مسلم بن عقيل عليه السلام قصه التطير

اشارة

الكتاب : مسلم بن عقيل عليه السلام قصه التطير

المؤلف : سيد علي جمال أشرف

الناشر :

عدد الصفحات والقطع : 72 صفحة - پالتويى

الطبعة : الأُولى

سنة الطبع : 1388 ش - 1430 ه

عدد المطبوع : نسخة

المطبعة :

الشابك :قصّة التطيّر

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص: 1

اشارة

مسلم بن عقيل عليه السلام ( قصّة التطيّر )

تأليف السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

المقدّمة

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .

وصلّى اللّه وسلّم على سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام المكروب المغموم العطشان الشهيد المسلوب والمنهوب الخباء ، وعلى أخيه وابن عمّه وصهره وسفيره وثقته الواثق مسلم بن عقيل عليه وعلى أبيه وإخوته وبنيه .

أمّا بعد :

إنّ الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومن سلّطهم على رقاب المسلمين لم تنته بعد منذ

ص: 5

أن بادروا إلى مواجهة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله وإلى يوم الناس هذا ، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم والطالب بدم الحسين عليه السلام ، والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء .

ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورة أو مشهد أو موقف معين ، كما أنّها لم تنحصر في زمن من الأزمان منذ أن سقط هابيل مضرجاً بدمه .

وقد امتاز الأمويون عبر التاريخ بالإعلام القوي ، والحرب النفسية ، والتسلّل الماكر إلى قلوب الناس وأفكارهم ، وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخدّاع ، وقد اشتهر كلامهم على الألسن : « للّه جنود من عسل » .

وكانت حربهم الإعلامية مع سيد الشهداء عليه السلام قوية ماكرة تتّسم بالخبث والشيطنة بحيث صوّرت سبط النبي وريحانة الرسول وسيد شباب أهل الجنة للمغرّر بهم من السذج في صورة الخارجي ، وأبدت

ص: 6

سكان سرادق العزّ من مخدرات الرسالة وعقائل الوحي في مشهد السبايا . . .

وقد جهد الأمويون في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين وأصحابهم الغرّ الميامين - عليهم صلوات ربّ العالمين - ، وتقديمهم إلى التاريخ باعتبارهم لا يعرفون من السياسة والتعامل الإجتماعي شيئاً ، فيما يرسم لنا آل أمية وأذنابهم في صور مضلّلة كأنّهم دهات السياسة وعفاريت التاريخ ؟

فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار الذين شهد لهم الكتاب والسنة بالطهارة والعصمة والقدس ، فما ظنّك بأنصارهم والمدافعين عنهم والمحامين عن حريمهم . . .

وربما اضطر العدو - أحياناً - إلى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمة عليهم السلام عموماً ، وأنصار سيد الشهداء عليه السلام خصوصاً ، لأنّه لا يجد في الإمام مغمزاً ولا مهمزاً ، فيحاول الاقترابمن حريمه من خلال التعرّض لأقرب

ص: 7

الشخصيات منه ، والسعي في تهديم الأركان التي بنيت عليه أسس معسكرات الهدى .

كما جهد الأمويون في تقديم مسوخهم في صور مزيفة خدّاعة كخضراء الدمن . .

فلا ينبغي الخضوع للتاريخ الملوّث الذي كتبه المؤرخ المأجور الذي يكتب على أنغام رنين الدراهم والدنانير إلاّ إذا كان منسجماً مع الموقف المعصوم ، أو لا يعارضه على الأقلّ .

فنحن لا نقبل ما يرويه لنا التاريخ في أشخاص عرفناهم من خلال تقييم أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وإنّما نعرض كلّما نسمعه على كلامهم ومواقفهم ، فما وافقها قبلناه ، وما خالفها ضربنا به عرض الجدار ، ولا كرامة .

وقد استهدف مسلم بن عقيل عليهماالسلام استهدافا

خاصاً من قبل الأمويين لأسباب معروفة ،فحاولوا عرضه في صورة لا تقدح فيه وحده

ص: 8

وإنّما تتعرض إلى قيام سيد الشهداء عليه السلام ، وقد خابوا وضلّوا ضلالاً بعيدا .

وكان ممّا نسب لساحة مولانا مسلم بن عقيل عليهماالسلام المثال النيّر للقدس والطهارة والعلم ومكارم الأخلاق والدين والتقى والسمو والرفعة والشجاعة والبطولة والتسليم للّه ولرسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام

أنّهم نسبوا إليه ما يجلّ عنه المؤمن فضلاً عن مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، نسبوا إليه « التطيّر » .

وقد حاولنا في هذه الوجيزة العاجلة مناقشة هذه الفرية ، بحول اللّه وقوته .

نرجو من اللّه السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل ، وينفعنا به - ووالدينا - يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا خليل ، ولا يحرمنا وأزواجنا وذريّتنا خدمة زين السماوات والأرضين سيد الشهداء الحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة ، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يرضي هويرضي النبي الأمين صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين ،

ص: 9

وذريّته الطاهرين المعصومين عليهم السلام ، بحقّ سيدنا ومولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف وأخته فاطمة المعصومة عليهماالسلام . .

اللّهم اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذريّتنا وإخواننا المؤمنين ، وعجّل فرج ولي أمرنا ، الطالب بدم جدّه الحسين عليهماالسلام ، آمين ربّ العالمين .

السيد علي السيد جمال أشرف الحسيني

29/11/1430

ص: 10

نصّ القصّة

وردت قصّة تطيّر مسلم عليه السلام واستعفائه في تاريخ الطبري ، والإرشاد للمفيد ، والأخبار الطوال للدينوري ، والفتوح لابن أعثم ، وقد اتفقت رواية الطبري والمفيد في كلّ التفاصيل تقريبا ، واختلفت رواية الآخرين في بعض التفاصيل :

رواية الطبري والشيخ المفيد :

روى الطبري في تاريخه(1) : والشيخ المفيد في الإرشاد(2) ، واللفظ للطبري :

.. ثم دعا - يعني الحسين عليه السلام - مسلم بن عقيل ، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرحمن بن

ص: 11


1- تاريخ الطبري : 4/263 .
2- الإرشاد : 2/39 .

عبد اللّه بن الكدن الأرحبي ، فأمره بتقوى اللّه وكتمان أمره واللّطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجّل إليه بذلك .

فأقبل مسلم حتى أتى المدينة ، فصلّى في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وودّع من أحبّ من أهله .

ثم استأجر دليلين من قيس ، فأقبلا به فضلاّ الطريق وجارا ، وأصابهم عطش شديد ، وقال الدليلان : هذا الطريق حتى ينتهي إلى الماء ، وقد كادوا أن يموتوا عطشا .

فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين ! وذلك بالمضيق من بطن الخبيت :

أمّا بعد : فإنّي أقبلت من المدينة معي دليلان لي ، فجارا عن الطريق وضلاّ ، واشتدّ علينا العطش ، فلم يلبثا أن ماتا وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت ،

ص: 12

وقد تطيّرت من وجهي هذا ، فإن رأيت أعفيتني منه ، وبعثت غيري ، والسلام .

فكتب إليه حسين :

أمّا بعد : فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن ، فامض لوجهك الذي وجّهتك له والسلام عليك .

فقال مسلم لمن قرأ الكتاب : هذا ما لست أتخوّفه على نفسي .

رواية ابن أعثم :

وروى ابن أعثم في كتاب الفتوح(1) : قال :

فخرج مسلم بن عقيل من مكة نحو المدينة مستخفيا لئلاّ يعلم به أحد من بني أمية .

فلمّا دخل المدينة بدأ بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فصلّى فيه ركعتين ، ثم أقبل في جوف الليل حتى ودّع من أحبّ من أهل بيته ، ثم

ص: 13


1- كتاب الفتوح لابن أعثم : 5/32 - 33 .

إنّه استأجر دليلين من قيس عيلان يدلاّنه على الطريق ويصحبانه إلى الكوفة على غير الجادة .

قال : فخرج به الدليلان من المدينة ليلاً وسارا ، فغلطا الطريق ، وجارا عن القصد ، واشتد بهما العطش ، فماتا جميعا عطشا .

