب رأسُ الحسين بن عليّ.

فبلغ ذلك الحسين (علیه السلام) ، فهمّ بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق ...» ((1)).

وهنا ترك خيار البيعة، واقتصر على الأمر بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !

بناءً على ما ذكرناه من علمهم الأكيد بمدى رعاية الإمام (علیه السلام) للحرمات حقّ رعايتها وحفظها حقّ الحفظ، فإنّهم يعلمون أنّه سيهاجر المدينة ويخرج منها فوراً..

وأنّهم قد سدّوا الأبواب على الإمام (علیه السلام) ، فلم يكن له طريقٌ سوى طريق العراق، وقد أتينا على تفصيل ذلك في محلّه.

ويشهد له أيضاً:

قول الإمام (علیه السلام) حين حذّروه من العراق: «لابدّ إذاً من مصرعي» ((2)).

وقوله: «مهما يقضِ اللهُ مِن أمرٍ يكُن» ((3)).

ص: 91


1- الأمالي للصدوق: 216 المجلس 30.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 426، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 297، مختصر تاريخ مدينة دمشق: 7 / 140، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 131، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 426، تهذيب الكمال للمزّيّ: 4 / 490، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 399، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 399، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185.

وقال حين ذكروا عنده ما فعله أهل الكوفة بأبيه وأخيه: «إنّه ليس يخفىعلَيّ ما قلتَ وما رأيتَ، ولكنّ الله لا يُغلَب على أمره» ((1)).

وقال أيضاً لمن حاول منعه من الخروج إلى العراق: «لا يخفى علَيّ شيءٌ ممّا ذكرت، ولكنّي صابرٌ محتسِب، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً» ((2)).

وقال (علیه السلام) : «أعلمُ يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا ولدي عليّ» ((3)).

وهذه الإخبارات الصادرة من الإمام (علیه السلام) تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) جعل يُعلِن وجهته الّتي سيقصدها بفعل الأحداث المتلاحقة والدفع والملاحقة المتواصلة من العدوّ، وأنّ الأمر الّذي يعمل له العدوّ غير خافٍ عليه، بَيد أنّه الخيار الوحيد الّذي يمكن العمل به في تلك الظروف القاسية.

الشاهد السادس: علم الإمام (علیه السلام) بنيّات القوم

لقد مرّ معنا في مواضع كثيرةٍ التأكيدُ على أنّ الإمام (علیه السلام) كان عالماً عارفاً بأهل الكوفة وبنيّاتهم، وما سيلقاه منهم عن قريب، وقد ذكرنا لذلك أدلّةً

ص: 92


1- تاريخ الطبريّ: 3 / 304، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 404، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 137.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 189.
3- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364.

وشواهد كثيرة، وقلنا: بغضّ النظر عن علم الإمامة، فإنّ الإمام (علیه السلام) قد عالج أهل الكوفة وعركهم ومرسهم، وعاش معهم محنة أبيه وأخيه (علیهما السلام) ،وليس من المعقول أن يكون ابنُ عبّاسٍ وابنُ عمر وغيرهما كثيرٌ ممّن اعترض على الإمام (علیه السلام) يعرفون أهل الكوفة والإمامُ (علیه السلام) لا يعرفهم!

وقد أبان الإمام (علیه السلام) ذلك، وصرّح به في جميع المراحل، وكلّما حانت الفرصة وتطلّبت المناسبة، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها:

v قال (علیه السلام) : «واللهِ لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة _ وأشار إلى قلبه _ من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمة» ((1))، «أذلّ فرق الأُمم» ((2)).

v وقال (علیه السلام) عند خروجه من مكّة: «واللهِ لَئن أُقتَل خارجاً منها بشبر، أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني، حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهودُ في السبت» ((3)).

ص: 93


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 50، تاريخ الطبريّ: 4 / 296، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 216، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2615، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 183، ذوب النضّار لابن نما: 28، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 39.
2- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 76، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 448.
3- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 289، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 400، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 145، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 407.

v وقال (علیه السلام) في جواب كتاب عبد الله بن جعفر: «واللهِ _ يا ابن عمّي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني، حتّى يقتلوني» ((1)).

وقال لمسلم بن عقيل (علیه السلام) حين وجّهه إلى أهل الكوفة: «وسيقضيv الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء» ((2)).

وسيأتي بعد قليلٍ المزيدُ من كلمات الإمام (علیه السلام) .

الشاهد السابع: قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء (علیه السلام)

وفي حديثٍ طويل، بالإسناد عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) قال:

«قال الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) لأصحابه قبل أن يُقتَل:

إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياءُ النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى: عمورا، وإنّك تُستشهَد بها، ويُستشهَد معك جماعةٌ من أصحابك، لا يجدون ألم مسّ الحديد. وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ((3))، تكون الحربُ عليك وعليهم برداً وسلاماً.

ص: 94


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 67، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 36، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 196.
3- سورة الأنبياء: 69.

فأبشِرُوا، فوَاللهِ لَئن قتلونا فإنّا نردُ على نبيّنا ...» ((1)).

يمكن تصنيف هذا الحديث في أقوال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقوال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، باعتبار أنّ الإمام يروي عن جدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

والشاهد فيه يكمن في قوله (صلی الله علیه و آله) : «ستُساق إلى العراق».. فالسوق هو الجلب والطرد ((2))، والملاحقة لتوجيه المسوق إلى جهةٍ مطلوبة.وربّما شهد لذلك أيضاً قول ابن زياد حين أخبره ابن سعد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) عرض عليهم أن يتركوه ينصرف عنهم ويذهب في أرض الله الوسيعة، فكتب إلى ابن سعد:

الآن إذ علقَتْ مخالبُنا به

يرجو النجاة، ولات

حين مناصِ! ((3))

فهو يصوّر نفسَه في مطاردة صيد، وقد علقت مخالبه به، فكيف يتركه؟!

ص: 95


1- الخرائج والجرائح لابن الراونديّ: 2 / 848 ح 63، منتخَب بصائر الدرجات لابن سلمان الحلّيّ: 37، الرجعة للاسترآباديّ: 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 80، الأنوار النعمانيّة للجزائريّ: 2 / 96، نفَس المهموم للقمّيّ: 251.
2- أُنظر: المفردات للراغب: سَوَقَ.
3- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 386، تاريخ الطبريّ: 5 / 411، الإرشاد للمفيد: 2 / 87، روضة الواعظين للفتّال: 156، إعلام الورى للطبرسيّ: 234، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 241، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 283، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 427.
الشاهد الثامن: أقوال الإمام الحسين (علیه السلام)

ما أكثر الشواهد من كلام الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء، الّتي تفيد تصريحاً وتلويحاً أنّ القوم كانوا يلاحقونه، ولو بقي في المدينة أو في مكّة لَقتلوه وانتهكوا حرمة دمه الزاكي، وهتكوا بقتله حُرمة الحرم.

وقد سمعنا بعضها فيما سبق، ونذكر بعضها هنا على نحو الإشارة والمثال:

روى ابن قولويه مسنداً عن الحسين بن عليّ (علیهما السلام) أنّه قال: «والّذي نفس حسينٍ بيده، لا ينتهي بني أُميّة مُلكُهم حتّى يقتلوني، وهم قاتلي» ((1)).

وقد صرّح الإمام (علیه السلام) بصراحةٍ ووضوحٍ أنّ تلك الكتب إنّما كانت مكيدةً له وتقرّباً لابن معاوية، قال (علیه السلام) : «ما كانت كُتبُ من كَتبَ إليّ في ماأظنّ إلّا مكيدةً لي، وتقرّباً إلى ابن معاوية بي» ((2)).

وأعلن أنّهم قد حاصروه وضيّقوا عليه الدنيا، فلم يتركوا له منفذاً إلّا منفذ العراق، ويشير إلى ذلك ما رواه الصدوق عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) _ وغيره _، قال: «ثمّ سار حتّى نزل الرهيمة، فورد عليه رجُلٌ من أهل الكوفة يُكنّى: أبا هرم، فقال: يا ابن النبيّ، ما الّذي أخرجَك من المدينة؟ فقال: ويحك يا أبا هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا

ص: 96


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 74، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 88.
2- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 393.

دمي فهربت، وأيمُ الله لَيقتلُنّي، ثمّ لَيُلبسنّهم اللهُ ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيسلّطنّ عليهم مَن يذلّهم» ((1)).

وروى ابن سعدٍ وغيره، مسنداً عن يزيد الرشك، عمّن شافه الحسين (علیه السلام) ، قال:

رأيتُ أبنيةً مضروبةً بفلاةٍ من الأرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين. قال: فأتيتُه، فإذا شيخٌ يقرأ القرآن، قال: والدموع تسيل على خدَّيه ولحيته.

قال: قلت: بأبي وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة الّتي ليس بها أحد؟ ما أجلسك في هذا الموضع الّذي ليس فيه أنيسٌ ولا منفعة؟

فقال: «إنّ هؤلاء _ يعني السلطان _ أخافوني ((2))، وهذه كتبأهل الكوفة إليّ، ولا أراهم إلّا قاتلي لا محالة ((3))، فإذا فعلوا ذلك لم يدَعُوا لله حرمةً إلّا انتهكوها، فيسلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى

ص: 97


1- أُنظر: الأمالي للصدوق: 153 المجلس 30، الفتوح لابن أعثم: 5 / 123، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70، نفَس المهموم للقمّيّ: 183، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 367.
2- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2615، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 547، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 368.
3- الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 547.

يكونوا أذلّ من فرم الأَمة» ((1)).

قال: والفرام: خرقةٌ تجعلها المرأة في قُبُلها إذا حاضت ((2)).

وروى الخوارزميّ في (المقتل)، قال:

وخرج وُلدُ الحسين وإخوته وأهل بيته حين سمعوا الكلام، فنظر إليهم، وجمَعَهم عنده وبكى، ثمّ قال:

«اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد (صلوات الله عليه)، قد أُخرجنا وأُزعجنا وطُردنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أُميّة علينا، اللّهمّ فخُذْ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين» ((3)).

فلمّا حطّوا رحلهم في كربلاء، خطب الإمام (علیه السلام) أصحابه هناك وقال: «أمّا بعد، فإنّ الناس عبيدُ الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون» ((4)).

تركنا دراسة هذه النصوص؛ لشدّة وضوحها ودلالاتها الصريحة، وخوفاً

ص: 98


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 64 الرقم 290، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 216، تهذيب ابن بدران: 4 / 333، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 183، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 305، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 345، نظم درر السمطَين للزرنديّ: 214.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 276.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 236، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 252، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 382.
4- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 236.

من التطويل، ولكلّ متنٍ منها موضعٌ يناسب دراسته دراسةً مستفيضةً وافية، إن شاء الله (تعالى).

الشاهد التاسع: قول ابن عبّاس

وكتب ابن عبّاسٍ ليزيد:

وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسينَ بن عليٍّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسَّك إليه الرجالَ تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب.

وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمةَ البيت وحرمةَ رسول الله، فأكبر من ذلك ما لم تكبر، حيث دسستَ إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ((1)).

وفي لفظٍ آخَر:

ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسييرَك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك إليهم الرجال، وإدساسَك إليهم إنْ هو نذر بكم فعاجلوه.

ص: 99


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 249، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

فما زلتَ بذلك حتّى أشخصتَه من مكّة إلى أرض الكوفة، فخرج خائفاً يترقّب، تزأر إليه خيلُك وجنودُك زئير الأسد، عداوة مثلك لله ولرسوله ولأهل بيته.

ثمّ كتبتَ إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف، ثمّ كتبتَ إليه بمعاجلته وترك مطاولته، حتّى قتلتَه ومَن معه من فتيان بني عبد المطّلب، أهلَ البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، نحن أُولئك، لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير.

ولقد علمتَ أنّه كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّه بها حديثاً لو ثوا بالحرمَين مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكنّه كره أن يكون هو الّذي يُستحَلّ به حرمُ الله وحرمُ رسوله (صلی الله علیه و آله) وحرمةُ البيت الحرام، فطلب سليكم الحسين الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة نصّاره واستئصال أهل بيته، كأنّكم تقتلون أهل بيتٍ من الترك أو كابل ((1)).

وفي كلمات ابن عبّاسٍ شهادةٌ واضحةٌ أنّ يزيد الخمور كان يطارد الإمام الحسين (علیه السلام) ويلاحقه، حتّى سيّره من مكّة وأشخصه إلى العراق.

ص: 100


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 242، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 128.
الشاهد العاشر: المكاتِبون!

حين نقرأ أخبار المكاتبين _ كما سيأتي بعد قليل _، نجدهم أكثريّةً مجهولةً لم يُعرّف بها المؤرّخ، وأقلّيةً قليلةً صرّح بأسمائهم باعتبارهم الرؤوس والأشراف والوجهاء وأصحاب النفوذ وغيرها من العناوين، وفي هؤلاء أيضاً نجد فيهم من أعداء الإمام وعمّال بني أُميّة وعبيدهم ورؤوس الضلال وقادة العسكر الّذي قاتل الإمام (علیه السلام) .

وهذا يفيد أنّ لهؤلاء دوراً في دعوة الإمام (علیه السلام) وتحشيد الناس، ودفعهم إلى الكتابة، وإيجاد الأجواء الانفعاليّة تلك الأيّام.

أمّا الشيعة المخلصون الأبرار الثابتون، فلم نجد منهم إلّا اسم حبيب ابن مظاهر، وقد وفى _ على فرض أنّه كتب _.

أمّا مثل سليمان ورفاعة وأمثالهم، فلعلّهم انساقوا في الأجواء الانفعاليّة وكتبوا، واتّفقَت آمالهم مع مآرب الأُمويّين وهم لا يشعرون.. وإنّما نقول ذلك لنحملهم على المحمل الحسن!

وعلى العموم، إنّ وجود عددٍ معتَدٍّ به من أزلام الطاغوت ممّن يسمّونهم الأشراف، من أمثال شبث بن ربعيّ وحجّار وابن عزرة وابن رويم، وهم كانوا قادة العسكر في المستوى الأعلى من القيادة، ما يثير في النفس فكرة أن يكون هؤلاء قد كتبوا طاعةً لأوامر وصلتهم، أو خطّةً محبَكةً شاركوا بفعّاليّةٍ في نسج شراكها.

ص: 101

الشاهد الحادي عشر: لو كانوا صادقين لوطّؤوا قبل دخول الإمام (علیه السلام)

روى الطبريّ والشيخ المفيد وغيرهما، قالوا:

ثمّ ساروا، حتّى مّر ببطن العقبة فنزل عليها.

فلقيه شيخٌ من بني عكرمة يُقال له: عمرو بن لوذان، فسأله: أين تريد؟ فقال له الحسين (علیه السلام) : «الكوفة». فقال الشيخ: أُنشدك الله لمّا انصرفت؛ فوَاللهِ ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف، وإنّ هؤلاء الّذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأشياء فقدمتَ عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال الّتي تذكر، فإنّي لا أرى لك أن تفعل. فقال له: «يا عبدَ الله! ليس يخفى علَيّ الرأي، وإنّ الله (تعالى) لا يُغلَب على أمره» ((1)).

ثمّ قال (علیه السلام) : «واللهِ لا يدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الأُمم» ((2)).

وفي (الفصول المهمّة) و(نور الأبصار):

قال له الإمام (علیه السلام) : «لا يخفى علَيّ شيءٌ ممّا ذكرتَ، ولكنّيصابرٌ

ص: 102


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 399، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 169 و171، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 278، نهاية الأرب للنويريّ: 2 / 415.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 375، إعلام الورى للطبرسيّ: 231.

ومحتسب، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً» ((1)).

وكان سليمان بن صُرد وجماعتُه قد وعدوا الإمام في كتبهم أنّهم على استعدادٍ لطرد الوالي، وأنّه لو قد بلغَهم مخرج الإمام أخرجوه من الكوفة وألحقوه بالشام ((2)).

فلو كانت نيّاتهم على نصر الإمام (علیه السلام) حقّاً فيما كانوا يزعمون، لَفعلوا ما وعدوا، ولم يفرّطوا بالإمام (علیه السلام) ويستقدمونه والعدوّ متمكّنٌ في بلادهم!

وقد أرسل إليهم الإمامُ (علیه السلام) ثقتَه ورسوله، وبلغَهم قدومُ الإمام (علیه السلام) إليهم وخروجُه من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة..

الشاهد الثاني عشر: ما يكلّف الأعداء

لم يحسب العدوّ لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بهذه السرعة من المدينة

ص: 103


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 189، نور الأبصار للشبلنجيّ: 260.
2- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس: 33، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

المنوّرة ولا من مكّة المكرّمة، فلم يكن قد أعدّ لذلك أيَّ مادّةٍ إعلاميّة، ولم يروّج لتشويه خروجه (علیه السلام) ، كما فعل فيما بعد من رميه بالظلم والفساد والأشَر والبطَر، وممارسة التضليل لعرض حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) --كذباً وزوراً -- ك-- (خروج) ووصفه ب-- (الخارجيّ).

وأُسلوب الطغاة والمستكبرين في الأرض -- كان ولا زال -- هو تكثيف القوّة وتحشيد العساكر واستخدام العنف المفرط والضربات الهائلة، مهما كان العدوّ المقابل قليل القوّة والعُدّة والعدد، فهو لم يكن على استعدادٍ ضمن خطّته وأُسلوب عمله.

وكان العدوّ يعرف قوّة سيّد الشهداء (علیه السلام) وسطوته وشجاعته، وكذا مَن معه، ويعلم علماً يقيناً أنّ الإمام (علیه السلام) لا يستسلم حتّى تفيض الأرض بدمائهم العفنة، فهم يعرفون شجاعة الهاشميّين عموماً، وشجاعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشجاعة أخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وشجاعة الإمام الحسين (علیه السلام) المولود منهما، وقد رأوا ذلك ولمسوه، ولا زالت بيوتهم ترتفع فيها الرنّة ولا تبارحها النوائح من حصائد سيف أمير المؤمنين (علیه السلام) .

لقد جرّب الأعداء ذلك في المشاهد الّتي ذاقوا فيها ذعاف السيوف الهاشميّة، والسطوة الطالبيّة، والشجاعة العلويّة، وهم لا ينسون جيَفَهم وفطائسهم الّتي كانوا يتبجّحون بها، فإذا بها تتهاوى من حفيف الهواء الّذي تشقّه شفرة أسد الله وأسد رسوله، وتتزلزل عند مشاهدة وميض الصوارم الطالبيّة، وتختطف أبصارها وتلتهب من سرعة تقلّب "ذو الفقار"،

ص: 104

ليحصد الرؤوس يميناً وشمالاً في ضربةٍ واحدة، فيقتل ويقدّ ويقطّ ولا تسيح الدماء، لأنّه يفري ويُحرق ويشوي اللحم والجلد ويكوي العروقلشدّة سرعته الخاطفة، فلا تسيح دماؤهم النجسة على الأرض وتُحبَس في أجسادها.

فالعدوّ يعرف القوّة الّتي يبيّت لمواجهتها، ويعلم _ حسب الحسابات العسكريّة الظاهريّة _ أن لا قدرة له عليه، وأنّ الجيش ما لم يكن كثيفاً متظافر العدّة والعدد لا ينهض في مواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه، ولا يمكن أن يقابلوه بعدّةٍ ضعيفةٍ أو عددٍ قليل.

وكانت المدينة ومكّة حواضر ومدن مقدّسة، وحرماً آمِناً يقدّسه المسلمون جميعاً، فكانت القوّات العسكريّة المتواجدة فيها بمقدار ما يكفي لحماية البلدَين وحفظ الأمن فيهما، وربّما اقتصرت على الشرطة والحرس وقليلٍ من العسكر الّذي يتولّى حماية أفراد السلطة والوالي، ولم تكن معسكراتٍ وثكناتٍ عسكريّةً كالكوفة مثلاً، وهذا المقدار من القوّة لا يمكن أن يُحسَب في مقابل سطوة سيّد الشهداء (علیه السلام) وقوّته ومَن معه على قلّة عددهم.

كما أنّ العامّة والغوغاء لا يُرتكَن إليهم في مِثل هذه الظروف؛ لأنّهم ليسوا قوّةً عسكريّةً نظاميّةً مدرّبةً يمكنها خوض الحروب والقتال في مواجهة أبطال البشريّة وشجعان الخلق، والعدوّ يعرف قوّة الإمام (علیه السلام) ومَن معه، كما ذكرنا.

ص: 105

وأقصى ما يمكن ضمانه من قِبل العدوّ هو تحييد الناس والغوغاء، وأنيقبل منهم بالخذلان، وهذا ما تحقّق بالفعل، أو استخدامهم في الحرب النفسيّة أو المدد اللوجستيّ.

ولمّا كانت المدينة ومكّة حواضر مدنيّة، وليست معسكراتٍ وثكناتٍ نظاميّة، كان ينبغي أن تتحرّك القطعات العسكريّة من ثكناتها -- كالكوفة والشام -- لتحصل المواجهة في الحرمين المقدّسين أو في الطريق بينهما، ويلزم هذا وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً لا تسعه فترة حركة الإمام (علیه السلام) بين الحرمين.

وربّما فسّر ذلك سرعة حركة الإمام (علیه السلام) واستعجاله بين البلدين، وتوظيفه الزمن الحرام والأرض الحرام في جميع فترات حركته، فهو قد خرج من المدينة في شهر رجب (الحرام)، ثمّ سرعان ما دخل الأرض الحرام لمكّة في ميقات الشجرة، ثمّ بقي مستجيراً ببيت الله الحرام إلى حين خروجه منها، وقد خرج منها في شهر ذي الحجّة الشهر (الحرام) الّذي يليه شهر محرّم (الحرام)، فهو في سعةٍ للحركة في الزمن الحرام حتّى يصل الكوفة!

وربّما شهد لذلك أنّهم جيّشوا الجيوش وساقوها من الشام لاستباحة المدينة ومحاربة ابن الزبير واستباحة الكعبة المشرّفة، ولم يكتفوا بما عندهم من قوّاتٍ في الحرمين مع حقارة ابن الزبير وأتباعه..

بغضّ النظر عن صدق هذا الاحتمال وإمكان حصوله وتحقّقه، فإنّ المدينة ومكّة وما بينهما من المنازل قد خذلَت ريحانةَ النبيّ (صلی الله علیه و آله)

ص: 106

واستسلمت للقرد الأُمويّ، وبايعت منذ عهد القرد العجوز معاوية، وجدّدت البيعة فوراً بعد أن تسلّق القرد المخمور المجدور المسعور أعواد المنبر خلَفاً لدعيّه، فالمواقف محسومة، والغيرة والحميّة على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) معدومة..

بَيد أنّ المدينة ومكّة كانت ترتبط مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعهود ومواثيق منذ قبل الإسلام وبعده، كحِلف الفضول، وما أخذه النبيّ (صلی الله علیه و آله) على الأنصار عند مبايعته من الدفاع عنه وعن أهل بيته، وكانت المنازل في الطريق تضمّ رجالاً من القبائل دخلوا الإسلام وبايعوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فربّما كانت هذه بالإضافة إلى النوازع القبليّة أو التمسّك ببعض الذمم أو ما شاكل، قد تكون دافعاً ينشّط البعض للذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله والدفاع عن عِرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسائه وأطفاله، سيّما أنّ العدوّ لم يعمل بعدُ على شراء الذمم مقابل شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ولم يشغّل إعلامه.

وإن لم ينصروا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فربّما وقفوا على الحياد وخذلوا الجانبَين، حتّى يستجلوا الأمر وتتّضح لهم الصورة.

نقول: هذا كلّه على نحو الاحتمال كفرضٍ يمكن أن يُتصوَّر في المقام، ليس إلّا.

بَيد أنّ مثل هذه الظروف قد تكون معرقلة، سيّما إذا كانت الحرب سجالاً والمحارب هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه، حيث كانت الأيّام أيّام الحجّ والعمرة، ويلزم أن تكون الجوادّ قد ضاقت بالحجّاج والمعتمرين،

ص: 107

وحركة المرور فيها مزدحمة، والمنازل مكتظّة، وأسواق الطريق قائمة، والطريق بين المدينة ومكّة صعب التضاريس كثير الجبال والوديان والمنحنيات، وسبل الوصول إليه وَعِرةٌ ومتعرّجة، والعسكر يحتاج إلى تنقُّلٍ وإمدادٍ وانتشار، وربّما إقامة! وكثرة تواجد الناس والمدنيّين في البلدان والطريق بنفسه عائقٌ مزعجٌ لحركة العساكر.

أضف إلى ذلك:

إنّ خطّة العدوّ -- كما أفادت المصادر -- كانت تقوم على أساس اغتيال الإمام (علیه السلام) أو الإمساك به على حين غِرّة، بعيداً عن المواجهة العسكريّة، وهذا هو المقصود من مطاردته وركوب كلّ صعبٍ وذَلولٍ في الأرض لطلبه، كما مرّ سابقاً في ما مضى من البحث، وقد سمعنا الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) يُخبِر أكثر من مرّةٍ أنّ القوم قد عزموا وخطّطوا وأقدموا على اغتياله أو القبض عليه.

وبذلك يحقّق العدوّ غرضه من دون أيّ إثاراتٍ أو اضطرارٍ لحربٍ نفسيّةٍ وإعلاميّةٍ واسعةٍ بعيدة المدى، لا تنقضي مع مرور الأيّام وكرّ العصور وتعاقب الدهور، وقد جرّب العدوّ ذلك مع مَن تقدّم الإمام (علیه السلام) من أسلافه الطاهرين (علیهم السلام) .

وقد تبيّن لنا من خلال دراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح بأيّ تصريحٍ في المدينة، سوى ما أعلنه منرفض البيعة وإبائه عن المناولة، واستمهل القوم حتّى يصبح ويصبحون،

ص: 108

وما إلى ذلك..

فهو لم يخطب في الناس، ولم يحرّض على أحد، ولا تناول السلطة، ولا دعا الناس إلى القيام، بل ولا الدفاع عنه، ولا أيّ نشاطٍ آخَر يفيد موقفاً معلناً للإمام (علیه السلام) .

ثم إنّه -- فداه العالمين -- تعجّل الخروج من المدينة، فخرج في غضون يومين أو ثلاثةٍ بعد دعوته وتخييره بين القتل والمناولة..

فخرج ميمِّماً نحو مكّة الأرض الحرام، وكشف وُجهته إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة وبعض خاصّته -- كما في بعض المتون --، ولم يعلن ذلك على الملأ، ولم يجمع الناس ليخبرهم، ولا أخبر السلطان بذلك..

ولم يكن يومها ذكرٌ للكوفة ولا لأهلها، ولم تكن ثَمّة دعواتٌ قد وصلَت للإمام (علیه السلام) -- كما أفاد التاريخ --، سيّما أنّ الفترة الّتي استغرقتها دعوة الإمام (علیه السلام) إلى الوالي وإباؤه وخروجه لم تكن سوى يومين أو ثلاثة، وهي مدّةٌ غير كافيةٍ لبلوغ الخبر إلى الكوفة في الحالات العاديّة، واجتماعِ أهلها وكتابتهم ودعوتهم وإرسال رسلهم إليه (علیه السلام) .

فلم تكن وجهةٌ مكانيّةٌ للإمام (علیه السلام) مقصودةٌ معلَنةٌ لبعض الخواصّ سوى مكّة.

أمّا بالنسبة للعدوّ، فإنّ الأمر كان مجهولاً غامضاً عنده تماماً، وقد فوجئبخروج الإمام (علیه السلام) من دون أيّ سابق علمٍ أو إنذار، ومن دون أيّ معرفةٍ بدوافع الخروج وأسبابه وأهدافه، بل ولا معرفةٍ بجهته ومنتهاه ومقصده

ص: 109

الأخير.

فالعدوّ لا يدري ماذا يخبّئ له القدَر، وماذا خطّط له سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يدري أيَّ شيءٍ سوى أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من المدينة، فقط! ويبدو أنّ هذا الغموض بقيَ مخيّماً على رؤية العدوّ، وبقيَت تساوره منه الظنون والمخاوف إلى أن دخل سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة، فسأله الأشدق عن سبب قدومه، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه جاء مستجيراً بالله وببيته ((1)).

ومن هذا وأشباهه نعرف أنّ العدوّ حسب حساباته بعد أن علم باستقرار الإمام (علیه السلام) في مكّة، فجهد على إخراجه إلى الكوفة أو مشارف الكوفة (كربلاء) في صحراء قريبةٍ من مقلع عساكره، بحيث لا يتجشّم عناء نقل القطعات العسكريّة من بلدٍ إلى بلدٍ في مسافاتٍ شاسعة، قد تكلّفه الكثير الكثير وتمنعه من السيطرة الكاملة على أفراد العسكر.

الشاهد الثالث عشر: وجود ابن الزبير

كان ابن الزبير في المدينة، ثمّ انتقل إلى مكّة.. وكان معاوية قد أوصى يزيد أن يقطّعه آراباً إذا ظفر به.. وكان لابن الزبير أنصارٌ وأتباع.. وهو طالبدنياً وطالب مُلك.. وقد وقعت الحرب بينه وبين يزيد وعسكره، حتّى

ص: 110


1- إقتباسٌ من: (ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة)، للمؤلّف.

هتكوا حرمة الحرم وأحرقوا الكعبة البيت الحرام..

فإذا كان العدوّ يُقدِم على محاربة الإمام (علیه السلام) في مكّة أو المدينة، فإنّ ذلك كان يؤثّر تأثيراً كبيراً، إذ سيدخل ابن الزبير وأتباعه _ ضرورة _، فتكون جبهة الإمام (علیه السلام) وجبهة _ عدوّه _ ابن الزبير عليهم، فكان الأوفق بهم فكّ الجبهتَين، وتسيير الإمام (علیه السلام) إلى العراق، لأنّهم يعرفون أنّ الإمام (علیه السلام) لا يحاربهم في مكّة صيانةً للحرمات.

الشاهد الرابع عشر: اتّهام الشيعة بالقتل

كانت فكرة اتّهام الشيعة بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) مخطَّطاً لها، وكانت الكوفة مركزاً مهمّاً للشيعة، وقد اشتهرت أنّها معدنهم بالنسبة إلى البلدان الأُخرى، وكانت عاصمة خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) الظاهريّة، وكان العسكر المتواجد فيها قد حارب أهل الشام تحت لواء أمير المؤمنين (علیه السلام) ..

من هنا خطّطوا ليكون قتل الإمام الحسين (علیه السلام) قريباً منها، وعلى أيدي نفس العسكر الّذي قاتل معاوية وأهل الشام، لتبقى أبواقُهم إلى يوم الناس هذا تزعق بهذه الفرية المقذعة المملّة: إنّ الشيعة هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) ، ثمّ عَدَوا عليه فقتلوه! وبهذا يبرّؤون ساحتهم _ حسب وهمهم _ من هذا الدم الزاكي، كما يدفعون عن مجتمع (الصحابة والتابعين) المتوافر فيالمدينة حسب الظاهر، باعتبار أنّ المدينة ومكّة مركز تواجدهم، وإن كانوا قد تفرّقوا في البلدان.

ص: 111

النتيجة:

هذه جملةٌ من الشواهد سقناها هنا، ولمن أراد متابعة البحث أن يجد شواهد أُخرى قد تكون متوفّرةً في المصادر والكتب التاريخيّة والحديثيّة، بيد أنّنا اكتفينا بهذا القدر، ولم نطل المكث عند الشواهد والنصوص الّتي ذكرناها لدراستها بدقّة، إذ أنّها تأتي في محلّها إن شاء الله (تعالى).

ولسنا نريد إثبات هذه الفكرة ولا نفيها، ولكنّنا وجدنا مَن يشير إليها ويحاول تنضيجها، فذكرنا هذه الحزمة من الشواهد لها.

ونكتفي هنا بذكر ما قاله آية الله السيّد عليّ الميلانيّ كنتيجةٍ لبحثٍ رتّبه في فصولٍ للتعريف بقتَلَة الإمام الحسين (علیه السلام) وتبرءة ساحة الشيعة، وإثبات أنّ قتَلَته هم معاوية ويزيد ومَن سلّطهم ومن تبعهم:

فهل يرى الباحث الخبير أنّ هذه القضايا إنّما وقعَت صدفة؟!

وهل أنّ والي المدينة لم يلحّ على الإمام (علیه السلام) بالبيعة، ثمّ حمد الله على خروجه، كان ذلك مِن عند نفسه؟!

وهل أنّ والي مكّة الّذي لم يتعرّض للإمام، بل لم يهدّده علناً، وإنّما دسّ إليه الرجال فقط، كان ذلك منه عن اختيار؟!

وهل أنّ والي الكوفة [يعني النعمان بن بشير] لمّا تسامح معمسلم وشيعته، لم يكن مِن قصده انكشافُ حال مسلم ومعرفة أصحابه، وقد كان _ كما قال البلاذريّ _ عثمانيّاً مجاهِراً ببغض عليٍّ ويسيء القول فيه، وهو ممّن أغار على بعض البلاد التابعة

ص: 112

لحكومة الإمام عليّ (علیه السلام) ؟!

وكيف أنّ معاوية كان يداري الإمام (علیه السلام) ، ويُخبِر عن مقتله في العراق على يد أهل الكوفة، وقد أوصى بتولية ابن زياد في الوقت المناسب؟!

إنّ للباحث أن يستنتج أنّ هناك خطّةً مرسومةً من معاوية وأعوانه في الحجاز بالتواطؤ مع أنصاره في الكوفة، بأن يُدعى الإمام (علیه السلام) من قِبَل أهل الكوفة، ويضيَّق عليه ويُطارَد من داخل الحجاز من قِبَل عمّال بني أُميّة، حتّى يُقبِل نحو الكوفة، فيُحاصَر في الطريق، فلا يصل إلى الكوفة ولا يرجع إلى الحجاز، بل يُقتَل في الفلاة.

وهذا ما رواه في (بحار الأنوار) عن (تاريخ الريّاشيّ)، بإسناده عن راوي حديثه، قال:

حججتُ، فتركتُ أصحابي وانطلقتُ اتعسّف الطريق وحدي، فبينما أنا أسير إذ رفعتُ طَرْفي إلى أخبيةٍ وفساطيط، فانطلقتُ نحوها حتّى أتيتُ أدناها، فقلتُ: لمن هذه الأبنية؟ فقالوا: للحسين. قلت: ابن عليٍّ وابن فاطمة؟ قالوا: نعم. قلت: في أيّهاهو؟ قالوا: في ذلك الفسطاط.

فانطلقت، فإذا الحسين متّكٍ على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يدَيه، فسلّمتُ فردّ علَيّ، فقلت: يا ابن رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، ما أنزلَكَ في هذه الأرض القفراء الّتي ليس فيها ريفٌ ولا منعة؟! قال: «إنّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتُبُ أهل الكوفة، وهم قاتلي،

ص: 113

فإذا فعلوا ذلك ولم يدَعُو لله محرَّماً إلّا انتهكوه، بعث الله إليهم مَن يقتلهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمة» ((1)).

فتأمّلْ في عبارة: «إنّ هؤلاء أخافوني»، يعني: حكومة الحجاز، و«هذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي»!!

ولذا فقد ورد عن الإمام (علیه السلام) أنّه لمّا ورد أرض كربلاء ((2))، كان أوّلُ كلامه: «اللّهمّ إنّا عترةُ نبيّك محمّد، وقد أُخرِجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا ...» ((3)).

وقد جاء هذا بعينه في ما كتبه ابن عبّاس إلى يزيد: وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادَك الحسين بن عليٍّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسَّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة ... ((4)).ثمّ عرفنا الّذين باشروا قتل الإمام (علیه السلام) ، فلم نجد فيهم أحداً من الشيعة أبداً ...

إلى أن قال:

والكلام كلّه على وجوه الشيعة ورجالها في الكوفة، وليس على

ص: 114


1- بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 368، وانظُر: بُغية الطلب: 6 / 2616.
2- وروى ابن أعثم الكوفيّ أنّه (علیه السلام) قاله قبل الورود إلى كربلاء (أُنظر: الفتوح: 5 / 93).
3- بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 383.
4- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 163.

السواد الأعظم، كما هو واضح ((1)).

التنويه السابع: ترتيب المؤرّخ خروج الإمام (علیه السلام) على وصول الكتب

اشارة

سنأتي فيما بعد على دراسة ردود الإمام (علیه السلام) على الكتب والرسائل الواردة من أهل الكوفة.. بَيد أنّ ثَمّة تنويهاً يستعجلنا للإشارة إليه ولو باختصارٍ إلى حين قراءة أجوبة الإمام (علیه السلام) .

وقد رأينا _ قديماً وحديثاً _ مَن يرتّب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى العراق على وصول تلك الكتب إليه، وكأنّها هي السبب الرئيس والأصليّ لهذه الرحلة، لذا اقتضى التنويه.

والآن نستمع إلى النصوص أوّلاً، ثمّ نحاول مناقشتها إن شاء الله (تعالى):

المتون
إبن سعدٍ ومَن تلاه:

بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُلَ والكتُبَ يدعونه إليهم، فخرج متوجّهاً إلى العراق ((2)).

ص: 115


1- أُنظر: مَن هم قتلة الحسين (علیه السلام) للميلانيّ: 386 وما بعدها.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
المسعوديّ:

فأقام ابنُ الزبير بها، وشخص الحسينُ يريد العراق حين تواترَت عليه كتبُهم وترادفَت رسُلُهم ببيعته والسمعِ والطاعة له ((1)).

إبن الأثير، الدياربكريّ:

وسار من المدينة إلى مكّة، فأتاه كتُبُ أهل الكوفة وهو بمكّة، فتجهّز للمسير، فنهاه جماعةٌ، منهم أخوه محمّد ابن الحنفيّة وابن عمر وابن عبّاس وغيرُهم ((2)).

البرّيّ:

فلمّا قَدِم الحسينُ مكّة، كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة الفزاريّ وغيرهما من رجال أبيه وشيعته من الكوفة: هلمّ إلينا يا ابن رسول الله، فأنت أحقُّ بالخلافة من يزيد الخمور. وكتبوا بيعتهم.فلمّا أراد الخروج من مكّة، جاءه عبدُ الله بن عمر فقال: إلى أين

ص: 116


1- التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303.
2- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.

تسير يا أبا عبد الله؟ قال: «هذه بيعة أهل العراق وكتبُهم قد أتتني». قال: أتسير إلى قومٍ قتلوا أباك وخذلوا أخاك، وكانت طاعتهم لهما أكثر ممّا لك الآن؟! وجعل عبد الله يثبّطه عن الخروج، فلمّا أبى عليه اعتنقه وقال: أستودعك الله من قتيل ((1)).

سبط ابن الجَوزيّ:

قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ حسيناً كثُرَت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسُلُهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثِم!!! لوجود الأنصار على الحقّ، وتمكّنك من القيام به، فإنّك أصلُه وعموده وأهله ومعدنه.

فعزم على المسير، فجاء عبد الله بن عبّاس وقال: يا ابن عمّ، إنّ أهلَ الكوفة قومُ غدرٍ، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه. فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجبَ علَيّ إجابتهم! وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)». فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه ((2)).

إبن طاووس:

فقال الحسين (علیه السلام) لهاني بن هاني السبيعيّ وسعيد بن عبد الله

ص: 117


1- الجوهرة للبرّيّ: 41.
2- أُنظر: التبر المُذاب للخافي الشافعيّ: 40، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 215.

الحنفيّ: «خبِّراني، مَن اجتمع على هذا الكتاب الّذي كتب به إليّ معكما؟»، فقالا: يا ابن رسول الله، شبث بن ربعيّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو ابن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد.

قال: فعندها قال الحسين (علیه السلام) ، فصلّى ركعتين بين الركن والمقام، وسأل الله الخيرة في ذلك.

ثمّ طلب مسلم بن عقيل وأطلعه على الحال، وكتب معه جواب كتبهم يَعِدُهم بالقبول ((1)).

اليافعيّ:

وجاءته كتبُ أهل الكوفة يحضّونه على القدوم عليهم، فاغترّ ((2)).

السيوطيّ:

وبعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُلَ والكتُبَ يدعونه إليهم، فخرج من مكّة إلى العراق ((3)).

إبن حجَر:

وسبب مخرجه أنّ يزيد لمّا استُخلف سنة ستّين، أرسل لعامله

ص: 118


1- اللهوف لابن طاووس: 25، وانظر: مثير الأحزان لابن نما: 16.
2- مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131.
3- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 226.

بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين، ففرّ لمكّة خوفاً على نفسه، فسمع به أهلُ الكوفة، فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه ويمحو عنهم ما هم فيه من الجَور.

فنهاه ابن عبّاس، وبيّن له غدرَهم وقتلَهم لأبيه وخذلانهم لأخيه، فأبى، فنهاه أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عبّاس وقال: واحبيباه، واحسيناه.

وقال له ابن عمر نحو ذلك، فأبى، فبكى ابن عمر، وقبّل ما بين عينيه، وقال: أستودعك الله من قتيل ((1)).

* * * * *

هذه النصوص تشتمل على صياغةٍ تفيد المتلقّي ترتيب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) على وصول الكتب إليه، وأنّه اعتمد على وعود المكاتِبين وبنى عليها.. وقد رأينا مَن راح ينظّر لهذا البناء ويبني عليه ويستخلص منه الدروس والعِبَر والتعاليم والمعالم الّتي تكشف عن دور الأُمّة وجماعة الناس، ويحلّل ويفصّل، وما إلى ذلك من دراساتٍ وبحوث..

ويمكن تسجيل بعض الملاحظات عليها:

الملاحظة الأُولى: مفاد النصوص

أفاد ابن سعدٍ ومَن تلاه أنّ أهل العراق بعثوا إلى الإمام (علیه السلام) الرسُلَ

ص: 119


1- الصواعق المحرِقة لابن حجَر: 196.

والكتب يدعونهم إليهم، فخرج متوجّهاً إلى العراق.. وهذا التفريع بالفاء والتتالي في العبارة يفيد بوضوحٍ أنّ خروجه (علیه السلام) كان مترتّباً على الرسل والكتب ((1)).

وجاءت عبارة السيوطيّ قريبةً جدّاً من عبارة ابن سعد، إذ رتّب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى العراق على الرسل والكتب الّتي دعَتْه إليهم ((2)).

وفي تعبير المسعوديّ: «وشخَصَ الحسينُ يريد العراق حين تواترت عليه كتبهم وترادفت رسلهم ببيعته ...» ((3))، فالإمام (علیه السلام) إنّما شخص حين ألحّت عليه الكتب والرسل.. ويبدو هنا الترتيب واضحاً أيضاً.

ويبدو الترتيب جليّاً في عبارة ابن الأثير والدياربكريّ: «وسار من المدينة إلى مكّة.. فأتاه كتب أهل الكوفة وهو بمكّة، فتجهّز للمسير ...» ((4))، إذ

ص: 120


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 226.
3- التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303.
4- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.

يُلاحَظ استخدام فاء التفريع في (فأتاه) و(فتجهّز)، وكأنّهما حدَثان متلازمان، يعلّل الأوّلُ منهما الآخَر، وأنّه إنّما تجهّز لأنّ الكتب أتته.ونجد في تركيب عبارة البريّ تصويراً موهِماً، إذ يصوّر أنّ الإمام (علیه السلام) حين قدم مكّة كتب إليه سليمان بن صُرد وجماعته: «هلمّ إلينا».. فيعزم الإمام (علیه السلام) على الخروج إليهم.. فيعترض عليه ابن عمر.. فيجيبه الإمام (علیه السلام) : «هذه بيعة أهل العراق وكتبهم قد أتتني» ((1)).. ممّا يفيد بجلاءٍ أنّ الإمام (علیه السلام) قد اعتمد تلك البيعة والكتب وبنى عليها، وهي قد شكّلَت له دافعاً رئيسيّاً وسبباً أصيلاً لاختيار هذه الوجهة.

أمّا نصّ ابن الجوزيّ، فقد طار بها بعيداً وذهب بها عريضة، فهو يصوّر أنّ كتب القوم قد كثرت إلى الإمام (علیه السلام) ، وتواترت رسلهم يحمّلونه المسؤوليّة ويرونه آثماً _ والعياذ بالله _ إن لم يصل إليهم ولم يستجب لدعوتهم، وقد عزم الإمام (علیه السلام) على إثر تلك الكتب والرسائل على المسير، وحين جاءه عبد الله بن عبّاس ينهاه عن الاستجابة لقومٍ عُرفوا بالغدر، ردّ عليه الإمام (علیه السلام) : «هذه كتبهم ورسُلُهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم، وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)!» ((2)).

ص: 121


1- الجوهرة للبرّيّ: 41.
2- أُنظر: التبر المُذاب للخافي الشافعيّ: 40، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 215.

وبهذا يتبيّن أنّ إجابة القوم واجبٌ على الإمام (علیه السلام) !! وقد قام لهم العذر على الإمام (علیه السلام) عند الله، ولا محيص من قبول دعوته، لئلّا يقع الإمام (علیه السلام) في المعصية والإثم!! نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى مليكنا خامس أصحابالكساء (علیه السلام) .

وكذا نجد في عبارة ابن حجَر، وطريقة سياقه للأحداث ترتيبٌ ينكشف بسرعةٍ للمتلقّي ((1)).

وقد اختصر اليافعيّ ما أراده القوم بعبارةٍ صريحةٍ فجّةٍ وقحة، قال: «وجاءته كتب أهل الكوفة يحضّونه على القدوم عليهم، فاغترّ» ((2)).

وجاءت عبارة السيّد ابن طاووس بصياغةٍ مزعجةٍ إلى حدٍّ بعيدٍ جدّاً، كأنّها تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) بعد أن سمع اجتماع الأعداء _ أمثال شبثٍ وجماعته _ على الكتابة إليه، (فعندها) وثب إلى الصلاة والاستخارة وتقرير الموقف، وكأنّ كتابة هؤلاء كانت هي الداعي والدافع القويّ الّذي أنهى الأمر وجعل الإمام (علیه السلام) لا يتردّد، وهذا النوع من التصوير اللائح من صياغة العبارة فيه من التعبير المزعج بشدّةٍ لرسم موقف الإمام (علیه السلام) .

قال السيّد (رحمة الله) :

فقال الحسين (علیه السلام) لهاني بن هاني السبيعيّ وسعيد بن عبد الله

ص: 122


1- الصواعق المحرِقة لابن حجَر: 196.
2- مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131.

الحنفيّ: «خبِّراني، مَن اجتمع على هذا الكتاب الّذي كتب به إليّ معكما؟»، فقالا: يا ابن رسول الله، شبث بن ربعيّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو ابن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد.قال: فعندها قال الحسين (علیه السلام) ، فصلّى ركعتين بين الركن والمقام، وسأل الله الخيرة في ذلك.

ثمّ طلب مسلم بن عقيل وأطلعه على الحال، وكتب معه جواب كتبهم يَعِدُهم بالقبول ((1)).

الملاحظة الثانية: المفاد حصيلة الصياغة

يُلاحَظ بوضوحٍ أنّ مفاد هذه النصوص هو نتيجة صياغة المؤلّف، وليست نصوصاً تاريخيّةً تحمل هذا المؤدّى!

بتعبيرٍ آخَر: إنّ المفاد الحاصل من تركيب العبارة إنّما يعبّر عن فهم المؤرّخ، أو هو الفهم الّذي يريد إلقاءه إلى ذهن المتلقّي، بغضّ النظر عن سير الحوادث وترتّب الأحداث، وبغضّ النظر عن البيانات والتصريحات الصادرة عن رجال صياغة الحدث.

فتبقى النتيجة الحاصلة خاويةً من أيّة قيمة، ولا يكون لها أيّ تأثيرٍ على مَن يريد تمحيص التاريخ واستخراج الحقائق وتثبيت الوقائع..

ص: 123


1- اللهوف لابن طاووس: 25، وانظر: مثير الأحزان لابن نما: 16.

وللمتلقّي أن يناقش المؤرّخ في مدى صحّة فهمه وتقريراته حسب الحوادث والتصريحات المثبتة على صفحات كتب المؤرّخين.

الملاحظة الثالثة: تأكيد المفاد بتصريحات المعارضين

حينما يقرأ المتلقّي المتون التاريخيّة ويحاول ربط الأحداث والتصريحات والمواقف، يجد ربطاً يلوح بوضوحٍ ينتج ما يصبو إليه المؤرّخ والسلطان، إذ أنّ تصريحات المعارضين تؤكّد أنّ القوم المكاتِبين لا يمكن الاعتماد عليهم؛ لما لهم من تاريخٍ ملوَّثٍ في الغدر والخيانة، بالخصوص مع آل البيت (علیهم السلام) ، وقد دأبوا على نكث العهود مع أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى الأمين (علیهما السلام) حتّى عدَوا عليهما فقتلوهما غدراً.. فكيف يمكن الاعتماد على كتبهم ووعودهم؟!

وهذا ما أكّده المعارضون في تصريحاتهم ومواقفهم مع الإمام (علیه السلام) ، حيث أنّهم كانوا يلحّون على الإمام أن لا يرضى بكتبهم ووعودهم، وهذا التأكيد بنفسه يأتي في سياقٍ يدعم ترتيب المؤرّخ خروج الإمام على دعوات القوم.

الملاحظة الرابعة: تعارض المفاد مع بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام)

أكّد الإمام (علیه السلام) أنّ سبب خروجه من مكّة إنّما هو خوف الاغتيال وهتك حرمة الحرم والدم المقدّس في البيت الحرام، ولم يعتدّ بالكتب إلّا بمقدار الاحتجاج على الآخَرين، كما أسلفنا ويأتي.

ص: 124

الملاحظة الخامسة: تعارض المفاد مع موقف الإمام (علیه السلام) في إرسال أخيه مسلم (علیه السلام)

لو كان الإمام (علیه السلام) قد خرج معتمِداً كتبَ أهل الكوفة ورسائلهم ووعودهم، لَما كان لإرسال المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) معنى، سيّما حينما نلاحظ المهمّة الّتي كلّف بها الإمامُ (علیه السلام) مبعوثَه، فقد اتّفقَت النصوص على تكليف المولى الغريب مسلم (علیه السلام) بتقصّي حقيقة أمر القوم ومدى تطابق نواياهم ومواقفهم مع ما كتبوه ووعدوا به، وقد أتينا على تفصيل ذلك في مجموعة المولى الغريب (علیه السلام) في الجزء الأوّل تحت عنوان (مسلم بن عقيل (علیه السلام) ثائرٌ أم سفير؟).

الملاحظة السادسة: تركيز المؤرّخ والسلطان الغاشم على تخطئة الإمام (علیه السلام)

التأمُّل في المتون التاريخيّة يفيد بوضوحٍ إلحاحَ السلطان العاتي الغاشم من خلال تصريحاته وتوظيفه لقلم المؤرّخ المأجور على تخطئة الإمام المعصوم وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، من حيث اعتماده على زبدٍ موّاجٍ وقاعدةٍ رمليّةٍ متحرّكةٍ لا يمكن الارتكان إليها، وعدم قدرته على تشخيص الواقع، مع ما نوّه إليه المعترضون من أمثال ابن عبّاس وابن عمر على خطورة الإقدام على مِثل هؤلاء أشباه الرجال، وهو ما صرّح به اليافعيّ: «اغترّ»!

ص: 125

الملاحظة السابعة: الفرق الكبير بين نظرة المؤرّخ والسلطان ومقاصد الإمام (علیه السلام)

لمّا كان العدوّ والمعترض والمؤرّخ وأغلب المتلقّين يتعاملون مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) باعتبارها خروجاً (بالمعنى المصطلح)؛ لتحقيق أغراضهم وتصويب ما يصبون إليه، وإن لزم من ذلك تخطئة الإمام (علیه السلام) ، بل هو مقصود الثلاثة الأوائل، إذ أنّهم سعوا إلى إثبات ذلك بشتّى صنوف التعابير والأكاذيب والافتراءات..

ومَن كان ينوي الخروج (بالمعنى المصطلَح)، لا يستغني بحالٍ عن قاعدةٍ واسعةٍ من مختلف شرائح النسيج الاجتماعيّ، لتكون معه ركيزةٌ يعتمد عليها، ولا يمكن أن يصدق على حركته عنوان الخروج (بالمعنى المصطلَح) كمصطلحٍ علميٍّ اجتماعيٍّ سياسيٍّ دقيقٍ ما لم تكن الشريحة الأكبر في المجتمع مساندةً له أو متعاطفةً معه عمليّاً، ومقتنعةً بشعاراته ووعوده الّتي يقدّمها لهم لتغيير واقعهم المتردّي السيّء القاتم إلى مستقبلٍ زاهرٍ واعد..

فيما نرى أنّ ما يبيّنه الإمام (علیه السلام) بصراحةٍ واضحةٍ لا يمكن الالتواء عليه أنّه لم يكن في هذا المنحى، وإنّما هو مهدَّدٌ بالقتل، وغاية ما يريده الدفاع عن نفسه ومَن معه من المحكوم عليهم بالقتل، إمّا مباشرةً أو غير مباشرة، من قبيل أنصاره، فمنهم مَن يقصد العدوُّ قتلَه للتخلّص من آثار أبي تراب، ومنهم مَن سيقتله، لأنّه سيدفع عن عيال أبي تراب وذكراه، ولا يدَع أحداً

ص: 126

منهم يُصاب بأذىً ما دام فيه عرقٌ ينبض أو جفنٌ يطرف..

ومثل هذا الموقف لا يحتاج إلى الناس ولا مكاتبتهم، إلّا بما يحقّق له الدفاع عن نفسه.

وقد عرفنا قبل قليلٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لا ينوي إسقاط النظام، ولم يطلب في حركته الحكم واستلام زمام القيادة ودفّة الحكم، وهو أمرٌ مُجمَعٌ عليه عند الطائفة المحقّة.

الملاحظة الثامنة: عمل الإمام (علیه السلام) بالتكليف الربّانيّ

نوّهنا في أكثر من موضعٍ أنّ الإمام المعصوم (علیه السلام) يأخذ تكليفه من الله (عزوجل) ، ويعمل طبق الأوامر الإلهيّة الّتي تحدّد له تكليفه، وهو بعد ذلك لا يأخذ من الناس شيئاً من تكليفه، ولا مدخليّة للناس من قريبٍ ولا من بعيدٍ في تحديد موقف الإمام (علیه السلام) !

والإمام (علیه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يستوحش من الطريق لقلّة سالكيه.. وقد بعث الله موسى وهارون إلى فرعون الجبّار العاتي الّذي ادّعى الربوبيّة، ولم يكن معهم أحدٌ من الخلائق، وكم من نبيٍّ بعثه الله إلى قومه وحيداً فريداً، وجعل الأئمّة (علیهم السلام) حجّته على العالمين ولم يكن معهم ناصرٌ ولا معين.

أجل، قد يكون استعداد الناس للنصرة ظرفاً يرقبه الإمام (علیه السلام) ، وهو لم يتوفّر أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) .. فلو كان الناس قد اجتمعوا في مشارق

ص: 127

الأرض ومغاربها، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأُنثاهم، حرّهم وعبدهم، على نصرة الإمام (علیه السلام) ، والإمام لم يكن له تكليفٌ من الله بالقيام لَما قام، والعكس هو الصحيح، فلو أنّ الأرض كلّها خذلَت الإمام (علیه السلام) ، وكان الإمام مكلّفاً من الله بالقيام لَقام، ولا يضرّه بعد ذلك خذلان مَن خذل.

أجل، لو كان وجود الناصر شرطاً في التكليف الإلهيّ، فإنّ تشخيص ذلك يكون مع الإمام، وهو إنّما يقدم بالجزم واليقين والعلم الّذي لا يقبل الخطأ، وليس بالظنّ والترجّي، ويبقى مع ذلك إقدام الإمام امتثالاً لأمر الله، وليس لوجود الناصر، فليس للناس دخلٌ في إيجاد أصل التكليف في ذمّة الإمام، وإنّما يكون وجودهم وامتثالهم والتزامهم خطّة الإمام شرطاً في تحقّق التكليف الإلهيّ على أقصى التقادير، لا أكثر.

الملاحظة التاسعة: قول الشريف المرتضى (رحمة الله علیه)
اشارة

ذكر السيّد الشريف المرتضى (رحمة الله) مسألةً في كتابه (تنزيه الأنبياء (علیهم السلام))، تعرّض فيها إلى العذر في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة في تلك الظروف العصيبة من استيلاء العدوّ على البلد وانبساط الأمر والنهي فيها للوالي من قِبل يزيد اللعين، وقد رأى الإمام (علیه السلام) صُنعَ أهل الكوفة بأبيه وأخيه، وطبعَهم في الغدر والخيانة، وماإلى ذلك..

وسنأتي على ذِكر كلامه مفصَّلاً في محلّه إن شاء الله (تعالى) عند الحديث عن خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، لمناسبة المسألة لتلك

ص: 128

الفترة، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ما يخصّ بحثنا هنا من الاعتماد على كتب أهل الكوفة ورسائلهم.

قال الشريف المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء (علیهم السلام)):

مسألة:

فإن قيل: ما العذر في خروجه (علیه السلام) من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة، والمستولي عليها أعداؤه والمتأمِّرُ فيها من قِبَل يزيد اللعين منبسطُ الأمر والنهي، وقد رأى (علیه السلام) صُنعَ أهل الكوفة بأبيه وأخيه وأنّهم غدّارون خوّانون؟

وكيف خالف ظنّه ظنّ جميع أصحابه في الخروج، وابن عبّاس يشير بالعدول عن الخروج ويقطع على العطب فيه، وابن عمر لمّا ودّعه (علیه السلام) يقول: أستودعك الله من قتيل، إلى غير ما ذكرناه ممّن تكلّم في هذا الباب ...

الجواب:

قلنا: قد علمنا أنّ الإمام متى غلب في ظنّه أنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوّض إليه بضربٍ من الفعل، وجب عليه ذلك، وإنْ كان فيه ضربٌ من المشقّة يتحمّل مثلها تحمّلها.وسيّدنا أبو عبد الله (علیه السلام) لم يسِرْ طالباً للكوفة إلّا بعد توثُّقٍ من القوم وعهودٍ وعقود، وبعد أن كاتبوه (علیه السلام) طائعين غير مكرهين، ومبتدئين غير مجيبين.

وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها،

ص: 129

تقدّمَت إليه (علیه السلام) في أيّام معاوية وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن (علیه السلام) ، فدفعَهم، وقال في الجواب ما وجب، ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسن (علیه السلام) ومعاوية باق، فوعدهم ومنّاهم، وكانت أيّاماً صعبةً لا يُطمَع في مثلها.

فلمّا مضى معاوية، عادوا المكاتبة وبذلوا الطاعة وكرّروا الطلب والرغبة، ورأى (علیه السلام) من قوّتهم على مَن كان يليهم في الحال من قِبل يزيد اللعين وتشحّنهم عليه وضعفه عنهم ما قوّى في ظنّه أنّ المسير هو الواجب، تعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد والتسبّب.

ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهلُ الحقّ عن نصرته، ويتّفق ما اتّفق من الأُمور الغريبة ...

ثمّ ذكر من الأُمور الغريبة حصول ابن زيادٍ في دار هانيء عائداً لشريك ابن الأعور:

وقد كان شريك وافق مسلم بن عقيل على قتل ابن زياد اللعين عند حضوره لعيادة شريك، وأمكنه ذلك وتيسّر له، فما فعل، واعتذر بعد فوت الأمر إلى شريك ...ولو كان فعل مسلم بن عقيل بابن زياد ما تمكّن منه ووافقه شريك عليه، لَبطل الأمر، ودخل الحسين (علیه السلام) الكوفة غير مدافعٍ عنها ...

وأمّا مخالفة ظنّه (علیه السلام) لظنّ جميع مَن أشار عليه من النصحاء، كابن عبّاس وغيره، فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد

ص: 130

تقوى عند واحدٍ وتضعف عند آخَر، ولعلّ ابن عبّاسٍ لم يقف على ما كوتب به من الكوفة وما تردّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق، وهذه أُمورٌ تختلف أحوال الناس فيها، ولا يمكن الإشارة إلّا إلى جملتها دون تفصيلها ...

وليس يمتنع أن يكون (علیه السلام) من تلك الأحوال مجوزاً أن يفيء إليه قومٌ ممّن بايعه وعاهده وقعد عنه، ويحملهم ما يكون من صبره واستسلامه وقلّة ناصره على الرجوع إلى الحقّ ديناً أو حميّة، فقد فعل ذلك نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يديه شهداء، ومثل هذا يُطمَع فيه ويُتوقّع في أحوال الشدّة ((1)).

لا نريد إطالة الوقوف بين يدَي السيّد الشريف المرتضى؛ لمقتضى رعاية الأدب، بَيد إنّنا نحاول إيجاز بعض التلميحات تعليقاً على كلامه (رحمة الله) ؛ لرعاية واجب الدفاع عن ساحة سيّدنا وسيّده وسيّد الخلقأجمعين سيّد سادات البشر الإمام الحسين (علیه السلام) ..

التلميح الأوّل: مخاطبة العقل السنّيّ

قد يُقال: إنّ السيّد المرتضى كان يخاطب العقل السنّيّ الّذي كان يعيش في أجوائه يومذاك في بغداد، وعليه فهو في مقام المحاججة والإقناع، وله أن يعتمد كلاماً وفق متبنّيات الخصم، ليحقّق ما يصبو إليه

ص: 131


1- تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) للشريف المرتضى: 175.

من الإقناع.

بَيد أنّ هذا الفرض _ مع إمكانه، بل وصحته _ يبقى دون تسويغ مقالة السيّد؛ إذ أنّ فيه من المغالطة والمجازفة ما لا ينسجم حتّى مع متبنّيات القوم، وهو يؤدّي إلى تخطئة الإمام (علیه السلام) وتصحيح ظنون معارضيه المقدّسين عند العامّة، فلا يتحقّق إقناع الخصم، كما سيتّضح لنا من خلال التنويهات التالية.

التلميح الثاني: بناء كلام المرتضى على رأي العامّة

يبدو واضحاً من كلام السيّد أنّه يتعامل مع ما قام به الإمام الحسين (علیه السلام) وفق مباني العامّة وطريقة تعاملهم مع خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فهم لا يقولون بعصمته (علیه السلام) ، ويجعلونه في صفّ الآخَرين من الصحابة والشخصيّات والوجوه، كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما، بل ربّما يجدون في غيره من الصحابة مَن يتقدّم عليه في القداسة والحنكة والخبرة، والعياذ بالله من هذا الكلام، بيد أنّه واقع القوم..لذا نجده يوازن ظنون القوم بظنون سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويُبدي اعتماد سيّد الشهداء (علیه السلام) على الظواهر الخارجيّة دون الارتكان إلى التسديد الإلهيّ الخاصّ الّذي لا يفارق المعصوم أبداً.

التلميح الثالث: بناء كلام المرتضى على أنّ الإمام (علیه السلام) يعمل بالظنّ

لقد كرّر السيّد تعبير غلبة الظنّ على الإمام (علیه السلام) ، وقوي الظنّ عنده،

ص: 132

وأنّ الإمام (علیه السلام) عمل بهذا الظنّ الغالب أو القويّ عنده، ومؤدّى الظنّ قد يُخطئ وقد يُصيب، كما ثبت أنّه قد أخطأ بالفعل حين انقلب الناس على الإمام (علیه السلام) وحاربوه..

والحال أنّ الإمام المعصوم المسدَّد من الله بتسديد العصمة، والعالم بالله المزوَّد بالعلم الإلهيّ في كلّ شيءٍ وفي كلّ أمر، والعالم بما كان وما يكون وما هو كائن، لا يعمل بالظنّ ولا يحتاجه بحالٍ بتاتاً، وعلى هذا قامت عقيدة الشيعة الإماميّة الحقّة، ومناقشة ذلك ليس هذا محلّه.

التلميح الرابع: بناء كلام المرتضى على عدم علم الإمام (علیه السلام) بمصيره ومآل أمره

يبدو واضحاً من كلام السيّد أنّه يقوم على أساس أنّ الإمام (علیه السلام) كان لا يعرف مآل أمره ولا يعلم بمصيره، فلاحظ الوقائع الخارجيّة، فغلب على ظنّه أحد طرفَي القضيّة، فاتّخذ القرار معتمِداً على الظنّ القويّ الغالب، ثمّ وقعَت الواقعة نتيجة جملةٍ من الاتفاقات الغريبة غير المحسوبة، وجرى القضاء بما جرى..وهو أساسٌ غير صائبٍ واعتمادٌ غير موفَّق، يكذّبه الواقع التاريخيّ والأحاديث الشريفة المتظافرة، فالتاريخ والحديث الشريف وإخبارات سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه تفيد بما لا يقبل الشكّ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان عالماً بمآله ومصرعه وموضع دفنه وزمان قتله وتفاصيل ما يجري عليه.

هذا كلّه بغضّ النظر عن علم الإمامة الّذي نعتقده في الإمام المعصوم.

ص: 133

التلميح الخامس: بناء كلام المرتضى على مطالبة الإمام (علیه السلام) بحقّه!

بناء كلام المرتضى على أنّ الإمام (علیه السلام) قد غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوّض إليه بضربٍ من الفعل، وأنّ ما فعله الإمام (علیه السلام) إنّما كان واجباً عليه، لأنّه قد وجد الناصر..

وهذا البناء مهزوز القواعد مترنّح الأساس؛ لأنّه لا يصمد ولا يقوى على تفسير حركة الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) بعد أن بلغه خبر شهادة مسلم ابن عقيل (علیه السلام) وانقلاب أهل الكوفة على أعقابها، لذا اضطرّ السيّد إلى التمسّك بمقالة آل عقيل، وأنّهم يريدون الثأر لدم مسلم (علیه السلام) ، ممّا اضطرّ الإمام إلى الاستمرار في طريقه إلى الكوفة.

وهذا يفيد أنّ استمرار الإمام (علیه السلام) بعد شهادة مسلم (علیه السلام) لم يكن للوصول إلى حقّه، لأنّ الناصر قد انعدم، ولأنّ الاستمرار حصل تحت إصرار آل عقيل للثأر لدم مسلم (علیه السلام) .

هذا كلّه على فرض التسليم بما قاله أوّلاً، وحوادث التاريخ ومؤدّياتبيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّها تشهد بخلاف ذلك، إذ لم يكن خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة لغرض الوصول إلى حقّه، ولم تكن رسائل أهل الكوفة قد وصلَت إليه آنذاك ليُقال: إنّه قد وجد الناصر!

أضف إلى ذلك بيانات الإمام (علیه السلام) في مكّة، كما سنسمع بعد قليل الإشارة إلى ذلك.

فلابدّ إذن من إثبات الأساس الّذي اعتمد عليه، وهو أنّ الإمام (علیه السلام)

ص: 134

إنّما توجّه إلى الكوفة ليصل إلى حقّه والقيام بما فوّض إليه، وأنّ الأمر صار واجباً عليه، كما يُزعَم، ثم يبادر إلى البناء عليه.. والحال أنّ دون إثبات ذلك إجماع الإماميّة القائم على أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن طالباً للحكم ولا لإقامة ما فُوّض إليه، وأنّه كان عالماً بالقطع واليقين والجزم بقتله وقتل مَن معه، وأنّه ساكن كربلاء في رحلته تلك.

وبعد أن فقد الإمامُ الناصرَ _ وفق الإخبار التاريخيّ وسير الحوادث _ بعد شهادة مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فإنّ هذا الواجب المزعوم في ذمّة الإمام قد فقد شرطه، وهو وجود الناصر، فلا معنى للاستمرار للإتيان بتكليفٍ لم يجب، بل قد يكون حراماً وفق القواعد السارية في المقام؛ لليقين بفقد الناصر والإقدام على القتل لا محالة.

ثم ليثبت بعد ذلك أنّ الإمام المعصوم المأمور بالتكليف من الله مباشرةً قد عزم على التضحية بدمه الزاكي ودماء مَن معه وتعريضِ آل اللهوعِرض الرسول إلى النهب والسلب والسبي، نزولاً عند رغبة آل عقيل وعزمه للثأر لدم المولى الغريب مسلم بن عقيل!!! ((1))

ص: 135


1- أتينا على تفصيل موقف آل عقيل بعد شهادة مسلم بن عقيل (علیه السلام) في غير موضع، منها في كتاب (المولى الغريب مسلم بن عقيل _ وقائع السفارة)، وكتاب (أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل)، وبعض حلقات هذه الدراسة عن ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) .
التلميح السادس: عمل الإمام بالاجتهاد!

ذكر السيّد أنّ الإمام «قوي ظنّه أنّ المسير هو الواجب، فتعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد، ولم يكن في حسبانه (علیه السلام) أنّ القوم يغدر بعضهم ويضعف أهلُ الحقّ عن نصرته ويتّفق ما اتّفق من الأُمور الغريبة»..

قلنا: إنّ الإمام (علیه السلام) لا يعمل بالظنون، وإنّما يعمل بالعلم الجزميّ القطعيّ!

أضف إلى ذلك: إنّ الإمام لا يعمل بالاجتهاد، لا في أصل الأحكام ولا في الموضوعات، كيف وهو المشرّع، وهو أعلم الخلق بالخلق، حسب اعتقادنا الحقّ.

وقد اعتقد أهل الخلاف أنّ المجتهد مأجورٌ على كلّ حال، فإن أخطأ فله حسنة، وإن أصاب فله حسنتان.. وهو ما برّروا به لرجالهم كلّ ما فعلوه في التاريخ من مخازي.

والإمام عندنا ليس مجتهداً يعمل بالظنّ الّذي قد يُخطئ وقد يُصيب، وإنّما هو الحقّ الحقيق الّذي لا يتعريه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

التلميح السابع: تخطئة الإمام (علیه السلام) وتصويب المعترضين لصحّة ظنونهم

قال السيّد (رحمة الله علیه) :

وأمّا مخالفة ظنّه (علیه السلام) لظنّ جميع مَن أشار عليه من النصحاء، كابن عبّاس وغيره، فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد تقوى عند واحدٍ وتضعف عند آخَر، ولعلّ ابن عبّاسٍ لم يقف على

ص: 136

ما كوتب به من الكوفة وما تردّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق، وهذه أُمورٌ تختلف أحوالُ الناس فيها، ولا يمكن الإشارة إلّا إلى جملتها دون تفصيلها ((1)).

في هذا المقطع مجازفةٌ عظيمة، إذ أنّه اعتبر غلبة الظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد تقوى عند واحدٍ وتضعف عند آخَر، ثمّ قارن بين غلبة الظنون عند ابن عبّاس وعند الإمام (علیه السلام) ، وهذه بنفسها مجازفةٌ مخيفةٌ مرعبة العواقب، ولا ندري كيف يمكن أن يُقاس ابن عبّاسٍ وابن عمر وأمثالهم بالحسين بن عليّ بن أبي طالب سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؟! بغضّ النظر عن الإمامة وخامسيّة أصحاب الكساء!

ثمّ إنّه بنى عدم اطّلاع ابن عبّاس بما كوتب به الإمام (علیه السلام) من الكوفة والعهود والمواثيق على (لعلّ)، ولا شكّ أنّ ابن عبّاس كان عالماً بما كتبهأهل الكوفة، وقد صرّح في جميع مواقفه مع الإمام بتحذير الإمام من عاقبة الاعتماد على ما كتبوا والعهود والمواثيق الّتي نمّقوا، فهو احتمالٌ باطلٌ وغير قابلٍ للتساهل فيه.

والأهمّ من ذلك كلّه:

إنّ محصّل كلام السيّد (رحمة الله علیه) : إنّ ثَمّة عواملاً سبّبَت غلبة الظنّ عند الإمام (علیه السلام) لم تتوفّر عند ابن عبّاس، فغلب على ظنّه أمرٌ آخَر، وبالتالي

ص: 137


1- تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) للشريف المرتضى: 175.

عمل الإمام (علیه السلام) بظنّه، فكانت النتيجة ما آلَ إليه أمره وأمر مَن معه من الشهادة والسلب والنهب والسبي..

فكان ظنّ ابن عبّاس هو الأصوب، وهو الصحيح، فيما كان ظنّ الإمام مخطئاً غير صائب _ نستغفر الله ونستجير به من هذه النتيجة البائسة _.

وربّما كان هذا النمط من التفكير هو الّذي دعا مثل سبط ابن الجَوزيّ وغيره من رواية فرية ندم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتذكّره ابن عبّاس ونصائحه، والترضّي عليه، وقوله فيه: كأنّه ينظر من ستر رقيق.. وقد أتينا على مناقشة ذلك مفصَّلاً في محلّه، فلا نعيد.

التلميح الثامن: العلّة الّتي ذكرها سيّد الشهداء (علیه السلام) لخروجه من مكّة

لقد مرّ معنا مراراً وسيأتي أيضاً: إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يذكر سبباً للخروج من مكّة سوى القطع الحاصل والجزم المتنجّز بالقتل، وأنّه إنْ تأخّر بعد الموعد الّذي خرج فيه ولو يوماً واحداً لَكان القوم يغتالونه أويأخذونه أخذاً، لذا تعجّل الخروج، ولم يبقَ في مكّة حتّى تنتهي مناسك الحجّ، وكان الناس قد باشروا الخروج إلى المشاعر يوم خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

وأمّا توجُّهه للعراق دون غيره من البلدان، فقد أتينا على بيانه في أكثر من موضع، وخلاصته:

إنّ القوم قد سدّوا جميع المنافذ، وأخذوا على الإمام (علیه السلام) أقطار الأرض

ص: 138

وآفاق السماء، ولم يتركوا له مخرجاً سوى العراق، وقد خذلَته البلدان جميعاً، ولم يكن في الأمصار مصراً قد أعلن استعداده لاستقبال آل الله وعيال رسول الله (صلی الله علیه و آله) سوى الكوفة..

وكانت الدعوات على مستويين:

منها: الكاذب الخدّاع الغرّار المتلوّن المتقلّب، وهم الأكثريّة الكاثرة الّتي يعرفها الإمام (علیه السلام) حقّ المعرفة، وقد مارسها وعالجها وكابدها بنفسه منذ أيّام أبيه وأخيه..

ومنها: الصادق الثابت الراسخ الوفيّ البرّ الطيّب الطاهر، وهم القلّة من الديّانين، الّذين وعدوه النصرة وكانوا على موعدٍ معه، من أمثال حبيب وبُرير وزُهير وعابس وشوذب وأمثالهم، وهؤلاء كانوا في الكوفة، وقد قصدهم الإمام (علیه السلام) في واقع الحركة، ولم يكن لهؤلاء نظيرٌ في أقطار الأرض، لا في المدينة ولا في مكّة ولا في اليمن ولا مصر ولا البحرين، ولافي أيّ بلدٍ آخَر..

المهمّ هنا التنويه إلى أنّ الإمام (علیه السلام) لم يذكر فيما صرّح به وبيّنَه للآخَرين أنّه إنّما يتوجّه إلى العراق معتمِداً على كتب أهل الكوفة، ولا بانياً على دعوات رسلهم ورسائلهم، ولَطالما أخبر الإمام (علیه السلام) بوضوحٍ لمن اعترضه وذكّره بخيانة أهل الكوفة وغدرهم أنّه لا يخفى عليه الرأي، وأنّه يعرفهم ويعرف تاريخهم، هذا كلّه بغضّ النظر عن علم الإمامة، وبغضّ النظر عن أنّ معرفة المتابع للتاريخ يقطع بيقينٍ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان أعلمَ أهل

ص: 139

زمانه بأهل زمانه، وأنّه كان _ بلا شكٍّ ولا ريبٍ _ أعلمَ مِن جميع المعترضين عليه، بما لا يمكن المقارنة والمقايسة بينه وبينهم.

أمّا بعض الموارد الّتي رواها لنا التاريخ الّتي كان الإمام (علیه السلام) يذكر فيها كتب أهل الكوفة ويخرجها لهم، فهي داخلةٌ في دائرة الاحتجاج وإقامة الحجّة والإقناع لمن لا يفهم سوى هذه اللغة.

فليس من المستحسَن، بل ولا المقبول، أن يصفح المتلقّي عن كلام الإمام (علیه السلام) ويصمّ عنه أُذُنه، ويُقبِل على أقوال المؤرّخ وأعداء الإمام (علیه السلام) !

أضف إلى ذلك:

لو كان الإمام (علیه السلام) قد توجّه إلى الكوفة بسبب كتبهم ورسائلهم ودعواتهم، فإنّه تبيّن له وللعالمين انكفاؤهم وانقلابهم وخذلانهم ورجوعهمعن دعواتهم منذ أن بلغَته رسالة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) الّتي أخبره بذلك، وبلغه شهادته وشهادة هانيء ومَن كان معهما، ولقد أخبره المخبرون أنْ ليس له في الكوفة ناصرٌ ولا معين..

فحينئذٍ لم يكن لاستمراره في المسير معتمداً على الكتب والرسل ومَن كتبها وأرسلها، ولا الارتكان إلى الدعوات.

أجل، يمكن الاحتجاج على مَن كاتب وراسل بما كتب وأرسل!

التلميح التاسع: الاستمرار برجاء أن يفيء إليه قوم

قال السيّد (رحمة الله علیه) :

وليس يمتنع أن يكون (علیه السلام) من تلك الأحوال مجوزاً أن يفيء إليه قومٌ

ص: 140

ممّن بايعه وعاهده وقعد عنه، ويحملهم ما يكون من صبره واستسلامه وقلّة ناصره على الرجوع إلى الحقّ ديناً أو حميّة، فقد فعل ذلك نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يديه شهداء، ومِثل هذا يُطمَع فيه ويُتوقّع في أحوال الشدّة ((1)).

هذه النهاية الّتي ينتهي إليها السيّد (رحمة الله) على نحو عدم الامتناع والإمكان من حصول نفرٍ تحملهم الحميّة والرجوع إلى الحقّ، كما فعل نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومِثل هذا يُطمَع فيه ويُتوقّع فيأحوال الشدّة!!

والحال أنّ الفرض الّذي ابتدأ به: إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قام يطلب بحقّه ليحكم بما فُرض عليه من أمر الله، وفعل النفر القليل والنزر اليسر من العدد في ذلك اليوم العصيب ممّن حملَته غيرتُه أو دفعَته حميّتُه على عرض الرسول، فانبرى للدفاع عن دم النبيّ ولحمه وسبطه وريحانته، لا ينفع في تحقيق الغرض الّذي من أجله قام (علیه السلام) .

وكيف يمكن الطمع والتوقّع لمثل هذا العدد اليسير لمثل هذا الإقدام العظيم الّذي ذكره السيّد في أوّل كلامه، وذلك على نحو الاحتمال والإمكان؟!

يعني أنّ الإمام (علیه السلام) استمرّ في مسيره بعد أن بلغه شهادة المولى الغريب

ص: 141


1- تنزيه الأنبياء (علیهم السلام) للشريف المرتضى: 175.

مسلم (علیه السلام) وانقلاب الكوفة وخذلانها بالكامل، طمعاً في إمكان حصول بعض النفر الّذين ستحرّكهم الحميّة والغَيرة للالتحاق به، ليقوم بما فرض الله ويطالب بحقّه، وهو ليس متأكّداً من حصول هذا النفر، وإنّما يحتمل ذلك لأنّه ليس ممتنع عقلاً!!!

ويستشهد لذلك بحصول مِثل هذا النفر في كربلاء، حيث التحق به مَن التحق وانتقل إلى صفّه وقاتل دونه حتّى قُتل..

وممّا لا شكّ فيه: إنّ مَن التحق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء من معسكر الأعداء، لم يكن قد التحق بدافع المطالبة بحقّ الإمام (علیه السلام) فيالحكم، ولم ينصر الإمام (علیه السلام) ليُسقِط حُكمَ الأُمويّين ويقيم حكم ربّ العالمين، وإنّما انتقل مَن انتقل منهم من صفّ أهل النار إلى الدرجات العُلى في الجنان حين سمع واعية الحسين (علیه السلام) واستغاثته وغربة آل الله وغربة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء (علیها السلام) ، فجاء ليدفع عن الرياحين الّتي أذبلها العطش وأسرعت في استئصالها سيوفُ الظلم والطغيان.

نحسب أنّ افتراض قصد الإمام (علیه السلام) أنصاره الّذين كان يجزم بوجودهم في الكوفة، وهم القليل الديّان الجاهز للتضحية والذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهم أكثر بكثيرٍ من العدد المحتمَل الّذي كان يتوقّع الإمام لحاقهم ممّن التحق بالفعل منهم.

* * * * *

كيف كان، إن كان السيّد المرتضى (رحمة الله) قصد إقناع الشيعيّ وحاول

ص: 142

تفسير حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) له، فهو لم ينجح في ذلك؛ لمخالفة ما ذكره مع مسلّمات العقيدة الشيعيّة الحقّة في الإمام المعصوم، وغيرها من الإشكالات الّتي لا يمكن الجواب عليها.

وإن كان يقصد إقناع العقل السنّيّ وتفسير الموقف له، فقد جاءت المقالة مخالفةً لمقصده، واحتوت من المغالطات والمصادرات ما يمنعها من النهوض ويحول دون تلقّيها بالتسليم والقبول، ولم تُثمِر ما أراده، كيف وقد أدّى كلامه على أقلّ التقادير إلى تصويب المعارض وتخطئة الإمام (علیه السلام) فيالظنون!

وتمام الكلام في مناقشة ذلك يأتي في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

التنويه الثامن: تتابع الرسُل!

اشارة

إختلفَت المصادر في التعبير عن تتابع الرسُل وتواتر الكتب على الإمام (علیه السلام) ، ويمكن تقسيمها إلى طوائف:

الطائفة الأُولى: لم تذكر شيئاً

منهم مَن لم يذكر ذلك، مثل ابن قُتيبة ((1)).

ص: 143


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4.
الطائفة الثانية: إشارةٌ مجمَلة

أشار ابن سعدٍ ومَن تلاه إلى ذلك إشارةً مضمرة، فقال:

بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُلَ والكتب، يدعونه إليهم ((1)).

الطائفة الثالثة: تواتر الكتُب والرسُل

عمد بعض المؤرّخين إلى ذِكر تواتر الكتب على الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وترادف الرسُل عليه ((2))، وأنّ الكثير من أهل الكوفة كاتبه ((3))،وتحالفوا وتابعوا الكتب إليه ((4))، ووردَت عليه كتبُ أهل الكوفة كتابٌ بعد كتاب ((5))، فكتبوا إليه كتباً كثيرةً وأنفذوا إليه الرسُل إرسالاً ((6)

ص: 144


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تاريخ الطبريّ: 5 / 347، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، الثقات لابن حبّان: 2 / 306، أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207.
2- التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303.
3- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 20، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.
4- كتاب الفخري لابن طقطقي: 104.
5- أُنظر: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 41، الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 57.
6- إعلام الورى للطبرسيّ: 223.

فكثرت الكتب وتواترت الرسائل ((1)).

الطائفة الرابعة: تتالي الرسل في الانطلاق

تحدّثَت هذه الطائفة عن تتالي الرسل من حيث انطلاقها من الكوفة.

فهم قد بعثوا رسولَين يحملان كتاباً، وردا على سيّد الشهداء (علیه السلام) لعشرٍ خلَون من شهر رمضان..

ثمّ سرّحوا بعد ذلك بيومين قيسَ بن مسهر ومَن معه..

ثمّ لبثوا يومَين آخَرَين، ثمّ سرّحوا إليه هانئ بن هانئ ومَن معه..

وكتب إليه أخيراً شبثٌ وجماعتُه.. ((2))

وقد ذكرت بعضُ المصادر هذا التتابع بالبعث، من دون تحديد المدّة

ص: 145


1- التبر المُذاب للخافي الشافعيّ: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، أسرار الشهادة للدربنديّ: 244، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، اللهوف لابن طاووس: 33، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.

بين كلّ بعثٍ وبعثٍ آخَر بيومَين أو ليلتَين، واكتفت بذكر الترتّب والتعاقب بين الرسل في الانطلاق، فكان الأوّل فلانٌ والثاني فلانٌ والثالث فلان، وكتب أخيراً شبث وجماعته ((1)).

الطائفة الخامسة: تتالي الرسل في الوصول

ذكرت طائفةٌ أُخرى من المصادر توالي الرسل وتواتر الكتب، وقد لحظَت تتابعَها في الوصول والحضور بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فوافت المجموعةُ الأُولى الإمامَ (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ خلَون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب إليه..

ثمّ لم يُمسِ الإمام الحسين (علیه السلام) يومه ذلك حتّى وردَت عليه المجموعة الثانية..

فلمّا أصبح وافاه رسولان..

فلمّا أمسى أيضاً ذلك اليوم ورد عليه كتاب شبث وجماعته.. ((2))

الطائفة السادسة: تحديد الكتاب الأخير
اشارة

ذكر بعض المؤرّخين الحدَثَ من خلال ذِكر كتب أهل العراق إلى الإمام

ص: 146


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327.

الحسين (علیه السلام) ، وأنّهم وجّهوا بالرسُل على إثر الرسُل، فكان آخِرُ كتابٍ ورد عليه منهم كتاب هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، فاقتصر الإشارة إلى الكتاب الأخير باعتباره خاتمة المراسلات ((1)).

* * * * *يمكن الإفادة من هذه الطوائف عدّة إفادات:

الإفادة الأُولى: محدوديّة الدفعات

إذا أردنا حمل المجمَل على المبيَّن والعامّ على المفصَّل، نجد أنّ طائفتين من الطوائف الستّة المذكورة أعلاه قد فصّلَت وبيّنَت، وهما الثالثة والرابعة، أمّا الطوائف الأُخرى فقد اقتصرت على وجود كتب ورسل متواترةٍ على سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وفي الطائفتين المفصّلتين نجد ثلاث دفعاتٍ فقط مختومةً بكتاب شبث وجماعته، فتكون مجموع الدفعات الّتي انطلقَت نحو الإمام (علیه السلام) من الكوفة أو وصلت إليه في مكّة مع احتساب كتاب شبث وجماعته لا تتجاوز الأربعة.

وبهذا يمكن أن نخرج من ضجيج الطوائف الأُخرى الّتي لم تحدّد، وأطلقَت الكلام ورسمته في صورةٍ تزدحم فيها الرسل وتتواتر الكتب، وكأنّ

ص: 147


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251، مثير الأحزان لابن نما: 11، مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 42.

السماء صارت تمطر صحفاً، والأرض تُخرج من كلّ مترٍ منها رسولاً، فهم ينسلون نحو الإمام (علیه السلام) ، ويصدرون أشتاتاً كأنّهم جرادٌ منتشر، والكتب تتطاير من هنا وهناك..

يبدو أنّ الأمر ليس كذلك _ كما يحاول بعض المؤرّخين تصويره _؛ فهي أربع دفعاتٍ من الرسل، كلّ دفعةٍ كانت تتكوّن من رسولَين أو ثلاث،لا أكثر.. وهذا هو كلّ ما وصل إلى الإمام (علیه السلام) ، وجميع مَن انطلق إليه من الرسل، حسب المتحصّل من عباراتهم!

أجل، قد تكون كلّ دفعةٍ منهم تحمل عدّة رسائل وكتب، ولكن يبقى الأمر ليس على ما يصوّره المؤرّخ، كما سنعرف بعد قليلٍ حين ندرس عدد الكتب الواردة.

ولا يقال: إنّ هذه المجموعة من الرسل الّتي سمّاها لنا المؤرّخ ونوّه بأشخاصهم وأسمائهم، فيما وصل الإمامَ (علیه السلام) من الرسل الكثير ممّن لم يحصرهم المؤرّخ بأسمائهم.. فإنّ هذا الفرض بعيدٌ جدّاً، ولا يمكن اصطياده من عبارات المؤرّخين الّتي سمعناها، سيّما أنّهم لم يصيغوا هذه المعلومة في لفظٍ من ألفاظهم، بحيث يُستفاد منها أنّ ثَمّة رسلاً أُخرى غير مَن سمّوهم كانوا قد وصلوا الإمام (علیه السلام) حاملين معهم كتباً من أهل الكوفة.

الإفادة الثانية: آخِر الكتب

إتّفقَت المصادر _ حسب الفحص _ أنّ الكتاب الأخير الواصل إلى

ص: 148

الإمام (علیه السلام) كان كتابَ زمرة النفاق والشرك والضلال، أعداءِ الله ورسوله وأعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، شبث وجماعته _ عليهم لعائن الله المنتقم الجبّار _.. وكان هذا الكتاب هو خاتمة المكاتبات والمراسلات من قِبل أهل الكوفة..وقد سمعنا في بعض النصوص ترتيب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) على وصول الكتاب الأخير، كما هو المستفاد بوضوحٍ من عبارة السيّد ابن طاووس، فكأنّ الإمام (علیه السلام) قد عزم على الخروج وقام وصلّى بعد أن سمع من الرسل أنّ هؤلاء الطغاة الطغام الأوغاد قد كتبوا إليه، بمعنى أنّ الإمام (علیه السلام) قد بادر إلى الإجابة، فلا حاجة لقدوم الرسل وكتابة الكتب وتوجيه الدعوات..

وربّما كانت هذه الإشارة نافعةً لمن أراد أن يدرس موقف هؤلاء الأوغاد ويتناول فعالهم بالتفصيل، إذ أنّ وصول كتابهم في آخِر المطاف.. خاتمة كتب أهل الكوفة، يُنبئ عن تأخُّرهم في الكتابة، وتأخّرهم في الكتابة يشي بالكثير!

الإفادة الثالثة: الفاصل بين الدفعات

يُلاحَظ أنّ الفاصل بين دفعات الرسل كانت لا تتجاوز الأيّام الستّة؛ فقد بعثوا الدفعة الأُولى، ثمّ تربّصوا يومين فبعثوا الدفعة الثانية، ثمّ تربّصوا يومَين آخَرَين وبعثوا الدفعة الثالثة، وكان بعد ذلك كتاب شبث

ص: 149

وجماعته ((1))..

ويلزم أن يكون كتاب شبث وجماعته في نفس تلك الفترة، ولم يتأخّركثيراً عمّن سبقه؛ بشهادة وصوله في نفس تلك الفترة.

وقد كان الكتاب الأوّل هو كتاب سليمان بن صُرد وجماعته بالإجماع، والكتاب الأخير هو كتاب شبث وجماعته بالإجماع، وانقطع الخطاب! وليكن بينهما ما يكون من الرسائل والرسل..

وربّما أفاد هذا التحديد أنّ فترة الهيجان والغليان الّتي أفرزت الكتب لا تتجاوز الأُسبوع، ثم خمدَت الفورة، وتبدّد الأوار، وكُسرت الأقلام، وأُريقَت المحابر..

ويشهد لذلك ما سنسمعه بعد قليلٍ من انقطاع الرسل، ومبادرة الإمام (علیه السلام) إلى إرسال أخيه وثقته مسلم (علیه السلام) مع الرسل القادمين إليه إلى

ص: 150


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، اللهوف لابن طاووس: 33، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.

الكوفة.

الإفادة الرابعة: زمن وصول الرسل

ذكر الدينوريّ وابن أعثم والخوارزميّ وابن الجَوزيّ أنّ الدفعة الأُولى الّتي كانت تحمل كتاب سليمان بن صُرد وجماعته وافت الإمامَ (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ خلَون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب إليه، ثمّ لم يُمسِ الإمام الحسين (علیه السلام) يومه ذلك حتّى وردَت عليه المجموعة الثانية، فلمّا أصبح وافاه رسولان، فلمّا أمسى أيضاً ذلك اليوم ورد عليه كتاب شبثوجماعته ((1)).

أي: إنّ الدفعة الأُولى كانت قد وصلَت يوم العاشر من شهر رمضان، والدفعة الثانية وصلت نفس اليوم العاشر مساءً، ثمّ وافت الدفعة الثالثة صباح اليوم الحادي عشر، وكانت الخاتمة (كتاب شبث) نفس اليوم الحادي عشر مساءً..

فكانت مدّة تواتر الكتب وتوافد الرسل لا تتعدّى اليومين فقط، مهما افترضنا عدد الكتب والرسل، إذ أنّ النصوص أجمعَت على ذِكر الأوّل والأخير منها، كما سمعنا كراراً.

وإذا أردنا التحرّر من تحديد الدينوريّ ومَن تلاه، فإنّنا لا يمكن أن

ص: 151


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327.

نفلت من تحديد الرسالة الأُولى، إذ أنّ الجميع قد أجمعوا على وصول الدفعة الأُولى في العاشر من شهر رمضان..

وقد تبيّن لنا أنّ الإمام (علیه السلام) قد بادر إلى إرسال أخيه في الخامس عشر من شهر رمضان، وكانت الرسل والكتب قد اجتمعَت عنده وانقطعَت من الكوفة، فتكون فترة توافد الكتب على أقصى التقادير خمسة أيّام، امتدّت من العاشر إلى الخامس عشر من الشهر الفضيل..

وهذا الفرض لا يمكن المناقشة فيه، وهو ينسجم مع الأيّام الستّة المذكورة في الفاصل بين خروج الرسل وانطلاقهم من الكوفة، وقد ذكرناههنا من باب التسليم والعمل بالقدر المتيقّن، وإلّا ففي تحديدات الدينوريّ ومَن تلاه كفاية.

الإفادة الخامسة: الفاصل بين دخول الإمام (علیه السلام) مكّة ووصول الكتب

عرفنا أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد شرّف مكّة في الثالث من شعبان، وعرفنا أنّ أوّل الرسل وافوا الإمام (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان.. فتكون المحصَّلة أنّ أوّل الكتب وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) بعد أن أمضى الإمام (علیه السلام) زهاء سبعةٍ وثلاثين يوماً في مكّة، أي: بعد شهرٍ وأُسبوعٍ تقريباً من إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة!

فإذا أضفنا عليها أيّام الطريق بين مكّة والمدينة، حيث خرج الإمام (علیه السلام) في اليوم الثامن والعشرين من رجب، تكون المدّة يومين من

ص: 152

شهر رجب _ على فرض التمام في الشهور _ وشهر شعبان وعشرة أيّامٍ من شهر رمضان، ويكون المجموع اثنين وأربعين يوماً.

فإذا أضفنا عليها ثلاثة عشر يوماً، لنبلغ الخامس عشر من شهر رجب، حيث تسلّق القرد المجدور المسعور ونزا على منبر الرسول (صلی الله علیه و آله) ، يكون المجموع خمسةً وخمسين يوماً.

أي: إنّ كتب الكوفيّين ورسائلهم وصلت إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد شهرين إلّا خمسة أيّام تقريباً من حكم الطاغوت الماجن.فإذا أنقصنا منها مدّة عشرين يوماً _ مسافة الطريق للمُجدّ بين الكوفة ومكّة _، يكون أهل الكوفة قد بادروا إلى إرسال الرسل والكتب بعد زهاء خمسةٍ وثلاثين يوماً من حُكم يزيد الخمور، وهي مدّةٌ ليست بالقصيرة!

ولا يخفى أنّ هذه الحسابات بالأيّام كلّها فروضٌ يمكن اصطيادها من مجريات الأحداث وعلى فرض تماميّة الشهور.

الإفادة السادسة: الفاصل بين وصول الكتب وخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة

وافت الدفعة الأُولى من الرسل سيّدَ الشهداء (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان، وكان خروج الإمام (علیه السلام) من البيت الحرام في الثامن من شهر ذي الحجّة الحرام، فتكون المدّة بين وصول الدفعة الأُولى وخروج الإمام (علیه السلام) زهاء ثمانيةٍ وثمانين يوماً..

ص: 153

عشرون يوماً من شهر رمضان، وثلاثون يوماً شهر شوّال، وثلاثون يوماً شهر ذي القعدة، وثمانية أيّامٍ من شهر ذي الحجّة.

ومن المعلوم أن ليس ثَمّة رسلٌ ولا كتبٌ كانت تتواتر وتتوافد وتتوالى على الإمام (علیه السلام) في هذه الفترة، إذ أنّها انقطعَت بعد الكتاب الأخير الّذي ورد عن شبثٍ وجماعته.

وكانت هذه المدّة المديدة في حساب حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) والأيّام الطويلة في غضون أيّام قيامه (علیه السلام) ، تفيد أن ليس في ردود فعل الإمام (علیه السلام) واستجابته للرسل أيّ عجلةٍ ولا أيّ اغترارٍ ولا انفعال، ولم يكن الإمام (علیه السلام) قد تعجّل في الاستجابة إلى تلك الكتب، فلابدّ من البحث عن سببٍ آخَر لتعجُّل الإمام (علیه السلام) في الخروج من مكّة وتركه التريّث حتّى الانقضاء من أداء النسُك وحضور موسم الحجّ الّذي كان قد حلّ أيّام خروجه (علیه السلام) .

وقد صرّح الإمام (علیه السلام) بالسبب في غير موضعٍ كما سمعنا، وخلاصته أنّه إنّما خرج حفاظاً على الحرمات، وتجنّباً لهتك المقدّسات، وسفك دمه الزاكي في البيت الحرام!

الإفادة السابعة: انقطاع الرسل خلال حركة المولى الغريب (علیه السلام) !

يبدو من خلال النصوص الّتي سردناها أنّ القوم قد انقطعوا عن الكتابة والمراسلة بعد ورود الكتاب الأخير من شبث وجماعته بعد أن دعا الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أخاه مسلم بن عقيل (علیه السلام) وكلّفه بمهمّته وأرسله مع

ص: 154

القاصدين، والحال أنّ المولى الغريب (علیه السلام) ومَن معه قد قضوا عشرين يوماً في مسيرهم إلى الكوفة، فلماذا انقطعوا عن الكتابة؟!

أضف إليها فترة عشرين يوماً _ مسافة الطريق للمُجدّ _ كانت الفاصل بين خروج آخِر الرسل من الكوفة حاملاً كتاب شبث وجماعته، فتكون المدّة زهاء أربعين يوماً لم يصل فيها كتابٌ ولا رسول!

وهذا الحساب _ على فرض صحّته _ يفيد أنّ القوم كانت مراجلهمتغلي وتأزّ أزيزاً في فترةٍ محدودة، وكان المكاتِبون محدودين محصورين، لا يتكاثرون ولا تتجدّد أعدادهم بحيث يكتب الجدُدُ لإعلان النصرة، وإنّما هم أنفسهم كتبوا ودخلوا حيّز الانتظار!

التنويه التاسع: عدد الكتب الواردة

اشارة

الكلام هنا عن عدد الكتب الواردة وفق ما ذكره المؤرّخ، وليس عن عدد المكاتِبين، فربّما اشترك الاثنان والثلاثة بكتابٍ واحد.

وسيأتي بعد قليلٍ النظر في عدد المتون المرويّة في الكتب، وهي تفيد كشاهدٍ على عدد الكتب، إذ أنّنا سنرى أنّ نصوص الكتب المرويّة محصورةٌ أيضاً بعددٍ محدودٍ لا يتجاوز العشرة على فرض التعدّد وعدم الاتّحاد.

ويمكن تقسيم النصوص الواردة في عدد الكتب إلى عدّة أعداد:

ص: 155

العدد الأوّل: لم تذكر عدداً

لم تذكر مجموعةٌ كبيرةٌ من المصادر عدداً محصوراً للكتب الواردة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي على ما يبدو الأكثر عدداً في جملة المصادر.

وقد اكتفى ابن سعدٍ ومَن تلاه بالإشارة إلى أنّ أهل العراق أرسلوا إلى الإمام (علیه السلام) كتباً ورسلاً يدعونه، وأنّ هذه الكتب والرسل كانت تترى علىالإمام (علیه السلام) بعضها إثر بعض.. هكذا من دون أيّ تحديدٍ لعدد الكتب أو المكاتبين، فتواترَت عليه كتبهم وترادفَت رسلهم ((1)).

ص: 156


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تاريخ الطبريّ: 5 / 391، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 170، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251، تاريخ الطبريّ: 5 / 347، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335، الثقات لابن حبّان: 2 / 306، التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303، أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 20 و21، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 136، معالى السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131، كتاب الفخري لابن طقطقي: 104، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 206، عمدة الطالب لابن عنبة: 158، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207، الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117، التتمّة لتاج الدين العامليّ: 77، المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 422، التبر المذاب للخافي الشافعيّ: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، أسرار الشهادة للدربنديّ: 244، الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 57.

وعمد بعضهم إلى ذِكر إرسال الكتب، واقتصر على الإشارة إلى كتاب سليمان فقط ((1))، أو ذكر أسماء بعض مَن كتب، كشبث وسليمان والمسيّب ووجوه أهل الكوفة ((2))، وهو لا يفيد عدد الكتب، إذ قد يكون جماعةٌ اشتركوا بكتابٍ واحد، كما هو كذلك.

وقال الطبرسيّ: «فكتبوا إليه كتباً كثيرة، وأنفذوا إليه الرسُل إرسالاً»، ثمّ ذكر كتاباً مختصراً، ثمّ قال: «فكتب إليه أُمراء القبائل»، وذكر كتاب شبث ((3)).

وكذا فعل ابن الجَوزيّ، فقال: «ووجّه أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) »، ثمّ ذكر كتاباً، ثمّ قال: «وكتب إليه سليمان بن صُرد ...» ((4)).

وهذه العبارات لا يمكن استحصال عددٍ محصورٍ منها بعد أن عمّمَت، ثمّ ذكرت نموذجاً من الكتب.

ص: 157


1- أُنظر: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64.
2- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 62.
3- إعلام الورى للطبرسيّ: 223.
4- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35.
العدد الثاني: ذكر الدفعات

لم يُشر مسكويه إلى عددٍ معيَّن، بَيد أنّه ذكر اجتماع رؤساء الشيعة، مثل سليمان بن صُرد وجماعته، فكتبوا، ثمّ ذكر اجتماعاً آخَر، فكتبوا، ثمّ ذكر اجتماعاً ثالثاً، وقال: فكتبوا.

وهذا لا يفيد عدداً خاصّاً، إذ أنّ كلّ اجتماعٍ قد يكون أفرز كتاباً واحداً أو أكثر، وسياق عبارته يفيد بوضوحٍ أنّها ثلاث كتبٍ كتبوها على ثلاث دفعات، قال:

فكاتبوا الحسين بن عليّ ... ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مِثل سليمان بن صُرد ... وكتبوا إليه ... ثمّ اجتمعوا ثالثةً، فكتبوا إليه.

وذكر كتاب شبث.. ((1)).

العدد الثالث: كتابٌ واحد

يقول ابن قُتيبة:

فأتاه كتاب أهل الكوفة ...

ثمّ ذكر كتاب سليمان فقط ((2)).

وكذا قال البرّيّ:

ص: 158


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 41.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4.

كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ ((1)).واقتصرا على ذلك، فكأنّ عبارتهما تفيد أن ثَمّة كتاباً واحداً صدر عن أهل الكوفة تصدّر اسم سليمان.

العدد الرابع: نيفٌ وخمسون صحيفة

ذكر البلاذريّ كتابَ سليمان بن صُرد، ثمّ ذكر الرسل الّذين حملوا نحواً من خمسين صحيفة، ثمّ الكتاب الّذي حمله هانيء السبيعيّ وسعيد الحنفيّ، ثمّ كتابَ شبث ((2)).