قال : وكتب مسلم بن عقيل - رحمه اللّه - إلى الحسين :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، للحسين بن علي من مسلم بن عقيل :

أمّا بعد : فإنّي خرجت من المدينة مع الدليلين استأجرتهما فضلاّ عن الطريق وماتا عطشا ، ثم إنّا صرنا إلى الماء بعد ذلك ، وكدنا أن نهلك ، فنجونا بحشاشة أنفسنا ، وأخبرك يابن بنت رسول اللّه : إنّا أصبنا الماء بموضع يقال له : « المضيق » .

وقد تطيّرت من وجهي هذا الذي وجّهتني به ، فرأيك في إعفائي منه ، والسلام .

ص: 14

قال : فلمّا قرأ كتاب مسلم بن عقيل - رحمه اللّه - علم أنّه قد تشاءم وتطيّر من موت الدليلين وأنّه جزع !!!

فكتب إليه [ الحسين عليه السلام ] :

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل ، أمّا بعد :

فإنّي خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ والاستعفاء من وجهك هذا الذي أنت فيه إلاّ الجبن والفشل !!! فامض لما أمرت به ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .

فلمّا ورد الكتاب على مسلم بن عقيل كأنّه وجد من ذلك في نفسه ! ثم قال : واللّه لقد نسبني أبو عبد اللّه الحسين إلى الجبن والفشل !!! وهذا شيء لم أعرفه من نفسي أبدا !

رواية الدينوري

وروى الدينوري ( ت 282 ) في الأخبار الطوال : 230 ، قال :

ص: 15

وقد كان مسلم بن عقيل خرج معه من المدينة إلى مكة ، فقال له الحسين عليه السلام : يا ابن عمّ ، قد رأيت أن تسير إلى الكوفة ، فتنظر ما اجتمع عليه رأي أهلها ، فإن كانوا على ما أتتني به كتبهم ، فعجّل عليّ بكتابك لأسرع القدوم عليك ، وإن تكن الأخرى ، فعجّل الانصراف .

فخرج مسلم على طريق المدينة ليلمّ بأهله ، ثم استأجر دليلين من قيس ، وسار ، فضلاّ ذات ليلة ، فأصبحا ، وقد تاها ، واشتدّ عليهما العطش والحرّ ، فانقطعا ، فلم يستطيعا المشي ، فقالا لمسلم عليه السلام : عليك بهذا السمت ، فالزمه لعلّك أن تنجو .

فتركهما مسلم ومن معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتى أفضوا إلى طريق فلزموه ، حتى وردوا الماء ، فأقام مسلم بذلك الماء .

وكتب إلى الحسين مع رسول استأجره من أهل ذلك الماء ، يخبره خبره ، وخبر الدليلين ،

ص: 16

وما من الجهد ، ويعلمه أنّه قد تطيّر من الوجه الذي توجّه له ، ويسأله أن يعفيه ويوجه غيره ، ويخبره أنّه مقيم بمنزله ذلك من « بطن الحربث » .

فسار الرسول حتى وافى مكة ، وأوصل الكتاب إلى الحسين ، فقرأه وكتب في جوابه :

أمّا بعد : فقد ظننت أنّ الجبن قد قصر بك عمّا وجهتك به !! فامض لما أمرتك ، فإنّي غير معفيك ، والسلام .

ص: 17

مناقشة القصة

يمكن أن تناقش هذه القصة من خلال عدّة نقاط :

النقطة الأولى: معرفتنا بمسلم وبسيد الشهداء عليهماالسلام

تنزّه المؤمن عن الطيرة

إنّ مسلم بن عقيل عليهماالسلام من فقهاء آل محمد صلى الله عليه و آله ، وحاملي القرآن ، ولم نر موضعا

واحدا في القرآن نسب اللّه فيه التطيّر لمؤمن قطّ ، وإنّما كان المتطيّرون في القرآن - دائما - هم أعداء الأنبياء :

« قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ » .

ص: 18

وقال حكاية عن قوم صالح : « قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ » .وقال حكاية عن قوم فرعون : « وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ » ... .

* * *

وقد ورد عن طرق العامة في الطيرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله :

الطيرة من الجبت(1) .

وعنه صلى الله عليه و آله : الطيرة شرك(2) .

وعنه صلى الله عليه و آله : الطيرة شرك ، وما منّا من يتطيّر(3) .

وعنه صلى الله عليه و آله : ومن استقسم أو تكهّن أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة(4) .

ص: 19


1- تفسير البغوي : 2/9 .
2- السيرة الحلبية : 1/91 .
3- محاضرات الراغب: 1/182، الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم: 68 عن نهاية ابن الأثير : 3/58 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4/430 .
4- محاضرات الراغب : 1/182 ، مجمع الزوائد : 5/118، كنز العمال: 6/744 رقم 17655، تفسير الثعلبي : 4/16 ، تفسير البغوي : 2/10 ، تفسير الرازي: 11/136، تاريخ دمشق: 18/98 .

وعنه صلى الله عليه و آله : من أرجعته الطيرة عن حاجة فقد أشرك(1) .

وعنه صلى الله عليه و آله : إذا تطيّرت فامض(2) .

وقد اتفقوا أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان لا يتطيّر(3) . .

وورد عن طريق أهل البيت عليهم السلام :

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله : كَفَّارَةُ الطِّيَرَةِ التَّوَكُّلُ(4) .

وَكَتَبَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الثَّانِي عليه السلام يَسْأَلُهُ عَنِ الْخُرُوجِ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لا يَدُورُ ، فَكَتَبَ : مَنْ خَرَجَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لا يَدُورُ خِلافاً عَلَى أَهْلِ الطِّيَرَةِ وُقِيَ مِنْ

ص: 20


1- السيرة الحلبية : 1/91 .
2- محاضرات الراغب : 1/182 .
3- تاريخ دمشق: 79/89، ربيع الأبرار للزمخشري: 4/192 .
4- الكافي : 8/198 ح236 .

كُلِّ آفَةٍ وَعُوفِيَ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ وَقَضَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ حَاجَتَهُ(1) .وروي عَنِ النَّبِي صلى الله عليه و آله قَالَ : إِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلا تَقْضِ(2) .

فَإِذَا تَطَيَّرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمْضِ عَلَى طِيَرَتِهِ وَلْيَذْكُرِ اللَّهَ(3) .

قال النبي صلى الله عليه و آله : أوحى اللّه - عزّ وجل - إلى

داود عليه السلام : يا داود ، كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها ، وكما لا تضرّ الطيرة من لا يتطيّر منها كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيّرون(4) .

الخيرة في ترك الطيرة(5) .

ص: 21


1- من لا يحضره الفقيه : 2/266 ح2393 .
2- وسائل الشيعة : 11/363 .
3- وسائل الشيعة : 10/28 باب 25 .
4- الأمالي للصدوق : 305 مج 50 ح 12 .
5- شرح نهج البلاغة : 2/283 ح 245 .

اجتنب خمسا : الحسد ، والطيرة ، والبغي ، وسوء الظنّ ، والنميمة(1) .

وَقَالَ عليه السلام : الْعَيْنُ حَقٌّ ، وَالرُّقَى حَقٌّ ،وَالسِّحْرُ حَقٌّ ، وَالْفَأْلُ حَقٌّ ، وَالطِّيَرَةُ لَيْسَتْ بِحَقٍّ ، وَالْعَدْوَى لَيْسَتْ بِحَقٍّ ، وَالطِّيبُ نُشْرَةٌ ، وَالْعَسَلُ نُشْرَةٌ ، وَالرُّكُوبُ نُشْرَةٌ ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْخُضْرَةِ نُشْرَةٌ(2) .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ما منّا أهل البيت من يتطيّر(3) .

فهل يخفى على مسلم بن عقيل عليهماالسلام المفضّل عند الحسين عليه السلام وثقته ، وصهر أمير المؤمنين عليه السلام الذي نشأ في بيته هذه الأخبار والروايات ، وكيف يتطيّر وهو من أهل البيت عليهم السلام ؟

قال السيد المقرم رحمه الله : إذاً فما حدّث به

ص: 22


1- عوالي اللآلي : 1/289 ح 144 .
2- نهج البلاغة : 546 ح 400 .
3- بحار الأنوار : 42/278 .

ابن جرير الطبري من تطيّر مسلم عليه السلام لمّا مات الدليلان عطشا لاواقع له، فإنّ من يقرء سيرة مسلم عليه السلام يعرف أنّه ذلك الرجل العظيم السائر على نصوص القانون الإلهي المستنيربما جاء به حامل الدعوة مشرّفهم الرسول صلى الله عليه و آله من المعارف ومكارم الأخلاق ... .

فكيف يتأخّر عمّا أفادته الأحاديث الكثيرة من نفي الطيرة التي لم تزل أنديتهم تلهج بها صباحا ومساءا ، وهم المقيّضون لما يراد من العباد من أعمال الخير وتبعيدهم عن خطّة الخسف والهوان ، فهل والحالة هذه يجوّز العلم والوجدان نسبة التطيّر إلى رسول الحسين عليه السلام وخليفته في حاضرة الكوفة ؛ ليكون مرشدا ومهذّبا ورادعا للأمّة عمّا لا يتّفق مع قدس الشريعة .

ولئن غاضبنا ابن جرير على عدم معرفته بما حواه هذا البيت المنيع من رجالات الإصلاح ، فلسنا نسالمه على هذه البادرة التي

ص: 23

نسبها إلى مسلم عليه السلام الذي لم يعرف منزلته ، ولا مقدار عمله ، وما يتوخّاه من أسمى الغايات ، وقد فاته أنّ الرواة أرادوا شيئا كشف المستقبل عن تفكّك قياسه .نعم كان مسلم عليه السلام يتفأل كما كان النبي صلى الله عليه و آله وأبناؤه الهداة يتفألون ، وذلك لمّا ارتحل من ذلك الماء أشرف على رجل يرمي ظبيا ، فصرعه ، فسرّه التفأل بقتل عدوه(1) .

روى الطبري والمفيد وابن أعثم تفاؤل مسلم عليه السلام فقالوا :

فأقبل كما هو حتى مرّ بماء لطيّ ، فنزل بهم ، ثم ارتحل منه ، فإذا رجل يرمي الصيد ، فنظر إليه قد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه ، فقال مسلم : يقتل عدوّنا إن شاء اللّه (2) .

ص: 24


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 77 .
2- الطبري في تاريخه : 4/263 والشيخ المفيد في الإرشاد : 2/39 ، وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي : 5/3 .

ثم قال السيد المقرم رحمه الله : فتلك الجملة التي جاء بها الرواة ، وسجّلها ابن جرير للحطّ من مقام ابن عقيل الرفيع متفكّكة الأطراف ، واضحة الخلل ، كيف ؟ وأهل البيت ومن استضاء بأنوار تعاليمهم لا يعبأون بالطيرة ،ولا يقيمون لها وزنا .

وليس العجب من ابن جرير إذا سجّلها ليشوّه بها مقام شهيد الكوفة ، كما هي عادته في رجالات هذا البيت ، ولكن العجب كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق حتى سجّلها في كتابه ! مع أنّه لم يزل يلهج بالطعن في أمثالها ، ويحكم بأنّها من وضع آل الزبير ومن حذا حذوهم(1) .

شجاعة مسلم عليه السلام

لم يعرف الجبن إلى بيوت آل أبي طالب عليهم السلام سبيلاً ، والشجاعة من شيمهم التي

ص: 25


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 79 .

جبلوا عليها ، و« لو ولد أبو طالب العرب كلّهم لكانوا شجعانا » ، فالشجاعة معرّقة فيهم كبارا وصغارا ، رجالاً ونساءا .

وقد سمعنا بموقف أم هاني بنت أبي طالب يوم أخذت بيد أمير المؤمنين عليه السلام ، وموقفابن الحسن الزكي عليه السلام - وقيل : ابن الحسين الشهيد عليه السلام - وهو في الأسر يوم طلب منه يزيد - لعنه اللّه - أن يصارع خالدا ، فقال : أعطه سكينا وأعطني سكينا ، فإمّا أن أقتله فألحقه بجدّه أو يقتلني فيلحقني بجدّي وأبي .

وقد سجّلت كربلاء بطولات أولاد مسلم وعقيل وآل أبي طالب عليهم السلام ما لم يعرفه التاريخ في غيرهم قطّ .

قال السيد المقرم رحمه الله : فإنّ المتأمل في « صكّ الولاية » الذي كتبه سيد الشهداء لمسلم بن عقيل عليهماالسلام لا يفوته الإذعان بما يحمله من الثبات ، والطمأنينة ، ورباطة

ص: 26

الجأش ، وإنّه لا يهاب الموت ، وهل يعدو بآل أبي طالب إلاّ القتل الذي لهم عادة، وكرامتهم من اللّه الشهادة .

ولو كان مسلم هيّابا في الحروب ، لما أقدم سيد الشهداء عليه السلام على تشريفه بالنيابةالخاصة عنه التي يلزمها كلّ ذلك(1) .

قال البلاذري يصف مسلم بن عقيل عليهماالسلام :

إنّه أشجع بني عقيل وأرجلهم(2) .

وأضاف الشيخ باقر القرشي - حفظه اللّه - :

بل هو أشجع هاشمي عرفه التاريخ بعد أئمة أهل البيت عليهم السلام (3) .

ومن نماذج شجاعته أنّه كان أحد رجال ميمنة جيش أمير المؤمنين عليه السلام في صفين ، الحرب الطاحنة التي شارك فيها فرسان العراق والشام وأبطالهم .

ص: 27


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 79 .
2- أنساب الأشراف : 2/334 .
3- مسلم عليه السلام للقرشي : 118 .

ولم نسمع غريبا يتّهم آل أبي طالب عليهم السلام بالجبن ، فكيف يتّهم الحسين عليه السلام - وحاشاه - مسلما عليه السلام ، وهو الإمام الذي يرى دماءه تجري في عروق ابن عمّه مسلم عليه السلام صاحب ميمنة أبيه في صفين ! وسفيره إلى الكوفةالذي بعثه لوحده ليواجه كلّ تلك الجموع ، ويأمر بالقيام معه ومبايعته ونصره !

قال ابن أعثم في الفتوح : فإن كنتم على ما قدّمت به رسلكم وقرأت في كتبكم ، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه(1) .. .

معرفة مسلم عليه السلام أنّه قادم على الشهادة

إنّ المتطيّر هو من لم يعلم ما يرد عليه ، وإنّما يستكشف ذلك من تلك الأشياء المعروفة عند العرب أنّها سبب لورود الشرّ(2) .

ص: 28


1- كتاب الفتوح لابن أعثم : 5/30 .
2- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 72 .

ومسلم بن عقيل عليهماالسلام يعلم تماما بما هو قادم عليه ، عارف بالمهمة التي تحمّل مسؤوليتها ، ونافذ البصيرة في ما أناط به سيد الشهداء عليه السلام ، وهو يعرف الحسين عليه السلام ، ويعرف لماذا خرج السبط المبشّر بالشهادة .روى ابن أعثم في الفتوح والخوارزمي في المقتل قالا :

ثم طوى الكتاب وختمه ودعا مسلم بن عقيل - رحمه اللّه - فدفع إليه الكتاب ، وقال له : إنّي موجهك إلى أهل الكوفة ، وهذه كتبهم إليّ ، وسيقضي اللّه من أمرك ما يحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فامض على بركة اللّه حتى تدخل الكوفة(1) .. .

* * *

ص: 29


1- كتاب الفتوح لابن أعثم : 5 / 31 ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1 / 169 .

نجد في هذا النصّ :

أولاً : سيقضي اللّه من أمره ما يحبّ ويرضى

إنّ الحسين عليه السلام قد أخبره أنّ اللّه سيقضي من أمره ما يحبّ ويرضى .فهل يتردّد من يعتقد بإمامة الحسين عليه السلام

- فضلاً عن مسلم بن عقيل عليهماالسلام - في الإقدام بعد أن أخبره سيد الشهداء عليه السلام بأنّ اللّه سيقضي له من أمره ما يحبّ ويرضى ؟!!

ثانيا : بشارة خاصة بالشهادة

لقد بشّره الحسين عليه السلام بشارة خاصة بالشهادة ، وأخبره بها غير ما يعرفه مسلم عليه السلام - كباقي بني هاشم حينما قال لهم سيد الشهداء عليه السلام : من لحق بي استشهد - فقال له : أنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء .

فهو - إذن - عارف عالم بما أقدم عليه ، فلا يحتاج إلى التطيّر واستكشاف المستقبل ، ومعرفة ما يقدم عليه من خير أو شرّ .

ص: 30

ثم إنّ المقدم على الشهادة ، والعازم على الموت في محبّة سيد الشهداء عليه السلام ودفاعا عن دين سيد الأنبياء صلى الله عليه و آله لا يخاف .