وكذا فعل الطبريّ في إحدى رواياته، بيد أنّه قال: نحواً من ثلاثةٍ وخمسين صحيفة ((3)).

فيكون مجموع الصحائف على أقصى تقديرٍ ستّةً وخمسين صحيفةً وفق تقرير الطبريّ، وثلاثةً وخمسين وفق تقرير البلاذريّ.

العدد الخامس: مئة كتاب

ذكر الدينوريّ كتاب سليمان، ثمّ خمسون كتاباً حملها ابن مسهر الصيداويّ ومَن معه، ثمّ خمسون كتاباً حملها هاني السبيعيّ ومَن معه، ثمّ

ص: 159


1- الجوهرة للبرّيّ: 41.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 351.

كتاب شبث ((1)).

وذكر ابن الصبّاغ والشبلنجيّ كتاب سليمان، ونحواً من مئة كتاب، وكتاباً واحداً عامّاً على لسان الجميع ((2)).فيكون مجموع الكتب المرسَلة في تقدير الدينوريّ وابن الصبّاغ مئةً واثنين.

العدد السادس: مئةٌ وخمسون كتاباً

ذكر ابن أعثم والشيخ المفيد والخوارزميّ والفتّال ومَن تلاهم كتاب سليمان، ثمّ نحواً من خمسين ومئة كتاب، ثمّ كتب شبث ((3)).

وربّما أفادت عبارة الشيخ ابن شهرآشوب وابن الأثير والنويريّ وغيرهم أنّ ثَمّة كتاباً قبل كتاب شبث وصل إلى الإمام (علیه السلام) مضافاً إلى ما ذكروه ((4)).

ص: 160


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 231.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغمّة للأربليّ: 2 / 42.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.

فيكون مجموع الكتب وفق الأعلى من هذه التقديرات هي ثلاثةٌ وخمسون ومئة كتاب.

العدد السابع: ما ملأ خُرجَين

قال الدينوريّ:

فتتابعَت عليه في أيّامٍ رسُلُ أهل الكوفة من الكتُب ما ملأ منه خُرجَين ((1)).

وفي لقاء الحرّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) واحتجاج الإمام (علیه السلام) عليهم، قالوا:

فأخرج الحسين (علیه السلام) خُرجَين مملوءَين صُحُفاً ((2)).والمتحصَّل من كتب اللغة والتاريخ: إنّ الخُرج هو وعاءٌ (كيس) من شَعرٍ أو جلدٍ أو صوفٍ أو كتّانٍ يُوضَع فيه الأمتعة ((3))، وقد يُحمَل على البعير

ص: 161


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 231.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 380 و423، الأخبار الطوال للدينوريّ: 247، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2622، تاريخ الطبريّ: 5 / 400، الإرشاد للمفيد: 2 / 78، روضة الواعظين للفتّال: 153، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 375، إعلام الورى للطبرسيّ: 232، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 279، نهاية الأرب للدينوريّ: 20 / 416، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 172.
3- أُنظر: كتب اللغة، مادّة (خرج).

أو الحمار أو الكبش أو يحمله الرجل، فهو غير متعيَّن الحجم والسعة، فقد يكون كبيراً، وقد يكون صغيراً ((1)).. والخرج والكرز سواء، ويُقال للكبش الّذي يحمل الخرج: كرازاً ((2)).

وبهذا لا يمكن أن نستفيد كمّاً محدَّداً للكتب من خلال التعبير الوارد (ما يملأ خُرجَين)، فربّما كان الخرج كبيراً وربّما كان صغيراً، ويمكن للخُرجَين أن يستوعبا خمسين رسالةً أو مئة كتابٍ أو أكثر أو أقلّ، أمّا أن يستوعبا (اثني عشر ألف كتابٍ) فهذا ما يصعب تصوّره!

العدد الثامن: اثنا عشر ألف كتاب

إنفرد الشيخ ابن نما _ حسب الفحص _ بذكر عددٍ ضخمٍ من الكتب، فذكر أنّ الكتب قد تواترت حتّى تكمّلَت عنده اثنا عشر ألف كتاب، ثمّ قدم إليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ بكتاب، وهو آخر الكتب ((3)).

فهي اثنا عشر ألفاً وواحد!

وتبعه على هذا العدد السيّد ابن طاووس بتفصيلٍ آخَر، حيث ذكر كتاب سليمان بن صُرد.. وأنفذوا جماعةً معهم نحو مئةٍ وخمسين كتاباً منالرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة.. فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستّمئة كتاب،

ص: 162


1- المعجم الوسيط: خَرَجَ.
2- خزانة الأدب لعبد القادر البغداديّ: 10 / 264.
3- مثير الأحزان لابن نما: 11.

وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوبٍ متفرّقةٍ اثنا عشر ألف كتاب.. ثمّ قدم عليه (علیه السلام) بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ ... بهذا الكتاب، وهو آخِر ما ورد على الحسين (علیه السلام) من أهل الكوفة ((1)).

فتكون النتيجة هو نفس العدد الّذي ذكره الشيخ ابن نما، باختلافٍ في التفاصيل ليس إلّا.

الحصيلة:
اشارة

لم تتعرّض مجموعةٌ كبيرةٌ من المصادر إلى التصريح بعددٍ معيَّن، كما لاحظنا ذلك في (العدد الأوّل)، وتراوحَت الأعداد الأُخرى في باقي المصادر بين الكتاب والواحد والمئة والخمسين كتاباً _ بغضّ النظر عن الأعداد الصغيرة في الزيادة والنقصان _، وما ذكره الدينوريّ (ما ملأ خُرجَين) وورد في كشف الإمام (علیه السلام) عنها في مشهد اللقاء بالحرّ، يمكن أن يكون لأكبر الأعداد المذكورة في المصادر (المئة والخمسين)، فإنّ مئةً وخمسين صحيفةً كانت تُكتَب يومها على الجلود أو الكتف أو الكاغذ الخشن المتصلّب السميك كافيةٌ لتملأ خُرجَين، وليس للخُرج سعةٌ معيّنةٌ، فقد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً حسب الحاجة.ولم نجد _ ودائماً حسب فحصنا _ رقماً آخَر يربو على هذا العدد فيما توفّر

ص: 163


1- اللهوف لابن طاووس: 33.

بأيدينا من المصادر والكتب.. وهذا العدد ليس قليلاً بالحسابات الاجتماعيّة وملاحظة الظروف الحاكمة يومذاك، سيّما أنّ المؤرّخ يصرّح أنّ الكتب المئة والخمسين كانت من الرجل والرجلين والثلاثة، فيكون المكاتبون أكثر من أربعمئةٍ وخمسون رجُلاً.

والمفروض أنّ المكاتبين كانوا من الوجوه والأعيان والشخصيّات، كما صرّح بذلك المؤرّخ نفسه، وهذا العدد من الوجوه والشخصيّات ليس بالعدد القليل، كما لا يخفى!

ويمكن إضافة عددٍ على هذا العدد لاستيعاب ما ورد من إخبارٍ بكثرة الرسائل من دون تحديد، أمّا أن تبلغ بمجموعها اثنا عشر ألف كتاباً، فمن المتعسّر تصوّر ذلك وتصويره، وذلك للعوائق التالية:

العائق الأول: انفراد الشيخ ابن نما

إنفرد بذكر هذا العدد الضخم الشيخُ ابن نما (رحمة الله) دون مَن سبقه من المؤرّخين والعلماء شيعةً وعامّة، ولم نجد لمثل هذا العدد الهائل إشارةً في المصادر الأُخرى!

العائق الثاني: ذكر الآخَرين للأعداد

إذا كانت المصادر تقتصر على التعابير الإجماليّة من دون تصريحٍ بعددٍمعيَّن، كما فعلت مصادر (العدد الأوّل)، ربّما كان بالإمكان حمل تلك المجمَلات على تفصيل الشيخ ابن نما..

ص: 164

بيد أنّ المصادر الأقدم من الشيخ ابن نما قد صرّحَت بأعدادٍ محدَّدةٍ لا تتجاوز المئة والخمسين كتاباً، فحمل المجمَلات على ما ورد في المصادر الأكثر والأقدم من الشيخ أصحّ وأَولى، سيّما إذا قبلنا أنّه ليس بالعدد القليل على مستوى الكتب والكاتبين.

فمن الصعب تجاوز تلك المصادر والالتزام بكلام الشيخ مع مخالفته لهم، وعدم وجود مسوّغٍ أو شاهدٍ يرجّح قول الشيخ على غيره.

العائق الثالث: ضخامة العدد بلحاظ الصحائف

إثنا عشر ألف صحيفة! يمكن تصوّر هذا العدد الضخم؟! وقد ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الكتب كانت تُكتَب على الجلود والكتف، وعلى أقصى التقادير على (الكاغذ)، وكان الكاغذ يومها خشناً سميكاً صلباً، فكم سيكون حجم الاثني عشر ألف صحفية؟! سيّما أنّها كانت تُطوى ولا تُثنى، كما هو واضحٌ من تعبير المؤرّخ.

حتّى لو افترضنا أنّها كانت تُطوى متداخلة، فإنّ الكتب الّتي تتداخل عند الطوي لا يمكن أن تكون إلّا عدداً ضئيلاً، ثمّ تتّسع.

وقد علمنا من خلال (العدد السابع) أنّ مجموع الكتب كان لا يتجاوز (الخرجَين)، فلو قسّمتَ الكتب على الخرجَين لَكان حصّة كلّ خرجٍ ستّةآلاف كتاب، ولا ندري كيف سيتّسع الخرج إلى ستّة آلاف كتاب!

ص: 165

العائق الرابع: تفرّق المكاتِبين!

سمعنا في تقارير المؤرّخين أنّ المكاتبين كانوا من الوجوه والأعيان، فهل كان في الكوفة يومذاك اثنا عشر ألف وجهاً؟!

أو كانت الكتب من عامّة الناس كتبوها متفرّقين، كلّما اجتمع شخصان أو ثلاثةٌ كتبوا لحالهم وأعربوا عن موقفهم؟!

لا يبدو أنّ هذا النمط من الكتابة كان معهوداً تلك الأيّام، إذ كان الوجوه والأعيان والأشراف وشيوخ العشائر وكبراؤهم ورؤوس الأسباع أو الأخماس أو الأرباع يتحدّثون باسم أتباعهم، ويخاطَبون كعنوانٍ حاكٍ عمّن تحت لوائهم.

إثنا عشر ألف كتاب.. إذا كان كلّ كتابٍ من رجُل، فهم اثنا عشر ألف رجُل، وإن كان الكتاب من الرجُلين والثلاثة، فالعدد الأكبر ستّةٌ وثلاثون ألف رجل، وإن كان أكثر فأكثر.. وهذا العدد بأقلّه وأكثره يشي بحالةٍ من الانفلات الاجتماعيّ والعشائريّ والقَبَليّ لم يُعهَد عادةً في تلك الأيّام.

وإذا غمضنا النظر عن علم الإمامة، فإنّ التعرّف شخصيّاً إلى هذا العدد الضخم يكاد لا يُستساغ في الحسابات الاجتماعيّة، والاكتفاء بوصول الكتاب من رجُلٍ مجهولٍ غير معروفٍ لدى المكتوب إليه لا يُعدّ عقلائيّاً في مثل تلك الظروف العصيبة ولمثل ذلك الموقف المشهود والمشهدالمرهوب.

إذا كاتب شيخ العشيرة أو الوجه من الوجوه، فإنّه معروفٌ من جهةٍ

ص: 166

لدى المكتوب إليه، ويكون مسؤولاً عمّا كتب، وللمكتوب إليه تقييمه وتقييم مَن وراءه من الأتباع.. أمّا أن يكتب الناس، نكرتهم ومعرفتهم، كبيرهم وصغيرهم، مغمورهم ومجهولهم، فهذا ما لا يمكن الارتكان عليه والركون إليه، والإعدادُ لمواجهة الطاغوت وجُنده من خلال هذه الأعداد المجهولة المنشأ والمصدر والمآل.

ولا يخفى أن لو افترضنا أنّ هذا العدد كلّه كان مكاتِباً، فهو أيضاً لا يبلغ نصف عدد السيوف الّتي كانت في الكوفة.

العائق الخامس: عدد الحاملين للكتب!

سيأتي بعد قليلٍ إحصاء الرسل والمكاتبين، وقد عرفنا قبل قليلٍ أنّ مدّة انطلاق الرسل ووصولهم محصورة، إذ اتفق الجميع أنّ أوّل الرسل وافى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان، وكانت الرسل تترى في غضون يومين كما فصّل الدينوريّ، وعلى أقصى التقادير فإنّهم استمرّوا في التوافد إلى قبل الخامس عشر من الشهر الفضيل، لأنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد خرج من مكّة في هذا التاريخ، وكانت الرسل قد انقطعَت كما صرّحوا، وكان الكتاب الأخير قد وصل من شبث وجماعته..

كما أنّ مدّة انطلاق الرسل لم تكن تتجاوز الأيّام الستّة، حسب ما عرفناقبل قليل.

ففترة الكتابة لا تتجاوز الأيّام الستّة كما ذكر المؤرّخ، أي: أنّهم كتبوا

ص: 167

اثني عشر ألف كتاباً في غضون ستّة أيّام.. كتبوا اثني عشر ألف صحيفة.. اثني عشر ألف ورقة!! إنّه عددٌ مهولٌ في غضون هذه الفترة المحدودة، وهو لا ينسجم مع العادة ومجريات الأحداث، وإن لم يكن خارجاً عن حدّ الإمكان.

والّذي يبدو واضحاً من تعبير المؤرّخ أنّ القوم الّذين كتبوا بأعيانهم وأشخاصهم أرسلوا الرسل بأسمائهم وأعيانهم، إذ حدّد المؤرّخ كلّ مجموعةٍ كتبت والرسولَ الّذي أرسلَت، فعلى يد مَن أرسل هؤلاء الّذين كتبوا اثني عشر ألف كتاب؟!

هل حمل نفس الرسل المذكورين بأسمائهم هذه الأعداد الضخمة؟ لم يصرّح المؤرخ بذلك، بل لم يُشر إليه ولو من بعيد.

فكم كان عدد الرسل الّذين حملوا هذا الكمّ الهائل، وخرجوا من الكوفة ووافوا سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة؟

لماذا لم يذكر الشيخ ابن نما ولا اسماً من أسماء هؤلاء الحمَلَة؟

هل حمل الرسل المنصوص عليهم بأسمائهم عند باقي المؤرّخين هذا السيل الهادر من الكتب؟

كيف توزّعَت هذه الأعداد الجسيمة الكثيرة على عددٍ محدودٍ منالرسل؟ وكيف خرجوا بها في ذاك الجوّ الملتهب، وقطعوا الفيافي والقفار واجتازوا المنازل والمفاوز حتّى وصلوا مكّة، وهم يحملون الخطر الخطير الّذي لا يمكن أن يخفيه الحامل لعظَم حجمه؟!

ص: 168

الخلاصة:

بغضّ النظر عن مناقشة ما رواه الشيخ ابن نما، فإنّنا نحسب أن لا ضرورة تدعو الباحث إلى التمسّك بروايته وغضّ الطرف عن المصادر الأُخرى الكثيرة، فقد تفرّد ابن نما برواية هذا العدد.

ولا ندري إن كان يقصد ذِكر أعداد المكاتِبين فسهى قلمه الشريف، وهو بعيد؛ إذ أنّ عبارته واضحةٌ في بيان المقصود.

أو أنّه وقف على متنٍ تاريخيٍّ لم يصلنا، وهذا ما لا يُلزمنا بشيء، إذ أنّه يبقى شاذّاً متفرّداً، سواءً لحظنا متن الشيخ أو المتن الّذي روى عنه.

ولا نحسب أنّ تضخيم عدد المكاتبين يغيّر في الأمر ويفسّر غامضاً في القضيّة؛ لأنّنا قرّرنا أنّ هذه الكتب لم تشكّل دافعاً ولا محرّكاً عند الإمام (علیه السلام) ، وليس لها أيّ دورٍ مركزيٍّ في قراراته.. وفي كتب الوجوه والأعيان والأشراف كفايةٌ لمن أراد أن يتّخذ قراراً وفق الكتب الواردة.

أضف إلى ذلك كلّه: إنّ الذهاب إلى ما ذهب إليه الشيخ ابن نما قد يوقعنا في ورطةٍ خطّط لها العدوّ، وطالما أشرنا إليها..

إنّها ورطة تخطئة الإمام المعصوم وتصويب المعترضين عليه، إذ أنّالاعتماد على اثني عشر ألف كتابٍ من مجهولين لا يُعدّ عملاً مسوّغاً عند العقلاء، وهذا ما كان يصرّ عليه المعترضون ويؤكّده الأعداء ويرسمه المؤرّخ بشتّى الصور والمواقف.

إنّ الإمام (علیه السلام) اعتمد كتب اثني عشر ألف مجهولٍ لا يُرتَكن إليه، لا

ص: 169

يعرفهم الإمام _ حسب الموازين الظاهريّة في البشر العادي _ بأشخاصهم، ولا يمكن تقييمهم ولا تقييم قدراتهم وقوّتهم ووفائهم وثباتهم واعتقادهم بما يكتبون، أليس هذا خطأ على كلّ الموازين؟!

أوَليس سيكون كلام ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما من المعترضين صائباً صحيحاً، والإمام (علیه السلام) يأبى أن يُذعِن إليهم؟!

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى سيّدنا وإمامنا ووليّ أمرنا خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

التنويه العاشر: اجتماع الرسُل عند الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة

صرّح سبط ابن الجَوزيّ وابن كثير أنّ الرسل اجتمعَت كلُّها بمكّة عند الإمام الحسين (علیه السلام) ((1))، وأفاد الآخَرون نفس هذا المعنى، حيث ذكروا أنّالرسل بقوا مع الإمام (علیه السلام) في مكّة، وأرسلهم الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة بصحبة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .

ربّما ذكر المؤرّخ اجتماعهم عند الإمام (علیه السلام) ليفيد ما صرّح به من عدم

ص: 170


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

إجابة الإمام (علیه السلام) لهم كلّاً على حدة، وإنّما جمعهم جميعاً، ثمّ أجابهم جواباً واحداً، كما سيأتي تفصيله.

ص: 171

ص: 172

مَن هم المكاتِبون؟

اشارة

ورد في المصادر التاريخيّة _ قُبيل ذِكر نصّ الكتاب أو في نفس الكتاب _ جملةٌ من الأسماء والعناوين، نحاول استكشافها، وهي تنقسم إلى أقسام:

القسم الأوّل: العناوين العامّة

اشارة

أطلق بعضهم جُملةً من العناوين العامّة في خضمّ الحديث عن الكتاب ومرسليه، فجاءت متعدّدةً حسب اختلاف اللحاظ:

اللحاظ الأوّل: الانتماء الجغرافي

- أهل العراق ((1)).

ص: 173


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207.

- بلاد العراق ((1)).

هذا العنوان يشمل رقعة العراق الجغرافيّة كلّها، بَيد أنّ الشواهد تؤكّد بلا تردُّدٍ أنّ المراد هم أهل الكوفة ((2)).

أجل، جاء في بعض الكتب تسويرٌ لأهل الكوفة، فقالوا:

- كثيرٌ من أهل الكوفة ((3)).

ص: 174


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
2- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335، تاريخ الطبريّ: 5 / 347 و351 و391، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 170، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64، الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 57، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35، أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، مثير الأحزان لابن نما: 11، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 136، معالى السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131، كتاب الفخريّ لابن طقطقي: 104، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 206، عمدة الطالب لابن عنبة: 158، الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117.
3- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 20، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.

- جمعٌ جمٌّ من أهل الكوفة ((1)).

يبدو أنّ هذين التعبيرين أدقُّ نسبيّاً من الإطلاق الوارد الّذي يُوحي للمتلقّي أنّ أهل العراق وأهل الكوفة كلّهم كتبوا للإمام (علیه السلام) .

وعلى كلا التقديرين، فإنّ في التعبير مسامحةً وتساهلاً ومبالغةً يكذّبها الواقع القائم يومذاك في الكوفة؛ إذ أنّ المكاتِبين والمبايعين ولو اجتمعوا في حسابٍ واحدٍ لا يبلغون عدد سكّان الكوفة قطعاً، وقد عرفنا في بحث المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) أنّ العدد المكاتِب والمبايع لا يبلغ حدّاً يمكن التعبير عنه بمثل هذا التعبير، إذ أنّ الكوفة كانت راضخةً للسلطان، والعساكر كانت منتظمة، والشرطة والحرس كانوا من الكثرة ما يؤهّلهم لمسح بيوت الكوفة واستبرائها.كان العدد الّذي بايع المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ على المشهور _ لا يتجاوز الثمانية عشر ألفاً، في حين كان العدد الّذي يركب به هانئ بن عروة في مراد وأحلافه في كِندة ثلاثين ألفاً، وكان في الكوفة مئة ألف سيفٍ مسجَّلون في الديوان يُجري عليهم الوالي عطاءَها وهم تبعٌ مطيعون..

فالّذين لم يكتبوا ولم يبايعوا ولم يدخلوا في هذا الحدَث أكثر بكثيرٍ ممّن كتب أو بايع.

ص: 175


1- مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 42.

كيف كان، فإنّ المكاتِبين مهما بلغوا فإنّهم لا يشكّلون الأكثريّة جزماً، فلا مسوّغ لهذا التعبير العامّ المطلَق.

إلّا أن يُقال: إنّ هؤلاء من أهل الكوفة، فصحّ الاستعمال بتجوُّز.

اللحاظ الثاني: الانتماء الدينيّ والمذهبيّ

وردَت جملةٌ من العناوين العامّة لها بُعدٌ دينيٌّ ومذهبيّ، من قبيل:

- الشيعة من أهل الكوفة ((1)).

- شيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة ((2)).

- جماعة شيعته من المؤمنين ((3)).

- شيعته وشيعة أبيه ((4)).

ص: 176


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، اللهوف لابن طاووس: 33.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مثير الأحزان لابن نما: 11، مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 42، اللهوف لابن طاووس: 33، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

- رجال أبيه وشيعته من الكوفة ((1)).

ويُلاحَظ هنا أيضاً أنّ التعبير يحمل شحنة إطلاقٍ شاملةٍ تعمّ جميع الشيعة من أهل الكوفة من المؤمنين والمسلمين وجماعتهم، وهم شيعته وشيعة أبيه ورجاله ورجال أبيه، وكأنّ كلّ فردٍ من أفراد الشيعة المتواجدين في الكوفة قد كتبوا، لا ينخرم منهم أحد، وأنّهم كانوا على مستوىً من التشيّع بحيث يُنسَبون إليه وإلى أبيه كرجالٍ لهم!

وفي التعبير مجازفةٌ واضحةٌ ومبالغةٌ فاضحة، سيّما إذا لاحظنا أنّ الكثير من كبار الشيعة ورؤوسهم المعروفين المشهورين الّذين لا يجوزهم موقفٌ ولا يمكن التغاضي عنهم لم ترد أسماؤهم في الكتب، وليسوا هم ممّن يتجاهله المجتمع أو لا يكون لذكر اسمه في الكتاب أثره الواضح.

ولو أغمضنا النظر عن القاعدة الكلّيّة الّتي أجريناها في مثل هذه المواضع، إذ أنّنا لا نعدّ مَن خذل الإمام (علیه السلام) أو غدر به شيعيّاً، وإن زعم هو ذلك أو عدّه الآخَرون في عداد الشيعة.. بغضّ النظر عن هذه القاعدة، فإنّ فيمن كاتب الإمام (علیه السلام) مَن هو في عداد الأعداء بلا شكٍّ ولا تردّد، مِن قبيل شبث بن ربعيّ وحجّار وجماعتهما.

ص: 177


1- الجوهرة للبرّيّ: 41.
اللحاظ الثالث: الوجهاء والأشراف!

من العناوين العامّة الواردة في المصادر أيضاً:

- أشراف الكوفة ورؤساؤها ((1)).

- وجوه أهل الكوفة ((2)).

وقد فسّروا ذلك بشبث بن ربعيّ وجماعته..

فهؤلاء هم الشرفاء والوجوه عند المؤرّخ، وهم من قيادات معسكر العدوّ الّذين باشروا القتال ضدّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولهم تاريخهم القذر الّذي أخزى البشريّة.

وعددهم محدودٌ لا يتجاوز الستّة أو السبعة، فلا يعدّون رقماً بإزاء مَن يسمّونهم الأشراف والوجوه في الكوفة يومذاك.

اللحاظ الرابع: الانتماء القبَليّ

ورد لفظ: (أُمراء القبائل) ((3)) عند الطبرسيّ، من دون التصريح

ص: 178


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 62، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 136، معالى السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228.
3- إعلام الورى للطبرسيّ: 223.

بالأسماء، بَيد أنّه نقل نصّ رسالة شبث بن ربعيّ وجماعته، والظاهر أنّهم هم المقصودون بهذا اللقب.ومن الواضح أنّ هؤلاء لا يعدّون أُمراء القبائل على نحو الإطلاق، فإنْ كانوا كذلك فهم أُمراء لبعض الفروع والشُّعَب، وليسوا هم أُمراء قبائل الكوفة كلّها.

اللحاظ الخامس: خلاصة اللحاظات

تبيّن لنا من خلال العناوين الّتي استعرضناها، أنّ ثَمّة مسامحةً أو مبالغةً وتهويلاً في استخدامها، ويكاد المتابع بدقّةٍ _ بعيداً عن الضجيج والتضخيم وزحمة الأحداث _ يطمئنّ أنّ توظيف هذه العناوين على إطلاقها وشمولها وعمومها غير صادقٍ ولا متطابقٍ مع الواقع.

ولا فرق في المبالغة بين ما يذكره المؤرّخ مستنداً إلى ما جاء في متون الكتب والرسائل أو لأغراضه الخاصّة، وبين ما ورد في متون الكتب نفسها؛ إذ أنّ المبالغات المذكورة في الكتب ربّما كانت طبيعيّةً متوقّعة، لأنّ مَن كتب إنّما كتب مِن موقعٍ حماسيٍّ هائج، يضطرّه الموقف إلى التهويل والتعظيم والتضخيم.

ولا يعني القول بوجود المبالغة نفي ضخامة العدد المكاتِب أو المبايع، بَيد أنّ هذا العدد _ وإن كان كبيراً _ لو نظرنا إليه وحده، فإنّه قليلٌ بالنسبة إلى عدد سكّان الكوفة وعدد العساكر المتكاثفة فيها يومذاك!

ص: 179

وهذه الحقيقة التاريخيّة لا تغيب أبداً عن العالِم بالله الإمام الحسين (علیه السلام) ،ولا على سفيره المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .. والمفروض أن لا تغيب عن المتلقّي والمتابع والباحث، لِما لها من دورٍ كبيرٍ في فهم الأحداث وتقييم المواقف.

القسم الثاني: الأسماء

اشارة

صرّحَت المصادر بمجموعةٍ من الأسماء ممّن كاتب الإمامَ (علیه السلام) ودعاه وأعلن نصرته، وهم شخصيّاتٌ معروفةٌ لها ذِكرٌ في كتب التاريخ والرجال.

ولا نريد الدخول في بيان تفاصيل تراجمهم، فنبتعد عن مسار البحث، ونقتصر في التقييم على مواقفهم يوم الحسين (علیه السلام) ، ولا تهمّنا كثيراً مشاهدهم قبل يوم الطفّ ولا بعده.

الاسم الأوّل: سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ

سليمان بن صُرَد ((1))، صحابيٌّ مشهور ((2))، أخرج له رواة العامّة،

ص: 180


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 62، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، الجوهرة للبرّيّ: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزي: 136، معالى السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228، اللهوف لابن طاووس: 33، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّيّ: 3 / 51، رسائل الشهيد الثاني: 2 / 1069، المحلّى لابن حزم: 3 / 144، عمدة القاري للعينيّ: 5 / 126، شرح كتاب مسلم للنوويّ: 4 / 9، فتح الباري لابن حجَر: 10 / 389.

كالبخاريّ ومسلم وأحمد وأبو داوود وابن ماجة والصنعانيّ، وقد خرّج له جميعُ مشايخ أهل السنّة أخباراً في كتبهم.

وهو شخصيّةٌ بارزةٌ تصدّرَت المشهدَ تلك الأيّام، حيث عُقد الاجتماع في بيته، وكان هو الخطيب المندفع الّذي تكلّم في القوم المجتمعين، ثمّأمَرَهم بعد أن توثّق منهم أن يكتبوا إلى الإمام (علیه السلام) يدعونه، ثمّ غاب عن المشهد بعد ذلك الاجتماع والمكاتبة، فلم نسمع له صوتاً ولم نشهد له موقفاً، ولا ندري أين حلّ به الدهر، حتّى ظهر بعد سنواتٍ من شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) رافعاً راية التوّابين، مندفعاً بحرقةٍ وحرارةٍ إلى قتال قتَلَة الإمام (علیه السلام) ، متعجِّلاً الرواح إلى الجنّة.

ص: 181

وقد بحثنا في المصادر الكثيرة المتوفّرة والكتب القديمة، فلم نجد ما يفيد أنّه كان محبوساً معتقلاً في تلك الفترة، سوى ما ذكره أحمد الحرّ العامليّ في كتابه (الدرّ المسلوك في تاريخ الأنبياء والأوصياء والملوك)، حيث قال:

فقبض على أكابر الكوفة، منهم: سليمان بن صُرد الخزاعيّ، والمختار ابن أبي عُبيدة الثقفيّ، ونحوهما من أربعمئة رجُلٍ من الأعيان، وسجنهم في أسوء حال، وأرهب الناس، وربط الطرق ((1)).

ولا ندري إن كان الشيخ العامليّ قد وقع على مصدرٍ يذكر ذلك فنقل عنه، أو أنّه استنتج ذلك كما فعل آخَرون، إذ اعتبروا أنّ سليمان كان من كبار الشيعة، وكان مندفعاً للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، وكانت له مواقف في صفّين.وإنّما خصّصنا صفّين دون الجَمَل؛ لأنّه كان قد تخلّف عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في الجَمَل متردِّداً أو شاكّاً، وقد عاتبه وعذله على ذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد مرجعه من البصرة وقال له: «ارتبْتَ وتربّصتَ وراوغتَ ... فما قعد بك عن أهل بيت نبيّك وما زهّدَك في نصرهم؟» ((2)).

وكان له موقفٌ مع الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) بعد الصلح، ينمّ عن

ص: 182


1- أيّام الحسين (علیه السلام) من الدرّ المسلوك لأحمد الحرّ العامليّ: 63 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- أُنظر: وقعة صفّين للمنقريّ: 6، الفتوح لابن أعثم: 2 / 492، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 105.

طبعه الاندفاعيّ وهيجانه المزاجيّ..

قال ابن قُتيبة:

إنّه لمّا تمّت البيعةُ لمعاوية بالعراق وانصرف راجعاً إلى الشام، أتاه سُليمان بن صُرَد، وكان غائباً عن الكوفة، وكان سيّدَ أهل العراق ورأسَهم، فدخل على الحسن (علیه السلام) فقال: السلام عليكَ يا مُذلّ المؤمنين. فقال الحسن: «وعليك السلام، اجلس، لله أبوك».

قال: فجلس سليمان، فقال: أمّا بعد، فإنّ تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، ومعك مئةُ ألف مقاتلٍ من أهل العراق، وكلُّهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقةً في العهد ولا حظّاً من القضيّة، فلو كنتَ إذ فعلتَ ما فعلتَ وأعطاكما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنتَ كتبتَ عليك بذلك كتاباً وأشهدتَ عليه شهوداً من أهل المشرق والمغرب أنّ هذا الأمر لك من بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك هذا فرضيتَ به من قوله.

ثمّ قال: وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعتُ: إنّي كنتُ شرطتُ لقومٍ شروطاً، ووعدتُهم عِداتٍ، ومنّيتُهم أماني، إرادةَ إطفاء نار الحرب ومداراةً لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وأُلفتنا، فإنّ كلّ ما هنالك تحت قدمي هاتين. وواللهِ ما عنى بذلك إلّا نقضَ ما بينك وبينه، فأعِدّ للحرب خدعة، وأْذَنْ لي أشخص إلى الكوفة،

ص: 183

فأُخرجَ عاملَه منها، وأُظهِر فيها خلعه، وأنبذ إليه على سواء، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين.

ثمّ سكت، فتكلّم كلُّ مَن حضر مجلسه بمِثل مقاتله، وكلُّهم يقول: ابعثْ سُليمانَ بن صُرد، وابعثْنا معه، ثمّ الحقنا إذا علمتَ أنّا قد أشخصنا عامله وأظهرنا خلعه ...

فتكلّم الإمام الحسن (علیه السلام) معهم، وفهّمهم باللُّطف والمداراة أنّ ما فعله إنّما هو خيرٌ لهم وليحقن دماءَهم، وأمرهم بالتسليم والصبر والرضى بقضاء الله، وأن يلزموا بيوتهم ويكفّوا أيديهم، حتّى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر، وأنّ أباه أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخبره أنّ معاوية سيلي الأمر، ولوساروا إليه بالجبال والشجر لَما شكّ أنّ معاوية سيظهر، وإنّ الله لا معقّب لحُكمه، ثمّ قال (علیه السلام) :

«وأمّا قولك: يا مُذلّ المؤمنين، فوَاللهِ لَئن تذلّوا وتعافوا أحبُّ إليّ مِن أن تعزّوا وتُقتَلوا، فإنْ ردّ اللهُ علينا حقَّنا في عافيةٍ قبلنا، وسألنا اللهَ العون على أمره، وإنْ صرفه عنّا رضينا، وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنّا، فلْيكن كلُّ رجُلٍ منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّاً، فإنْ يهلك ونحن وأنتم أحياء، سألنا اللهَ العزيمة على رشدنا والمعونة على أمرنا، وأنْ لا يكلنا إلى أنفسنا، ف-- ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ ((1))».

ص: 184


1- سورة النحل: 128.

لم يرعوِ سليمان ولم يكتفِ بما قال الإمام المجتبى (علیه السلام) ، ولم يسلّم أمره لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولإمام زمانه (علیه السلام) ، فاندفع بهيجانه المعهود فيه، يحاول يائساً تحريك الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ..

قال ابن قُتيبة:

ثمّ خرج سليمان بن صُرد من عنده، فدخل على الحسين (علیه السلام) ، فعرض عليه ما عرض على الحسن (علیه السلام) ، وأخبره بما ردّ عليه الحسن (علیه السلام) .

فقال الحسين (علیه السلام) : «ليكن كلُّ رجُلٍ منكم حلساً من أحلاسبيته ما دام معاوية حيّاً» ((1)).

ونحن لا نريد الوقوف عند هذا النصّ وتحليله، لأنّه خارجٌ عن محلّ بحثنا، واكتفينا بالإشارة إليه معتمدين على حذق المتلقّي اللبيب.

وكان مبادراً لإعلان النصرة لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، فجمع الناس في بيته وخطبهم، وكان أوّلَ الكاتبين للإمام (علیه السلام) ، فلا يعقل أن ينكفئ بعد ذلك ويخذل الإمام (علیه السلام) ، فلابدّ أن يكون قد حبسه ابن زياد فمنعه ذلك عن النصرة، كما حدث مع المختار.. هكذا قد يُقال!!

بيد أنّ المختار الثقفيّ قد ورد اسمه في عداد المحبوسين في مصادر كثيرة، بل قد يُقال في جميع المصادر الّتي ذكرته، أمّا سليمان بن صُرد فلم

ص: 185


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 141 _ بتحقيق: الزينيّ، جمهرة خُطب العرب لصفوت: 2 / 15.

نجده في عداد المحبوسين في المصادر، رغم أنّه شخصيّةٌ معروفةٌ وله مواقفه تلك الأيّام قبل وقوع الواقعة!

وذكر الشيخ المامقانيّ أيضاً خبر حبسه، فقال:

إنّ ابن زيادٍ لمّا اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين (علیه السلام) ، حبس أربعة آلافٍ وخمسمئة رجُلٍ من التوّابين من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وأبطاله الّذين جاهدوا معه، منهم: سليمان بن صُرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر، و... وفيهم أبطالٌ وشجعان، ولم يكن لهم سبيلٌ إلى نصر الحسين (علیه السلام) ، لأنّهم كانوا مقيَّدينمغلولين، وكانوا يوماً يُطعَمون ويوماً لا يُطعَمون ((1)).

يبدو أنّ عبارة الشيخ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ تلوّح بالدفاع عن التوّابين الّذين خرجوا مع سليمان عموماً، إذ افترض أنّ جُلّهم _ بل ربّما يُقال: كلّهم _ كانوا محبوسين..

وهذه الشهادة لها قيمتها مِن مثل الشيخ المامقانيّ (رحمة الله) ، ولكنّنا لا نعرف مستنده فيها، ولم نقف على مصدرٍ غيره يذكرها إلى حين تسويد هذه الوريقات، وربّما وفّقنا الله إلى ذلك فيما بعد.

والّذي يظهر من ترتيب الأحداث في حركة التوّابين أنّهم بدؤوا بالتلاوم وإظهار الندم منذ عاد معسكر الظلال من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما قال

ص: 186


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 / 63.

البلاذريّ والطبريّ والنويريّ وغيرهم _ واللفظ للأوّل _ :

لمّا قُتل الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) ودخل عُبيد الله بن زيادٍ من معسكره بالنخيلة إلى الكوفة، تلاقَت الشيعةُ بالتلاوم والتندّم، ففزعوا إلى خمسة نفرٍ من رؤوس الشيعة، وهم: سُليمان ... ((1)).

فإن صدق هذا الخبر، فهم كانوا في الكوفة يومها أحراراً غير محبوسين!

ويشهد لذلك كلامهم الّذي أورده المؤرّخون عند توثيق حركتهموتسجيل أحداثها، فكان ممّا قاله المسيّب بن نجبة _ ورضيَ به الآخَرون، بما فيهم سليمان _ :

أمّا بعد، فإنّا قد ابتُلينا بطول العُمُر، فنرغب إلى ربّنا في أنْ لا يجعلنا ممّن يقول له غداً: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ ((2)).

وقد بلا الله أخبارنا، وقد كنّا مُغرَمين بتزكية أنفسنا ((3))، فوجدنا كاذبين في أمر ابنِ ابنةِ نبيّنا، وقد بلغَتْنا كتُبُه، وقد أتتنا رسُلُه، وسألَنا نصره عوداً وبدءاً وعلانيةً وسرّاً، فبخلنا عليه بأنفسنا، حتّى قُتِل إلى جانبنا، فلا نحن نصرناه بأيدينا، ولا خذّلنا عنه

ص: 187


1- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 366، تاريخ الطبريّ: 4 / 426، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 527.
2- سورة فاطر: 37.
3- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 427، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 159.

بألسنتنا، ولا قوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة من عشائرنا.

فما عذرنا عند ربّنا؟ لا عذر واللهِ، أو نقتل قاتليه والموالين عليه، فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن ((1)).

وإنّه لابدّ لكم من أميرٍ تفزعون إليه وترجعون إلى أمره، ورايةٍ تحفّون بها معه ((2)).

يُلاحَظ في هذا النصّ أنّ المسيّب لم يعتذر بالحبس، وإنّما أقرّبالخذلان، وأنّهم بخلوا عليه بأنفسهم، ولم ينصروه بيدٍ ولا لسان، ولم يمدّوه بمالٍ ولا بأعوان.

وكان المسيّب لسانَ حال المجتمعين يومها، ولم يعترض عليه منهم معترض، وإنّما أقرّوا ما قال واعترفوا بواقع الحال.

وقال سليمان بن صُرد بعد أن قلّدوه رئاستهم:

إنّي أخاف ألّا نكون أُخّرنا إلى هذا الدهر الّذي نكدَت فيه المعيشة وعظمَت فيه الرزيّة لما هو خيرٌ لنا، نمدّ أعناقنا إلى قدوم آل نبيّنا، ونعدهم نصرنا، ونحثّهم على المصير إلينا، فلمّا قدموا علينا ونينا

ص: 188


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 427، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 528.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 364، تاريخ الطبريّ: 4 / 427، الفتوح لابن أعثم: 6 / 204، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 159، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 528.

وعجزنا وداهنّا وتربّصنا، وانتظرنا ما يكون ((1))، حتّى قُتل وَلدُ نبيّنا وسلالته وبضعةٌ من لحمه، فاتّخذه الفاسقون غرضاً للنبل ودريّةً للرماح.

فلا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله عنكم، بأن تناجزوا مَن قتله وتبيروه.

ألا ولا تهابوا الموت، فوَاللهِ ما هابه أحدٌ قطّ إلّا ذلّ، وكونوا كتوّابي بني إسرائيل، إذ قال لهم نبيّهم: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمْ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بَارِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكمْ ذلِكُم خَيْرٌلَكُمْ عِنْدَ بَارِئكُمْ﴾ ((2))، فما فعل القوم؟ جثوا واللهِ للركب، ومدّوا الأعناق، ورضوا بالقضاء حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظم الذنب إلّا الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دُعيتم إلى مِثل ما دُعي القوم إليه؟ اشحذوا السيوف، وركّبوا الأسنّة، وأعدّوا لعدوّكم ما استطعتم من قوّة ((3)).

نجد في هذه الخطبة اعترافاً صريحاً أنّهم وعدوه نصرهم ودعوه ليقدم عليهم، ثمّ لمّا قدم عليهم ونوا وعجزوا وداهنوا وتربّصوا، حتّى قُتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبضعته، ولا نجد فيه إيّ اعتذارٍ بالحبس والاعتقال!

ص: 189


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 428.
2- سورة البقرة: 54.
3- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 366.

وقال رفاعة بن شدّاد:

دعوتَ إلى جهاد الفاسقين والتوبةَ من الذنب العظيم، فمسموعٌ ذلك عنك ومقبولٌ منك ... ((1)).

وقال رفاعة في رَجَزه:

يا ربِّ، إنّي تائبٌ إليكا

قد اتّكلتُ سيّدي عليكا

قِدماً أُرجّي الخيرَ من يديكا

فاجعل ثوابي أملي إليكا ((2))

وهنا يقرّ رفاعة بالذنب العظيم الّذي ينوي التوبة منه بقتال الفاسقين!وقد روى ابن أعثم في (الفتوح)، قال:

ونزل الحسين في موضعه ذلك [أي: كربلاء]، ونزل الحرّ بن يزيد حذاءه في ألف فارس.

ودعا الحسينُ بدواةٍ وبياض، وكتب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليّ، إلى سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين.

أمّا بعد ...».

ص: 190


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 364، ذوب النضّار لابن نما: 73.
2- ذوب النضّار لابن نما: 91.

ثمّ نقل الكتاب، إلى أن قال:

«وقد أتَتْني كتُبُكم وقَدِمَت علَيّ رسُلُكم ببيعتكم أنّكم لا تخذلوني، فإنْ وفيتُم لي ببيعتكم فقد استوفيتُم حقَّكم وحظَّكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم وأهلي ووُلدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم فيّ أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم وخلعتم بيعتكم، فلَعمري ما هي منكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي، هل المغرورُ إلّا مَن اغترّ بكم؟ فإنّما حقَّكم أخطأتم ونصيبَكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم، والسلام».

قال: ثمّ طوى الكتاب وختمه، ودفعه إلى قيس بن مسهرالصيداويّ، وأمره أن يسير إلى الكوفة ((1)).

وقد أورد الطبريّ وابن الأثير هذا النصّ كخطبةٍ خطبها الإمام (علیه السلام) في أصحاب الحرّ في البيضة ((2)).

بناءً على رواية ابن أعثم، وأنّ الكتاب كان موجَّهاً لهؤلاء بأسمائهم، وهم رؤوس التوّابين، يمكن الإفادة منه أنّهم كانوا يومها في الكوفة أحراراً، وأنّ خبر خذلانهم وتقاعسهم وتثاقلهم قد بلغ الإمام (علیه السلام) ، فخاطبهم بمثل هذا الخطاب!

ص: 191


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 81.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 304، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 48.

* * * * *

نكتفي هنا بهذا القدر حتّى يحين وقت دراسة حركة التوّابين بحول الله وقوته _ إن بقي في العمر بقيّة _، فلعلّنا نحصل على معلوماتٍ كافيةٍ تؤكّد عذرهم أو حبسهم، أو نقف على تقريرٍ من الإمام المعصوم (علیه السلام) لمواقفهم.

الاسم الثاني: المسيّب بن نجبة الفزاريّ

المسيّب بن نجبة الفزاريّ، ورد اسمه في الكتاب الأوّل الصادر من الاجتماع في بيت سليمان ((1)).

ص: 192


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 62، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، الجوهرة للبرّيّ: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 136، معالى السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 228، اللهوف لابن طاووس: 33، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

وورد اسمه في تاريخ ابن خلدون: المسيّب بن محمّد ((1)).

وهو: المسيّب بن نجبة بن ربيعة بن رياح بن عوف بن هلال بن شمخ ابن فزارة، شهد القادسيّة، وشهد مع عليّ بن أبي طالبٍ مشاهده، وقُتل يوم عين الورد مع التوّابين الّذين خرجوا وتابوا مِن خذلان الحسين (علیه السلام) ، فبعث الحُصين بن نمير برأس المسيّب بن نجبة مع أدهم بن محرز الباهليّ إلى عُبيد الله بن زياد ((2)).

أخرج له كبار أئمّة أهل العامّة في مجاميعهم الحديثيّة أخباراً، وفيها أخبارٌ منكَرةٌ لا يصدّقها مَن له أدنى مسكةٍ من عقل، ينسب فيها كلاماً إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) يحمل فيه على الإمام الحسن (علیه السلام) وعبد الله بن جعفر ويصفهم بصفاتٍ مقذعة ((3))، ويروي عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) خبراً في مدح أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنّهم رفقاء نجباء للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ((4)).. ولمّا كان فيما رواه كذباً مفترعاً وفيه من الإساءة والتجنّي ما لا يُطاق، أعرضنا عن ذِكره هنا.

وروى الهنديّ في (كنز العمّال) وغيره عن المسيّب بن نجبة قال:

ص: 193


1- تاريخ ابن خلدون: 3 / 21.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 216.
3- كنز العمّال للهنديّ: 3 / 790 الرقم 8771، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 178، و27 / 262.
4- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 10 / 452.

كان عليٌّ آخِذاً بيدِي يوم صفّين، فوقف على قتلى أصحاب معاوية، فقال: يرحمكم الله! ثمّ مال إلى قتلى أصحابه، فترحّم عليهم بمثل ما ترحّم على أصحاب معاوية.فقلت: يا أمير المؤمنين، استحللتَ دماءهم ثمّ تترحّم عليهم؟! قال: إنّ الله (تعالى) جعل قتلنا إيّاهم كفارةً لذنوبهم ((1)).

وهذا الكلام إنْ صحّ عنه، فهو يعكس ما فيه من تخبُّطٍ وعدم وضوحٍ في الرؤية، وخلطٍ بين الحقّ والباطل، والعشوةِ والحَوَلِ الّذي ابتُلي به، ثمّ نسبه إلى الإمام الفاروق الأعظم وميزان الحقّ الّذي يدور معه الحقّ حيثما دار.

وروى اليعقوبيّ في خبرٍ طويلٍ، خلاصته:

وبعث معاوية عبد الله بن مسعدة بن حُذيفة بن بدر الفزاريّ في جريدة خيل، وأمره أن يقصد المدينة ومكّة، فسار في ألفٍ وسبعمئة.

فلمّا أتى عليّاً (علیه السلام) الخبر، وجّه المسيّب بن نجبة الفزاريّ ... فلحقهم المسيّب، فقاتلهم حتّى أمكنه أخذ ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصّن بتيماء، وأحاط المسيّب بالحصن، فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثاً، فناداه: يا مسيّب! إنّما نحن قومك، فلْيمسّك الرحم. فخلّى لابن مسعدة وأصحابه الطريق، ونجا من الحصن.

ص: 194


1- كنز العمّال للهنديّ: 11 / 351 الرقم 31715.

فلمّا جنّهم الليل، خرجوا من تحت ليلتهم حتّى لحقوا بالشأم، وصبّح المسيّب الحصن فلم يجد أحداً، فقال عبد الرحمان بن شبيب: داهنتَ واللهِ يا مسيّب في أمرهم، وغششتَ أميرالمؤمنين.

وقَدِم على أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ، فقال له عليّ (علیه السلام) : «يا مسيّب، كنتَ من نصّاحي، ثمّ فعلتَ ما فعلت!». فحبسه أيّاماً، ثمّ أطلقه ... ((1)).

وفي (تاريخ الطبريّ):

وحمل المسيّب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات، كلّ ذلك لا يلتمس قتله، ويقول له: النجاء، النجاء.

فدخل ابن مسعدة وعامّةُ مَن معه الحصن، وهرب الباقون نحو الشأم، وانتهب الأعراب إبل الصدقة الّتي كانت مع ابن مسعدة ((2)).

ثمّ عمل حيلةً فأعان على فرار ابن مسعدة ومَن معه إلى الشام.

كيف كان، فإنّهم عدّوه في الشيعة، وقد ذكرنا كثيراً أنّ تقويم الرجال بخواتيم أعمالهم، ولا تهمّنا السوابق بعد أن حدّد موقفه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) !

وقد مرّت الإشارة إليه وسمعنا كلامه قبل قليل، (واشتغاله بتزكية

ص: 195


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 196.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 103.

النفس)! عن نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فلا نعيد.

وهو من رجال التوّابين، ورؤوسهم ورؤسائهم، وقد قال عبد الملك بنمروان حين بلغه خبر قتله في خطبةٍ له:

ألا وإنّ السيوف تركَت رأس المسيّب بن نجبة خذاريف ((1)).

وقد نصبوا رأسه بدمشق ((2)).

الاسم الثالث: رفاعة بن شدّاد البَجَليّ

ورد اسمه في كتاب سليمان بن صُرد ((3)).

وهو: رفاعة بن شدّاد بن عبد الله بن قيس بن جعال بن بداء بن فتيان بن ثعلبة بن زيد بن الغوث بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث

ص: 196


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 7 / 466.
2- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 216.
3- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، الكامل لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، اللهوف لابن طاووس: 33، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

ابن بنت مالك الفتيانيّ البجليّ، أبو عاصم، الكوفيّ، وفتيان بطنٌ من بجيلة من اليمن ((1)).

لمّا طلب زياد أصحاب حِجْر بن عَديّ، هرب عمرو بن الحمق بن الكاهن الخزاعيّ ورفاعة بن شدّاد البجليّ إلى المدائن، ثمّ مضيا إلى الأنبار، ثمّ إلى الموصل، فصارا إلى جبلٍ من جبالها ممّا يلي الجزيرة فكمنا فيه، وبلغ عامل الرستاق أنّ رجُلَين كامنان في الجبل، فأنكر شأنهما واستراب بهما، وكان العامل رجُلاً من همدان يُقال له: عبد الله بن أبي تلعة، فصار إليهما ومعه أهل البلد، فلمّا انتهى إلى موضعهما خرجا اليه، فأمّا عمرو بن الحمق فكان مريضاً قد سقى بطنه فلم يكن عنده امتناع، فأُخذ، وأمّا رفاعةبن شدّاد البجليّ فكان شابّاً قويّاً، فوثب على فرسٍ له جواد، وحمل على القوم، فأفرجوا له فخرج، وخرجَت الخيل في طلبه، وكان رامياً، فجعل يرمي مَن لحقه فيجرحه، حتّى نجا بنفسه وأمسكوا عن طلبه ((2)).

وقد أفلت من مجزرة التوّابين بمَن تبقّى منهم ((3))، فانحاز بهم، وخرج

ص: 197


1- أُنظر: تهذيب الكمال للمزّيّ: 9 / 204، مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان: 172، الثقات لابن حبّان: 4 / 240، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 3 / 493، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 3 / 243، بُغية الطلب لابن العديم: 8 / 3672.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 272، تاريخ الطبريّ: 4 / 197، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 477، بُغية الطلب لابن العديم: 8 / 3673.
3- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 371، تاريخ الطبريّ: 4 / 470، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 95، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 129، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 185، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 48، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 280.

مع المختار فقُتِل.

الاسم الرابع: حبيب بن مظهّر، وبعضهم يقول: مطهّر

ورد اسم المولى حبيب بن مظاهر في المصادر ضمن الأسماء الّتي تصدّرَت الكتاب إلى سيّد الشهداء ((1)).

وهو صاحب ميسرة الإمام الحسين (علیه السلام) في طفّ كربلاء، وسيأتي الحديث عنه مفصَّلاً في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ حبيب الحبيب لم يرد اسمُه في المجتمعين في دار سليمان بن صُرد، كغيره من أنصار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) الأبرار

ص: 198


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، اللهوف لابن طاووس: 33، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

الأوفياء، ولو كان لَما خفي على الراوي والمؤرّخ، وهو علَمٌ ورايةٌ عاليةٌ سامقةٌ من رايات الشيعة.وقد ورد اسمه في صدر الكتاب، كما صرّحَت به بعض المصادر..

فإمّا أن يكون قد حضر الاجتماع، ولم يكن له موقفٌ خاصٌّ يدعو المؤرّخ لتسجيله، وربّما كان هذا الاحتمال بعيداً.

وإمّا أن يكون القوم قد كتبوا وعرضوا ما كتبوا عليه، فرضي به، فسجّلوا اسمَه ضمن الكاتبين.

وكيف كان، فإنّه إنْ كان كتب فإنّه قد وفى وثبت، وكان له موقفٌ مشهودٌ يوم الحسين (علیه السلام) ، فهنيئاً له، وحشرنا الله معه.

الاسم الخامس: عبد الله بن وال

عبد الله بن وال التَّيميّ، من تيم بن بكر بن وائل ((1)).

عدّه ابن أعثم وتبعه الخوارزميّ في المكاتِبين ((2))، والحال أنّ باقي المؤرّخين ذكروه كرسولٍ حمل الكتب ((3)) إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فربّما جعله

ص: 199


1- إبصار العَين للسماويّ: 38.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، اللهوف لابن طاووس: 33.
3- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 37، روضة الواعظين للفتّال: 147، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 241.

ابن أعثم في المكاتِبين باعتباره حامِلاً للكتاب وموافقاً لما جاء فيه.

قالوا: إنّه كان من فقهاء أهل العراق الّذين كانوا يُكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس ((1)).

حمل كتاباً إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ اختفى ذِكره وخفَتَ ضوؤه،حتّى برز في مقدّمة صفوف التوّابين.

وكان له موقفٌ محمودٌ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2))، وكان من رؤوس التوّابين، فلمّا «تقدّم عبد الله بن وال، فأخذ الراية، وقاتل حتّى قُطعَت يدُه اليسرى، ثمّ استند إلى أصحابه ويده تشخب دماً، ثمّ كرّ عليهم وهو يقول:

نفسي فداكم، اذكروا الميثاقا

وصابروهم، واحذروا النفاقا

لا كوفةً نبغي ولا عراقا

لا، بل نريد الموت والعتاقا

وقاتل حتّى قُتِل» ((3)).

ص: 200


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 468.
2- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 132.
3- ذوب النضّار لابن نما: 90، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 362.
الاسم السادس: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ

شبث بن ربعيّ ((1))، يُكنّى: أبا عبد القدوس ((2))، ابن حُصين بن عثيم ابن ربيعة بن زيد بن رياح بن يربوع بن حنظلة، من بني تميم ((3)).

كان مؤذّناً سجّاحاً، ثمّ رجع بعد ذلك ((4)).

ص: 201


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 62، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- أُنظر: تاريخ ابن معين: 1 / 231، إكمال الكمال لابن ماكولا: 5 / 92.
3- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 216، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 162، تهذيب الكمال للمزّيّ: 12 / 351، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 4 / 266، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 416، تاريخ ابن خلدون: 2 / 318.
4- أُنظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 4 / 266، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 162، المعارف لابن قُتيبة: 405، فتوح البلدان للبلاذريّ: 1 / 119، تاريخ الطبريّ: 2 / 499، التذكرة الحمدونيّة: 7 / 349، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 16 / 26، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2 / 356، البداية والنهاية لابن كثير: 5 / 62، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 14 / 242.

وكان (لعنه الله) ممّن يتجاهر بسبّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ..روى أبو إسحاق التميميّ، قال: سمعتُ أبا عبد الله الجدليّ يقول:

حججتُ وأنا غلام، فمررتُ بالمدينة، وإذا الناس عنقٌ واحد، فاتّبعتُهم، فدخلوا على أُمّ سلَمة زوج النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فسمعتُها تقول: يا شبث [شبيب] بن ربعيّ! فأجابها رجُلٌ جلفٌ جاف: لبّيكِ يا أُمّتاه. قالت: يُسبّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ناديكم؟! قال: وأنّى ذلك؟ قالت: فعليّ بن أبي طالب؟ قال: إنّا لَنقول أشياء نريد عرض الدنيا! قالت: فإنّي سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «مَن سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله (تعالى)» ((1)).

تخلّف مع جماعةٍ عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في النهروان ليثبّط الناس عنه، فأخبرهم أميرُ المؤمنين (علیه السلام) بما يزمعون وما سيفعلون في سفرتهم تلك، وأنّهم سيقتلون ولده الحسين (علیه السلام) ، فكان كما قال..

مضى [أمير المؤمنين (علیه السلام) ] إلى المدائن، وخرج القوم إلى الخورنق، وهيّؤوا طعاماً، فبينا هم كذلك على سفرتهم وقد بسطوها إذ مرّ بهم ضبّ، فأمروا صبيانهم فأخذوه وأوثقوه، ومسحوا أيديهم على يده

ص: 202


1- أُنظر: المستدرك للحاكم: 3 / 121، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 42 / 533، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 1 / 167، جزء الحِميَريّ: 28.

كما أخبر عليّ (علیه السلام) ، وأقبلوا على المدائن.

فقال لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) : «﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ ((1))، لَيبعثكم الله يوم القيامة مع إمامكم الضبّ الّذي بايعتم، لَكأنّي أنظر إليكم يوم القيامة وهو يسوقكم إلى النار».

ثمّ قال: «لَئن كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) منافقون، فإنّ معي منافقين، أما واللهِ يا شبث ويا ابن حريث لَتقاتلان ابني الحسين، هكذا أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) » ((2)).

خرج على أمير المؤمنين (علیه السلام) بحروراء مع الخوارج ((3))، وكان يقول: أنا أوّل من حرّر الحروريّة ((4)). وكان أميرَ القتال يوم الخوارج ((5)).

ص: 203


1- سورة الكهف: 50.
2- أُنظر: الخرائج للراونديّ: 1 / 225، إرشاد القلوب للديلميّ: 2 / 275، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 2 / 190.
3- أُنظر: مستدرك سفينة البحار للنمازيّ: 5 / 335، بحار الأنوار للمجلسيّ: 52 / 248.
4- أُنظر: التاريخ الكبير للبخاريّ: 4 / 367، تاريخ خليفة بن خيّاط: 144، معرفة الثقات للعجليّ: 1 / 448، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 4 / 266، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 3 / 554.
5- أُنظر: مستدرك سفينة البحار للنمازيّ: 5 / 335، بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 388، 384، المعيار والموازنة للإسكافيّ: 194، تاريخ خليفة بن خيّاط: 144، الثقات لابن حبّان: 2 / 295، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 1 / 555، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 124، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 326، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 3 / 554.

كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((1)).

وكان معاوية دسّ إليه في جماعةٍ آخَرين: إنْ قتلتَ الحسن بن عليّ، فلك مئتا ألف درهم وجُندٌ من جنود الشام وبنتٌ من بناتي. فبلغ الحسن (علیه السلام) ، فاستلام ولبس درعاً وكفرها، وكان يتحرّز ولا يتقدّم للصلاةبهم إلّا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهمٍ فلم يثبت فيه، فلمّا صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجرٍ مسمومٍ فعمل فيه الخنجر ((2)).

وكان ممّن حمل حِجراً وأصحابه إلى معاوية في السلاسل على جمالٍ صعاباً، اكتراها لهم زياد ابن أبيه ((3)).

وكان هو وحجّار وشمر فيمن خذّل أهل الكوفة عن نصرة مسلم بن عقيل، وردّهم عن اللحوق به ((4)).

ص: 204


1- أُنظر: الأغاني لأبي الفرَج: 17 / 98، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 254.
2- أُنظر: مستدرك سفينة البحار للنمازيّ: 5 / 335، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 33.
3- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 256.
4- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 349، مستدرك البحار للنمازيّ: 5 / 336.

وخرج إلى قتال الإمام الحسين (علیه السلام) على ألف فارس ((1)).

وكان على رجّالة عمر بن سعد في كربلاء ((2)).

وكان ممّن احتجّ عليهم الإمام الحسين (علیه السلام) بكتبهم في كربلاء، وناداهم بالاسم، واستشهدهم على ما كتبوا ((3))، فأنكروا وقالوا: لم نفعل ((4)).

وكان ممّن حرّض على المختار، فقدم على بغلةٍ قد قُطع ذنَبُها وطرفَي أُذنيها وشقّ قباءه، ووقف ينادي: وا غوثاه، وا غوثاه! فدخل على المصعب فأخبره بما لقي الناس من المختار ((5))، وحرّضه عليه.

وخرج على ثلاثة آلافٍ لقتال المختار وقاتله ((6)).

وولي شرطة القباع بالكوفة أيّام ابن الزبير ((7)).

ص: 205


1- الأمالي للصدوق: 219 المجلس 30، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 178.
2- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 95، مثير الأحزان لابن نما: 39، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 256، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 187، تاريخ الطبريّ: 4 / 321.
3- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 98، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628.
4- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 188، تاريخ الطبريّ: 4 / 323، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 339، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 62.
5- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 427، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 58.
6- أُنظر: ذوب النضّار لابن نما: 105، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 301، تاريخ الطبريّ: 4 / 499، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 6 / 54، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 293.
7- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 7 / 9، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 4 / 267.

وكان مسجده من المساجد الأربعة الّتي جُدّدت بالكوفة فرحاً لقتل الحسين (علیه السلام) .

رُوي عن أبي جعفرٍ (علیه السلام) قال: «جُدّدَت أربعةُ مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين (علیه السلام) : مسجد الأشعث، ومسجد جرير، ومسجد سماك، ومسجد شبث بن ربعيّ» ((1)).

الاسم السابع: محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا]

الاسم السابع: محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا] ((2))

محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب، واسمه: زيد بن زرارة بن عدس ابن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم، أبو عمير، ويُقال: أبو عمر الدارميّ التميميّ الكوفيّ ((3)).

وفي (الإرشاد) للشيخ المفيد ومن تبعه: محمّد بن عمرو

ص: 206


1- الكافي للكلينيّ: 3 / 490 ح 2، التهذيب للطوسيّ: 3 / 250 ح 7.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 41، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 55 / 38، الإصابة لابن حجَر: 6 / 271، أُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 328، لسان الميزان لابن حجَر: 5 / 330، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 194.

التميميّ ((1)). فهو إن لم يكن تصحيفاً يلزم أن يكون واحداً آخَر.

كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).بعد وفاة يزيد بن معاوية انتفض أهل الريّ، فوجّه عامر بن مسعود عامل الكوفة محمّد بن عمير بن عطارد، فهزموه ((3)).

وكان له مع الحَجّاج وغيره من أُمرائها أخبار ((4)).

قدم على عبد الملك بن مروان، فأنزله على نفسه، وكان من سمّاره وحدّاثه ((5))، وله أبياتٌ يمدحه بها، وله معه قصص.

ص: 207


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- أُنظر: الأغاني لأبي الفرَج: 17 / 98، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 254.
3- تاريخ خليفة بن خيّاط: 200، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 55 / 40، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 144، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 38، تاريخ ابن خلدون: 3 / 136، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 516.
4- الإصابة لابن حجَر: 6 / 272.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 55 / 41.

وكان صاحب ربع تميم وهمدان حتّى مات ((1)).

وكان على أذربيجان ((2)) في أيّام ابن الزبير ((3)).

الاسم الثامن: حجّار بن أبجر العجليّ

ورد اسم حجّار في الكتاب الّذي كتبه شبث بن ربعيّ وجماعته ((4)).

وهو: حجّار بن أبجر بن جابر بن بجير بن عائذ بن شريط بن عمرو بن مالك بن ربيعة، من عجل ((5))، ابن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن

ص: 208


1- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 23.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 23، أُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 328، تاريخ الطبريّ: 4 / 509، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 6 / 55، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 227، نهاية الأرب للنويريّ: 21 / 22.
3- ربيع الأبرار للزمخشريّ: 4 / 367.
4- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21.
5- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 231، الإصابة لابن حجَر: 2 / 143.

وائل، أبو أسيد، البكريّ العجليّ الكوفيّ ((1)).

كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليهالجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).

وكان ممّن احتجّ عليهم الإمام الحسين (علیه السلام) بكتبهم في كربلاء، وناداهم بالاسم، واستشهدهم على ما كتبوا ((3))، فأنكروا وقالوا: لم نفعل ((4)) (لعنهم الله).

كان ممّن بعثهم ابن زيادٍ للتخذيل عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ((5)).

خرج على ألف فارسٍ لحرب الإمام الحسين (علیه السلام) ((6)).

كان من رؤوس جُند الشيطان وآل أبي سفيان في كربلاء ((7)).

ص: 209


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 12 / 205.
2- أُنظر: الأغاني لأبي الفرج: 17 / 98.
3- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 98، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628.
4- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 188، تاريخ الطبريّ: 4 / 323، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 339، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 62.
5- بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 349.
6- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 178.
7- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 7.

ثمّ صار من رؤساء جند عبد الله بن مطيع لقتال المختار ((1)).

خذل مصعب بن الزبير لعِدَةٍ وعده إيّاها عبد الملك، وعده ولاية أصبهان ((2)).

الاسم التاسع: يزيد بن رُوَيم الشيبانيّ

ورد اسمه في كتاب شبث بن ربعيّ ((3)).

أسلم يزيد بن رُوَيم على يدَي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فوهب له جارية، فولدَت له حوشباً، وكان على شرطة الإمام عليّ ((4)).

ص: 210


1- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 368، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 391، تاريخ الطبريّ: 4 / 499، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 219.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 7 / 98، تاريخ الطبريّ: 5 / 6، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 235.
3- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، الكامل لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفتوح لابن أعثم: 5 / 50، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 195، مثير الأحزان لابن نما: 11، اللهوف لابن طاووس: 36.
4- التعديل والتجريح لابن أيّوب الباجي: 3 / 1168.

روى إخبار أمير المؤمنين (علیه السلام) في قضيّة الخوارج، قال:

كنتُ عامِلاً لعليّ بن أبي طالب (علیه السلام) على باروسما ونهر الملك، فأتاه مَن أخبره أنّ الخوارج الّذين قتلوا عبد الله بن الخَبّاب قد عبروا النهروان، فقال له عليّ (علیه السلام) : «لم يعبُروا، ولن يَعبُروا، وإن عَبَروا لم ينجُ منهم عشرةٌ ولن يُقتَل منكم عشرة».

قال: ثمّ جاء القوم، فبرز إليهم، فقال: «يا يزيد بن رُوَيم، اقطعْ أربعة آلاف خَشَبةٍ أو قَصبة». قال: فقطع له، ثمّ أوقفهم، قال: فقاتلهم، فلمّا فرغ من قتالهم، قال لي: «يا يزيد، اطرحْ على كلّ قتيلٍ خَشَبةً أو قصَبة».

قال: فركب بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأُناسٌ بين يديه، ونحن على ظَهر نهر، لا يَمُرُّ بقتيلٍ إلّا طرحتُ عليه خشبةً أو قصبة، قال: حتّى بقيَتْ في يدي واحدة، قال: فنظرتُ إليه، فإذا وجهه اربد وهو يقول: «واللهِ ما كَذبتُ ولا كُذبت».

قال: فبينا أنا أمُرُّ بين يدَيه، إذا خَريرُ ماءٍ عند موضع دالِية، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، هذا خرير ماء! قال: فقال لي: «فَتِّشْهُ»، ففتّشتُه، فإذا رِجْلٌ قد صارت في يدي، فقلت: هذه رجْلٌ! فنزل إليّ، فأخذنا الرِّجل الأُخرى، وجرّها وجَررتُ، فإذا رجُل، قال: فقال لي: «مدّ يده»، فمددتُها فاستوت، قال: ثمّ قال: «خَلِّها»، فخلّيتُها،

ص: 211

فإذا هي كأنّها الثدي في صدره ... ((1)).

كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).

ولّاه عبد الملك على الريّ ((3)).

كان على المدائن من قِبل مصعب بن الزبير ((4)).

قيل: إنّه سعى بعمرو بن الحمق عند زياد ابن أبيه، فأشاط بدمه ((5)).

قال أبو عبيدة: خرج (سليك) ليغير على بني شيبان، فمرّ ببيتٍ فيه شيخٌ وامرأته، فقال لأصحابه: دعوني حتّى أدخل البيت فآتيكم بطعام. فأراح ابن الشيخ إبله، فقال: ألا حبستَها قليلاً آخَر. فقال: إنّها أبت العشاء. فقال: إنّ العاشية تهيج الآيبة. وضربه السليك فأطار قحف رأسه،

ص: 212


1- المناقب لابن المغازليّ: 79 الرقم 87، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2 / 276.
2- أُنظر: الأغاني لأبي الفرج: 17 / 98، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 254.
3- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 12، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 6 / 112، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 331.
4- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 6 / 310، مستدركات أعيان الشيعة: 2 / 170.
5- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 462.

واطرد الإبل، وكان الشيخ يزيد بن رُويم الشيبانيّ ((1)).

وقال الشيخ النمازيّ في (المستدركات):

يزيد بن رُوَيم الشيبانيّ: لم يذكروه.هو من أُمراء جُند أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم صفّين ((2))، وهذا يدلّ على حُسنه وكماله!!! ((3))

يبدو أنّ حضور الرجل بصفّين في صفّ أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يدلّ بوضوحٍ على حُسن الحال والكمال، فما أكثر مَن حضر في صفّه من أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) ، من أمثال شبث بن ربعيّ وغيره.. كان الناس يومها جندٌ وعسكرٌ تابعٌ للخلافة، وللاعتبارات القبَليّة والمصالح والمنافع الشخصيّة وغيرها، تماماً كما كانوا يتبعون الملِك الأوّل والثاني!

وإذا كان الاعتبار بالخاتمة، فلا ندري كيف يكون مَن كاتب الإمام غريب الغرباء الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ثمّ نكص على عقبَيه وخذله يُصنَّف في صفوف أهل الكمال وحُسن الحال؟!

أجل، يمكن أن يكون كذلك إذا ثبت له عذرٌ يسوّغ له تخلُّفه عن الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ونحن لم نقف على شيءٍ من ذلك، بل الشواهد

ص: 213


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 351، مجمع الأمثال للميدانيّ: 1 / 471.
2- كتاب صفّين: 205.
3- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 8 / 253.

على خلافه، والله العالم.

هذا وقد ذكر ابن الصبّاغ اسم (يزيد بن دؤب) ((1)).. لا نعرفه، ولم نقف على مَن يذكره.

الاسم العاشر: يزيد بن الحارث بن يزيد بن رُوَيم

ورد اسمه في كتاب شبث بن ربعيّ ((2)).

وجّه ابن زيادٍ يزيدَ بن الحرث (الحارث) ((3)) بن يزيد بن رُوَيم في ألفٍ ((4)) لقتال سيّد الشهداء (علیه السلام) .

سعى بالمختار _ هو وعمر بن سعد وشبث بن ربعيّ _ عند عبد الله بن يزيد الخطميّ عاملِ ابن الزبير على الكوفة، وقال: إنّ المختار بن أبي عُبيد أشدُّ عليكم من ابن صُرَد ((5)).

ص: 214


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 353، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفتوح لابن أعثم: 5 / 50، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 195، مثير الأحزان لابن نما: 11، اللهوف لابن طاووس: 36.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
4- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 179.
5- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 373، تاريخ الطبريّ: 4 / 434.

كان ممّن قاتل المختار ((1)).

ولّاه عبد الملك على الريّ ((2)).

ولّاه مصعب على الريّ ((3)).

قال الحَمَويّ:

كان عبد الملك بن مروان ولّى الريّ يزيدَ بن الحارث بن يزيد بن رؤيم أبا حوشب، وقيل: ولّاه مصعب بن الزبير، فورد الريّ أيّامه الزبير بن الماخور الخارجيّ، بمواطأةٍ من الفرخان ملك الريّ وإمداده بالمال والرجال، فواقعوا يزيد بن الحارث بقرية فيروزرام، فقتلوه وثلاثمئة رجُلٍ من أشراف الكوفة، وقُتلَت معهامرأته أُمّ حوشب ((4)).

وذكر سبط ابن الجَوزيّ: (زيد بن حارث) ((5)).. ربّما كان تصحيفاً.

الاسم الحادي عشر: عزرة بن قيس الأحمسيّ

ورد اسم عزرة بن قيس الأحمسيّ في كتاب شبث وجماعته ((6))، وذكره

ص: 215


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 392 و398.
2- أُنظر: معجم البلدان للحَمَويّ: 4 / 283.
3- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 7 / 168.
4- معجم البلدان للحَمَويّ: 4 / 283.
5- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.
6- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351.

بعضهم باسم: عروة بن قيس ((1)).

وهو: عزرة بن قيس البجَليّ، من أحمس، من بني دهن من أنفسهم.

روى عن خالد بن الوليد، وكان معه في مغازيه بالشام ((2)).

ونسبه ابن عساكر وغيره، فقال:

عزرة بن قيس بن غزيّة، الأحمسيّ البجَليّ الدُّهنيّ الكوفيّ.

شهد خطبة خالد بن الوليد حين جاءه عزل عمر إيّاه.

روى عنه أبو وائل.

وولي عزرة حلوان في خلافة عمر، وغزا شهرزور منها فلم يفتحها، حتّى افتتحَها عتبة بن فرقد ((3)).

ص: 216


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256، مثير الأحزان لابن نما: 16.
2- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 212.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 40 / 310، الإصابة لابن حجَر: 5 / 97، فتوح البلدان للبلاذريّ: 2 / 370 و410، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 38.

خلّفه جرير بجلولاء في ألفَي رجُلٍ من العرب يوم مدينة تستر ((1)).

كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).

عقد له ابن زيادٍ رايةً على أربعة آلاف، وأرسله لقتال ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((3)).

كان على خيل عمر بن سعد في كربلاء ((4)).

كان يحاصر مخيّم الحسين (علیه السلام) ، ويحرسه بالليل في الخيل تدور من ورائهم ((5)).

أرسله عمر بن سعد للقاء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فاعتذر وامتنع ((6)).

ص: 217


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 130، الفتوح لابن أعثم: 2 / 175.
2- أُنظر: الأغاني لأبي الفرَج: 17 / 98، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 255.
3- أُنظر: ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 66 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
4- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 95، مثير الأحزان لابن نما: 39، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 256، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 187، تاريخ الطبريّ: 4 / 320، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 60، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 193، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 458، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 438.
5- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 320، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 192.
6- أُنظر: روضة الواعظين للفتّال: 181، الإرشاد للمفيد: 2 / 84، تاريخ الطبريّ: 4 / 310، الفتوح لابن أعثم: 5 / 86، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 451، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 426.

كان له موقفٌ رديءٌ حين خرج العبّاسُ (علیه السلام) بأمر سيّد الشهداء (علیه السلام) يكلّم القوم ويستمهل عصر تاسوعاء، وكان معه رجالٌ من أنصار الحسين (علیه السلام) ..

فلمّا كلّمهم العبّاس وانصرف راجعاً يركض إلى الحسين يُخبره الخبر، وقف أصحابه يخاطبون القوم.

فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القَين: كلِّمِ القومَ إنْ شئت، وإنشئتَ كلّمتُهم. فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكُن أنت تكلّمهم.

فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما واللهِ لَبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه، قد قتلوا ذرّيّة نبيّه (علیه السلام) وعترتَه وأهلَ بيته (صلی الله علیه و آله) ، وعبّادَ أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً.

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لَتزكّى نفسك ما استطعت. فقال له زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها، فاتقِّ الله يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلّال على قتل النفوس الزكيّة.

قال: يا زهير، ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت عثمانيّاً!!! قال: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم؟! ((1))

ص: 218


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 316، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 184، الفتوح لابن أعثم: 5 / 98.

سيأتي شرح الموقف في محلّه إن شاء الله (تعالى)، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ عزرة بن قيس هذا الخبيث الوسخ كان أوّلَ مَن اتّهم صاحب ميمنة الحسين (علیه السلام) الطيّب الطاهر زهير بن القَين بأقذع تهمة، وافترى عليه أسوء افتراءٍ حين رماه بالعثمانيّة على ما كان هو يتصوّر ويخال، وقد ردّ عليه زهير ردّاً قاصفاً، وفنّد خيالاته وكذّب مزاعمه، وقد أتينا على تفصيل ذلك في كتاب (زُهير بن القَين علويٌّ خرج يتلقّى الحسين (علیه السلام)).* * * * *

طلب المدد من ابن سعدٍ بعد أن أخذَته وخيلَه ورجالَه سيوفُ الحسين (علیه السلام) ..

قال الشيخ المفيد (رحمة الله) والطبريّ وغيرهما:

فلمّا رأى ذلك عروةُ بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة، بعث إلى عمر بن سعد: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعثْ إليهم الرجال والرماة. فبعث عليهم بالرماة ((1)).

كان فيمن حمل الرؤوس المقدّسة من كربلاء إلى ابن زياد..

قال الطبريّ وغيره:

وقطف رؤوس الباقين، فسرّح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي

ص: 219


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 104، تاريخ الطبريّ: 4 / 332، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 68، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 463، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 449.

الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتّى قدموا بها على عُبيد الله بن زياد ((1)).

الاسم الثاني عشر: عمرو بن الحَجّاج الزبيديّ

كان ممّن كاتب سيّد الشهداء (علیه السلام) من أهل الكوفة ((2)).

وهو: عمرو بن الحَجّاج بن سلَمة بن عبد يغوث الزبيديّ ((3)).كانت روعة أُخت عمرو بن الحجّاج تحت هاني بن عروة، وهي أُمّ يحيى بن هانئ ((4)).

ص: 220


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 439، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 81، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 464، الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
2- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
3- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 38.
4- تاريخ الطبريّ: 4 / 272.

وفي (اللهوف) لابن طاووس: وكانت رويحة بنت عمرو هذا تحت هاني ابن عروة ((1)).

كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).

أرسله ابن زيادٍ مع محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة للإتيان بهاني ابن عروة إليه ((3)).

خرج بمِذحَج حين بلغه أنّ هانياً قد قُتِل..

فأقبل في مِذحَج حتّى أحاط بالقصر ومعه جمعٌ عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحَجّاج، وهذه فرسان مِذحَج ووجوهها، لم تخلع طاعةً ولم تفارق جماعة، وقد بلغَهم أنّ صاحبَهم قد قُتِل. فأعظموا ذلك.

فلمّا خرج إليهم شُريح وأخبرهم أنّه لم يُقتَل، أمر عمرو أصحابه وقال:

ص: 221


1- اللهوف لابن طاووس: 33.
2- أُنظر: الأغاني لأبي الفرَج: 17 / 98، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 255.تاريخ الطبريّ: 4 / 201.
3- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 47، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 243، مثير الأحزان لابن نما: 21، تاريخ الطبريّ: 4 / 259، 272، الفتوح لابن أعثم: 5 / 44، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 440.

أما إذ كان صاحبكم حيّاً، فما يعجّلكم الفتنة؟ انصرفوا. فانصرَفوا ((1)).

وقد أتينا على تفصيل هذا الموقف في مجموعة (المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام))، وسيأتي الكلام مفصَّلاً في باقي مواقفه المخزية، كلٌّ في محلّه.

أخرجه ابن زيادٍ لحرب الإمام الحسين (علیه السلام) ((2)).

فلمّا كان التاسع من المحرّم، دعاهم عمر بن سعدٍ إلى المحاربة، فأرسل الحسينُ (علیه السلام) العبّاسَ يلتمس منهم التأخير تلك الليلة، فقال عمر لشمر: ما تقول؟ قال: أما أنا لو كنتُ الأمير لم أُنظِره.

فقال عمرو بن الحَجّاج بن سلَمة بن عبد يغوث الزبيديّ: سبحان الله! واللهِ لو كان مِن الترك والديلم وسألوك عن هذا، ما كان لك أن تمنعهم ((3)).

كان على ميمنة عمر بن سعدٍ في كربلاء ((4)).

ص: 222


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 50، مثير الأحزان لابن نما: 23، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 238.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 225.
3- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 38، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 184، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 57، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 191، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 20 / 433.
4- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 95، مثير الأحزان لابن نما: 39، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 256، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 187، تاريخ الطبريّ: 4 / 321، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 60، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 193، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 20 / 438.

وحمل عمرو بن الحَجّاج على ميمنة أصحاب الحسين (علیه السلام) فيمن كان معه من أهل الكوفة، فلمّا دنا من الحسين (علیه السلام) جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تُقدِم خيلُهم على الرماح، فذهبَت الخيلُ لترجع، فرشقهم أصحاب الحسين (علیه السلام) بالنبل، فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهمآخَرين ((1)).

وكان ممّن يحرّض على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ..

قال أبو مِخنَف: حدّثَني الحسين بن عقبة المراديّ، قال الزبيديّ:

إنّه سمع عمرو بن الحَجّاج حين دنا من أصحاب الحسين (علیه السلام) يقول: يا أهلَ الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق مِن الدين وخالَفَ الإمام!!

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يا عمرو بن الحَجّاج! أعلَيّ تحرّض الناس؟! أنحن مرقنا وأنتم ثبتُّم عليه؟! أما والله لَتعلمنّ لو قد قُبضَت أرواحُكم ومُتُّم على أعمالكم، أيّنا مرق من الدين ومَن هو أَولى بصليّ النار» ((2)).

ص: 223


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 102، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 190.
2- تاريخ الطبريّ: 4 / 331.

وصاح عمرو بن الحجّاج بالناس: يا حمقى، أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد، فإنّهم قليل، وقلّما يبقون، واللهِ لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لَقتلتموهم؟

فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت.

فأرسلَ في الناس مَن يعزم عليهم ألّا يبارز رجُلٌ منكم رجُلاً منهم ((1)).ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على الحسين (علیه السلام) من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصُرع مسلم بن عوسجة الأسديّ (رحمة الله علیه) ، وانصرف عمرو وأصحابه ((2)).

وكان حارساً على الماء في سريّةٍ منعوا الإمام (علیه السلام) ومَن معه عن الماء، قالوا:

ثمّ ورد كتاب ابن زيادٍ في الأثر إلى عمر بن سعد: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه والماء، فلا يذوقوا منه قطرةً، كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان بن عفّان!

ص: 224


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 103، مثير الأحزان لابن نما: 45، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 462.
2- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 103، مثير الأحزان لابن نما: 45، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 462.

فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس، فنزلوا الشريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيّام ((1)).

وقال عمرو بن الحجّاج مخاطِباً سيّد الشهداء (علیه السلام) :

يا حسين، هذا الفرات تلغ فيه الكلاب وتشرب منه الحمير والخنازير والذئاب، واللهِ لا تذوق منه جرعةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم ((2)).

فكان سماع هذا الكلام على الحسين أشدَّ مِن منعهم إيّاه الماء ((3)).وقد ورد في زيارات الإمام الحسين (علیه السلام) وزيارة أبي الفضل العبّاس: «لعن اللهُ مَن حال بينك وبين ماء الفرات»، و«لعن اللهُ مَن منعك ماء الفرات» أو «منعك الماء»، وغيرها من العبارات.. فهي لا شكّ تشمل هذا الخبيث الرجس النجس، بالإضافة إلى أسياده الّذين أمروه بذلك وأتباعِه الّذين أطاعوه.

ص: 225


1- أُنظر: روضة الواعظين للفتّال: 182، الإرشاد للمفيد: 2 / 86، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 147، مثير الأحزان لابن نما: 53، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 255، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 70، الفتوح لابن أعثم: 5 / 91، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2627.
2- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 182.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 141، أسرار الشهادة للدربنديّ: 260.

رُوي:

أنّه لمّا اشتدّ العطش على الحسين، دعا أخاه العبّاس بن عليّ، فبعثه في ثلاثين راكباً وثلاثين راجلاً، وبعث معه بعشرين قربة، فجاؤوا حتّى دنوا من الماء.

فاستقدم أمامهم نافع بن هلال الجمليّ، فقال له عمرو بن الحجّاج: مَن الرجل؟ قال: نافع بن هلال. قال: مرحباً بك يا أخي، ما جاء بك؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الّذي حلأتمونا عنه. قال: اشرب. قال: لا واللهِ لا أشرب منه قطرةً والحسين عطشان. فقال له عمرو: لا سبيل إلى ما أردتم، إنّما وضعونا بهذا المكان لنمنعكم من الماء.

فأمر نافع بن هلالٍ أصحابه باقتحام الماء ليملؤوا قِرَبهم، فثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس ونافعابن هلال فدفعوهم، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم وقد ملؤوا قربهم ((1)).

ويُقال: إنّهم حالوا بينهم وبين ملئها، فانصرفوا بشيءٍ يسيرٍ من الماء ((2)).

وقد حمل عليهم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) حتّى اقتحم الشريعة، كما

ص: 226


1- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 78، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 255، تاريخ الطبريّ: 4 / 312.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 181.

روى ابن شهرآشوب قائلاً:

إنّ الحسين حمل على الأعور السلَميّ وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكانا في أربعة آلاف رجُلٍ على الشريعة، وأقحم الفرسَ على الفرات.

فلمّا أولغ الفرسُ برأسه ليشرب قال (علیه السلام) : «أنت عطشانٌ وأنا عطشان، واللهِ لا أذوق الماءَ حتّى تشرب». فلمّا سمع الفرسُ كلام الحسين، شال رأسه ولم يشرب، كأنّه فهم الكلام ((1))، فقال الحسين: «اشربْ، فأنا اشرب».

فمدّ الحسينُ يده فغرف من الماء، فقال فارس: يا أبا عبد الله، تلذّذُ بشرب الماء وقد هُتكَت حرمتُك؟! فنفض الماء من يده وحمل على القوم ((2)).

وكان فيمن حمل الرؤوس المقدّسة وسبايا آل محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) من كربلاءإلى ابن زياد..

قال الطبريّ وغيره:

وقطف رؤوس الباقين، فسرّح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتّى قدموا بها على عُبيد الله بن زياد ((3)).

ص: 227


1- الأجدر والأصحّ أن يقول: وقد فهم الكلام!
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 215.
3- تاريخ الطبريّ: 4 / 439، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 81، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 464، الإرشاد للمفيد: 2 / 113، مثير الأحزان لابن نما: 65، عُمدة القاري للعينيّ: 16 / 241، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 206، إعلام الورى للطبرسيّ: 1 / 470.

أرسله ابن زيادٍ ليأتيه بعبد الله بن عفيف الأزديّ..

قال ابن أعثم:

ثمّ دعا ابنُ زيادٍ لعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن الأشعث وشبث بن الربعيّ وجماعة من أصحابه، وقال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى، أعمى الأزد، الّذي قد أعمى الله قلبَه كما أعمى عينَيه، ائتوني به! ((1))

وكان ممّن قاتل المختار الثقفيّ ((2)).

وبلغ المختار أنّ شبث بن ربعيّ وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن الأشعث مع عمر بن سعدٍ قد أخذوا طريق البصرة في أُناسٍ معهم من أشراف أهل الكوفة، فأرسل في طلبهم رجُلاً من خاصّته يُسمّى: أبا القلوص الشباميّ، في جريدة خيل، فلحقهم بناحية المذار، فواقعوه وقاتلوه ساعة، ثمّ انهزموا، ووقع في يده عمر بن سعدٍ ونجا الباقون ((3)).

ص: 228


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 125.
2- أًنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 504 و519، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 157، تاريخ ابن خلدون: 3 / 23.
3- أُنظر: الأخبار الطِّوال: 301.

وهرب عمرو بن الحجّاج _ وكان من رؤساء قتَلَة الحسين (علیه السلام) _ يريد البصرة، فخاف الشماتة فعدل إلى شراف.

فقال له أهل الماء: ارحلْ عنّا؛ فإنّا لا نأمن المختار. فارتحل عنهم، فتلاوموا وقالوا: قد أسأنا.

فركبت جماعةٌ منهم في طلبه ليردّوه، فلمّا رآهم من بعيدٍ ظنّ أنّهم من أصحاب المختار، فسلك الرمل في مكانٍ يُدعى البيضة، وذلك في حمارة القيظ، وهي فيما بين بلاد كلب وبلاد طيء، فقال فيها، فقتله ومَن معه العطش ((1)).

وقالوا: هرب عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، فمات بواقصة عطشاً.

ورُوي أنّه هرب فسقط من العطش، فلحقه أصحاب المختار وبه رمق، فذبحوه واحتزّوا رأسه ((2)).

وخرج عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكان أشدَّ مَن حضر قتْلَ الحسين (علیه السلام) ، فركب راحلته ثمّ ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم يُرَ حتّى الساعة ((3))، ولم يُوقَف له على خبر ((4))، ولا يُدرى أرضٌ

ص: 229


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 303.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 409، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 236، تاريخ ابن خلدون: 3 / 25.
3- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 236، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 297.
4- أُنظر: تاريخ ابن خلدون: 3 / 25.

بخَسته أم سماءٌ حصبَته ((1)).

القسم الثالث: وفد

اشارة

ذكر أبو الفرَج في (المقاتل) خبراً خاصّاً ذا ملامح مميّزةٍ تختلف عن سائر الأخبار المعهودة في مراسلة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سنستعرضه باختصارٍ ضمن التلويحات التالية:

التلويح الأوّل: نصّ الخبر

قال أبو الفرج:

لمّا بلغ أهلَ الكوفة نزولُ الحسين (علیه السلام) مكّة وأنّه لم يُبايع ليزيد، وفد إليه وفدٌ منهم، عليهم أبو عبد الله الجدليّ ((2)).

واكتفى ابن الجوزيّ بالإشارة إلى خروج وفدٍ من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، من دون أن ينصّ على اسمٍ أو يصرّح بمَن كان عليهم، فقال:

خرج منهم وفدٌ إليه ((3)).

وجاءت عبارة الشيخ ابن نما مشوَّشة، إذ أنّه ذكر خروج وفدٍ من الكوفة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) عليهم أبو عبد الله الجدليّ، غير أنّه ذكر أنّ

ص: 230


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 524، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 175.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 62.
3- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35.

معهم كتباً من جماعةٍ ذكرهم بالأسماء، قال:

خرج وفدٌ إليه من الكوفة، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، ومعهم كتبٌ مِن شبث بن ربعيّ وسليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله [بن] وال وقيس بن مسهر الأسديّ أحد بني الصيداء وعمارة بن عتبة السلوليّ وهانئ ابن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ ووجوه الكوفة ((1)).

وفي العبارة مزجٌ وخلطٌ واضحٌ لمن تصفّح التاريخ، إذ أنّ الأسماء المذكورة فيهم مَن كاتب الإمام (علیه السلام) ، وفيهم مَن كان رسولاً يحمل الكتب إلى الإمام (علیه السلام) .. ويكفينا هنا الأخذ بعبارته الأُولى الّتي صرّح فيها بخروج الوفد وعليهم الجدليّ، وتركُ الباقي.

التلويح الثاني: الوفد!

خروج وفدٍ خاصّ.. لغرضٍ خاصّ.. وقدومه على الإمام (علیه السلام) .. يختلف تماماً عن وصول عدّة رسُلٍ يحملون معهم كتب عن رجالٍ فيهم المعروف والمجهول والمشهور والمغمور..

فالوفد قد أقدم وعلى رأسه رجُلٌ معروفٌ مشهور، يُعدّ من الشخصيّات البارزة في المجتمع الكوفيّ، وله صحبةٌ طويلةٌ مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وله مواقف مشهودة..

ص: 231


1- مثير الأحزان لابن نما: 11.

وله صيتٌ في الحروب والمعارك والقتال، حتّى قال الشافعيّ فيه _ في كلامٍ له _ : «وأبو عبد الله الجدليّ، جيّد الضرب بالسيف» ((1)).

والوفد ليس كالكتاب الصامت، ولا كالرسول المكلَّف بإيصال الكتاب، ولا كالكاتب البعيد الّذي اختزل جميع كيانه ومشاعره وتصوّراته وتطلّعاته وما أراد في كلماتٍ ميّتةٍ مرصوفةٍ على قرطاس..

الوفد فيه رجالٌ جاؤوا ليحاوروا ويتكلّموا، فيُسمعوا ويَسمعوا، ويَسألوا ويُسألوا، ويناقشوا ويُقنعوا، ويرسموا الصورة الّتي خلّفوها، ويُعربوا عن كوامنهم وتطلّعاتهم وآمالهم ودوافعهم ونوازعهم ونزعاتهم.

والفرق كبيرٌ جدّاً وواضحٌ جدّاً بين الوفد القادم الّذي يدعو مواجهةً ومشافهة، وبين الكتاب المحمول بيد الرسل!

التلويح الثالث: الوفد ورئيس الوفد

لم يذكر لنا أبو الفرج أعضاءَ الوفد القادم ولا عددهم، ولم يشر إلى خصوصيّاتهم أو ملامحهم وتوجّهاتهم، واكتفى بذكر رئيس الوفد، لذا سنستعرض على عجلٍ بعض ملامح هذه الشخصيّة، ليندمج مع الشخصيّات الّتي ذكرناها قبل قليلٍ في القسم الثاني، ثمّ نعلّق على الجميع في موضعٍواحدٍ إن شاء الله (تعالى).

ص: 232


1- الكامل لابن عديّ الجرجانيّ: 2 / 460.
التلويح الرابع: أبو عبد الله الجدليّ
اشارة

يمكن استعراض خلاصة ما عثرنا عليه فيما يخصّ هذا الرجل في المعلومات التالية:

المعلومة الأُولى: اسمه ونسبته

قال ابن سعدٍ والطبريّ:

اسمه: عبدة بن عبد بن عبد الله بن أبي يعمر بن حبيب بن عائذ بن مالك بن وائلة بن عمرو بن ناخ بن يشكر بن عدوان _ واسمه: الحارث _ بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، وسُمّي الحارث عدوان لأنّه عدا على أخيه فهم بن عمروٍ فقتله، وأُمّ عدوان وفهم جديلةُ بنت مرّ بن طابخة أُخت تميم بن مرّ، فنُسبوا إليها ((1)).

يُقال: كنيته _ أبو عبد الله _ اسمُه ((2)).

ويُقال: اسمه عبد الرحمان بن عبد ((3)).

ص: 233


1- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 228، المنتخَب من ذيل المذيَّل للطبريّ: 150، إكمال الكمال لابن ماكولا: 1 / 168.
2- إكمال الكمال لابن ماكولا: 1 / 168.
3- طبقات خليفة: 241، التاريخ الكبير للبخاريّ: 6 / 119، سنن الترمذيّ: 1 / 65، نصب الراية للزيعليّ: 1 / 252، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 12 / 133، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 533، تحفة الأحوذيّ: 1 / 367، تقريب التهذيب لابن حجَر: 2 / 428، المعجم الكبير للطبرانيّ: 19 / 359، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6 / 93.

ويُقال: عبد بن عبد ((1)).ويُقال: فلان بن عبد ((2)).

ويُقال: معبد بن معبد ((3)).

ويُقال: عُبيد بن عبد ((4)).

وقالوا: كوفيّ ((5))، نسبةً إلى مدينة الكوفة.

وروى ابن شبّة عن الشعبيّ قال:

كان أبو عبد الله الجدليّ عبداً للأزد! فادُّعي إلى جديلة بن عدوان ابن عمرو بن قيس، فنوزع فيه إلى عمر، فقال له: ممّن أنت؟ قال:

ص: 234


1- العلل لابن حنبل: 2 / 600، المحلّى لابن حزم: 11 / 367، التاريخ الكبير للبخاريّ: 6 / 119، سنن الترمذيّ: 1 / 65، نصب الراية للزيعليّ: 1 / 252، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 12 / 133، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 533، تحفة الأحوذيّ: 1 / 367، المصنَّف لابن أبي شيبة: 8 / 60، المفردات والوحدان لمسلم النَّيسابوريّ: 34، الإصابة لابن حجَر: 7 / 248، تقريب التهذيب لابن حجَر: 2 / 428، المعجم الكبير للطبرانيّ: 19 / 359، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6 / 93، تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين: 161.
2- العلل لابن حنبل: 2 / 600، تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين: 161.
3- المعجم الكبير للطبرانيّ: 19 / 359.
4- رجال الطوسيّ: 71.
5- التاريخ الكبير للبخاريّ: 6 / 119، معرفة الثقات للعجليّ: 2 / 413، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6 / 93.

من عدوان. فسألهم، فقالوا: من أوسطنا. فأقرّه عمر منهم ((1)).

ولا يهمّنا الأمر كثيراً بعد أن تشخّص وعُرف بكنيته.

المعلومة الثانية: تشيُّعه!

قال ابن سعدٍ والطبريّ:

وكان شديدَ التشيّع، ويزعمون أنّه كان على شرطة المختار، فوجّهه إلى عبد الله بن الزبير في ثماني مئةٍ من أهل الكوفة، ليوقع بهم ويمنع محمّد ابن الحنفيّة ممّا أراد به ابن الزبير ((2)).

وكان أبو عبد الله الجدليّ من شيعة عليّ (علیه السلام) ((3)).قال الحافظ في التقريب:

... ثقة، رُمي بالتشيُّع، من كبار الثالثة ((4)).

وقال الذهبيّ:

شيعيٌّ بغيض.

قال الجوزجانيّ: كان صاحبَ راية المختار، وقد وثّقه أحمد ((5)).

ص: 235


1- تاريخ المدينة لابن شبّة: 3 / 1065.
2- أُنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 228، المنتخَب من ذيل المذيَّل للطبريّ: 150.
3- المنتخَب من ذيل المذيَّل للطبريّ: 150.
4- تحفة الأحوذيّ: 1 / 367، تقريب التهذيب لابن حجَر: 2 / 428.
5- ميزان الاعتدال للذهبيّ: 4 / 544.

وقال الذهبيّ أيضاً:

شيعيٌّ ثقيل ((1)).

وعدّه ابن قُتيبة في (المعارف) ضمن أسماء الغالية من الرافضة ((2)).

وعدّه الشيخ المفيد ومَن تلاه في أولياء الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).

وذكره الشيخ المفيد تحت عنوان (ذِكر السابقين المقرَّبين من أمير المؤمنين (علیه السلام)) ((4)).

وعدّه المازندرانيّ وغيره من خواصّ أمير المؤمنين (علیه السلام) وأوليائه ((5)).

وله أحاديث جيّدةٌ يرويها عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويروي خبراً مفصَّلاً عن شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) وتجهيزه ودفنه وحضوره جميع ذلك ((6)).

وله أخبارٌ مريبةٌ يرويها عنه أصحاب الكتب المعروفة عند العامّة.* * * * *

يبقى شيء:

لا ندري ما هو الميزان في التصنيف عند القدماء، سواءً من كبراء

ص: 236


1- المُغني في الضعفاء للذهبيّ: 2 / 595.
2- أُنظر: المعارف لابن قُتيبة: 624.
3- الاختصاص للمفيد: 3.
4- أُنظر: الاختصاص للمفيد: 6.
5- شرح أُصول الكافي للمازندرانيّ: 5 / 149.
6- أُنظر: جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 112.

العامّة أو علماء الشيعة؟!

فهل كانوا ينظرون إلى الجدليّ _ مثلاً _ إلى جنب أمير المؤمنين (علیه السلام) في حروبه ومشاهده، ويرونه صاحب راية المختار كما صرّح بعضهم بعد أن ذكره بالتشيّع مباشرة، فيحكمون عليه من خلال اندفاعه في جنب أمير المؤمنين (علیه السلام) مقابل ابن هندٍ معاوية؟ وهذا الاندفاع كان عند الكثيرين ممّن عاشوا في تلك الفترة، وربّما كانت لهم مواقف مع معاوية تخزيه وتدينه، بَيد أنّهم لم يكونوا شيعةً بالمعنى المصطلَح، بمعنى اعتقادهم بإمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) الّتي فرضَها الله يوم الغدير وافترض طاعته على الخلائق، والأمثلة على هذا النموذج كثيرةٌ في التاريخ.

وربّما استفادوا كونه من الأولياء ومن خواصّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأوليائه من خلال بعض ما حدّث عنه (علیه السلام) .

أو أنّهم صنّفوه في الشيعة بالمعنى الأخصّ، وأنّه يعتقد إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) .

لا ندري!

كيف كان، فهو بالاتّفاق معدودٌ في الشيعة.

المعلومة الثالثة: كان صديقاً لعائشة ومؤثِّراً عليها

روى ابن سلمان الكوفيّ والقاضي النعمان مسنداً:

عن أبي عبد الله الجدَليّ قال: بينا نحن بمكّة، وقد قُتل عثمان في ذي الحجّة، فأقبل طلحة والزبير حتّى قدما على عائشة فدخلا

ص: 237

عليها، فخرج مناديها فنادى: مَن كان يريد الخروج مع طلحة والزبير فلْيسر، فإنّ أُمّ المؤمنين سائرة!

قال أبو عبد الله: فدخلتُ عليها _ وكنتُ لها صديقاً _، فقلتُ لها: يا أُمّ المؤمنين، هل أخرجكِ رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) في غزوةٍ قطّ أو في قتال؟ أوَ لم يأمُركِ أن تقعدي في بيتكِ؟ قال: فلم أزلْ بها وأُذكّرها وأُناشدها حتّى قعدَت، فأمرَتْ مناديها أن ينادي: مَن كان يريد الخروج مع طلحة والزبير، فإنّ أُمّ المؤمنين قد قعدَت.

فلمّا سمع طلحة نداء المنادي، أقبل فدخل عليها، فنفث في أُذُنها، فخرج مناديها فنادى: مَن كان يريد المسير مع طلحة والزبير فلْيسر، فإنّ أُمّ المؤمنين سائرة!

فلمّا كان مِن أمرها ما كان ورجعَت إلى المدينة، سرتُ إليها حتّى وقفتُ على باب بيتها، فقلت: سلامٌ عليكِ يا أُمّاه، أيدخل أبو عبد الله الجدليّ؟ قال: فأذنَتْ لي بالدخول، فدخلتُ وسلّمتُعليها ... _ إلى أخِر الخبر ((1)).

يبدو من هذا الخبر أنّ الرجُل كان ذا صلةٍ وثيقةٍ بأُمّه عائشة وموثوقاً عندها، فهو يصرّح أنّه كان صديقاً لها، ويروي ما يفيد مدى تأثيره عليها وعلى قرارتها الصعبة!