ثالثا : مسير على بركة اللّه

قال الحسين عليه السلام : « فامض على بركة اللّه حتى تدخل الكوفة » ، وسواء كان هذا دعاءا أو إخبارا ، فهو ممّا تسكن إليه نفس المؤمن ، ويطمئن له قلبه ، ولا يعتريه أيّ شكّ أو تشاؤم أو تردّد بعده ، ولا يجتمع التطيّر مع التفاؤل والبركة المنثورة من فم أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام على طول طريقه « حتى يدخل الكوفة » .

خصال لا تليق بثقة الحسين عليه السلام

ذكرنا في أكثر من موضع أنّ الميزان في تقييم الرجال إنّما هو الحقّ ، ولا يعرف الحقّ بالرجال ، وإنّما « اعرف الحقّ تعرف أهله » ، والحقّ الذي لا مرية فيه إنّما هو الإمام

ص: 31

المعصوم ، فإذا وردنا تقييم منه في أيّ شيء ، فهو الميزان ، وعليه المعوّل .

وقد سمعنا الحسين عليه السلام يوثّق مسلما في

زمان ومكان في غاية الخطورة والأهمية ، توثيقا دقيقا ، يرسم للمتأمّل معالم شخصيتهرسما واضحا ، يأبى الالتفاف عليه ، والمواربة فيه ، والمراوغة في ردّه ، ويخرس كلّ ناعق ، ويكمّ فم كلّ متأفّك .

فهو الثقة عند سبط الرسول وسيدالشهداء وقرّة عين الزهراء البتول عليهم السلام .

والمبرز بالفضل عند إمام العصر .

وهو الذي أمر الإمام المفترض الطاعة أهل الكوفة أن يبايعوه كما نصّ على ذلك ابن أعثم في الفتوح .

فما دام هو في هذه المنزلة من حجّة اللّه ، وأعرف الخلق بالخلق، فلا يتطرّق إليه الشكّ، ولا تقترب منه الشبهات ، ولا يقال في حقّه ما يفيده المؤرخ من صفات لا تليق بالمؤمن

ص: 32

العادي فضلاً عن حفيد أبي طالب عليه السلام ، الذي يعدّ من مفاخر البشرية، وسروات الهاشميين، وأبطال الطالبيين ، والفقيه العالم بالدنيا والدين مسلم بن عقيل صلوات اللّه عليه وعلى آله أجمعين .

أدب الحسين عليه السلام في التعامل مع الأعداء فضلاً عن الإخوة

ما سمعناه في التاريخ من تعامل سيد الشهداء وإمام الصبر والحياء الحسين بن علي سيد الأوصياء عليهماالسلام ، مع أعدائه من الأدب ، وإقامة الحجّة ، والحياء والصبر ، ما يعجز الإنسان عن وصفه ، وحقّ له أن يعجز ، ولا ضرورة إلى نقل نماذج من ذلك للتدليل عليه ، فهو ممّا لا شكّ فيه ، وهل يشكّ فيه بشر ، فضلاً عن المسلم ، وناهيك عن المؤمن ، ولكن نكتفي هنا بذكر نموذج واحد فقط :

ص: 33

حيث كان سيد الشهداء عليه السلام المكروب على الرمضاء ، وقد قتل القوم أنصاره وأهل بيته ، وهو يستغيث فلا يغاث ، وهو مع ذلك يطلب شربة من ماء فلا يسقى ، فحالوا بينه وبين رحله ، فصاح عليه السلام :« ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحرارا في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون » .

قال : فناداه الشمر - لعنه اللّه - : ما تقول يا ابن فاطمة ؟

فقال : إنّي أقول : أنا الذي أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح(1)..».

ونحن لسنا في مقام التفصيل ، ولكن في نظرة سريعة يذوب الإنسان أمام هذا الأدب الرفيع ، والخطاب الذي يخلب اللّبّ ويأسر القلب ، كيف يخاطب سيدالشهداء عليه السلام وإمام

ص: 34


1- اللهوف للسيد ابن طاووس :71 .

الحياء أعداءه ، ويحاججهم وهم يقاتلونه ويهجمون على عرضه !! « إن لم يكن لكم دين ... كونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم ... » لم يتّهمهم بجبن أو خسّة أو لؤم أو وحشية أو ما شاكل ... صراحة ، وإنّمايذكّرهم بما يزعمون .. ويلزمهم بما يلتزمون .. .

ومن يخاطب عدوّه الذي يباشر قتاله ، ويهجم على أهله وعياله ، ويصبر ويتحمّل هذا الموقف الذي لا يصبر فيه سواه ، في ساعة كان فيها غريبا عطشانا كئيبا مكروبا ، بماذا يخاطب إذن ابن عمّه وأخاه وثقته والمبرز بالفضل عنده ، وهو في مكة بين أهله ، وفي سعة من أمره ؟

ص: 35

النقطة الثانية: الارتباك في النقل

الذين خرجوا مع مسلم عليه السلام

ذكر الطبري والشيخ المفيد رحمه الله : أنّ الحسين عليه السلام دعا مسلما عليه السلام وسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبيد السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي .

وأضاف السماوي في إبصار العين بعد ذكر هؤلاء : وجماعة من الرسل(1) .

أمّا الدينوري فلم يذكر في البداية إلاّ مسلما عليه السلام وحده ، وأنّ الحسين عليه السلام دعاه وأرسله « فخرج على طريق المدينة ليلمّ بأهله ، ثم استأجر دليلين » . . .

ص: 36


1- إبصار العين : 85 .

ولم يرد ذكر لغيرهما مع مسلم عليه السلام في كلام الدينوري إلاّ بعد أن يترك مسلم عليه السلام

الدليلين يعالجان الموت عطشا ، فيقول : « فتركهما مسلم ومن معه من خدمه !! » .

أمّا ابن أعثم فإنّه لم يصرح بوجود أحد مع مسلم عليه السلام سوى الدليلين ، بل يفيد أنّ مسلما إنّما أخرجهما معه ليكونا دليلين وصاحبين في نفس الوقت .

قال : « ثم أقبل في جوف الليل حتى ودّع من أحبّ من أهل بيته ، ثم إنّه استأجر دليلين من قيس عيلان يدلاّنه على الطريق ويصحبانه إلى الكوفة . . . » .

ثم يقول في رسالة مسلم عليه السلام : « فإنّي خرجت من المدينة مع الدليلين استأجرتهما فضلاّ عن الطريق وماتا عطشا » ، فهو إلى هنا ينقل بضمير المفرد ، ثم يقول على لسان مسلم عليه السلام في رسالته :

ص: 37

« ثم إنّا صرنا إلى الماء بعد ذلك ، وكدنا أن نهلك ، فنجونا بحشاشة أنفسنا ، وأخبرك يابن رسول اللّه : إنّا أصبنا الماء . .» .

فيروي النجاة ، وإصابة الماء بصيغة الجمع ، وكأنّه مع جماعة وليس وحده ، فيما كان قبل قليل يفيد أنّه وحده .

ثم يرجع في باقي الرسالة إلى ضمير المفرد أيضا .

الموضع الذي كتب منه الرسالة :

اختلفوا في اسم الموضع الذي كتب فيه الرسالة :

فقال الشيخ المفيد رحمه الله : « بالمضيق » ، ثم ذكر في نصّ رسالة مسلم عليه السلام : « بالمضيق من بطن الخبت » .

وقال الطبري : « بالمضيق من بطن الخبيت » .

وقال الدينوري : « بطن الحربث » ، وفي نسخة : « الحريث » .

ص: 38

أمّا ابن أعثم فلم يذكر الموضع في سرد الحدث ، ولكنّه ذكر في الرسالة على لسان مسلم عليه السلام : « أنّا أصبنا الماء بموضع يقال له : المضيق » .

وربما حمل ذلك على اختلاف النسخ أو التصحيف ، وما شاكل ، غير أنّه ارتباك في النقل على كلّ حال .

الرسول الذي حمل رساله مسلم عليه السلام

ذكر الطبري والشيخ المفيد أنّ مسلما كتب إلى الحسين عليه السلام مع قيس بن مسهر الصيداوي.

وذكر الدينوري أنّه « كتب إلى الحسين عليه السلام مع رسول استأجره من أهل ذلك الماء » . . .

فيما أغفل ابن أعثم الحديث عن الرسول وقال : « قال : وكتب مسلم بن عقيل » . . .

اختلفوا في أمر الدليلين وغلطهما وعطشهما وموتهما . . .