ص: 238


1- أُنظر: مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن سليمان الكوفيّ: 2 / 344 الرقم 821، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 1 / 401 الرقم 351.
المعلومة الرابعة: دخوله على أُمّ سلمة (رضی الله عنها)

روى جماعةٌ مسنداً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:

دخلتُ على أُمّ سلَمة زوجة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقالت: أيُسبُّ رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) فيكم؟! فقلت: معاذ الله! قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «مَن سبّ عليّاً فقد سبّني» ((1)).

ورُوي أيضاً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:

دخلتُ على أُمّ سلَمة، فقالت: يا أبا عبد الله، أيُسبّ رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) فيكم وأنتم أحياء؟! قال: قلت: سبحان الله! وأنّى يكون هذا؟ قالت: أليس يُسَبّ عليٌّ ومَن يحبّه؟ قلت: بلى. قالت: أليس كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبّه ((2)).

يبدو من هذا الخبر الّذي يرويه نفسه أنّ أُمَّ سلَمة (رضی الله عنها) خاطبَتْه بالذات، ونادته بالاسم، وعاتبته شخصيّاً على سبّ القوم أمير المؤمنين عليّاً (علیه السلام) وهم أحياءٌ يسمعون، وفي ذلك دلالاتٌ واضحةٌ لا تخفى على اللبيب!

ص: 239


1- الأمالي للطوسيّ: 85 ح 130، المعجم الأوسط للطبرانيّ: 6 / 74، المعجم الصغير للطبرانيّ: 2 / 21، المعجم الكبير للطبرانيّ: 23 / 323، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13 / 222، كنز العمّال للهنديّ: 13 / 146، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 42 / 266، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 3 / 634، المناقب للخوارزميّ: 149 الرقم 175، جواهر المطالب للباعونيّ: 1 / 66.
2- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 42 / 266، تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ: 7 / 413، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 182، العثمانيّة للجاحظ: 285.
المعلومة الخامسة: يُقتَل الإمام الحسين (علیه السلام) ولا ينصره أحَد

كان أبو عبد الله الجدليّ على علمٍ جازمٍ بمقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يُقتَل..

فقد روى الشجريّ مسنداً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:

سمعتُ أُمّ سلَمة قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إنّ جبريل أراني مقتل ابني، فسألتُ الله أن يريني تربة الأرض الّتي يُقتَل بها، فقال هكذا بيده فوضعها في يدي»، يقول: وضع التربة على يد أُمّ سلَمة. قالت: قلت: يا بأبي.. وحالت العَبرة دون الحديث ((1)).

وفي (تاريخ ابن عساكر)، عن عَون بن أبي جُحيفة قال:

إنّا لَجلوسٌ عند دار أبي عبد الله الجدليّ، فأتانا ملك بن صحّار الهمدانيّ، فقال: دلّوني على منزل فلان. قال: قلنا له: ألا ترسل فيجيء؟ إذ جاء، فقال: أتذكر إذ بعثَنا أبو مِخنَف إلى أمير المؤمنين وهو بشاطئ الفرات، فقال: «ليحلّنّ هاهنا ركبٌ من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمرّ بهذا المكان، فيقتلونهم، فويلٌ لكم منهم، وويلٌ لهم منكم»؟ ((2))

الظاهر أنّ فلاناً _ الّذي كان يبحث ملك بن صحّار الهمدانيّ عن

ص: 240


1- فضل زيارة الحسين (علیه السلام) للشجريّ: 92 ح 86.
2- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2602، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 272 الرقم 237 _ بتحقيق: المحموديّ.

منزله _ هو أبو عبد الله الجدليّ.

ولا ندري إن كان ملك قد قصد منزل الجدليّ وذكّره بما جرى واستشهده على ذلك قبل شهادة الإمام (علیه السلام) أَم بعدها، حيث لا نرى في الخبر ما يدلّ على ذلك أو يشير إليه.

وعلى العموم، فإنّ الخبر يفيد أنّ أبا عبد الله الجدليّ كان قد سمع بحلول ركب آل الرسول بشاطئ الفرات، وأنّهم يُقتَلون هناك، وأنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد هدّدهم وأوعدهم الويل لهم منهم.

فالويل لآل الرسول من القوم لِما سيرتكبون فيهم الجناية العظمى، ويتفنّنون في قتلهم عطشاً وتقطيعهم وسلبهم ونهبهم وحرق خيامهم وسبيهم، والويل للقوم لما سيفعلون من الخذلان والاعتداء والتجاوز والظلم والجَور والطغيان.

ولو كان المخاطَبون من الأنصار والأحبّة الّذين بذلوا مهجهم في الذبّ عن آل الرسول، لَما هدّدَهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وحذّرهم وأنذرهم.

ورُوي أيضاً بالإسناد عن أبي عبد الله الجدليّ قال:

دخلتُ على أمير المؤمنين والحسينُ (علیهما السلام) إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين (علیه السلام) ، ثمّ قال: «إنّ هذا يُقتَل، ولا ينصره أحد». قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين، واللهِ إنّ تلك لَحياة سوء! قال: «إنّ

ص: 241

ذلك لَكائن» ((1)).

في (لسان العرب): رجُلُ سَوء، أي: يعمَلُ عمَلَ سَوء، ولا يُقال: رجُلُ سُوءٍ _ بالضمّ _؛ لأنّ السُّوء _ بالضمّ _ اسمٌ للضرّ وسوء الحال، والسُّوء: اسمٌ جامعٌ للآفات والداء ((2)).

فإذا قُرئت بالضمّ، فهو يقول للإمام (علیه السلام) : إنّ هذه الحياة الّتي سيحياها الإمام الحسين (علیه السلام) كلّها ضرٌّ وبلايا وآفاتٌ ومحن.. فكأنّه استفسر عن مِثل هذه الحياة الّتي كُتبَت للإمام (علیه السلام) ، أو أنّه استفهم عمّا إذا كان من الممكن أن تتغيّر وتتبدّل، لأنّها حياة ضُرٍّ وبلاء، فيكون قد عرض على الإمام (علیه السلام) أن يطلب من الله تغيير الضرّ والبلاء بالدعاء مثلاً، كما دعا الأنبياء من قبل وكشف الله عنهم الضرّ.. فأجابه الإمام (علیه السلام) : «إنّ ذلك لَكائن»، وأنّه سيتحقّق، ولا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، أي: أنّه من المحتوم، ولا ينبغي تغييره، لأنّه ضمن المخطَّط الربّانيّ.

وإذا قُرئت بالفتح، فلا يمكن حينئذٍ إرجاع الكلام إلى الإمام (علیه السلام) وحياة الإمام (علیه السلام) ، ولابدّ من إرجاعها إلى الراوي نفسه، بمعنى أنّه يقول: إنّ حياة مَن لا ينصره حياةُ سَوء _ بالفتح _، وعمَلَهم عمَلُ سَوء.

وربّما شهد لذلك ما رواه الكشّيّ مسنداً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:

ص: 242


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 149 الباب 23 ح 1.
2- أُنظر: لسان العرب: سَوَءَ.

دخلتُ على أمير المؤمنين (علیه السلام) ، قال: «أُحدّثك سبعة [ خ ل: تسعة] أحاديث قبل أن يدخل علينا داخل». قال: فقلت: افعلْ، جُعلت فداك ...

إلى أن قال (علیه السلام) :

«والرابعة: يُقتَل هذا وأنت حيٌّ لا تنصره». قال: فضرب بيده على كتف الحسين (علیه السلام) . قال: قلت: واللهِ إنّ هذه لَحياةٌ خبيثة. ودخل داخل ((1)).

نجد في هذا الحديث كلاماً مباشراً مع الجدليّ، وخطاباً صريحاً يقصده بعينه، وسياقاً يشهد بوضوحٍ أنّه يُقسِم بالله أنّ حياته بعد خذلانه الإمام (علیه السلام) حتّى يُقتل «لَحياةٌ خبيثة».

والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) يخاطبه مباشرةً: «أنت»، ويُخبره بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وهو حاضر، إذ يضرب بيده على كتفه ويشير إليه: «يُقتَل هذا»، ويُخبره بالطامّة الكبرى الّتي تنزل عليه: «وأنت حيٌّ لا تنصره»..

فهو قد بشّره من جهةٍ ببقائه على قيد الحياة إلى يوم الحسين (علیه السلام) ، بَيد أنّه أنذره بما سيصدر منه من خذلانٍ مروّعٍ للإمام (علیه السلام) حتّى يُقتَل.

ومن الواضح أنّ قول الإمام (علیه السلام) : «وأنت حيٌّ لا تنصره»، يفيد الخذلان العامِد، وعدم وجود العذر الموجَّه المقبول، ولو كان ثَمّة عذرٌ _ كالحبس

ص: 243


1- رجال الكشّيّ (اختيار معرفة الرجال): 93 ح 147.

والسجن والمانع المعذّر _ لَأشار إليه الإمام (علیه السلام) ، فيما نجده يصرّح بكونه على قيد الحياة سالماً، ويعبّر عن موقفه بقوله: «لا تنصره».

ومن الواضح أيضاً أنّ أقلّ ما يتحصّل من قوله: «لا تنصره» هو الخذلان، وترك نصرة الإمام (علیه السلام) تساوق الخذلان حتّى لو لم يحارب ضدّه، وإلّا فمن الممكن أن يُفاد منه أن يكون عليه.

ولخذلان سيّد الشهداء (علیه السلام) أحكامٌ قاسيةٌ يمكن التعرّف على بعضها من خلال ما ورد في الزيارات من اللعن المتكاثف المتكرّر لأنواع الخاذلين وأقسامهم ومستويات خذلانهم.

ولمّا أخبر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أبا عبد الله الجدليّ بسوء عاقبته وخذلانه إمامه حتّى يُقتَل وهو حيٌّ لا ينصره، اهتزّ ورقّ، وخشي مِن عاقبته، وشهد على نفسه أنّ حياته ستكون حياةً خبيثة، وإنّها لَحياة سَوء.

وكان في كلامه مع الإمام (علیه السلام) _ في حديث ابن قولويه _ لحن اعتراض، وكأنّه غير راضٍ بهذه العاقبة السيّئة والحياة الخبيثة، وأنّه لا يمكن أن يرتضيها لنفسه، ولا يمكن أن تصدر منه مثل هذه الهفوة الّتي تهفو بالمؤمن وتُخرجه من حريم الإيمان والسعادة إلى سوء العاقبة، فردّ عليه الإمام (علیه السلام) : «إنّ ذلك لكائن»، أي: إنّك ستكون كذلك!

إستعمل الإمام (علیه السلام) : «ذلك»، إشارةً إلى البُعد الزمنيّ بين كلامه (علیه السلام) ووقوع المصيبة.

ص: 244

وقد ذكر الإمام (علیه السلام) الأمر مؤكَّداً بالجملة الاسميّة و(إنّ) الثقيلة واسم الإشارة: «إنّ هذا يُقتَل»، ثمّ عاد ليؤكّد ذلك بالجملة الاسميّة و(إنّ) الثقيلة واسم الإشارة واللام واسم الفاعل: «إنّ ذلك لَكائن»!

ومن العجيب ما ذهب إليه أُستاذ الفقهاء في عصرنا الحاضر آية الله السيّد الخوئيّ (رحمة الله) ، إذ قال:

أقول: الرواية لا دلالة فيها على ذمّ أبي عبد الله الجدليّ، بل إنّها تدلّ على أنّه لا يُوفَّق لنصرة الحسين (علیه السلام) خارجاً، وأنّه استاء لذلك، وكان يرى أنّ الحياة بعد الحسين (علیه السلام) حياةً خبيثة ((1)).

إذا لم يكن عدم التوفيق لنصرة الحسين (علیه السلام) خارجاً _ مع كونه حيّاً موجوداً حاضراً من غير عذرٍ يُذكَر _ ذمّاً، فكيف سيكون الذمّ إذن؟! وسياق كلام الإمام (علیه السلام) يفيد أنّه سيترك النصرة عن علم.

والحال أنّ الجدليّ نفسه قد فهم من كلام الإمام الّذي خاطبه مباشرةً أنّ حياته بعد الحسين (علیه السلام) ستكون حياةً خبيثةً وعاقبته غير سليمة، وكأنّه حاول مراجعة الإمام (علیه السلام) فيما أخبره به، ولا زال الإمام (علیه السلام) يؤكّد له أنّه كذلك.

عدم التوفيق للنصرة خارجاً _ مع عدم الوقوف على عذرٍ مقبولٍ _ يساوق الخذلان جزماً، وخذلان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عمَلُ سَوءٍ خبيثٍ

ص: 245


1- معجم رجال الحديث للخوئيّ: 12 / 60.

ملعون، وهذا هو الّذي أثار الجدليّ ودعاه للإقرار بسوء الحياة وخبثها بعد الإمام الحسين (علیه السلام) .

سيما أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) _ وهو سيّد البلاغة ومعدن الفصاحة _ لم يقل له: وأنت حيٌّ لكنّك تُمنَع عن نصرته، أو لا تستطيع، أو لا تتمكن من نصرته.. وما شابه من العبارات الّتي هو الإمام أعرف بها، ممّا يفيد امتناع النصرة عليه خارجاً، خارجاً عن إرادته.

* * * * *

ربّما كان الجدليّ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في أعلى درجات الإيمان، بَيد أنّ عاقبته كانت ما أخبره بها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والأُمور بخواتيمها، وقد ذكرنا في أكثر من موضعٍ أنّنا نتعامل مع الرجال وفق مواقفهم من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بغضّ النظر عن سوابقهم!

أجل، قد يكون الرجل مؤمناً، له قدم صدقٍ عند الأئمّة _ من قبيل: الأصبغ بن نباتة، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وسُليم بن قيس، وكُميل ابن زياد، وأمثالهم _، فلا يمكن الحكم عليه فوراً، ولابدّ من التريّث قبل الحكم، فربّما كان له عذرٌ أو ورد له مدحٌ وترضٍّ من الأئمّة (علیهم السلام) بعد الإمام الحسين (علیه السلام) ، فنعلم حُسن حاله وخروجه من دائرة الخذلان.

وكيف كان، فإنّ أمثال هؤلاء لا يمكننا إدخالهم في دائرة الخذلان حتّى يثبت لنا ذلك.. أمّا مِثل الجدليّ، فإنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخبر بأنّه سيكون حيّاً ويُقتَل وَلده الحسين (علیه السلام) وهو لا ينصره، وقد أقرّ هو بنفسه أنّ

ص: 246

حياته بعد الإمام الحسين (علیه السلام) حياة سَوءٍ خبيثة، ولم نقف له على عذرٍ _ إلى حين تحرير هذه الكلمات _ من قبيل الحبس والاعتقال، وغيرها من الأعذار الّتي تُسقِط عنه تكليف النصرة، فالمفروض أن يدخل دائرة الشكّ على أقلّ التقادير حتّى يثبت له عذر.

ولا ننسى أنّه كان على علمٍ وجزمٍ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) سيُقتَل وهو حيّ، وأنّه قد سمع ذلك ولو على نحو التحذير والإنذار.

المعلومة السادسة: حضوره وصيّة الإمام أمير المؤمنين لولده الحسن (علیهما السلام) ودفنه!

روى الجدليّ أنّه كان حاضراً وصيّة أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الإمام الحسن (علیه السلام) قُبيل شهادته ((1))، وروى خبراً مفصَّلاً في شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) وتجهيزه ودفنه، وأفاد أنّه كان حاضراً في جميع ذلك ((2)).

وممّا لا شكّ فيه أنّ حضور وصيّة الإمام (علیه السلام) وتجهيزه وغُسله وتكفينه وتشييعه ودفنه واطّلاعه على مِثل هذه الأسرار الّتي لم يُوفَّق إليها إلّا المميَّز جدّاً من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فيُعدّ هذا الحضور ميزةً خاصّةً له.

ص: 247


1- أُنظر: الغارات للثقفيّ: 2 / 846، مستدرك الوسائل للنوريّ: 2 / 267 و317 و331، عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 45، فرحة الغريّ لعبد الكريم بن طاووس: 62.
2- أُنظر: جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 112.

بَيد أنّ سبيلنا إلى توثيق هذه المعلومة المهمّة مسدود، والراوي الوحيد_ حسب فحصنا _ لهذه الحكاية هو الجدليّ نفسه، وقد انفرد الباعونيّ برواية حضوره التجهيز والدفن، هذا من جهة..

ومن جهةٍ أُخرى: فإنّ مجريات الدفن بالذات كانت سرّيّةً للغاية، لم يطّلع عليها أحدٌ إلّا مَن اختاره الله لذلك، فأخرجه الإمام الحسن (علیه السلام) معه، وقد بقي قبر أمير المؤمنين (علیه السلام) معفّى الأثر لا يعرفه أحدٌ إلى زمان الإمام الصادق (علیه السلام) ، وإذا كان ثَمّة واحدٌ من خواصّ الخواصّ ممّن أطلعهم المعصوم على موضع القبر فهم أقلّ القليل، ولسنا نجد لاسم أبي عبد الله الجدليّ بينهم سواداً، وتحقيق ذلك وإثباته موكولٌ إلى محلّه.

المعلومة السابعة: مواقفه بعد يوم الحسين (علیه السلام)

خرج الرجل على رأس وفدٍ إلى مكّة، والتقى الإمامَ سيّد الشهداء (علیه السلام) يدعوه إلى الكوفة.. هكذا ذكرت بعض المصادر التاريخيّة.

ثمّ انقطع خبره، إذ لم نجد له ذِكراً ولا خبراً بعد ذلك..

هل بقي في مكّة حين خرج الإمام (علیه السلام) منها؟

هل لازم الإمام (علیه السلام) وخرج معه من مكّة؟

هل رجع إلى الكوفة، أو سافر إلى مكانٍ آخَر؟

لم نجد له _ فيما توفّر لدينا من مصادر _ ذِكراً، ولم نرَ له أيّام الطفّ سواداً في أيّ موضع، واختفت أخباره اختفاءً كاملاً..

ربّما يُعتذَر له أنّه كان في الحبس ضمن مَن حبسهم ابن الأَمة الفاجرة

ص: 248

ابن زياد تلك الأيّام، أو أنّه كان مسافراً بعيداً عن الكوفة والعراق.. بَيد أنّ هذا الاعتذار لا دليل عليه ولا شاهد له من التاريخ، بل يمكن الاستشهاد بكلام أمير المؤمنين (علیه السلام) لإثبات خلافه، حيث أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخبره من قبل أنّ وَلده الحسين (علیه السلام) يُقتَل وهو حيٌّ لا ينصره، ولو كان معذوراً لأشار الإمام (علیه السلام) إلى ذلك.

هكذا بقي في غياهب الاختفاء سنين امتدّت منذ أن فارق الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة، حتّى رأيناه حاملاً لراية المختار وأميراً على شرطته ((1))، وأميراً على السريّة الّتي بعثها المختار لتخليص المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة، كما روى لنا التاريخ ما ملخّصه:

قد بعث المختار بن أبي عبيدة أبا عبد الله الجدليّ في أربعة آلاف فارس.

وكان ابن الزبير قد خطب يومَ قَدِم أبو عبد الله الجدليّ قبل قدومه بساعتين، فقال: إنّ هذا الغلام محمّدَ ابن الحنفيّة قد أبى بيعتي، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس.

ثمّ أضرم عليه مكانه ناراً، فجاء إنسانٌ إلى محمّدٍ فأخبره بذلك، فقال: سيمنعه منّي حجابٌ قويّ.

ص: 249


1- أُنظر: الأمالي للطوسيّ: 240 الرقم 424، الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 228، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 12 / 133، المغني في الضعفاء للذهبيّ: 2 / 595، المحلّى لابن حزم: 2 / 89.

فجعل ذلك الرجل ينظر إلى الشمس ويرقب غيبوبتها، لينظر مايصنع ابن الزبير.

فلمّا كادت تغرب، حاست ((1)) خيل أبي عبد الله الجدليّ ديار مكّة، وجعلَت تمعج ((2)) بين الصفا والمروة، وجاء أبو عبد الله الجدليّ بنفسه فوقف على فم الشِّعب، واستخرج محمّداً، ونادى بشعاره، واستأذنه في قتل ابن الزبير، فكره ذلك ولم يأذن فيه ((3)).

ولا ندري أين كانت يومَ الحسين (علیه السلام) همّتُه وشجاعته وجرأته تلك الّتي اقتحم بها مكّة، وأقدم بسريّةٍ ذات عددٍ محدودٍ على كلّ تلك الجموع

ص: 250


1- حاست الخيل: أحاطت بها من كلّ جانب.
2- تمعج: تشتدّ في عَدْوها يميناً وشمالاً.
3- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20 / 124 و147، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 86، سرّ السلسلة لأبي نصر البخاريّ: 82، الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 101، تاريخ خليفة بن خيّاط: 201، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 54 / 339، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 118، الإصابة لابن حجَر: 6 / 277، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 284، البلدان لابن الفقيه: 209، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 261، أخبار الدولة العبّاسيّة: 103، المنتخَب من ذيل المذيَّل للطبريّ: 150، تاريخ الطبريّ: 4 / 544، الأغاني لأبي الفرَج: 9 / 13، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 188، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 6 / 60، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 250، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 57، و6 / 185، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 306، تاريخ ابن خلدون: 3 / 27، النجوم الزاهرة للأتابكيّ: 1 / 180، نهاية الأرب للنويريّ: 21 / 39.

المتكاثفة المتكاتفة في مكّة تحت راية ابن الزبير، حتّى أنقذ المولى المكرم ابن الحنفيّة؟!

أين كانت قوّته وشراسته وبسالته يوم أحرقوا الخيام على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتركوا بنات الوحي طعمةً للنيران.. وهو الّذي أحرقَته غَيرتُه على ابن الحنفية (رضوان الله علیه) لمّا سمع أنّ ابن الزبير ينوي إحراق ابن الحنفيّة ومَن معه في الشِّعب، فلم يهدأ حتّى خرج مسارعاً من الكوفة ودخل مكّة، فأخرج ابن الحنفية ممّا هو فيه؟!

هدّد ابنُ الزبير المولى المكرم محمّد بن أمير المؤمنين، لأنّه أبى البيعة له، فكان أبو عبد الله الجدليّ ناصراً، دافع عنه ونافح حتّى أنقذه من براثنابن الزبير ومخالبه..

ألم يسمع أنّ الإمام الحسين ريحانة النبيّ وخامس أصحاب الكساء وابن فاطمة سيّدة النساء (علیهم السلام) قد أبى البيعة، فحاصره يزيد وجنده، وبعث إليه الآلاف المؤلّفة، حتّى قتلوه ظامياً على الفرات بتلك القتلة الفجيعة الّتي لم يُقتَل بها أحدٌ من العالمين، وقتلوا أصحابه وأهل بيته وأنصاره، كباراً وصغاراً، نساءً وأطفالاً، وأحرقوا عليهم خيامهم، وسلبوا ثقل الرسول (صلی الله علیه و آله) ونهبوهم، وصفّدوهم بالحديد مغلولةً أيديهم إلى الأعناق، وساقوهم على أقتاب المطايا في حرّ الهاجرات، يشهّرون بعرض الرسول (صلی الله علیه و آله) ومخدّرات الرسالة في البلدان، يعرضون في الأسواق، يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والشريف والدنيّ والشاهد والغائب؟!

ص: 251

ربّما يعذره عاذر، أو يجد له عذراً باحثٌ في التاريخ.. أمّا نحن، فلم نجد له _ على قدر فحصنا _ عذراً، والله العالم.

والغريب أنّ الجدليّ هذا لم يكن من فئة سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن الشدّاد وأضرابهم، الّذين خرجوا يكفّرون ذنبهم حين أحسّوا بالندم من خذلانهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فاتّخذوا من شعار (الرواح إلى الجنّة) والتخلّص من (حياة السَّوء) والنجاة من (الحياة الخبيثة) بعد ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما ظهر مع المختار بقوّةٍ وعلى أعلى المستويات، وربّما كان ذلك لأنّ المختار كان بمكانٍ من القوّة والغلبة وكثرة الأتباعبحيث يكون رجاله الكبار في مأمنٍ من الموت في الحسابات الظاهريّة!

المعلومة الثامنة: رسول ابن الحنفيّة إلى عبد الملك

سرّح ابن الحنفيّة أبا عبد الله الجدليّ بكتابٍ منه إلى عبد الملك، يسأله فيه الأمان لنفسه وأصحابه بعد مقتل ابن الزبير، فذهب بالكتاب، وعاد بالجواب ببسط الأمان وتصديق قوله، ووصف ما هو عليه في إسلامه وعفافه وفضله وقرابته وعظيم حقّه ((1)).

يفيد هذا الخبر أنّ الجدليّ كان قد كرّس له وجوداً بالقرب من المولى المكرم محمّد ابن الحنفيّة؛ إذ كان السبّاقَ إلى نجدته حين حصره ابن الزبير وهدّد بحرقه ومَن معه، وظهر هنا رسولاً يحمل كتاباً منه في تلك الأيّام

ص: 252


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 292.

العصيبة إلى الحاكم الأُمويّ، ويحمل من الحاكم كتاباً للسيّد ابن الحنفيّة..

وربّما كان لدوره مع المختار وابن الحنفيّة أثراً بليغاً جدّاً على علماء الرجال عند العامّة، فصنّفوه في عداد الشيعة الأشدّاء، وربّما يتّضح هذا الأمر بجلاءٍ لمن يراجع كلماتهم فيه وتفريعهم الحكم عليه بالتشيُّع على تلك المواقف.

التلويح الخامس: مهمّة الوفد

قلنا قبل قليل: إنّ النصّ لم يحدّد لنا الأفراد الّذين تكوّن منهم هذا الوفد، ولم يُشِر إلى اسم أحدٍ منهم سوى رئيس الوفد، وهو أبو عبد الله الجدليّ..

وكذلك أغفل النصّ التصريح بمهمّة الوفد، وهل كان ممثّلاً مرسَلاً من قِبل جماعةٍ من الكوفيّين، أو أنّهم خرجوا بأنفسهم ليلقوا الإمام (علیه السلام) ويحدّثوه شخصيّاً، بمعنى أنّ الوفد لم يكن مبعوثاً من قبل أحد، وإنّما يمثّل نفسه فقط، أو أنّهم كانوا يحملون البُعدَين معاً، فيكونوا مبعوثين من قبل جماعة، وفي ذات الوقت يتكلّمون عن أنفسهم ويعربون عن آرائهم الشخصيّة؟

والظاهر من السياق أنّ هذا الوفد شيءٌ سوى الكتب والرسائل.

وعلى كلّ تقدير، فإنّ أبا عبد الله الجدليّ كان معدوداً في الأشخاص الّذين دعوا سيّد الشهداء (علیه السلام) شخصيّاً بحضوره بين يديه في مكّة!

ص: 253

القسم الرابع: خبرٌ شاذّ

اشارة

روى ابن حبّان خبراً شاذاً، قال فيه:

ولمّا بايع أهلُ الشام يزيدَ بن معاوية، واتّصل الخبر بالحسين بن عليّ، جمع شيعته واستشارهم، وقالوا: إنّ الحسن لمّا سلّم الأمرلمعاوية سكت وسكت معاوية، فالآن قد مضى معاوية، ونحبّ أن نبايعك. فبايعَتْه الشيعة، ووردَت على الحسين كتبُ أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إيّاها ... ((1)).

يُلاحَظ في هذا الخبر ثلماتٌ عدّة:

الثلمة الأُولى: انفراد ابن حبّان

إنفرد ابن حبّان بهذا الخبر من بين جميع المؤرّخين _ حسب فحصنا _، فلم نجد له أثراً عند غيره ممّن سبقه أو لحقه، وهذا النوع من التفرّد يورث التردّد والتريّث والامتناع عن القبول بسهولة.

الثلمة الثانية: صياغة الخبر!

يُلاحَظ أنّ الخبر يحمل سماتٍ خاصّةً من حيث الصياغة، فهو يرسم صورةً تتردّد بين رأي أهل الشام ورأي الشيعة، وكأن لم يكن في الأُمّة غيرهم، وليس لباقي البلدان وطوائف المسلمين موقف، وكأنّ لباقي

ص: 254


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 306.

المسلمين المنتشرين في جميع الحواضر والأمصار بيعة ليزيد القرود، وكأنّ الشيعة كلّهم كانوا على قولٍ واحد، سواءً مَن كان في المدينة ومَن كان في الكوفة..

يقول: لمّا بايع أهل الشام.. اتّصل الخبر بالإمام الحسين بنعليّ (علیهما السلام) .. جمع الإمام (علیه السلام) شيعته.. فأحبّوا بيعته.. ثمّ وردَت كتب الشيعة من أهل الكوفة يستقدمونه..

الثلمة الثالثة: رأي شيعته

يفيد الخبر أنّ الإمام (علیه السلام) جمع شيعته فاستشارهم.. والظاهر من السياق أنّ ذلك إنّما تمّ في المدينة حيث كان الإمام (علیه السلام) يومذاك..

فمَن هم الشيعة الّذين استشارهم؟

وكم هو عددهم؟

وهل كان للإمام (علیه السلام) شيعةٌ في المدينة أو في مكّة، حتّى يجمعهم الإمام (علیه السلام) فيجتمعون على رأي؟

أيريد ابن حبّان إلقاء اللوم على الشيعة حتّى في المدينة، ليُقال: إنّ شيعة المدينة أيضاً أشاروا على الإمام (علیه السلام) ، ثمّ خذلوه ولم يخرج منهم خارجٌ معه، وأنّ شيعة الكوفة فقط هم الّذين دعوه واستقدموه، ثمّ خذلوه وعدَوا عليه فقتلوه؟!

ص: 255

الثلمة الرابعة: استشار الإمام (علیه السلام) شيعته!

متى استشار الإمام (علیه السلام) شيعته في هذا الأمر؟

أين جمعهم؟

مَن حضر الاجتماع؟مَن هم الشيعة في المدينة؟

مَن قال: إنّ الإمام (علیه السلام) عمل برأي شيعته وقَبِل دعواتهم القادمة من الكوفة؟

هل أثبت التاريخ مورداً آخَر استشار فيه الإمام (علیه السلام) أحداً في حركته يومذاك؟

إنّها كذبةٌ مفترعةٌ مقذعةٌ باردةٌ مفضوحةٌ قبيحة، لا تستحقّ المناقشة والوقوف عندها.

الثلمة الخامسة: الإشارة إلى البادئ

يفيد سياق الخبر وصياغته أنّ الإمام (علیه السلام) بادر إلى استشارة شيعته! فور اتّصال خبر بيعة أهل الشام به، فأشاروا عليه بالبيعة له، وقد رتّبوا رأيهم على تسليم الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) الأمر إلى معاوية وسكوتهما، وأعربوا عن حبّهم ورغبتهم في بيعته (الآن) وقد مات معاوية ونزا يزيد على الأعواد..

وهذا السياق يوحي بوضوحٍ للمتلقّي أنّ الإمام (علیه السلام) تأثّر برأي شيعته،

ص: 256

وعزم على الخروج (بالمعنى المصطلح)، وكان هو البادئ وليس يزيد الّذي طلب رأس الحسين (علیه السلام) منذ اللحظة الأُولى!!!

ص: 257

ص: 258

الرسُل

اشارة

ذكرت المصادر بعض العناوين العامّة للتعبير عن الرسُل الّذين وافوا سيّد الشهداء (علیه السلام) يحملون كتب أهل الكوفة، وصرّحَت ببعض الأسماء، نحاول التعرّف إليها فيما يلي من خلال العناوين التالية:

العنوان الأوّل: العامّ

وردَت عناوين عامّة من دون التنصيص على أسماء بعينها، تشير إلى رسلٍ أوصلوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) كتب أهل الكوفة، من قبيل:

بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُل ((1))..

ص: 259


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207، تاريخ الطبريّ: 5 / 347، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325.

وترادفت وتواترت إليه رسلهم ((1))..

على يد قاصدين ((2))..

فأتاه رسل أهل الكوفة ((3))..فأرسلوا إلى الحسين (علیه السلام) ((4))..

وأنفذوا جماعة ((5)).

العنوان الثاني: الأسماء

اشارة

ذكروا جملةً من الأسماء باعتبارهم رسل أهل الكوفة وحاملي كتُبهم، ولا يمنع أن يكون بعضهم قد ورد اسمه في المكاتِبين أيضاً وفق بعض المصادر، كما لا يمنع أن يتقدّموا للكلام بين يدَي الإمام (علیه السلام) ويدعونه بأنفسهم، فيكونوا وفداً ورسُلاً في آن.

ص: 260


1- أُنظر: التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.
2- مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغمّة للأربليّ: 2 / 42، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 347، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 206.
4- عُمدة الطالب لابن عنبة: 158، الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117.
5- اللهوف لابن طاووس: 33.

نحاول الآن استعراض الأسماء الّتي صرّح بها المؤرّخ، والتعرّف إليها بشكلٍ إجماليّ:

الاسم الأوّل: عبد الله بن سبيع الهمدانيّ

عبد الله بن سبيع الهمدانيّ ((1))..

ذكره الدارقطنيّ في (العلل) ((2))، وذكره الدينوريّ باسم: عُبيد الله ((3))، وورد عند الطبريّ وغيره باسم: عبد الله بن سبع الهمدانيّ ((4)).

لم نقف له على ذِكر، ولم نجده في شهداء الطفّ ولا مع التوّابين حسب فحصنا، فهو في الخاذلين حتّى يتبيّن أمره.

الاسم الثاني: عُبيد الله بن مسلم الهمدانيّ

عُبيد الله بن مسلم الهمدانيّ ((5))..

ص: 261


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
2- علل الدارقطنيّ: 3 / 264.
3- الأخبار الطوال للدينوريّ: 231.
4- تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق السيّد علي أشرف.

قال السيّد الخوئيّ: مِن رسُل الكوفيّين إلى الحسين (علیه السلام) ، كما عن (المناقب) في فصل مقتله ((1)).

لم نجد له ذِكراً سوى ما في (المناقب)، ولا ندري إن كان في الاسم ثَمّة تصحيفٌ أو أنّه اسمٌ لشخصٍ بذاته، فإنْ كان الثاني فإنّا لم نقف له على ترجمةٍ ولا ذِكر، ولم نجده فيمن فدى ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في كربلاء حسب فحصنا، فهو في الخاذلين حتّى يتبيّن أمره.

الاسم الثالث: عبد الله بن مِسمَع البكريّ

عبد الله بن مسمع البكريّ ((2))..

ذكره الخوارزميّ مع ابن سبيع الهمدانيّ المذكور آنِفاً، وهو شاهدٌ أنّهما اثنان.

الاسم الرابع: عبد الله بن مِسمَع الهمدانيّ

عبد الله بن مِسمع الهمدانيّ ((3)).. بوزن مِنبَر، الهمدانيّ السبيعيّ.

ص: 262


1- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 5 / 195، معجم الرجال للخوئيّ: 12 / 93.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

له ذِكرٌ في التوّابين ((1))، هكذا قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) !

وهذا الاسم قريبٌ من الاسم الأوّل والاسم الثالث، ويُحتمَل التصحيف.

الاسم الخامس: عبد الله بن وال التَّيميّ

ورد اسم عبد الله بن وال ((2)) في مصادر كثيرة، وجاءت نسبته: التَّيميّ ((3))، والتميميّ ((4)) السهميّ ((5)).

وعند ابن الصبّاغ والشبلنجيّ: عبد الله بن والي ((6)).

ص: 263


1- إبصار العَين للسماويّ: 38.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق السيّد علي أشرف.
6- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

.. عبد الله بن وال التَّيميّ، من تَيم اللّات بن ثعلبة ((1)) بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل ((2)).

وقال السماويّ: التَّيميّ، من تَيم بن بكر بن وائل، له شرف، قُتل بعين الوردة في التوّابين مع سليمان بن صُرد ((3)).

وعبد الله بن وال التميميّ، كان شاعراً، قُتل مع التوّابين ((4)).

عدّه الشيخ الطوسيّ في مَن روى عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ((5)).

وعدّه الشيخ المفيد هو وسليمان بن صُرد في مَن يلحق الأوائل بالذكر من أوليائهم، وما عليه شيعتهم وأهل الفضل في الدين والإيمان والعلم والفقه والقرآن، المنقطعين إلى الله (تعالى) بالعبادة والجهاد والتمسُّكبحقائق الإيمان ((6)).

له خبرٌ طويلٌ يرويه في قصّة قتل الخوارج زاذان بن فروخ بناحية (نفر)، وحمْلِه كتاب الإمام (علیه السلام) إلى زياد بن خصفة، وأنّ الإمام (علیه السلام) دعا له، وأذن له أن يكون مع زيادٍ على مَن يقاتل الخوارج ((7)).

ص: 264


1- ذوب النضّار لابن نما: 74.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 189.
3- إبصار العين للسماويّ: 38.
4- أعيان الشيعة للأمين: 1 / 168.
5- رجال الطوسيّ: 78.
6- الجَمَل للمفيد: 52.
7- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 89، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 131، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 412، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 365، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 183.

وعدّه ابن أعثم من المكاتِبين الّذين وردَت أسماؤهم في كتاب سليمان وجماعته إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ((1)).

وعدّه ابن أعثم أيضاً فيمن خاطبهم سيّد الشهداء (علیه السلام) بكتابه الّذي أرسله إلى جماعةٍ من أهل الكوفة بيد قيس بن مسهر، بَيد أنّ العدوّ أخذ قيساً وقتله، في خبرٍ طويلٍ يأتي في محلّه.

وكان ممّا كتب إليهم _ حسب نصّ ابن أعثم _ :

«بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليّ، إلى سُليمان بن صُرَد والمسيّب من نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين.

أمّا بعد ...

وقد أتَتْني كتبُكم وقدمَت علَيّ رسُلُكم ببيعتكم أنّكم لا تخذلوني، فإنْ وفيتُم لي ببيعتكم فقد استوفيتم حقّكم وحظّكم ورشدكم، ونفسي مع أنفُسكم، وأهلي ووُلدي معأهاليكم وأولادكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم وخلعتم بيعتكم، فلَعمري ما هي منكر بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي، هل المغرور إلّا مَن اغترّ بكم؟

ص: 265


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 28.

فإنّما حقّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم» ((1)).

وقد طلب ابن زيادٍ من قيس أن يكشف عن أسماء الّذين خاطبهم الإمام الحسين (علیه السلام) ، فأبى.

قال الشيخ النمازيّ: لم يذكروه، هو من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، هو حسن الحال، ودعا له أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2)).

كان من أُمراء التوّابين ومفزعهم..

روى ابن عساكر قال:

وقد كان مروان _ لمّا بايع لعبد الملك وعبد العزيز _ عقد لعُبيد الله ابن مرجانة، وجعل له ما غلب عليه.

ومات مروان قبل أن ينفصل، فأمضى عبد الملك بعثه، فخرج متوجِّهاً إلى العراق.

وبلغ ذلك أهل الكوفة، وذلك في سنة ستٍّ وستّين، ففرغ شيعةالكوفة إلى سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ وإلى المسيّب بن نجبة الفزاريّ وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزجيّ وإلى عبد الله بن وال التميميّ وإلى رفاعة بن شدّاد البجليّ ((3)).

ص: 266


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 81.
2- مستدركات علم الرجال للنَّمازيّ: 5 / 124.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 458.

فسار ابن زياد، فلقي سليمان بن صُرد ومعه التوّابون بعين الوردة من بلاد الجزيرة في جُمادى الآخِرة، فقتل سليمان بن صُرد والمسيّب ابن نجبة الفزاريّ وعبد الله بن وال التيميّ _ تيم اللات _ ابن ثعلبة ((1)).

وقد جعله سليمان بن صُرد أميراً على عسكرهم بعد جماعة، قالوا:

ثمّ قام سُليمان بن صُرد، فوعظهم وذكّرهم الدار الآخرة، وقال:

إنْ قُتلتُ فأميركم المسيّب بن نجبة، فإنْ أُصيب المسيّب فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنْ أُصيب فأخوه خالد بن سعد، فإنْ قُتل خالد فالأمير عبد الله بن وأل، فإنْ قُتل ابن وأل فأميركم رفاعة ابن شدّاد ... ((2)).

وجعله سليمان أميناً على جمع الأموال في حركتهم، قال سليمان بن صُرد:

حسبكم! مَن أراد من هذا شيئاً فلْيأتِ بماله عبد الله بن وال التيميّ، تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم، جهّزنا به ذوي الخلّة والمسكنة من أشياعكم ((3)).

ص: 267


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 199.
2- ذوب النضّار لابن نما: 86، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 124، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 181، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 48، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 278، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 536.
3- تاريخ الطبريّ: 4 / 429، أصدق الأخبار للأمين: 6، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 109.

وكان من خبر مقتله أنّه تقدّم عبد الله بن وال فأخذ الراية، وقاتل حتّى قُطعَت يده اليسرى، ثمّ استند إلى أصحابه ويده تشخب دماً، ثم كرّ عليهم وهو يقول:

نفسي فداكمُ، اذكروا الميثاقا

وصابروهم واحذروا النفاقا

لا كوفةً نبغي ولا عراقا

لا، بل نريد الموت والعتاقا

وقاتل حتّى قُتِل ((1)).

فلمّا أُتي عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح!! صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فإنّ الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقحَ فتنةٍ ورأسَ ضلالة، سُليمانَ بن صُرد، ألا وإنّ السيوف تركَت رأس المسيّب بن نجبة خذاريف، ألا وقد قتل الله من رؤوسهم رأسَين عظيمَين ضالَّين مضلَّين، عبد الله بن سعدٍ أخا الأزد وعبد الله بن والٍ أخا بكر بن وائل، فلم يبقَ بعد هؤلاء أحدٌ عنده دفاعٌ ولا امتناع ... ((2)).

ص: 268


1- ذوب النضّار لابن نما: 90، وانظُر خبر خروجه مع التوّابين في: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 364، تاريخ الطبريّ: 4 / 426، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 93، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 108، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 158، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 271، الفتوح لابن أعثم: 6 / 203، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 528.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 7 / 466، تاريخ الطبريّ: 4 / 470، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 186.

هذا، وقد فحصنا فلم نجد اسمه في السجناء والمحبوسين، ولم نعرف له عذراً خاصّاً في تخلّفه عن نصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى حين تحرير هذه الأوراق.

الاسم السادس: قيس بن مسهر الصيداويّ

قيس بن مسهر الصيداويّ ((1))..

ذكره البلاذريّ باسم: قيس بن مسهر بن خليد الصيداويّ، من بني أسد ((2))، وذكره الدينوريّ باسم: بشر بن مسهر الصيداويّ ((3))، وفي (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنَف: قيس بن مسهر الأنصاريّ ((4)).

رسول سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .. ونِعمَ الرسول.. أدّى الأمانة، وحفظ الذمام، حتّى قُتِل قتلةً فجيعة، سنتشرّف بذِكره في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 269


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
4- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
الاسم السابع: عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ

ورد اسمه في المصادر باختلافٍ على النحو التالي:

عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبيّ ((1)).

عبد الرحمان بن عُبيد الأرحبيّ ((2)).

عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ ((3)).عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ ((4)).

عبد الله بن عبد الرحمان الأرحبيّ ((5)).

عبد الرحمان بن عبد الله الأرخيّ ((6)).

عبد الرحمان بن عبد الله بن الكوّا الأرحبيّ ((7)).

ص: 270


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 351.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.
5- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194.
6- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
7- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

قال الشيخ السماويّ:

عبد الرحمان الأرحبيّ: هو عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن بن أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن رومان بن بكير الهمْدانيّ الأرحبيّ، وبنو أرحب بطنٌ من همْدان.

كان عبد الرحمان وجهاً تابعيّاً شجاعاً مقداماً ((1)).

وورد السلام عليه في الزيارة الّتي رواها ابن المشهديّ والسيّد في (الإقبال):

«السلامُ على عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبيّ» ((2)).

ولمّا كان اسمه لامعاً ساطعاً بين أسماء مَن فدى الإمام الحسين (علیه السلام) في طفّ كربلاء، فسيأتي الحديث عنه وتحقيق اسمه في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

الاسم السادس: عمارة بن عبد السلوليّ

عمارة بن عبد السلوليّ ((3))..يروي حديثاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في قصّة وفاة هارون وعودة موسى (علیه السلام) إلى قومه ((4))، وروى ابن كثيرٍ نفس الحديث في تفسيره عن

ص: 271


1- إبصار العَين للسماويّ: 131.
2- المزار لابن المشهديّ: 494، الإقبال لابن طاووس: 3 / 79.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369.
4- أُنظر: جامع البيان للطبريّ: 9 / 99، الطبقات لابن سعد: 6 / 227، العلل لأحمد بن حنبل: 3 / 113، معرفة الثقات للعجليّ: 1 / 129.

عمارة بن عُبيد السلوليّ ((1)).

وقال العجليّ: عمارة بن عبد السلوليّ، كوفيّ، تابعيّ، ثقة ((2)).

واسمه عند الطبريّ في (التاريخ) وابن أعثم: عمارة بن عُبيد السلوليّ ((3)).

وفي (الإرشاد) للشيخ المفيد وغيره: عمارة بن عبد الله السلوليّ ((4)).

قال النمازيّ: لم يذكروه، هو حامل كتاب أهل الكوفة إلى مولانا الحسين (علیه السلام) ، ورجع مع مسلم إلى الكوفة ((5)).

وفي (مقتل الحسين (علیه السلام)) للخوارزميّ: عامر بن عُبيد السلوليّ ((6)).

روى الطبريّ وابن الأثير حضوره قصّة اغتيال ابن زياد المزعومة في بيت هانئ بن عروة، وأنّ عمارة بن عبد السلوليّ قال:

ص: 272


1- تفسير القرآن لابن كثير: 2 / 260.
2- معرفة الثقات للعجليّ: 2 / 162.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
5- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 6 / 20.
6- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194.

إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، وقد أمكنك الله، فاقتله!

فقال هانئ: ما أُحبّ أن يُقتَل في داري ((1)).

أيّاً كان اسمه، فإنّا لم نجد له ذِكراً في شهداء الطفّ، ولا اسماً معالتوّابين.

الاسم السابع: هانئ بن هانئ السُّبيعيّ

هانئ بن هانئ ((2)) السبيعيّ ((3)).. السبعيّ ((4))..

قال الشيخ السماويّ: السُّبيعيّ _ بضمّ السين، مصغَّر سبع _ : بطنٌ من هَمْدان ((5)).

وثَمّة اسمٌ آخَر، هو: هانئ بن هانئ بن عُبيد المذحجيّ، له حضورٌ

ص: 273


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 270، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 26.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، مثير الأحزان لابن نما: 11، اللهوف لابن طاووس: 33، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.
5- إبصار العَين للسماويّ: 38.

وشعرٌ في الجَمَل ((1)).

وورد اسمٌ ثالث: هاني بن هاني، من دون نسبة.

قال عنه الشيخ النمازيّ: من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) . روى يزيد ابن إسحاق عنه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في (كامل الزيارات)، ورواية أبي إسحاق عنه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتاب صفّين. وكان مع سعيد بن عبد الله آخِر رسُل أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) . وسائر رواياته عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في (حلية الأبرار). وذكروا في الرجال بهذا الاسم من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ثلاثة: الهمدانيّ، والمراديّ، والسبيعيّ ((2)).

قال السيّد الخوئيّ: لا يبعد اتّحاد هاني بن هاني السُّبيعيّ والمراديّ ((3)).

ولا ندري كيف يمكن أن تكون نسبة (السُّبيعيّ) لبطنٍ من همدان،ويكون الرجُل في نفس الوقت مراديّاً من مِذحَج؟!

وقال التُّستريّ: هاني بن هاني الهمدانيّ، عدّه البرقيّ في أصحاب عليٍّ (علیه السلام) من اليمن. وأقول: هو السُّبيعيّ الّذي كان هو مع سعيد بن عبد الله الحنفيّ آخِر رسُل أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) ... فسُبيع بطنٌ من همدان اليمن. وروى (كامل الزيارة) عن هاني بن هاني قال: قال عليٌّ (علیه السلام) :

ص: 274


1- الفتوح لابن أعثم: 2 / 481.
2- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 8 / 139.
3- أُنظر: معجم رجال الحديث للسيّد الخوئيّ: 20 / 275.

«لَيُقتلنّ الحسين (علیه السلام) قريباً من النهرين» ((1)).

وفي (الطبقات الكبرى): هانئ بن هانئ الهمدانيّ، روى عن عليّ بن أبي طالب، وكان يتشيّع، وكان منكر الحديث ((2)).

وقال البخاريّ: هانئ بن هانئ الهمدانيّ، يُعدّ في الكوفيّين ... سمع عليّاً ((3)).

وقال العجليّ: هانئ بن هانئ، كوفيّ، تابعيّ، ثقة ((4)).

وقال السيّد محمّد مهدي الخِرسان:

هانئ بن هانئ الهمدانيّ الكوفي:

قال ابن المدينيّ: مجهول. وقال الشافعيّ: لا يُعرَف، وأهل العلم لا ينسبون حديثه لجهالة حاله. وقال ابن سعدٍ في (الطبقات): كان يتشيّع، وهو منكر الحديث. وقال الذهبيّ: ليس بالمعروف، وقد ورد ذكره في كتب الرجال الشيعيّة، ولم يُذكَر فيه مدح.نعم، رُوي أنّه كان من آخِر رسُل أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) ، هو وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، يطلبون منه القدوم عليهم، وأنّهم ينتظرونه ولا رأي لهم في غيره، فأجابهم (علیه السلام) ، وأرسل الجواب مع

ص: 275


1- قاموس الرجال للتُّستريّ: 10 / 497.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 6 / 223.
3- التاريخ الكبير للبخاريّ: 8 / 229.
4- معرفة الثقات للعجليّ: 2 / 325.

الرسولَين المذكورين، كما ذكر ذلك الشيخ المفيد في (الإرشاد) والطبريّ وغيره ذكروا مثل ذلك.

ولدى التحقيق في أسماء شهداء الطفّ، لم أقف على ذكرٍ لهانئ بن هانئ المذكور بينهم، بينما ورد اسم سعيد بن عبد الله الحنفيّ في عداد الشهداء، وكان من المفترض فيه أن يكون كزميله الحنفيّ، ولم يُذكَر أنّه كذلك.

ونكتفي بهذا عنه، ويتّضح أنّ الرجل مجهول الحال أو مجروحاً، ومَن وثّقه لا يقوم بحجّةٍ ترفع أقوال الجارحين من أئمّة الفنّ ((1)).

وقال الشيخ المامقانيّ:

هاني بن هاني السُّبيعيّ:

هو آخِر رسولٍ أرسله أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) مع سعيد بن عبدالله الحنفيّ، يصدعونه إلى الكوفة، وكتب معهما الجواب وأرسلهما قبل مسلم بن عقيل (علیه السلام) .وحال سعيدٍ قد تقدّم، وأمّا هاني هذا فهو مجهول الحال، وليس هو ابن هاني بن عروة، فإنّ ابن ذاك يحيى، وقد نال الشهادة بالطفّ (رضوان الله تعالى عليه)، كما يأتي إن شاء الله (تعالى) ((2)).

ص: 276


1- المحسن السبط مولودٌ أم سقط؟ للسيّد محمّد مهدي الخِرسان: 39.
2- تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 290.

وقال الشيخ السماويّ: له ذِكرٌ في التوّابين ((1)).

ونحن لم نقف له على اسمٍ بين شهداء الطفّ، ولا في التوّابين _ حسب فحصنا _، ولا نعرف مستند الشيخ السماويّ (رحمة الله) .

الاسم الثامن: سعيد بن عبد الله الحنفيّ

سعيد بن عبد الله الحنفيّ ((2))..

وفي (الأخبار الطِّوال): سعيد بن عبد الله الخثعميّ، وسعيد بن عبد الله الثقفيّ ((3)).

كان سعيد من وجوه الشيعة بالكوفة، وذوي الشجاعة والعبادة فيهم ((4))، وله مواقف مشهودةٌ محمودةٌ يفتخر بها المفتخر مع المولى الغريب

ص: 277


1- إبصار العَين للسماويّ: 38.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، مثير الأحزان لابن نما: 11، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، اللهوف لابن طاووس: 33، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
4- إبصار العَين للسماويّ: 216.

مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وقد فدى سيّد الشهداء (علیه السلام) فداءً لا زال يستدرّ مدامع المؤمنين، بل الناس أجمعين، سنأتي على تفصيل ذلك حين نتشرّفبالبحث عنه في محلّه.

الاسم التاسع: عبد الله بن وداك السلميّ

ورد اسمه عند الدينوريّ فقط ((1)) _ حسب فحصنا _، ولم نقف له على ذِكرٍ ولا ترجمة، ولا حضورٍ في كربلاء ولا غيرها.

الاسم العاشر: عمر بن نافذ التميميّ

ورد اسمه في (المقتل) المتداول ((2)) فقط _ حسب فحصنا _، ولم نقف له على ذِكرٍ ولا ترجمة، ولا حضورٍ في كربلاء ولا غيرها.

العنوان الثالث: تلميحات

اشارة

يمكن تسجيل بعض التلميحات السريعة الّتي لها نوع علاقةٍ مع عنوان (الرسُل):

التلميح الأوّل: الضجيج والخلط

يمكن ملاحظة الضجيج الّذي يُحدثه المؤرّخ عند عرضه لخبر الرسُل،

ص: 278


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.

فيعمد بعضهم إلى استخدام العناوين العامّة، وتوظيف المصطلحات الطنّانة، ويجهد في محاولةٍ حثيثةٍ لرسم هالةٍ حول الأسماء الّتي يريد سردهافيما بعد، ثمّ بعد أن يسرد الأسماء، ويُكشَف النقاب عن أصل الحدَث، وإذا به حدَثٌ مبالَغٌ فيه إلى أقصى حدٍّ يمكنه أن يبالَغ به..

مع غضّ النظر عن احتمال التداخل في الأسماء والتصحيف والخلط والتفرّد الّذي قد نجده في هذا المصدر أو ذاك، ومع القول بالتعدُّد، نجد أنّ العدد لا يتجاوز الأسماء العشرة!!!

ومن البعيد جدّاً افتراض أن تكون دفعات (الخمسين) و(المئة والخمسين) قد وصلَت على يد رسلٍ غير الرسل الّذين نصّ عليهم المؤرّخ، ليقال أنّ ثَمّة رسلاً آخَرين لم يحصرهم المؤرّخ واقتصر على بعض الأسماء اللامعة أو المعروفة، إذ أنّ المؤرّخ نفسه يصرّح أنّ الرسائل كلّها (المئة والخمسين) قد وصلَت على يد هؤلاء الرسل أنفسهم، ويصرّح باسم الرسولَين اللذَين حملا هذا الكمّ الأكثر من الرسائل.

التلميح الثاني: مَن ثبت ومَن لم يثبت!

حين استعراض الأسماء المذكورة في المصادر، نجد أنّهم حملوا الكتب وتجشّموا عناء السفر ليبلغوا رحمة الله، ثمّ نكصوا على أعقابهم صاغرين ودخلوا دائرة الخاذلين، إلّا ثلاثة منهم، هم: قيس بن مسهر، وعبد الرحمان الأرحبيّ، وسعيد بن عبد الله الحنفيّ.

ص: 279

أمّا الباقون فخاذلون.. ظهر بعضهم مع التوّابين، وانغمر الآخَرون فلميُعرَف لهم خبر.

وهؤلاء النماذج لم يخفوا بحالٍ على العالم بالله الّذي يعرف الكون كلّه وأخبار الأرض والسماء، فما قيمة هؤلاء الرجال؟ وهو أعرف بهم _ حتّى لو غمضنا النظر عن علم الإمامة _، فهم من الرجال الّذين كانوا في الكوفة، وكان فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد مارسهم وعالجهم وعجمهم ولفظهم.

التلميح الثالث: خروج أكثر من رسولٍ في كلّ دفعة

يُلاحَظ أنّ الرسل قد خرجوا جمعاً في كلّ دفعةٍ كان فيها اثنان فصاعداً، حتّى الكتاب الأوّل أُرسِل بيد أكثر من واحد، والحال أنّه كتابٌ واحد!

فهل كان تكثُّر الرسل في كلّ دفعةٍ رعايةً للقضايا الأمنيّة وحياطةً للكتب؟ أو كان الرسل يحملون الرسائل المكتوبة والرسائل الشفويّة، وبالتالي يشهد أحدهم للآخَر بما يقول؟ أو أنّه زيادةٌ في التوثيق، إذ أنّ الاثنين والثلاثة يورثون الاطمئنان أكثر ممّا لو كان الحامل واحداً؟ أو أنّ المقصود الزيادة في التقدير والاحترام والتعظيم والإكرام؟ أو أنّ ثَمّة سبباً آخَر وراء ذلك كلّه؟ الله العالم!

التلميح الرابع: صبغة التشيّع!

يُلاحَظ أنّ حَمَلة الكتب كلّهم ليسوا بعيدين عن أجواء الشيعة، سواءً

ص: 280

كان التشيّع بالمعنى المصطلَح، أو التشيّع بالمعنى العام..

فهم بين شيعيٍّ معتقدٍ ثابتٍ راسخ الإيمان، كما في الثلاثة الّذين بذلوا مهجهم دون الحسين وآل الحسين (علیهم السلام) ، أو الآخَرين الّذين خذلوا فيما بعد.

ولم يكن فيهم مَن هو عدوٌّ ظاهر العداوة، معروفٌ بها مشهورٌ على رؤوس الأشهاد!

التلميح الخامس: حمَلَة الكتاب الأوّل والأخير

يُلاحَظ أنّ الدفعة الأُولى من الرسل كانوا قد حملوا كتاباً واحداً فقط، وهو كتاب سليمان وجماعته.. والدفعة الأخيرة حملَت كتاباً واحداً فقط أيضاً، وهو كتاب شبث وجماعته.. وتكثُّر الكتب كان فيما بينهما!

ولا ندري إن كان ثَمّة تنسيقٌ بين المكاتِبين في هذا الترتيب، سواءً كان بين كتاب البداية وكتاب الختام، وبين المكاتبين الآخرين، أو أنّهم كانوا يكتبون هكذا كلٌّ حسب قناعاته أو اندفاعاته، فإذا اجتمع الاثنان والثلاثة على رأيٍ كتبوا به إلى الإمام (علیه السلام) ؟!

التلميح السادس: الرسل الّذين رجعوا بكتابٍ من الإمام (علیه السلام)

رجع بعض الرسل مع المولى الغريب الحبيب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، كما نصّت عليهم المصادر، والأكيد منهم ثلاثة:

- قيس بن مسهر الصيداويّ.

ص: 281

- عمارة بن عبد الله السلوليّ.

- عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ ((1)).

وقد فصّلنا الكلام في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام))، فيما إذا كان هؤلاء قد حملوا جواباً من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو أنّهم رافقوا المولى الغريب (علیه السلام) في طريق السفر إلى الكوفة..

بَيد أنّ خلاصة الكلام أنّ الإمام (علیه السلام) لم يردّ على كلّ كتابٍ على حِدة، ولم يخصّ أحدهم بجواب، وقد سكت عنهم حتّى أرسل إليهم سفيره وثقته، وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل.

التلميح السابع: ظروف حمل الرسائل

يمكن رسم مشهد ظروف حمل الكتب ضمن التصوّر العامّ الّذي كان سائداً يومذاك، إذ أنّهم انطلقوا من الكوفة قبل أن يدخلها ابن الأَمة الفاجرة عُبيد الله بن زياد، وكان يومها قد خرج الإمام (علیه السلام) من المدينة وأقام في مكّة، فكانت الظروف قاسية، والحذر مخيّم، وأجناد شيطان الشام قد تألّبت وتحشّدت، بيد أنّ الطرق بعد لم تُؤخَذ والخيل لم تنظم الصحراء حسب سير الأحداث الّتي رواها لنا المؤرّخ، إذ أنّ جميع ذلك قد حدث بعد أن وصل ابن زيادٍ الكوفة، وتلقّى الأوامر الصارمة من سيّده يزيد الشؤم.

ص: 282


1- للتفصيل، انظر: مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل، وقائع السفارة: 2 / 27.

لقد حملوا الكتب، وكان فيها حتفُهم.. وكانوا قد جازفوا بالخوض في مخاطرةٍ عنيفةٍ قد تودي بحياتهم، رغم الهدوء النسبيّ الّذي كان يسود الطرق إذا قيس إلى فترة ما بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة!

ويبقى دخول مكّة بمثل هذه الكتب مخاطرةً فوق المخاطر؛ لما كان من أجواءٍ مشحونةٍ وحذرٍ شديد، وانتشار العيون والجواسيس وترقّب السلطان وأتباعه، ومتابعة كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في الحرم بعد أن دخلها سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وابن الزبير.

ص: 283

ص: 284

نصّ الكتاب

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الواردة في المقام باعتبار طريقة نقل الحدَث إلى قسمَين:

القسم الأوّل: تقرير المؤرّخ

إعتدنا على تمييز ما يقرّره المؤرّخ في الإخبار عن الحدَث واختصاره وصياغته بعبارته من دون نقل النصوص والأحداث، وقد رأينا في الغالب مدى تصرّفه في النقل وصياغته الخبر كما يحلو له، إذ يكون متحرّراً من التزام النصّ، فيروي في الحقيقة فهمه، أو ما يريد أن يلقيه إلى المتلقّي وفق سياقاته.

فهو هنا يمارس نفس الأُسلوب ليمرّر ما يريد تمريره، من خلال الاقتصار على حكاية ما يفهمه من النصوص، واختصار الأحداث الّتي رُويت في التاريخ..

فرتّب خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة على وصول الكتب إليه، وأنّه استجاب للمراسلات، وقَبِل الدعوة منهم كما وعدوه، وأنّه اغترّ بهم!

ص: 285

حيث وعدوه أن يطردوا النعمان ويسلّموا الأمر إليه، وأنّهم لم يبايعوا أحداً غيره، وأنّهم بايعوه بعد موت معاوية، أو أنّهم خلعوا بيعة يزيد وبايعوه، وأنّ بيعتهم له على السمع والطاعة، وأنّهم يبذلون له النصرة على بني أُميّة، وقد اجتمعوا وتحالفوا على ذلك، وأنّهم كانوا يكرهون بني أُميّة، وخصوصاً يزيد؛ لقبح سيرته، ومجاهرته بالمعاصي، واشتهاره بالقبائح، وأنّهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعةٍ ولا عيد، وأنّهم جعلوا يستحثّونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضاً عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنّهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه، ويتكلّمون في دولته، وأنّهم لما يبايعوا أحداً إلى الآن، وأنّهم ينتظرون قدومه إليهم ليقدّموه عليهم ((1))..

ص: 286


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، التتمّة لتاج الدين العامليّ: 77، الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، عمدة الطالب لابن عنبة: 158، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، كتاب الفخريّ لابن طقطقيّ: 104، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131، أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 57، الثقات لابن حبّان: 2 / 306، التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303، تاريخ الطبريّ: 5 / 347، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 62.

هكذا رسم المؤرّخ صورةً عبّر فيها عن كوامن المكاتِبين، وما يعتمل ويجيش في صدورهم، وما يأملون ويتمنّون، وأنّهم عرضوا ذلك في مكاتيبهم، من دون نقل النصوص بالحرف!

لقد خطّ المؤرّخون هؤلاء خطّةً وشيّدوا فكرةً، لا ندري إن كانوا أخذوها من مضامين الكتب، أو أنّهم رصفوا هذه المحتويات وفق متطلّباتالسلطان؟!

القسم الثاني: نقل الخبر

اشارة

نجد في المصادر عدّة متونٍ منقولةٍ كنصوصٍ للكتب الّتي وصلَت إلى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بغضّ النظر عن ناقليها وترتيبها الزمنيّ، إذ المهمّ هنا معالجة المتون وما ورد فيها، ويمكن نظمها تحت عدّة نصوصٍ وكتب:

الكتاب الأوّل: سُليمان
اشارة

إتّفقت المصادر على رواية كتاب سليمان بن صُرد وجماعته كأوّل كتابٍ وصل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو الكتاب الأكثر تفصيلاً والأطول بين الكتب الواردة، ومن الطبيعيّ أن تكون ثَمّة اختلافاتٌ لفظيّةٌ تتراوح بين الزيادة والنقصان حسب المصادر والرواة.

ص: 287

المتن الأوّل: ابن قُتيبة والبلاذريّ والطبريّ ومَن تلاهم

ذكرنا جميع ألفاظ الكتاب في بداية البحث، لذا سنحاول هنا الجمع بينها لنخلص إلى نصٍّ واحد، سنجهد في جعله جامعاً للمهمّ مِن المضامين والمحتويات، إن شاء الله (تعالى)..

روى أكثر المؤرّخين متناً لكتاب سليمان بن صُرد وجماعته، حاولنا جمع ألفاظهم في المتن التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم.للحسين بن عليّ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.

فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى (اعتدى) على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبَها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها (فانتزعها حقوقها، واغتصبها أُمورها، وغلبها على فيئها، وتأمّر عليها على غير رضىً منها)، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ (فأقدِمْ علينا)، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ (على الهدى).

(واعلم) فإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع

ص: 288

(نجمع) معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا مخرجُك (إقبالك إلينا) (أنّك قد أقبلتَ إلينا) أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام.

والسلام ((1)).

المتن الثاني: ابن أعثم والخوارزميّ

روى ابن أعثم _ وتبعه الخوارزميّ، واختصره السيّد ابن طاووس _ كتاباً يشبه المتن الأوّل بشيءٍ من التفاوت المناسب لذوق ابن أعثم وطريقته في السرد القصصيّ واندفاعه، قال:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من سُليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة شيعته من المؤمنين، سلامٌ عليك.

ص: 289


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قبل الجبّارَ العنيد الغشوم الظلوم، الّذي ابتزّ هذه الأُمّة أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعُتاتها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

ثمّ إنّه قد بلغَنا أنّ وَلده اللعين قد تأمّر على هذه الأُمّة بلا مشورةٍ ولا إجماع، ولا علمٍ من الأخيار (الأخبار).

وبعد، (ونحن) فإنّا مقاتلون معك، وباذلون أنفُسَنا من دونك، فأقبِلْ إلينا فرحاً مسروراً، مأموناً مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، وإماماً خليفةً علينا مهديّاً، فإنّه ليس علينا إمام.ولا أمير إلّا النعمان بن بشير، وهو في قصر الإمارة وحيدٌ طريدٌ، لا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولا نؤدّي إليه الخراج، يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ولو بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا، أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام.

فأقدِمْ إلينا، فلعلّ الله (تعالى) أن يجمعَنا بك على الحقّ.

والسلام عليك يا ابن رسول الله، وعلى أبيك وأخيك، ورحمة الله وبركاته ((1)).

ص: 290


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، اللهوف لابن طاووس: 33.
المتن الثالث: ابن الجَوزيّ وسبط ابن الجَوزيّ والبرّيّ

قال ابن الجَوزيّ في (المنتظَم):

وكان أهلُ الكوفة قد بعثوا إلى الحسين (علیه السلام) يقولون: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة، فأقدِمْ علينا.

فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجيّة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.

فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، الحمدُ لله الّذي قصمعدوَّك.

وإنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله يجمعنا بك ((1)).

وهذا المقطع يبدو واضحاً أنّه مُقتَطَعٌ من الكتاب الطويل الّذي رواه غيره، فيدخل الحديث عنه ضمن المتن الأوّل.

وروى ابن الجَوزيّ في (الردّ على المتعصّب العنيد) لفظاً آخَر للكتاب، مسنداً عن يونس بن أبي إسحاق قال:

... وكتب إليه سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا:

ص: 291


1- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327.

إنّا تركنا الناس متطلّعةً أنفُسهم إليك، وقد رجونا أن يجمعنا اللهُ بك على الحقّ، وأنْ ينفي عنهم بك ما هم فيه من الجَور، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّة فيئها وقتل خيارها ((1)).

وروى قريباً منه البرّيّ، قال:

فلمّا قدم الحسينُ مكّة، كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة الفزاريّ وغيرهما من رجال أبيه وشيعته من الكوفة:

هلُمّ إلينا يا ابن رسول الله، فأنت أحقُّ بالخلافة من يزيد الخمور.

وكتبوا بيعتهم ((2)).وكذا فعل سبط ابن الجَوزيّ في (التذكرة)، قال:

ولمّا استقرّ الحسينُ بمكّة، وعلم به أهلُ الكوفة، كتبوا إليه يقولون:

إنّا قد حسبنا أنفُسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فأقدِمْ علينا، فنحن في مئة ألف.

فقد فشا فينا الجَور، وعُمل فينا بغير كتاب الله وسُنّة نبيّه، ونرجوا أن يجمعنا الله بك على الحقّ وينفى عنّا بك الظلم، فأنت أَحقُّ بهذا الأمر من يزيد وأبيه، الّذي غصب الأُمّة فيئها، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين.

ص: 292


1- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35.
2- الجوهرة للبرّيّ: 41.

وكان ممّن كتب إليه: سليمان بن صُرد، والمسيّب بن نجبة، ووجوه أهل الكوفة ((1)).

ومن الواضح من ملامح هذه النصوص أنّهم لم يروُوا إلّا المنتزَع من الكتب والرسائل حسب فهمهم، وليس هو نصّ الكتاب!

المتن الرابع: أبو مِخنَف (المتداوَل)

وجاء في (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبي مِخنَف (النسخة المتداوَلة):

بسم الله الرحمن الرحيم.

إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، مِن سُليمان بن صُردالخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجليّ وحبيب بن مظاهر الأسديّ ومَن معه من المسلمين، وسلامٌ عليك ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فإنّا نحمد اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، ونصلّي على محمّدٍ وآل محمّد.

واعلمْ _ يا ابن محمّدٍ المصطفى وابنَ عليٍّ المرتضى _ أنْ ليس لنا إمامٌ غيرك، فاقدِمْ إلينا، لنا ما لَك وعليك ما علينا، فلعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى.

واعلمْ أنّك تقدمُ على جُنودٍ مجنَّدة، وأنهارٍ متدفّقة، وعيونٍ جارية، فإنْ لم تقدم على ذلك فابعثْ إلينا أحداً من أهل بيتك، يحكم

ص: 293


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 136.

بيننا بحكم الله (تعالى) وسُنّة جدّك رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

واعلمْ أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نشهد معه جمعةً ولا جماعة، ولو أنّك أقبلتَ إلينا لَكُنّا أخرجناه إلى الشام.

والسلام ((1)).

وقد أفردنا هذا المتن رغم شبهه بالمتن الأوّل؛ لِما فيه من مفرداتٍ تفرّد بها عن المصادر الأُخرى، وهي أنسب بأُسلوبه السرديّ القصصيّ.

المتن الخامس: مسكوَيه

قال مسكوَيه في (تجارب الأُمم):

ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مِثل سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين.

أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجل، ثمّ العجل.

والسلام ((2)).

وهو خلطٌ واضح، إذ أنّ حامل هذه الرسالة هو هانئ بن هانئ السُّبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، كما نصّ مسكويه نفسه، وهو كتابٌ

ص: 294


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
2- تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41.

ذكره المؤرّخون الآخَرون من دون نسبته إلى سليمان والمسيّب وجماعتهما، وسيأتي الكلام عن متن الكتاب في (الكتاب الثالث).

تذكير: رواية ابن كثير

نذكر هنا عبارة ابن كثير؛ لِما فيها من صياغةٍ متفرّدةٍ تنمّ عن مطاوي المؤلّف وكوامنه، وإنّما عمدنا إلى ذِكره _ رغم أنّه يدخل في القسم الأوّل _ لغرض التنويه والتذكير..قال:

وقد كثُر ورود الكتُب عليه من بلاد العراق، يدعُونه إليهم، وذلك حين بلغهم موتُ معاوية وولاية يزيد ومصيرُ الحسين إلى مكّة فراراً من بيعة يزيد.

فكان أوّلَ مَن قدم عليه عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، معهما كتابٌ فيه السلام والتهنئة بموت معاوية، فقَدِما على الحسين لعشرٍ مضين من رمضان من هذه السنة ((1)).

يُلاحَظ أنّ ابن كثيرٍ لم يروِ كتاباً، وتكلّم دائماً من عند نفسه كتقريرٍ للكتب والرسل، واقتصر في رواية كتاب سليمان بن صُرد وغيره على قوله: «كتابٌ فيه السلام والتهنئة بموت معاوية»، فيما يروي كتاب شبث بن ربعيّ وجماعته وينقله نصّاً!

ص: 295


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

* * * * *

إنّ جملة ما ورد في الكتب من نقاطٍ مهمّة، وهي بين تظلُّمٍ وإخبار، وكشفٍ عن كوامن الصدور والمعتقدات، ودعواتٍ وإعلانٍ عن الاستعداد، ورغم ما في زيادات المتأخّرين عن الكتاب الأوّل من ملاحظاتٍ تدعوا إلى التريُّث والمراجعة، إذ أنّ بعضها يبعث في النفس الاطمئنان أنّها إدخالٌ للنصوص بعضها في بعض، واستفاداتٌ من مجموع الكتُب الواصلة، وطريقةالعرض تفيد ذلك بوضوح، لذا سنؤجّل دراسة متون الكتب كلّها إلى ما بعد استعراضها جميعاً.

الكتاب الثاني: قيس

إقتصر المؤرّخون على ذكر النوبة الّتي حمل فيها قيس بن مسهر الصيداويّ وجماعته خمسين كتاباً، أو مئةً وخمسين صحيفة، من الرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة، من دون ذِكرٍ لمتنٍ خاصّ ((1)).

ص: 296


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

ومنهم مَن ذكر ذلك مضموناً واحداً، لخّصه بقوله: يسألوه القدوم عليهم ((1)).

ربّما كان في هذا الأمر ما يبعث على التريُّث، ويثير سؤالاً، ملخّصه:

لماذا تغافل المؤرّخ عن هذا الكمّ الكبير من الرسائل والكتُب، ولم ينقل لنا بعض النصوص الّتي كتبها أصحابُ تلك الكتب والصحائف؟!

أجل، انفرد كتاب (المقتل) المتداول لأبي مِخنَف بمتن كتابٍ حمله قيس ابن مسهر الأنصاريّ _ على حدّ تعبيره _، قال:

ولبثوا يومَين آخَرَين، وبعثوا إليه [قيس بن] مسهر الأنصاريّ، ومعه كتابٌ فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

أمّا بعد، فإنّه لا إمام غيرك لنا، يا ابن رسول الله، العجلَ العجل ((2)).

وهو غريبٌ وشاذّ؛ إذ أنّه جعله كتاباً واحداً، ولم يذكره ضمن المئة والخمسين صحيفة، فكأنّه كتابٌ خاصّ، وليس فيه شيءٌ يُلفت الانتباه

ص: 297


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، اللهوف لابن طاووس: 33.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.

سوى استعجال الإمام (علیه السلام) للقدوم، وإخباره أن لا إمام لهم غيره، وهذا المضمون قد ورد في المتون الأُخرى!

* * * * *

تبقى هنا قضيّةٌ تبدو أنّها بمكانٍ من الأهمّيّة، ربّما منعَت المتابع من تجاوزها والتغافل عنها، وهي:

إنّ المعهود المرسوم يومذاك أنّ المكاتبات والمراسلات والدعوات لا تُقدّم من النفر والنفرين والثلاث، ومن أفراد المجتمع كأفراد، ولا يبادر بها الأفراد ما لم يكونوا من الوجهاء وأُمراء القبائل وشيوخها، ومَن يسمّونهم الأشراف، ممّن يكتب عمّن وراءه وتحت إمرته وأتباعه.

إلّا أن يُقال: إنّ الّذين كتبوا _ من قبيل سُليمان والمسيّب _ كانوا رؤساء الشيعة، فتكلّموا نيابةً عنهم.

وهو بعيد؛ إذ أنّ هؤلاء ليسوا رؤوس الشيعة الأصليّين يومها، وإنْ كانوامن ذوي الوجاهة.

أضف إلى ذلك أنّ المؤرّخ قد صرّح أنّها كتب وصحائف متفّرقة، من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة، ولو كانوا من الوجوه والأُمراء لَذكر أسماءهم، كما فعل مع غيرهم من الوجوه والأعيان والشخصيّات المعروفة.

الكتاب الثالث: فحيَّهلا

حمل هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ كتاباً يمكن جمع

ص: 298

ألفاظه في المتن التالي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين والمسلمين.

أمّا بعد، فحيَّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجلَ العجل، (ثمّ العجلَ العجل، ثمّ العجل).

والسلام عليك يا ابن رسول الله ((1)).

الكتاب الرابع: شبث

إكتفى ابن الأثير والنويريّ بذِكر مقطعٍ من كتاب سليمان بن صُرد، ثمّ ذكرا أنّهم أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثّونه على المسير إليهم، ثمّ ذكرا أسماء شبث وجماعته، وقالا أنّهم كتبوا إلى الحسين (علیه السلام) بذلك، ولم يذكرا نصّالكتاب ((2)).

ص: 299


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 251، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 325 و327، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغمّة للأربليّ: 2 / 42، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 226، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144.
2- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385.

وفي (مقتل الحسين (علیه السلام)) المتداوَل لأبي مخنف، اكتفى بمختصرٍ شديدٍ لنصّ الكتاب، قال:

وكتبوا كتاباً يقولون فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

قد أينعَت الثمار، فأقدِمْ إلينا يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) مُسرعاً ((1)).

وروى ابن أعثم والخوارزميّ وتلاهما الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس نصّاً فيه زيادةٌ عن المشهور، كأنّه دمج كتابين، قال:

ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ بكتاب، وهو آخِر ما ورد إليه من أهل الكوفة، وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه.

أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجناب (الجنّات)، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئتَ، فإنّما تقدم إلى جُندٍ مجنَّدٍ لك.والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك مِن قَبل ((2)).

ص: 300


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 17.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، مثير الأحزان لابن نما: 11، اللهوف لابن طاووس: 33.

أمّا النصّ المشهور الّذي رواه البلاذريّ والطبريّ ومَن تلاهما، فهو:

وكتب إليه أشراف الكوفة: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ، ومحمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ، وحجّار بن أبجر العجليّ، ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رُويم الشيبانيّ، وعزرة (عروة) بن قيس الأحمسيّ، وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ:

أمّا بعد، فقد اخضرّ (أخصب) الجناب (الجنّات)، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ علينا، فإنّما تقدم على جُندٍ لك مجنَّد (فاقدم على جنودٍ مجنَّدةٍ لك).

والسلام عليك ((1)).

بغضّ النظر عمّا ورد في التنويه السادس الّذي افترض في هذه الزمرة التابعة للسلطان موقفاً له سوابقه وتخطيطه، وعلى فرض حُسن الظنّ بمثل هذه المخلوقات القذرة الّتي لوّثَت صفحات التاريخ بعفَنها ونتَنِها، فإنّ

ص: 301


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41، إعلام الورى للطبرسيّ: 223، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.

هؤلاء النماذج يشكّلون الأكثريّة بين الرؤوس وكبار الشخصيّات، وأقلّيةً كانت تنتشر في المجتمع الكوفيّ يومئذٍ بحكم كونه وجوهاً وأشرافاً،وهم إنّما كاتبوا سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) طمعاً في الدنيا، وحبّاً للدَّعَة، وانتهازاً للفرص، وركوباً للموجة الّتي كانوا يستشرفون منها جنيَ قِطاف العيش الرغيد الّذي استروحوه يوم ماجت بعض أرجاء الكوفة بذكر الحسين (علیه السلام) واللجوء إليه فراراً من الحكم الأُمويّ الّذي اهتزّت أركانه _ فيما يصوّرون _ بهلاك القرد المترهّل معاوية.

ويمكن استكشاف ذلك من نصّ كتاب هؤلاء الانتهازيّين، من أمثال شبث بن ربعيّ وحجّار ابن أبجر وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجّاج ومحمّد ابن عمير التميميّ:

أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمّت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنَّد ...

كلام هؤلاء الأوغاد يتركّز على جنّاتٍ خضراء، وثمارٍ يانعة، وآبارٍ طامية، وزروعٍ باسقةٍ تنتظر القطاف وجني الثمار، وهم في رفاهيةٍ من العيش ودَعَةٍ من الحياة، فإنْ شاء الحسين (علیه السلام) فلْيقدم، لأنّ الناس ينتظرونه.. الناس ينتظرونه! أمّا هم أنفسهم، فإنّهم ينتظرون القطاف، فإذا جاء كانوا معه، وقد قدّموا لذلك مع مَن قدّم، وسجّلوا موقفاً مع مَن سجّل.. وإن لم يأتِ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الحسين (علیه السلام) ، فلْيأتِ غيره، ولا خطر عليهم في ظلّ الغير؛ لأنّهم منه!

ص: 302

إنّهم قالوا: إذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنَّد..فكأنّهم يريدون إخباره (علیه السلام) بما يجري من بيعة الناس له، ولا يريدون أن يعلنوا له عن استعدادٍ ألبتّة، فلا يريدونه أن يقدم عليهم إماماً وأميراً يحاربون تحت لوائه، إنّهم يقولون: «أقدِمْ على جُندٍ لك»، ولا يقولون: أقدِمْ علينا فإنّنا جُندٌ لك!

هكذا هم أصحاب هذا الفريق.. متقلّبون، متزلّفون، انتهازيّون، يميلون مع كلّ ريحٍ ترحل بهم إلى مآربهم وأطماعهم، وتكون مادّةً لشهواتهم ونوازعهم ونزعاتهم، فإذا كانت الدنيا مع الأدعياء ركعوا لهم، وتزلّفوا إليهم، وتخندقوا في خنادقهم..

إنّهم فريقٌ يمدّ عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا وزينتها، والجنان المخضرّة، والثمار اليانعة، والمياه الجارية..

فريقٌ لا يعاني من مضايقاتٍ ولا مطارداتٍ في ظلّ الحكم القائم.. يرى ازدهار مسيرة العمران الدنيويّ، وكلّ ما يراه هو نعيمٌ وحدائق ذات بهجة، ونخيلٌ باسقاتٌ حان اقتطافها، وأُكُلٌ دائمٌ يخشون انقطاعه..

فريقٌ لا يذكر السلطان الحاكم بسوء.. لا يشعر بفراغ الإمامة؛ لأنّه لا يميّز بين إمامة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ومُلكِ أولاد البغايا والأدعياء والطلقاء..

يتكلّم هذا الفريق بضمير الغائب، لا بضمير المتكلّم.. لا يعِدُ النصرة بالنفْس، إنّما يتحدّث عن استعداد الغير، فهو يعِدُ عن جُندٍ لا يعدّ نفسه

ص: 303

منهم..

يكتب هذا الفريق بالكناية والتلويح، ويستعمل العبارات الّتي لا تُدخِل السرور على قلب الحسين (علیه السلام) ولا تُحزن أعداءه، تماماً كما يعبّر القرآن الكريم: ﴿لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء﴾ ((1))، ولو وقع الكتاب بيد أعداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فإنّ فيه متَّسعاً، ومجال اعتذار، بل فيه مدحاً مبطَّناً يُكشَف بعد شرح ما بين السطور من كلماتهم، وهم لا يذكرون هلاك الطاغية، ولم يبدوا فرحاً بضعف الدولة الحاكمة في الشام، ولم يتعرّضوا للوالي الممثِّل له في الكوفة ((2))..

كأنّهم يقولون للإمام (علیه السلام) : لقد بنى بنو أُميّة وشيّدوا وزرعوا وعمّروا البلاد، حتّى أضحت كالجنّات، فاغتنم الفرص واحصد ما زرعوا!!

الكتاب الخامس: مئة ألف

وروى البلاذريّ مسنداً عن حُصين بن عبد الرحمان، أنّ أهل الكوفة كتبوا إلى الحسين: إنّا معك، ومعنا مئةُ ألف سيف ((3)).

وفي لفظ الطبريّ وابن كثير: إنّه معك مئة ألف سيف ((4)).

ص: 304


1- سورة النساء: 143.
2- أُنظر: المولى الغريب مسلم بن عقيل، وقائع السفارة: 2 / 120 وما بعدها.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422.
4- تاريخ الطبريّ: 5 / 391، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 170.

وفي لفظ ابن الجَوزيّ: نحن معك مئة ألف ((1)).

وروى الشيخ ابن نما: إنّا معك مئة ألف ((2)).نُسب هذا الكتاب إلى أهل الكوفة، فمَن هم هؤلاء الّذين تحدّثوا عن مئة ألف سيفٍ وأعلنوا أنّهم معه؟!

هل كان هؤلاء هم أُمراء العساكر ممّا سُمح لهم أن يتحدّثوا عمّن تحت إمرتهم؟!

هل كان هؤلاء المئة ألف سيفٍ ضمن تشكيلات جُند السلطان، أو أنّهم غيرهم؟ فإن كانوا هم فقد كذبوا، وشهد بكذبهم التاريخ والواقع، وإن كانوا غيرهم فهذا يعني أن يكون في الكوفة مئتا ألف سيف، وهذا أيضاً ما يشهد التاريخ والواقع بكذبه..

ولو جمعنا أعلى الأرقام المذكورة في المكاتِبين والمبايعين _ على سبيل الفرض جدلاً _، فهما رقمان:

أحدهما ذكره الشيخ ابن نما: (اثنا عشر ألف كتاب)، ولْيكن الكتاب من الرجُل والرجُلين والثلاثة، فأعلى الأرقام هو (ستةٌ وثلاثون ألفاً)، هذا بغضّ النظر عن المناقشة في أصل الخبر كما مرّ معنا.

والرقم المشهور في المبايعين هو (ثمانية عشر ألفاً)، وعلى فرض أن يكون

ص: 305


1- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 35.
2- مثير الأحزان لابن نما: 11.

المبايع غير المكاتب، سيكون المجموع أربعةً وخمسين ألفاً، وهو بعدُ لم يبلغ المئة ألف.

فكيف يعدُ هؤلاء بهذا العدد الهائل، وهم بعدُ لم يستكشفوا شيئاً منمواقف الناس المبايعين ولم تبلغهم إحصاءات؟!

كيف كان، فإنّ وجود هذا العدد من السيوف في الكوفة يومذاك أمرٌ طبيعيّ، بحكم كونها ثكنةً عسكريّةً تتكردس فيها العساكر وتتكاثف فيها الجنود ويتمركز فيها الجيش، وكانت السرايا والكتائب تنبعث منها إلى الثغور والمصائف والمشاتي، وتعتبر الخزّان الّذي يمدّ السلطة بالجند متى اقتضَت الضرورة ودعت الحاجة..

أمّا أن يكون هذا العدد قد أعلن النصرة لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، فهو أمرٌ لا تنهض به الشواهد والأدلّة التاريخيّة، ولا تساعد على قبوله بحال.

أجل، ربّما كان مَن كتب _ وهو مجهولٌ تماماً _ قد خضع للأجواء الحماسيّة، فأراد أن يُبالغ فانفضح!

الكتاب السادس: مضامين بعض الكتب

روى الطبريّ وتلاه آخَرون نصوصاً يبدو عليها بوضوحٍ أنّها مختصراتٍ عن ألفاظ الكتب الأُخرى، من قبيل كتاب سليمان وجماعته، من دون التصريح بأسماء المكاتبين، وإنّما نُسبَت إلى أهل الكوفة..

ص: 306

من قبيل:

فأتاه أهلُ الكوفة رسُلُهم: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنانحضر الجمعة مع الوالي، فأقدِمْ علينا ((1)).

وفي (المروج) للمسعوديّ:

أرسلَ أهلُ الكوفة إلى الحسين بن عليّ: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعةً ولا جماعةً بسببك ((2)).

وقال مسكوَيه:

فكاتبوا الحسين بن عليّ: إنّا قد اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّي بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلتَ إلينا رجونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان ((3)).

وقال الطبرسيّ:

فكتبوا إليه كتباً كثيرة، وأنفذوا إليه الرسل إرسالاً، ذكروا فيها: إنّ الناس ينتظرونك، لا داعي لهم غيرك، فالعجلَ العجل ((4)).

ص: 307


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 347، الأمالي للشجريّ: 1 / 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64.
3- تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 41.
4- إعلام الورى للطبرسيّ: 223.

لمّا كانت هذه المتون مجتزأةً ومقطوعةً من المتون الأُخرى، إمّا نصّاً أو انتزاعاً، لذا سيتناولها البحث ضمن ما وردَت فيه من النصوص الأصليّة.

الكتاب السابع: وفد

أشار أبو الفرَج إلى وفدٍ انطلق إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، عليهم أبو عبد الله الجدليّ، من دون ذكر التفاصيل ولا الكلام الّذي صدر عنهم في محضرسيّد الشهداء ((1)).

بَيد أنّ الشيخ ابن نما ذكر الخبر مفصَّلاً، فقال:

ورويتُ إلى يونس بن أبي إسحاق، قال:

خرج وفدٌ إليه من الكوفة، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، ومعهم كتبٌ من شبث بن ربعيّ وسليمان بن صُرَد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله [بن] وال وقيس بن مسهر الأسديّ _ أحد بني الصيداء _ وعمارة بن عتبة السلوليّ وهانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ ووجوه الكوفة، يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد.

وقالوا: إنّا تركنا الناس قِبَلنا وأنفُسهم منطلقةٌ إليك، وقد رجونا أن يجمعَنا اللهُ بك على الهدى، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّة فيئها وقتل خيارها، واتّخذ مال الله دولاً في شرارها، وهذه كتب

ص: 308


1- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 62.

أماثلهم وأشرافهم، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه في جمعةٍ ولا جماعةٍ ولا عيد، ولو بلغَنا إقبالُك أخرجناه حتّى يلحق بالشام ((1)).

تفيد عبارة الشيخ أنّ الوفد جاء ومعه كتب مَن ذكرهم، وهم نفسالأسماء المذكورة في المصادر الأُخرى الّتي ذكرت لكلّ مجموعةٍ منهم كتاباً مستقلّاً أُرسل بيد قاصديهم، ثمّ جمع مقالتهم ولخّص مهمّتهم بقوله: «يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا: ...».

والسياق يشهد أنّه عبّر عن مراد الوفد وما جاء في الكتب، فلا يمكن استفادة الحوار بين الوفد وبين سيّد الشهداء (علیه السلام) من كلام الشيخ، ولا يمكن اعتباره نصّاً مستقلّاً لكتابٍ خاصّ، وليس في كلامه جديدٌ عمّا ورد في جملة المتون المرويّة للكتب، فتدخل دراسة ما ذكره ضمن بحث المتون الأُخرى، فلا ضرورة للإعادة.

الكتاب الثامن: أنت آثم!!!

روى سبط ابن الجَوزيّ كتاباً كأنّه حكايةٌ لما كتبوا، قال:

قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ حسيناً كثُرت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسُلُهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثم!

وذكر أنّ حامل هذا الكتاب هما عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله

ص: 309


1- مثير الأحزان لابن نما: 11.

ابن وال، قال:

فكتبوا إليه بما قدّمنا ذِكره، وبعثوا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، فقدما إلى الحسين لعشرٍ مضين منرمضان ((1)).

وقوله: «فكتبوا إليه بما قدّمنا ذكره»، يفيد أنّهم كتبوا ذلك بالفعل، بَيد أنّ ما سمعناه من نصوص الكتب الّتي حملها هذان الرسولان لم نجد فيه ما يفيد هذا التعبير.

وقوله: «ثمّ إنّ حسيناً كثُرت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسلهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثم!»، واضحٌ في الحكاية بما لا يحتاج إلى مزيد عناية.

فربّما فهم سبط ابن الجَوزيّ من مجموع ما كتبوا إلى الإمام (علیه السلام) أنّهم يحمّلون الإمام (علیه السلام) المسؤوليّة، وأنّه إن لم يصل إليهم فهو (آثم)، فصبّ فهمه في هذه العبارة.

كيف كان، سواءً أكان فهمه أو كان نصّاً كتبه بعضهم، فإنّه تجاوز الحدود بلا حدودٍ في إساءة الأدب، شلّ بنان من كتب، أيّاً كان!

ومن المعيب أن نتناول مِثل هذا النصّ الموبوء التافه بالمناقشة، فنتركه لما به.

ص: 310


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 139.
الكتاب التاسع: كتابٌ جامع

كتب ابن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ أنّ رؤساء أهل الكوفة كتبوا إلىالإمام الحسين (علیه السلام) كتاباً جامعاً، وسرد أسماء سليمان بن صُرد وجماعته وشبث وجماعته، ثمّ قال:

وغيرهم من أعيان الشيعة ورؤساء أهل الكوفة، قريباً من نحو مئة كتاب، وسيّروا الكتب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن والي، وهم يحثّونه فيها على القدوم عليهم والمسير إليهم على كلّ حال.

وكتابٌ واحدٌ عامٌّ على لسان الجميع، كتبوه وأرسلوه مع القاصدين، وصورته:

بسم الله الرحمن الرحيم.

للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه عليّ (علیه السلام) .

أمّا بعد، فإنّ الناس منتظروك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، لعلّ الله (تعالى) أن يجمعنا بك على الحقّ، ويؤيّد بك المسلمين والإسلام، بعد أجزل السلام وأتمّة عليك، ورحمة الله وبركاته ((1)).

وعبارته واضحةٌ في الحكاية وعدم نقل نصٍّ بعينه، وإنّما هو اختيارٌ لنصٍّ من بين النصوص، وليس فيه جديدٌ عمّا سبق سوى ما قاله من

ص: 311


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 184، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256.

رجاء أن يؤيّد الله بالإمام المسلمين والإسلام!

الكتاب العاشر: الشيخ الطُّريحيّ

إنفرد (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنَف بحكاية كتابٍ جمع فيه ما كتبوه إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، بإضافاتٍ لم تكن عند غيره، ويبدو أنّ الشيخ الطُّريحيّ (رحمة الله) ينقل في (المنتخَب)، فقال:

فلمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية، امتنعوا من البيعة ليزيد، فاجتمعوا وكتبوا إلى الحسين كتاباً، يقولون فيه:

أقدِمْ إلينا، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، فلعلّ الله يجمع بيننا وبينك على الهدى ودين الحقّ.

ورغّبوه في القدوم إليهم، إلى أن قالوا:

فإنْ لم تقدر على الوصول إلينا، فأنفِذْ إلينا برجُلٍ يحكم فينا بحكم الله ورسوله.

وكتبوا بهذا المعنى كتباً كثيرة ((1)).

في أُسلوبه القصصيّ السرديّ إضافتان غريبتان:

أحدهما: دعوة الإمام (علیه السلام) على أن يكون له ما لهم وعليه ما عليهم.

وثانيهما: إنْ لم يقدر على الوصول إليهم، فلْيُنفِذ إليهم برجُلٍ يحكم فيهم بحكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 312


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 422.

ولا ندري كيف يمكن أن يكون للإمام (علیه السلام) ما لهم وعليه ما عليهم؟!إلّا إذا قلنا: إنّ المقصود أن يأتيهم فيحموه كما يحموا أنفسهم، فيصيبه ما أصابهم، إذ لا يمكن أن يكون الإمام (علیه السلام) إلّا إماماً آمِراً ناهياً مطاعاً مقدَّماً على النفس والأهل والمال، يموتون دونه ويفدونه بأرواحهم وبالغالي والنفيس.

أمّا ثانيهما: فنرجّح أن لا نقترب منه الآن، وفيما سمعنا من نصوص الكتب وقرأنا في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة) عند استعراض نصوص (الدعوة) ما يغني عن إطالة المكث هنا، وسيأتي الكلام مفصَّلاً في محلّه.

هذا بغضّ النظر عن انفراد الشيخ الطريحيّ بما قدّم! وكأنّه نوع استباقٍ للأحداث، وتلقينٌ لجعل موقف الإمام (علیه السلام) في إرسال أخيه المولى الغريب (علیه السلام) بناءً على طلب القوم.. وهو ما يكذّبه _ بكلّ قوّةٍ وصلابةٍ _ التاريخُ والنصوصُ ومبادرةُ الإمام (علیه السلام) !

يبقى كتاب!

يمكن اصطياد بعض مضامين كتب أهل الكوفة من جملة مخاطبات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مع بعض أشخاص أهل الكوفة وكتبه الّتي أرسلها إليهم، فإنّ فيها خلاصة ما كتبوه، من قبيل ما رواه الطبريّ في الكتاب الجوابيّ من سيّد الشهداء (علیه السلام) على كتب أهل الكوفة، قال:

ص: 313

«وقد فهمتُ كلَّ الّذي اقتصصتُم وذكرتُم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ» ((1)).

وما رواه البلاذريّ وغيره في احتجاجات سيّد الشهداء (علیه السلام) على القوم في كربلاء، كقوله (علیه السلام) :

«ألم تكتبوا إليّ أنْ قد أينعَت الثمار وأخضرّ الجناب وطمت الجمام، وإنّما تقدمُ على جُندٍ لك مجنَّد؟» ((2)).

وهذا ما سنتناوله ضمن المتون السابقة، وفي المواضع الّتي ننقلها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

جمع المطالب الواردة في الكتب
اشارة

يحتلّ الكتاب الأوّل _ بألفاظه ومتونه الخمسة _ الدرجةَ الأُولى في سرد المطالب، وهو يحتوي على ما ورد في الكتب الأُخرى بنحوٍ ما.

أمّا الكتاب الثاني فلا يكاد يُفصِح عن شيء؛ لأنّ المؤرّخ لم يُخبرنا عن مضامين الكتب المئة والخمسين الّتي وصلَت.

والكتاب السادس والسابع والثامن والتاسع فيها مضامين مكرَّرةٌ عمّا ورد في باقي الكتب، أو أنّها حكايةٌ تُجمِل المطالب، فلا ضرورة لاستعراضها

ص: 314


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 396.

بالخصوص.

لذا سنحاول سرد المطالب الواردة في باقي الكتب في نقاط:

مضامين الكتاب الأوّل:

1 _ البسملة والحمد لله، وذِكر الكاتب والمكتوب إليه.

2 _ الحمد لله على موت معاوية، الّذي وصموه بأفعاله الّتي عدّدوها:

أ _ العدوّ الجبّار العنيد للإمام.

ب _ إنتزى (وفي لفظ ابن قُتيبة: اعتدى) على هذه الأُمّة.

ج _ إبتز الأُمّة أَمرها، واغتصبها أُمورها.

د _ غصب فيء الأُمّة، وغلبَها على فيئها.

ه- _ تأمّر على الأُمّة بغير رضىً منها.

و _ إنتزع الأُمّة حقوقها.

ز _ قتل خيار الأُمّة، واستبقى شرار الأُمّة.

ح _ جعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها.

3 _ الدعاء على معاوية بالإبعاد، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.

4 _ الإخبار أنْ ليس عليهم إمام.

5 _ دعوة الإمام (علیه السلام) للإقدام عليهم والإقبال إليهم، لعلّ الله يجمعهم به على الهدى والحقّ.

6 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّ النعمان محصورٌ في قصر الإمارة، لا يجتمعون معه في جمعةٍ ولا يخرجون معه إلى عيد.

ص: 315

7 _ إخبار الإمام (علیه السلام) استعدادهم لطرد النعمان وإخراجه من الكوفة حتّى يلحقونه بالشام بمجرّد عِلمهم بتوجّه الإمام (علیه السلام) إليهم!

إلى هنا عمدة ما ورد في متن الكتاب الطويل الّذي رواه أوّل مَن رواه ابن قُتيبة، ثمّ تلاه المؤرّخون من بعده بإضافات.

وقد أضاف ابن أعثم ومَن تبعه بعض الإضافات على الكتاب الأوّل _ بغضّ النظر عن إضافة عبد الله بن وال ضمن المكاتِبين _ :

8 _ الحمد لله الّذي قصم عدوّ سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) وعدوّ أبيه من قَبل، ووصفه بالغشوم الظلوم.

9 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم بلغهم تأمّر يزيد اللعين على هذه الأُمّة، وذكروا لعدم رضاهم به بعد لعنه الأسباب التالية:

أ _ بلا مشورة.

ب _ ولا إجماع.

ج _ ولا علمٍ بالأخيار أو الأخبار.

10 _ إعلان الاستعداد للقتال مع الإمام (علیه السلام) وبذل أنفُسهم من دونه.

11 _ دعوة الإمام (علیه السلام) للإقبال إليهم فرحاً مسروراً، مأموناً مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، وإماماً خليفةً عليهم مهديّاً.

12 _ دعوة الإمام (علیه السلام) لأنّهم ليس عليهم إمامٌ ولا أمير.

13 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم لا يجتمعون مع النعمان في جمعةٍ ولايخرجون معه إلى عيدٍ ولا يؤدّون إليه الخراج، وأنّه يدعو فلا يُجاب ويأمر

ص: 316

فلا يُطاع.

كما أضاف ابن الجَوزيّ وسبطه والبرّيّ إضافاتٍ أُخرى:

14 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم حبسوا أنفُسهم عليه، وليسوا يحضرون الجمعة مع الوُلاة.

15 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم خلعوا يزيد.

16 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم تركوا الناس متطلّعةً أنفُسهم إليه.

17 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم يرجون أن يجمعهم الله بالإمام على الحقّ، وينفي عنهم به ما هم فيه من الجَور.

18 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّه أَولى بالأمر وأحقّ بالخلافة من يزيد الخمور ومن أبيه، الّذي غصب الأُمّة فيئها وقتل خيارها.

19 _ كتبوا بيعتهم للإمام (علیه السلام) .

20 _ إخبار الإمام (علیه السلام) بعددهم، وأنّهم مئة ألف!

21 _ وصفوا يزيد أنّه شرب الخمور ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين.

وفي الكتاب الثاني والثالث:

22 _ حثٌّ عنيفٌ وتأكيدٌ حثيثٌ على الاستعجال.

23 _ إعلان انتظار الناس للإمام (علیه السلام) .وفي الكتاب الرابع (كتاب شبثٍ وجماعته):

24 _ حثٌّ شديدٌ على الإقدام، بلحنٍ فيه نكهة الطمع والإغراء بزهرات

ص: 317

الحياة الدنيا.

وفي الكتاب الخامس:

25 _ الإعلان عن مئة ألف سيفٍ مع الإمام (علیه السلام) .

وفي الكتاب العاشر:

26 _ دعوة الإمام (علیه السلام) على أن يكون له ما لهم وعليه ما عليهم.

27 _ إن لم يقدر على الوصول إليهم، فلْيُنفِذ إليهم برجُلٍ يحكم فيهم بحُكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .

يمكن أن نسجّل هنا عدّة وقفات:

الوقفة الأُولى: فِرَق المكاتِبين

يمكن تقسيم المكاتِبين وفق هذه المطالب إلى فرق، بشيءٍ من التسامح في التعامل معهم وتقييمهم..

ففريقٌ منهم: هم الانتهازيّون النفعيّون، اللاهثون خلف الشهوات والدنيا وزخارفها، من قبيل شبثٍ وجماعته، وقد أشرنا إليهم في ذيل الكتاب الرابع، فلا نعيد.

وفريقٌ منهم: يُظهِرون أنّهم يقبلون قيادة الإمام، ويتذمّرون من الحكم الأُمويّ المنحرف، هاربين من ظلم المتمرّدين على الله وعلىرسوله (صلی الله علیه و آله) ، ملتجئين إلى إمام العدل، معلنين عن استعدادهم للموت دونه..