قال المفيد رحمه الله : فضلاّ وأصابهم عطششديد ، فعجزا عن السير ، فأومئا له إلى سنن

ص: 39

الطريق بعد أن لاح لهما ذلك، فسلك مسلم عليه السلام ذلك الطريق ومات الدليلان عطشا .

وقد صرح الشيخ المفيد هنا أنّهما أشارا إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك ، ثم سلك مسلم عليه السلام الطريق ، ثم ذكر أنّهما ماتا .

فيما قال الطبري : فضلاّ الطريق وجارا وأصابهم عطش شديد ، وقال الدليلان : هذا الطريق حتى ينتهي إلى الماء ، وقد كادوا يموتوا عطشا .

فهو لم يصرح بموتهما ، وإنّما يترك الأمر إلى رسالة مسلم عليه السلام حيث يذكر فيه ذلك .

وقال الدينوري : فضلاّ ذات ليلة فأصبحا وقد تاها ، واشتدّ عليهما العطش والحرّ ، فانقطعا ، فلم يستطيعا المشي ، فقالا لمسلم عليه السلام : عليك بهذا السمت فالزمه لعلّك

أن تنجو .

فتركهما مسلم عليه السلام بذلك الماء ومن معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتى أفضوا إلىالطريق فلزموه ، حتى وردوا الماء . .

ص: 40

والدينوري يصرّح بعجزهما عن المسير ، ويفيد أنّ مسلما تركهما على حالهما من العطش والعجز واستمر بمسيره مع خدمه !! وأنّهما أشارا عليه أن يسلك سمتا لعلّه ينجو ، فهما لم يعرفا الطريق أكيدا كما أفاد الطبري في قولهما : « هذا الطريق حتى ينتهي إلى الماء » .

أمّا ابن أعثم ، فإنّه صرّح بموتهما وسارع إلى إنشاء رسالة مسلم عليه السلام دون أن يذكر شيئا عن كيفية نجاته ومن معه ، ولم يشر إلى أنّ الدليلين قد أرشداه إلى الطريق ، فقال : « فغلطا الطريق وجارا عن القصد واشتدّ بهما العطش فماتا جميعا عطشا . . » .

نصّ رسالة الحسين عليه السلام :

قال الطبري والشيخ المفيد رحمه الله : فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلاّ الجبن ، فامض لوجهك الذي وجهتك له ،والسلام .

ص: 41

وقال ابن أعثم : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل ، أمّا بعد : فإنّي خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ والاستعفاء من وجهك هذا الذي أنت فيه إلاّ الجبن والفشل ، فامض لما أمرت به ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته . . .

وقال الدينوري : أمّا بعد : فقد ظننت أنّ الجبن قد قصر بك عمّا وجهتك به ، فامض لما أمرتك ، فإنّي غير معفيك ، والسلام . . .

ولا يقال : إنّ مضمون الكتاب واحد ، وإن اختلفت الألفاظ ، فإنّ في بعض المضامين إضافات مهمة وخطيرة للغاية ، كما نلاحظ ذلك في نسبة الفشل في عبارة ابن أعثم ، وتحقّق الظنّ « فقد ظننت » ، وتحقيق أنّه قد قصر به الجبن « قد قصر » ، والتصريح برفض الحسين عليه السلام بعد تقريره الجبن !! أن يعفيه« فإنّي غير معفيك » في عبارة الدينوري ... .

ص: 42

من قرأ رسالة الحسين على مسلم عليهماالسلام

قال الطبري : فقال مسلم لمن قرأ الكتاب : هذا ما لست أتخوفه . .

وتفيد عبارته أنّ ثمة رجلاً - كأن يكون الرسول نفسه - قد قرأ الرسالة على مسلم بن عقيل عليهماالسلام ، فلمّا سمع مسلم عليه السلام الكتاب أجاب موجها خطابه إلى قارئ الكتاب : هذا ما لست أتخوفه على نفسي . .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله : فلمّا قرأ مسلم الكتاب قال : أما هذا فلست أتخوفه . . .

وهنا قرأ مسلم عليه السلام الكتاب بنفسه ، ثم قال ما قال ، كأنّه يحدّث نفسه ويجيب الحسين عليه السلام بغض النظر عن الحاضرين عنده .

وقال ابن أعثم : فلمّا ورد الكتاب على مسلم بن عقيل كأنّه وجد من ذلك في نفسه ، ثم قال : واللّه لقد نسبني أبو عبد اللّه الحسينإلى الجبن والفشل . . .

ص: 43

جواب مسلم بن عقيل عليهماالسلام

قال الطبري : هذا ما لست أتخوفه على نفسي . .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله : أمّا هذا فلست أتخوفه على نفسي . . .

وقال ابن أعثم : واللّه لقد نسبني أبو عبد اللّه الحسين إلى الجبن والفشل ، وهذا شيء لم أعرفه من نفسي أبدا . . .

أما الدينوري - وهو أقدمهم جميعا - فلم يذكر جوابا لمسلم عليه السلام ، ولم يشر إلى أيّ تعليق صدر عنه في ردّ كتاب الحسين عليه السلام !!

ص: 44

النقطة الثالثة: مناقشة المتن نفسه

أولاً : لماذا أخذ معه دليلين ولم يكتف بدليل واحد ؟

أول ما يواجه القارئ لهذه القصة هو الوقوف عند استئجار مسلم بن عقيل عليهماالسلام

دليلين اثنين ، ولم يكتف بدليل واحد ، مع ملاحظة أنّه كان يسير مستخفيا ، وتعدّد الدليل يفضي بالتالي إلى تعرّضه لخطر الانكشاف ، لتراكم احتمال تسرّب المعلومات من جهة ، ولكثرة العدد المتحرّك في الصحراء المفتوحة من جهة أخرى .

هذا بالإضافة إلى كفاية الدليل الواحد ، فما المسوّغ لاصطحاب الدليل الثاني ؟ !

ص: 45

ثانيا : كيف أشار الدليلان على الطريق وهما قد ضلاّ

أفاد الطبري أنّ الدليلين أشارا إلى مسلم عليه السلام ومن معه وقالا : هذا الطريق حتى

ينتهي إلى الماء ، فهما - إذن - يعرفان الطريق المؤدية إلى الماء ، ويعرفان موقعهم في تلك الصحراء .

ثالثا: كيف ترك مسلم عليه السلام الدليلين يموتان

لم ينصّ الدينوري على موت الدليلين ، وإنّما قال : فلم يستطيعا المشي . . . فتركهما مسلم عليه السلام ومن معه من خدمه .

قال السيد المقرم رحمه الله : وحيث أنّه لم يسعه حملهما للتوصل إلى النجاة ، لأنّهما على وشك الهلاك ، وغاية ما وضح للدليلين العلائم المفضية إلى الطريق - لا الطريق نفسه ! - ولم تكن المسافة بينهم وبين الماء معلومة ، وليس

ص: 46

لهما طاقة على الركوب بأنفسهما ولا مردفين مع آخر ، وبقاء مسلم عليه السلام معهما إلى منتهى الأمر يفضي إلى هلاكه ومن معه ، فكان الواجب المؤكد التحفّظ على النفوس المحترمة بالمسير لإدراك الماء ، فلذلك تركهما في المكان .

وقال في الهامش تعليقا على ما قاله في المتن : استنبطنا ذلك ممّا يحمله مسلم عليه السلام من

القدسية التي تمنعه من ترك الأولى فضلاً عمّا يراد من الدين ، بل ما تقتضيه الإنسانية(1) .

والمفروض أنّ المسافة بين الموضع الذي ترك فيه الدليلين وموضع الماء لم يكن بعيدا جدّا حتى استطاع أن يصل له مسلم عليه السلام ومن معه من خدمه ! بحشاشة الأنفس وينجو ، فلماذا لم يرجع مسلم عليه السلام إليهما بالماء أو يرسله لهما ، فينقذهما ويأخذهما معه مرّة ثانية ، ثم لا يتطيّرّ!! أو يكون قد تحرّى وأدّى ما عليه من مقتضيات الشرع والإنسانية !!

ص: 47


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 64 .

وهو مسلم بن عقيل عليهماالسلام الجواد ابن الجواد ، والشهم ابن الشهم ، والكريم ابن الكرام ، والمقدّس ابن المقدّس .

رابعا : موت الدليلين معا

يفترض في الدليل أنّه يجوب الصحراء ، ويعرف مواضع الماء والكلاء فيها ، وأنّه قد اعتاد على العطش والصبر والتحمّل والحيلة في الحصول على الماء إذا كظّه الظمأ ، وقد حدّثنا التاريخ بالكثير من قصص العرب في معالجة العطش في الصحاري والقفار التي اعتادوها واستوطنوها ، فكيف مات من بين تلك الجماعة الدليلان دون غيرهم ؟

ثم مات الدليلان معا !!! الدليلان فقط . . .

خامسا : قد سار مسلم عليه السلام الطريق قبلاً

إنّ مسلم بن عقيل عليهماالسلام لم يكن غريبا على تلك الطرق ، فقد خرج من المدينة إلى الكوفة

ص: 48

وبالعكس ، كما خرج إلى صفين وغيرها مع عمّه أمير المؤمنين عليه السلام ، فما ضرورة الدليل ؟

لكن قد يقال : إنّه كان يريد أن يتنكب الطريق ، فيقال :

سادسا : ما هي الحاجة إلى الدليل مع وجود قيس معه

كان معه عليه السلام قيس بن مسهر وهاني وعمارة وغيرهما من رسل أهل الكوفة الذين جاؤوا من قبل ، وكان قيس قد ذهب ورجع في هذا الطريق أكثر من مرّة يحمل من وإلى الحسين عليه السلام رسائل أهل الكوفة .

ثمّ إنّ قيسا حمل الرسالة من وإلى مسلم عليه السلام ، وهو في المضيق ، فكيف لم يضلّ

الطريق ؟!

وقد تردّد قيس في حمل الكتب من وإلى الحسين عليه السلام على الأقل ستّ مرّات :

ص: 49

فقد بعثه أهل الكوفة إلى الحسين عليه السلام .

ثم بعثه الحسين عليه السلام مع مسلم عليه السلام .

ثم بعثه مسلم عليه السلام - على هذا الخبر - إلى الحسين عليه السلام .

ثم بعثه الحسين عليه السلام إلى مسلم عليه السلام ردّا على كتابه من المضيق .

ثم بعثه مسلم عليه السلام إلى الحسين عليه السلام .

ثم بعثه الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة ، فقبض عليه واستشهد(1) .

فهو قد تردّد في هذا الطريق ستّ مرات على الأقلّ حاملاً معه رسائل خطيرة يساوي اكتشافها من قبل السلطان موته ألبتة ، فلابد أنّه كان يتحرّى الحيطة والحذر وتنكّب الطريق .

ومع وجود قيس وغيره ، فما الحاجة إلى استئجار الدليلين ؟!

ص: 50


1- انظر إبصار العين : 125 ترجمة قيس .

سابعا : رسالة مسلم عليه السلام

قالوا : فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين ! وذلك بالمضيق من بطن الخبيت :

أمّا بعد : فإنّي أقبلت من المدينة معي دليلان لي ، فجارا عن الطريق وضلاّ ، واشتدّ علينا العطش ، فلم يلبثا أن ماتا ، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء ، فلم ننج إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى « المضيق من بطن الخبيت » ، وقد تطيّرت من وجهي هذا ، فإن رأيت أعفيتني منه ، وبعثت غيري ، والسلام .

قال السيد المقرم رحمه الله : وهنا نستفيد منزلة عالية لمسلم عليه السلام في التقوى والورع في أمر الدين ، وأنّه لا يتخطّى رأي حجّة الوقت في حلّه ومرتحله ، وإنّما كتب إلى إمامه بهذه الحادثة ، لأنّه احتمل أن يكون هذا الحادث يغير رأي الإمام ! فتوقّف عن المسير ليرى ما عنده ! ويكون على بصيرة في إنفاذ أمره .

ص: 51

ولمّا قرأ السبط الشهيد عليه السلام كتاب مسلم عليه السلام أمره بالمسير إلى مقصده تعريفا بأنّ هذه الأحوال لا تغيّر ما عزم عليه من إجابة طلب الكوفيين ، وقد ملاؤا الأجواء هتافا بأنّهم لا إمام لهم غيره ينتظرونه ليقيم ودّهم ، فلو لم يجبهم تكون لهم الحجّة عليه يوم نصب الموازين ، والإمام المنصوب من قبل اللّه - تعالى - لا يعمل عملاً يسبب اللوم عليه(1) .

ربما قيل للسيد رحمه الله بكلّ خضوع وأدب : إنّ هذا التبرير المذكور يحمل في طيّاته تسويغ وقوع التطيّر من مسلم عليه السلام في الوقت الذي نفاه السيد عنه نفيا باتّا ، وذلك أنّ مسلم عليه السلام

قد اتخذ موقفا وتوقّف عن المسير لحادث موت الدليلين ، فهو - إذن - قد امتنع عن المضي لمجرّد وقوع هذا الحادث ، وليست الطيرة شيئا آخر غير هذا .

ص: 52


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 64 .

هذا ، بالإضافة إلى أنّ مسلما كان نافذ البصيرة عالما بما أقدم عليه ، والقضية قضية مواريث الأنبياء ، ودين ربّ الأرض والسماء ، وقضية سيقدّم لها سيد الشهداء عليه السلام خيرة أنصاره وأهل بيته وفلذات كبده ، والأعظم من ذلك كلّه نفسه المقدّسة ، ومن كان في مقام مسلم عليه السلام ومنزلته وفقهه ، بل لو كان دون ذلك - فضلاً عن مولانا مسلم عليه السلام - لما توقّف في أمر عظيم يعلم مداه لمجرّد موت « دليلين عطشا » .

هل يتوقف ثقة الحسين عليه السلام والمبرّز بالفضل عند الحسين عليه السلام في مثل هذه القضية العادية المألوفة في ذلك الزمان !!

ثامنا : رسالة الحسين عليه السلام

قالوا : فكتب إليه حسين عليه السلام : أمّا بعد : فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلاّ الجبن ، فامض لوجهك الذي وجهتك له ، والسلام عليك .

ص: 53

وقال الدينوري : فامض لما أمرتك فإنّي غير معفيك ، والسلام .

أولاً: لماذا أصرّ الحسين عليه السلام على إرسال مسلم عليه السلام ؟

قد يقال هنا بالإضافة إلى ما مرّ من مناقشة متن الرسالة المنسوبة للمولى سيدالشهداء عليه السلام :

إذا كان الحسين عليه السلام قد قرر جبن مسلم عليه السلام وفشله على رواية ابن أعثم - وتعالى الحسين ومسلم عليهماالسلام عن ذلك علوا كبيرا - فلماذا يأبى الحسين عليه السلام ويأمره بالمضي ، ويؤكد له أنّه غير معفيه .

فإمّا أن يقال : إنّ الحسين عليه السلام يعرف مسلما عليه السلام ، وأنّه لا يمكن أن ينسب إلى الجبن

والفشل ، وعليه فلابد له أن يستمر في مهمته بشجاعته وبسالته المعهودة . وهو خلاف ما نصّت عليه الرسالة .

وإمّا أن يقال : إنّ الحسين عليه السلام - والعياذ باللّه - يصرّ على أن يكون ممثّله في الكوفة

ص: 54

« جبانا فاشلاً » للقيام بالمهمة الصعبة ، وبهذا يريد ناسج القصة أن يقرر فشل حركة مسلم عليه السلام ومواقفه في الكوفة مسبقا ، وقد خاب سعي من افترى .

ثانيا : نسبة الفشل والجزع لمسلم؟!

تخرّص ابن أعثم على سيد الشهداء وقرّر للحسين عليه السلام موقفا إذ قال قبل أن يروي جواب الحسين عليه السلام على كتاب مسلم عليه السلام : فلمّا قرأ كتاب مسلم بن عقيل - رحمه اللّه - علم أنّه قد تشاءم وتطيّر من موت الدليلين ، وأنّه جزع !!

وهنا أضاف ابن أعثم إلى « الجبن » و« الفشل » و« التطيّر » « الجزع » أيضا ، وحاشا مثل مسلم بن عقيل عليهماالسلام أن يجزع ، وقد وقف في الكوفة وقبلها في صفين موقفا « يشيب لهوله رأس الرضيع »!

ثالثا : إنّ مسلما عليه السلام وجد في نفسه من ذلك !

ذكر ابن أعثم : أنّ مسلما عليه السلام لمّا قرأ كتاب الحسين عليه السلام ، « كأنّه وجد من ذلك في نفسه » .