يتضوّرون من الكفر والظلم والجَور، يزعمون أنّهم يتوقون إلى الإيمان والعدل والشهادة..

ص: 318

يشكون العدوَّ الجبّار العنيد، الّذي تسلّط على الأُمّة فابتزّها أَمرها وغصبَها فيأها وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها..

يذكرون السلطان بمساوئ فعاله وتجبُّره وطغيانه، يدعون عليه بالانتقام واللعنة.. فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود..

لا يقرّون للأوغاد بالطاعة، ويستغيثون ويتوسّلون بالمعصوم أن ليس عليهم إمام، فلْيُقبِل إليهم، ليجمعهم الله على الحقّ والهدى..

يزعمون أنّهم خائفون على الإمام من طواغيت آل أبي سفيان.. فيدعونه للإقدام عليهم، ليفدوه بأنفسهم، وليدفعوا عنه بالغالي والنفيس..

يصرّحون بالبراءة من أعداء الله وأعداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويحمدون الله على هلاك الطاغية، ويعلنون استعدادهم لمواجهة الوالي الممثّل للعدوّ في الكوفة.

والفريق الثالث: ربّما كان يمثّل شريحةً كبيرةً من المكاتبين والمبايعين في المجتمع الكوفيّ يومذاك، لأنّ الشيعة المعتقدون كانواأقلّيّة، والمنافقون الانتهازيّون والعيون والوجهاء وأُمراء القبائل لم يكونوا أكثريّة، والّا لَما صاروا وجهاء وأُمراء وعيون، والغالبيّة الّتي شكّلَت سواد الجيش الأُمويّ الّذي حارب سيّد شباب أهل الجنّة كانوا ممّن تربّى على موائد السلطان، وحلت دنياهم الهزيلة في أعينهم، واتّبعوا العِجل والسامريّ، وأُشرب حبّهما

ص: 319

في قلوبهم، وذاقوا وبال ما قدّمَته أيديهم، فهم في زيغهم وضلالهم يتردّدون، وقد أحسّوا بالأمواج الّتي هزّت بعض أرجاء البلد، وسمعوا الصرخات تعلوا من هنا ومن هناك، وعلا الضجيج وشقّ أجواء المدينة التائهة الحائرة يهتف بالإمام، فهتف مع مَن هتف، وهم لا يفرّقون بين أن يكون إمامهم الحسين (علیه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة، أو يزيد بن معاوية البغيّ ابن البغيّ، ولكنّهم يطلبون الإمام والراية الّتي تجمعهم وتوحّد كلمتهم ضمن المقاسات المرسومة في قلوبهم، بعد هلاك السلطان..

فهم يريدون الإمام، ويهتفون بذلك، لا اعتقاداً بإمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) المنصوصة من قِبل الله الّتي نزل بها الروح الأمين من عند ربّ العالمين على لسان سيّد الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) !

ولهذا شرح لهم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) معنى الإمام باختصارٍ في جواب رسائلهم، ليكونوا على علمٍ من دعوتهم له، فالإمام الّذي ينبغي لهم أن يأتمّوا به هو ما أقسم عليه خامس أصحاب الكساء بعُمُره المبارك فقال:«فلَعمري، ما الإمامُ إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله» ((1)).

هؤلاء باختصار الفِرَق الّتي كاتبَت الإمام (علیه السلام) أو بايعَته على يد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وقياس الأغلبيّة الّذي وصفنا به الفريق

ص: 320


1- أُنظر: مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) : 2 / 123 وما بعدها.

الثالث إنّما هو بالنسبة إلى الفريقَين الآخَرَين، ولم ندرج الأغلبيّة الساحقة والكثرة الكاثرة ممّن كان يرزح في أغلال الجهل وظلمات الضلال، الّذين أذعنوا لأربابهم وأسيادهم، وتكردسوا في العساكر المنتظمة تحت لواء الطاغوت، الّذين ملؤوا الفيافي والقفار، وأخذوا بكظم الطرق والجوادّ في البوادي والحضر، كما لم نُدخِل في الفِرق هنا الأغلبيّةَ الصامتة الّتي كانت تدين بالولاء للوالي والسلطان، وقد بايعَته ولزمَت بيعته والتزمت بها.

الوقفة الثانية: التحدُّث باسم الجميع!

نقرأ في الكتب المرسَلة نمطاً خاصّاً من التعبير يفيد العموم!

فحينما يتكلّم سليمان وجماعته أو شبث وجماعته، أو يتحدّث الكتاب المجهول المصدر _ ونقصد بالمصدر: الكاتب _ عن مئة ألف سيف، وهكذا في كتب الاستعجال.. نجدهم جميعاً يتكلّمون بصيغة الجمع،وبعنوان أهل الكوفة.

وربّما شوّش هذا التعميم ذهن المتلقّي، وانساق مع أجواء الكتب فارتسمَت في ذهنه صورة التعميم الشامل لجميع أهل الكوفة، بل ربّما يبالغ البعض فيخاله شاملاً للعراق جميعاً.

والحال أنّ ثَمّة ضرورةً ملحّةً تقتضي رعايتها عند قراءة الكتب، كي لا نخسر التقييم السليم، إذ أنّ هذه الكتب لم تصدر من أهل الكوفة جميعاً أكيداً؛ بشهادة الكثافة السكّانيّة المتراكمة في الكوفة يومذاك، ومحدوديّة عدد الكتب، وتواجُد العسكر المنتظم تحت لواء السلطان، وغيرها من

ص: 321

الشواهد والدلائل الّتي ذكرناها في مواضع كثيرةٍ من هذه الدراسة.

ولا يكفي أن نتصوّر أنّ كلّ واحدٍ من المكاتبين كان يتحدّث عمّا وراءه من الناس؛ إذ أنّهم كتبوا على انفرادٍ وبصفاتهم الشخصيّة، ولم يتحدّث أحدٌ كشيخ عشيرةٍ بذاته، ولم يرد ذلك عن القبائل والعشائر الّتي كانت تقطن الكوفة، كما هو المعتاد في الكتب الّتي تُرسَل في مثل هذه الظروف، فليس فيهم مَن تكلّم باسم هَمْدان أو بني أسد أو مِذحَج ولا أفخاذها، وليس في الكتب أيّ ذكر للانتماءات العشائريّة، ولا التشكيلات العسكريّة، ولا غيرها من الكيانات والتجمّعات وما شابه ذلك.. حتّى في كتاب سليمان بن صُرد الّذي أفرزه الاجتماع في بيته لم يذكر الاجتماع، وإنّما تصدّر بأسماء معيّنة!ثمّ إنّ الكوفة لم تكن يومها تخضع لشخصٍ بذاته، كالوالي، أو كشيخ الشيوخ، ولم يكن فيها رجلٌ ولا قبيلةٌ تفرض نفسها على الجميع.

فلا يمكن _ والحال هذه _ افتراض صدور هذه الكتب من متحدِّثٍ مخوَّلٍ قادرٍ على التعبير عن الآخَرين بحكم فرض طاعته.

أجل، كانت الكتب تحكي مواقف كاتبيها، وربّما تتعدّى إلى بعض الأتباع القريبين من دارة الرجل، وتحكي مسافةً من انتشاره بين مَن يقبله أو يخوّله.. أمّا أن تكون حاكيةً _ كما ورد في الكتب _ عن أهل الكوفة جميعاً أو عن الأكثريّة فيها، أو أن تكون حاكيةً عن حالةٍ عامّةٍ شاملةٍ رائجةٍ مسيطرةٍ حاكمةٍ على الأجواء كلِّها، فهذا ما يحتاج إلى دليل، ولا

ص: 322

دليل، بل الدليل خلافه!

فلْتكن الكتب عن ثمانية عشر ألف مبايعٍ أو يزيدون، فإنّ هذا العدد لا يمكن أن يكون حاكياً عن جميع سكّان الكوفة ومَن فيها من عساكر وقبائل وكيانات.

وربّما أتينا على هذه النقطة بالذات فيما سبق، وسنعود لذِكرها فيما بعد، كما ذكرناها هنا بعبارةٍ أُخرى، وذلك لأهمّيّة الموضوع، وعمق تأثيره على الفهم والتلقّي وتفسير المواقف ورسم المشاهد.

الوقفة الثالثة: دوافع المكاتبين لدعوة الإمام (علیه السلام)

سجّل المكاتبون جملةً من المعاناة الّتي كانوا يعانون منها، وشكَواحالهم من خلال تقرير الواقع الّذي كانوا يعيشونه في ظلّ حُكم الطاغوت الجبّار العنيد، الّذي انتزى واعتدى على هذه الأُمّة، فابتزّ الأُمّة أَمرها واغتصبَها أُمورها، وغصب فيء الأُمّة وغلبها على فيئها، وتأمّر على الأُمّة بغير رضىً منها، وانتزع الأُمّة حقوقها، وقتل خيار الأُمّة واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها..

فهم يعيشون في واقعٍ مريرٍ لا يُطاق من الاستفراد بالحكم والاستئثار بالسلطة، والخوف والمطاردة والقتل الذريع، وانتشار الفقر والفاقة في الناس، وحصر المال بيد الأغنياء والجبابرة..

هذه هي معاناتهم أيّام معاوية.. بَيد أنّ معاوية قد هلك، وهم يخافون أن يستمرّ بهم الحال بعد معاوية على تلك الحال.

ص: 323

هذا ما ورد في المصادر الأُمّ والمشهور من لفظ الكتاب، وهو يحكي التظلّم والتشكّي من الماضي، ولم يذكر الحكم في الوضع الراهن، إذ أنّه جديد عهد، غير أنّه استمرارٌ لما مضى من حُكم الأب.

فيما ذكر ابن أعثم دوافع إضافيّةً على ما ورد في المصادر تخصّ حكم يزيد بالذات، إذ أنّهم بلغهم تأمُّر يزيد اللعين على هذه الأُمّة، وأنّهم لا يرضون بذلك، وعلّلوا عدم رضاهم بأنّه تأمّر عليهم بلا مشورةٍ ولا إجماع، ولا علمٍ بالأخبار أو الأخيار.. فهم _ وفق نصّ ابن أعثم _ لا يرضون بحُكم يزيد، لفقدانه مسوّغات الحكم، وهي كما عندهم: (المشورة، الإجماع،العلم)!

وهذه المسوّغات هي أساس الحكم في قوانين السقيفة وأدبيّاتها وسياستها، وليس لها علاقةٌ من قريبٍ ولا من بعيدٍ بالدين والأوامر الإلهيّة، والقولِ بالإمامة والتنصيب وفرض طاعة المعصوم من قبل الله (جلّ وعلا)!!!

وأضاف ابن الجَوزيّ الطعنَ بيزيد الخمور، وأنّه شرب الخمور ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين.. ومثل هذا لا يستحقّ الخلافة، لذا أعلنوا أنّ الإمام أَولى بها من يزيد فبايعوه!!

وشكَوا إلى الإمام (علیه السلام) تفرّقهم وعدم وجود رايةٍ تجمعهم، فدعوا الإمام (علیه السلام) ليحضر بين ظهرانيهم، لعلّ الله يجمعهم تحت رايته، إذ لا إمام لهم!

ص: 324

كيف كان، هذه هي دوافع القوم الّتي أظهروها، وزعموا أنّهم دعوا الإمام ليوحّد كلمتهم ويجمعهم تحت لواءٍ واحد، وبالتالي يُستفاد من هذا التظلّم أنّهم يدعون الإمام (علیه السلام) ليخلّصهم ممّا هم فيه من الجَور والظلم والعدوان والقتل والفقر والتمايز الطبقيّ، وغيرها ممّا يمكن استنتاجه من كتبهم.

وقد كان الحال كما وصفوا على عهد معاوية، كما كان الحال كما وصفوا في شخص معاوية ويزيد الخمور _ وفق نصّ ابن الجَوزيّ _، وكان من الطبيعيّ أن يتطلّعوا بعد هلاك معاوية لحياةٍ أفضل ونجاةٍ من الأغلالالّتي رزحوا فيها منذ أن أبعدوا الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) عن منصبه الّذي اختاره الله له وفرضه على العالمين.

بَيد أنّ هذه كلّها مزاعم القوم وما دعوا إليه، وجعلوها أهدافاً وشعاراتٍ يسعون إلى تحقيقها.. ولكن هل كانت هي بنفسها دوافعاً وشعاراتٍ وأهدافاً سعى إليها الإمام الحسين (علیه السلام) من أجل تحقيقها، وسمح بمهجته وأطعم الموت أهله وأنصاره وعرّض أهله للسبي والسلب والنهب من أجلها؟!

إنّنا اكتشفنا مطالب القوم من كتبهم، ولابدّ من اكتشاف ما سعى إلى تحقيقه الإمام (علیه السلام) من أقواله وأفعاله ومواقفه، لا من أقوال القوم وتصريحاتهم!

الوقفة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام) ليجمعهم على الحقّ والهدى!

لا ندري إن كانت (لعلّ) في كلام مِثل هؤلاء القوم يمكن أن تفيد

ص: 325

التحقّق، أو أنّها لا تتعدّى مستوى الترجّي؟!

لا نحسب أنّ هؤلاء القوم فيهم من المؤهّلات لإقحام معنى التحقّق في مرادهم، فهم لا يعِدُون الإمام وعداً مُلزماً بالتوحُّد والاجتماع على الحقّ والهدى، وإنّما يرجون ذلك على أمل أن يتحقّق!

ثمّ ماذا يقصدون بالاجتماع على الحقّ والهدى؟!

إنّ الإمام (علیه السلام) كان بين ظهرانيهم وإن كان في المدينة.. كان بينهم، وكان الله قد فرض عليهم طاعته، وكان عليهم أن يجتمعوا على الحقّوالهدى _ وهو الإمام نفسه _، سواءً قبل دعوتهم وأقبل إليهم، أم أنّه بقي في المدينة ومكّة..

إنّهم يرون الحقّ والهدى فيما يفهمونه هم.. يرون الحقّ والهدى في إقبال الإمام إليهم ليقوم بهم في وجه السلطان ومحاربته.. فهم ينتظرونه ليأتي ويحقّق لهم ما يريدون.. وما يريدون هو الحقّ والهدى في حساباتهم..

أيّ حقٍّ وهدىً يمكن أن يتحقّق في قومٍ يحدّدون للإمام المفترض الطاعة تكليفه ويعلّمونه ما يريدون؟!!

الإمام هو الحقّ بعينه والهدى بذاته، وهو الصراط المستقيم.. فهل يقصدون بدعوة الإمام أن يأتيهم لتجتمع كلمتهم عليه؟!

أو أنّهم يقصدون أن يأتيهم الإمام ليجمع كلمتهم ويوحّد صفوفهم، ليتمكّنوا من محاربة الطاغوت الّذي أذلّهم وقتل خيارهم واستبقى شرارهم؟!

ص: 326

يفيد سياق الأحداث وسياق الكتب المرادَ الثاني بوضوحٍ شديد، ولو كان المراد هو الاجتماع على الإمام فلا حاجة إلى دعوته، فهو إمام الحقّ والهدى وجامع الكلمة أينما كان وحيثما كان وفي أيّ حالٍ كان.. إنّهم يدعونه لغرضٍ خاصٍّ مبيَّتٍ عندهم!

الوقفة الخامسة: إخبار الإمام (علیه السلام) أنْ ليس عليهم إمام!

أخبروا الإمام (علیه السلام) في كتبهم ودعوه إليهم وطلبوا منه التعجيل، وعلّلواذلك أنْ ليس عليهم إمام! فمَن هو الإمام الّذي كان عليهم قبل ذلك اليوم؟!

ما يُفهَم من كلامهم أنّهم كانوا يأتمّون بمعاوية، وإنْ كان ظالماً طاغياً فعل بهم ما فعل، وبعد هلاك معاوية صاروا يبحثون عن إمامٍ يجمعهم يأتمّون به، ولمّا لم يكن يزيد يقنعهم، فهم يدعون الإمام ليأتمّوا به!

ومن الواضح أنّهم لا يقصدون هنا حاجتهم للإمام الّذي يريدون الائتمام به هو الإمام بالمعنى العقائديّ عند الشيعة، وإنّما يقصدون به الزعيم والرئيس والقائد الّذي يسيرون تحت لوائه لتحقيق أغراضهم وتنفيذ مطالبهم، فهم يبحثون عن شخصيّةٍ تقود مسيرتهم نحو مواجهة السلطان لتحقيق الشعارات الّتي يحلمون بها.

لقد كان الإمام الحسين (علیه السلام) إماماً منذ شهادة أخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، وكان إماماً أيّام مُلك معاوية، فما هو الداعي لأن يدعوه إلى الإمامة اليوم؟ إلّا أن يكون المقصود من الإمام هو ما ذكرناه.. كان عليهم أن

ص: 327

يُعلنوا الائتمام به وإعلان إمامته ومبايعته بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) !

يبدو بوضوحٍ أنّهم يدعونه ليكون إماماً وفق مقاساتهم، ولا يقصدون الإمام بالمعنى الذي فرضه الله (تبارك وتعالى).. هم فقدوا إمامهم معاوية الّذي كان يحكمهم، ويزعمون أنّهم لا يريدون يزيد إماماً.. فاختاروا سيّدالشهداء (علیه السلام) ضمن نفس الموازين.

أجل، لا شكّ أنّ ابن فاطمة (علیها السلام) خيرٌ من ابن ميسون!!!

الوقفة السادسة: موقفهم من النعمان!

أخبروا الإمام (علیه السلام) أنّ النعمان بن بشير (والي الكوفة) محصورٌ في قصره، كما في النصّ المشهور لكتاب سليمان، وفي نصّ ابن أعثم أنّ النعمان «يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع»..

يبدو أنّ جوّ الحماسة والهياج حاكمٌ على القوم، ممّا جعلَهم يُخبرون بما يتوهّمون، أو يتوهّمون ما يأملون، أو يرون الكوفة قائمةً بهم، والوالي محكوماً بما يقرّرون..

إنّ أجواء الحماسة والهياج والغليان لازمةٌ لهم في تلك الفترة، ولا يمكن أن يدعوا الإمام إلى ما يدعون إليه إلّا أن يكونوا في الذروة من الهياج والغليان، وهذا الأمر طبيعيٌّ ومفهوم، فجوّ الحماسة يقتضي التفخيم والتضخيم والمبالغة..

أمّا أن يكون الوالي محصوراً في قصره، يدعو فلا يُجاب ويأمر فلا يُطاع،

ص: 328

فلا يمكن التسليم له لمن أراد أن يقف كمراقبٍ من دون أن يتأثّر بأجواء الحماسة الحاكمة على القوم!

لقد كان النعمان والي بني أُميّة، وكان حاكماً على الكوفة، وهومعروفٌ بدهائه وقوّته على المناورة والمفاوضة، كما عرفنا فيما مضى من البحث، وكانت العساكر المسجَّلة في الديوان ممّن يدفع لهم الوالي مرتّباتهم منتظمةً في سراياها وكتائبها، وكانت الشرطة مؤتمرةً بأوامره، وكان الناس في الكوفة يمارسون حياتهم الروتينيّة المعتادة، ولم تكن هذه الحالة من الغليان والهياج مقلقلةً لأحشاء أحدٍ منهم سوى هؤلاء الّذين كتبوا ومَن يحوم حولهم.

فإن كان المكاتبون وأتباعهم يقاطعون الوالي، فإنّ في الأكثريّة الباقية من عسكرٍ وشرطةٍ وعامّة الناس كفايةً للوالي.. فهم إن أخبروا إنّما أخبروا عن موقفهم الشخصيّ، إن صدقوا!

وإن امتنعوا عن حضور الجمعة وأمسكوا عن الخروج معه إلى عيد، إنّما امتنعوا هم، إن صدقوا!

وإن امتنعوا عن أداء الخراج، إنّما امتنعوا هم، إن صدقوا!

ولو افترضنا أنّهم مارسوا هذه القطيعة منذ أن بلغهم خبر هلاك معاوية ونزو قرده الخليع على المنبر، فهي فترةٌ وجيزةٌ لا تبلغ الشهر إلى حين انطلاق الرسل بالكتاب.

على أنّ هذا الخبر إنّما ورد في كتابهم هذا، ولم نسمع له شاهداً في التاريخ!

ص: 329

والمهمّ في القضيّة هنا أنّ القوم كانوا يتحدّثون عن مواقفهم هم، لا عنسكّان الكوفة ومعسكرها، إن صدقوا!

الوقفة السابعة: طرد الوالي!

يبدو أنّ جوّ الحماسة والهياج لا حدود له في تلك الأيّام.. إنّهم لم ينتظروا أمراً من الإمام (علیه السلام) ، وإنّما حدّدوا له الخطوة الأُولى الّتي سيقومون بها بمجرّد أن يبلغهم خبر توجُّه الإمام (علیه السلام) إليهم..

ولو قد بلغَنا مخرجك (إقبالك إلينا) (أنّك قد أقبلتَ إلينا)، أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام، والسلام ((1)).

وفي لفظ (الفتوح):

أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام ((2)).

إنّهم لم يطلبوا من الإمام (علیه السلام) أن يأمرهم بأمره، ولم يعلنوا استعدادهم

ص: 330


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 4، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 369، تاريخ الطبريّ: 5 / 351، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 144، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 385، الإرشاد للمفيد: 2 / 34، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 333، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 182، أسرار الشهادة للدربنديّ: 217، نفَس المهموم للقمّيّ: 80، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 226.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 46، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 194، اللهوف لابن طاووس: 33.

للطاعة المطلقة والقبول، فقد عزموا وقرّروا وخطّطوا، وصاروا يُخبرون الإمام (علیه السلام) بما سيفعلونه.

إندفاعتهم اندفاعةٌ غير حكيمةٍ ولا عاقلةٍ ولا متريّثة، ولا تتقيّد بدِينٍ، ولا باتّباعٍ لشريعة سيّد المرسلين الّتي فرضَت إطاعة الإمام المعصوم وحرّمَت التقدّم عليه.. يريدون شيئاً وهم ماضون في السعي إلى تحقيقه، والإمام أداةٌ من الأدوات الّتي ستعينهم في تحقيق الغرض وتسهّل عليهمالوصول إلى المبتغى!

ليس في لحن عبارتهم نغم استشارةٍ ولا الاستعداد للطاعة، وإنّما إيقاع الحرب والخروج الصاخب، والإقدام بجرأةٍ على ما هم يرتأون، هذا من جهة..

ومن جهةٍ أُخرى:

كان بعض المعترضين على الإمام (علیه السلام) قد ذكر للإمام (علیه السلام) أن لو كانوا يريدونك فلْيُخرجوا الوالي من بلدهم، أمّا وهم يدفعون له الخراج ويأتمرون بأمره فإنّهم يغرّرون ولا يصدقون..

وهكذا هو الأمر، فإنْ كانوا صادقين فلماذا الانتظار حتّى يبلغهم خبر قدوم الإمام (علیه السلام) عليهم وإقباله إليهم؟ فإنّهم قد بلغهم خروج الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، وشاعت الأخبار أنّه يريد الكوفة، فكان عليهم أن يُخرجوا الوالي ويلحقونه بالشام _ كما زعموا _، ثمّ يبادروا بالكتابة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام السعداء، ليخبروه أنّهم قد وطّؤوا البلاد واختاروا من بينهم والياً

ص: 331

مؤقّتاً حتّى يصل إليهم الإمام (علیه السلام) أو مَن يرسله إليهم حتّى يصلهم.

ولقد بلغهم أنّ الإمام (علیه السلام) قد أقبل إليهم، ولم يفعلوا!

فإمّا أن يُقال: إنّهم نكصوا وكذبوا فيما وعدوا، وطفحَت بالوعات خيانتهم وغدرهم..

وإمّا أن يقال: إنّ الإمام (علیه السلام) قد نهاهم عن ذلك فأطاعوا، وهو يفيد_ إن صحّ وثبت _ أنّ الإمام (علیه السلام) لا يرضى بهذا الفعل ولا يريده، ولذلك دلالاته الّتي لا تخفى على اللبيب..

فما وعدُهم بطرد الوالي حتّى يلحقونه بالشام إلّا سرابٌ قريبٌ لا يخدع الظمآن، فضلاً عن الريّان.

ثمّ لماذا يطردونه حتّى يلحق بالشام بالذات؟! لماذا لا يحبسونه؟ لماذا لا يقتلونه؟ لماذا لا يُخرجونه من بلدهم ولْيذهب أين ما أراد، أو ليرجع إلى المدينة وهي أصله؟ لماذا لا يدفعونه إلى الإمام (علیه السلام) حتّى يحكم فيه بحكم الله؟

أكانوا يريدون للكوفة أن تخلع الطاعة وتُخرج الوالي إلى الشام ويكتفون بذلك، فلا يطاردونه وأسياده إذا هم ارتاحوا منهم، فلا يهمّهم بعد ذلك أمر يزيد ولا باقي البلدان؟!

وإذا ما طردوا الوالي حتّى ألحقوه بالشام، فماذا سيفعلون بأنصاره وأنصار النظام القائم وأتباع الأُمويّين والمنتفعين؟

ماذا سيفعلون بالعساكر والجند والشرطة الّتي لا زالت على الولاء

ص: 332

للوالي والسلطان؟

ماذا سيفعلون بعساكر الشام المشحونة بالعداء والبغضاء ضدّ الكوفة وأهلها؟

ماذا سيفعلون مع باقي سكّان الكوفة وعشائرها الّتي كانت على بيعتهاليزيد منذ زمن معاوية؟

إنّهم عددٌ محدودٌ مقابل الأعداد الهائلة في الكوفة وباقي البلدان!

واضحٌ أنّهم كتبوا تحت وطأة الحماس والهيجان والعنف العاطفيّ، من دون تفكيرٍ ولا تدبُّرٍ للواقع.

نحسب أنّ الاندفاعيّة والضغط النفسيّ والغليان وسيطرة الأحاسيس واضحٌ جدّاً على الكتب والكاتبين.. ومثل هذا الوضوح الّذي يتكشّف بأدنى أدنى تأمُّلٍ لمن يقرأ الكتب الخامدة السامدة الهامدة المرصوفة على سطور كتب التاريخ بعد مئات السنين، وقد تكشّفَت لأغبى الخلق من أمثال عبد الله بن عمر، فهي لا تخفى على سيّد الخلق وأعلمهم بالخلق.

لقد كانت هذه الاندفاعيّة والمبالغة في تضخيم الأحداث طافحةً لائحةً في الوعود الّتي تضمّنتها الكتب، من قبيل هذا الوعد الّذي نحن بصدد الكلام عنه، ومن قبيل الوعد بمئة ألف سيفٍ جاهزة، وأنّ نفوس الناس متطلعةٌ لقدوم الإمام.. ولا ندري مَن خوّلهم للكلام عن الناس كلِّ الناس؟ وكيف استكشفوا مخابئ نفوس الناس ومطاوي صدورهم وكوامن خواطرهم؟ ومَن هم حتّى يتكلّموا عن نفوس الناس؟ فلْيكتب مَن يكتب

ص: 333

منهم عن نفسه أو عن عشيرته أو أتباعه، كما فعل يزيد بن مسعود النهشليّ حين تكلّم عن بني تميم وبطونهم بعد أن كلّمهم وأخذ العهد عليهم وغسل صدورهم بماء سحابة مزن، كما مرّ الحديث عنه في وقائعالبصرة، بغضّ النظر عن المناقشات المستفيضة في أصل القضيّة، وإنّما سقناه هنا لبيان أنّ كبير القوم قد يتكلّم عن قومه، أمّا أن يتكلّم مجهولون عن جميع الناس، أو يتكلّم بعض الأشخاص من الذوات والأعيان عن الجميع، فهذا ما لم يُعهد، ولم يكن مرضيّاً عند المخاطَب العادي، فكيف بسيّد الخلق؟!

الوقفة الثامنة: موقف أنصار الحسين (علیه السلام)

حينما نقرأ الأسماء الواردة في الكتب، لا يطالعنا اسمٌ من أسماء أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذين بذلوا مهجهم في الدفاع عنه، سوى ما يرويه بعضهم من اسم حبيب بن مظاهر صاحب ميسرة معسكر التوحيد.

وحينما نقرأ أحداث الاجتماع في بيت سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ، لا نسمع خبراً لحبيب بن مظاهر، لا تصريحاً ولا تلويحاً، مع أنّه من ألمع نجوم الكوفة وشخصيّاتها البارزة، ممّا دعانا إلى افتراض أن يكون القوم قد كتبوا الكتاب وذكروا اسم حبيب، ولكي نُحسن الظنّ بهم افترضنا أنّهم أطلعوه على ذلك.. هذا كلّه على نحو الاحتمال والتوقّع!

ولو استثنينا المولى المكرّم حبيب بن مظاهر، على فرض مبادرته إلى المكاتبة مع سليمان، رغم استبعادنا ذلك..

واستثنينا مثل سعيد بن عبد الله الحنفيّ والاثنين اللذَين معه ممّن

ص: 334

فدى سيّد الشهداء (علیه السلام) وذبّ عن عيال الرسول (صلی الله علیه و آله) وآل الله، وهم لميكونوا من المكاتبين، وإنّما كانوا من الرسُل، ولا نستبعد أنّهم حملوا كتاباً من مثل شبث بن ربعيّ وجماعته، ليكون حجّةً لهم للالتحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) والتزوُّد من طلعته البهيّة واللقاء المباشر به لأخذ التكليف منه..

فلا يبقى عندنا من جميع الأنصار الّذين حضروا كربلاء بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام) بين المكاتبين سوى حبيب بن مظاهر!

أمّا الباقون، وأكثرهم من سكّان الكوفة، وهم عددٌ كبيرٌ بالنسبة إلى أنصار الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّهم يشكّلون المادّة الأصليّة للأنصار، أمّا غيرهم فهم قلّة، من قبيل الأنصار الملتحقين من البصرة أو غيرها..

هؤلاء الأنصار الأوفياء والأصحاب الأبرار الّذين نالوا شرف «لا أعلم أصحاباً..»، لم يكاتبوا الإمام (علیه السلام) فيمن كاتب، وإنّما بادروا إلى نصرة الإمام (علیه السلام) ، لأنّهم علموا الواجب عليهم، وعرفوا تكليفهم، وسمعوا دعوة الرحمان واستصراخ رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين دعاهم لنصرة ابنه والدفاع عنه حين يهجم عليه بنو أُميّة يريدون قتله.

لقد كان المكاتبون يسعون إلى أغراضهم، ويرسمون لأنفسهم مسيرةً وفق مقاساتهم.. وكان الأنصار الحقيقيّون الصادقون الأوفياء يعلمون أنّ القصّة تكمن في تهديد حياة الإمام (علیه السلام) ومَن معه، وليست فيما يزعم هؤلاء من خلال الشعارات الّتي يرفعونها ودوافع الدعوات الّتي يسطّرونها في

ص: 335

كتبهم..علموا أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله في خطرٍ مُحدِقٍ قطعيّ، وأنّ عليهم أن يفدوه بأرواحهم وأنفسهم، ولا يدَعُون أذىً يصل إلى آل الله وفيهم عينٌ تطرف وعرقٌ ينبض..

عرفوا الأحداث بدقّة، واطّلعوا على حقيقة الخبر، ولم تكن لديهم نوازع ودوافع كما كانت لدى المكاتبين، فالمكاتبون في وادٍ ومطالبهم في واد، وما كان فيه الإمام (علیه السلام) ومَن معه في وادٍ آخَر.. أدركه الأنصار الحقيقيّون فبادروا، وعلموا التكليف بوضوحٍ فسارعوا إلى ما دعاهم إليه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وإمامهم المفترض عليهم طاعته، فلا حاجة إلى الوعود وانتظار القدوم، والوقت لا يسع ذلك!

الوقفة التاسعة: متفرّدات ابن أعثم

بغضّ النظر عمّا ذكرناه في أكثر من موضعٍ من أنّ ابن أعثم هذا مجهولٌ تماماً، وبغضّ النظر عن اختلاف النُّسَخ الشديد في كتابه، وبغضّ النظر عن أُسلوبه السرديّ القصصيّ.. فإنّ متفرداته فيها نكهةٌ خاصّةٌ وذوقٌ خاصّ، ربّما تحكي توجُّهات المؤلّف وطريقة تفكيره.

ولا ندري ما هو طريقه إلى رواياته وأخباره.. بيد أنّه يروي.. وكتابه قديم، إذ أنّ وفاته في بداية القرن الرابع (314 ه-)..

إنّه يروي كتاب سليمان بن صُرد الخزاعيّ _ الّذي يرويه مَن قبله ومَن بعده _ بزياداتٍ أتينا على ذِكر بعضها في غضون البحث قبل قليل، منها:

ص: 336

إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم بلغهم تأمُّر يزيد اللعين على هذه الأُمّة، وذكروا لعدم رضاهم به بعد لعنه الأسباب التالية:

أ _ بلا مشورة.

ب _ ولا إجماع.

ج _ ولا علمٍ بالأخيار أو الأخبار.

وإعلانهم الاستعداد للقتال مع الإمام (علیه السلام) وبذل أنفسهم من دونه، ودعوة الإمام للإقبال إليهم فرحاً مسروراً، مأموناً مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، وإماماً خليفةً عليهم مهديّاً.

وأنّهم لا يؤدّون الخراج إلى الوالي، وأنّه يدعو فلا يُجاب ويأمر فلا يُطاع.

يبدو أنّه تنظيرٌ وشرحٌ لأسباب رفض القوم ليزيد، ومبالغةٌ شديدةٌ في شدّة التعامل مع الوالي، ومبالغةٌ في إبراز الأحاسيس والتلهّف لقدوم الإمام (علیه السلام) .

والأُسلوب السرديّ القصصيّ الّذي لا يتقيّد بنقل النصّ التاريخيّ بعينه، ولا يلتزم متن الرواية الحرفيّ أو المعنويّ القريب من المضمون، يسمح بمثل هذه المبالغات.

كيف كان، فإنّ المتن المشهور يتضمّن ما يرويه ابن أعثم، وفيه الكفاية، ولا ضرورة للتمسّك بمتن ابن أعثم، ولا حاجة للتوقّف عليه ومصادرة المصادر التاريخيّة جميعاً لحساب هذا المتن بالذات.

ص: 337

أجل، يمكن لمن أراد أن يثبت قناعةً خاصّةً عنده الاستنادُ إلى ابن أعثم على حساب جميع المتون التاريخيّة، ويحتجّ به باعتباره مؤرّخاً قديماً.

أمّا إضافات سبط ابن الجَوزيّ، فقد أشرنا إليها في كتاب (لقاء الإمام الحسين (علیه السلام) والفرزدق)، فلا نعيد.

الوقفة العاشرة: استعجال الإمام (علیه السلام) !

يطالعنا حثٌّ عنيفٌ واستعجالٌ شديدٌ في دعوة الإمام (علیه السلام) للإقبال إليهم في بعض متون الكتب: الكتاب الثالث، والكتاب الرابع (وهو كتاب شبثٍ وجماعته)، وكأنّهم يريدون إرباك الموقف بالاستعجال، ودفع المخاطَب إلى التوجّس من فوت الفرصة، كأنّهم يسابقون الزمن ويغالبون الفرص، ويرون ما لا يراه الإمام (علیه السلام) من اخضرار الجنّات وما يلازمها من إيناع الثمار وبلوغ أوان قطافها.

أجل، لأنّها في حساباتهم ثمارٌ قد آن وقت قطافها، ودنيا قد ازدهرت وتوهّجَت فيها البيضاء والصفراء، وتزيّنت بالزخارف والزبارج، وهم يخالون أنّ الأوضاع مساعدةٌ لاستغلالها لبلوغ هذا المأرب.

لقد استعجلوا الإمام (علیه السلام) أيّما استعجال، وهذا ما صرّحَت به كتبهم بما لا يقبل الشكّ، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يستعجل!

لم يتحرّك الإمام (علیه السلام) ، ولم يخرج من مكّة رغم الخطر المحدِق به فيها، وبقي فيها لولا تنجُّز الخطر وخروج الأمر من حالات الاحتمال والتوقُّعإلى اليقين والقطع بأنّ بقاءه في مكّة يعني قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، وبذا تُهتَك

ص: 338

الحرمات المقدَّسة الّتي لا يسمح بها الإمام (علیه السلام) ، فخرج منها متعجِّلاً قبل الموسم الّذي كان قد حان وقته، وخرج الناس إلى منى يوم التروية!

لم يُقدِم عليهم الإمام (علیه السلام) لمجرّد استعجالهم له.. وقد وصلَته كتبُهم في العاشر من شهر رمضان واجتمعَت عنده، فلم يُقدِم عليهم، وإنّما أرسل إليهم أخاه وثقته مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وبقي بعد وصول آخِر الرسل إليه زهاء شهرين، وهي فترةٌ غير قليلة، إذ كان بإمكانه أن يخرج إليهم بنفسه المقدّسة بدلاً من إرسال أخيه المولى الغريب (علیه السلام) .

لو كانت مكّة آمنةً له _ كما هي آمنةٌ لجميع المخلوقات _ لما خرج منها إليهم أبداً، كما قال (صلوات الله عليه) أنّه مقيمٌ بها أبداً ما أحبّه أهلُها ومنعوه، وقد أتينا على تفصيل ذلك فيما مضى من دراسة ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة.

الوقفة الحادية عشرة: علم المكاتبين بشهادة الإمام (علیه السلام)

تواترت الأحاديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين في إخبار الناس كلّ الناس بشهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وقتلته من بني أُميّة، وصرّحوا باسم قاتله يزيد (لعنه الله) والمباشرين من أمثال عمر بن سعد، وقد شاع وذاع هذا الخبر، إذ أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) كانا يؤكّدان ذلك فيجميع المواضع والمواطن في البيت وفي المسجد وفي السفر وفي الحضر وفي خُطَبهم على رؤوس الأشهاد..

وقد غصّت كتب الحديث والرواية عند جميع فرق المسلمين برواية هذا

ص: 339

الحدَث، وفي بعض الأحيان برواية تفاصيله، وفي بعض الأحيان يخاطبون شخصاً بعينه ممّن له وجاهةٌ ومكانةٌ فيحذّرونه الخذلان أو يبشّرونه النصرة، وكم من خطبةٍ سجّلها التاريخ وكتب الرواية والحديث يدعو فيها النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو الوصيّ (علیه السلام) إلى نصرة الغريب المظلوم، أو يحذّران من خذلانه ويخبران أنّ الأُمّة ستخذله.

وقد سمعنا التحذيرات للبراء وأبي عبد الله الجدليّ..

وسمعنا أنس بن الحرث الصحابيّ الجليل الفقيه يحدّث عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «إنّ ابني هذا _ وأشار إلى الحسين (علیه السلام) _ يُقتَل بأرضٍ يُقال لها: كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلْينصره». فخرج هذا الصحابيّ الوفيّ النبيل إلى كربلاء، وقُتِل هناك بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ((1))..

وكم خبرٍ يرويه أنس بن مالك عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهو من الخاذلين، وكم حديثٍ يرويه ابن عبّاس، وهو من الخاذلين، وكم حديثٍ يرويه ابنعمر، وقد تظافرت الأخبار عن عائشة، وعن أُمّهات المؤمنين، أُمّ سلَمة وزينب بنت جحش وغيرهن..

لقد شاع الأمر بين الناس، حتّى قال عبد الله بن شريك العامريّ:

كنتُ أسمع أصحاب عليّ (علیه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب

ص: 340


1- أُنظر: دلائل النبوّة لأبي نعيم: 2 / 710 الرقم 493، تهذيب ابن بدران: 4 / 338، الإصابة لابن حجَر: 1 / 271، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 217.

المسجد يقولون: هذا قاتلُ الحسين بن عليّ (علیه السلام) ! وذلك قبل أن يُقتَل بزمان ((1)).

ورُوي أنّ عمر بن سعدٍ قال للحسين (علیه السلام) :

يا أبا عبد الله، إنّ قِبَلنا ناساً سفهاء، يزعمون أنّي أقتلك!

فقال له الحسين (علیه السلام) : «إنّهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل من بُرّ العراق بعدي إلّا قليلاً» ((2)).

وروى سُويد بن غفلة قال:

أنا عند أمير المؤمنين (علیه السلام) إذا أتاه رجُل، فقال: يا أمير المؤمنين، جئتك من وادي القرى، وقد مات خالد بن عرفطة. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «إنّه لم يمُت!». فأعادها عليه، فقال له عليّ (علیه السلام) : «لم يمُت! والّذي نفسي بيده لا يموت»، فأعادها عليه الثالثة فقال: سبحان الله! أُخبرك أنّه مات، و تقول لم يمت؟! فقال له عليّ (علیه السلام) : «لم يمُت! والّذي نفسي بيده، لا يموت حتّى يقودجيش ضلالة، يحمل رايته حبيب بن جمّاز».

ص: 341


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 135 الرقم 9، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 9، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 479، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 263، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 149.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 135 الرقم 10، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 48 / 31، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 9، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 585، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 263، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 154.

قال: فسمع بذلك حبيب، فأتى أمير المؤمنين، فقال: أُناشدك فيّ، وأنا لك شيعة، وقد ذكرتَني بأمرٍ _ لا واللهِ _ ما أعرفه من نفسي. فقال له عليّ (علیه السلام) : «إن كنتَ حبيب بن جمّازٍ فتحملها». فولّى حبيب بن جمّاز، وقال: «إن كنتَ حبيب بن جمّازٍ لَتحملنّها».

قال أبو حمزة: فواللهِ ما مات حتّى بعث عمر بن سعدٍ إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، وجعل خالدَ بن عرفطة على مقدّمته، وحبيبَ صاحب رايته ((1)).

وكم من مرّةٍ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ما لي ولبني أُميّة.. ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد، فإنّه يقتل وَلدي ووَلد ابنتي الحسينَ بن عليّ، فوَالّذي نفسي بيده، لا يُقتَل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه، إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم.

وهكذا نجد النصوص الشريفة عند جميع فرق المسلمين كثيرةً مستفيضة، تفيد التواتر المعنويّ بلا تردّد، وتفيد الكثير من النصوص أنّ الأمر لم يكن مخفيّاً على أحدٍ تلك الأيّام، إذ أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) كانا يُخبران على رؤوس الأشهاد في الخطب وفي شتّى المواطنوالمواقف، ويُخبران الخاصّة والعامّة.

ص: 342


1- بصائر الدرجات للصفّار: 318 ح 11، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 439، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 259، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 148.

ولمن أراد التفصيل والاطّلاع على نصوص الأحاديث والأخبار، فلْيراجع الجزء الثالث والعشرين من موسوعة (تاريخ الإمام الحسين (علیه السلام))، فإنّ فيها مادةً كافيةً إن شاء الله (تعالى).

وقد سمعنا أنّ بعض مَن كاتب أو اجتمع بالإمام الحسين (علیه السلام) أو قاتل، كان يروي بنفسه خبر شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وإقدام بني أُميّة ويزيد على قتله مظلوماً.

وحينئذٍ قد يُقال: إنّ هؤلاء القوم المكاتبين إمّا أن يكونوا قد سمعوا هذه الأخبار واطّلعوا عليها _ وهو المفروض _، فكيف كانوا يكاتبون الإمام ويدعونه للخروج (بالمعنى المصطلَح)، وهم يعلمون أنّه مقتولٌ لا محالة، وأنّ يزيد قد عزم على ذلك وأعدّ له عدّته وباشر بتنفيذه؟!!

وربّما كان هذا هو السبب الرئيس في ترك المكاتبة من قبل أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) الأوفياء الّذين بذلوا مهجهم في الذبّ عنه، فهم قد علموا وعرفوا ما يجري، فأقدموا على أداء التكليف والمسارعة إلى رضوان الله (عزوجل) .

وإمّا أن نفترض فيهم أنّهم لم يسمعوا بهذه الأخبار ولم يعلموا بها _ وهو فرضٌ بعيدٌ جدّاً _، فهم حينئذٍ بعيدون كلّ البعد عن أجواء الدين والمتديّنين وأجواء النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، بل وأجواء المجتمع.. ومثلهؤلاء الجهلة لا يمثّلون تصوّراً دينيّاً، ولا نضجاً اجتماعيّاً، ولا حركةً واعيةً، ولا يمكن الاستناد إلى أقوالهم، ولا الارتكان إلى وعودهم والبناء على شعاراتهم، ولا يستحقّون صرف الوقت في تفسير مواقفهم ومحاولات

ص: 343

استكشاف دوافعهم، ولا يصحّ فرض اندفاعاتهم وصخبهم على حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والكلام في الوجوه والشخصيّات والأعيان لا في عامّة الناس، على أنّ محصّل الأخبار يفيد أنّ عامّة الناس أيضاً كانوا على علمٍ بهذه الأخبار.

يبدو أنّ من العسير _ بل المتعذّر جدّاً _ حمل دعوة مثل أبي عبد الله الجدليّ وأضرابه على محمل الخير، وافتراض السلامة في طويّته لاستدراج الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة وحثّه على الخروج (بالمعنى المصطلَح)، وهو قد سمع من أمير المؤمنين (علیه السلام) الصادق الأمين ما سمع!

الوقفة الثانية عشرة: ضعف السلطان!

قد يُقال: إنّ ضعف السلطان وهلاك طاغية الأُمويّين الأكبر، شجّع القوم على هذا الاندفاع وترقُّب قدوم المنقذ الأعظم، فجالت الخواطر بالحدَث الراهن، وظنّوا أنّ أجَلَ قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يحن بعد، فدعوه إلى ما دعوه إليه!

بَيد أنّ هذا الفرض يكذّبه النصّ والواقع؛ إذ أنّ الأحاديث والأخبار وردَت بالتصريح باسم القتَلَة وحدّدتهم، كيزيد وعمر بن سعدٍ وغيرهما،هذا من جهة..

ومن جهةٍ أُخرى: إنّ القوم كانوا في حياتهم الذليلة الخانعة منذ أن أقصوا إمام الحقّ ووليّ الرحمان أمير المؤمنين (علیه السلام) عن منصبه الّذي عيّنه الله له وأعلن عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كلّ موطنٍ وموقف، وكان الدين في

ص: 344

سفال، وأمر المجتمع في سفال، ولم يُبقِ ابنُ هندٍ ومَن سلّطه للدين باقية، ولم يكن الأمر جديداً محدَثاً، وكانت الأُمّة قد أذعنَت بالخوف والطمع والترهّل، وأخلدَت إلى الأرض والدعة والرفاهية، ولم يكن يومذاك في شرق البلاد الإسلاميّة ولا في غربها مَن يدعو إلى ما دعا إليه هؤلاء الأقلّيّة الضئيلة بالقياس إلى البلاد الإسلاميّة المترامية الأطراف المتكثّرة السكّان، فمكّة والمدينة وبلاد الحجاز واليمن ومصر وغيرها من البلدان _ فضلاً عن الشام _ كانت على البيعة للقرد الخليع، تعبد العجل، وتسمع هتوف السامريّ وتطيع، بل كانت أقرب البلدان إلى الكوفة _ من قبيل البصرة _ وادعةً هادئةً مذعنةً للسلطان راكعةً بذلٍّ وهوان..

هكذا هو الواقع الّذي لا يمكن النقاش فيه، ولا يُلتفَت إلى رجلٍ متذمِّرٍ هنا وآخَر ساخطٍ هناك لحرمانه من بعض لذّاته، فهذه الحالة موجودةٌ على مرّ الزمان وفي جميع البلدان، ولا ينجو منها سلطانٌ حتّى لو كان سلطان الحقّ.

فلا يمكن الاحتجاج لهم باقتناص الفرصة وضعف أركان السلطة ممّاشجّعهم على مِثل هذا الإقدام ودعوة الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّ عساكر السلطة كانت كثيرةً كثيفةً متماسكةً في الشام والعراق وغيرها من مناطق تواجدها، وكان الناس في غمرتهم يعمهون، وليس فيهم مُنكِرٌ ولا متطلّعٌ إلى غير ما هو فيه.

فإذا هم غفلوا عن أخبار قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهل ظنّوا أنّ عدداً

ص: 345

ضئيلاً لا يُقاس بجُند الشام ولا بجند العراق الباقي على الولاء للسلطان كافٍ؟!

وهل توهّموا أنّ الكوفة هي العالَم كلّه، وأنّهم هم جميع المسلمين؟

وإذا أمسكوا بزمام الأُمور في الكوفة، فإنّ حُكم الأُمويّين سينهار وينتهي كلّ شيء؟

فدَعوا الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة..

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) ترك التوجّه إلى الشام وقصدهم، ليطيّب خواطرهم ويضحّي بالدماء الزاكية والأعراض المقدّسة الّتي (لا تكاد حتّى الملائك دخول سرادقهم لولا أنّهم خدمُ)؟!

أما كان الإمام (علیه السلام) يفعل كما كان يفعل أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بل وفعلها قادة عسكر الضلال _ حين ضرب موعداً خارج الكوفة للتوجّه إلى الشام، وأعلن أنّ مَن أراد اللحاق لقتال أهل الشام فلْيلتحق بالنخيلة مثلاً، ثمّ يتوجّه من هناك إلى قطع دابر القوم الظالمين ويحارب يزيد ومَن يدافععنه من أهل الشام وغيرهم؟!

إجتماع الرسُل وردّ الإمام (علیه السلام)

مرّ معنا في متون البحث أنّ الرسل اجتمعَت كلّها عند الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكلّما جاءت دفعةٌ من الكتب دفعوها إلى الإمام (علیه السلام) ، فلم يردّ جواباً، حتّى إذا اكتملوا عنده _ فداه العالمين _ ردّ عليهم بكتابٍ واحد،

ص: 346

ودعا أخاه وثقته مسلم بن عقيل (علیه السلام) فأرسله إليهم رسولاً..

وقد أوصاه الإمام (علیه السلام) وصرّح في كتابه إليهم أنّه إنّما أرسل المولى الغريب (علیه السلام) اليهم ليتوثّق من توافق نيّاتهم وعزائمهم مع ما ورد في كتبهم من إعلان النصرة، فإن ارتضى رسولُه منهم ذلك كتب إليه.

ولم يستعجل الإمام (علیه السلام) لعجلتهم، ولم يستجب لفورتهم وغليانهم وما هم فيه من الهياج، وإنّما سلك معهم سبيل الاحتياط والحذر، وهو عالِمٌ بهم وبمآلهم وخواتيمهم.

فلا يبدو ما يروّج له يزيد منذ البداية، كما فعل في كتابه لأهل المدينة ولأهل الموسم ولابن عبّاس الّذي أرسله نسخةً واحدةً حين حاول وبشتّى الوسائل وفي جميع المواطن والمشاهد إبداء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) طالب حُكم وطالب سلطان، هاجمهم بعد أن عقد العزم على ذلك وسعى إليه، فقتلوه دفاعاً عن أنفسهم وسلطانهم، وحمايةً لعصا المسلمين من التشظّيوالانشقاق.

وهكذا فعل الأُمويّون وأدواتهم من شخصيّاتٍ ووجوه برزت على لسان المعترضين، من قبيل ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وأمثالهم..

وهكذا سار المؤرّخ المشؤوم، بدافع الدنيا وطمعها، أو بدافع العقيدة الخاطئة المعاندة، فحاول رسم هذه الصورة بشتّى الوسائل ومختلف التعابير!

* * * * *

ص: 347

إلى هنا نتوقّف عن متابعة كتب بعض الكوفيّين ورسائلهم ووفدهم ورسلهم، إذ أنّنا تناولنا في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة) ردَّ الإمام (علیه السلام) وبعثة رسوله القويّ الأمين المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیه السلام) ، وما جرى من أحداثٍ خطيرةٍ في سفارته المباركة، وقد استغرقَت سبعة أجزاءٍ احتوَت أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، فلا نعيد.

أجل، ربّما اكتشفنا شيئاً أو عثرنا على نصٍّ أو طالعتنا أحداثٌ لم نكن قد استحضرناها فيما مضى من السنين والأيّام، حيث فصلتنا عن كتاب مجموعة المولى الغريب (علیه السلام) سنون، فالمعتمَد هو ما نقرّره في الكتاب المتأخّر.

إنّما نقول ذلك للاحتياط، وإلّا فالنظرة الّتي انطلقنا من خلالها في كتابة هذه الدراسات واحدةٌ منذ البداية، غير أنّ الصورة تبدو لنا أوضح ومعالمها أتمّ كلّما توغّلنا في المسير مع ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ممّا جعل قناعتنا تترسّخ فيما اعتقدناه من تفسيرٍ لقيام الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي يمكنتلخيصه بكلمة: إنّ حركة الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى الشهادة كلّها كانت حركة دفاعٍ محض.. فما جاء فيما سبق من الكتب الّتي كتبناها يوافق هذه الرؤية فهو، وإلّا فيُردّ إلى هذه الرؤية!

ص: 348

محتويات الكتاب

كتب أهل الكوفة.................................................................................... 3

الاجتماع في دار سُليمان بن صُرَد............................................................ 7

المتون:.............................................................................................. 7

الدينوريّ:........................................................................................................................ 7

الطبريّ:........................................................................................................................... 7

إبن أعثم، الخوارزميّ:...................................................................................................... 8

الشيخ المفيد (رحمة الله) :.......................................................................................................... 9

مسكوَيه:....................................................................................................................... 10

الطبرسيّ:....................................................................................................................... 10

إبن شهرآشوب:............................................................................................................ 10

إبن الجَوزيّ:................................................................................................................. 11

إبن الأثير، النويريّ:....................................................................................................... 11

إبن نما:......................................................................................................................... 11

سبط ابن الجَوزيّ:......................................................................................................... 12

إبن طاووس:................................................................................................................. 12

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:................................................................................................... 13

المقتل المشهور:............................................................................................................ 13

تتمّة:............................................................................................................................. 14

ص: 349

النكتة الأُولى: الحاضرون!.................................................................... 16

النكتة الثانية: اجتماعٌ يتيم!.................................................................... 18

النكتة الثالثة: كيف نعرف الشيعة الحاضرين؟........................................... 20

النكتة الرابعة: التركيز على عنوان الشيعة!................................................. 21

النكتة الخامسة: وقت الاجتماع وظرفه.................................................... 23

التاريخ الأوّل: ذو الحجّة!............................................................................................... 23

التاريخ الثاني: العاشر من شهر رمضان............................................................................ 24

النكتة السادسة: دواعي الاجتماع........................................................... 26

النكتة السابعة: كلام ابن صُرَد............................................................... 27

النكتة الثامنة: جواب القوم ونتيجة الاجتماع............................................. 30

كتُب الكوفيّين للإمام الحسين (علیه السلام) ......................................................... 35

المتون............................................................................................. 35

إبن سعد ومَن تلاه:........................................................................................................ 35

إبن قُتيبة:....................................................................................................................... 35

البلاذريّ:...................................................................................................................... 36

الدينوريّ:..................................................................................................................... 38

اليعقوبيّ:....................................................................................................................... 39

الطبريّ، ابن الجَوزيّ:.................................................................................................... 40

الطبريّ وجماعة:............................................................................................................ 40

الطبريّ:......................................................................................................................... 40

الطبريّ، ابن كثير:.......................................................................................................... 42

إبن أعثم:...................................................................................................................... 43

المسعوديّ:.................................................................................................................... 45

ص: 350

المسعوديّ:.................................................................................................................... 45

إبن حبّان:...................................................................................................................... 45

أبو الفرَج:...................................................................................................................... 46

الشيخ المفيد (رحمة الله) ، الفتّال:............................................................................................. 47

مسكوَيه:....................................................................................................................... 49

أبو طالب الزيديّ:.......................................................................................................... 50

الطبرسيّ:....................................................................................................................... 50

الخوارزميّ:................................................................................................................... 50

إبن شهرآشوب:............................................................................................................ 52

إبن الجَوزيّ:................................................................................................................. 54

إبن الأثير، النويريّ:....................................................................................................... 56

إبن الأثير، الدياربكريّ:................................................................................................. 57

إبن الأثير:...................................................................................................................... 57

إبن نما:......................................................................................................................... 57

البرّيّ:........................................................................................................................... 59

إبن طلحة، الأربليّ:........................................................................................................ 59

سبط ابن الجَوزيّ:......................................................................................................... 60

إبن طاووس:................................................................................................................. 61

اليافعيّ:......................................................................................................................... 63

إبن الطقطقيّ:................................................................................................................ 63

الذهبيّ:......................................................................................................................... 64

إبن كثير:....................................................................................................................... 64

إبن خلدون:.................................................................................................................. 65

إبن عنبة:....................................................................................................................... 66

إبن حجَر:...................................................................................................................... 66

ص: 351

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:................................................................................................... 66

السيوطيّ:...................................................................................................................... 67

إبن حجَر:...................................................................................................................... 68

تاج الدين العامليّ:......................................................................................................... 68

الطُّريحيّ:...................................................................................................................... 68

المقتل المشهور لأبي مِخنَف:......................................................................................... 69

الخافي الشافعيّ:............................................................................................................ 70

التنويه الأوّل: البادئ بالكتابة................................................................. 71

التنويه الثاني: الإمام (علیه السلام) لم يطلب الحُكم!............................................... 72

التنويه الثالث: عِلمُ الإمام (علیه السلام) بحال الناس............................................... 73

التنويه الرابع: مطالب القوم!.................................................................. 75

التنويه الخامس: نظرةٌ سريعةٌ إلى المكاتبين............................................. 76

التنويه السادس: هل كان وراء المراسلة تخطيط؟!..................................... 78

الشاهد الأوّل: تخطيط معاوية لقتل الإمام (علیه السلام) على يد أهل الكوفة................................... 78

الشاهد الثاني: إخبار يزيد بذلك.................................................................................... 83

الشاهد الثالث: سعي والي المدينة لإخراج الإمام (علیه السلام) منها............................................... 84

الشاهد الرابع: سعي والي مكّة لإخراج الإمام (علیه السلام) منها..................................................... 86

الشاهد الخامس: حفظ الإمام (علیه السلام) للحُرُمات.................................................................... 87

الشاهد السادس: علم الإمام (علیه السلام) بنيّات القوم................................................................... 92

الشاهد السابع: قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء (علیه السلام) .......................................................... 94

الشاهد الثامن: أقوال الإمام الحسين (علیه السلام) .......................................................................... 96

الشاهد التاسع: قول ابن عبّاس......................................................................................... 99

الشاهد العاشر: المكاتِبون!............................................................................................ 101

الشاهد الحادي عشر: لو كانوا صادقين لوطّؤوا قبل دخول الإمام (علیه السلام) ............................ 102

ص: 352

الشاهد الثاني عشر: ما يكلّف الأعداء........................................................................... 103

الشاهد الثالث عشر: وجود ابن الزبير............................................................................ 110

الشاهد الرابع عشر: اتّهام الشيعة بالقتل.......................................................................... 111

النتيجة:....................................................................................................................... 112

التنويه السابع: ترتيب المؤرّخ خروج الإمام (علیه السلام) على وصول الكتب............ 115

المتون........................................................................................................................ 115

إبن سعدٍ ومَن تلاه:............................................................................................... 115

المسعوديّ:........................................................................................................... 116

إبن الأثير، الدياربكريّ:......................................................................................... 116

البرّيّ:................................................................................................................... 116

سبط ابن الجَوزيّ:................................................................................................. 117

إبن طاووس:......................................................................................................... 117

اليافعيّ:................................................................................................................. 118

السيوطيّ:.............................................................................................................. 118

إبن حجَر:............................................................................................................. 118

الملاحظة الأُولى: مفاد النصوص.................................................................................. 119

الملاحظة الثانية: المفاد حصيلة الصياغة........................................................................ 123

الملاحظة الثالثة: تأكيد المفاد بتصريحات المعارضين................................................... 124

الملاحظة الرابعة: تعارض المفاد مع بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) ........................................ 124

الملاحظة الخامسة: تعارض المفاد مع موقف الإمام (علیه السلام) في إرسال أخيه مسلم (علیه السلام) ........ 125

الملاحظة السادسة: تركيز المؤرّخ والسلطان الغاشم على تخطئة الإمام (علیه السلام) .................... 125

الملاحظة السابعة: الفرق الكبير بين نظرة المؤرّخ والسلطان ومقاصد الإمام (علیه السلام) ............. 126

الملاحظة الثامنة: عمل الإمام (علیه السلام) بالتكليف الربّانيّ....................................................... 127

الملاحظة التاسعة: قول الشريف المرتضى (رحمة الله علیه) ............................................................. 128

التلميح الأوّل: مخاطبة العقل السنّيّ........................................................................ 131

ص: 353

التلميح الثاني: بناء كلام المرتضى على رأي العامّة................................................. 132

التلميح الثالث: بناء كلام المرتضى على أنّ الإمام (علیه السلام) يعمل بالظنّ......................... 132

التلميح الرابع: بناء كلام المرتضى على عدم علم الإمام (علیه السلام) بمصيره ومآل أمره................ 133

التلميح الخامس: بناء كلام المرتضى على مطالبة الإمام (علیه السلام) بحقّه!.......................... 134

التلميح السادس: عمل الإمام بالاجتهاد!................................................................. 136

التلميح السابع: تخطئة الإمام (علیه السلام) وتصويب المعترضين لصحّة ظنونهم.................... 136

التلميح الثامن: العلّة الّتي ذكرها سيّد الشهداء (علیه السلام) لخروجه من مكّة........................ 138

التلميح التاسع: الاستمرار برجاء أن يفيء إليه قوم................................................... 140

التنويه الثامن: تتابع الرسُل!................................................................. 143

الطائفة الأُولى: لم تذكر شيئاً....................................................................................... 143

الطائفة الثانية: إشارةٌ مجمَلة.......................................................................................... 144

الطائفة الثالثة: تواتر الكتُب والرسُل.............................................................................. 144

الطائفة الرابعة: تتالي الرسل في الانطلاق...................................................................... 145

الطائفة الخامسة: تتالي الرسل في الوصول.................................................................... 146

الطائفة السادسة: تحديد الكتاب الأخير........................................................................ 146

الإفادة الأُولى: محدوديّة الدفعات................................................................................ 147

الإفادة الثانية: آخِر الكتب............................................................................................ 148

الإفادة الثالثة: الفاصل بين الدفعات............................................................................... 149

الإفادة الرابعة: زمن وصول الرسل................................................................................ 151

الإفادة الخامسة: الفاصل بين دخول الإمام (علیه السلام) مكّة ووصول الكتب.............................. 152

الإفادة السادسة: الفاصل بين وصول الكتب وخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة........................ 153

الإفادة السابعة: انقطاع الرسل خلال حركة المولى الغريب (علیه السلام) !.................................... 154

التنويه التاسع: عدد الكتب الواردة....................................................... 155

العدد الأوّل: لم تذكر عدداً......................................................................................... 156

العدد الثاني: ذكر الدفعات........................................................................................... 158

ص: 354

العدد الثالث: كتابٌ واحد............................................................................................ 158

العدد الرابع: نيفٌ وخمسون صحيفة............................................................................. 159

العدد الخامس: مئة كتاب............................................................................................ 159

العدد السادس: مئةٌ وخمسون كتاباً............................................................................... 160

العدد السابع: ما ملأ خُرجَين......................................................................................... 161

العدد الثامن: اثنا عشر ألف كتاب................................................................................ 162

الحصيلة:..................................................................................................................... 163

العائق الأول: انفراد الشيخ ابن نما........................................................................... 164

العائق الثاني: ذكر الآخَرين للأعداد....................................................................... 164

العائق الثالث: ضخامة العدد بلحاظ الصحائف........................................................ 165

العائق الرابع: تفرّق المكاتِبين!............................................................................... 166

العائق الخامس: عدد الحاملين للكتب!................................................................... 167

الخلاصة:.............................................................................................................. 169

التنويه العاشر: اجتماع الرسُل عند الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة....................... 170

مَن هم المكاتِبون؟............................................................................. 173

القسم الأوّل: العناوين العامّة............................................................... 173

اللحاظ الأوّل: الانتماء الجغرافي.................................................................................. 173

اللحاظ الثاني: الانتماء الدينيّ والمذهبيّ....................................................................... 176

اللحاظ الثالث: الوجهاء والأشراف!.............................................................................. 178

اللحاظ الرابع: الانتماء القبَليّ........................................................................................ 178

اللحاظ الخامس: خلاصة اللحاظات............................................................................. 179

القسم الثاني: الأسماء........................................................................ 180

الاسم الأوّل: سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ........................................................................ 180

الاسم الثاني: المسيّب بن نجبةالفزاريّ.......................................................................... 192

ص: 355

الاسم الثالث: رفاعة بن شدّاد البَجَليّ............................................................................ 196

الاسم الرابع: حبيب بن مظهّر، وبعضهم يقول: مطهّر..................................................... 198

الاسم الخامس: عبد الله بن وال.................................................................................... 199

الاسم السادس: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ...................................................................... 201

الاسم السابع: محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا]................................ 206

الاسم الثامن: حجّار بن أبجر العجليّ............................................................................ 208

الاسم التاسع: يزيد بن رُوَيم الشيبانيّ............................................................................ 210

الاسم العاشر: يزيد بن الحارث بن يزيد بن رُوَيم......................................................... 214

الاسم الحادي عشر: عزرة بن قيس الأحمسيّ............................................................... 215

الاسم الثاني عشر: عمرو بن الحَجّاج الزبيديّ............................................................... 220

القسم الثالث: وفد............................................................................ 230

التلويح الأوّل: نصّ الخبر............................................................................................. 230

التلويح الثاني: الوفد!................................................................................................... 231

التلويح الثالث: الوفد ورئيس الوفد.............................................................................. 232

التلويح الرابع: أبو عبد الله الجدليّ................................................................................ 233

المعلومة الأُولى: اسمه ونسبته................................................................................ 233

المعلومة الثانية: تشيُّعه!........................................................................................... 235

المعلومة الثالثة: كان صديقاً لعائشة ومؤثِّراً عليها..................................................... 237

المعلومة الرابعة: دخوله على أُمّ سلمة (رضی الله عنها) ........................................................ 239

المعلومة الخامسة: يُقتَل الإمام الحسين (علیه السلام) ولا ينصره أحَد..................................... 240

المعلومة السادسة: حضوره وصيّة الإمام أمير المؤمنين لولده الحسن (علیهما السلام) ودفنه!........... 247

المعلومة السابعة: مواقفه بعد يوم الحسين (علیه السلام) ......................................................... 248

المعلومة الثامنة: رسول ابن الحنفيّة إلى عبد الملك................................................ 252

التلويح الخامس: مهمّة الوفد....................................................................................... 253

القسم الرابع: خبرٌ شاذّ....................................................................... 254

ص: 356

الثلمة الأُولى: انفراد ابن حبّان...................................................................................... 254

الثلمة الثانية: صياغة الخبر!........................................................................................... 254

الثلمة الثالثة: رأي شيعته............................................................................................... 255

الثلمة الرابعة: استشار الإمام (علیه السلام) شيعته!......................................................................... 256

الثلمة الخامسة: الإشارة إلى البادئ............................................................................... 256

الرسُل................................................................................................ 259

العنوان الأوّل: العامّ.......................................................................... 259

العنوان الثاني: الأسماء...................................................................... 260

الاسم الأوّل: عبد الله بن سبيع الهمدانيّ........................................................................ 261

الاسم الثاني: عُبيد الله بن مسلم الهمدانيّ...................................................................... 261

الاسم الثالث: عبد الله بن مِسمَع البكريّ........................................................................ 262

الاسم الرابع: عبد الله بن مِسمَع الهمدانيّ....................................................................... 262

الاسم الخامس: عبد الله بن وال التَّيميّ......................................................................... 263

الاسم السادس: قيس بن مسهر الصيداويّ..................................................................... 269

الاسم السابع: عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ............................................................ 270

الاسم السادس: عمارة بن عبد السلوليّ......................................................................... 271

الاسم السابع: هانئ بن هانئ السُّبيعيّ............................................................................ 273

الاسم الثامن: سعيد بن عبد الله الحنفيّ......................................................................... 277

الاسم التاسع: عبد الله بن وداك السلميّ....................................................................... 278

الاسم العاشر: عمر بن نافذ التميميّ.............................................................................. 278

العنوان الثالث: تلميحات................................................................... 278

التلميح الأوّل: الضجيج والخلط................................................................................... 278

التلميح الثاني: مَن ثبت ومَن لم يثبت!.......................................................................... 279

التلميح الثالث: خروج أكثر من رسولٍ في كلّ دفعة..................................................... 280

ص: 357

التلميح الرابع: صبغة التشيّع!......................................................................................... 280

التلميح الخامس: حمَلَة الكتاب الأوّل والأخير.............................................................. 281

التلميح السادس: الرسل الّذين رجعوا بكتابٍ من الإمام (علیه السلام) .......................................... 281

التلميح السابع: ظروف حمل الرسائل........................................................................... 282

نصّ الكتاب....................................................................................... 285

القسم الأوّل: تقرير المؤرّخ................................................................ 285

القسم الثاني: نقل الخبر..................................................................... 287

الكتاب الأوّل: سُليمان................................................................................................. 287

المتن الأوّل: ابن قُتيبة والبلاذريّ والطبريّ ومَن تلاهم............................................ 288

المتن الثاني: ابن أعثم والخوارزميّ........................................................................ 289

المتن الثالث: ابن الجَوزيّ وسبط ابن الجَوزيّ والبرّيّ............................................ 291

المتن الرابع: أبو مِخنَف (المتداوَل)........................................................................ 293

المتن الخامس: مسكوَيه..................................................................................... 294

تذكير: رواية ابن كثير........................................................................................... 295

الكتاب الثاني: قيس..................................................................................................... 296

الكتاب الثالث: فحيَّهلا................................................................................................ 298

الكتاب الرابع: شبث.................................................................................................... 299

الكتاب الخامس: مئة ألف........................................................................................... 304

الكتاب السادس: مضامين بعض الكتب........................................................................ 306

الكتاب السابع: وفد..................................................................................................... 308

الكتاب الثامن: أنت آثم!!!........................................................................................... 309

الكتاب التاسع: كتابٌ جامع......................................................................................... 311

الكتاب العاشر: الشيخ الطُّريحيّ................................................................................... 312

يبقى كتاب!................................................................................................................ 313

ص: 358

جمع المطالب الواردة في الكتب................................................................................. 314

الوقفة الأُولى: فِرَق المكاتِبين.............................................................................. 318

الوقفة الثانية: التحدُّث باسم الجميع!....................................................................... 321

الوقفة الثالثة: دوافع المكاتبين لدعوة الإمام (علیه السلام) ...................................................... 323

الوقفة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام) ليجمعهم على الحقّ والهدى!.................................. 325

الوقفة الخامسة: إخبار الإمام (علیه السلام) أنْ ليس عليهم إمام!............................................. 327

الوقفة السادسة: موقفهم من النعمان!...................................................................... 328

الوقفة السابعة: طرد الوالي!.................................................................................... 330

الوقفة الثامنة: موقف أنصار الحسين (علیه السلام) ................................................................. 334

الوقفة التاسعة: متفرّدات ابن أعثم.......................................................................... 336

الوقفة العاشرة: استعجال الإمام (علیه السلام) !....................................................................... 338

الوقفة الحادية عشرة: علم المكاتبين بشهادة الإمام (علیه السلام) ........................................... 339

الوقفة الثانية عشرة: ضعف السلطان!....................................................................... 344

إجتماع الرسُل وردّ الإمام (علیه السلام) ............................................................ 346

ص: 359

المجلد 9

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

القسم التاسع

الخروج من مكّة

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسينيّ

ص: 3

ص: 4

يزيد يمكر بالإمام (علیه السلام) ليقتله

المتون

إبن طاووس:

وروى معمّر بن المثنّى في (مقتل الحسين (علیه السلام)) فقال _ ما هذا لفظه _ :

فلمّا كان يوم التروية، قَدِم عَمرو بنُ سعيد العاص إلى مكّة في جُندٍ كثيف، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إنْ هو ناجزه، أو يقاتله [يقتله] ((1)) إنْ قدر عليه ((2)).

الطُّريحي:

وكان يزيد أنفذ عمر[و بن سعيد] بن العاص في جيشٍ عظيم، وولّاه أمْرَ الحاجّ، وأوصاه أن يقبض على الحسين سرّاً ويقتله غِيلة، ألا

ص: 5


1- المجالس الفاخرة لشرف الدين: 209.
2- اللهوف لابن طاووس: 62، نفَس المهموم للقُمّي: 163، قاموس الرجال للتُّستريّ: 10 / 177، معالي السبطَين للمازندراني: 1 / 255.

لعنة الله على القوم الظالمين ((1)).

الطُّريحيّ، المجلسيّ:

وذلك لأنّ يزيد (لعنه الله) أنفذ عَمرو بن سعيد بن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمْرَ الموسم، وأمّره على الحاجّ كلِّه، وكان قد أوصاه يقبض الحسين (علیه السلام) سرّاً، وإنْ لم يتمكّن منه يقتله غِيلة، ثمّ إنّه (لعنه الله) دسّ مع الحُجّاج في تلك السنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حالٍ اتّفق، فلمّا علم الحسين بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عُمرةً مفردة ((2)).

القندوزيّ:

لأنّ يزيد أرسل مع الحُجّاج ثلاثين رجُلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حال ((3)).

الأمين:

وكان يزيد بن معاوية قد أنفذ عَمرو بن سعيد بن العاص من

ص: 6


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 389.
2- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 434، بحار الأنوار: 45 / 99، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255.
3- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

المدينة إلى مكّة في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم وأمّره علىالحاجّ كلِّهم، فحجّ بالناس، وأوصاه بقبض الحسين (علیه السلام) سرّاً، وإنْ لم يتمكّن منه يقتله غِيلة، وأمره أنْ يناجز الحسين (علیه السلام) القتالَ إن هو ناجزه.

فلمّا كان يوم التروية، قدم عَمرو بن سعيدٍ إلى مكّة في جُندٍ كثيف، فلمّا علم الحسين (علیه السلام) بذلك عزم على التوجُّه إلى العراق ((1)).

المقرّم:

لمّا بلغ الحسينَ أنّ يزيد أنفذ عَمرو بن سعيد بن العاص في عسكرٍ وأمّره على الحاجّ وولّاه أمْرَ الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد، عزم على الخروج من مكّة ((2)).

(مع الركب):

ومن الإجراءات السرّيّة الّتي اتخَذَتها السلطة الأُمويّة المركزيّة في الشام بعد فشل خطّتها الرامية إلى اعتقال الإمام (علیه السلام) أو قتله في المدينة المنوّرة، هو قيامها بالتدابير اللازمة لاغتيال الإمام (علیه السلام) أو اعتقاله في مكّة المكرّمة.

ص: 7


1- أعيان الشيعة للأمين: 1 / 593، لواعج الأشجان: 69.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 193.

وخطّة السلطة الأُمويّة لاغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة المكرّمة أواعتقاله من المسلّمات التأريخيّة الّتي يكاد يُجمع على أصلها المؤرّخون.

وكفى بتصريح الإمام الحسين (علیه السلام) لأخيه محمّد ابن الحنفيّة: «يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت!» ((1))، وقوله (علیه السلام) للفرزدق: «لو لم أعجل لَأُخذت» ((2)).

ذكرت بعضُ المصادر التأريخيّة أنّ يزيد أنفذ عَمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاجّ وولّاه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وُجد ... ((3)).

ويقول مصدرٌ آخَر: وبعث ثلاثين من بني أُميّة مع جمعٍ، وأمرهم أن يقتلوا الحسين ((4)).

ويقول آخَر: إنّهم جدّوا في إلقاء القبض عليه وقتله غِيلةً، ولو وُجد

ص: 8


1- اللهوف لابن طاووس: 128.
2- الإرشاد للمفيد: 201.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 165.
4- تذكرة الشهداء للكاشانيّ: 69.

متعلّقاً بأستار الكعبة ((1)).

ومن الوثائق التأريخيّة الكاشفة عن هذه الحقيقة: رسالة ابنعبّاسٍ الى يزيد، والّتي ورد فيها: .. وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسينَ بن عليٍّ من حرم رسول اللّٰه إلى حرم اللّٰه، ودسَّك عليه الرجال تغتاله.. فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسستَ عليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ... ((2)).

وفي هذا القدر من المتون التأريخيّة كفايةٌ في الدلالة على خطّة السلطة الأُمويّة المركزيّة في الشام لإلقاء القبض على الإمام (علیه السلام) أو اغتياله في مكّة المكرّمة ((3)).

* * * * *

يمكن تناول نصوص هذا العنوان من خلال التنويهات التالية:

ص: 9


1- الخصائص الحسينيّة للتُّستريّ: 32 _ طبعة تبريز.
2- تأريخ اليعقوبيّ 2: 248 _ 249، وبحار الأنوار 45: 323 _ 324، وفي (تذكرة الخواص: 248): أنسيتَ إنفاذ أعوانك إلى حرم اللّٰه لقتل الحسين ...
3- مع الركب الحسينيّ: 2 / 153.

التنويه الأوّل: المصدر

يبدو أنّ المصدر الأوّل لخبر قدوم عمرو بن سعيد بجُندٍ كثيفٍ هو معمّر ابن المثنّى في (مقتل الحسين (علیه السلام)) الّذي يروي عنه السيّد ابن طاووس..

وخبر دسّ شياطين بني أُميّة لاغتيال الإمام (علیه السلام) هو الشيخ الطُّريحيّ في(المنتخَب).

فربّما يُقال: إنّ هذا مِن متفرّداتهم، بَيد أنّ الشواهد التاريخيّة ومجريات الحوادث كلّها تشهد بصحّة ما روياه، فهما يرويان حدَثاً تظافرت القرائن على عضده وتأكيده.

وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ ما ذكراه لا يعدو أن يكون تفصيلاً وتتبُّعاً لجزئيّات الحدَث الأصليّ الّذي تفيده المتون التاريخيّة والشواهد المتظافرة المتكاثرة في المتون والأحداث، فلا يُعَدّ أصلُ الحدَث ممّا تفرّدا به، وإنّما هو حدَثٌ مشهورٌ متّفَقٌ عليه، وما قد يُعدّ تفرّداً إنّما هو هذه الجزئيّة أو التفصيل الشارح للأصل المتّفق عليه.

وما ذكراه ليس إلّا مفردةً وصورةً من صور الحدث الأصليّ، بمعنى أنّ ما يرويه السيّد ابن طاووس من قدوم الأشدق بجُندٍ كثيفٍ لغرض التعرّض للإمام (علیه السلام) بمناجزته القتال أو قتله، هو صورةٌ من صور محاولات العدوّ لقتل

ص: 10

الإمام (علیه السلام) في مكّة..

وما ذكره الشيخ الطريحيّ إنّما هو صورةٌ من صور محاولات العدوّلاغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة.

وقد اتّفق الجميع أنّ العدوّ كان قد أقدم على قتل الإمام (علیه السلام) أو أخذِه أو اغتياله في مكّة، فلا مانع من قبول هذه التفاصيل.

كما أنّ سلوك العدوّ وعزمه وإقدامه على قتل الإمام (علیه السلام) واغتياله أو أخذه في مكّة غير منحصرٍ بهاتَين الصورتَين، فربّما كانت هناك محاولاتٌ أُخرى يمكن أن تندرج تحت الفكرة العامّة الّتي صرّح بها الإمام الحسين (علیه السلام) وصرّح بها المؤرّخ وغيره.

التنويه الثاني: مفاد خبر السيّد ابن طاووس (رحمة الله)

أفاد السيّد ابن طاووس أنّ عَمرو بن سعيدٍ قدم إلى مكّة في جُندٍ كثيف، وقد أمره يزيد أن يُناجِز الحسينَ (علیه السلام) القتالَ إنْ هو ناجزه، أو يقتلَه إن قدر عليه ((1)).

ص: 11


1- اللهوف لابن طاووس: 62، نفَس المهموم للقُمّي: 163، قاموس الرجال للتُّستريّ: 10 / 177، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255.

وروى الطُّريحيّ نفس الحدَث بتغييرٍ في أُسلوب تنفيذ المهمّة الّتي أُوكلَت به، إذ أنّها في نصّ الطُّريحي: «أن يقبض على الحسين (علیه السلام) سرّاً ويقتله غيلة» ((1))، وهو أوفق بطريقة العدوّ في التعامل مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، وهو لا يختلف مع ما ورد في نصّ ابن طاووس، فهما إنّما يختلفان في الأمر بمناجزة القتال إن هو قاتله،ويتّفقان في الباقي.

ولا مانع من قبولهما؛ لأنّ متن ابن طاووس يوافق الاحتمالات المتصوّرة في حال وقوع صِدامٍ بينهما، فقد صدرت الأوامر بالمواجهة، فليس الأمر منحصراً بالاغتيال فقط، وإنّما عليه أن يقتل الإمام (علیه السلام) كيفما اتّفق، سرّاً وعلانية.

التنويه الثالث: عودة الأشدق إلى مكّة

مرّ معنا الحديث عن مغادرة الأشدق مكّة متوجّهاً إلى المدينة وما فعله هناك فيما مضى من الدراسة..

وقد كان الأشدق والياً على مكّة، فضمّ إليه يزيدُ القرود المدينة، تماماً كما فعل مع ابن زيادٍ والي البصرة حيث ضمّ إليه الكوفة.

ص: 12


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 389.

ولا نستبعد أبداً أن يكون سفر الأشدق إلى المدينة في تلك الأيّام العصيبة الملتهبة بعد دخول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن الزبير إلى مكّة كان لغرضٍ مهمٍّ غايةً في الأهمّيّة..

فربّما كان بالإضافة إلى ضبط الأُمور في المدينة، بعد أن غادرهاأشرفُ الخلق يومها الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأخسُّ الناس وأشرسُهم ابن الزبير، كان ثَمّة أسباب ودوافع أُخرى مهمّة..

قد يكون منها:

التخطيط لاغتيال سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد أن كرّس شياطينه وجمعَهم في مكّة وبثّهم في الأرجاء ورتّب الخطّة وأحكمها معهم، ثمّ خرج منها إلى المدينة، فإذا وقع الاغتيال يكون الأشدق وزبانيته وجلاوزته خارج المشهد، ويكون بعيداً عن دائرة الاتّهام، وربّما وبّخه بعد ذلك سائسه يزيد على تركه مركز ولايته حيث وقع الاغتيال..

فلمّا باءت خططهم بالفشل، إذ بادر سيّدُ الشهداء (علیه السلام) إلى كبحها وتعجّل الخروج من مكّة، اضطرّ يزيد إلى استعجال الأشدق وإرساله إلى مكّة بجُندٍ ليقضي على الإمام (علیه السلام) ما سنحَت له الفرصة، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) خرج متعجّلاً وعالج الموقف متأنّياً بحيث منع وقوع القتال وصدّ عن قتله في المسجد الحرام.

ص: 13

التنويه الرابع: مفاد خبر الطُّريحيّ

يفيد خبر الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) أنّ يزيد دسّ مع الحُجّاج ثلاثين رجُلاًمن شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) على كلّ حالٍ اتّفق، ممّا اضطرّ الإمام (علیه السلام) إلى تعجيل الخروج من مكّة، وقد ذكر ذلك بعد أن روى خبر إنفاذ الأشدق في عسكرٍ عظيمٍ للقبض على الإمام الحسين (علیه السلام) سرّاً أو قتله غِيلة ((1)).. ممّا يفيد أنّ دسّ شياطين بني أُميّة كان صورةً من صور تنفيذ خطّة اغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة.

وممّا يفيد الخبر أيضاً أنّ هؤلاء الثلاثين شيطاناً لم يُكلَّفوا بتنفيذ الاغتيال كجماعةٍ واحدة، فليس بالضرورة أن تكون المجموعة كمجموعةٍ تباشر ضمن العدد المذكور في تنفيذ الاغتيال، بل يكفي أن يكون كلُّ واحدٍ منهم منفِّذاً حسب تمكين الفرصة..

أي: أنّ كلّ واحدٍ منهم كان مكمناً ومنفذاً يمكن أن يباشر الاغتيال متى أمكَنَته الفرصة، فربّما انتشروا في المسجد الحرام وفي مكّة.. طُرُقها ورباياها وجبالها وشعابها ومكامنها وشوارعها وأزقّتها..

ص: 14


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 434، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 99، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، معالي السبطَين للمازندراني: 1 / 255.

وهؤلاء الثلاثون قد دسّهم اللعين كجُند اغتيال، وهم _ حسب السياق _ غيرُ الجند الّذي جاء مع الأشدق!

من هنا نعرف مدى خطورة الوضع في مكّة ومدى فعليّة التهديد الّذيتعرّض له الإمام (علیه السلام) بشكلٍ جدّي.

ويشهد لصدق هذه الصورة المروّعة تعجُّلُ الإمام (علیه السلام) الخروجَ من مكّة وعدم انتظاره ولو لسويعاتٍ حتّى يبدأ الموسم أو تنقضي المناسك.

وسنسمع فيما يلي بعض الشواهد الأُخرى على حتميّة حصول قتل الإمام (علیه السلام) في مكّة إنْ هو بقي فيها ولو بعض الوقت.

التنويه الخامس: الشواهد

مرّ معنا في مواضع كثيرةٍ من هذه الدراسة بياناتُ الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) وتصريحاته الواضحة الجليّة المعبّرة بالعلم الجازم والقطع الحاسم عن كونه مطلوباً للقتل، وأنّ العدوّ يلاحقه ويتتبّعه، وسوف لن يتركه حتّى يستخرجه ولو كان في جُحر أيّ هامّةٍ من هوامّ الأرض، وأنّ العدوّ قد أعدّ واستعدّ وجهّز كلّ ما يلزم من أجل تحقيق غرضه.

كما مرّ معنا ما هو صريحٌ من عباراته وكلماته (علیه السلام) في بيان كونه مطلوباً للقتل في مكّة حتماً جزماً، وأنّهم يريدون قتله بأيّ نحوٍ حصل، غيلةً أو

ص: 15

فتكاً، أو يأخذونه أخذاً.. والكلام هنا عن تصريحاته عن عزم القوم على قتله في مكّة بالذات.وقد مرّ معنا أيضاً كلماتُه (علیه السلام) الّتي تفيد بالإشارة القريبة عزم العدوّ على قتله في مكّة، من قبيل تأكيده مرّةً بعد أُخرى أنّه لا يحبّ أن يُقتَل في الحرم، وأن يُقتَل خارج الحرم بشبرٍ أحبّ إليه، وأنّه لا يحبّ أن يكون الكبش الّذي يُستباح به حرمة الحرم، وغيرها من الكلمات الّتي تأتي في نفس السياق..

وهذه المجموعة من كلماته (علیه السلام) لا تحتاج هنا إلى توثيقٍ وإسنادٍ وتخريج؛ لأنّنا قد فعلنا ذلك في مواضعه من جهة، ولأنّها من المسلَّمات الّتي لا يختلف فيها اثنان، والبديهيّات التاريخيّة الّتي اتّفق عليها المخالف والمؤالف.

ولو لم يكن شاهدٌ على صحّة إقدام العدوّ على قتل الإمام (علیه السلام) في مكّة على كلّ حالٍ سوى خروجه متعجّلاً منها، لَكفى!

التنويه السادس: الخلاصة

شهدَت جُملةُ هذه التنويهات على نتيجةٍ متّفَقٍ عليها عند جميع المتابعين لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة.. شهدَت على كون الإمام (علیه السلام)

ص: 16

كان مطلوباً للقتل ملاحَقاً مطارَداً، قد ضيّقوا عليه الدنيا، «فكأنّما المأوىعليه محرّمُ» في مكّة..

كانوا يتربّصون به اللحظات.. يترصّدون له في كلّ مكان.. ويقعدون له في كلّ مرصدٍ ويرصدونه في كلّ مكمن.. يريدون رأسَه الّذي أراده القرد المسعور المخمور.. يريدون قتلَه وسفكَ دمه الزاكي في مكّة.. والقوم لا يعرفون لله حرمةً ولا يعرفون للبيت الحرام حرمة.. ولا للدم المعصوم الزاكي حرمة..

تماماً كما كان مطلوباً في المدينة، وقد أمر يزيد الخمور في كتابه إلى واليه على المدينة أن يكون مع جواب كتابه _ الّذي يسرد فيه أسماءَ مَن بايع ومَن أبى البيعة _ رأسُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .

إلى هنا متّفَقٌ عليه عند الجميع، لا يختلف فيه اثنان..

فالجميع يقول: إنّ تعجُّلَ خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وتعجيلَ الخروج من مكّة، إنّما كان دفاعاً محضاً عن نفسه ومَن معه، لئلّا يٌقتَل في أحد الحرمَين!

وهذا ما أفاده التاريخ بوضوحٍ لا تغبيش فيه، وأفادَتْه كلماتُ الإمام خامسُ أصحاب الكساء (علیه السلام) بجلاءٍ لا لَبْس فيه ولا التواء..

فريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) محاصَرٌ ملاحَقٌ مطلوبُ الدم في المدينة.. إنْ بقي

ص: 17

فيها يوماً آخَر بعد يوم خروجه لَقُتل!

وهو محاصَرٌ ملاحَقٌ مطلوبُ الدم في مكّة.. إنْ بقي فيها يوماً آخَر بعد يوم خروجه منها لَقُتل!

لذا استعجل الخروج منهما، ولم يتريّث ساعةً من الزمان.. بهذا شهدَت الأحداث وجرت الحوادث.. وبهذا شهد التاريخ وأقوال أمثال ابن عبّاسٍ وغيره من المعاصرين.. وبهذا صرّحَت وشهدَت كلمات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وبياناته..

لقد كان خروجُه من مكّة معالجةً للوقائع، وعلاجاً للملاحقة، ومنعاً من سفك دمه الزاكي الحرام في البيت الحرام.. ولا نجد سبباً آخَر في كلمات الإمام (علیه السلام) كسببٍ وداعٍ رئيسٍ مؤثّرٍ فاعلٍ سوى ما ذكره (علیه السلام) من حماية حُرمة دمه في حرمة الحرم!

ص: 18

الإمام الحسين (علیه السلام) يعتمر ثمّ يخرج إلى العراق

المتون

الكُلينيّ (رحمة الله) :

• عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سُئِل عن رجُلٍ خرج في أشهُر الحجّ معتمِراً ثمّ رجع إلى بلاده، قال: «لا بأس، وإنْ حَجَّ في عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم؛ فإنّ الحسينَ بنَ عليٍّ (علیهما السلام) خرج قبل التروية بيومٍ إلى العراق، وقد كان دخل مُعتَمِراً» ((1)).

• عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس،عن

ص: 19


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 535 ح 3، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحراني: 17 / 317.

معاوية بن عمّارٍ قال: قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام) : مِن أين افترق المتمتِّعُ والمعتمِر؟ فقال: «إنّ المتمتِّعَ مُرتبطٌ بالحجّ، والمعتمرَ إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسينُ بنُ عليٍّ (علیهما السلام) في ذي الحجّة، ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناسُ يروحون إلى مِنى، ولا بأس بالعُمرة في ذي الحجّة لِمَن لا يريد الحجّ» ((1)).

الطبريّ:

قالا [أي: عبد الله بن سُليم والمذريّ بن المشمعل الأسديّان]: فطاف الحسينُ بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ مِن شَعره، وحَلّ مِن عُمرته، ثمّ توجّه نحو الكوفة ((2)).

المفيد ومَن تلاه:

ولمّا أراد الحسينُ (علیه السلام) التوجُّهَ إلى العراق، طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ مِن إحرامه وجعلها عُمرةً؛ لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ، مخافة أن يُقبَض عليه بمكّة فينفذ إلىيزيد بن

ص: 20


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 535 ح 4، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 385، نفَس المهموم للقُمّيّ: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

معاوية ... ((1)).

إبن نما:

ولمّا أراد الخروجَ من مكّة، طاف وسعى، وأحلّ مِن إحرامه، وجعل حجّه عُمرةً؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ، مخافة أن يُقبَض عليه ((2)).

الطُّريحيّ، القندوزيّ:

كان فيه خروج الحسين (علیه السلام) من مكّة إلى العراق، بعد أن طاف وسعى وأحلّ من إحرامه، وجعل حجّه عُمرةً مفردةً؛ لأنّه (علیه السلام) لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أن يُبطَش به ((3)).

الأمين:

فلمّا كان يوم التروية، قدم عَمرو بن سعيدٍ إلى مكّة في جُندٍ كثيف، فلمّا علم الحسين (علیه السلام) بذلك عزم على التوجّه إلى العراق،

ص: 21


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 363، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقُمّيّ: 162، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255، روضة الواعظين للفتّال: 152، إعلام الورى للطبرسيّ: 230.
2- مثير الأحزان لابن نما: 19.
3- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 434، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

وكان قد أحرم بالحجّ ... فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وقصّر مِن شَعره وأحلّ من إحرام الحجّ، وجعلها عُمرةً مفردةً؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافةَ أن يُقبَض عليه، فخرج من مكّة ... ((1)).

وكان قد أحرم بالحجّ ((2)).

المقرّم:

عزم على الخروج من مكّة قبل إتمام الحجّ، واقتصر على العُمرة؛ كراهية أن تُستباح به حُرمةُ البيت ((3)).

* * * * *

يمكن استكشاف هذه النصوص من خلال المعالجات التالية:

المعالجة الأُولى: تقسيم النصوص

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الواردة في المقام إلى طائفتَين:

ص: 22


1- أعيان الشيعة للأمين: 1 / 593.
2- لواعج الأشجان للأمين: 69.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 193.
الطائفة الأُولى: الأحاديث الشريفة

ورد حديثان شريفان يفيدان بصراحةٍ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد أحرم للعُمرة المفردة، ولم يُحرم لعمرة التمتّع إلى الحجّ، كما ورد خبر الطبريّ في نفس السياق أيضاً..

ففي الحديث الأوّل:

«فإنّ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) خرج قبل التروية بيومٍ إلى العراق، وقد كان دخل مُعتمِراً» ((1)).

وفي الحديث الثاني:

«وقد اعتمر الحسينُ بنُ عليٍّ (علیهما السلام) في ذي الحجّة، ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناسُ يروحون إلى مِنى، ولا بأس بالعُمرة في ذي الحجّة لِمَن لا يريد الحجّ» ((2)).

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) : اعلمْ أنّ قوله: «ولا بأس بالعُمرة»، داخلٌ في

ص: 23


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 535 ح 3، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.
2- الكافي للكلينيّ: 4 / 535 ح 4، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.

الحديث؛ لذِكره في (الكافي) ((1)).

وفي خبر الطبريّ:فطاف الحسينُ بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ مِن شَعره وحلّ من عُمرته، ثمّ توجّه نحو الكوفة ((2)).

الطائفة الثانية: النصّ التاريخيّ

ذكر الشيخ المفيد ومَن تلاه عبارةً تفيد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد أحرم للحجّ ثمّ أحلّ إحرامه وجعلها عُمرة، وعلّل ذلك بأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقبَض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد (لعنه الله)..

ويمكن إفادة ذلك من قوله: «وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة»، والتعليل الّذي ذكره لذلك: «لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ» ((3)).

ص: 24


1- ملاذ الأخيار للمجلسيّ: 8 / 461.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 385، نفَس المهموم للقُمّيّ: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 363، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقُمّيّ: 162، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255، روضة الواعظين للفتّال: 152، إعلام الورى للطبرسيّ: 230.

وجاءت عبارة الشيخ ابن نما أكثر وضوحاً من كلام الشيخ المفيد: «وأحلّ من إحرامه، وجعل حجّه عُمرةً ((1)) مفردة» ((2))، ثمّ ذكر نفس التعليل الّذي ذكره المفيد (رحمة الله) .

وربّما صرّح السيّد الأمين اعتماداً على ما استظهره من عبارة المفيد وابن نما، فقال: «إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان قد أحرم بالحجّ ... وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عُمرةً مفردة» ((3)).

المعالجة الثانية: اشتراط الإحرام في أشهُر الحجّ

v رُوي عن الإمام الصادق (علیه السلام) مُسنَداً أنّه قال: «مَن دخل مكّةَ معتمِراً مُفرِداً للعُمرة فقضى عُمرتَه ثمّ خرج، كان ذلك له، وإنْ أقام إلى أن يدركه الحجّ، كانت عمرته متعة»، وقال: «ليس يكون متعةً إلّا في أشهُر الحجّ» ((4)).

• وفي (تفسير القُمّيّ):

وأشهُر الحجّ معروفة، وهي: شوّال، وذو القعدة، وذو الحِجّة.

ص: 25


1- مثير الأحزان لابن نما: 19.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 434، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.
3- أعيان الشيعة للأمين: 1 / 593، لواعج الأشجان للأمين: 69.
4- التهذيب للطوسيّ: 5 / 435 ح 159، هداية الأُمّة للحُرّ العامليّ: 5 / 446 ح 28.

وإنّما صارت أشهُر الحجّ؛ لأنّه مَن اعتمر في هذه الأشهر _ في شوّال أو في ذي القعدة أو في ذي الحِجّة _ ونوى أن يُقيم بمكّة حتّى يحجّ، فقد تمتّع بالعُمرة إلى الحجّ، ومَن اعتمر في غير هذه الأشهر ثمّ نوى أن يقيم إلى الحجّ أو لم ينوِ، فليس هو ممّن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، لأنّه لم يدخل مكّة في أشهُر الحجّ، فسمّى هذه أشهر الحجّ فقال الله (تبارك وتعالى): ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ ((1)) ((2)).

عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قوله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌv مَّعْلُومَاتٌ﴾: «هو شوّال وذو القعدة وذو الحِجّة» ((3)).

v عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، قال: «شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، وليس لأحدٍ أن يُحرِم بالحجّ فيما سواهنّ» ((4)).

v عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، فمن أراد الحجّ وفّر شعره إذا نظر إلى هلال ذي القعدة، ومن أراد العمرة وفّر شعره شهراً» ((5)).

ص: 26


1- سورة البقرة: 197.
2- تفسير القمّيّ: 1 / 68.
3- الكافي للكلينيّ: 4 / 289 ح 2.
4- الكافي للكلينيّ: 4 / 289 ح 1.
5- الكافي للكلينيّ: 4 / 317 ح 1، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 2 / 301 ح 252.

v عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال في قول الله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾: «والفرضُ فرضُ الحجّ: التلبية والإشعار والتقليد، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحجّ، ولا يفرض الحجّ إلّا في هذه الشهور الّتي قال الله: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة» ((1)).

عن حمّاد قال: سألتُ أبا عبد الله (علیه السلام) عن أهل مكّة أيتمتّعون؟ قال: «ليس لهم متعة». قلت: فالقاطن بها؟ قال: «إذا أقام بها سَنةً أو سنتين، صَنَع صُنعَ أهل مكّة». قلتُ: فإن مكث الشهر؟ قال: «يتمتّع». قلت: مِن أين؟v قال: «يخرج من الحرم». قلت: أين يهلّ بالحجّ؟ قال: «من مكّة نحواً ممّا يقول الناس» ((2)).

v عن سماعة، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «المُجاوِر بمكّة إذا دخلها بعُمرةٍ في غير أشهُر الحجّ، في رجب أو شعبان أو شهر رمضان أو غير ذلك من الشهور، إلّا أشهُر الحجّ، فإنّ أشهُرَ الحجّ شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، مَن دخلها بعُمرةٍ في غير أشهُر الحجّ ثمّ أراد أن يُحرِم، فلْيخرج إلى الجعرانة فيُحرم منها، ثمّ يأتي مكّة،

ص: 27


1- تفسير العيّاشيّ: 1 / 94، الكافي للكلينيّ: 4 / 289.
2- الكافي للكلينيّ: 4 / 300 ح 4.

ولا يقطع التلبيةَ حتّى ينظر إلى البيت، ثمّ يطوف بالبيت، ويصلّي الركعتين عند مقام إبراهيم (علیه السلام) ، ثمّ يخرج إلى الصفا والمروة فيطوف بينهما، ثمّ يقصّر ويحلّ، ثمّ يعقد التلبية يوم التروية» ((1)).

v عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾، شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، ليس لأحدٍ أن يُحرم بالحجّ في سواهنّ، وليس لأحدٍ أن يُحرم قبل الوقت الّذي وقّته رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما مثل ذلك مثل مَن صلّى في السفر أربعاً وترك الثنتين» ((2)).

عن ابن أُذينة قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «مَن أحرم بالحجّ في غير أشهُرv الحجّ فلا حجَّ له، ومَن أحرم دون الميقات فلا إحرام له» ((3)).

v عن إبراهيم الكرخيّ قال: سألتُ أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجُلٍ أحرم في غير أشهُر الحجّ، أو مِن دون الميقات الّذي وقّته رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قال: «ليس إحرامه بشيء، فإنْ أحبّ أن يرجع إلى أهله فلْيرجع، فإنّي لا أرى عليه شيئاً، فإنْ أحبّ أن يمضي فلْيمضِ، فإذا انتهى إلى الوقت فلْيُحرِم، ولْيجعَلْها عُمرةً، فإنّ ذلك أفضل من رجوعه، لأنّه قد أعلن الإحرام» ((4)).

ص: 28


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 302 ح 10.
2- التهذيب للطوسيّ: 5 / 52 ح 1.
3- التهذيب للطوسيّ: 5 / 52 ح 3.
4- التهذيب للطوسيّ: 5 / 53 ح 5.

* * * * *

أفادَتْ هذه الأحاديث _ وهو ما ذهب إليه فقهاء المذهب الحقّ _ أنّ الإحرام لعمرة التمتّع _ وهو إحرامٌ للحجّ _ لا يمكن أن يقع إلّا في أشهُر الحجّ الثلاثة: شوّال، وذي القعدة، وذي الحجّة..

فإذا دخل المعتمر إلى مكّة قبل أشهُر الحجّ، فليس له خيارٌ سوى الإحرام للعمرة المفردة، فإن أقام في مكّة وأراد أن يحجّ حجّ التمتُّع باعتباره مجاوراً وليس من أهل مكّة، فعليه أن يخرج إلى الجعرانة مثلاً ثمّ يُحرِم بالعمرة إلى الحجّ..

وقد تبيّن لنا بما لا شكّ فيه أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل مكّةفي شهر شعبان، أي: قبل حلول أشهُر الحجّ، فلا يمكن أن يكون أحرامه الأوّل الّذي دخل به إلى مكّة إلّا إحراماً للعمرة المفردة!

ويشهد لذلك ما رواه الشيخ الكلينيّ (رحمة الله) في (الكافي) الشريف: عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه سُئل عن رجُلٍ خرج في أشهُر الحجّ مُعتمِراً ثمّ رجع إلى بلاده، قال: «لا بأس، وإنْ حجَّ في عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم؛ فإنّ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) خرج قبل التروية بيومٍ إلى العراق، وقد كان دخل معتمِراً» ((1)).

ص: 29


1- الكافي للكليني: 4 / 535 ح 3، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.

على فرض حمل قوله (علیه السلام) : «وقد كان دخل معتمِراً»، على دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة في شهر شعبان، وهو الظاهر.

فيكون المعنى: إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل مكّة معتمِراً، ثمّ خرج عنها أيّام الحجّ ولم يحضر الموسم.