ص: 55

وهذا ما يريد الراوي المشبوه أن يقرّره لنا : أنّ ثمّة موجدة وحزازة بين الحسين عليه السلام

وابن عمّه وصهره وثقته ، ولو راجعنا نصوص الطف التي صاغها لنا المؤرخون المغرضون لوجدناها تؤكد بشدّة على هذه القضية ، وتضرب بعنف على هذا الوتر ، تريد أن توحي - وتصرّح أحيانا - أنّ معسكر الحسين عليه السلام متفكّك العرى ، غير متماسك ، ويحاول أن يشكّك في مواقفهم وثقتهم بإمامهم ، وثقة بعضهم ببعض(1) .

ويكفي في ذلك قراءة قصّة شراء معاوية أم مسلم بن عقيل عليه السلام . .

وإلاّ فما معنى أن يجد مسلم عليه السلام في نفسه ؟ هل يعني أنّ مسلما عليه السلام قد وجد في نفسه على الحسين عليه السلام ، لأنّه اتهمه بالتطيّر والجبن ،

ص: 56


1- انظر : كتاب زهير بن القين علوي خرج يتلقى الحسين عليه السلام - دواعي قيس بن عزرة من وراء اتهام زهير بالتعثمن .

فهذا نصّ الكتاب المنسوب إلى مسلم عليه السلام ، فلماذا يجد في نفسه ممّا كتبه بنفسه حسب قصّة الراوي ؟

أو أنّ المراد وجد من ذلك في نفسه ، أي أنّه وجد ممّا ينسب إليه في نفسه ، وأنّه أحسّ بعد أن قرأ كتاب الحسين عليه السلام أنّه فعل ما لا ينبغي أن يفعله ، فوجد في نفسه من ذلك - أي من فعله - فهذا ما لا يمكن تصوره ، فكيف لم يحصل ذلك لمسلم عليه السلام خلال فترة ذهاب الرسول وإيابه ، ولم يلتفت في مدّة تتجاوز العشرة أيام ، وبقي في هذه الفترة كلّها مصرّا على موقفه وتطيّره !! حتى قرأ كتاب الحسين عليه السلام ؟

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه العبارة المنسوبة لمسلم عليه السلام في كلّ ألفاظها ، وما نسب لسيد الشهداء عليه السلام في كتابه إليه ، يقرر أنّ مسلما عليه السلام قد تحامل على نفسه ، وأقدم على ما أقدم عليه ، وهو غير مقتنع بتاتا ، وإنّما

ص: 57

حمله على ذلك النخوة ، وإثارة الحفيظة ، وأنّ الدافع إنّما هو إثبات شجاعته ، وأنّه لم يجبن ولم يفشل ، تماما كما يحاولون إلصاق نفس هذه القضية بهاني بن عروة .

ونحن نشهد أنّه لم يهن ولم ينكل ، بل إنّه أقدم على بصيرة من أمره مقتديا بالصالحين ، ومتّبعا للنبيين ، ومطيعا لسيد الشهداء عليه السلام

وسبط سيد المرسلين صلى الله عليه و آله ، فصلّى اللّه عليه وعلى أهل بيته أجمعين .

رابعا : نفي مسلم عليه السلام لما نسبه إليه الحسين عليه السلام !

ذكر ابن أعثم تعليق مسلم بن عقيل عليهماالسلام

على كتاب الحسين عليه السلام فقال : قال : واللّه لقد نسبني أبو عبد اللّه الحسين إلى الجبن والفشل ، وهذا شيء لم أعرفه من نفسي أبدا . .

وكذا هي عبارة الآخرين : أمّا هذا فلست أتخوفه على نفسي . . .

نسمع في تعبير ابن أعثم يمينا يحلف به

ص: 58

مسلم عليه السلام ، ويقول : «واللّه» ، تعالى مسلم عليه السلام عن ذلك ، كيف يقسم على نية الحسين عليه السلام ، ويقسم أنّه عليه السلام قد نسب له الجبن والفشل، وهو شيء لا يعرفه من نفسه أبدا . . نفي قاطع مؤبد « لا أعرفه من نفسي أبدا » ، فكيف نسبه الحسين عليه السلام إلى ما لا يعرفه هو من نفسه ، والإمام في عقيدة مسلم بن عقيل عليهماالسلام

تماما كما في عقيدة كلّ شيعي موالي ، يعلم واقع الأمور ، ويعلم ما في قلوب العباد ، بعلم الإمامة من عند اللّه .

فلو أنّ نسبة الحسين عليه السلام كانت حقّا ، فليس لمسلم عليه السلام ولا غيره أن ينفيها نفيا قاطعا، بل بأيّ نوع من أنواع النفي ، وهذا ما نقطع أنّ مسلما عليه السلام كان يدين اللّه به ، كما ندين اللّه به نحن .

وإذا كان ما اعتقده مسلم عليه السلام من عدم وجود هذه النسبة فيه أبدا ألبتة ، فلا ينسب ذلك للحسين عليه السلام بوجه ، لأنّ الحسين عليه السلام إمام ، ولا ينسب للعباد ما ليس فيهم .

ص: 59

على أنّ الحسين عليه السلام يعرف مسلم بن عقيل عليهماالسلام معرفة قريبة ، بغض النظر عن علم

الإمامة ومعرفة الإمام ، فهو ابن عمّه وصهره والمقاتل القديم في عسكر أبيه عليه السلام ، ودماء آل أبي طالب تجري في عروقه ، وقد قرّر قبل ذلك بأيام أنّه ثقته والمفضل عنده وأخوه !!

ص: 60

النقطة الرابعة: مناقشة إمكان وقوع ذلك

اشارة

إذا وردت الرواية عن أهل البيت عليهم السلام بطرق أصحابهم ، فلا نقاش في الإمكان وعدمه ، لأنّ ما فعله المعصوم حاكم على العقل العادي ، وعلى المؤمن أن يسلّم له ، وهذا مفروغ عنه .

لكن ورود الموقف من خلال روايات التاريخ المشحون بالعداء والشحناء ، والكذب والافتراء على رجال الحقّ يدعونا للريب فيه والتأمّل ، والمراجعة والتفكير أكثر من مرّة قبل قبوله أو ردّه .

ونحن نردّ التاريخ ونحاكمه بناءا على ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام ، فهم الميزان في القبول أو الردّ في كلّ الأمور ، وقد عرفنا

ص: 61

مسلم بن عقيل عليهماالسلام الذي عرّفه لنا الحسين عليه السلام في « صكّ الولاية » ورسالته إلى أهل الكوفة ، فما وافق كلام سيد الشهداء عليه السلام قبلناه ، وما عارضه فلا وزن له ولا تأثير .

وبناءا على هذا :

أولاً: لايتصوّر صدور ذلك من مسلم عليه السلام

قد عرفنا - ممّا مرّ - مسلم بن عقيل عليهماالسلام

وشجاعته ومعرفته بما أقدم عليه ، ونفوذ بصيرته وصلابة إيمانه ، فلا يمكن تصوّر الجبن والفشل والتطيّر وصدور الاستعفاء منه لمجرد « عارض من المألوف أن يصيب كثيرا من المسافرين في تلك الأيام(1) » .

« ترى هل تخشى الموت نفس مطمئنة بالسعادة . . وهل تتطيّر من لقاء الموت نفس مشتاقة إلى لقاء اللّه ولقاء رسوله صلى الله عليه و آله

والأحبّة الماضين من أهل البيت عليهم السلام ؟!

ص: 62


1- مع الركب الحسيني : 2/50 .

وهل فارقت الطمأنينة نفس ملسم عليه السلام لحظة ما ؟! وهذه سيرته في الكوفة تشهد له بثبات وطمأنينة المستيقن من أمره لا يفوقه في مستوى ثباته إلاّ الإمام المعصوم(1) عليه السلام » .

ونجد في هذه الرسالة اتهاما لمسلم عليه السلام بالجبن « وهو مناقض لتوثيقه له من أنّه ثقته والمبرّز بالفضل من أهل بيته(2) » .

ثانيا : لا يتصوّر صدور ذلك من سيد الشهداء عليه السلام

قد سمعنا ما قاله سيد الشهداء عليه السلام في ابن عمّه وثقته والمفضّل عنده ، فلا يتصوّر أن يتّهمه بالجبن والفشل والعياذ باللّه .

واتهام « مسلم بالجبن يتنافى مع سيرته ، فقد أبدى من الشجاعة ما يبهر العقول ، وقد استقبل الموت بثغر باسم ، ولم يخضع لأولئك السفكة المجرمين(3) » .