فالحديث يتحدّث عن الدخول الأوّل إلى مكّة في شهر شعبان، ولا يتعرّض إلى إحرام سيّد الشهداء (علیه السلام) في شهر ذي الحجّة.

المعالجة الثالثة: عُمرةٌ في ذي الحجّة

في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) : «وقد اعتمر الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) في ذي الحجّة، ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناسُ يروحون إلى مِنى، ولا بأس بالعُمرة في ذي الحجّة لمَن لا يريد الحجّ» ((1)).

هذا الحديث يفيد بصراحةٍ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد اعتمر في ذي الحجّة ثمّ خرج إلى العراق، ويؤكّد ذلك ذيل الحديث، حيث يفرّع الإمام (علیه السلام) نفي البأس عن العمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ على

ص: 30


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 535 ح 4، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.

فعل الإمام الحسين (علیه السلام) .

وصراحة الحديث ووضوحه تأبى حمله على عمرة الدخول إلى مكّة في شعبان.. وظهور الحديث السابق المذكور يبعد حمله على عمرة ذي الحجّة، فإمّا أن يكون كلّ حديث يخبر عن عمرة، وإمّا أن نحمل بعضها على بعض، فلْيُحمَل الأوّل على الثاني، والإخباران أظهر وأقوى.

المعالجة الرابعة: خبر الطبريّ

يروي الطبريّ خبراً عن الأسديَّين يفيد مشاهدتهما أنّ الإمام (علیه السلام) قدطاف بالبيت وسعى وقصّ من شعره، ثمّ قالا: وحلّ من عمرته! ((1)) وهذا ما يؤكّده الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) ، ولولا الحديث الشريف لَأخذنا عليه مأخذاً سنذكره بعد قليل.

المعالجة الخامسة: قول الشيخ المفيد (رحمة الله)

عبارة الشيخ المفيد (رحمة الله) : «وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة»، والتعليل

ص: 31


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 385، نفَس المهموم للقمّيّ: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

الّذي ذكره لذلك: «لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ» ((1))، بل حتّى عبارة الشيخ ابن نما (رحمة الله) أيضاً: «وأحلّ من إحرامه، وجعل حجّه عمرةً ((2)) مفردة» ((3))، يمكن أن يكون لها وجهان..

فيمكن أن يكون المراد أنّ الإمام (علیه السلام) جاء بالعمرة بدل أن يأتي بالحجّ حين عزموا على قتله غيلةً أو أخذِه أخذاً، ويمكن أن يكون المراد أنّه أحرم بالحجّ، ثم بدّل حجّه إلى عمرة، فأحلّ من إحرامها.. والثاني أظهر، سيّما في كلام ابن نما.

فإن قلنا بالأوّل اتحدّ كلام الشيخ المفيد ومَن تلاه مع صريح الحديث الشريف، وتحدّدَت النتيجة.. وإن قلنا بالثاني فسوف نعالجه بعد قليل.

المعالجة السادسة: الفرق بين رواية التاريخ والحديث

سمعنا الأسديَّين يحدّثان ويُخبران عن طواف الإمام (علیه السلام) وسعيِه

ص: 32


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 363، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 162، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255، روضة الواعظين للفتّال: 152، إعلام الورى للطبرسيّ: 230.
2- مثير الأحزان لابن نما: 19.
3- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 434، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

وتقصيره، وهذه كلّها مشاهدات يمكن أن يرصدها الراوي، فهو إلى هنا مقبولٌ فيما يُخبِر، وله أن يضيف باقي مشاهدته بالإخبار عن أنّه أحلّ من إحرامه، لأنّ لازم الطواف والسعي والتقصير الإحلال.. أمّا أنّه أحلّ عن عمرته، فهذا ما يتعذّر على الراوي العادي تحديده، ولا يفيدنا كثيراً تشخيصه، إذ أنّ الإحلال عن العُمرة بالتقصير يحصل في عمرة التمتُّع وفي العمرة المفردة على حدٍّ سواء، والفرق أنّ عمرة التمتّع سيبقى فيها الحاجّ مرابطاً في مكّة حتّى يؤدّي باقي النسُك، فيما يحتاج في العمرة المفردة للإتيان بطواف النساء ليحلّ من إحرامه كاملاً.

فما شاهده الأسديّان وروياه لا ينفع في تحديد نوع الإحرام لولا شهادة الحديث لهما، وهذا هو الفرق بين راوي المؤرّخ الّذي لا يروي إلّا ما يشاهد ولا يطّلع على السرائر ولا النوايا، وبين الإمام المعصوم (علیه السلام) الّذي يُخبر عن الحقّ والحقيقة!

المعالجة السابعة: التعارض بين تصريح الشيخ المفيد والحديث!

متن الشيخ المفيد لا يتعدّى كونه متناً تاريخيّاً، فهو محكومٌ بما يُحكَم به المتن التاريخيّ، وله أن يُخبِر عن المشاهدات، أمّا النوايا فلا يعرفها إلّا الله

ص: 33

وصاحبها..

ولو فرضنا وقوع التعارض بين مفاد خبر الشيخ المفيد وما ورد في الحديث وخبر الطبريّ، فإنّ المقدَّم هو الحديث الشريف بلا تردُّد؛ لِما ذكرناه في بحث المدخل في (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام)).

وعلى فرض التعامل مع متن الحديث الشريف كنصٍّ تاريخيّ، فإنّ ما يرويه الشيخ الثقة الكلينيّ وما يرويه الطبريّ مقدَّمٌ على ما يرويه الشيخ المفيد المتأخِّر زماناً عنهما.

المعالجة الثامنة: عمل العلماء بمفاد الحديث الشريف

ذهب علماؤنا الأبرار إلى العمل بمفاد الحديث الشريف، وأعرضوا عن إخبار الشيخ المفيد ومَن تلاه، فقال السيّد الحكيم _ مع حفظ الألقاب _في (مستمسك العروة الوثقى):

وأمّا ما في بعض كتب المقاتِل من أنّه (علیه السلام) جعل عمرته عمرةً مفردة، ممّا يظهر منه أنّها كانت عمرة تمتُّعٍ وعدل بها إلى الإفراد، فليس ممّا يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة الّتي رواها

ص: 34

أهل الحديث ((1)).

وقال السيّد السبزواريّ في (مهذّب الأحكام):

... كما يسقط بهما [أي: برواية اليمانيّ ومعاوية بن عمّار] ما في بعض المقاتل من أنّ الحسين (علیه السلام) بدّل حجّة التمتُّع إلى العمرة المفردة؛ لظهورهما في أنّه (علیه السلام) لم يكن قاصداً للحجّ من أوّل الأمر، بل كان قاصداً للعمرة المفردة، فلا يبقى موضوعٌ للتبديل حينئذٍ ((2)).

وفي تقريرات السيّد محمود الشاهروديّ:

وكيف ما كان يُستفاد من هذا الحديث شيءٌ لا بأس بذِكره، وهو أنّه يظهر منه أنّ ما في بعض الأفواه وفي بعض كتب المقاتل من أنّ الحسين (علیه السلام) جعل عمرته عمرةً مفردة، الظاهرمنه أنّه اعتمر أوّلاً بعمرة التمتُّع ثمّ عدل منها إلى الإفراد، فليس بصحيح، لأنّه يُستفاد منه أنّه (علیه السلام) اعتمر من أوّل الأمر بعمرةٍ مفردة ... ((3)).

وذهب بعض الأعلام إلى أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما فعل ذلك

ص: 35


1- مستمسك العروة الوثقى: 11 / 192.
2- مهذّب الأحكام: 12 / 349.
3- كتاب الحجّ، تقرير بحث السيّد محمود الشاهرودي، لجنّاتي الشاهروديّ: 2 / 213.

اضطراراً، بمعنى أنّه قد عقد الإحرام للحجّ ثمّ بدّله إلى عمرة الإفراد، لئلّا يُؤخَذ في مكّة وتُنتهَك به حرمة البيت.

قال الشهيد الأوّل في (الدروس):

والأفضل للمعتمِر في أشهُر الحجّ مفرداً الإقامة بمكّة حتّى يأتي بالحجّ ويجعلها متعة، وقال القاضي: إذا أدرك يوم التروية فعليه الإحرام بالحجّ ويصير متمتّعاً، وفي رواية عمر بن يزيد: إذا أهلّ عليه ذو الحجّة حجّ، وتُحمَل على الندب؛ لأنّ الحسين (علیه السلام) خرج بعد عمرته يوم التروية، وقد يجاب بأنّه مضطرّ ((1)).

فأجابه الأعلام من الفقهاء، فقال الشيخ المجلسيّ بعد أن ذكر الاحتمالين واستظهر الإفراد:

لعلّ المراد أنّ عمرة التمتُّع أيضاً إذا اضطرّ الإنسان يجوز أنيجعلها عمرةً مفردة، كما فعله الحسين (علیه السلام) ، ويُحتمَل أن يكون (علیه السلام) لعلمه بعدم التمكّن من الحجّ نوى الإفراد، ولعلّه من الخبر أظهر ((2)).

وقال المحقّق الداماد:

ومحصّل دلالة هذين هو أنّ فعل الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) كان عُمرةً

ص: 36


1- الدروس: 1 / 336.
2- ملاذ الأخيار: 8 / 461.

مبتولة، وكان له (علیه السلام) أن يذهب بعد الإتيان بها أين شاء بلا لزوم الحجّ أصلاً، ومن دون أن يكون ما نواه (علیه السلام) أزيد من مجرّد الاعتمار، لا أنّه (علیه السلام) قصد التمتّع ثمّ بدّله عمرةً مفردةً مبتولةً اضطراراً، كما هو المشهور بين أرباب المقاتل والمتصدّين لنقل هائلة يوم الطفّ ((1)).

وقال السيّد السبزواريّ:

ودلالتهما على خلاف القاضي ممّا لا ريب فيه، والحمل على الضرورة بلا شاهد، كما يسقط بهما ما في بعض المقاتل من أنّ الحسين (علیه السلام) بدّل حجّة التمتّع إلى العمرة المفردة، لظهورهما في أنّه (علیه السلام) لم يكن قاصداً ((2)).وقال السيّد محمّد صادق الروحانيّ:

وما عن (كشف اللثام) وغيره من احتمال الضرورة في فعل سيّد الشهداء (علیه السلام الله)، يدفعه ظاهر الخبرَين، حيث إنّ الإمام (علیه السلام) احتجّ بفعله على جواز ترك الحجّ اختياراً.

وما في كتب المقاتل من أنّه (علیه السلام) كان عمرته عمرة التمتُّع وعدل

ص: 37


1- كتاب الحجّ، تقرير بحث المحقّق الداماد، للآملي: 1 / 333.
2- مهذّب الأحكام: 12 / 351.

بها إلى الإفراد، لا يُعتمَد عليه في مقابل هذه النصوص ((1)).

المعالجة التاسعة: النتيجة!

تبيّن لنا ممّا مضى أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد دخل إلى مكّة في شهر شعبان بإحرام العمرة المفردة، ولا يمكن أن يكون قد دخلها بإحرام التمتُّع بالعمرة إلى الحجّ، إذ أنّه (علیه السلام) دخلها في غير أشهُر الحجّ الثلاث.

وقبل أن يخرج _ فداه العالمين _ من مكّة أحرم للعمرة المفردة، ويكفي في ذلك أن يُحرم من التنعيم ولا يحتاج الخروجَ إلى أحد المواقيت، سيّما ميقات الجعرانة الّذي أحرم منه النبيّ (صلی الله علیه و آله) لدخول مكّة ووردَت به الأحاديث الشريفة عن أهل البيت (علیهم السلام) .ثمّ إنّه طاف في البيت وسعى وقصّر وأتمّ أعمال العمرة المفردة، وخرج..

ربّما كانت عمرته تلك بمثابة الوداع للبيت الحرام!

وما ورد في عبارة المؤرّخ من الإشارة والتصريح بإحلال إحرام الحجّ لا ينهض بإزاء الحديث الشريف، ولا يتناسب مع علم الإمام _ ضمن مجريات الأحداث المتلاحقة ذلك اليوم _ أنّ العدوّ سوف لن يمهله حتّى يقضي

ص: 38


1- فقه الصادق (علیه السلام) للسيّد محمد صادق الروحاني: 10 / 68.

نُسُكَه، وقد لاحت بوادر إقدام العدوّ على جنايته العظمى في البيت الحرام بوضوحٍ لا يغيب عن الحاضر في الحرم المتابع للأحداث.

المعالجة العاشرة: ما يهمّنا من البحث

تناول الفقهاء _ أعزهم الله _ قضيّة إحرام سيّد الشهداء (علیه السلام) الأخير في بيت الله الحرام، وتابعوه للتوظيف الفقهيّ واستنباط الحكم الشرعيّ، وكان لتعيين نوع الإحرام أثراً بليغاً في تحديد الموقف، إذ يمكن الاستفادة من تبديل الإحرام من التمتُّع إلى الإفراد في حال الاضطرار أو عدمه جواز ذلك، ويمكن الاستفادة من الإحرام للعمرة المفردة جواز ذلك في شهرذي الحجّة لمن أراد أن يعتمر ويخرج ولا ينتظر الحجّ، وغيرها من الأحكام الّتي يعرفها الفقهاء..

وهذا القدر من البحث لا يهمّنا من قريبٍ ولا من بعيد؛ لخروجه عن حيّز اختصاصنا..

أجل، قد يُقال: إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إذا كان قد أحرم للحجّ ثمّ اضطرّ إلى تبديل إحرامه إلى العمرة المفردة ليغادر مكّة على عجل، يفيد مدى استعجال العدوّ في تنفيذ مآربه في اغتيال الإمام (علیه السلام) أو أخذه..

بَيد أنّ هذا الأمر يمكن استفادته من نفس فعل الإمام (علیه السلام) حين أحرم

ص: 39

للعمرة المفردة وخرج من مكّة رغم حضور أيّام الحجّ!

بل يفيد أنّ بوادر فعلهم كانت شاخصةً واضحةً، بحيث منعَت الإمام (علیه السلام) من الإحرام للحجّ.

المهمّ في الأمر أنّهم لم يمهلوا الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) حتّى يحضر موسم الحجّ وقد حضر.

وقد انجلى عن مكّةٍ وهو ابنُها

وبه تشرّفَتِ الحطيمُ وزمزمُ

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!

ص: 40

خطبة الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة

المتون

أبو طالب الزيديّ:

وبه قال [السيّد يحيى أبو طالب الزيديّ]، قال: أخبرَنا أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم الحسنيّ، قال: حدّثَنا محمّد بن عبد الله بن أيّوب البَجَليّ، قال: حدّثَنا ابن عبد العزيز العكبريّ، قال: حدّثَنا الحسن بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن تميم بن ربيعة الرياحيّ، عن زيد بن عليّ، عن أبيه (علیه السلام) :

«إنّ الحسين (علیه السلام) خطب أصحابَه، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أيُّها الناس! خُطَّ الموتُ على بني آدم كخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولَعَني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وأخيه، وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه، كأنّي أنظُرُ إلى أوصالي تُقطِّعُها وحوشُ الفلوات، غبراً وعفراً، قد ملأَتْ منّي أكراشَها، رضى الله

ص: 41

رضانا أهلَ البيت، نصبر على بلائه ليوفّينا أجورَ الصابرين، ولن تشُذَّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حُرمتُه وعترتُه ولن تفارقه أعضاؤه، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وتنجز لهم عدته، ألا مَن كان فينا باذلاً مُهجَتَه فلْيرحَلْ، فإنّي راحلٌ غداً إن شاء الله.

ثمّ نهض إلى عدوّه، فاستُشهِد (صلوات الله عليه)» ((1)).

منصور الآبي:

لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال:

«الحمدُ للّه، وما شاء اللّه، ولا قوّة إلّا باللّه، وصلّى اللّه على رسوله وسلّم. خُطَّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهي إلى أسلافي! اشتياقي كاشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تتقطّعُها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجورَ الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وسلّم) لَحمتُه، هيمجموعةٌ له في

ص: 42


1- الأمالي لأبي طالب الزيدي (ت 424 ه-): 199، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 5.

حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وينجز لهم وعده، مَن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقائنا نفْسَه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه» ((1)).

الحلوانيّ:

ولمّا عزم (علیه السلام) على المسير إلى العراق، قام خطيباً فقال:

«الحمدُ لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله وسلّم. خُطَّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياقَ يعقوب إلى يوسف، وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطِّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهلَ البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجورَ الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لَحمَتُه، هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّبهم عينه وينجز لهم وعده، فمن كان باذلاً فينا مهجتَه وموطناً على لقاء الله نفسه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحلٌ مصبحاًإن شاء الله» ((2)).

ص: 43


1- نثر الدرر في المحاضرات لمنصور بن الحسين الآبي (ت 421 ه-): 1 / 228.
2- نزهة الناظر للحلواني (ت 481 ه-): 41.

إبن نما:

... ثمّ قال له: «اتّقِ اللهَ يا أبا عبد الرحمان، ولا تدَعَنّ نصرتي».

ثمّ قام خطيباً فقال:

«الحمدُ لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله. خُطَّ الموتُ على وُلد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي وأوصالي يتقّطعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأخويةً سغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهلَ البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ على رسول الله لَحمَتُه، هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وينجز بهم وعده، مَن كان باذلاً فينا مهجتَه وموطّناً على لقاء الله نفْسَه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله» ((1)).

إبن طاووس:ورُوي أنّه (علیه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال:

«الحمدُ لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله.

ص: 44


1- مثير الأحزان لابن نما: 20.

خُطَّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تتقطّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهلَ البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لَحمَتُه، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وينجز بهم وعده، مَن كان باذلاً فينا مُهجتَه وموطّناً على لقاء الله نفْسَه، فلْيرحَلْ معنا، فإنّني راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

الزرنديّ:

ويُروى أنّ الحسين خطب حين أزمع على الخروج، فقال:«الحمدُ لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله (صلی الله علیه و آله) . خُطَّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد

ص: 45


1- اللهوف لابن طاووس: 60، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245، نفَس المهموم للقُمّيّ: 163، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 250، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 29.

الفتاة، شوقي _ وما أولعني إلى أسلافي _ شوقَ يعقوب إلى يوسف وأخيه، ولي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي أنظر إلى أوصالي غبراً عفراً، تقطّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أحوافاً جوفاً وأكراشاً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفّينا أُجور الصابرين، لن يشذّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لحمة، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وينجز لهم وعده، مَن كان باذلاً فينا مهجتَه وموطّناً على لقائنا نفْسَه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله» ((1)).

الطُّريحيّ:

رُوي عن بعض الثقات:

إنّ عبد الله بن عمر لمّا بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) متوجّهٌ إلى العراق، جاء إليه، وأشار عليه بالطاعة والانقياد لابن زياد!!! وحذّره منمشاقّة أهل العناد.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يا عبدَ الله، إنّ من هوان هذه الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا (علیه السلام) أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني

ص: 46


1- معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول للزرنديّ: 94.

إسرائيل، فامتلأ به سروراً، ولم يعجّل اللهُ عليهم بالانتقام، وعاشوا في الدنيا مغتبطين. ألم تعلم _ يا عبدَ الله _ أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يفعلوا شيئاً، ولم يعجّل الله عليهم بانتقام، بل أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر؟».

ثمّ قال: «يا عبدَ الله، اتّقِ الله ولا تدَعَنّ نصرتي، ولا تركننّ إلى الدنيا، لأنّها دارٌ لا يدوم فيها نعيم، ولا يبقى أحدٌ من شرّها سليماً، متواترةٌ محنها، متكاثرةٌ فتنها، أعظم الناس فيها بلاءً الأنبياء، ثمّ الأئمّة الأُمناء، ثمّ المؤمنون، ثمّ الأمثَلُ بالأمثل».

قال (علیه السلام) : «يا عبد الله، قد خُطَّ الموتُ على وُلد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى لقاء أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّيأكراشاً جوفاً وأجوفةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهلَ البيت، نصبر على بلائه ليوافينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لَحمَتُه، هي مجموعةٌ لنا في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وينجز لهم وعده، فمن كان باذلاً فينا مهجتَه وموطّناً على

ص: 47

لقاء الله نفْسَه، فلْيرحَلْ معي، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

* * * * *

يمكن متابعة هذه الخطبة من خلال الإفادات التالية:

الإفادة الأُولى: مصدرها

يبدو أنّ المصدر الأوّل لهذه الخطبة _ حسب الفحص _ هو القرن الخامس الهجريّ، إذ لم نجد لها أثراً في المصادر المتقدّمة على القرن الخامس.

وقد وردَت أوّل ما وردَت في كتاب (الأمالي) للسيّد أبي طالبالزيديّ، والآبي والحلوانيّ، والثلاثة جميعاً من أبناء القرن الخامس، والفرق في وفاة الأوّل والثاني قليلٌ جدّاً، فالأوّل تُوفّي سنة 424 ه-، والثاني تُوفّي سنة 421 ه-، فهما متعاصران، والثالث تُوفّي سنة 481 ه-، فهو قريبٌ منهما، بل يُعدّ في المعاصرين لهما.

والحلوانيّ من تلاميذ الشيخ المفيد، وقد نقل الشيخ المفيد في

ص: 48


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 389.

(الإرشاد) تفاصيل حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ولم يُشِر إلى هذه الخطبة!

فليس للخطبة عينٌ ولا أثرٌ _ حسب الفحص _ فيما سبق القرن الخامس، لا في مصادر الشيعة ولا مصادر السنّة ولا مصادر الزيديّة، ولا في غيرها من المصادر المتوفّرة لدينا على كثرتها.. بَيد أنّها اشتهرت كثيراً عند المعاصرين، ولا يبعد اشتهارها بسبب رواية السيّد ابن طاووس والعلّامة المجلسيّ لها.

وقد تفرّد السيّد أبو طالب الزيديّ بذِكر سندٍ متّصلٍ لها، ينتهي إلى حليف القرآن الشهيد زيد بن عليّ عن أبيه الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين (علیهما السلام) .. وبذا تكون الخطبة حديثاً شريفاً ينتهي إلى المعصوم المعاصر الحاضر مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإفادة الثانية: متى خطب الإمام (علیه السلام)

اشارة

وردَت في المصادر الّتي روت الخطبة عدّة مناسباتٍ للخطبة:

المناسبة الأُولى: في كربلاء!

ورد في لفظ أبي طالب المسنَد عن الإمام السجّاد (علیه السلام) أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) خطب أصحابه، ثمّ بعد أن روى الخطبة قال: «ثمّ نهض إلى

ص: 49

عدوّه، فاستُشهِد (صلوات الله عليه)» ((1)).

وظاهر السياق يشهد أن تكون الخطبة في كربلاء، إذ أنّه خطب في أصحابه ثمّ نهض إلى عدوّه فاستُشهد (علیه السلام) .. وسيأتي بعد قليلٍ مزيدُ بيانٍ في ذلك إن شاء الله (تعالى).

المناسبة الثانية: لمّا عزم على الخروج إلى العراق

ورد في غير لفظ الزيديّ أنّ الإمام (علیه السلام) قد خطب لمّا عزم على الخروج إلى العراق ((2))، أو المسير إلى العراق ((3))، أو حين أزمع على الخروج ((4))..

وهي جميعاً تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) خطب قُبيل خروجه إلى العراق،واللازم من مجريات الأحداث أن تكون الخطبة في مكّة.

ص: 50


1- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 199، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 5.
2- نثر الدرر في المحاضرات لمنصور بن الحسين الآبي: 1 / 228، اللهوف لابن طاووس: 60، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245، نفَس المهموم للقمّيّ: 163، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 250، كشف الغمّة للأربلي: 2 / 29.
3- نزهة الناظر للحلوانيّ: 41.
4- معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول للزرنديّ: 94.

بل صرّح الشيخ السماويّ أنّها كانت في الليلة الثامنة من ذي الحجّة وقد جمع أصحابه فخطبهم ((1)).. وربّما استفاد الشيخُ ذلك من قوله: «فإنّي راحِلٌ مصبحاً إن شاء الله»، كما سيأتي في شرح الخطبة.

المناسبة الثالثة: بعد حديثه (علیه السلام) مع ابن عمر

ذكر الشيخ ابن نما كلام الإمام (علیه السلام) مع ابن عمر، ثمّ عقّب عليه فوراً وعطف الكلام، فقال:

ثمّ قال له: «اتّقِ اللهَ يا أبا عبد الرحمان، ولا تدَعَنّ نصرتي».

ثمّ قام خطيباً فقال: ... ((2)).

فهو يفيد أيضاً أنّ الخطبة كانت في مكّة، وفق السياق الّذي روى فيه ابن نما محاورات الإمام (علیه السلام) وابن عمر.

المناسبة الرابعة: كلامٌ موجَّهٌ لابن عمر خاصّة

روى الشيخ الطُّريحيّ عن بعض الثقات حوار الإمام الحسين (علیه السلام) معابن عمر في كلامٍ طويل، إلى أن قال:

ص: 51


1- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 27.
2- مثير الأحزان لابن نما: 20.

قال (علیه السلام) : «يا عبدَ الله، قد خُطّ الموت على وُلد آدم ...» ((1)) _ إلى آخر الخطبة..

وهو يفيد أنّ الكلام لم يكن خطبة، وإنّما هو كلامٌ موجَّهٌ لابن عمر بالذات!

النتيجة:

يبدو أنّ لفظ الزيديّ هو الأوّل أو الأهمّ؛ لأنّه مسنَدٌ بإسنادٍ ينتهي إلى المعصوم، ومَن روى لفظاً غير مسندٍ لم يكن سابقاً عليه زماناً.

فالمفروض أن يكون هو المعتمَد، وعليه تكون الخطبة في كربلاء!

أمّا مَن روى أنّها كانت لمّا عزم على الخروج إلى العراق، فربّما كان تصرُّفاً من الناقل، أو تُحمَل العبارة حملاً يجعلها منسجمةً مع الخطبة في كربلاء، إذ أنّ كربلاء في الطريق ولا زال الإمام (علیه السلام) بعدُ لم يصل إلى المقصد الأخير، ألا وهو الكوفة.

ومع بُعد هذا الحمل، فلابدّ من البحث عمّا ينسجم مع رواية الزيديّ،سيّما أنّ جميع الألفاظ الأقدم لم تصرّح بحصول الخطبة في مكّة، واكتفوا بالقول: لمّا عزم على الخروج إلى العراق..

ص: 52


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 389.

أجل، ربّما يمكن الجمع بصورةٍ أُخرى بحمل لفظ الزيديّ على الخروج من مكّة، فيقال: إنّ الإمام خطب في أصحابه في مكّة، «ثمّ نهض إلى عدوّه فاستُشهد»، فيكون نهوض الإمام (علیه السلام) من مكّة، إذ أنّ العبارة تلوّح بالاختصار تلويحاً واضحاً.

وبناءً على هذا الحمل تتّحد الألفاظ وتجتمع على أنّ الخطبة في مكّة.

أمّا ما ذكره ابن نما فهو ترتيبٌ منه لسرد الأحداث، فربّما استفاد من عبارة الآبي أو الحلوانيّ أنّها في مكّة، فجاء بها بعد لقاء الإمام (علیه السلام) بابن عمر.

ولا نستبعد أنّ الطريحيّ قد أخذ من ابن نما، فصاغ الخبر في طريقته السرديّة، فدمج الموقف وجعله خطاباً لابن عمر.

كيف كان، فإنّ المهمّ هو أحد القولَين الواردَين في المصادر الأقدم للخطبة، فهي إمّا أن تكون في كربلاء أو عند الخروج من مكّة، وسيأتي مزيد بيانٍ لذلك بعد قليل.

الإفادة الثالثة: المخاطَب!

حدّد الزيديّ في حديث السجّاد (علیه السلام) المخاطَب، وهم أصحاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ص: 53

وحدّد الطُّريحيّ المخاطَب، وهو عبد الله بن عمر.

يبدو لنا أنّ الاعتماد على ما يرويه الزيديّ عن الإمام السجّاد (علیه السلام) أوفق وأقوى وأصحّ.. وسياق الخطبة يشهد أنّ الإمام (علیه السلام) كان يخاطب جماعةً بعينها، كانت مؤهَّلةً للتخيير والدعوة للرحيل معه إنْ كانت على استعدادٍ لبذل المهجة فيه.

أمّا غير هذين ممّن روى الخطبة، فإنّه لم يحدّد مخاطَباً بعينه، واكتفى بقوله: قام خطيباً..

فالخطبة _ على كلّ حال _ ليست خطبةً عامّةً على رؤوس الأشهاد خاطب بها الإمامُ (علیه السلام) جميعَ الناس، إنْ في مكّة أو في كربلاء، وإنّما هي خطبةٌ خاصّةٌ وجّه فيها الإمام الحسين (علیه السلام) كلامه إلى ثُلّةٍ خاصّةٍ، هم أصحابُه على وجه الخصوص.

سيّما أنّ مَن ذكرها عند الخروج لم يُشِرْ إلى المكان الّذي خطب فيه الإمام، فلا ندري _ وفق ما يقولون _ هل خطبها في البيت الحرام؟ إنْ كانفي البيت الحرام لَكان صداها أوسع بكثيرٍ من كتاب الزيديّ!

أو خطبها وهو يخرج من مكّة قبل أن تسري ركائبه؟

أو خطبها في محفلٍ محدودٍ خاطب فيه الحاضرين في ذلك المجلس بالخصوص؟

ص: 54

وعلى كلّ تقدير، فإنّ ما يُستفاد من مجمل ألفاظ الرواية: إنّ الخطبة لم تكن عامّةً في محضرٍ عامٍّ خاطب فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) جمهوراً واسعاً..

وعلى لفظ الإمام السجاد (علیه السلام) ، فإنّه خاطب أصحابه خاصّة.. وهو ما ذهب إليه العلّامة المحقّق الشيخ السماويّ معتمِداً _ كما يبدو _ رواية الزيديّ في (الأمالي) ((1)).

فلا يُعتمَد قول مَن قال:

إنّ الشيخ السماويّ (قدس سره) لم يذكر المصدر الّذي أخذ عنه قوله: «فجمع أصحابه..»، كما أنّنا لم نعثر على مصدرٍ من المصادر التاريخيّة المعروفة المعتبرة _ والتي يحتمل أنّ الشيخ السماويّ (قدس سره) قد أخذ عنها _ كان قد ذكر هذه العبارة: «فجمع أصحابه..».بل إنّ المصادر الّتي ذكرت هذه الخطبة بالذات لم تذكر تلكم العبارة، ففي (اللهوف): «ورُوي أنّه (علیه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: ...»، وفي (مُثير الأحزان): «ثمّ قام خطيباً..»، وفي (كشف الغُمّة): «ومن كلامه (علیه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: ...».

ص: 55


1- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 27.

هذه هي المصادر الأساسيّة الّتي نعلم أنّها ذكرَت هذه الخطبة ((1)).

وقد ذكرنا قبل قليلٍ أنّ المصدر الأقدم من الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس والأربليّ هو (الأمالي) للزيديّ، وقد رواه حديثاً مسنَداً إلى حليف القرآن الشهيد زيد بن عليٍّ عن أبيه الإمام السجّاد (علیهما السلام) ، وفيه: «فجمع أصحابه..».

ولا يُعتمَد _ أيضاً _ قول مَن قال:

يذهب بعض المحقّقين المتتبّعين إلى عكس ما أورده الشيخ السماويّ (قدس سره) ، حيث يقول:

«ولمّا عزم الإمام (علیه السلام) على مغادرة الحجاز والتوجُّه إلى العراق،أمر بجمعٍ الناس ليلقي عليهم خطابه التاريخيّ، وقد اجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ في المسجد الحرام من الحُجّاج وأهالي مكّة، فقام فيهم خطيباً، فاستهلّ خطابه بقوله: ... ((2))»، ثمّ أورد تلكم الخطبة نفسها ((3)).

لقد اعتمد الشيخ السماويّ (قدس سره) _ كما هو واضحٌ من عبارته _ لفظَ الحديث المرويّ عن الإمام السجّاد (علیه السلام) ونقله بالنصّ، فيما اعتمد غيره

ص: 56


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 99.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ (علیه السلام) : 3 / 47.
3- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 100.

على استنتاجاتٍ وتحليلاتٍ لا يُركَن إليها، لعدم وجود أيّة إشارةٍ إليها في أيّ نصٍّ من النصوص التاريخيّة الّتي روت الخطبة ووصلت إلينا.

فمِن أين عرفنا أنّ الإمام (علیه السلام) هو الّذي أمر بجمع الناس ليلقي عليهم خطابه التاريخيّ؟!

ومن أين عرفنا أنّه (علیه السلام) خطبها في المسجد الحرام؟!

ومن أين عرفنا أنّ خلقاً كثيراً من الحُجّاج وأهل مكّة اجتمعوا إليه (علیه السلام) ؟!

ومن أين عرفنا أنّه (علیه السلام) قام فيهم خطيباً؟!

هذه جميعاً معلوماتٌ وأحداثٌ تاريخيّة تحتاج إلى توثيق، والحال أنّالمصادر الّتي روت الخطبة تخلو منها، ومتن حديث الزيديّ عن الإمام السجاد (علیه السلام) يخالفها تماماً!

الإفادة الرابعة: إطلالةٌ على مضامين الخطبة

اشارة

يمكن متابعة الخطبة الشريفة من خلال المقاطع التالية:

المقطع الأوّل: الحمد والثناء
اشارة

تطالعنا في المقطع الأوّل عدّة فقرات:

ص: 57

الفقرة الأُولى: الحمد لله والصلاة على نبيّه

بدأ الخطبةَ بالحمد لله والثناء عليه، هكذا اختصرها الحديث المرويّ في (أمالي الزيديّ)، وذكرت باقي النصوص بعد الحمد قوله (علیه السلام) : «الحمدُ للّه، وما شاء اللّه، ولا قوّة إلّا باللّه، وصلّى اللّه على رسوله وسلّم».

واقتطع بعضها كلمة «وسلّم»، وفي بعضها لم يذكر الصلاة على رسوله (صلی الله علیه و آله) ..

ومَن عرف أدب أهل البيت في الصلاة والسلام على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، يعلم جيّداً أنّهم لا يصلّون على جدّهم الصلاة البتراء، كيف وهم قد نهواعن ذلك وأكّدوا عليه؟

والحمد لله.. لفظٌ جمَعَ محامِدَ الله كلّها!

فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) ، أنّه قال: «فقَدَ أبي بغلةً له، فقال: إنْ ردّها اللهُ علَيّ لَأحمدنّه بمحامد يرضاها. فما لبث أنْ أُتيَ بها بسرجها ولجامها، فلمّا استوى عليها وضمّ إليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمدُ لله، ولم يزِدْ، ثمّ قال: ما تركتُ ولا أبقيتُ شيئاً، جعلتُ جميعَ أنواع المحامد لله (عزوجل) ، فما مِن حمدٍ إلّا وهو داخلٌ فيما قلتُ» ((1)).

ص: 58


1- تفسير البرهان للبحرانيّ: 1 / 106 ح 269.
الفقرة الثانية: «ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله»

ما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله.. قطعةٌ من آيةٍ قرآنيّةٍ وردَتْ في سورة الكهف ضمن سياق قصّة حوارٍ بين غنيٍّ كافرٍ وفقيرٍ مؤمن..

يحسن هنا تلاوة الآيات المباركة للدخول في أجواء الآية، إذ أنّ اللوحة الرائعة الّتي تقدّمها الآيات قريبةٌ جدّاً من أجواء خطبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

قال (عزوجل) :﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً﴾ ((1)).

ما شاء الله: (ما) موصولة، مرفوعة المحلّ على خبر الابتداء، والتقدير:

ص: 59


1- سورة الكهف: 39 _ 44.

الأمرُ ما شاء الله، أو شرطيّةٌ منصوبة المحلّ، والجزاء محذوف، والتقدير: أيّ شيءٍ شاء الله كان ((1)).

قال الشيخ الطوسيّ:

وقوله: ﴿قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، تحتمل (ما) أن تكون رفعاً، وتقديره: قلتَ: الأمرُ ما شاء الله، ويجوز أن تكون نصباً على معنى الشرط والجزاء، والجواب مضمَر، وتقديره: أيّ شيءٍ شاء الله كان، وتضمر الجواب، كما تضمر جواب (لو) في قوله:﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ ((2))، والمعنى: كان هذا القرآن.

ومعنى ﴿لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ﴾: لا يقدرُ أحَدٌ إلّا بالله، لأنّ الله هو الّذي يفعل القدرة للفعل ((3)).

وفي (تفسير القُمّيّ):

وقوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ

ص: 60


1- أُنظر: تفسير جوامع الجامع للطبرسيّ: 2 / 417، مجمع البيان للطبرسيّ: 6 / 347.
2- سورة الرعد: 31.
3- التبيان للطوسيّ: 7 / 46.

أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً﴾ ((1))، قال:

«نزلَت في رجُلٍ كان له بستانان كبيران عظيمان كثيرا الثمار، كما حكى الله (عزوجل) ، وفيهما نخلٌ وزرع، وكان له جارٌ فقير، فافتخر الغنيُّ على ذلك الفقير وقال له: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ﴾، أي: بستانه، وقال: ﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً﴾.

فقال له الفقير: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْنُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً﴾. ثمّ قال الفقيرُ للغنيّ: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً﴾. ثمّ قال الفقير: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾، أي: محترقاً، ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً﴾.

فوقع فيها ما قال الفقير في تلك الليلة، وأصبح الغنيُّ ﴿يُقَلِّبُ

ص: 61


1- سورة الكهف: 32.

كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً﴾، فهذه عقوبة البغي» ... ((1)).

المقطع الثاني: «أيّها الناس!»

ورد في (أمالي الزيديّ) _ وهو حديثٌ عن الإمام السجّاد (علیه السلام) _ بداية الخطاب: «أيّها الناس»، وهو خطابٌ لجماعةٍ محصورةٍ قرّرها الحديث قبلنقل الخطبة، إذ قال أنّها خطبةٌ في أصحابه.. وأصحابه هم الناس كلّ الناس.. واستعمال هذا التركيب في خطاب جماعةٍ بعينها كثيرٌ جدّاً، سيّما في مواضع التحشيد!

أمّا باقي النصوص، فإنّها لم تذكر هذه الكلمة.

المقطع الثالث: «خُطَّ الموت ...»
اشارة

يمكن دراسة هذا المقطع من الخطبة من خلال اللفتات التالية:

ص: 62


1- تفسير القمّيّ: 2 / 35.
اللفتة الأُولى: معاني المفردات

الخطّ:

الخَطُّ: الكتابة، ونحوها مما يُخَطُّ.

خَطَّ القلَمُ، أي: كتَبَ، وخَطَّ الشيءَ يَخُطُّه خَطّاً: كتبه بقلمٍ أَو غيره.

الخَطُّ: كلُّ مكانٍ يخطّه الإنسان لنفْسِه ويَحْفِره.

خَطَّ على الشيءِ: رسَمَ علامَةً.

خَطَّ الشيءَ: حَفَره وشقَّه.

خَطَّه الشَّيبُ: ترك آثاراً بيضاءَ في شَعْره.

القِلادة:

القِلادَة: ما جُعِل في العُنُق، يكون للإنسانِ والفَرَسِ والكَلْبِ والبَدَنَةِ الّتي تُهْدَى ونحوِها.

في الحديث: قَلِّدُوا الخيلَ، ولا تُقَلِّدُوها الأَوتارَ ... أي: قَلِّدُوها طلبَ أَعداءِ الدِّين والدفاعَ عن المُسلمين، ولا تُقَلِّدُوها طلب أَوتارِ الجاهِليّة وذُحُولها الّتي كانَتْ بينَكُم ... يريد: اجْعَلوا ذلك لازماً لها في أَعناقِها لُزومَ القَلائِدِ لِلأَعْناق ((1)).

ص: 63


1- لسان العرب: قَلَدَ، وغيره.

والتَّقْلِيد _ في اصطلاح أهل العلم _ : قبولُ قَوْلِ الغَير مِن غيرِ دليل، سُمّيَ بذلك لأنّ المُقَلِّدَ يَجعَلُ ما يعتقدُه مِن قولِ الغير مِن حقٍّ وباطلٍ قلادةً في عُنُق مَن قَلَّدَه ((1)).

والْقِلَادَةُ: المَفْتُولَةُ الّتي تُجعَلُ في العُنُق مِن خَيطٍ وفضّةٍ وغيرِهما، وبها شُبِّهَ كلُّ ما يُتَطَوَّقُ وكلُّ ما يُحيطُ بشَيء، يُقال: تَقَلَّدَ سَيفَه، تشبيهاً بالقِلادَة، كقوله: تَوشَّحَ به، تشبيهاً بالوشاح ... وقَلَّدْتُهُ عَمَلاً: ألزَمْتُه ... ((2)).

وتَقَلَّدْتُ السيفَ والأمْرَ ونحوَه: ألزَمْتُه نَفْسي، وقَلَّدَنِيهِ فلانٌ، أي: ألزَمَنِيه وجَعَلَه في عُنُقي ((3)).وقَلَّدْتُهُ قِلَادَةً: جَعَلْتُها في عُنُقه.

وفي حَدِيثِ الْخِلافَةِ: فَقَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) عَلِيّاً (علیه السلام) .. أي: ألزَمَه بها، أي: جَعَلَها في رقَبَتِه ووَلّاه أمْرَها.

الجِيد:

الجِيد: العُنُق..

ص: 64


1- مجمع البحرين للطُّريحيّ: قَلَدَ.
2- مفردات ألفاظ القرآن: قَلَدَ.
3- كتاب العَين للفراهيديّ: قَلَدَ.

قالوا: والتعبير بالجِيد دون العُنُق والرقَبة، فإنّ الجِيدَ إطلاقُهُ في القُدّام مِن العُنُق، وهو ما فوقَ الصَّدْرِ والجيْب، والعُنُق ما يقابِلُه، وهو جِهةُ الخَلْف أو أَعمّ، والرقَبَةُ هي العُنُق باعتبار الشخصيّة ((1)).

الفَتاة:

الفَتاة: مُؤَنَّثُ فَتى، الشابّة.

اللفتة الثانية: كيف نُقرأ: «خطّ»؟

يمكن أن نقرأ (خطّ) على صيغة المبنيّ للمجهول: (خُطَّ)، فيكون الموت مفعولاً حَلّ هنا نائباً عن فاعله، ويكون فاعل قد خُطّ هذا الموت على وُلد آدم.. والمعنى: أنّ الله كتبَ الموتَ على وُلد آدم وخطّه عليهم،فهو قدَرُهم الّذي لا يمكنهم الفرار منه.

ويمكن أن نقرأ (خَطَّ) بفتحتَين، فيكون اللفظ فعلاً، والموت فاعل.. أي: إنّ الموت خَطَّ خطّاً على وُلدِ آدم، وترك عليه رسماً وأثراً ملازِماً له لا يفلت منه.

ويمكن أن نقرأ (خَطُّ) اسماً بفتح الأوّل وضمّ الطاء رفعاً على الابتداء، وهو مضافٌ والموت مضاف إليه، فيكون الكلام عن الخطِّ المنسوب إلى

ص: 65


1- التحقيق في كلمات القرآن: 2 / 150.

الموت مقابل الخطّ المنسوب إلى القلادة.

اللفتة الثالثة: التشبيه بين خطَّين!

يبدو واضحاً من السياق أنّ التشبيه ليس بين (الموت) و(القلادة على جِيد الفتاة)، وإنّما هو بين (خطّ الموت) _ بأيّ قراءةٍ قرأنا (خطّ) _ وبين (خطّ القلادة) أو (مخطّ القلادة).

فلا الموت المعروف بما هو موتٌ له مدخليّةٌ في التشبيه، ولا القلادة بما هي قلادةٌ لها موضوعيّةٌ في التشبيه، ولا يهمّ أن تكون القلادة من الجوهر الثمين أو من خيط صوفٍ بخسٍ رخيصٍ زهيد.

وبعد هذا، لا يمكن استفادة نوع الموت من خلال التشبيه، باعتبار أنّ القلادة حين تكون من الجوهر الثمين تكون زينةً، ويكون للجوهر مزيدبهاءٍ وجمالٍ حينما يكون على جِيد فتاة، ويكون له قيمةً إضافيّةً حين يكون على جِيد الفتاة هي أرقى من قيمته وهو في الصدف أو المعدن أو قاع البحر مثلاً.

إنّ التشبيه لخطّ مخطّ القلادة، وهو رسمها وأثرها الباقي ومكانها الّذي تحدّه حين تكون على جيد الفتاة.. وليس بالضرورة أن تكون القلادة موجودة، لأنّ المقصود ليس هي القلادة وإنّما مخطّها!

قال العلّامة المحقّق السماويّ _ رحمه الله، وحشره مع سيّد

ص: 66

الشهداء (علیه السلام) _ :

(مخطّ القلادة): يعني موضع خطّ القلادة، وهي في الحقيقة الجلد المستدير من الجِيد، فكما أنّ ذلك الجلد لازمٌ على الرقبة، كذلك الموتُ على وُلد آدم.

هذا إذا قلنا أنّ مخطّ اسمُ مكان، وإنْ قلنا أنّه اسم مصدرٍ بمعنى خطّ، فيعني به أنّ الموت دائرةٌ لا يخرج ابن آدم مِن وسطها، كما إنّ القلادة دائرةٌ لا يخرج الجِيد منها في حال تقلّده ((1)).

اللفتة الرابعة: جِيد الفتاة!

القلادة يمكن أن تكون للإنسان وللحيوان، كما سمعنا في (شرح المفردات)، والّذي يتقلّد من الإنسان إنّما هو المرأة عادة، سيّما الفتاة من النساء، لذا جاءت هنا في التشبيه لمكان أنّ الّتي تتقلّد القلادة إنّما هي الفتاة في الغالب.

وإذا كان لابدّ أن يكون لذِكر الفتاة وجيدها مناسبة، فإنّ الفتاة تمثّل الحياة وعنفوانها والدنيا وزهوها، والشهوة الّتي زُيّنت في عيون الناس.. ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء ...﴾ ((2)).

ص: 67


1- إبصار العَين للسماويّ: 42.
2- سورة آل عمران: 14.

والفتاة هي مطمح الرجال، وهي بنفسها طامحةٌ في الحياة الدنيا وشهواتها ولذائذها، فهي مثالٌ للدنيا والشهوات والآمال والطموحات والنشاط والعنفوان، وغيرِها من متعلّقات الدنيا..

والجيد هو العنق، أو أسفل العنق ممّا يلي الصدر.. وهو الموضع الّذي يُشار إليه عادةً لإنهاء حياة وُلد آدم بأيّ نوعٍ من أنواع الموت، فإذا أرادوا الإشارة إلى الذبح لإنهاء الحياة أشاروا إلى الجيد والعنق، وإذا أرادوا الإشارة إلى الخنق أشاروا إلى نفس الموضع، وإذا أرادوا القتل أشاروا إلىالموضع ذاته، فكأنّ الإشارة إلى العنق والرقبة هي الموضع الأوّل والأهمّ، بل ربّما هو الموضع الوحيد الّذي يُشار من خلاله إلى الموت والقضاء على الحياة.

اللفتة الخامسة: خلاصة التشبيه

لمّا كانت القلادة ملازمةً لجيد الفتاة، ويمكن لأيّ أحدٍ تصوّرها وتصوّر موضعها من جِيد الفتاة وعنقها..

ولمّا كانت الفتاة نموذج الحياة الدنيا وزينتها وزهرتها وشهواتها ولذّاتها وعنفوانها..

وخطّ القلادة ومخطّها على جيدها يعني الإحاطة الكاملة بالعنق الّذي هو الموضع الّذي يُشار إلى الموت من خلاله، ويكفي لقتل الإنسان مجرّد تضييق الخناق وشدّ الخطّ والمخطّ ليموت بني آدم..

ص: 68

فإنّ الموت قد كُتب على الإنسان ورُسِم تماماً كهذا الخطّ المحيط بالعنق، يحيط به إحاطةً تامّةً كاملةً لا يمكنه الإفلات منه أبداً..

ربّما تتخلّص الفتاة من القلادة، ولكن لا يمكنها أن تتخلّص من مخطّ القلادة وخطّها، أي: موضعها الّذي ترسو عليه وتحيط برقبتها!

فكأنّ الصورة تريد أن توضّح لبني آدم أنّ الموت محيطٌ بكم، لايمكنكم الإفلات منه أبداً، وهو سرعان ما يأتي ولا يطول انتظاره، لأنّ الفتاة سرعان ما تفقد شبابها، ولا يمكن أن تلازمه مهما جهدت، ولو اجتمعَت المخلوقاتُ كلُّها على إغاثتها لَما أغاثتها، رغم ما تتشبّث به الفتاة وتحتال فيه ليدوم لها شبابها.. فمهما تشبّث الإنسان بالحياة، فإنّ الموت محيطٌ بعنقه، وسيأتي عليه يومٌ ما.. والحمدُ لله الّذي قهر عبادَه بالموت والفناء.

ولا يمكن للفتاة أن تدرأ عن نفسها خطّ القلادة ومخطّها، كذلك الإنسان لا يمكنه أن يدرأ عن نفسه خطّ الموت المحيط بعنقه.. ﴿فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((1)).. وسيأتيه الموتُ من كلّ مكان!

ولا يمكن للفتاة الفرار من خطّ القلادة ولا مخطّها، حتّى لو تخلّت عن

ص: 69


1- سورة آل عمران: 168.

القلادة نفسِها، فجيدُها هو الموضع الّذي لا يتسنّى لها التخلّي عنه إلّا بإزهاق روحها، فكيف لها أن تفرّ من جِيدها؟! ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ ((1)).

وإذا كان لابدّ من إفادة معنى الزينة من هذا التشبيه، فإنّ غاية ما يمكن الإفادة منه أن يُقال:إنّ الموت بما هو موتٌ، بغضّ النظر عن سببه ونوعه وطريقة حصوله ومكان وقوعه.. هذا الموت الّذي خلقه الله وكتبه على الإنسان، هو زينةٌ له، كما أنّ القلادة زينةٌ لجِيد الفتاة.. إذ أنّ الكلام كان عن كتابة الموت على وُلد آدم جميعاً دون استثناء.. «خُطّ الموتُ على وُلد _ بني _ آدم»! ولكلّ واحدٍ من وُلد آدم حظٌّ من هذا الموت، يذوقه كيف ما كتب الله عليه مذاقه.. قتلاً، أو موتاً حتف أنفه، أو أيّ سببٍ آخَر من الأسباب الّتي لا تُعَدّ ولا تُحصى، وتتكثّر بتكثُّر نفوس البشر.

المقطع الرابع: «ما أولَهَني»!

• «وما أولَعَني بالشوق إلى أسلافي، اشتياقَ يعقوب إلى يوسف وأخيه»..

ص: 70


1- سورة الأحزاب: 16.

• «وما أولهني إلى أسلافي، اشتياقي كاشتياق يعقوب إلى يوسف»..

• «وما أولهني إلى أسلافي، اشتياقَ يعقوب إلى يوسف»..

* * * * *

الوَلُوعُ _ بالفتح _ : اسمٌ مِن وَلِعْتُ به أَوْلَعُ وَلَعاً ووَلُوعاً، المصدروالاسم جميعاً بالفتح، وأَوْلَعْتُهُ بالشيءِ وأُولَعَ به فهو مُولَعٌ به _ بفتح اللام _، أي: مُغرَىً به.

والوَلَع: نفس الولُوع، أي: العلاقة.

الوَلَه: غايةُ الحُزن والوَجْد، وشدَّةُ الجزَعِ على فُقْدان الحبيب، وكلُّ أنثىً فقَدَتْ وَلدَها فهي والهة ...

ورد في لفظ الزيديّ وغيره: «أولَعَني»، وفي الباقي: «أولَهَني»، واحتمال التصحيف واردٌ في أحدهما لمكان العين والهاء فقط، ورسم الخطّ في الكلمة واحد، والمعنى في كلا المفردتين متقاربٌ جدّاً حتّى يكاد يكون واحداً، وإنْ كان «أولهني» أنسب وأكثر انسجاماً مع السياق.

وقد ورد في كتب اللغة في شرح معنى الوَلَه قولهم: «ذهاب العقل والفؤاد من فقدان حبيب»، فعدلنا منه إلى ما ذكرناه آنفاً؛ لرعاية مقام الإمام المعصوم (علیه السلام) !

ص: 71

رحل أسلاف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) .. هم أصحاب الكساء الأربعة (علیهم السلام) .. أنوارٌ خمسةٌ اختصّها الله واجتباها واصطفاها على العالمين.. وكلّ مَن سوى الله في الكون فهو دونهم في الفضل والمنزلة عند الله (تبارك وتعالى).. فجميع الأسلاف يجتمعون في هؤلاء الأربعة منأصحاب الكساء.. وكلّهم نورٌ واحد.. وقد رحل الجميع، ولم يبقَ منهم إلّا حبيب الأحبّة خامس أصحاب الكساء..

لقد وقع الفراق بين الكلّ والجزء الباقي في الدنيا..

ولقد ضرب القرآن مثلاً للشوق والحنان والولَه في يعقوب لولده يوسف (علیهما السلام) ، فبكى عليه حتّى ابيضّت عيناه وذهب بصره وخيف عليه الموت، حتّى قيل له: ﴿تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ ((1)) ((2)).

ورُوي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنّه قال له بعض أصحابنا: ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف؟ قال: «حزن سبعين ثكلى حرّى» ((3)).

ص: 72


1- سورة يوسف: 85.
2- أُنظر: تفسير العيّاشيّ: 2 / 188 ح 60.
3- تفسير العيّاشيّ: 2 / 188 ح 58.

ولا يبعد أن يكون عدد السبعين هنا إشارةً للكثرة الّتي لا تُحصى..

وقد ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «واشتدّ حزنُه [أي: يعقوب] حتّى تقوّس ظهرُه» ((1)).

يبدو أن ليس ثَمّة مثالٌ آخَر يمكن أن يُضرَب لشدّة الشوق من شوق يعقوب ليوسف (علیهما السلام) ، كمثالٍ قرآنيٍّ متّفَقٍ عليه، وهو ما يمكن إدراكه وتصوّره ضمن المشهد الّذي رسمه القرآن الكريم، إذ أنّ مثل شوقفاطمة (علیها السلام) لأبيها خاتم المرسلين (صلی الله علیه و آله) وشوقِ أمير المؤمنين لفاطمة (علیهما السلام) خارجٌ عن مستوى إدراك البشر العادي.

رحل الأسلاف.. وبقي حبيبُهم الحسين (علیه السلام) غريباً في هذه الدنيا الخؤون الغدّارة.. رحل الطيّبون.. رحل خيرة البشر.. رحل المصطفَون الأبرار الأطهار، الّذين أذهب الله عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيراً.. لم يكن في الدنيا بعد الأربعة أصحابِ الكساء مَن هو في منزلة الحسين (علیه السلام) ومقامه ورتبته.. إنّه الخامس الوحيد الّذي أظلّه الكساء.. وليس في الكون منذ أن خلقه الله مَن هو مثلهم أبداً..

إنّه خامس الأنوار الخمسة الّتي لا يعلوها نورٌ في الدنيا والآخرة..

ص: 73


1- تفسير العيّاشيّ: 2 / 190 ح 65.

رحل جدُّه سيّد المرسلين والأنبياءِ المصطفى، وأُمُّه سيّدة النساء فاطمةُ الزهراء، وأبوه سيّد الأوصياء عليّ المرتضى، وأخوه وصنوه الحسن المجتبى.. هؤلاء هم الّذين شاركوه في الكساء ويمكن أن يُحشَر معهم، هؤلاء هم أصلُه.. فكيف لا يحنّ خامس الأنوار إلى مشكاته، ولا يتوق الفرعُ إلى أصله؟!

الإنسان العادي إذا فقد أحبّته وطال به المكث في الدنيا، تراه يتقطّع أسىً ويلتاع حسرة، وينفصل عن دنياه وجوّه ومحيطه، ويبقى يعيشذكرياتِه مع الأحبّة، وينتظر اللقاء بهم لحظةً بعد لحظة.. كيف بسيّد شباب أهل الجنّة وقد سبقه سادات البشر وسادات أهل الجنان وبقي في هذه الدنيا الغدّارة وحده؟! لكنّ سيّدي بعدُ لم يطل به المكث في الدنيا، إنّما عجّل عليه الشيب.. إنّا لله وإنا إليه راجعون!

لقد بكت فاطمة الزهراء (علیها السلام) على أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتّى كان يُغمى عليها، وحتّى أخرجها أهل المدينة الجفاة من المدينة بزعمهم أنّهم يتأذّون ببكائها.. وكانت تشمّ قميصه وتشمّ تربته وتقول:

«ماذا على مَن شمَّ تربةَ أحمدٍ

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صُبَّتْ علَيّ مصائبٌ، لو أنّها

صُبَّتْ على الأيّامِ صرنَ

لياليا»

وبقي أميرُ المؤمنين (علیه السلام) في حزنٍ طويلٍ سرمد، وليلُه مسهَّد، يبكي بكاء

ص: 74

الثكلى بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفاطمة الزهراء (علیها السلام) ..

وهذا الشوق الواله إلى الأسلاف إنّما هو تعبيرٌ حزينٌ عن الغربة الّتي كانت تحيط بالإمام غريب الغرباء (علیه السلام) .. إنّه غريبٌ في وطنه.. غريبٌ في أُمّة جدّه.. غريبٌ بين المسلمين.. غريبٌ في الدنيا.. إذا كان المؤمن العادي غريبٌ في هذه الدنيا، فما بالك بغربة خامس أصحاب الكساء!أوَليس ممّا يصدّع الفؤادَ أن يعيش ريحانةُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) في هذه الدنيا بين ظهراني هذه الأُمّة غربةً تجعله يحنّ إلى الآخِرة ويتمنّى تعجيل الرحيل إلى أسلافه؟!

المقطع الخامس: «إنّ لي مصرعاً»!

ورد في لفظ الحديث عند الزيديّ: «وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه»، وفي لفظ الزرنديّ: «ولي مصرعٌ أنا لاقيه»، وغيرهما روى: «وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه».

والمعنى في جميع الألفاظ واحد.. ربّما كان ثَمّة سقطٌ عند الزرنديّ، فهو يختلف عن لفظ الحديث الّذي يرويه الزيديّ بنقصان لفظ «إنّ»، وفي مجموع لفظ الزرنديّ نوع ارتباك، كأنّه جمعَ بين اللفظين.

وقوله: «إنّ لي مصرعاً»، بقوّة قوله: «خِيرَ لي مصرعٌ»، فكلاهما يفيد التأكيد والتحقّق، سيما أنّه (علیه السلام) يقول: «أنا لاقيه».

ص: 75

كما أنّ الموت قد خُطّ على جميع وُلد آدم، فإنّه قد كُتب على الإمام حبيب الله وحبيب رسوله.. فمصارِع القوم: سقوطهم عند الموت ((1))، والصَرْعُ: الطَّرْحُ بالأَرض.. فلابدّ من اليوم الّذي سيجري القضاء والقدَر، وتأتي المنيّةويلقاها الإمام (علیه السلام) ويلاقي هذا المصرع الّذي خُطّ على وُلد آدم!

وإذا أخذنا المصرع بمعنى المكان، إذ أنّ مَصارِعُ القوم: حيث قُتِلُوا.. ومَصَارِعُ الشهَداء: أمكِنَتُهُم الّتي صُرِعُوا فيها ((2))، يكون المعنى أنّ لي موضعاً سأُلاقيه، وألقى فيه ما خُطّ على وُلد آدم حيث يكون مصرعي.

وإذا قرأنا: «خِيرَ لي» بمعنى اختار اللهُ لي، فهو الموت الّذي اختاره الله لعباده، بَيد أنّه يختار لأوليائه الموت ليختارهم ويقبضهم إليه باختياره لهم.. «فقبضك إليه باختياره» ((3))..

كيف كان، فإنّ الإمام (علیه السلام) هنا أخبر عن مصرعه الّذي هو لاقيه.. تماماً كما كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومون (علیهم السلام) جميعاً يُخبِرون عن أيّامهم ومصارعهم الّتي اختارها الله لهم.

ص: 76


1- أُنظر: العين للفراهيدي: صَرَعَ.
2- أُنظر: لسان العرب، مجمع البحرَين: صَرَعَ.
3- من زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) المسمّاة بزيارة أمين الله.
المقطع السادس: «كأنّي أنظر..»
اشارة

«وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه».. أخبر الإمام (علیه السلام) أنّه سيلقى مصرعَه، ثمّ جعل يفصّل ما سيلقى في هذا المصرع..

وقد روى الزيديّ لفظ الحديث بهذه العبارة: «كأنّي أنظُرُ إلى أوصاليتقطّعها وحوشُ الفَلَوات، غَبراً وعَفراً، قد ملأَتْ منّي أكراشها»..

وجاءت عند الزرنديّ: «ولي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي أنظُرُ إلى أوصالي غَبراً عَفراً، تقطّعها عَسَلانُ الفَلَواتِ بين النواويسِ وكربلاء، فيَمْلَأْن منّي أجوافاً جوفاً وأكراشاً سُغباً، لا محيصَ عن يومٍ خُطّ بالقلم»..

واللفظ المشهور عند الباقين: «وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها [تتقطّعها، يتقطعها] عَسَلانُ الفَلَوات، بين النواويس وكربلاء، فيَمْلَأْن منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيصَ عن يومٍ خُطّ بالقلم»..

* * * * *

يمكن أن نواصل التعرُّف إلى هذا المشهد المروّع من خلال التلميحات التالية:

التلميح الأوّل: شرح بعض المفردات

الغَبَر:

الغَبَرُ: البقاء، والغَبَرُ _ بغير هاء _ : التُّراب.. والغَبَرةُ والغُبارُ: الرَّهَجُ،

ص: 77

وقيل: الغَبَرةُ: تردُّدُ الرَّهَجِ، فإِذا ثار سُمّيَ غُباراً.. والغُبْرة: الغُبارُ أيضاً..

في الحديث: «لو تَعْلَمُونَ ما يَكُونُ في هذِه الأُمّة مِنَ الجوعِ الأَغْبَرِ والمَوْتِ الأَحْمر»، قال ابن الأثير: هذا مِن أَحسَن الاستِعارات؛ لأَنّ الجوعَأَبداً يكون في السنين المُجدبة، وسِنُوّ الجَدْب تُسمَّى غُبْراً؛ لاغْبرار آفاقِها مِن قلَّة الأَمطار وأَرَضِيها من عَدَمِ النباتِ والاخْضِرار، والموتُ الأَحمرُ الشديد كأَنّه موتٌ بالقَتْل وإراقَةِ الدماء، ومنه حديثُ عبد الله بن الصامت: يُخَرّبُ البَصْرةَ الجُوعُ الأَغْبَرُ والموتُ الأَحْمَرُ، هو من ذلك.

واغبَرَّ الشيءُ: عَلاه الغُبار.

والغِبْرُ: الحِقْد _ كالغِمْر _.

وأَغْبَرَ في طلب الشيء: انْكَمَشَ وجَدَّ في طَلَبِه، وأَغْبَرَ الرجُلُ في طَلَبِ الحاجَة إذا جَدَّ في طَلَبِها.

العَفْر:

العَفْرُ والعَفَرُ: ظاهِرُ التراب، وعَفَرَه في التُّراب يَعْفِره عَفْراً: مَرَّغَه فيه، أو دَسَّه، والعَفَر: التراب.

وعَفَّرَتِ الوحشِيّةُ وَلدَها تُعَفِّرُه: قَطَعَتْ عنه الرَّضاعَ يوماً أَو يومَين، فإنْ خافَتْ أن يضُرَّه ذلك ردَّتْه إلى الرضاع أيّاماً ثمّ أَعادَتْه إلى الفِطام، تفعَلُ ذلك مرّاتٍ حتّى يستمرّ عليه، فذلك التَّعْفير.

ص: 78

تَعَفَّرَ الوحشيُّ تَعَفُّراً: إذا سَمِن.

واعْتَفَرَه الأَسَدُ: إذا افْتَرَسَه.ورَجُلٌ عِفْر: خبيثٌ مُنْكَرٌ داه.

العِفْرُ: القويُّ المُتَشيْطِن الّذي يَعْفِر قِرْنَه.

والعُفْرُ: الشجاع الجَلْدُ، وقيل: الغَلِيظُ الشديد.

وأَسَدٌ عِفْر: شديدٌ قَويّ.

والعُفْرة _ بالضمّ _ : شعرة القَفا من الأَسَد والديك وغيرِهما، وهي الّتي يُرَدِّدُها إِلى يافوخِه عند الهِراش.

والعِفْر _ بالكسر _: الذكَرُ الفَحْلُ مِن الخنازير.

العَسَلان:

العَسَلانُ: أَن يَضْطَرِم الفرسُ في عَدْوِه فيَخْفِقُ برأْسِهِ ويَطَّرِدُ مَتْنُه، وعَسَلَ الذِّئْبُ والثعلبُ يَعْسِلُ عَسَلاً وعَسَلاناً: مَضَى مُسْرِعاً واضْطَربَ في عَدْوِه وهَزَّ رأْسَه، والذئب عاسِلٌ، والجمع العُسَّل والعَوَاسِل.

العَسَلانِ: هو عَدْوُ الذئب.

ورَجُلٌ عَسِلٌ: شديد الضَّرْبِ سَرِيعُ رَجْعِ اليد بالضَّرْب.

العَسَلان: مَشْيُِ الذئبِ، واهتزازُ الرمح.

ص: 79

الكَرِش:

الكَرِشُ: لكُلّ مُجْتَرٍّ بمنزلة المَعِدَة للإِنسان.

الجَوف:

أصلُ الجَوْفِ الخلاء، وهو مصدرُ من باب تَعِبَ، ثمّ استُعمِلَ فيما يقبل الشغل والفراغ، فقيل: جَوْفُ الدارِ لباطنها، وجوفُ الإنسان.

جَوْفُ الإنسان: بَطْنُه.

الجَوَفُ: خَلاءُ الجوْف، كالقَصبةِ الجَوْفاء.

جَوْفُ كلِّ شيء: داخِلُه.

السغَب:

السَّغَب: الجوع، وقيل: الجوعُ مع التعَب، ويُطلَقُ على العَطَشِ أيضاً.

الجِراب:

الجِرَابُ _ بالكسر _ : وعاءٌ من إهاب شاةٍ يُوعى فيه الحَبَّ والدقيق ونحوهما، ومنه الجِرَابُ الهرويّ ونحوه، والجمع جُرُبٌ، مثل كتابٍ وكُتُب، ولا يُقال: جَرَاب _ بالفتح _.

الجِرابُ: وِعاءٌ من إهاب الشاء، لا يُوعَى فيه إلّا يابسٌ.

الجِرابُ: الوِعاءُ، مَعْرُوف، وقيل: هو المِزْوَدُ، والعامّة تفتحه فتقول:

ص: 80

الجَرابُ، والجمع أَجْرِبةٌ وجُرُبٌ وجُرْبٌ.

الأوصال:

الْأَوْصَالُ: المفاصِل، ومنه: تقطّعَتْ أوصالُه ((1)).

وقيل: الأَوْصَالُ: مجتَمَعُ العِظام ((2)).

والوَصْلُ: كلُّ شيءٍ اتَّصَلَ بشيءٍ فما بينهما وُصْلة ((3)).

التلميح الثاني: «كأنّي»!

كأنّي.. تجد هذه المفردة في كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) موظّفةً لبيان التمثُّل لمشاهدة الماضي أو المستقبل..

لقد ورد استعمالها بمعنى المشاهدة كثيراً في كلام أهل البيت (علیهم السلام) ، ومن الواضح أنّ المعصوم حينما يقول: كأنّي، فهو إنّما يرى ما يُخبِر عنه برؤيةٍ خاصّةٍ ويشاهده مشاهدةً حقيقيّة، إذ لا خيال ولا باطل فيما يرى ويُخبر عنه المعصوم!

وهذه الكاف في قوله: «كأنّي» هي الفاصل بين الحقيقة المنظورة عند

ص: 81


1- أُنظر: مجمع البحرين: وَصَلَ.
2- أُنظر: لسان العرب: وَصَلَ.
3- أُنظر: كتاب العين للفراهيديّ: وَصَلَ.

المعصوم والواقع الّذي يجري ويقع ويتحقّق على صفحة الزمن وآنات الساعات والأيّام.

التلميح الثالث: «أنظر إلى أوصالي»!

لا يبدو ثَمّة كثيرُ فرقٍ بين التعبير الوارد عند الزيديّ والزرنديّ وعند الآخَرين، إذ روى الأوّلان: «كأنّي أنظر إلى أوصالي»، وروى الآخَرون: «كأنّي بأوصالي»، إذ أنّ اللفظَين يفيدان ما سيحصل للأوصال المقدّسة، ويفيدان أنّ الإمام (علیه السلام) يُخبِر عن رؤية ذلك ومشاهدته، بَيد أنّ تعبير الحديث الّذي يرويه الأوّل قد يكون أكثر دقّةً ووضوحاً وتعبيراً.

التلميح الرابع: «أوصالي تُقطِّعُها»

يا لله.. الأوصال: المفاصل، مجتمع العظام، كلُّ ما اتصل بشيءٍ من البدن وكان بينهما وصلة..

أخبر الإمام (علیه السلام) عمّا سيجري عليه وعن القتْلَة الّتي سيُقتَل بها، والمنيّةِ الّتي تنتظره وهو لاقيها..

إنّها صورةٌ مروّعة.. تقطّع الوحوشُ أوصاله.. تتقطّعها.. كأنّ في المفردة الثانية إشعار التنازع على تقطيعها، تماماً كما تتنازع الذئاب الفريسة فتتجاذبها بعنفٍ وتتوزّع أشلاءَها..

ص: 82

تكالُبُ الذئاب وتدافعُها وتنازعُها على أوصالٍ تريد تقطيعها، وانتزاعَ كلِّ مفصلٍ من مفاصلها وتفريقَ أعضائها..

إنّها وحوشٌ ضاريةٌ مجوَّعة.. أكراشها ساغبة.. وأجوافها خالية..

ذئاب فلوات.. والفلاة: هي الأرض الّتي لا ماء فيها ولا كلاء.. فهي ذئابٌ جائعةٌ عطشى، زادها الجوع والعطش توحُّشاً..

ذئابٌ راكضةٌ لاهثةٌ مستعجِلة، تدير رأسها يميناً وشمالاً، تجتمع على الصيد الإلهيّ الأعظم.. تلغ في الدماء الزاكية؛ لتروي حقدها وضغائنها على النبيّ وآله..

كيف ستهاجم هذه الوحوش الضارية الجائعة الساغبة العطشى لحمَ رسول الله ودمه، وتتنازع على تقطيع أوصال الهيكل المقدّس؟!

تهجم مرّةً واحدة، كلٌّ قد برى أنيابه وفتح بوزه، وانتهش بوحشيّةٍ وقساوةٍ ما يمكنه أن ينتهش لينفرد بعضوٍ من الأعضاء، فيقضم ويغرز أنيابَه، فتجاذبه الذئاب الأُخرى البقيّة حتّى يُفرَّق بين المفاصل، فتتقطّع وتتفرّق..

إنّه مشهدٌ يعجز الإنسان عن تصويره وتصوُّره.. يقطّع القلوب والأكباد، ويروّع الأرواح والفؤاد.. يصدّع الجبال الرواسي ويزيلها عن مستقرّها.. تميد له السماء، وتقطّع به الأرض وتتزلزل.. تتفجّر له البحار،

ص: 83

وتضطرب له المخلوقات..

أهذا خامس أصحاب الكساء، يخبر عن لحمه ودمه ومفاصله كيف ستتنازعها الذئاب فتصرعه وتقطّع أوصاله؟!!

ويمكن أن يكون المراد من الأوصال المقطّعة هم الأنصار وأهل البيت (علیهم السلام) ، فهم أوصال الإمام (علیه السلام) وصِلَته وأطرافه وأشعّته، فصحّ التعبير عنهم تجوُّزاً بالأوصال.

التلميح الخامس: غَبراً عَفراً

ورد في لفظ الحديث الّذي يرويه الزيديّ ولفظ الزرنديّ صفة «غَبراً وعَفراً»..

ربّما أفاد سياق الزيديّ أنّ «غَبراً، عَفراً» توصيفٌ لوحوش الفلوات.. «أوصالي تقطّعها وحوشُ الفلوات غَبراً وعَفراً، قد ملأَتْ منّي أكراشها»..

فإنْ كانت صفةً للوحوش، فهو توصيفٌ لمدى تقحُّل هذه الذئاب وبقائها جائعةً في فلاةٍ قاحلةٍ وبيداءٍ ليس فيها سوى الجفاف والقحط، حتّى علاها الغبار وصارت بلون الصحراء، وهي فحول خنازير متوحّشة، وغيرها من المعاني المذكورة في التلميح الأوّل ممّا ينطبق على هذه الوحوش..

وإذا كانت صفة «غبراً وعفراً» توصيفٌ للأوصال المقطَّعة، بشهادة

ص: 84

سياق الزرنديّ: «أوصالي غَبراً وعَفراً، تقطّعها عَسَلانُ الفلوات»، وهو الأوفق والأشدّ انسجاماً مع المشهد المروّع المهول الّذي ترسمه العبارة..

ويمكن حمل عبارة الزيديّ على هذا المعنى أيضاً دون تكلُّفٍ ولا تحميلٍ على العبارة..

فالإمام (علیه السلام) يصف حينها مشهداً لا يطيق الإنسان رسمه ولا تصوّره.. يعجز البنان عن تحريره واللسان عن بيانه..

ليت الموت أعدمني الحياة؛ كي لا أضطرّ إلى فتح هذه الصورة ومحاولة استيعابها.. وأنا واثقٌ أن لا يقدر المؤمن على استيعابها ولا تصوّرها ولا تصويرها..

حين تتنازع الذئاب على الفريسة.. فتتجاذبها وتهارش من أجل تمزيقها وتقطيع أوصالها.. تجرّها يميناً وشمالاً، وتتقاذفها على الأرض مرّةً وترتفع بها مرّةً أُخرى، وهي تنزف دماً، ويتوزّع لحمها المضرَّج على رمال الرمضاء في فلاة بيداء، فإنّها ستُرمَّل بالتراب وتُزمَّل بالدماء، فيعلوها الغبار حتّى تكون عفراً بلون الرمل الأحمر..

وربما أشعر _ ولو من بعيدٍ _ لفظُ العفر وما يوضع في الجراب واشتراط اليبس فيه إشارةً إلى عطش سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

يا حبيبي يا حسين.. يا غريب الغرباء.. السلام على المقطَّع الأعضاء..

ص: 85

«السلامُ عَلى الأجسادِ العاريات.. السلامُ على الجسُومِ الشاحبات.. السلامُ على الدماءِ السائلات.. السلامُ على الأعضاءِ المقطَّعات.. السلامُ على الرؤوسِ المُشالات.. السلامُ على النسوةِ البارزات.. السلامُ على حُجّةِ ربِّ العالَمين.. السلامُ عليكَ وعلى آبائك الطاهرين» ((1)).

قال الراوي:

فوَاللهِ لا أنسى زينبَ بنتَ عليٍّ (علیهما السلام) وهي تندب الحسين (علیه السلام) ، وتنادي بصوتٍ حزينٍ وقلبٍ كئيب:

وا محمّداه! صلّى عليكَ مليكُ السماء، هذا حسينٌ مُرمَّلٌ بالدماء، مُقطَّعُ الأعضاء، وبناتُكَ سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّدٍ المصطفى، وإلى عليٍّ المرتضى، وإلى حمزةَ سيّدِ الشهداء.

وا محمّداه! هذا حسينٌ بالعراء، يسفي عليه الصَّبا، قتيلُ أولاد البغايا، يا حزناه! يا كرباه! اليومَ ماتَ جدّي رسولُ الله.

يا أصحاب محمّداه! هؤلاء ذرّيّةُ المصطفى، يُساقَون سَوقَالسبايا ((2)).

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

ص: 86


1- أُنظر: بحار الأنوار: 98 / 319.
2- أُنظر: بحار الأنوار: 45 / 59.
التلميح السادس: تحديد المكان

لم يردْ في الحديث الّذي يرويه الزيديّ تحديد المكان الّذي سيلاقي الإمام (علیه السلام) فيه مصرعه، وإنّما ورد في غيره.. «تقطّعها عَسَلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء»..

وقد أتينا على بيان هذه المناطق والقرى في كتاب (زهير بن القَين علويٌّ خرج يتلقّى الحسين (علیه السلام)) وغيره من المواضع، فلا نعيد.

ونكتفي بالإشارة هنا إلى أنّ النواويس وكربلاء قريتان متقاربتان جدّاً من القرى المتناثرة ثَمّة، وهي مجموعة قرىً صغيرةٍ متجاورةٍ متداخلة، ربّما أُطلق اسمُ أحدها على المجموع رغم أنّ الاسم له مكانٌ خاصٌّ بعينه، فتسمّى المنطقة الغاضريّة، وتسمّى كربلاء، وتسمّى النواويس، وتسمّى نِينوى، وهي في نفس الوقت أسماءٌ لقرىً خاصّةٍ مميّزة، وإنّما صحّ إطلاق الخاصّ على العامّ والخاصّ على الخاصّ لشدّة التقارب والتداخل.وهي كانت صحراء قاحلةً وبيداء ممتدّةً إلى بادية الحجاز، لا ماء ولا كلاء، إلّا القليل من الريف الّذي تسكنه بعض أفراد العشائر وأُسرهم على ضفاف الفرات.

وربّما حدّد الإمام الحسين (علیه السلام) المكان الّذي ستقع فيه الحرب ويحصل فيه القتال ويستوعبه العسكر وتتراكض فيه العسلان المتوحّشة.

ص: 87

لقد بيّن الإمام (علیه السلام) مصرعَه الّذي هو لاقيه عمّا قريب.. إنّه بين النواويس وكربلاء، فهو ليس في الكوفة جزماً.. إنّه (لا، ولن) يصل الكوفة.. إنّه ستقطّعه عسلان الفلوات.. عسلان الفلوات الجائعة الساغبة المتعطّشة لشرب الدماء الزاكية في الفلوات المقفرة والبيداء القاحلة.

هذا يعني أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أعلن من مكّة _ وفق المشهور في بيان موضع إلقاء الخطبة _ أنّ وجهته إنّما هي أرض المصرع، وهي بين النواويس وكربلاء.. فهو منذ تلك اللحظة قد أعلن عن شهادته في كربلاء، ومنذ ذلك الوقت قد صرّح بوجهته وعاقبته الّتي يترقّبها وينتظر اللقاء بها..

إنّه متوجّهٌ إلى الكوفة الآن، بَيد أنّ الرحلة ستنتهي بين النواويس وكربلاء، إذ سيلاقي مصرعه.. هناك تنتظره وحوش الفلوات والذئاب الجائعات؛ لتملأ منه أجوافاً جوفاً وأكراشاً سغباً..ربّما كان من المتعسّر بل المتعذّر على مَن يرتّل هذه الخطبة ويقرأها استخراج قصد (الخروج بالمعنى المصطلَح) منها.. والمناورة على إجابة رسائل أهل الكوفة وقبول دعواتهم وتبييت مقارعة الظلم والطاغوت لمواجهته ومحاربته والتخطيط لإسقاطه واستبداله، أو التخطيط لأغراضٍ أُخرى مبيَّتةٍ عند الإمام السبط (علیه السلام) ، سوى ما يفيد بصراحةٍ أنّه ملاحَقٌ

ص: 88

مطارَدٌ محاصَر، سيصل إلى المنطقة الموعودة بين النواويس وكربلاء، ثمّ تقطّعه هناك عسلان الفلوات الّتي تنتظره..

إنّه أخبر عن المكان الّذي ستقع فيه المصيبة العظمى، وقد أعدّ العدوّ لها وفيها عُدّته!

التلميح السابع: الوحوش المتربّصة!

وحوش الفلوات الساغبة.. عسلان الفلوات بأكراشها الخاوية الخالية الجائعة.. الذئاب المتوحّشة المتعطّشة للدماء.. إنّها تسكن الفلوات.. تسكن الصحراء والبيداء.. تنتظر هناك.. تترصّده وتتربّص به..

إنّها ليست في الكوفة المدينةِ العامرة والحاضرة الّتي تموج بسكّانها وعمرانها وبنائها وازدهارها.. إنّها صحراء واقعةٌ بين النواويس وكربلاء على مقربةٍ من الكوفة وليست عنها ببعيد..إنّها تنتظر متوثّبةً متلفّتةً مستعجلةً لاهثةً راكضةً متفلّتةً من أيّ زمام.. إنّها وحوشٌ جائعة.. عطشى.. تريد أن تملأ أكراشها وأجربتها وأجوافها..

بيد أنّها تبحث عن أوصالٍ لا كباقي الأوصال.. تبحث عن كُتل لحم النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) وأوصالهما..

جوعها وعطشها.. حقدها وبغضها وكراهيتها لله ولأوليائه.. ضغينتها وعداوتها وإحَنها وثاراتها وشحناؤها وذحول جاهليّتها وشقاقها ونفاقها

ص: 89

ومقتها للحقّ وأهل الحقّ..

هي الذئاب والعسلان الّتي تتربّص بسبط النبيّ وريحانته (علیه السلام) ، لتملأ منه أكراشها.. وليس هو الّذي يريدها ويقصدها.. لم يهاجمها الإمام (علیه السلام) ولم يثرها.. إنّما هي الّتي تنتظره لتقطّع أوصاله!

مَن ينتظر مَن؟

مَن يخطّط لتقطيع أوصال مَن؟

مَن البادئ؟

مَن المهاجِم؟

مَن يريد القضاءَ على مَن؟

يقولون: إنّ الإمام خطب هذه الخطبة في مكّة.. وأخبر عن المستقبلالقريب الّذي سيلاقيه بعد أيّام.. وقد أخبر الإمام (علیه السلام) أنّه سيلقى مصرعه قبل الوصول إلى الكوفة، وأخبر أنّ الّذي ينتظره في تلك البيداء المهولة إنّما هي وحوشٌ كواسر وذئابٌ عواسل.. ولم يُخبِر عن وجود أنصارٍ أو مقاتلين ورجالٍ وعَدُوه النصرة، ولم يُخبِر عن دخوله الكوفة..

إنّه (علیه السلام) أخبر عن وحوشٍ تنتظره لتقتله وتقطّع أوصاله، ولم يُخبِر عن إرادته ذلك..

إنّه (علیه السلام) أخبر عن العدوّ، وفعلِ العدوّ، وتخطيطِ العدوّ في القضاء عليه

ص: 90

بصورةٍ لا تصف الأقلام بشاعتها.. إنّه ليس مجرّد قتل.. وإنّما قتلٌ بدافع الحقد والعداوة والقساوة والانتقام.. تقطيع الأوصال بأنياب عسلانٍ جائعةٍ متوحّشة..

فإذا كانت ثَمّة دعوةٌ هنا للنصرة _ كما قد يصوّره البعض _، فلا يمكن حملُها إلّا على الدفاع عنه لذبّ عادية هذه العسلان الجائعة ومنعِها من تقطيع الأوصال المقدّسة..

ولا ندري كيف يمكن حملها على الدعوة للنهوض من أجل صنع قواعد (الخروج بالمعنى المصطلح)؟ ولا ندري كيف يمكن تأويلها بمعنى القيام من أجل الأهداف والأغراض الّتي قد تزوَّق وتسوَّق لتفسير التضحيةبالنفس وإطعام وحوش الفلوات لحم النبيّ والوصيّ، والسماح لها بتقطيع الأوصال المقدّسة؟!

إنّ الوحوش الكاسرة الجائعة الّتي تنتظره بين النواويس وكربلاء، تريد تقطيع أوصاله، وهو سيلاقيها.. فأخبر عن ذلك، وسنسمع بعد قليلٍ أنّ دعوته لا تتعدّى الدفاع عن وجود خامس أصحاب الكساء وشخص سيّد الشهداء (علیه السلام) .

نحسب أنّ الأمر بمكانٍ من الوضوح لا يحسن معه الاسترسال في الشرح والبيان.

ص: 91

التلميح الثامن: «لا محيصَ عن يومٍ خُطَّ بالقلم»!

لم تردْ هذه الزيادة في لفظ الحديث الّذي يرويه الزيديّ، وإنّما وردَتْ في باقي الكتب الّتي روت الخطبة.

ولا شكّ أنْ لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم..

وهذا اليوم إمّا أن يكون المقصود منه هو الموت الّذي لابدّ منه، والّذي كتبه الله على عباده، بشهادة بداية الخطبة: «خُطَّ الموت..»، وإمّا اليوم الّذي ستجتمع عليه عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منه أكراشها..

على كِلا التقديرَين، فإنّه إخبارٌ عن يومٍ لابدّ هو آتٍ.. وليس فيه إخبارٌعن قصدٍ خاصٍّ سوى الإخبار عن اليوم الّذي اختاره الله وخطّه قلمُ التقدير لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو إخبارٌ كباقي إخبارات أهل البيت (علیهم السلام) عن أيّامهم، وأحياناً عن أيّام أعدائهم، أو أوليائهم حين كانوا يُخبِرون بحلول آجالهم ويحدّدونها لهم بما علّمهم الله العليم الحكيم الخبير..

وفيه إشارةٌ إلى أنّ العدوّ قد أعدّ عُدّته لهذا اليوم، وأقدم على تنفيذ ما عزم عليه من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتجويع عسلان الفلوات وإغرائها لتقطيع أوصاله في تلك البقعة.. إنّه لابدّ سيلاقيها، لأنّها تنتظره في تلك الفلاة المقفرة المهولة الحزينة!

ص: 92

المقطع السابع: «رضى الله رضانا»

اتّفقَت المصادر الّتي روت الخطبة على هذا المقطع، فجاء في جميعها سوى اختلافٍ واحدٍ طفيفٍ جدّاً، ففي بعضها: «ليوفّينا» ((1))، وفي بعضها: «ويوفّينا أُجورَ الصابرين» ((2))، والمعنى واحد.

رضى الله رضانا أهل البيت.. يحتمل وجهين:

أحدهما: أنّ الله (عزوجل) يرضى بما يرضى به أهلُ البيت (علیهم السلام) .والآخَر: أنّ أهل البيت (علیهم السلام) يرضون بما يرضى به الله (عزوجل) .

ومؤدّى كليهما واحد، وهو اتّحاد رضاهم برضاه، والثاني أصحّ وأوجه وأوفق بأدب أهل البيت (علیهم السلام) في التعامل مع المعبود الّذي لا معبود سواه..

ويشهد له السياق وباقي الجملة؛ حيث قال: «نصبر على بلائه

ص: 93


1- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 199، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 5، معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول للزرنديّ: 94.
2- نثر الدرر في المحاضرات لمنصور بن الحسين الآبي: 1 / 228، نزهة الناظر للحلوانيّ: 41، مثير الأحزان لابن نما: 20، اللهوف لابن طاووس: 60، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245، نفَس المهموم للقمّيّ: 163، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 250، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 29.

ليوفّينا».. فهو قد رضيَ لهم بالبلاء، وهم قد رضوا بما رضيَه لهم، وقد جعلهم الله أئمّةً يهدون بأمره لمّا صبروا..

وقد وعدهم الله على هذا الصبر أجر الصابرين، وهو لا يُخلِف الميعاد!

لقد صبر الإمام غريب الغرباء وسيّد الشهداء (علیه السلام) صبراً عجبَتْ منه ملائكة السماء.. فللّه صبرك يا أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) ..

وعلى العباد أن يطلبوا رضى الله في رضى أهل البيت (علیهم السلام) ، لأنّهم يرضون برضاه، وهم الكاشف عن سخط الله ورضاه.

المقطع الثامن: «لن تشذّ عن رسول الله لَحمَتُه»

في (أمالي الزيديّ): «ولن تشذَّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) حُرمتُه وعترتُه، ولن تفارقه أعضاؤه، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وتنجز لهمعدته» ((1)).

وفي باقي المصادر الّتي روت الخبر: «لن تشذّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لَحمتُه، هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينُه وينجز لهم وعده» ((2)).

ص: 94


1- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 199، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 5.
2- نثر الدرر في المحاضرات لمنصور بن الحسين الآبي: 1 / 228، نزهة الناظر للحلوانيّ: 41، معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول للزرنديّ: 94، مثير الأحزان لابن نما: 20، اللهوف لابن طاووس: 60، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245، نفَس المهموم للقمّيّ: 163، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 250، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 29.

* * * * *

شَذَّ الرجُلُ من أصحابه، أي: انفرد عنهم، وكلُّ شيءٍ منفردٌ فهو شاذّ.

وقيل: الشاذُّ: هو الّذي يكون مع الجماعة ثمّ يفارقهم.

ولَحْمةُ النَّسَب: الشابِكُ منه.

واللَّحْمَة _ قيل: بالفتح، وقيل: بالضمّ _ : قرابَةُ النسَب.

* * * * *

إنّ الإمامَ الحسين (علیه السلام) خامسَ أصحاب الكساء عضوٌ من أعضاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وحُرمةٌ من حُرماته، وعترتُه وقرابته القريبة وابنُه ووَلدُه، وقد وردَت الأحاديث النبويّة الشريفة عند جميع فرق المسلمين تشرح ذلك وتؤكّده، وليس في العالَمين مَن يُنكر ذلك.وقد ترك رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) أهلَه وذرّيّته وعترته وكتابه وديعةً عند هذه الأُمّة الّتي سرعان ما انقلبَتْ على حظّها، وانتكسَتْ وارتكسَتْ، فضيّعَت الوديعة، ومزّقَت الكتاب، وركبت مراكب الأهواء والفتن والضلال.

ص: 95

بَيد أنّ الله (تبارك وتعالى) قد وعد رسولَه أن يجمع له أهله في حضيرة القُدس، فتقرّ عينُه بهم وتنجز عدتُه لهم، وذلك هو الفوز العظيم.

فإذا كان الموت قد خُطّ على وُلد آدم، ولا محيص عن يومٍ قد خُطّ بالقلم، وإذا كان العدوّ لا يتراجع عن قتل حبيب الله وحبيب رسوله، وهو يتربّص به الدوائر حتّى سدّ أقطار الأرض وآفاق السماء بالذئاب العاوية الجائعة لتقطّع أوصال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتفري عضواً من أعضائه، فإنّ العاقبة هي الفوز بلقاء الأسلاف الّذين تولَّهَ بالشوق إليهم.. وهم مجموعون في حظيرة القدس عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. ستقرّ عينُ الرسول باجتماع لحمته وقرابته وأعضائه عنده، كما تقرّ عين حبيبه الحسين (علیه السلام) بلقائه بأسلافه..

أمّا حمل إنجاز الوعد للرسول (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) على ظهور الإمام الصاحب (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وتطبيق أحكام الله في الأرض ((1))، فهو رغم جماله يبقى بعيداً كلّ البعد عن السياق والمراد المتحصّل منه، إذ أنّ السياق يبدوواضحاً في إنجاز الوعد لهم بجمعهم في حظيرة القدس.

ص: 96


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 81.
المقطع التاسع: «مَن كان باذلاً فينا مُهجَتَه»!
اشارة

في حديث الزيديّ: «ألا مَن كان فينا باذلاً مُهجَتَه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحِلٌ غداً إن شاء الله».

وفي رواية الآبي والزرنديّ: «مَن كان باذلاً فينا مُهجَتَه وموطِّناً على لقائنا نفْسَه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحِلٌ مُصبِحاً إن شاء اللّه» ((1)).

وعند الباقي: «فمَن كان باذلاً فينا مُهجَتَه وموطِّناً على لقاء الله نفْسَه، فلْيرحَلْ، فإنّي راحِلٌ مُصبِحاً إن شاء الله» ((2)).

* * * * *

يمكن استفادة عدّة فوائد من هذا المقطع:

الفائدة الأُولى: معنى «فينا»

(في) حرف جرٍّ يجرّ الظاهر والمضمَر.

ص: 97


1- نثر الدرر في المحاضرات لمنصور بن الحسين الآبي: 1 / 228، معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول للزرنديّ: 94.
2- نزهة الناظر للحلوانيّ: 41، مثير الأحزان لابن نما: 20، اللهوف لابن طاووس: 60، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245، نفَس المهموم للقمّيّ: 163، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 250، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 29.

وله معانٍ، منها: الظرفيّة، السببيّة، المصاحبة.. ((1)).

وهذه المعاني الثلاث كلّها مناسِبةٌ للمقام.. بمعنى أن يكون سيّدُ الشهداء (علیه السلام) ظرفاً لبذل المهجة، أو سبباً لبذلها، أو أن تبذل النفس معه..

ويشهد لذلك _ كمثالٍ _ ما ورد مسنَداً عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) أنّه قال: «كان عليّ بن الحسين (علیه السلام) يقول: أيُّما مؤمنٍ دمعَت عيناه لقتل الحسين بن عليّ (علیه السلام) دمعةً حتّى تسيل على خدّه، بوّأه اللهُ بها في الجنّة غُرفاً يسكنها أحقاباً، وأيُّما مؤمنٍ دمعَت عيناه حتّى تسيل على خدّه "فينا" لأذىً مسّنا مِن عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله بها في الجنّة مبوّأ صدق، وأيُّما مؤمنٍ مسّه أذىً "فينا" فدمعَت عيناه حتّى تسيل على خدّه من مضاضة ما أُوذيَ "فينا"، صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار» ((2)).

فالدمعة الّتي تسيل فيهم، أي: مِن أجلهم وبسببهم، والأذى الّذي يمسّ المؤمن فيهم، أي: بسببهم ومن أجلهم..

فقوله (علیه السلام) : «مَن كان فينا باذلاً مهجته»، أي: أن نكون ظرفاً لبذل المهجة وسبباً لذلك، أي: أنّه يبذل مهجته مِن أجلنا وبسببنا ومعنا..

ص: 98


1- أُنظر للتفصيل: النحو الوافي: 2 / 507.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 100 الباب 32 ح 1.
الفائدة الثانية: التوطين

لم يرد في لفظ الحديث الّذي يرويه الزيديّ عن الإمام السجّاد (علیه السلام) سوى شرط (بذل المهجة فيهم)، أمّا توطين النفس على اللقاء فإنّه ورد عند الآخَرين، وقد ذكره الآبي والزرنديّ بلفظ: «وموطِّناً على لقائنا نفْسَه»، وعند الباقين: «وموطِّناً على لقاء الله نفْسَه»..

والمعنى واحد؛ إذ أنّ الثاني يفيد الموت والرحيل عن هذه الدنيا من أجل لقاء الله، وهم وجه الله (تبارك وتعالى)، والأوّل يفيد لقاءهم في الآخِرة عند اجتماعهم في حظيرة القدس حين يجمع الله لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لحمته وعترته.

ولا يخفى أنّ دخول الجنّة مع سيّد شبابها الحسين (علیه السلام) والحظوة بالارتقاء إلى حظيرة القدس ولقاء النبيّ وآله هناك، لَمنزلةٌ لا يبلغها إلّا مَن شاء الله، وممّن شاء الله له ذلك مَن يدخل الجنّة شهيداً بين يدَي الحسين (علیه السلام) ، وهي خصوصيّةٌ يتمنّاها الشهداء أجمعون من الأوّلين والآخرين!

روى ابن قولويه، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «ما مِن شهيدٍ الّا ويحبّ

ص: 99

أن يكون مع الحسين (علیه السلام) ؛ حتّى يدخلون الجنّة معه» ((1)).

الفائدة الثالثة: البذل، التوطين

ذكر الإمام (علیه السلام) شروطاً لمن أراد الرحيل معه:

الشرط الأوّل: أن يكون باذلاً مهجته.

الشرط الثاني: أن يكون البذلُ فيهم.

الشرط الثالث: أن يكون موطِّناً نفْسَه على لقائهم أو لقاء الله.

والبَذْلُ: نقيض المنع، وكلُّ مَن طابت نفْسُه لشيءٍ فهو باذِل، وبَذَلَهُ: أباحَهُ عن طِيب نَفْس.

وموطِّناً: واطَنْتُ فلاناً على هذا الأمر، أي: جعلتما في أنفُسكما أن تعملاه وتفعلاه، وتقول: وَطَّنْتُ نَفْسي على الأمر فَتَوَطَّنَتْ، أي: حمَلْتُها عليه فذَلَّتْ.

يبدو واضحاً من العبارة أن ليس ثَمّة إلزامٌ في الدعوة؛ إذ أنّ شرطها أن يكون المتقدِّم باذلاً معطياً مبيحاً عن طيب نفس، وراضياً تمام الرضى بما يقدّم ويعطي، مقتنعاً بيقينٍ على ما يجود به ويبذله..

ص: 100


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 220 الباب 38 ح 7 _ بتحقيق: جواد القيّومي.

وقد مهّد لنفسه وحملها حتّى ذلّها وذلّلها، فانقادت له بسلاسةٍ هيّنةً ليّنةً مطاوِعَة.

الفائدة الرابعة: باذلاً فينا

إتّفقَت جميع ألفاظ الخطبة في المصادر على هذه الفقرة: «مَن كان باذلاً فينا مُهجَتَه»..

وفي لفظ الزيديّ تقديمٌ وتأخير: «مَن كان فينا باذلاً مُهجَتَه»، وهو يفيد الحصر أكثر من اللفظ الآخَر..

وهنا تستوقفنا هذه العبارة في تركيبها الفريد.. والخطبة لسيّد اللغة ومعدن الفصاحة وأصل البلاغة!

فالمُهْجَةُ: دَمُ القَلْب، ولا بقاء للنَّفْسِ بعد ما تُراقُ مُهْجَتُها، وقيل: المُهْجَةُ: الدَّم ((1)).

ذكر الإمامُ (علیه السلام) هنا هدفَ مَن أراد اللحاق به وهو يريد الرحيل.

إنّ مَن أراد اللحاق به فلْيعلم أنّ المطلوب إنّما هو بذل المهجة لا غير..

وبذل المهجة إنّما سيكون فيهم.. في أهل البيت (علیهم السلام) .. في الحسين نفْسِه (علیه السلام) !!!

ص: 101


1- أُنظر: لسان العرب: مهَجَ، وغيره.

إنّه راحِلٌ إلى فلاةٍ مسبعة، تتضوّر فيها عَسلان الفلوات جوعاً وعطشاً، تنتظره لتشرب دمَه وتقطّع أوصاله.. فمن أراد أنْ يُقدِمَ معه إلى تلك الأرض المسبعة، فلْيكن على استعدادٍ تامٍّ للدفاع عنه ليبذل له وفيه مهجته!

الخطر المُحدِق والهدف الأسمى الّذي صرّح به الإمام (علیه السلام) هنا إنّما هو بذل المهجة في الذبّ عنه.. باذلاً مهجتَه فينا.. في الإمام (علیه السلام) ومَن معه على وجه الخصوص..

هو بنفسه مُهَدَّد.. وبذلُ المهجة سيكون فيه.. لا هدف آخَر سوى الذبّ والدفاع عن الإمام (علیه السلام) الّذي هجمَتْ عليه الذئاب الضواري العادية لتقطّع أوصاله..

لا نرى في لفظ الإمام (علیه السلام) أيَّ شيءٍ سوى ذلك!

إنّ الإمام (علیه السلام) أعلن بصراحةٍ هنا أنّ القوم قد أقدموا على قتله، وأن لا محيص من الدفاع عن النفس، ومَن أراد أن يدفع عنه ويبذل مهجته فيه فلْيُقدِم معه..

لم يذكر الإمامُ (علیه السلام) لبذل المهجة أيَّ مسوّغٍ آخَر، ولا ظرفاً سواه، كبذل المهجة من أجل محاربة العدوّ وقتله وإبعاده عن منبر الرسول (صلی الله علیه و آله) ، أو حماية الدين المهدَّد وإحياء الشريعة المغيَّبة الميّتة، وحفظِ حدود الخلافةومنعها

ص: 102

من الانحدار في مهاوي الوراثة، وغيرها من الأهداف والأغراض..

ولا يُقال: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) هو الممثّل الوحيد للدين، فالدفاع عنه إنّما هو دفاعٌ عن الدين وعن شريعة سيّد المرسلين وسُنّة خاتم النبيّين القائمة في شخصه الكريم..

فإنّ في اللغة سعة، وفي لسان سيّد البلغاء ما يمكن الإشارة فيه إلى ذلك.. فإنّ لتعميم القضيّة وجعلها حمايةً للدين وقصد ترويج شريعة سيّد المرسلين تأثيراً أعظم لمَن أراد أن يحرّك الناس معه ويدعوهم إلى الانتظام في سلك حركته..

ولا طائل وراء تحميل العبارة فوق ما تحتمل والالتواء على نصٍّ صريحٍ وتزريقه ما يأبى استيعابه!

إنّ الدعوة صريحةٌ لبذل المهجة في شخصه الكريم.. وبالتالي في الدفاع عنه والذبّ عنه وعن آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..

وإن كان المقصود هو الدفاع عنه باعتباره الممثّل لدين الله الّذي تتجسّد فيه الشريعة، فهو دفاعٌ عن هذا الوجود الخاصّ بما يحتويه، وليس دفاعاً عن المحتوى..نحسب الاكتفاء بهذا القدر من البيان لهذه الفقرة المعجزة في التعبير أوفق وأسلم.

ص: 103

الفائدة الخامسة: راحِلٌ لا ينتظر أحداً

«ألا مَن كان فينا باذلاً مُهجَتَه، فلْيرحَلْ.. فإنّي راحِلٌ غداً.. فإنّي راحِلٌ مُصبِحاً إن شاء اللّه»..

أعلن الإمام (علیه السلام) عن رحيله وعزمه على ذلك غداة غد.. فهو راحلٌ على كلّ حال، سواءً كان مَن يبذل مهجته فيه أو لم يكن، وسواءً رحل معه أحدٌ أو لم يرحل!

إنّه راحلٌ لا ينتظر أحداً؛ لأنّه إن بقي فالقتل لا محالة، والقتل في مكّة يعني هتك حرمة البيت الحرام وحرمة الدم الزاكي فيه.

ثمّ مَن كان موطّناً نفسه على بذل المهجة ولقاء الله فلْيرحَلْ.. وفيه تخييرٌ واضح، ولا يُستشعَر منه الإلزام، والأوضح منه عدم انتظار الإمام (علیه السلام) لأحدٍ في الرحيل، وأنّه عازمٌ عليه، حصل الناصر أَم لم يحصل..

وهكذا هو سيّد الشهداء (علیه السلام) دائماً وأبداً مع أنصاره والمستشهَدين بين يديه، إذ كان يخيّرهم في المضيّ عنه أو البقاء معه في كلّ موطنٍ ومشهدٍ له معهم، لأنّه يعلم أنّه هو المطلوب وحده، ولو ظفروا به للهوا عن غيره، كماقال _ فداه العالَمين _..

بَيد أنّ الأرواح الشامخة والقلوب العامرة والنفوس القدسيّة أبَتْ إلّا أن تدفع عن مهجة الرسول وقرّة عين المرتضى والبتول (علیهم السلام) ، فلم تفارقه حتّى

ص: 104

بذلوا مهجهم دونه ودون عياله.