ص: 63


1- مع الركب الحسيني : 2/50 .
2- مسلم عليه السلام للقرشي : 118 .
3- مسلم عليه السلام للقرشي : 118 .

ثالثا : لا وجود لمضيق الخبت بين المدينة والعراق

قال الشيخ باقر القرشي - حفظه اللّه - : « إنّ مضيق الخبت الذي بعث منه مسلم برسالة إلى الإمام الحسين عليه السلام يقع ما بين مكة والمدينة حسب ما نصّ عليه الحموي(1) ، ولم يكن هناك موضع يسمّى بهذا الاسم يقع بين المدينة والعراق ، وقد نصّت الرواية على أنّه استأجر دليلين من المدينة ، وخرجوا إلى العراق فضلّ الدليلان وتوفّيا في الطريق »(2) .

رابعا : لا يجتمع ذهاب الرسول وعودته مع مدّة سفر مسلم عليه السلام

قد يقال بوجود هذا الموضع بين المدينة والعراق ، وأنّ عدم ذكر الحموي له لا يدلّ على عدم وجوده ، ولكن مع هذا لا تستقيم القصّة ، وذلك :

ص: 64


1- معجم البلدان : 2/343 .
2- مسلم عليه السلام للقرشي : 117 .

الف :

إنّ الخبر نصّ على أنّ مسلما عليه السلام قد استأجر الدليلين من المدينة ، ومن المعلوم أنّ الحسين عليه السلام كان يومها في مكة .

باء :

ذكر الدينوري أنّه استأجر دليلين من قيس ، وسار ، فضلاّ ذات ليلة . . وفي هذا التعبير إشارة إلى أنّهم قد ساروا ليال وأياما « وفي ذات ليلة » ضلّوا عن الطريق ، فهم قد ساروا مسافة غير قليلة بعيدا عن المدينة .

جيم :

مقتضى رسالة الاستعفاء وطلب توجيه الغير للقيام بالمهمة أنّ مسلما لم يتحرّك من مكانه بالمضيق انتظارا للجواب ، لانّه متطيّر من وجهه ذاك - حسب القصّة - ولا يريد الاستمرار بالسفر ، وهذا ما نصّ عليه الدينوري فقال : ويخبره أنّه مقيم بمنزله من بطن الحريث .

ص: 65

دال :

لو افترضنا أنّ المسافة هي من المدينة إلى مكة فحسب دون احتساب المسافة بين المضيق والمدينة - وهي مسافة غير قليلة كما سمعت في المقدمات السابقة - فإنّ السفر من المدينة إلى مكة لإيصال الرسالة ، ثم السفر من مكة إلى المدينة - فضلاً عن المضيق - يستوعب زمانا لا يقلّ عن عشرة أيّام ، وحسب ما ذكرناه في « جيم » فإنّ مسلم عليه السلام كان ينتظر في نفس الموضع الذي كتب منه للحسين عليه السلام .

قال الشيخ باقر القرشي : « إنّ سفر مسلم عليه السلام من مكة إلى العراق مع مروره بالمدينة وتوديعه إلى أهله قد حدّده المؤرخون بعشرين يوما ، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر ، فإذا استثنينا مدّة سفر رسول مسلم من ذلك المكان ورجوعه إليه - وهي تساوي عشرة أيام على الأقل - فيكون مجموع المدّة في سفر مسلم عشرة أيام ،

ص: 66

ويستحيل أن يقطع الطريق من مكة إلى الكوفة بعشرة أيام »(1) .

وأخيرا :

قال الشيخ باقر شريف القرشي - حفظه اللّه - :

إنّ هذا الحديث من المفتريات التي وضعت للحطّ من قيمة هذا القائد العظيم الذي هو من مفاخر الأمّة(2) . . .

وقال الشيخ نجم الدين الطبسي :

إنّ من يراجع ترجمة حياة مسلم بن عقيل - على اختصارها في الكتب - وله معرفة بالعرف العربي آنذاك عامة ، وبالشمائل الهاشمية خاصة ، لا يتردّد في أنّ هذه القصّة مختلقة ، وأنّها من وضع أعداء أهل البيت عليهم السلام

لتشويه صورة وسمعة هذا السفير العظيم(3) .

ص: 67


1- مسلم عليه السلام للقرشي : 118 .
2- مسلم عليه السلام للقرشي : 118 .
3- مع الركب الحسيني :2/49 .

وقال أيضا : إنّ أصل الرسالة والجواب لا صحّة لهما ، والظنّ قوي في أنّ الحادثة أيضا لا صحّة لها .

ولكن مع كلّ ما مرّ من مناقشات ، وما قاله المحقّقون في هذا المجال ، إذا كان لابد من قبول الخبر والرسائل المتبادلة بين الحسين وسفيره عليهماالسلام ، فلنقل :

إنّ مسلما كتب إلى الحسين عليه السلام بما حدث في الطريق من موت الدليلين باعتباره يرى ضرورة اطلاع الإمام عليه السلام على كلّ تفاصيل السفر ، وكلّ ما يفعله من صغيرة أو كبيرة ، لأنّه الثقة والمعتمد والرائد ، فلابد له أن يخبر الإمام عليه السلام بكلّ شيء ، فقرأ سيد

الشهداء عليه السلام رسالته ، ثم أمره بالمضي قدما ، دون أن يكون مسلم عليه السلام قد تطيّر أو يكون الحسين عليه السلام قد اتهمه بالجبن .كما يظهر ذلك من كلام السيد المقرّم في أنّه يقبل أصل وقوع الحادثة إلاّ أنّه ينكر

ص: 68

ما ورد فيها من نسبة التطيّر والجبن لمسلم عليه السلام ، ويقول :

إنّ هذا بالخصوص هو من زيادة الوضّاعين، والموضوعات المختلقة التي لا صحّة لها بتاتا ، بعد أن أفاد أنّ كتاب مسلم للحسين عليهماالسلام كان استخبارا واستكشافا للتكليف بعد حصول الحادثة لئلا يتخطّى رأي حجّة الوقت في حلّه ومرتحله(1) . . .

لقد تجلّى ممّا ذكرناه من رفع الطيرة في الشريعة الافتراء على ابن عقيل في كتابه إلى الحسين(2) عليه السلام .

* * *

صلّى اللّه وسلّم على مسلم بن عقيل عليهماالسلام وعلى أمّه وأبيه ، وعلى أولاد عقيل وذريتهالمستشهدين بين يدي الحسين عليه السلام.

ص: 69


1- الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 64 .
2- انظر : الشهيد مسلم عليه السلام للمقرم : 63 - 79 .

الفهرس

قصّة التطيّر··· 5

المقدّمة··· 5

نصّ القصّة··· 11

مناقشة القصة··· 18

النقطة الأولى : معرفتنا بمسلم ...··· 18

تنزّه المؤمن عن الطيرة··· 18

شجاعة مسلم عليه السلام ··· 25

معرفة مسلم عليه السلام أنّه قادم ...··· 28

نجد في هذا النصّ··· 30

خصال لا تليق بثقة الحسين عليه السلام ··· 31

أدب الحسين عليه السلام في التعامل ...··· 33

النقطة الثانية : الارتباك في النقل··· 36

الذين خرجوا مع مسلم عليه السلام ··· 36

الموضع الذي كتب منه الرسالة··· 38

ص: 70

الرسول الذي حمل رسالة مسلم عليه السلام ··· 39

اختلفوا في أمر الدليلين وغلطهما ...··· 39

نصّ رسالة الحسين عليه السلام ··· 41

من قرأ رسالة الحسين على مسلم عليه السلام ··· 43

جواب مسلم بن عقيل عليهماالسلام ··· 44

النقطة الثالثة : مناقشة المتن نفسه··· 45

أولاً : لماذا أخذ معه دليلين ...··· 45

ثانيا : كيف أشار الدليلان ...··· 46

ثالثا: كيف ترك مسلم عليه السلام ...··· 46

رابعا : موت الدليلين معا··· 48

خامسا : قد سار مسلم عليه السلام الطريق ...··· 48

سادسا : ما هي الحاجة إلى الدليل ...··· 49

سابعا : رسالة مسلم عليه السلام ··· 51

ثامنا : رسالة الحسين عليه السلام ··· 53

النقطة الرابعة : مناقشة إمكان وقوع ذلك··· 61

وبناءا على هذا··· 62

وأخيرا··· 67

الفهرس··· 70

ص: 71

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.