الفائدة السادسة: «راحِلٌ غداً»!

«راحِلٌ غداً.. راحِلٌ مُصبِحاً إن شاء الله..».

يمكن حمل الرحيل هنا على الرحيل إلى الآخِرة.. ودعوة أصحابه إلى بذل المهجة فيه للرحيل معه غداة غد، وحينئذٍ ينسجم الحمل على حصول الخطبة في كربلاء، ويكون وقتها ليلة العاشر من المحرّم.

والسياق ليس بعيداً عن هذا الحمل، فالكلام عن الموت الّذي كتبه الله على وُلد آدم، وقد طوّق الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه تطويق القلادة بعد أن حاصرهم القوم حصاراً مطبقاً، كما قال الإمام الصادق (علیه السلام) في حديث: «تاسوعاء يومٌ حُوصِر فيه الحسين (علیه السلام) وأصحابه (رضی الله عنهم) بكربلاء، واجتمع عليه خيلُ أهل الشام وأناخوا عليه، وفرح ابنُ مرجانة وعمر بن سعدٍ بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابَه (رضی الله عنهم) ،وأيقنوا أن لا يأتي الحسينَ (علیه السلام) ناصرٌ ولا يمدّه أهلُ العراق، بأبي المستضعف الغريب» ((1)).

وقد أكدّ الإمام شوقه وولهه إلى أسلافه وانتظاره اللقاء بهم، وأنّه سيجتمع برسول الله (صلی الله علیه و آله) في حظيرة القدس، وعداً من الله، واللهُ لا يخلف

ص: 105


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 147 ح 7.

الميعاد، وقد حان الأجل وأزفت ساعة الرحيل إلى لقاء الأسلاف..

سيّما أنّ لفظ الزيديّ ليس فيه جملة: «بين النواويس وكربلا».

ويمكن حمل الرحيل من مكّة إلى الأرض الموعودة.. إلى حيث تنتظره عسلان الفلوات الجائعة الساغبة لتقطّع أوصاله..

فتكون الخطبة حينئذٍ في مكّة ليلة خروجه منها، كما صرّح بذلك الشيخ السماويّ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _.. وكان الناس قد توجّهوا إلى منى لا يشعرون بشيءٍ ولا يستمعون إلى شيء.. وقد خطب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في أصحابه والمرافقين له في تلك الليلة، وهم عددٌ محدودٌ من أهل بيته والملتحقين به من الأنصار الأبرار.

الفائدة السابعة: إعلان الإمام (علیه السلام)

تفيد الخطبة بوضوحٍ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أعلن في خطبته هذه _ على فرض أنّها في مكّة _ مآلَ سفره وخاتمة رحلته.

إنّه إن بقي في مكّة فهو مقتولٌ لا محالة، ولا يشكّ في ذلك مَن يقرأ التاريخ ولو عاجلاً، وهو (علیه السلام) لا يحبّ ذلك كما أعلنها (علیه السلام) مراراً.

فلابدّ له من الخروج من مكّة بعد أن خذله أهلها وأهل المدينة وغيرها من الأمصار، وأُطبقَت عليه آفاق السماء وأُخذَت عليه أقطار الأرض..

ص: 106

فلم يبقَ له سوى طريقٍ واحد، وهو طريق العراق، وكانت فيه دعواتٌ كاذبةٌ خدّاعةٌ غرّارة، لا تخفى على سيّد الشهداء وإمام السعداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، كما لم تخفَ على غيره من العالمين بما فيهم أغبى الخلق من أمثال ابن عمر.

وكانت في العراق _ أيضاً _ سواعد وقلوبٌ قويّةٌ وسيوفٌ مصقولةٌ ورماحٌ شارعةٌ وقومٌ لبسوا القلوب على الدروع وأقسموا أن لا يدَعُوا شوكةً تشوك أهل البيت وفيهم عينٌ تطرف أو عرقٌ ينبض.

كان عددهم بالأرقامِ والحسابِ قليلٌ، ولكن في القوّة والثبات والصمود والوفاء عظيمٌ لا يُبارى ولا يُقاس، وهم القلّة الديّانون!فخرج الإمام (علیه السلام) من مكّة قاصداً أرض العراق، لِما فيه من ليوث شرىً أبدَتِ الاستعداد الحقّ للنصرة والدفاع والذبّ عن حُرم الله وحُرم رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وهم كانوا ينتظرون هذا اليوم الموعود لنيل الظفر والفتح بالفوز بالشهادة بين يدَي سيّد شباب أهل الجنّة.

وليس فيهم أحدٌ كاتب الإمامَ الحسين (علیه السلام) من قبلُ أو دعاه إلى الكوفة، سوى ما ذكرت بعضُ المصادر من ورود اسم حبيب بن مظاهر صاحب ميسرة

ص: 107

الحسين (علیه السلام) في بعض نُسَخ كتاب سليمان بن صُرد الخزاعيّ ((1)).

وعلى كلّ تقدير، فإنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد أعلنها صريحةً واضحةً جليّة، لا لبس فيها ولا تغبيش، ولا التواء فيها ولا تعسُّف، أنّ رحيله هذا إنّما هو رحيلٌ إلى الآخِرة، ونهايةَ الرحلة ستكون بتقطيع الأوصال واللقاء بالأسلاف في حظيرة القدس.. قبل دخول الكوفة..

فهو راحلٌ إلى الموت الّذي لابدّ منه، الّذي كتبه الله على أولاد آدم، بَيد أنّه موتٌ من نوعٍ خاصّ.. إنّها المنيّة الّتي تنتظره ومَن معه في أرض فلاة، وستقع بأنياب ذئاب الفلاة ووحوشها..

فهو مقتولٌ على كلّ حال، إن بقي في مكّة وإن رحل عنها.. والفرق فيالرحيل عن مكّة هو الحفاظ على حرمة البيت الحرام وحرمة سفك الدم الحرام في الشهر الحرام على الأرض الحرام.

* * * * *

بعد أن بيّن (علیه السلام) أنّ الموت مكتوبٌ على وُلد آدم، وأنّ رضى الله رضاهم أهلَ البيت (علیهم السلام) ، وأنّ آل النبيّ (صلی الله علیه و آله) مجموعون عنده في حظيرة القدس.. دعاهم إلى رضى الله وإلى الجنان من خلال نصره والذبّ عنه..

ص: 108


1- أُنظر للتفصيل: ظروف إقامة سيّد الشهداء في مكّة _ كتب أهل الكوفة ورسلهم.

إذا كان الموت محيطاً بأبناء آدم، ولابدّ لهم من يومٍ يرحلون به عن هذه الدنيا، والإمام (علیه السلام) يعيش هذه الغربة _ الّتي لا مثيل لها _ بين ظهراني هذه الأُمّة المنكوسة المتعوسة، وإذا كان الرحيل إلى الآخرة فيه لقاء الأحبّة والاجتماع بمن وَلَه بالشوق إليهم، والعدوّ يحاصره من كلّ جانبٍ ومكانٍ ويريد قتله، فمرحاً بالموت الّذي لابدّ منه.

* * * * *

وهنا يبدو لنا ضرورة التريّث عند قراءة النصوص التاريخيّة الّتي تفيد أنّ قوماً تبعوا الإمام (علیه السلام) من مكّة ظنّاً منهم أنّ الإمام (علیه السلام) يقدم على بلدٍ قد أعدّ واستعدّ لاستقباله.. أو أنّ الإمام (علیه السلام) قد اختار العراق، لأنّ فيه دعواتٍ وكتباً ورسائل وعَدَته النصرة، فقبلها الإمام (علیه السلام) واستجاب لها.. فإنّ مِثلَ هذا القول يُباين الخطبة ومضمونها مباينةً تامّةً لا يمكن الجمع فيها بحال!ومن العجيب ما قاله السيّد الأمين (رحمة الله) :

وممّا يدلّ على أنّ الحسين (علیه السلام) كان موطِّناً نفسه على القتل وظانّاً أو عالماً في بعض الحالات بأنّه يُقتَل في سفره ذلك، خطبته الّتي خطبها حين عزم على الخروج إلى العراق، الّتي يقول فيها: «خُطَّ الموتُ على وُلد آدم» _ الخ، فإنّ أكثر فقراتها يدلّ على ذلك ((1)).

ص: 109


1- لواعج الأشجان للأمين: 254، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 619.

يبدو أنّ ترك قوله: «ظانّاً أو عالماً في بعض الحالات» لِما به أفضلُ من مناقشته، بعد أن اتّفق الجميع دون استثناءٍ على القول بعِلم الإمام بأنّ الأعداء سيقتلونه في سفره بحكم الإخبارات الغيبيّة، وبحكم علم الإمامة، وبحكم الظروف الخارجيّة ومسار الأحداث، بل قد علم ذلك كلُّ مَن كان في زمانه، من قبيل ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما من المعترضين..

ولا ندري ما هو المسوّغ لاستعمال (الظنّ)، والعمل بالظنّ في التعامل مع الإمام المعصوم ضمن المعتقد الشيعيّ الإمامي؟!

الفائدة الثامنة: نفي طلب الحكم

قراءةٌ غير متأنّية للخطبة تفيد بوضوحٍ أنّ الخطبة تنفي تماماً أن يكونالإمام (علیه السلام) طالباً للحكم، لأنّه قد أخبر عن قتله قتلاً مفجعاً في أرض فلاةٍ بين النواويس وكربلاء، وتقطيعِ أوصاله بأنياب عسلان الفلوات الجائعة الساغبة حتّى تملأ منه أكراشاً وأجوافاً..

وهذا الإعلان المبكّر _ على فرض كون الخطبة في مكّة _ يناقض مناقضةً تامّةً ويباين مباينةً جازمةً أن يكون طالباً للحكم مع علمه بأنّه مقتولٌ قبل أن يدخل الكوفة!

كما تنفي أن تكون ثَمّة أهدافٌ ومقاصد مبيَّتةٌ عند الإمام (علیه السلام) يريد الوصول إليها كغاياتٍ تسوّغ ما يسمّونه الإقدام على القتل وبذل الدم

ص: 110

الزاكي وعرض الرسول المقدّس من أجله..

فإنّ ما يصوّرونه في مقام تسويغ ذلك لم يأتِ له أيُّ ذِكرٍ في هذه الخطبة تلويحاً ولا تصريحاً، إشارةً أو تفصيلاً، وإنّما اقتصرت الخطبة على بيان أنّ القوم (الوحوش) و(العسلان) مجتمعةٌ هناك في الفلاة المحدَّدة خارج العمران وبعيداً عن الأمصار، تريد قتله وتقطيع أوصاله، ليس إلّا.. فليس فيها ثَمّة هدفٌ ذكره الإمام (علیه السلام) من قريبٍ أو من بعيد!

أجل، ذكر الإمام (علیه السلام) صريحاً هدف الأعداء والذئاب العاوية الضارية المتوحّشة.. إنّها جاعَت وعطشَت وانتظرت تقطيع أوصاله المقدّسة.ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) لم يحشّد أصحابه الّذين خاطبهم إلّا في موضوعٍ واحدٍ لا غير.. إنّه دعاهم _ إن أرادوا الرحيل معه _ إلى بذل مهجهم فيه هو، وفي الذبّ عنه في مواجهة عسلان الفلوات الّتي تنتظره!

الفائدة التاسعة: الخطبة الوحيدة!

على فرض أن تكون الخطبة قد خطبها الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) في مكّة في الليلة الّتي خرج صبيحتها وغادر مكّة إلى العراق..

فإنّ الملفت فيها أن تكون هي الخطبة الوحيدة الّتي رُويَت لنا عنه (علیه السلام) في مكّة خلال فترة تشرُّف مكّة بوجوده، وقد ظهرت لنا بعد زهاء أربعة قرونٍ من شهادته، إذ أنّ أقدم رواتها زيديّون من أبناء القرن الخامس

ص: 111

الهجريّ!

فهي النشاط الوحيد _ كخطبةٍ للإمام (علیه السلام) _ خلال فترةٍ تزيد على الأربعة أشهر من مدّة إقامته (علیه السلام) في مكّة، وقد صرّح لفظ الحديث الّذي يرويه الزيديّ أنّها كانت في أصحابه، فليست هي خطبةٌ عامّةٌ إذن، وأنّها كانت ليلة خروجه (علیه السلام) .

ومَن كان يريد (القيام بالمعنى المصطلَح) يكتفي بهذه الخطبة فقط خلال هذه المدّة الطويلة؟ ولا يذكر فيها سوى أنّه مقتولٌ على كلّ حال،وأنّ مَن يلحق به لابدّ أن يكون باذلاً مهجته فيه موطّناً على لقاء الله نفْسَه؟

الفائدة العاشرة: لم تذكر الخطبة أَحَداً!

هذه الخطبة تُعدّ إعلاناً عن انطلاق حركة الإمام (علیه السلام) نحو العراق، وهو لم يتطرّق فيها إلى الحكم والحكّام والسلطة والسلطان والطاغوت والولاة، ولم يذكر أحداً بالاسم، ولم يستنهض أحداً على أحد، ولم يخاطب الأُمّة والمسلمين، ولم يجيّشهم، ولم يذكر فيها المبادئ والمعتقدات والأفكار والإسلام والشريعة، ولا أيّ عنوانٍ يمكن أن يكون فيه تحريضاً على أحدٍ أو تحريضاً لقضيّةٍ من القضايا..

واكتفى الإمام (علیه السلام) بذِكر ما سيؤول إليه أمرُه، وصرّح بخاتمة الرحلة

ص: 112

ونهايتها في الفلاة بتقطيع الذئاب العواسل أوصاله _ فداه العالَمين _..

ثمّ إنّه (علیه السلام) لم يذكر أهلَ الكوفة ورسائلهم ووعودهم، ولم ينوِّهْ إلى وجود أنصارٍ له ينتظرونه في العراق، ولم يذكر استجابته لدعوات مَن دعاه..

ومن الملفت أنّ الإمام (علیه السلام) يُعرِب فيها عن مدى اشتياقه إلى أسلافه، وهو بالقرب من تربتهم وقبورهم ومنازلهم ووطنهم وأرض ذكرياتهم ومواطئ أقدامهم!

بَيد أنّه يرى في الرحيل عن هذه التربة تحقيق اللقاء بهم.. فعمّا قريبٍسيحلّ في الفلاة الّتي تنتظره فيها عسلان العدوّ المتوحّشة فتقطّع أوصاله، وينطلق من هناك راحلاً إلى حظيرة القدس لتقرّ عينه بلقاء جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وتقرّ عينُ جدّه بالاجتماع به.

فهو إن أُكره على الهجرة عن تربة جدّه وأُمّه وأخيه (علیهم السلام) ، فإنّه سرعان ما سيلتقيهم ويرحل إليهم من تلك الفلاة المهولة.

بأبي أنت وأُمّي ومالي ونفسي وأهلي يا غريب الغرباء.. بأبي وأُمّي المستضعَف الغريب!

ص: 113

ص: 114

الخطبة الثانية!

قال العلّامة الحائريّ المازندرانيّ (رحمة الله) _ بعد أن روى الخطبةَ الأُولى المذكورة قبل قليل _ :

وخطب (علیه السلام) بعدها هذه الخطبة:

«إنّ الحِلمَ زينة، والوفاءَ مروّة، والصلةَ نعمة، والاستكبارَ صلف، والعجلةَ سَفَه، والسَّفَهَ ضعف، والغلوَّ ورطة، ومجالسةَ أهلِ الدناءةِ شرّ، ومجالسةَ أهلِ الفسقِ ريبة» ((1)).

إنّ هذه الخطبة رُويَت عن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، وقد رواها عنه (علیه السلام) : ابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق)، والذهبيُّ في (سيَر أعلام النبلاء)، والهنديّ في (كنز العمّال) ((2))، وغيرهم..

كما رواها عن الإمام الحسين (علیه السلام) : الحلوانيّ في (نزهة الناظر)، والأربليّ

ص: 115


1- معالي السبطَين للمازندارنيّ: 253 الفصل 5 المجلس 7.
2- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 13 / 259، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 263، كنز العمّال للهنديّ: 16 / 269 الرقم 44400.

في (كشف الغُمّة)، والزرنديّ في (معارج الوصول) ((1)) في سياق ذِكر كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) عموماً..

وهي كأنّها مقتطعةٌ من نصٍّ وليست خطبةً كاملة، ومضامينها لا تنتظم ولا تنسجم مع مضامين الخطبة الأُولى.

إنّ التأمُّل في محتوى الخطبة الثانية وعدم ارتباط مضامينها بمضامين الخطبة الأُولى، يقوّي الظنّ في أنّ مناسبة الخطبة الثانية بعيدةٌ عن مناسبة الخطبة الأُولى زماناً ومكاناً ((2)).

فهي على كلّ تقديرٍ لا علاقة لها _ من قريبٍ ولا من بعيدٍ _ بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ولا بقيامه.

وبهذا تبقى الخطبة الأُولى هي الخطبة الوحيدة اليتيمة في مكّة، على فرض أنّه (علیه السلام) خطبها في مكّة لا في كربلاء.

ص: 116


1- أُنظر: نزهة الناظر للحلوانيّ: 81، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 240، معارج الوصول للزرنديّ: 93.
2- مع الركب الحسينيّ: 2 / 81.

الإمام الحسين (علیه السلام) يتمثّل بشِعر يزيد بن المفرّغ وبغيره

المتون

البلاذريّ:

فأتى مكّة، وجعل يتمثّل قول الشاعر:

«لا ذعرت السوام في وضح الصب

مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

يرصدنني أنْ أحيدا»

ومضى الحسين إلى العراق، فقُتِل ((1)).

القاضي النعمان:وخرج الحسين يريد العراق، فلمّا مرّ بباب المسجد تمثّل بهذين البيتين:

ص: 117


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 318.

«لا ذعرت السوام في فلق الصب

مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

يرصدنني أنْ أحيدا»

[ ضبط الغريب: ]

السوام: النعَم السائمة، وأكثر ما يقولون هذا الاسم على الإبل خاصّة.

والسائمة: الراعية، الّتي تسوم الكلأ إذا داومَت رَعْيَه، وهي سوام، والرعاة يسومونها، أي: يرعونها.

وفي روايةٍ أُخرى تمثّل بهذين البيتين بالمدينة.

الزبير بن بكّار، بإسناده عن أبي سعيد المقبريّ قال:

رأيتُ الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، وأنّه لَيمشي بين رجُلَين يعمد على هذا مرّةً وعلى هذا مرّةً أُخرى، حتّى دخل مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقول:

«لا ذعرت السوام في فلق الصب

مغيراً، ولا دعيت يزيدايوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

يرصدنني أنْ أحيدا»

وهذان البيتان لابن المفرّغ الحِميَريّ، تمثّل بهما الحسين (علیه السلام) .

قال: فعلمتُ بذلك أنّه لا يلبث إلّا قليلاً حتّى يخرج، فما لبث إلّا قليلاً حتّى لحق بمكّة.

ص: 118

والخبر الأوّل عن الزبير بإسناده عن مجاهد بن الضحّاك، قال:

لمّا أراد الحسين (علیه السلام) الخروج من مكّة إلى العراق، مرّ بباب المسجد، فتمثّل بهذين البيتين، قال: لا ذعرت السوام..

وقد يكون قال ذلك في الموضعَين جميعاً ((1)).

الشجريّ:

قال: أخبرَنا القاضي أبو الحسين أحمد بن عليّ بن الحسين بن التوزي بقراءتي عليه، قال: أخبرَنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريّا بن يحيى بن حميد بن حمّاد الجريريّ قراءةً عليه، قال: حدّثَنا أبو بكر _ يعني محمّد بن الحسن بن دُريد الأزديّ _، قال: حدّثَنا الحسن بن خضر، عن أبيه قال:بلغَني أنّ عليّ بن الحسين (علیهما السلام) قال: «لمّا كانت الأيام الّتي قُتل فيها أبي، رماني الله بالحُمّى، وكانت عمّتي زينب تمرّضني، فلمّا كان في اليوم الّذي قُتِل في غده خلا أبي بأصحابه في فسطاطٍ كان يخلو فيه إذا أراد أن يشاور أصحابَه في شيء، فسمعتُه _ ورأسي في حِجْر عمّتي _ وهو يقول:

[ الخفيف ]

ص: 119


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 144.

لا ذعرت السوام في غلس الصب

مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى من خيفة الموت ضيماً

والمنايا

يرصدنني أنْ أحيدا»

قال: «أمّا أنا فردَدْتُ عَبرتي وتصبّرت، وأمّا عمّتي فإنّه أدركَها ما يدرك النساء من الضعف، فوضعَتْ رأسي على مرفقةٍ، ثمّ قامَتْ فمضت نحو أبي وهي تصيح: يا خليفة الماضين، وثُمالَ الباقين! استقبلتَ جعلني الله فداءك! فقال: يا أُخيّة، لو تُرِكَ القطا لَنام. فقالت: ذاك أسخَنُ لعيني وأحرُّ لكبدي، أتغتصب نفْسَك اغتصاباً يا أبا عبد الله؟ ثمّ سقطَتْ مغشيّاً عليها، فأقبل أبي يمسح الماء عن وجهها ويقول: وكان أمرُ الله قدراًمقدوراً، وكان أمراً مقضيّاً. فلمّا أقامَتْ قال: يا أُخيّة، إنّ أهل الأرض يموتون، وإنّ أهل السماء [لا] يبقون، إنّ أبي كان خيراً منّي، وأُمّي كانت خيراً منّي، وأخي كان خيراً منّي، فإذا أُصبتُ فلا تخمشي وجهاً ولا تحلقي شعراً، ولا تدعي بويلٍ ولا ثبور. ثمّ أخذ بيدها فردّها إلى موضعها وأجلسها، وأخذ رأسي فوضعه في حِجْرها» ((1)).

وروى الأبيات نفسها عند خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة ((2)).

ص: 120


1- الأمالي الخميسيّة للشجريّ: 1 / 232 الرقم 818.
2- الأمالي الخميسيّة للشجريّ: 1 / 243 الرقم 489.

إبن عساكر:

قال: وأنبأَنا الزبير، حدّثَني محمّد بن الضحّاك، قال:

خرج الحسين بن عليٍّ من مكّة إلى العراق، فلمّا مرّ بباب المسجد قال:

«لا ذعرت السوام في فلق الصب

مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

يرصدنني أنْ أحيدا» ((1))

إبن خلِّكان:فكان في تلك المدّة يتمثّل كثيراً بقول يزيد بن مفرّغ المذكور من جملة أبيات:

«لا ذعرت السوام في غلس الصب

-ح مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أُعطي على المخافة ضيماً

والمنايا يرصدنني أنْ أحيدا»

فعلم مَن سمع ذلك منه أنّه سينازع يزيد بن معاوية في الأمر ((2)).

إبن نما:

ورويتُ أنّ عبد الملك بن عُميرٍ قال: لمّا خرج الحسين (علیه السلام) من

ص: 121


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 204.
2- وفيات الأعيان لابن خلّكان: 6 / 353.

المسجد الحرام متوجّهاً إلى العراق، يقول إسماعيل بن مفرّغ الحِميريّ:

«لا ذعرت السوام في فلق الصب

مغيراً، ولا دعوت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

ترصدنني أنْ أحيدا»

وروى هذا الشعر محمّد بن جرير الطبريّ، عن عبد الملِك بن نوفل ابن ماحق، عن أبي سعيدٍ المنقري، وقيل: العبريّ ((1)).سبط ابن الجَوزيّ:

ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره، ولمّا أكثروا عليه أنشد أبيات أخي الأوس:

«سأمضي، فما في الموت عارٌ على

الفتى

إذا ما نوي خيراً وجاهد مغرما

وآسى الرجالَ الصالحين بنفْسِهِ

وفارق مثبوراً وخالف محرما

وإنْ عشتُ لم أُذمَمْ، وإنْ متُّ

لم أُلَم

كفى بك ذُلّاً أنْ تعيش وتُرغَما»

ص: 122


1- مثير الأحزان لابن نما: 19.

ثمّ قرأ: ﴿وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ ((1)) ((2)).

إبن كثير:

قال الزبير بن بكّار: وحدّثَني محمّد بن الضحّاك، قال: لمّا أراد الحسين الخروج من مكّة إلى الكوفة، مرّ بباب المسجد الحرام وقال:«لا ذعرت السوام في فلق الصب

مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

ترصدنني أنْ أحيدا» ((3))

* * * * *

يمكن اختصار الكلام عن هذه المتون في النكات التالية:

النكتة الأُولى: مواضع تمثُّلِ الإمام بهذه الأبيات

اشارة

تمثَّلَ الإمامُ غريب الغرباء (علیه السلام) بهذه الأبيات في ثلاث مواضع _ حسب ما ورد في المتون التاريخيّة _ :

ص: 123


1- سورة الأحزاب: 38.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزي: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
الموضع الأوّل: عند خروجه من المدينة

تمثّل سيّد الشهداء (علیه السلام) ببيتين ليزيد بن مفرّغ، وهو يمشي بين رجُلَين يعتمد على هذا مرّةً وعلى هذا مرّةً أُخرى، حتّى دخل مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو يقول:

«لا ذعرتُ

السوام في فلق الصبح

مغيراً، ولا دعيت يزيدا«لا ذعرتُ

السوام في فلق الصبح

مغيراً، ولا دعيت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا يرصدنني أن أحيدا» ((1))

وقد علم الراوي عند سماع الأبيات أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبر عن ملاحقته ليُقتَل، وأنّه سيخرج من المدينة قريباً..

قال: فقلتُ عند ذلك: إنّه لا يلبث إلّا قليلاً حتّى يخرج! فما لبث أن خرج فلحق بمكّة، فلمّا خرج من المدينة قال: ﴿فَخَرجَ مِنها خائِفاً يَتَرقَّبُ

ص: 124


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 368، تاريخ الطبريّ: 5 / 342، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 144، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الأرَب للنويريّ: 20 / 381، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 135، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2605، الأغاني لأبي الفرَج: 18 / 447، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 54.

قالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ القَومِ الظّالِمينَ﴾ ((1))، ولمّا توجّه نحو مكّة قال: ﴿وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلقَاءَ مَديَنَ قالَ عَسى رَبّي أن يَهديَني سَواءَ السَّبيلِ﴾ ((2)) ((3)).

والأبيات ليزيد بن مفرّغ، وقد قالها وهو مطلوبٌ لابن زياد لينتقم منه، في قصّةٍ طويلة ((4)).

فهذان البيتان اللذان تمثّل بهما الإمام (علیه السلام) يعبّران أصدق تعبيرٍ عن الظرف الّذي خرج فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة..

إنّه لم يذعر السوامّ الهائمة الهاجعة في مرعاها في فلق الصبح، ولم يدعبشيء، بَيد أنّه على يقينٍ أنّ المنايا ترصده بالتأكيد، وهي تريده أن لا يحيد عنها «أن أحيدا، أي: أن لا أحيد» ((5))، فهو مُلاحَقٌ لا لذنبٍ ولا لفعلٍ أتاه، مهدَّدٌ في نفسه وأهله وعياله..

سيّما أنّ الإمام (علیه السلام) تمثّل بأبياتٍ من قصيدةٍ طويلةٍ قالها شاعرٌ معاصرٌ

ص: 125


1- سورة القصص: 21.
2- سورة القصص: 22.
3- الأغاني لأبي الفرَج: 18 / 447.
4- أُنظر: ترجمة يزيد بن مفرغ وأخباره وقصصه في: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: 18 / 425.
5- أُنظر: السيرة لابن هشام: 3 / 771.

مطلوبٌ لابن الأَمة الفاجرة بالخصوص! ((1))

الموضع الثاني: عند خروجه من مكّة المكرّمة

قد لا يكون نصّ البلاذريّ صريحاً في إنشاد هذه الأبيات في مكّة، إذ أنّه يقول: «فأتى مكّة، وجعل يتمثّل قول الشاعر».. ثمّ يقول: «ومضى الحسين إلى العراق فقُتل» ((2)).

فربّما قيل: إنّه تمثّل بها في المدينة حين خرج منها خائفاً يترقّب، أو أنّه تمثّل بها في مكّة، وكِلا الاحتمالَين مُعتدٌّ به.

وصرّح ابن عساكر وابن كثير بإنشادهما في مكّة ((3)).

وجاءت عبارة الشيخ ابن نما مشوَّشة، بيد أنّها صريحةٌ أيضاً بالتمثُّل بهما في مكّة عند خروجه من المسجد الحرام متوجّهاً إلى العراق ((4)).أمّا القاضي النعمان فقد ذكر كِلا الموضعَين، أي: أنّه ذكر التمثُّل

ص: 126


1- أُنظر: ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة: 128.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 318.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 204، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
4- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 19.

بالأبيات في المدينة وفي مكّة، وكلاهما كان عند المسجد، مسجدِ النبيّ (صلی الله علیه و آله) في المدينة والمسجدِ الحرام في مكّة، وقال: وقد يكون قال ذلك في الموضعَين جميعاً ((1)).

أمّا سبط ابن الجَوزيّ فخبره يختلف تماماً ((2))، فلزم أن يعالَج منفرداً عن باقي المتون المذكورة.

الموضع الثالث: في كربلاء

ذكر الشجريّ التمثُّلَ بهما في موضعَين أيضاً، أحدهما في المدينة ((3)) والآخَر في كربلاء ليلة العاشر من المحرّم ((4))، وسيأتي الحديث عن ذلك في محلّه إن شاء الله (تعالى) إن بقي في العمر بقيّة.

الخلاصة:

ربّما كان الإمام الحسين (علیه السلام) يتمثّل بهما كثيراً ويكرّر التمثُّلَ بهما طيلة تلك الفترة، كما يستظهر من عبارة البلاذريّ، وصرّح به ابن خلّكان فقال:

ص: 127


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 144.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.
3- الأمالي الخميسيّة للشجريّ: 1 / 243 الرقم 489.
4- الأمالي الخميسيّة للشجريّ: 1 / 232 الرقم 818.

فكان في تلك المدّة يتمثّل كثيراً بقول يزيد بن مفرّغ المذكور من جملة أبيات ... ((1)).

وحينئذٍ يصحّ أن يكون قد تمثّل بهما في المدينة ومكّة وكربلاء، وهي مناسبةٌ لجميع هذه المواضع، تحكي غربةَ الإمام (علیه السلام) ومطاردة القوم الأشرار له في كلّ مكانٍ وزمان.. تماماً كما كان يذكر يحيى (علیه السلام) كلّما نزل منزلاً وكلّما ارتحل عن منزل ((2)).

النكتة الثانية: سموم المؤرّخ

قال ابن خلّكان بعد أن روى البيتين:

فعلم مَن سمع ذلك منه أنّه سينازع يزيد بن معاوية في الأمر ((3)).

ولا ندري من أين استفاد ابن خلّكان ما قرّره عمّن سمع ذلك منه (علیه السلام) ،

ص: 128


1- وفَيات الأعيان لابن خلِّكان: 6 / 353.
2- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 135، نور الثقلين للحويزيّ: 3 / 324، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 89، العوالم للبحرانيّ: 17 / 315، نفَس المهموم للقمّيّ: 185، كشف الغُمّة للإربليّ: 2 / 9، مختصر ابن منظور: 27 / 251، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 85، إعلام الورى للطبرسيّ: 218.
3- وفَيات الأعيان لابن خلّكان: 6 / 353.

وأنّه سينازع يزيد في الأمر!!!

فإن كان قد انتزع ذلك من مضمون الأبيات فقد أخطأ؛ إذ أنّها لا تفيد سوى أنّه مطارَدٌ مطلوب الدم من غير جُرم، وأنّه ملاحَقٌ من غير ذنبٍ ولا جريرةٍ ومن دون أن يثير أحداً أو يدّعي شيئاً، وقائلهما كان مطلوباً لابن الأَمة الفاجرة مطارَداً من قبله يريد قتلَه..

وإن كان قد انتزع ما زعمه من المتون التاريخيّة، فهي لا تفيد ذلك، فقد ورد في المصادر التاريخيّة أنّ الراوي الّذي سمعها من الإمام قال:

فعلمتُ أنّه لا يلبث إلّا قليلاً حتّى يخرج، فما لبث أنْ خرج حتّى لحق بمكّة ((1)).

وروى قوله الطبريّ وسبط ابن الجوزيّ أنّه قال:

فما مكث إلّا يومين حتّى بلغَني أنّه سار إلى مكّة ((2)).

فمَن سمعها ورواها وروى ما علم مِن تمثُّل الإمام (علیه السلام) إنّما هو واحدٌ في

ص: 129


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 368، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 145، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، تاريخ دمشق لابن عساكر: 14 / 204، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 136، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2605.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 342، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 135.

المصادر التاريخيّة، فيما تفيد عبارة ابن خلّكان العموم بنحوٍ ما!ثم إنّ ما فهمه وعلمه الراوي هو خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة، وأنّه سوف لا يلبث فيها بعد ذلك، وقد حصل الأمر كما توقّع.. وليس في كلام الراوي ما يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) سينازع يزيد الأمر!

إنّها تسريبات المؤرّخ حينما يريد أن يدلف إلى الأذهان ويتسلّل إلى القلوب والأفكار من خلال إلقاء فهمه وما يريد تمريره، فيصبّ ذلك في صياغةٍ مموّهة.

النكتة الثالثة: رواية سبط ابن الجَوزيّ

اشارة

في نصّ سبط ابن الجوزيّ ثلاثُ معلوماتٍ شذّ بها عن أضرابه ممّن روى تمثّل الإمام (علیه السلام) بأبياتٍ من الشعر عند رحيله عن مكّة:

المعلومة الأُولى: حزن مَن كان بمكّة لمسيره

جاء في المتن أنّه «لم يبقَ بمكّة إلّا مَن حَزِن لمسيره»..

ومفاد العبارة أنّ جميعَ من كان بمكّة حزن لمسير الإمام (علیه السلام) ، وهو يشمل أهل مكّة والحُجّاج والمعتمرين والمجاورين وكلَّ مَن دخلها يومذاك وكان فيها..

ص: 130

يبدو أنّها معلومةٌ غير صائبة، وصياغتها غير موفَّقة.. ولا ندري كيف عمّالحزن جميعَ مَن كان في مكّة؟ والحال أنّ ابن الزبير وأتباعه وأضرابهم فرحوا بذلك فرحاً شديداً، وباقي الناس كانوا يدوسون البيدر ولا يشعرون بشيء، بين طائفٍ وخارجٍ إلى منى ومعدٍّ لمناسك الحجّ، وأهل مكّة كانوا بين منغمسٍ في أعمال التجارة ومرتكسٍ في حياته اليوميّة الرتيبة..

أجل، حزن عددٌ معدودٌ من أمثال المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة وأُمّ سلَمة وغيرهما من أحباب سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

وربّما حزن آل أبي سفيان وأتباعهم وأشياعهم لِما فاتهم من اغتيال الإمام (علیه السلام) وفوات الفرصة عليهم في أخذه أو قتله في مكّة..

إنّه تهويلٌ بائسٌ وتعميمٌ فاشلٌ وتصويرٌ محبَطٌ مشوّش، ربّما حاول من خلاله التبرير لمن كان في مكّة يومها وحشرهم في الأحداث من خلال موقفٍ قد يعدّه المغفَّلُ إيجابيّاً..

والحال أنّه إنْ صدق فهو تجريمٌ لمن كان بمكّة يومها؛ إذ أنّهم اكتفوا بالحزن على مسير الإمام (علیه السلام) ولم ينصروه، ولم تبدر منهم بادرةٌ تكشف عن سماعهم لقوله (تعالى): ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ((1))، وغيرها من الآيات الكريمة وأقوال النبيّ (صلی الله علیه و آله) المظلوم في سبطه

ص: 131


1- سورة الشورى: 23.

وريحانته ودعوتهم إلى محبّته ونصرته..

وهو في ذات الوقت يديف الخبر المعسول بالسمّ الناقع من خلال عرض الأُمّة كلِّها في مكّة مخالِفةً للإمام (علیه السلام) ، لا ترى في مسيره سوى ما يدعو للحزن، إذ أنّهم اعترضوا عليه وأكثروا عليه فلم يسمع لهم!

هكذا عرضها سبط ابن الجَوزيّ بدهاءٍ ربّما يخفى على غير المتأمّل ما سيؤول إليه الخبر من خلال الحزن الّذي يغلّف الأجواء ويلفّ الأحداث.

نكتفي هنا بهذا القدر، فقد سبق أن أتينا على بيان ذلك في موضعٍ آخَر من هذه الدراسة، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله (تعالى).

المعلومة الثانية: الأبيات

تفيد باقي نصوص الباب أنّ الإمام (علیه السلام) تمثّل بأبيات ابن المفرّغ ابتداءً، سواء في المدينة أو في مكّة أو في كربلاء.. فيما يفيد نصّ سبط ابن الجوزيّ أنّ الإمام (علیه السلام) أجاب الناس وردّ عليهم بعد أن أكثروا عليه بأبيات أخي الأوس..

والمعهود في التاريخ أنّ الإمام (علیه السلام) تمثّل بأبيات أخي الأوس في غير هذا الموضع _ كما سيأتي في محلّه _، فربّما كان سبط ابن الجَوزيّ قد وظّفها هنا لما رآه من مناسبة، إذ أنّه تفرّد بذكرها هنا حسب فحصنا..

ص: 132

قال: «ولمّا أكثروا عليه، أنشد الأبيات ...»!

مَن هم الّذين أكثروا عليه؟!

يبدو من السياق أنّه يقصد مَن كان بمكّة، وهم الّذين حزنوا على مسيره..

فإن كان هؤلاء هم المقصودون، فهي مبالغةٌ وتهويلٌ مفضوحٌ غير مستساغ، وإن كان المقصود مَن اعترض على الإمام (علیه السلام) من أمثال ابن عبّاس وابن عمر، فهو جوابٌ شاذّ، وعلى كِلا التقديرَين فقد تفرّد سبط ابن الجَوزيّ بذلك ولم يذكره أحدٌ غيره.

أمّا الأبيات ودلالاتها فسيأتي الحديث في ذلك في محلّه إن شاء الله.

المعلومة الثالثة: تلاوة الآية

ثمّ قرأ: ﴿وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ ((1)) ((2)).

ورد تلاوة هذه الآية _ من سورة الأحزاب _ في الحديث الآنِف الذكر الّذي رواه الشجريّ، وكانت أحداث الخبر تدور في كربلاء، أمّا تلاوة الآية في مكّة في هذا الموضع بالذات، فهو ممّا تفرّد به سبط ابن الجوزيّ حسب

ص: 133


1- سورة الأحزاب: 38.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.

الفحص.

وهو قول الله الحقّ الّذي لا ريب فيه، فإذا تلاها الإمام (علیه السلام) فهي الحقّ الصادر عن الحقّ، ولا محيص عن يومٍ خطّ بالقلم.

أجل، ربّما كان في توظيف سبط ابن الجَوزيّ لها هنا _ إن كان مقصوداً _ فيه إشاراتٌ غير مرضية، كأنّها تصبّ في سياق ما روّج له الأمويّون من سريان القضاء والقدَر الإلهيّ على نحو الجبر الّذي يسوّغ لهم ما فعلوه ويبرّر لهم جناياتهم وعظيم ما ارتكبوه من هتك الحرمات.

النكتة الرابعة: إنشاد الأبيات على باب المسجد

تمثّل الإمام (علیه السلام) بهذه الأبيات في المدينة عند مسجد جدّه وفي مكّة عند المسجد الحرام.. وهي لشاعرٍ معاصرٍ محاصَرٍ مِن قِبل ابن الأَمة الفاجرة..

ربّما كان لاختيار هذه المواضع بالذات للتمثُّل بهذه الأبيات باعتبار أنّ هذين المسجدَين ومكانهما في حرم الله وحرم رسوله هما موضع الأمن والأمان ورعاية الحرمات لمن لم يُحدِث فيهما حدَثاً، فإذا تعرّض فيهما البريء الآمِن الّذي لم يهج سائمةً ولم يدّع شيئاً ولم يُحدِث حدَثاً، فالنظر إليهما ودخولهما على وجَلٍ وترقُّبٍ وحذرٍ من القتل والاغتيال يثير في قلب

ص: 134

المراقب الأسى والحزن لمن تعرّض لهذا الهتك..

كيف والمحاصَر المهدَّد الملاحَق المطوَّق بسهام المنيّة الغاربة هو حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) وحجّة الله على العالمين؟!

النكتة الخامسة: تكرار الأبيات في المواضع

بناءً على تكرار الأبيات نفسها في المواضع الثلاثة المذكورة آنفاً _ وهو ليس ببعيد، ويشهد له ما ذكره ابن خلّكان: «فكان في تلك المدّة يتمثّل كثيراً بقول يزيد بن مفرّغ» ((1)) _، فهو يعني أنّ موقف الإمام (علیه السلام) كان واحداً في المدينة ومكّة وكربلاء، وكان هذان البيتان يعبّران عن عمق الفاجعة وشدّة المضايقة وإطباق الحصار على الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) من دون موقفٍ مثيرٍ مِن قِبَله، وإنّما هو طغيان العدوّ وتجبُّرُه وعتوُّه وتكبّره على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى إمام زمانه، وعزمه وإقدامه ومبادرته بكلّ صلف وجرأةٍ ووقاحةٍ ووحشيّةٍ على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) !

ص: 135


1- وفَيات الأعيان لابن خلِّكان: 6 / 353.

ص: 136

مروان بن الحكَم والوليد بن عُتبة وعمرو بن سعيد يكتبون إلى ابن زياد في أمر الحسين (علیه السلام)

كتاب مروان

اشارة

• فكتب مروان إلى عُبيد الله بن زياد:

أمّا بعد، فإنّ الحسين بن عليٍّ قد توجّه إليك، وهو الحسين ابن فاطمة، وفاطمةُ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وبالله ما أحَدٌ يسلّمه اللهُ أحبّ إلينا من الحسين، فإيّاك أن تهيج على نفسك ما لا يسدّه شيء، ولا تنساه العامّةُ ولا تدَعْ ذِكره، والسلام ((1)).

ص: 137


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62، عنه: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمُزّي: 6 / 422، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.

• فكتب مروان إلى عُبيد الله بن زياد أميرِ الكوفة:

أمّا بعد، فإنّ الحسين قد توجّه إليك، وتالله ما أحَدٌ أحبُّ إلينا سلمةً من الحسين، فإيّاك أن تفتح على الحسين ما لا يسدّه شيء ((1)).

* * * * *

روى ابن سعدٍ في هذا الخبر خروجَ الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة يوم عشرة ذي الحجّة، وروى الجميع هذا الخبر عن ابن سعدٍ بما فيه تاريخَ الخروج.

والذهبيّ يروي عن ابن سعدٍ أيضاً باختلافٍ لا يُعدّ كبيراً على عادته في الاختزال والاختصار والنقل بالمعنى وغيرها من التصرّفات الّتي تحلو له وتناغم خلفيّاته وطرائقه.

ويمكن نكز هذا الخبر بعدّة نكزات:

النكزة الأُولى: التشابه الشديد مع كتاب الوليد!

يُلاحَظ مدى الشبه الشديد بين متن هذا الكتاب المنسوب إلى مروان وبين الكتاب المنسوب إلى الوليد، كما سنراه بعد قليل.

ص: 138


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205.

وهذا الشبَه الشديد يرجّح الظنّ أن يكون ثَمّة سهوٌ أو اشتباهٌ قد وقع في نسبة الكتاب إلى مروان، وإنْ كان المتنان يرويهما ابن سعد.

هذا على فرض حُسن الظنّ وعدم الالتفات إلى احتمال الوضع للأغراض الخاصّة!

والّذي يدعونا إلى احتمال الخطأ والسهو والاشتباه في نسبة الكتاب إلى مروان ما سنسمعه بعد قليل.

النكزة الثانية: سلوك مروان ومواقفه

لا نريد التوسّع هنا في بيان مواقف مروان الوزغ ابن الوزغ اللئيم اللعين على لسان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، بَيد أنّ مَن يراجع سيرته العفنة _ على عجَلٍ _ في التاريخ، يعرف مدى خساسة عنصره ونذالته وعداوته وحقده وضغينته على الحقّ وأهل الحق، وعلى الرسول وآل الرسول، وعلى أمير المؤمنين عليٍّ وآله (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومدى حقده وبغضه وعداوته لشخص الإمام الحسين سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وشماتته به وبرسول الله (صلی الله علیه و آله) !

ويكفي لمعرفة ذلك موقفه مع الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) في بلاط الوليد، حين أشار على الوليد بقتله فوراً، وأمر بقتله وبادر إلى ذلك بنفسه.

وليس مثل هذا الخبيث الرجس الوقح مَن يكتب مُوصياً بأبي عبد اللهالحسين (علیه السلام) ، وهو يتوثّب لقتله والولوغ بدمه الزاكي!

ص: 139

فالكتاب _ حسب ما يفيد ظاهره _ يناقض تماماً سيرة مروان وسلوكه وأخلاقه ودوافعه وتمنّياته في عداوته للنبيّ وآل النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

النكزة الثالثة: إمكان حمل الكتاب على النفاق

يمكن حمل مضامين الكتاب وما حمله من توصياتٍ بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) على النفاق الأُمويّ المعهود، فهم يتظاهرون بحبّ النبيّ وآله، بل يصفون أنفسهم بالقرابة ويزعمون أنّهم أقرب إلى النبيّ والعترة مِن غيرهم، كما هو دأب أتباعهم وأشياعهم إلى اليوم.. ثمّ يمارسون أبشع الجرائم وأسوأ أساليب الحقد والضغينة وأردأ ألوان الشماتة.

النكزة الرابعة: حمل الكتاب على التوصية بالعكس

إن صحّت نسبة الكتاب إلى مروان، ونحن نعرف مروان ابن الزرقاء آكلة القُمّل دبّاغة الأدم، كما يعرفه التاريخ والناس أجمعون، فلا يبعد _ والحال هذه _ أن تُحمَل توصياته في الكتاب على عكس ما صرّح به، وهو يعلم أنّه يخاطب ابن الأَمة الفاجرة ربيب قرود الدعارة المتغذّي على دمنها والناشئ في دنان خمورها في خيام البغايا ذوات الرايات، وهمايفهمان بعضهما بعضاً ويدرك بعضهما مقاصد بعضٍ ومراميه..

وقد رأينا ذلك وعشنا في زماننا هذا صوراً لمثل هذا السلوك، إذ يخرج

ص: 140

إلى الناس ما يفيد التوصية بأحد الأشخاص، فيفهم المأمورُ منه خلافَ ما خرج إلى الناس ويمارسه، فيُكافَأ على فعلته ((1)).

فكأنّه ذكّر جروهم أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) هو ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) الّذي كنتَ تتمنّى أن تظفر به فتأخذَ منه ثأرك وتنتقم منه وتفرغ جام حقدك وغضبك عليه وعلى ذرّيّته، وأنت تعلم أنّنا لا نحبّ له السلامة، فإيّاك أن تهيج على نفسك ما لا يسدّه شيءٌ عندنا، وعليك به، وتعامل معه معاملةً لا تنساه العامّة، ولا تدَعْ ذِكره حتّى يكون ذكراً في العالمين على مرّ الدهور وكرّ العصور.

نحسب أنّ تفسير كتابه _ على فرض صحّة صدوره عنه _ بهذا المعنى

ص: 141


1- لا زلتُ أستشعر الألم والوجع والأسى يوم ساقوني إلى مديريّة الأمن العامّة في بغداد، في عهد الطاغوت اللعين عدوّ أهل البيت (علیهم السلام) صدّام حسين، فتمّ تسليمي من جلاوزة مديريّة أمن النجف الأشرف إلى جلاوزة الأمن في بغداد، ولا زال صوت الجلواز النجفيّ يطنّ في أذني _ لأنّي كنتُ معصوب العين، فكنتُ أسمع ولا أرى _ وهو يوصي بي صاحبَه ويركّز في وصيّته على يديّ ويقول: اهتمّ به، فقد تعب في النجف ويحتاج إلى راحةٍ ومداراة! فأنعَمَ له صاحبُه وراح يباشر تنفيذ الوصيّة، فجمع أناملي جمعاً خبيراً وطواها إلى الداخل، وجعل يضغطها بشكلٍ مروّعٍ لا يُحتمَل، ويدخل شفرةً غير حادّةٍ بين أظافري ولحم الأصابع ويحاول العزل بينهما، وهو يقودني إلى مبنى السجن!

أوفق وأصحّ وأقوى؛ لما نعرفه من ابن الزرقاء آكلة القمّل دباغة الأدمالبغيّ الرخيصة النتنة.

النكزة الخامسة: النفيُ أَولى من الإثبات

يبدو أنّ هذا الخبر قد تفرّد به ابن سعد، وكلُّ مَن جاء مِن بعده إنّما روى عنه.

ولو فرضنا أنّ ابن سعدٍ لم يتفرّد به، بل رواه جماعةٌ من الرواة والمؤرّخين، فإنّ نفي هذا الخبر البائس أوفقُ مِن إثباته وفق الموازين الّتي ذكرناها في بحث (المدخل) من (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة) وكتاب (السيّدة بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))..

إذ أنّ مؤدّى هذا الخبر هو تلميع صورة مروان الكالحة وعرضه في صورة مَن يوصي بسيّد الشهداء وحبيب الله وحبيب رسوله على خلاف سيرته وسريرته الّتي تحكيها علانيته.

ولو صحّت النسبة، فلا حاجة لنا بمثل هذه المتون البائسة الموبوءة الّتي تقلب الحقيقة، ولا يمكننا أن نصدّق صحّة الدوافع وسلامة البواعث إلى كتابة مثل هذا الكتاب.

فلا كرامة لمروان ليُحمَل على محمَلٍ حسن، ولا كرامة للمؤرّخ الّذي

ص: 142

يسعى جاهداً لتلميع صورة مثل هؤلاء المسوخ.

كتاب عمرو بن سعيد

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص:

أمّا بعد، فقد توجّه إليك الحسين، وفي مِثلِها تُعتَق، أو تُستَرَقّ كما تُستَرقّ العبيد ((1)).

كتب يزيد الفجور إلى ابن زيادٍ كتاباً يشبه في المضمون كتاب عمرو ابن سعيد، يهدّده فيه ويقول له: وعندها تُعتَق أو تعود عبداً كما تُعبَّد العبيد ((2)).

ص: 143


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62، عنه: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمُزّي: 6 / 422، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205.
2- أُنظر: نسب قريش للزبيريّ: 127، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 305، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 104، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 10، الوافي بالوفيات للصفديّ: 12 / 263، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 178، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، مثير الأحزان لابن نما: 29، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 360.

وكان عمرو بن سعيد _ هذا العاتي المتجبّر المتكبّر الطاغوت الأرعن _ والياً على المدينة ومكّة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من الحرم، وقد أتينا على ترجمته وشرح حاله فيما مضى من البحث.

فهو ذو صفةٍ رسميّة، وهو من الشجرة الملعونة في القرآن، وهو الغشوم الظلوم المتجاهر بالعداوة والبغضاء وسبّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فمن الطبيعيّ أن يكتب إلى عبيد القرود كتاباً يبيّن له فيه تكليفه ويناوله مسؤوليّة ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) وتنفيذ حكم سائسهم يزيد فيه بعد أن خرج الإمام (علیه السلام) من نطاق ولايته متوجّهاً إلى العراق، وهو نطاقولاية ابن الأَمة الفاجرة.

ولمّا كان المضمون قريباً جدّاً من كتاب يزيد الخمور، سنأتي على تفصيل الكلام فيه هناك إن شاء الله (تعالى).

ونكتفي بالإشارة هنا إلى أنّ الأُمويّين كانوا يتظاهرون على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويحاصرونه ويلاحقونه في جميع الأصقاع، وقد عزموا على ذلك، وكان يزيد قد عيّن ولاته في الأمصار الّتي يمكن أن يُلاحَق فيها الإمام (علیه السلام)

ص: 144

وفق مراده، ومن نفس سنخه، بعد أن علم طاعتهم له وانبعاثهم من مقلع الرجس والنجس الّذي ينبعث هو منه، وأنّهم لهم ثاراتهم وأحقادهم الذاتيّة على حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) .. ففي مكّة والمدينة عمرو بن سعيد، وفي العراق ابن الأَمة الفاجرة، وهو في الشام..

لقد عاجلهم الإمامُ (علیه السلام) وبادر إلى الخروج من حرم الله وحرم رسوله، ففاتت الفرصة على الأشدق ولم يتمكّن من اغتيال الإمام أو قتله أو أخذه في الحرمين، فكتب إلى ابن الأَمة الفاجرة بذلك يهدّده، لئلّا يفوته في العراق أيضاً!

يكشف هذا الكتاب عن مدى حقد الأشدق وإصراره على هتك حرمةالدم الزاكي وتوثُّبه إلى قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

كما يكشف عن عزمه على قتل الإمام (علیه السلام) وتطلّعه إلى تنفيذ ذلك، بَيد أنّ الأمر قد خرج من يده بعد خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة..

ويكشف عن حكمة تعجّل الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) في الخروج من مكّة الحرمِ الآمن للعالمين..

ويكشف أيضاً بوضوحٍ ملاحقة الأشرار لإمام السعداء والأخيار، وأنّهم يريدون قتله من دون أن تبدر منه بادرةٌ تدعوهم لذلك، وأنّهم هم الّذين هاجموه وطاردوه ولاحقوه، وأنّهم سوف لن يتركوه، ولو كان في جُحر هامّةٍ

ص: 145

من هوامّ الأرض لَتتبّعوه حتّى يُخرجوه ليقتلوه، كما قال هو (فداه روحي).

كتاب الوليد بن عُتبة

اشارة

روى ابن أعثم كتاباً نسبه إلى الوليد بن عتبة أميرِ المدينة، ورواه أيضاً الخوارزميّ الّذي اعتاد النقل عن ابن أعثم، بَيد أنّ في لفظ ابن أعثم ((1))شيءٌ من الارتباك، فاخترنا لفظ الخوارزميّ:

قال: واتّصل الخبرُ بالوليد بن عُتبة أميرِ المدينة بأنّ الحسين بن عليٍّ توجّه إلى العراق، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد:

أمّا بعد، فإنّ الحسين بن عليٍّ قد توجّه إلى العراق، وهو ابن فاطمة البتول، وفاطمةُ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فاحذَرْ يا ابن زيادٍ أن تأتي

ص: 146


1- لفظ ابن أعثم هو: قال: واتّصل الخبرُ بالوليد بن عتبة أميرِ المدينة بأنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد: بسم الله الرحمن الرحيم. من الوليد بن عُتبة إلى عُبيد الله بن زياد، أمّا بعد، فإنّ الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، وهو ابنُ فاطمة، وفاطمةُ ابنةُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فاحذَرْ يا ابن زيادٍ أن تبعث إليه رسولاً، فتفتح على نفسك ما لا تختار من الخاصّ والعام، والسلام. قال: فلم يلتفت عُبيدُ الله بن زياد إلى الكتاب.

إليه بسوء، فتهيج على نفسك في هذه الدنيا ما لا يسدّه شيء، ولا تنساه الخاصّةُ والعامّةُ أبداً مادامَتِ الدنيا.

قال: فلم يلتفت عدوُّ الله إلى كتاب الوليد بن عُتبة ((1)).

* * * * *

يمكن تسجيل عدّة نقاطٍ على هذا المتن:

النقطة الأُولى: الوليد المعزول!

يبدو أنّ ثَمّة اشتباهاً أو سهواً وقع عند ابن أعثم والخوارزميّ، إذ أنّ الوليد كان قد عُزل عن ولاية المدينة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إلّا أن يقال: إنّهما نسباه إلى ولاية المدينة باعتبار أنّه كان ولايته عليها قبل فترةٍوجيزة.

فإذا كان الوليد قد عُزل عن ولاية المدينة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، فما دعاه إلى الكتابة؟ وبأيّ صفةٍ كتب إلى ابن زيادٍ الوالي

ص: 147


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 121، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 221، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 234، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 368، العوالم للبحرانيّ: 17 / 218، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 240، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247، نفَس المهموم للقمّيّ: 175، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 256.

الرسميّ من قبل قرد الشام؟

إلّا أن يُقال: إنّ الأفراد البارزين من ذوي النفوذ في الأُسرة الحاكمة المتسلّطة من آل أُميّة كانوا يُبدون الرأي ويتدخّلون في المساحات المسموح بها.

النقطة الثانية: المقصود من التحذير

لمّا كنّا نعرف جيّداً آلَ أُميّة عموماً وشخصَ الوليد بن عُتبة بالذات، فلابدّ أن نفهم كلامه من خلال معرفتنا، فهم العتاة المردة والطواغيت المتربّصون بالنبيّ وآل النبي، وهم مقلع الشرّ وجذر الرجس وأصل النجس، فلا يمكن والحال هذه حملُ كلماتهم إلّا على ما ينسجم مع واقعهم وحقيقتهم، ولا يمكن فهم مرادهم إلّا وفق ما يطفح منهم ويلائم ما وشَجَت عليه أعراقهم ونمَتْ عليه فروعهم من الحقد والضغينة والشماتة والانتقام والعداوة لمعادن الطهر وأُصول الخير محمّدٍ وآل محمد (صلی الله علیه و آله) ..

ولمّا كان الوليد من الشجرة الملعونة في القرآن، وقد ورد لعنُ آل أُميّةقاطبة، فلا يمكن حمل ما ورد في كتابه على ظاهره على نحو الإطلاق، ولابدّ من توجيهه بما يتماهى وينسجم مع تكوينه..

فهو إمّا باحثٌ عن مصلحته ومصلحة آل أُميّة..

ص: 148

أو أن يُحمَل التحذير بما ينسجم مع العبارة الواردة في الكتاب، فيُقال:

لم يكن التحذير عن القتل مطلقاً، وإنّما عن القتل والتعامل معه بهذه الصورة الّتي أبداها له: «فتهيج على نفسك في هذه الدنيا ما لا يسدّه شيء، ولا تنساه الخاصّةُ والعامّةُ أبداً مادامَتِ الدنيا».

فهو قد لا يختلف معه إنْ أقدم على قتله غِيلةً أو بطريقةٍ تنساه العامّة وتدَعْ ذِكره بعد حين، ولا تفتح عليه ما لا يسدّه شيء، وإنّما يختلف معه في أن يقتله قتلةً تبقى سُبّةً عليهم أبد الآبدين.. فهم متّفقون لا يختلفون على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما يختلفون في طريقة تنفيذ ذلك، ليس إلّا!

النقطة الثالثة: النفاق الأُمويّ المعروف

زعم في كتابه أن ليس أحدٌ يسلّمه الله أحبّ إليهم من الحسين (علیه السلام) ، فهو إن كان محمولاً على ظاهره وليس يستبطن خبثاً مشفّراً يفهمه ابن الأَمة الفاجرة، فإنّه من النفاق والتبذّل والكذب المعرّق في الأُمويّين وأتباعهم قديماً وحديثاً إلى يوم الناس هذا..سيّما حين نسمعه يتكلّم بصيغة الجمع (أحبّ إلينا)، فعلى مَن يعود ضمير الجمع؟

إمّا أن يكون تعظيماً لنفسه، وإمّا أن يكون حاكياً عن الأُمويّين، والواقع يشهد بكذبه على كِلا التقديرين.

ص: 149

النقطة الرابعة: تسجيل موقف!

على فرض صدور هذا الكتاب من الوليد، فإنّ الوليد ليس له صفةٌ رسميّةٌ بعد عزله، وإنّما هو واحدٌ من أفراد العائلة المالكة، وابن زيادٍ والٍ محكومٌ وعبدٌ خانعٌ من عبيد السلطان، لا يرعوي ولا يبالي بأحَدٍ ما أرضى السلطان عنه.. مضافاً إلى دوافعه الذاتيّة في قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

وليس هذا الأمر ممّا يخفى على مِثل الوليد، وهو يعلم جازماً أنّ ابن زيادٍ سوف لا يلتفت إليه، وسيمضي في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسيحقّق بالتالي ما يصبو إليه الوليد وغيره من آل أُميّة ويسعى إليه، فأراد بهذا الكتاب تسجيل موقفٍ قد ينطلي على المغفّل الّذي لا يعرف بني أُميّة وسلوكيّاتهم وأخلاقهم وشرورهم، فيظنّه موقفاً فيه شيءٌ من النبل والتعفّف، ويحمد له ذلك، ويخاله موقفاً كريماً سجّله التاريخ لفردٍ من أفراد الشجرة الملعونة في القرآن.إنّه الدهاء الأُموي المنكَر، ويشهد له ما سنسمعه في النقطة التالية.

النقطة الخامسة: تجاهل ردّ ابن زياد

إنّ مَن سجّل الكتاب تجاهل الردّ والجواب، وتجاهل تسجيل موقف ابن زياد من ذلك.

ص: 150

وقد تجاهل ابن زيادٍ الكتاب وصاحبه بالفعل، وأقدم كالحديدة المحماة في تحقيق مآربه الذاتيّة وأوامر سيّده وسائسه يزيد القرود.

فلابن زيادٍ دوافعه ومحركاته الخاصّة والعامّة، مضافاً إليها أنّ الوليد المعزول لا يعدّ رقماً ذا بالٍ يدعو ابن زيادٍ إلى الاهتمام به والالتفات إليه.

والوليد أيضاً يعلم ذلك جيّداً، ويعلم أنّ كتابه سوف لا يُجدي نفعاً ولا يترك أثراً على ابن زيادٍ ولا على سائسه يزيد، بَيد أنّه سجّل موقفاً ذكروه، إنْ كان هذا الكتاب قد صدر عنه بالفعل.

ص: 151

ص: 152

كتاب عمرو بن سعيد ليزيد

قال الشيخ ابن نما:

ورويتُ أنّ عبد الملك بن عُميرٍ قال:

كتب عمرو بن سعيدٍ _ وهو والي المدينة _ بأمر الحسين (علیه السلام) إلى يزيد، فلمّا قرأ الكتاب تمثّلَ بهذا البيت:

فإنْ لم [خ ل: لا] تزر أرض [خ ل: قبر] العدوّ وتأته

يزُركَ عدوٌّ أو

يلومنك كاشِحُ ((1))

* * * * *

ذكر الشيخ (رحمة الله) هذا الخبر بعد منزل الثعلبيّة، وقبل ذكر وصول خبر شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

ولا يسعنا التحرّي والتثبُّت من زمن كتابة الكتاب، ولا زمن ردّ الجواب، إذ أنّ الخبر لم نجده عند غير الشيخ ابن نما _ حسب فحصنا _، ولم نجد مَن يرويه عنه غير السيّد الأمين.

ص: 153


1- مثير الأحزان لابن نما: 22، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 594.

فالخبر مبتلىً بالإرسال والتفرُّد وإعراض العلماء والمؤرّخين عنه!

فهل كان الأشدق قد كتب الكتاب إلى يزيد بعد فترةٍ طويلةٍ من خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة؟!

أو أنّه كتبه له إبان خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، بَيد أنّ الشيخ تأخّر في ذِكره إلى ما بعد منزل الثعلبيّة؟

ولماذا ذكر الوالي بعنوانه والي المدينة، والحال أنّه كان والي مكّة أيضاً، وكان منطلق الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة؟!

على أنّ ما حكاه عن الكتاب ليس فيه ما يفيد من قريبٍ ولا من بعيدٍ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، وإنّما غاية ما يفيده أنّه كتب إليه بأمر الإمام (علیه السلام) على وجه العموم.

أجل، قد يفاد من السياق وجواب يزيد أنّه كان يخبره عن أمر الإمام (علیه السلام) في خروجه من مكّة.

كيف كان، فليس المهمّ كتاب الوالي، وإنّما المهمّ جواب يزيد!

أمّا جواب يزيد الغاوي العنيد، فخلاصته:

كأنّه يقول _ شُلّ لسانه وبُتر بنانه _:

إنّنا أمام عدوّ، فإن لم نباغته ونهاجمه في أرضه ونقضي عليه في عقرداره، فإنّه سيهاجمنا، وحينها نستحقّ لوم الكاشحين..

ص: 154

هذا هو مؤدّى البيت الّذي ردّ فيه يزيد على كتاب الوالي، وهو يفيد بوضوحٍ لا غبار عليه:

إنّ يزيد الخمور والفجور قد عزم على الفتك بابن رسول الله والقضاء عليه ومهاجمته، بزعم أنّه إن لم يفعل ذلك فإنّه سيكون ملوماً محسوراً..

وهذه الفرية القبيحة المقذعة الهابطة الّتي تبنّاها يزيد الخلاعة منذ اليوم الأوّل في محاولة رمي الإمام الطاهر الطُّهر بها، وإقناع الآخَرين أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) يريد مهاجمته وانتزاع السلطة منه، ليوجد المسوّغ والمبرّر، ويضلّل به مَن حضر ومَن بلغه ذلك وانخدع به، إذ أنّه يمثّل السلطان والحكم، وقد بايعه الناس أجمعون، والملك عقيم، فهو صاحب الحكم الشرعيّ، والخروج عليه خروجٌ على الشرعيّة، وبذلك يوجِدُ الذريعةَ لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. وقد أتينا على بيان ذلك في مواضع كثيرةٍ من هذه الدراسة.

والخلاصة في كلمة:

يشهد هذا الجواب على أنّ يزيد آل أُميّة هو المبادِر المباشِر المتقدِّم لقتال الإمام والعازم على قتله، وليس الإمام إلّا في مقام الدفاع عن نفسه!

ص: 155

ص: 156

كتاب يزيد إلى ابن زياد بعد توجّهه (علیه السلام) إلى العراق

اشارة

عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة أو بعد خروجه، كتب يزيدُ إلى واليه على الكوفة كتباً، نحاول دراستها هنا..

وقت ارسال الكتاب وسببه

اشارة

تنقسم عمدة المصادر إلى قسمَين في بيان وقت إرسال كتاب يزيد وسببه:

القسم الأوّل: عند خروج الحسين (علیه السلام) من مكّة

إتّفقَت هذه المجموعة على أنّ يزيد كتب الكتاب إلى جروه ابن زيادٍ عند خروج سيّد الشهداء من مكّة أو بعد خروجه، فبعضهم عبّر: «وخرج

ص: 157

الحسين إلى الكوفة.. فكتب يزيد» ((1))، ومنهم مَن عبّر: «وبلغ يزيدَ خروجُه، فكتب» ((2))، وقال ثالث: «فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل» ((3))، وقال اليعقوبيّ: «وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّى عُبيدَ الله بن زياد العراق، وكتب إليه» ((4)).

بَيد أنّ بعضهم وصف حالة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) عند خروجه في صياغةٍ تحكي علّه خروجه، من قبيل مصعب الزبيريّ وتبعه آخَرون، فقالوا: «وخرج الحسين بن عليٍّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد..» ((5)).

ص: 158


1- نسب قريش للزبيريّ: 127، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381 _ 382، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، و28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 213، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، كفاية الطالب: 430، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.
3- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
4- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 242.
5- نسب قريش للزبيريّ: 127، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381 _ 382، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، و28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.

والظاهر أنّ هذا الوصف تحليلٌ من الزبيريّ (الحاقد)، وتبرُّعٌ منه لتفسير امتناع سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة وخروجه من المدينة بعد أن لاحقوه وأزعجوه وهدّدوه، وخروجه من مكّة بعد أن خذلوه ولم يحبّوه، متوجّهاً إلى مصرٍ وعَدَه بعضُ أهله بالنصرة والدفاع عنه.. تماماً كما هو قول يزيد الّذي اعتبر الالتواء على البيعة واللحاق بمكّة سعيٌ في الفتنة وشقّ العصا وتعرّضاً للهلكة ((1)).

وقد امتاز نصّ الزبيريّ عن غيره بقوله: «فزعموا أنّ يزيد كتب» ((2))، كما اختصر متنَ الكتاب اختصاراً شديداً بالقياس إلى باقي المتون الواردةفي المصادر الأُخرى، وربّما كشف ذلك عن كوامن الزبيريّ الّذي يحاول أن يعرض المشهد في صورةٍ تبرّر موقف أسياده ويهوّن جناية الجاني ويخفّف من ظليمة المظلوم.

ص: 159


1- أُنظر: الأمالي للشجريّ: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 136.
2- نسب قريش للزبيريّ: 127.
القسم الثاني: عند وصول خبر شهادة مسلم وهاني
اشارة

القسم الثاني من المصادر _ وهي كثيرة، ربّما كان أوّلهم البلاذريّ، ثمّ الدينوريّ، وهلُمّ جرّاً _ رووا جميعاً أنّ الجرو الأُمويّ ابن زيادٍ كتب إلى سائسه يزيد القرود بقتل مسلم وهانئ، وأنفذ إليه برأسَيهما ورأسِ ابن صلخب وما فعل بهم، فكتب إليه يزيد.. ((1)).

يبدو أنّ هذا القسم لا يتعارض مع ما ورد في القسم الأوّل بلفظ: «وبلغ يزيدَ خروجُه، فكتب» ((2))، كما لا يتعارض مع لفظ: «فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل» ((3))، فهذان اللفظان يفيدان أنّ خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بلغ يزيد فعلم به فكتب الكتاب، ولا يمنع أن يكون قد بلغه من خلال الرسولَين اللذَين أنفذهما جروه بنبأ شهادة مسلم وهاني.

ص: 160


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242، تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381، الفتوح لابن أعثم: 5 / 108، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 94.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 213، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، كفاية الطالب: 430، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.
3- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.

يبقى الكلام في لفظ ابن سعدٍ ومَن تلاه، ويمكن الجمع بينهما من خلال التصوّرات التالية:

التصوُّر الأوّل: أن يكون أرسل كتابَين

ربّما أرسل الطاغي كتابين إلى جروه، أحدهما عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، والآخَر عند بلوغه خبر شهادة المولى الغريب وهاني، ويشهد لهذا الاحتمال ما سنسمعه بعد قليلٍ من وجود نصَّين للكتاب روى مَن وقّت الكتاب بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) لفظاً، وروى الآخَرون لفظاً فيه مقدّمةٌ يشكر فيها جروه على ما فعله بالمولى الغريب (علیه السلام) وأصحابه، وروى بعضهم اللفظين معاً.

وهو ما فهمه الشيخ أسد حيدر (رحمة الله) ، قال:

وكان يزيد على أحرّ من الجمرة وينتظر النتائج، إذ وافاه البشير بورود النبأ مع هانئ بن حيّة الوادعيّ والزبير بن الأروع التميميّ يحملان رأسَي البطلَين مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (علیهما السلام) ، ومعهما كتابٌ فيه ما أراد.

فأجابه يزيد بكتابٍ قال فيه: بلغَني أنّ حسيناً قد فصل من مكّة متوجّهاً إلى العراق، فاترك العيون عليه، وضَعِ الأرصاد على الطرق ... (إلى آخِر الكتاب).

ص: 161

ثمّ كتب يزيد بن معاوية إليه كتاباً آخَر يحثّه على أخذ الحيطة وأخذِ التدابير، ويجعله أمام أمرٍ واقع، إذ يقول في كتابه أنّه: قد بلغَني أنّ حُسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانك ... (إلى آخِر الكتاب) ((1)).

التصوّر الثاني: أن يكون كتب الكتاب بعد توافق الرسُل عنده

أن يكون الخبر قد بلغه من خلال عمّاله وعيونه ومن خلال الرسولَين القادمَين من ابن زيادٍ معاً، لأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) خرج يوم مقتل المولى الغريب وهاني (علیهما السلام) ، وقد استعجل ابنُ الأَمة الفاجرة بإبلاغ الخبر إلى يزيد، فتوافق الرسُلُ عنده من مكّة ومن الكوفة، فكتب الكتاب، وروى ابن سعدٍ اعتماداً على رسُل المدينة، وروى الآخَرون اعتماداً على رسُل الكوفة.

وقد أرسل مروان وعمرو بن سعيدٍ كتباً إلى ابن زياد يبلغاه بتوجّه سيّد الشهداء نحو الكوفة ((2))، فمن الطبيعيّ جدّاً أن يبلغا سيّدهما أيضاً.

ص: 162


1- مع الحسين في نهضته لأسد حيدر: 125 و170 _ 171.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 62، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال: 6 / 442، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، الفتوح لابن الأعثم: 5 / 121، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 221، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، بحار الانوار للمجلسيّ: 44 / 368.

وكانت الكتب والتقارير لا تنقطع بين القرد المخمور وبين جِرائهوعيونه في مكّة والمدينة.

التصوّر الثالث: أن يكون ثَمّة مسامحةٌ في تعبير المؤرّخ
اشارة

ربّما كان في تعبير ابن سعدٍ واليعقوبيّ وأضرابهم شيءٌ من المسامحة والاختصار، فلم يذكروا خبرَ الرسولَين اللذَين أرسلهما ابن زيادٍ إلى يزيد، وعلّقوا الكتاب على خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة باعتباره موضوع الخبر.

* * * * *

ويمكن تقسيم الكتب بلحاظٍ آخَر إلى قسمَين:

القسم الأوّل: كتبَ ابتداءً
اشارة

نقلَت جُملةٌ من المصادر كتاباً كتبه يزيد إلى عُبيد القرود ابن زيادٍ ابتداءً، فيما نقلَت نفس تلك المصادر ومصادر أُخرى كتاباً آخَر كتبه يزيد إلى ابن زيادٍ ردّاً على كتاب الأخير الّذي أرسله مع رأس المولى الغريب

ص: 163

الشهيد مسلم بن عقيل (علیه السلام) وهانئ بن عُروة يخبره فيه بشهادتهما وشهادة مَن كان معهما وغير ذلك..

سنستعرض هنا القسمَ الأوّل الّذي روى لنا الكتاب الّذي كتبه يزيدابتداءً، ونحيل الكلام عن الكتاب الآخَر إلى القسم الثاني إن شاء الله (تعالى)، وسنقسّم ألفاظ الكتاب الأوّل حسب ما ورد في المتون إلى عدّة كتب؛ لاختلافها في المحتويات.

الكتاب الأوّل: التهديد القاصف
اشارة

الزبيريّ:

وخرج الحسين بن عليٍّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد، فزعموا أنّ يزيد كتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وهو واليه على العراق _ :

إنّه بلغَني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به بلدُك مِن بين البلدان، وابتُليتَ به من بين العمّال، ومنها تُعتَق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد ((1)).

البلاذريّ:

وحدّثَني بعضُ قريش أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد:

ص: 164


1- نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 127.

بلغَني مسير حسينٍ إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك من بين الأزمان وبلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به من بين العمّال، وعندها تُعتَق أو تعود عبداً كما يعتبد العبيد ((1)).اليعقوبيّ:

وقد جمع بين الكتابين اليعقوبيّ فقال:

وكان يزيد قد ولّى عُبيدَ الله بن زياد العراق، وكتب إليه:

قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي بلدُك من بين البلدان وأيّامُك من بين الأيام، فإنْ قتلتَه وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذرْ أن يفوتك! ((2))

إبن عبد ربّه، ابن كثير ... :

عليّ بن عبد العزيز، عن محمّد بن الضحّاك بن عثمان الخزاعيّ، عن أبيه قال:

خرج الحسين إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد بن معاوية، فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد _ وهو واليه بالعراق _ :

ص: 165


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.

إنّه بلغَني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك بين الأزمان وبلدُك بين البلدان، وابتُليتَ به من بين العمّال، وعنده تُعتَق أو تعود عبداً ((1)).الطبرانيّ، الهيثميّ، الكنجي ... :

حدّثَنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا الزبير بن بكّار، حدّثَني محمّد بن الضحّاك بن عثمان الحزاميّ، عن أبيه قال:

خرج الحسين بن عليٍّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد بن معاوية، فكتب يزيدُ بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد _ وهو واليه على العراق _ :

إنّه قد بلغَني أنّ حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك من بين الأزمان وبلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به من بين العمّال، وعندها يُعتَق أو يعود عبداً كما يعتبد العبيد ((2)).

إبن عساكر، ابن العديم:

ص: 166


1- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
2- المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193.

أخبرنا أبو غالب أيضاً، أنبأنا أبو الغنائم بن المأمون، أنبأنا عُبيد الله ابن محمّد بن إسحاق، أنبأنا عبد الله بن محمّد، حدّثَني عمّي، أنبأنا الزبير، حدّثَني محمّد بن الضحّاك، عن أبيه قال:

خرج الحسين بن عليٍّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد، فكتب يزيد إلى ابن زيادٍ _ وهو واليه على العراق _ :إنّه قد بلغَني أنّ حسيناً قد صار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك من بين الأزمان وبلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به أنت مِن بين العمّال، وعندها تُعتَق أو تعود عبداً كما يعتبد العبيد ((1)).

إبن نما، المجلسيّ:

وكتب يزيد بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد:

قد بلغَني أنّ حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك من بين الأزمان وبلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به من بين العمّال، وعندها تُعتَق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد ((2)).

ص: 167


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، و28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.
2- مثير الأحزان لابن نما: 20، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 360، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 225.

الذهبيّ:

وقال محمّد بن الضحّاك الحزاميّ، عن أبيه:

خرج الحسين إلى الكوفة، فكتب يزيدُ إلى واليه بالعراق عُبيدِ الله ابن زياد:

إنّ حسيناً صائرٌ إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك من بين الأزمان وبلدُك من بين البلدان، وأنت من بين العمّال، وعندها تُعتَق أو تعود عبداً ((1)).* * * * *

هذه هي جملة النصوص الواردة في حكاية ألفاظ الكتاب الأوّل الّذي كتبه يزيد ابتداءً إلى جروه ابن زياد، وقد امتازت مصادر هذه الحزمة من المتون برواية كتاب يزيد، وفيه خطابٌ لابن زياد فقط، وليس فيه أمرٌ آخَر، فيما روت مصادر الحزمة الثانية من المتون الأوامر العامّة الصادرة لابن الأَمة الفاجرة لينفّذها كإجراءاتٍ احترازيّة.

ويظهر من مفاد الحزمة الأُولى أنّها تركّز على تحريض ابن الأَمة الفاجرة وحثّه الشديد ليُقدِم على الجناية العظمى في تاريخ البشريّة من خلال

ص: 168


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205.

لحن التهديد والتهويل والتخويف كما سنقرأ.

ويمكن دراستها من خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: مقدّمة المؤرّخ على الكتاب

أطلق البلاذريّ ومَن تلاه ذكر الكتاب ولم يُقدّم له، وإنّما ساقه خبراً تلو الأخبار الأُخرى ضمن السياق، فقال: إنّ يزيد كتب إلى ابن زياد.. ثمّنقل الكتاب ((1)).

فيما ساق الزبيريّ ومَن تلاه خبر الكتاب بعد أن قدّم له مقدّمةً من عنده، فقال:

وخرج الحسينُ بن عليٍّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد، فزعموا ((2)) أنّ يزيد كتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وهو واليه على العراق _ ... ((3)).

ص: 169


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371، مثير الأحزان لابن نما: 20، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 360، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 225.
2- نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 127.
3- أُنظر: العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، 28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.

ويُلاحَظ أنّ الزبيريّ صاغ خروج الإمام (علیه السلام) ساخطاً لولاية يزيد دون تشكيك، فيما روى كتاب يزيد على نحو الزعم فقال: «فزعموا أنّ يزيد كتب ...»، ولم يتبعه أحدٌ على نسبة خبر الكتاب إلى الزعم!

ولا يخفى ما في صياغته من تسريبٍ لما يريد تسريبه؛ إذ أنّ السياق يفيد أنّ خروج الإمام (علیه السلام) إنّما كان بقصد السخط على ولاية يزيد، وهو يلقي _ عاقبةً _ في ذهن المتلقّي أنّ الإمام (علیه السلام) كان هو الخارج على يزيد وعلى ولايته، وبهذا وصَمَ حركةَ الإمام (علیه السلام) نحو العراق ب- (الخروج)!

وحاشا الإمام (علیه السلام) صاحب الشرعيّة المنصوصة من الله (تبارك وتعالى) أن يُوصَف بهذا الوصف؛ إذ كان يزيد ومَن سلّطه على رقاب المسلمين همالخارجون على الإمام (علیه السلام) !

ويُلقي أيضاً في ذهن المتلقّي أنّ يزيد كان في موقع المدافع عن نفسه وعن ولايته، وبما أنّ يزيد قد تمّت له البيعة في البلدان منذ عهد معاوية وتجدّدَت له البيعة بعد هلاكه، فهو الحاكم المقرّر حسب موازين السقيفة والموازين السائدة المعمول بها تلك الأيّام بعد أن حكمت شريعة السقيفة،

ص: 170

ويكون يزيد القرود حاميَ جماعة المسلمين ووحدة صفّهم والحاكم لهم وعليهم، ويكون الخارج عليه شاقّاً لعصا المسلمين، وغيرها من المصطلحات البائسة الّتي استخدمها الأُمويّون في حربهم على الله وعلى رسوله وعلى الأئمّة الّذين افترض الله طاعتهم على العباد.

وثَمّة دسائس وسمومٌ ذعافٌ مُرّةٌ كثيرةٌ في إلقاءات المؤرّخين في هذا المقام وفي غيره، يحسن بالقارئ النبيه والحَذِر الحاذق أن يلتفت إليها، وقد اكتفينا بالإشارة السريعة هنا معتمدين على نباهة المتلقّي.

المتابعة الثانية: مضمون الكتاب

إذا أردنا نظم أهمّ ما ورد في مضمون الكتاب ضمن نقاط، فستكون كالتالي:

1 – إنّ خبر مسير الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى العراق قد بلغ يزيد.2 – إنّ زمان ابن زياد ابتُلي من بين الأزمان وأيّامه من بين الأيّام.

3 – إنّ بلد ابن زياد ابتُلي به من بين البلدان.

4 – إنّ ابن زيادٍ ابتُلي به من بين العمّال.

ص: 171

5 – عندها (أو: منها) ((1)) يُعتَق أو يعود عبداً ((2)) كما يتعبّد العبيد ((3)).

6 – إنْ قتَلَ ابنُ زيادٍ الإمامَ الحسين (علیه السلام) ، وإلّا رجع إلى نسبه وإلى أبيه عُبيد ((4)).

7 – حذّره أن يفوته! ((5))

يُلاحَظ في مضمون الكتاب قصفاً مروّعاً شديداً مهولاً مرعباً، كما سنسمع في المتابعات التالية.

ص: 172


1- نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 127.
2- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، و28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614، مثير الأحزان لابن نما: 20، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 360، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 225.
4- تاريخ اليعقوبي: 2 / 216.
5- تاريخ اليعقوبي: 2 / 216.
المتابعة الثالثة: كُتُب أهل الكوفة

قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم ... ((1)).يبدو أنّ اليعقوبيّ انفرد بزيادةٍ في الكتاب يُخبِر بها يزيدُ جروَه ابنَ زيادٍ أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين (علیه السلام) في القدوم عليهم، أمّا باقي النصوص فهي جميعاً تتحدّث عن إخباره بتوجّه الإمام (علیه السلام) نحو الكوفة من دون الإشارة في هذا الكتاب بالخصوص إلى دعوات أهل الكوفة!

وكيف كان، فإنّه أخبره أنّهم كاتبوه بالقدوم عليهم فقط لا أكثر، وأقلّ ما يفيد هذا المتن أنّ أهل الكوفة هم الّذين كاتبوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ودعوه ولم يكن هو الّذي استنصرهم بإقرار القرد المسعور، أمّا تفاصيل مكاتبتهم فقد أتينا على تفصيلها في كتاب (ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ كتب أهل الكوفة ورسُلهم).

المتابعة الرابعة: التحذير من الحسين (علیه السلام) والأمر بمحاربته وقتله

سنسمع بعد قليلٍ تهديد يزيد لصنيعتهم ابن زيادٍ إنْ هو لم يقدم على ما أمره به، وإن لم يصرّح بالإقدام المطلوب منه، فاكتفى ابن حجر بجعلها

ص: 173


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.

مجرّد تحذيرٍ من الحسين.. «وحذّره من الحسين» ((1)).

بَيد أنّ جملةً من المصادر _ من قبيل اليعقوبيّ وابن عساكر وابنالعديم والسيوطيّ وغيرهم _ صرّحوا بالمهمّة الموكَلة إلى ابن الأَمة الفاجرة، حيث جعلها اليعقوبيّ في نصّ الكتاب، وحكاها ابن عساكر وابن العديم والسيوطيّ عن مؤدّى الكتاب، فقال اليعقوبيّ: «فإن قتلتَه» ((2))، وقال ابن عساكر وابن العديم ومَن تبعهم: «يأمره بمحاربته، وحمله إليه إنْ ظفر به ...» ((3))، وقال السيوطيّ: «فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عُبيدِ الله بن زيادٍ بقتله» ((4)).

فالمطلوب إذن _ وفق هذه المصادر _ قتْلُ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو حملُه إلى الطاغية إنْ ظفر به.

في المدينة.. أمر أن يُحمَل إليه رأس سيّد الشهداء مع جواب الكتاب،

ص: 174


1- الصواعق المُحرِقة لابن حجَر: 117.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381 _ 382، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 213، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، كفاية الطالب للكنجيّ: 430، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207.

ولم يكن الإمام (علیه السلام) فعل سوى أنّه تقبّض عن البيعة، ولم يخرج بعدُ إلى مكّة.. فالمطلوب في المدينة رأس الإمام وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !

وفي مكّة.. أمر أن يُقتَل ولو غِيلة، أو يُحمَل إليه، قبل أن يفعل سيّد الشهداء (علیه السلام) أيّ شيء، فعجّل الإمامُ الخروج من مكّة لئلّا تُهتَك به حرمة البيت ولم ينتظر الموسم.. فالمطلوب في مكّة رأس الإمام وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !ثمّ تعيّنَت وجهةُ الإمام إلى الكوفة.. فسبقه كتاب القرد المسعور إلى جروه يأمره فيه بقتل الإمام.. فالمطلوب في الكوفة رأس الإمام وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !

لقد تقبّض الإمام في المدينة، وتقبّض في مكّة، ولم يسجّل لنا التاريخ أيّ مشهدٍ يمكن أن يكون فيه دلالة مسوّغة لقتل الإمام باعتباره قد خطّط للهجوم على السلطة، بالخصوص في المدينة، فإنّه لم يفعل أيّ شيءٍ يدعو إلى توجّس السلطان أو يثير حفيظته ليسجّل عليه موقفاً معادياً أكثر من عدم قبول البيعة.. لذا تأنّى الوليد في موقفه رغم ضغوط مروان للإقدام على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، باعتباره أحد المشاركين في خطّة القضاء على أهل البيت مباشرة، وهو يعلم ما يريده يزيد ومَن سلّط يزيد، فهم جميعاً يريدون قتل الإمام ويطلبون رأسه، سواء عندهم في المدينة أو في مكّة أو

ص: 175

في الكوفة أو في أيّ صقعٍ من الأصقاع، أو كما قال الإمام نفسه _ فداه العالَمين _ : يطلبونه ولو كان في جُحر هامّة، ولا يتركونه حتّى يستخرجوا العلقة الّتي في صدره!!!

ويمكن أن يعلم القارئ للكتاب مدى إصرار الرجس الزنيم على قتل الإمام (علیه السلام) ، من خلال التهديد الّذي هدّد به جروه المدلّل ابن زياد، وتأكيدهعليه وتحذيره من أن تفوته هذه الفرصة الّتي سعى من أجلها هو ومَن سبقه من الأزلام على حدّ نصّ الكتاب عند اليعقوبيّ: «فاحذَرْ أن يفوتك» ((1)).. فهو لا يريد أن يفلت الإمام من القتل بعد أن عجزوا عن قتله في المدينة أو في مكّة، فكأنّ هذه الفرصة الأخيرة الّتي قد لا يجود الدهر عليهم بمثلها، سيّما أنّه سيكون في بلدٍ احتوى أكبر ثكنةٍ عسكريّةٍ تابعةٍ لهم، فلا يحتاج إلى تجشّم عناء نقل القطعات وتحريك الجيوش والعساكر.

المتابعة الخامسة: ابتُلي بلدُك وابتُليت..

أشار القرد المتفرعن إلى ثلاث عوامل أساسيّةٍ لها تأثيرٌ مباشرٌ على سَير الأحداث، وهي: الزمان، والمكان، والحاكم.

وهذه العوامل الثلاث هي العوامل الأصليّة المؤثّرة للقيام بأيّ عمليّةٍ

ص: 176


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.

عسكريّةٍ حاسمة، فكيف إنْ كانت بحجم قتل سيّد الشهداء وريحانة النبيّ (علیه السلام) ؟

ويبدو من خلال تعبيره: (ابتُلي، ابتُليتَ) أنّه يريد أن يُفهِم جروَه المتوحّش أنّه على المحكّ، وقد تعرّض لامتحانٍ عسيرٍ يلزمه النجاح فيهليبقى في غابة القرود، فإذا فشل وأخفق في إنجاح المهمّة الموكولة إليه، وهي قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّه سوف يخسر كلّ شيءٍ ويُطرَد من الغابة ويرجع إلى حضيض حارة البغايا ويرزح تحت نير الاستعباد، كما يفيد باقي كلامه..

وقد ابتُلي به زمانُك من بين الأزمان وبلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به من بين العمّال ... ((1)).

وربّما أفاد أيضاً أنّ الأمر متعيّنٌ في ابن الأَمة الفاجرة، لأنّه نسب له الزمان والبلد وشخّصه من بين العمّال، فالامتحان خاصٌّ به، فالعهد عهد

ص: 177


1- نسب قريش للزبيريّ: 127، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، و28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614، مثير الأحزان لابن نما: 20، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 360، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209.

حكمه، والبلد هو البلد الّذي يحكمه، وهو الّذي سيكون مسرح الجريمة، وهو العامل الّذي يجب عليه أن ينفّذ الجناية من بين العمّال، وموضوع الامتحان محدَّد: «ابتُيلت به»! أي: بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، والحال أنّ الجرو الأُمويّ كان والياً على البصرة حينها، وإنّما انتقل إلى الكوفة بعد أن أمره سائسُه، وكان بالإمكان أن يعيّن أيَّ عاملٍ آخَر من عمّاله أو يختار له عاملاً جديداً يرى فيه المجرم القادر على تنفيذ مِثل هذه الجريمة وتحقيق ما يصبو إليه من الانتقام لفطائس الجاهلية ودم عثمان.

المتابعة السادسة: التهديد الصاعق

• ومنها تُعتَق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد ((1)).

• فإن قتلتَه، وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذَرْ أن يفوتك ((2)).

• وعنده تُعتَق أو تعود عبداً ((3)).

ص: 178


1- نسب قريش للزبيريّ: 127.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.
3- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 381 _ 382، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 271، نفَس المهموم للقمّيّ: 441، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.

• وعندها يُعتَق أو يعود عبداً كما يعتبد العبيد ((1)).

• وعندها تُعتَق أو تعود عبداً ((2)).

هذه هي العبارات الواردة في الكتب على اختلاف ألفاظها في المصادر..

كلماتٌ مدمدمة.. تهديدٌ مدمِّر.. عباراتٌ صاعقةٌ مهولة.. عاقبةٌ مرعبة.. مستقبَلٌ مُظلِمٌ مُعتِمٌ ينتظره مع أدنى تلكّؤ.. تذكيرٌ مهينٌ بالماضي القريب، ونبشٌ لدفائن الحقارة والنذالة وخسّة المنبت، ونبزٌ يحسّسه بمزايا الوضع الّذي هو يعيشه الآن، ويجعل له حافزاً إضافيّاً في قتاله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فالقضية لا تتوقّف _ بعدئذٍ _ عند أحقاد ابن الأَمة الفاجرة وحوافزهالخاصّة ومنطلقاته وعقائده الأصليّة ودوافعه الشخصيّة، ومحركاته لا تنحصر بعد هذا الكتاب بجيّاشات المنبت الخسيس وظلمات النجاسات

ص: 179


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 123، كفاية الطالب للكنجيّ: 432، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 193، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، و28 / 19، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614، مثير الأحزان لابن نما: 20، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 360، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209.
2- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 344، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 205.

المتراكمة من عفن انعقاد النطفة القذرة في رحم الفاجرة الرخيصة، وإنّما تحوّلت إلى وجودٍ أو عدم، أن يكون أو لا يكون!

سلطنةٌ وتفرعنٌ وإمارةٌ وحظوةٌ، وعُودٌ خاصٌّ يتميّز به من فروع الشجرة الملعونة، وحشرٌ مع قرودها المتدلّية من أغصانها في الجحيم، أو عبوديّةٌ ورقّيّةٌ، وطردٌ من حظيرة القرود وعودةٌ مخذولةٌ إلى حارة البغايا مغلولاً بأغلال العبوديّة ومقمحاً بسلاسلها!

ومن هنا يمكن أن تلوح أحقاد يزيد واستعجاله في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وتربّصه لهذا اليوم.. يوم الثأر للأشياخ ورؤوس الشرك الفاجرة الكافرة، وشدّة نهمه لشرب الدماء الزواكي، والتشفّي، واستنهاض المشايخ الّذين أطاح رؤوسهم أمير المؤمنين (علیه السلام) في بدرٍ وغيرها..

ومنها.. وعندها.. فإنْ قتلتَه، وإلّا رجعتَ إلى نسبك، وإلى أبيك عُبيد، فاحذر أن يفوتك! ((1))

هذا هو الموقف الّذي خيّر فيه يزيد الخمور جروه ابن زياد.. فإمّا أنيقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويحقّق له ولأشياخه ما يريد، أو يرجع إلى نسبه.. يرجع إلى حظيرة أولاد البغايا.. يرجع إلى عُبيد.. يرجع إلى العبوديّة..

ص: 180


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.

ويكون عبداً كما تعبّد العبيد.. تأكيدٌ وتشديدٌ لما سيؤول إليه أمره.. تعنيفٌ في العبوديّة.. توغُّلٌ في العبوديّة.. تماماً كما تعبّد العبيد.. «فاحذر أن يفوتك!» ((1)).

تحفيزٌ يُعمي ويصمّ.. تجييشٌ يُذهِل المخاطَب عن التدبّر والتفكير والتدبير، فهو يعرف أصله ونسبه، ويعلم أنّ الّذي انتشله وانتشل أباه من مزابل حارة البغايا إنّما هو معاوية.. وليزيد أن يُرجعَه إلى حيث كان.. وليست المسافة الزمنيّة الفاصلة بين خروجه من مطامر العهر إلى أعواد المنابر وقصور الإمارة ببعيدة.. فقد أقرّ معاوية قبل سنواتٍ قليلةٍ معدودةٍ على أبيه بالزنا، وألصق زيادَ ابن أبيه بالشجرة الملعونة.. بعدُ لم تُمحَ الفضيحة من ذاكرة الناس، وبعدُ لم ينسَ الناسُ العار الّذي أُلصق بهم..

الخوف من المستقبل المجهول الّذي ينتظره.. فكما أُلصِق سيُجتَثّ ويُمحَق، وسيشمت به الناس الّذين عذّبهم وقطع أيديهم وأرجلهم وسمّل أعينهم وصلبهم على جذوع النخل؛ إذ سيعود عبداً كما تعبّد العبيد، فلاتبقى له حُرمة، بل يزداد مهانةً وذلّةً وخسّة..

سقوطٌ مروّعٌ.. مزلزلٌ.. فتّاكٌ.. مدمّر.. سقوطٌ سريعٌ خاطفٌ في هاويةٍ

ص: 181


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 216.

لا قعر لها.. انتقالٌ مفاجئٌ من السلطة والقدرة والتفرعن والتنمرد والطغيان والتحكّم والتصرّف الأهوج بالدماء والأموال والأعراض، إلى الاختباء في قمامات العواهر وذلّة العبوديّة!

لقد أصاب مواجع جروه، وأمسكه من الموضع الّذي لا يفلت منه.. وخيّره بين أن يقتل سيّد شباب أهل الجنّة، أو يعود إلى أصله ونسبه وعبوديّته، ويخسر كلّ دنياه ومناصبه وقربه ومنزلته وحظوته.. وليس أن يخسر ما جادت به عليه يد القرود من دنيا، بل سيخسر كلّ وجوده وحرّيّته وكيانه، ويعود عبداً وابناً لفاجرةٍ قبيحةٍ نتنةٍ بائسةٍ رخيصة، تبيع شرفها وتجمع كدّها لسيدها..

والمطلوب الوحيد في هذه المعاملة: رأسُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ! المطلوب قتل الإمام الحسين (علیه السلام) ، مؤكّداً بالتحذير من أن يفوته!

* * * * *

لقد ذكّر يزيدُ ابنَ الأَمة الفاجرة بماضيه، وحسّسه بمزايا الوضع الّذي يعيشه الآن.. فهو في الماضي لا يعدو سوى قطعةٍ من الدنس والنجسالملفوف بفرام المومسات المرميّ في قمامة حارة البغايا خارج الحضر، الناشئ كالديدان بين دنان الخمر في مزابل خيام العواهر..

فيما جعله آلُ أبي سفيان بعد استلحاق أبيه في عداد القرود المتدلّية

ص: 182

من الشجرة الملعونة، وبوّأه يزيد مقعد النديم في القصر الأخضر، وسلّطه على رقاب الناس، وأجلسه _ كما كان يُجلس قرده (أبا قيس) _ على تخت الولاية، يأمر وينهى ويتصرّف في الجند ويتأمّر على العشائر، يذلّ رؤوسهم ويطأ جماجمهم ويركّع شيوخهم، يبطش ويقتل ويسفك الدماء، يُخيف الناس ويُرعب الرجال ويستعبد الرعيّة..

فهو الآن بالخيار، وقد تحوّل الأمر من خلال الكتاب إلى قضيّة الكيان والبقاء والعدم.. أن يكون أو لا يكون!

عليه أن يختار.. إمّا تخت السلطنة، أو عبوديّةً ورقّيّةً وطرداً من حظيرة القرود، وعودةً إلى حارة البغايا، يتسكّع على أعتاب خيام الخمّارين وفتات موائدهم، يتقمّم لقمة العيش من مزابل الحانات..

والياً على أهمّ بلدٍ من بلدان المسلمين يومذاك، أو منبوذاً يتلوّى تحت سياط المعربدين في خيام ذوات الأعلام، يرزح تحت نير العبودية المقيتة الذليلة.

المتابعة السابعة: حوافز إضافيّة

لم يكن ابن الأَمة الفاجرة بحاجةٍ إلى حوافز إضافيّة؛ فهو من معادن النجاسة والتعاسة والشقاء والبغاء والنذالة.. إنّه يتميّز _ على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة _ غيضاً

ص: 183

وغضباً وحقداً وضغينة، وكلَّ ما تجده في قواميس جميع اللغات من المفردات الدالّة على كوامن هذا الموجود القذر من التوحُّش والقسوة والتعطّش للدماء الزواكي..

إنّ ما فيه من الدوافع والحوافز كافيةٌ لسعيه وتسرّعه لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .. ويزيد الفجور يعلم هذا جيّداً، بَيد أنّه يريد أن يشحنه شحناتٍ جديدةً تجعله يستعجل ويتوثّب ويسعى بحوافز إضافيّة..

تهديد يزيد يُنتج دوافع إضافيّةً لدى ابن زياد.. يثير فيه كوامن الحقد والضغينة والعداوة الذاتيّة.. يحشره في زاويةٍ ضيّقةٍ تؤجّج فيه دوافعه الذاتيّة وتمنعه من التسويف والتأجيل، وتضطرّه إلى الانصياع الفوريّ إلى الحوافز الداخليّة..

بمعنى أنّ ابن زيادٍ هو من أشدّ المخلوقات المتوحّشة ضراوةً وأكثرهم عزماً وإقداماً على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، بحكم جرثومته القذرة ومقلعهالنتن ونطفته المنعقدة من سيلانات الزناة السكارى.. معدن النجس لا يطيق مجاورة معدن الطهر.. حسد أولاد المومسات يتوقّد ويشتدّ أواره على أولاد المحصنات العفيفات الطواهر.. هذا هو حافزٌ مهمٌّ من طراز الدافع الرئيس والحافز الأوّل..

ومِثل ابن زياد المخلوق المعقّد المركّب من جميع الرذائل والنقائص

ص: 184

وعقد الحقارة والدناءة والآثام والخزي والعار والشنار والعيوب والمثالب، المتكوّن من جنحة وخطيئة، كلّه دوافع وحوافز للقضاء على مَن أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً، وجعله مجمع المكرمات والفضائل والاحتشام والأدب والحسنات والخصال الحميدة والشيم والعظمة والمآثر والمحامد، المتخلّق بأخلاق الربّ البرّ الرحيم..

بَيد أنّ الكتاب كان يشكّل حافزاً إضافيّاً له؛ إذ أنّ القضية لا تتوقّف بعدئذٍ عند أحقاد ابن زياد وحوافزه الخاصّة ومنطلقاته وعقائده الأصليّة، وإنّما تحوّلَت إلى قضيّة دفاعٍ عن الذات.. دفاعٍ عن الوجود والكيان.. دفاعٍ عن الكسب الحرام الّذي أهّله ليكون في ما هو فيه..

المتابعة الثامنة: العزم على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ومبادرة يزيد

من هذا الكتاب وأمثاله يمكن أن تلوح بوضوحٍ أحقادُ يزيد واستعجالهفي قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وتربّصه لهذا اليوم.. يوم الثأر والانتقام لفطائسهم، والتشفّي من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وتسكين مراجل العداوة والشحناء والبغضاء والحقد والشماتة بحرمات الله ومقدّسات الدين..

من هذا الكتاب وأمثاله يمكن التعرّف على شدّة نَهَم يزيد لشرب الدماء الزواكي واستنهاض المشايخ الّذين أطاح رؤوسهم العفنة أمير

ص: 185

المؤمنين (علیه السلام) في بدر وغيرها من المشاهد..

من هذا الكتاب وأمثاله يمكن التوصّل إلى نتيجةٍ سهلةٍ واضحةٍ تفيد بجلاءٍ مبادرة يزيد في الهجوم على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وابتدائه في تنفيذ المخطّط الّذي دبّره هو ومَن سلّطه على رقاب الناس للقضاء على رموز الدين وحرمات ربّ العالمين وكلّ ما يذكّر بالحقّ وبرسول الله (صلی الله علیه و آله) ..

يكاد يكون الكتاب صريحاً في تحديد موقف يزيد وإقدامه على جريمته على علمٍ وسبق تخطيطٍ وإصرار.

مراجعةٌ سريعةٌ لبنود الكتاب والتهديد الوارد فيه وتحديد الغرض من التهديد والكتابة، توقِفُ المتأمّل وغير المتأمّل على أنّ القضية تتركّز في عزم يزيد على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كيف كان ومهما كلّف الثمن!

إنّه لا يريد بيعةً ولا ينتظر من سيّد الشهداء (علیه السلام) موقفاً.. إنّما يريد قتلريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والقضاء على العترة النبويّة.. سواءً رفض الإمام (علیه السلام) البيعة أو لم يرفضها، وسواءً خرج إلى العراق أم لم يخرج، وسواءً سخط الإمام (علیه السلام) ولايته أَم لم يسخط، وسواءً حاربه الإمام (علیه السلام) أم لم يحاربه.

* * * * *

إنّ يزيد الفجور لم يطرح هنا خيار طلب البيعة.. لم يعد يتكلّم كما تكلّم في كتابه الأوّل لواليه على المدينة.. فمنذ الكتاب الثاني الّذي أرسله

ص: 186

إلى واليه على المدينة لم يعد يطلب سوى شيءٍ واحدٍ لا غير.. رأسَ الإمام الحسين (علیه السلام) ..

إنّه يعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لا ولن يبايع.. وإنّما خيّره في كتابه الأوّل إلى المدينة ليزعم أنّه قد أعذر.. أمّا المطلوب الحقيقيّ إنّما هو قتل الإمام (علیه السلام) على كلّ حالٍ وكيف كان وأينما كان!

المطلوب من ابن زيادٍ أن يقتله، وعلى أفضل التقادير وأوسعها أن يحمله.. ولم نجد في كتاب يزيد ما يفيد _ ولو إشارةً _ المحاورةَ والمناظرةَ والدعوةَ للبيعة، إنّما المطلوب هو أن يقتل الإمام (علیه السلام) ، وانتهى!

المتابعة التاسعة: لغة يزيد مع عمّاله!

من الواضح أنّ لحن الكتاب كلِّه لحنُ تهديدٍ ذريعٍ ووعيدٍ وترهيبٍمرعبٍ وتخويفٍ مُذِلٍّ لابن الأَمة الفاجرة.

فالكتاب من أوّله إلى آخره بجميع نقاطه خطابٌ مباشرٌ لابن زياد لا يُبقي عليه ولا يذر.. سدّ عليه جميع المنافذ الّتي يمكن أن يدلف منها إلى غابة القرود الأُموية أو يمكث بها بين البشر..

فإذا كانت لغة يزيد القرود مع مَن يسمّيه واليه، ويعتمد عليه كلّ الاعتماد، ويثق به كلّ الثقة، ويراه جرواً وفيّاً مسعوراً يهارش له أين ما وجّهه..

ص: 187

إذا كان يزيد يُبدي كلّ هذا الحزم والشدّة والتشدُّد والوحشيّة مع نغلهم ابن زياد من أجل قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فكيف ستكون وحشيّته وصرامته وحدّيّته في التعامل مع غيره من سائر جُنده وعساكره ورعيّته؟!

إذا كانت هذه هي اللغة الّتي تعامل بها يزيد مع جروه المدلّل، وهذا هو التهديد المهلك الّذي هدّد به الطاغوت المتجبّر المتسلّط على العسكر والسلاح والأموال والأعراض، فبماذا سيتعامل مع غوغائه وعساكره وسائر الناس؟!

وإذا كان هذا هو الأُسلوب المتّبع مع ابن زياد، فكيف سيكون أُسلوب ابن زيادٍ مع مَن كان تحت إمارته وسلطانه؟!

المتابعة العاشرة: موقف الإمام (علیه السلام) وموقف العدوّ

يبدو واضحاً أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يكن إلى حين كتابة يزيد كتابه إلى عبيد القرود ابن زيادٍ قد صرّح تصريحاً يفيد صراحةً أو تلويحاً أنّه يريد مقاتلة يزيد أو محاربة السلطة أو تغيير الحكم وغيرها من المقاصد الّتي يتذرّع بها يزيد في تسويغ قتل الإمام (علیه السلام) ..

ولم يسجّل التاريخ لنا _ إلى حين كتابة يزيد كتابه إلى عُبيده ابن زياد _ خطبةً لسيّد الشهداء (علیه السلام) يذكر فيها يزيد بالاسم، أو يذكر سلطانه، أو يذكر قصده في محاربة يزيد..

ص: 188

فيما نجد في كتاب يزيد هذا وفي غيره من مواقفه وتصريحاته الّتي سبقَت خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق والّتي لحقت شهادته ما يفيد بصراحةٍ قصدَه وعزمه وإقدامه على قتل الإمام (علیه السلام) ، سواءً بذريعة الدفاع عن سلطانه وحماية عصا المسلمين من الانشقاق وغيرها من الذرائع الباهتة، أو بذريعة الانتقام والثأر كما صرّح بعد شهادة الإمام (علیه السلام) .

المتابعة الحادية عشر: الأمر بطلب مسلم (علیه السلام) وقتله

إنفرد الصبّان بنقل الكتاب بلفظٍ لا ينسجم مع مجريات الأحداث ويشذّ عن باقي المصادر، فقال:فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل إلى عُبيد الله بن زيادٍ واليه على الكوفة يأمره بطلب مسلم وقتلِه، فظفر به فقتله ((1)).

والحال أنّ سيّد الشهداء إنّما خرج من مكّة يوم النداء بالشعار، أو يوم شهادة مسلم بن عقيل في الكوفة، ولا حاجة لنا بالنصّ، فلا نطيل الوقوف عنده، وإنّما ذكرناه لنكون قد استوعبنا ما ورد في المقام من نصوص.

ص: 189


1- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
الكتاب الثاني: الترغيب

روى البلاذريّ كتاباً كتبه يزيد إلى عُبيده ابن زيادٍ يأمره فيه أن يزيد أهلَ الكوفة أهل السمع والطاعة في أُعطياتهم مئةً مئة..

قال البلاذريّ:

وحدّثَني العمريّ، عن الهيثم بن عَديّ، عن مجالد بن سعيدٍ قال:

كتب يزيدُ إلى ابن زياد:

أمّا بعد، فزِدْ أهلَ الكوفة أهلَ السمع والطاعة في أُعطياتهم مئةً مئة ((1)).

* * * * *يشهد السياق الّذي سرد فيه البلاذريّ خبر الكتاب أنّ يزيد كتب ذلك بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وجعل هذه العطيّة مكافأةً لجنده على ما فعلوه.

فمن ذكره في مقام خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى العراق مِن الكتّاب المعاصرين، يبدو أنّه استعجل الحدَث، لذا سنؤخّر الكلام فيه إلى محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 190


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 420.
الكتاب الثالث: التعليمات

روى الشيخ العلّامة ابن شهرآشوب قائلاً:

وكتب: قد بلغَني أنّ الحسين قد عزم إلى المسير إلى العراق، فضَعِ المراصد، واحبِسْ على الظنّ واقتُلْ على التهمة، حتّى تُكفى أمره ((1)).

مَن يعرف منهج العلّامة ابن شهرآشوب في كتابه (المناقب) وطريقته في صياغة الأحداث، يعلم أنّه يتخيّر من النصوص ما يخدم مقصده، وينقل بالمعنى ولا يتقيّد كثيراً بالحرفيّة، ويوظّف النصوص في السياق بدقّةٍ وحذقٍشديدَين.

من هنا لا يبعد أن يكون ما ذكره هنا إنّما هو من طراز القسم الثاني في تقسيمنا، فحذف السوابق واللواحق وجعله كتاباً في سياق حدث خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

لذا سنؤخّر الكلام عنه إلى القسم الثاني؛ لاتّفاقه في المضامين مع ذلك الكتاب.

وكذا سنؤخّر الكلام _ لنفس السبب _ فيما رواه ابن كثيرٍ فقال:

وفي روايةٍ أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد:

ص: 191


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

قد بلغَني أنّ الحسين قد توجّه إلى نحو العراق، فضَعِ المناظر والمسالح، واحترس، واحبسْ على الظنّة وخُذْ على التهمة، غير أن لا تقتل إلّا من قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من خبر، والسلام ((1)).

الكتاب الرابع: الحكاية

إقتصر ابن عساكر وابن العديم والسيوطيّ على حكاية مؤدّى الكتاب،ونقلوا فحواه من دون ذكر نصّه، فقالوا:

وبلغ يزيدَ خروجُه، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وهو عامله على العراق _ يأمره بمحاربته، [وقتلِه] ((2))، وحملِه إليه إنْ ظفر به ((3)).

وهو يؤكّد ما ذكرناه في المتابعات السابقة، فلا نعيد.

ص: 192


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 207.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 213، تهذيب ابن بدران: 4 / 332، مختصر ابن منظور: 7 / 145، كفاية الطالب للكنجيّ: 430، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2614.
القسم الثاني: كتب في جواب ابن زياد
اشارة

روى البلاذريّ ((1)) والدينوريّ ((2)) والطبريّ ((3)) وابن أعثم والخوارزميّ ((4)) وابن الجَوزيّ ((5)) وابن الأثير والنويريّ ((6)) وسبط ابن الجَوزي ((7)) والسيّد ابن طاووس ((8)) وابن حجَر ((9)) والشيخ المفيد والعلّامة المجلسيّ والبحرانيّ ((10)) وغيرهم ما يفيد بوضوحٍ أنّ عُبيد القرود ابن زيادٍ كتب إلى سائسه يزيد يُخبره بقتل المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) على يد رسولَين، وبعث معهما رأس المولى الغريب ورأس هانئ

ص: 193


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381.
4- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
5- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329.
6- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403.
7- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140.
8- اللهوف لابن طاووس: 60.
9- الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117.
10- الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 359، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209.

ابن عروة وابن صلخب، فقدما حتّى دخلا على يزيد..

وقد أتينا على تفصيل خبر هذا الكتاب والرسولَين وما جرى لهما مع يزيد في الجزء السادس من مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة) ((1))..

فردّ يزيد على كتابه، وكان في الردّ تعليماتٌ استباقيّةٌ قبل وصول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى العراق.

المتون

البلاذريّ:

كتب إليه:

إنّك لم تعد إنْ كنتَ كما أُحبّ، عملتَ عملَ الحازم وصُلتَ صولة الشجاع وحقّقتَ ظنّي بك. قد بلغَني أنّ حسيناً توجّه إلى العراق، فضَعِ المناظرَ والمسالح وأذْكِ العيون واحترس كلّ الاحتراس، فاحبِسْ على الظنّة وخُذْ بالتهمة، غير أن لا تقاتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ يومٍ بما يحدث من خيرٍ إن شاء الله ((2)).

ص: 194


1- أُنظر: المولى الغريب مسلم بن عقيل _ المجموعة الكاملة: 6 / 453 وما بعدها.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.

الدينوريّ:

فكتب إليه يزيد:

لم نعد الظنّ بك، وقد فعلتَ فعل الحازم الجليد، وقد سألتُ رسوليك عن الأمر، ففرشاه لي، وهما كما ذكرتَ في النصح وفضلِ الرأي، فاستوصِ بهما. وقد بلغَني أنّ الحسين بن عليٍّ قد فصل من مكّة متوجّهاً إلى ما قِبَلك، فأذكِ العيون عليه، وضعِ الأرصاد على الطرق، وقم أفضل القيام، غير أن لا تقاتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ بالخبر في كلّ يوم ((1)).

الطبريّ:

فكتب إليه يزيد:

أمّا بعد، فإنّك لم تعد أنْ كنتَ كما أُحبّ، عملتَ عمل الحازم وصُلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيتَ وكفيت، وصدقتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك فسألتُهما وناجيتُهما، فوجدتُهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وإنّه قد بلغَني أنّ الحسين بن عليٍّ قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظنّ وخُذ على التهمة، غير

ص: 195


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.

ألّا تقتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة الله ((1)).

إبن أعثم:

ثمّ كتب إلى ابن زياد:

أمّا بعد، فإنّك لم تعد إذا كنت كما أُحبّ، عملتَ عمل الحازم وصُلتَ صولة الشجاع الرابض، فقد كفيتَ ووفيتَ ظنّي ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك فسألتُهما عن الّذي ذكرت، فقد وجدتُهما في رأيهما وعقلهما وفهمهما وفضلهما ومذهبهما كما ذكرت، وقد أمرتُ لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف درهم، وسرّحتهما إليك، فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغَني أنّ الحسين بن عليٍّ قد عزم على المسير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر، واحترسْ واحبسْ على الظنّ، واكتب إليّ في كلّ يومٍ بما يتجدّد لك من خيرٍ أو شرّ، والسلام ((2)).

الخوارزميّ:

ثمّ كتب لابن زياد:

ص: 196


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 380.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 108.

أمّا بعد، فإنّك عملتَ عمل الحازم وصُلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، فكفيتَ ووفيت، وقد سألتُ رسولَيك فوجدتُهما كما زعمت، وقد أمرتُ لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف درهم، وسرّحتهما إليك، فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغَني أنّ الحسين بن عليٍّ قد عزم على المصير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر والمسالح، واحترسْ واحبسْ على الظنّ واقتُلْ على التهمة، واكتب في ذلك إليّ كلّ يومٍ بما يحدث من خبر ((1)).

المفيد:

فكتب إليه يزيد:

أمّا بعد، فإنّك لم تعد أنْ كنتَ كما أُحبّ، عملتَ عمل الحازم وصُلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيتَ وكفيتَ، وصدّقتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك فسألتُهما وناجيتُهما، فوجدتُهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وإنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترسْ واحبسْ على الظنّة واقتُلْ على التهمة، واكتب إليّ فيما يحدث من خبرٍ إن شاء الله (تعالى) ((2)).

ص: 197


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 359، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209، أسرار الشهادة للدربنديّ: 229.

إبن الجَوزيّ:

فكتب إليه يزيد:

إنّك على ما أُحبّ، عملتَ عمل الحازم وصُلتَ صولة الشجاع. وقد بلغَني أنّ الحسين قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترسْ واحبسْ [واجلس] على الظنّة وخُذْ على التهمة، غير أن لا تقتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من خيرٍ إن شاء الله ((1)).

إبن الأثير، النويريّ:

فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له:

وقد بلغَني أنّ الحسين قد توجّه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح، واحترسْ واحبسْ على التهمة وخُذ على الظنّة، غير أن لا تقتل إلّا مَن قاتلك ((2)).

سبط ابن الجَوزيّ:

ص: 198


1- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329.
2- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403.

فكتب إليه يزيد يشكره ويقول:قد عملتَ عمل الحازم وصُلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد صدق ظنّي فيك. وبلغَني أنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فضع له المناظر والمسالح، واحترسْ منه واحبسْ على الظنّة وخُذْ على التهمة، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من خيرٍ وشرّ، والسلام ((1)).

إبن طاووس:

فأعاد الجواب إليه بشكره فيه على فعاله وسطوته، ويعرّفه أنّه قد بلغه توجّه الحسين (علیه السلام) إلى جهته، ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة، والانتقام والحبس على الظنون والأوهام ((2)).

إبن حجَر:

فشكره، وحذّره من الحسين ((3)).

الطُّريحيّ:

فكتب إليه الجواب يقول:

كنتَ كما أردتُ، وفعلتَ ما أحببتُ، وصدّقتَ ظنّي فيك. وقد

ص: 199


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140.
2- اللهوف لابن طاووس: 60.
3- الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117.

بلغَني أنّ الحسين متوجّهٌ إلى العراق، فضع عليه المراصيد،واكتب إليّ بما يحدث من الأُمور، والسلام ((1)).

المقتل المشهور لأبي مِخنَف:

قال: فلمّا وصل الكتاب إلى يزيد (لعنه الله)، فرح واسترّ، ثمّ كتب جوابه:

أمّا بعد، فقد علمتَ أنّك أحبُّ الناس إليّ، ولَعمري لقد نصحتَ وأغنيتَ وكفيتَ وصُلتَ صولة الأسد، ولقد دعوتُ رسولَيك وسألتُهما عمّا شرحت، فوجدتُهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغَني أنّ الحسين (علیه السلام) توجّه إلى العراق، فضع المراصيد، واكتب إليّ كلّ يومٍ بخبره ((2)).

* * * * *

مقاطع الكتاب
اشارة

إحتوى الكتاب الموجَّه من القرد الأُمويّ إلى جروه المسعور ابن زيادٍ على مقاطع أصليّة:

ص: 200


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 428.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 39.
المقطع الأوّل: ذَكَر ابنَ زيادٍ وشَكَره
اشارة

شكر اللعينُ فعلة ابن زيادٍ من خلال وصفه ونعت فعله، فوصفه:

الوصف الأوّل: إنّ ابن زيادٍ كما يحبّ يزيد!

إنّه كما يحبّ، وكما كان يظنّ فيه ويتوقّعه وينتظره، إذ إنّه يعرف من قبل ابنَ زيادٍ وأبيه، فإنّهما منذ أن دنّسا الأرض بأقدامهما نشئا تحت أغصان الشجرة الملعونة يرعيان في بستان القرود الأُمويّة، حتّى نسب معاوية زياداً إلى أبيه!

وتاريخ ابن زيادٍ البطّاش المجرم الّذي يسفك الدم الحرام ولا يمتنع عن ارتكاب جميع الآثام وهو يلهو ويلعب وكأنّه لم يفعل شيئاً، كما شهد به المولى العارف العالم ابن عقيل (علیه السلام) !

ولا يخفى أنّ يزيد الخبيث إنّما شكره على قتل البطل الهاشميّ وأنصاره وشيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وفق ما حدّث به ابن زيادٍ نفسه وأخبره به الرسولان.. وهو قد شوّه الأحداث وغيّر الحقائق بالشكل الّذي يبدو فيه بطلاً شجاعاً وذكيّاً حاذقاً ماهراً، ولم ينقل له الحقيقة كما وقعَت في الكوفة، ولم يفصّل ما فعله الفتى الطالبيّ، والحرج والمأزق الّذي تورّط به، والأيّام الصعبة العسيرة المكفهرّة الّتي أظلم نهاره عليه بظلّ مسلم بن عقيل (علیه السلام) الّذي سدّ عليه الفروج وجحره حتّى أوصد عليه أبواب القصر وبقي يتمنّى

ص: 201

اللحظة الّتي تنقذه من هذا الوجود المهيمن على سير الأحداث والموجّه لمجرياته..

وقد عرفنا يزيد بما وصفه لنا التاريخ وما شهد به سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء الحسين (علیه السلام) ، وبه نعرف من يكون رضىً له ومحبوباً لديه!

الوصف الثاني: وصفه بالحزم

الحزم: ضبطُ الرجُلِ أمْرَه والحذر من فواته، وفي الحديث: «أَنْ تَنْتَظِرَ فُرْصَتَكَ وتُعاجِلَ ما أَمْكَنَك»، وكذا ورد في الحديث أيضاً في الحزم: الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار. فالحزم أن تقدم العمل للحوادث الممكنة قبل وقوعها ((1)).

وهذا الوصف أبعَدُ ما يكون عن ابن زياد، غير إنّه وصف ليزيد ما فعله، فكان وصف يزيد تكراراً لما نسبه ابن زيادٍ لنفسه، فقد زعم أنّه استقبل الأُمور مع المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) استقبالاً وجعل عليه العيون ودسّ إليه الرجال، وغيرها من الفعال الّتي تفيد أنّه قد عرف بالضبط ما يدور حوله وأخذ زمام المبادرة بيده..

ص: 202


1- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحيّ: حَزَمَ.

والحال أنّ سفير الحسين (علیه السلام) كان هو المبادِر طيلة فترة وجوده في الكوفة، حتّى وقع أسيراً بعد أن صرعَتْه الجراحات الثقيلة وبلغ به العطش، بل حتّى بعد أن وقع في الأسر كان هو المهيمن على الموقف بلسانه ومواقفه وشجاعته، بحيث أخرس الطاغي وألقمه الأثلب والكثكث ملأ فمه.

الوصف الثالث: وصفه بالشجاع

وصفه بقوله: «صُلتَ صولة الشجاع.. الرابض..».

لابدّ ليزيد أن يشجّع جروه ويشدّ قلبه وأَزره ويلقّنه أنّه كفوٌ لما أُمِر به، لأنّه يحتاجه فيما يستقبل من الأيّام، ومضطرٌّ لعرضه كسلطانٍ متسلّطٍ صاحب سطوةٍ وبطشٍ، ليُخيف به ويُرعب الناس..

أيّ شجاعةٍ بدَتْ من الدعيّ؟ في أيّ موقفٍ من مواقفه بين يدَي البطل الطالبيّ ثبت؟!

أحين دخل النظّارة وهم ينادون: جاء ابن عقيل! فانسلّ عن المنبر وترك جموع المحتشدين في المسجد يسمعون خطابه، وانجحر في القصر وأوصد الأبواب؟!

أَم حين تفرّق عسكره في الكوفة بعد أن نودي بالشعار، فبقي يقرض ذيله ويتشبّث بالرجال حوله استيحاشاً؟!

أَم حين انفضّ الجمع وولّوا الدبر ليلة أحاطوا بالقصر، فأبى أن يخرج إلّا

ص: 203

أن تنزل شعل نيران المشاعل وتمسح ما تحت التخاتج؟!

أَم حين أراد أن يصلّي بالناس، وقد أحاط به الحرس والشرطة وجعل الحرس الخاصّ حوله، وكلّف أمير شرطته أن يبقى واقفاً مراقباً؟!

لم يظهر في المسجد للناس إلّا بعد أن كان يطمئنّ من تأمين الحماية الكافية، فيخرج والسيوف تلمع بين يديه وتحيطه من كلّ حدَبٍ كالحلقة.. وهو مع ذلك يتلدّد يميناً وشمالاً؟!

لم يسجّل له أيّ مواجهةٍ مع البطل الطالبيّ قبل أن يقع في الأسر.. وبعد الأسر كان يرتجف رغم سطوة السلطان، ولم يمثل بين يدَي سفير الحسين (علیهما السلام) إلّا بعد أن توثّق من وثاق الأسد الهصور وأنّه قد كُتِف، ومع ذلك فقد أُدخِل إلى المجلس والجلاوزة تحيط به؛ خوفاً وفَرَقاً من سطوة سليل إبراهيم الخليل!

لقد شهد التاريخ والنسب والحسب والسيرة الذاتيّة كلّ صور البطولة والشجاعة لمسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ولازالت ذكريات بسالته وشجاعته وسطوته ترنّ في أسماع الزمن وتتجاوب بها جدران المسجد الأعظم وقصر الإمارة.. كما قد شهد التاريخ بجبن ابن الأَمة الفاجرة رغم بطشه إذا كان معه أحد، وقد أتينا على تفصيل ذلك في دراساتٍ سابقة.

ص: 204

الوصف الرابع: رابط الجأش

وصفه بأنّه رابط الجأش..

والجَأْش: القَلْب، والنفْس، والجَنان، يُقال: فلانٌ رابط الجَأْش، أي: ثابِتُ القلب، لا يرتاع ولا ينزعج للعظائم والشدائد ((1)). والقلب وهو رواعة إذا اضطرب عند الفزع، يُقال: فلانٌ رابط الْجَأْشِ، أي: ربط نفسه عن الفرار لشجاعته ((2)).

والكلام هنا تماماً كالكلام في وصفه بالشجاعة، وأيّ قلبٍ كان لابن زياد، وأيّ ثباتٍ ورباطة جأشٍ وهو يتفرقع كالشعيرة على حديدةٍ محماة، ولا يهدأ له روعٌ مع كلّ ما يحيط به من جُندٍ وشرطةٍ وغوغاء؟! وقد سلبه المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) قراره، وأفرغ قلبه وجعله خاوياً مضطرباً، وهو وحده لا ناصر له ولا معين!

لقد كانت صورة المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) وشجاعته وصولته تجيش الرعب والخوف في أعماق ابن زياد، فكان يجيّش لها الذئاب الّتي تحوطه لتمزّق أوصاله.. أمّا هو نفسه فقد التصق بجدران القصر العالي الأسوار المنيع المحصّن بالأبراج كأنّه القلعة المنيعة، وراح يبدّد قلقه وخوفه بقضم

ص: 205


1- أُنظر: النهاية في غريب الحديث: جاشَ.
2- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحيّ: جَيَشَ، ولسان العرب: جاشَ.

ذيله بسرعة، وقد ملأ الكوفة خيلاً ورجالاً، وحشّد الغوغاء وشيوخ العشائر والعرفاء.. والمولى الغريب مسلم (علیه السلام) وحده يدير الميدان كما يحلو لسيفه، ويستحثّ ملك الموت ومالك خازن النيران ويوجّههما حيث يشاء!

أجل، لابن زيادٍ قدمٌ راسخٌ وجأشٌ رابطٌ في الإقدام على حُرمات الله وارتكاب كلّ ما حرّمه الله، إرضاءً لعَبَدة الشيطان واتّباعاً لمردة عفاريت السقيفة والمجرمين بحقّ البشريّة طول الزمان.

وهكذا قِسْ بقيّة ما وصف به القرد المجدور جروه المسعور في باقي الكتاب.

المقطع الثاني: ذَكَر الرسولَين ومدَحَهما
اشارة

أفادت جملة النصوص الواردة فيما ذكره القرد المجدور يزيد حول الرسولَين ورأيه فيهما عدّة نقاط:

النقطة الأُولى: دعوتهما من قِبَل يزيد

المفروض أنّهما رسولان لقرد هند، ويحملان معهما كنزاً ثميناً وبشرى لابن آكلة الأكباد، فلابدّ أن يستقبلهما ويستلم منهما الكتاب والرؤوس المقدّسة.

بَيد أنّه عبّر عن ذلك بالدعوة، أو أنّه خصّهما بدعوةٍ وأقام لهما مأدبةً وخلى بهما؛ لتكون لهما ميزةٌ وزلفةٌ خاصّة، ويُشعِرهما وغيرَهما أنّهما

ص: 206

مقرّبان، كما تفيد لفظ: «وناجيتُهما»، والإقبال عليهما بالسؤال منهما والاهتمام بشأنهما.

النقطة الثانية: شرح ما ذكره ابن زياد

إنّهما شرحا له ما ذكره ابن زيادٍ وفرشاه له، وأطالا فيما اختصره الكتاب، وقد شهد يزيد أنّهما تحدّثا تماماً كما ذكر ابن زياد، فهما رسولان مِن عنده، ومكلَّفان مِن قِبَله أن يرسما للقرد المجدور الصورة الّتي يريدها هو وفق مشتهياته، فهما لم يحدّثاه بما جرى كما جرى، وإنّما كما أراد ابن زيادٍ أن يخبر به ويرسمه.. وإذا كان سيّدهما يكذب في كتابه كذباً مفترعاً ويسجّله، فكيف بهما وهما موصيان!

النقطة الثالثة: تأكيد يزيد على نذالتهما

لقد شهد ابن زيادٍ لهذين العلجَين بالنصيحة والإخلاص والرسوخ في مذهبهما، فلمّا خالطا القرد المخمور واستروح منهما قيأه، شهد لهما بجميع ما شهد لهما به جروه، وفي هذا كفايةٌ لمعرفتهما والاطّلاع على مدى انصهارهما في الولاء لأولاد البغايا.

النقطة الرابعة: الجائزة والوصيّة بهما

أمر يزيد لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف، كما في نصّ ابن أعثموالخوارزميّ، واستوصى بهما ابن زياد..

ص: 207

فأيّ بشرى أدخلاها على قلب هذا القرد المنحطّ، وأيّ شيءٍ وجد فيهما وعرفه في خلالهما وخصالهما وخلوصهما ونصيحتهما، بحيث نالا عنده الحظوة وتقرّبا إليه بهذه الخطوة؟!

المقطع الثالث: إصدار الأوامر
اشارة

أشار القرد الأبقع في ذيل كتابه إلى خبرٍ مهمٍّ بلغه، وهو توجُّهُ سيّد شباب أهل الجنّة إلى العراق! والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) توجّه إلى العراق في الثامن من ذي الحجّة، وهو يوم النداء بالشعار، فكان خروجه من مكّة بعد أن استتبّ الوضع وأعلنَت الكوفة إذعانَها وخنوعَها وخضوعَها الكامل للسلطة، وقد استبق الأحداث باتّخاذ كلّ التدابير لملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومحاصرته واستئصال آل محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) وذرّيّة الطاهرة البتول فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وهو اليوم الّذي كان يسعى إليه الثائرون لقتلى بدرٍ وأُحُدٍ والأحزاب، ويتمنّاه جرذان السقيفة ورؤوسها، ويخطّط له ذراري القرود والوزغ، ليتسنّى لهم ترويح جمرة الانتقام الّتي لا تخمد في قلوبهم الوغرة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ..

* * * * *أصدر ابنُ آكلة الأكباد حزمةً من الأوامر لجروه المتوحّش في ذيل الكتاب تخصّ مستقبل الأحداث المترقّبة القريبة، يمكن إجمالها كالتالي:

ص: 208

الأمر الأوّل: وضع المناظر والمسالح، ووضع الإرصاد على الطرق.

الأمر الثاني: إذكاء العيون.

الأمر الثالث: الاحتراس كلّ الاحتراس.

الأمر الرابع: الحبس على الظنّة.

الأمر الخامس: الأخذ بالتهمة والقتل على التهمة، حتّى يُكفى أمرُ سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الأمر السادس: أن لا يقاتل مَن لا يقاتله.

الأمر السابع: أن يكتب إليه في كلّ يومٍ بما يحدث من خبرٍ ويتجدّد من خيرٍ أو شرّ، ولا ندري ما إذا كان البريد يصله كلَّ يومٍ أو خلال أيّامٍ قليلةٍ جدّاً بحيث يصدق عليه أنّه يكون مطّلعاً على كلّ ما يحدث ويتجدّد.

ويمكن أن نتناول الأوامر كلّاً على حِدَة:

الأمر الأول: التجسّس والاحتراس
اشارة

• فضَعِ المراصدَ ((1)) على الطرق ((2))..

ص: 209


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 108، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 94.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.

• فضَعِ المناظرَ ((1)) والمسالح ((2))، واحترِسْ ((3)) منه ((4)) كلَّ الاحتراس ((5))..

• وأَذْكِ العيونَ ((6)) عليه ((7))..

يفيد مؤدّى الكتاب أنّ المقصود من الاحتراس ووضع المسالح والمناظر

ص: 210


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381، الفتوح لابن أعثم: 5 / 108، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 108، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، المنتظَم لابن الجَوزي: 5 / 329، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140.
5- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.
6- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.
7- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.

والمراصد وإذكاء العيون إنّما هو شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويؤكّد ذلك ما ورد في (التذكرة) لسبط ابن الجَوزيّ: «احترسْ منه»، وما ورد في (أخبار) الدينوريّ: «وأذكِ العيون عليه».. فإنّ الضمير في «منه» و«عليه» يعودان بالتأكيد على سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فهي إجراءاتٌ تخصّ الإمام الحسين (علیه السلام) ، وهي غير الإجراءات العامّةالّتي سيأتي الحديث عنها الّتي ربّما شملَت العموم، وعلى الأقلّ لابدّ من القول أنّ الإمام (علیه السلام) هو المقصود الأوّل فيها.

والمطلوب في هذا الأمر:

المطلوب الأوّل: وضع المراصد والمناظر

ربّما كان بعض العناوين المدرجة في الأمر الأوّل متداخلة، بَيد أنّها تختلف في بعض الخصوصيّات والجهات، فيؤدّي الاختلاف إلى اختلاف المطلوب، فربّما كان المرصد والمنظر غير المسلحة من حيث اختلاف تعريفها في اللغة.

وكان المطلوب الأوّل يركّز على المراصد والمناظر.

والمراصد: جمع المرصد، وهو موضع الرصد والترقّب، ورصدتَه: إذا قعدتَ له على طريقه تترقّبه ((1)).

ص: 211


1- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحيّ: رَصَدَ.

والمناظر: جمع المنظر، وهو الأرض المرتفعة الّتي يمكن أن يشرف منها فينظر.

فهو يأمر جروَه أن ينصب الربايا ليرصد الحركة في الطرق والصحراء والموالج والمخارج، ليترقّب أيَّ حركةٍ يمكن أن تشي بوجود سيّدالشهداء (علیه السلام) ، فيمسح الطرق جميعاً لمراقبته.

ويبدو أنّ المرصد والمنظر لا يُؤخَذ فيه أن يكون الراصد مسلَّحاً، ويكفي أن يكون في موضعٍ يمكنه أن يراقب الطريق ليكتشف حركة مَن يراقبه فيتابعها ويخبر عنها، فيقول مثلاً أنّه سلك الطريق الفلاني ووصل إلى المنزل الكذائي، وهكذا..

المطلوب الثاني: وضع المسالح

المَسْلَحة: قومٌ في عُدَّةٍ بموضع رَصَدٍ قد وُكِّلوا به بإِزاء ثَغْر، واحدُهم مَسْلَحِيٌّ، والجمع المَسالح، والمَسْلَحة كالثَّغْر والمَرْقَب.

ومَسْلَحَةُ الجُنْد: خطاطيف لهم بين أَيديهم ينفضون لهم الطريق، ويَتَجَسَّسُون خبرَ العدوّ ويعلمون علمهم، لئلّا يَهْجُم عليهم، ولا يَدَعَون واحداً من العدوّ يدخل بلاد المسلمين، وإنْ جاء جيشٌ أنذروا المسلمين.

والمَسلَحَةُ: القومُ الّذين يحفظون الثغور من العدوّ، سُمّوا مَسْلَحةً لأنّهم يكونون ذوي سلاح، أو لأنّهم يسكنون المَسْلَحة، وهي كالثغر والمَرْقَب

ص: 212

يكون فيه أقوامٌ يَرْقُبون العدوَّ لئلّا يَطْرُقَهم على غَفْلة، فإذا رأَوه أعلمُوا أَصحابَهم لِيتأَهّبُوا له ((1)).ربّما كان الفرق بين المراصد والمسالح فيما تضمّنه التعريفان، فإنّ في المسالح رجالاً مسلّحين يرقبون العدوّ ويحفظون الثغور ويمسحون الطريق ويتجسّسون خبر العدوّ، فهم يتحرّكون على الأرض لاستقصائها، سيّما إذا لاحظنا قولهم: «خطاطيف للجُند بين أَيديهم ينفضون لهم الطريق»، بل حتّى لو فرضنا أنّها مفرزةٌ ثابتةٌ في مكانها، بَيد أنّها تكون مسلحةً بحيث يمكنها الاشتباك مع العدوّ لمشاغلته وإيقاف تقدُّمه إلى حين وصول الجيش.

المطلوب الثالث: إذكاء العيون

يبدو أنّ إذكاء العيون أعمُّ من المراصد والمناظر والمسالح؛ فالعيون يمكن أن تنتشر في كلّ مكانٍ في الداخل والخارج، وهي لا تتزيّا بالزيّ العسكريّ، وليس لها موضعٌ معيّنٌ تلتزم به كنقطة مراقبةٍ أو ربيةٍ أو كمينٍ في مرتفعٍ أو ما شاكل..

وربّما أفاد قوله: «إذكاء العيون»، أنّ العيون عاملةٌ محدقةٌ ترصد ما

ص: 213


1- أُنظر: لسان العرب: سَلَحَ.

هبّ ودبّ، غير أنّه يطالبه بإذكائها وإدخالها في حالةٍ من الإنذار المشدّد.

المطلوب الرابع: الاحتراس كلّ الاحتراس!

ذكر القرد المخمور المسعور ثلاث طرقٍ أمر بها، ثم أمره أمراً عامّاًترك فيه الخيار لنغلهم ابن الأَمة الفاجرة ليختار الوسائل والأدوات الّتي تفي بالغرض، فأمره بالاحتراس، وأكّد عليه باستغراق واستيعاب جميع الموارد والوسائل الّتي يمكن أن توفّر له الاحتراس، فقال: «كلّ الاحتراس»! وفي هذا تأكيدٌ مشدَّدٌ على الحذر في أقصى درجاته وبجميع وسائله وأدواته.

الأمر الثاني: الأخذ على الظنّة

ورد هذا الأمر في المصادر على اختلافها بهذه الألفاظ الثلاثة تقريباً:

• واحبسْ على الظنّ، أو: الظنّة ((1)).

• واحترسْ على الظنّ ((2)).

ص: 214


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 94، الفتوح لابن أعثم: 5 / 108، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140، الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 359، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381.

• وخُذْ على الظنّة ((1)).

والمعنى فيها متقارب؛ فالاحتراس والأخذ يتمّ بالحبس، والظنّ والظنّة: التهمة والاتّهام ((2)).

وربّما أفاد جمع (الظنّة) و(التهمة) معاً في الكتاب الواحد أنّ الظنّة ما هو دون التهمة وأقلّ منها، ولو كان مجرّد شكّ، سواءً كان في الفعل ما يساعد على الاتّهام أو لا..فيكفي مجرّد الشكّ أو الاحتمال والتوهُّم مهما كان ضئيلاً لإلقاء القبض على الفرد المظنون..

وربّما شهد لذلك اختلاف الحكم في الحالَين، فقد حكم على المظنون أن يُؤخَذ أو يُحبَس أو يُحترَس منه، فيما روى ابن شهرآشوب والخوارزميّ والمفيد والمجلسيّ وغيرهم الحكم بالقتل على التهمة، «واقتُلْ على التهمة حتّى تُكفى أمره» ((3))، «واقتُلْ على التهمة» ((4)).

ص: 215


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403.
2- ظَنَنْتُه ظَنّاً وأظْنَنْتُه واظْطَنَنْتُه: اتَّهَمْتُه، والظِّنَّة: التُّهَمَة (أُنظر: لسان العرب: ظَنَنَ.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 94.
4- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 359، العوالم للبحرانيّ: 17 / 209.

فيكون حينئذٍ معنى (الأخذ) ((1)) على التهمة الوارد في لفظ بعضهم: (القتل).. وربّما فُهِم معنى الحبس في لفظ ابن الأثير: «واحبِسْ على التهمة» ((2)) أيضاً بمعنى القتل أو مقدّمة القتل، ويمكن أن تكون التهمة في لفظ ابن الأثير وغيره بمعنى (الظنّة) تماماً..

وربّما جمع كلام السيّد ابن طاووس معاني كلام القوم حين قال: «ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة، والانتقام والحبس على الظنون والأوهام» ((3)).

الأمر الثالث: لا تقاتِلْ إلّا مَن قاتلك

جاء الأمر في المصادر المتقدّمة _ من قبيل البلاذريّ والدينوريّ _ بلفظ: «غير أن لا تقاتل إلّا مَن قاتلك» ((4))، ثمّ تغيّرت كلمةٌ واحدةٌ عند

ص: 216


1- في تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140: «وخُذْ على التهمة»، وفي جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342: «وخُذْ بالتهمة».
2- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403.
3- اللهوف لابن طاووس: 60.
4- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.

الطبريّ ومَن تلاه فقالوا: «غير أن لا تقتل إلّا مَن قاتلك»! ((1))

فربّما دلّت عبارة البلاذريّ والدينوريّ على معنىً لا يصطدم بالأوامر الأُخرى الصادرة في الكتاب، أمّا عبارة الطبريّ ومَن تلاه فإنّها قد تفسَّر بمعنىً لا ينسجم مع الموادّ الأُخرى، إذ أنّه أمره أن يقتل على التهمة، فكيف يأمره هنا أن لا يقتل إلّا مَن قاتله؟

إلّا أن يُقال: إنّ ثَمّة تصحيفاً أو أنّ حرفاً واحداً (الألف) في (تُقاتِل) قد سقط، أو يقال: إنّ المراد بلا تقتل أي لا تقاتل، فيكون المعنى واحداً.

وكيف كان، فإنّ القرد المسعور يأمر جروه المتوحّش أن لا يقاتل من لا يقاتله؛ لئلّا يتورّط في حربٍ جانبيّةٍ ويتشاغلَ بصراعاتٍ تفرّق عسكره وتبدّد قوّته وتُضعِف جانبه في الحرب الّتي يسعى لها حفيد أبي سفيان، فلا يحقّق له ما يروم من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وربّما كانت إشارةً منه أن لا يقاتل أحداً سوى مَن أمره بقتاله، وهو سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ! ولا يعتني بغيره إذا ظفر به، إذ أنّ من الواضح أنّه قد أمر جروه بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما ضمّ الكوفة إلى ولايته إلّا مِن

ص: 217


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نفَس المهموم للقمّيّ: 120، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 403، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.

أجل ذاك!

الأمر الرابع: عدم قطع الأخبار عنه

• واكتُبْ إليّ في كلّ ما يحدث من خبر ((1)).

• واكتُبْ إليّ في كلّ يومٍ بما يحدث من خيرٍ إن شاء الله ((2)).

• واكتُبْ إليّ بالخبر في كلّ يوم ((3)).

• واكتُبْ إليّ في كلّ يومٍ بما يتجدّدُ لك من خيرٍ أو شرّ ((4)).

• واكتُبْ في ذلك إليّ كلَّ يومٍ بما يحدث من خبر ((5)).

• واكتُبْ إليّ في كلّ ما يحدث من خيرٍ إن شاء الله ((6)).

• واكتُبْ إليّ في كلّ ما يحدث من خيرٍ وشرّ ((7)).

مؤدّى عبارات المؤرّخين المذكورة _ على اختلاف ألفاظها المتقاربة _

ص: 218


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 380 _ 381، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 342.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 108.
5- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
6- المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 329.
7- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 140.

أن لا يقطع أخبار ما يجري في الكوفة من خيرٍ أو شرّ، وكلَّ ما يتجدّد ويحدث، ويكتب إليه في كلّ يوم.فهل كان البريد يصل كلّ يومٍ إليه، بحيث يكون خبر ذلك اليوم قد وصل إليه في نفس اليوم؟

ولا يبعد ذلك؛ حيث كان خطّ البريد يمتاز بالسرعة والتنظيم والعدّة الكافية، والأفراس المعدّة للبريد تتميّز عن سائر الأفراس بالسرعة المذهلة والخفّة والتهام الطريق وقطع المسافات في أوقاتٍ قياسيّةٍ خاطفة، وهي لا تعدو سوى مسافة قصيرة، ثمّ يُدفَع البريد إلى فرسٍ وفارسٍ جديدٍ ليقطع مسافةً جديدةً يعدو فيها غاية طاقته وجهده ليدفع إلى مَن بعده، وهكذا.. فتُقطَع المسافة كلّها بأفراسٍ نشيطةٍ قويّةٍ سريعةٍ غير مُتعَبة، فلا يبعد أن يصل الكتاب نفس اليوم من الكوفة إلى الشام.

أو أنّ المقصود أن يكتب له كلّ يومٍ بما يتجدّد، وإنْ كان يصل إليه متأخّراً عن يوم وقوع الحدَث، غير أنّه سيتابع الأحداث بشيءٍ من التأخير ليس إلّا.

وظاهر العبارة يفيد الأوّل، والله العالم.

وربّما ترتّب على ذلك أنّ يزيد الخمور والفجور سيكون في الصورة بشكلٍ دائمٍ وسيتابع الأحداث، ويكتب له بما يراه ويأمر به كلّ يومٍ أيضاً.

ص: 219

وهذا يعني تكذيب أيّ ادعاء، سواءً كان من قِبَل يزيد الخنا، أو منقِبَل المؤرّخ الّذي يزعم أنّ ما فعله ابن زيادٍ إنّما عجّل به على الإمام الحسين (علیه السلام) وأنّ يزيد لم يكن ليرضى بما فعل، أو أنّه لم يعلم بما فعل.. ولم يفعل ابن زيادٍ إلّا ما أمره به سائسُه أو خوّله به، ولو من خلال التخويل العامّ الّذي خوّله به في قوله: «وقُم أفضل القيام» ((1)).

وله أن يتّخذ أيّ إجراءٍ يوفّر له الضمانات الكافية، ويعمل أيَّ عملٍ يسمح له بتنفيذ أوامر سيّده ويحقّق له مراده في التخلّص من عدوّه، إذ عليه أن يقوم بما أمره «أفضل القيام»!

* * * * *

هذه الأوامر الصارمة تكشف عن أجواء الرعب الّتي خيّمَت على المنطقة الممتدّة في الصحراء الّتي يتحرّك فيها الركب الحسينيّ الحزين، وتُنبئ عن الارتجاج والزلزال الهائل الّذي ضرب الكوفة وضواحيها ومخارجها وموالجها، فالعيون حادّةٌ مُحدِقةٌ تحصي الأنفاس في جميع الأرجاء، وتمتدّ إلى أقصى الخصوصيّات، وتخترق حريم العشائر والقبائل والدور والبيوت والقوافل، والحركة مرصودةٌ ولو كانت دبيباً في رمال المفاوز والصحارى

ص: 220


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 242.

والقفار، والمسالح والمناظر والمراصد مزروعةٌ في كلّ اتجاه، والربايا تجعل الطرق تحت الإشراف المباشر لملاحقات العساكر.. العساكر الّتي كانت تجوب الصحراء تبحث عن الصيد السماويّ الأعظم، المتعطّشة للولوغ في الدماء الزاكية، المتألّبة على انتهاك حرم الله وحرم رسوله.. وقد أعدّت مخالبها وأنيابها لتقطيع أوصال العترة الطاهرة، واشتدّ ولعها وتجيّش توحّشها لاستخراج العلقة من جوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

وقد أُطلقت الوحوش الكاسرة على كلّ ما هبّ ودبّ في الكوفة، لتكون مجرّد التهمة كافيةً لاستباحة الحريم، والظنّة موجبةً لسفك الدم..

لقد التهبت شوارع الكوفة وأزقّتها، وانتشرت النار إلى أطرافها وأكنافها والمنازلِ والطرقِ المؤدّية إليها.. واستسلم الناس فيها للطاغية حينما استخفّهم فأطاعوه.. فازدحمَت المناهج والسكك بالرجال، يتكالبون على التقرّب إلى ابن الأَمة الفاجرة، فارتفع الضجيج، وتعالى الصخب، وانبثّت الضوضاء تلفّ الأجواء، وتداخلَت أصوات قعقعة السلاح وصهيل الخيل ودبك حوافرها وسنابكها وأزيز شحذ السيوف وبري الرماح وقدح النبال، وزعقات الرجال يخبطون الأرض ويثيرون رمال الفيافي والصحراء، يستعدّون لارتكاب الجريمة العظمى..

فأغضبَت اللهَ في قتلِهِ

وأرضَتْ بذلك شيطانَها!

ص: 221

عشيّةَ أنهضَها بغيُها

فجاءَتْه تركبُ طغيانَها

بجمعٍ من الأرضِ سدَّ الفروج

وغطّى النجودَ وغيطانَها

* * * * *

لقد حاصر الرجسُ النجسُ سيّدَ الشهداء في مدينة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومسقطِ رأسه، حتّى خرج منها تحت جُنح اللّيل البهيم، وأمر أن تُؤخَذ منه البيعة وإلّا فهو ينتظر على عجلٍ رأسَه مع جواب الكتاب..

ثمّ حاصره في مكّة حرمِ الله الآمِن، ودسّ شياطينه ليُقتَل ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة..

فخرج الإمام الغريب المظلوم مشرَّداً مطارَداً، متوجّهاً إلى الأرض الموعودة ميمِّماً كربلاء، وإن كانت وجهته المعلَنة الكوفة الّتي وعَدَته النصرة والوفاء..

لقد كانت الكوفة هي البلد الوحيد الّذي أعلن بعضُ أهله يومها استعدادهم للدفاع عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ونصرته، وكان القرد المخمور وجِراؤه قد اطمأنّوا أن لا ناصر لريحانة النبيّ ولا مانع، فالمدينة خذلَته وضيّعَته، ومكّة خذلَته وما أحبَّتْه، وباقي أصقاع الأرض خذلوا وتجاهلوا!

وقد سمع الإمامُ (علیه السلام) في الطريق _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ بنبأشهادة مسلم (علیه السلام) ومَن معه، وارتداد الناس هناك وفقدان الناصر، وأن

ص: 222

ليس له فيها سيفٌ ولا كسرُ سيف، وأنّ الصحراء قد نُظِمَت خيلاً ورجالاً، وأُطبق على الكوفة ومداخلها ومخارجها إطباقاً لا يسمح أن يتسلّل إليها أحدٌ إلّا إذا فُتّش، ومع ذلك استمرّ في المسير.

وكان يزيد يعلم أيضاً أنّ عساكره منتظمةٌ متماسكةٌ في أعلى مراتب الجهوزيّة والاستعداد، ومع ذلك أمر باتّخاذ هذه الحزمة الصارمة القاسية الهوجاء!

المقطع الرابع: جمع المقاطع

يُلاحَظ أنّ يزيد القرود قد كتب كتابين في هذه الفترة إلى ابن زياد، أحدهما استهدف فيه ابن زيادٍ نفسه _ كما سمعنا في القسم الأوّل _، والثاني استهدف فيه الناس في الكوفة، وكلاهما مشحونان بالتهديد الغليظ والوعيد والتهويل والتخويف والإرعاب والتجييش والتحشيد.

جعل ابنَ زيادٍ الوحش الكاسر متنمّراً، وأطلق مخالبه وأنيابه تمزّق كلّ شيءٍ من أجل تحقيق ما يريد ويحاول ويصاول من أجله.

هدّد ابنَ زيادٍ نفسه.. ثم سلّطه على الناس ليهدّدهم به.. وحشر الجميع في وجهةٍ واحدةٍ وحشدهم لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..ونعود هنا لنشير مرّةً أُخرى إلى أنّه لم يصدر _ إلى هذا الحين _ أيّ خطابٍ أو موقفٍ صريحٍ من سيّد الشهداء (علیه السلام) يفيد أنّه يريد منازعة يزيد

ص: 223

سلطانه، أو يقصد محاربته لأيّ غرض، بل لم نسمع من الإمام (علیه السلام) كلمةً هجوميّةً يوجّهها نحو يزيد على رؤوس الأشهاد ويعلنها في خطابٍ عامٍّ ليسمعها الناس!

أمّا ما ذكروه من وصف الإمام الحسين (علیه السلام) ليزيد بأنّه شارب خمرٍ ولاعبٌ بالقرود وغيرها، فهي إمّا في خطابٍ مع معاوية، وهو قبل قيامه (علیه السلام) ، فلا يدخل في البحث، وإمّا مع الوليد والي يزيد على المدينة، وكان ذلك في ديوان الوالي، وقد تفرّد بنقله ابن أعثم.. وفي كلا الخبرَين كان كلام الإمام (علیه السلام) في محضرٍ خاصٍّ وليس عامّاً!

ص: 224

والي يزيد يحاول منع الحسين (علیه السلام) من الخروج من مكّة

المتون

إبن قُتيبة:

فلمّا انصرف عثمانُ بن محمّدٍ من الصلاة، بلغَه أنّ الحسين خرج. قال: اركبوا كلَّ بعيرٍ بين السماء والأرض فاطلبوه. فطُلِب فلم يُدرَك.

قال: ثمّ قَدِم المدينة ((1)).

البلاذريّ:

قالوا: واعترضَت الحسينَ رسُلُ عَمرو بن سعيدٍ الأشدق، وعليهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاصي بن أبي أحيحة، فقالوا له: انصرفْ،

ص: 225


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176.

إلى أين تذهب؟ فأبى عليهم، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط.

ثمّ إنّ حسيناً وأصحابه امتنعوا منه امتناعاً قويّاً، ومضى الحسينُ على وجهه، فنادوه: يا حسين! ألا تتّقي الله؟ أتخرج من الجماعة؟ ((1))

الدينوريّ:

قالوا: ولمّا خرج الحسينُ من مكّة، اعترضه صاحبُ شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعةٍ في الجند، فقال: إنّ الأمير يأمرك بالانصراف، فانصرِفْ وإلّا منعتُك. فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عَمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطه يأمره بالانصراف ((2)).

الطبريّ، ابن كثير:

قال أبو مِخنَف: حدّثَني الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عُقبة بن سمعانٍ قال:

لمّا خرج الحسينُ من مكّة، اعترضه رسُلُ عَمرو بن سعيد بنالعاص،

ص: 226


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 244.

عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرفْ، أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا امتناعاً قويّاً، ومضى الحسينُ (علیه السلام) على وجهه، فنادوه: يا حسين، ألا تتّقي الله؟ تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة! فتأوّل حسينٌ قول الله (عزوجل) : ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ((1)) ((2)).

إبن عبد ربّه، الباعونيّ:

فلمّا انصرف عَمرو بن سعيد، بلغَه أنّ حسيناً قد خرج، فقال: اطلبوه، اركبوا كلَّ بعيرٍ بين السماء والأرض فاطلبوه. قال: فعجب الناسُ من قوله هذا، فطلبوه فلم يدركوه.

ورجع عَمرو بن سعيدٍ إلى المدينة ((3)).

المفيد، المجلسيّ:

ص: 227


1- سورة يونس: 41.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 385، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 256.
3- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 256.

وكان الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) لمّا خرج من مكّة اعترضه يحيى بن سعيد بن العاص، ومعه جماعةٌ أرسلهم عَمرو بن سعيدٍ إليه، فقالوا له: انصرف، إلى أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسينُ وأصحابُه منهم امتناعاً قويّاً ((1)).

الخوارزميّ:

فلمّا خرج اعترضه أصحابُ الأمير عَمرو بن سعيد بن العاص، فجالدهم بالسياط، ولم يزد على ذلك، فتركوه، وصاحوا على أثره: ألا تتّقي الله (تعالى)؟ تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة! فقال الحسين: ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ ((2)).

إبن الأثير:

فاعترضه رسُلُ عَمرو بن سعيد بن العاص _ وهو أميرٌ على الحجاز ليزيد بن معاوية _ مع أخيه يحيى يمنعونه، فأبى عليهم ومضى،

ص: 228


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 69، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 365، العوالم للبحرانيّ: 17 / 215، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 237، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245، نفَس المهموم للقمّيّ: 171.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 220.

وتضاربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه ((1)).إبن نما، المجلسيّ:

حدّث عُقبة بن سمعان قال:

خرج الحسينُ (علیه السلام) من مكّة، فاعترضَتْه رسُلُ عَمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيدٍ ليردّوه، فأبى عليهم، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط، ثمّ امتنع عليهم الحسين وأصحابه امتناعاً شديداً، ومضى الحسين على وجهه، فبادروا وقالوا: يا حسين! ألا تتّقي الله؟ تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة! فقال: ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ((2)).

النويريّ:

فاعترضه رسُلُ عَمرو بن سعيدٍ مع أخيه يحيى يمنعونه، فأبى عليهم ومضى ((3)).

ص: 229


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 276.
2- مثير الأحزان لابن نما: 19، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 368، العوالم للبحرانيّ: 17 / 218، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 237.
3- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 409.

الطُّريحيّ:

ونقل أنّه لمّا خرج من مكّة اعترضه رسولُ عَمرو بن سعيد _ وفيهم يحيى بن سعيد _ ليردّوه، فأبى عليهم، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط، ثمّ امتنع عليهم الحسين امتناعاً شديداً،ومضى لوجهه، فنادوه وقالوا: يا حسين! ألا تتّقي الله؟ تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة! فقال لهم: ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ((1)).

* * * * *

يمكن دراسة النصوص المذكورة أعلاه من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: اضطراب متن ابن قُتيبة

يُلاحَظ في متن ابن قُتيبة اضطرابٌ واضحٌ يكاد يقضي على النصّ ويُسقِطه عن الاعتبار، وفيه من الكذب المُقرِف ما تمجّه الطباع السليمة والسلائق المستقيمة، إذ أنّه يروي خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد أن يفتري عليه في قضيّة الصلاة، وأنّه (علیه السلام) أبى أن يتقدّم على الوالي، فطلب

ص: 230


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 435، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 593، لواعج الأشجان للأمين: 74.

منه الناس أن يخرج إنْ أبى التقدُّمَ في الصلاة، ففضّل الصلاةَ في جماعةٍ وصلّى بصلاة الوالي، ثم خرج.. وبعدها يروي خبر خروج الإمام (علیه السلام) وما قاله الوالي، ويزعم أنّ الوالي هو عثمان بن محمّد! ((1))وروى ابن عبد ربّه والباعونيّ نفسَ الحكاية في الصلاة، بَيد أنّهما صحّحا اسم الوالي، وهو عندهما: (عَمرو بن سعيد) ((2)).

أمّا باقي الخبر، فهو أقرب إلى حوادث الخروج من المدينة، والله العالم.

وسيأتي الكلام عنه في محلّه إن شاء الله (تعالى)، على فرض أنّه في مكّة.

الإشارة الثانية: خلاصة الحدَث

لمّا خرج الحسينُ من مكّة، اعترضه رسُلُ عَمرو بن سعيدٍ الأشدق، وعليهم أخوه يحيى بن سعيد، وكان صاحبَ شرطته، في جماعةٍ في الجُند، فقال له: انصرفْ، إلى أين تذهب؟ إنّ الأمير يأمرك بالانصراف، فانصرِفْ وإلّا منعتُك.

ص: 231


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 256.

فامتنع عليه الحسين، وتدافَعَ الفريقان واضطربوا بالسياط، فجالدهم بالسياط، ولم يزِدْ على ذلك.

ثمّ إنّ حسيناً وأصحابه امتنعوا منه امتناعاً قويّاً، ومضى الحسينُعلى وجهه.

فتركوه، وصاحوا على أثره: يا حسين! ألا تتّقي الله؟ أتخرج مِن الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة؟ فقال الحسين: ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

وبلغ ذلك عَمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطه يأمره بالانصراف.

الإشارة الثالثة: فشل عرض الأمان

مرّ علينا فيما سبق أنّ الأشدق كتب كتاباً يعرض فيه الأمان على الإمام (علیه السلام) ويدعوه للبقاء في مكّة، وقد أتينا على دراسته مفصَّلاً.. وعرفنا أنّ خدعته ومكره لم يغنيا عنه شيئاً، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أبى _ وهو معدن الإباء _ أن يرضخ لوعده الكاذب وأمانه الخائب، وفوّت عليهم فرصة الاستبقاء عليه في مكّة حتّى يتمكّنوا من تنفيذ خطّتهم في اغتياله أو أخذِه هناك، وتعجّل الخروج حمايةً لحرمة البيت وحرمة دمه الزاكي ودماء

ص: 232

مَن معه..

فلمّا يئس الّذين كفروا ورُدَّ مكرهم إلى نحورهم، ولم تعمل خديعتهمكما توهّموا، حاولوا محاولةً أُخرى لم تكن الأجدر ولم تنفعهم شيئاً، كما سنسمع بعد قليل.

الإشارة الرابعة: الظروف المحيطة

كانت المدينة قد أسلمَت القياد لآل أبي سفيان، وخضعَت لتهديدات الأشدق ومَن ولّاه، وكانت مكّة كالمدينة تماماً، وكان الحجيج في غفلةٍ من أمرهم، يخوضون في مناسكهم ويؤدّون طقوسهم الفارغة كأنّهم لا يشعرون بما يجري حولهم من ملاحقة حبيب الله وحبيب رسوله وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، وبقيّة العترة الطاهرة الّتي أمر الله ورسول الله بالتمسُّك بها وحمايتها وجعلَها وديعةً في أعناقها إلى يوم القيامة..

وكانت باقي الأمصار تعيش حياتها الرتيبة، وترزح تحت نير البيعة الّتي بايعوا بها يزيد القرود، إنْ في عهد معاوية أو بعده حينما سارعوا إلى تجديدها بعد أن نزا يزيدُ على أعواد المنبر في دمشق الشام..

وكانت الكوفة آنذاك بأكثريّةٍ مشمولةٍ بحكم باقي الأمصار، وأقلّيّةٍ هائجةٍ بانفعاليّةٍ ملغومةٍ مشؤومةٍ متقلّبة، وعددٍ محصورٍ من القلّة الديّانين

ص: 233

الراسخين في الولاء المتوثّبين لنصرة ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) والدفاع عنعرضه وحرم أمير المؤمنين والذرّيّة الطيّبة من آل ياسين (علیهم السلام) ..

وكانت الكوفة _ يوم أن خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة _ قد أسلمَت القياد بالكامل ليزيد وابن زياد، ولم يكن لابن الأَمة الفاجرة معارضٌ فيها بعد أن قتل المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ومَن استُشهد بين يديه، والتحق الطيّبون من أنصار الحسين (علیه السلام) بالإمام أو راحوا يستعدّون للرحيل، فكانت الأحداث تخمد، وكاد أوارها يخفت، وتهدأ الرنّة وتخبو الرياح الهوجاء الّتي عصفَت الكوفة لأيّامٍ قلائل، إذ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد خرج من مكّة يوم الثامن من ذي الحجّة، وكان المولى الغريب (علیه السلام) قد قضى شهيداً _ حسب التحقيق _ في اليوم التاسع منه.

الإشارة الخامسة: الاستعلاء والعتوّ

مرّ معنا الكلام عن شخصيّة الأشدق وعتوّه وجبروته واستكباره على الله، وهو يخال نفسه رقماً يمكن أن يُعَدّ في الأرقام عند مواجهة سادات الأنام، فاستكبر وتعامل بنَفَس الوالي الحاكم المتسلّط المتعجرف، فأرسل إلى الإمام (علیه السلام) كتاباً يعرض فيه الأمان، وهو أذلّ وأحقرّ وأدون وأزرى من أن يعطي أماناً لمن جعل الله أمان الدارَين بالتمسُّك به وبولايته.. فمَن

ص: 234

هو هذا الرجس النجس الدنس الخاضع الخبيث الخسيس الخانع الدنيء السافل الساقط الضئيل المتهالك المتهاوي، حتّى يرى نفسه في مِثل هذا الموقع؟! لكنّ لله في خلقه شؤون.. وهو الحكيم الخبير..

والآن يتعامل بنفس تلك النفس الخبيثة المتهاوية في قيعان الرذيلة والعتوّ والاستكبار، الناشيء من الإحساس بالحقارة والضعة والضياع.. فيُرسل صاحبَ شرطَته ليبلّغ الإمام (علیه السلام) مهدِّداً أنّ الوالي يأمره بالانصراف!

فمَن هو هذا اللُّكَع الأحمق التافه الأخرق الأبله الجبان الّذي يتصرّف باختيالٍ وتباهٍ وتبختُرٍ وتعاظُمٍ وتعجرفٍ وتغطرسٍ وجبروتٍ وخيلاء وزهوٍّ مع سيّد الكون وإمام الثقلين؟!

لم يحضر بنفسه الحقيرة، وإنّما يُرسل له رسول.. ويجعل رسولَه رئيس شرطته.. ويرسله بجماعةٍ من جُنده.. ويحمّله رسالةً بلُغة الآمِر.. إنّها كلّها من عجائب الدهر الخؤون.. لله صبرك يا أبا عبد الله الحسين!!!

يأمر بالانصراف.. ولم يترك الأمر بتبليغ الرسالة.. وإنّما يردّ هو بنفسه فيقول: يأمرك بالانصراف، فانصرِفْ!!! ثمّ يتبع ذلك بتهديد: وإلّا منعتُك!!!

مَن هؤلاء الأقزام الّذين تطاولوا على سادات البشر وتنافخوا، وخالوا أنفُسَهم يتعاظمون إذا ما نفخوا أنفسهم وقفّوا شعورهم وأرجفوا جلودهم،

ص: 235

تماماً كما لو تنافخ الجرذ الهزيل ليُرعب الأسد الهزبر وليث الشرى؟!

الإشارة السادسة: هيئة الركب!

أشرنا في دراساتٍ سابقةٍ إلى هيئة ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) الخارجِ من المدينة ومن مكّة، وربّما نضطرّ إلى العودة إلى نفس العنوان بحكم ضرورات البحث، وسنكتفي هنا بالإشارة السريعة الّتي تفرضها علينا مواكبة ركب الكُرب والمحَن والشهادة والأحزان..

خرج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة تماماً كما خرج من المدينة.. ركبٌ يضمّ عدداً كبيراً من النساء والأطفال والشباب والفتية والموالي والإماء.. ركبٌ يضمّ أُسرةً واحدة.. عائلةً واحدة.. ينتمون إلى شجرةٍ واحدة.. آلِ أبي طالب (علیهم السلام) لا غيرهم.. إلّا القليل من الموالي.. وربّما أُضيف إليهم في مكّة عددٌ قليلٌ قليلٌ من الأنصار، كما سنتعرّف إليهم في محلّه إن شاء الله (تعالى)..

لم يكن فيهم رجالُ حربٍ وقتالٍ قد مارسوا الحرب والقتال قبل يوم الحسين (علیه السلام) في كربلاء.. أو لم يكونوا معروفين بذلك، ولم تذكر لهم أيّامُ العرب وأيّام المسلمين مشاركاتٍ في الحروب والوقائع قبل كربلاء..

كان فيهم من الرجال المقاتلين المحاربين المشهورين: سيّدُ الشهداء

ص: 236

نفسه _ فداه العالمين _، وأبو الفضل العبّاس (علیه السلام) ، والمولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام) ، وقد ترك الركبَ في مكّة وسبقهم إلى الشهادة.. وربّما كان فيهم بعضُ أولاد عقيلٍ ممّن شارك في معارك قبل يوم الحسين (علیه السلام) ..

أمّا الآخَرون من فتيان آل أبي طالب (علیهم السلام) ورجال بني هاشم، مِن أمثال المولى الحبيب عليّ الأكبر وأولاد عقيل وأولاد جعفر (علیهم السلام) وغيرهم، فإنّهم لم يُعرَف عنهم أنّهم قد شاركوا في حروبٍ سابقة، وكذا أمثال القاسم بن الحسن وباقي أولاد الإمام الحسن (علیهم السلام) ، وغيرهم.. فلا يمكن أن يكون للركب سمةٌ حربيّةٌ أو مسحةٌ قتاليّة، فهو مكوَّنٌ من النساء والأطفال، وهم العدد الأكبر، ومجموعةٍ من الشبّان والفتيان من نفس العائلة، وقليلٍ من الموالي، وعددٍ أقلّ من الأنصار الّذين لا يُحتَسبون كعددٍ يمكنه أن يُلفِت النظر؛ لقلّته بالحساب العدديّ..

كان الركب في صبغته العامّة وصورته الكلّيّة أشبه ما يكون بسفرةٍ رحلَت فيها أُسرةٌ بأكملها وهاجرَت من بلدٍ إلى بلد!

لم يروِ لنا التاريخ أنّهم كانوا يحملون معهم أكداس السلاح.. إنّما خرج كلٌّ منهم بسلاحه الشخصيّ الّذي يحتاجه يومذاك كلُّ مسافرٍ يريدأن يقطع الصحارى ويطوي الفيافي والقفار والبيداء، ليحمي نفسَه ومَن معه من قطّاع الطرق والحيوانات المفترسة، وغيرها من مخاطر الصحراء الّتي

ص: 237

تعترض المسافرين.. وهذا ما يفرضه الواقع، وإن لم نجد له أثراً واضحاً في أكثر النصوص.

رَكبٌ دخل مكّة لينعم بأمنها وأمانها الّذي فرضه الله وعمل به أهلُ الجاهليّة، ثمّ سكن ثَمّة عدّة شهورٍ لم يحرّك ساكناً، ولم يُهجْ أحداً، ولا ملأ الأجواء بالخُطَب، ولم يعرض للحجيج ولا للمجاورين بكلمة، ولم يجيّش الرجال، ولم يهزّ العواطف، ولم يجمع الجموع، ولم يدعُ إلى بيعةٍ أو خلع بيعة..

لم يسجّل لنا التاريخ خلال فترة وجود هذا الركب المقدّس أيَّ نشاطٍ يُعدّ تهديداً لأحدٍ من العالمين..

فهو رَكبٌ مسالِمٌ، حالُه حال أيّ ركبٍ آخَر يدخل مكّة ويريد الخروج منها حين تأزف ساعة رحيله..

رَكبٌ لم يهدِّدْ أحداً قطّ، بَيد أنّه كان مهدَّداً تهديداً جدّيّاً حقيقيّاً منجَّزاً، عمل العدوُّ بكلّ طاقاته وامتداداته لتنفيذ ما يسعى إليه في القضاء على الركب بأجمعه، من خلال القضاء على سيّده سيّدِ الشهداء (علیه السلام) ..ليس في الركب ما يفيد من قريبٍ أو من بعيدٍ أنّه ركبٌ خارجٌ للحرب والقتال..

وما أكثر القوافل الّتي كانت تدخل مكّة يومها وتخرج وتتحرّك بين

ص: 238

المشاعر.. فلماذا يُعتَرض ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) من بين جميع القوافل المتحرّكة يومذاك؟!

الإشارة السابعة: معرفة العدوّ بقدرات الركب

مرّ معنا _ في دراسة ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة _ أنّ العدوّ كان يعرف مدى قدرات الركب الحسينيّ وقوّته، بالرغم من أنّ أكثر رجاله لم يكونوا قد خاضوا حروباً من قبل، إلّا أنّهم أحفاد أبي طالب (علیه السلام) الّذي شهد له النبيّ (صلی الله علیه و آله) _ وهو أصدق القائلين _ أن لو وَلَدَ الناسَ كلَّهم لَكانوا شجعاناً.

فهو يعرف أنّ سيّد الركب هو خامس أصحاب الكساء ابن أمير المؤمنين وسبط رسول ربّ العالمين، وهو مظهر القدرة الإلهيّة ومعدن الشجاعة، ومعه إخوته وأولاده وأولاد إخوته، وكلّهم معادن للشجاعة والقوّة والسطوة في ميادين الوغى، وهم الّذين أذاقوا الأعداء الموت الزؤامورووا صحراء كربلاء بدمائهم حتّى سالت بها أوديتها.

فالعدوّ يعلم أنّ مِثل هذا العدد الّذي لا يعدو أن يكون قليلاً بالحساب والعدّ، ولكنّه كثيرٌ بالقوّة والشجاعة والاستبسال.. يعلم أنّ مجموعةً من الجند لا يمكنها أن تقاوم وتقاتل هذا الركب مهما كان عددهم كثيراً!

ص: 239

الإشارة الثامنة: القادمون من الشرطة

أرسل الوالي رئيس شرطته معه جُند.. وهو يفيد أنّ القادمين لاعتراض الركب كانوا من الشرطة.. والشرطة كما كان ولا زال عملُها يقتصر على حفظ الأمن وحماية البلد داخليّاً، فهم ليسوا من القوّة العسكريّة الضاربة المدرَّبة على الحروب والغزوات ومقارعة الأبطال والشجعان والصناديد في ميادين القتال وساحات الحروب..

ومِثل هذه القوّة لا يمكنها بحالٍ أن تعترض ركباً يضمّ سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه، وهذا ما لا ينكره أحدٌ من الأعداء والأصدقاء..

فهم ليسوا قوّةً عسكريّةً جاهزةً للحرب، وإنّما هي قوّةٌ مدرَّبةٌ على مواجهة الاضطراب داخل البلد لحفظ الأمن الداخلي.

الإشارة التاسعة: وقاحةٌ لا حدود لها

يطالعنا الخبر بصورةٍ بشعةٍ وفعلٍ شنيعٍ ارتكبه الجندُ القادم لاعتراض الركب..

يُفتَرض أن يكون الجند القادم يعرف مَن هو المقصود بالاعتراض.. إنّه الحسين ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن أمير المؤمنين وابن فاطمة سيّدة نساء العالمين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة (علیهم السلام) ..

ص: 240

فهو أعظم حرمةٍ لله على الإطلاق.. في مكّة البيت الحرام.. ومعه نساءٌ وأطفال.. وهم حرماته وحرمات أمير المؤمنين (علیه السلام) الخليفة الظاهر الّذي بايعوه يوماً ما..

مع ذلك، فإنّهم تدافعوا مع الركب وتجالدوا بالسياط.. بمعنى أنّهم لم يَرَو له أيَّ حُرمة.. أعرضوا عن أمر الله وأمر نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، وأطاعوا أولاد البغايا في التجاسر على ركب حرم الله وحرم رسوله..

ليس لهؤلاء البهائم المفترسة والكواسر المتوحّشة أيّ ضميرٍ ولا ذمّة، ولا يعرفون لله حرمة، ولا يمنعهم عن قتل الإمام (علیه السلام) وهتك حرمة دمه ومَن معه وهتك حرمة البيت الحرام سوى صدور الأمر لهم من طاغيتهم، لعنهم الله لعناً وبيلاً وعذّبهم عذاباً يستغيث منه أهل النار.

الإشارة العاشرة: حماية الإمام (علیه السلام) لحرمة البيت

يفيد قولهم: «وتدافع الفريقان.. واضطربوا بالسياط.. فجالدهم بالسياط.. ولم يزد على ذلك..»، أنّ الإمام (علیه السلام) هو الّذي اقتصر في التدافع معهم على هذا القدر، ولم يدفعهم بسيفه وسيوف مَن معه.. وكان يقدر على ذلك ويقوى عليه، ولا شكّ _ وفق معرفتنا بقدرات الركب الّتي شهد بها التاريخ في كربلاء وقبل كربلاء _ أنّ الإمام (علیه السلام) لو كان قد التحم معهم

ص: 241

بقتالٍ لَأفناهم عن آخِرهم، ولَما لحقهم المدد من طاغيتهم..

بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان يكرّر ويؤكّد أنّه لا يقاتل في الحرم، ولا يعطيهم الذريعةَ ليقتلوه فيه، ولا يسمح لهم بفعل ذلك.. ولا يبدو أنّ موقف الإمام (علیه السلام) هذا وبياناته تخفى على أحدٍ من العالمين ممّن قرأ التاريخ أو سمع أخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فالحقيقة الّتي لا يحسن التغافل عنها أو تجاهلها أو الجهل بها، أنّ زمام المبادرة في هذا التماسّ الحاصل بين الركب والجند المعترض إنّما كان بيد الإمام (علیه السلام) ، وهو الّذي ضبط الموقف وحصره بهذا القدر، ومنعهم من التجاوز إلى ما هو أبعد من التدافع والتجالد!

الإشارة الحادية عشرة: الأشدق يأمر صاحب شَرَطِه بالانصراف!

بناءً على ما سمعناه في المتابعات السابقة، يتبيّن أنّ ما ذكره المؤرّخ وزعم أنّ التدافع والتجالد بلغ الأشدق فخاف أن يتفاقم الأمر فأمر صاحبَ شرطه بالانصراف، فيه ما فيه، ولابدّ مِن حمله على تجيير الموقف بعد خسرانه، وتغليف الهزيمة بطلاء الانتصار، وتسويغ المفاجأة الّتي يجهل عواقبها بمسوّغات الحكمة والتصرّف المحسوب.

ص: 242

فإن كان الأشدق هو الّذي خاف أن يتفاقم الأمر، فلا يكون إلّا بمعنى أنّه خاف أن يتحوّل الموقف بالنسبة إلى الإمام (علیه السلام) إلى موقف الدفاع عن النفس بعد أن يتحقّق منهم قصد حياته وقتله والمباشرة في ذلك، فإذا صرّت الحرب أسنانها، فإنّ شرطته ومَن يأتيهم من المدد لا يعدو أن يكونوا جثثاً هامدةً تنتابها وحوش صحارى مكّة وتحوم عليها رخمها بعد أن تقطّعها لهم سيوف آل أبي طالب قطعاً صغيرةً تزقّ بها النسور والعقبان صغارها.

لم تكن المبادرة بيد الأشدق إلّا بمقدار ردّ شرطته لحمايتهم والإبقاء عليهم، إنْ صحّ ما نسبوه إليه، وإلّا فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يكره القتال في مكّة، ومنعهم من ارتكاب جنايتهم العظمى فيها، وقد حقّق ما أراد.

الإشارة الثانية عشرة: دوافع المنع

اشارة

قلنا: إنّ ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) كان ركباً عائليّاً، ليس عليه أيُّ أثرٍ يفيد أنّه ركبُ محارِبٍ أو يقصد الحرب، فإذا أراد الخروج من مكّة فهو كأيّ ركبٍ آخَر دخل مكّة ثمّ عزم على الرحيل عنها وقرّر أن يضعن إلى حيث يريد.

فلماذا مانع الأشدق من خروج الإمام (علیه السلام) وعياله وأهل بيته بهذه

ص: 243

الصورة الصاخبة؟

يمكن أن نتصوّر عدّة دوافع دعته إلى ارتكاب هذه الخطيئة التي لا تغتفر:

الدافع الأوّل: التأخير من أجل تنفيذ الاغتيال!

ربّما كان الدافع الأوّل الّذي يتبادر إلى ذهن المتابع هو تأخير الإمام (علیه السلام) وحصره في مكّة من أجل تنفيذ الاغتيال، أو ترتيب الأُمور حيث يُؤخَذ أخذاً، وهو ما يفاد من سير الأحداث وبيانات الإمام (علیه السلام) وتأكيده على أنّ التأخير مهما كان قليلاً فإنّه سيؤدّي إلى اغتياله أو أخذه، وكثيرٌ من الشواهد الّتي لا تخفى على مَن راجع التاريخ.وكان لابدّ للإمام (علیه السلام) من الخروج على عجَلٍ من مكّة؛ لئلّا يقع المحذور الّذي كان يتباعد منه الإمام (علیه السلام) ولا يرجوه أبداً، ويعلن ذلك على كلّ مَن اعترضه عند الخروج، وعبّر عنه بشتّى العبارات للكثير من المعترضين، وقد أتينا على ذِكرها في أكثر من موضع، فلا نعيد.

الدافع الثاني: التأخير من أجل التأكُّد من أوضاع الكوفة

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد عزم على الخروج من مكّة يوم التروية الثامن من ذي الحجّة، وقد قُتل المولى الغريب مسلم بن

ص: 244

عقيل (علیه السلام) يوم التاسع من ذي الحجّة، واستتبّت الأوضاع وقُضي الأمر لصالح ابن مرجانة، وخنعَت الكوفة وخضعَت واستسلمَت بالكامل، فلم يعد فيها حسٌّ ولا ركزٌ ولا نَفَسٌ يمكن أن يُزعج ابنَ زياد..

فلمّا كان خروج الإمام (علیه السلام) يوم الثامن، كانت الحوادث لا زالت ملتهبةً في الكوفة، بل كانت في أوجها، وكانت الأحداث تتسارع فيها وتسير في كلّ اتّجاه، ولم يكن خبر استسلام الكوفة قد وصل إلى الأشدق، بل كانت أخبار هياج الأمواج الخائبة تصل إليه بشكلٍ مضخَّمٍ وترسمها كأمواجٍ عاتية، رغم معرفتهم بها وبمآلها، تماماً كما كان يعرف غيرهم من المتابعين لأخلاقيّات الكوفة يومذاك..فأراد الأشدق تأخير خروج الإمام (علیه السلام) لأجَل، فربّما حقّق اغتياله، فإن لم يصل إلى ذلك فإنّه يسكن من حيث تحديد الموقف في الكوفة، والاطمئنان إلى ذوبان الزبد الطافح في بعض حاراتها.

الدافع الثالث: الدافع الذاتيّ

ربّما كان الأشدق المعروف بجبروته وطغيانه وعتوّه وتكبّره واعتداده بذاته القذرة يريد أن يكون هو المباشر بتنفيذ جناية قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ؛ ليحظى بذلك عند الأُمويّين وأعداء الله وأعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويصرخ في جيف الجاهليّة وينادي فطائسَهم كما صرخ يزيد

ص: 245

فيهم: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا»، فيثبت بذلك جدارته في الانتقام لأوثان الجاهليّة، وربّما نافس بذلك على السلطان ويجعلها في ذيوله مِن أعقابه، ويخرجها بذلك من معاوية وذيوله.

* * * * *

أو أنّه أراد بذلك الحظوةَ والمنزلةَ عند يزيد، ليستحوذ على ما يريد من الدنيا والبقاء في الولاية والحكم.

وهو في نفس الوقت يشفي غليله، ويسكّن أحقاده وضغائنه على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وآل الإمام، وكان معروفاً مشهوراً بعداوته لأميرالمؤمنين (علیه السلام) ، وكان يجاهر بلعنه، حتّى ضربه الله فأصابه بشدقه، فسُمّي بالأشدق!

بمعنى أنّه كانت لديه دوافع ذاتيّة في قتل الإمام (علیه السلام) ، تنشأ من مقالع الرذيلة والأحقاد والضغائن الشخصيّة، وكانت هذه الضغائن كافيةً لدفعه إلى قتل الإمام (علیه السلام) ، يُضاف إليها الدوافع الدنيويّة والقرب من السلطان.

* * * * *

وربّما يُقال: إنّ خوفه من تقريع الأُمويّين وتوبيخِ يزيد وابن زياد وأمثالهم له ووصمِه بالضعف والخوف والإحجام والعجز عن تنفيذ المهمّة الموكولة إليه في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، فأراد أن يدفع عن نفسه

ص: 246

هذه الأراجيف بتأخير الإمام (علیه السلام) ريثما يتسنّى له القيام بالمهمّة.

الدافع الرابع: محاولةٌ يائسة!

ربّما أراد الأشدق الطاغي أن يستعرض قوّته وقوّة السلطان، ليُشعِر الإمامَ (علیه السلام) أنّه بإمكانه منعه إنْ أراد ذلك، فإن رجع الإمام (علیه السلام) فسيبقى يتبجّح بها على طول الزمان، وإن أبى فقد عرض قوّته وحاول إخضاع الإمام (علیه السلام) من خلال استعراض القوّة وإرسال رسالة الإعلان عن وجوده ووجود السلطان، وأنّه على علمٍ بحركاته، وأنّهم السلطة الحاكمة الّتي تعلنعن رأيها في كلّ شأنٍ وتستعرض قوّتها في كلّ موقف.

الدافع الخامس: إحداث الضجّة لإيجاد ذرائع القتل!

عرفنا أنّ الأشدق كان يعلم أن لا طاقة له بمحاربة الركب، ولا يقوى على ذلك بالقوّات المحدودة من الشرطة الّتي أرسلها لاعتراض الركب..

وعرفنا أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يمنع من حصول القتال في مكّة أو تمكينهم من قتله هناك..

لهذا ولأسبابٍ أُخرى لا تخفى على المتابع، يتحقّق أنّ الجند لم يكن قادراً على الحرب والقتل والقتال في مكّة، والقضيّة لا تعدو اعتراضاً استعراضيّاً يُراد منه إحداث ضجّةٍ ورفع الزعقات في وجه الركب الميمِّم نحو

ص: 247

العراق..

في أيّام الحجّ.. حيث كانت حركة القوافل في أوج نشاطها وشدّة حركتها وعنفوان تنقّلها من مكّة إلى منى استعداداً ليوم التروية والشروع في مناسك الحجّ..

في مثل هذا الجوّ المزدحم بالحركة والتنقُّل وتكاثُر الناس من أهل مكّة والمجاورين والحجيج.. أراد عفاريت بني أُميّة توظيف هذا الجوّالصاخب لحربٍ إعلاميّةٍ ضخمةٍ بعيدة المدى واسعة الانتشار في التاريخ والجغرافيا من خلال إحداث ضجّةٍ وعمليّة تدافعٍ وتجالدٍ بالسياط مع ركبٍ هو الأقدس في الدنيا..

إيجاد حركةٍ يمكن أن تُحدِث ردود أفعالٍ وإثارة فضولٍ عند الحاضرين، وتجمهر ما تستطيع جمعهم حول هذا الركب الوديع المنتقل بحركةٍ انسيابيّةٍ هادئةٍ نحو آفاق الصحراء المتباعد من مكّة في يومٍ كان الناس يدخلونها ويخرجون منها إلى المناسك..

وحينها دفع الغوغاء والخارجين على إمام زمانهم والمتمرّدين لينادوا على الركب ويصيحوا على أثره:

- يا حسين! ألا تتّقي الله!

بأفواههم الكثكث والأثلب والشوك والقطران وشجرة الزقّوم والضريع..

ص: 248

إنّهم يريدون الإعلان للناس والملأ الحاضر وللتاريخ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام السعداء يفعل فعلاً يخالف تقوى الله! هكذا انقلبَت الموازين بفعال هؤلاء الأوغاد الأوباش الملاعين!!!

ثمّ صاحوا على أثره:- أتخرج من الجماعة، وتفرّق بين هذه الأُمّة؟

هذه هي العصا المشؤومة الّتي حاربوا بها أمير الحقّ والإنصاف والعدل أمير المؤمنين (علیه السلام) منذ يوم السقيفة..

الإمام (علیه السلام) هو جامع الكلمة على التقوى.. به تكون الجماعة، ولو كان وحده.. ولو كان معه واحدٌ من المسلمين.. بَيد أنّهم افتروا على الإمام (علیه السلام) ، ورموه بالصياح والنداء على ركبه أنّه خارجٌ من الجماعة.. أنّه مفرِّقٌ بين هذه الأُمّة..

فضحهم الله في الدارَين، وكشف عوراتهم على العالمين، وأصلاهم في سقر، لا تُبقي ولا تذر.. يا لَه من موقفٍ مروّعٍ مشؤوم.. أن يصيح هؤلاء المنحطّين على أشرف الخلق أَمام الخلق وفي أيّام الله بين الحجيج على الركب الّذي يضمّ آلَ الله وآل رسوله (صلی الله علیه و آله) بهذا النداء..

يمشي الركب، وتعلو الصيحات من ورائه.. يسير الركب، ويتهافت الأوباش من حوله لينادوا عليه.. تمشي نساء بني عبد المطّلب بين أنذالٍ

ص: 249

ينادون عليهم..

لله صبرك يا أبا عبد الله!

وبهذا شرعوا في إيجاد المسوّغات الكافية للقلوب الخاوية والأنفُسالبالية والجهلة الغوغاء من أتباع كلّ ناعق.. حيث وصموا الركب أنّه ركب (الخوارج)، والعياذ بالله..

ركب مَن يشقّ عصا المسلمين.. ركب مَن يريد التفريق بين الأُمّة..

وهذه كلّها مسوّغاتٌ كافيةٌ لقتل مَن فيه!

ماذا فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه ليدْعُوه أراذلُ الخلق السفَلَة الهابطين أولاد البغايا إلى تقوى الله؟!

ماذا فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه ليُتَّهم بشقّ عصا المسلمين؟!

ماذا فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه ليرموه بأقذع فريةٍ عند جميع الأُمم ويصيحوا عليه: تريد تفريق الأُمّة؟!

لا يبعد أن يكون هذا هو الغرض من إرسال هذه المجموعة المحدودة من الشرطة لمواجهة الركب قبل خروجه، والوالي يعلم أنّه لا يقدر بحالٍ وعلى كلّ تقديرٍ على منع سيّد الشهداء (علیه السلام) من الخروج من مكّة..

إنّهم أرادوا أن يعلنوا عن ذرائعهم الباهتة، ويهيّؤوا الناسَ لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ويألّبوا الأُمّة عليه.. باعتباره يفعل ما يخالف تقوى الله، ويسعى

ص: 250

في شقّ العصا وتفريق الكلمة.. ومَن كان هذا سبيله فالقتلُ حقّه.. هكذا فعلَت السقيفة من قبل، وسار عليها مَن جاء بعدهم.. وانصاعَت الأُمّة طائعةًأو مكرهةً لهذه الفرية الممجوجة..

لقد كان يزيد وأذنابه يتّهمون الإمام (علیه السلام) بهذه الفرية المقذعة في كتبهم أو في كلماتهم مع الإمام (علیه السلام) أو مع بعض الخاصّة، بَيد أنّها كانت بدايات في الخفاء..

يبدو أنّ هذه هي الصيحة الأُولى والنداء الأوّل الّذي رفعوه على رؤوس الأشهاد وعلى الملأ العامّ وفي جوٍّ مفتوح..

أعلنوا فيه أنّ الإمام سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) (خارجيّ)، والخارجيّ حكمه القتل.. ووصموا فيها حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بالخروج بالمعنى المصطلَح!

أعلنوا أنّ الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) يسعى لشقّ عصا المسلمين، وشاقُّ عصا المسلمين حكمه القتل..

أعلنوا أنّ الإمام المفترض الطاعة بنصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يسعى في تفريق الأُمّة، ومَن يسعى في تفريق الأُمّة حكمه القتل..

ألا لعنة الله على الظالمين!

ص: 251

الإشارة الثالثة عشرة: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

ورد في بعض المصادر أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) تلا في الردّ على صيحاتهم قوله (تعالى): ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

يمكن الوقوف عند ردّ الإمام (علیه السلام) على القوم الكافرين من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: جوّ الآية

إنّ الآية الّتي تلاها الإمام الحسين (علیه السلام) هي الآية الحادية والأربعون من سورة يونس..

وقد أشرنا غير مرّةٍ أنّ الإمام (علیه السلام) حينما يتلو آيةً ما في موقفٍ ما، قد يكون الجوّ العام الّذي وردَت فيه في القرآن الكريم له دخلٌ قويٌّ في فهم الموقف الّذي أراد الإمام (علیه السلام) كشفه من خلال تلاوة الآية، سيّما أنّ المفروض في المسلم أن يكون حافظاً لكتاب الله، فإذا سمع الآية انتقل ذهنُه إلى جوّها وسوابقها ولواحقها، لذا من المستحسَن أن نسمع الآية ضمن السياق الّذي وردَت فيه من سورة يونس.

ولا ننسَ أنّ يونس نفسه إنّما خرج مغاضباً لقومه، وله قصّةٌ يمكنها أن

ص: 252

تضفي بظلالها وأبعادها ومغازيها على المشهد.

قال (تبارك وتعالى):

﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ

ص: 253

بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ

ص: 254

آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ ((1)).

* * * * *

لا يخفى على مَن تدبّر هذه الآيات الكريمة وتأمّل فيها وما في السياق من دلالاتٍ فاخرةٍ وإشاراتٍ راقيةٍ تشرح الموقف وتوضّح معالم المشهد الّذي كان فيه ابن رسول الله (علیه السلام) مع هؤلاء الأوغاد الفجرة.

الإضاءة الثانية: معنى الآية

صاح القوم على ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ونادوا بفريتهم الممجوجة المكرورة، وأَبوا إلّا أن يُمعِنوا في أذى الله وأذى رسوله وأبناء رسوله، وعزموا على قتلهم دون وازعٍ من دِينٍ أو من أعراف، وجميعهم قد أقدم على علم، ولم تُغنِ النذر، ولم تنفع مواعظ الله ومواعظ الرسول وابن الرسول في القوم!

إنّ الأشدق وأخاه يعلمان على ما أقدما.. والجماعةَ الّذين أرسلهم من شرطته يعرفون سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ص: 255


1- سورة يونس: 35 _ 66.

والنصّ التاريخيّ لم يحدّد بالضبط مَن الّذي صاح على ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، هل هم الشرطة فقط؟ أم شاركهم الأوباش الحاضرون؟ وهم جميعاً يعرفون الحسين ابن رسول الله وحبيبه الّذي جعله الله سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء..

ومَن أبى من المشركين قبول الحجّة والإذعان إلى الحقّ، فإنّ الله قد لقّن نبيّه كيف يعاملهم.. لي عَمَلي، ولَكُم عَمَلُكُم.. أنتُمْ بَريئُونَ مِمّا أَعْمَلُ، وأَنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُون.. لَكُمْ دِينُكُم، ولِيَ دِين..

إنْ كان العملُ هو الخروج من مكّة، فالإمام (علیه السلام) عازمٌ على الخروجوإن أبى الظالمون.. وهم عازمون على قتله، خرج من مكّة أَم لم يخرج..

الإمام (علیه السلام) يدافع عن نفسه، ويحمي نفسَه ومَن معه، ويحفظ حُرمةَ البيت الحرام.. وهم يريدون سفك دمه، ودمِ مَن معه هناك، وهتكَ حُرمة البيت الحرام بدمه الزاكي الّذي سكن الخلد..

الإمام (علیه السلام) يدعوهم إلى النجاة، وهم يأبون إلّا اختيار السفال، ليكبّهم الله على مناخرهم في النار مع الشجرة الملعونة في القرآن..

لا قواسم مشتركة بين عمل الإمام (علیه السلام) وعمل القوم.. ولكلٍّ عمله.. وكلّ طائفةٍ بريئةٌ من عمل الطائفة الأُخرى.. إذا كانت الحجج لا تغني والتمرّد على الحقّ لا ينتهي لأيّ سبب..

ص: 256

إنّها الأخلاق الحسينيّة الرفيعة، وهي أخلاق إمام الحقّ المنصوب من الله.. إنّهم رفعوا عقيرتهم بالنداء على الحقّ وأهل الحقّ والجماعةِ وأهلِ الجماعة أنّهم يريدون تفريق الجمع وشقّ العصا.. فلم يزد الإمام (علیه السلام) في الردّ عليهم إلّا بما تلاه من كلام الله المجيد، وميّز صفّه عن صفّهم، وأبان أنّه ابن رسول الله المأمور بخطاب أهل الشرك والعناد واللجاج بالترك والمهاجرة والابتعاد عنهم، وفصلِ الخطوطِ وتمييز الحقّ وأهل الحقّ..

حينما يصمّ القوم أسماعهم ويختم الله على قلوبهم فهم لا يفقهون..فإنّ الإمام (علیه السلام) لا يختار الاحتكاك بهم ولا الصدام والمواجهة، ويكتفي بعرض المتاركة عليهم.. اتركوني فإنّي تارككم.. لي عملي ولكم عملكم.. امشوا في طريقكم وأنا سالكٌ في طريقي إلى ربّي..

لم يحمّلهم الإمام (علیه السلام) عمله.. ولم يدعُهُم إلى عمله.. ولم يتحمّل عملهم، ولم يقبل السير في طريقهم..

طريقان: طريق الحقّ، وطريق الضلال.. مسيران: مسير الأنبياء والأوصياء وأهل الله، ومسير الطواغيت والفراعنة وأتباع الشيطان.. وكلُّ يتبرّئ من الآخَر.. لا يجمعهما جامع.. ولا يرضى الإمام (علیه السلام) بهم وبطريقهم..

ص: 257

الإشارة الرابعة عشرة: صدّ الهجوم

يُلاحَظ هنا أنّ القوم هم الّذين شرعوا في الهجوم على الإمام (علیه السلام) بقصدِ صدّه ومنعه من الخروج، وأنّ الإمام (علیه السلام) كان في موقف الدفاع عن نفسه وعياله ومَن معه، وقد صدّهم الإمام (علیه السلام) صدّاً رفيقاً، وكبح جماح هيجانهم، وردّ عاديتهم، وأخمد فورتهم، وتحمّل الأذى ليلجم تمرّدهم الأهوج، ويزجر اندفاعتهم، ويردعهم عن هتك الحرمات في الأرض الحرام والزمن الحرام في الدم الحرام.. فاكتفى بمجالدتهم بالسياط.. ولا نشكّ أنّ سيوفآل أبي طالب كانت تتلمّض وتتلوّى وتتوثّب في أغلفتها، لولا أمر الله وأمر وصيّه..

أرادوا مقاتلة الإمام (علیه السلام) ولو بقدرهم في مكّة.. واتّهموه بشقّ العصا وتفريق الجماعة.. وهي فريةٌ تعني القتل تماماً.. واكتفى الإمام (علیه السلام) إلى دعوتهم إلى المتاركة.. وأبان لهم أنّ عمله ليس كعملهم، وهو بريءٌ من عملهم، وهم بريئون من عمله..

إنّهم لا يمكنهم أن لا يتبرّؤوا من عمل الإمام (علیه السلام) .. ولا يمكنهم إلّا الاستماع إلى هتوف الشيطان.. فقد تمّت عليهم الحجّة بأبلغ ما يكون..

رغم كلّ ما فعلوه.. اكتفى الإمام (علیه السلام) بطلب المتاركة منهم، وذهب إلى سبيله.. وهم في غيّهم يرتكسون.. هم الّذين هجموا على الإمام (علیه السلام) وحملوا

ص: 258

عليه وعلى ركبه!

في المدينة هم الّذين هجموا عليه، وهو بعدُ لم يحرّك ساكناً.. هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) وخيّروه بين البيعة الذليلة وطاعة اللئام والقتل، وعمدوا إلى قتله، فخرج منها خائفاً يترقّب..

وفي مكّة هم الّذين هجموا عليه، وهو لم يحرّك ساكناً.. حاولوا جاهدين قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، واعترضوه بجندهم وشرطتهم، فصدّهمبرفقٍ ودعاهم إلى المتاركة..

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!

ص: 259

ص: 260

خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة على علم من الناس

اشارة

كما كان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة على علمٍ من الناس، وكان الإمام (علیه السلام) قد شكى لجدّه أنّ القوم قد ضيّعوه وخذلوه، وقد خرج من المدينة ولم يكترث بخروجه أحَدٌ إلّا بعض نساء بني هاشم وأخاه محمّداً، وربّما آخَرون على شاكلتهم، أمّا الجوّ العام وعموم أهلها فلم يحفلوا بخروجه ولم يحزنهم ذلك..

ولم نجد _ حسب الفحص _ أيَّ مؤشّرٍ أو شاهدٍ أو دليلٍ يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) حينما خرج من المدينة «قد خيّم الذعر على المدنيّين حينما رأوا آلَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ينزحون عنهم إلى غير مآب»! ((1))

ثمّ خرج (علیه السلام) منها، ولزم الطريق الأعظم طيلة فترة السفر من المدينة إلى مكّة..

ص: 261


1- أُنظر: حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشيّ: 13 م / 303.

كذلك خرج (علیه السلام) من مكّة على علمٍ من الناس..

وقد شهد ابن عبّاسٍ في حديثٍ له مع الإمام (علیه السلام) أنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّه سائرٌ إلى العراق ((1)).

ولا نقصد من علم الناس أنّ الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) قد أخبرهم وأعلن ذلك لهم، وإنّما نقصد أنّ القوم لم يكونوا في غفلةٍ تامّةٍ عمّا يحدث، وأنّ خروج الإمام (علیه السلام) كان سرّيّاً للغاية.. وإنّما كانت حركته وتنقّلاته وخروجه خروجاً عاديّاً.. لا أحدث ضجّةً خاصّةً بقصد، ولم يتكتّم ويخفي خروجه تكتُّماً مطلقاً وإخفاءً لا يطّلع عليه أحد..

بَيد أنّه الإمام الحسين ابن رسول الله وابن بنته وخامس أصحاب الكساء والركب معه يضمّ آل أبي طالب نساءً ورجالاً وأطفالاً وشيباً وشبّاناً..

وربّما كان خروجه من مكّة أوضح لذي عينين؛ إذ أنّه خرج من مكّة

ص: 262


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

والناس يزدحمون في الخروج إلى منى يوم التروية، فربّما كان خروجهفي مثل هذا التوقيت فيه نوع تقيّةٍ وتعميةٍ على الخروج، كما هو يفيد علنيّة خروجه وعدم التكتّم عليه، ويشهد لذلك ما فعله الأشدق الأحمق حين أرسل شرطته ليعترض خروج الركب، كما سمعنا قبل قليل.

وعلى فرض خروج الإمام (علیه السلام) خروجاً عاديّاً لا يريد إحداث ضجّةٍ ما عند خروجه، فإنّ الظالمين أبَوا إلّا أن يعترضوه فيُحدِثوا ضجّة، وقد أتينا على بيان ذلك قبل قليل.

فالناس قد علموا، ولم يدفعوا عنه ولم يحبّوه، وإنّما خذلوه في مكّة أيضاً، لأنّه (علیه السلام) قال أنّه: «مستوطِنٌ هذا الحرم ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهلَه يحبّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم».

فلمّا استبدل بهم غيرَهم، علمنا أنّهم لم يحبّوه ولم ينصروه!

يا لها من مصيبةٍ أن يخرج آلُ الله وآل رسوله والناس لا يكترثون ولا يبالون ولا يلتفتون.. لا يسأل منهم سائل.. والأفراد المعدودون الّذين اعترضوا على الإمام (علیه السلام) أيّام تشرّف مكّة به، كانوا في الغالب بين معترضٍ لجهله، وبين معاندٍ مكابرٍ متكبّر، وبين مَن يسعى لتنفيذ خطط يزيد ويحقّق ما يريد العدوّ..

أمّا الكثرة الكاثرة من أهل مكّة والمجاورين والحجّاج والمعتمرين، فلم

ص: 263

تهتزّ لهم شعرة، ولم ترتعش لهم فريصة، ولم يرفّ لهم جفن.. لم يسأله أحدهم.. ولم يحزن لهم قلب.. ولم يحترق لهم كبد.. ولم يفكّر أحدهم في إعلان النصرة أو اقتراح الإيواء..

خرجوا خروج الغريب.. الطريد.. الشريد.. الملاحَق.. المحاصَر..

خرجوا.. والناس في ضجيج الحجّ وعجيجه.. يتراكضون إلى المشاعر.. ينسلّون إلى منى يوم التروية ليتزوّدوا بالماء.. والركب تسري إليه المنايا، وتتفلّت الذؤبان والعسلان المتوحّشة في الفلوات لتقطّع أوصاله المقدّسة وتقتله عطشاً..

يتراكضون إلى المشاعر الجماد الّتي لا معنى لها إلّا بطاعة الإمام (علیه السلام) .. ويُعرضون وجوههم عن الشعائر الّتي أمر الله بتعظيمها وإطاعتها وحمايتها وحفظ حرمتها..

يتوجّهون إلى المناسك.. ويُعرضون عن وجه الله الّذي منه يؤتى..

يتنسّكون في منى.. ويدفعون مَن سنّ الله به النسُك إلى كربلاء ليُذبَحوا ظمايا..

ما الحجّ، والإمام (علیه السلام) الّذي بولايته يصحّ الحجّ يخرج عن مكّة؟

أمير حجّهم الأشدق.. بأمر يزيد.. وأمير الكون بأمر الله ووصيّ رسول الله ووصيّ أمير المؤمنين يخرج ولا يأتمر به أحد!

لك الله يا غريب الغرباء!

ص: 264

علّة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة

اشارة

كان العزم قائماً على قتل كلّ مَن أبى البيعة أيّاً كان، ويشهد لذلك الكثير من سلوكيّات القوم منذ عصر السقيفة إلى وحشيّة كبير القردة معاوية ومجريات الأحداث المعاصرة لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ومكّة.

فرضخ الناس جميعاً واستسلموا، فجدّدوا البيعة بعد أن بايعوا أيّام القرد العجوز معاوية، فهم بين مَن بايع طواعيةً عن قناعةٍ بدِين الأُمويّين، ومَن بايع عندما خطف بصره بريق الصفراء والبيضاء، أو عند وميض السيوف والحراب.

أمّا مَن تقبّض عن البيعة فهو مهدور الدم، وقد فعلوا ذلك بابن الزبير الّذي فرّ من المدينة تحت جنح الظلام وتنكّب الطريق الأعظم، وصرّح عند وصوله إلى مكّة أنّه عائذٌ بالبيت ولزم الكعبة، فكان يصلّي عندها

ص: 265

عامّة نهاره ويطوف ((1))، ولم يدعُ إلى نفسه ((2)) ذلك اليوم، وإن كان يبيّت أمراً أو أنّه عزم على الأمر فيما بعد!

ورغم ذلك، فإنّ عَمرو بن سعيد الأشدق _ وكان عظيم الكبر ((3)) _ حين دخل مكّة أعلن في أوّل خطبةٍ له وقد تسلّق أعواد المنبر، فذكر ابن الزبير وقال: تعزّز بمكّة؟! (في لفظ الذهبيّ: وذكر ابن الزبير وتعوّذه بمكّة، يعنّي أنّه عاذ ببيت الله وحرمه) فوالله لتغزونّ، ثمّ والله لَئن دخل الكعبة لنحرقنّها عليه على رغم أنف مَن رغم ((4)). وقد فعلوا ذلك بالفعل، فهتكوا حرمة البيت، ورموه بالمنجنيق، وأحرقوه وهدموه.. فهم لا يرون ولا يرعون للحرم والبيت حرمةً ولا لمشرّفها ريحانة النبيّ حرمة، وقد عزموا على قتله وهتك حرمته وحرمتها بسفك دمه، وباشروا ذلك عمليّاً بوقاحةٍ وجدّ.

* * * * *

ص: 266


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 382، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20.
2- أُنظر: تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 269.
3- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 265.
4- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 268.

ثمّ إنّ أهل مكّة كانوا يكنّون العداء لرسول الله وآله وأخيه وابن عمّه الّذي وتر القريب والبعيد منهم في رضى الله، ولم يدخلوا الإسلام إلّا تحت ظلال السيوف، فكانوا طلقاء ومنافقين، إلّا القليل القليل منهم ممّن وفىببيعته.

لقد كانت قريش وغيرها ممّن استوطن مكّة تحمل حقداً وتتميّز غيضاً على النبيّ وآله، وكانت لا تتردّد في إظهار العداوة والتشفّي واقتناص الفرص الّتي تريح قلوبها الوغرة المشحونة بالأضغان الموتورة، وهي تتربّص بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وأولادهما الطيّبين (علیهم السلام) الدوائر لتنتقم منهم.. وهذا من الواضحات تاريخيّاً، ولإثباته محلٌّ آخَر ((1)).

فلا يُرتجى _ والحال هذه _ أن تكون ثَمّة إرهاصاتٌ تشير إلى بوادر نصرةٍ من قريش وغيرها من أهل مكّة.. وإذا احتفى أهل مكّة بدخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها، فهو إن صحّ فإنّما هو احتفاءٌ في ساعة الرخاء، وبمستوى المجاملات والمراودات العرفيّة والعشائريّة والاجتماعيّة الخدّاعة الّتي لا تكفي موقفاً جدّياً إذا اقتضى الأمر.

أمّا المعتمرون والحُجّاج، فإنّنا لم نسمع _ حسب الفحص _ أنّ شخصيّةً على مستوىً رفيعٍ من التأثير الاجتماعيّ أو السياسيّ أو الدينيّ

ص: 267


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ / مقدّمة الجزء الثاني.

كان لها موقفٌ مميّزٌ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في تلك الفترة، بل لم نسمع بذلك حتّى عن سائر الناس المتوافدين على مكّة من سائر الأقطار!وكذلك لم نسمع بحركة نشاطٍ واستقطابٍ فعّالةٍ ومؤثّرةٍ من قِبل سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن كان معه تستنهض الناس، سواءً من أهل مكّة كانوا أو من الحُجّاج والمعتمرين!

وكانت اللقاءات المذكورة على العموم في كتب التاريخ تتركّز على الزيارة والتعلّم وأخذ الحديث وضبطه، وما يشبه ذلك من نشاطاتٍ اعتياديّةٍ ولقاءاتٍ اجتماعيّةٍ عاديّة.

ولم يسجّل لنا التاريخ _ ودائماً حسب الفحص _ حركةَ التفافٍ ممنهَجٍ ومقصودٍ يحكي مبايعة الناس ونفيرها لنصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) !

ويشهد لذلك بيان سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس أنّه مقيمٌ بمكّة ما أحبّّه أهلُها ونصروه ولم يخذلوه، كما حدّثنا التاريخ، فلمّا لم يبقَ فيها الإمام (علیه السلام) وعزم على الخروج وخرج بالفعل، علمنا أنّ القوم لم ينصروه ولم يمنعوه وقد خذلوه!

كما يشهد لذلك تخلّفهم عنه يوم خرج عن مكّة وهو مطارَدٌ مهدَّدٌ بالاغتيال والقتل.

* * * * *

ص: 268

كم من مرّةٍ عاد ابنُ عبّاسٍ ليهدّد الإمام (علیه السلام) أن لا يخرج إلى العراق،بعد أن عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، واستعجل الخروج قبل أن يقضي مناسك الحجّ، بحيث تجاسر ابن عباس على الإمام (علیه السلام) فقال له:

لولا أن يُزرى ذلك بي وبك لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلم أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلتُ، ولكن لا أخال ذلك نافعي.

فقال له الحسين: «لَئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ أن تُستَحلّ بي»، يعني مكّة ((1)).

لقد كلّم ابنُ عبّاسٍ الإمامَ (علیه السلام) طويلاً وناشده قبل أن يهدّد بالاشتباك، وقال:

أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة! لا تأتي العراق، وإنْ كنتَ فاعلاً فأقِمْ حتّى ينقضي الموسم، وتلقى الناس وتعلم على ما

ص: 269


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200 و211 وفيه: (تناصبنا)، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 219، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 292، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 106، سُبل الهدى للصالحي الشاميّ: 11 / 78.

يصدرون، ثمّ ترى رأيك ...

فأبى الحسينُ إلّا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتِل عثمان بين نسائه وبناته، واللهِ إنّي لَأخاف أن تكون الّذي يُقاد به عثمان،فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فابن عبّاسٍ ينظر إلى مآل سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، ويتكلّم كلام المطمئنّ الموقِن، ولا شكّ أنّ ذلك لم يغب عن سيّد الشهداء (علیه السلام) بتاتاً، بغضّ النظر عن علم الإمامة، وإنّما حسب الموازين الظاهريّة، فإنّ ما يراه ابن عبّاسٍ ويعرفه من أهل العراق قد رآه وعرفه سيّد الشهداء (علیه السلام) !

بَيد أنّ جواب الإمام (علیه السلام) يفيد بما يكاد يكون صريحاً أنّ بقاءَه في مكّة يعني القتل لا محالة، فهو (علیه السلام) يرى القتل المحتوم في مكّة إنْ بقي فيها، إذ ردّ على ابن عبّاسٍ بعد تشبّثه بكلّ شيءٍ رجاء أن يجيب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال له الإمام: «لَئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ أن تُستَحلّ بي»، يعني مكّة ((1))، فالإمام (علیه السلام) يُخبِر عن تحقُّق القتل الفعليّ إن بقي في مكّة.

أمّا الرحيل إلى العراق، وإن كانت المؤشّرات واضحةً تكشف النتيجة، بَيد أنّها تبقى حسب مجريات الأحداث المتحرّكة على أرض الواقع يومها أنّ

ص: 270


1- المناقب لمحمّد بن سليمان الكوفيّ: 2 / 260 الرقم 725.

ثَمّة مَن يزعم أنّه على استعدادٍ لتقديم النصرة والدفاع بالنفْس والنفيس، ولو بمستوى الزعم والتظاهر، فها هي كتب أهل الكوفة ورسُلهمتترى..

فالبقاء في مكّة يعني القتل الحتميّ، حسب مجريات الأحداث وتراكم القرائن الّتي أوجزها الإمام (علیه السلام) بتقرير وقوع القتل، بحيث صار يحاول بجدٍّ الخروجَ لئلّا تُستَحلّ به، وإخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) صريحٌ في أنّهم جادّون في تنفيذ ما يصبون إليه، إذ أنّ قوله (علیه السلام) : «لَئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ مِن أن تُستَحلّ بي»، يعني صراحةً أنّهم قاتلي إن بقيتُ في مكّة، وأنا لا أُحبّ أن تُستَحلّ بي، فلأذهب إلى أيّ مكانٍ آخَر وأختار أيّ بقعةٍ سوى مكّة البيت الحرام.. فهو في الحقيقة إخبارٌ واضحٌ عن عزمهم وسعيهم الجادّ المتنجّز لقتله في مكّة!

وقد أكّد الإمام (علیه السلام) في لقاءٍ آخَر مع ابن عبّاسٍ جرى فيه حديثٌ طويلٌ بعد أن ذكر له خيانة أهل الكوفة وغدرهم وأنّهم يدعون في ظلّ حكمٍ قائمٍ مستقرٍّ غشومٍ ظلومٍ ليس فيه أيّ تصدّع، وهذا يعني أنّهم إنّما يدعونه إلى الحرب والقتال، وهو بلدٌ قُتل فيه أبوه واغتيل فيه أخوه، وبويع يزيد، وعُبيدُ الله في البلد يعطي ويفرض، والناس عبيد الدينار والدرهم، وأنّه لا يأمن عليه القتل، فأمر الإمامَ بتقوى الله وأن يلزم الحرم..

فقال له الحسين (علیه السلام) : «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبُّ إلى أن أُقتَل

ص: 271

بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

فالقتل في مكّة محقَّقٌ إن بقي سيّد الشهداء (علیه السلام) فيها ولم يغادرها، ولابدّ له من الخروج منها لئلّا تُستباح به، وهو قد قالها لابن عبّاسٍ وغيره في أكثر من موضع وأكثر من مقام، أنّ القوم لا يتركونه، فإمّا أن يبايع البيعة الذليلة ويؤثر طاعة اللئام، وهذا ما لا يكون أبداً، وإمّا أن يقتلوه..

كيف يُفهِم الإمامُ (علیه السلام) هؤلاء القوم؟! بأيّ لغةٍ يكلّمهم حتّى ينصاعوا ويُدرِكوا ما يقول ويتحسّسوا الواقع الّذي يحيط بالإمام (علیه السلام) ؟!

كيف يأمره أن يلزم الحرم، وقد أخبره الإمام (علیه السلام) من قبل أنّه لن يغادر مكّة وهو مقيمٌ فيها أبداً ما منعوه ودفعوا عنه ولم يخذلوه، فلمّا عزم على الخروج منها أليس هذا يعني أنّهم خذلوه؟! فإذا خذلوه ولم يمنعوه فهو مقتولٌ في مكّة لا محالة! وهو لا يحبّ أن تُستباح به، وقد أخبرهم في غير موضعٍ أنّ القوم لا يتركونه، وهم يعلمون أنّه لا يعطي بيده، فلابدّ أن يقتلوه، وله أن يختار الموضع الّذي سيُقتَل فيه ويدفع عن نفسه وأهل بيته حتّى يقيم الحجّة ويعذر ويؤدّي التكليف، ليؤثر مصارع الكرام على طاعة

ص: 272


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 216، وانظُر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

اللئام.

وفي لفظ المسعوديّ تفصيلٌ أكثر في كلام ابن عبّاس وذكر الدلائل على غدر أهل الكوفة وتهويلٌ وتعبيرٌ غير لائقٍ ولا مؤدّب مع الإمام (علیه السلام) ، حتّى قال له: «فإن عصيتَني وأبيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة ...»، فردّ عليه الإمام بعد أن ذكر له أنّ كتاب المولى الغريب مسلم (علیه السلام) قد وصله باجتماع أهل المصر على بيعته ونصرته، وأنّه عازمٌ على المسير إليهم، قال المسعوديّ: فكان الّذي ردّ عليه: «لَئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا، أحبّ إليّ مِن أن أستحلّ بمكّة» ((1))..

ومعنى هذا أنّي لا خيار لي للبقاء في مكّة كما تزعم يا ابن عبّاس، فإنّ بقائي في مكّة يعني أن أُقتَل ويُستحَلّ دمي فيها، ولابدّ لي أن أحمي حرمة البلد الحرام، لأنّ القوم لا يرعون ذلك، فلا خيار سوى الخروج منها، وإلّا فالقتلُ فيها.

وفي ما رواه الطبرانيّ مسنَداً عن ابن عبّاسٍ في حديثٍ إضافة: «أحبّ إليّ مِن أن يُستحَلّ بي ((2)) حرم الله ورسوله» ((3)).. فإن كان المقصود من (حرم

ص: 273


1- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّيّ: 166.
2- ذخائر العقبى للطبريّ: 150.
3- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 138 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 192، الملاحم والفتن لابن طاووس: 192.

رسوله) المدينة، فيكون فيه إشارةٌ واضحةٌ على تأكيد أنّ بقاءَه في المدينة كان يعني أن يُقتَل، ولهذا خرج منها خائفاً يترقّب!

وفي خبرٍ رواه الطبريّ الشيعيّ في (دلائل الإمامة) مسنَداً أنّ ابن عبّاسٍ قال:

أتيتُ الحسين وهو يخرج إلى العراق، فقلتُ له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!! فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إنْ منعتَني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هنا؟». قلت له: فأنّى لك ذلك؟ قال: «بسرٍّ سُرّه لي وعلمٍ أُعطيتُه» ((1)).

بغضّ النظر عن العامل الغيبيّ الّذي قرّرنا أن لا ندخله _ ما استطعنا _ في بحثنا هذا، باعتباره بحثاً تاريخيّاً، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ينبّه ابن عبّاسٍ إلى أنّ بقاءَه في مكّة يعني قتله وأصحابِه، فإن منعه ابن عبّاسٍ عن الخروج منها فهو يعني أن يُقتَل فيها، والحال أنّ له أن يخرج منها فيُقتَل في أرض العراق، وهذا أحبّ إليه.

وفي خبر الهنديّ في (كنز العمّال): قال سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس:

«إنّ هذا الحرم يُستحَلّ برجُل، ولَئن أُقتَل في أرض كذا وكذا أحبّ

ص: 274


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238.

إليّ من أن أكون أنا هو» ((1)).

وفيه إخبارٌ واضحٌ عن عزمهم على قتله، وأنّه لا يريد أن يكون هو الرجُل المقتول فيها، وله خيار اختيار غيرها للمصرع.

وبكلمة: فإنّ قول سيّد الشهداء (علیه السلام) بأيّ لفظٍ من الألفاظ الّتي سمعناها يفيد بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يُخبر ابن عبّاسٍ أنّ دعوته للبقاء في مكّة والتشبّث به أن لا يخرج، لا يجدي نفعاً؛ لأنّ القوم يريدون قتله في مكّة، وهو لا يريد أن تُستَحلّ به حرمة البيت ولا يُستَحلّ دمُه في البلد الحرام، فهذه الكلمات ليست لمجرّد الإخبار بالغيب، وإن كانت تفيد هذا المعنى أيضاً، فهي في نفس الوقت تُخبر عن تحرّي القوم وجدّهم وعزمهم الأكيد وتنفيذهم السريع لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في الحرم، وهذا الّذي أزعج سيّد الشهداء (علیه السلام) وأخرجه منها.

وهذا الردّ من سيّد الشهداء (علیه السلام) يؤكّد ما رواه الطُّريحيّ في (المنتخَب) والمجلسيّ في (البحار) وغيرهما من عزم يزيد على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة كيف ما اتّفق ولو بالاغتيال ((2))، كما سنسمع بعد قليل.

ص: 275


1- كنز العمّال للهنديّ: 13 / 672 الرقم 37716.
2- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 434، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 99، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مثير الأحزان للجواهريّ: 30، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 153، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 51.

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) :

مع أنّه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنّه (علیه السلام) هرب من المدينة خوفاً من القتل إلى مكّة، وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنّه!!! أنّهم يريدون غيلته وقتله، حتّى لم يتيسّر له _ فداه نفسي وأبي وأُمّي وولدي _ أن يُتِمّ حجّه، فتحلّل، وخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كانوا (لعنهم الله) ضيّقوا عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.

ولقد رأيتُ في الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عَمرو بن سعيد بن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين (علیه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكّن منه بقتله غيلة، ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين (علیه السلام) على أيّ حالٍ اتّفق، فلمّا علم الحسين (علیه السلام) بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عُمرةً مفردة.

وقد رُوي بأسانيد: إنّه لمّا منعه (علیه السلام) محمّدُ ابن الحنفيّة عن الخروج

ص: 276

إلى الكوفة، قال: «واللهِ _ يا أخي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض، لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني».بل الظاهر أنّه (صلوات الله عليه) لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه؛ لشدّة عداوتهم وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلةٍ ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البيعة عليه أوّلاً لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان (لعنه الله) كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه، وكان عُبيد الله بن زياد (عليه لعائن الله) إلى يوم التناد يقول: اعرضوا عليه، فلْينزل على أمرنا، ثمّ نرى فيه رأينا؟ ((1))

وقد ورد في خبرٍ طويلٍ فيما أجاب به ابن عبّاس على كتاب يزيد بعد رفض البيعة لابن الزبير:

أنسيتَ إنفاد أعوانك إلى حرم الله لتقتل الحسين، فما زلتَ وراءه تخيفه حتّى أشخصته إلى العراق، عداوةً منك لله ورسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟ ((2))

وورد خبر إنفاذ يزيد عَمرو بن سعيد بن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه

ص: 277


1- بحار الأنوار: 45 / 99، العوالم للبحراني: 17 / 323.
2- تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 155، نفس المهموم للقمّي: 446.

أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين (علیه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكن منه يقتله غيلة.ثمّ إنّه (لعنه الله) دسّ مع الحُجّاج في تلك السنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين (علیه السلام) على كلّ حالٍ اتّفق ((1)).

وروى السيّد ابن طاووس خبراً مسنداً، ذكر فيه لقاء محمّد ابن الحنفيّة ليلة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) والتماسه الإعراض عن الكوفة، فأجابه الإمام (علیه السلام) : «يا أخي! قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الّذي يُستباح به حرمة هذا البيت» ((2)) _ إلى آخر الخبر.

وقد لقيه الفرزدق خارج مكّة، فقال له: بأبي أنت، لو أقمتَ حتّى يصدر الناس، لَرجوت أن يتقصّف أهل الموسم معك. فقال (علیه السلام) : «لم آمنهم ((3)) يا

ص: 278


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 434، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 99، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مثير الأحزان للجواهريّ: 30، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 255، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 153، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 51.
2- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
3- قد يُقال: إنّ الضمير في «آمنهم» يعود على الناس.

أبا فراس» ((1)).

فهذه النصوص تصرّح بإقدام القوم على ارتكاب الجناية العظمى في الحرم المكّيّ، وأنّهم باشروا في ذلك مباشرةً جادّةً وحثيثة، وهذا يعني أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يعني قتله غيلةً وهتك حرمته وحرمة الحرم به، ممّا اقتضى خروج الإمام (علیه السلام) منها على عجلٍ يفوّت عليهم ما أزمعوا عليه.

ولقد سمعنا ابن عبّاس والفرزدق وغيرهما يدعون الإمام (علیه السلام) للتريّث حتّى يصدر الناس عن حجّهم، ولا حاجة إلى تكرار النصوص هنا.وكان الغرض من دعوتهم هذه أن يلقاهم الإمام (علیه السلام) ويعلم على ما يصدرون، ثمّ يرى رأيه، أو رجاء أن يتقصّف أهل الموسم معه..

فأجابهم الإمام (علیه السلام) بكلمةٍ واحدةٍ واضحةٍ تُقنع العاقل لو عقل، فقال: «لَئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ أن تُستَحلّ بي»، يعني مكّة ((2)).

ص: 279


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63، مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر: 27 / 121.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200 و211 وفيه: (تناصبنا)، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 219، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 292، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 106، سبل الهدى للصالحي الشاميّ: 11 / 78.

فهم قد أزمعوا على اغتياله، فلا يأمنهم، وإنّ القوم قاتلوه لو بقي في مكّة، فلا مجال للمكث بها؛ رعايةً لحرمتها وحرمة دم ابن رسول الله فيها.

وهذا يعني أنّ الإمام كان مهدَّداً في تلك الأيّام مضيَّقاً عليه، بحيث لا يسَعه البقاء في مكّة حتّى ينتهي موسم الحجّ.

ومن الغريب طلب التريّث من الإمام (علیه السلام) حتّى ينقضي الحُجّاج من حجّهم ليرى رأيهم في نصرته.. ودعوى أنّه إن بقي في الحرم فسيكون أمنع مَن فيه وأعزّ مَن فيه!! رغم ما يلاحظون من الظروف المحيطة بالإمام (علیه السلام) ويسمعون من كلامه الصريح الواضح البيّن الجليّ الفصيح المفهوم.

إنّ هؤلاء الحجيج همجٌ رعاع، تركوا وجه الله وعكفوا على مناسك هامدةٍ سامدةٍ خامدةٍ جامدةٍ، لا قيمة لها ولا أثر ما دامت لم تكن في رضى الله (تعالى)، ورضى الله (تعالى) في رضى الحسين (علیه السلام) ، كما قال: «رضى اللهرضانا أهل البيت»، وكما صرّح به القرآن: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ ((1))، وتظافرت على بيانه الأحاديث الشريفة..

ثمّ إنّ الناس الّذين صمّوا أسماعهم وغضّوا أبصارهم وتغافلوا وأعرضوا

ص: 280


1- سورة النساء: 59.

عن نصرة الإمام (علیه السلام) ، وهو في ذلك الظرف العصيب الّذي كان العدوّ يهدّده في كلّ لحظةٍ وفي كلّ آن، والإمام (علیه السلام) بين ظهرانيهم، وقد علموا أنّه عزم على الخروج، سوف لا يرفّ لهم جفن ولا ينتفض لهم قلبٌ إذا خرج وقد عزموا على الرجوع إلى دنياهم وأهليهم وزخارف حياتهم..

على أنّه خرج على مرأىً ومسمعٍ منهم، وكان بوسعهم أن يلتحقوا به وهو في بدايات الطريق، بَيد أنّهم لم يفعلوا.

وقد أتينا على بيان ذلك وتفاصيله في ثنايا الدراسات السابقة، فلا نعيد.

* * * * *

ولا نريد هنا التوسّع في دراسة أسباب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، بل ومن المدينة أيضاً، بيد أنّ ثمّة قضيّةً مهمّةً ينبغي الالتفات إليها قبل الدخول في البحث، وهي بكلمة:إنّ الأسباب ليست جميعها من صنفٍ واحدٍ وعلى مستوىً واحد، وإنّما يمكن تقسيم الأسباب على وجه العموم إلى قسمَين أساسيَّين، نذكرها على نحو الاختصار:

ص: 281

القسم الأول: الأسباب الدافعة

هذا النوع من الأسباب يمكن تسميته _ تجوّزاً ومسامحةً إن صحّ التعبير _ ب-- (العِلَل الفاعلة).. بمعنى أنّها كانت الدافع الّذي دفع الإمامَ (علیه السلام) إلى الخروج مضطرّاً، لا يسعه البقاء فيها بعد تحقّق تلك الأسباب حيناً من الوقت مهما كان قليلاً، وصار الحساب بالساعات..

أسبابٌ منعَته من البقاء في مكّة، ولو ليومٍ أو يومين.. ودعَتْه إلى الخروج الفوريّ والابتعاد عن مكّة، ولو بشبرٍ أو شبرين..

وهذه الأسباب والعلل فرضَها الواقع وسير الأحداث وسجّلها التاريخ، سواءً على مستوى مجريات الحوادث، أو على مستوى التصريحات والبيانات الصادرة من الإمام سيّد الشهداء نفسه _ فداه روحي _، أو من أعدائه، أو من المعترضين عليه، وغيرهم من الشخصيّات المعاصرة للحدَث..فهي أسبابٌ منصوصةٌ سجّلها التاريخ، صرّح بها الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه _ مثلاً _، وأسبابٌ منصوصةٌ أيضاً باعتبار أنّ المؤرّخ نصّ على جملةٍ من الأحداث الّتي أدّت بوضوحٍ لا لبس فيه إلى خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة المكرّمة..

وهي أسبابٌ متّفَقٌ عليها بين جميع المتابعين لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 282

وخروجه من المدينة ومكّة، ولا يناقش فيها أحد..

فقد اتّفَق الجميع دون اختلافٍ أنّ خروجه من المدينة ومكّة إنّما كان لحماية دمه الزاكي ودماء مَن معه، لئلّا تُهتَك بها حرمة المدينة المنوّرة ومكّة البيت الحرام.. فهذا ما لا خلاف فيه بين اثنين..

وقد صرّح الإمام (علیه السلام) نفسُه بذلك، وشهد بها سير الأحداث المتسارع وإقدامات العدوّ المتهوّرة المستعجلة لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .

القسم الثاني: الأسباب الأهداف

هناك أسبابٌ يمكن أن تكون آثاراً تترتّب على الخروج كأهدافٍ تُقصَد من الخروج، فهي ليست أسباباً تشكّل دوافع تضطرّه إلى الخروج، وإنّما هي جواذب تدعوه إلى الخروج لتحقيق بعض المرامي والأهدافالّتي يمكن أن تتحقّق عند الخروج من مكّة.

وبعبارةٍ أُخرى _ إن صحّ التعبير أيضاً _ : إنّ هذه الأسباب والعِلل يمكن أن نطلق عليها (العِلَل الغائيّة)..

فهو (علیه السلام) إن خرج من مكّة مضطرّاً خوف القتل، هل كان له هدفٌ يلاحقه ويروم تحقيقه، أو أنّه خرج للوقاية من القتل في مكّة؟!

وهنا نحتاج إلى نصوصٍ تصرّح بالأهداف المرجوّة بالخصوص من سيّد

ص: 283

الشهداء نفسه (علیه السلام) ، وإن لم تكن صريحةً فلْتكن ملوِّحَةً واضحة!

ويمكن أن يكون هذا النوع من الأسباب والأهداف متّفقاً مع القسم الأوّل، ويمكن أن يكون مختلفاً..

بمعنى: إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج بهدف حماية دمه الزاكي والبيت الحرام من الهتك، ويمكن أن يكون ثَمّة هدفٌ آخَر يتوخّاه من خروجه سوى حماية دمه وحفظ حرمة البيت، يسعى إلى تحقيقه وينطلق نحوه..

وهذا النمط من الأسباب في الأعمّ الأغلب _ إن لم نقل دائماً _ ربّما رشحَت بها تحليلات المتابع المبتنية على سوابقه الذهنيّة وقوالبه النفسيّة المعدّة سلفاً، وبنائه العقليّ الموروث الّذي ينطلق منه إلى تفسير حركة سيّدالشهداء (علیه السلام) ..

إذ أنّنا لم نقف _ لحدّ الآن حسب فحصنا ومتابعتنا لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وكلامه وسير الحوادث _ على ما يكون صريحاً واضحاً بوجود هدفٍ أعظم أو أَولى من الهدف العلّة المذكورة في القسم الأوّل!

ولِنضرب مثلاً مجمَلاً ربّما أوضح الفرق بين القسم الأوّل والقسم الثاني من الأسباب:

قلنا قبل قليلٍ أنّ الجميع قد اتّفقوا بما لا خلاف فيه على أنّ خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إنّما كان لحماية دمه الزاكي وحرمة

ص: 284

المدينة، وهذا ما تشهد له الأقوال والأحداث، وهو سببٌ من القسم الأوّل.

وذكروا سبباً آخَر، قيل: إنّ الإمام (علیه السلام) كان يتوخّاه ويقصده من وراء الخروج من المدينة، يمكن أن يكون هدفاً للخروج كما سنسمع..

قالوا _ مثلاً _ بعد أن ذكروا الشواهد على احتمال اغتيال الإمام (علیه السلام) في المدينة، وهو الاحتمال الأكبر، وإمكان وقوع المواجهة فيها:

فهذا المقطع من رسالة ابن عبّاس كاشفٌ عن أنّ يزيد سعى إلى اغتيال الإمام (علیه السلام) في المدينة كما سعى إلى ذلك في مكّةالمكرّمة.

واستباقاً لما هو متوقَّع الحدوث _ أي: الاغتيال _، فقد خرج الإمام بركبه من المدينة، إذ لم تعُدْ مدينةُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) مأمناً لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وصحيحٌ أنّه (علیه السلام) كان قد خرج من المدينة خشية الاغتيال خوفاً على نفسه الشريفة، وخوفاً من أن تُهتَك حرمة حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقتله غيلةً أو في مواجهةٍ مسلّحة، لكنّ الصحيح في العمق أيضاً أنّ هذا الخوف كان يقع ضمن إطار خوفٍ أكبر، وهو خوفه (علیه السلام) من أن تُخنَق ثورته المقدّسة قبل اشتعالها بقتله غيلةً في المدينة في ظروفٍ زمانيّةٍ ومكانيّةٍ وملابساتٍ مفتعَلَةٍ يقوم بإعدادها وإخراجها الأُمويّون أنفسهم، يستطيعون من خلالها الاستفادة حتّى من حادثة قتله لصالحهم إعلاميّاً، فتبقى مأساة الإسلام على ما

ص: 285

هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ!

كان الإمام حريصاً على أن يتحقّق مصرعه _ الّذي كان لابدّ منه ما لم يبايع _ في ظروفٍ زمانيّةٍ ومكانيّةٍ يختارها هو (علیه السلام) ، لا يتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه، أو أن يستفيد من واقعة قتله لصالحه، فتخنق الأهداف المنشودة من وراء هذا المصرعالّذي أراد منه (علیه السلام) أن تهتزّ أعماق وجدان الأُمّة لتتحرّك بالاتّجاه الصحيح الّذي أراده (علیه السلام) لها.

فكان خروجه (علیه السلام) من المدينة _ كذلك من مكّة _ في الأصل انفلاتاً بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الأُمويّ، إضافةً إلى خوفه (علیه السلام) من أن تُهتَك حرمة أحد الحرمَين الشريفَين بقتله ((1)).

نكتفي هنا بالإشارة إلى الغرض من ذِكر المثال، إذ أنّ هذا المتن يفيد بصراحةٍ في أوّله ما لا خلاف فيه، وهو خروجه (علیه السلام) خوفاً على دمه الزاكي، ويصحّح ذلك..

ثمّ يضيف صحيحاً آخَر ينسبه إلى (العُمق)! وهذا السبب الإضافيّ يُعدّ من القسم الثاني، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج ليحمي هدفه (الأصل)!!! وهو الانفلات بثورته من المدينة!!!

ص: 286


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 375.

فالقسم الأوّل هو السبب الدافع الّذي قد اتّفق عليه الجميع؛ لشهادة الأحداث والنصوص التاريخيّة به..

أمّا السبب (الغائيّ)، فهو ما خرجَت به دلاء التحليل من (العمق)الممتدّ في غور السوابق الذهنيّة والمتبنّيات المصوغة وفق القوالب المعدّة، والّتي تدعو المتأمّل ليجعل صحراء كربلاء والفلاة الجرداء الّتي لا سكّان فيها ولا عمران، ليس فيها سوى عسلان الفلوات المتوحّشة المحيطة كالحلقة بالإمام غريب الغرباء وأهله ورهطه..

يجعل هذه الفلاة البيداء أفضل للتوظيف الإعلاميّ بإزاء مدينة الرسول (صلی الله علیه و آله) ومكّة البيت الحرام أيّام الحجّ!!!

ويجعل الهدف الغائيّ أعزّ وأقدس وأهمّ وأعظم حرمةً من دم الإمام الزاكي ودماء مَن معه ممّن ليس لهم على الأرض شبيهون!!!

ولا يمكن الارتكان إلى وصيّة الإمام (علیه السلام) إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة في المقام؛ لأنّنا ناقشناها سنداً ودلالةً في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) مناقشةً مفصَّلة، فهي لا تنهض بسند، وبغضّ النظر عن السند فإنّها لا تنهض بدلالةٍ على ما يُقال.

وسنأتي على مناقشة ذلك في محلّه بالتفصيل من دراسة أقوال العلماء والمؤرّخين والنظريّات الّتي انبرت لتفسير قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) إن شاء

ص: 287

الله (تعالى)، ودراسة ما يصحّ وما لا يصحّ من العلل الغائيّة والأهداف التحليليّة الّتي لم ترد في المتون التاريخيّة وبيانات الإمام سيّد الشهداء وآبائهوأبنائه المعصومين (علیهم السلام) ، وقد مرّ معنا في دراسة ظروف خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة بعض الإشارات.

ص: 288

يوم خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة

اشارة

تطالعنا عدّةُ أقوالٍ في تحديد يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، ويمكن اختصار الحديث في ذلك من خلال التنويهات التالية:

التنويه الأوّل: محتويات النصوص

إعتاد المؤرّخون على الإشارة إلى ما يعتقدونه سبباً لخروجه (علیه السلام) من مكّة، وقد اقتطعناها هنا على أمل أن يمدّ الله في العمر ويُبقي الأجل بقيّة ويمنّ علينا بالتوفيق لنتناول دراسة ذلك مفصّلاً في محلّه إن شاء الله (تعالى)..

وفي النصوص ما يفيد بجلاءٍ ويبيّن بوضوحٍ مكر المؤرّخ وخُبثه في عرض الأحداث والتعليق عليها!

يقول الدياربكريّ:

فأتاه كتبُ أهل الكوفة وهو بمكّة، فاغترّ!!! فتجهّز للمسير ((1)).

ص: 289


1- تاريخ الخميس للدرياربكريّ: 2 / 332.

ويقول هو وابن عبد البرّ وغيرهما:

وخرج يوم التروية يريد الكوفة، فكان سبب هلاكه ((1)).

وليس هذا إلّا نموذجاً بسيطاً، وفي نصوصهم من الخبث والجسارة ونفث الشيطان وهتوفه لإلقاء ما يريده المؤرّخ ومشغّله ويروم وصْمَ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) به.

وقد أشرنا إلى جملةٍ من ذلك فيما مضى، وسنأتي على تفصيله في محلّه إن شاء الله.

التنويه الثاني: أقوالٌ شاذّة
القول الأوّل: قول ابن سعد

قال ابن سعدٍ، وروى عنه مَن تلاه: إنّ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يوم الاثنين في عشر ذي الحِجّة سنة ستّين ((2)).

ص: 290


1- الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للدرياربكريّ: 2 / 331.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 212، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 204، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165، تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 206.

وفي خبره ارتباكٌ شديد، أتينا على مناقشته فيما سبق، فلا يُعتَدّ به، سيّما أنّ مَن جاء بعده صرّح بالنقل عنه، وهو مخالفٌ للمشهور.

القول الثاني: السيّد ابن طاووس (رحمة الله)

وقال السيّد ابن طاووس (رحمة الله) :

وكان قد توجّه الحسين (علیه السلام) من مكّة يوم الثلاثاء لثلاثٍ مضين من ذي الحِجّة ((1)).

ثمّ ذكر الأربعاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستّين، فهو يروي القول المشهور، وإن اختلف معه في تحديد اليوم من الأُسبوع.

ولا يبعد أن يكون القولان اللذان يرويهما إنّما رواهما لبيان الاختلاف في اليوم بالذات، أي: بين الثلاثاء والأربعاء، ووقع السهو أو الخطأ أو التصحيف في الثلاثة والثمانية.

وكيف كان، فإنّ المعتمَد هو المشهور، والشاذّ لا يُؤخَذ به، سيّما وأنّه (رحمة الله) قد نقل القولَين.

ص: 291


1- اللهوف لابن طاووس: 60، 63، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233.
القول الثالث: سبط ابن الجَوزيّ

وقال سبط ابن الجوزيّ:

وأمّا الحسين (علیه السلام) ، فإنّه خرج من مكّة سابع ذي حِجّةٍ سنة ستّين ((1)).

ثمّ ذكر خروجه (علیه السلام) يوم التروية الثامن من ذي الحجّة، فلا يبعد أن يكون الاختلاف في اليوم والليلة، فالمعتمَد المشهور الّذي يرويه هو أيضاً.

القول الرابع: العمرانيّ

قال العمرانيّ:

وهاجر إليها في ذي القعدة من سنة إحدى وستّين.

ونصحه أهلُ المدينة وقالوا له: تثبَّتْ؛ فإنّ هذا موسم الحاجّ، فإذا وصلوا فاخطِبْ في الناس وادعُهُم إلى نفسك، فيبايعك أهلُ الموسم، ويتذكّر بك الناسُ جدَّك، وتمضي حينئذٍ في جُملتهم في جماعةٍ ومنعَةٍ وسلاحٍ وعدّة. فلم يصبر، وخرج ((2)).

يبدو أنّ الارتباك في النصّ والشذوذ في التاريخ يُغني عن مناقشته،

ص: 292


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 137 و140.
2- الإنباء للعمرانيّ: 14.

فهو لم يضبط لا الشهر، إذ قال: في ذي القعدة، ولا السنة، إذ جعلها سنة إحدى وستّين، وجعل المعترض من أهل المدينة، ومادّةَ الاعتراض أن يبقى في مكّة حتّى ينقضي الموسم.. فليس في المتن ما يدعو إلى اعتماده بعد مخالفته المشهور مخالفةً شديدة!

القول الخامس: ابن حبّان

قال ابن حبّان:

فلمّا بلغ الحسينَ بن عليٍّ الخبرُ بمصاب الناس بمسلم بن عقيل، خرج بنفسه يريد الكوفة ((1)).

يبدو هذا القول من الغرابة والشذوذ بمكانٍ يسمح للباحث أن يُعرِض عنه ولا يلتفت إليه.

التنويه الثالث: القول المشهور

القول المشهور سابقاً شهرةً عظيمة، وهو قد يبلغ حدّ الإجماع لاحقاً، هو: يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحِجّة ((2)).

ص: 293


1- الثِّقات لابن حبّان: 2 / 309.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 371، تاريخ الطبريّ: 5 / 381، العَبرات للمحموديّ: 1 / 336، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 70، الإرشاد للمفيد: 2 / 67، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 363، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، أسرار الشهادة للدربنديّ: / 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 162، روضة الواعظين للفتّال: 152، إعلام الورى للطبرسيّ: 230، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، مثير الأحزان لابن نما: 18، مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 43، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 137، 140، اللهوف لابن طاووس: 60، 63، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 233، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 405، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 132، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 188، نور الأبصار للشبلنجيّ: 259، شذرات الذهب لابن العماد: 1 / 67، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59، نور الأبصار للشبلنجيّ: 256، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للدرياربكريّ: 2 / 331، الفتوح لابن أعثم: 5 / 119، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 220.

ويشهد له ما ورد في كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أهل الكوفة الّذي أرسله في الطريق، وقد جاء فيه:

«وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحِجّة يوم التروية ...» ((1)).

ص: 294


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 297، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، مثير الأحزان لابن نما: 30، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 369، العوالم للبحرانيّ: 17 / 220، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 181، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 412.

فهو المعتمَد، وسيأتي بحث الكتاب وما فيه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 295

ص: 296

الملتحقون بركب السعادة في مكّة المكرّمة ومشارفها

اشارة

مرّ معنا في دراستنا ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة بحثٌ تحت عنوان (هل التحق بالإمام (علیه السلام) أحدٌ في طريق المدينة؟) ((1))، عرفنا من خلاله أنّ الظاهر من النصوص أنّه لم يلتحق به أحدٌ ثَمّة.

بَيد أنّ النصوص التاريخيّة تفيد أنّ كوكبةً من الأبرار الأخيار التحقوا بركب السعداء في مكّة أو على مشارفها قبل أو بعد انطلاق ركب الكرب الميمّم نحو كربلاء الّذي كان يسير والمنايا تسري وتسرع إليه.

وقد ورد نصٌّ عند ابن سعدٍ ومَن تلاه يفيد أنّ تسعة عشر رجُلاً من بني عبد المطّلب وردوا على الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة بعد أن بعث إليهم الإمام (علیه السلام) ، قال:

وبعث حسينٌ إلى المدينة، فقدم عليه مَن خفّ معه من بني عبد

ص: 297


1- أُنظر: ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة: 139 وما بعدها.

المطّلب، وهم تسعة عشر رجُلاً ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه وبناته ونسائهم، وتبعهم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ، فأدرك حسيناً بمكّة، وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأيٍ يومه هذا، فأبى الحسينُ أن يقبل ((1)).

وقد مرّ معنا بحث هذا النصّ مفصّلاً في الجزء الخامس من (ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة)، تحت عنوان (الإضاءة الحادية عشرة: مَن لحق من بني عبد المطّلب) ((2))، فلا نعيد.

* * * * *

سنقتصر هنا على محاولةٍ سريعةٍ جدّاً للتعرّف إلى عدد الركب الّذي هاجر من مكّة إلى كربلاء، من خلال الأعداد الإجماليّة الواردة في المتون التاريخيّة ومحاولة تتبُّع الأسماء، لوضع مسردٍ بالأسماء المباركة الّتي وردَت بنحوٍ من الأنحاء في الكتب.

ص: 298


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 421، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 9.
2- أُنظر: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة: 5 / 186.
العدد الإجماليّ

ذكروا بعض الأعداد الإجماليّة، سواءً تصريحاً أو على لسان أحَد الراحلين مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وسوف نستعرضها، ونترك الأعداد المذكورة في كربلاء وأعداد الملتحقين في الطريق إلى حين وصولنا إلى هناك إن شاء الله (تعالى)، وسنقتصر على ذِكر الأعداد بغضّ النظر عن المتون الواردة فيها:

فقد روى ابن قُتيبة وغيره على لسان المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) في مجلس ابن زيادٍ حين الوصيّة أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أقبل في «تسعين إنساناً» ((1)).

وروى ابن أعثم والخوارزميّ وغيرهما أنّه «حمل _ من مكّة _ بناته وأخواته.. اثنان وثمانون رجُلاً من شيعته ومواليه وأهل بيته» ((2)).

وقال العمرانيّ أنّه (علیه السلام) خرج من مكّة في «سبعين نفراً، أكثرهم أولاده

ص: 299


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 5، المحاسن والمساوئ للبيهقيّ: 51.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 120، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 220، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 228، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 348، نفَس المهموم للقمّيّ: 170، مطالب السؤول لابن طلحة: 74.

وأقاربه وأهل بيته» ((1)).

فتكون أعلى الأرقام هو ما رواه المؤرّخ على لسان المولى الغريبمسلم (علیه السلام) .

وبغضّ النظر عن مدى صحّة ما نسبوه إلى المولى الغريب (علیه السلام) ، سيّما أنّ ذكره العدد بالتحديد لا علاقة له بوصيّته، ولا ضرورة لذكره في تلك الساعة العسيرة قُبيل الشهادة في مجلس ابن الأَمة الفاجرة، وقد أتينا على مناقشة ذلك في المجموعة الكاملة لوقائع السفارة في الجزء السادس منها، فلا نعيد.

فإنّنا قد جرّبنا في كثيرٍ من المواضع أنّ هذه الأعداد الاجماليّة الّتي يذكرها المؤرّخ ليست دقيقة، فكثيراً ما يحصر عدداً ثمّ يتبيّن خلاف ذلك من خلال المتابعة لما يذكره هو نفسه، فربّما حصر عدد أهل البيت (علیهم السلام) في الركب بسبعين مثلاً، ثمّ جعل يذكر مبارزتهم في كربلاء فيقول: خرج فلان، ثمّ خرج فلان.. ويسرد أسماء الشهداء منهم، فإذا أحصيتَهم وجدتَهم أكثر ممّن ذكرهم في الحصر السابق!

كما حصر عدد أولاد سيّد الشهداء بستّة _ ذكوراً وإناثاً _ على أقصى

ص: 300


1- الإنباء للعمرانيّ: 14.

التقادير، في حين أحصينا له من مصادر _ أغلبها معتبرٌ قديم، بل من نفس المصادر الحاصرة _ زهاء سبعةٍ وثلاثين، وقد أتينا على ذِكر الأسماء ومصادرها في كتاب (بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام)).والأمثلة على ذلك كثيرةٌ لا تختفى على المتتبّع..

أضف إلى أنّ هذه الأعداد الإجماليّة إنّما تذكر الرجال البالغين وكذا النساء، كما هو واضحٌ من عبارات المؤرّخ، فهي لا تُحصي الأطفال والفتيان ممّن لا يصحّ التعبير عنه بالرجُل عرفاً.

العدد التفصيليّ

ربّما كان من المتعسّر _ بل من المتعذّر جدّاً _ إحصاءُ عدد الركب بالدقّة والتفصيل؛ وذلك لأنّ المؤرّخ لم يتعرّض لذكر الأسماء بالتفصيل، ولم يُحصِ إحصاءً دقيقاً..

ولو كان قد فعل ذلك، فإنّ إحصاء الأطفال الصغار والرضّع بالخصوص البنات الصغيرة لا يكاد يصل إليها المؤرّخ، كما لا يكاد يصل إلى عدد الأزواج في الركب.

وقد وردَت تصريحاتٌ عامّةٌ يمكن توظيف العموم الوارد فيها والارتكان إليه براحة؛ لشمول الكثير من الرجال والنساء والأطفال الّذين لم ترد

ص: 301

أسماؤهم.. وقد أتينا على ذِكر العمومات في دراسة (ظروف حركةسيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة).

فالمؤرّخ الّذي أكّد على خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بجميع أهله وأولاده وإخوانه وأهل بيته ومواليه، اكتفى بهذا العموم عن التفصيل، ونحن أيضاً يمكننا الارتكان إلى تعميمه والاستناد إلى عبارته؛ لافتراض خروج جماعةٍ وإن لم ينصّ عليهم المؤرّخ بالاسم!

فمثلاً: حينما عرفنا بالبرهان أنّ المولى خليل الله عليّاً الأكبر (علیه السلام الله) كان متزوّجاً، وله أبناء، وكانت أُمّ ولده على قيد الحياة، بشهادة الحديث الشريف الّذي أفاد أنّ الإمام السجاد (علیه السلام) قد تزوّجها بعد أخيه، فيمكننا والحال هذه افتراضُ خروج أُمّ ولده معه إلى كربلاء وفق العمومات، والقول بخروج أُمّ ولده معه هو اقتصارٌ على القدر المتيقّن، إذ لم نعدّ أبناءَه في الركب.

وهكذا بالنسبة إلى المولى أبي الفضل العبّاس (علیه السلام) فإنّ العمومات تفيد خروجَه بزوجته وأُمّ ولده، على أنّ التاريخ يتحدّث عن شهادة بعض أبنائه في كربلاء، فالعمومات تفيد ذلك، ويؤيّده الواقع المعتاد، إذ أنّ الأب والأولاد خرجوا، فمقتضى العادة أن تخرج الأُمّهات معهم.

ولا يخفى أنّ أكثر أولاد عقيلٍ كانوا قد تزوّجوا ببنات أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 302

أخواتِ الإمام الحسين (علیه السلام) ، وقد وردَت النصوص تؤكّد حضور أولاد عقيلٍ وأحفاده، فمقتضى الحال أن تكون نساؤهم _ بنات أمير المؤمنين (علیه السلام) وغيرهن _ قد خرجن معهم.

كما أنّ الأطفال الصغار جدّاً الّذين تتراوح أعمارهم بين البلوغ وما دون ذلك، لم يُحصِهم المؤرّخ والرواي عادة، وهم حسب الفرض كثيرون، وليس من العادة أن يُتركوا في المدينة وقد رحل أهلوهم جميعاً، إلّا مَن خرج منهم بالدليل.

وقد حاولنا إحصاء ذلك بما توفّر لدينا من مصادر، واقتصرنا على القدْر المتيقّن، فأحصينا ما ورد من أسماء أهل البيت (علیهم السلام) ممّن سجّل لهم المؤرّخ موقفاً في كربلاء، أو صرّح بشهادتهم بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فاقتصرنا _ مثلاً _ على ذِكر أولاد سيّد الشهداء (علیه السلام) وبناته الّذين صرّح المؤرّخ بحضورهم في كربلاء أو استُشهدوا بين يديه، بالرغم من أنّنا نجزم أنّ عدد أولاده (علیه السلام) المقبلين معه إلى كربلاء أكثر من ذلك..

وكذا في أولاد الإمام الحسن (علیه السلام) وأولاد جعفرٍ وعقيل (علیهم السلام) ..

من هنا لا يمكن بحالٍ أن يزعم أحَدٌ أنّه قد أحصى الركب إحصاءً دقيقاً، بالخصوص الأطفال منهم، ذكوراً وإناثاً!

وقد أحصينا الأسماء الّتي وفّقنا الله للوقوف عليها دون تحقيق، إذ أنّنا

ص: 303

تركنا الإثبات والنفي لأهله من ذوي الاختصاص _ إلّا إذا وفّقنا الله ومدّ في أعمارنا في خيرٍ وعافية، فإنّنا سنحقّق في تلك الأسماء في محلّها إن شاء الله (تعالى) _ ؛ لئلّا نخرج عن موضوع الكتاب ونبتعد عن متابعة الركب في حركته.

كما اقتصرنا على ذِكر المصادر الّتي نصّت على الحضور بنحوٍ من الأنحاء، كذِكر صاحب الاسم في الشهداء مثلاً، أو صرّحَت باللحوق في مكّة والخروج مع ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) منها، كيزيد بن ثبيطٍ وأولاده، فإنّنا اقتصرنا على ذكر المصادر الّتي ذكرت لحاقهم ثَمّة، لذا قد ينحصر التوثيق على مصدرٍ أو أكثر، وربّما كان من المتأخّرين كالشيخ السماويّ (رحمة الله) .

وربّما وجد مَن تتبّع حوادث الطفّ ومصائب السبي أسماءً أُخرى فاتتنا، وربّما تفرّغ موفَّقٌ لاستقصاء أعلام الطفّ وأجرى العمومات فتوصّل إلى جملةٍ من الأزواج والأطفال والأحداث فجمعهم.

كيف كان، فإنّنا لا نحسب أنّنا قد جمعنا جمعاً استقصائيّاً!

والآن إلى مسردٍ سريعٍ بالأسماء المباركة النيّرة، وقد سردناها وفق ترتيب الحروف، وأحياناً حسب عثورنا على الاسم حين البحث، واعتمدناموسوعة (تاريخ الإمام الحسين (علیه السلام)) الموفَّقة في الإحصاء:

* * * * *

ص: 304

1 _ إبراهيم بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((1)).

2 _ إبراهيم بن الحسين بن أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

3 _ إبراهيم بن مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ((3)).

ص: 305


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 385، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 277، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 526، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 63، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء للقزوينيّ: 241، جلاء العيون للمجلسيّ: 694، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 2 / 153 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الجوهرة للبريّ: 57، ناسخ التواريخ (أمير المؤمنين (علیه السلام)) لسپهر: 4 / 340، أعيان الشيعة للأمين: 2 / 183، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 57، نفَس المهموم للقمّيّ: 328.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسيّ: 695، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610، الإفادة لأبي طالب الزيديّ: 58، الحدائق الورديّة للمحلّيّ: 1 / 116، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 349.
3- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، للمؤلّف.

4 و5 _ إبراهيم ومحمّد ابنا عبد الله بن جعفر الطيّار ((1)).

6 _ ابن الحسين بن أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، له ثلاث سنين ((2)).

7 _ أبو بكر بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((3)).

ص: 306


1- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل للمؤلّف، وانظُر أيضاً: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات: 77، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 424، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2636، تاريخ الطبريّ: 5 / 393، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 171.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 73، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 203، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 59، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 47، العوالم للبحرانيّ: 17 / 290، أسرار الشهادة للدربنديّ: 409، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 140، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 281، وانظُر: كتاب بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام) للمؤلّف.
3- أُنظر: تسمية مَن قُتل للرسّان: 149، الأمالي للشجريّ: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، الفتوح لابن أعثم: 5 / 205، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 57، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 37، العوالم للبحرانيّ: 17 / 280، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 319، نفَس المهموم للقمّيّ: 327، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 164، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 525، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 255، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 429، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 399، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 28، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 107، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 306، العيون العَبرى للميانجي: 162، إبصار العين للسماويّ: 36، رجال ابن داوود: 393 الرقم 11، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 430، المزار للشهيد الأوّل: 177.

8 _ أبو بكر بن الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

9 _ أبو بكر بن الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

ص: 307


1- أُنظر: تسمية مَن قُتل للرسّان (من تراثنا): 150، الأمالي للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 257، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628، تاريخ الطبريّ: 5 / 468، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 57، الدرّ النظيم لابن حاتم الشامي: 556، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 13 / 256، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 36، العوالم للبحرانيّ: 17 / 279، نفَس المهموم للقمّيّ: 325، أعيان الشيعة للأمين: 2 / 293، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 149، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 246، الإرشاد للمفيد: 2 / 113، إعلام الورى للطبرسيّ: 243، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 400، الكامل لابن الأثير: 3 / 302، مثير الأحزان لابن نما: 35، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 457، إبصار العين للسماويّ: 36.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 73 و76، تاريخ الطبريّ: 5 / 448، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 57، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 178، الكامل لابن الأثير: 3 / 294، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 254، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 457، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 187، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197، سرّ السلسلة لأبي نصر: 30، الشجرة المباركة للرازيّ: 87، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422، التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 303، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 340.

10 _ أبو بكر بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((1)).

11 _ أبو رزين سليمان الشهيد بكربلاء، مولى الحسين (علیه السلام) ((2)).

12 _ أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب ((3)).

13 _ أبو عبد الله (أو: أبو عُبيد الله) بن مسلم بن عقيل ((4)).

14 _ أبو الهياج الهاشميّ، عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ((5)).

15 _ أحمد بن الحسن المجتبى بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((6)).

ص: 308


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 325، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 15 / 237، نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 83، الجمهرة لابن حزم: 68.
2- رسول الحسين (علیه السلام) قُتِل في البصرة، أُنظر: وقائع البصرة، للمؤلّف.
3- المجدي: 307 (الأحول)، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 25.
4- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، للمؤلّف.
5- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77، نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 1 / 45، وزوجته: رملة بنت بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) .
6- عدّه من أولاد الحسن (علیه السلام) : تاريخ أهل البيت (علیهم السلام) : 100 تاريخ الأئمّة لابن أبي الثلج (من مجموعةٍ نفيسة): 18، الهداية الكبرى للخصيبيّ: 183، دلائل الإمامة للطبريّ: 63، تاريخ مواليد الأئمّة لابن الخشّاب (من مجموعةٍ نفيسة): 174، كشف الغمّة للإربليّ: 1 / 576، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 166، نور الأبصار للشبلنجيّ: 249، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 29، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 168، العوالم للبحرانيّ: 16 / 294، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 3 / 323، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 32، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 214، ذخائر العقبى للطبريّ: 143، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 293، ناسخ التواريخ (الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام)) لسپهر: 2 / 270، مناهل الضرب للأعرجيّ: 88، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 296، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 456. وعدّه من الشهداء في كربلاء: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 80، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 369، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 318؛ معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 455، أسرار الشهادة للدربنديّ: 305، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 2 / 345، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 165، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 247، تنقيح المقال للمامقاني: 1- 2 / 103، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 2 / 323 و326.

16 _ أحمد بن عقيل بن أبي طالب ((1)).

ص: 309


1- أُمّه أُمّ ولد، جاءت معه إلى كربلاء. معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، وانظُر: أعيان الشيعة للأمين: 3 / 219.

17 _ أحمد بن محمّد بن عقيل ((1)).

18 _ أحمد بن محمّد الهاشميّ ((2)).19 _ أحمد بن مسلم بن عقيل ((3)).

20 _ الأدهم بن أُميّة البصريّ ((4)).

21 _ أسلم بن عَمرو التركيّ ((5)).

22 _ بُرير بن خضير الهَمْدانيّ ((6)).

ص: 310


1- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 163، عن: كفاية الطالب للكنجيّ، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 103، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 29.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 105، نفَس المهموم للقمّيّ: 295، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 74، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 344، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610.
3- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
4- إبصار العين للسماويّ: 112، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 232، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 265، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1 - 2 / 106، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 99، وانظُر للتفصيل: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ وقائع البصرة، للمؤلّف.
5- من موالي الإمام الحسين (علیه السلام) ، أُنظر ترجمته في: موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) : 15 / 121، و16 / 693.
6- إبصار العين للسماويّ: 70، أعيان الشيعة للأمين: 3 / 561، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 395، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 260، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 107، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1 – 2 / 167، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 377 _ الهامش.

23 _ بشر بن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

24 _ جعفر بن عليٍّ أمير المؤمنين، شقيق أبي الفضل العبّاس (علیهم السلام) .

25 _ جعفر بن الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

26 _ جعفر بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((3)).

ص: 311


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 329، جلاء العيون للمجلسيّ: 694، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، عوالم العلوم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسيّ: 695، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6 (أسير).
3- تسمية مَن قُتل للرسان: 151، الأمالي للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 121، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 406، تاريخ الطبريّ: 5 / 447، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 156، الكامل لابن الأثير: 3 / 293، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 456، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 198، الفتوح لابن أعثم: 5 / 203، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 61، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 33، العوالم للبحرانيّ: 17 / 276، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 313، أسرار الشهادة للدربنديّ: 299، تجارب الأُمم لمسكوَيه: 2 / 71، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 401، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 26، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 105، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 255، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 302، إبصار العين للسماويّ: 51، نفَس المهموم للقمّيّ: 319.

27 _ جعفر بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((1)).

28 _ جعفر بن مسلم بن عقيل ((2)).

29 _ جُنادة بن كعب الأنصاريّ ((3)).

ص: 312


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 240، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسيّ: 694، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 136، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 62.
2- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
3- إبصار العين للسماويّ: 94، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 224، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 244، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 234، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 385 _ الهامش، العيون العَبرى للميانجيّ: 129، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 114.

30 _ جون مولى أبي ذرّ الغِفاريّ ((1)).

31 _ الحَجّاج بن مسروق الجُعفيّ المِذحَجيّ ((2)).

32 _ الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((3)).

ص: 313


1- أُنظر ترجمته في: موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) : 15 / 388 وما بعدها.
2- إبصار العين للسماويّ: 89، عنه: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 228، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 568، العيون العَبرى للميانجيّ: 146، مثله: وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 132، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1 / 255، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 190.
3- تسمية مَن قُتل للرسّان: 157، الأمالي للشجريّ: 1 / 173، الإرشاد للمفيد: 2 / 22، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 518، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 84، الثِّقات لابن حبّان: 2 / 310، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 79، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196، سرّ السلسلة لأبي نصر: 5، كشف الغمّة للإربليّ: 1 / 579، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 167، عوالم العلوم للبحرانيّ: 16 / 309، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 3 / 339، نفَس المهموم للقمّيّ: 675، أعيان الشيعة للأمين: 5 / 44، العدد القوية لابن مطهر: 355 الرقم 17، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 57، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 113، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 330، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 254، مثير الأحزان لابن نما: 45، اللهوف لابن طاووس: 144، الأصيليّ لابن الطقطقيّ: 63، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 462، عمدة الطالب لابن عمدة: 120، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 263، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 169، الوافي بالوفيات للصفديّ: 11 / 417، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 99، تحفة لبّ اللباب لابن شدقم: 119، إسعاف الراغبين للصبّان: 201، نور الأبصار للشبلنجيّ: 252.

33 _ الحسين بن الإمام الحسن المجتبى بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

34 _ الحسين بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ((2)).

35 _ الحارث بن النبهان، مولى حمزة بن عبد المطّلب (علیه السلام) ((3)).

36 _ حفيد الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((4)).

37 _ حمزة ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((5)).

ص: 314


1- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 131.
2- نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 83، الجمهرة لابن حزم: 68.
3- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 123.
4- روضة الصفا لميرخواند: 3 / 163.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسيّ: 695.

38 _ حمزة بن عقيل بن أبي طالب ((1)).

39 _ ذكوان مولى الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((2)).

40 _ زاهر صاحب عَمرو بن الحمق الخزاعيّ ((3)).

41 _ زيد ابن الإمام الحسن المجتبى بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((4)).

42 _ زيد ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((5)).

ص: 315


1- المجديّ: 307.
2- أُنظر ترجمته في: موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) : 15 / 1065.
3- إبصار العين للسماويّ: 103، أعيان الشيعة للأمين: 7 / 41، العيون العَبرى للميانجيّ: 109، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 241، تنقيح المقال للمامقانيّ: 1- 2 / 437، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 400، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 138، رجال الطوسيّ: 73 _ الهامش.
4- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 131.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسيّ: 695.

43 _ سالم مولى عامر بن مسلم العَبديّ ((1)).

44 _ سعد بن عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((2)).

45 _ سعد مولى عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).

46 _ سعيد بن عبد الله الحنفيّ ((4)).

47 _ سعيد بن عقيل بن أبي طالب ((5)).

48 _ سليمان مولى الإمام الحسين (علیه السلام) ، قُتِل في كربلاء ((6)).

ص: 316


1- إبصار العين للسماوي: 112، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 226، وسيلة الدارين للزنجاني: 146، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 387.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 387، زينب وليدة النبوّة والإمامة: 152.
3- إبصار العين للسماويّ: 54، عنه: ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 269، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 148، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 12، أعيان الشيعة للأمين: 7 / 221، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 387 _ الهامش، العيون العَبرى للميانجيّ: 112.
4- إبصار العين للسماويّ: 126، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 178، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 147، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 401 _ الهامش.
5- أسرار الشهادة للدربنديّ: 282، وانظُر: الموسوعة: 14 / 592.
6- أُنظر: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ وقائع البصرة، للمؤلّف، والموسوعة: 15 / 1390 الرقم 125 / 155.

49 _ سيف بن مالك العَبديّ ((1)).

50 _ شبيب بن عبد الله النهشليّ التميميّ ((2)).

51 _ شَوذب بن عبد الله الهمدانيّ، مولى شاكر ((3)).

52 _ صبيٌّ مِن صبيان الحسين بن أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((4)).

53 _ طلحة ابن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ((5)).

ص: 317


1- أُنظر: إبصار العَين للسماويّ: 110، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 226، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 153، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 79، وانظُر: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ وقائع البصرة.
2- ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 219، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 156، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 389 _ الهامش، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 81، العيون العَبرى للميانجيّ: 113.
3- إبصار العين للسماويّ: 76، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 404 _ الهامش، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 251، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 155، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 88، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 390، رجال الطوسيّ: 75 _ الهامش.
4- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 73، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجَوزيّ: 39، المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 443، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 327 و336، أسرار الشهادة للدربنديّ: 404، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 200، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 423، أسرار الشهادة للدربنديّ: 283.
5- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة، للمؤلّف: 131.

54 _ الطفل الّذي استُشهد في ساحة القتال قبل بدء الحرب (ابن الإمام الحسين (علیه السلام)) ((1)).

55 _ عابس بن أبي شبيب الشاكريّ الهمْدانيّ ((2)).

56 _ عامر [عمّار] بن حسّان الطائيّ ((3)).

57 _ عامر بن مسلم العَبديّ، وسالم مولاه ((4)).

ص: 318


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 252، نفَس المهموم للقمّيّ: 350، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 424، العيون العَبرى للميانجيّ: 172، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 284، أسرار الشهادة للدربنديّ: 402.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 375، نفَس المهموم للقمّيّ: 114، مثير الأحزان لابن نما: 15، إبصار العين للسماويّ: 75، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 250، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 235، مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 168، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 217، العيون العَبرى للميانجيّ: 136.
3- إبصار العين للسماويّ: 114، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 235، العيون العَبرى للميانجيّ: 109، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 387 _ الهامش، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 317، رجال الطوسيّ: 77 _ الهامش.
4- إبصار العين للسماويّ: 112، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 225، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 161، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 117، رجال الطوسيّ: 77 _ الهامش، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 387 _ الهامش، وانظُر أيضاً: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة – وقائع البصرة، للمؤلّف.

58 _ عَبّاد الجُهَنيّ ((1)).59 _ العبّاس الأصغر ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((2)).

60 _ العبّاس الأكبر ابن عليٍّ أمير المؤمنين حامل اللواء (علیهما السلام) ((3)).

61 _ عبد الرحمان بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((4)).

62 _ عبد الرحمان ابن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ((5)).

63 _ عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ الهمدانيّ ((6)).

ص: 319


1- إبصار العين للسماويّ: 115، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 258، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 162، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 123، وانظُر أيضاً: ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة، للمؤلّف.
2- أُنظر: الموسوعة: 9 / 983، و16 / 188 (الهامش).
3- أُنظر: الموسوعة: 9 / 11 – 711، و16 / 190 وما بعدها.
4- أُنظر: بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 530، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 245 و251، الموسوعة: 16 / 237، و9 / 988.
5- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 131.
6- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 78، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 248، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 165، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 145، العيون العَبرى للميانجيّ: 147، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 288 _ الهامش.

64 _ عبد الرحمان بن عبد ربّ الأنصاريّ ((1)).

65 _ عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب ((2)).

66 _ عبد الرحمان بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ((3)).

ص: 320


1- أُنظر: إبصار العين للسماويّ: 93، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 270، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 163، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 145، العيون العَبرى للميانجيّ: 96.
2- تسمية مَن قُتل للرسّان: 151، الأمالي الخميسيّة للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 121، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 406، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 257، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628، تاريخ الطبريّ: 5 / 447، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 157، نفَس المهموم للقمّيّ: 318، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 409 _ الهامش، الكامل لابن الأثير: 3 / 303، الفتوح لابن أعثم: 5 / 203، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 61، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 33، العوالم للبحرانيّ: 17 / 277، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 314، أسرار الشهادة للدربنديّ: 299، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 136، نفَس المهموم للقمّيّ: 318 و319، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 230، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 401، الإرشاد للمفيد: 2 / 111، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 195، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 26، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 105، مثير الأحزان لابن نما: 35، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 456، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 198.
3- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، للمؤلّف.

67 _ عبد الله الأصغر ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((1)).

68 _ عبد الله الأصغر ابن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

ص: 321


1- ناسخ التواريخ (الإمام السجّاد (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 373، تسمية مَن قُتل للرسّان: 149، الأمالي للشجريّ: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 499، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 329، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 114، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 557، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 407، تاريخ الطبريّ: 5 / 450، نفَس المهموم للقمّيّ: 358 - 359، عبرات المصطفين للمحموديّ: 2 / 111، الكامل لابن الأثير: 3 / 294، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 458، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 150، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 77، عبرات المصطفين للمحموديّ: 111، الإرشاد للمفيد: 2 / 114، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 53، العوالم للبحرانيّ: 17 / 296، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 354، نفَس المهموم للقمّيّ: 357، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 463، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 210، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 150، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 249، العيون العَبرى للميانجيّ: 183، إعلام الورى للطبرسيّ: 244، أسرار الشهادة للدربنديّ: 423، مثير الأحزان لابن نما: 37، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 149، اللهوف لابن طاووس: 118، زينب الكبرى (علیها السلام) للنقديّ: 106، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 187، المنتخَب للطريحيّ: 1 / 451، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 354، تحفة لبّ اللباب لابن شدقم: 182، إبصار العين للسماويّ: 38، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 178.

69 _ عبد الله الأصغر ابن عقيل بن أبي طالب ((1)).

70 _ عبد الله الأكبر ابن عليٍّ أمير المؤمنين، شقيق أبي الفضل العبّاس (علیهم السلام) .

71 _ عبد الله الأكبر ابن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

72 _ عبد الله الأكبر ابن عقيل ((3)).

ص: 322


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 162، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 27، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 213 _ الهامش (الملقَّب بالأصغر).
2- تسمية مَن قُتل للرسّان (من تراثنا): 150، الأمالي للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، تاريخ الطبريّ: 5 / 468، الفتوح لابن أعثم: 5 / 204، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 380، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 269، نفَس المهموم للقمّيّ: 324 و360، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 58، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 36، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 149، 151، زينب الكبرى (علیها السلام) للنقديّ: 107 _ الهامش، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 248، المجدي: 19، مقتل ا لحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 28، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 106، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجّوزي: 254، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 305، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 36، العوالم للبحرانيّ: 17 / 279، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 197، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 370.
3- تسمية مَن قُتل للرسّان: 151، الأمالي الخميسيّة للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 121، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل لابن الأثير: 3 / 303، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 61، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 33، العوالم للبحرانيّ: 17 / 277، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 314، أسرار الشهادة للدربنديّ: 299، نفَس المهموم للقمّيّ: 320، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 162- 136، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 404، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 231، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 195، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 399، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 106، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزي: 255، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 198، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 162.

73 _ عبد الله ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

ص: 323


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 112، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 556، تسمية مَن قُتل للرسّان: 150، الأمالي للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 75، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 407، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 258، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2629، تاريخ الطبريّ: 5 / 448، نفَس المهموم للقمّي: 349، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 424، العيون العَبرى للميانجيّ: 172، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 283، الكامل لابن الأثير: 3 / 302، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 254، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 59، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 47، العوالم للبحرانيّ: 17 / 290، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 336، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 140، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 178، سرّ السلسلة لأبي نصر: 300، روضة الواعظين للفتّال: 161، إعلام الورى للطبرسيّ: 243، الاحتجاج للطبرسيّ: 25، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 49، العوالم للبحرانيّ: 17 / 292، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 336، أسرار الشهادة للدربنديّ: 402، نفَس المهموم للقمّيّ: 351، مثير الأحزان لابن نما: 36، اللهوف لابن طاووس: 116، زينب الكبرى (علیها السلام) للنقديّ: 105، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 456، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 186، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 288، المنتخَب للطُّريحيّ: 38، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 83.

74 _ عبد الله بن العبّاس بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

75 _ عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((2)).

76 _ عبد الله بن يزيد بن ثبيط العَبديّ البصريّ ((3)).

77 _ عبد الله بن يقطر الشهيد بالكوفة ((4)).78 _ عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، وُلد في الطفّ يوم عاشوراء، وقُتِل ساعةَ وُلد، فهو كان مع الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة ومكّة حملاً في بطن أُمّه ((5)).

ص: 324


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 429.
2- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
3- أُنظر: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ وقائع البصرة، للمؤلّف.
4- أُنظر: الموسوعة: 16 / 388.
5- تسمية مَن قُتل للرسّان: 150، الأمالي للشجريّ: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 231، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 161، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 280، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 427، العيون العَبرى للميانجيّ: 174.

79 _ عُبيد الله بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((1)).

80 _ عُبيد الله ابن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

81 _ عُبيد الله بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ((3)).

82 _ عُبيد الله (أو: أبو عبد الله) بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب ((4)).

83 _ عُبيد الله بن يزيد بن ثبيط العَبديّ البصريّ ((5)).

ص: 325


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 57، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 39، العوالم للبحرانيّ: 17 / 282، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 321، أسرار الشهادة للدربنديّ: 300، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 502، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 261، وفي زيارته في أوّل رجب والنصف من شعبان في المزار للشهيد الأوّل: 177، والمشهور بين المؤرّخين أنّه قُتِل أيّام المختار.
2- أُنظر: الموسوعة: 16 / 423.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 106، نفَس المهموم للقمّيّ: 318، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 354 _ الهامش، عن: الخوارزميّ في مقتله: 2 / 48 _ طبع النجف، ومقاتل الطالبيّين: 65 _ طبع النجف، جلاء العيون للمجلسي: 675، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 244.
4- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
5- أُنظر: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ وقائع البصرة، للمؤلّف.

84 _ عتيق بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((1)).

85 _ عثمان بن عليٍّ أمير المؤمنين، شقيق أبي الفضل العبّاس (علیهم السلام) .86 _ عثمان بن عقيل بن أبي طالب ((2)).

87 _ عَديّ بن عبد الله بن جعفر ((3)).

88 _ عقبة بن سمعان الكلبيّ، مولى الرباب ((4)).

89 _ عقبة بن الصلت الجُهَنيّ ((5)).

90 _ عقيل بن عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب ((6)).

ص: 326


1- بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 530، وقال: نصّ على شهادته مع الحسين (علیه السلام) ابنُ العماد الحنبليّ المؤرّخ في (شذرات الذهب)، والدياربكريّ الشافعيّ المؤرّخ في (تاريخ الخميس)، كلاهما في ترجمة الحسين (علیه السلام) .
2- النفحة العنبريّة للموسويّ: 136.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 257، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628.
4- أُنظر: الموسوعة: 16 / 438.
5- أُنظر: إبصار العَين للسماويّ: 115، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 265، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 254، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 171، وانظر: ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة، للمؤلّف.
6- معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 89 و236، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 296 و344، زينب وليدة النبوّة والإمامة: 152.

91 _ عقيل بن عقيل بن أبي طالب ((1)).

92 _ عليّ ابن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2)).

93 _ عليّ ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (الأصغر) (علیهم السلام) ((3)).

94 _ عليّ ابن الإمام الحسين الأكبر (علیهما السلام) .

95 _ عليّ ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (الأوسط) (علیهم السلام) ((4)).

96 _ عليّ ابن الإمام الحسين (الإمام زين العابدين (علیهما السلام)).

97 _ عليّ بن عثمان أبو الدنيا، الأشجّ، معمّر المغربيّ ((5)).98 _ عليّ بن عقيل بن أبي طالب ((6)).

ص: 327


1- إعلام الورى للطبرسيّ: 250، تاج المواليد (من مجموعةٍ نفيسة): 108، صحاح الأخبار للمخزوميّ: 30.
2- أسرار الشهادة للدربنديّ: 286.
3- أُنظر: بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام) ، للمؤلّف.
4- أُنظر: بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام) ، للمؤلّف.
5- كمال الدين للصدوق: 2 / 543، الأنوار النعمانيّة للجزائريّ: 2 / 6، منتهى المقال لأبي عليّ الحائريّ: 230، كنز الفوائد للكراجكيّ: 263، بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 328، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 233، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 428.
6- لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 402، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 163، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 232، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 213 _ الهامش، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 22 _ الملقَّب بالأكبر.

99 _ عمر الأصغر بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((1)).

100 _ عَمرو ابن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

ص: 328


1- بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 523.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الثقات لابن حبّان: 2 / 310، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 48 / 330، مختصر ابن منظور: 19 / 198، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزي: 254، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 198، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77، اللهوف لابن طاووس: 145، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 108، العوالم للبحرانيّ: 17 / 377، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 135، أسرار الشهادة للدربنديّ: 468، نفَس المهموم للقمّيّ: 392، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 243، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 418، الوافي بالوفيات للصفديّ: 12 / 428 (عمرو)، ناسخ التواريخ (الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام)) لسپهر: 2 / 277، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 2 / 323 و326، مناهل الضرب للأعرجيّ: 89، نفَس المهموم للقمّيّ: 679، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 296، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 456. وعدّه من الشهداء (علیهم السلام) عند: الإرشاد للمفيد: 2 / 16 و23، كشف الغُمّة للإربليّ: 1 / 576، المستجاد للحلّي (من مجموعةٍ نفيسة): 441، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 166، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 163، و45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 16 / 305، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 3 / 336، و5 / 20، نور الأبصار للشبلنجيّ: 250، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 58، نفَس المهموم للقمّيّ: 680، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 48، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 329، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 106، العدد لابن المطهّر: 352، حبيب السير لخواندامير: 2 / 33، جلاء العيون للمجلسيّ: 694، أسرار الشهادة للدربنديّ: 233، نفَس المهموم للقمّيّ: 680، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 563.

101 _ عَمرو ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

102 _ عمران ابن الإمام الحسين بن أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

ص: 329


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسيّ: 695، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 198 _ عمرو، حبيب السير لخواندامير: 2 / 61، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 311، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 259، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2630، اللهوف لابن طاووس: 194، عنه: بحار الأنوار: 45 / 143، العوالم للبحرانيّ: 17 / 444، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 280، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 195، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 195، عنه: نور الأبصار للشبلنجيّ: 265.
2- عدّه في الأسرى: الميرخواند في روضة الصفا: 3 / 169، وانظر: بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام) ، للمؤلّف.

103 _ عَمرو بن جنادة بن كعب بن الحارث الأنصاريّ ((1)).

104 _ عون بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((2)).

105 _ عون بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((3)).106 _ عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((4)).

ص: 330


1- إبصار العين للسماويّ: 94، العيون العَبرى للميانجيّ: 130، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 1 / 327.
2- ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 166، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 260، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 234، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 355.
3- عمدة الطالب لابن عنبة: 35 _ 38، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 361، المجدي: 296، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 299، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 256، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 169، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 243، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 355.
4- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 75 و76، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 385، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 278، التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 304، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 71، الثقات لابن حبّان: 2 / 309، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108 الرقم 2803، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، الإرشاد للمفيد: 2 / 129، الأنوار النعمانيّة للجزائريّ: 3 / 263، الاختصاص للمفيد: 82، الرجال للطوسيّ: 76، المجدي: 296، إعلام الورى للطبرسيّ: 250، تاج المواليد للطبرسيّ (من مجموعةٍ نفيسة): 108، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 400، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 340، كفاية الطالب للكنجيّ: 446، كشف الغمّة للإربليّ: 2 / 59، خلاصة الأقوال للحلّيّ: 128، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 355، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 461، العبر للذهبيّ: 1 / 65، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 431، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 352، درر السمطَين للزرنديّ: 218، الوافي بالوفيات للصفديّ: 12 / 425، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 298، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 185، و9 / 189، صحاح الأخبار للمخزوميّ: 30، التحفة العنبريّة للموسويّ: 136، المنتخَب للطُّريحيّ: 1 / 37، شذرات الذهب لابن العماد: 1 / 66، جنّات الخلود للمدرسي: 22، منتهى المقال لأبي عليّ الحائريّ: 5 / 157، أسرار الشهادة للدربنديّ: 233 و463، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 153 _ بتحقيق السيّد علي أشرف، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 355، نقد الرجال للتفرشيّ: 259، منهج المقال للاسترآباديّ: 254، جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 648، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 355، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 83، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 328، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 257.

ص: 331

107 _ عون بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((1)).

108 _ عون بن مسلم بن عقيل ((2)).

109 _ غلامٌ لعبد الرحمان بن عبد ربّه الأنصاريّ ((3)).

110 _ غلامٌ من آل الحسين (علیهم السلام) ((4)).

111 _ قارب مولى الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((5)).

ص: 332


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 240 و241، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 255، جلاء العيون للمجلسيّ: 694، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 213 _ الهامش، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 27، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، المنتخَب للطريحيّ: 1 / 37.
2- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل، للمؤلّف.
3- أُنظر: عبد الرحمان بن عبد ربّ الأنصاريّ.
4- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 449، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 79، مقتل الحسين للخوارزميّ: 2 / 31، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 294، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 186، وغيرها من المصادر.
5- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 152، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلي: 2 / 121، معه أُمّه فكيهة، كانت تخدم في بيت الرباب زوجته (علیه السلام) ، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 2 / 18، العيون العَبرى للميانجيّ: 113، إبصار العَين للسماويّ: 54، عنه: مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 388 _ الهامش، العيون العَبرى للميانجيّ: 113، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 173، مثله: وسيلة الدارين للزنجانيّ: 183.

112 _ القاسم بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((1)).

113 _ القاسم ابن الإمام الحسن بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) .

114 _ القاسم ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أميرالمؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

115 _ القاسم بن العبّاس بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((3)).

116 _ القاسم بن محمّد بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((4)).

ص: 333


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 107.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 108 _ 109، عنه: بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 42، العوالم للبحرانيّ: 17 / 285، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 327، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 201، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 223، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 340، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197.
3- معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 435، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 429.
4- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 169، عنه: وسيلة الدارين للزنجانيّ: 245، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 2 / 24، مع زوجته.

117 _ القاسم بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((1)).

118 _ قيس بن مسهر الصيداويّ ((2)).

119 _ مجمع بن زياد الجهنيّ ((3)).

120 _ المحسن ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، كان حملاً في بطن أُمّه ((4)).

ص: 334


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196 و197، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 52 / 62 الرقم 5777، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 418، الوافي بالوفيات للصفديّ: 12 / 428.
2- أُنظر: الموسوعة: 16 / 754 وما بعدها، إبصار العَين للسماويّ: 65، ذخيرة الدارين للحائريّ: 210.
3- أُنظر: إبصار العَين للسماويّ: 115، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 259، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 193، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 – 2 / 53، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف.
4- أُنظر: معجم البلدان للحمَويّ: 2 / 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 428 و678، العيون العَبرى للميانجيّ: 251 _ 252، نفَس المهموم للقمّيّ: 678، معالي السمطَين للمازندرانيّ: 2 / 134، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 378، مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 445، بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام) للمؤلّف.

121 _ محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب ((1)).

122 _ محمّد الأصغر ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((2)).

123 _ محمّد الأوسط ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((3)).

124 _ محمّد بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((4)).

ص: 335


1- أُنظر: الموسوعة: 14 / 665 وما بعدها، و14 / 680 وما بعدها.
2- تسمية مَن قُتل للرسّان: 149، الأمالي للشجريّ: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 76، تاريخ الطبريّ: 5 / 449، نفَس المهموم للقمّيّ: 327، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 148، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 56، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 39 و63، العوالم للبحرانيّ: 17 / 282 و344، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 320، أسرار الشهادة للدربنديّ: 300، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 148، بطل العلقميّ للمظفّر: 3 / 493، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 263، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 400، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 113، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 330، الكامل لابن الأثير: 3 / 294، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 191، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131، تاريخ الخميس للدرياربكريّ: 2 / 268، شذرات الذهب لابن العماد: 1 / 66.
3- تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 2 / 83، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 165، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 263.
4- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 299، المجدي: 296 (على قوله: الملقَّب بالأصغر)، عمدة الطالب لابن عنبة: 36 (على قوله: الملقَّب بالأصغر)، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 2 / 92، أعيان الشيعة للأمين: 4 / 119، مناهل الضرب للأعرجي: 50 (على قوله: الملقَّب بالأصغر).

125 _ محمّد ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((1)).

126 _ محمّد بن العبّاس بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

127 _ محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (علیهم السلام) ((3)).

ص: 336


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62 و63، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 277، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 3 / 213، جلاء العيون للمجلسيّ: 695، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196 _ 197.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462 و463، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 240 و241، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610، مثله: تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328.
3- تسمية مَن قُتل للرسّان: 151، الأمالي للشجريّ: 1 / 171، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 75، تاريخ ابن خيّاط: 179، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 422، تاريخ الطبريّ: / 469، الكامل لابن الأثير: 3 / 302، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 385، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 278، التنبيه والإشراف للمسعوديّ: 304، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 71، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، الإرشاد للمفيد: 2 / 129، الأنوار النعمانيّة للجزائريّ: 3 / 263، الاختصاص للمفيد: 82، الرجال للطوسيّ: 79، إعلام الورى للطبرسيّ: 250، تاج المواليد (من مجموعةٍ نفيسة): 108، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47 و48، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 62، العوالم للبحرانيّ: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربنديّ: 462، تظلّم الزهراء للقزوينيّ: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، المنتظَم لابن الجَوزيّ: 5 / 340، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجَوزيّ: 254، كامل البهائيّ لعماد الدين الطبريّ: 2 / 303 (على قوله: أُمّه زينب أُخت الحسين (علیه السلام))، كفاية الطالب للكنجيّ: 446، كشف الغُمّة للإربليّ: 2 / 59، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 462، العبر للذهبيّ: 1 / 65، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 217، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 352، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 131 _ 132، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 298، الوافي بالوفيات للصفديّ: 12 / 425، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 185، 189، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 198، صحاح الأخبار للمخزوميّ: 30، 31، حبيب السير لخواندامير: 2 / 34، المنتخَب للطريحيّ: 1 / 37، شذرات الذهب لابن العماد: 1 / 66، جلاء العيون للمجلسيّ: 694، أسرار الشهادة للدربنديّ: 233 و463، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 153 _ بتحقيق السيّد علي أشرف، ناسخ التواريخ (زينب الكبرى (علیها السلام)) لسپهر: 2 / 590، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610، مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 328.

ص: 337

128 _ محمّد بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((1)).

129 _ محمّد بن عقيل الأصغر ابن أبي طالب (علیهم السلام) ((2)).

130 _ محمّد بن عليٍّ السجاد ابن الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) (الإمام الباقر (علیه السلام)) ((3)).

131 _ محمّد بن عَمرو ابن الإمام الحسن المجتبى بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((4)).

ص: 338


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 257، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 29، الجوهرة للبريّ: 67.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77، شرح الأخبار للقاضي النعمان: / 196، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 57 / 176 الرقم 6876، مختصر ابن منظور: 23 / 59، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 418، الوافي بالوفيات للصفديّ: 12 / 428.
3- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 170، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 153 _ 156، و196 _ 198، و250، السرائر لابن إدريس: 155، أعيان الشيعة للأمين: 8 / 206، كامل البهائي لعماد الدين الطبريّ: 2 / 287، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 278، نفَس المهموم للقمّيّ: 386، العيون العَبرى للميانجيّ: 210.
4- أُنظر: تسمية مَن قُتل للرسّان (تراثنا): س 1 / ع 2 / 157، الأمالي للشجريّ: 1 / 173، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، العبرات للمحموديّ: 2 / 191.

132 _ محمّد بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((1)).

133 _ مُنجح مولى الإمام الحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

134 _ موسى بن عقيل بن أبي طالب (علیهم السلام) ((3)).

135 _ نصر بن أبي نيزر مولى عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((4)).

136 _ يحيى ابن الإمام الحسن المجتبى بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((5)).

137 _ يزيد بن ثبيط العَبديّ البصريّ، وابناه عبد الله وعُبيد الله ((6)).

ص: 339


1- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
2- إبصار العين للسماويّ: 54، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 174، العيون العَبرى للميانجيّ: 112، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 194، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 247.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 74، أسرار الشهادة للدربنديّ: 286، ينابيع المودّة للقندوزيّ: / 344، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 2 / 319، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 257 الرقم 12267، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 162، سفير الحسين (علیه السلام) للمظفّر: 26، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 233.
4- إبصار العين للسماويّ: 55، ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 259، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 119.
5- وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 254.
6- أُنظر: ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة _ وقائع البصرة، للمؤلّف، تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 224، أعيان الشيعة للأمين: 10 / 305، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 150 _ الهامش، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 254، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 211، الكامل لابن الأثير: 3 / 267، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 387، إبصار العين للسماويّ: 110 _ 111، العيون العَبرى للميانجيّ: 107 _ 108، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3- 1 / 325.

138 _ يزيد بن مغفّل الجعفي المذحجي ((1)).

139 _ أدمى بنت علي أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2)).

140 _ أمامة بنت أبي العاص زوجة علي أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).

141 _ أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي ((4)).

ص: 340


1- إبصار العين للسماويّ: 91، عن: صاحب الخزانة، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 227، العيون العَبرى للميانجيّ: 146، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 414، تنقيح المقال للمامقانيّ: 3 – 1 / 328، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 419 _ الهامش.
2- ناسخ التواريخ (زينب الكبرى (علیها السلام)) لسپهر: 1 / 10- 13، تذكرة الشهداء لحبيب الله الكاشانيّ: 423 وما بعدها _ ترجمة السيّد علي أشرف.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 181.
4- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 131.

142 _ أُمّ الثغر، أُمّ جعفر بن عقيل بن أبي طالب ((1)).

143 _ أُمّ الحسن بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، زوجة جعفر بن عقيل بن أبي طالب ((2)).

144 و145 _ أُمّ الحسن وأُمّ الحسين، بنتَي الإمام الحسن المجتبى (علیهم السلام) ((3)).

146 _ أُمّ خديجة زوجة أمير المؤمنين (علیه السلام) ((4)).

147 _ أُمّ رافع، سلمى ((5)).

148 _ أُمّ رقية الصغرى، زوجة عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((6)).

149 _ أُمّ زينب الصغرى، زوجة عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((7)).

ص: 341


1- أُنظر: ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 156، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 230، عن: أبي بشر الدولابيّ في كتاب الكُنى والأسماء، رياحين الشريعة للمحلّاتيّ: 3 / 317.
2- الموسوعة: 17 / 187 هي ومن بعدها.
3- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 131.
4- أُنظر: الموسوعة: 17 / 187.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 191.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 192.
7- أُنظر: الموسوعة: 17 / 192.

150 _ أُمّ سلَمة بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((1)).

151 _ أُمّ فاطمة، زوجة أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2)).

152 _ أُمّ كلثوم الصغرى بنت عليٍّ أمير المؤمنين من غير فاطمة (علیهما السلام) ((3)).153 _ أُمّ كلثوم الكبرى بنت زينب الكبرى بنت فاطمة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((4)).

154 _ أُمّ كلثوم الكبرى بنت فاطمة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((5)).

155 _ أُمّ مسعود بنت عروة الثقفيّ، زوجة عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((6)).

156 _ أُمّ عبد الرحمان ابن الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ((7)).

157 _ أُمّ هاني بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، زوجها عبد الله الأكبر ابن

ص: 342


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 193.
2- أُنظر: الموسوعة: 17 / 193.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 194.
4- أُنظر: الموسوعة: 17 / 194.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 195.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 203.
7- أُنظر: معالي السبطَين للمازندرانيّ: 2 / 226، ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف: 131.

عقيل بن أبي طالب ((1)).

158 _ حميدة بنت مسلم بن عقيل بن أبي طالب ((2)).

159 _ جاريةٌ من ناحية خيم الإمام الحسين (علیه السلام) ((3)).

160 _ جُمانة بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((4)).

161 _ جُمانة عمّة الإمام الحسين (علیه السلام) ((5)).

162 _ حسنيّة، جارية الإمام الحسين (علیه السلام) ((6)).163 _ خديجة الصغرى بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((7)).

164 _ خديجة الكبرى بنت عليٍّ أمير المؤمنين، زوجها عبد الرحمان بن عقيل ((8)).

ص: 343


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 203.
2- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 213.
4- أُنظر: الموسوعة: 17 / 214.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 214.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 214.
7- أُنظر: الموسوعة: 17 / 215.
8- أُنظر: الموسوعة: 17 / 215.

165 _ رباب بنت امرئ القيس الكلبيّ، زوجة الإمام الحسين (علیه السلام) ((1)).

166 _ رقيّة الكبرى بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ، زوجها مسلم بن عقيل (علیه السلام) ((2)).

167 _ رقيّة بنت فاطمة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((3)).

168 _ رقيّة الصغرى بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((4)).

169 _ رقيّة بنت الإمام الحسين الشهيد ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((5)).

170 _ رملة بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، زوجها عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ((6)).

171 _ روضة، كانت تخدم السيّدة زينب بنت عليٍّ أميرالمؤمنين (علیهما السلام) ((7)).

172 _ زينب الصغرى بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ، زوجها محمّد بن

ص: 344


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 217.
2- أُنظر: الموسوعة: 17 / 218.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 218.
4- أُنظر: الموسوعة: 17 / 218.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 218، وانظر أيضاً: بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام) ، للمؤلّف.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 218.
7- أُنظر: الموسوعة: 17 / 219.

عقيل بن أبي طالب ((1)).

173 _ زينب الصغرى المكنّاة بأُمّ كلثوم بنت فاطمة وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((2)).

174 _ زينب الكبرى بنت فاطمة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) .

175 _ زينب الوسطى المكنّاة بأُمّ كلثوم بنت فاطمة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((3)).

176 _ زينب بنت الإمام الحسين الشهيد ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((4)).

177 _ سكينة بنت فاطمة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((5)).

178_ سكينة بنت الإمام الحسين الشهيد ابن عليٍّ أميرالمؤمنين (علیهم السلام) ((6)).

179 _ شهربانو، أُمّ غلامٍ خرج من أبنية الحسين (علیه السلام) ((7)).

ص: 345


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 219.
2- أُنظر: الموسوعة: 17 / 219.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 229.
4- أُنظر: الموسوعة: 17 / 229.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 230.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 230.
7- أُنظر: الموسوعة: 17 / 230.

180 _ صفيّة بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((1)).

181 _ صفيّة بنت الإمام الحسين الشهيد ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((2)).

182 _ الصهباء التغلبيّة، زوجة عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).

183 _ عاتكة بنت مسلم بن عقيل (علیه السلام) ((4)).

184 _ عاتكة، ورد اسمُها في كلام الإمام الحسين (علیه السلام) ((5)).

185 _ فاطمة بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیهما السلام) ((6)).

186 _ فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى بن عليٍّ أمير المؤمنين، زوجة الإمام السجاد (علیهم السلام) ((7)).

187 _ فاطمة بنت الإمام الحسين الشهيد ابن عليٍّ أمير المؤمنين (علیهم السلام) ((8)).

ص: 346


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 231.
2- أُنظر: الموسوعة: 17 / 232.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 232.
4- أُنظر: أولاد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للمؤلّف.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 232.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 233.
7- أُنظر: الموسوعة: 17 / 233.
8- أُنظر: الموسوعة: 17 / 235.

188 _ فضّة ((1)).

189 _ فاكهة ((2)).

190 _ قفيرة ((3)).

191 _ كبشة ((4)).

192 _ ليلى بنت مسعود النهشليّة الدارميّة، زوجة عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((5)).

193 _ ليلى زوجة سيّد الشهداء (علیه السلام) والدة عليٍّ الأكبر (علیه السلام) ((6)).

194 _ مليكة، جارية الإمام الحسين (علیه السلام) ، زوجة عقبة بن سمعان ((7)).

195 _ ميمونة بنت عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ((8)).

ص: 347


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 236.
2- أُنظر: الموسوعة: 17 / 384.
3- أُنظر: الموسوعة: 17 / 385.
4- أُنظر: الموسوعة: 17 / 385.
5- أُنظر: الموسوعة: 17 / 386.
6- أُنظر: الموسوعة: 17 / 386.
7- أُنظر: الموسوعة: 17 / 387.
8- أُنظر: حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة للمؤلّف، معالي السبطَين للمازندرانيّ.

196 _ ميمونة، أُمّ عبد الله بن يقطر، حاضنة الإمام الحسين (علیه السلام) ((1)).

197 _ نفيسة بنت أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2)).

* * * * *من هنا نعرف أنّ ما تفرّد به ابن أعثم _ ورواه عنه الخوارزميّ _ لا يمكن الاعتماد عليه ولا الركون إليه!

ثمّ جمع الحسين (علیه السلام) أصحابه الّذين عزموا على الخروج معه إلى العراق، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم عشرة دنانير وجَملاً يحمل عليه رحْلَه وزاده.

ثمّ إنّه طاف بالبيت وطاف بالصفا والمروة، وتهيّأ للخروج، فحمل بناته وأخواته على المحمل ... ((3)).

إذ تبيّن لنا من السرد السابق أنّ جميع مَن خرج مع الإمام (علیه السلام) من مكّة إمّا من أهل بيته ومواليه ممّن أقبل معه من المدينة وهم على رواحلهم، وإمّا العدد المحدود جدّاً الملتحق به من أنصاره، وقد التحقوا به من البصرة أو الكوفة، وقد قدموا على رواحلهم أيضاً.

ص: 348


1- أُنظر: الموسوعة: 17 / 388.
2- أُنظر: الموسوعة: 17 / 388.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 119، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 220.

وما قدر عشرة دنانير وهم يسيرون مكفولين في رحال سيّد الكون ومعدن الكرم والسخاء؟ أضف إلى أنّهم جميعاً ممّن أنعم الله عليهم وآتاهم بسطةً في المال تكفيهم لتجهيز أنفسهم، إن كانوا بحاجةٍ إلى تجهيزٍ ولم يكونوا قد فعلوا من قبل.أجل، ربّما أراد المؤرّخ قذف صورةٍ في ذهن المتلقّي تفيد كثرة الأنصار الملتحقين بسيّد الشهداء (علیه السلام) من عامّة الناس ومن الأحباش، فكان لابدّ لهم من جملٍ يحملهم وشيءٍ من الدنانير يتجهّزون بها للطريق!

وهذا القذف غير صائبٍ ولا مقنعٍ لمن عرف سيّد الشهداء وكرمه وسخاءَه وطرائقه في التعامل مع مرافقيه في أيّ سفر.

ص: 349

ص: 350

شهداء بين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ونزوله كربلاء

ثَمّة كوكبةٌ من الشهداء الأبرار الّذين استُشهدوا في الفترة الّتي خرج فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى حين نزوله في كربلاء، من قبيل المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، والمستشهَدين بين يديه كعبّاس بن جعدة، وعمارة بن صلخب الأزديّ، وحنظلة بن مرّة الهمدانيّ، وعبيد الله بن عمرو الكنديّ، وغيرهم، وسليمان بن رزين شهيد البصرة، وعبد الله بن يقطر..

وجملةٌ ممّن استشهدوا في الكوفة قتلهم ابن الأَمة الفاجرة، وهم من خيار أهل الأرض الأبرار، ومن أصحاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لا يشكّ في ذلك مَن يعرفهم أدنى معرفة، من قبيل ميثم التمّار ورشيد الهجريّ..

وكان ينبغي أن نعدّ مسرداً بأسمائهم النيّرة أو نتناول نبذةً من أشعّة أنوار حياتهم، بَيد أنّنا ممعنون في العجلة مغذّون في المسير لملاحقة ركب الإباء والكرب الميمّم نحو كربلاء، لذا سنترك ذلك إلى ذوي الاختصاص في الباب، أو يمنّ الله علينا بوقتٍ آخَر فننعم بدراسة حياتهم، فننهل من

ص: 351

نميرهم، ونسعد بالنظر إلى مشاهدهم ومواقفهم، ونتزوّد من إيمانهم، ونعيش ذكرياتهم المفعمة بالثبات والرسوخ في العقيدة والولاء، والخضلة بالعطاء والسخاء والبذل.

ص: 352

محتويات الكتاب

يزيد يمكر بالإمام (علیه السلام) ليقتله 5

المتون. 5

التنويه الأوّل: المصدر. 10

التنويه الثاني: مفاد خبر السيّد ابن طاووس (رحمة الله) . 11

التنويه الثالث: عودة الأشدق إلى مكّة. 12

التنويه الرابع: مفاد خبر الطُّريحيّ.. 14

التنويه الخامس: الشواهد. 15

التنويه السادس: الخلاصة. 16

الإمام الحسين (علیه السلام) يعتمر ثمّ يخرج إلى العراق. 19

المتون. 19

المعالجة الأُولى: تقسيم النصوص.... 22

الطائفة الأُولى: الأحاديث الشريفة. 23

الطائفة الثانية: النصّ التاريخيّ.. 24

ص: 353

المعالجة الثانية: اشتراط الإحرام في أشهُر الحجّ.. 25

المعالجة الثالثة: عُمرةٌ في ذي الحجّة. 30

المعالجة الرابعة: خبر الطبريّ.. 31

المعالجة الخامسة: قول الشيخ المفيد (رحمة الله) . 31

المعالجة السادسة: الفرق بين رواية التاريخ والحديث.. 32

المعالجة السابعة: التعارض بين تصريح الشيخ المفيد والحديث! 33

المعالجة الثامنة: عمل العلماء بمفاد الحديث الشريف... 34

المعالجة التاسعة: النتيجة! 38

المعالجة العاشرة: ما يهمّنا من البحث... 39

خطبة الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة 41

المتون. 41

الإفادة الأُولى: مصدرها 48

الإفادة الثانية: متى خطب الإمام (علیه السلام) . 49

الإفادة الثالثة: المخاطَب! 53

الإفادة الرابعة: إطلالةٌ على مضامين الخطبة. 57

الخطبة الثانية! 115

الإمام الحسين (علیه السلام) يتمثّل بشِعر يزيد بن المفرّغ وبغيره 117

ص: 354

المتون. 117

النكتة الأُولى: مواضع تمثُّلِ الإمام بهذه الأبيات... 123

الموضع الأوّل: عند خروجه من المدينة. 124

الموضع الثاني: عند خروجه من مكّة المكرّمة. 126

الموضع الثالث: في كربلاء. 127

الخلاصة: 127

النكتة الثانية: سموم المؤرّخ.. 128

النكتة الثالثة: رواية سبط ابن الجَوزيّ.. 130

المعلومة الأُولى: حزن مَن كان بمكّة لمسيره 130

المعلومة الثانية: الأبيات.. 132

المعلومة الثالثة: تلاوة الآية. 133

النكتة الرابعة: إنشاد الأبيات على باب المسجد. 134

النكتة الخامسة: تكرار الأبيات في المواضع. 135

مروان بن الحكَم والوليد بن عُتبة وعمرو بن سعيد يكتبون إلى ابن زياد في أمر الحسين (علیه السلام) 137

كتاب مروان. 137

النكزة الأُولى: التشابه الشديد مع كتاب الوليد! 138

النكزة الثانية: سلوك مروان ومواقفه. 139

النكزة الثالثة: إمكان حمل الكتاب على النفاق. 140

ص: 355

النكزة الرابعة: حمل الكتاب على التوصية بالعكس... 140

النكزة الخامسة: النفيُ أَولى من الإثبات.. 142

كتاب عمرو بن سعيد. 143

كتاب الوليد بن عُتبة. 146

النقطة الأُولى: الوليد المعزول! 147

النقطة الثانية: المقصود من التحذير. 148

النقطة الثالثة: النفاق الأُمويّ المعروف.. 149

النقطة الرابعة: تسجيل موقف! 150

النقطة الخامسة: تجاهل ردّ ابن زياد. 150

كتاب عمرو بن سعيد ليزيد. 153

كتاب يزيد إلى ابن زياد بعد توجّهه (علیه السلام) إلى العراق. 157

وقت ارسال الكتاب وسببه. 157

القسم الأوّل: عند خروج الحسين (علیه السلام) من مكّة. 157

القسم الثاني: عند وصول خبر شهادة مسلم وهاني.. 160

القسم الأوّل: كتبَ ابتداءً. 163

الكتاب الأوّل: التهديد القاصف... 164

الكتاب الثاني: الترغيب.. 190

الكتاب الثالث: التعليمات.. 191

الكتاب الرابع: الحكاية. 192

ص: 356

القسم الثاني: كتب في جواب ابن زياد. 193

المتون. 194

مقاطع الكتاب.. 200

والي يزيد يحاول منع الحسين (علیه السلام) من الخروج من مكّة 225

المتون. 225

الإشارة الأُولى: اضطراب متن ابن قُتيبة. 230

الإشارة الثانية: خلاصة الحدَث... 231

الإشارة الثالثة: فشل عرض الأمان. 232

الإشارة الرابعة: الظروف المحيطة. 233

الإشارة الخامسة: الاستعلاء والعتوّ. 234

الإشارة السادسة: هيئة الركب! 236

الإشارة السابعة: معرفة العدوّ بقدرات الركب... 239

الإشارة الثامنة: القادمون من الشرطة. 240

الإشارة التاسعة: وقاحةٌ لا حدود لها 240

الإشارة العاشرة: حماية الإمام (علیه السلام) لحرمة البيت... 241

الإشارة الحادية عشرة: الأشدق يأمر صاحب شَرَطِه بالانصراف! 242

الإشارة الثانية عشرة: دوافع المنع. 243

الدافع الأوّل: التأخير من أجل تنفيذ الاغتيال! 244

ص: 357

الدافع الثاني: التأخير من أجل التأكُّد من أوضاع الكوفة. 244

الدافع الثالث: الدافع الذاتيّ.. 245

الدافع الرابع: محاولةٌ يائسة! 247

الدافع الخامس: إحداث الضجّة لإيجاد ذرائع القتل! 247

الإشارة الثالثة عشرة: جواب الإمام (علیه السلام) . 252

الإضاءة الأُولى: جوّ الآية. 252

الإضاءة الثانية: معنى الآية. 255

الإشارة الرابعة عشرة: صدّ الهجوم. 258

خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة على علم من الناس.. 261

علّة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة 265

القسم الأول: الأسباب الدافعة. 282

القسم الثاني: الأسباب الأهداف... 283

يوم خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة 289

التنويه الأوّل: محتويات النصوص.... 289

التنويه الثاني: أقوالٌ شاذّة 290

القول الأوّل: قول ابن سعد. 290

القول الثاني: السيّد ابن طاووس (رحمة الله) . 291

القول الثالث: سبط ابن الجَوزيّ.. 292

ص: 358

القول الرابع: العمرانيّ.. 292

القول الخامس: ابن حبّان. 293

التنويه الثالث: القول المشهور. 293

الملتحقون بركب السعادة في مكّة المكرّمة ومشارفها 297

العدد الإجماليّ.. 299

العدد التفصيليّ.. 301

شهداء بين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ونزوله كربلاء 351

ص: 359

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.